ـــــــ
الذي رواه البيهقي لا يصلح للاحتجاج. فإن قلت روى البيهقي هذا الأثر بسند آخر بلفظ قال: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة وصحح إسناده النووي وغيره قلت في إسناده أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، ولم أقف على ترجمته، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلاً للاحتجاج. وأما قول النيموي: هو من كبار المحدثين في زمانه، لا يسأل عن مثله، فما لا يلتفت إليه. فإن مجرد كونه من كبار المحدثين لا يستلزم كونه ثقة.
تنبيهات: الأول ـ قال النيموي في تعليق آثار السنن: لا يخفي عليك أن ما رواه السائب من حديث عشرين ركعة قد ذكره بعض أهل العلم بلفظ: إنهم كانوا يقومون على عهد عمر بعشرين ركعة، وعلى عهد عثمان وعلي مثله. وعزاه إلى البيهقي، فقوله وعلي عهد عثمان وعلى مثله قول مدرج لا يوجد في تصانيف البيهقي انتهى كلام النيموي.
قلت: الأمر كما قال النيموي.
الثاني ـ قد جمع البيهقي وغيره بين روايتي السائب المختلفتين المذكورتين بأنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، ثم كانوا يقومون بعشرين ويوترون بثلاث.
قلت فيه: إنه لقائل أن يقول بأنهم كانوا يقومون أولاً بعشرين ركعة، ثم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة. وهذا هو الظاهر لأن هذا كان موافقاً لما هو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك كان مخالفاً له فتفكر.
الثالث: قد ادعى بعض الناس أنه قد وقع الإجماع على عشرين ركعة في عهد عمر رضي الله عنه واستقر الأمر على ذلك في الأمصار.
قلت: دعوى الإجماع على عشرين ركعة واستقرار الأمر على ذلك في الأمصار باطلة جداً. كيف وقد عرفت في كلام العيني رحمه الله أن في هذا أقوالاً كثيرة، وأن الإمام مالكاً رحمه الله قال: وهذا العمل يعني القيام في رمضان بثمان وثلاثين ركعة والإيتار بركعة بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم انتهى. واختار هذا الإمام إمام دار الهجرة لنفسه إحدى عشرة ركعة وكان الأسود بن يزيد النخعي الفقيه يصلي أربعين ركعة ويوتر بسبع وتذكر باقي الأقوال التي(3/531)
وهَكَذَا أدْرَكْتُ بِبَلَدِنَا بِمَكّةَ، يُصَلّونَ عِشْرِينَ رَكْعَةً. وقال أحْمَدُ: رُوِيَ في هَذَا ألْوانٌ ولم يَقْضِ فيهِ بَشيءٍ، وقال إسحَاقُ بل نخْتَارُ إِحْدَى وأرْبَعِينَ رَكْعَةً عَلَى ما رُوِيَ عن أُبَيّ بنِ كَعْبٍ واخْتَارَ ابنُ المَبارَكِ وأحْمَدُ وإِسْحَاقُ الصّلاةَ مَعَ الإمَامِ في شَهْرِ رَمَضَانَ، واخْتَارَ الشّافِعِيّ أنْ يُصَلّيَ الرّجلُ وَحْدَهُ إذَا كاَنَ قَارِئاً.
ـــــــ
ذكرها العيني، فأين الإجماع على عشرين ركعة؟ وأين الاستقرار على ذلك في الأمصار؟ "وقال أحمد روى في هذا ألوان" أي أنواع من الروايات "لم يقض" أي لم يحكم أحمد "فيه بشيء" وفي كتاب قيام الليل لابن نصر المروزي قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل: كم من ركعة يصلي في قيام شهر رمضان؟ فقال قد قيل فيه ألوان نحواً من أربعين إنما هو تطوع قال إسحاق: نختار أربعين ركعة وتكون القراءة أخف انتهى. "وقال إسحاق بل نختار إحدى وأربعين ركعة على ما روي عن بن أبي كعب" لم أقف على من رواه وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه أمر أبي بن كعب رضي الله عنه وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة وقد ثبت أيضاً أنه صلى بالنساء في رمضان بثمان ركعات وأوتر وذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقل شيئاً " واختار ابن المبارك وأحمد وإسحاق الصلاة مع الإمام في شهر رمضان" وفي كتاب قيام الليل: وقيل لأحمد بن حنبل: يعجبك أن يصلي الرجل مع الناس في رمضان أو وحده؟ قال يصلي مع الناس. قال ويعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته". قال أحمد رحمه الله: يقوم مع الناس حتى يوتر معهم ولا ينصرف حتى ينصرف الإمام قال أبو داود: شهدته يعني أحمد رحمه الله شهر رمضان يوتر مع إمامه إلا ليلة لم أحضرها. وقال إسحاق رحمه الله قلت لأحمد: الصلاة في الجماعة أحب إليك أم يصلي وحده في قيام شهر رمضان؟ قال يعجبني أن يصلي في الجماعة يحيي السنة وقال إسحاق كما قال انتهى. "واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئاً" أي حافظاً للقرآن كله أو بعضه(3/532)
81ـ باب ما جَاءَ في فَضْلِ مَنْ فَطّرَ صَائِما
804 ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا عَبْدُ الرّحِيمِ عنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ أبي سُلَيمَانَ عن عَطاءٍ عَن زَيْدِ بنِ خَالِدٍ الجُهَنِيّ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "من فطّرَ صائِماً كانَ لهُ مثْلُ أجرِهِ غَيْرَ أنّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أجْرِ الصّائِمِ شيئاً".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في فَضْلِ مَنْ فَطّرَ صَائِما
قوله: "من فطر صائماً" قال ابن الملك التفطير جعل أحد مفطراً، أي من أطعم صائماً انتهى. قال القاري: أي عند إفطاره "كان له" أي لمن فطر "مثل أجره" أي الصائم: وقد جاء في حديث سلمان الفارسي. من فطر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار. وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء: قلنا يا رسول الله ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن أشبع صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة" الحديث، رواه البيهقي. قال ميرك: ورواه ابن خزيمة في صحيحه وقال: إن صح الخبر ورواه من طريقه البيهقي، ورواه أبو الشيخ وابن حبان في الثواب باختصار عنهما، وفي رواية لأبي الشيخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فطر صائماً في شهر رمضان من كسب حلال صلت عليه الملائكة ليالي رمضان كلها وصافحه جبريل ليلة القدر ومن صافحه جبريل عليه السلام يرق قلبه وتكثر دموعه"، قال فقلت يا رسول الله من لم يكن عنده؟ قال: فقبضة من طعام قلت: أفرأيت إن لم يكن عنده لقمة خبز قال فمذقة لبن قلت أفرأيت إن لم يكن عنده، قال: "فشربه من ماء"، قال المنذري وفي أسانيدهم علي بن زيد بن جدعان ورواه ابن خزيمة والبيهقي أيضاً باختصار عنه من حديث أبي هريرة، وفي إسناده كثير بن زيد كذا في المرقاة. قلت قال الحافظ في التقريب: علي بن زيد بن جدعان ضعيف وقال في تهذيب التهذيب قال الترمذي صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره انتهى. فعلي بن زيد هذا ضعيف عند الأكثر صدوق عند الترمذي.(3/533)
ـــــــ
قوله: هذا حديث حسن صحيح وأخرجه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، ولفظ ابن خزيمة والنسائي: من جهز غازياً أو جهز حاجاً أو خلفه في أهله أو أفطر صائماً كان له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم. كذا في الترغيب
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.(3/534)
باب الترغيب في قيام شهر رمضان وما جاء فيه من الفضل
...
82ـ باب التّرْغِيبِ في قِيَامِ رَمَضانَ وما جَاءَ فِيهِ مِنْ الفَضْل
805 ـ حدثنا عبدُ بنُ حُمَيْدٍ، حدثنا عبدُ الرّزّاقِ أخبرنا مَعْمرٌ عنْ الزّهْرِيّ عنْ أبي سَلَمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُرَغّبُ في قيَامِ رَمَضانَ مِنْ غَيْرِ أنْ يَأْمُرَهُمْ بِعزِيمةٍ ويقول: "مَنْ قامَ رَمَضانَ إيماناً واحْتِسَاباً غُفِرَ لهُ ما تَقدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" فَتُوِفّيَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والأمْرُ علَى ذلِكَ ثُمّ كانَ الأمرُ كَذَلِكَ في خِلافَةِ أبي بَكْرٍ وصَدْراً مِنْ خِلافَةِ عُمَر علَى ذلِكَ.
ـــــــ
باب التّرْغِيبِ في قِيَامِ رَمَضانَ وما جَاءَ فِيهِ مِنْ الفَضْل
قوله: "يرغب" من الترغيب "من غير أن يأمرهم بعزيمة" أي بفريضة قاله في مجمع البحار وقال القاري: أي بعزم وبث وقطع، يعني بفريضة. وقال الطيبي: العزيمة والعزم عقد القلب على إمضاء الأمر "من قام رمضان إيماناً" أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه "واحتساباً" أي طلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه "غفر له" ظاهره يتناول الصغائر والكبائر وبه جزم ابن المنذر. وقال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين وعزاه عياض لأهل السنة. قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة. كذا في الفتح "ما تقدم من ذنبه" زاد أحمد وغيره: وما تأخر. قال الحافظ: قد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر، والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر؟ والجواب أنه كناية عن حفظهم من الكبائر فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك وقيل: أن معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة انتهى. "والأمر على ذلك" أي على ترك الجماعة في التراويح وصدراً من خلافة عمر بن الخطاب، أي في أول خلافته وصدر الشيء ووجهه أوله، ثم جمع عمر رضي الله(3/534)
في البابِ عنْ عائِشَةَ. وقَدْ رُوِيَ هذا الحديثُ أيضاً عنْ الزّهْرِيّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ. عن النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
عنه الناس على قاريء واحد ففي صحيح البخاري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمَن بن عبد القاريء: أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر رضي الله عنه: نعم البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون. يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه الشيخان.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان(3/535)
أبواب الحج
باب ما جاء في حرمة مكة
...
أبواب الحج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
أبواب الحج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أصل الحج في اللغة القصد وقال الخليل: كثرة القصد إلى معظم، وفي الشرع القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة، وهو بفتح المهملة وبكسرها لغتان، نقل، الطبري أن الكسر لغة أهل نجد والفتح لغيرهم، ونقل عن حسين الجعفي أن الفتح الاسم والكسر المصدر، وعن غيره عكسه. ووجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة وأجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر، واختلف، هل هو على الفور أو التراخي، وهو مشهور وفي وقت ابتداء فرضه اختلاف فقيل قبل الهجرة وهو شاذ وقيل بعدها ثم اختلف في سنته، فالجمهور على أنها سنة ست. لأنها نزل فيها قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وهذا ينبئ على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: وأقيموا أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم. وقيل المراد بالاتمام الاكمال بعد الشروع. وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك وقد وقع في قصة ضمام ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر(3/535)
1 ـ باب ما جَاءَ في حُرْمَةِ مَكّة
806 ـ حدثنا قُتَيْبةُ بنُ سَعدٍ، حدثنا اللّيثُ بنُ سَعدٍ، عن سَعِيدِ بنِ أبي سَعيدٍ المَقْبُرِيّ، عنْ أبي شُرَيْحٍ العَدَويّ أنهُ قالَ لعَمْروِ بنِ سَعِيدٍ وهو يَبْعَثُ البُعُوثَ إلى مَكةَ: "إِئذَنْ لي أيهَا الأميرُ أُحَدّثْكَ قَوْلاً قامَ بهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ سَمِعَتْهُ أذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ
ـــــــ
الواقدي سنة خمس. وهذا يدل أن ثبت على تقدمه على سنة خمس أو وقوعه فيها. قاله الحافظ في فتح الباري.
باب ما جَاءَ في حُرْمَةِ مَكّة
قوله "العدوي" بفتح العين والدال وأبو شريح العدوي هذا هو الخزاعي الصحابي المشهور رضي الله عنه "أنه قال لعمرو بن سعيد" هو ابن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي يعرف بالأشدق وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان "وهو" أي عمرو "يبعث البعوث" أي يرسل الجيوش والبعث جماعة من الجند يرسلها الأمير إلى قتال فرقة وفتح بلاد "إلى مكة" أي لقتال عبد الله بن الزبير لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم بالحرم وكان عمرو والي يزيد على المدينة. والقصة مشهورة وملخصها أن معاوية عهد بالخلافة بعده ليزيد بن معاوية فبايعه الناس إلا الحسين بن علي وابن الزبير فأما ابن أبي بكر فمات قبل موت معاوية وأما ابن عمر فبايع ليزيد عقب موت أبيه، وأما الحسين بن علي فسار إلى الكوفة لاستدعائهم اياه ليبايعوه فكان ذلك سبب قتله، وأما ابن الزبير فإعتصم ويسمى عائذ البيت وغلب على أمر مكة، فكان يزيد بن معاوية أمر أمراءه على المدينة أن يجهزوا إليه الجيوش، فكان آخر ذلك أن أهل المدينة على خلع يزيد من الخلافة "ايذن" بفتح الذال وتبدل همزته الثانية بالياء عند الابتداء وهو أمر من الإذن بمعنى الإجازة "أحدثك" بالجزم وقيل بالرفع "قولاً" أي حديثاً "قام به" صفة للقول، أي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك القول خطيباً والمعنى حدث به "الغد" بالنصب أي اليوم الثاني من يوم الفتح "سمعته أذناي" بضم الذال وسكونها فيه اشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه أي حملته عنه بغير واسطة وذكر الأذنين للتأكيد "ووعاه قلبي" أي حفظه تحقيق لفهمه وتثبته "وأبصرته عيناي" يعني أن سماعه منه ليس اعتماداً على الصوت فقط(3/536)
حِينَ تَكَلّمَ بهِ، أنّه حَمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثُمّ قالَ: إنّ مَكةَ حَرّمَهَا الله ولم يُحَرّمْهَا النّاسُ ولا يَحِلّ لامرئ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخر أنْ يَسْفِكَ فيهَا دماً أَو يَعْضِدَ بهَا شَجَرَةً فإِنْ أَحَدٌ تَرَخّصَ بقِتَالِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا لهُ: إنّ الله أذِنَ لرسولهِ صلى الله عليه وسلم ولَمْ يَأْذَنْ لَكَ وإنما أَذِنَ لي فيه سَاعةً مِنْ النّهَارٍ، وقَدْ عادتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بالأمْسِ ولُيبَلّغْ الشّاهدُ الغَائبَ" فَقِيلَ لأبي شُرَيحٍ: ما قالَ لكَ عَمْروُ؟ قالَ أنَا أَعْلَمُ مِنْكَ بِذَلِكَ يا أبا شُرَيحٍ، إنّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً ولا فَارّاً بِدَمٍ ولا فَارّاً بخَرْبَةٍ.
ـــــــ
بل مع المشاهدة "أنه حمد الله الخ " هو بيان لقوله تكلم "إن مكة حرمها الله تعالى" أي جعلها محرمة معظمة. قال الحافظ: أي حكم بتحريمها وقضاه ولا معارضة بين هذا وبين قوله في حديث أنس: أن إبراهيم حرم مكة لأن المعنى أن إبراهيم حرم مكة بأمر الله تعالى لا باجتهاده انتهى "ولم يحرمها الناس" أي من عندهم، أي أن تحريمها كان بوحي من الله لا باصلاح الناس "أن يسفك" بكسر الفاء وحكى ضمها وهو صب الدم والمراد به القتل "بها" أي بمكة "أو يعضد" بكسر الضاد المعجمة أي يقطع بالمعضد وهو آلة كالفاس "فإن" شرطية "أحد" فاعل فعل محذوف وجوباً يفسره "ترخص" نحو قوله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} "ولم يأذن لك" وبه تم جواب المترخص ثم ابتدأ وعطف على الشرط فقال "وإنما أذن" أي الله "ساعة" أي مقدار من الزمان والمراد به يوم الفتح. وفي مسند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ذلك كان من طلوع الشمس إلى العصر، والمأذون فيه القتال لا الشجر "وقد عادت" أي رجعت "حرمتها اليوم" أي يوم الخطبة المذكورة "كحرمتها بالأمس" أي ما عدا تلك الساعة ويمكن أن يراد بالأمس الزمن الماضي "ما قال لك عمرو بن سعيد" أي في جوابك "قال" أي عمرو "بذلك" أي الحديث أو الحكم "يا أبا شريح" يحتمل أن يكون النداء تتمة لما قبله أو تمهيداً لما بعده "إن الحرم" وفي رواية للبخاري أن مكة " لا يعيذ " من الاعاذة أي لا يجيز ولا يعصم "عاصياً" أي أن إقامة الحد عليه "ولا فاراً بدم" أي هارباً عليه دم يعتصم بمكة كيلا يقتص منه "ولا فاراً بخربة" قال الحافظ بفتح المعجمة وإسكان الراء ثم(3/537)
قال أبو عيسى: ويُرْوَى "ولا فارّاً بِخَزْيةٍ" قال: وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وابنِ عبّاسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي شُرَيحٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبو شُرَيْحٍ الخُزَاعِيّ اسمُهُ خُوَيلِدُ بنُ عَمْروٍ وهو العَدَوِيّ وهو الكَعْبِيّ ومَعْنَى قوله: "ولا فارّاً بِخَرْبَةٍ" يَعْنِي الجِنَايَة، يقولُ منْ جَنَى جِنَايَة أوْ أَصَابَ دَماً ثم لجأ إِلى الحَرَمِ فإِنّهُ يُقَامُ عَليهِ الحَدّ.
ـــــــ
موحدة يعني السرقة كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي. قال ابن بطال: الخربة بالضم الفساد وبالفتح السرقة، وقد تصرف عمرو في الجواب وأتى بكلام ظاهره حق لكن أراد به الباطل. فإن الصحابي أنكر عليه نصب الحرب على مكة فأجابه بأنها لا تمنع من اقامة القصاص وهو صحيح. إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمراً يجب عليه فيه شيء من ذلك انتهى.
قوله: "ويروي بخزية" قال ابن العربي في بعض الروايات بكسر الخاء وزاي ساكنة بعدها مثناة تحتية أي بشيء يخزي منه أي يستحي.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الجماعة "وابن عباس" أخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "حديث أبي شريح حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم أيضاً.
قوله: "يقول" أي عمرو بن سعيد يعني يريد عمرو بقوله ولا فاراً بخربة أي من جنى جناية أو أصاب دماً ثم جاء إلى الحرم فإنه يقام عليه الحد وفيه اختلاف بين العلماء وقد بينه الحافظ في الفتح بالبسط والتفصيل من شاء الإطلاع عليه فليرجع إليه(3/538)
2 ـ باب ما جَاءَ في ثَوابِ الحَجّ والعُمرة
807 ـ حدثنا قُتَيْبةُ و أبو سَعِيدٍ الأشَجّ قالا: أخبرنا أبو خَالِدٍ الأحْمَرُ عنْ عَمْروِ بنِ قَيْسٍ عنْ عَاصِمٍ عنْ شَقيقٍ عنْ عبدِ الله بن مسعود قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "تابِعُوا بَيْنَ الحَجّ والعُمْرَةِ فإِنهُما يَنْفِيَانِ الفَقْرَ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في ثَوابِ الحَجّ والعُمرة
قوله: "عن عبد الله" أي ابن مسعود "تابعوا بين الحج والعمرة" أي(3/538)
والذنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيْرُ خَبَثَ الحَدِيدِ والذهَبِ والفِضةِ ولَيْسَ للحَجّةِ المبرُورَةِ ثَوَابٌ إلاّ الجَنّةَ".
قال: وفي البابِ عنْ عُمَرَ وعامِرِ بنِ رَبِيعَةَ وأبي هُرَيْرَةَ وعبدِ الله بنِ حُبْشيّ وأمّ سَلَمَةَ وجَابِرٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ مَسْعُودٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ حديثِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ.رضي الله عنه
ـــــــ
قاربوا بينهما وأما بالقرآن أو بفعل أحدهما بالاَخر. قال الطيبي رحمه الله: أي إذا اعتمرتم فحجوا وإذا حججتم فاعتمروا "فإنهما" أي الحج والإعتمار "ينفيان الفقر" أي يزيلانه وهو يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد، والفقر الباطن بحصول غنى القلب "والذنوب" أي يمحوانها قيل المراد بها الصغائر ولكن يأباه قوله "كما ينفي الكير" وهو ما ينفخ فيه الحداد لاشتعال النار للتصفية " خبث الحديد والذهب والفضة" أي وسخها "وليس للحجة المبرورة" قيل المراد بها الحج المقبول وقيل الذي لا يخالطه شيء من الإثم ورجحه النووي، وقال القرطبي الأقوال في تفسيره متقاربة المعنى. وحاصلها أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع مواقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل. كذا قال السيوطي في التوشيح.
قوله: "وفي الباب عن عمر" أخرجه ابن أبي شيبة ومسدد كذا في شرح سراج أحمد انتهى قلت: وأخرجه أحمد وابن ماجه بمثل حديث ابن مسعود. المكذور لكن إلى قوله خبث الحديد "وعامر بن ربيعة" لم أقف على حديثه "وأبي هريرة" أخرجه البخاري ومسلم بلفظ: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه "وعبد الله بن حبشي" بضم الحاء المهملة وسكون الموحدة وكسر الشين المعجمة ولم أقف على حديثه "وأم سلمة" أخرجه أبو داود وابن ماجه "وجابر" أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط بإسناد حسن مرفوعاً: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة قيل وما بره قال: إطعام الطعام وطيب الكلام. ورواه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي والحاكم مختصراً وقال: صحيح الإسناد وفي الباب أحاديث كثيرة ذكرها المنذري في الترغيب.
قوله: "حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح الخ" وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما(3/539)
808 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَر، حدثنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنْ منصُورٍ عنْ أبي حَازِمٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ حَجّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ غُفِرَ لهُ ما تقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبو حَازِمٍ كُوفِيّ وهُو الأشْجَعِيّ واسْمُهُ سَلْمَانُ مَوْلَى عَزّةَ الأشْجَعِيّةِ.
ـــــــ
قوله: "من حج" وفي رواية للبخاري من حج هذا البيت قال الحافظ وهو يشمل الحج والعمرة وقد أخرجه الدارقطني بلفظ: من حج أو اعتمر وفي إسناده ضعف "فلم يرفث" بضم الفاء قال الحافظ: فاء الرفث مثلثة في الماضي والمضارع والأفصح، الفتح في الماضي والضم في المستقبل قال الرفث الجماع ويطلق على التعريض به وعلى الفحش في القول وقال الأزهري: الرفث إسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة وكان ابن عمر يخصه بما خوطب به النساء. وقال عياض: هذا من قول الله تعالى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع انتهى. قال الحافظ والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك وإليه نحا القرطبي، وهو المراد بقوله في الصيام: فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث انتهى "ولم يفسق" أي لم يأت بسيئة ولا معصية "غفر له ما تقدم من ذنبه" وفي رواية الصحيحين رجع كيوم ولدته أمه. قال الحافظ في الفتح أي بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري انتهى.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وأبو حازم كوفي وهو الأشجعي وإسمه سلمان الخ" وأما أبو حازم سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد فلم يسمع من أبي هريرة قاله الحافظ(3/540)
باب ما جاء من التغليظ قي ترك الحج
...
3 ـ باب ما جَاءَ مِنَ التّغْلِيظِ في تَرْكِ الحَج
809 ـ حدثنا محمدُ بنُ يَحْيى القُطَعِيّ البَصْرِيّ، أخبرنا مسْلِمُ بنُ
ـــــــ
باب ما جَاءَ مِنَ التّغْلِيظِ في تَرْكِ الحَج
ي" بضم القاف وفتح الطاء المهلمة البصري صدوق(3/540)
إبْرَاهِيمَ، حدثنا هِلاَلُ بنُ عبدِالله مَوْلَى رَبِيعَةَ بنِ عَمْروِ بنِ مسْلِمٍ البَاهِلي، حدثنا أبو إسحاقَ الهَمْدَانِيّ عنْ الحَارِثِ عنْ عَلِي قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَلَكَ زَاداً وَرَاحِلَةً تُبَلّغُه إِلى بَيْتِ الله وَلَمْ يَحجّ فلاَ عَليْهِ أَنْ يمُوت يَهُودِيّاً أو نَصْرَانِيّاً وذَلِكَ أنّ الله يقُولُ في كِتَابِهِ: {ولله عَلَى النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاَ}.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هَذا الوَجْهِ وَفي إسْنَادِهِ مقَالٌ وِهلالُ بنُ عبدِ الله مَجْهُولٌ والحَارِثُ يُضَعّفُ في الحَديثِ.
ـــــــ
من العاشرة "أخبرنا هلال بن عبد الله" قال الحافظ في التقريب هلال بن عبد الله الباهلي مولاهم أبو هاشم البصري متروك من السابعة.
قوله: "من ملك زاداً وراحلة" وأي ولو بالإجازة "تبلغه" بتشديد اللام وتخفيفها أي توصله "فلا عليه" أي فلا بأس ولا مبالاة ولا تفاوت عليه "أن يموت" أي في أن يموت أو بين أن يموت "يهودياً أو نصرانياً" في الكفر إن اعتقد عدم الوجوب وفي العصيان إن اعتقد الوجوب، وقيل هذا من باب التغليظ الشديد وللمبالغة في الوعيد، والأظهر أن وجه التخصيص بهما كونهما من أهل الكتاب غير عاملين به فشبه بهما من ترك الحج حيث لم يعمل بكتاب الله تعالى ونبذه وراء ظهره كأنه لا يعلمه. قال الطيبي: والمعنى أن وفاته بهذه الحالة ووفاته على اليهودية والنصرانية سواء. والمقصود التغليظ في الوعيد كما في قوله تعالى {وَمَنْ كَفَرَ} انتهى "وذلك" أي ما ذكر من شرط الزاد والراحلة والوعيد على ترك هذه العبادة {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} أي واجب عليهم "حج البيت" بفتح الحاء، وكسرها ويبدل من الناس "من استطاع إليه سبيلاً " أي طريقاً وفسره صلى الله عليه وسلم بالزاد والراحلة: رواه الحاكم وغيره كذا في الجلالين ويأتي الكلام في ذلك في الباب الأتي.
قوله: "وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله مجهول والحارث يضعف في الحديث" أما هلال بن عبد الله فقال الذهبي في الميزان في ترجمته: قال البخاري منكر الحديث وقال الترمذي مجهول وقال العقيلي لا يتابع على حديثه ثم ذكر الذهبي هذا الحديث من طريقه ثم قال ويروى عن علي قوله وقد جاء بإسناد آخر أصلح من هذا انتهى كلام الذهبي وأما الحارث فهو الحارث بن عبد الله الهمداني الأعور كذبه الشعبي وغيره.(3/541)
ـــــــ
إعلم أن لحديث الباب طرقاً منها هذه التي ذكرها الترمذي ومنها الطريق التي أخرجها سعيد بن منصور في السنن، وأحمد وأبو يعلى والبيهقي عن شريك عن ليث بن أبي سليم عن ابن سابط عن أبي أمامة بلفظ: من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائز فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً. وليث ضعيف وشريك سيء الحفظ وقد خالف سفيان الثوري فأرسله. رواه أحمد في كتاب الإيمان له عن وكيع عن سفيان عن ليث عن ابن سابط. ومنها الطريق التي أخرجها ابن عدي عن عبد الرحمَن القطامي عن أبي المهزم وهما متروكان عن أبي هريرة، قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذه الطرق مع ألفاظها: وله طريق صحيحة إلا أنها موقوفة رواها سعيد بن منصور والبيهقي عن عمر ابن الخطاب قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى أهل الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين، لفظ سعيد ولفظ البيهقي أن عمر قال: ليمت يهودياً أو نصرانياً ـ يقولها ثلاث مرات ـ رجل مات ولم يحج وعنده لذلك سعة وخليت سبيله، قلت وإذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل بن سابط، علم أن لهذا الحديث أصلاً، ومحمله على من استحل الترك. وتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع انتهى كلام الحافظ(3/542)
4ـ باب ما جَاءَ في إيجابِ الحَجّ بالزّادِ والرّاحِلَة
810 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عِيسى، حدثنا وكيعٌ حدثنا إبراهيم بنُ يَزيدَ عن مُحمدِ بنِ عَبّادِ بنِ جَعْفَرٍ عن ابنِ عُمَر قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "يا رسولَ الله ما يُوجِبُ الحَجّ؟ قال الزّادُ والرّاحِلَةُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ والعملُ عليهِ عِنْدَ أهلِ العلمِ: أَنّ الرّجُلَ إذَا مَلَكَ زَاداً ورَاحِلَةً وَجَبَ عليهِ الحَجّ. وإبراهيم هو ابنُ يَزيدَ الخَوْزِيّ المَكّيّ وقد تَكلّمَ فيهِ بَعْضُ أهلِ العلمِ مِنْ قَبلِ حِفْظِهِ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في إيجابِ الحَجّ بالزّادِ والرّاحِلَة
قوله: "ما يوجب الحج" أي ما شرط وجوب الحج " قال الزاد والراحلة" يعني الحج واجب على من وجدهما ذهاباً وإياباً.
قوله: "هذا حديث حسن" الظاهر أن الترمذي حسنه لشواهده، وإلا ففي(3/542)
ـــــــ
سند هذا الحديث إبراهيم بن يزيد الخوزي وهو متروك الحديث كما صرح به الحافظ في التقريب. وقال في التلخيص: روى الدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال "الزاد والراحلة". قال البيهقي: الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلاً، يعني الذي أخرجه الدارقطني وسنده صحيح إلى الحسن ولا أرى الموصول إلا وهماً. وقد رواه الحاكم من حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس أيضاً إلا أن الراوي عن حماد هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني، وقد قال أبو حاتم هو منكر الحديث ورواه الشافعي والترمذي وابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عمر وقال الترمذي حسن، وهو من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي وقد قال فيه أحمد والنسائي متروك الحديث. ورواه ابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عباس وسنده ضعيف أيضاً ورواه ابن المنذر من قول ابن عباس، ورواه الدارقطني من حديث جابر ومن حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث عائشة ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وطرقها كلها ضعيفة، فقد قال عبد الحق: إن طرقه كلها ضعيفة وقال أبو بكر ابن المنذر: لا يثبت الحديث في ذلك مسنداً. والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة انتهى(3/543)
باب ما جاء كم فرض الحج
...
5 ـ باب ما جَاءَكُمْ فُرِضَ الحَجّ؟
811 ـ حدثنا أَبو سَعيدٍ الأشَجّ، حدثنا مَنْصُورُ بنُ وَرْدَان عن عَليّ بنِ عَبْدِ الأعْلَى عن أبيهِ عن أبي البَخْتَرِيّ عن عليّ بنِ أبي طَالِبٍ قالَ لَمّا نَزَلَتْ: {ولله على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنْ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبيلاً} قالُوا: يا رسولَ الله أَفِي كلّ عامٍ؟ فَسَكَتَ فَقالوا: يا رسولَ الله أ في كلّ
ـــــــ
باب ما جَاءَكُمْ فُرِضَ الحَجّ
قوله: "عن أبي البختري" بفتح الموحدة وسكون الخاء المعجمة وفتح المثناة الفوقية وكسر الراء وشدة ياء تحتانية، وهو سعيد بن فيروز بن أبي عمران الطائي مولاه ثم الكوفي ثقة ثبت كثير الإرسال من الثالثة.(3/543)
عَامٍ؟ قالَ لا. وَلَوْ قُلْتُ نَعمْ لَوَجَبَتْ فأَنْزَلَ الله {يا أَيُهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُوءْكُمْ}.
قال: وفي البابِ عنِ ابنِ عبّاسٍ وأبي هُريرةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ علي حديثٌ حسنٌ غريبٌ واسْمُ أبي البَخْتَرِيّ سعيدُ بنُ أَبي عِمْرَانَ وهُوَ سَعيدُ بنُ فَيْرُوزَ.
ـــــــ
قوله: "قال لا" فيه دليل على أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة وهو مجمع عليه كما قال النووي والحافظ وغيرهما وكذلك العمرة عند من قال بوجوبها، لا تجب إلا مرة إلا أن ينذر بالحج أو العمرة وجب الوفاء بالنذر بشرطه "ولو قلت نعم لوجبت" استدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم مفوض في شرع الأحكام وفي ذلك خلاف مبسوط في الأصول.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس كتب عليكم الحج" فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال "لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة فمن زاد فهو تطوع". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي والحاكم وقال صحيح على شرطهما "وأبي هريرة" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي، وفي الباب أيضاً عن أنس أخرجه ابن ماجه قال الحافظ في التلخيص: رجاله ثقات.
قوله: "حديث علي حديث حسن غريب" قال الحافظ في التلخيص: سنده منقطع انتهى. قلت قال الخزرجي في الخلاصة: سعيد بن فيروز أبو البختري الكوفي تابعي جليل عن عمر وعلي مرسلاً انتهى. وقال ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل: قال علي بن المديني: أبو البختري لم يلق علياً قال أبو زرعة: أبو البختري لم يسمع من علي شيئاً انتهى(3/544)
باب ما جاء كم حج النبي صلى الله عليه وسلم
...
6ـ باب ما جَاءَكمْ حَجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم؟
812 ـ حدثنا عَبدُ الله بنُ أَبي زِيادٍ الكوفي، حدثنا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ عن سُفْيَانَ عن جَعْفَرِ بنِ مُحمدٍ عن أبيهِ عن جَابِرِ بنِ عبدِ الله "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حَجّ ثَلاثَ حِجَجٍ: حَجّتَيْنِ قَبْلَ أنْ يُهَاجِرَ وحَجّةً بَعْدَ مَا هاجَرَ ومَعهَا عُمْرَةٌ فَسَاقَ ثلاثاً وسِتّينَ بَدَنَةً وجاءَ عليّ مِنَ اليَمَنِ بِبَقِيّتِها فيها جَمَلٌ لأبي جَهْلٍ في أنْفِه بُرَةٌ منْ فِضّةٍ فَنَحَرَها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ كلّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ فَطُبِخَتْ وشَرِبَ منْ مَرَقِهَا".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ حديثِ سُفْيانَ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَديثِ زَيْدِ بنِ حُبابٍ ورَأيْتُ عَبْدَ الله بنَ عبدِ الرحمَنِ رَوَى
ـــــــ
باب ما جَاءَكمْ حَجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم؟
قوله: "فساق ثلاثاً وستين بدنة " بفتحتين وهي الإبل والبقر عند الحنفية، والإبل فقط عند الشافعي، وسميت بها لكبر بدنها، والجمع بدن بضم فسكون. "وجاء علي من اليمن ببقيتها" أي ببقية البدن التي ذبحها النبي صلى الله عليه وسلم أو ببقية المائة، وإرجاع الضمير إلى المائة مع عدم ذكرها لشهرتها قال النووي: ما أهدي به علي رضي الله عنه اشتراه لا أنه من السعاية على الصدقة "في أنفه برة" بضم الباء وتخفيف الراء الحلقة تكون في أنف البعير. "من فضة" وفي رواية البيهقي من ذهب. قاله السيوطي ببضعة بفتح الموحدة وقد تكسر القطعة من اللحم "فشرب من مرقها" بفتح الميم والراء النكتة في شربه صلى الله عليه وسلم من مرقها دون الأكل من اللحم لما في المراق من الجمع لما خرج من البضعات كلها.
قوله: "ورأيت عبد الله بن عبد الرحمَن إلخ" هو عبد الله بن عبد الرحمَن بن الفضل بن بهرام السمرقندي أبو محمد الدارمي الحافظ صاحب المسند ثقة فاضل متقن من الحادية عشر. كذا في التقريب وقال الخزرجي في الخلاصة في ترجمته. أحد الأعلام وصاحب المسند والتفسير والجامع عن يزيد بن هارون ويعلى بن(3/545)
هذا الحَديثَ في كُتُبِهِ عن عبْدِ الله بنِ أبي زِيادٍ، قال: وسأَلْتُ مُحمداً عن هذا فَلَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ حَديثِ الثّوْرِيّ عن جَعْفَرٍ عن أبيهِ عن جابِرٍ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَأَيْتُهُ لم يَعُد هذا الحَديثَ مَحْفُوظاً وقال، إِنّمَا يُرْوَى عنِ الثّوْرِيّ عن أبي إسْحاقَ عن مُجَاهِدٍ مرسلاً.
813 ـ حدثنا إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ حدثنا حَبّانُ بنُ هِلاَلٍ حدثنا هَمّامٌ حدثنا قَتَادَةُ قال: قُلْتُ لأنَسِ بنِ مالِكٍ: "كَمْ حَجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ حَجّة وَاحِدَة. واعْتَمرَ أرْبَعَ عُمَرٍ: عُمْرَة في ذِي القَعْدَةِ وعُمْرَة الحُدَيْبِيّةِ وعُمْرَة معَ حَجّتهِ وعُمْرة الجِعْرَانَةِ إذْ قَسَمَ غنِيمَةَ حُنَيْنٍ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وحَبّانُ بنُ هِلاَلٍ هو أبو حَبيب البَصْرِيّ جَليلٌ ثِقَةٌ وثّقَهٌ يَحْيى بنُ سعيدٍ القَطّانُ.
ـــــــ
عبيد، وجعفر بن عون وأبي علي الحنفي وخلق وعنه م و ت والبخاري في غير الصحيح. قال أحمد إمام أهل زمانه. وقال ابن حبان. كان ممن حفظ وجمع وتفقه وصنف وحدث وأظهر السنة في بلده ودعا إليها وذب عن حريمها وقمع مخالفيها. قال أحمد بن سنان: مات سنة خمس وخمسين ومائتين انتهى.
قوله: "حبان بن هلال" بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة ثقة ثبت من التاسعة.
قوله: "حجة واحدة" بالنصب أي حج حجة واحدة، وهي حجة الوداع. "عمرة في ذي القعدة" بالنصب على البدلية وبالرفع على الخبرية أي إحداها عمرة في ذي القعدة، "وعمرة الحديبية" بضم الحاء المهملة وتفتح الدال المهملة وسكون التحتية وكسر الموحدة وشدة التحتية الثانية وخفتها، موضع بينه وبين مكة تسعة أميال "وعمرة الجعرانة" بكسر الجيم وسكون العين، وقيل بكسر العين وتشديد الراء موضع بينه وبين مكة تسعة أميال وقيل ستة أميال. "إذ قسم غنيمة حنين" بضم الحاء المهملة مصغراً موضع وكان قسمة غنيمته بعد فتح مكة سنة ثمان.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم(3/546)
باب ما جاء كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم
...
7ـ باب ماجَاءَكمْ اعْتَمَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم
814 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا دَاوُد بن عبد الرّحْمَن العطّار عن عُمرو بن دِينَار عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبّاسٍ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أرْبَعَ عُمَرٍ: عُمْرَةَ الحُدَيْبِيّةِ وعُمْرةَ الثّانيَةِ منْ قابِلٍ وَعُمْرَةَ القَضَاءِ في ذِي القَعْدَةِ وعُمْرةَ الثّالِثَةِ منَ الجِعْرَانَةِ والرّابِعَةَ التي مَعَ حَجّتِهِ".
قال: وفي البابِ عن أنَسٍ وعَبْدِ الله بنِ عَمْروٍ وابنِ عُمَر.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ حسنٌ غريبٌ وَرَوَى ابنُ عُيَيْنَةَ
ـــــــ
باب ماجَاءَكمْ اعْتَمَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم
قوله: "اعتمر أربع عمر" بضم العين وفتح الميم جمع عمرة. "عمرة الحديبية" بتخفيف الياء وتشديدها، قيل هي اسم بيروقيل شجرة وقيل قرية على تسعة أميال من مكة أكثرها في الحرم، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً إلى هذا الموضع، فاجتمعت قريش وصدوه من دخول مكة فصالحهم على أن يأتي من العام المقبل، فرجع ولم يعتمر ، ولكن عدوها من العمر لترتب أحكامها من إرسال الهدى، والخروج عن الإحرام فنحر وحلق وكانت في ذي القعدة. "وعمرة الثانية" أي عمرة السنة الثانية. "من قابل" أي من عام قابل "عمرة القصاص " أي عمرة العوض، وفي بعض النسخ عمرة القضاء، وفي صحيح البخاري من حديث أنس عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم "والرابعة التي مع حجته" أي حجة الوداع.
قوله: "وفي الباب عن أنس وعبد الله بن عمرو وابن عمر" أما حديث أنس فأخرجه الترمذي في الباب المتقدم، وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهم. وأما حديث عبد الله بن عمرو فلينظر من أخرجه. وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري.
قوله: "حديث ابن عباس حديث غريب" أخرجه أبو داود وابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله كلهم ثقات(3/547)
هذا الحَديثَ عنْ عَمْروِ بنِ دِينَارٍ عن عِكْرِمَةَ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ عنِ ابنِ عَبّاسٍ.
815- حدثنا بِذَلِكَ سعيدُ بنُ عبدِ الرّحمَن المْخزُومِيّ حدثنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عَمْروِ بنِ ديِنَارٍ عن عِكْرَمِةَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
ـــــــ(3/548)
باب ما جاء في أى موضع أحرم النبي صلى الله عليه وسلم
...
8 ـ باب ما جَاءَ من أيّ مَوْضِعٍ أَحْرمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم
816 ـ حدثنا ابنُ أَبي عُمَر، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنْ جَعْفَرِ بنِ مُحمّدٍ عنْ أبيهِ عنْ جابِرِ بنِ عبدِ الله قالَ: "لَمّا أَرادَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الحَجّ أذّنَ في النّاسِ فاجْتَمَعُوا فَلَمّا أتَى البَيْدَاءَ أحْرَمَ".
قال: وفي البابِ عنِ ابنِ عُمَرَ وأنَسٍ والمِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ من أيّ مَوْضِعٍ أَحْرمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم
قوله: "أذن في الناس" لقوله تعالى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} الآية : أي نادى بينهم بأني أريد الحج. قاله ابن الملك والأظهر أنه أمر منادياً بأنه صلى الله عليه وسلم يريد الحج. كما في حديث جابر الطويل قاله القاري. "فاجتمعوا" أي خلق كثير في المدينة "فلما أتى البيداء" وهي المفازه التي لا شيء فيها، وهي هنا إسم موضع مخصوص عند ذي الحليفة "أحرم" أي كرر إحرامه أو أظهره وهو أظهر لما ثبت أنه أحرم ابتدأ في مسجد ذي الحليفة بعد ركعتي الإحرام كذا في المرقاة. قلت بل هو المتعين ويدل عليه حديث أبي داود وستقف عليه عن قريب.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه الشيخان عنه أنه يقول: ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة، هذا لفظ البخاري "وأنس" أخرجه الجماعة ولفظ البخاري صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهل. وفي رواية لأبي داود صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على جبل البيداء أهل "والمسور بن مخرمة" أخرجه البخاري وأبو داود في قصة الحديبية وفيه: فلما كان بذي الحليفة قلد الهدى وأشعره وأحرم منها.(3/458)
9ـ باب ما جَاءَ مَتى أحْرَمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم؟
818 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا عبدُ السّلامِ بنُ حَرْبٍ عنْ خُصَيْفٍ عن سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبّاسٍ : "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أهَلّ في دُبُرِ الصّلاَةِ".
ـــــــ
" باب ما جاء متى أحرم النبي صلى الله عليه وسلم"
أي في أي وقت أحرم
قوله: "عن خصيف" بالخاء المعجمة والصاد المهملة مصغراً ابن عبد الرحمَن الجزري أبو عون صدوق سيء الحفظ خلط بآخره، ورمى بالأرجاء من الخامسة كذا في التقريب.
قوله: "أهل في دبر الصلاة" بضم الدال المهملة والموحدة أي عقيبها.(3/550)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن غريبٌ لا نَعْرِفُ أَحَداً روَاهُ غَيْرَ عَبْدِ السّلاَمِ بنِ حَرْبٍ وهُوَ الّذِي يَسْتَحِبّهُ أَهْلُ العِلْمِ أنْ يُحْرِمَ الرّجُلُ في دُبُرِ الصّلاَةِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب الخ" قال الزيلعي في نصب الراية: أخرجه الترمذي والنسائي قال في الإمام: وعبد السلام بن حرب أخرج له الشيخان في صحيحهما. وخصيف بن عبد الرحمَن ضعفه بعضهم انتهى. وقال الحافظ في الدراية: فيه خصيف وهو لين الحديث.
قوله: "وهو الذي يستحبه أهل العلم أن يحرم الرجل في دبر الصلاة" قال النووي قال مالك والشافعي والجمهور: إن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته. وقال أبو حنيفة: يحرم عقيب الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته وقبل قيامه. وهو قول ضعيف للشافعي وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف انتهى. قلت: يشير إلى حديث الباب قال الحافظ في الدراية: قوله ولو لبى بعد ما استوت به راحلته جاز ولكن الأول أفضل لما روينا كذا قال، والأحاديث في أنه لبى بعد ما استوت به راحلته، أكثر وأشهر من الحديث الذي احتج به. ففي الصحيحين عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به راحلته . وفي لفظه لمسلم: كان صلى الله عليه وسلم إذا وضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته قائمة أهل وفي لفظ: لم أره يهل حتى تنبعث به راحلته. وللبخاري عن أنس: فلما ركب راحلته واستوت به أهل . وله عن جابر: إن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته . ولمسلم عن ابن عباس: ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل قال الحافظ: وقد ورد ما يجمع بين هذه الأحاديث من حديث ابن عباس عند أبي داود والحاكم ثم ذكر الحديث وقد تقدم. قال: لو ثبت لرجح ابتداء الإهلال عقيب الصلاة إلا أنه من رواية خصيف وفيه ضعف انتهى. وقال في فتح الباري: وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك وإنما الخلاف في الأفضل انتهى(3/551)
باب ما جاء في إفراد لحج
...
10 ـ باب ما جَاءَ في إفْرَادِ الحَج
819 ـ حدثنا أَبُو مُصْعَبٍ قِراءَةً عن مالِكٍ بنِ أنَسٍ عن عبدِ الرحمَنِ
ـــــــ
"باب ما جاء في إفراد الحج"
اعلم أن الحج على ثلاثة أقسام: الإفراد والتمتع والقران أما الإفراد فهو(3/551)
بنِ القَاسِمِ عن أبيهِ عنْ عائِشَةَ "أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الحَجّ". قال: وفي البابِ عن جَابِرٍ وابنِ عُمَرَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، والعمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ، ورُوِي عنِ ابنِ عُمَرَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أفْرَدَ الحَجّ وأفرَدَ أَبُو بكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ.
ـــــــ
الإهلال بالحج وحده في أشهره عند الجميع وفي غير أشهره أيضاً عند من يجيزه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء، وأما التمتع فالمعروف أنه الاعتمار في أشهر الحج ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في تلك السنة، ويطلق التمتع في عرف السلف على القران أيضاً. قال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج قال: ومن التمتع أيضاً القران لأنه تمتع بسقوط سفر النسك الآخر من بلده، ومن التمتع فسح الحج أيضاً إلى العمرة انتهى. وأما القران فصورته الإهلال بالحج والعمرة معاً، وهذا لا خلاف في جوازه، أو الإهلال بالعمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه، هذا مختلف فيه. قاله الحافظ في الفتح.
قوله: "أفرد الحج" أي أحرم بالحج وحده.
قوله: "وفي الباب عن جابر" أخرجه مسلم "وابن عمر" أخرجه أحمد ومسلم. وفي الباب أيضاً عن ابن عباس أخرجه مسلم وعن عائشة أخرجه الشيخان.
قوله: "وحديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج الخ" لهذا الحديث دليل لمن قال إن الإفراد أفضل من القران والتمتع.
اعلم أنه قد اختلف في حجه صلى الله عليه وسلم هل كان قراناً أو تمتعاً أو إفراداً؟ وقد اختلفت الأحاديث في ذلك، فروي عن عدة من الصحابة أنه حج إفراداً كما عرفت وروي عن جماعة منهم أنه حج قراناً وروي عن طائفة منهم أنه حج تمتعاً كما ستعرف، وقد اختلفت الأنظار واضطربت الأقوال لاختلاف الأحاديث، فمن أهل العلم من جمع بين الروايات كالخطابي فقال: إن كلا أضاف(3/552)
820- حدثنا بِذَلكَ قُتَيْبةُ أخبرنا عبدُ الله بنُ نافِعٍ الصّائِغُ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عنْ نَافعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ بهذَا.
قال أبو عيسى: وقال الثّوْريّ: إنْ أَفْرَدْتَ الحَجّ فَحَسنٌ وإنْ قَرَنْتَ فَحَسَنٌ وَإنْ تَمَتّعْتَ فَحَسَنٌ. وقال الشّافعيّ مِثْلَهُ، وقالَ أَحَبّ إلَيْنَا الإفْرَادُ ثُمّ التّمَتّعُ ثمّ القِرَانُ.
ـــــــ
إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به اتساعاً ثم رجح أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج. وكذا قال عياض وزاد فقال: وأما إحرامه فقد تضافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفرداً، وأما رواية من روى التمتع فمعناه أنه أمر به لأنه صرح بقوله: ولولا أن معي الهدى لأحللت فصح أنه لم يتحلل، وأما رواية من روى القرآن فهو إخبار عن آخر أحواله، لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي. وقيل قل عمرة في حجة. قال الحافظ هذا الجمع هو المعتمد وقد سبق إليه قديماً ابن المنذر وبينه ابن حزم في حجة الوداع بياناً شافياً، ومهده المحب الطبري تمهيداً بالغاً يطول ذكره. ومحصله أن كل من روى عنه الإفراد حمل على ما أهل به في أول الحال، وكل من روى عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكل من روى عنه القرآن، أراد ما استقر عليه الأمر، وجمع شيخ الإسلام ابن تيمية جمعاً حسناً فقال ما حاصله: إن التمتع عند الصحابة يتناول القران فتحمل عليه رواية من روى أنه صلى الله عليه وسلم حج تمتعاً وكل من روى الإفراد قد روى أنه صلى الله عليه وسلم حج تمتعاً وقراناً، فيتعين الحمل على القران وأنه أفرد أعمال الحج ثم فرغ منها، وأتى بالعمرة. ومن أهل العلم من صار إلى التعارض فرجح نوعاً، وأجاب عن الأحاديث القاضية بما يخالفه، وهي جرابات طويلة أكثرها متعسفة. وأورد كل منهم لما اختاره مرجحات، أقواها وأولاها مرجحات القران، لا يقاومها شيء من مرجحات غيره. وقد ذكر صاحب الهدى مرجحات كثيرة، ولكنها مرجحات باعتبار أفضلية القران على التمتع والإفراد، لا باعتبار أنه صلى الله عليه وسلم حج قراناً. وهو يحث آخر كذا في النيل.
قوله: "وقال الثوري: إن أفردت الحج فحسن، وإن قرنت فحسن، وإن تمتعت فحسن" الظاهر من كلام الثوري هذا، أن الأنواع الثلاثة عنده سواء، لا فضيلة(3/553)
ـــــــ
لبعضها على بعض قال الحافظ في الفتح: حكى عياض عن بعض العلماء أن الصور الثلاثة في الفضل سواء، وهو مقتضى تصرف ابن خزيمة في صحيحه انتهى.
قوله: "وقال الشافعي مثله وقال: أحب إلينا الإفراد ثم التمتع ثم القران" وعند الحنفية القران أفضل من التمتع. والإفراد والتمتع أفضل من الإفراد، قال الحافظ في الفتح: ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل لكونه صلى الله عليه وسلم تمناه، فقال: "لولا أني سقت الهدى لأحللت" ، ولا يتمنى إلا الأفضل وهو قول أحمد بن حنبل في المشهور عنه وأجيب بأنه إنما تمناه تطييباً لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله له واستمر عليه. وقال ابن قدامة: يترجح التمتع بأن الذي يفرد إن اعتمر بعدها فهي عمرة مختلف في أجزائها عن حجة الإسلام، بخلاف عمرة التمتع، فهي مجزئة بلا خلاف، فيترجح التمتع على الإفراد ويليه القران. وقال من رجح القران هو أشق من التمتع وعمرته مجزئة بلا خلاف، فيكون أفضل منهما. وعن أبي يوسف: القران والتمتع في الفضل سواء وهما أفضل من الإفراد وعن أحمد: من ساق الهدى فالقران أفضل له ليوافق فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يسق الهدى فالتمتع أفضل له ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه كذا في فتح الباري .(3/554)
11ـ باب ما جاء في الجَمْعِ بَيْنَ الحَجّ والعُمْرَة
821 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن حُمَيْدٍ عن أنَسٍ قال سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لَبّيْكَ بِعُمرَةٍ وحَجّةٍ".
قال: وفي البابِ عن عُمَرَ وعِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ.
ـــــــ
باب ما جاء في الجَمْعِ بَيْنَ الحَجّ والعُمْرَة أي القران
قوله: "يقول لبيك بعمرة وحجة" وفي رواية الشيخين يلبى بالحج والعمرة جميعاً يقول: لبيك عمرة وحجاً . وهو من أدلة القائلين بأن حجه صلى الله عليه وسلم كان قراناً. وقد رواه عن أنس جماعة من التابعين منهم الحسن البصري وأبو قلابة وحميد بن هلال وحميد بن عبد الرحمَن الطويل وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري، وثابت البناني وعبد العزيز بن صهيب وغيرهم.
قوله: "وفي الباب عن عمر" بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله(3/554)
قال أبو عيسى: حديثُ أَنَسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وقد ذَهبَ بَعْضُ أَهْلِ العلمِ إلى هذَا، واخْتَارَوهُ مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ وغَيْرِهِمْ.
ـــــــ
عليه وسلم وهو بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة" . أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه. وفي رواية للبخاري: وقل عمرة وحجة "وعمران بن حصين" أخرجه مسلم وفي الباب أيضاً عن ابن عمر عند الشيخين. وعن عائشة عندهما أيضاً وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم(3/555)
12 ـ باب مَا جاءَ في التّمَتّع
822ـ حدثنا قُتَيْبةُ بنُ سَعيدٍ، عَنْ مالِكِ بنِ أنَسٍ، عنِ ابنِ شِهَابٍ، عن مُحمدِ بنِ عبدِ الله بنِ الحَارِثِ بنِ نَوْفَلٍ أَنّهُ سَمِعَ سَعْدَ بنَ أبي وقّاصٍ والضّحّاكَ بنَ قَيْسٍ وهُما يَذْكُرَان التّمَتّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ فقال الضّحّاكُ بنُ قَيْسٍ: لا يَصْنَعُ ذَلكَ إلاّ مَنْ جَهِلَ أمْرَ الله فقالَ سَعْدٌ: بِئْسَ ما قُلْتَ يا ابنَ أَخِي. فقال الضّحّاكُ بن قيسٍ: فإِنّ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ قَدْ نَهى عنْ ذلكَ. فقالَ سَعْدٌ: "قَدْ صَنَعَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصَنَعْنَاها مَعَهُ " قال: هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب مَا جاءَ في التّمَتّع
قوله: "إنه سمع سعد بن أبي وقاص" أحد العشرة المبشرة بالجنة مناقبه كثيرة رضي الله عنه. "والضحاك بن قيس" بن خالد بن وهب الفهري أبو أنيس الأمير المشهور صحابي صغير قتل في وقعة مرج راهط سنة أربع وستين. كذا في التقريب. وقال الخزرجي في الخلاصة: شهد فتح دمشق وتغلب عليها بعد موت يزيد ودعا إلى البيعة وعسكر بظاهرها، فالتقاه مروان بمرج راهط سنة أربع وستين فقتل، قيل ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بست سنين.
قوله: "لا يصنع ذلك" أي التمتع "إلا من جهل أمر الله تعالى" أي لأنه تعالى قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فأمره بالإتمام يقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج ومنع التحلل، والتمتع يحلل "فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك"(3/555)
823 ـ حدثنا عبدُ بنِ حُمَيدٍ، أَخْبَرَنِي يَعْقُوبُ بن إبراهيم بنُ سَعْدٍ حدثنا أبي عنْ صَالحٍ بنِ كَيْسَانَ عن ابنِ شِهَابٍ أنّ سَالِمَ بنَ عبدِ الله حَدّثَهُ أنهُ سَمِعَ رَجُلاً منْ أهْلِ الشّامِ وهُوَ يَسْأَلُ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ عنْ التّمَتّعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجّ، فقالَ عبدُ الله بنُ عُمَرَ: هِي حَلاَلٌ. فقالَ الشّامِيّ إِنّ أبَاكَ قَدْ نَهَىَ عَنْهَا. فقالَ عبدُ الله بنُ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ أبي نَهَى عَنْهَا وصَنَعَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَأَمْرُ أبِيْ نتّبَعُ أمْ أمْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالَ الرّجُلُ: بَلْ أمْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فقالَ لَقَدْ صَنَعَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. هذا حديث حسن صحيح.
824 ـ حدثنا أبو مُوسَى مُحَمّدُ بنُ المَثَنّى، أخبرنا عبدُ الله بْنُ إدْرِيسَ عنْ لَيثٍ عنْ طَاوُسٍ عنْ ابنِ عبّاسٍ قالَ: "تَمَتّعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمَانُ، وأوّلُ مَنْ نَهَى عنهُ مُعَاوِيةُ
ـــــــ
قال الباجي: إنما نهى عنه لأنه رأى الإفراد أفضل منها ولم ينه عنه تحريماً قال عياض: إنه نهى عن الفسخ ولهذا كان يضرب الناس عليها كما في مسلم. بناء على معتقده إن الفسخ خاص بتلك السنة. قال النووي: والمختار أن عمر وعثمان وغيرهما إنما نهوا عن المتعة المعروفة التي هي الإعتمار في أشهر الحج ثم الحج في عامه. وهو على التنزيه للترغيب في الافراد. ثم انعقد الاجماع على جواز التمتع من غير كراهة، وبقي الخلاف في الافضل كذا في المحلي شرح الموطأ "قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي المتعة اللغوية وهي الجمع بين الحج والعمرة، وحكم القران والمتعة واحد. قاله القاري "وصنعناها معه" قال أي المتعة اللغوية أو الشرعية، إذ تقدم أن بعض الصحابة تمتعوا في حجة الوداع، والحاصل أن القران وقع منه صلى الله عليه وسلم والتمتع من بعض أصحابه.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه مالك في الموطأ "أمر أبي" بتقدير همزة الاستفهام وفي بعض النسخ أأمر أبي بذكر الهمزة "يتبع" بصيغة المجهول.
قوله: "تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان الخ"(3/556)
وفي الباب عن علي وعثمان وجابر وسعد وأسماء ابنة أبي بكر وابن عمر.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ حسنٌ وقداخْتَارَ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ العلم مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهْم التّمتّعَ بالعُمْرةِ. والتّمتّعُ أَنْ يَدْخُلَ الرّجُلُ بعْمَرةٍ في أشْهُرِ الحَجّ ثُمّ يُقِيم حَتّى يَحجّ فَهُوَ مُتَمَتّعٌ وعَليهِ دَمُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فإن لَمْ يَجِدْ صَامَ ثلاثةَ أيّامٍ في الحَجّ وسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلى أهْلِهِ. ويُسْتَحَبّ للمُتَمتّعِ إذَا صَامَ ثلاثةَ أَيّامٍ في الحّجّ
ـــــــ
يعارضه ما في صحيح مسلم، قال عبد الله بن شقيق: كان عثمان ينهي عن المتعة وكان علي يأمر بها وقد تقدم نهى عمر رضي الله عنه فيمكن أن يجاب: إن نهيهما محمول على التنزيه. ونهى معاوية رضي الله تعالى عنه على التحريم فأوليته باعتبار التحريم، قال النووي رحمه الله: وكان عمر وعثمان ينهيان عنها نهي تنزيه لا تحريم انتهى. ويمكن الجمع بين فعلهما ونهيهما بأن الفعل كان متأخراً لما علما جواز ذلك ويحتمل أن يكون لبيان الجواز. كذا في شرح أبي الطيب.
قوله: "وفي الباب عن علي وعثمان" أخرج مسلم وأحمد عن عبد الله بن شقيق: أن علياً كان يأمر بالمتعة وعثمان ينهى عنها فقال عثمان كلمة فقال علي: لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عثمان: أجل ولكنا كنا خائفين "وجابر" أخرجه مسلم "وسعد" بن أبي وقاص أخرجه أحمد ومسلم عن غنيم بن قيس المازنيي قال: سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة في الحج فقال: فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعروش: يعني بيوت مكة يعني معاوية انتهى. "وأسماء ابنة أبي بكر وابن عمر" أخرجه الشيخان وفي الباب أيضاً عن عائشة أخرجه الشيخان.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن" وأخرجه أحمد أيضاً.
قوله: "فمن لم يجد" أي الهدى، ويتحقق ذلك بأن يعدم الهدي، أو يعدم ثمنه حينئذ، أو يجد ثمنه لكن يحتاج إليه لأهم من ذلك، أو يجده لكن يمتنع صاحبه من بيعه، أو يمتنع من بيعه إلا بغلائه، فينقل إلى الصوم كما هو نص القرآن {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} أي بعد الإحرام به. وقال النووي: هذا هو الأفضل فإن صامها قبل الإهلال بالحج أجزأه على الصحيح، وأما قبل التحلل من العمرة فلا على الصحيح، قاله مالك وجوزه الثوري وأصحاب الرأي وعلى(3/557)
وسبعة إذا رجع إلى أهله. ويستجب للمتمتع إذا صام ثلاثة أيام في الحج أنْ يَصُومَ العَشْر وَيَكُونُ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ. فإِنْ لَمْ يَصُمْ في العَشْرِ صَامَ أَيّامَ التّشْرِيقِ في قَوْلِ بَعْضِ أهلِ العِلِمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُم ابنُ عُمَرَ وعائِشَة وبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ والشّافِعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
وقالَ بَعْضُهُمْ لا يَصُومُ أَيّامَ التّشْرِيقِ وهُوَ قَوْلُ أهلِ الكُوفَةِ.
قال أبو عيسى: وأهلُ الَحديِثِ يَخْتَارُونَ التّمَتّعَ بالعُمْرَةِ في الحَجّ. وهُوَ قولُ الشّافِعيّ وأحمد وإسحاقَ.
ـــــــ
الأول: فمن استحب صيام عرفة بعرفة قال: يحرم يوم السابع ليصوم السابع والثامن والتاسع وإلا فيحرم يوم السادس ليفطر بعرفة "وسبعة إذا رجع إلى أهله" أشار إلى أن المراد بقوله تعالى {إِذَا رَجَعْتُمْ} الرجوع إلى الأمصار وبذلك فسر ابن عباس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري. ووقع في حديث ابن عمر المرفوع: فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. أخرجه البخاري في باب: من ساق البدن معه، وهذا هو قول الجمهور. وعن الشافعي معناه الرجوع إلى مكة وعبر عنه مرة بالفراغ من أعمال الحج. ومعنى الرجوع التوجه من مكة، فيصومها في الطريق إن شاء، وبه قال إسحاق بن راهويه. قاله الحافظ "منهم ابن عمر وعائشة، وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق" قال الحافظ في الفتح: روى عن ابن عمر وعائشة موقوفاً: إن أخرها يوم عرفة فإن لم يفعل صام أيام منى أي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق. وبه قال الزهري والأوزاعي ومالك والشافعي في القديم، ثم رجع عنه وأخذ بعموم النهي عن صيام أيام التشريق انتهى. "وقال بعضهم لا يصوم أيام التشريق وهو قول أهل الكوفة" وهو قول الحنفية وحجتهم نبيشة الهذلي عند مسلم مرفوعاً: أيام التشريق أيام أكل وشرب. وله من حديث كعب بن مالك: أيام منى أيام أكل وشرب. ومنها حديث عمرو بن العاص أنه قال لإبنه عبد الله في أيام التشريق: إنها الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومهن وأمر بفطرهن . أخرجه أبو داود وابن المنذر وصححه ابن خزيمة والحاكم(3/558)
ـــــــ
وحجة من قال: إنه يجوز للمتمتع أن يصوم أيام التشريق. ما رواه البخاري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن يجد الهدى، قال الحافظ في الفتح: كذا رواه الحفاظ من أصحاب شعبة بضم أوله على البناء لغير معين، ووقع في رواية يحيى بن سلام عن شعبة عند الدارقطني واللفظ له، والطحاوي: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للتمتع إذا لم يجد الهدي، أن يصوم أيام التشريق . وقال: إن يحيى بن سلام ليس بالقوى، ولم يذكر طريق عائشة وأخرجه من وجه آخر ضعيف عن الزهري عن عروة عن عائشة. وإذا لم تصح هذه الطرق المصرحة بالرفع، بقي الأمر على الاحتمال. وقد اختلف علماء الحديث في قول الصحابي: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، هل له حكم الرفع؟ على أقوال ثالثها: إن أضافه إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع وإلا فلا. واختلف الترجيح فيما إذا لم يضفه ويلتحق به. رخص لنا في كذا وعزم علينا أن لا نفعل كذا. كل في الحكم سواء فمن يقول: إن له حكم الرفع. فغاية ما وقع في رواية يحيى بن سلام أنه روى بالمعنى، لكن قال الطحاوي: إن قول ابن عمر وعائشة "لم يرخص" أخذاه من عموم قوله تعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} لأن قوله في الحج يعم ما قبل يوم النحر وما بعده، فيدخل أيام التشريق. فعلى هذا فليس بمرفوع بل هو بطريق الاستنباط منهما عما فهما من عموم الآية . وقد ثبت نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق، وهو عام في حق المتمتع وغيره، وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر بالإذن، وعموم الحديث المشعر بالنهي. وفي تخصيص عموم المتواتر بعموم الاَحاد نظر لو كان الحديث مرفوعاً، فكيف وفي كونه مرفوعاً نظر. فعلى هذا يترجح القول بالجواز، وإلى هذا جنح البخاري كذا في فتح الباري(3/559)
13ـ باب ما جَاءَ في التّلْبِيَة
825 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنيعٍ حدثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيم عنْ أيّوبَ عنْ نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: أنّ تَلْبيَةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت: "لَبّيْكَ اللهُمّ لَبّيْكَ، لَبّيْكَ لاَ شِريكَ لَكَ لَبّيْكَ، إنّ الحَمْدَ والنعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في التّلْبِيَة
قوله: "لبيك" هي مصدر لبى أي قال: لبيك ولا يكون عامله إلا مضمراً، أي ألبيت يا رب بخدمتك إلباباً بعد إلباب من ألب بالمكان أقام به، أي أقمت على طاعتك إقامة بعد إقامة. وقيل أجبت دعوتك إجابة بعد إجابة، والمراد بالتثنية التكثير كقوله تعالى {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي كرة بعد كرة وحذف الزوائد للتخفيف، وحذف النون للإضافة، قاله القاري. وقال الحافظ في الفتح وعن الفراء هو منصوب على المصدر وأصله "لباً لك" فثنى على التأكيد، أي ألباباً بعد ألباب، وهذه التثنية ليست حقيقية، بل هي للتكثير أو المبالغة، ومعناه إجابة بعد إجابة أو إجابة لازمة، وقيل معنى لبيك: اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم: داري تلب دارك، أي تواجهها. وقيل معناه: أنا مقيم على طاعتك من قولهم: لب الرجل بالمكان إذا أقام. وقيل: قرباً منك، من الإلباب وهو القرب. والأول أظهر وأشهر لأن المحرم مستجيب لدعاء الله إياه في حج بيته، ولهذا من دعا فقال: لبيك فقد استجاب. وقال ابن عبد البر: قال جماعة من أهل العلم معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذن في الناس بالحج انتهى. وهذا أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم بأسانيدهم في تفاسيرهم عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغير واحد والأسانيد إليهم قوية، وأقوى ما فيه عن ابن عباس، ما أخرجه أحمد بن منيع في مسنده وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عنه قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له أذن في الناس بالحج، قال: رب وما يبلغ صوتي، قال: أذن وعلى البلاغ، قال فنادى إبراهيم يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق. فسمعه من بين السماء والأرض. أفلا ترون أن الناس(3/560)
826 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن نَافعٍ عن ابنِ عُمَرَ أَنّهُ: أَهَلّ فانْطَلَقَ يُهِلّ فيقُولُ: "لَبّيْكَ اللّهُمّ لَبّيْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبّيْكَ، إنّ الحَمْدَ والنّعْمَةَ لَك والمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ" قالَ وكانَ عبدُ الله بنُ عُمَرَ يقُولُ: هَذِهِ تَلْبِيَةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: وكانَ يَزِيدُ مِنْ عِنْدِهِ في أثر تَلْبِيةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: لَبّيْكَ لَبّيْكَ، وسَعْدَيْكَ والخَيْرُ في يَدَيْكَ لَبّيْك، والرغباءُ إلَيْكَ . والعملُ. قال هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
يجيئون من أقصى الأرض يلبون، ومن طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وفيه: فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ انتهى كلام الحافظ مختصراً "إن الحمد" روى بكسر الهمزة على الاستيناف وبفتحها على التعليل، والكسر أجود عند الجمهور. وقال ثعلب لأن من كسر جعل معناه إن الحمد لك على كل حال، ومن فتح قال: معناه لبيك بهذا السبب. "والملك" بالنصب عطف على الحمد ولذا يستحب الوقف عند قوله الملك ويبتدأ بقوله "لا شريك لك" أي في استحقاق الحمد وإيصال النعمة ولا مانع من أن يكون الملك مرفوعاً وخبره لا شريك لك، أي فيه، كذا في المرقاة، وقال الحافظ في الفتح: والملك بالنصب على المشهور ويجوز الرفع وتقديره والملك كذلك.
قوله: "أهل فانطلق يهل يقول لبيك" قال أبو الطيب السندي أي أراد أن يهل فانطلق يهل، أي فشرع يهل أي ذهب حال كونه يهل، وقوله يقول لبيك بيان ليهل انتهى. والمراد من الإهلال رفع الصوت "قال وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه" القائل هو نافع "في أثر تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي في عقبها وبعد الفراغ منها، قال في القاموس: خرج في إثره وأثره بعده "وسعديك" قال القاضي: إعرابها وتثنيتها كما في لبيك ومعناه. مساعدة لطاعتك بعد مساعدة " والخير في يديك" أي الخير كله بيد الله تعالى ومن فضله "والرغبى إليك" قال القاضي قال المازري: يروى بفتح الراء والمد وبضم الراء مع القصر ونظيره العلياء والعليا، ومعناه ههنا الطلب والمسألة إلى من بيده الخير "والعمل" عطف على(3/561)
قال: وفي البابِ عَنْ ابنِ مَسْعُودٍ وجَابِرٍ وَعَائِشَة وابنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنَ عُمَرَ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَملُ عَلْيهِ عِنْدَ بعض أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ، وهُوَ قَوْلُ سُفْيانَ والشّافِعِيّ وأَحمدَ وإسحاقَ، قالَ الشّافِعِيّ: وإِنْ زَادَ في التّلْبِيِةِ شَيْئاً مِنْ تَعْظِيمِ الله فَلاَ بأسَ إنْ شاءَ الله، وأَحَبّ إلَيّ أنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَلْبِيةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قالَ الشّافِعِيّ: "وإنّما قُلْنا لاَ بَأْس بِزِيادَةِ تَعْظِيمِ الله فِيهَا" لِمَا جَاءَ عَنْ ابنِ عُمَرَ وهُوَ حَفِظَ التّلْبِيَةَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثُمّ زَادَ ابنُ عُمَرَ في تَلْبِيَتِهِ مِنْ قبلِهِ: "لَبّيْكَ والرّغْبَان إلَيْكَ والعَمَلُ".
ـــــــ
الرغبي، قال الطيبي: وكذلك العمل منته إليك، إذ هو المقصود منه انتهى. قال القاري والأظهر أن التقدير والعمل لك أي لوجهك ورضاك أو العمل بك أي بأمرك وتوفيقك أو المعنى أمر العمل راجع إليك في الرد والقبول انتهى. قلت: الأظهر عندي هو ما قال الطيبي.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود" أخرجه النسائي "وجابر" أخرجه أبو داود وابن ماجه "وعائشة" أخرجه البخاري "وابن عباس" أخرجه أبو داود "وأبي هريرة" أخرجه أحمد وابن ماجه والنسائي.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "والعمل عليه عند أهل العلم الخ" قال الطحاوي بعد أن أخرج حديث ابن عمر وابن مسعود وعائشة وجابر وعمرو بن معد يكرب: أجمع المسلمون جميعاً على هذه التلبية، غير أن قوماً قالوا لا بأس أن يزيد فيها من الذكر لله ما أحب وهو قول محمد والثوري والأوزاعي وخالفهم آخرون فقالوا: لا ينبغي أن يزاد على ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس كما في حديث معد يكرب ثم فعله هو ولم يقل لبوا بما شئتم، مما هو من جنس هذا بل علمهم كما علمهم التكبير في الصلاة، فكذا لا ينبغي أن يتعدى في ذلك شيئاً مما علمه، ثم أخرج حديث(3/562)
ـــــــ
عامر بن سعد بن وقاص عن أبيه. أنه سمع رجلاً يقول لبيك ذا المعارج فقال إنه لذو المعارج، وماه هكذا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهذا سعد قد كره الزيادة في التلبية، وبه نأخذ انتهى. قال القاري في المرقاة: قال في البحر وهذا اختيار الطحاوي، ولعل مراده من الكراهة أن يزيد الرجل من عند نفسه على التلبية المأثورة بقرينة ذكره قبل هذا القول. ولا بأس للرجل أن يزيد فيها من ذكر الله تعالى ما أحب وهو قول محمداً أو أراد الزيادة في خلال التلبية المسنونة فإن أصحابنا قالوا: إن زاد عليها فهو مستحب. قال صاحب السراج الوهاج هذا بعد الإتيان بها، أما في خلالها فلا انتهى. قال الحافظ في الفتح: وهذا يدل على أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو صلى الله عليه وسلم عليها. وأنه لا بأس بالزيادة لكونه لم يرد عليهم وأقرهم عليها وهو قول الجمهور. وبه صرح أشهب وحكى ابن عبد البر عن مالك الكراهة، قال وهو أحد قولي الشافعي. وقال الشيخ أبو الحامد: حكى أهل العراق عن الشافعي يعني في القديم أنه كره الزيادة على المرفوع وغلطوا بل لا يكره ولا يستحب، وحكي الترمذي عن الشافعي قال: فإن زاد في التلبية شيئاً من تعظيم الله فلا بأس وأحب إلى أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن ابن عمر حفظ التلبية عنه ثم زاد من قبله زيادة انتهى(3/563)
14 ـ باب ما جَاءَ في فَضْلِ التّلْبِيَةِ والنّحْر
827 ـ حدثنا مُحمدُ بنُ رَافِعٍ حدثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكَ ح وحدثَنَا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ أخبرنا ابنُ أَبي فُدَيكٍ عَن الضّحّاكِ بنِ عُثْمانَ عَنْ مُحمد بنِ المنكَدِرِ عنْ عَبْدِ الرحمَنِ بنِ يَرْبُوعٍ عَنْ أبي بَكْرٍ الصّدّيقِ " أَنّالنبيّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيّ الحَجّ أفْضَلُ؟ قالَ العَجّ والثّجّ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في فَضْلِ التّلْبِيَةِ والنّحْر
قوله: "أخبرنا ابن أبي فديك" بضم الفاء مصغراً، هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك صدوق من صغار الثامنة كذا في التقريب.
قوله: "أي الحج" أي أعماله أو خصاله بعد أركانه "أفضل" أي أكثر ثواباً.
قوله: "العج والثج" بتشديدهما والأول رفع الصوت بالتلبية، والثاني(3/563)
828 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا إسماعيلُ بنُ عَيّاشٍ عَنْ عُمَارَةَ بنِ غَزِيةَ عنْ أبي حَازِمٍ عنْ سَهْلٍ بنِ سَعْدٍ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبّي الألبّى مِنْ عَنْ يَمِينِهِ أوَ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أو شجرٍ أو مَدَرٍ حَتّى تنْقَطِعَ الأرْضُ مِنْ هَهُنَا وَهَهُنَا".
829 ـ حدثنا الحَسنُ بنَ مُحَمدٍ الزّعْفَرَانِيّ و عبدِ الرحمَنِ بن الأسْوَدِ أبو عَمْروٍ و البَصْرِيّ قالا أخبرنا عُبَيْدَةُ بنُ حُمَيْدٍ عنْ عُمَارَةَ بنِ غَزِيّةَ عنْ أبي حَازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحوَ حَديثِ إسماعيلَ بنِ عَيّاشٍ.
قال: وفي البابِ عنْ ابنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ.
ـــــــ
سيلان دماء الهدى وقيل دماء الأضاحي قال الطيبي رحمه الله: ويحتمل أن يكون السؤال عن نفس الحج ويكون المراد ما فيه العج والثج وقيل على هذا يراد بهما الاستيعاب. لأنه ذكر أوله الذي هو الإحرام وآخره الذي هو التحلل بإراقة الدم اقتصاراً بالمبدأ والمنتهي عن سائر الأفعال أي الذي استوعب جميع أعماله من الأركان والمندوبات. كذا في المرقاة. وسيجيء تفسير العج والثج عن الترمذي أيضاً.
قوله: "عن عمارة" بضم العين المهملة وفتح الميم مخففة "بن غزية" بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي بعدها تحتانية ثقيلة، ابن الحارث الأنصاري المازني المدني لا بأس به.
قوله: "إلا لبى من عن يمينه" كلمة من بالفتح موصولة "من حجر أو شجر أو مدر" من بيان من قال الطيبي لما نسب التلبية إلى هذه الأشياء عبر عنها بما يعبر عن أولى العقل انتهى. والمدر هو الطين المستحجر " حتى ينقضي الأرض" أي تنتهي "من ههنا وههنا" إشارة إلى المشرق والمغرب والغاية محذوفة، أي إلى منتهى الأرض كذا في اللمعات.
قوله: "أخبرنا عبيدة" بفتح أوله "بن حميد" بالتصغير الكوفي أبو عبد الرحمَن المعروف بالحذاء صدوق نحوي ربما أخطأ من الثامنة.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه ابن ماجه وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي وهو ضعيف، وذكر فيه ابن ماجه التفسير عن وكيع بلفظ: العج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة الدم "وجابر" أخرجه أبو القاسم في الترغيب(3/564)
قال أبو عيسى: حديثُ أبِي بكر حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ ابنِ أبي فُدَيْكٍ عنْ الضّحّاكِ بنِ عُثْمانَ ومُحَمدُ بنُ المنْكَدِرِ لَمْ يَسْمَعْ منْ عَبْدِ الرحمَنِ بنِ يَربوعٍ. وقَدْ رَوَى مُحَمّدُ بنُ المُنْكَدِرِ عنْ سَعِيِدِ بنِ عبْدِ الرحمَنِ بنِ يَربوعٍ عنْ أبيهِ غَيْرَ هذَا الحَديثِ وَرَوَى أبُو نَعيمٍ الطّحّانُ ضِرَارُ بنُ صُرَدٍ هذَا الحدِيثَ عن ابنِ أبي فُدَيْكٍ عن الضّحّاكِ عن عُثْمانَ عنْ مُحمَدِ بنِ المنْكَدِرِ عنْ سَعِيدِ بن عبدِ الرحمَنِ بنِ يَرْبُوعٍ عن أبيهِ عن أبي بَكْرٍ عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخْطَأَ فِيه ضرَارٌ.
قال أبو عيسى: سَمِعْتُ أَحمدَ بنَ الحَسَنِ يَقُولُ قالَ أَحمدُ بنُ حَنْبَلٍ: مَنْ قالَ "في هَذَا الحَدِيثِ" عن مُحمَدِ بنِ المُنكَدرِ عنْ ان عبدِ الرْحمنِ بنِ يَرْبوعٍ عنْ أبيهِ فَقَدْ أَخْطَأَ. قالَ وسَمِعْتُ محمداً يقُولُ "وذكَرْتُ لَهُ حَدِيثَ ضِرَارِ بنِ صُرَدٍ عنْ ابنِ أبي فُدَيْكٍ" فَقالَ هُوَ خَطَأٌ، فَقُلْتُ قَدْ رَوَاه غيرُهُ
ـــــــ
والترهيب، ورواية متروك وهو إسحاق بن أبي فروة كذا في النيل. وفي الباب أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه. رواه ابن المقري في مسند أبي حنيفة وأخرجه أبو يعلى.
قوله: "ومحمد بن المنكدر لم يسمع من عبد الرحمَن بن يربوع" فحديث أبي بكر منقطع "وقد روى محمد بن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمَن بن يربوع عن أبيه غير هذا الحديث" وأما هذا الحديث فرواه عن عبد الرحمَن بن يربوع ولم يذكر واسطة سعيد بن عبد الرحمَن "وروى أبو نعيم الطحان ضرار" بكسر الضاد المعجمة وخفة الراء "بن صرد" بضم المهملة وفتح الراء الكوفي صدوق له أوهام وخطأ رمى بالتشيع وكان عارفاً بالفرائض من العاشرة "وأخطأ فيه ضرار" فإنه ذكر واسطة سعيد بين محمد بن المنكدر وعبد الرحمَن بن يربوع "قال وسمعت محمداً يقول" أي قال أبو عيسى: وسمعت محمد البخاري رحمه الله "ذكرت له" وفي بعض النسخ وذكرت له بزيادة الواو والجملة حال، أي سمعت محمداً يقول والحال:(3/565)
عنْ ابنِ أبي فُدَيْكٍ أيضاً مِثْلَ رِوَايَتِهِ فَقالَ: لا شَيءَ إنمَا رَوَوْهُ عنْ ابنِ أبِي فُدَيكٍ ولَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ "عنْ سَعِيدِ بنِ عبدِ الرحمْنِ". ورَأَيْتُهُ يُضَعّفُ ضِرارَ بنَ صُرَدٍ وَالعَجّ هُوَ رَفْعُ الصّوْتِ بالتّلْبِيَةِ والثَجّ هُوَ نَحْرُ البُدْنِ.
ـــــــ
أني قد ذكرت له حديث ضرار "ورأيته" أي محمد البخاري "يضعف ضرار بن صرد" قال الذهبي في الميزان في ترجمة ضرار بن صرد قال أبو عبد الله البخاري وغيره متروك وقال يحيى بن معين: كذابان بالكوفة هذا وأبو نعيم النخعي بن عدي.
قوله: "والثج هو نحر البدن" بضم الموحدة وسكون الدال المهملة جمع البدنة قال في مجمع البحار: البدنة عند جمهور اللغة وبعض الفقهاء الواحدة من الإبل والبقرة والغنم وخصها جماعة بالإبل وهو المراد في حديث تبكير الجمعة انتهى(3/566)
15 ـ باب ما جَاءَ في رَفْعِ الصّوتِ بالتّلْبيَة
830 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنْ عبدِ الله بنِ أبي بَكْرٍ "وهو ابن محمد بن عمرو بن حرم" عنْ عبدْ الملِك بنِ أبي بَكْر بنِ عبدِ الرحمَنِ بن الحارث بن هشام عن خَلاّدِ بنِ السّائِبِ بن خلاّد عَنْ أبيهِ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " أَتَانِي جبريل فأمَرَني أنْ آمُرَ أصْحَابي أنْ يَرْفَعُوا أصْواتَهُمْ بالإهلاَلِ و التّلْبِيَةِ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في رَفْعِ الصّوتِ بالتّلْبيَة
قوله: "فأمرني أن آمر أصحابي" أمر ندب عند الجمهور ووجوب عند الظاهرية "وبالإهلال أو بالتلبية" المراد بالإهلال التلبية على طريق التجريد لأن معناه رفع الصوت بالتلبية وكلمة "أو" للشك قاله أبو الطيب والحديث يدل على استحباب رفع الصوت بالتلبية. وهو قول الجمهور وروى البخاري في صحيحه عن أنس قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرحون بهما جميعاً وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني قال: كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين. وأخرجه أيضاً بإسناد صحيح من طريق المطلب بن عبد الله قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم، كذا في فتح الباري. قال ابن الهمام: رفع الصوت بالتلبية سنة فإن تركه كان مسيئاً ولا شيء عليه ولا يبالغ(3/566)
قال أبو عيسى: حديثُ خَلاّدٍ عنْ أبيهِ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ورَوَى بَعْضُهُمْ هذا الحَديثَ عنْ خَلاّدِ بنِ السّائِبِ عنْ زَيْدِ بنِ خَالِدٍ عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم وَلاَ يَصِحّ. والصّحيحُ هُوَ عَنْ خَلاّدُ بن السّائِبِ عنْ أَبيهِ وهُوَ خَلاّدُ بنُ السّائِبِ بنِ خَلاّدِ بنِ سُوَيْدٍ الأنْصَارِي.
وفي البابِ عنْ زَيْدِ بنِ خَالِدٍ وأبي هُرَيْرَةَ وابنِ عبّاسٍ.
ـــــــ
فيه فيجهد نفسه كيلا يتضرر. ثم قال ولا يخفى أنه لا منافاة بين قولنا لا يجهد نفسه بشدة رفع الصوت، وبين الأدلة الدالة على استحباب رفع الصوت بشدة إذ لا تلازم بين ذلك وبين الإجهاد. إذ قد يكون الرجل جهوري الصوت عاليه طبعاً، فيحصل الرفع العالي مع عدم تعبه به انتهى. قال الشوكاني في النيل وذهب داود إلى أن رفع الصوت واجب وهو ظاهر قوله: فأمرني أن آمر أصحابي لاسيما وأفعال الحج وأقواله بيان لمجمل واجب هو قول الله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" انتهى. وقال فيه وخرج بقوله "أصحابي" النساء فإن المرأة لا تجهر بها بل تقتصر على إسماع نفسها انتهى.
قوله: "حديث خلاد عن أبيه حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأخرجه أيضاً مالك في الموطأ، والشافعي عنه وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححوه.
قوله: "وفي الباب عن زيد بن خالد" أخرجه ابن ماجه بلفظ: جاءني جبريل فقال يا محمد مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحج "وأبي هريرة" أخرجه الحاكم "وابن عباس" أخرجه أحمد(3/567)
16 ـ باب ما جاء في الاغتِسَالِ عِنْدَ الإحْرَام
831 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ أبي زِيَادٍ، حدثنا عبدُ الله بنُ يَعْقُوبَ المَدَنِيّ عَنْ ابنِ أبي الزّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَارِجَةَ بِن زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ عَنْ
ـــــــ
باب ما جاء في الاغتِسَالِ عِنْدَ الإحْرَام
قوله: "أخبرنا عبد الله بن يعقوب المدني" قال الذهبي في الميزان: لا أعرفه. وقال الحافظ في التقريب: مجهول الحال.(3/567)
أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل"
قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب وقد استحب بعض أهل العلم الإغتسال عند الإحرام وهو قول الشافعي
ـــــــ
قوله: "تجرد" أي عن المخيط ولبس إزاراً ورداء قاله القاري. "لإهلاله" أي لإحرامه "واغتسل" أي للإحرام والحديث يدل على استحباب الغسل عند الإحرام وإلى ذلك ذهب الأكثر وقال الناصر: إنه واجب وقال الحسن البصري ومالك محتمل قاله الشوكاني.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" قال الحافظ في التلخيص ورواه الدارقطني والبيهقي والطبراني وحسنه الترمذي وضعفه العقيلي انتهى. قال الشوكاني في النيل ولعل الضعف لأن في رجال إسناده عبد الله بن يعقوب المدني. قال ابن الملقن في شرح المنهاج جواباً على من أنكر على الترمذي تحسين الحديث: لعله إنما حسنه لأنه عرف عبد الله بن يعقوب الذي في إسناده أي عرف حاله. قال وفي الباب أحاديث تدل على مشروعية الغسل للإحرام(3/568)
17 ـ باب ما جَاءَ في مَواقِيتِ الإحرامِ لأهْلِ الاَفَاق
832 ـ حدثنا أَحمدُ بنُ مَنيعٍ أخبرنا إسماعيلُ بنُ إبراهيم عَنْ أيُوبَ عن نافع عَنْ ابنِ عُمَرَ أنّ رَجُلاً قالَ: مِنْ أيْنَ نُهِلّ يا رسولَ الله قالَ: "يُهِلّ أهلُ المَدِينَةِ منْ ذِي الحُلَيْفَةِ وأهلُ الشّامِ من الجُحفَةِ وأهلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْن، قال ويقولون "وأهلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ" ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في مَواقِيتِ الإحرامِ لأهْلِ الاَفَاق
قوله: "من أين نهل يا رسول الله" أصل الإهلال رفع الصلاة لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعاً "فقال يهل" أي يحرم "أهل المدينة" أي مدينته عليه الصلاة والسلام "من ذي الحليفة" بالمهملة والفاء مصغراً مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين. قاله ابن حزم. وقال غيره بينهما عشر مراحل. قال النووي بينها وبين المدينة ستة أميال وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب وبها بئر يقال لها بئر علي "وأهل الشام من الجحفة" بضم الجيم وسكون(3/568)
وفي البابِ عَن ابنِ عَبّاسٍ وجَابِرِ بنِ عبدِ الله وعبدِ الله بنِ عَمْروٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَرَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ عَلى هذَا عندَ أهلِ العلمِ.
833 ـ حدثنا أَبو كُرَيْبٍ حدثنا وكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَن يَزيدَ بنِ أبي زِيَادٍ عَنْ مُحَمّدِ بنِ عَلِي عَنْ ابنِ عَبّاسٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وقّتَ لأهْلِ المَشْرِقِ العَقِيقَ
ـــــــ
الحاء وهي قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل أو ستة وسميت الجحفة لأن السيل أجحف بها. ووقع في حديث عائشة عند النسائي: ولأهل الشام ومصر الجحفة والمقام الذي يحرم المصريون الآن رابغ بوزن فاعل براء وموحدة وغين معجمة قريب من الجحفة. كذا في فتح الباري.
وقال القاري في المرقاة: كان اسم الجحفة مهيعة فأجحف السيل بأهلها فسميت جحفة يقال أجحف به إذا ذهب به وسيل جحاف إذا جرف الأرض وذهب به والآن مشهور برابغ انتهى. "وأهل نجد من قرن" بفتح القاف وسكون الراء اسم موضع يقال له قرن المنازل أيضاً قال النووي: وقرن المنازل على نحو مرحلتين من مكة. قالوا أو هو أقرب المواقيت إلى مكة "وأهل اليمن من يلملم" بفتح التحاتنية واللام وسكون الميم بعدها لام مفتوحة ثم ميم، مكان على مرحلتين من مكة بينهما ثلاثون ميلاً، ويقال له الملم بالهمزة وهو الأصل والياء تسهيل لها تنبيه قال الحافظ: أبعد المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة، فقيل الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة وقيل رفقاً بأهل الاَفاق لأن أهل المدينة أقرب الاَفاق إلى مكة أي ممن له ميقات معين انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه البخاري ومسلم "وجابر بن عبد الله" أخرجه مسلم "وعبد الله بن عمرو" أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده والدارقطني في سننه بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرناً ولأهل اليمن يلملم ولأهل العراق ذات عرق . وفي سنده الحجاج بن ارطاة كذا في نصب الراية.
قوله: "وقت لأهل المشرق العقيق" وهو موضع بحذاء ذات العرق مما(3/569)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ
ـــــــ
وراءه، وقيل داخل في حد ذات العرق وأصله كل مسيل شقه السيل فوسعه من العق وهو القطع والشق. والمراد بأهل المشرق من منزله خارج الحرم من شرقي مكة إلى أقصى بلاد الشرق وهم العراقيون والمعنى حد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعين لإحرام أهل المشرق العقيق.
قوله: "هذا حديث حسن" قال المنذري بعد ذكر كلام الترمذي: هذا وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف. وذكر البيهقي أنه تفرد به انتهى.
فإن قلت روى أبو داود والنسائي عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. وروى مسلم في صحيحه عن ابي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل، فقال سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الأخرى الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق الحديث. فيثبت من هذين الحديثين أن ميقات أهل العراق ذات عرق. ويثبت من حديث الترمذي أنه العقيق فكيف التوفيق؟
قلت: قال الحافظ في الفتح: حديث الترمذي قد تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف وإن كان حفظه فقد جمع بينه وبين حديث جابر وغيره بأجوبة منها: إن ذات عرق ميقات الوجوب والعقيق ميقات الاستحباب لأنه من ذات عرق. ومنها أن العقيق ميقات بعض العراقيين وهم أهل المدائن والآخر ميقات لأهل البصرة، وقع ذلك في حديث لأنس عند الطبراني وإسناده ضعيف. ومنها أن ذات عرق كانت أولاً في موضع العقيق الآن ثم حولت وقربت إلى مكة فذات عرق والعقيق شيء واحد ويتعين الإحرام من العقيق ولم يقل به أحد وإنما قالوا يستحب احتياطاً انتهى.
فإن قلت: روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقتنا وإنا إن أردتا قرن شق علينا. قال فانظروا حذوها من طريقكم. فحد لهم ذات عرق انتهى. والمراد من هذين المصرين الكوفة والبصرة كما صرح به شرائح البخاري، وهما سرتا العراق. فحديث ابن عمر يدل على أن عمر رضي الله عنه حد لأهل العراق ذات عرق باجتهاد(3/570)
ـــــــ
منه. وحديث جابر وغيره يدل على أنها صارت ميقاتهم بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم فكيف التوفيق؟
قلت: جمع بينهما بأن عمر رضي الله تعالى عنه لم يبلغه الخبر فاجتهد فيه فأصاب ووافق السنة.
فإن قلت: قال ابن خزيمة: رويت في ذات عرق أخبار لا يثبت منها شيء عند أهل الحديث، وقال ابن المنذر لم نجد في ذات عرق حديثاً ثابتاً. وأما حديث جابر عند مسلم فهو مشكوك في رفعه. فالظاهر أن توقيت ذات عرق لأهل العراق باجتهاد عمر رضي الله عنه.
قلت قال الحافظ في الفتح: الحديث بمجموع الطرق يقوي. وأما حديث جابر فقد أخرجه أحمد في رواية ابن لهيعة وابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد فلم يشكا في رفعه(3/571)
18ـ باب ما جَاءَ في مَا لاَ يَجُوزُ للمُحْرِمِ لبْسُه
834 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا اللّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عنْ ابنِ عُمَرَ أَنّهُ قالَ: قامَ رَجُلٌ فَقالَ يا رسولَ الله ماذَا تَأمُرُنَا أنْ نَلْبَسَ مِنَ الثّيَابِ في الحرمِ؟ فَقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبَسوا القَمِيصَ ولاَ السّرَاويلاتِ ولا البَرانِسَ ولا العَمَائمَ ولا الخِفَافَ إلاّ أن يَكُونَ أحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلاَنِ
ـــــــ
ماذا باب ما جَاءَ في مَا لاَ يَجُوزُ للمُحْرِمِ لبْسُه
قوله: " تأمرنا أن نلبس" من لبس بكسر الباء يلبس بفتحها لبساً بضم اللام لا من لبس بفتح الباء يلبس بكسرها لبساً بالفتح فإنه بمعنى الخلط ومنه قوله تعالى {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} في الحرم بضم الحاء وسكون الراء أي في الإحرام "لا تلبس القميص" قال الطيبي: بما يحرم لبسه لأنه منحصر "ولا السراويلات" جمع أو جمع الجمع "ولا البرانس" بفتح الموحدة وكسر النون جمع البرنس بضمهما. قال الجزري في النهاية: هو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو جبة أو ممطر أو غيره وقال الجوهري: هو قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام من البرس بكسر الباء القطن والنون الزائدة. وقيل إنه غير عربي انتهى كلام الجزري. "ولا العمائم" جمع العمامة بكسر العين "ولا الخفاف"(3/571)
فَلْيَلْبَسِ الخُفّيْنِ وليقطعهما مَا أَسْفَلَ مِنْ الكَعْبَيْنِ وَلاَ تَلْبَسُوا شَيْئاً مِنَ الثّيَابِ مَسّهُ الزّعْفَرانُ ولاَ الوَرْسُ ولاَ تَتَنَقّبْ المَرأةُ الحَرامُ ولاَ تلبَسْ القُفّازَيْنِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَملُ عَلْيهِ عِندَ أَهْلِ العِلْمِ.
ـــــــ
بكسر الخاء جمع الخف "فليلبس الخفين ما أسفل من الكعبين" وفي رواية الشيخين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين. قال الحافظ في الفتح والمراد كشف الكعبين في الإحرام. وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم ويؤيده ما روى ابن أبي شيبة عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إذا اضطر المحرم إلى الخفين خرق ظهورهما وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه. وقال محمد بن الحسن ومن تبعه من الحنفية: الكعب هنا هو العظم الذي في وسط القدم عند معقد الشراك. وقيل إن ذلك لا يعرف عند أهل اللغة، وقيل إنه لا يثبت عن محمد وأن السبب في نقله عنه أن هشام بن عبيد الله الرازي سمعه يقول في مسألة المحرم: إذا لم يجد النعلين حيث يقطع خفيه. فأشار محمد بيده إلى موضع القطع. ونقله هشام إلى غسل الرجلين في الطهارة قال: ونقل عن الأصمعي وهو قول الإمامية أن الكعب عظم مستدير تحت عظم الساق حيث مفصل الساق والقدم. وجمهور أهل اللغة أن في كل قدم كعبين: قال: وظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما إذا لم يجد النعلين. وعن الحنفية تجب وتعقب بأنها لو وجبت لبينها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وقت الحاجة واستدل به على اشتراط القطع خلافاً للمشهور عن أحمد فإنه أجاز لبس الخفين من غير قطع لإطلاق حديث ابن عباس ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين وتعقب بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيد. فينبغي أن يقول بها هنا انتهى. "مسه الزعفران" لما فيه من الطيب "ولا الورس" بفتح الواو وسكون الراء وهو نبت أصفر طيب الريح يصبغ به. "ولا تنتقب المرأة الحرام" أي المحرمة أي لا تستر وجهها بالبرقع والنقاب "ولا تلبس القفازين" القفاز بضم القاف وتشديد الفاء شيء تلبسه نساء العرب في أيديهن يغطي الأصابع والكف والساعد من البرد ويكون فيه قطن محشو ذكره الطيبي وقيل يكون له أزرار يزر على الساعد.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "والعمل عليه عند أهل العلم" قال عياض: أجمع المسلمون على أن(3/572)
ـــــــ
ما ذكر في الحديث لا يلبسه المحرم وأنه نبه بالقميص والسراويل على كل مخيط، وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطي الرأس به مخيطاً أو غيره، وبالخفاف على كل ما يستر الرجل انتهى. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ما ذكر، وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسه الزعفران أو الورس انتهى(3/573)
باب ما جاء في لبس السراويل والخفين للمحرم إذا لم يجد الإزار والنعلين
...
19 ـ باب ما جَاءَ في لُبْسِ السّرَاوِيلِ والخُفّيْنِ للمُحْرِمِ إذَا لَمْ بَجِدْ الإزَارَ والنّعْلَيْن
835 ـ حدثنا أحمدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ البصريّ، حدثنا يزيدُ بنُ زُرَيعٍ حدثنا أيّوبُ حدثنا عَمْروُ بنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ بنِ زَيْد عن ابنِ عبّاسٍ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "المحْرِمُ إذَا لَمْ يَجِدْ الإزَارَ فَلْيَلْبَسِ السّرَاوِيلَ وإذا لَمْ يَجِد النّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفّيْنِ".
836- حدثنا قتيبة حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ عَمْروٍ نحوَهُ. قال: وفي البابِ عنْ ابنِ عُمَرَ وجَابِرِ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَمَلُ على هذَا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ قَالوا: إذَا لَمْ يَجِدْ المُحْرِمُ الإزَارَ لَبِسَ السّرَاويلَ وإذَا لَمْ يَجِدْ النّعْلَيْنِ لَبِسَ الخُفّيْنِ . وهو قَوْلُ أحمدَ وقالَ بَعْضُهُمْ "عَلَى حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في لُبْسِ السّرَاوِيلِ والخُفّيْنِ للمُحْرِمِ إذَا لَمْ بَجِدْ الإزَارَ والنّعْلَيْن
قوله: "وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين" استدل به لأحمد بن حنبل على إجازته لبس الخفين من غير قطع وأجيب بأنه مطلق وحديث ابن عمر مقيد فيحمل المطلق على المقيد.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه الشيخان "وجابر رضي الله عنه" أخرجه أحمد ومسلم بلفظ: من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وهو قول أحمد" قال أحمد: يجوز للمحرم لبس الخفين من غير(3/573)
عَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم" : إذَا لَمْ يَجِدْ النّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَس الخُفّيْنِ وليَقْطَعهمَا أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ . وهو قَولُ سُفْيانَ الثّوْرِيّ والشّافِعيّ
ـــــــ
قطع إذا لم يجد النعلين، واستدل بإطلاق حديث ابن عباس وجابر، وقد عرفت أن حديث ابن عمر مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، وقد استدل بعض الحنابلة بأن القطع فساد والله لا يحب الفساد، ورد بأن الفساد إنما يكون فيما نهى الشرع عنه لا فيما أذن فيه. واستدل بعضهم بالقياس على السراويل وأجيب بأن القياس مع وجود النص فاسد الاعتبار.
قوله: "وهو قول سفيان الثوري والشافعي" وبه قال مالك وأبو حنيفة وجماهير العلماء واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنه وهو الحق، فإن المطلق يحمل على المقيد والزياده من الثقة مقبولة واختلف العلماء في لابس الخفين لعدم النعلين، هل عليه فدية أم لا؟ قال الشوكاني وظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما إذا لم يجد النعلين وعن الحنفية تجب وتعقب بأنها لو كانت واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وقت الحاجة وتأخير البيان عنه لا يجوز انتهى(3/574)
20 ـ باب ما جَاءَ في الذِي يُحْرِمُ وَعَلْيهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبّة
837 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ، حدثنا عبدُ الله بنُ إِدْرِيسَ عنْ عَبدِ المَلِكِ بنِ أبي سُلَيْمانَ عنْ عَطَاءٍ عنْ يَعْلَى بنِ أُميّةَ قالَ : "رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم أَعْرابِيّا قَدْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ جُبّةٌ فأمَرَهُ أَنْ يَنْزِعَهَا".
838 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ حدثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْرو بنِ دِينَارٍ عنْ عَطَاءٍ عنْ صَفْوانَ بنِ يَعْلَى عن أبيهِ عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ بمعْنَاهُ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الذِي يُحْرِمُ وَعَلْيهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبّة
قوله: "فأمره أن ينزعها" وفي رواية لأبي داود اخلع جبتك فخلعها من رأسه. وقد استبدل بهذا الحديث على المحرم ينزع ما عليه من المخيط من قميص أو غيره ولا يلزمه عند الجمهور تمزيقه ولا شقه وقال النخعي والشعبي: لا ينزعه من قبل رأسه لئلا يصير مغطياً لرأسه. أخرجه ابن أبي شيبة عنهما، وعن علي نحوه وكذا عن الحسن وأبي قلابة. ورواية أبي داود المذكورة ترد عليهم.(3/574)
قال أبو عيسى وهذا أَصَحّ وفي الحَدِيثِ قصّةُ. وهَكَذَا رواه قَتادَةُ والحَجّاجُ بنُ أَرْطَاةَ وغَيْرُ واحِدٍ عنْ عَطَاءٍ عنْ يَعْلى بنِ أُمّيةَ. والصّحِيحُ مَا رَوَى عَمْروُ بنُ دِينَارِ وابنُ جُريجِ عَنْ عَطَاءٍ عن صَفْوانَ بنِ يَعْلَى عنْ أبِيهِ عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
قوله: "وهذا أصح" أي رواية ابن أبي عمر بزيادة صفوان بين عطاء ويعلى أصح من رواية قتيبة بن سعيد.
قوله: "وفي الحديث قصة" روى البخاري في صحيحه عن صفوان بن يعلى أن يعلى قال لعمر: أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه قال: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاء رجل فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متصمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فجاءه الوحي فأشار عمر إلى يعلى، فجاء يعلى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به فأدخل رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهو يغط، ثم سرى عنه فقال أين الذين سأل عن العمرة؟ فقال اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك انتهى. "وهكذا روى قتادة والحجاج بن أرطاة وغير واحد عن عطاء عن يعلى بن أمية" أي بعدم ذكر صفوان بين عطاء ويعلى، والحديث أخرجه البخاري ومسلم(3/575)
باب ما جاء ما يقتل المحرم من الدواب
...
21 ـ باب ما يَقْتُلُ المُحْرِمُ مِنْ الدّوَاب
839 ـ حدثنا محمدُ بنُ عبدِ المَلِكِ بنِ أبي الشّوارِبِ حدثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيعٍ حدثنا مَعْمَرٌ عنْ الزُهْرِيّ عن عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ قَالَتْ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " خَمْسُ فَواسِق يُقْتَلْنَ في الحَرَمِ: الفَأْرَةُ والعَقْربُ والغُرابُ والحُدَيّا والكَلْبُ العقُورُ".
ـــــــ
باب ما يَقْتُلُ المُحْرِمُ مِنْ الدّوَاب
قوله: "خمس" بالتنوين مبتدأ وقوله "فواسق" صفته جمع فاسقة، وفسقهن خبئهن وكثرة الضرر منهن قال في النهاية أصل الفسوق الخروج عن الاستقامة.(3/575)
قال: وفي البابِ عن ابنِ مَسْعُودٍ وابنِ عُمَرَ وأبي هُرَيْرَةَ وأَبي سَعيدٍ وابنِ عبّاسٍ.
قال أبو عيسى: حديث عائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
840 ـ حدثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا هُشَيمٌ أخبرنا يَزِيدُ بنُ أبي زِيَادٍ عنْ ابنِ أبي نُعْمٍ عنْ أبي سَعِيدٍ عَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
ـــــــ
والجور وبه سمي العاصي فاسقاً، وإنما سميت هذه الحيوانات فواسق على الاستعارة لخبثهن، وقيل لخروجهن عن الحرمة في الحل والحرم أي لا حرمة لهن بحال انتهى. قال الطيبي وروى بلا تنوين مضافاً إلى فواسق قال في المفاتيح الأول هو الصحيح "يقتلن" خبر لقوله خمس "في الحرم" أي في أرضه "الفأرة " بالهمزة وتبدل ألفاً أي الأهلية والوحشية "والعقرب" وفي معناها الحية بل بطريق الأولى "والغراب" أي الأبقع كما في رواية مسلم وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض "والحديا" تصغير حدأة على وزن عنبة قلبت الهمزة بعد ياء التصغير ياء وأدغمت ياء التصغير فيه فصار حدية ثم حذفت التاء وعوض عنها الألف لدلالته على التأنيث أيضاً كذا في المرقاة "والكلب العقور" قال في النهاية: الكلب العقور هو كل سبع يعقر أي يجرح ويقتل ويفترس كالأسد والنمر والذئب سماها كلباً لاشتراكها في السبعية انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس" أما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر محرماً بقتل حية . وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري ومسلم من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: العقرب والفأرة والكلب العقور والغراب والحدأة". وأخرجاه أيضاً من وجه آخر عنه بنحوه زاد فيه مسلم: والحية وزاد فيه قال: وفي الصلاة أيضاً. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الطحاوي في معاني الآثار وأخرجه أيضاً أبو داود قال المنذري في إسناده محمد بن عجلان. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه الترمذي في هذا الباب وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد وذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "عن ابن أبي نعم" بضم النون وسكون العين المهملة هو عبد الرحمَن(3/576)
"يَقْتُلُ المُحْرِمُ السّبُعَ العَادِي والكَلْبَ العَقُورَ والفَأرَةَ والعَقْرَبَ والحدَأَةَ والغُرابَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. والعَمَلُ عَلى هذا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ قَالُوا المُحْرِم يَقْتُلُ السّبُعَ العَادِيَ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ والشّافِعِيّ. وقَالَ الشّافِعِيّ كُلّ سَبُعٍ عدَا عَلَى النّاسِ أوْ عَلَى دَوَابّهِمْ فَلِلْمُحَرِمِ قَتْلُهُ.
ـــــــ
البجلي أبو الحكم الكوفي صدوق عابد من الثالثة.
قوله: "يقتل المحرم السبع العادي" أي الظالم الذي يفترس الناس ويعقر فكل ما كان هذا الفعل نعتا له من أسد ونمر وفهد ونحوها فحكمه هذا الحكم، وليس على قاتلها فدية "والكلب العقور الخ" وفي رواية أبي داود: الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور قال الخطابي: يشبه أن يكون المراد به الغراب الصغير الذي يأكل الحب وهو الذي استثناه مالك من جملة الغربان انتهى. وقال الزيلعي في تخريج الهداية: والغراب المنهي عن قتله في هذا الحديث يحمل على الذي لا يأكل الجيف ويحمل المأمور بقتله على الأبقع الذي يأكل الجيف انتهى كلامه، وأخرج النسائي وابن ماجه عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة مرفوعاً: خمس يقتلهن المحرم الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور انتهى ما في التخريج(3/577)
باب ما جاء في الحجامة للمحرم
...
22 ـ باب ماجاءَ في الحِجَامَةِ للمُحْرِم
841 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرو بنِ دِينَارٍ عَن طَاوُسٍ و عَطَاءٍ عَنْ ابنِ عَبّاسٍ: " أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وهُوَ مُحْرِمٌ".
ـــــــ
"باب الحجامة للمحرم"
أي هل يمنع منها أو تباح له مطلقاً أو للضرورة والمراد في ذلك كله المحجوم لا الحاجم.
قوله: "احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي في رأسه كما في رواية البخاري "وهو محرم" جملة حالية.(3/577)
قال: وفي البابِ عن أنسٍ وعبدِ الله بنِ بُحَيْنَةَ وجَابِرٍ.
قال أبو عيسى: حَديثُ ابنِ عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقَدْ رَخّصَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ في الحِجَامَةِ للمُحْرِمِ قَالُوا: لا يَحْلِق شَعْراً. وقالَ مَالِكٌ: لا يَحْتَجِمُ المُحرِمُ ولاَ يَنزِعُ شَعْراً الا من ضرورة وقال سفيان الثوري والشافعيّ: لا بأس أن يحتجم المحرم ولا ينزع شعراً.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أنس" قال احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به، أخرجه أبو داود والنسائي "وعبد الله بن بحينة" أخرجه البخاري ومسلم "وجابر" لينظر من أخرجه.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وقد رخص قوم من أهل العلم في الحجامة للمحرم الخ" قال النووي: إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام لقطع الشعر وإن لم تتضمنه جازت عند الجمهور، وكرهها مالك وعن الحسن: فيها الفدية وإن لم يقطع شعراً وإن كان لضرورة جاز قطع الشعر، وتجب الفدية وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس، واستدل بهذا الحديث على جواز الفصد ربط الجرح والدمل وقطع العرق وقلع الضرس وغير ذلك من وجوه التداوي إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهي عنه المحرم، من تناول الطيب وقطع الشعر ولا فدية عليه في شيء من ذلك كذا في الفتح(3/578)
23 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ تَزْويجِ المُحْرم
842 ـ حدثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا إسماعيلُ بنُ عُلَيّةَ حدثنا أيّوبُ عَنْ نَافِعٍ عنْ نُبَيْهِ بنِ وَهْبٍ قالَ أرَادَ ابنُ مَعْمَرٍ أنْ يُنكِحَ ابْنَهُ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ تَزْويجِ المُحْرم
قوله: "عن نبيه بن وهب" بضم النون وفتح موحدة مصغراً العبدري المدني ثقة من صغار الثالثة.
قوله: "أراد ابن معمر أن ينكح ابنه" ابن معمر هو عمر بن عبيد الله بن(3/578)
فَبَعَثَنِي إلى أَبانَ بنِ عُثْمَانَ وهُوَ أَميرُ المَوسِمِ بمكة فأَتَيْتُهُ فقلت: إنّ أَخَاكَ يُرِيدُ أَنْ يُنْكِحِ ابنَهُ فأحَبّ أنْ يُشْهِدَكَ ذَلِكَ قالَ: لاَ أُرَاهُ إلاّ أَعْرَابياً جَافِياً، إنّ المُحْرِمَ لاَ يَنكِحُ ولا يُنكِحُ أَو كَمَا قَال ثم حَدّثَ عنْ عُثْمَانَ مثلَهُ يَرْفَعُهُ.
وفي البابِ عَنْ أبي رَافعٍ ومَيْمُونَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عُثْمانَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ والعَمَلُ على هذَا عِنْدَ بَعضِ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، منهُمْ عُمَرُ بنُ الخطّابِ وعَليّ
ـــــــ
معمر وإسم إبنه طلحة كما في رواية مسلم "فبعثني" أي أرسلني "إلى أبان بن عثمان" ابن عفان الأموي أبي سعيد وقيل أبي عبد الله مدني ثقة من الثالثة "وهو" أي أبان بن عثمان "أمير الموسم" أي أمير الحجاج. قال في مجمع البحار: الموسم هو وقت يجتمع فيه الحاج كل سنة. وهو مفعل إسم للزمان لأنه معلم لهم وسمه يسمه وسماً أثر فيه بكى انتهى. "إن أخاك" يعني ابن معمر "فأحب أن يشهدك ذلك" وفي رواية لمسلم: فأحب أن تحضر ذلك "لا أراه" بضم الهمزة أي لا أظن "إلا أعرابياً جافياً" قال النووي أي جاهلاً بالسنة والأعرابي هو ساكن البادية انتهى. وقال في النهاية: من بدا جفا أي من سكن البادية غلظ طبعه لقلة مخالطة الناس، والجفا غلظ الطبع انتهى. "المحرم لا ينكح" بفتح الياء وكسر الكاف أي لا يتزوج لنفسه امرأة "ولا ينكح" بضم الياء وكسر الكاف أي لا يزوج الرجل امرأة بولاية ولا بوكالة "أو كما قال" شك من الرواي "ثم حدث" أي أبان بن عثمان "عن عثمان مثله يرفعه" ولفظه عند مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب".
قوله: "وفي الباب عن أبي رافع" أخرجه أحمد والترمذي في هذا الباب "وميمونة" أخرجه مسلم عن يزيد الأصم قال: حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، قال كانت خالتي وخالة ابن عباس.
قوله: "حديث عثمان حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.(3/579)
ابنُ أبي طَالِبٍ وابنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ فُقَهَاءِ التّابِعِينَ وَبِه يَقُولُ مالِكٌ والشّافِعيّ وأَحْمد وإسحاقُ: لا يَرَوْنَ أَنْ يَتَزَوّجَ المُحْرِمُ قالُوا فإِنْ نَكَحَ فَنِكاحُهُ باطِلٌ.
843 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، أخبرنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن مَطَرٍ الوَرّاقِ عن رَبيعَةَ بنِ أَبِي عبدِ الرحمَنِ عن سُلَيْمانَ بنِ يَسَارٍ عن أبي رَافعٍ قال: "تَزَوّجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلاَلٌ، وبَنَى بها وهو حَلاَلٌ، وكُنْتُ أنا الرّسُولَ فيما بَيْنَهُمَا".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ ولا نَعْلَمُ أَحْداً أسْنَدَهُ غَيْرَ حَمّادِ بنِ زَيْدٍ عن مَطَرٍ الوَراقِ عن رَبيعَةَ. وَرَوَى مالكُ بنُ أنسٍ عن رَبيعَةَ عن سُلَيْمانَ بنِ يَسارٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ وهُوَ حَلاَلٌ رَوَاهُ مالِكٌ مُرْسَلاً قال ورَواهُ أيْضاً سُلَيْمانُ بنُ بِلاَلٍ عن رَبيعَةَ مُرْسَلاً.
ـــــــ
قوله: "وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يرون أن يتزوج المحرم الخ" وهو قول الجمهور وهو الراجح عندي. قال الحافظ في الفتح: اختلف العلماء في هذه المسألة فالجمهور على المنع لحديث عثمان: لا ينكح المحرم ولا ينكح أخرجه مسلم. وأجابوا عن حديث ميمونة يعني الذي رواه ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. أخرجه الشيخان وغيرهما بأنه اختلف في الواقعة كيف كانت ولا تقوم بها الحجة ولأنها تحتمل الخصوصية فكأن الحديث في النهي عن ذلك أولى بأن يؤخذ به انتهى.
قوله: "عن أبي رافع" هو مولى النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف في اسمه فقيل إبراهيم وقيل أسلم وقيل غير ذلك، مات في أول خلافة علي رضي الله عنه على الصحيح.
قوله: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة" بنت الحارث الهلالية وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف سنة سبع "وبنى بها" أي دخل عليها وهو كناية عن الزفاف "وكنت أنا الرسول" أي الواسطة.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد.(3/580)
قال أبو عيسى: ورُوِيَ عن يَزِيدَ بنِ الأصَمّ عن مَيْمُونَةَ قالتْ: "تَزَوّجَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهُوَ حَلاَلٌ ويزِيدُ بنُ الأصَمّ هُوَ ابنُ أُخْتِ مَيْمُونَةَ.
ـــــــ
قوله: "وروي عن يزيد بن الأصم عن ميمونة قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال" أخرجه مسلم. قال صاحب منتقى الأخبار: رواية صاحب القصة والسفير فيها أولى لأنه أخبر وأعرف بها انتهى(3/581)
24 ـ باب ما جَاءَ في الرُخْصَةِ في ذلك
844 ـ حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ البصري حدثنا سُفْيانُ بنُ حَبيبٍ عن هِشامِ بنِ حَسّانَ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ وهُوَ مُحْرِمٌ".
قال: وفي البابِ عن عَائِشَةَ:
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ بَعْضِ أهلِ العلمِ. وبه يَقُولُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ وأَهْلُ الكُوفَةِ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الرُخْصَةِ في ذلك
قوله: "تزوج ميمونة وهو محرم" وللبخاري: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه ابن حبان والبيهقي عنها قالت: تزوج وهو محرم، وأخرجه الطحاوي أيضاً. وأخرج أيضاً عن أبي هريرة: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "وبه يقول سفيان الثوري وأهل الكوفة" وبه قال عطاء وعكرمة، واحتجوا بحديث ابن عباس المذكور.(3/581)
845 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن أَيّوبَ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عبّاسٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ وهُوَ مُحْرِمٌ".
846 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا دَاوُدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ العَطّارُ عن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ قالَ: سَمِعْتُ أبا الشّعْثَاءِ يُحَدّثُ عن ابنِ عَبّاسِ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ وهُوَ مُحْرِمٌ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. وأبُو الشّعْثَاءِ اسْمُهُ جَابِرُ بنُ زَيْدٍ. واختَلَفُوا في تَزْويجِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تَزَوّجَها في طَريقِ مَكّةَ، فقالَ بعضُهُمْ تَزَوّجَها حَلاَلاً وظَهَرَ أَمْرُ
ـــــــ
وأجيب أولاً بأنه مخالف لرواية أكثر الصحابة ولم يروه كذلك. إلا ابن عباس كما قال عياض.
وتعقب بأنه قد صح من رواية عائشة وأبي هريرة نحوه كما صرح به الحافظ في الفتح، وثانياً بأن حديث ابن عباس فعل وحديث عثمان رضي الله عنه قول، والصحيح عند الأصوليين عند تعارض القول والفعل ترجيح القول لأنه يتعدى إلى الغير، والفعل قد يكون مقصوراً عليه قاله النووي، وثالثاً بالمعارضة برواية ميمونة نفسها وهي صاحبة القصة، وكذلك برواية أبي رافع وهو السفير وهما أخبر وأعرف بها. أما رواية ميمونة فأخرجها الترمذي في هذا الباب وهي رواية صحيحة أخرجها مسلم أيضاً. وأما رواية أبي رافع فأخرجها الترمذي وحسنه كما عرفت في الباب المتقدم.
قلت: والكلام في هذا المقام من الطرفين طويل والراجح هو قول الجمهور، فإن حديث عثمان رضي الله عنه فيه بيان قانون كلي للأمة. وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما ففيه حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفيه احتمالات متطرفة، هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه مسلم "واختلفوا في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة الخ" قال النووي في شرح مسلم: ذكر مسلم الاختلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم أو وهو حلال فاختلف العلماء بسبب ذلك في نكاح المحرم، فقال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من(3/582)
تَزْويجِها وهُوَ مُحْرِمٌ ثمّ بَنى بِهَا وهُو حَلالٌ بِسَرِفَ في طَريقِ مَكّةَ. وماتَتْ مَيْمُونَةُ بسَرِفَ حيثُ بنَى بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ودُفِنَتْ بِسَرفَ.
847 ـ حدثنا إسحاقُ بنُ منصُورٍ حدثنا وَهْبُ بنُ جَريرٍ حدثنا أبي قال: "سَمِعْتُ أبا فَزارَةَ يُحَدّثُ عن يَزِيدَ بنِ الأصَمّ عن مَيْمُونَةَ "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَزوّجها وهُوَ حَلاَلٌ وَبَنى بها حَلاَلاً. وماتتْ بَسَرِفً ودفَنّاها في الظّلّةِ التي بُنِيَ بِهَا فِيهَا".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ. وَرَوَى غَيْرُ واحِدٍ هذا الحديثَ
ـــــــ
الصحابة فمن بعدهم: لا يصح نكاح المحرم واعتمدوا أحاديث الباب، وقال أبو حنيفة والكوفيون يصح نكاحه لحديث قصة ميمونة.
وأجاب الجمهور عن حديث ميمونة بأجوبة أصحها أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تزوجها حلالاً هكذا رواه أكثر الصحابة. قال القاضي وغيره: ولم يروا أنه تزوجها محرماً إلا ابن عباس وحده، وروت ميمونة وأبو رافع وغيرهما أنه تزوجها حلالاً وهم أعرف بالقضية لتعلقهم به بخلاف ابن عباس ولأنهم أضبط من ابن عباس وأكثر، الجواب الثاني: تأويل حديث ابن عباس على أنه تزوجها في الحرم وهو حلال، ويقال لمن هو في الحرم محرم وإن كان حلالاً وهي لغة شائعة معروفة ومنه البيت المشهور: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً، أي في حرم المدينة. والثالث أنه تعارض القول والفعل، والصحيح حينئذ عند الأصوليين ترجيح القول لأنه يتعدى إلى الغير، والفعل قد يكون مقصوراً عليه. والرابع جواب جماعة من أصحابنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج في حال الإحرام وهو مما خص به دون الأمة وهذا أصح الوجهين عند أصحابنا، والوجه الثاني أنه حرام في حقه كغيره وليس من الخصائص انتهى كلام النووي.
قوله: "ثم بنى بها" أي دخل بها. قال في النهاية: الابتناء والبناء الدخول بالزوجة: والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوج امرأة بنى عليها قبة ليدخل بها فيها فيقال بنى: الرجل على أهله "بسرف" بفتح المهملة وكسر الراء موضع معروف من مكة بعشر أميال وقيل أقل وقيل أكثر "وماتت ميمونة بسرف" سنة إحدى وخمسين على الصحيح قاله الحافظ.(3/583)
عن يَزيدَ بنِ الأصمّ مُرْسَلاً أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تَزوّجَ مَيْمُونَةَ وهُوَ حَلاَلٌ.
ـــــــ
قوله: "عن يزيد بن الأصم" كوفي نزل الرقة وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين ثقة من الثالثة "ودفناها في الظلة" بضم الظاء وتشديد اللام كل ما أظل من الشمس "التي بنى بها" أي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة "فيها" أي في تلك الظلة.
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرجه أحمد ومسلم وتقدم لفظه وأخرجه أبو داود أيضاً ولفظه قالت: تزوجني ونحن حلالان بسرف(3/584)
25 ـ باب ما جَاء في أكْلِ الصّيْدِ للْمُحْرِم
848 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا يَعْقُوبُ بنُ عبدِ الرحمَنِ عن عَمْرٍو بنِ أبي عَمْروٍ عن المُطّلِبِ عن جَابِر بن عبدالله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "صَيْدُ البَرّ لكُمْ حَلالٌ وأنْتُمْ حُرُمٌ ما لَمْ تَصِيدُوهُ أوْ يُصَدْ لكُمْ".
قال: وفي البابِ عن أبي قَتادَةَ وطَلْحَةَ.
ـــــــ
باب ما جَاء في أكْلِ الصّيْدِ للْمُحْرِم
قوله: "عن المطلب" هو المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب المخزومي صدوق كثير التدليس والإرسال من الرابعة.
قوله: "صيد البر لكم الحلال وأنتم حرم" بضمتين أي محرمون "ما لم تصيدوه" بأنفسكم مباشرة "أو يصد لكم" أي لأجلكم. قال في المرقاة: وبهذا يستدل مالك والشافعي رحمهما الله على حرمة لحم ما صاده الحلال لأجل المحرم، وأبو حنيفة رحمه الله يحمله على أن يهدي إليكم الصيد دون اللحم أو على أن يكون معناه أن يصاد بأمركم فلا يحرم لحم صيد ذبحه حلال للمحرم من غير أمره أو دلالته انتهى. قلت: ما ذهب إليه مالك والشافعي هو مذهب الجمهور واحتجوا بحديث جابر هذا. ومن جملة أدلة الجمهور ما رواه أحمد وابن ماجه من حديث أبي قتادة وفيه: ولم يأكل منه حين أخبرته أني أصطدته له.
قوله: "وفي الباب عن أبي قتادة" أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم "وطلحة" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي.(3/584)
قال أبو عيسى: حديثُ جابرٍ حديثٌ مُفَسّرٌ والمُطّلِبُ لا نَعْرِفُ لَهُ سَماعاً مِنْ جَابِرٍ. والعَمَلُ على هَذا عندَ بعضِ أهْلِ العلمِ لا يَرَوْنَ بالصّيْدِ لِلْمُحْرِمِ بأساً إذا لم يَصْطَدْهُ أو يُصْطَدْ منْ أجْلِهِ. قال الشّافعيّ هذا أحْسَنُ حَدِيثٍ رُوِيَ في هذا البابِ وأقْيَسُ. والعَملُ على هذا. وهُوَ قَوْلُ أحمدَ وإسحاقَ.
849 ـ حدثنا قُتَيْبةُ عن مالِكِ بنِ أنسٍ عن أبي النّضْرِ عن نافعٍ مَوْلَى أبي قَتَادَةَ عن أبي قَتَادَة أنهُ كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعضِ طَريقِ مَكّةَ تَخَلّفَ مع أَصْحَابٍ لهُ مُحْرِمينَ وهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَرَأَى حِماراً وحشياً فاستْوَى على فَرَسِهِ فَسَأَلَ أصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فأَبَوْا فسأَلَهُمْ رُمْحهُ فأَبَوْا عَليهِ فأَخَذَه ثم شدّ على الحِمار فقَتَلهُ فأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أصحابٍ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبى بَعْضُهُمْ فأَدْرَكُوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأَلُوهُ عن ذلك فقالَ "إنّما هيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا الله".
850 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ عن مالكٍ عن زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عن عطاءِ بنِ يَسَارٍ عن أبي قَتَادَةَ في حِماد الوَحْشِ مِثْلَ حَديثِ أبي النّضْرِ غَيْرَ أَنّ في حديثِ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحمِهِ شيءٌ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "حديث جابر حديث مفسر" فإنه صريح في التفرقة بين أن يصيده المحرم أو يصيده غيره له وبين أن لا يصيده المحرم ولا يصاد له بل بصيده الحلال لنفسه ويطعمه المحرم ومقيد لبقية الأحاديث المطلقة.
قوله: "والمطلب لا نعرف له سماعاً من جابر" وقال الترمذي في موضع آخر: والمطلب بن عبد الله بن حنطب يقال إنه لم يسمع من جابر، وذكر أبو حاتم الرازي أنه لم يسمع من جابر، وقال ابنه عبد الرحمَن بن أبي حاتم يشبه أن يكون أدركه، ذكره المنذري(3/585)
26ـ باب ما جَاءَ في كَراهِيَةِ لَحْمِ الصّيْدِ لِلْمُحْرِم
851 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا الّليْثُ عن ابنِ شِهابٍ عن عُبيدِ الله بنِ عبدِ الله أنّ ابنَ عَبّاسٍ أخْبَرَهُ أنّ الصّعْبَ بنَ جَثّامَةَ أخْبَرهُ "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرّ بهِ بالأبواءِ أو بوَدّانَ فأَهْدَى لهُ حِماراً وحْشِياً فردّهُ عليهِ، فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما في وجْهِهِ من الكَرَاهِيَة قال: إنّهُ لَيْسَ بناردٌ عليك ولكنّا حُرُمٌ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وقد ذَهَبَ قَوْمٌ منْ أهْلِ العلمِ منْ أصْحابٍ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِم إلى هذا الحديثِ وكَرِهُوا أكْلَ الصّيْدٍ لِلْمُحْرِمِ. وقال الشّافعيّ إنّما وجْهُ هذا الحديثِ عِنْدَنا إنّما رَدّهُ عَلَيْهِ لمّا ظَنّ أنّهُ صِيدَ مِنْ أجلِهِ وتَرَكَهُ على التّنَزهِ. وقد رَوَى بَعْضُ أصحابِ الزُهْريّ عن الزُهْريّ هذا الحديثَ وقال أهْدِي لهُ لَحْمُ حِمار وَحْشٍ وهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ.
قال: وفي البابِ عن علي وَزَيْدِ بنِ أرْقَمَ.
ـــــــ(3/586)
27 ـ باب ما جَاءَ في صَيْدِ البَحْرِ لِلْمُحرِم
852 ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ، حدثنا وكِيعٌ عن حَمّادِ بنِ سَلَمَة عن أبي المُهَزّمِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: "خَرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حَج أوْ عُمْرَةٍ فاْستَقْبَلَنَا رِجْلٌ منْ جَرادٍ فَجَعلْنَا نَضْرِبُهُ بأَسْياطِنَا وعِصِيّنا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم كُلُوهُ فإنّهُ منْ صَيْدِ البَحْرِ"1.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديثِ أبي المُهَزمِ عن أبي هُرَيْرَةَ. وأبُو المُهَزّمِ اسْمُهُ يَزيدُ بنُ سُفْيَانَ وقد تَكَلّمَ فيه شُعْبَةُ. وقد رَخّصَ قَوْمٌ منْ أهْلِ العلمِ لِلْمُحْرِمِ أنْ يَصِيدَ الجَرادَ ويأكُلَه. وَرَأَى بَعْضُهُمْ عليهِ صَدَقَةٌ إذا اصْطَادَهُ وأَكَلَهُ.
ـــــــ
1 كذا بالأصل المعنى المراد: إنه من صيد البحر .. حكما لا حقيقة.(3/586)
28 ـ باب ما جاء في الضّبُعِ يُصِيبُهَا المُحْرِم
853 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنيِعٍ، حدثنا إسْماعيلُ بنُ إبراهيم حدثنا ابنُ جُرَيْجٍ عن عبدِ الله بن عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ عن ابِن أبي عَمّارٍ قال: " قُلْتُ لَجابر: الضّبُعُ أَصَيْدٌ هِيَ؟ قالَ: نَعَمْ. قال قلت: آكُلُهَا؟ قال: نَعَمْ. قَالَ قُلْتُ أَقَالَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نَعَمْ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قال عليّ بن المديني: قالَ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ وَرَوَى جَريرُ بنُ حازِمٍ هذا الحديث فقالَ عن جابِرٍ عن عُمَرَ وحديثُ ابنُ جُرَيْجٍ أصَحّ وهُوَ قَوْلُ أحمدَ وإسحاقَ. والعملُ على هذا الحَديثِ عِنْدَ بَعْضِ أهلِ العلمِ في المُحْرِمِ إذا أصابَ ضبُعاً أنّ عَليهِ الجَزَاءَ.
ـــــــ(3/587)
29ـ باب ما جَاء في الاغتسالِ لدُخُولِ مَكّة
854 ـ حدثنايَحْيَى بنُ مُوسى حدثنا هارُونُ بنُ صَالِحٍ البلخي حدثنا عبدُ الرحمَن بنُ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عن أبيهِ عن ابنِ عُمرَ قالَ: "اغْتَسَل النبيّ صلى الله عليه وسلم لدُخُولِ مَكّةَ بفَخ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غيرُ مَحْفُوظٍ والصّحيحُ مَا رَوَى نافِعٌ عَن ابنِ عُمرَ أنّهُ كانَ يَغْتَسِلُ لدُخُولِ مَكّةَ.
ـــــــ
باب ما جَاء في الاغتسالِ لدُخُولِ مَكّة
قوله: "بفخ" بفتح الفاء وبالخاء المعجمة المشددة موضع قريب من مكة. قال المحب الطبري: هو بين مكة ومنى، قال العراقي: ووقع في سنن الدارقطني بالجيم والمعروف الأول كذا في قوت المغتذي. وقال في النهاية: فخ موضع عند مكة وقيل واد دفن به عبد الله بن عمر انتهى.
قوله: "والصحيح ما روى نافع عن ابن عمر أنه كان يغتسل إلخ" الظاهر أن الضمير في أنه يرجع إلى ابن عمر رضي الله عنه ويحتمل أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. روى البخاري في صحيحه عن نافع قال: كان ابن عمر إذا دخل أدنى(3/587)
وبه يَقُولُ الشّافعيّ يُسْتَحَبّ الاغْتِسالُ لِدُخُولِ مَكةَ. وعبدُ الرحمنِ ابنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ ضَعِيفٌ في الحديثِ ضَعفّهُ أَحمدُ بنُ حَنْبَلٍ وعليّ بنُ المَدِينيّ وغَيْرُهُما ولا نَعْرِفُ هذا الحديث مَرْفُوعاً إلاّ مِنْ حَدِيثهِ.
ـــــــ
الحرم أمسك عن التبلية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلى به الصبح ويغتسل ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. قال الحافظ في فتح الباري: يحتمل أن الإشارة به إلى الفعل الأخير وهو الغسل ويحتمل أنها إلى الجميع وهو الأظهر انتهى. وروى مسلم عن ابن عمر أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهاراً. ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله. وروى مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخول مكة ولوقوفه عشية عرفة.
قوله: "وبه يقول الشافعي يستحب الاغتسال لدخول مكة" قال الحافظ في الفتح: قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية. وقال أكثرهم يجزيء منه الوضوء. وفي الموطأ أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام وظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده دون رأسه. وقال الشافعية: إن عجز عن الغسل تيمم. وقال ابن التين: لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة وإنما ذكروه للطواف والغسل لدخول مكة هو في الحقيقة للطواف انتهى.
قوله: "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف إلخ" قال الذهبي في الميزان: عبد الرحمَن بن زيد بن أسلم العمري مولاهم المدني أخو عبد الله وأسامة. قال أبو يعلى الموصلي: سمعت يحيى بن معين يقول: بنو زيد بن أسلم ليسوا بشيء. وروى عثمان الدارمي عن يحيى بن معين يقول: بنو زيد ضعيف. وقال البخاري: عبد الرحمَن ضعفه عليّ جداً. وقال النسائي ضعيف. وقال أحمد: عبد الله ثقة والآخران ضعيفان(3/588)
30ـ باب ما جاء في دُخُولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَكّةَ مِنْ أَعْلاَهَا وخُرُوجِهِ مِنْ أسْفَلِهَا
855 ـ حدثنا أبو موسَى محمدُ بنُ المُثَنّى حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عَائِشَةَ قالت: "لَمّا جاءَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مَكّةَ دَخَلَ مِنْ أَعْلاَهَا وخَرَجَ مِنْ أسْفَلِهَا".
قال: وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب ما جاء في دُخُولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَكّةَ
قوله: "دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها" قال القاري في المرقاة: المراد بأعلاها ثنية كداء بفتح الكاف والمد والتنوين وعدمه نظراً إلى أنه علم المكان أو البقعة وهي التي ينحدر منها إلى المقبرة، المسماة عند العامة بالمعلاة وتسمى بالحجون عند الخاصة، ويطلق أيضاً على الثنية التي قبله بيسير، والثنية الطريق الضيق بين الجبلين وبأسفلها ثنية كدى بضم الكاف والقصر والتنوين وتركه وهو المسى الآن بباب الشبيكة. قال الطيبي رضي الله عنه: يستحب عند الشافعية دخول مكة من الثنية العليا والخروج من السفلى سواء كانت هذه الثنية على طريق مكة كالمدني أولا كاليمني، قيل إنما فعل صلى الله عليه وسلم هذه المخالفة في الطريق داخلاً أو خارجاً للفأل بتغيير الحال إلى أكمل منه كما فعل في العيد وليشهد الطريقان وليتبرك به أهلهما انتهى. قلت: قد بين في المعنى الذي لأجله خالف النبي صلى الله عليه وسلم بين طريقيه وجوه أخر ذكرها الحافظ في الفتح مفصلاً.
قوله: "وفي الباب عن عمر رضي الله عنه" قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا التى بالبطحاء وإذا خرج خرج من الثنية السفلى، رواه الجماعة إلا الترمذي.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم(3/589)
31ـ باب ما جَاءَ فِي دُخُولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَكّةَ نَهَارا
856 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عيسى، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا العُمَرِيّ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ " أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكّةَ نَهَاراً".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ فِي دُخُولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَكّةَ نَهَارا
قوله: "أخبرنا العمري" بضم العين وفتح الميم وشدة التحتانية هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني ثقة ثبت قدمه أحمد بن صالح على مالك في نافع من الخامسة عابد.
قوله: "دخل مكة نهاراً" وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: بات النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة، وكان ابن عمر يفعله. قال الحافظ: وهو ظاهر في الدخول نهاراً، قال: وأما الدخول ليلاً فلم يقع منه صلى الله عليه وسلم إلا في عمرة الجعرانة فإنه صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلا فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت. كما رواه أصحاب السنن الثلاثة من حديث محرش الكعبي وترجم عليه النسائي دخول مكة ليلا، وروى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي قال : كانوا يستحبون أن يدخلوا مكة نهاراً ويخرجوا منها ليلاً، وأخرج عن عطاء إن شئتم فادخلوا ليلا إنكم لستم كرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان إماماً فأحب أن يدخلها نهاراً ليراه الناس انتهى . قال الحافظ: وقضية هذا أن من كان إماماً يقتدي به استحب له أن يدخلها نهاراً انتهى.
قوله هذا حديث حسن وفي بعض النسخ حسن صحيح وأخرجه البخاري ومسلم(3/590)
باب ما جاء في كراهية رفع اليد عند رؤية البيت
...
32 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ رَفْعِ اليدينِ عِنْدَ رُؤْيَةِ البَيْت
857 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عيسى حدثنا وَكيعٌ حدثنا شُعْبَةُ عن أبي قَزَعَةَ البَاهِليّ عن المُهَاجِرِ المَكّيّ قالَ: سُئِلَ جَابِرُ بنُ عبدِ الله أَيَرْفَعُ الرّجُلُ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ رَفْعِ اليدينِ عِنْدَ رُؤْيَةِ البَيْت
قوله: "عن أبي قزعة" بقاف مفتوحة وسكون زاي وفتحها وبعين مهملة كنيته سويد بن حجير كذا في المغنى "عن المهاجر المكي" هو مهاجر بن عكرمة(3/590)
يَدَيْهِ إذَا رَأَى البَيْتَ؟ فقالَ: حَجَجْنَا مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَكُنّا نَفْعَلُهُ.
قال أبو عيسى: رَفْعُ اليدِ عِنْدَ رُؤْيَةِ البَيْتِ إنّما نَعْرِفُهُ مِنْ حديثِ شُعْبَةَ عن أبي قَزَعَةَ. وأبو قَزَعَةَ سُوَيْدُ بنُ حجر.
ـــــــ
ابن عبد الرحمَن الخراساني وثقه ابن حبان، وقال الحافظ في التقريب: مقبول من الرابعة.
قوله: "أفكنا نفعله" الهمزة للإنكار، وفي رواية أبي داود: فلم يكن يفعله، وفي رواية النسائي: فلم نكن نفعله. قال الطيبي: وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي خلافاً لأحمد وسفيان الثوري وهو غير صحيح عن أبي حنيفة والشافعي أيضاً فإنهم صرحوا أنه يسن إذا رأى البيت أو وصل لمحل يرى منه البيت إن لم يره لعمى أو في ظلمة أن يقف ويدعو رافعاً يديه انتهى كلام القاري.
قلت: روى الشافعي في مسنده عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبراً. قال الشافعي بعد أن أورده: ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شيء فلا أكرهه ولا أستحبه. قال البيهقي: فكأنه لم يعتمد على الحديث لانقطاعه انتهى. فظهر من كلام الشافعي هذا أن رفع اليدين عند رؤية البيت عنده ليس بمكروه ولا مستحب. وأما حديث ابن جريج فقال الحافظ في التلخيص: هو معضل فيما بين ابن جريج والنبي صلى الله عليه وسلم انتهى وفي إسناده سعيد بن سالم القداح وفيه مقال قاله الشوكاني، وقال ليس في الباب ما يدل على مشروعية رفع اليدين عند رؤية البيت وهو حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل. وأما الدعاء عند رؤية البيت فقد رويت فيه أخبار وآثار منها ما أخرجه ابن المفلس أن عمر كان إذا نظر إلى البيت قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام، ورواه سعيد بن منصور في السنن عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد ولم يذكر عمر، ورواه الحاكم عن عمر أيضاً وكذلك رواه البيهقي عنه انتهى.
قوله: "رفع اليد عند رؤية البيت إنما نعرفه من حديث شعبة عن أبي قزعة" وذكر الخطابي أن سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه(3/591)
ـــــــ
ضعفوا حديث جابر هذا لأن في إسناده مهاجر بن عكرمة المكي وهو مجهول عندهم لكن قد عرفت أن ابن حبان وثقه، وقال الحافظ إنه مقبول.
قوله: "واسم أبي قزعة سويد بن حجر" كذا في بعض النسخ وفي بعضها سويد بن حجير وهو الصحيح. قال الحافظ في التقريب: سويد بن حجير بتقديم المهملة مصغراً الباهلي أبو قزعة البصري ثقة من الرابعة انتهى، وكذلك في الخلاصة(3/592)
33ـ باب ما جَاء كَيْفَ الطّواف
858 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلانَ حدثنا يَحْيَى بنُ آدَمَ أخبرنا سُفْيَانُ الثّوْرِيّ عن جَعْفَرِ بنِ محمدٍ عن أبيهِ عن جابرٍ قالَ: "لَمّا قَدِمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَكّةَ دَخَلَ المَسْجِدَ فاسْتَلَمَ الحَجَر ثم مَضى على يَمِيِنِهِ فَرَمَلَ ثلاثاً ومَشى أرْبَعاً ثم أَتَى المَقَام فقالَ: واتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبراهيم مُصَلّى فَصَلّى رَكْعَتَيْن والمقامُ بَيْنَهُ وبَيْنَ البَيْتِ، ثم أَتَى الحَجَرَ بعدَ الركْعَتَيْن فاسْتَلَمَهُ ثم خَرَجَ إلى الصّفَا أَظُنّهُ قالَ: إنّ الصّفَا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله".
ـــــــ
باب ما جَاء كَيْفَ الطّواف
قوله: "دخل المسجد" أي المسجد الحرام "فاستلم الحجر" أي الحجر الأسود أي وضع يديه وقبله والاستلام افتعال من السلام بمعنى التحية، وأهل اليمن يسمون الركن الأسود بالمحيا لأن الناس يحيونه بالسلام، وقيل من السلام بكسر السين وهي الحجارة واحدتها سلمة بكسر اللام، يقال استلم الحجر إذا لمسه وتناوله كذا في النهاية وغيره "ثم مضى على يمينه" أي يمين نفسه مما يلي الباب وقيل على يمين الحجر، وفي رواية مسلم: ثم مشى على يمينه "فرمل" قال في النهاية رمل يرمل رملاً ورملاناً إذا أسرع في المشي وهز منكبيه "ثلاثاً" أي ثلاث مرات من الأشواط السبعة "ومشى" أي على عادته "ثم أتى المقام" أي مقام إبراهيم "فقال" أي فقرأ "واتخذوا" بكسر الخاء على الأمر وبفتحها "مصلى" أي موضع صلاة الطواف "والمقام بينه وبين البيت" جملة حالية، والمعنى صلى ركعتين خلف المقام "ثم أتى الحجر" أي الحجر الأسود "من شعائر الله" جمع شعيرة وهي العلامة التي جعلت للطاعات المأمور بها في الحج عندها كالوقوف والرمي والطواف والسعي.(3/592)
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ.
قال أبو عيسى: حديثُ جَابرٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عند أَهْلِ العلمِ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه الشيخان.
قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" أخرجه مسلم أيضاً(3/593)
34 ـ باب ما جَاءَ في الرّمَلِ منَ الحجَرِ إلى الحجَر
859 ـ حدثنا عليّ بنُ خَشْرَمٍ أخبرنا عبدُ الله بنُ وَهْبٍ عن مالِكِ بنِ أنَسٍ عن جَعْفَرِ بنِ محمدٍ عن أبيهِ عن جابِر "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ مِنَ الحَجَرِ إلى الحَجَرِ ثَلاثاً ومَشى أرْبعاً".
قال: وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الرمل من الحجر إلى الحجر"
أي من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود
قوله: "رمل من الحجر إلى الحجر ثلاثاً" فيه بيان أن الرمل يشرع في جميع المطاف من الحجر إلى الحجر. وأما حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، قال المشركون إنه يقدم عليكم غداً قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركين جلدهم، فقال المشركون هؤلاء الذي زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا. قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم فمنسوخ بحديث جابر هذا. لأن حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء سنة سبع قبل فتح مكة وحديث جابر هذا كان في حجة الوداع سنة عشر فوجب الأخذ بهذا المتأخر، كذا قال النووي في شرح مسلم. وقيل في وجه استمرار شرعية الرمل مع زوال سببه: أن فاعل ذلك إذا فعله تذكر السبب الباعث على ذلك فيتذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه مسلم.(3/593)
قال أبو عيسى: حديثُ جابِرٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ أهْلِ العِلمِ. قال الشّافِعِيّ: إذا تَرَكَ الرّمْلَ عَمْداً فَقَدْ أَسَاءَ ولا شَيء عَلَيْهِ، وإذا لم يَرْمُلْ في الأشْوَاطِ الثّلاثَةِ لم يَرْمُلْ فيما بَقِيَ. وقالَ بَعْضُ أَهْلِ العلمِ: لَيْسَ على أهْلِ مَكّةَ رَمَلٌ ولا على من أَحْرَمَ منها
ـــــــ
قوله: "حديث جابر حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "قال الشافعي إذا ترك الرمل عمداً فقد أساء ولا شيء عليه" قال النووي: مذهب ابن عباس أن الرمل ليس بسنة وخالفه جميع العلماء من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم فقالوا: هو سنة في الطوفات الثلاث من السبع فإن تركه فقد ترك سنة، وفاته فضيلة ويصح طوافه ولا دم عليه "وإذا لم يرمل في الأشواط الثلاثة لم يرمل فيما بقى" قال الحافظ: لا يشرع تدارك الرمل فلو تركه في الثلاث لم يقضه في الأربع لأن هيئتها السكينة فلا تغير، ويختص بالرجال فلا رمل على النساء، ويختص بطواف يعقبه سعي على المشهور، ولا فرق في استحبابه بين ماش وراكب ولا دم بتركه عند الجمهور، واختلف عند المالكية. وقال الطبري: قد ثبت أن الشارع رمل ولا مشرك يومئذ بمكة يعني في حجة الوداع فعلم أنه من مناسك الحج إلا أن تاركه ليس تاركاً لعمل بل لهيئة مخصوصة فكان كرفع الصوت بالتلبية فمن لبى خافصاً صوته لم يكن تاركاً للتلبية بل لصفتها ولا شيء عليه انتهى(3/594)
35ـ باب ما جَاء في استلامِ الحَجَرِ والرّكْنِ اليَمانيّ دُونَ مَا سِوَاهُما
860 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا عبدُ الرّزّاقِ أخبرنا سُفْيانُ و معْمَرٌ عن ابنِ خُثَيمٍ عن أَبي الطُفَيْلِ قال كنت مع ابنِ عبّاسٍ. ومُعَاوِيَةُ
ـــــــ
"باب ما جاء في استلام الحجر والركن اليماني دون ما سواهما"
يعني دون الركنين الشاميين. قال الحافظ في الفتح، في البيت أربعة أركان، الأول له فضيلتان كون الحجر الأسود فيه وكونه على قواعد إبراهيم، وللثاني الثانية فقط وليس للآخرين شيء منهما، فلذلك يقبل الأول ويستلم الثاني فقط ولا يقبل الآخران ولا يستلمان، هذا على رأي الجمهور واستحب بعضهم تقبيل الركن اليماني أيضاً انتهى(3/594)
لا يمر بركن إلا استلمه، فقال له ابن عباس "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني فقال معاوية: ليس شيئ من البيت مهجورا"
وفي الباب عن عمر
قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن لا يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني
ـــــــ
قوله: "لم يكن يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني" بتخفيف الياء على المشهور لأن الألف عوض عن ياء النسب فلو شددت لكان جمعاً بين العوض والمعوض، وجوز سيبويه التشديد وقال إن الألف زائدة "فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجوراً" زاد أحمد من طريق مجاهد: قال ابن عباس {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فقال معاوية: صدقت، قال الحافظ في الفتح: روى ابن المنذر وغيره استلام جميع الأركان أيضاً عن جابر وأنس والحسن والحسين من الصحابة، وعن سويد بن غفلة من التابعين، وقد يشعر ما في حديث عبيد بن جريج من أنه قال لابن عمر: رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها، فذكر منها: ورأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، الحديث، بأن الذين رآهم عبيد بن جريج من الصحابة والتابعين كانوا لا يقتصرون في الاستلام على الركنين اليمانين. وقال بعض أهل العلم: اختصاص الركنين مبين بالسنة ومستند التعميم القياس.
وأجاب الشافعي عن قول من قال ليس شيء من البيت مهجوراً: بأنا لم ندع استلامهما هجراً للبيت. وكيف يهجره وهو يطوف به؟ ولكنا نتبع السنة فعلا أو تركا، ولو كان ترك استلامهما هجراً لهما لكان ترك استلام مابين الأركان هجراً لها ولا قائل به انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عمر" لم أقف على حديث عمر في هذا الباب. وروى الشيخان عن ابن عمر قال : لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والحاكم أيضاً: وأخرج مسلم المرفوع فقط من وجه آخر عن ابن عباس(3/595)
36ـ باب ما جَاءَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم طافَ مُضْطَبِعا
861 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا قَبيصَةُ عنْ سُفْيانَ عن ابنِ جُرَيْجٍ عن عَبدِ الحميدِ عن ابنِ يَعْلَى عن أبيهِ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم "طافَ بالبَيْتِ مُضْطَبِعاً وعليه بُرْدٌ".
قال أبو عيسى: هذا حديثُ الثّوْرِيّ عن ابنِ جُرَيْجٍ ولا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَديثِهِ وهُوَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وعَبْدُ الحَميدِ هُوَ ابنُ جُبَيْرِة بنِ شَيْبَةَ عنِ ابنِ يَعْلَى عن أبيهِ وهُوَ يَعْلَى بنُ أُمَيّةَ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم طافَ مُضْطَبِعا
قوله: "طاف بالبيت مضطبعاً" قال الطيبي: الضبع وسط العضد ويطلق على الإبط، الاضطباع أن يجعل وسط ردائه تحت الإبط الأيمن ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره، سمي بذلك لإبداء الضبعين، قيل إنما فعله إظهاراً للتشجيع كالرمل انتهى. قال القاري: الاضطباع والرمل سنتان في كل طواف بعده سعي، والاضطباع سنة في جميع الأشواط بخلاف الرمل، ولا يستحب الاضطباع من غير الطواف، وما يفعله العوام من الإضطباع من ابتداء الإحرام حجاً أو عمرة لا أصل له بل يكره حال الصلاة انتهى.
قوله: "وعليه برد" وفي رواية أبي داود: ببرد أخضر، وفي رواية أحمد في مسنده: وهو مضطبع ببرد له حضرمي. والحديث دليل على استحباب الاضطباع في الطواف. قال الحافظ: وهو مستحب عند الجمهور سوى مالك انتهى.
قوله: "وهو حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي أيضاً.
قوله: "وعن ابن يعلى" هو صفوان كذا سماه ابن عساكر في الأطراف وتبعه عليه المزي كذا في قوت المغتذي. قال الحافظ في التقريب: صفوان بن يعلى بن أمية التميمي المكي ثقة من الثالثة(3/596)
37 ـ باب ما جاءَ في تَقْبيِل الحَجر
862 ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا أَبُو مُعاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عنْ إبراهيم عن عابِسِ بنِ رَبيَعةَ قالَ: "رَأيْتُ عُمَر بنَ الخَطّابِ يُقَبّلُ الحَجَرَ ويَقُولُ: إِنّي أُقَبّلُكَ وأَعْلَمُ أَنّكَ حَجَرٌ، ولَوْلا أنّي رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم "يُقَبّلُكَ لَمْ أُقَبّلْكَ".
قال: وفي البابِ عن أبي بَكْرٍ وابنِ عُمَرَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عُمَرَ حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ. والعَمَلُ على هذا
ـــــــ
باب ما جاءَ في تَقْبيِل الحَجر
قوله: "عن إبراهيم" هو النخعي.
قوله: "يقبل الحجر" أي الحجر الأسود "واعلم أنك حجر" زاد البخاري: لا تضر ولا تنفع "ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لم أقبلك" قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه إتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأثان انتهى. قال الحافظ: وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الإتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في إتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر" الصديق أنه وقف عند الحجر ثم قال: إني لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، أخرجه ابن أبي شيبة والدارقطني في العلل، كذا في شرح سراج أحمد السرهندي. وقال القاري نقلا عن ابن الهمام: ومن غرائب المتون ما في ابن أبي شيبة في آخر مسند أبي بكر رضي الله عنه قال رجل رأي النبي صلى الله عليه وسلم إنه عليه الصلاة والسلام وقف عند الحجر فقال: إني لا اعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أمرني ربي أن أقبلك ما قبلتك انتهى. "وابن عمر" أخرجه البخاري.
قوله: "حديث عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(3/597)
عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ يَسْتَحِبّونَ تَقبِيلَ الحَجَرِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ وَقَبّلَ يَدَهُ. وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ اسْتَقْبَلَهُ إِذَا حاذَى بِهِ وَكَبّرَ، وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعي.
ـــــــ
قوله: "يستحبون تقبيل الحجر" المستحب في التقبيل أن لا يرفع به صوته، وروى الفاكهي عن سعيد بن جبير قال: إذا قبلت الركن فلا ترفع بها صوتك كقبلة النساء، كذا في فتح الباري(3/598)
38 ـ باب ما جاءَ أنّهُ يُبْدَأُ بالصّفَا قَبْلَ المَرْوَة
863 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمرَ، حدثنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن جَعْفرِ بنِ محمدٍ عن أبيهِ عن جابرٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكّةَ طَافَ بالبَيْتِ سَبْعاً فَقَرَأ {واتّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبراهيم مُصَلّى} فَصلّى خَلْفَ المقَامِ ثمّ أَتى الحجَر فاسْتَلَمَهُ ثمّ قالَ نَبْدَأُ بِما بَدَأ الله بِه، فَبَدَأ بالصّفَا وقَرَأَ: {إنّ الصّفَا والمَرْوَةَ منْ شَعَائِرِ الله}.
ـــــــ
باب ما جاءَ أنّهُ يُبْدَأُ بالصّفَا قَبْلَ المَرْوَة
قوله: "واتخذوا"، بكسر الخاء أمر من الاتخاذ، وفي قراءة بفتح الخاء خبر "من مقام إبراهيم" المراد بمقام إبراهيم الحرم كله والأول أصح قاله الحافظ. قلت: وحديث الباب يرد ما قال مجاهد "مصلى" أي مكان صلاة بأن تصلوا خلفه ركعتي الطواف، كذا في تفسير الجلالين. وقال الحافظ في الفتح: أي قبلة قاله الحسن البصري وغيره، وقال مجاهد: أي مدعي يدعي عنده ولا يصح حمله على مكان الصلاة لأنه لا يصلى فيه بل عنده، ويترجح قول الحسن بأنه جاز على المعنى الشرعي. وقد روى الأزرقي في أخبار مكة بأسانيد صحيحة أن المقام كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن حتى جاء سيل في خلافة عمر فاحتمله حتى وجد بأسفل مكة فأتى به فربط إلى أستار الكعبة حتى قدم عمر فاسثبت في أمره حتى تحقق موضعه الأول فأعاده إليه وبني حوله فاستقر ثم إلى الآن انتهى. "ثم أتى الحجر" أي الحجر الأسود "نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا" أي ابتدأ بالصفا لأن الله تعالى بدأه بذكره في كلامه، فالترتيب(3/598)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ أنّهُ يبْدَأُ بالصّفَا قَبْلَ المَرْوَةِ، فإِنْ بَدَأ بالمَرْوَةِ قَبْلَ الصّفَا لَمْ يُجْزِهِ بدأ بالصّفَا. واخْتَلَفَ أهلُ العلم في مَنْ طَافَ بالبَيْتِ ولَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصّفَا والمَرْوَةِ حتى رجع فقال بعض أهل العلم: إن لم يطف بين الصفا والمروة حتّى خَرَجَ مِنْ مَكّةَ فإِنْ ذَكَرَ وهُوَ قَريبٌ منها رَجَعَ فَطافَ بَيْنَ الصّفَا والَمْروَةِ، وإنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتّى أتَى بِلادَهُ أْجزَأهُ وعليهِ دَمٌ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ. وقالَ بَعْضُهُمْ: إنْ تَرَكَ الطّوَافَ بَيْنَ الصّفَا والمَرْوَةِ حَتّى رجَعَ إِلى بِلادِهِ فإِنّهُ لا يُجْزِيه. وهُوَ قَوْلُ الشّافِعيّ قال: الطّوَافُ بَيْنَ الصّفَا والمَرْوَةِ واجِبٌ لا يَجُوزُ الحَجّ إِلاّ بِه.
ـــــــ
الذكرى له اعتبار في الأمر الشرعي إما وجوباً أو استحباباً، وإن كانت الواو لمطلق الجمع في الآية وقرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} قال في تفسير الخازن: شعائر الله أعلام دينه وأصلها من الإشعار وهو الإعلام واحدتها شعيرة، وكل ما كان معلما لقربان يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة ودعاء وذبيحة فهو شعيرة من شعائر الله، ومشاعر الحج معالمه الظاهرة للحواس ويقال شعائر الحج، فالمطاف والموقف والمنحر كلها شعائر، والمراد بالشعائر هنا المناسك التي جعلها الله أعلاماً لطاعته، فالصفا والمروة منها حيث يسعى بينهما انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم مطولاً في قصة حجة الوداع.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يبدأ بالصفا قبل المروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزه" قال الطيبي: الابتداء بالصفا شرط وعليه الجمهور.
قوله: "واختلف أهل العلم من طاف بالبيت ولم يطف بين الصفا والمروة إلخ" قال الحافظ في الفتح: واختلف أهل العلم في هذا، فالجمهور قالوا هو ركن لا يتم الحج بدونه، وعن أبي حنيفة واجب بجبر بالدم، وبه قال الثوري في الناسي لا في العامد، وبه قال عطاء، وعنه أنه سنة لا يجب بتركه شيء، وبه قال أنس فيما نقله ابن المنذر، واختلف عن أحمد كهذه الأقوال الثلاثة، وعند الحنفية تفصيل فيما إذا ترك بعض السعي كما هو عندهم في الطواف بالبيت انتهى كلام الحافظ(3/599)
39ـ باب ما جَاءَ في السّعْيِ بَيْنَ الصّفَا والمَرْوَة
864 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا سفيان بنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْروِ بنِ دِينَارٍ عن طَاوُسٍ عن ابنِ عبّاسٍ قال: "إِنّما سَعَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبَيتِ وبَيْنَ الصّفَا والمَرْوَةِ لِيُرِيَ المُشْرِكينَ قُوّتَهُ".
قال: وفي البابِ عن عائِشَةَ وابنِ عمرَ وجابرٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة"
هما جبلان بمكة يجب المشي بينهما بعد الطواف في العمرة والحج سبعة أشواط مع سرعة المشي بين الميلين الأخضرين. قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: الصفا مبدأ السعي، وهو مقصور مكان مرتفع عند باب المسجد الحرام، وهو أنف أي قطعة من جبل أبي قبيس وهو الآن إحدى عشرة درجة أما المروة فلاطية جداً أي منخفضة وهي أنف من جبل قعيقعان هي درجتان، ومن وقف عليها كان محاذياً للركن العراقي وتمنعه العمارة من رؤيته وإذا نزل من الصفا سعى حتى يكون بين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد وبينه نحو ستة أذرع فيسعى سعياً شديداً حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس ثم يمشي حتى المروة انتهى.
قوله: "إنما سعى بالبيت" أي رمل "وبين الصفا والمروة" أي سعى بينهما يعني أسرع المشي في بطن الوادي، ففي الموطأ حتى انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى خرج منه "ليرى" من الإراءة "المشركين قوته" وجلادته. وللطبراني عن عطاء عن ابن عباس قال: من شاء فليرمل ومن شاء فلا يرمل إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرمل ليرى المشركين قوته.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وابن عمر وجابر" أما حديث عائشة فأخرجه الشيخان، ففي تخريج الزيلعي أخرجا عن عائشة في حديث طويل: قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث جابر فأخرج مسلم.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما(3/600)
وهُوَ الّذِي يَسْتحِبّهُ أهْلُ العلمِ أنْ يَسْعى بَيْنَ الصّفَا والمَرْوةِ فإِنْ لَمْ يَسْعَ ومَشى بَيْنَ الصّفَا والمَرْوَةِ رَأوْهُ جائِزاً.
865 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عيسى، حدثنا ابنُ فُضَيْلٍ عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عن كَثِيرِ بنِ جُمْهَانَ قالَ: "رَأيْتُ ابنُ عُمرَ يَمْشي في السعى فَقُلْتُ لَهُ أتَمْشي في السعَى بَيْنَ الصّفَا والمَرْوَةِ؟ قالَ لَئِنْ سَعْيتُ لقَدْ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى عليه ولقد رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَمْشي وأَنَا شَيْخٌ كَبيرٌ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. رُوِى سَعيد بن جُبَيْرٍ عَن ابنِ عُمَرَ نَحْوَ هذا.
ـــــــ
مطولاً "وهو الذي يستبحه أهل العلم أن يسعى بين الصفا والمروة، فإن لم يسع ومشى بين الصفا والمروة رأوه جائزاً" المراد من السعي بين الصفا والمروة السعي في بطن الوادي الذي بين الصفا والمروة، قال الشوكاني في شرح حديث جابر المذكور تحت قوله حتى انصبت قدماه في بطن الوادي ما لفظه: وفي الموطأ حتى انصبت قدماء في بطن الوادي سعى وفي هذا الحديث استحباب السعي في بطن الوادي حتى يصعد ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه، وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع في هذا الموضع، والمشي مستحب فيما قبل الوادي وبعده، ولو مشى في الجميع أو سعى في الجميع أجزأه وفاتته الفضيلة. وبه قال الشافعي ومن وافقه، وقال مالك فيمن ترك السعي الشديد في موضعه: تجب عليه الإعادة وله رواية أخرى موافقة الشافعي انتهى. قلت وحديث ابن عمر الآتي يدل على ما قال الشافعي وموافقوه.
قوله: "أخبرنا ابن فضيل" هو محمد بن فضيل بن غزوان الضبي مولاهم أبو عبد الرحمَن الكوفي صدوق عارف رمى بالتشيع من التاسعة "عن كثير ابن جمهان" بضم الجيم وسكون الميم وبالنون السلمي أو الأسلمي مقبول من الثالثة. قوله: "يمشي في المسعى" أي مكان السعي وهو بطن الوادي "وأنا شيخ كبير" هذا اعتذار لترك السعي قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن(3/601)
ـــــــ
ماجه وقال المنذري بعد نقل تصحيح الترمذي: وفي إسناده عطاء بن السائب وقد أخرج له البخاري حديثاً مقروناً. وقال أيوب هو ثقة وتكلم فيه غير واحد انتهى كلام المنذري(3/602)
40ـ باب ما جَاءَ في الطّوَافِ رَاكِبا
866 ـ حدثنا بِشْرُ بنُ هِلاَلٍ الصّوّافُ البصري حدثنا عبدُ الْوَارِثِ و عبدُ الوَهّابِ الثقَفيّ عن خالِدٍ الحَذّاءِ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: "طَافَ النبيّ صلى الله عليه وسلم على رَاحِلَتِهِ فإِذَا انْتَهى إلَى الرّكْنِ أَشَارَ إلَيْهِ" قال: وفي البابِ عن جَابِرِ وأبي الطّفَيْلِ وأُمّ سَلَمةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهِل العِلم أنْ يَطُوفَ الرّجُلُ بِالبَيْتِ وبَيْنَ الصّفَا والمَرْوَةِ رَاكِباً إلاّ مِنْ عُذْرٍ وهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الطّوَافِ رَاكِبا
قوله: "على راحلته" وفي رواية الشيخين على بعير "فإذا انتهى إلى الركن" أي الحجر الأسود "أشار إليه" أي بمحجن معه ويقبل المحجن كما في رواية أبي الطفيل عند مسلم قوله: "وفي الباب عن جابر" قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف ويسألوه فإن الناس غشوه . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي "وأبي الطفيل" قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن. أخرجه مسلم "وأم سلمة" أنها قدمت وهي مريضة فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "طوفي من وراه الناس وأنت راكبة". أخرجه الجماعة إلا الترمذي. وفي الباب أيضاً عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته الحديث أخرجه أحمد وأبو داود وفي إسناده يزيد بن أبي زياد ولا يحتج به. قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم. قوله: "وقد كره قوم من أهل العلم أن يطوف الرجل بالبيت وبين الصفا والمروة راكباً إلا من عذر" واحتجوا بأحاديث(3/602)
ـــــــ
الباب فإنها كلها مصرحة بأن طوافه صلى الله عليه وسلم راكباً كان لعذر فلا يلحق به من لا عذر له "وهو قول الشافعي" يعين قال بكراهة الطواف راكباً إلا من عذر فإن كان بغير عذر جاز بلا كراهة لكنه خلاف الأولى أو بكراهة قولان للشافعية وعند مالك وأبي حنيفة: المشي واجب فإن تركه بغير عذر فعليه دم. قال الحافظ في فتح الباري: كان طوافه صلى الله عليه وسلم راكباً للعذر، فلا دلالة فيه على جواز الطواف راكباً بغير عذر. وكلام الفقهاء يقتضي الجواز إلا أن المشي أولى والركوب مكروه تنزيهاً والذي يترجع المنع، لأن طوافه صلى الله عليه وسلم وكذا أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد فإذا حوط المسجد امتنع داخله إذ لا يومن التلويث فلا يجوز بعد التحويط بخلاف ما قبله فإنه كان لا يحرم للتلويث كما في السعي انتهى(3/603)
41ـ باب ما جاءَ في فَضْلِ الطوَاف
867 ـ حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكيعٍ، حدثنا يَحَيى بنُ يَمَانٍ عن شَرِيكٍ عن أبي إسحاقَ عن عبدِ الله بنِ سَعيدِ بنِ جُبيْرٍ عن أبيهِ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَافَ بالْبَيْتِ خَمْسِينَ مَرّةً خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ".
ـــــــ
باب ما جاءَ في فَضْلِ الطوَاف
قوله: "عن شريك" هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي صدوق يخطئ كثيراً تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة وكان عادلاً فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع من الثامنة. "عن أبي إسحاق" هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ثقة عابد من الثالثة اختلط بآخره كذا في التقريب. قوله: "من طاف بالبيت خمسين مرة" حكى المحب الطبري عن بعضهم: أن المراد بالمرة الشوط ورده وقال المراد خمسون أسبوعاً، وقد ورد كذلك في رواية الطبراني في الأوسط قال: وليس المراد أن يأتي بها متوالية في آن واحد وإنما المراد أن يوجد في صحيفة حسناته ولو في عمره كله. كذا في قوت المغتذي "خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" قال ابن العربي المراد به الصغائر.(3/603)
قال: وفي البابِ عَنْ أنَسٍ وابنِ عُمَرَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عَبّاسٍ حديثٌ غريبٌ. سَأَلْتُ مُحمداً عن هذا الحديثِ فَقال: إنّما يُرْوَى هذا عَنِ ابنِ عَبّاسٍ
868 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، حدثنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أيّوبَ السختياني قال: كانُوا يَعُدّونَ عبدَ الله بنَ سَعيد بنِ جُبَيْرٍ أفْضَلَ مِنْ أَبِيهِ ولعبدالله أخٌ يُقَالُ لَهُ عبدُ المَلِكِ بنُ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ وقَدْ رَوَى عَنْهُ أيْضاً.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أنس" لم أقف عليه "وابن عمر" بلفظ: من طاف بهذا البيت أسبوعاً فأحصاه كان كعتق رقبة، لا يضع قدما ولا يرفع أخرى إلاحط الله بها عنه خطيئة وكتب هل بها حسنة. أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم كذا في شرح سراج أحمد. قلت ورواه ابن ماجه أيضاً وفي الباب أحاديث ذكرها المنذري في الترغيب. قوله: "حديث ابن عباس حديث غريب" وفي إسناده أبو إسحاق السبيعي وهو مدلس، ورواه عن عبد الله بن سعيد بالعنعنة ومع هذا فقد اختلط بآخره وأيضاً في إسناده شريك القاضي وقد عرفت حاله. قوله: "كانوا يعدون عبد الله ابن سعيد بن جبير أفضل من أبيه" وقال النسائي عقب حديثه في السنن: ثقة مأمون كذا في تهذيب التهذيب "وله أخ يقال له عبد الملك بن سعيد بن جبير" قال في التقريب لا بأس به(3/604)
باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد المغرب في الطواف لمن يطوف
...
42ـ باب ما جاءَ في الصّلاَةِ بَعْدَ العَصْرِ وبَعْدَ الصبح لِمَنْ يَطُوف
869 ـ حدثنا أَبُو عَمّارٍ و عَليّ بنُ خَشْرَمٍ قالا: أخبرنا سُفْيَانُ بنُ
ـــــــ
"باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد المغرب لمن يطوف"
كذا وقع في بعض النسخ بعد العصر وبعد المغرب ووقع في بعضها بعد العصر وبعد الصبح وهذا هو الصواب. وأما توجيه أبي الطيب نسخة وبعد المغرب بأن قوله: بعد العصر كناية عن الأوقات المكروهة وقوله بعد المغرب كناية عن غيرها فصار المعنى في الأوقات المكروهة وغيرها ففيه تكلف.(3/604)
عُيَيْنَةَ عَنْ أبي الزّبَيْرِ عن عبدِ الله بنِ بَابَاهَ عن جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: قالَ: يَا بَنيِ عَبْدِ مَنَافٍ، لا تَمْنَعُوا أَحَداً طَافَ بِهَذَا البَيتِ وصَلى أيّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أوْ نَهَارٍ".
وفي البابِ عنِ ابنِ عَبّاسٍ وَأبي ذَر.
ـــــــ
قوله: "عن عبد الله بن باباه" بموحدتين بينهما ألف ساكنة ويقال بتحتانية بدل الألف ويقال بحذف الهاء المكي ثقة من الرابعة.
قوله: "يا بني عبد مناف" خصهم بالخطاب دون سائر قريش لعلمه بأن ولاية الأمر والخلافة ستؤل إليهم مع أنهم رؤساء مكة وفيهم كانت السدانة والحجابة واللواء والسقاية والرفادة. قاله الطيبي "لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت" يعني بيت الله "وصلى أية ساعة شاء من ليل ونهار" قال القاري: أي صلاة الطواف أو مطلقاً وهو قابل للتقييد بغير الأوقات المهينة إذ سبق النهي أو الصلاة بمعنى الدعاء انتهى.
قلت: الظاهر أن صلاة الطواف مستثناة من الأوقات المنهية. قال المظهر: فيه دليل على أن صلاة التطوع في أوقات الكراهة غير مكروهة بمكة لشرفها لينال الناس من فضلها في جميع الأوقات، وبه قال الشافعي، وعند أبي حنيفة حكمها حكم سائر البلاد في الكراهة لعموم العلة وشمولها. قال ابن الملك: والظاهر أن المراد بقوله وصلى أية ساعة شاء في الأوقات الغير المكروهة توفيقاً بين النصوص انتهى.
قلت: التوفيق بين النصوص ليس بمنحصر في هذا. قال الخطابي: واستدل به الشافعي على أن الصلاة جائزة بمكة في الأوقات المنهى فيها عن الصلاة في سائر البلدان، واحتج له أيضاً بحديث أبي ذر وقوله: إلا بمكة، فاستثناه من بين البقاع. وذهب بعضهم إلى تخصيص ركعتي الطواف من بين الصلاة، قالوا إذا كان الطواف بالبيت غير محظور في شيء من الأوقات وكان من سنة الطواف أن تصلي الركعتان بعده فقد عقل أن هذا النوع من الصلاة غير منهى عنه انتهى.
قلت: حديث أبي ذر الذي أشار إليه الخطابي هو مارواه أحمد ورزين عنه بلفظ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة" ، وسنده ضعيف، وهو يؤيد حديث الباب.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وأبي ذر" أما حديث ابن عباس فأخرجه(3/605)
قال أبو عيسى: حَدِيثُ جُبَيْر حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَاهُ عَبْدُ الله بْنُ أَبي نَجِيحٍ عن عَبْدِ الله بنِ بَابَاهَ أيضْاً. وقد اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلمِ في الصّلاةِ بَعْدَ العَصْرِ وَبَعْدَ الصّبْحِ بِمَكّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لا بأْسَ في الصلاة والطواف بعد العصر وبعد الصبح، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاقَ، واحْتَجّوا بحَديِثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. هذا وقالَ بَعْضُهُمْ: إذَا طَافَ بَعْدَ العَصْرِ لَمْ يُصَلّ حتى تَغْرُبَ الشّمْسُ، وكَذَلِكَ إنْ طَافَ بَعْدَ
ـــــــ
الطحاوي في معاني الآثار عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف إن وليتم هذا الأمر فلا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار". وأما حديث أبي ذر فأخرجه أحمد ورزين وتقدم لفظه، وأخرجه أيضاً الدارقطني والبيهقي وسنده ضعيف.
قوله: "حديث جبير بن مطعم حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وسكت عنه، وأخرجه النسائي وابن ماجه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره.
وله: "فقال بعضهم لا بأس بالصلاة والطواف بعد العصر وبعد الصبح، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول الإمام الطحاوي رحمه الله من الأئمة الحنفية حيث قال في شرح معاني الآثار بعد البحث والكلام في هذه المسألة ما لفظه: وإليه نذهب يعني إلى الجواز، وهو قول سفيان، وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى انتهى. وقال صاحب التعليق الممجد من العلماء الحنفية ما لفظه: ولعل المنصف المحيط بأبحاث الطرفين يعلم أن هذا يعني جواز ركعتي الطواف بعد العصر وبعد الصبح قبل الطلوع والغروب هو الأرجح الأصح، قال: وعليه كان عملي بمكة قال: ولما طفت طواف الوداع حضرت المقام مقام إبراهيم لصلاة ركعتي الطواف فمنعني المطوفون من الحنفية فقلت لهم الأرجح الجواز في هذا الوقت وهو مختار الطحاوي من أصحابنا وهو كاف لنا، فقالوا لم نكن مطلعين على ذلك وقد استفدنا منك ذلك انتهى كلامه "واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم" كحديث الباب وحديث ابن عباس وأبي ذر "وقال بعضهم إذا طاف بعد العصر لم يصل حتى تغرب الشمس إلخ" وهو قول(3/606)
صَلاةِ الصّبْحِ أَيْضاً لَمْ يُصَلّ حتى تَطْلُعَ الشّمْسُ. واحْتَجّوا بحَدِيثِ عُمَرَ أَنّهُ طَافَ بَعْدَ صَلاةِ الصّبْحِ فَلَمْ يُصَلّ. وخرَجَ مِنْ مَكّةَ حتى نَزَلَ بِذِي طُوَى فَصَلّى بَعْدَ مَا طَلَعَتِ الشمْسُ، وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ ومَالِكِ بنِ أَنَسٍ.
ـــــــ
أبي حنيفة وأصحابه "واحتجوا بحديث عمر أنه طاف بعد صلاة الصبح فلم يصل وخرج من مكة حتى نزل بذي طوى" بضم الطاء اسم موضع بين مكة والمدينة "فصلى بعد ما طلعت الشمس" أخرجه مالك في الموطأ. وقال الإمام محمد في موطئه بعد رواية هذا الحديث: وبهذا نأخذ، ينبغي أن لا يصلي ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس وتبيض. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله والعامة من فقهائنا انتهى(3/607)
42 ـ باب ما جَاءَ مَا يُقْرَأُ في رَكْعَتَيِ الطّوَاف
870 ـ حدثنا أَبُو مُصْعَبٍ المدني قِرَاءَةً عن عَبدِ العَزِيزِ بنِ عِمْرَانَ عن جَعْفَرِ بنِ محمدٍ عن أَبيهِ عن جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله "أَن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَأ في رَكْعَتَيِ الطّوَافِ بِسُورَتَيِ الإخْلاَصِ { قُلْ يَا أَيّهَا الكافِرونَ} و {قُلْ هُوَ الله أحَدٌ}".
ـــــــ
باب ما جَاءَ مَا يُقْرَأُ في رَكْعَتَيِ الطّوَاف
قوله: "حدثنا أبو مصعب" هو أحمد بن أبي بكر بن الحارث الزهري المدني الفقيه صدوق عابه أبو خيثمة للفتوى بالرأي من العاشرة "قراءة" بالنصب على التمييز أو على الحالية يعيني حدثنا مصعب حال كونه قارئاً علينا ونحن نسمع "عن عبد العزيز بن عمران" الزهري المدني الأعرج يعرف بإبن ثابت متروك احترقت كتبه فحدث من حفظه فاشتد خلطه وكان عارفاً بالأنساب من الثامنة "عن جعفر بن محمد" بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو عبد الله المعروف بالصادق صدوق فقيه إمام من السادسة مات سنة ثمان وأربعون ومائة. قوله: "بسورتي الأخلاص" قال العراقي: هذا من باب التغليب حيث أطلق على سورة الكافرين سورة الأخلاص، ويحتمل أنه على حقيقته وأن سورة الكافرين على انفرادها سورة الإخلاص لما فيها من التبري ممن عبد من دون الله انتهى. والحديث يدل على استحباب القراءة بهاتين السورتين في ركعتي الطواف.(3/607)
871 ـ حدثنا هَنادٌ حدثنا وَكِيعٌ عن سُفْيَانَ عن جَعْفَرِ بنِ محمدٍ عن أَبيهِ "أَنّهُ كَانَ يَسْتَحِبّ أَنْ يَقْرَأَ في رَكْعَتَيِ الطّوَافِ ب {قُلْ يَا أَيّهَا الكافِرُون} و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}".
قال أبو عيسى: وهذا أَصَحّ مِنْ حَديثِ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ عِمْرَانَ. وحَدِيثُ جَعفَرِ بنِ محمدٍ عن أَبيهِ في هذَا أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بنِ محمدٍ عن أَبيهِ عن جَابِرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعَبْدُ العَزِيزِ بن عِمْرَانَ ضَعِيفٌ في الحَدِيثِ.
ـــــــ
قوله: "وحديث جعفر بن محمد عن أبيه في هذا أصح من حديث جعفر بن محمد بن أبيه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعبد العزيز بن عمران ضعيف" في كلام الترمذي هذا نظر، فإن عبد العزيز بن عمران لم يتفرد برواية هذا الحديث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. بل روى مسلم في صحيحه من طريق حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون. قال النووي: ليس هو شكا في ذلك لأن لفظة العلم تنافي الشك بل جزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر البيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود ثلاثاً ثم صلى ركعتين قرأ فيهما { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} انتهى كلام النووي، وروى النسائي من طريق مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى مقام إبراهيم قرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فصلى ركعتين فقرأ فاتحة الكتاب و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الحديث(3/608)
44 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الطّوَافِ عُرْيَانا
872 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ خَشْرَمٍ أخبرنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أَبي إسحاقَ عن زَيْدِ بنِ أُثَيْعٍ قالَ: "سَأَلْتُ عَلِيّا بأَيّ شَيْءٍ بُعِثْتَ؟ قالَ: بأَرْبَعٍ: لا يَدْخُلُ الجَنّةَ إلاّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، ولا يَطُوفُ بالبَيْتِ عُريان، ولا يَجْتَمِعُ المُسْلِمُونَ والمشركونَ بَعْدَ عَامهم هذَا، ومَنْ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الطّوَافِ عُرْيَانا
قوله: "حدثنا علي بن خشرم" بفتح الخاء والشين المعجمتين بوزن جعفر المروزي ثقة من صغار العاشرة "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن زيد بن أثيع" بضم الهمزة وفتح المثلثة ويقال زيد بن يثيع قال الحافظ: زيد بن يثيع بضم التحتانية وقد تبدل همزة بعدها مثلثة ثم تحتانية ساكنة ثم مهملة الهمداني الكوفي ثقة مخضرم من الثانية، وقال الخزرجي في الخلاصة: زيد بن يثيغ بمعجمتين مصغراً وقيل أثيغ بهمزة، وقيل أثيل قاله شعبة الهمداني الكوفي مخضرم عن عمر وعلي، وعنه أبو إسحاق السبيعي فقط، وثقه ابن حبان انتهى. قال في هامش الخلاصة: قوله بمعجمتين يعني الغين والثاء وإن كان المعروف في ضبطها بالمثلثة. وفي باب العين المهملة وفصل الياء من القاموس: يثيع كزبير ويقال أثيع والد زيد التابعي انتهى. ففي ضبطه العين بالإعجام ما لا يخفي انتهى ما في الهامش.
قوله: "بأي شيء بعثت" بصيغة المجهول أي بأي شيء أرسلت إلى مكة في الحجة أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أبا بكر رضي الله عنه "ولا يطوف بالبيت عرياناً" استدل به على أن الستر شرط لصحة الطواف، وهو مذهب الجمهور وذهبت الحنفية إلى أنه ليس بشرط، فمن طاف عرياناً عند الحنفية أعاد ما دام بمكة فإن خرج لزمه دم، وذكر ابن إسحاق في سبب هذا الحديث أن قريشاً ابتدعت قبل الفيل أو بعده أن لا يطوف بالبيت أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أول ما يطوف إلا في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عرياناً، فإن خالف وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ ثم لم ينتفع بها، فجاء الإسلام فهدم ذلك كله ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا "وفي حديث أبي هريرة الذي أشار إليه الترمذي:(3/609)
النبيّ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فعَهْدُهُ إلى مُدّتِهِ، ومَنْ لاَ مُدّةَ لَهُ فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ".
قال: وفي البابِ عنْ أَبي هُرَيْرَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَلِي حديثٌ حسنٌ.
873 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ و نَصْرُ بنُ عَلِي حدثنا سُفْيَانُ بنُ عينية عن أَبي إسحاقَ نَحْوَهُ وقالا: زَيْدُ بنُ يُثَيْعٍ وهذَا أَصَحّ.
قال أبو عيسى: وشُعْبَةُ وَهِمَ فيهِ فقالَ زَيْدُ بنُ أُثَيْلٍ.
ـــــــ
أن لا يحج بعد العام مشرك، قال العيني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النداء بذلك حين نزلت { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} والمزاد بالمسجد الحرام هنا الحرم كله فلا يمكن مشرك من دخول الحرم بحال، وكذلك لا يمكن أهل الذمة من الإقامة بعد ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" ، قاله في مرض موته صلى الله عليه وسلم انتهى "ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر" قال الحافظ في الفتح: استدل بهذا على أن قوله تعالى { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} يختص بمن لم يمكن له عهد مؤقت، أو لم يكن له عهداً أصلا وأما من له عهد مؤقت فهو إلى مدته. فروى الطبري من طريق ابن إسحاق قال: هم صنفان صنف كان له عهد دون أربعة أشهر فأمهل إلى تمام أربعة أشهر وصنف كانت له مدة عهده بغير أجل فقصرت على أربعة أشهر. ثم ذكر الحافظ كلاماً نافعاً من شاء الوقوف عليه فليرجع إلى تفسير سورة براءة من فتح الباري.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الشيخان وفيه: ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان.
قوله: "حديث علي حديث حسن" وأخرجه سعيد بن منصور والنسائي والطبري. قاله الحافظ في الفتح.
قوله: "وقالا زيد بن يثيع" بالتحتانية المضومة وفتح المثلثة مصغراً "فقال زيد بن أثيل" بضم الهمزة وفتح المثلثة وسكون التحتانية وباللام(3/610)
44ـ باب ما جَاءَ في دُخُولِ الكَعْبَة
874 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، حدثنا وَكِيعٌ عن إسْمَاعيلَ بنِ عبدِ المَلِكَ عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عن عَائِشَةَ قالَتْ: "خَرَجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِي وهُوَ قَرِيرُ العَيْنِ طَيّبُ النّفْسِ فَرَجَعَ إليّ وهُوَ حَزِينٌ، فقُلْتُ لَهُ، فقالَ "إنّي دَخَلْتُ الكَعْبَةَ وَوَدِدْتُ أَنّي لَمْ أكُنْ فَعَلْتُ، إنّي أَخَافُ أنْ أكُونَ أتْعَبْتُ أُمّتِي مِنْ بَعْدِي".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في دُخُولِ الكَعْبَة
قوله: "حدثنا ابن أبي عمر" هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة صدوق صنف المسند وكان لازم ابن عيينة لكن قال أبو حاتم: فيه غفلة من العاشرة، روى عن فضيل ابن عياض وأبي معاوية وخلق وعنه م ت ق وثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: صدوق حدث بحديث موضوع عن ابن عيينة قال البخاري: مات سنة 243 ثلاث وأربعين ومائتين. كذا في التقريب والخلاصة "وهو قرير العين" كناية عن السرور والفرح. قال في النهاية: وفي حديث الاستسقاء لو رآك لقرت عيناه أي لسر بذلك وفرح وحقيقته أبرد الله دمعة عينيه لأن دمعة الفرح والسرور باردة، وقيل معنى أقر الله عينك بلغك أمنيتك حتى ترضى نفسك وتسكن عينك فلا تستشرف إلى غيره انتهى "فقلت له" أي استفسرت وجه الحزن " وودت أني لم أكن فعلت إلخ" وفي رواية أبي داود : ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي . قال الشوكاني في النيل: في هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في غير عام الفتح لأن عائشة لم تكن معه فيه إنما كانت معه في غيره وقد جزم جمع من أهل العلم أنه لم يدخل فيه إلا عام الفتح وهذا الحديث يرد عليهم، وقد تقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت في عمرته فتعين أن يكون دخله في حجته وبذلك جزم البيهقي. وقد أجاب البعض عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لعائشة بالمدينة بعد رجوعه من غزوة الفتح وهو بعيد جداً. وفيه أيضاً دليل على أن دخول الكعبة ليس من مناسك الحج وهو مذهب الجمهور، وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخولها(3/611)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ
ـــــــ
من المناسك، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن دخولها مستحب، ويدل على ذلك ما أخرج ابن خزيمة والبيهقي من حديث ابن عباس: من دخل البيت دخل في جنة وخرج مغفوراً له، وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف، ومحل استحبابه ما لم يؤذ أحداً بدخوله انتهى. قلت: ويدل على استحبابه حديث ابن ابن عمر في الباب الاَتي.
وله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وابن ماجه أيضاً(3/612)
46ـ باب ما جَاءَ في الصّلاةِ في الكَعْبَة
875 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن عَمْروِ بنِ دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ عن بِلاَلٍ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلّى في جَوْفِ الكَعْبَةِ. قال ابنُ عبّاسٍ: لَم يُصَلّ ولَكِنّهُ كَبّرَ".
قال: وفي البابِ عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ والفَضْلِ بنِ عبّاسٍ وعُثْمانَ بنِ طَلْحَةَ وشَيْبَةَ بنِ عُثْمَانَ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الصّلاةِ في الكَعْبَة
قوله: "قال ابن عباس: لم يصل ولكنه كبر" وفي رواية لمسلم عن ابن عباس يقول: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه الحديث، قال النووي: أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت فمعه زيادة علم فوجب ترجيحه، والمراد الصلاة المعهودة ذات الركوع والسجود، ولهذا قال ابن عمر: ونسيت أن أساله كم صلى ، وأما نفي أسامة فسببه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ثم اشتغل أسامة بالدعاء في ناحية من نواحي البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى وبلال قريب منه ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله مع خفة الصلاة وإغلاق الباب، وجاز له نفيها عملاً بظنه، وأما بلال فحققها فأخبر بها انتهى كلام النووي.
قوله: "وفي الباب عن أسامة بن زيد" أخرجه أحمد في مسنده وابن حبان(3/612)
قال أبو عيسى: حَدِيثُ بِلاَلٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَمَلُ عليهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أهْلِ العِلمِ، لا يَرَوْنَ بالصّلاةِ في الكَعْبَةِ بَأْساً. وقالَ مَالِكُ بنُ أَنَس: لا بَأْسَ بالصّلاةِ النّافِلةِ في الكَعْبَةِ وكَرِهَ أنْ تُصَلّى المَكْتُوبَة في الكَعْبَةِ وقالَ الشّافِعِيّ: لا بَأْسَ أن تُصَلّى المَكْتُوبَة والتّطَوّع في الكَعْبَةِ لأنّ حُكْمَ النّافِلَةِ والمَكْتُوبَةِ في الطّهَارَةِ والقِبْلَةِ سِوَاءٌ.
ـــــــ
في صحيحه من طريق أبي الشعثاء عن ابن عمر أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة بين الساريتين ومكثت معه عمراً لم أسأله كم صلى . قال الزيلعي في تخريجه بعد ذكره هذا صحيح انتهى. وروى مسلم في صحيحه عن أمامة خلاف هذا كما تقدم "والفضل بن عباس" أخرجه أحمد وإسحاق بن راهويه في مسنديهما والطبراني في معجمه بلفظ أن: رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة ولكنه لما دخلها وقع ساجداً بين العمودين ثم جلس يدعو كذا في نصب الراية "وعثمان بن طلحة" أخرجه أبو داود والبيهقي وأحمد والضياء عن امرأة من بني سليم عن عثمان بن طلحة كذا في شرح سراج أحمد "وشيبة بن عثمان" أخرجه ابن عساكر عن عبد الرحمَن الزجاج: قال: أتيت شيبة بن عثمان فقلت يا أبا عثمان زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فلم يصل، فقال كذبوا وأبي، لقد صلى بين العمودين ثم ألصق بهما بطنه وظهره. كذا في شرح سراج أحمد.
قوله: "وقال مالك بن أنس: لا بأس بالصلاة النافلة في الكعبة" كذا أطلق الترمذي عن مالك جواز النافلة وقيده بعض أصحابه بغير الرواتب وما تشرع فيه الجماعة، قاله الحافظ في الفتح "وكره أن يصلي المكتوبة في الكعبة" وروى عنه المنع وكذا عن أحمد لقوله تعالى {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي قبالته ومن فيه مستدبر لبعضه، وأما جواز النافلة فيه فإنه يسامح في النافلة ما لا يسامح في الفريضة "وقال الشافعي لا بأس أن يصلي المكتوبة والتطوع في الكعبة" وبه قال الحنفية وهو مذهب الجمهور. قال الحافظ في فتح الباري: وفيه أي في حديث بلال استحباب الصلاة في الكعبة وهو ظاهر في النفل ويلتحق به الفرض إذ لا فرق بينهما في مسألة الاستقبال وهو قول الجمهور انتهى. وقال النووي في شرح مسلم: ودليل الجمهور(3/613)
ـــــــ
حديث بلال وإذا صحت النافلة صحت الفريضة لأنهما في الموضع سواء في الاستقبال في حال النزول وإنما يختلفان في الاستقبال في حال السير في السفر انتهى. قال الحافظ: وعن ابن عباس لا تصح الصلاة داخلها مطلقاً وعلله بأنه يلزم من ذلك استدبار بعضها، وقد ورد الأمر باستقبالها فيحمل على استقبال جميعها، وقال به بعض المالكية والظاهرية والطبري انتهى. قلت: والظاهر هو ما قال به الجمهور وهو أقوى المذاهب في هذا الباب والله تعالى أعلم(3/614)
47 ـ باب ما جَاءَ في كَسْرِ الكَعْبَة
876 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أبو دَاوُدَ عن شُعْبَةَ عن أبي إسحاقَ عن الأسْوَدِ بنِ يَزِيدَ أَنّ ابنَ الزّبَيْرِ قالَ لَهُ حَدّثْنيِ بما كَانَتْ تُفْضِي إِلَيْكَ أُمّ المُؤْمِنِينَ يَعْنِي عَائِشَةَ، فقالَ: "حَدّثَتْنِي أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لهَا: لَوْلاَ أنّ قَوْمكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بالجَاهِليّةِ لهَدَمْتُ الكَعْبَةَ وجعَلَتُ لَهَا بَابَيْنِ. قال: فَلَمّا مَلَكَ ابنُ الزّبَيْرِ هَدَمَهَا وجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ".
ـــــــ
"باب ما جاء في كسر الكعبة"
أي هدمها
قوله: "إن ابن الزبير" يعني عبد الله بن الزبير الصحابي المشهور "قال له" أي للأسود "بما كانت تفضي إليك" أي تسر إليك، وفي رواية للبخاري: قال لي ابن الزبير كانت عائشة تسر إليك كثيراً فما حدثتك في الكعبة "لولا أن قومك حديثو عهد" بالإضافة، وقال المطرزي: لا يجوز حذف الواو في مثل هذا والصواب حديث وعهد، كذا في فتح الباري. وقال السيوطي في حاشية النسائي: ويمكن أن يوجه بأن لفظ القوم مفرد لفظاً وجمع معنى فروعي إفراد اللفظ في جانب الخبر كما روعي اللفظ في إرجاع الضمير في قوله تعالى {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ} حيث أفرد آتت انتهى. قال الجزري في النهاية: الحديث ضد القديم، والمراد به قرب عهدهم بالكفر والخروج منه والدخول في الإسلام وأنه لم يتمكن الدين في قلوبهم، فلو هدمت الكعبة وغيرتها ربما نفروا من ذلك انتهى "وجعلت لها بابين" أي أي باباً شرقياً وباباً غربياً "فلما ملك ابن الزبير هدمها وجعل لها بابين" أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه. وروى مسلم في صحيحه قصة هدمها وبنائها مطولاً.(3/614)
48 ـ باب ما جاءَ في الصّلاَةِ في الحِجْر
877 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا عبدُ العَزِيزِ بنُ مُحمدٍ عن عَلْقَمَةَ بنِ أبي عَلْقَمَةَ عن أمّر عن أبيهِ عَنْ عَائِشةَ قالت: "كُنْتُ أُحِبّ أنْ أدْخُلَ البيْتَ فأُصَلّي فيهِ، فأَخَذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَديِ فأَدْخَلَنيِ الْحِجْرَ فقال صَلّي في الْحِجْرِ
ـــــــ
"باب ما جاء في الصلاة في الحجر"
بكسر المهملة وسكون الجيم وهو معروف على صفة نصف الدائرة، كذا في فتح الباري. وقال في القاموس: الحجر بالكسر العقل وما حواه الحطيم المدار بالكعبة شرفها الله تعالى من جانب الشمال انتهى. وقال في النهاية: الحجر بالكسر اسم الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي انتهى، قلت: في قوله الغربي نظر كما لا يخفى.
قوله: "عن علقمة بن أبي علقمة عن أبيه عن عائشة" كذا في نسخ الترمذي وفي رواية أبي داود عن علقمة عن أمه عن عائشة، وفي رواية النسائي: عن أمه عن أبيه عن عائشة بزيادة عن أبيه عن أمه(3/615)
إن أرَدْتِ دُخُولَ البيتِ فإِنّما هُوَ قِطْعَة مِنَ البَيْتِ ولَكِنّ قَوْمكِ اسْتَقْصَرُوهُ حِينَ بَنَوْا الكَعْبَةَ فأَخْرَجُوهُ مِنَ البيْتِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وعَلْقَمةُ بنُ أبي عَلْقمةَ هُو عَلقمة بن بلال.
ـــــــ
قوله: "فإنما هو قطعة من البيت" هذا ظاهره أن الحجر كله من البيت وكذا قوله في رواية عائشة عند البخاري قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدار أو من البيت هو؟ قال نعم ، وبذلك كان يفتي ابن عباس كما رواه عبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل قال: ابن عباس يقول: لو وليت من البيت ما ولى ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت فلم يطاف به إن لم يكن من البيت؟ وقد ذكر الحافظ في الفتح روايات أخرى تدل بإطلاقها على أن الحجر كله من البيت ثم قال: وهذه الروايات كلها مطلقة، وقد جاءت روايات أصح منها مقيدة منها لمسلم من طريق أبي قزعة عن الحارث بن عبد الله عن عائشة: حتى أزيد فيه من الحجر، وله من وجه آخر عن الحارث عنها: فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريباً من سبعة أذرع. وله من طريق سعد بن ميناء عن عبد الله بن الزبير عن عائشة: وزدت فيها من الحجر ستة أذرع. ثم ذكر روايات مقيدة أخرى غير هذه الروايات ثم حقق أن الروايات المطلقة محمولة على المقيدة. وقد بسط الكلام فيه وأجاد.
قوله: "ولكن قومك استقصروه" أي قصروه عن تمام بنائه لقلة النفقة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي أيضاً "وعلقمة بن أبي علقمة هو علقمة بن بلال" قال المنذري: وعلقمة هذا هو مولى عائشة تابعي مدني احتج به البخاري ومسلم وأمه حكى البخاري وغيره أن اسمها مرجانة انتهى(3/616)
49 ـ باب ما جَاءَ في فضل الحجَرِ الأسْوَدِ والرّكْنِ والمَقَام
878 ـ حدثنا قُتَيْبَة، حدثنا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عن سَعِيد بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نَزَلَ الحَجَرُ الأسْوَدُ مِنَ الجَنّةِ وهُوَ أشَدّ بيَاضاً مِنَ اللّبَنِ فَسوّدَتْهُ خَطايا بَنيِ آدَمَ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في فضل الحجَرِ الأسْوَدِ والرّكْنِ والمَقَام
قوله: "وهو أشد بياضاً من اللبن" جملة حالية "فسودته خطايا بني آدم" قال(3/616)
قال: وفي البابِ عن عبْدِ الله بنِ عَمْروٍ وأبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
في المرقاة: أي صارت ذنوب بني آدم الذين يمسحون الحجر سبباً لسواده، والأظهر حمل الحديث على حقيقته إذ لا مانع نقلاً ولا عقلاً. وقال بعض الشراح من علمائنا يعني الحنفية: هذا الحديث يحتمل أن يراد به المبالغة في تعظيم شأن الحجر وتفظيع أمر الخطايا والذنوب، والمعنى أن الحجر لما فيه من الشرف والكرامة واليمن والبركة شارك جواهر الجنة فكأنه نزل منها وأن خطايا بني آدم تكاد تؤثر في الجماد فتجعل المبيض منه أسود فكيف بقلوبهم أو لأنه من حيث أنه مكفر للخطايا محاء للذنوب كأنه من الجنة ومن كثرة تحمله أوزار بني آدم صار كأنه ذو بياض شديد فسودته الخطايا ومما يؤيد هذا أنه كان فيه نقط بيض ثم لا زال السواد يتراكم عليها حتى عمها. وفي الحديث: إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا أذنب فيه نكتة أخرى وهكذا حتى يسود قلبه جيعه ويصير ممن قال فيهم {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} والحاصل أن الحجر بمنزلة المرآة البيضاء في غاية من الصفاء ويتغير بملاقاة ما لا يناسبه من الأشياء حتى يسود لها جميع الأجزاء وفي الجملة الصحبة لها تأثير بإجماع العقلاء انتهى كلام القاري. قال الحافظ بن الحجر: واعترض بعض الملحدين على هذا الحديث فقال كيف سودته خطايا المشركين ولم تبيضه طاعات أهل التوحيد؟ وأجيب بما قال ابن قتيبة: لو شاء الله لكان ذلك وإنما أجرى الله العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ على العكس من البياض. وقال المحب الطبري: في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة. فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد، قال وروي عن ابن عباس إنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة فإن ثبت فهذا هو الجواب. قال الحافظ بن حجر: أخرجه الحميدي في فضائل مكة بإسناد ضعيف انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" أخرجه الترمذي في هذا الباب وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان وسيجيء الكلام عليه "وأبي هريرة" أخرجه ابن ماجه عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من فاوض الحجر الأسود فكأنما يفاوض يد الرحمن". وفي فضائل مكة للجندي من حديث ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عباس: إن هذا الركن الأسود هو يمين الله في الأرض(3/617)
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
879 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ عن رجَاءٍ أبي يَحْيى قالَ: سَمِعْتُ مُسَافِعاً الحاجِبَ قال: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ عَمْرٍو يقُولُ: "سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنّ الرّكْنَ والمَقَامَ ياقُوتَتَانِ مِن ياقُوتِ الجَنّةِ طَمَسَ الله نُورَهُمَا وَلَوْ لَمْ يَطْمِسْ نُورَهُمَا لأضَاءَتَا مَا بَيْنَ المَشْرِق والمَغْرِبِ".
ـــــــ
يصافح به عباده مصافحة الرجل أخاه. ومن حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عنه زيادة فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استلم الحجر فقد بايع الله ورسوله. وقال المحب الطبري والمعنى كونه يمين الله والله أعلم كل ملك إذا قدم عليه قبلت يمينه، ولما كان الحاج والمعتمر أول ما يقدمان يسن لهما تقبيله نزل منزلة يمين الملك يده ولله المثل الأعلى، ولذلك من صافحه كان عند الله عهد كما أن الملك يعطي العهد بالمصافحة كذا في عمدة القاري.
واعلم أن لابن عباس حديث آخر في فضل الحجر الأسود عند الترمذي رواه في أواخر كتاب الحج مرفوع بلفظ: والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان الخ.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" قال الحافظ في الفتح: وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوي بها وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختصراً ولفظه: الحجر الأسود من الجنة، وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط. وفي صحيح ابن خزيمة أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً: إن لهذا الحجر لساناً وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق ، وصححه أيضاً ابن حبان والحاكم وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضاً انتهى ما في الفتح.
قوله: "إن الركن والمقام" أي الحجر الأسود ومقام إبراهيم "ياقوتتان من ياقوت الجنة" المراد به الجنس فالمعنى أنهما من يواقيت الجنة "طمس الله نورهما" أي أذهبه، قال القاري: أي بمساس المشركين لهما، ولعل الحكمة في طمسهما ليكون الإيمان غيبياً لا عينياً "ولو لم يطمس" على بناء الفاعل ويجوز أن يكون على بناء المفعول "لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب" أي لأنارتاه.(3/618)
قال أبو عيسى: هذا يُرْوَى عنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرو مَوْقُوفاً قَوْلُهُ.
وفيهِ عن أَنَسٍ أيْضاً وهُوَ حديثٌ غريبٌ.
ـــــــ
قوله: "وفيه عن أنس أيضاً" أخرجه الحاكم كما ستقف عليه "وهو حديث غريب" وأخرجه أيضاً ابن حبان من طريق رجاء بن صبيح والحاكم ومن طريقه البيهقي كذا في الترغيب. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث مرفوعاً: أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان في إسناده رجى أبو يحيى وهو ضعيف. قال الترمذي: حديث غريب ويروى عن عبد الله بن عمرو موقوفاً. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: وقفه أشبه والذي رفعه ليس بقوي انتهى(3/619)
50 ـ باب ما جَاءَ في الخُروُج إِلى منًى والمُقَامِ بها
880 ـ حدثنا أبوُ سَعيدٍ الأشَجّ حدثنا عَبدُ الله بنُ الأجْلَحِ عن إسماعيلَ بنِ مُسْلِمٍ عن عَطاءٍ عنِ ابنِ عَبّاسٍ قال: "صَلّى بِنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمنًى الظّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشَاءَ والفَجْرَ ثُمّ غَدَا إلَى عَرَفَاتٍ".
قال أبو عيسى: وإسماعيلُ بنُ مُسْلِمٍ قد تكلّموا فيهِ
ـــــــ
"باب ما جاء في الخروج إلى منى والمقام بها"
بضم الميم من الإقامة، ومنى موضع بين مكة والمزدلفة حدها من جهة المشرق بطن المسيل إذا هبطت من وادي محسر، ومن جهة المغرب جمرة العقبة ذكره النووي في التهذيب. وقال في المجمع: سمي به لما يمنى فيه من الدماء أي يراق وهو لا تنصرف وتكتب بالياء إن قصد بها البقعة ويصرف ويكتب بالألف بتأويل موضع انتهى.
قوله: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى" أي يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة "ثم غدا" من الغدو وهو المشي أول النهار أي سار غدوة بعد طلوع الشمس لما في حديث جابر الطويل: ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس "إلى عرفات" بفتحتين قال النووي: اسم لموضع الوقوف سمي به لأن آدم عرف حواء هناك، وقيل لأن جبريل عرف إبراهيم المناسك هناك. قوله "وإسماعيل بن مسلم قد تكلم فيه" إسماعيل بن مسلم هذا هو أبو إسحاق البصري(3/619)
881 ـ حدثنا أَبو سَعيدٍ الأشَجّ حدثنا عبدُ الله بنُ الأجْلَحِ عنِ الأعْمَشِ عن الحَكَمِ عن مِقْسَمٍ عنِ ابنِ عَبّاسٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلّى بمنًى الظّهْرَ والفَجْرَ ثُمّ غَدَا إِلَى عَرفَاتٍ".
قال: وفي البابِ عن عبدِ الله بنِ الزّبَيْرِ وأنَسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ مِقْسَمٍ عن ابنِ عبّاسٍ قال عليّ بنُ المَدِينيّ: قالَ يَحْيَى: قال شُعْبَةُ لَمْ يَسْمَعْ الحَكَمُ مِنْ مِقْسَمٍ إلاّ خَمْسَةَ أشيَاءَ وَعَدّها ولَيْسَ هذا الحديثُ فِيما عَدّ شُعْبَةُ.
ـــــــ
المجاور المكي الفقيه ضعفه ابن المبارك. وقال أحمد: منكر الحديث كذا في الخلاصة وحديث ابن عباس هذا أخرجه ابن ماجه أيضاً قوله: "أخبرنا عبد الله بن الأجلح" بتقديم الجيم على الحاء المهملة.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن الزبير" أخرجه الحاكم في المستدرك بلفظ قال: من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى ثم يغدو إلى عرفة حتى إذا زالت الشمس خطب الناس ثم صلى الظهر والعصر جميعاً، كذا في شرح سراج أحمد "وأنس رضي الله عنه" أخرجه البخاري عن عبد العزيز بن رفيع قال: سألت أنس بن مالك قلت: أخبرني بشيء عقلته عن النبي صلى الله عليه وسلم أين صلى الظهر والعصر يوم التروية قال: بمنى الحديث. وفي الباب عن جابر في الحديث الطويل في صفة الحج عند مسلم: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر الحديث. وفي الباب أيضاً عن ابن عمر أخرجه ابن ماجه مرفوعاً وأخرجه مالك موقوفاً. قوله "وليس هذا الحديث فيما عد شعبة" فعلى هذا يكون هذا الحديث منقطعاً ولكن له شواهد صحيحة كما عرفت(3/620)
51 ـ باب ما جاءَ أَنّ مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَق
882 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عيسَى و مُحمدُ بنُ أَبانٍ قالاحدثنا وَكِيعٌ عن إسْرَائِيلَ عن إبراهيم بنِ مُهَاجِرٍ عن يُوسُفَ بنِ مَاهَكَ عن أُمّهِ مُسَيْكَةَ
ـــــــ
باب ما جاءَ أَنّ مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَق
قوله: "عن يوسف بن ماهك" بفتح هاء وبكاف ترك صرفه، وعند الأصيلي(3/620)
عن عائشةَ قالت: "قُلْنا يا رسولَ الله ألاَ نَبْني لَكَ بِنَاءً يُظِلّكَ بمنًى قال: لا مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَق ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
مصروف، كذا في المغنى ثقة من الثالثة "عن أمه مسيكة" بالتصغير المكية لا يعرف حالها من الثالثة كذا في التقريب، ذكرها الذهبي في الميزان في المجهولات. قوله: "ألا نبني لك بناء" وفي رواية لابن ماجه: بيتا "قال لا" أي لا تبنوا لي بناء بمنى لأنه ليس مختصاً بأحد إنما هو موضع العبادة من الرمي وذبح الهدى والحلق ونحوها، فلو أجيز البناء فيه لكثرت الأبنية وتضيق المكان، وهذا مثل الشوارع ومقاعد الأسواق، وعند أبي حنيفة أرض الحرم موقوفة فلا يجوز أن يملكها أحد "منى" مبتدأ "مناخ من سبق" خبر مبتدأ والمناخ بضم الميم موضع إناخة الإبل. قوله "هذا حديث حسن" وأخرجه ابن ماجه والحاكم أيضاً. ومدار هذا الحديث على مسيكة وهي مجهولة كما عرفت(3/621)
52 ـ باب ما جَاءَ في تَقْصيرِ الصّلاَةِ بمنًى
883 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا أبو الأحْوَصِ عن إسرائيل عن أبي إسْحاقَ عن حارِثَةَ بنِ وهْبٍ قال: "صَلّيْتُ مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بِمنًى آمَنَ مَا كانَ النّاسُ وأكْثَرَهُ رَكْعَتْينِ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في تَقْصيرِ الصّلاَةِ بمنًى
قوله: "آمن ما كان الناس" قال في مجمع البحار: بمد همزة أفعل من الأمن ضد الخوف وما مصدرية أي صلى بنا والحال أنا أكثر أكواننا في سائر الأوقات أمنا من غير خوف، وإسناد الأمن إلى الأوقات مجاز انتهى. وقال أبو الطيب في شرح الترمذي: المقصود من هذا الكلام وأمثاله واضح أي حين كان الناس أكثر أمناً وعدداً، لكن تطبيقه على قواعد العربية خفي، والأقرب أن ما مصدرية وكان تامة وآمن منصوب على الظرفية بتقدير مضاف وموصوفه مقدر من جنس المضاف إليه كما هو المشهور في اسم التفضيل، وأكثره عطف على آمن وضميره لما أضيف إليه آمن، والتقدير زمان كون هو آمن أكوان الناس وزمان كون(3/621)
قال: وفي البابِ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ وابنِ عُمَر وأنَسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ حَارِثَةَ بنِ وهْبٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَرُوِيَ عن ابنِ مَسْعُودٍ أنّهُ قال صَلّيْتُ مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بِمنًى رَكْعَتْينِ ومَعَ أَبي بَكْرِ ومَعَ عُمَرَ و مع عُثْمانَ رَكْعَتَيْنِ صَدْراً مِنْ إمَارَتِهِ وقد اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْم في تَقْصيرِ الصّلاَةِ بمنًى لأهْلِ مَكّةَ. فقال بَعْضُ أَهْلِ العلمِ: لَيْسَ لأهْلِ مكّةَ أنْ يَقْصُرُوا الصّلاَةَ بمنًى إلاّ مَنْ كانَ بمنًى مُسَافِرا وهُوَ قَوْلُ ابنِ جُرَيْجٍ وسُفْيانَ الثّوْرِيّ ويَحْيى بنِ سَعيدٍ القَطّانِ والشافِعِيّ وأحمدَ وإسحاقَ. وقال بَعْضُهُمْ لا بأْسَ لأهْلِ مَكّةَ أنْ يَقْصُرُوا الصّلاَةَ
ـــــــ
هو أكثر أكوان الناس عدداً، ونسبة الأمن والكثرة إلى الكون مجازية فإنهما وصفان للناس حقيقة فرجع بالنظر إلى الحقيقة إلى زمان وحين كان الناس فيه آمن وأكثر. وعلى هذا فنصب آمن وأكثر على الظرفية بتقدير المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه انتهى.
قوله: "عن ابن مسعود" أخرجه البخاري ومسلم، وقد ذكر الترمذي لفظه فيما بعد "وابن عمر" قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وأبو بكر بعده وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدراً من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربعاً، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً وإذا صلاها وحده صلى ركعتين. أخرجه الشيخان "وأنس" قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قيل له أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً. أخرجه الشيخان.
قوله: "حديث حارثة بن وهب حديث حسن صحيح" أخرجه الشيخان. قوله: "وروي عن ابن مسعود أنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين الخ" رواه الشيخان. قوله "إلا من كان بمنى مسافراً" استناء منقطع أي ليس لأهل مكة أن يقصروا الصلاة بمنى لكن من كان بمنى مسافراً فهو يقصرها ويحتمل الاتصال أي إلا من كان منهم نازلاً بمنى مسافراً بأن خرج على نية السفر أو رجع من السفر ونزل بها قل دخوله مكة "وهو قول ابن جريج وسفيان الثوري ويحيى بن سعيد القطان والشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول أبي حنيفة وأصحابه(3/622)
بمنى وهو قول الأوزاعي ومالك وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن مهدي
ـــــــ
وحجتهم أن المسافة التي بين مكة ومنى لا يقصر فيها الصلاة، والقصر بمنى ليس لأجل النسك بل للسفر "وهو قول الأوزاعي ومالك وسفيان بن عيينة وعبد الرحمَن بن مهدي" وحجتهم أن القصر بمنى للنسك وليس لأجل السفر. قال بعض المالكية: لو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أتموا وليس بين مكة ومنى مسافة القصر"، فدل على أنهم قصروا للنسك، وأجيب بأن الترمذي روى من حديث عمران بن حصين أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة ركعتين ويقول "يا أهل مكة أتموا فإنا قوم سفر" ، وكأنه ترك إعلامهم بذلك بمنى استغناء بما تقدم بمكة، قال الحافظ بن حجر: وهذا ضعيف لأن الحديث من رواية علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، ولو صح فالقصة كانت في الفتح وقصة منى في حجة الوداع وكان لا بد من بيان ذلك لبعد العهد، انتهى كلام الحافظ، قال الخطابي في المعالم: ليس في قوله: صلى بنا ركعتين دليل على أن المكي يقصر الصلاة بمنى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسافراً بمنى فصلى صلاة المسافر، ولعله لو سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاته لأمره بالإتمام، وقد يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان بعض المأمور في بعض المواطن اقتصاراً على ما تقدم من البيان السابق خصوصاً في مثل هذا الأمر الذي هو من العلم الظاهر العام وكان عمر بن الخطاب يصلي بهم فيقصر فإذا سلم التفت إليهم وقال: أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر انتهى(3/623)
باب ما جاء في الوقوف بعرفات والدعاء فيها
...
53ـ باب ما جاء في الوُقُوفِ بعَرَفاتٍ والدّعاءِ بها
884 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عَمْروِ بنِ ديِنَارٍ عن عَمْروِ بنِ عبدِ الله بنِ صَفْوَانَ عن يَزِيدَ بنِ شَيْبَانَ قال: "أتَانَا ابنُ مِرْبَعٍ الأنْصَارِيّ ونَحْنُ وُقُوفٌ بالمَوْقِفِ "مكاناً يُبَاعِدُهُ عَمْروٌ" فقال: إنّي
ـــــــ
باب ما جاء في الوُقُوفِ بعَرَفاتٍ والدّعاءِ بها
قوله: "أتانا ابن مربع الأنصاري" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة صحابي رضي الله عنه وسيجيء ما في اسمه من الاختلاف "مكاناً" أي في مكان كما في رواية أبي داود "يباعده عمرو" أي يباعد ذلك المكان عمرو بن عبد الله(3/623)
رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلَيْكُمْ يَقولُ: كُونُوا على مَشَاعِرِكُمْ فإِنّكُمْ على إرْثٍ مِنْ إرْثِ إبراهيمَ".
قال: وفي البابِ عن علي وعائِشَةَ وجُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ والشّرِيدِ بنِ سُوَيْدٍ الثّقَفيّ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابن مِرْبَعٍ حديثٌ حسنٌ صحيح لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديثِ ابنِ عُيَيْنةَ عن عَمرِو بنِ دِينَار. وابنُ مِرْبَعٍ اسْمُهُ يَزِيدُ بنُ مِرْبَعٍ الأنْصارِيّ وإنّمَا يُعْرَفُ لهُ هذا الحَديِثُ الوَاحِدُ.
885 ـ حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الأعْلَى الصّنْعَانيّ البَصْرِيّ حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الرّحمَن الطّفاوِيّ حدثنا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عَن أبيهِ عنْ عائشَةَ قالَتْ: "كانَتْ قُرَيْشٌ ومَنْ كانَ على دِيِنَها وَهُمُ الحُمْسُ يَقِفُونَ بالمُزْدَلِفَةِ
ـــــــ
من موقف الإمام يعني يجعله بعيداً بوصفه إياه بالبعد والمباعدة بمعنى التبعيد، وهذا قول الراوي عن عمرو بن عبد الله وهو عمرو بن دينار "كونوا على مشاعركم " جمع مشعر يريد بها مواضع النسك سميت بذلك لأنها معالم العبادات "على إرث من إرث إبراهيم" علة للأمر بالاستقرار والتثبت على الوقوف في موافقهم القديمة، علل ذلك بأن موقفهم موقف إبراهيم ورثوه منه ولم يخطئوا في الوقوف فيه عن سنته، فإن عرفة كلها موقف والواقف بأي جزء منها آت بسنته متبع لطريقته وإن بعد موقفه عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم قال الطيبي. قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه البيهقي وضعفه والترمذي كما سيذكر، وابن خزيمة والمحاملي في الدعاء وابن أبي الدنيا في الأضاحي، وابن النجار كذا في شرح سراج أحمد "وعائشة" أخرجه الشيخان "وجبير بن مطعم" أخرجه الشيخان أيضاً "والشريد بن سويد الثقفي" لينظر من أخرج حديثه. قوله: "حديث ابن مربع حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه. قوله: "وابن مربع اسمه يزيد بن مربع" قال الحافظ في التقريب: زيد بن مربع بن قيظي صحابي أكثر ما يجيء مبهماً وقيل اسمه يزيد وقيل عبد الله انتهى.
قوله: "حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني" بمفتوحة سكون ونون وبعين مهملة فألف فنون أخرى نسبة إلى صنعاء اليمن وإلى صنعاء دمشق كذ في المغنى "الطفاوي" بضم مهملة وخفة فاء وواو كذا في المغنى. قوله: "وهم الحمس" بضم مهملة وسكون(3/624)
يَقُولُونَ نَحْنُ قَطينُ الله وكانَ مَنْ سِوَاهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَأَنْزَلَ الله تعالى : {ثم أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ}" .
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ قال ومَعْنى هذا الحَديثِ أنّ أهْلَ مكّةَ كانوا لا يَخْرُجُونَ مِنَ الحَرَمِ، وعَرَفة خارِجٌ مِنَ الحَرَمِ، وأَهْلُ مكّةَ كانوا يَقِفُونَ بالمُزْدَلِفَةِ وَيَقُولُونَ نَحْنُ قَطينُ الله يَعْني سُكّانَ الله، ومَنْ سِوَى أَهْلِ مَكّةَ كانُو يَقِفُونَ بِعَرَفاتٍ، فأَنْزَلَ الله تعالى: {ثمّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ}. والحُمْسُ هُمْ أهْلُ الحَرَمِ.
ـــــــ
ميم فمهملة، قال في القاموس: الحمس الأمكنة الصلبة جمع أحمس ولقب به قريش وكنانة وجديلة ومن تابعهم في الجاهلية لتحمسهم في دينهم أو لالتجائهم بالحمساء وهي الكعبة انتهى. وقال الحافظ في الفتح: والأحمس في كلام العرب الشديد وسموا بذلك لما شددوا على أنفسهم وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لا يأكلون لجماً ولا يضربون وبراً ولا شعراً وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم. وقيل سموا حمساً بالكعبة لأنها حمساً حجرها أبيض يضرب إلى السواد، والأول أشهر وأكثر وأنه من التحمس وهو التشدد انتهى كلامه ملخصاً "يقولون نحن قطين الله" قال في القاموس: قطن قطونا أقام وفلاناً خدمه فهو قاطن والجمع قطان وقاطنة وقطين انتهى. وقطين الله على حذف المضاف أي سكان بيت الله {ثُمَّ أَفِيضُوا} أي ادفعوا يا قريش وأصله أفيضوا أنفسكم فحذف المفعول {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} من عرفة بأن تقفوا بها معهم(3/625)
54 ـ باب مَا جاءَ أَنّ عَرَفَةَ كُلّها مَوْقِف
886 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا أبو أَحمدَ الزّبَيْرِيّ حدثنا سُفْيانُ عنْ عبدِ الرحمَنِ بنِ الحَارِثِ بنِ عَيّاشٍ بنِ أبي رَبِيعَةَ عنْ زَيْدِ بنِ علي عنْ أبيهِ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبي رَافِعٍ عن عليَ بنِ أبي طَالِبٍ رضي الله عنه قالَ: "وقَفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ فقالَ: هذهِ عَرَفَةُ وهذا هُوَ المَوْقِفُ وعَرَفَةُ كُلّها مَوْقِفٌ،
ـــــــ
باب مَا جاءَ أَنّ عَرَفَةَ كُلّها مَوْقِف
قوله: "هذه عرفة" هي اسم لبقعة معروفة "وعرفة كلها موقف" أي إلا بطن(3/625)
ثمّ أَفاضَ حِينَ غَرَبَتِ الشمسُ وأرْدَفَ أسَامَةَ بنَ زَيْدٍ وجَعَل يُشيرُ بِيَدِهِ على هينته والنّاسُ يَضْرِبُونَ يَميناً وشِمَالاً يَلْتَفِتُ إليهم ويقولُ: يا أيّها النّاسُ عَلَيْكُمُ السّكِينَةُ. ثمّ أتَى جَمْعاً فَصَلّى بهم الصّلاَتَيْنِ جَميعاً فَلَمّا أصْبَحَ أَتَى قُزَحَ فوَقَفَ عليه وقال: هذا قزَحُ وهُوَ المَوْقِفُ وجَمْعٌ كُلّها مَوْقِفٌ ثمّ أفَاضَ حتى انتهَى إلى وادِي مُحَسّرٍ فَقَرَعَ ناقَتَهُ فَخَبّتْ حتى جاوَزَ الْوَادي، فَوَقفَ وأَرْدَفَ الفَضْلَ ثم أتى الجَمْرَةَ
ـــــــ
عرفة "ثم أفاض" أي دفع من عرفة "وأردف أسامة بن زيد" أي جعله رديفه، وفيه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة، وقد تظاهرت به الأحاديث "على هيئته" بفتح الهاء وسكون التحتية وفتح الهمزة أي حال كونه صلى الله عليه وسلم على هيئته وسيره المعتاد، ووقع في بعض النسخ على حمنته قال السيوطي في قوت المغتذي: بضم الحاء المهملة ثم ميم ساكنة ثم نون أي على عادته في السكون والرفق قاله أبو موسى المديني، وفي رواية غير المصنف على هيئته بفتح الهاء والهمزة مكان النون أي على سيره المعتاد. انتهى كلام السيوطي وفي بعض النسخ على هينته قال أبو الطيب في شرح الترمذي: بكسر الهاء ثم مثناة تحتية ساكنة ثم نون وهو حال أي حال كونه على عادته في السكون والرفق انتهى "والناس يضربون" زاد أبو داود: الإبل "يلتفت إليهم" في رواية أبي داود: لا يلتفت إليهم بزيادة لا، قال المحب الطبري: قال بعضهم: رواية الترمذي بإسقاط لا، أصح. وقد تكررت هناك على بعض الرواة من قوله شمالاً، كذا في قوت المغتذي قال أبو الطيب: وعلى تقدير صحتها معناه: لا يلتفت إلى مشيهم ولا يشاركه فيه . وعلى تقدير الإسقاط حال كونه يلتفت إليهم ويقول لهم الخ، "عليكم السكينة" بالنصب على الأعزاء قال السيوطي "ثم أتى جمعاً" بفتح الجيم وسكون الميم هو علم للمزدلفة اجتمع فيه آدم وحواء لما أهبطا كذا في المجمع "أتى قزح" بفتح القاف وفتح الزاء وحاء مهملة اسم جبل بالمزدلفة وهو غير منصرف للعدل والعلمية "إلى وادي محسر" بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد السين المهملة وكسرها، قال النووي: سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعي وكل، ومنه قوله تعالى {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} "فقرع ناقته" أي ضربها بمقرعة بكسر الميم وهو السوط "فخبت" من الخبب محركة وهو ضرب من العدو "حتى جاوز الوادي" قيل(3/626)
فَرَمَاهَا ثم أتى المَنْحَرَ فقالَ هذا المَنْحَرُ ومِنًى كُلّها منحرٌ. واسْتَفْتَتْهُ جَارِيَةٌ شابّةٌ منْ خَثْعَمٍ فقالتْ: إنّ أبي شَيْخٌ كَبيرٌ قد أدْرَكَتْهُ فَريضَةُ الله في الحَجّ أفَيُجْزِيءُ أنْ أَحُجّ عَنْهُ. قالَ حُجّي عنْ أبِيكِ، قال: ولَوَى عُنُقَ الفَضْلِ، فقالَ العَبّاسُ يا رسولَ الله لِمَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابنَ عَمّكَ؟ قالَ رَأيت شابّاً وشَابّةً فَلَمْ آمَنِ الشّيْطَانَ عَلَيْهِما. ثم أَتاه رَجُلٌ فقالَ يا رسولَ الله إنّي أَفَضْتُ قَبْلَ أنْ أحْلِقَ قالَ: احْلِقْ أوْ قَصّرْ ولا حَرَجَ. قالَ وجاءَ آخَرُ فقالَ يا رسولَ الله إِنّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أنْ أَرْمِيَ، قالَ: ارْمِ ولا حَرَجَ. قالَ: ثمّ أَتَى البَيْتَ فَطَافَ بهِ ثُمّ أتَى زَمْرَمَ فقالَ يا بَني عَبْدِ المُطّلبِ لَوْلا أنْ يَغْلِبَكُمْ النّاسُ عنه لَنَزْعت".
قال: وفي البابِ عنْ جابرٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَلِي حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لا نَعْرِفُهُ منْ حَديثِ عَلي إلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ مِنْ حَديثِ عبدِ الرّحمَن بنِ الحَارِثِ بنِ عَيّاشٍ وقد رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عن الثّوْرِيّ مِثْلَ هذا. والعملُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ العِلمِ
ـــــــ
الحكمة في ذلك أنه فعله لسعة الموضع، وقيل لأن الأودية مأوى الشياطين، وقيل لأنه كان موقفاً للنصارى فأحب الإسراع فيه مخالفة لهم، وقيل لأن رجلاً اصطاد فيه صيداً فنزلت نار فأحرقته فكان إسراعه لمكان العذاب كما أسرع في ديار ثمود قاله السيوطي "ولوى عنق الفضل" أي صرف عنقه من جانب الجارية إلى جانب آخر "لولا أن يغلبكم عليه الناس لنزعت" قال النووي: معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج فيزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لزيادة فضيلة هذا الاستقاء. وقال بعضهم: لولا يغلبكم أي قصداً للإتباع لنزعت أي أخرجت الماء وسقيته الناس كما تفعلون أنتم، قاله حثاً لهم على الثبات.
قوله: "وفي الباب عن جابر" أخرجه مسلم والترمذي. قوله "حديث علي حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود مختصراً قوله(3/627)
قد رَأوْا أنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الظّهْرِ والعَصْرِ بِعَرَفَةَ في وَقْتِ الظّهْرِ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: إذَا صَلّى الرّجُلُ في رَحْلِهِ ولَمْ يَشْهَدِ الصّلاةَ مع الإمَامِ إن شَاء جَمَعَ هُوَ بَيْنَ الصّلاتَيْنِ مِثْلَ مَا صَنَعَ الإمامُ قال وزَيْدُ بنُ عَلِي هُوَ ابنُ حُسَيْنِ بنِ عَلِي بنِ أبي طَالِبٍ.
ـــــــ
"وقال بعض أهل العلم إذا صلى الرجل في رحله الخ" قال الإمام البخاري في صحيحه: وكان ابن عمر إذا فاتته الصلاة مع الإمام جمع بينهما انتهى. قال الحافظ في الفتح: وصله إبراهيم الحربي في المناسك له قال: حدثنا الحوضي عن همام أن نافعاً حدثه أن ابن عمر كان إذا لم يدرك الإمام يوم عرفة جمع بين الظهر والعصر في منزله. وأخرج الثوري في جامعه رواية عبد الله بن الوليد العدني عنه عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع مثله. وأخرجه ابن المنذر من هذا الوجه، وبهذا قال الجمهور. وخالفهم في ذلك النخعي والثوري وأبو حنيفة فقالوا يختص الجمع بمن صلى مع الإمام، وخالف أبا حنيفة في ذلك صاحباه والطحاوي، ومن أقوى الأدلة لهم صنيع ابن عمر هذا. وقد روى حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين وكان مع ذلك يجمع وحده فدل على أنه عرف أن الجمع لا يختص بالإمام، ومن قواعدهم أن الصحابي إذا خالف ما روى دل على أن عنده بأن مخالفه أرجح تحسيناً للظن به فينبغي أن يقال هذا ههنا انتهى كلام الحافظ.
قوله: "وزيد بن علي هو ابن حسين بن علي بن أبي طالب" المدني أحد أئمة أهل البيت ثقة من الرابعة وهو الذي ينسب إليه الزيدية خرج في خلافه هشام بن عبد الملك فقتل بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ومائة كذا في التقريب، والخلاصة(3/628)
55 ـ باب ما جَاءَ في الإفَاضَةِ مِنْ عَرَفَات
887 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا وَكِيعٌ و بِشْرُ بنُ السّرِيّ و أبو نُعَيْمٍ قالوا حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَوْضَعَ في وَادِي مُحَسّرٍ. وزَادَ فيهِ بِشْرٌ:
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الإفَاضَةِ مِنْ عَرَفَات
قوله: "أوضع" وضع البعير يضع وضعاً وأوضعه راكبه أيضاعاً إذا حمله على سرعة السير كذا في النهاية "في وادي محسر" تقد ضبط في الباب المتقدم.(3/628)
"وأَفَاضَ مِنْ جَمْعٍ وعَلَيْهِ السّكِينَةُ وأَمَرَهُم بالسّكِينَةِ". وزَادَ فيهِ أَبُو نُعَيْمٍ: "وأَمَرَهُم أَنْ يَرْمُوا بِمِثْلِ حَصَا الخَذْفِ. وقالَ لَعَلّي لا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هذَا" ".
"قال" : وفي البابِ عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ جَابِرٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قال الأزرقي: وهو خمس مائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعاً، وإنما شرع الإسراع فيه لأن العرب كانوا يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم فاستحب الشارع مخالفتهم "وأفاض من جمع" أي من المزدلفة "وعليه السكينة" جملة حالية "وأمرهم بالسكينة" وفي حديث أسامة الذي أشار إليه الترمذي وفي هذا الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفات كان يسير العنق وإذا وجد فجوة نص، وفي حديث الفضل بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: عليكم بالسكينة وهو كاف ناقته . رواه أحمد ومسلم. وفي هذه الأحاديث كيفية السير في الدفع من عرفات إلى مزدلفة لأجل الاستعجال للصلاة لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الزحمة ومن الإسراع عند عدم الزحام "وأمرهم أن يرموا مثل حصا الخذف" بفتح الخاء المعجمة وسكون الذال المعجمة وبالفاء قال العلماء: حصى الخذف كقدر حبة الباقلاء.
قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" أخرجه الخمسة كذا في المنتقى(3/629)
باب ما جاء في الحمع بين المغرب والعشاء
...
56 ـ باب ما جَاءَ في الجَمْعِ بَيْنَ المغربِ والعِشَاءِ بالمُزْدَلِفَة
888 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا يَحْيَى بن سَعِيدٍ القَطّانُ حدثنا سُفْيَانُ الثّوْرِيّ عن أبي إسْحاقَ عن عبدِ الله بنِ مَالِكٍ: " أنّ ابنْ عُمَر صَلّى بِجَمْعٍ فَجَمَعَ بَيْنَ الصّلاَتْينِ بإِقَامَةٍ وقالَ: رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَعَلَ مِثْلَ هذا في هذا المكَانِ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الجَمْعِ بَيْنَ المغربِ والعِشَاءِ بالمُزْدَلِفَة
قوله: "عن عبد الله بن مالك" بن الحارث الهمداني روى عن علي وابن عمر وعنه أبو إسحاق السبيعي وأبو روق الهمداني ذكره ابن حبان في الثقات كذا في تهذيب التهذيب "صلى بجمع" أي بالمزدلفة "فجمع بين الصلاتين بإقامة" استدل به(3/629)
889 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا يَحْيَى بنُ سَعيدٍ عن إسماعيلَ بنِ أبي خَالِدٍ عن أبي إسْحاقَ عن سَعِيد بن جُبَيْرٍ عن ابنِ عُمَر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلهِ: قالَ محمدُ بن بَشّارٍ قالَ يَحْيَى: والصّوابُ حديثُ سُفْيَانَ.
قال: وفي البابِ عن عَلِي وأبي أيّوبَ وعبدِ الله بنِ مَسْعُودٍ وجَابِرٍ وأُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ ابنِ عُمَر في رِوَايَةِ سُفْيَانَ أَصَحّ مِنْ رِوَايَةِ إسماعيلَ بنِ أَبي خَالِدٍ. وحَديِثُ سُفْيَانَ حديثٌ حسنٌ صحيح.
. قال: وَرَوَى إسْرَائيلُ هذَا الحَدِيثَ عن أبي إسْحاقَ عن عبدِ الله وخَالِدٍ ابْنَىْ مَالِكٍ عن ابنِ عُمَر. وحَدِيثُ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عُمَر هُوَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. أيْضاً رَوَاهُ سَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ عن سَعِيدِ بنُ جُبَيْرٍ. وأَمّا أَبُو إسحاقَ فإنما روى عن
ـــــــ
من قال بالجمع بين الصلاتين في المزدلفة بإقامة واحدة، وهو قول سفيان الثوري كما صرح به الترمذي.
قوله: "وفي الباب عن علي وأبي أيوب وعبد الله بن مسعود وجابر وأسامة بن زيد" أما حديث علي فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي أيوب فأخرجه البخاري ومسلم عنه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع المغرب والعشاء بالمزدلفة، ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار وزاد: بإقامة واحدة. وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه البخاري موقوفاً عليه وأما حديث جابر فأخرجه مسلم مطولاً في قصة حجة الوداع وفيه: حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما . وأما حديث أسامة بن زيد فأخرجه البخاري ومسلم. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها العيني في عمدة القاري والطحاوي في شرح الآثار.
قوله: "حديث ابن عمر رواية سفيان أصح من رواية إسماعيل بن أبي خالد وحديث سفيان حديث حسن صحيح" حديث ابن عمر في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة واحدة متفق عليه(3/630)
عَبْدِ الله وخَالِدِ ابَنَيْ مَالِكٍ عن ابنِ عُمَر والعملُ على هذا عِنْدَ أهلِ العلمِ لأنه لا تُصَلّى صلاةَ المَغْرِبِ دُونَ جَمْعٍ، فإِذَا أَتَى جَمْعاً وهُوَ المُزْدَلِفَةُ جَمَعَ بَيْنَ الصّلاَتَيْنِ بإِقَامَةٍ واحِدَةٍ ولَمْ يَتَطَوّعْ فِيمَا بَيْنَهُمَا وهُوَ الذي اخْتَارَهُ بَعْضُ أهِلِ العلمِ وذَهَب إليهِ، وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ قالَ سُفْيَانُ: وإن شَاءَ صَلّى المَغْرِبَ ثم تَعَشّى وَوَضَعَ ثِيَابَهُ ثم أَقَامَ فَصَلّى العِشَاءَ.
ـــــــ
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم أنه لا يصلي صلاة المغرب دون جمع" قال العيني: قال شيخنا زين الدين رحمه الله: كأنه أراد أن العمل عليه مشروعية واستحباباً لا تحتما ولا لزوماً، فإنهم لم يتفقوا على ذلك بل اختلفوا فيه فقال سفيان الثوري: لا يصليهما حتى يأتي جمعاً وله السعة في ذلك إلى نصف الليل فإن صلاهما دون جمع أعاد، وكذا قال أبو حنيفة: إن صلاهما قبل أن يأتي المزدلفة فعليه الإعادة وسواء صلاهما قبل مغيب الشفق أو بعده عليه أن يعيدهما إذا أتى المزدلفة. وقال مالك: لا يصليهما أحد قبل جمع إلا من عذر. فإن صلاهما من عذر لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق وذهب الشافعي إلى أن هذا هو الأفضل. وأنه إن جمع بينهما في وقت المغرب أو في وقت العشاء بأرض عرفات أو غيرها أو صلى كل صلاة في وقتها جاز لذلك، وبه قال الأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو يوسف وأشهب، وحكاه النووي عن أصحاب الحديث، وبه قال من التابعين عطاء وعروة وسالم والقاسم وسعيد بن جبير انتهى "فإذا أتى جمعاً وهو المزدلفة جمع بين الصلاتين بإقامة واحدة ولم يتطوع فيما بينهما وهو الذي اختاره بعض أهل العلم وذهبوا إليه، وهو قول سفيان الثوري". قال العيني في العمدة: الذي قال بإقامة واحدة قال بحديث الزهري عن سالم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة. وكذا رواه ابن عباس مرفوعاً عند مسلم انتهى "قال سفيان وإن شاء صلى المغرب ثم تعشى ووضع ثيابه ثم أقام فصلى العشاء" روى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمَن بن يزيد يقول: حج عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريباً من ذلك فأمر رجلاً فأذن وأقام ثم صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين ثم دعا بعشائه فتعشى ثم أمر فأذن وأقام، قال عمرو:(3/631)
فقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلمِ: يَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ بالمُزْدَلِفَةَ بِأَذَانٍ وإقَامَتَيْنِ يُؤَذّنُ لِصَلاَةِ المَغْرِبِ ويُقيمُ ويُصَلّي المَغْرِبَ ثم يُقِيمُ ويُصَلّي العِشَاءَ، وهُوَ قَوْلُ الشّافِعيّ
ـــــــ
ولا أعلم الشك إلا من زهير وصلى العشاء ركعتين الحديث. وهذا هو متمسك سفيان الثوري لكنه موقوف "وقال بعض أهل العلم" : يجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان وإقامتين يؤذن لصلاة المغرب، ويقيم ويصلي المغرب. ثم يقيم ويصلي العشاء "وهو قول الشافعي" قال النووي في شرح مسلم: الصحيح عند أصحابنا أنه يصليهما بأذان للأولى وإقامتين لكل واحدة إقامة. وقال في الإيضاح إنه الأصح كذا في العمدة. قلت: وهو المختار عندي، ويدل عليه حديث جابر الطويل في قصة حجة الوداع أخرجه مسلم وفيه حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً. وفي هذه المسألة أقوال أخرى ذكرها العيني في عمدة القاري منها هذا الذي ذكره الترمذي قال العيني: الثالث أنه يؤذن للأولى ويقيم لكل واحدة منهما وهو قول أحمد بن حنبل في أصح قوليه، وبه قال أبو ثور وعبد الملك بن الماجشون من المالكية والطحاوي، وقال الخطابي هو قول أهل الرأي. وذكر ابن عبد البر أن الجوزجاني حكاه عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله. قال الرابع أنه يؤذن للأولى ويقيم لها ولا يؤذن للثانية ولا يقيم لها، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف حكاه النووي وغيره. قال هذا هو مذهب أصحابنا، وعند زفر: بأذان وإقامتين، قال الخامس أنه يؤذن لكل منهما ويقيم. وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو قول مالك وأصحابه إلا ابن الماجشون وليس لهم في ذلك حديث مرفوع، قاله ابن عبد البر انتهى كلام العيني. قلت: روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان وإقامة لكل منهما من فعله، وقد تقدم لفظه، وقد روى ذلك الطحاوي بإسناد صحيح من فعل عمر رضي الله عنه قال الحافظ في الفتح: وقد أخذ بظاهره مالك وهو اختيار البخاري(3/632)
57ـ باب ما جَاءَ فيمن أدْرَكَ الإمَامَ بِجَمْعٍ فَقَدْ أدْرَكَ الحَج
890 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ وعَبْدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي قالا حدثنا سُفْيَانُ عن بُكَيْرٍ بنِ عَطَاءٍ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ يَعْمَرَ "أنّ نَاساً مِنْ أهْلِ نَجْدٍ أتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهُوَ بعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ فَأَمَرَ مُنَادِياً فَنَادَى: الحَجّ عَرَفَةُ. مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَقَدْ أدْرَكَ الحَجّ، أيامُ مِنًى ثَلاَثَةٌ فَمَنْ تَعَجّلَ في يَوْمَيْنِ فَلاَ
ـــــــ
"باب ما جاء من أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج"
الجمع بفتح الجيم وسكون الميم علم للمزدلفة اجتمع فيها آدم وحواء لما أهبطا كذا في المجمع، أي من أدرك الإمام بالمزدلفة وقد وقف بعرفة فقد أدرك الحج.
قوله: "عن عبد الرحمَن بن يعمر" بفتح التحتانية وسكون العين المهملة وفتح الميم ويضم غير منصرف قال الحافظ: صحابي نزل بالكوفة ويقال مات بخراسان.
قوله: "فسألوه" وفي رواية أبي داود: فجاء ناس أو نفر من أهل نجد فأمروا رجلاً فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف الحج "الحج عرفة" أي الحج الصحيح حج من أدرك يوم عرفة قاله الشوكاني . وقال الشيخ عز الدين عبد السلام: تقديره إدراك الحج وقوف عرفة لأنه يفوت بفواته "من جاء ليلة جمع" أي ليلة المبيت بالمزدلفة وهي ليلة العيد "قبل طلوع الفجر" أي فجر يوم النحر أي من جاء عرفة ووقف فيها ليلة المزدلفة قبل طلوع فجر يوم النحر وأورد صاحب المشكاة هذا الحديث بلفظ: من أدرك عرفة ليلة جمع قبل طلوع الفجر "فقد أدرك الحج" أي لم يفته وأمن من الفساد. وفيه رد على من زعم أن الوقوف يفوت بغروب الشمس يوم عرفة ومن زعم أن وقته يمتد إلى ما بعد الفجر إلى طلوع الشمس فظاهره أنه يكفي الوقوف في جزء من أرض عرفة ولو في لحظة لطيفة في هذا الوقت. وبه قال الجمهور. وحكى النووي قولاً أنه لا يكفي الوقوف ليلاً ومن اقتصر عليه فقد فاته الحج، والأحاديث الصحيحة ترده "أيام منى ثلاثة" مبتدأ وخبر يعني أيام منى ثلاثة أيام وهي الأيام المعدودات وأيام التشريق وأيام رمي الجمار وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر وليس يوم النحر منهم(3/633)
باب ما جاء في التقديم الضعفة من جمع بليل
...
58 ـ باب ما جاءَ في تَقْدِيمِ الضّعفَةِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْل
893 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن أيّوبَ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ "بَعَثَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثَقَلٍ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ".
"قال" : وفي البابِ عن عائِشَةَ وأُمّ حَبِيبَةَ وأسْمَاءَ بنت أبي بكر والفَضْلِ "بن عباس".
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عَبّاسٍ "بَعَثَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثَقَلٍ" حديثٌ صحيحٌ رُوِيَ عنهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. ورَوَى شُعْبَةُ هذا الحَديِثَ عن مُشَاشٍ عن عَطَاءٍ عن ابنِ عبّاسٍ "أنّ النبيّ صلى الله
ـــــــ
باب ما جاءَ في تَقْدِيمِ الضّعفَةِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْل
ومشاش بصري روى عنه شعبة.
قوله: "في ثقل" بفتح الثاء المثلثة والقاف متاع المسافر وحشمه و "من جمع" أي المزدلفة "بليل" قال الطيبي: يستحب تقديم الضعفة لئلا يتأذوا بالزحام "وفي الباب عن عائشة" قالت: كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع بليل فاستأذن لها أخرجه الشيخان "وأم حبيبة" أخرجه مسلم بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل "وأسماء" أخرجه الشيخان "والفضل" أخرجه الترمذي.
قوله: "عن مشاش" بضم الميم وتكرار الشين المعجمة كذا في قوت المغتذي،(3/636)
عليه وسلم قَدّمَ ضَعَفَةَ أهْلِهِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ" وهذا حديثٌ خَطَأٌ أخْطأَ فيهِ مُشَاشٌ وزَادَ فيه "عن الفَضْلِ بنِ عبّاسٍ". ورَوَى ابن جُرَيْجٍ وغَيْرُهُ هذا الحَدِيثَ عن عَطَاءٍ عن ابنِ عَبّاسٍ ولَمْ يَذْكُرُوا فيهِ "عن الفَضْلِ بنِ عَبّاسٍ"
894ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ حدثنا وَكِيعٌ عن المَسْعُودِيّ عن الحَكَمِ عن مِقْسَمٍ عن ابنِ عَبّاسٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَدّمَ ضَعَفَةَ أهْلِهِ وقالَ: لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ".
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عَباسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا الحَدِيثِ عِنْدَ أهلِ العِلمِ، لَمْ يَرَوْا بأْساً أَنْ يَتَقَدّمَ الضّعَفَةُ مِنَ المُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ يَصِيرُونَ إلى مِنًى.
وقالَ أكثرُ أهلِ العِلْمِ بحَدِيثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُمْ لاَ يَرْمُونَ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ . وَرَخّصَ بعَضُ أَهْلِ العِلْمِ في أنْ يَرْمُوا بِلَيْلٍ. والعمَلُ على حَدِيثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم لا يرمون وهُوَ قَوْلُ الثّوْريّ والشّافِعِيّ.
ـــــــ
وقال في التقريب: مشاش بمعجمتين أبو ساسان أو أبو الأزهر السلمي البصري أو المروزي وقيل هما اثنان مقبول من السادسة.
قوله: "قدم ضعفة أهله " بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة جمع ضعيف وهم النساء والصبيان والخدم.
قوله: "عن مقسم" بوزن منبر، قال في التقريب: بكسر أوله، بن بجرة بضم الموحدة وسكون الجيم ويقال نجدة بفتح النون وبدال مولى عبد الله بن الحارث ويقال له مولى ابن عباس للزومة له صدوق وكان يرسل من الرابعة.
قوله: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" فيه دليل على عدم جواز الرمى في الليل وعليه أبو حنيفة والأكثرون خلافاً للشافعي. والتقييد بطلوع الشمس لأن الرمى حينئذ سنة وما قبله بعد طلوع الفجر جائز اتفاقاً كذا في المرقاة.
قوله: "وهو قول الثوري والشافعي" احتج الشافعي بحديث أسماء، أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله مولى أسماء عن أسماء أنها رمت الجمرة، قلت لها إنا رمينا الجمرة بليل، قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجمع بين هذا الحديث وبين حديث ابن عباس:(3/637)
ـــــــ
الشمس بحمل الأمر على الندب ويؤيده ما أخرجه الطحاوي من طريق شعبة مولى ابن عباس عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله وأمرني أن أرمي مع الفجر، قاله الحافظ في الفتح وقال فيه: وقال الحنفية لا يرمي جمرة العقبة، إلا بعد طلوع الشمس فإن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز، وإن رماها قبل الفجر أعادها، وبهذا قال أحمد وإسحاق والجمهور، وزاد إسحاق ولا يرميها قبل طلوع الشمس، وبه قال النخعي ومجاهد والثوري وأبو ثور، ورأى جواز ذلك قبل طلوع الفجر عطاء وطاؤس والشعبي والشافعي، واحتج الجمهور بحديث ابن عمر أنه كان يقدم ضعفة أهله الحديث. وفيه فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رواه البخاري ومسلم. واحتج إسحاق بحديث ابن عباس: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس. انتهى كلام الحافظ(3/638)
59ـ باب
895 ـ حدثنا عليّ بنُ خَشْرَمٍ حدثنا عيسىَ بنُ يُونُسَ عن ابنِ جُرْيجٍ عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ قالَ: "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي يَوْمَ النّحْرِ ضُحًى وأمّا بَعْدَ ذَلِكَ فَبَعْدَ زَوَالِ الشّمْسِ".
ـــــــ
باب
قوله: "يرمى يوم النحر ضحى" قال العراقي: الرواية فيه بالتنوين على أنه مصروف انتهى أي وقت الضحوة من بعد طلوع الشمس إلى ما قبل الزوال "وأما بعد ذلك" أي بعد يوم النحر وهو أيام التشريق "بعد زوال الشمس" أي فيرمي بعد الزوال، وفيه دليل على أن السنة أن يرمى الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال وبه قال الجمهور، وخالف فيه عطاء وطاوس فقالا يجوز قبل الزوال مطلقاً. ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال. وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه. كذا في فتح الباري. قلت: لا دليل على ما ذهب إليه عطاء وطاوس لا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من قوله. وأما ترخيص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال فاستدلوا عليه بأثر ابن عباس رضي الله عنه وهو ضعيف فالمعتمد ما قال به الجمهور. قال في الهداية: وأما اليوم(3/638)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ عَلَى هذَا الحديث عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ أَنّهُ لاَ يَرْمِي بَعْدَ يَوْمِ النّحْرِ إلاّ بَعْدَ الزّوَالِ.
ـــــــ
الرابع فيجوز الرمي قبل الزوال عند أبي حنيفة خلافاً لهما ومذهبه مروى عن ابن عباس رضي الله عنه انتهى. قال ابن الهمام: أخرج البيهقي عنه: إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمى والصدر والانتفاخ الارتفاع، وفي سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي. قال ابن الهمام: ولا شك أن المعتمد في تعيين الوقت للرمي في الأول من أول النهار وفيما بعده من بعد الزوال ليس إلا فعله كذلك مع أنه غير معقول ولا يدخل وقته قبل الوقت الذي فعله فيه عليه الصلاة والسلام، كما لا يفعل في غير ذلك المكان الذي رمى فيه عليه الصلاة والسلام وإنما رمى عليه الصلاة والسلام في الرابع بعد الزوال فلا يرمي قبله انتهى . قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم(3/639)
60 ـ باب ما جاءَ أَنّ الإفاضَةَ مِنْ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْس
896 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا أبوُ خَالِدٍ الأحْمَرُ عن الأعْمَشِ عن الحَكَمِ عن مِقْسَمٍ عن ابنِ عبّاسٍ: " أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ".
قال: وفي البابِ عن عُمَر.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وإنما كانَ أَهْلُ الجَاهِلِيّةِ يَنْتَظِرُونَ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ ثُم يُفِيضُونَ.
897 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبُو دَاوُدَ قالَ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عن أبي إسْحاقَ قال سَمِعْتُ عَمْروَ بنَ مَيْمُونٍ يحدّث يَقُولُ: "كُنّا وُقُوفاً بِجَمْعٍ
ـــــــ
باب ما جاءَ أَنّ الإفاضَةَ مِنْ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْس
الإضافة الدفعة
قوله: "أفاض قبل طلوع الشمس" وفي بعض النسخ أفاض من جمع قبل طلوع الشمس. قوله: "وفي الباب عن عمر رضي الله عنه" أخرجه البخاري والأربعة. قوله: "كنا وقوفاً" جمع واقف "بجمع" أي بالمزدلفة(3/639)
فقالَ عُمرُ بنُ الخَطّابِ: إنّ المُشْرِكِينَ كانُوا لا يُفِيضُونَ حتى تَطْلُعَ الشّمْسُ وكانُوا يَقُولُونَ: أشْرِق ثَبِيْر، وإنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ، فأَفَاضَ عُمَرُ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"إن المشركين كانوا لا يفيضون" أي من جمع "أشرق" بفتح أوله فعل أمر من الإشراق أي أدخل في الشروق والمشهور أن المعنى لتطلع عليك الشمس "ثبير" بفتح المثلثة وكسر الموحدة جبل معروف هناك وهو على يسار الذاهب إلى منى وهو أعظم جبال مكة عرف برجل من هذيل اسمه ثبير دفن فيه، والحديث فيه مشروعية الدفع من الموقف بالمزدلفة قبل طلوع الشمس عند الإسفار، وقد نقل الطبري الإجماع على أن من لم يقف فيها حتى طلعت الشمس فإنه الوقوف. قال ابن المنذر: وكان الشافعي وجمهور أهل العلم يقولون بظاهر هذا الحديث وما ورد في معناه، وكان مالك يرى أن يدفع قبل الإسفار وهو مردود بالنصوص(3/640)
61 ـ باب ما جاءَ أَنّ الجِمَارَ التي يرمى بها مِثْلُ حَصَى الخَذْف
898 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ القَطّانُ حدثنا ابنُ جُرَيْجٍ عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ قالَ: "رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَرْمِي الجِمَارَ بِمِثْلِ حَصَى الخَذْفِ".
قال: وفي البابِ عن سُلَيْمانَ بنِ عَمْروِ بنِ الأحْوَصِ عن أُمّه "وهِيَ أُمّ جُنْدُبٍ الأزَدِيةُ" وابنِ عَبّاسٍ والفَضْلِ بنِ عَبّاسٍ وعبدِ الرحمَن بنِ عُثْمانَ التميمي وعَبْدِ الرحمَنِ بنِ مُعَاذٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء أن الجمار التي ترمي مثل حصى الخذف"
أي صغاراً كالباقلاء
قوله: "يرمي الجمار بمثل حصى الحذف " قال العلماء: هو نحو حبة الباقلاء. قاله النووي: وقال: قال أصحابنا: ولو رمى بأكبر منها أو أصغر جاز، وكان مكروهاً انتهى. قوله: "وفي الباب عن سلميان بن عمرو بن الأحوص عن أمه وهي أم جندب الأزدية" صحابية وابنها سليمان كوفي مقبول من الثانية "وابن عباس والفضل جندب الأزدية" صحابية وابنها سليمان كوفي مقبول من الثانية "وابن عباس والفضل ابن عباس وعبد الرحمَن بن عثمان التيمي وعبد الرحمَن بن معاذ" أما حديث أم(3/640)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهُوَ الذي اخْتَارَهُ أَهْلُ العِلْمِ أَنْ تَكُونَ الجِمَارُ التي يرْمَى بها مِثْلَ حَصَى الخَذْفِ.
ـــــــ
جندب فأخرجه أبو داود وابن ماجه. وأما حديث ابن عباس فأخرجه النسائي وبان ماجه. وأما حديث الفضل بن عباس فأخرجه مسلم وفيه: عليكم بحصى الخذف الذي ترمي به الجمرة. وفي رواية أخرى له: والنبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يخذف الإنسان وأما حديث ابن عباس وحديث عبد الرحمَن بن عثمان وعبد الرحمَن بن معاذ فلينظر من أخرجهم. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(3/641)
باب ما جاء في الرمي بعد الزوال
...
62 ـ باب ما جَاءَ في الرّمْيِ بَعْدَ زَوَالِ الشّمْس
899 ـ حدثنا أحمدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ البَصْرِيّ، حدثنا زِيَادُ بنُ عَبْدِ الله عن الحَجّاجِ عن الحَكَمِ عن مِقْسَمٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرْمِى الجِمَارَ إذَا زَالَتِ الشّمْسُ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الرّمْيِ بَعْدَ زَوَالِ الشّمْس
قوله: "عن الحجاج" هو ابن دينار الواسطي "عن الحكم" هو ابن عتيبة "عن مقسم" بكسر الميم وسكون القاف ابن بجرة ابن نجدة. قوله: "يرمي الجمار إذا زالت الشمس" أي في غير يوم النحر لما روى مسلم وابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة ضحى يوم النحر وحده، ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس، والحديث يدل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور، وخالف فيه عطاء وطاوس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقاً، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، وقال إسحاق إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه انتهى. كذا في فتح الباري: قلت: احتج الحنفية بما رواه البيهقي عن ابن عباس: إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر. قال الزيلعي في نصب الراية في سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي قال والانتفاخ الارتفاع انتهى. والحق ما ذهب إليه الجمهور. وفي الباب عن ابن عمر: كنا نتحين(3/641)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
فإذا زالت الشمس رمينا. رواه البخاري وأبو داود وعن عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس الحديث. رواه أحمد وأبو داود. وأحاديث الباب كلها ترد على من قال بجواز الرمي قبل الزوال في غير يوم النحر.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وابن ماجه أيضاً وإسناد ابن ماجه هكذا: حدثنا جبارة ابن المفلس حدثنا إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة أبو شيبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس(3/642)
باب ما جاء في الرمى الجمار راكبا"
...
63ـ باب ما جَاءَ في رَمْيِ الجِمَارِ رَاكِباً وماشيا
900 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا يَحْيَى بنُ زَكَرِيّا بنِ أَبي زَائِدَةَ حدثنا الحَجّاجُ عن الحَكَمِ عن مِقْسَمٍ عن ابنِ عَبّاسٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رَمَى الجمْرةَ يَوْمَ النّحْرِ رَاكِباً".
قال: وفي البابِ عن جَابِرٍ وقُدَامَةَ بنِ عبدِ الله وأُمّ سُلَيْمانَ بنِ عَمْرِو بنِ الأحْوَصِ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في رَمْيِ الجِمَارِ رَاكِباً
قوله: "رمى الجمرة" أي جمرة العقبة. قوله "وفي الباب عن جابر" قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه. أخرجه أحمد ومسلم والنسائي "وقدامة بن عبد الله" بضم القاف وتخفيف الدال المهملة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء ليس ضرب ولا طرد وليس قيل إليك إليك . أخرجه الشافعي والترميذي والنسائي وابن ماجه والدارمي "وأم سليمان بن عمرو بن الأحوص" قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب يكبر مع كل حصاة الحديث. أخرجه أبو داود وسكت عنه، وأخرجه ابن ماجه بنحوه قال المنذري: وفي إسناده يزيد بن أبي زياد قال: وقد تقدم الكلام عليه.(3/642)
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ. والعملُ عَلى هذا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ. واخْتَارَ بَعْضُهُمْ أنْ يَمْشِيَ إلى الجِمَارِ، وقد روى عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمشي إلى الجمار وَوَجْهُ هذا الحَدِيثِ عِنْدَنَا أَنّهُ رَكِبَ في بَعْضِ الأيّامِ لِيُقْتَدَى بِهِ في فِعْلِهِ، وكِلاَ الحَدِيثَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ.
901 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عِيسَى، حدثنا ابنُ نُمَيْرٍ عن عُبَيْدِ الله عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ " أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذَا رَمَى الجِمَارَ مَشَى إلَيْهِا ذَاهِباً وَرَاجِعاً".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَمَلُ على هذَا عِنْدَ أكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ. وقالَ بَعْضُهُمْ يَرْكَبُ يَوْمَ النّحْرِ ويَمْشِي في الأيّامِ التي بَعْدَ يَوْمِ النّحْرِ.
قال أبو عيسى: وكَأَنّ مَنْ قالَ هذا إنّمَا أَرَادَ إتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم في فِعْلِهِ لأنّهُ إنّما رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ رَكِبَ يَوْمَ النّحْرِ حَيْثُ ذَهَبَ يَرْمِي الجِمَارَ ولاَ يَرْمِي يَوْمَ النّحْرِ إِلاّ جَمْرَةَ العَقَبَةِ.
ـــــــ
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن" وأخرجه ابن ماجه. قوله: "والعمل عليه عند بعض أهل العلم" قال النووي: مذهب مالك والشافعي وغيرهما أنه يستحب لمن وصل من راكباً أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، ولو رماها. ماشياً جاز، وأما من وصلها ماشياً فيرميها ماشياً وهذا في يوم النحر، وأما اليومان الأولان من أيام التشريق فالسنة أن يرمي فيهما جميع الجمرات ماشياً وفي اليوم الثالث يرمي راكباً وينفر، هذا كله مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقال أحمد وإسحاق: يستحب يوم النحر أن يرمي ماشياً. قال ابن المنذر: وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون مشاة قال: وأجمعوا على أن الرمي يجزيه على أي حال رماه إذا وقع في المرمى انتهى كلام النووي(3/643)
باب كيف ترمى الجمار
...
64ـ باب ما جاء كَيْفَ تُرْمَى الجِمَار
902 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عِيسى، حدثنا وَكِيعٌ حدثنا المَسْعُودِيّ عن جَامِعِ بنِ شَدّادٍ أَبي صَخْرَةَ عن عَبْدِ الرحمَن بنِ يَزِيدَ قالَ: "لمّا أَتَى عَبْدُ الله جَمْرَةَ العَقَبَةِ اسْتَبْطَنَ الوَاديِ واسْتَقْبَلَ الكَعْبَةَ وجَعَلَ يَرْمِي الجَمْرَةَ على حَاجِبِهِ الأيْمَنِ ثُمّ رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبّرُ مَعَ كُلّ حَصَاةٍ ثُمّ قالَ: والله الذي لا إلَهَ ألاّ هو مِنْ هَهُنَا رَمَى الّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ".
903- حدثنا هَنّادٌ حدثنا وَكِيعٌ عن المَسْعُودِيّ بهذا الإسْنَادِ نَحْوَهُ.
قال: وفي البابِ عن الفَضْلِ ابنِ عَبّاسٍ وابنِ عَبّاسٍ وابنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ.
ـــــــ
باب ما جاء كَيْفَ تُرْمَى الجِمَار
قوله: "أخبرنا المسعودي" هو عبد الرحمَن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي المسعودي صدوق اختلط قبل موته، وضابطه أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط مات سنة 160 ستين ومائة.
قوله: "لما أتى عبد الله" هو ابن مسعود رضي الله عنه "استبطن الوادي" أي قصد بطن الوادي ووقف في وسطه "واستقبل القبلة" كذا في رواية الترمذي وروى البخاري هذا الحديث وفيه. وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، وكذلك رواه مسلم قال الحافظ: ما رواه البخاري هو الصحيح وما رواه الترمذي شاذ في إسناده المسعودي وقد اختلط انتهى "يكبر مع كل حصاة" استدل به على اشتراط رمي الجمرات واحدة واحدة وقد قال صلى الله عليه وسلم "خذوا عني مناسككم"، وخالف في ذلك عطاء وصاحبه أبو حنيفة رحمه الله فقالا لو رمي السبع دفعة واحدة أجزأه "الذي أنزلت عليه سورة البقرة" خص سورة البقرة بالذكر لأن كثيراً من أفعال الحج مذكور فيها فكأنه قال هذا مقام الذي أنزلت عليه أحكام المناسك منبهاً بذلك على أن أفعال الحج توقيفية. وقيل خص البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما فيها من الأحكام، أو أشار بذلك إلى أنه يشرع الوقوف عندها بقدر سورة البقرة والله أعلم.
قوله: "وفي الباب عن الفضل بن عباس" أخرجه ابن جرير "وابن عباس"(3/644)
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ مَسْعُودٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ يَخْتَارُونَ أنْ يَرْمِيَ الرّجُلُ مِنْ بَطْنِ الوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبّرَ مَعَ كُلّ حَصَاةِ. وقد رَخّصَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَن يَرْمِيَ مِنْ بَطْنِ الوَادِي رَمَى مِنْ حَيْثُ قَدَرَ عَلَيهِ وإنْ لَمْ يَكَنْ في بَطْنِ الوَادِي.
ـــــــ
أخرجه ابن خزيمة والطبراني والحاكم والبيهقي كذا في شرح سراج أحمد "وابن عمر رضي الله عنه" أخرجه البخاري "وجابر" أخرجه مسلم ففي حديثه الطويل متى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر . قوله: "حديث ابن مسعود حسن صحيح" قال الحافظ في الفتح: في إسناده المسعودي وقد اختلط، قال ولفظ واستقبل القبلة فيه شاذ كما عرفت آنفاً.
قوله: "يختارون أن يرمي الرجل من بطن الوادي" قال النووي في شرح مسلم: في حديث ابن مسعود استحباب كون الرمي من بطن الوادي فيستحب أن يقف تحتها في بطن الوادي فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ويستقبل العقبة والجمرة ويرميها بالحصيات السبع، وهذا هو الصحيح في مذهبنا وبه قال جمهور العلماء. وقال بعض أصحابنا: يستحب أن يقف مستقبل الجمرة مستديراً مكة. وقال بعض أصحابنا يستحب أن يقف مستقبل الكعبة وتكون الجمرة عن يمينه والصحيح الأول انتهى كلام النووي، قلت: من قال باستحباب استقبال القبلة وكون الجمرة عن اليمين استدل برواية الترمذي بلفظ: واستقبل القبلة وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن. واحتج الجمهور القائلون باستحباب استقبال العقبة والجمرة برواية البخاري ومسلم عن ابن مسعود بلفظ: جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه . وقالوا إن رواية الشيخين مقدمة على رواية الترمذي "سبع حصيات ويكبر مع كل حصاة" قال النووي: استحباب التكبير مع كل حصاة هو مذهبنا ومذهب مالك والعلماء كافة. قال القاضي: وأجمعوا على أنه لو ترك التكبير لا شيء عليه.(3/645)
904 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عليَ الجَهْضِميّ و عليّ بنُ خَشْرَمٍ قالا حدثنا عيسى بنُ يُونُسَ عن عُبَيْدِ الله بن أَبي زيادٍ عن القَاسِمِ بنِ مُحَمّدٍ عن عائشةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنّما جُعِلَ رَمْيُ الجِمَارِ وَالسّعْيُ بَيْنَ الصّفَا والمَرْوَةِ لإقامَةِ ذِكْرِ الله".
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "من ههنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة" خصها بالذكر لما فيها من أحكام الحج. قوله1 "وفي الباب عن الفضل بن عباس وابن عباس وابن عمر وجابر" أما حديث الفضل بن عباس فأخرجه أيضاً مسلم وغيره. وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه فأخرجه مالك في الموطأ. قوله "حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان. قوله: "إنما جعل رمى الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله" أي لأن يذكر الله في هذه المواضع المتبركة فالحذر الحذر من الغفلة، وإنما خصا بالذكر مع أن المقصود من جميع العبادات هو ذكر الله تعالى لأن ظاهرهما فعل لا تظهر فيهما العبادة وإنما فيهما التعبد للعبودية بخلاف الطواف حول بيت الله والوقوف للدعاء فإن أثر العبادة لائحة فيهما كذا في المرقاة. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الدارمي
ـــــــ
1 قد وقع التكرار في العبارة من سهو الكاتب(3/646)
65 ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ طَرْدِ النّاسِ عِنْدَ رَمْيِ الجِمَار
905 ـ حدثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوَيَةَ عنْ أيْمَنَ بنِ نابِلٍ عنْ قُدَامَةَ بنِ عبدِ الله قالَ: "رَأَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي الجِمَارَ على ناقَةٍ ليْسَ ضَرْبٌ ولا طَرْدٌ ولا إلَيْكَ إِلَيْكَ".
ـــــــ
باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ طَرْدِ النّاسِ عِنْدَ رَمْيِ الجِمَار
قوله: "عن أيمن" بفتح الهمزة وسكون التحتية وفتح الميم "ابن نابل" بالنون وبالموحدة المكسورة صدوق يهم قاله الحافظ "عن قدامة بن عبد الله" بضم القاف وبالدال المهملة أسلم قديماً وسكن مكة ولم يهاجر وشهد حجة الوداع "ليس"(3/646)
قال: وفي البابِ عَنْ عَبدِ الله بنِ حَنْظَلَةَ.
قال أبو عيسى: حَديثُ قُدَامَةَ بنِ عبدِ الله حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وإنّما يُعْرَفُ هذا الحديِثُ مِنْ هذا الوَجْهِ، وهُوَ حديث. وأَيْمَن بن نابِلٍ وهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الحَديثِ.
ـــــــ
أي هناك "ضرب ولا طرد ولا إليك إليك" أي تنح تنح وهو اسم فعل بمعنى تنح عن الطريق.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن حنظلة" لينظر من أخرجه. قوله: "حديث قدامة بن عبد الله حديث حسن صحيح" وأخرجه الشافعي والنسائي وابن ماجه والدارمي(3/647)
باب ما جاء في الأشتراك في البدنه والنقرة
...
66 ـ باب ما جَاءَ في الاشْتِرَاكِ في البَدَنَةِ والبَقَرَة
906 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا مالكُ بنُ أنَسٍ عنْ أبي الزّبَيْرِ عن جابرٍ قالَ: "نَحَرْنا مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عامَ الحُدَيْبِيّةِ البَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ والبَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ".
قال: وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وأبي هُرَيْرَةَ وعائشةَ وابنِ عَبّاسٍ
ـــــــ
"باب ما جاء في الاشتراك في البدنة والبقرة"
قال في القاموس: البدنة محركة من الإبل والبقر. وقال في النهاية: البدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة وهي بالإبل أشبه. وقال في الفتح: إن أصل البدن من الإبل وألحقت بها البقرة شرعاً.
قوله: "البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة" وفي رواية لمسلم: اشتركنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة فقال رجل لجابر: أيشترك في البقر ما يشترك في الجزور فقال: ما هي إلا من البدن.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وعائشة وابن عباس" أما حديث ابن عمر وأبي هريرة وعائشة فلينظر من أخرجه. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وفي الباب أيضاً عن حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم أشرك بين المسلمين في البقرة عن سبعة رواه أحمد كذا في التلخيص.(3/647)
قال أبو عيسى: حديثُ جَابِرٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هَذا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ يَرَوْنَ الجَزُورَ عن سَبْعَةٍ والبقَرَةَ عن سَبْعَةٍ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثوْرِيّ والشّافِعِيّ وأَحمدَ. ورُوِيَ عنِ ابْنِ عبّاسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَنّ البَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ والجَزُورَ عن عَشرةٍ". وهُوَ قَوْلُ إسحاقَ واحْتَجّ بهذا الحديثِ. وحديثُ ابن عبّاسٍ إنّما نَعْرِفُهُ منْ وجْهِ واحِدٍ.
907 ـ حدثنا الحُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ وغَيْرُ واحِدٍ قالُوا حدثنا الفَضْلُ بنُ مُوسى عَنْ حُسَيْنِ بنِ واقِدٍ عنْ عِلْبَاء بنِ أَحْمرَ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: "كُنّا مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ فَحَضَر الأضْحى فاشْتَرَكْنَا في البَقرَةِ سبْعَةً وفي الجَزُورِ عَشْرَةً".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ وهُوَ حَديثُ حُسَيْنِ بنِ واقِدٍ.
ـــــــ
قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم. قوله: "وهو قول سفيان والثوري والشافعي وأحمد" وهو قول الحنفية، واحتجوا بحديث الباب وما في معناه "وروى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن البقرة عن سبعة والجزور عن عشرة" أسنده الترمذي فيما بعد بقوله حدثنا الحسين بن حريث الخ "وهو قول إسحاق" أي ابن راهويه "واحتج بهذا الحديث" ويشهد له ما في الصحيحين من حديث رافع بن خديج أنه صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشراً من الغنم ببعير(3/648)
67 ـ باب ما جاءَ في إِشْعَارِ البُدْن
908 ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ، حدثنا وَكيعٌ عن هِشَامٍ الدّسْتَوَائِيّ عن قَتَادَةَ عنْ أبي حَسّانَ الأعْرَجِ عن ابنِ عَبّاسٍ : "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
"باب ما جاء في إشعار البدن"
قال الجزري في النهاية: إشعار البدن هو أن يشق أحد جنبي سنام البدئة حتى يسيل دمها ويجعل ذلك لها علامة تعرف بها أنها هدى انتهى. قال الحافظ:(3/648)
قَلدَ نَعْلَيْنِ وأَشْعَرَ الهَدْيَ في الشّقّ الأيَمنِ بِذِي الحُلَيْفَةِ وأمَاطَ عَنْهُ الدّمَ".
قال: وفي البابِ عنِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبُو حَسّانَ الأعْرَجُ اسْمُهُ مُسْلِمٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ أهْلِ العِلمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ يَرَوْنَ الإشْعَارَ وهُوَ قَوْلُ الثوْرِيّ والشّافِعِيّ
ـــــــ
وفائدة الإشعار الإعلام بأنها صارت هدياً ليتبعها من يحتاج إلى ذلك، وحتى لو اختلطت بغيرها تميزت أوضلت عرفت أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة فأكلوها مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشرع وحث الغير عليه.
قوله: "قلد نعلين" أي علقهما وجعلهما في رقبة الهدى. قال العيني رحمه الله: التقليد هو تعليق نعل أو جلد ليكون علامة الهدى "وأشعر الهدي في شق الأيمن" وفي رواية مسلم: فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن. قال النووي: صفحة السنام جانبه أي في جانب سنامها الأيمن "وأماط عنه الدم" أي مسحه وسلته عنه. والحديث أخرجه مسلم ولفظه هكذا: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج انتهى.
قوله: "وفي الباب عن المسور بن مخرمة" أخرجه البخاري وفي الباب أيضاً عن عائشة أخرجه الشيخان. قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم. قوله: "اسمه مسلم" أي ابن عبد الله المشهور بكنيته صدوق رمى برأي الخوارج. قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم الخ". قال النووي: في هذا الحديث استحباب الإشعار والتقليد في الهدايا من الإبل، وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف. وقال أبو حنيفة: الإشعار بدعة لأنه مثلة وهذا يخالف الأحاديث الصحيحة المشهورة في الإشعار، وأما قوله إنها مثلة فليس كذلك بل هذا كالفصد والحجامة والختان والكي والوسم انتهى. قال الحافظ: وأبعد من منع الإشعار واعتل باحتمال أنه كان مشروعاً قبل النهي عن المثلة فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال بل وقع الإشعار في حجة الوداع وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان.(3/649)
وأحمدَ وإسحاقَ، قالَ سَمِعْتُ يُوسُفَ بنَ عيسى يَقُولُ سَمِعْتُ وَكيعاً يقُولُ "حين رَوَى هذا الحديثَ قال" لا تَنْظُرُوا إلى قَوْلِ أَهْلِ الرّأْيِ في هذا فإنّ الإشْعَارَ سُنّة، وقَوْلَهُمْ بِدْعَةٌ. قالَ وسَمِعْتُ أبا السّائِبِ يقُولُ كُنّا عِنْدَ
ـــــــ
قوله: "قال سمعت يوسف بن عيسى" أي قال أبو عيسى سمعت يوسف بن عيسى وهو من شيوخ الترمذي ثقة فاضل من العاشرة "فقال لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا فإن الإشعار سنة وقولهم بدعة" قال أبو الطيب السندي في شرح الترمذي أشار بهذا إلى قول الإمام أبي حنيفة، قيل إن الإشعار عنده مكروه وقيل بدعة انتهى. وقال صاحب العرف الشذي: لفظ أهل الرأي ليس للتوهين بل يطلق على الفقيه إلا أن أول إطلاق هذا اللفظ على أبي حنيفة وأصحابه فإنه أول من دون الفقه قال ثم يستعمل لفظ أهل الرأي في كل فقيه انتهى. قلت: لا شك في أن مراد وكيع بأهل الرأي الإمام أبو حنيفة وأصحابه، يدل على ذلك قول وكيع الآتي أشعر: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول أبو حنيفة هو مثله. وقول وكيع هذا وقوله: لا تنظروا إلى قول أهل الرأي الخ كلاهما للإنكار على الإمام أبو حنيفة في قوله الإشعار مثله أو مكروه، فأنكر وكيع بهذين القولين عليه وعلى أصحابه إنكاراً شديداً ورد عليه رداً بليغاً، وظهر من هذين القولين أن وكيعاً لم يكن حنفياً مقلداً للإمام أبي حنيفة، فإنه لو كان حنفياً لم ينكر عليه هذا الإنكار البتة. فبطل قول صاحب العرف الشذي أن وكيعاً كان حنفياً.
فإن قلت: قال الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة وكيع: قال يحيى: ما رأيت أفضل منه يعني من وكيع يقوم الليل ويسرد الصوم ويفتي بقول أبي حنيفة انتهى، فقول يحيى هذا يدل على أن وكيعاً كان حنفياً.
قلت: المراد بقوله: ويفتي بقول أبي حنيفة هو الإقتناء بجواز شرب نبيذ الكوفيين، فإن وكيعاً كان يشربه ويفتي بجوازه على قول أبي حنيفة. قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: ما فيه أي ما في وكيع إلا شربه نبيذ الكوفيين وملازمته له جاء ذلك من غير وجه عنه انتهى. والحاصل أن المراد بقوله: يفتي بقول أبي حنيفة الخصوص لا العموم، ولو سلم أن المراد به العموم فلا شك أن المراد أنه كان يفتي بقول أبي حنيفة الذي ليس مخالفاً للحديث والدليل على ذلك قولاه المذكوران(3/650)
وكيعٍ فقال: لِرَجُلٍ عنده مِمّنْ يَنْظُرُ في الرّأْي: أشعَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ويقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ مُثْلةٌ. قالَ الرّجُلُ فإنّهُ قد رُوِيَ عنْ إبراهيم النّخعّي أنّهُ قالَ الإشْعَارُ مُثْلةٌ. قالَ فرأيتُ وكيعاً غَضِبَ غَضَباً شَدِيداً وقالَ أقُولُ لكَ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتقُولُ قال إبراهيمُ؟ ما أحَقّكَ بأَنْ تُحْبَسَ ثمّ لا تَخْرُجَ حَتّى تَنْزِعَ عنْ قَوْلِكَ هذا.
ـــــــ
. وأما قول صاحب العرف الشذي: لفظ أهل الرأي يطلق على الفقيه وقوله يستعمل في كل فقيه ففيه أن هذا اللفظ لا يطلق على كل فقيه كما بيناه في المقدمة "فإن الإشعار سنة وقولهم بدعة" يعني أن الإشعار ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قول أهل الرأي بأن الإشعار مثلة فهو بدعة لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم يفهم صاحب العرف الشذي معنى هذه الجملة حيث قال: قوله بدعة الخ لم يصرح وكيع بأن هذا قول أبي حنيفة، وإذا ذكر قوله لم يقله بدعة إلا أنه لم يرض به انتهى كلامه بلفظه "ويقول أبو حنيفة هو مثلة" قال في النهاية: يقال مثلت بالحيوان أمثل به مثلاً، إذا قطعت أطرافه، وشوهت به، ومثلت بالقتيل إذا جدعت أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئاً من أطرافه، والاسم المثلة انتهى. ومعنى قول أبي حنيفة هو مثلة أي الإشعار داخل في المثلة والمثلة حرام فالإشعار حرام، ولا شك أن هذا القول مخالف لحديث الباب. والظاهر عندي أنه لم يبلغه رحمه الله تعالى. وأما العذر الذي ذكره الطحاوي وغيره فهو عندي بارد والله تعالى أعلم. "ما أحقك بأن تحبس" بصيغة المجهول، وما أحقك فعل التعجب "حتى تنزع عن قولك هذا" أي ترجع عنه، وإنما غضب وكيع على ذلك الرجل الذي كان ينظر في الرأي لأنه عارض الحديث النبوي بقول إبراهيم النخعي. وذكر صاحب العرف الشذي أن الإمام أبا يوسف قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء فقال رجل إني لا أحبه فأمر أبو يوسف بقتل ذلك الرجل(3/651)
68 ـ باب
909 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ و أبُو سَعيدٍ الأشَجّ قالا: حدثنا يحيى بنُ اليَمانِ عنْ
ـــــــ
باب
قوله: "حدثنا ابن اليمان" اسمه يحيى العجلي الكوفي صدوق عابد يخطئ كثيراً(3/651)
سُفْيانَ عن عُبَيْدِ الله عنْ نَافَعٍ عن ابنِ عُمَرَ " أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى هَدْيَهُ مِنْ قُدَيْدٍ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ مِنْ حَديثِ الثّوْرِيّ إِلاّ مِنْ حَديثِ يَحْيى بنِ اليَمانِ. ورُوِيَ عنْ نَافِعٍ أنّ ابنَ عُمَرَ اشْتَرَى مِنْ قُدَيْدٍ.
قال أبو عيسى: وهذا أصَحّ.
ـــــــ
وقد تغير من كبار التاسعة "عن عبيد الله" هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني أبو عثمان ثقة ثبت قدمه أحمد بن صالح على مالك بن نافع.
قوله: "اشترى هديه من قديد" قال في النهاية: قديد مصغراً وهو موضع بين مكة والمدينة انتهى. قوله: "لا نعرفه من حديث الثوري إلا من حديث يحيى بن اليمان" وقد عرفت حاله "وهذا أصح" أي هذا الموقوف من المرفوع الذي رواه يحيى بن اليمان عن الثوري(3/652)
69 ـ باب ما جاءَ في تَقْليدِ الهَدْيِ للِمْقيم
910 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، اللّيْثُ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ القاسمِ عن أبيهِ عنْ عَائِشَةَ أَنّهَا قالتْ: " فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثمّ لَمْ يُحْرِمْ ولَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً مِنَ الثّيَابِ".
ـــــــ
"باب ما جاء في تقليد الهدي للمقيم"
أي من غير أن يتلبس بالإحرام. والهدي ما يهدي إلى الكعبة من النعم لتنحر به، وتقليدها أن يجعل في رقابها شيء كالقلادة من لحاء الشجرة أو الصوف ونحو ذلك ليعلم أنها هدي.
قوله: "فتلت قلائد هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم" قلائد جمع قلادة وهي ما تعلق بالعنق "ثم لم يحرم" أي لم يصر محرماً "ولم يترك شيئاً من الثياب" أي التي أحلها الله له، وفي رواية للبخاري من طريق عمرة بنت عبد الرحمَن أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة أن عبد الله بن عباس قال: من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه، قالت عمرة فقالت عائشة ليس كما قال ابن(3/652)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ بَعْض أهلِ العلمِ. قالوا: إِذَا قَلّدَ الرّجُلُ الهَدْيَ وهُوَ يُريدُ الحَجّ لَمْ يَحْرُمْ عليهِ شيءٌ مِنَ الثّيَابِ والطّيبِ حتّى يُحْرِمَ. وقال بعضُ أهلِ العلمِ: إِذَا قَلّدَ الرّجُلُ هَدْيَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا وجَبَ على المُحرِمِ.
ـــــــ
عباس، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله حتى نحر الهدي انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم قالوا إذا قلد الرجل الهدى وهو يريد الحج الخ" قال النووي: من بعث هديه لا يصير محرماً ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة انتهى. "وقال بعض أهل العلم: إذا قلد الرجل الهدي فقد وجب عليه ما وجب على المحرم" وبه قال ابن عباس، وقد ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر. رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب وابن المنذر من طريق ابن جريج كلاهما عن نافع: أن ابن عمر كان إذا بعث بالهدى يمسك عما يمسك عنه المحرم إلا أنه لا يلبي. ومنهم قيس بن سعد بن عبادة، أخرج سعيد بن منصور عن طريق سعيد بن المسيب نحو ذلك، وروى ابن أبي شيبة عن عمر وعلي أنهما قالا في الرجل يرسل ببدنة: أنه يمسك عما يمسك عنه المحرم وهذا منقطع. قال ابن المنذر: قال عمر وعلي وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون: من أرسل الهدى وأقام حرم عليه ما يحرم على المحرم. وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون: لا يصير بذلك محرماً وإلى ذلك صار نقهاء الأمصار واحتج من قال بأنه يجب عليه ما يجب على المحرم بما رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقد قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه وقال: إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على مكان كذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي الحديث . وهذا لا حجة فيه لضعف إسناده كذا في فتح الباري. والمذهب القوي هو أن باعث الهدى لا يصير(3/653)
ـــــــ
محرماً لثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة، وما ذهب إليه ابن عباس وغيره لم يثبت عنه بسند صحيح والله تعالى أعلم(3/654)
70 ـ باب ما جاءَ في تَقْليدِ الغَنَم
911 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا عبدُ الرحمَن بنُ مَهْدِيَ عنْ سُفْيَانَ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبراهيم عنِ الأسْوَدِ عنْ عائشةَ قالَتْ: "كُنتُ أَفْتِلُ قَلاَئِدَ هَدْيِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كُلّها غَنَماً ثمّ لا يُحْرِمُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ بَعْضِ أَهْلِ العلمِ مِنْ أَصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ يَرَوْنَ تَقلِيدَ الغَنَمِ..
ـــــــ
باب ما جاءَ في تَقْليدِ الغَنَم
قوله: "كنت أفتل قلائد هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها" بالنصب تأكيد للقلائد أو بالجر تأكيد لهدى "غنماً" حال عن الهدى إلا أنه اشترط في الحال من المضاف إليه صحة وضعه موضع المضاف، وهو ههنا مفقود إلا على قول من قال: إذا كان المضاف مثل جزء المضاف إليه مطلقاً فحينئذ لا إشكال، كذا في شرح الترمذي لأبي الطيب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة: قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم الخ" وهو قول الكثيرين، قال النووي: في حديث عائشة دلالة لمذهبنا ومذهب الكثيرين أنه يستحب تقليد الغنم. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يستحب بل خصا التقليد بالإبل والبقر، وهذا الحديث صريح في دلالته عليهما انتهى. وقال ابن المنذر: أنكر مالك وأصحاب الرأي تقليد الغنم ولم نجد لهم حجة إلا قول بعضهم إنها تضعف عن التقليد وهو حجة ضعيفة لأن المقصود من التقليد العلامة وقد اتفقوا على أنها لا تشعر لأنها تضعف عنه فتقلد بما لا يضعفها والحنفية في الأصل يقولون ليست الغنم من الهدى فالحديث حجة عليهم من جهة أخرى انتهى(3/654)
71ـ باب ما جاء إذا عَطِبَ الهَدْيَ ما يُصْنَعُ بِه
912 ـ حدثنا هارُونَ بنُ إسحاقَ الهَمْدَانِيّ، حدثنا عَبْدَةُ بنُ سُلَيمْانَ عن هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عَنْ ناجِيَةَ الخُزَاعِيّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قُلْتُ يا رسولَ الله كَيْفَ أصْنَعُ بما عَطِبَ مِنَ العبد له؟ قال انْحَرْها ثمّ اغْمِسْ نَعْلهَا في دَمِهَا ثُمّ خلّ بَيْنَ النّاسِ وبَيْنَها فيَأْكْلُوهَا ".
وفي البابِ عن زوَيْبٍ أبي قَبِيصَةَ الخُزَاعِيّ.
ـــــــ
"باب ما جاء إذا عطب الهدي ما يصنع به"
عطب كفرح هلك، والمراد قرب هلاكها حتى خيف عليها الموت.
قوله: "عن ناجية الخزاعي" هو ابن جندب بن كعب وقيل ابن كعب بن جندب صحابي تفرد بالرواية عنه عروة بن الزبير. قال السيوطي: ليس له في الكتب إلا هذا الحديث وكان اسمه ذكوان فسماه النبي صلى الله عليه وسلم ناجية حين نجا من قريش، واسم أبيه جندب وقيل كعب انتهى. قوله: "كيف أصنع بما عطب" قال في النهاية: عطب الهدي هلاكه وقد يعبر عن آفة تعتريه وتمنعه عن السير فينحر انتهى. "ثم أغمس نعلها" إنما يفعل ذلك لأجل أن يعلم من مر به أنه هدي فيأكله "ثم خل بين الناس وبينها فيأكلوها" وفي حديث ذويب أبي قبيصة: ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك. قال النووي: وفي المراد بالرفقة وجهان لأصحابنا أحدهما الذين يخالطون المهدي في الأكل وغيره دون باقي القافلة، والثاني وهو الأصح الذي يقتضيه ظاهر نص الشافعي وجمهور أصحابنا أن المراد بالرفقة جميع القافلة، لأن السبب الذي منعت به الرفقة هو خوف تعطيبهم إياه وهذا موجود في جميع القافلة، فإن قيل إذا لم تجوزوا لأهل الرفقة أكله وقلتم بتركه في البرية كان طعمة للسباع وهذا إضاعة مال، قلنا ليس فيه إضاعة بل العادة الغالبة أن سكان البوادي يتتبعون منازل الحجيج لالتقاط ساقطة ونحو ذلك، وقد تأتي قافلة إثر قافلة، والرفقة بضم الراء وكسرها لغتان مشهورتان انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ذويب أبي قبيصة الخزاعي" أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث معه بالبدن ثم يقول إن عطب(3/655)
قال أبو عيسى: حديثُ ناجِيَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَملُ على هَذا عندَ أهْلِ العلمِ قالُوا "في هَدْيِ التّطَوّعِ: إِذَا عَطِبَ" لا يأْكلُ هُوَ ولا أحَدٌ مِنْ أهْلِ رُفْقَتِهِ ويُخَلّى بَيْنَهُ وبَيْنَ النّاسِ يأْكُلُونَهُ، وقد أجْزَأ عَنْهُ. وهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وأحمدَ وإسحاقَ وقالوا: إنْ أَكلَ مِنْهُ شَيْئاً غَرِمَ بقدر ما أَكلَ مِنْهُ. وقالَ بعضُ أهْلِ العِلْمِ إذَا أكلَ مِنْ هَدْيِ التّطَوّعِ شَيْئاً فَقَدْ ضَمِنَ
ـــــــ
منها شيء فخشيت عليها موتاً فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك، قوله: "حديث ناجية حديث حسن صحيح" قال في المنتقى: رواه الخمسة إلا النسائي.
قوله: "ويخلي بينه وبين الناس" أي يترك بينه وبين الناس "يأكلونه" قال النووي: ولا يجوز للأغنياء الأكل منه مطلقاً لأن الهدي مستحق للمساكين فلا يجوز لغيرهم انتهى. وقال القاري في شرح الموطأ لمحمد: اعلم أن هدي التطوع إذا بلغ الحرم يجوز لصاحبه وغيره من الأغنياء لأن القربة فيه بالإراقة إنما يكون في الحرم وفي غيره التصدق انتهى، "وقد أجزأ عنه" أي لا بدل عليه "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وقالوا: إن أكل منه شيئاً غرم مقدار ما أكل منه" أي تصدق قيمة ما أكل منه من الغرم وهو أداء شيء لازم. قال سعيد بن المسيب: إنه كان يقول من ساق بدنة تطوعاً ثم عطبت فنحرها فليجعل قلادتها ونعلها في دمها ثم يتركها للناس يأكلونها وليس عليه شيء، فإن هو أكل منها أو أمر بأكلها فعليه الغرم. رواه محمد في الموطأ وقوله فعليه الغرم بضم الغين أي الغرامة وهي قيمة ما أكل "وقال بعض أهل العلم إذا أكل من هدي التطوع شيئاً فقد ضمن" أي عليه البدل، وهذا خلاف مذهب الجمهور. قال عياض: فما عطب من هدي التطوع لا يأكل منه صاحبه ولا سائقه ولا رفقته لنص الحديث، وبه قال مالك والجمهور وقالوا: لا بدل عليه لأنه موضع بيان. ولم يبين صلى الله عليه وسلم بخلاف الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فيأكل منه صاحبه والأغنياء لأن صاحبه يضمنه لتعلقه بذمته، قاله الزرقاني(3/656)
72ـ باب ما جَاءَ في رُكُوبِ البَدَنَة
913 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ قَتَادَةَ عن أنس "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رَأى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً قالَ لهُ ارْكَبْها، فقال يا رسولَ الله إنّها بَدَنَةٌ. فقال لهُ في الثّالِثَةِ أوْ في الرّابِعَةِ: ارْكَبْها وَيْحَكَ أوْ وَيْلَكَ".
قال: وفي البابِ عن علي وأبي هُرَيْرَةَ وجابِرٍ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في رُكُوبِ البَدَنَة
قوله: "رأى رجلاً" قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد طول البحث "يسوق بدنة" بفتح الموحدة والدال والنون وفي رواية لمسلم: مقلدة وكذا في رواية للبخاري "فقال يا رسول الله إنها بدنة" أراد أنها بدنة مهداة إلى البيت الحرام، ولو كان مراده الإخبار عن كونها بدنة لم يكن الجواب مفيداً لأن كونها من الإبل معلوم، فالظاهر أن الرجل ظن أنه خفي على النبي صلى الله عليه وسلم كونها هدياً فقال إنها بدنة. قال في الفتح: والحق أنه لم يخف ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكونها كانت مقلدة، ولهذا قال لما زاد في مراجعته ويلك "ويحك أو ويلك" شك من الراوي. قال الجزري في النهاية: ويح كلمة ترحم وتوجع تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقد يقال بمعنى المدح والتعجب وهي منصوبة على المصدر وقد ترتفع وتضاف ولا تضاف، يقال ويح زيد وويحاله وويح له انتهى. وقال: الويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، ومعنى النداء فيه: يا حزني ويا هلاكي ويا عذابي أحضر، فهذا وقتك وأوانك، فكأنه نادى الويل أن يحضره لما عرض له من الأمر الفظيع، قال وقد يرد الويل بمعنى التعجب.
قوله: "وفي الباب عن علي وأبي هريرة وجابر" أما حديث علي فأخرجه أحمد عنه أنه سئل: أيركب الرجل هديه؟ فقال لا بأس به، قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالرجال يمشون فيأمرهم بركوب هديه . قال لا تتبعون شيئاً أفضل من سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم . وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي بنحو حديث أنس المذكور في الباب. وأما حديث جابر(3/657)
قال أبو عيسى: حديثُ أنَسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَخّصَ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ العِلمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ في رُكُوبِ البَدَنَةِ إذَا احْتَاجَ إلى ظَهْرِها. وهُوَ قَوْلُ الشّافِعيّ وأحمدَ وإسحاقَ. وقالَ بَعْضُهُمْ: لا يَرْكَبْ مالَمْ يُضْطَر إليها.
ـــــــ
فأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عنه أنه سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً".
قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق" وحكى ابن عبد البر عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء كراهة ركوبه لغير حاجة. ونقل الطحاوي عن أبي حنيفة جواز الركوب مع الحاجة ويضمن ما نقص منها بالركوب، والطحاوي أقعد بمعرفة مذهب أمامه وقد وافق أبا حنيفة الشافعي على ضمان النقص في الهدى الواجب. كذا في النيل، وقال بعضهم: لا يركب ما لم يضطر إليه. قال في النيل: وقيد بعض الحنفية الجواز بالاضطرار ونقله ابن أبي شيبة عن الشعبي، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه يركب إذا اضطر ركوباً غير قادح، وحكى ابن العربي عن مالك أن يركب للضرورة فإذا استراح نزل يعني إذا انتهب ضرورته، والدليل على اعتبار الضرورة ما في حديث جابر المذكورة من قوله صلى الله عليه وسلم: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها"(3/658)
73ـ باب ما جَاءَ بأَيّ جانِبِ الرّأَسِ يَبْدَأُ في الحَلْق
914 ـ حدثنا أَبُو عَمّار الحسين بن حريث، حدثنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن هِشامِ بنِ حَسّانَ عن ابنِ سِيرينَ عن أنَسِ بنِ مالكٍ قالَ: "لمّا رَمَى النبي صلى الله عليه وسلم الجَمْرَةَ نَحَرَ نُسُكَهُ ثمّ ناوَلَ الحالِقَ شِقّهُ الأيْمَنَ فَحَلَقَهُ فأَعْطَاهُ
ـــــــ
باب ما جَاءَ بأَيّ جانِبِ الرّأَسِ يَبْدَأُ في الحَلْق
قوله: "نحر نسكه" جمع نسيكة بمعنى ذبيحة. قال في النهاية: نسك ينسك نسكاً إذا ذبح، والنسيكة الذبيحة "ثم ناول الحالق شقه الأيمن" فيه استحباب(3/658)
أبا طَلْحَةَ، ثمّ ناوَلهُ شِقّهُ الأيْسَرَ فَحَلَقهُ فقال اقْسِمْهُ بيْنَ النّاسِ".
915- حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ حدثنا سُفْيَانُ عَن هِشامٍ نَحْوَهُ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
البداءة في حلق الرأس بالشق الأيمن من رأس المحلوق وهو مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: يبدأ بجانبه الأيسر لأنه على يمين الحالق والحديث يرد عليه. والظاهر أن هذا الخلاف يأتي في قص الشارب قاله الشوكاني "فأعطاه" أي الشعر المحلوق "فقال اقسمه بين الناس" فيه مشروعية التبرك بشعر أهل الفضل ونحوه وفيه دليل على طهارته شعر الاَدمي وبه قال الجمهور.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه البخاري ومسلم.
تنبيه: ذكر صاحب العرف الشذي ههنا قصة الإمام أبي حنيفة والحجام المشهورة فقال: إن أبا حنيفة لما ذهب حاجاً ففرغ عن حجته وأراد الحلق فاستدبر القبلة، قال الحالق: استقبلها، ثم بدأ أبو حنيفة باليسار، قال الحالق ابدأ باليمين، ثم بعد الحلق أخذ أبو حنيفة أن يقوم وما دفن الأشمار، قال الحلق ادفنها، فقال أبو حنيفة: أخذت ثلاثة مسائل من الحالق، ثم قال هذه الحكاية ثبوتها لا يعلم انتهى كلامه بلفظه.
قلت: قال الحافظ بن حجر في التلخيص: وهي قصة مشهورة أخرجها ابن الجوزي في مثير العزم الساكن بإسناده إلى وكيع عنه انتهى. وقال الرافعي: وإذا حلق فالمستحب أن يبدأ بالشق الأيمن ثم الأيسر، وأن يكون مستقبل القبلة، وأن يكبر بعد الفراغ، وأن يدفن شعره انتهى كلام الرافعي. قال الحافظ في التلخيص: أما البداءة ففي الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى جمرة العقبة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق "خذ" وأشار إلى جانبه الأيمن فلما فرغ منه قسم شعره بين من يليه ثم أشار إلى الحلاق فحلق الأيسر الحديث. وأما استقبال القبلة فلم أره في هذا المقام صريحاً وقد استأنس له بعضهم بعموم حديث ابن عباس مرفوعاً: خير المجالس ما استقبلت به القبلة. أخرجه أبو داود وهو ضعيف. وأما التكبير بعد الفراغ فلم أره أيضاً. وأما دفن الشعر فقد سبق في الجنائز ولعل الرافعي أخذه من قصة(3/659)
ـ
ـــــــ
أبي حنيفة عن الحجام ففيها أنه أمره أن يتوجه قبل القبلة، وأمره أن يكبر وأمره أن يدفن وهي مشهورة إلى آخر ما نقلنا آنفاً(3/660)
74ـ باب ما جَاءَ في الحَلْقِ والتّقْصِير
916 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا اللّيْثُ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: "حَلَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحَلَقَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وقَصّرَ بَعْضُهُمْ قالَ ابنُ عُمَرَ إِنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "رَحِمَ الله المُحَلّقِينَ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ثُمّ قالَ والمُقَصّرِينَ".
قال: وفي البابِ عن ابنِ عبّاسٍ وابنِ أُمّ الحُصَيْنِ ومَارِبَ وأَبي سَعِيدٍ وأَبي مَرْيَمَ وحُبْشِيّ بنِ جُنَادَةَ وأَبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الحَلْقِ والتّقْصِير
قوله: "قال رحم الله المحلقين مرة أو مرتين الخ" لفظ حديث أبي هريرة عند الشيخين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا يا رسول الله وللمقصرين، قال "اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله وللمقصرين". والحديث يدل على أن الحلق أفضل من التقصير لتكريره صلى الله عليه وسلم الدعاء للمحلقين وترك الدعاء للمقصرين في المرة الأولى والثانية مع سؤالهم له ذلك. وظاهر صيغة المحلقين أنه يشرع حلق جميع الرأس لأنه الذي تقتضيه الصيغة إذ لا يقال لمن حلق بعض رأسه أنه حلقه إلا مجازاً. وقد قال بوجوب حلق الجميع أحمد ومالك واستحبه الكوفيون والشافعي ويجزيء البعض عندهم، واختلفوا في مقداره فعن الحنفية الربع إلا أن أبا يوسف قال النصف، وعن الشافعي أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة وهكذا الخلاف في التقصير، كذا في النيل.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وابن أم الحصين ومارب وأبي سعيد وأبي مريم وحبشي بن جنادة وأبي هريرة" أما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجه. وأما حديث ابن أم الحصين فلم أقف عليه، نعم أخرج مسلم عن أم الحصين(3/660)
قال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ والعملُ على هذَا عِنْدَ أهلِ العِلمِ يَخْتَارُونَ أَنْ يَحْلقَ رَأْسَهُ وإن قَصّرَ، يَرَوْنَ أَنّ ذَلِكَ يجزئ عَنْهُ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيانَ الثّوْرِيّ والشّافِعيّ وأَحمدَ وإسحاقَ.
ـــــــ
مرفوعاً وفيه: دعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة واحدة. وأما حديث مارب ويقال له قارب فأخرجه ابن مندة في الصحابة. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه ابن أبي شيبة. وأما حديث أبي مريم فأخرجه أحمد في مسنده. وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان. وقد ذكر العيني في عمدة القاري ألفاظ حديث هؤلاء الصحابة مع تراجمهم رضي الله عنهم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
قوله: "هو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق" قال الحافظ في الفتح: في حديث الباب من الفوائد أن التقصير يجزئ عن الحلق وهو مجمع عليه انتهى(3/661)
باب ما جاء في كراهية الحلق النساء
...
75ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الحَلْقِ للنّسَاء
917 ـ حدثنا محمدُ بنُ مُوسَى الجُرَشِيّ البَصْرِيّ حدثنا أبو دَاوُدَ الطّيَالِسِيّ حدثنا هَمّامٌ عن قَتَادَةَ عن خِلاَسِ بنِ عَمْرٍو عن عَلِيَ قالَ: "نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ تَحْلقَ المَرْأَةُ رَأسَهَا".
918 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا أبو دَاوُدَ عن هَمّامٍ عن خِلاَسٍ نَحْوَهُ ولمَ يَذْكُرْ فيهِ "عن عَلِي".
قال أبو عيسى: حديثُ عَلِي فيهِ اضْطِرَابٌ. وَرُوِيَ هذا الحَدِيثُ عن
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الحَلْقِ للنّسَاء
قوله: "عن خلاس" بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام "ابن عمرو" الهجري البصري ثقة "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها" أي في التحلل أو مطلقاً وفيه دليل على أنه لا يجوز الحلق للنساء في التحلل، بل المشروع لهن التقصير.
قوله: "حديث علي فيه اضطراب" فإنه رواه همام عن قتادة عن خلاس بن عمرو مرة مسنداً بذكر علي ومرة مرسلاً من غير ذكر علي، ورواه حماد بن(3/661)
حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ عن قَتَادَةَ عن عَائِشَةَ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ تَحْلِقَ المَرْأَةُ رَأْسَهَا. والعملُ على هذا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ لا يَرَوْنَ على المرأَةِ حَلْقاً، ويَرَوْنَ أنّ عَلَيْهَا التّقْصِيرَ.
ـــــــ.
سلمة عن قتادة عن عائشة. وقال عبد الحق في أحكامه: هذا حديث يرويه همام عن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي، وخالفه هشام الدستوائي وحماد بن سلمة فروياه عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً انتهى. وفي الباب عن ابن عباس مرفوعاً: ليس على النساء الحلق إنما على النساء التقصير. أخرجه أبو داود والدارقطني والطبراني، وقد قوى إسناده البخاري في التاريخ وأبو حاتم في العلل وحسنه الحافظ وأعله ابن القطان ورد عليه ابن الموفق فأصاب كذا في النيل.
وفي الباب أيضاً عن عائشة من وجه آخر أخرجه البزار وهو ضعيف، وعن عثمان رضي الله عنه أخرجه البزار وهو أيضاً ضعيف.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون على المرأة حلقاً ويرون أن عليها التقصير" وحكى الحافظ في الفتح الإجماع على ذلك(3/662)
باب ما جاء في من حلق قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمى
...
قال: وفي البابِ عن عَلِي وجَابرٍ وابنِ عبّاسٍ وابنِ عُمَرَ وأُسَامَةَ بنِ شَرِيكٍ.
قال أبو عيسى: حدِيثُ عبدِ الله بنِ عَمْروٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ أكثرِ أهْلِ العِلمِ وهُوَ قَوْلُ أحمدَ وإسحاقَ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلمِ إذا قَدّمَ نُسُكاً قَبْل نُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
ـــــــ
بعضها على بعض وعدم وجوب الدم، فإن قوله صلى الله عليه وسلم لا حرج ظاهر في رفع الإثم والفدية معاً لأن اسم الضيق يشملهما وهو مذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث.
قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه أحمد والترمذي "وجابر" أخرجه ابن جرير "وابن عباس" أخرجه الشيخان "وابن عمر" أخرجه البزار "وأسامة بن شريك" أخرجه أبو داود.
قوله: "حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق الخ" قال الطيبي رحمه الله: أفعال يوم النحر أربعة: رمي جمرة العقبة، ثم الذبح، ثم الحلق، ثم طواف الإفاضة، فقيل هذا الترتيب سنة وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق لهذا الحديث يعني لحديث عبد الله بن عمرو فلا يتعلق بتركه دم. وقال ابن جبير إنه واجب وإليه ذهب جماعة من العلماء، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأولوا قوله: ولا حرج ـ على دفع الإثم لجله دون الفدية انتهى. قال القاري: ويدل على هذا أن ابن عباس روى مثل هذا الحديث وأوجب الدم. فلولا أنه فهم ذلك وعلم أنه المراد لما أمر بخلافه انتهى كلام القاري. قلت: احتج الطحاوي بقول ابن عباس: من قدم شيئاً من نسكه أو أخره فليهرق لذلك دماً. قال وهو أحد من روى: أن لا حرج. فدل على أن المراد بنفي الحرج نفي الإثم فقط وأجيب بأن الطريق بذلك إلى ابن عباس فيها ضعف فإن ابن أبي شيبة أخرجها وفيها إبراهيم بن مهاجر وفيه مقال، وعلى تقدير الصحة فيلزم من يأخذ بقول ابن عباس أن يوجب الدم في كل شيء من الأربعة المذكورة ولا يخصه بالحلق قبل الذبح أو قبل الرمي(3/633)
77ـ باب ما جاءَ في الطّيبِ عِنْدَ الإحْلاَلِ قَبْلَ الزّيَارَة
920 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا هُشَيمٌ أخبرنا مَنْصُورُ "يعني بن زَاذَانَ" عن عبدِ الرحمَنِ بنِ القاسِمِ عن أبِيهِ عن عَائِشَةَ قَالَتْ "طَيّبْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أنْ يُحْرِمَ ويَوْمَ النّحْرِ قَبْلَ أنْ يَطُوفَ بالبَيْتِ بطيبٍ فيهِ مِسْكٌ".
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ العِلمِ مِنْ أصحْابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ يَرَوْنَ أنّ المُحْرِمَ إذَا رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ يَوْمَ النّحْرِ وذَبَحَ وحَلَقَ أوْ قَصّرَ فَقَدْ حَلّ لَهُ كُلّ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ إلاّ النّسَاءُ. وهُوَ قَوْلُ الشّافِعيّ وأحمدَ وإسحاقَ. وقد رُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ أنّهُ قَالَ: حَلّ لَهُ كلّ شَيْءٍ إلاّ النّسَاءَ والطّيبَ. وقد ذَهَبَ بَعْضُ أهْل العِلمِ إلى هذا مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهم وهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الكُوفَةِ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الطيب عند الإحلال قبل الزيارة" أي قبل طواف الزيارة
قوله: "ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب الخ" هذا دليل صريح على أنه يجوز استعمال الطيب يوم النحر قبل الطواف بالبيت. وهو الراجح المعول عليه "وفي الباب عن ابن عباس" قال إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء، فقال له رجل يا ابن عباس والطيب؟ فقال أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟ أخرجه النسائي وابن ماجه. قوله: "وهو الشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول الحنفية.
قوله: "وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: حل له كل شيء إلا النساء والطيب" أخرجه محمد في الموطأ بلفظ: من رمى الجمرة ثم حلق أو قصر ونحر هدياً إن كان معه حل له ما حرم عليه في الحج إلا النساء والطيب حتى يطوف بالبيت "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم"(3/664)
ـــــــ
وبه قال ابن عمر رضي الله عنه وهو قول مالك "وهو قول أهل الكوفة" ليس المراد بأهل الكوفة الإمام أبا حنيفة لأن مذهبه في هذا الباب هو ما ذهب إليه الشافعي وأحمد وإسحاق. قال محمد في الموطأ بعد رواية أثر عمر رضي الله عنه المذكور: هذا قول عمر وابن عمر، وقد روت عائشة خلاف ذلك قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين بعد ما حلق قبل أن يزور البيت، فأخذنا بقولها. وعليه أبو حنيفة والعامة من فقهائنا انتهى. وقد استدل لمالك بما روى الحاكم عن عبد الله بن الزبير قال: من سنة الحج إذا رمى الجمرة الكبرى حل له شيء حرم عليه إلا النساء والطيب حتى يزور البيت. لكن زيادة الطيب في هذه الرواية شاذة كما صرح به الحافظ في الدراية، والقول الراجح القوي هو ما ذهب إليه الشافعي وغيره(3/665)
78ـ باب ما جَاءَ مَتى تقطع التّلْبِيَة في الحَج
921 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا يَحْيى بنُ سَعيدٍ عن ابن جريج عن عطاء عن ابنِ عَبّاسٍ عن الفَضْلِ بنِ عبّاسٍ قالَ: "أَرْدَفَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ جَمْعٍ إلى مِنًى فَلَمْ يَزَلْ يُلَبّي حَتّى رَمَى الجَمْرَةَ".
وفي البابِ عن عَلِي وابنِ مَسْعُودٍ وابنِ عبّاسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ الفَضْلِ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَمَلُ على هذا عِنْدَ أهْلِ العِلمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِم أَنّ الحاجّ لا يقْطَعُ التّلْبِيَةَ حتى يَرْمِيَ الجَمْرَةَ. وهُوَ قَولُ الشّافِعيّ وأَحمدَ وإسحاقَ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ مَتى تقطع التّلْبِيَة في الحَج
قوله: "من جمع" بفتح الجيم وسكون الميم اسم للمزدلفة "حتى رمى جمرة العقبة" وفي رواية لمسلم: حتى بلغ الجمرة. قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه البيهقي وابن مسعود أخرجه أبو داود بلفظ: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة كذا في الدراية "وابن عباس" أخرجه ابن جرير.
قوله: "حديث الفضل حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة كذا في المنتقى "أن الحاج لا يقطع التلبية حتى يرمي الجمرة وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق"(3/665)
ـــــــ
قال الحافظ في الفتح: واختلفوا هل يقطع التلبية مع رمي أول حصاة أو عند تمام الرمي؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني أحمد وبعض أصحاب الشافعي، ويدل لهم ما روى ابن خزيمة من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل قال: أفضت مع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفات فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة ثم قطع التلبية مع آخر حصاة . قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسر لما أبهم في الروايات الأخرى وأن المراد بقوله حتى رمى جمرة العقبة أي أتم رميها انتهى كلام الحافظ. قال الشوكاني والأمر كما قال ابن خزيمة فإن هذه زيادة مقبولة خارجة من مخرج صحيح غير منافية للمزيد وقبولها متفق عليه انتهى. قلت: واحتج الجمهور برواية مسلم بلفظ: حتى بلغ الجمرة وبحديث ابن مسعود المذكور. قال النووي في شرح مسلم: قوله لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة دليل على أنه يستديم التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة غداة يوم النحر، وهذا مذهب الشافعي وسفيان الثوري وأبي حنيفة وأبي ثور وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ومن بعدهم. وقال الحسن البصري: يلبي حتى يصلي الصبح يوم عرفة ثم يقطع، وحكي عن علي وابن عمر وعائشة ومالك وجمهور فقهاء المدينة أنه يلبي حتى تزول الشمس يوم عرفة ولا يلبي بعد الشروع في الوقوف. وقال أحمد وإسحاق وبعض السلف: يلبي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة. ودليل الشافعي والجمهور هذا الحديث الصحيح. ولا حجة للآخرين في مخالفتها فيتعين إتباع السنة، وأما قوله في الرواية الأخرى فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة فقد يحتج به أحمد وإسحاق لمذهبهما، ويجيب الجمهور عنه بأن المراد حتى شرع في الرمي ليجمع بين الروايتين انتهى كلام النووي. قلت: رواية ابن خزيمة المذكورة تخدش هذا الجواب(3/666)
79ـ باب ما جَاءَ مَتى تُقْطَعُ التّلْبِيَة في العُمْرَة
922 ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا هُشَيْمٌ عن ابنِ أبي لَيْلَى عنْ عَطَاءٍ
ـــــــ
باب ما جَاءَ مَتى تُقْطَعُ التّلْبِيَة في العُمْرَة
قوله: "عن ابن أبي ليلى" هو محمد بن عبد الرحمَن بن أبي ليلى كما صرح به المنذري. قال الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ جداً.(3/666)
عَنِ ابن عبّاسٍ "يَرْفَعُ الحديثَ" : "إنّهُ كَانَ يُمْسِكُ عن التّلْبِيَةِ في العُمْرَةِ إِذَا اسْتَلَمَ الحَجَرَ".
وفي البابِ عنْ عبدِ الله بنِ عَمْروٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ صحيحٌ. والعملُ عَليهِ عِنْدَ أكْثَرِ أَهِل العلمِ قالُوا لا يَقْطَعُ المُعْتَمِرُ التّلْبِيَةَ حَتى يَسْتلِمَ الحجَرَ. وقالَ بعْضُهُمْ إذَا انْتَهى إلى بُيُوتِ مَكّةَ قَطَعَ التّلْبِيَةَ. والعملُ على حديثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وبِهِ يقُولُ سفيان والشّافِعِيّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ.
ـــــــ
قوله: "قال يرفع الحديث" أي قال عطاء يرفع ابن عباس الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه أبو داود بلفظ: حدثنا مسدد أخبرنا هشيم عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر "أنه كان" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا استلم الحجر" أي الحجر الأسود يقال: استلم الحجر إذا لمسه وتناوله .
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" لينظر من أخرجه.
قوله: "حديث ابن عباس حديث صحيح" قال المنذري: في إسناده محمد بن عبد الرحمَن بن أبي ليلى وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة انتهى. وقد عرفت أنه سيء الحفظ جداً، ففي صحة هذا الحديث نظر. وقال أبو داود بعد روايته: رواه عبد الملك بن أبي سليمان وهمام عن عطاء عن ابن عباس موقوفاً انتهى.
قوله: "قالوا لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الحجر" واستدلوا بحديث الباب وظاهره أن المعتمر يلبي في حال دخوله المسجد وبعد رؤية البيت وفي حال مشيه حتى يشرع في الاستلام ويستثني منه الأوقات التي فيها دعاء مخصوص "وقال بعضهم: إذا انتهى إلى بيوت مكة قطع التلبية" لم يقم على هذا القول دليل وهو مخالف لحديث الباب(3/667)
80ـ باب ما جاء في طَوَافِ الزّيارَةِ باللّيْل
923 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ، حدثنا عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي حدثنا سُفْيانُ عن أبي الزّبيْرِ عن ابنِ عَبّاسٍ وعائشةَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أخّرَ طَوَافَ الزّيارَةِ إِلى اللّيْلِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح. وقَد رَخّصَ بَعْضُ أهلِ العلِمِ في أَنْ يُؤَخّرَ
ـــــــ
باب ما جاء في طَوَافِ الزّيارَةِ باللّيْل
قوله : "أخر طواف الزيارة إلى الليل" قال ابن القطان الفاسي: هذا الحديث مخالف لما رواه ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه طاف يوم النحر نهاراً انتهى . قلت: روى الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى. وروى مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر. وقد أشار الإمام البخاري في صحيحه إلى الجمع بين الأحاديث بأن يحمل حديث ابن عمر وجابر على اليوم الأول، وحديث ابن عباس وعائشة هذا على بقية الأيام. قال البخاري في صحيحه: باب الزيارة يوم النحر. وقال أبو الزبير عن عائشة وابن عباس: أخر النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة إلى الليل. ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى . وقال لنا أبو نعيم: حدثنا سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه طاف طوافاً واحداً ثم أتى منى يعني يوم النحر، ورفعه عبد الرزاق قال حدثنا عبيد الله، ثم ذكر البخاري حديث أبي سلمة أن عائشة قالت: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر الحديث . قال الحافظ في الفتح: ولرواية أبي حسان شاهد مرسل أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة: حدثنا ابن طاوس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة انتهى . قلت: حديث ابن عباس وعائشة المذكور في هذا الباب ضعيف كما ستعرف فلا حاجة إلى الجمع الذي أشار إليه البخاري، وأما على تقدير الصحة فهذا الجمع متعين.
قوله: "هذا حديث حسن" في كون هذا الحديث حسناً نظر، فإن أبا الزبير ليس له سماع من ابن عباس وعائشة كما صرح به الحافظ ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل.(3/668)
طَوَافَ الزّيارَةِ إِلى اللّيْلِ واسْتَحَبّ بَعْضُهُمْ أنْ يَزُورَ يَوْمَ النّحْرِ وَوسّعَ بَعْضُهُم أَنْ يُؤَخرَ ولَوْ إلى آخِرِ أَيّامِ مِنَى.
ـــــــ
قوله: "وقد رخص بعض أهل العلم في أن يؤخر طواف الزيارة إلى الليل" قال في زاد المعاد أفاض صلى الله عليه وسلم إلى مكة قبل الظهر راكباً فطاف طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة والصدر ولم يطف غيره ولم يسع معه. هذا هو الصواب، وطائفة زعمت أنه لم يطف في ذلك اليوم وإنما أخر طواف الزيارة إلى الليل، وهو قول طاؤس ومجاهد وعروة. واستدلوا بحديث ابي الزبير المكي عن عائشة المخرج في سنن أبي داود والترمذي. قال الترمذي: حديث حسن. وهذا الحديث غلط بين خلاف المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم الذي لا يشك فيه أهل العلم بحجته صلى الله عليه وسلم. وقال أبو الحسن القطان: عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح، إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهاراً، وإنما اختلفوا هل هو صلى الظهر بمكة أو رجح إلى منى فصلى الظهر بها بعد أن فرغ من طوافه؟ فإبن عمر يقول إنه رجع إلى منى فصلى الظهر بها وجابر يقول إنه صلى الظهر بمكة وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنه أخر الطواف إلى الليل، وهذا شيء لم يرو إلا من هذا الطريق. وأبو الزبير مدلس لم يذكر ههنا سماعاً من عائشة انتهى(3/669)
باب ما جاء في نزول الأبطح
...
قال: وفي البابِ عن عائشةَ وأبي رافِعٍ وابنِ عبّاسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَرَ حديثٌ صحيح حسنٌ غريبٌ. إنّما نَعْرِفُهِ مِنْ حدِيثِ عبدِ الرّزّاقِ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ: وقَد اسْتَحَبّ بَعْضُ أهلِ العِلْمِ نُزُولَ الأبْطَحِ منْ غَيْرِ أن يَرَوْا ذَلِكَ واجِباً إلاّ من أحَبّ
ـــــــ
نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن عائشة: إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبطح لأنه كان أسمح لخروجه . قال النووي: فحصل خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم ومذهب الشافعي ومالك والجمهور استحبابه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وغيرهم، وأجمعوا على أن من تركه لا شيء عليه، ويستحب أن يصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت به بعض الليل أو كله اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" قالت: نزول الأبطح ليس بسنة إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج، أخرجه الشيخان وغيرهما "وأبي رافع" قال لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من منى ولكن جئت فضربت قبته فجاء فنزل، أخرجه مسلم وأبو داود "وابن عباس" أخرجه الترمذي والشيخان.
قوله: "حديث ابن عمر حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "وقد استحب بعض أهل العلم نزول الأبطح من غير أن يروا ذلك واجباً" وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والجمهور، قال العيني: قال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري: التحصيب مستحب عند جميع العلماء، وقال شيخنا زين الدين وفيه نظر لأن الترمذي حكى استحبابه عن بعض أهل العلم وحكى النووي استحبابه عن مذهب الشافعي ومالك والجمهور وهذا هو الصواب. وقد كان من أهل العلم من لا يستحبه فكانت أسماء وعروة بن الزبير لا يحصبان حكاه ابن عبد البر انتهى كلام العيني. والاستحباب هو الحق لتقريره صلى الله عليه وسلم على ذلك وقد فعله الخلفاء بعده. ومما يدل على استحباب التحصيب ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث قاسمت قريشاً على الكفر(3/670)
ذلِكَ: قالَ الشّافِعيّ: ونُزُولُ الأبطَحِ لَيْسَ منَ النّسُكِ في شيءٍ إنّما هُوَ مَنْزلٌ نَزَلَهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
925 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، حدثنا سُفيَانُ عن عَمْرِو بنِ دِينَار عن عَطاءٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: "لَيْسَ التّحْصيبُ بشيء إنّما هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم".
قال أبو عيسى: التّحْصيبُ نُزُولُ الأبْطَحِ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
.
ـــــــ
يعني المحصب وذلك أن بني كنانة حالفت قريشاً على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يؤووهم ولا يبايعوهم قال الزهري: والخيف الوادي. وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين أراد أن ينفر من منى: نحن نازلون غداً فذكر نحوه.
قوله: "وليس التحصيب بشيء " أي من أمر المناسك الذي يلزم فعله. قاله ابن المنذر. قال الحافظ: من نفى أنه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم لا الإلزام بذلك انتهى(3/671)
82ـ باب
926 ـ حدثنا محمدُ بنُ عَبْدِ الأعْلَى حدثنا يزِيدُ بنُ زُرَيعٍ حدثنا حَبيبٌ المُعَلّمُ عن هِشامِ بنِ عُروَةَ عن أبيهِ عن عائشةَ قالَت: "إنّما نَزَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأبْطَحَ لأنّهُ كانَ أسْمَحَ لِخُروجِهِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب
قوله: "لأنه كان أسمح لخروجه" أي أسهل لتوجهه إلى المدينة ليستوي في ذلك البطيء أو المعتدل ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة قاله الحافظ.(3/671)
927- حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن هشام بن عروة نحوه
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما(3/672)
83 ـ باب ما جَاءَ في حَجّ الصّبي
928 ـ حدثنا محمدُ بنُ طَريفٍ الكُوفيّ حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عنْ مُحمدِ بنِ سُوْقَةَ عَنْ محمد بن المنكدر عن جابِرِ بنِ عبدِ الله قالَ: "رَفَعَتْ امْرَأَةٌ صَبِياً لها إلى رسوُلِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَتْ يا رَسولَ الله أَلِهَذَا حَجّ قال: نَعَمْ ولَكِ أَجْرٌ".
قال: وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في حَجّ الصّبي
قوله: "محمد بن طريف" بن خليفة البجلي أبو جعفر الكوفي عن عمرو بن عبيد وأبي بكر بن عياش وأبي معاوية وعنه م د ت ق صدوق مات سنة 242 اثنتين وأربعين ومائتين "أخبرنا أبو معاوية" اسمه محمد بن حازم التميمي الضرير الكوفي ثقة "عن محمد بن سوقة" بضم السين المهملة وسكون الواو والغنوي أبو بكر الكوفي العابد ثقة مرضي عابد من الخامسة.
قوله: "قال نعم ولك أجر" قال النووي: فيه حجة للشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزئه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعاً، وهذا الحديث صريح فيه. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصح حجه. قال أصحابه وإنما فعلوه تمريناً له ليعتاده فيفعله إذا بلغ، وهذا الحديث يرد عليهم، قال ابن بطال: أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ إلا أنه إذا حج به كان له تطوعاً عند الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يصح إحرامه ولا يلزمه شيء بفعل شيء من محظورات الإحرام وإنما يحج به على جهة التدريب كذا في فتح الباري. قلت: واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "نعم ولك أجر". وهو حجة على أبي حنيفة.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء فقال: "من القوم؟" قالوا المسلمون: فقالوا من أنت: فقال رسول الله صلى الله(3/672)
حديث جابر حديث غريب.
929 ـ حدثنا قتيبة حدثنا قزعة بن سويد الباهلي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه يعني حديث محمد بن طريف.
"قال أبو عيسى: وقد روي عن محمد بن المنكدر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً"
930 ـ حدثنا قتيبة حدثنا حاتم بن اسماعيل عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال: حج بي أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقد أجمع أهل العلم أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا أدرك لا تجزيءُ عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم اعتق
ـــــــ
عليه وسلم فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت ألهذا حج؟ قال نعم ولك أجر . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. قوله: "حديث جابر حديث غريب" لم يحكم الترمذي على هذا الحديث بشيء من الصحة والحسن والظاهر أنه حسن ويشهد له حديث ابن عباس المذكور. قوله: "أخبرنا قزعة" بفتح القاف والزاي والعين "ابن سويد" بالتصغير أبو محمد البصري ضعيف قاله الحافظ: قوله: "حج بي أبي" وقال ابن سعد عن الواقدي عن حاتم: حجت بي أمي ويجمع بينهما بأنه كان مع أبويه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري. قوله: "قد أجمع أهل العلم أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك" من الإدراك أي يبلع "فعليه الحج إذا أدرك لا تجزئ عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام" وشذ بعضهم فقال: إذا حج الصبي أجزأه ذلك عن حجة الإسلام. لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم نعم في جواب قولها ألهذا حج، وقال الطحاوي: لا حجة فيه لذلك بل فيه حجة على من زعم أنه لا حج له لأن ابن عباس راوي الحديث قال: أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى. ثم ساقه بإسناد صحيح. وقد أخرج هذا الحديث مرفوعاً الحاكم وقال على(3/673)
فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلاً ولا يجزيء عنه ما حج في حال رقه وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.
931 ـ حدثنا محمد بن إسماعيل الواسطي قال: سمعت ابن نمير عن أشعث بن سوار عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا إذا حججنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فكنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقد اجمع أهل العلم على أن المرأة لا يلبي عنها غيرها بل هي تلبي عن نفسها ويكره لها رفع الصوت بالتلبية.
ـــــــ
شرطهما، والبيهقي وابن حزم وصححه، وقال ابن خزيمة الصحيح موقوف. وأخرجه كذلك. قال البيهقي: تفرد برفعه محمد بن المنهال، ورواه الثوري عن شعبة موقوفاً ولكنه قد تابع محمد بن المنهال على رفعه الحارث بن شريح أخرجه كذلك الإسماعيلي والخطيب، ثم ذكر الشوكاني روايات أخرى قال: فيؤخذن مجموع هذه الأحاديث أنه يصح حج الصبي ولا يجزئه عن حجة الإسلام إذا بلغ، وهذا هو الحق فتعين المصير إليه جمعاً بين الأدلة انتهى.
قوله: "فكنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان" وأخرج هذا الحديث أحمد وابن ماجه وابن أبي شيبة بلفظ: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم. قال ابن القطان: ولفظ ابن أبي شيبة أشبه بالصواب، فإن المرأة لا يلبي عنها غيرها أجمع على ذلك أهل العلم. قوله: "هذا حديث غريب" ومع غرابته ضعيف. فإن في سنده أشعث بن سوار وهو ضعيف كما صرح به الحافظ في التقريب، وفيه أيضاً أبو الزبير المكي وهو مدلس ورواه عن جابر بالعنعنة.(3/674)
84 ـ باب ما جاءَ في الحجّ عن الشّيْخ الكبير والميت
932 ـ حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا روح بن عبادة أخبرنا
ـــــــ
باب ما جاءَ في الحجّ عن الشّيْخ الكبير والميت
قوله: "حدثنا روح بن عبادة" بفتح راء وسكون واو وإهمال حاء ومن ضم(3/674)
ابن جريج أخبرني ابن شهاب قال حدثني سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباسٍ أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إنّ أبي أدْرَكته فريضة الله في الحج وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يستوي على ظهر البعير قال: "حجّي عنه".
قال وفي الباب عن علي وبريدة وحصين بن عوف وأبي رزين العقيلي وسودة بنت زمعة وابن عباس.
قال أبو عيسى: حديث الفضل بن عباس حديث حسن صحيح وروي عن ابن عباس أيضاً عن سنان بن عبد الله الجهني عن عمته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وروي عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
الراء أخطأ كذا في المغنى. قوله: "أن امرأة من خثعم" بفتح الخاء المعجمة والعين المهملة أبو قبيلة من اليمن سموا به ويجوز منعه وصرفه "وهو شيخ كبير" قال الطيبي بأن أسلم شيخاً وله المال أو حصل له المال في هذا الحال لا يستطيع أن يستوي على ظهر البعير "استئناف مبين قال حجي عنه" فيه دليل على جواز الحج عن غيره إذا كان معضوباً، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، قاله العيني.
قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه البيهقي بلفظ أن امرأة من خثعم شابة قالت يا رسول الله إن أبي شيخ كبير أدركته فريضة الله على عباده في الحج لا يستطيع أداءها، فيجزي عنه أن أؤديها؟ قال نعم. ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه "وبريدة" أخرجه الترمذي ومسلم "وحصين بن عوف" أخرجه ابن ماجه من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس قال: حدثني حصين بن عوف قلت يا رسول الله إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج إلا معترضاً، فصمت ساعة ثم قال حج عن أبيك انتهى . قال العقيلي: قال أحمد: محمد بن كريب منكر الحديث كذا في نصب الراية "وأبي رزين العقيلي" أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال على شرط الشيخين "وسودة" أخرجه الطبراني وذكر الزيلعي سنده ومتنه في نصب الراية "وابن عباس" أخرجه الشيخان.(3/675)
وسألت محمداً عن هذه الروايات؟ فقال أصح شيء في هذا الباب ما روى ابن عباس عن الفضل بن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال محمد ويحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم روى هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأرسله ولم يذكر الذي سمعه منه.
ـــــــ
قوله: "وروي عن ابن عباس أيضاً عن سنان بن عبد الله الجهني عن عمته عن النبي صلى الله عليه وسلم" قيل في قول الترمذي هذا نظر من حيث أن الموجود بهذا الإسناد هو حديث آخر في المشي إلى الكعبة لا عن الكبير العاجز، رواه الطبراني من رواية عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن كريب عن كريب عن ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني: أن عمه حدثته أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله توفيت أمي وعليها مشي إلى الكعبة نذراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تستطيعين أن تمشي عنها"؟ قالت نعم، قال "فامشي عن أمك"، قالت أو يجزئ ذلك عنها؟ قال "نعم أرأيت لو كان عليها دين ثم قضيتيه عنها هل كان يقبل منك"؟ قالت نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فالله أحق بذلك".
وأجيب عنه بأنه أراد أن يبين الاختلاف في هذا الحديث عن ابن عباس في المتن والإسناد معاً وهذا اختلاف في متنه كذا في عمدة القاري. قلت: لو كان إرادة الترمذي بيان الاختلاف في هذا الحديث في المتن أيضاً ساق لفظ حديث ابن عباس عن سنان بن عبد الله عن عمته، فالظاهر أنه قد جاء بهذا الإسناد حديث في الحج عن الكبير العاجز أيضاً. وقد وقف عليه الترمذي والبخاري ولم يقف عليه من تعقب على الترمذي في قوله المذكور والله تعالى أعلم.
قوله: "فقال أصح شيء في هذا ما روى ابن عباس عن الفضل بن عباس الخ". قال الحافظ في الفتح: إنما رجح البخاري الرواية عن الفضل لأنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وكان ابن عباس قد تقدم من مزدلفة إلى منى مع الضعفة، وقد سبق في باب التلبية والتكبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل فأخبر الفضل: أنه لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة، فكأن الفضل حدث أخاه بما شاهده في تلك الحالة، انتهى كلام الحافظ.(3/676)
قال أبو عيسى: وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم وبه يقول الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق يرون أن يحج عن الميت وقال مالك: إذا أوصى أن يحج عنه حج عنه وقد رخص بعضهم أن يحج عن الحي إذا كان كبيراً أو بحال لا يقدر أن يحج وهو قول ابن المبارك والشافعي.
ـــــــ
قوله: "وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث" أي أحاديث كثيرة وقد ذكرها الزيلعي في نصب الراية.
قوله: "وبه يقول الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق يرون أن يحج عن الميت" وبه قال أبو حنيفة: قال محمد في موطأه: لا بأس بالحج عن الميت وعن المرأة والرجل إذا بلغا من الكبر مالا يستطيعان أن يحجا، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا انتهى.
قوله: "وقال مالك إذا أوصى أن يحج عنه حج عنه إلخ" قال العيني في شرح البخاي: وحاصل ما في مذهب مالك ثلاثة أقوال مشهورها: لا يجوز. ثانيها: يجوز من الولد، ثالثها: يجوز إن أوصى به. وعن النخعي وبعض السلف: لا يصح الحج عن ميت ولا عن غيره. وهي رواية عن مالك وإن أوصى به. وفي مصنف ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: لا يحج أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد، وكذا قال إبراهيم النخعي. وقال الشافعي والجمهور: يجوز الحج عن الميت عن فرضه ونذره سواء أوصى به أو لم يوص. وهو واجب في تركته انتهى "وقد رخص بعضهم أن يحج عن الحي إذا كان كبيراً إلخ". وهو قول أحمد وإسحاق وأي حنيفة كما تقدم(3/677)
85 ـ باب منه
933 ـ حدثنا يوسف بن عيسى حدثنا وكيع عن شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبيّ
ـــــــ
باب منه
قوله: "عن عمرو بن أوس" بفتح الهمزة وسكون الواو وبالسين المهملة(3/677)
صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، ولا الظعن قال: حج عن أبيك واعتمر.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وإنما ذكرت العمرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن يعتمر الرجل عن غيره. وأبو رزين العقيلي اسمه لقيط بن عامر.
934 ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الله بن عطاء قال وحدثنا علي بن حجر، حدثنا علي بن مهر عن عبدالله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: جاءت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج
ـــــــ
الثقفي الطائفي بابعي كبير من الثانية، ووهم من ذكره في الصحابة "عن أبي رزين" بفتح الراء وكسر الزاء "العقيلي" بالتصغير واسمه لقيط بن عامر كذا في فتح الباري.
قوله: "فقال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير إلخ" قال الحافظ في الفتح: هذه قصة أي غير قصة الخثعمية قال ومن وحد بينها وبين حديث الخثمعي فقد أبعد وتكلف "ولا الظعن" بفتح ظاء وسكون عين وحركتها الراحلة أي لا يقوى على السير ولا على الركوب من كبر السن كذا في المجمع "حج عن أبيك" فيه جواز الحج عن الغير، واستدل الكوفيون بعمومة على جواز صحة حج من لم يحج نيابة عن غيره، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه واستدلوا بما في السنن وصحيح ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يلي عن شبرمة فقال: أحججب عن نفسك؟ فقال: لا، قال: حج عن نفسك ثم احجج عن شبرمة . كذا في الفتح. قلت: الظاهر الراجح هو قول الجمهور والله تعالى أعلم "واعمر" استدل به من قال بوجوب العمرة. قال الإمام أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثاً أجود من هذا ولا أصح منه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وسكت عنه ونقل المنذري في تلخيصه تصحيح الترمذي وأقره وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه وغيرهم كما تقدم.
قوله: "وأبو رزين العقيلي اسمه لقيط بن عامر" قال الحافظ في التقريب: لقيط بن صبره بفتح المهلمة وكسر الموحدة صحابي مشهور ويقال إنه جده واسم(3/678)
عنها؟ قال: نعم حجي عنها.
قال: وهذا حديث "حسن" صحيح.
ـــــــ
أبيه عامر وهو رزين العقيلي والأكثر على أنهما اثنان انتهى. قوله: "قال نعم حجي عنها" فيه جواز الحج عن الميت. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأخرجه الحاكم في المستدك وزاد فيه الصوم: والصدقة وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه كذا في نصب الراية(3/679)
86ـ باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا؟
935 ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصّنعاني حدثنا عمرو بن علي عن الحجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال: "لا وأن تعتمروا هو أفضل".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ـــــــ
باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا
قوله: "عن الحجاج" هو ابن أرطاة الكوفي القاضي أحد الفقهاء صدوق كثير الخطأ والتدليس. قوله: "قال لا وأن يعتمروا هو أفضل" احتج به الحنفية والمالكية على أن العمرة ليست بواجبة لكن الحديث ضعيف كما ستعرف.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال الحافظ في الفتح: في إسناده الحجاج وهو ضعيف، وقد روى ابن لهيعة عن عطاء بن جابر مرفوعاً الحج والعمرة فريضتان أخرجه ابن عدي وابن لهيعة ضعيف، ولا يثبت في هذا الباب عن جابر شيء، بل روى ابن الجهم المالكي بإسناد حسن عن جابر: ليس مسلم إلا عليه عمرة. موقوف على جابر وانتهى. وقال العيني في شرح البخاي: فإن قلت: قال المنذري: وفي تصحيحه له نظر فإن سنده الحجاج بن أرطاة ولم يحتج به الشيخان في صحيحهما وقال ابن حبان: تركه ابن المبارك ويحيى القطان وابن معين وأحمد. وقال: قال الدارقطني لا يحتج به، وإنما روى هذا الحديث موقوفً على جابر. وقال البيهقي ورفعه ضعيف. قلت: قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في كتاب الإمام: وهذا الحكم بالتصحيح في رواية الكرخي لكتاب الترمذي وفي رواية(3/679)
وهو قول بعض أهل العلم قالوا العمرة ليست بواجبة وكان يقال هما حجان: الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة. وقال الشافعي العمرة سنة لا نعلم أحداً رخص في تركها وليس فيها شيء ثابت بأنها تطوع وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسناد وهو ضعيف، لا تقوم
ـــــــ
غيره حسن لا غير.
وقال شيخنا زين الدين: لعل الترمذي إنما حكم عليه بالصحة لمجيئه من وجه آخر فقد رواه يحيى بن أيوب عن عبد الله بن عمر عن أبي الزئير عن جابر: قلت يا رسول الله العمرة فريضة كالحج؟ قال لا، وأن تعتمر خير لك . ذكره صاحب الإمام. وقال إعترض عليه بضعف عبد الله بن عمر العمري قال العيني: رواه الدارقطني من رواية يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن المغيرة عن أبي الزبير عن جابر قال: قلت يا رسول الله العمرة واجبة فريضتها كفريضة الحج؟ قال لا وأن تعتمر خير لك. ورواه البيهقي من رواية يحيى بن أبي أيوب عن عبيد الله غير منسوب عن أبي الزبير. ثم قال وهو عبيد الله بن المغيرة تفرد به عن أبي الزبير. وروى ابن ماجه من حديث طلحة بن عبيدالله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحج جهاد والعمرة تطوع، وروى عبد الباقي بن قانع من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وكذا روى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه انتهى.
قوله: "وهو قول بعض أهل العلم قالوا العمرة ليست بواجبة" وهو قول الحنفية والمالكية واستدلوا بحديث الباب قد عرفت أنه ضعيف لا يصلح للاحتجاج.
قوله: "وكان يقال هما حجان الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة" قال في مجمع البحار: ومنه الحج الأكبر هو يوم النحر أو يوم عرفة ويسمون العمرة الحج الأصغر وأيام الحج كلها أو القران أو يوم حج أبو بكر، والأصغر العمرة أو يوم عرفة أو الإفراد انتهى ما في المجمع "وقال الشافعي: العمرة سنة" أي واجبة ثابتة بالسنة، قال العيني: قال شيخنا زين الدين ما حكاه الترمذي عن الشافعي لا يريد به أنها ليست بواجبة بدليل قوله لا نعلم أحداً رخص في تركها لأن السنة التي يراد بها خلاف الواجب يرخص تركها قطعاً، والسنة تطلق ويراد بها الطريقة وغير سنة الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى. "قال" أي الشافعي "وقد روى" أي في كون العمرة تطوعاً "عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف"(3/680)
بمثله الحجة وقد بلغنا عن ابن عباس أنه كان يوجبها
ـــــــ
وقد تقدم آنفاً الأحاديث التي رويت في كون العمرة تطوعاً "وقد بلغنا عن ابن عباس أنه كان يوجبها" أخرج الشافعي وسعيد بن منصور كلاهما عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت طاوساً يقول سمعت ابن عباس يقول: والله إنها لقرينتها في كتاب الله {وأتموا الحج والعمرة لله} وللحاكم من طريق عطاء عن ابن عباس: الحج والعمرة فريضتان وإسناده ضعيف. والضمير في قوله لقرينتها للفريضة وكأن أصل الكلام أن يقول: لقرينته لأن المراد الحج كذا في فتح الباري. وقد ذهب الشافعي وأحمد وغيرهما من أهل الأثر إلى وجوب العمرة واختاره البخاري في صحيحه، واستدلوا بقول ابن عباس المذكور، وذكره البخاري تعليقاً. وبقول ابن عمر رضي الله عنه ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إليه سبيلاً فمن زاد شيئاً فهو خير وتطوع . أخرجه ابن خزيمة والدارقطني والحاكم وذكره البخاري وتعليقاً. وقال سعيد بن أبي عروبة في المناسك عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: الحج والعمرة فريضتان، وبقول صبي بن معبد لعمر: رأيت الحج والعمرة مكتوبين عليفأهللت بهما فقال له هديت لسنة نبيك. أخرجه أبو داود. وروى ابن خزيمة وغيره في حديث عمر سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام فوقع فيه أن تحج وتعتمر وإسناده قد أخرجه مسلم لكن لم يسق لفظه، وبأحاديث أخر غير ما ذكر، وبقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي أقيموهما، والظاهر هو وجوب العمرة والله تعالى أعلم(3/681)
87 ـ باب مِنْه
936 ـ حدثنا أَحمدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ حدثنا زِيادُ بنُ عَبْدِ الله عن يزيدَ بنِ أبي زِيادٍ عن مُجَاهِدٍ عَن ابنِ عَبّاسٍ "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: دَخَلَتْ العُمْرَةُ في الحَجّ إلى يَوْمِ القيَامَةِ".
وفي البابِ عنْ سُرَاقَةَ بنِ جَعْشُمٍ وجَابِرِ بنِ عبدِ الله.
ـــــــ
باب منه
قوله: " دخلت العمرة في الحج" أي في أشهر الحج.
قوله: "وفي الباب عن سراقة" بضم السين "بن مالك بن جعشم" بضم الجيم(3/681)
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عَبّاسِ حديثٌ حسنٌ. ومَعْنى هذا الحديثِ. أَنْ لا بأْسَ بالْعُمرةِ في أشْهُرِ الحَجّ. وهكذا فسّره الشّافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ. ومَعْنى هذا الحديثِ: أن أَهْلَ الجَاهِلِيّةِ كانُوا لا يَعْتَمِرُونَ في أشْهُر الحَجّ، فَلَمّا جاءَ الإسْلاَمُ رَخّصَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلكَ فقالَ: دَخَلَتْ
ـــــــ
والشين صحابي مشهور من مسلمة الفتح مات في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة 42 أربع وعشرين وقيل بعدها. أخرج النسائي وابن ماجه من طريق طاوس عن سراقة أنه قال: يا رسول الله أرأيت عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال لا بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة . ولطاوس عن سراقة في اتصاله نظر ولكن أخرجه الدارقطني من طريق أبي الزبير عن جابر عن سراقة "وجابر بن عبد الله" أخرج مسلم حديثه الطويل في قصة حج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة، فقال سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد، فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن" في إسناده زياد بن عبد الله بن الطفيل العامري البكائي أبو محمد الكوفي صدوق ثبت في المغازي وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين، ولم يثبت أن وكيعاً كذبه، وله في البخارى موضع واحد متابعة. وفي إسناد هذا الحديث أيضاً يزيد بن أبي زياد الهاشمي مولاهم الكوفي ضعيف كبر فتغير صار يتلقن وكان شيعياً، فتحسين الترمذي لعله لشواهده.
قوله "ومعنى هذا الحديث: أن لا بأس بالعمرة في أشهر الحج وهكذا قال الشافعي وأحمد وإسحاق" قال الجزري في النهاية: دخلت العمرة في الحج معناه أنها سقط فرضها بوجوب الحج ودخلت فيه، وهذا تأويل من لم يرها واجبة، فأما من أوجبها فقال معناه أن عمل العمرة قد دخل في عمل الحج فلا يرى على القارن أكثر من إحرام واحد وطواف وسعي، وقيل معناه أنها قد دخلت في وقت الحج وشهوره لأنهم كانوا لا يعتمرون في أشهر الحج فأبطل الإسلام ذلك وأجازه انتهى. قلت: هذا المعنى الأخير هو الذي اختاره الترمذي وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وهو الظاهر والله تعالى أعلم.(3/682)
العُمْرَةُ في الحَجّ إلى يَوْمِ القيامَةِ . يَعْني لا بأْسَ بالعُمْرَةِ في أَشْهُرِ الحَجّ وأَشْهُرُ الحَجّ شَوّال وذُو القَعْدَةِ وعَشْرٌ مِنْ ذِي الحِجّةِ، لا يَنْبَغيِ للرّجُلِ أَنْ يُهِلّ بالحَجّ إلاّ في أشْهُرِ الحَجّ. وأَشْهُرُ الحُرُمِ رَجَبٌ وَذو القَعْدَةِ وذو الحِجّةِ والمُحَرّمُ. هكذا قال غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ.
ـــــــ
قوله: "وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة" أجمع العلماء على أن المراد بأشهر الحج ثلاثة أولها شوال لكن اختلفوا هل هي بكمالها أو شهران وبعض الثالث، فذهب إلى الأول مالك وهو قول للشافعي، وذهب غيرهما من العلماء إلى الثاني، ثم اختلفوا فقال ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وآخرون: عشر ليال من ذي الحجة وهل يدخل يوم النحر أولا، فقال أحمد وأبو حنيفة نعم، وقال الشافعي في المشهور المصحح عنه لا، وقال بعض أتباعه تسع من ذي الحجة ولا يصح في يوم النحر ولا في ليلته وهو شاذ، ويرد على من أخرج يوم النحر من أشهر الحج قوله صلى الله عليه وسلم في يوم النحر: هذا يوم الحج الأكبر.(3/683)
88 ـ باب ما جاءَ في ذِكْرِ فَضْلِ العُمْرَة
937 ـ حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ حدثنا وَكيعٌ عنْ سُفْيَانَ عنْ سُمَي عنْ أبي صالِحٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ تُكَفّر ما بَيْنَهُما والحَجّ المَبْرُورُ ليْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاّ الجَنَةَ".
قال أبو عيس هذا حديث حسن صحيح.
ـــــــ
باب ما جاءَ في ذِكْرِ فَضْلِ العُمْرَة
قوله: "عن سمى" بضم السين وفتح الميم وشدة التحتانية مولى أبي بكر ابن عبد الرحمن ثقة.
قوله: "العمرة إلى العمرة تكفر ما بينهما" من الذنوب دون الكبائر كما في قوله الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما. قاله العيني "والحج المبرور" قال ابن خالويه المبرور والمقبول، وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم ورجحخ النووي. وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل.
قوله: هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا أبا داود.(3/683)
المجلد الرابع
تابع أبواب الحج
باب ماجاء في العمرة من التنعيم
...
1ـ باب ما جاءَ في العُمْرَةِ مِنَ التّنْعيم
938 ـ حدثنا يَحيى بنُ موسَى و ابنُ ابي عُمَرَ قالا أخبرنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنْ عَمروِ بنِ دِينَارٍ عن عَمْروٍ بنِ أوسٍ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ أبي بَكْرٍ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ عبدَ الرحمَنِ بنَ أَبي بَكْرٍ أَنْ يُعْمِرَ عَائِشَةَ مِنَ التّنْعِيمِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب ما جاء في العمرة من التنعيم
بفتح المثناة وسكون النون وكسر المهملة مكان معروف خارج مكة وهو على أربعة أميال من مكة إلى جهة المدينة.
قوله: {أَنْ يُعَمَّرَ} بضم الياء من الإعمار. قال صاحب الهدى: لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر مدة إقامته بمكة قبل الهجرة ولا اعتمر بعد الهجرة إلا داخلاً إلى مكة ولم يعتمر قط خارجاً من مكة إلى الحل ثم يدخل مكة بعمرة كما يفعل الناس اليوم، ولا ثبت عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك في حياته إلا عائشة وحدها إنتهى. قال الحافظ في الفتح: وبعد أن فعلته عائشة بأمره دل على مشروعيته، قال واختلفوا هل يتعين التنعيم لمن اعتمر من مكة، فروى الفاكهي وغيره من طريق محمد بن سيرين قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل مكة التنعيم. ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها. وأفضل ذلك أن يأتي وقتاً أي ميقاتاً من مواقيت الحج. قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن كان بمكة إلا التنعيم، ولا ينبغي مجاوزته كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحج، وخالفهم آخرون فقالوا ميقات العمرة الحل وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بالإحرام من التنعيم لأنه كان أقرب الحل من مكة، ثم روى من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها قالت: وكان أدنانا من الحرم التنعيم فاعتمرت منه، قال فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء إنتهى كلام الحافظ.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.(4/3)
باب ماجاء في العمرة من الجعرانة
...
2 ـ باب ما جَاءَ في العُمْرَةِ مِنَ الجِعْرانَة
939 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّار أخبرنا يَحْيى بنُ سَعِيدٍ عن ابنِ جُرَيْجٍ عَن مُزَاحِمِ بنِ أبي مُزَاحِمٍ عن عَبْدِ العَزِيزِ بنِ عبدِ الله عن مُحَرّشٍ الكَعْبيّ "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنَ الجِعْرَانَةِ لَيْلاً مُعْتَمِراً فَدَخَلَ مَكّةَ لَيْلاً فَقضَى عُمْرَتَهُ ثمّ خَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ فأَصْبَحَ بالجِعْرَانَةِ كبَائِتٍ، فلَما زَالتِ الشّمْسُ مِنَ الغَدِ خَرَجَ في بَطْنِ سَرِفَ حتّى جاءَ مَعَ الطّريِق، طَريِق جَمْعٍ بِبَطْنِ سَرِفَ فَمِنْ أجْلِ ذلكَ خَفِيَتْ عُمْرَتُهُ على النّاسِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن غريبٌ، ولا نَعْرِفُ لِمُحَرّشٍ الكَعْبيّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هذا الحديثِ.
ـــــــ
باب ما جاء في العمرة من الجعرانة
فيها لغتان إحداهما كسر الجيم وسكون العين المهملة وفتح الراء المخففة، والثانية كسر العين وتشديد الراء، وإلى التخفيف ذهب الأصمعي وصوبه الخطابي وهي ما بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب قاله العيني .
قوله: "عن مزاحم بن أبي مزاحم" المكي مولى عمر بن عبد العزيز روى عنه وعن عبد العزيز بن عبد الله وغيرهما "عن محرش" بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الراء المشددة وشين معجمة على المشهور وقيل بكسر الميم وخاء معجمة ساكنة وفتح الراء قاله السيوطي. قال الحافظ: صحابي له حديث في عمرة الجعرانة.
قوله: "فأصبح بالجعرانة كبائت" إسم فاعل من بات يبيت يعني أصبح صلى الله عليه وسلم بالجعرانة كأنه بات فيها ولم يخرج عنها ولم يذهب منها إلى مكة "في بطن سرف" بكسر الراء موضع على نحو ثلاثة أميال من مكة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب الخ" قال في تهذيب التهذيب في ترجمة مزاحم بن أبي مزاحم: أخرج الشافعي عن ابن عينية عن إسماعيل بن أمية عنه حديث محرش الكعبي في العمرة من الجعرانة، وأخرجه النسائي من طريق ابن عيينة.(4/4)
باب ماجاء في عمرة رجب
...
3 ـ باب ما جاءَ في عُمْرَةِ رَجَب
940 ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ أخبرنا يَحْيى بنُ آدَمَ عن أبي بَكْرِ بنِ عَيّاشٍ عن الأعمشِ عن حَبيبِ بنِ أبي ثَابِتٍ عن عُرْوَةَ قالَ: "سُئِلَ ابنُ عُمَرَ في أيّ شَهْرٍ اعْتَمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالَ في رَجَبٍ،قال: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا اعْتَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وَهُوَ مَعَهُ، تَعْنِي ابنَ عُمَرَ ، وَمَا اعْتَمَرَ في شَهْرِ رَجَبٍ قَطّ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ. سَمِعْتُ محمداً يَقُولُ: حَبِيبُ بنُ أَبي ثَابِتٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ بنِ الزّبَيْرِ.
941 ـ حدثنا أَحمدُ بنُ مَنيعٍ أخبرنا الحَسَنُ بنُ مُوسَى أخبرنا شَيْبَانُ عن مَنْصُورٍ عن مجَاهِدٍ عن ابنِ عُمَرَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعاً إحْداهُنّ في رَجَبٍ".
ـــــــ
باب ما جاء في عمرة رجب
قوله: "إلا وهو معه تعني ابن عمر" أي حاضر معه، وقالت ذلك مبالغة في نسبته إلى النسيان "وما اعتمر في شهر رجب قط" زاد عطاء عن عروة عند مسلم في آخره قال: وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم سكت. قال النووي: هذا يدل على أنه اشتبه عليه أو نسي أو شك ولهذا سكت عن الإنكار على عائشة ومراجعتها بالكلام، فهذا الذي ذكرته هو الصواب الذي يتعين المصير إليه.
قوله: "اعتمر أربعاً إحداهن في رجب" هكذا رواه الترمذي مختصراً، ورواه الشيخان من طريق جرير عن منصور عن مجاهد مطولا، فلفظ البخاري قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، وإذا أناس يصلون في المسجد صلاة الضحى، قال فسألناه عن صلاتهم فقال بدعة، ثم قال له: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال أربع إحدهن في رجب فكرهنا أن نرد عليه. قال وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت ما يقول؟(4/5)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريب حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قال يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط إنتهى. وروى الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته: عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من جعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة حجته.(4/6)
باب ماجاء في عمرة ذي القعدة
...
4 ـ باب ما جَاءَ في عُمْرَةِ ذِي القَعْدَة
942ـ حدثنا العَبّاسُ بنُ محمدٍ الدَوْرِيّ حدثنا إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ "هو السّلُولِيّ الكُوفِيّ" عن إسْرَائِيلَ عن أَبي إسْحَاقَ عن البَرَاءِ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ في ذيِ القَعْدَةِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في عُمْرَةِ ذِي القَعْدَة
قوله: "حدثنا العباس بن محمد الدورى" أبو الفضل البغدادي، خوارزمي الأصل، ثقة حافظ من الحادية عشر كذا في التقريب. وقال في الخلاصة: أحد الحفاظ الأعلام عن حسين الجعفي وأبي داود الطيالسي وشبابة وخلق، ولزم ابن معين وأخذ عنه الجرح والتعديل، وعنه أهل السنن الأربعة إنتهى. وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: ولد سنة 158 ثمان وخمسين ومائة وتوفي في صفر سنة 271 إحدى وسبعين ومائتين، قال وكتابه في الرجال عن ابن معين مجلد كبير نافع ينبئ عن بصره بهذا الشأن إنتهى "السلولى" بفتح السين وباللامين وصدوق تكلم فيه للتشيع.
قوله: "اعتمر في ذي القعدة" وفي رواية البخاري من طريق إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقول: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين إنتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري من وجه آخر.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" لينظر من أخرجه.(4/6)
باب ماجاء في عمرة رمضان
...
5 ـ باب ما جاَءَ في عُمْرَةِ رَمَضَان
943 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِي حدثنا أبو أَحمدَ الزّبَيْرِيّ حدثنا إسْرَائِيلُ عن أَبي إسْحَاقَ عنِ الأسْوَدِ بنِ يَزِيدَ عن ابنِ أُمّ مَعْقِلٍ عن أُمّ مَعْقِلٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ : "عُمْرَةٌ في رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجّةً".
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ وجَابِرٍ وأَبي هُرَيْرَةَ وأَنَسٍ، ووَهْبِ بنِ خَنْبَشٍ.
ـــــــ
باب ما جاء في عمرة رمضان
قوله: "أخبرنا أبو أحمد الزبيري" بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون الياء هو محمد بن عبد الله بن الزبير الكوفي ثقة ثبت إلا أنه قد يخطئ في حديث الثورى "عن ابن أم معقل" قال العيني في عمدة القاري ص 14ج 5: ابن أبي معقل الذي لم يسم في رواية الترمذي اسمه معقل كذا ورد مسمى في كتاب الصحابة لابن مندة من طريق عبد الرزاق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن معقل بن أبي معقل عن أم معقل قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرة في رمضان تعدل حجة. ومعقل هذا معدود في الصحابة من أهل المدينة. قال محمد بن سعد: صحب النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه، وهو معقل بن أبي معقل بن نهيك بن أساف بن عدي إنتهى بقدر الحاجة. قلت: ليس في رواية الترمذي بن أبي معقل، بل فيها ابن أم معقل "عن أم معقل" الأسدية أو الأشجعية زوج أبي معقل، ويقال لها الأنصارية صحابية لها حديث في عمرة رمضان، كذا في التقريب. قوله: "عمرة في رمضان تعدل حجة" في الثواب، لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض. للإجماع على أن الاعتمار لا يجزيء عن حج الفرض. وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح وهو فضل من الله ونعمة فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها. وقال ابن الجوزى: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وخلوص المقصد.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة وأنس ووهب ابن خنبش" بمعجمة ونون وموحدة وزن جعفر الطائي صحابي نزل الكوفة ويقال اسمه هرم ووهب أصح قاله في التقريب، أما حديث ابن عباس فأخرجه الشيخان، وأما حديث جابر فأخرجه ابن ماجه عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم(4/7)
قال أبو عيسى: ويُقَالُ هَرَمُ بنُ خَنْبَشٍ. قالَ بَيَانٌ وجَابِرٌ عن الشّعْبِيّ عن وَهْبِ بنِ خَنْبَشٍ. وقالَ دَاوُدُ الأَوْدِي عن الشّعْبِيّ عن هَرمَ بنِ خَنْبَشٍ: وَوَهْبٌ أَصَحّ. وحَدِيثُ أُمّ مَعْقِلٍ حديثٌ حسنٌ غريب. مِنْ هذا الوجْهِ. وقالَ أَحمدُ وإسْحَاقُ: قد ثَبَتَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أَنّ عُمْرَةً في رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجّةً". قالَ إسْحَاقُ. مَعْنَى هذا الحَدِيثِ مِثْلُ مَا رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قالَ: "مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ".
ـــــــ
قال عمرة في رمضان تعدل حجة. وأما حديث أبي هريرة فلينظر من أخرجه. وأما حديث أنس فأخرجه أبو أحمد بن عدي في الكامل عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : عمرة في رمضان كحجة معي، وفي إسناده مقال. وأما حديث وهب بن خنبش فأخرجه ابن ماجه من رواية سفيان عن بيان وجابر عن الشعبي عن وهب بن خنبش مرفوعاً: عمرة في رمضان تعدل حجة. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها العيني في عمدة القاري ص 14 ج5.
قوله: "وحديث أم معقل حديث حسن غريب من هذا الوجه" وأخرجه أبو داود من وجه آخر، وأخرجه النسائي أيضاً من وجه آخر.
قوله: "قال إسحاق: معنى هذا الحديث مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ : قل هو الله أحد فقد قرأ ثلث القرآن" وقال ابن خزيمة: إن الشيء يشبه بالشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني لا جميعها لأن العمرة لا يقضي بها فرض الحج ولا النذر إنتهى(4/8)
باب ماجاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو يعرج
...
6 - باب ما جاءَ في الّذِي يُهِلّ بالحَجّ فَيُكْسَرَ أَوْ يَعْرِج
944 ـ حدثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ حدثنا رَوْحُ بن عُبَادَةَ أخبرنا حَجّاجٌ الصّوافُ أخبرنا يَحْيَى بن أبي كَثِيرٍ عن عِكْرَمَةَ قالَ حدثني الحَجّاجُ
ـــــــ
باب ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر
بصيغة المجهول "أو يعرج" بصيغة المعروف. قال العيني في شرح البخاري: اختلف العلماء في الحصر بأي شيء يكون وبأي معنى فقال قوم: يكون الحصر بكل حال من مرض أو عدو وكسر وذهاب نفقة ونحوها مما يمنعه عن المضي إلى البيت،(4/8)
بنُ عَمْروٍ قالَ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كُسِرَ أوْ عَرِجَ فقد حَلّ وعَلَيْهِ حَجّةٌ أُخْرى". فَذَكَرْتُ ذلكَ لأبي هُرَيْرَةَ وابنِ عَبّاسٍ فَقَالاَ صَدَقَ.
ـــــــ
وهي قول أبي حنيفة رضي الله عنه وأصحابه، وروى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت. وقال آخرون: وهم الليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يكون الإحصار إلا بالعدو فقط ولا يكون بالمرض انتهى. قلت: قال الحافظ في الفتح: وصح عن ابن عباس أن لا حصر إلا بالعدو، وأخرج عبد الرزاق عن معمر وأخرج الشافعي عن ابن عيينة كلاهما عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال لا حصر إلا من حبسه عدو فيحل بعمرة وليس عليه حج ولا عمرة انتهى. وإليه ذهب ابن عمر رضي الله عنه روى مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه قال: من حبس دون البيت بالمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت. وروى مالك عن أيوب عن رجل من أهل البصرة قال: خرجت إلى مكة حتى إذا كنت بالطريق كسرت فخذي فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس فلم يرخص لي أحد في أن أحل فأقمت على ذلك إلى تسعة أشهر ثم حللت بعمرة.
واحتج من قال: أن لا إحصار إلا بالعدو اتفاق أهل النقل على أن قوله تعالى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} نزل في قصة الحديبية حين صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت فسمى الله صد العدو إحصاراً.
وحجة الاَخرين التمسك بعموم قوله تعالى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وبحديث الباب والظاهر هو قول من قال بتعميم الإحصار والله تعالى أعلم
قوله: "من كسر" بضم الكاف وكسر السين "أو عرج" زاد أبو داود في رواية له: أو مرض قال في القاموس: عرج أصابه شيء في رجله وليس بخلقة فإذا كان خلقة فعرج كفرح أو يثلث في غير الخلقة "فقد حل" أي يجوز له أن يترك الإحرام ويرجع إلى وطنه "وعليه حجة أخرى" زاد أبو داود: من قابل أي يقضي ذلك الحج في السنة المستقبلة. قال الخطابي: هذا فيمن كان حجه عن فرض. فأما المتطوع بالحج إذا أحصر فلا شيء عليه غير هذا الإحصار. وهذا على قول(4/9)
945- حدثنا إسحاق بن منصور أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن الحجاج مثله: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. هَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُ واحِدٍ عن الحَجّاجِ الصّوّافِ نَحْوَ هذا الحَديِثِ. وَرَوَى مَعْمَرٌ ومُعَاوِيَةُ بنُ سَلاّمٍ هذا الحَدِيثَ عن يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ عن عِكْرِمَةَ عن عبدِ الله بنِ رَافِعٍ عَنِ الحَجّاجِ بنِ عَمْروٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحَديثَ. وحَجّاجٌ الصّوّافُ لَمْ يَذْكُرْ في حَدِيثهِ عبدَ الله بنَ رَافِعٍ. وحَجّاجٌ ثِقَةٌ حَافِظٌ عِندَ أَهْلِ الحَديثِ. وسَمِعْتُ محمداً يَقُولُ: رِوَايَةُ مَعْمَرٍ ومُعَاوِيَةَ بنِ سَلاّم أصَحّ.
946- حدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن عبد الله بن رافع عن الحجاج بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
ـــــــ
مالك رحمه الله والشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه: عليه حجة وعمرة. وهو قول النخعي، وعن مجاهد والشعبي وعكرمة: عليه حجة من قابل انتهى.
قوله: "فذكرت ذلك لأبي هريرة وابن عباس الخ" وفي رواية أبي داود قال عكرمة فسألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا صدق.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أبو داود وسكت عنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره ورواه أيضاً النسائي وابن ماجه. وقال القاري في المرقاة: وقال غير الترمذي صحيح(4/10)
باب ماجاء في الإشتراط في الحج
...
7ـ باب ما جَاءَ في الاشْتِرَاطِ في الحَج
947ـ حدثنا زِيَادُ بنُ أيّوبَ البَغْدَادِيّ حدثنا عَبّادُ بنُ عوّام عنِ هلالِ بنِ خَبّابٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبّاسٍ "أنّ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزّبَيْرِ
ـــــــ
باب ما جاء في الاشتراط في الحج
قوله: "أن ضباعة" بضم الضاد المعجمة وبالوحدة والعين المهملة "بنت الزبير"(4/10)
أَتَتْ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يا رسولَ الله إنّي أُرِيدُ الحَجّ أَفَأَشْتَرِط؟ قالَ نَعَمْ، قَالَتْ كَيْفَ أَقُولُ؟ قالَ: قُولِي لَبّيْكَ الّلهُمّ لَبّيْكَ لَبّيْكَ مَحِلّى مِنَ الأرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِي".
وفي الباب عن جَابِرٍ وأَسْمَاءَ بنت أبي بكر وعَائِشَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَملُ على هذَا عِندَ بَعْضِ أهْلِ العلمِ يَرَوْنَ الاشْتِرَاطَ في الحَجّ ويَقُولُونَ إِن اشْتَرَطَ فَعَرَضَ لَهُ مَرَضٌ أَوْ عُذْرٌ فَلَهُ أَنْ يَحِلّ ويَخْرُجَ مِنْ إِحْرَامِهِ. وهُوَ قَوْلُ الشّافِعيّ وأحْمَدَ وإسحاقَ. ولَمْ يَرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ الاشْتِرَاطَ في الحَجّ وقالُوا: إن اشْتَرَطَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إحْرَامِهِ ويَرَوْنَهُ كَمَنْ لَمْ يَشْتَرِط.
ـــــــ
أي ابن عبد المطلب بن هاشم "محلى" بفتح الميم وكسر الحاء أي محل خروجي من الحج وموضع حلالي من الإحرام أي زمانه ومكانه "حيث تحبسني" أي تمنعني يا الله.
قوله: "وفي الباب عن جابر" أخرجه البيهقي "وأسماء" أي بنت أبي بكر رضي الله عنه أخرجه ابن ماجه "وعائشة" قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها لعلك أردت الحج قالت والله ما أجدني إلا وجعة فقال لها حجي واشترطي وقولي اللهم محلى حيث حبستني، وكانت تحت المقداد بن الأسود، أخرجه الشيخان. قال الحافظ في الفتح. وفي الباب عن ضباعة نفسها وعن سعدى بنت عوف وأسانيدها كلها قوية انتهى. وفي الباب أيضاً عن أنس وابن مسعود وأم سليم عند البيهقي وعن أم سلمة عند أحمد والطبراني في الكبير، وفي إسناده ابن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث وبقية رجاله رجال الصحيح، وعن ابن عمر رضي الله عنه في الطبراني في الكبير: وفيه علي بن عاصم وهو ضعيف.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري.
قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق" قال الحافظ في الفتح: وصح القول بالاشتراط عن عمر وعثمان وعلي وعمار وابن مسعود وعائشة وأم سلمة وغيرهم من الصحابة ولم يصح إنكاره عن أحد من الصحابة إلا عن ابن عمر، ووافقه جماعة من التابعين ومن بعدهم من الحنفية والمالكية انتهى.
قوله: "ولم ير بعض أهل العلم الاشتراط في الحج الخ" وهو قول أبي حنيفة ومالك وبعض التّابعين. وأجابوا من حديث ضباعة بأجوبة منها: أنه خاص بضباعة قال النووي وهو تأويل باطل وقيل معناه محلى حيث حبسني الموت إذا أدركتني الوفاة انقطع إحرامي، حكاه إمام الحرمين وأنكره النووي وقال: إنه ظاهر الفساد. وقيل إن الشرط خاص بالتحلل من العمرة لا من الحج حكاه المحب الطبري. وقصة ضباعة ترده كما تقدم من سياق مسلم. وقد أطنب ابن حزم في التعقب على من أنكر الاشتراط بما لا مزيد عليه قاله الحافظ .(4/11)
8 ـ باب منه
948 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا عَبْدُ الله بن المُبَارَكِ أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن أَبيهِ "أنّهُ كَانَ يُنْكِرُ الاشْتِرَاطَ في الحَجّ ويَقُولُ أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنّةَ نَبِيّكُمْ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب منه
قوله: "عن أبيه" أي عبد الله بن عمر "أنه كان ينكر الاشتراط في الحج" أشار ابن عمر بإنكار الاشتراط إلى ما كان يفتى به ابن عباس قال البيهقي: لو بلغ ابن عمر حديث ضباعة في الاشتراط لقال به كذا في الفتح "ويقول أليس حسبكم سنة نبيكم" أي ليس يكفيكم سنة نبيكم لأن معنى الحسب الكفاية ومنه حسبنا الله أي كافينا. وحسبكم مرفوع لأنه اسم ليس وسنة نبيكم منصوب على أنه خبر ليس.(4/12)
باب ماجاء في المرأة تحيض بعد الإفاضة
...
9 ـ باب ما جَاءَ في المَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ الإفَاضَة
949 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن عَبْدِ الرحمَن بنِ القَاسِمِ عن أَبيهِ عن عَائِشَةَ أنّها قَالَتْ: "ذكر لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنّ صَفِيّةَ بِنْتَ حُيَيّ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في المَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ الإفَاضَة
أي بعد طواف الزيارة
قوله: "ذكر" بصيغة المجهول "أن صفية بنت حي" بضم الحاء المهملة(4/12)
حَاضَتْ في أَيّامِ مِنى فَقَالَ أَحَابِسَتُنَا هِيَ، قالُوا إنّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَلاَ إذاً".
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وابنِ عَبّاسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ العِلمِ: أَنّ المَرْأَةَ إذَا طَافَتْ طَوَافَ الزّيارة ثم حَاضَتْ فإنّهَا تَنْفِرُ ولَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ. وهُوَ قَوْلُ الثّوْرِيّ والشّافِعِيّ وأَحمدَ وإسحاقَ.
950ـ حدثنا أبو عَمّارٍ حدثنا عِيسَى بنُ يُونُسَ عن عُبَيْدِ الله بن عمر عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قَالَ: "مَنْ حَجّ البَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بالبَيْتِ إلاّ الحُيّضَ، وَرَخّصَ لَهُنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم".
قال أبو عيسى: حديثُ ابنُ عُمَرَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ والعملُ على هذا عند أهل العلم.
ـــــــ
وبالتحتيين مصغراً "فقال أحابستنا هي" الهمزة فيه الاستفهام أي أمانعتنا من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه ظناً منه صلى الله عليه وسلم أنها ما طافت طواف الإفاضة "قد أفاضت" أي طافت طواف الزيارة "فلا إذاً" أي فلا حبس علينا حينئذ أي إذا أفاضت فلا مانع لنا من التوجه لأن الذي يجب عليها قد فعلته.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم "وابن عباس" قال كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت. أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وفي رواية: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. أخرجه الشيخان.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان. قوله "وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق" وبه قال أبو حنيفة رحمه الله.
قوله: "ورخص لهن" أي للنساء اللاتي حضن بعد أن طفن طواف الزيارة أن يتركن طواف الوداع.
قوله: "حديث ابن عمر حديث صحيح" وأخرجه النسائي وصححه الحاكم كذا في النيل.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم" قال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي أفاضت طواف الوداع، وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عمر وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضاً لطواف الوداع. وكأنهم أوجبوا عليها طواف الإفاضة، إلى أن قال: وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة انتهى بقدر الحاجة.(4/13)
باب ماجاء ماتقضي الحائض من المناسك
...
10 ـ باب ما جَاءَ ما تَقْضِي الحَائِضُ مِنَ المَنَاسِك
951 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا شَرِيكٌ عن جَابِرٍ "وهُوَ ابنُ يَزِيدَ الجَعْفِيّ" عن عَبْدِ الرحمَنِ بنِ الأسْوَدِ عن أبيهِ عن عَائِشَةَ قَالَتْ: "حِضْتُ فَأَمَرَنِي النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْضِيَ المَنَاسِكَ كُلّهَا إلاّ الطّوَافَ بالبَيْتِ".
قال أبو عيسى: العملُ على هذا الحَدِيثِ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ أَنّ الحَائِضَ تَقْضِي المَنَاسِكَ كُلّهَا ما خلا الطّوَافَ بالبَيْتِ. وقد رُوِيَ هذا الحَديِثُ عن عَائِشَةَ مِنْ غَيْرِ هذا الوَجْه أيْضاً.
952 ـ حدثنا زِيَادُ بنُ أَيّوبَ حدثنا مَرْوَانُ بنُ شُجَاعٍ الجَزَرِيّ
ـــــــ
باب ماجاء ما تقضي الحائض من المناسك
قوله: "أن أقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت" وفي رواية للشيخين: "أهلي بالحج واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" وقد روى هذا الحديث عن عائشة من غير هذا الوجه أيضاً أي من غير هذا الإسناد الذي أخرجه الترمذي. وقد روى هذا الحديث الشيخان وغيرهما وله ألفاظ.
قوله: "حدثنا زياد بن أيوب" ابن زياد البغدادي وأبو هاشم الطوسي الأصل يلقب دلويه وكان يغضب منها ولقبه أحمد شعبة الصغير ثقة حافظ من العاشرة "أخبرنا مروان بن شجاع" الجزري أبو عمرو ويقال أبو عبد الله الأموي مولاهم نزل بغداد صدوق له أوهام، ويقال له الخصيفي لكثرة روايته عن خصيف.(4/14)
عن خُصَيْفٍ عن عِكْرِمَةَ و مُجَاهِدٍ و عَطَاءٍ عنِ ابنِ عَبّاسٍ "رَفَعَ الحَدِيثَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" "أنّ النّفَسَاءَ والحَائِضَ تَغْتَسِلُ وتُحْرِمُ وتَقْضِي المنَاسِكَ كُلّهَا غَيْرَ أنّ لا تَطُوفَ بالْبَيْتِ حَتّى تَطْهُرَ".
ـــــــ
قوله: "أن النفساء والحائض تغتسل وتحرم الخ" وفي رواية أبي داود: الحائض والنفساء إذا أتتا على الوقت تغتسلان وتحرمان وتقضيان المناسك كلها الخ. قال النووي: فيه صحة إحرام النفساء والحائض واستحباب اغتسالهما للإحرام وهو مجمع على الأمر به، لكن مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور أنه مستحب وقال الحسن وأهل الظاهر: هو واجب والحائض والنفساء يصح منهما جميع أفعال الحج إلا الطواف وركعتيه لقوله صلى الله عليه وسلم: إصنعي ما يصنع الحاج غيرأن لا تطوفي، وفيه أن ركعتي الإحرام سنة ليستا بشرط لصحة الحج لأن أسماء لم تصلهما انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" وأخرجه أبو داود. قال المنذري: وأخرجه الترمذي وقال غريب من هذا الوجه هذا آخر كلامه وفي إسناده خصيف وهو ابن عبد الرحمن الحراني كنيته أبو عون وقد ضعفه غير واحد انتهى كلام المنذري.(4/15)
باب ماجاء من حج أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت
...
11 ـ باب ما جَاءَ مَنْ حَجّ أو اعْتَمَرَ فَلْيَكُن آخِرَ عَهْدِهِ بالبَيْت
953 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَبْدِ الرحمَنِ الكُوفِيّ حدثنا المُحَارِبيّ عن الحَجّاجِ بنِ أَرْطَاةَ عن عَبْدِ المَلِكِ بنِ مُغيرَةَ عن عَبْدِ الرحمَنِ بنِ البيلمَانِي
ـــــــ
باب ما جاء من حج واعتمر فليكن آخر عهده بالبيت
قوله: "حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي" الناجي الوشاء ثقة روى عن عبد الله ابن أدريس وعبد الرحمن بن محمد المحاربي وغيرهما وروى عنه الترمذي وابن ماجة وغيرهما "أخبرنا المحاربي" هو عبد الرحمن بن محمد بن زياد الكوفي لا بأس به وكان يدلس من التاسعة "عن عبد الملك بن مغيرة" الطائفي مقبول من الرابعة. وقال في تهذيب التهذيب: روى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن البيلماني وغيرهما وعنه الحجاج بن أرطاة وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات "عن عبد الرحمن بن البيلماني" بفتح الموحدة ثم تحتانية ساكنة وفتح اللام كذا في الخلاصة،(4/15)
عن عَمْروِ بنِ أوْسٍ عن الحَارِثِ بنِ عَبْدِ الله بنِ أوْسٍ قَالَ : "سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ حَجّ هذا البَيْتَ أو اعْتَمَرَ فَلْيَكُنْ آخِر عَهْدِهِ بالْبَيْتِ". فَقَالَ لَهُ عمَرُ: خَرَرْتَ مِنْ يَديْكَ، سَمِعْتَ هذا مِنْ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولَمْ تُخْبِرْنَا بِهِ؟.
ـــــــ
وقال في التقريب: هو مولى عمر رضي الله عنه، مدني نزل حران ضعيف من السادسة. وقال في تهذيب التهذيب: عبد الرحمن بن أبي زيد هو ابن البيلماني روى عن ابن عباس وعمرو بن أوس وغيرهما "عن عمرو بن أوس" الثقفي الطائفي تابعي كبير من الثانية: وهم من ذكره في الصحابة "عن الحارث بن عبد الله بن أوس" قال في تهذيب التهذيب الحارث بن أوس ويقال ابن عبد الله بن أوس الثقفي حجازي سكن الطائف روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر، وعنه عمرو بن أوس الثقفي.
قوله: "من حج هذا البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت" كذا في هذا الحديث بزيادة "أو اعتمر" رواه أبو داود في سننه وليس فيه هذه الزيادة وليس هذه الزيادة في حديث ابن عباس الذي أشار إليه الترمذي، فهذه الزيادة غير محفوظة "فقال له عمر" بن الخطاب رضي الله تعالى عنه "خررت من يديك" قال الجزري في النهاية: أي سقطت من أجل مكروه يصيب يديك من قطع أو وجع، وقيل هو كناية عن الخجل. يقال خررت عن يدي أي خجلت، وسياق الحديث يدل عليه، وقيل معناه سقطت إلى الأرض من سبب يديك أي من جنايتهما، كما يقال لمن وقع في مكروه: إنما أصابه ذلك من يده أي من أمر عمله. وحيث كان العمل باليد أضيف إليها انتهى. ووقع في رواية أبي داود أربت عن يديك. قال الجزري: أي سقطت أرابك من اليدين خاصة. وقال الهروي: معناه ذهب ما في يديك حتى تحتاج وفي هذا نظر لأنه قد جاء في رواية أخرى لهذا الحديث: خررت عن يديك وهي عبارة عن الخجل مشهورة كأنه أراد أصابك خجل أو ذم، ومعنى خررت سقطت انتهى. قال في حاشية النسخة الأحمدية: فإن قلت: كان عمر رضي الله عنه يرى ذلك برأيه واجتهاده فلم غضب عليه، قلت: غضبه على أنه كان ينبغي له أن يبلغ هذا الحديث عند أداء المناسك لكي يرى الناس ذلك سنة ولم يسنده إلى اجتهاد عمر ورأيه انتهى. قلت هذا ليس بصحيح بل وجه ذلك مذكور صراحة في رواية أبي داود فقد رواها عن الحارث بن عبد الله بن أوس قال: أتيت عمر بن الخطاب(4/16)
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ الحَارِثِ بنِ عَبْدِ الله بنِ أَوْسٍ حديثٌ غريبٌ. وهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عن الحَجّاجِ بنِ أَرْطَاةَ مِثْلَ هذا. وقد خُولِفَ الحَجّاجُ في بَعْضِ هذا الإسْنَادِ.
ـــــــ
فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض. قال ليكن آخر عهدها بالبيت. قال فقال الحارث كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقال عمر أربت عن يديك سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي ما أخالف.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنه" قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت. رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه. وفي رواية: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض، متفق عليه كذا في المنتقى.
قوله: "حديث الحارث بن عبد الله بن أوس حديث غريب" قال المنذري: وأخرجه النسائي والإسناد الذي أخرجه أبو داود والنسائي حسن، وأخرجه الترمذي بإسناده ضعيف وقال غريب. انتهى كلام المنذري. قلت: في إسناد الترمذي الحجاج بن أرطاة وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس، وروي هذا الحديث عن عبد الملك بن مغيرة بالعنعنة وفي إسناده أيضاً عبد الرحمن بن البيلماني وهو ضعيف كما عرفت. وأما أبو داود والنسائي فأخرجاه بإسناد آخر غير إسناد الترمذي. وفي أحاديث الباب دليل على وجوب طواف الوداع. قال النووي وهو قول أكثر العلماء: ويلزم بتركه دم. وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه. قال الحافظ: والذي رأيته لابن المنذر في الأوسط أنه واجب إلا أنه لا يجب بتركه شيء انتهى. قال الشوكاني: وقد اجتمع في طواف الوداع أمره صلى الله عليه وسلم، ونهيه عن تركه، وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب والله تعالى أعلم(4/17)
باب ماجاء أن القارن يطوف طوافاً واحداً
...
12 ـ باب ما جَاءَ أَنّ القَارِنَ يَطُوفَ طَوَافاً وَاحِدا
954 ـ حدثنا ابنُ أَبي عُمَرَ أخبرنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الحَجّاجِ عن أَبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ "أَنّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَنَ الحَجّ والعُمْرَةَ فَطَاف لَهُمَا طَوَافاً وَاحِداً".
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وابنِ عبّاسٍ.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ جَابِرٍ حديثٌ حسنٌ. والعملُ عَلَى هذَا عِنْدَ بَعْض أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ قَالُوا القَارِنُ يَطُوفُ طَوَافاً وَاحِداً. وهُوَ قَوْلُ الشّافِعيّ وأَحمدَ وإسحاقَ. وقَالَ بَعْضُ
ـــــــ
باب ما جاء أن القارن يطوف طوافاً واحداً
قوله: "فطاف لهما طوافاً واحداً" استدل به من قال بكفاية الطواف الواحد للقارن وإليه ذهب الجمهور.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه أحمد وابن ماجه مرفوعاً: من قرن بين حجه وعمرته أجزأه لهما طواف واحد، وأخرجه الترمذي أيضاً ويأتي لفظه "وابن عباس رضي الله عنه" أخرجه ابن ماجه عن عطاء وطاوس ومجاهد عن جابر بن عبد الله وابن عمر وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه لعمرتهم وحجتهم حين قدموا إلا طوافاً واحداً. وفي الباب أيضاً عن عائشة قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع الحديث. وفيه: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً. أخرجه الشيخان.
قوله: "حديث جابر حديث حسن" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه بلفظ: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول.
قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق" وبه قال مالك، وهو قول الجمهور كما صرح به النووي وغيره وتمسكوا بأحاديث الباب.(4/18)
أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ ويَسْعَى سَعْيَيْنِ وهُوَ قَوْلُ الثّوْريّ وأهْلِ الكُوفَةِ.
955 ـ حدثنا خَلاّدُ بنُ أَسْلَمَ البَغْدَادِيّ حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ محمدٍ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ أحْرَمَ بالحَجّ والعُمْرَةِ أَجْزأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وسَعْيٌ وَاحِدٌ عنهما حَتّى يَحِلّ مِنْهُمَا جَمِيعاً".
ـــــــ
قوله: "وهو قول الثوري وأهل الكوفة" قال النووي: وهو يحكى عن علي بن أبي طالب وابن مسعود والشعبي والنخعي انتهى. قال الحافظ في الفتح: واحتج الحنفية بما روي عن علي أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه، وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك وفيه الحسن ابن عمارة وهو متروك، والمخرج في الصحيحين وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد. وقال البيهقي: إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين فيحمل على طواف القدوم وطواف الإفاضة، وأما السعي مرتين فلم يثبت. وقال ابن حزم: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه في ذلك شيء أصلاً. قال الحافظ: لكن روى الطحاوي وغيره مرفوعاً عن علي وابن مسعود ذلك بأسانيد لا بأس بها إذا اجتمعت، ولم أر في الباب أصح من حديثي ابن عمر وعائشة المذكورين في هذا الباب، ثم ذكر الحافظ كلاماً حسناً من شاء الوقوف عليه فليرجع إلى فتح الباري. وأراد بحديث ابن عمر الحديث الذي أشار إليه الترمذي وتقدم تخريجه ولفظه، وأراد بحديث عائشة الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره وفيه: وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً. قلت: القول الراجح هو أن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد كالمفرد.
قوله: "حدثنا عبد العزيز بن محمد" هو الدراوردي. قوله "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعى واحد منهما" أي من الحج والعمرة، ورواه سعيد بن منصور بلفظ: من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف(4/19)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ صحيح حسنٌ غريبٌ صحيحٌ تَفَرّدَ بِهِ الدّرَاوَرْدِيّ على ذلكَ اللّفْظِ. وقد رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَر وَلَمْ يَرْفَعُوهُ وهُوَ أَصَحّ.
ـــــــ
واحد وسعى واحد، كذا في فتح الباري. وهذا الحديث نص صريح في أن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد وسعى واحد "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجه(4/20)
باب ماجاء أن مكث المهاجر بمكة بعد الصدر ثلاثاً
...
13ـ باب ما جَاءَ أَن يمكُثَ المهَاجِرِ بِمَكّةَ بَعْدَ الصّدَرِ ثلاثا
956 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عَبْدِ الرحمَنِ بنِ حُمَيْدٍ سَمِعَ السّائِبَ بنَ يَزِيدَ
عن العَلاَءِ بن الخضْرَمِيّ "يَعْنِي مَرْفُوعاً" قالَ "يَمْكُثُ المُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسْكِهِ بِمَكةَ ثلاثاً".
ـــــــ
باب ما جاء أن المهاجر بعد الصدر ثلاث
قال في النهاية: الصدر بالتحريك رجوع المسافر من مقصد والشاربة من الورد، يقال صدر يصدر صدوراً وصدراً انتهى. وقال في المجمع: أي بعد الرجوع من منى وكان إقامة المهاجر بمكة حراماً ثم أبيح بعد قضاء النسك ثلاثة أيام انتهى
قوله: "يمكث" بضم الكاف من باب نصر ينصر أي يقيم "المهاجر بعد قضاء نسكه" أي بعد رجوعه من منى كما قال في الرواية الأخرى: بعد الصدر أي الصدر من منى قاله النووي "بمكة ثلاثاً" أي يجوز له مكث هذه المدة لقضاء حوائجه ولا يجوز له الزيادة عليها لأنها بلدة تركها الله تعالى فلا يقيم فيها أكثر من هذه المدة لأنه يشبه العود إلى ما تركه الله تعالى قال النووي: معنى الحديث أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا على الثلاثة انتهى.(4/20)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ مِنْ غيْرِ هذا الوَجْهِ بهذَا الإسْنَادِ مَرْفُوعاً.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الهجرة ومسلم في الحج وأبو داود أيضاً في الحج، وأخرجه النسائي أيضاً في الحج وفي الصلاة وابن ماجه في الصلاة "وقد روى من غير هذا الوجه بهذا الاسناد مرفوعاً" إن شئت الوقوف على ذلك فارجع إلى الصحيحين والسنن وقد ذكرنا مواقع الحديث فيها(4/21)
باب ماجاء مايقول عند القفول من الحج والعمرة
...
14ـ باب ما جَاءَ ما يَقُولُ عِنْدَ القُفُولِ مِنَ الحَجّ والعُمْرَة
957 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا إسماعيلُ بنُ إبرَاهِيمَ عن أيّوبَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمرَ قالَ "كانَ
النبيّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوَةٍ أوْ حَجّ أوْ عُمْرَةٍ فعَلاَ فَدْفَداً مِنَ الأرْضِ أوْ شَرَفاً كَبّرَ ثلاثاً ثُمّ قالَ: لا إلهَ إلاّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وهُو عَلى كُلّ شَيءٍ قَديِرٌ آيبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَائِحُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ. صَدَقَ الله وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ".
ـــــــ
باب ما جاء ما يقول عند القفول من الحج والعمرة
أي عند الرجوع منهما
قوله: "إذا قفل" أي رجع "فعلا" الفاء للعطف وعلا فعل ماضي "فدفداً" بتكرار إلفاء المفتوحة والدال المهملة المكان الذي فيه ارتفاع وغلظ قاله السيوطي وكذلك في النهاية، وجمعه فدافد أو شرفا" بفتح الشين المعجمة والراء المكان المرتفع "كبر" جواب إذا "آئبون" بهمزة ممدودة بعدها همزة مكسورة إسم فاعل من آب يئوب إذا رجع أي نحن راجعون من السفر بالسلامة إلى أوطاننا "تائبون" أي من المعصية إلى الطاعة "عابدون" أي لمعبودنا "سائحون" جمع سائح من ساح الماء يسيح إذا جرى على وجه الأرض أي سائرون لمطلوبنا ودائرون لمحبوبنا قاله القاري في المرقاة "لربنا حامدون" أي لا لغيره لأنه هو المنعم علينا "صدق الله وعده" أي في وعده بإظهار الدين "ونصر عبده" أراد(4/21)
وفي البابِ عن البَرَاءِ وأنَسٍ وجَابِرٍ.
قال أبو عيسى حَدِيثُ ابنِ عُمَرَ حَدِيثٌ حَسَن صَحِيح.
ـــــــ
نفسه النفيسة "وهزم الأحزاب" أي القبائل المجتمعة من الكفار المختلفة لحرب النبي صلى الله عليه وسلم والحزب جماعة فيهم لغط "وحده" لقوله تعالى {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، وكانوا اثني عشر ألفاً توجهوا من مكة إلى المدينة واجتمعوا حولها سوى من انضم إليهم من اليهود ومضى عليهم قريب من شهر لم يقع بينهم حرب إلا الرامي بالنبل أو الحجارة زعماً منهم أن المؤمنين لم يطيقوا مقابلتهم فلا بد أنهم يهربون، فأرسل الله عليهم ريحاً ليلة سفت التراب على وجوههم وأطفأت نيرانهم وقلعت أوتادهم وأرسل الله ألفاً من الملائكة فكبرت في معسكرتهم فحاصت الخيل وقذف في قلوبهم الرعب فانهزموا ونزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} ومنه يوم الأحزاب وهو غزوة الخندق. وقيل المراد أحزاب الكفار في جميع المواطن قاله القاري.
قوله: "وفي الباب عن البراء" أخرجه الترمذي في الدعوات "وأنس" أخرجه أبو نعيم الحافظ، ذكر لفظه العيني في عمدة القارى "وجابر" أخرجه الدارقطني عنه: كنا إذا سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعدنا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا. كذا في عمدة القاري. قلت: وأخرجه البخاري أيضاً.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الحج والدعوات، ومسلم في الحج، وأبو داود في الجهاد، والنسائي في السير.(4/22)
15 ـ باب ما جَاءَ في المُحْرِمِ يَمُوتُ في إحْرَامِه
958 ـ حدثنا ابنُ أبيِ عُمَرَ أخبرنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عَمْرو بنِ دِينَارٍ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ "كُنّا مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلاً سَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ فَوُقِصَ فمَاتَ وهُوَ مُحْرِمٌ،
ـــــــ
باب ماجاء في المحرم يموت في إحرامه
قوله: "فوقص" بصيغة المجهول أي كسر عنقه. قال في النهاية: الوقص(4/22)
فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وسِدْرٍ وكَفّنُوهُ في ثَوْبَيْهِ ولا تُخَمّرُوا رَأْسَهُ فإِنّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القيامة يُهِلّ أَوْ يُلَبّي".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وهو قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ والشّافِعيّ وأحمدَ وإسحاقَ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: إذَا مَاتَ المُحْرِمُ انْقَطَعَ إحْرَامُهُ ويُصْنَعُ بِهِ كما يُصْنَعُ بِغَيْرِ المُحْرِمِ.
ـــــــ
كسر عنق وقصت عنقه أقصها وقصا، ووقصت به راحلته كقولك خذ الخطام وخذ بالخطام، ولا يقال وقصت العنق نفسها ولكن يقال وقص الرجل فهو موقوص انتهى "ولا تخمروا رأسه" أي لا تغطوه "يهل أو يلبى" شك من الراوي والجملة حال أي يبعث ملبياً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وهو قول سفيان الثورى والشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول الجمهور قالوا: لا ينقطع إحرام المحرم بعد موته فلا يغطى رأسه ويكفن في ثوبيه، واستدلوا بحديث الباب.
قوله: "وقال بعض أهل العلم إذا مات المحرم ينقطع إحرامه ويصنع به ما يصنع بغير المحرم" وهو قول الحنفية والمالكية، واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: إذا مات ابن آدم انقطع عمله الحديث. رواه مسلم وأجاب العيني والزرقاني وغيرهما عن الحنفية والمالكية عن حديث الباب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لعله عرف بالوحي بقاء إحرامه بعد موته فهو خاص بذلك الرجل وبأنه واقعة حال لا عموم لها وبأنه علله بقوله: فإنه يبعث ملبياً. وهذا الأمر لا يتحقق في غيره وجوده فيكون خاصاً به. قال صاحب التعليق الممجد بعد ذكر هذه الأجوبة ما لفظه: ولا يخفى على المنصف أن هذا كله تعسف فإن البعث ملبياً ليس بخاص به بل هو عام في كل محرم حيث ورد يبعث كل عبد على ما مات عليه. أخرجه مسلم. وورد من مات على مرتبة من هذه المراتب بعث عليها يوم القيامة، أخرجه الحاكم، وورد أن المؤذن يبعث وهو يؤذن، والملبي يبعث وهو يلبي. أخرجه الأصبهاني في الترغيب والترهيب، وورد غير ذلك مما يدل عليه أيضاً كما بسطه السيوطي في البدور السافرة في أحوال الاَخرة، فهذا التعليل لا دلالة له على الاختصاص وإنما علل به لأنه لما حكم بعدم التخمير المخالف لسنن الموتى نبه على حكمه فيه وهو أنه يبعث ملبياً فينبغي إبقاؤه على صورة الملبين، واحتمال الاختصاص بالوحي مجرد احتمال لا يسمع، وكونه واقعة حال لا عموم لها إنما يصح إذا لم يكن فيه تعليل، وأما إذا وجد وهو عام فيكون الحكم عاماً. والجواب عن أثر ابن عمر يعني الذي رواه محمد عن مالك عن نافع أن ابن عمر كفن ابنه واقد بن عبد الله وقد مات محرماً بالجحفة وخمر رأسه، أنه يحتمل أنه لم يبلغه الحديث، ويحتمل أن يكون بلغه وحمله على الأولوية وجوز التخمير، ولعل هذا هو الذي لا يتجاوز الحق عنه. انتهى كلام صاحب التعليق الممجد. وقال الحافظ في فتح الباري: قال أبو الحسن بن القصار: لو أريد تعميم هذا الحكم في كل محرم لقال فإن المحرم كما جاء أن الشهيد يبعث وجرحه يثعب دما. وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة في الأمر المذكور كونه كان في النسك وهي عامة في كل محرم والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت لغيره حتى يتضح التخصيص انتهى(4/23)
باب ماجاء أن المحرم يشتكي عينه فيضمدها بالصبر
...
16 ـ باب ما جَاءَ في المُحْرِمَ يَشْتَكِي عَيْنَهُ فَيَضْمِدُهَا بالصّبْر
959 ـ حدثنا بنُ أبِي عَمر حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أيّوبَ بنِ مُوسَى عن نبَيْهِ بنِ وهْبٍ "أنّ عُمرَ بنَ عُبَيْدِ الله بن مَعْمَرٍ اشْتَكَى عَيْنَيْهِ وهُوَ مُحْرِمٌ فَسَأَلَ أَبَانَ بنَ عُثْمانَ فقَالَ اضْمِدْهُمَا بالصّبْرِ فإنّي سَمِعتُ عُثْمانَ بنَ عَفَانَ يَذْكُرُهُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ اضْمِدْهمَا بالصّبْرِ".
ـــــــ
باب ما جاء أن المحرم يشتكي عينه فيضمدها بالصبر
ككتف ولا يسكن إلا بضرورة الشعر وهو عصارة جامدة من نبات كالسوسن بين صفرة وحمرة منه سقوطرى ومنه عربي ومنه سميخاني أفضله سقوطرى كذا في القاموس وبحر الجواهر. والضماد بالكسر أن يخلط الدواء بمائع ويلين ويوضع على العضو، وأصل الضمد الشد من باب ضرب يقال ضمد رأسه وجرحه إذا شده بالضمادة وهي خرقة يشد بها العضو الماؤف ثم نقل لوضع الدواء على الجرح وغيره وان لم يشد(4/24)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ لاَ يَرَوْنَ بَأْساً أنْ يتَدَاوَى المُحْرِمُ بِدَوَاءٍ مَا لَمْ يَكُنْ فيهِ طِيبٌ.
ـــــــ
قوله: "عن نبيه بن وهب" بنون مضمومة وباء موحدة مصغراً. قوله: "اشتكى عينيه" وفي رواية لمسلم: رمدت عينه "يقول اضمدها بالصبر" بكسر الميم، وفي رواية لمسلم: فإن عثمان حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدها بالصبر. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم الخ" قال النووي: اتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه مما ليس بطيب ولا فدية في ذلك فإن احتاج إلى ما فيه طيب جاز له فعله وعليه الفدية. واتفق العلماء على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه ولا فدية عليه فيه، وأما الاكتحال للزينة فمكروه عند الشافعي وآخرين، ومنعه جماعة منهم أحمد وإسحاق. وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين، وفي إيجاب الفدية عندهم بذلك خلاف انتهى.(4/25)
باب ماجاء في المحرم يحلق رأسه في أحرامه ما عليه
...
17 ـ باب ما جَاءَ في المُحْرِم يَحْلِقُ رَأْسَهُ في إحْرَامِهِ ما عَلَيْه
960 ـ حدثنا ابنُ أبيِ عُمرَ حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أَيّوبَ السّختياني و ابنِ أبِي نَجِيحٍ و حُمَيْدٍ الأعْرَجِ و عَبْدِ الكَرِيمِ عن مُجَاهِدٍ عن عَبْدِ الرحمَن بنِ أبِي لَيْلَى عن كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ بِهِ وهُوَ بالحُدَيْبيّةِ قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ مَكّةَ وهُوَ مُحْرِمٌ وهُوَ يوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ
ـــــــ
باب ما جاء في المحرم يحلق رأسه في إحرامه ما عليه؟
قوله: "عن كعب بن عجرة" بضم العين وسكون الجيم صحابي مشهور.
قوله: "مر به" أي بكعب بن عجرة "وهو" أي كعب "بالحديبية" بضم الحاء المهملة وفتح الدال مصغراً. قال الجزري في النهاية: هي قرية قريبة من مكة سميت ببئر فيها وهي مخففة وكثير من المحدثين يشددها انتهى "وهو محرم وهو يوقد تحت قدر" الضميران يرجعان إلى كعب، وفي رواية أبي وائل عن كعب:(4/25)
والقَمْلُ يَتَهَافَتُ على وَجهِهِ فقال: أتُوءْذِيكَ هَوَامُكَ هَذِهِ؟ فقالَ نَعَمْ، فقالَ احْلقْ وأطعْمْ فَرَقاً بَيْنَ سِتّةِ مَسَاكِينَ والفَرَقُ ثلاثةُ آصُعٍ أوْ صُم ثلاثةَ أيّامٍ أو انْسُكْ نَسِيكَةً" قالَ ابنُ أبي نَجيحٍ "أو اذْبَحْ شَاةً".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ أَنّ المُحْرِمَ إذَا رأسه حَلَقَ أوْ لَبِسَ مِنَ الثّيَابِ مَا لاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْبَسَ في إحْرَامِهِ أو تَطَيّبَ فَعَلَيْهِ الكَفّارَةُ بِمِثْلِ ما رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
وأنا أطبخ قدراً لأصحابي. قاله الحافظ "والقمل" بفتح القاف وسكون الميم دويبة يتولد من العرق والوسخ إذا أصاب ثوباً أو بدناً أو شعراً يقال له بالفارسية سبس "يتهافت" بالفاء أي يتساقط شيئاً فشيئاً "هوامك" بتشديد الميم جمع هامة وهي ما يدب من الأخشاش والمراد بها ما يلازم جسد الانسان إذا طال عهده بالتنظيف، وقد عين في كثير من الروايات أنها القمل. قاله الحافظ "وأطعم فرقاً" بفتح الفاء والراء وقد تمكن قاله ابن فارس. وقال الأزهري: كلام العرب بالفتح والمحدثون قد يسكنونه وآخره قاف، مكيال معروف بالمدينة "والفرق ثلاثة آصع" بمد الهمزة وضم الصاد جمع صاع وأصله أصوع فقلب وأبدل الواو همزة والهمزة ألفاً. وجاء في رواية أصوع على الأصل وذلك مثل آدر في جمع دار، كذا في اللمعات. ولمسلم من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين. قال الحافظ في فتح الباري: وإذا ثبت أن الفرق ثلاثة آصع اقتضى أن الصاع خمسة أرطال وثلث خلافا لمن قال إن الصاع ثمانية أرطال "أو انسك" بضم السين "نسيكة" أي اذبح ذبيحة والنسيكة الذبيحة "قال ابن أبي نجيح أو اذبح شاة" أي مكان أو انسك نسيكة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الشيخان قوله: "فعليه الكفارة بمثل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي في حديث الباب من الإطعام أو الصيام أو ذبح شاة(4/26)
باب ماجاء في الرخصة للرعاة أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً
...
18 ـ باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ للرّعَاء أَنْ يَرْمُوا يوْماً ويَدَعُوا يَوْما
961 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمرَ حدثنا سُفْيَانُ بن عينية عن عَبْدِ الله بنِ أبي بَكْر بنِ محمدِ بنِ عَمْروِ بنِ حَزْمِ عن أبيهِ عن أبي البَدّاحِ بنِ عَديَ عن أَبيه "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أرخَص لِلرّعَاءِ أنْ يَرْمُوا يَومْاً ويَدَعُوا يَوْماً".
قال أبو عيسى: هكذا رَوَى ابنُ عُيَيْنَةَ. ورَوَى مَالِكُ بنُ أَنَسٍ عن عَبْدِ الله بنِ أَبي بَكْرٍ عن أبيهِ عن أَبي البَدّاحِ بنِ عَاصِمِ بن عَدِي عن أَبيهِ.
ـــــــ
باب ما جاء في الرخصة للرعاة أن يرموا يوماً ويدعو يوماً
الرعاة بضم الراء جمع الراعي
قوله: "حدثنا ابن أبي عمر" هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة صدوق صنف المسند وكان لازم ابن عيينة لكن قال أبو حاتم كانت فيه غفلة. وقال في الخلاصة وثقه ابن حبان. وقال أبو حاتم صدوق حدث بحديث موضوع عن ابن عيينة "أخبرنا سفيان" هو ابن عيينة "عن أبي البداح" بفتح الموحدة وتشديد المهملة وآخره مهملة ابن عاصم بن عدى بن الجد بفتح الجيم، يقال اسمه عدي ويقال كنيته أبو عمرو، وأبو البداح لقب ثقة من الثالثة "عن أبيه" أي عاصم بن عدي. قال السيوطي في قوت المغتذي: ليس لأبي البداح ولا لأبيه عند المصنف إلا هذا الحديث.
قوله: "رخص للرعاء" بكسر الراء جمع الراعي "أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً" بفتح الدال أي يتركوا، يعني يجوز لهم أن يرموا اليوم الأول من أيام التشريق ويذهبوا إلى إبلهم فيبيتوا عندها ويدعوا يوم النفر الأول ثم يأتوا في اليوم الثالث فيرموا ما فاتهم في اليوم الثاني مع رمي اليوم الثالث، وفيه تفسير ثان وهو أنهم يرمون جمرة العقبة ويدعون رمي ذلك اليوم ويذهبون ثم يأتون في اليوم الثاني من التشريق فيرمون ما فاتهم ثم يرمون عن ذلك اليوم كما تقدم وكلاهما جائز، وإنما رخص للرعاء لأن عليهم رعى الإبل وحفظها لتشاغل الناس بنسكهم عنها ولا يمكنهم الجمع بين رعيها وبين الرمي والمبيت فيجوز لهم ترك المبيت للعذر والرمي على الصفة المذكورة كذا في النيل.(4/27)
ورِوَايَةُ مَالِكٍ أَصَحّ. وقَدْ رَخّص قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ للرّعَاء أَنْ يَرْمُوا يَوْماً ويَدَعُوا يَوْماً وهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ.
962 ـ حدثنا الحَسَنُ بنُ عَلِي الخَلاّل حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ أخبرنا مَالِكُ بنُ أَنَسٍ حَدّثَنيِ عَبْدُ الله بنُ أَبي بَكْرٍ عن أبيهِ عن أَبي البَدّاحِ
ـــــــ
قوله: "هكذا روى ابن عيينة" يعني روى عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أبي البداح بن عدي عن أبيه فقال ابن عيينة عن أبي البداح بن عدي عن أبيه فيظهر منه أن عدياً والد أبي البداح وهو يروي هذا الحديث عنه، وليس الأمر كذلك، فإن عدياً هو جد أبي البداح، ووالد أبي البداح هو عاصم بن عدي وهو يروي هذا الحديث عن والده عاصم بن عدي وقد صرح به الامام مالك في الرواية الاَتية. وقال الامام محمد رحمه الله في موطأه أخبرنا مالك حدثنا عبد الله بن أبي بكر أن أباه أخبره أن أبا البداح بن عاصم بن عدي أخبره عن أبيه عاصم بن عدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص لرعاء الإبل الحديث "وروى مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه" فقال مالك عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه يعني عاصم بن عدي وهذا هو الصحيح، فإن أبا البداح يروي هذا الحديث عن أبيه وهو عاصم لا عن جده وهو عدي وهذا ظاهر لمن تتبع كتب الرجال ولذلك قال الترمذي "ورواية مالك أصح" يعني قول مالك عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه صحيح، وأما قول سفيان بن عيينة عن أبي البداح بن عدي عن أبيه ليس بصحيح. فإن قلت: قال الحافظ في التلخيص: من قال عن أبي البداح بن عدي فقد نسبه إلى جده انتهى قلت: يخدشه قوله عن أبيه بعد قوله عن أبي البداح بن عدي فتفكر تنبيه: وجه كون رواية مالك أصح ظاهر، لكن لم يفهمه صاحب العرف الشذي فاعترض على الترمذي حيث قال: كيف الفرق بين رواية مالك وابن عيينة، ثم ذكر وجوهاً للأصحية واهية من عند نفسه ثم ردها ولم يرض بها ثم قال: فالحاصل أني لم أجد وجهاً شافياً لترجيح رواية مالك على رواية ابن عيينة انتهى. قلت: لو تأمل صاحب العرف الشذي في كلام الترمذي تأملاً صادقاً لوجد الوجه الشافي لأصحية رواية مالك.(4/28)
بنِ عاصم بن عَدِي عن أبيهِ قال رَخّصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِرعَاءِ الإبِلِ في البَيْتُوتَةِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمَ النّحْرِ ثُمّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النّحْرِ فَيَرْمُونَهُ في أحَدهِمَا. قالَ مَالِكٌ ظَنَنْتُ أَنّهُ قالَ في الأوّل منهما ثُمّ يَرْمُونَ يَوْمَ النّفْرِ". وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهُوَ أَصَحّ مِنْ حدِيثِ ابنِ عُيَيْنَةَ عن عَبدِ الله بنِ أَبي بَكْرٍ.
ـــــــ
قوله: "في البيتوتة" مصدر بات أي في القيام ليلاً بمنى اللائق للحجاج أي أباح لرعاة الإبل ترك البيتوتة بمنى "أن يرموا يوم النحر" أي جمرة العقبة "ثم يجمعوا رمي يومين" أي الحادي عشر والثاني عشر "فيرمونه" أي رمي اليومين "في أحدهما" أي في أحد اليومين لأنهم مشغولون برعي الإبل. قال الطيبي رحمه الله: أي رخص لهم أن لا يبيتوا بمنى ليالي أيام التشريق وأن يرموا يوم العيد جمرة العقبة فقط ثم لا يرموا في الغد، بل يرموا بعد الغد رمي اليومين القضاء والأداء. ولم يجوز الشافعي ومالك رحمهما الله أن يقدموا الرمي في الغد انتهى كلام الطيبي. قال القاري: وهو كذلك عند أئمتنا.
قوله: "قال مالك ظننت أنه" أي عبد الله بن أبي بكر قوله: "في الأول منهما" أي في اليوم الأول من اليومين "ثم يرمون يوم النفر" أي يوم الانصراف من منى وهو اليوم الثالث عشر وهو يوم النفر الثاني.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال في المنتقى: أخرجه الخمسة وصححه الترمذي. وقال في النيل أخرجه أيضاً مالك والشافعي وابن حبان والحاكم انتهى. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الشوكاني في النيل(4/29)
19 ـ باب
963 ـ حدثنا عَبْدُ الوَارِثِ بن عَبْدِ الصّمَدِ بنِ عَبْدِ الوَارِثِ أخبرنا سُلِيمُ بنُ حَيّانَ قالَ سَمِعْتُ مَرْوَانَ الأصْفَرَ عن أَنَسٍ
ـــــــ
باب
قوله: "أخبرنا سليم" بفتح أوله "بن حيان" بفتح المهملة وتشديد التحتانية الهزلي البصري ثقة من السابعة "قال سمعت مروان الأصفر" أبا خليفة البصرى قيل اسم أبيه خاقان وقيل سالم ثقة من الرابعة.(4/29)
بنِ مالكٍ "أنّ عَلِيّاً قَدِمَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ اليَمَنِ فقالَ بمَا أَهْلَلْتَ؟ قالَ: أهْلَلتُ بِمَا أهَلّ بهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: لَوْلاَ أنَ مَعِيَ هَدْياً لأحْلَلْتُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
قوله: "بما أهللت؟" قال أهللت بما أهل به "رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي حديث جابر الطويل عند مسلم: ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك "قال لولا أن معي هدياً لأحللت" وفي حديث جابر الطويل قال: فإن معي الهدى فلا تحل. وفي الحديث دليل على أنه يجوز تعليق إحرام الرجل على إحرام غيره(4/30)
20 ـ باب
964 ـ حدثنا عبْدُ الوَارِثِ بن عبْدِ الصّمَدِ بنِ عبْدِ الوَارِثِ حدثنا أبي عن أبيهِ عن محمدِ بنِ إسْحَاقَ عن
أبي إسْحَاق عن الحَارِثِ عن عَلِي قالَ "سأَلْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ يَوْمِ الحَجّ الأكْبَرِ فقَالَ يَوْمُ النّحْرِ".
965 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمرَ حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أبي إسْحَاقَ عن الحَارِثِ عن عَلِي قالَ: "يَوْمُ الحَجّ الأكْبَرِ يَوْمُ النّحْرِ". ولَمْ يَرفَعْهُ وهذا أصَحّ مِنَ الحَديثِ الأوّلِ. ورِوَايَةُ ابنِ عُيَيْنَةَ مَوْقُوف أصَحّ مِنْ رِوَايَةِ محمدِ بنِ إسْحَاقَ مرفوع.
ـــــــ
باب
قوله: "فقال يوم النحر" لما فيه من أكثر أحكام الحج من رمي الجمرة العقبة والحلق والذبح وطواف الزيارة وغيرها. قوله: "وهذا أصح من الحديث الأول" أي أرجح من الحديث الأول وأقل ضعفاً منه فهما ضعيفان لأن في سندهما الحارث وهو الأعور وهو ضعيف وبين الترمذي وجه الأصحية بقوله: روى(4/30)
قال أبو عيسى: هكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الحُفّاظِ عن أبي إسْحَاقَ عن الحَارِثِ عن عَلِي مَوْقُوفاً
ـــــــ
غير واحد من الحفاظ الخ. وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال هذا يوم الحج الأكبر. أخرجه البخاري وغيره.
تنبيه: قد اشتهر بين العوام أن يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة كان الحج حجاً أكبر ولا أصل له، نعم روى رزين عن طلحة بن عبيد الله بن كرز أرسله: أفضل الأيام يوم عرفة وإذا وافق يوم جمعة فهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم جمعة. كذا في جمع الفوائد وهو حديث مرسل ولم أقف على إسناده.
فائدة ـ قال الحافظ: واختلف في المراد بالحج الأصغر، فالجمهور على أنه العمرة، وقيل الحج الأصغر يوم عرفة والحج الأكبر يوم النحر لأن فيه تتكمل بقية المناسك. وذكر الحافظ أقوالاً أخرى وإن شئت الوقوف عليها فارجع إلى الفتح.(4/31)
21 ـ باب
966 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا جَرِيرٌ عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عن ابنِ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ عن أبيهِ "أنّ ابنَ عُمرَ كانَ يُزَاحِمُ على الرّكْنَيْنِ زحاماً ما رأيت أحدا ً من
ـــــــ
باب
قوله: "عن ابن عبيد" بالتصغير اسمه عبد الله ثقة من الثالثة "بن عمير" بالتصغير أيضاً "عن أبيه" عبيد بن عمير يكنى أبا عاصم الليثي الحجازي قاضي أهل مكة ولد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال رآه، وهو معدود في كبار التابعين مات قبل ابن عمر رضي الله عنه.
قوله: "أن ابن عمر كان يزاحم" أي يغالب الناس "على الركنين" أي الحجر الأسود والركن اليماني "زحاماً" قال الطيبي أي زحاماً عظيماً، وهو يحتمل أن يكون في جميع الأشواط، أو في أوله وآخره فإنهما آكد أحوالها. وقد قال الشافعي(4/31)
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعله فَقُلْتُ يَا أبا عَبْدِ الرحمَن إنّكَ تُزَاحِمُ على الرّكْنَبْنِ زِحَاماً مَا رَأَيْتُ أَحَداً مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم يُزَاحِمُ عَلْيهِ فقالَ: إنْ أَفْعَلَ فإنّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِنّ مَسْحَهُمَا كَفّارَةٌ للخَطَايَا. وسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أسبُوعاً فَأَحْصَاهُ كانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ. وسمِعْتُهُ يَقُولُ: لاَ يَضَع قَدَماً ولاَ يَرْفَع أُخْرَى إلاّ حَطّ الله عَنهُ خَطِيئَةً وكتب لهُ بهَا حَسَنَةٌ".
ـــــــ
في الأم: ولا أحب الزحام في الاستلام إلا في بدء الطواف وآخره لكن المراد ازدحام لا يحصل فيه أذى للأنام لقوله عليه الصلاة والسلام لعمر: إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر. رواه الشافعي وأحمد "يزاحم عليه" أي على ما ذكر أو على كل واحد. وقد جاء أنه ربما دمى أنفه من شدة تزاحمه وكأنهم تركوه لما يترتب عليه من الأذى، فالاقتداء بفعلهم سيما هذا الزمان أولى قاله القاري في المرقاة. قلت: روى سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمي. ومن طريق أخرى أنه قيل له في ذلك فقال هوت الأفئدة إليه فأريد أن يكون فؤادي معهم. وروى الفاكهي من طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة وقال: لا يؤذي. كذا في فتح الباري "إن أفعل" أي هذا الزحام فلا ألام، فإن شرطية والجزاء مقدر ودليل الجواب قوله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ قاله القاري. وقال الشيخ عبد الحق في اللمعات أي أن أزاحم فلا تنكروا عَلَىّ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل استلامهما فإني لا أطيق الصبر عنه "وسمعته" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً "سبوعاً" كذا وقع في النسخ الموجودة بلا ألف، ووقع في المشكاة أسبوعاً بالألف. قال في المجمع: طاف أسبوعاً أي سبع مرات، والأسبوع الأيام السبعة، وسبوع بلا ألف لغة انتهى. وقال القاري. وقال القاري: أي سبعة أشواط كما في رواية "فأحصاه" قال السيوطي أي لم يأت فيه بزيادة أو نقص. وقال القارى بأن يكمله ويراعي ما يعتبر في الطواف من الشروط والاَداب "لايضع" أي الطائف "إلا حط الله عنه بها" أي إلا وضع الله ومحا عنه بها أي إلا وضع الله ومحا عن الطائف بكل قدم(4/32)
قال أبو عيسى: وَرَوَى حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عن ابنِ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ عن ابنِ عُمَرَ نَحْوَهُ ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ "عن أبيهِ" . هذا حديثٌ حسنٌ.(4/33)
22 ـ باب
967 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا جَرِيرٌ عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عن طَاوس عن ابنِ عَبّاسٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: الطّوافُ حَوْلَ البَيْتِ مِثْلُ الصّلاَةِ إلاّ أنكُمْ تَتَكَلّمُونَ فيهِ فَمنْ تَكَلّمَ فِيهِ فَلاَ يَتَكَلّمنّ إلاّ بِخَيْرٍ".
ـــــــ
باب
قوله: "الطواف حول البيت" احتراز من الطواف بين الصفا والمروة "مثل الصلاة" بالرفع على الخبرية وجوز النصب أي نحوها "إلا أن تتكلمون فيه" أي في الطواف. قال القاري في المرقاة: أي تعتادون الكلام فيه، والاستثناء متصل أي مثلها في كل معتبر فيها وجوداً وعدماً إلا التكلم يعني وما في معناه من المنافيات من الأكل والشرب وسائر الأفعال الكثيرة، وإما منقطع أي لكن رخص لكم في الكلام وفي العدول عن قوله "إلا الكلام" نكتة لطيفة لا تخفى. ويعلم من فعله عليه الصلاة والسلام عدم شرطية الاستقبال وليس لأصل الطواف وقت مشروط وبقي بقية شروط الصلاة من الطهارة الحكمية والحقيقية وستر العورة، فهي معتبرة عند الشافعي كالصلاة وواجبات عندنا لأنه لا يلزم من مثل الشيء أن يكون مشاركاً له في كل شيء على الحقيقة، مع أن الحديث من الاَحاد وهو ظني لا يثبت به الفرضية مع الاتفاق أنه يعفي عن النجاسة التي بالمطاف إذ شق اجتنابها، لأن في زمنه عليه الصلاة والسلام وزمن أصحابه الكرام ومن بعدهم لم تزل فيه نجاسة زرق الطيور وغيرها لم يمتنع أحد من الطواف به لأجل ذلك ولا أمر من يقتدي به بتطهير ما هنالك "فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير" أي من ذكر الله وإفادة علم واستفادته على وجه لا يشوش على الطائفين.(4/33)
قال أبو عيسى: وقد رُوِيَ هذا الحديث عن ابنِ طَاوسٍ وغَيْرِهِ عن طَاوسٍ عن ابنِ عبّاسٍ مَوْقُوفاً ولاَ نَعْرِفُهُ مَرْفُوعاً إلاّ مِنْ حدِيثِ عَطَاءِ بنِ السّائِبِ والعملُ على هذا عِنْدَ أَكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ يَسْتَحِبّونَ أن لا يَتَكَلّمَ الرّجُلُ في الطّوافِ إلاّ لحَاجَةٍ أوْ بذِكر الله تعالَى وذا مِنَ العِلمِ.
ـــــــ
قوله: "وقد روى عن ابن طاوس وغيره عن طاوس عن ابن عباس موقوفاً الخ" قال الحافظ في التلخيص. رواه الترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس، وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن حبان. وقال الترمذي: روى مرفوعاً وموقوفاً ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء، ومداره على عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس، واختلف في رقعه ووقفه، ورجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي وزاذان رواية الرفع ضعيفة، وفي إطلاق ذلك نظر، فإن عطاء بن السائب صدوق وإذا روى عنه الحديث مرفوعاً تارة وموقوفاً أخرى فالحكم عند هؤلاء الجماعة للرفع، والنووي ممن يعتمد ذلك ويكثر منه ولا يلتفت إلى تعليل الحديث به إذا كان الرافع ثقة فيجيئ على طريقته أن المرفوع صحيح. فإن اعتل عليه بأن عطاء بن السائب اختلط ولا تقبل إلا رواية من رواه عنه قبل اختلاطه، وأجيب بأن الحاكم أخرجه من رواية سفيان الثوري عنه والثوري ممن سمع قبل اختلاطه باتفاق وإن كان الثوري قد اختلف عليه في وقفه ورفعه فعلى طريقتهم تقدم رواية الرفع أيضاً. والحق أنه من رواية سفيان موقوف ووهم عليه من رفعه. وقد بسط الحافط الكلام ههنا من شاء الوقوف عليه فليرجع إلى التلخيص ص 47(4/34)
23 ـ باب
968 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ عن جَرِير عن ابنِ خُثَيْمٍ عن سَعِيدِ
ـــــــ
باب
قوله: "أخبرنا جرير" هو ابن عبد الحميد بن قرط الضبي ثقة "عن ابن خثيم" بالخاء المعجمة والمثلثة مصغراً هو عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري المكي أبو عثمان ثقة.(4/34)
بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: "قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحَجَرِ والله ليَبْعَثَنّهُ الله يَوْمَ القيامةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهمَا ولِسَانٌ يَنْطِقُ بهِ يَشْهَدُ على مَن اسْتَلَمَهُ بِحَقّ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ.
969 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا وَكِيعٌ عن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ عن فَرْقَدٍ السّبَخِيّ عن سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عُمرَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر" أي في شأن الحجر الأسود ووصفه "ليبعثنه الله" أي ليظهرنه "له عينان يبصر بهما" فيعرف من استلمه "يشهد على من استلمه بحق" قال العراقي: على هذا بمعنى اللام وفي رواية أحمد والدارمي وابن حبان يشهد لمن استلمه، قال والباء في بحق يحتمل تعلقها بيشهد أو باستلمه، كذا في قوت المغتذي. وقال الشيخ في اللمعات: كلمة علي باعتبار تضمين معنى الرقيب والحفيظ، وقوله بحق متعلق باستلمه، أي استلمه إيماناً واحتساباً، ويجوز أن يتعلق بيشهد والحديث محمول على ظاهره فإن الله تعالى قادر على إيجاد البصر والنطق في الجمادات فإن الأجسام متشابهة في الحقيقة يقبل كل منها ما يقبل الاَخر من الأعراض. ويأوله الذين في قلوبهم زيغ التفلسف ويقولون إن ذلك كناية عن تحقيق ثواب المستلم وإن سعيه لا يضيع والعجب من البيضاوي أنه قال إن الأغلب على الظن أن المراد هذا وإن لم يمتنع حمله على الظاهر، ولا عجب فإنه مجبول على التفلسف في تفسير القرآن وشرح الأحاديث تجاوز الله عنه انتهى كلام الشيخ.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه ابن ماجه والدارمي. قال الحافظ في الفتح في صحيح ابن خزيمة عن ابن عباس مرفوعاً: إن لهذا الحجر لساناً وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق وصححه أيضاً ابن حبان والحاكم وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضاً انتهى. ولو أورد الترمذي هذا الحديث في باب فضل الحجر الأسود لكان أحسن.
قوله: "عن فرقد السبخي" قال في التقريب: فرقد بن يعقوب السبخي(4/35)
كانَ يَدّهِنُ بالزّيْتِ وهُوَ مُحْرِمٌ غَيْرِ المُقتّتِ".
قال أبو عيسى: المُقَتّتُ المُطَيّب. هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حدِيثِ فَرْقَدٍ السّبَخِي عن سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ. وقد تَكَلّمَ يَحْيَى بنُ سَعيدٍ في فَرْقَدٍ السّبَخِيّ ورَوَى عنهُ النّاسُ.
ـــــــ
بفتح المهملة والموحدة وبخاء معجمة أبو يعقوب البصري صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ من الخامسة انتهى. وقال الذهبي في الميزان: قال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال ابن معين: ثقة. وقال البخاري: في حديثه مناكير. وقال النسائي: ليس بثقة وقال أيضاً هو والدارقطني: ضعيف. وقال يحي القطان: ما يعجبني الرواية عن فرقد انتهى. وقال في ترجمة محمد بن يونس القرشي الشامي نقلاً عن ابن حبان: فرقد السبخي ليس بشيء انتهى.
قوله: "غير المفتت" قال في القاموس: زيت مفتت طبخ فيه الرياحين أو خلط بأدهان طيبة انتهى. والحديث يدل على جواز الادهان بالزيت الذي لم يخلط بشيء من الطيب لكن الحديث ضعيف قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه يجوز للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن والشيرج وأن يستعمل ذلك في جميع بدنه سوى رأسه ولحيته. قال وأجمعوا على أن الطيب لا يجوز استعماله في بدنه، وفرقوا بين الطيب والزيت في هذا، كذا في الفتح والنيل. قلت: ظاهر كلام الحنفية أن الادهان ممنوع عندهم مطلقاً. قال الرغيناني الحنفي في الهداية: ولا يمس طيباً لقوله عليه السلام: الحاج الشعث التفل وكذا لا يدهن لما روينا انتهى. قال ابن الهمام: والشعث انتشار الشعر وتغيره لعدم تعهده فأفاد منع الادهان انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب الخ" ومع كونه غريباً ضعيف لأن مداره على فرقد السبخي وقد عرفت حاله. والحديث أخرجه أحمد وابن ماجة أيضاً.(4/36)
24 ـ باب
970 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ حدثنا خَلاّدُ بنُ يَزِيدَ الجُعْفيّ
ـــــــ
باب
قوله: "حدثنا خلاد بن يزيد الجعفي" الكوفي صدوق له أوهام من العاشرة(4/36)
أخبرنا زُهَيْرُ بنُ مُعَاوِيَةَ عنِ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عائِشَةَ رضي الله عنها "أنّهَا كانَتْ تَحْمِلُ مِنْ مَاءِ زَمْزَم وتُخْبِرُ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يَحْمِلُهُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
"أخبرنا زهير بن معاوية" بن خديج الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة ثقة ثبت إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بآخره من السابعة.
قوله: "كان يحمله" فيه دليل على استحباب حمل ماء زمزم إلى المواطن الخارجة عن مكة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب الخ" وأخرجه البيهقي والحاكم وصححه كذا في النيل(4/37)
25 ـ باب
971 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ و محمدُ بنُ الوَزِيرِ الوَاسِطيّ المَعْنَى واحِدٌ قالا حدثنا إسْحَاقُ بنُ يُوسُفَ الأزْرَقُ عن سُفَيانَ عن عَبْدِ العَزيزِ بنِ رَفَيْعٍ قال: "قُلْتُ لأنَس بن مالك حَدّثْني بِشَيءٍ عَقلْتَهُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أيْنَ صَلّى الظّهْرَ يَوْمَ التّرْوِيَةِ؟ قال بِمنى، قالَ قُلْتُ
ـــــــ
باب
قوله: "ومحمد بن الوزير الواسطي" ثقة عابد من العاشرة "أخبرنا إسحاق بن يوسف الأزرق" بتقديم الزاء على الراء ثقة من التاسعة "عن سفيان" هو الثوري صرح به الحافظ "عن عبد العزيز بن رفيع" بالفاء مصغراً المكي نزيل الكوفة ثقة من الرابعة "أين صلى الظهر يوم التروية" أي يوم الثامن من ذي الحجة، وسمى التروية بفتح المثناة وسكون الراء وكسر الواو وتخفيف التحتانية لأنهم كانوا يروون فيها إبلهم ويتروون من الماء لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون، وأما الاَن فقد كثرت جداً واستغنوا عن حمل الماء. وقيل(4/37)
وأَيْنَ صَلّى العَصْرَ يَوْمَ النّفْرِ؟ قال: بالأبْطَحِ، ثُمّ قال: افْعَلْ كَمَا يَفَعلُ أُمَرَاؤكَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ يُسْتَغْرَبُ مِنْ حديِثِ إسْحَاقَ بن يوسف الأزْرَقِ عن الثّوْرِيّ رحمه الله.
آخر أبواب الحج
ـــــــ
في تسمية التروية أقوال أخرى ذكرها الحافظ في الفتح لكنها شاذة "يوم النفر" بفتح النون وسكون الفاء هو اليوم الثالث من أيام التشريق "بالأبطح" أي البطحاء التي بين مكة ومنى وهي ما انبطح من الوادي واتسع وهي التي يقال لها المحصب والمعرس، وحدها ما بين الجبلين إلى المقبرة كذا في فتح الباري "ثم قال" أي أنس "افعل كما يفعل أمراؤك" أي لا تخالفهم فإن نزلوا به فانزل به، فإن تركوه فاتركه حذراً مما يتولد على المخالفة من المفاسد، فيفيد أن تركه لعذر لا بأس به.
قوله: "هذا حديث صحيح يستغرب الخ" يعني أن إسحاق تفرد به. قال الحافظ في الفتح: وأظن أن لهذه النكتة أردفه البخاري بطريق أبي بكر بن عياش عن عبد العزيز، ورواية أبي بكر وإن كان قصر فيها متابعة قوية بطريق إسحاق، وقد وجدنا له شواهد، ثم ذكر الحافظ شواهده. والحديث أخرجه البخاري ومسلم(4/38)
أبواب الجنائز
باب ماجاء في ثواب المرض
...
أبواب الجنائز
عن رسول لله صلى الله عليه وسلم
1 ـ باب ما جَاءَ في ثَوابِ المَريض
972ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا أبُو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن إبَراهِيم عن الأسْوَدِ عن عائِشَةَ قالتْ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "لا يُصِيبُ المُؤمِنَ شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إلاّ رَفَعَهُ الله بِهَا دَرَجَةً وَحَطّ عَنْهُ بها خَطِيئَةً".
وفي البابِ عن سَعْدِ بنِ أَبي وقّاصٍ وأبي عُبَيْدَةَ بن الجراحِ وأبي هُرَيْرَة وأبي أُمَامَةَ وأبي سَعِيدٍ وأنَسٍ وعبْدِ الله بنِ عَمْروٍ وأسَدِ بنِ كُلاز وجَابر بن عبدالله وعَبْدِ الرحمَن بنِ أزْهَرَ وأبي مُوسَى.
ـــــــ
أبواب الجنائز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال النووي: الجنازة بكسر الجيم وفتحها والكسر أفصح، ويقال بالفتح للميت وبالكسر للنعش عليه ميت ويقال عكسه، والجمع جنائز بالفتح لا غير، قال: والجنازة مشتقة من جنز إذا ستر ذكره ابن فارس وغيره والمضارع يجنز بكسر النون انتهى
باب ما جاء في ثواب المرض
قوله: "شوكة" بالفتح وهو في الفارسية خار "فما فوقها" يمكن أن يراد به ما هو فوقها في الصغر والقلة فيرجع إلى ما هو أقل منها أو ما هو فوقها في الكبر والتألم فيرجع إلى ما هو أكبر منها، وقد فسروا بالوجهين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} والمعنى الأول أنسب وأفيد قاله أبو الطيب السندي.
قوله: "وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح وأبي هريرة وأبي أمامة وأبي سعيد وأنس وعبد الله بن عمرو وأسد بن كرز وجابر وعبد الرحمن بن أزهر وأبي موسى" أما حديث سعد بن أبي وقاص فأخرجه(4/39)
قال أبو عيسى: حديثُ عائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
973 ـ حدثنا سُفْيَانُ بن وَكِيعٍ حدثنا أبي عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ عن محمد بنِ عَمْروٍ بنِ عَطَاءٍ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيّ رضي الله عنه قالَ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ المُوءْمِنَ مِنْ نَصَبٍ ولا حَزَنٍ ولا وَصَبٍ حَتّى الهَمّ يَهُمّهُ إِلاّ يُكَفّرُ الله بهِ عَنهُ سيّئاته".
ـــــــ
الترمذي وابن ماجة والدارمي. وأما حديث أبي عبيدة بن الجراح فأخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصله في النسائي بسند جيد وصححه الحاكم وذكره الحافظ في الفتح في كتاب المرضى. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مالك في الموطأ والترمذي. وأما حديث أبي أمامة فأخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير كذا في الترغيب. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه الشيخان. وأما حديث أنس فأخرجه أحمد ورواته ثقات قاله المنذري. وأما حديث عبد الله بن عمرو فلينظر من أخرجه. وأما حديث أسد بن كرز فأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده وابن أبي الدنيا بإسناد حسن. وأما حديث جابر فأخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه. وأما حديث عبد الرحمن بن أزهر فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي موسى فأخرجه البخاري وأبو داود.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وما من شيء" ما نافية ومن زائدة للاستغراق قوله: "من نصب" بفتحتين التعب والألم الذي يصيب البدن من جراحة وغيرها "ولا حزن" بضم الحاء وسكون الزاي وبفتحتهما وهو الذي يظهر منه في القلب خشونة، يقال مكان حرن أي خشن "ولا وصب" بفتحتين الألم اللازم والسقم الدائم "حتى الهم" بالرفع فحتى ابتدائية والجملة بعد الهم خبره، وبالجر فحتى عاطفة أو بمعنى إلى فالجملة بعده حاله "يهمه" أي يذيبه من هممت الشحم إذا أذبته من باب نصر ينصر. قال في القاموس: الهم الحزن هم السقم جسمه أذابه وأذهب لحمه، وفي رواية البخاري: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، قال في الفتح: الهم ينشأ من الفكر فيما يتوقع حصوله مما يتأذى به، والغم كرب يحدث(4/40)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ في هذا البَابِ. قالَ وسمِعْتُ الجَارُودَ يَقُولُ سَمِعْتُ وَكِيعاً يَقُولُ: لَمْ يُسْمَعْ في الهَمّ أنّهُ يَكُونُ ـ كَفّارَةً إلاّ في هذا الحَدِيث. قالَ: وقد رَوَى بَعْضُهُمْ هَذا الحَدِيث عن عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
للقلب بسبب ما حصل، والحزن يحدث لفقد ما يشق على المرء فقده. وقيل الهم والغم بمعنى واحد انتهى. "إلا يكفر الله به عنه سيئاته" ظاهره تعميم جميع السيئات لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر لحديث: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. فحملوا المطلقات الواردة في التفكير على هذا المقيد.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه البخاري ومسلم "وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري في صحيحه من طريق محمد بن عمرو بن حلحلة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "قال وسمعت الجارود" أي قال الترمذي سمعت الجارود وهو الجارود بن معاذ السلمي الترمذي شيخ أبي عيسى الترمذي ثقة من العاشرة "يقول سمعت وكيعاً" هو وكيع بن الجراح الكوفي ثقة حافظ عابد من كبار التاسعة "أنه" أي وكيعاً.(4/41)
باب ماجاء في عيادة المريض
...
2 ـ باب ما جَاءَ في عِيَادَة المَرِيض
974 ـ حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ حدثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ أخبرنا خَالِدٌ الحَذّاءُ عن أبي قِلاَبَةَ عن أبي أَسْمَاءَ الرّحَبِيّ عن ثَوْبَانَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إنّ المُسْلِمَ إذَا عَادَ أَخَاهُ المُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ في خُرْفَةِ الجَنّةِ".
ـــــــ
باب ما جاء في عيادة المريض
قوله: "عن أبي أسماء الرحبى" هو عمرو بن مرثد ويقال اسمه عبد الله ثقة من الثالثة مات في خلافة عبد الملك.
قوله: "لم يزل في خرفة الجنة" زاد مسلم: حتى يرجع. والخرقة بضم الخاء(4/41)
وفي البابِ عن عَلِي وأبي مُوسَى والبَراءِ وأبي هُرَيْرَةَ وأنَسٍ وجَابِرٍ.
قال أبو عيسى: حدِيثُ ثَوْبَانَ حديثٌ حسنٌ صحيح. ورَوَى أبُو غِفَارٍ وعَاصِمٌ الأحْوَلُ هذا الحَدِيثَ عن أبي قِلاَبَةَ عن أبي الأشْعَثِ أبي عن أسْمَاءَ عن ثَوْبَانَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. وسَمِعْتُ محمداً يقُولُ: مَنْ رَوَى هذا الحَدِيثَ عن أبي الأشْعَثِ عن أبي أسْمَاءَ فَهُوَ أَصَحّ. قالَ محمدٌ: وأَحَادِيثُ أبي قِلاَبَةَ إنّمَا هِيَ عن أبي أسْمَاءَ إلاّ هذا الحَدِيثَ فهُوَ عِنْدِي عن أبي الأشْعَثِ عن أبي أسْمَاءَ.
ـــــــ
وسكون الراء وفتح الفاء. قال الهروي في غريبه: الخرقة ما يخترف من النخل حين يدرك ثمرة. قال أبو بكر بن الأنيارى: شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحرزه عائد المريض من الثواب بما يحرز المخترف من الثمر. وحكى الهروي عن بعضهم أن المراد بذلك الطريق فيكون معناه أنه طريق يؤديه إلى الجنة كذا في قوت المغتذي. وقال ابن العربي: قوله لم يزل في خرفة الجنة فإن ممشاه إلى المريض لما كان من الثواب على كل خطوة كان الخطأ سبباً إلى نيل الدرجات في النعيم المقيم، عبر بها عنها لأنه بسببها مجاز انتهى.
قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه الترمذي "وأبي موسى" أخرجه البخاري "والبراء" أخرجه الشيخان "وأبي هريرة" أخرجه مسلم "وأنس" أخرجه أبو داود "وجابر" أخرجه الديلي في الفردوس بلفظ: أفضل العيادة أجراً سرعة القيام من عند المريض.
قوله: "حديث ثوبان حديث حسن" وأخرجه مسلم.
قوله: "وروى أبو غفار" بكسر المعجمة وتخفيف الفاء آخره راء اسمه مثنى بن سعد أو سعيد الطائي ليس به بأس من السادسة "نحوه" أي نحو حديث خالد الحذاء "قال" أي أبو عيسى "وسمعت محمداً" يعني الإمام البخاري رحمه الله "من روى هذا الحديث عن أبي الأشعث عن أبي الأسماء فهو أصح" أي من روى عن أبي الأسماء بحذف واسطة أبي الأشعث "وأحاديث أبي قلابة" أي جميع أحاديثه غير هذا الحديث "إنما هي عن أبي أسماء" أي بلا واسطة أبي الأشعث "إلا هذا الحديث" أي المذكور "وهو عندي عن أبي الأشعث عن أبي اسماء"(4/42)
975 ـ حدثنا محمدُ بنُ الوَزِيرِ الوَاسِطيّ حدثنا يَزيدُ بنُ هَارُونَ عن عَاصِمٍ الأحْولِ عن أبي قِلاَبَةَ عن أبي الأشْعَثِ عن أبي أَسْمَاءَ عن ثَوْبَانَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ وزَادَ فِيهِ: "قِيلَ مَا خُرْفَةُ الجَنّة؟ قالَ جَنَاهَا".
976- حدثنا أحمدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن أَيّوبَ عن أَبي قِلاَبَةَ عن أبي أَسْمَاءَ عن ثَوْبَانَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحْوَ حَدِيثِ خَالِدٍ ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ "عن أبي الأشْعَث" .
قال أبو عيسى: ورَوَاه بَعْضُهُمْ عن حَمّادِ بنِ زَيْدٍ ولَمْ يَرْفَعْهُ.
977 ـ حدثنا أَحمدُ بنُ مَنيعٍ حدثنا الحَسَنُ بنُ محمدٍ أَخبرنا إسْرَائِيلُ عن ثُوَيْرٍ "هو ابن أبي فاختة" عن أبيهِ قالَ: "أَخَذَ عَلِيّ بِيَدِي قَالَ انْطَلِقْ بِنَا إلى الحسن نَعُودُهُ فَوَجَدْنَا عِنْدَهُ أَبَا مُوسَى فقالَ عَلِيّ عليه السّلام أَعَائداً جِئْتَ يَا أبَا مُوسَى أَمْ زَائِراً؟ فقالَ لاَ بَلْ عَائِداً، فقالَ عَليّ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِماً غُدْوَةً إِلاّ صَلَى عليهِ سَبْعُونَ
ـــــــ
أي بواسطة أبي الأشعث، فمن روى هكذا فهو أصح "وزاد فيه قيل ما خرقة الجنة؟ قال جناها" بفتح الجيم. قال في النهاية الجنا اسم ما يجتني من الثمر ويجمع الجنا على أجن مثل عصى وأعص انتهى.
قوله: "عن ثوير" بضم المثلثة مصغراً ابن فاختة بمعجمة مكسورة ومثناة مفتوحة سعيد بن علاقة بكسر المهملة الكوفي ضعيف رمى بالرفض من الرابعة "عن أبيه" سعيد بن علاقة الهاشمي مولاهم أبو فاختة الكوفي مشهور بكنيته ثقة من الثالثة.
قوله: "أخذ علي" أي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه "إلى الحسن" أي ابن علي رضي الله تعالى عنه "غدوة" بضم الغين ما بين صلاة الغدوة وطلوع الشمس كذا قاله ابن الملك، والظاهر أن المراد به أول النهار وما قبل الزوال "إلا صلى عليه"(4/43)
أَلْفَ مَلَكٍ حَتّى يُمسِيَ، وإنْ عَادَهُ عَشِيّةً إلاّ صَلى عَليْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتى يُصْبِحَ وكانَ لَهُ خَرِيفٌ في الجَنّةِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقد رُوِيَ عن عَلِي هذا الحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ومنهم مَنْ وقَفَهُ ولَمْ يَرْفَعْهُ. اسْمُ وأَبي فَاخِتَةَ اسمه سَعِيدُ بنُ عِلاَقَةَ.
ـــــــ
أي دعا له بالمغفرة "حتى يمسي" من الامساء "وإن عاده" إن نافية بدلالة إلا ولمقابلتها ما "عشية" أي ما بعد الزوال أو أول الليل "وكان له" أي للعائد "خريف" أي بستان وهو في الأصل الثمر المجتني أو مخروف من ثمر الجنة فعيل بمعنى مفعول. قوله: "هذا حديث غريب حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي "واسم أبي فاختة" هو والد ثوير كما عرفت.
فائدة: قال أبو بكر بن العربي تكرار العيادة سنة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل بسعد بن معاذ حين ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب، قال ويعاد المريض من كل ألم دق أو جل ويعاد من الرمد، وقد روى أن زيد بن أرقم عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم من رمد أصابه، وما روى عن أبي هريرة مرفوعاً لا يعاد من وجع العين ولا من وجع الضرس ولا من الدمل فليس بصحيح انتهى كلامه محصلا(4/44)
باب ماجاء في النهي عن التمني للموت
...
3 ـ باب ما جَاءَ في النهي عن التّمَنّي للمَوْت
978 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارِ حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ حدثنا شُعْبَةُ عن أَبي إسحَاقَ عن حَارِثَةَ بنِ مُضَرّبٍ قالَ: "دَخَلْتُ على خَبّابٍ وقد
ـــــــ
باب ما جاء في النهي عن تمني الموت
قوله: "عن حارثة بن مضرب" بالحاء المهملة والثاء المثلثة وأبوه بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المشددة وآخره باء موحدة وليس له عند المصنف إلا هذا الحديث قاله السيوطي. وقال الحافظ في التقريب: ثقة من الثانية غلط من نقل عن ابن المديني أنه تركه انتهى.
قوله: "دخلت على خباب" بالتشديد أي ابن الأرت بتشديد الفوقية تميمي(4/44)
اكْتَوى في بَطْنِهِ فقالَ مَا أَعْلَمُ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ مِنَ البَلاَءِ ما لَقِيتُ، لَقَدْ كُنْتُ ما أجِدُ دِرْهَماً على عَهْدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي نَاحِيَة من بَيْتِي أَرْبَعُون أَلْفاً ولَوْلاَ أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَوْ نَهَى أَن نتَمَنّى المَوْت لَتَمَنّيْتُ".
وفي الباب عن أنس و أبي هُرَيْرَةَ وجَابر.
ـــــــ
سبى في الجاهلية وبيع بمكة ثم حالف بني زهرة وأسلم في السنة السادسة وهو أول من أظهر إسلامه فعذب عذاباً شديداً لذلك، وشهد بدراً والمشاهد كلها ومات سنة سبع وثلاثين منصرف علي كرم الله وجهه من صفين، فمر على قبره فقال: رحم الله خباباً أسلم راغباً وهاجر طائعاً وعاش مجاهداً وابتلى في جسمه أحوالاً ولن يضيع الله أجره "وقد اكتوى في بطنه" قال الطيبي الكى علاج معروف في كثير من الأمراض، وقد ورد النهي عن الكي فقيل النهي لأجل أنهم كانوا يرون أن الشفا منه وأما إذا أعتقد أنه سبب وأن الشافي هو الله فلا بأس به. ويجوز أن يكون النهي من قبل التوكل وهو درجة أخرى غير الجواز انتهى. ويؤيده حديث: لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون " لقد كنت وما أجد درهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" كأكثر الصحابة لأن الفتوحات العظيمة لم تقع إلا بعد، ألا ترى أن عبد الله بن أبي السرح لما افتتح إفرقية في زمن عثمان بلغ سهم الفارس فيه ثلاثة آلاف دينار "وفي ناحية بيتي أربعون ألفاً" وفي رواية أحمد: وإن في جانب بيتي الاَن لأربعين ألف درهم "نهانا أو نهى" شك من الراوي بين هذين اللفظين "أن يتمنى" بصيغة المجهول "لتمنيته" أي لأستريح من شدة المرض الذي من شأن الجبلة البشرية أن تنفر منه ولا تصبر عليه. والحديث رواه أحمد وزاد قال ثم أتى بكفنه فلما رآه بكى وقال لكن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر "وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وجابر" أما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري ولفظه: لا يتمنى أحدكم الموت إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن(4/45)
قال أبو عيسى: حديثُ خَبّابٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّه قال: "لاَ يَتَمنّيَنّ أَحَدُكُمْ المَوْتَ لِضُر نَزَلَ بهِ ولْيَقُلْ الّلهُمّ أَحْيِنِي مَا كانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لي وتَوَفّنِي إذَا كَانتِ الوَفَاةُ خَيْراً لِي".
967 ـ حدثنا بذلِكَ عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا إسماعيلُ بنُ إِبْرَاهِيمَ أخبرنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ صُهَيْبٍ عن أنَسٍ بنِ مَالِكٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
يستعتب، وأما حديث أنس فأخرجه البخاري ومسلم. وأما حديث جابر فأخرجه أحمد.
قوله: "حديث خباب حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد.
قوله: "بضر" بضم الضاد وتفتح أي بسبب ضرر مالي أو بدني ووجه النهي أن تمنى الموت من أجل الضر أنه يدل على الجزع في البلاء وعدم الرضاء بالقضاء "ما كانت الحياة خيراً لي" أي من الموت وهو أن تكون الطاعة غالبة على المعصية والأزمنة خالية عن الفتنة والمحنة "وتوفني" أي أمتني "إذا كانت الوفاة" أي الممات "خيراً لي" أي من الحياة بأن يكون الأمر عكس ما تقدم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(4/46)
باب ماجاء في التعوذ للمريض
...
4 ـ باب ما جَاءَ في التَعَوّذِ لِلْمَرِيض
979 ـ حدثنا بِشْرُ بنُ هِلاَلٍ البَصْرِيّ الصّوّافُ حدثنا عَبْدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ عن عَبْدِ العَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ عن أَبي نَضْرَةَ عن أَبي سَعِيدٍ "أنّ جِبْرَيلَ أَتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يا محمدُ أَشْتَكَيْتَ؟ قالَ
ـــــــ
باب ما جاء في التعوذ للمريض
قوله: "إن جبريل" بكسر الجيم وفتحها "أتى النبي صلى الله عليه وسلم" أي للزيارة أو العيادة "أشتكيت؟" بفتح الهمزة للاستفهام وحذف همزة الوصل،(4/46)
نَعَمْ. قالَ بِسْمِ الله أَرْقِيكَ مِنْ كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرّ كُلّ نَفْسٍ وَعَيْنٍ حَاسِدٍ بسْمِ الله أَرْقِيكَ والله يَشْفيكَ".
980 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عَبْدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدِ عن عَبْدِ العَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ قالَ "دَخَلْتُ أَنَا وثَابِتٌ على أَنَسِ بنِ مَالِكٍ فقالَ ثابِتٌ: يا أبَا حَمْزَةَ اشتَكَيْتُ. فقالَ أَنَسٌ أَفَلاَ أرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ بَلَى. قالَ : اللّهُمّ رَبّ النّاسِ مُذْهِبَ البَاسِ إشْفِ أَنْتَ الشّافِي لاَ شَافِيَ إِلاّ أَنْتَ شِفَاءً لاَ يُغٍادِرُ سَقَماً".
قال وفي البابِ عن أنَسٍ وعَائِشَةَ.
ـــــــ
وقيل بالمد على اثبات همزة الوصل وإبدالها ألفاً، وقيل بحذف الاستفهام "قال بسم الله أرقيك" بفتح الهمزة وكسر القاف مأخوذ من الرقية "من شر كل نفس" أي خبيثة "وعين حاسدة" وفي رواية مسلم: أو عين حاسد. قال النووي في شرح مسلم: قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الاَدمي وقيل يحتمل أن المراد بها العين، فان النفس تطلق على العين، يقال رجل منفوس إذا كان يصيب الناس بعينه، كما قال في الرواية الأخرى: من شر كل ذي عين. ويكون قوله أو عين حاسد من باب التوكيد بلفظ مختلف أو شكا من الراوي في لفظه انتهى كلام النووي.
قوله: "وثابت البناني" بضم الموحدة "يا أبا حمزة" هذا كنية أنس.
قوله: "رب الناس" بالنصب بحذف حرف النداء "مذهب الباس" أي مزيل شدة المرض. قال الحافظ ابن حجر: الباس بغير همزة للازدواج فإن أصله الهمزة "شفاء" بالنصب على أنه مفعول مطلق لا شف، والجملتان معترضتان بين الفعل والمفعول المطلق "لا يغادر" بالغين المعجمة أي لا يترك "سقما" بفتحتين وبضم وسكون أي مرضاً والتنكير للتقليل، وفائدة التقييد أنه قد يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر يتولد منه مثلاً فكان يدعو بالشفاء المطلق لا بمطلق الشفاء.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه أحمد وابن السني "وعائشة" أخرجه(4/47)
قال أبو عيسى: حدِيثُ أَبي سَعِيدٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وسَأَلْتُ أبا زرْعَةَ عن هذا الحَدِيثِ فَقُلْتُ لَهُ رِوَايَةُ عَبْدِ العَزِيزِ عن أبي نَضْرَةَ عن أبي سَعيِدٍ أصَحّ أوْ حَدِيثُ عَبْدِ العَزِيزِ عن أنَسٍ؟ قالَ كِلاَهُمَا صَحِيحٌ. وروى عَبْدُ الصّمدِ بنُ عبدِ الوَارِثِ عن أبيهِ عن عَبْدِ العَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ عن أَبي نَضْرَةَ عن أبي سَعِيدٍ وعن عَبْدِ العَزيزِ بنِ صُهَيْبٍ عن أَنَسٍ. ـــــــ
الشيخان والنسائي. قوله: "حديث أبي سعيد حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه. قوله: "قال" أي أبو عيسى "سألت أبا زرعة" هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ الرازي إمام حافظ ثقة مشهور، روى عنه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. قال إسحاق: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة ليس له أصل مات سنة أربع وستين ومائتين "أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث الخ" هذا مقول أبي زرعة، واستدل بقوله هذا على كون كلا الحديثين صحيحاً(4/48)
5 ـ باب ما جَاءَ في الحَثّ على الوَصِيّة
981 ـ حدثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ أخبرنا عَبْدُ الله بنُ نُمَيْرٍ حدثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمرَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمرَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَا حَقّ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ ولَهُ شَيْءٌ يُوصِي فيهِ
ـــــــ
باب ماجاء في الحث على الوصية
قوله: "ما" أي ليس "حق امرئ مسلم" قال الحافظ: كذا في أكثر الروايات وسقط لفظ مسلم من رواية أحمد عن إسحاق بن عيسى عن مالك والوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة لامتثاله لما يشعر به من نفي الاسلام عن تارك ذلك، ووصية الكافر جائزة في الجملة. وحكى ابن المنذر فيه الإجماع. وقد بحث فيه السبكي من جهة أن الوصية شرعت زيادة في العمل الصالح والكافر لا عمل له بعد الموت، وأجاب بأنهم نظروا إلى أن الوصية كالإعتاق وهو يصح عن الذمي والحربي "يبيت" كأن فيه حذفاً تقديره أن يبيت وهو كقوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الاَية، ويجوز أن يكون يبيت صفة لمسلم وبه جزم الطيبي "وله شيء" جملة حالية "يوصي فيه" صفة شيء(4/48)
إلاّ وَوَصِيّتُهُ مَكْتُوبَة عِنْدَهُ". وفي البابِ عن ابنِ أَبي أَوْفَي.
قال أبو عيسى: حديثُ ابن عُمرَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"إلا ووصيته مكتوبة عنده" قال الطيبي رحمه الله: ما بمعنى ليس ويبيت صفة ثالثة لامرئ ويوصي فيه صفة شيء، والمستثنى خبر أي لليس ثم قيد ليلتين على ما قاله المظهر تأكيد وليس بتحديد، والمعنى لا ينبغي له أن يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً في حال من الأحوال إلا أن يبيت بهذه الحال وهي أن يكون وصيته مكتوبة عنده لأنه لا يدري متى يدركه الموت. قال الطيبي رحمه الله وفي تخصيص ليلتين تسامح في إرادة المبالغة أي لا ينبغي أن يبيت ليلة وقد سامحناه في هذا المقدار فلا ينبغي أن يتجاوز عنه. قال النووي: فيه دليل على وجوب الوصية والجمهور على أنها مندوبة، وبه قال الشافعي رحمه الله. ومعناه ما الحزم والاحتياط لمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده. وقال داود وغيره من أهل الظاهر: هي واجبة بهذا الحديث، ولا دلالة فيه على الوجوب لكن إن كان على الإنسان دين أو وديعة لزمه الإيصاء بذلك، ويستحب تعجيلها وأن يكبها في صحيفة ويشهد عليه فيها، وإن تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه بها.
قوله: "وفي الباب عن ابن أبي أوفى" أخرجه البخاري من طريق طلحة بن مصرف قال سألت عبد الله بن أبي أوفى هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال لا فقلت كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية؟ قال أوصى بكتاب الله. قوله "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.(4/49)
باب ماجاء في الوصية بالثلث والربع
...
6 ـ باب ما جَاءَ في الوَصِيّةِ بالثلُثِ والربُع
982 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا جَرِيرٌ عن عَطَاءِ بنِ السّائِبِ عن أبي عَبْدِ الرحمَن السّلَمِيّ عن سَعْدِ بنِ مَالِكٍ قالَ: "عَادَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنَا مَرِيضٌ فقَالَ: أوْصَيْتَ؟ قُلْتُ نَعَمْ. قالَ: بِكَمْ؟ قلت: بِمَالِي كُلّهِ في سَبِيلِ الله، قالَ: فَمَا تَرَكْتَ لِوَلَدِكَ؟ قال :(4/49)
هُمْ أَغْنِيَاءُ بِخَيْرٍ، قالَ أَوْصِ بالعُشْرِ، فَمَا زِلْتُ أُنَاقِصُهُ حَتى قالَ أَوْصِ بالثّلث والثّلُثُ كثير" قالَ أبوُ عَبْدِ الرحمَنِ ونَحْنُ نَسْتَحِبّ أنْ ينْقُصَ مِنَ الثّلُثِ لِقَوْلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والثّلُثُ كبيرٌ.
ـــــــ
باب ما جاء في الوصية بالثلث والربع
قوله: "هم أغنياء بخير" قال في مجمع البحار: قوله بخير خبر بعد خبر أو صفة أغنياء قوله: "فما زلت أناقصه" قال في مجمع البحار: أي أراجعه في النقصان أي أعد ما ذكره ناقصاً ولو روى بضاد معجمة لكان من المناقضة انتهى. قلت: في جميع النسخ الحاضرة أناقص بالصاد المهملة، وأورد الشيخ ولي الدين هذا الحديث في المشكاة وفيه أيضاً بالصاد المهملة لكن قال القاري في المرقاة: وفي نسخة بالمعجمة، وقال فيه نقلاً عن ابن الملك أي قال سعد: فما زلت أناقض النبي صلى الله عليه وسلم من المناقضة أي ينقض عليه الصلاة والسلام قولي وأنقض قوله أراد به المراجعة حرصاً على الزيادة. وروى بالصاد المهملة عن النقصان انتهى ما في المرقاة. قلت وقع في رواية للنسائي: أوص بالعشر فما زال يقول وأقول حتى قال أوص بالثلث الخ. وقال الجزري في النهاية في حديث صوم التطوع فناقضني وناقضته أي ينقض قولي وأنقض قوله من نقض البناء أراد به المراجعة والمرادة انتهى "والثلث كبير" وقع في رواية البخاري "كثير" بالمثلثة. قال الحافظ في الفتح: كذا في أكثر الروايات ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه. قال: ويحتمل أن يكون قوله والثلث كثير مسوقاً لبيان الجواز بالثلث وأن الأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه وهو ما يبتدره الفهم، ويحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل أي كثير أجره، ويحتمل أن يكون معناه كثير غير قليل. قال الشافعي رحمه الله: وهذا أولى معانيه يعني أن الكثرة أمر نسبي وعلى الأول عول ابن عباس انتهى. قلت المراد بالأول الاحتمال الأول، وهو أن قوله: والثلث كثير مسوق لبيان الجواز وأن الأولى أن ينقص عنه. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: لو غفر الناس إلى الربع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الثلث والثلث كبير أو كثير. قال الحافظ في الفتح: قوله لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هو كالتعليل لما اختاره من النقصان عن الثلث وكأن ابن عباس أخذ(4/50)
قال وفي البابِ عن ابنِ عبّاسِ.
قال أبو عيسى: حديثُ سَعْدٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ عنه مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وقَدْ رُوىَ عنهُ "والثّلث كَثِيرٌ" والعملُ على هذا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ لاَ يَرَوْنَ أَنْ يُوصِى الرّجُلُ بأَكْثَرَ مِنَ الثُلث ويَسْتَحِبّونَ أنْ يَنْقُصَ مِنْ الثُلُثِ. وقالَ سُفْيَانُ الثّوْرِىّ كانوا يَسْتَحِبّونَ في الوَصِيّةِ الخُمُسَ دُونَ الرُبُعِ، والرّبُع دُونَ الثّلُثِ. ومَنْ أوْصَى بالثّلُثِ فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً، ولا يَجُوُزُ لَهُ إلاّ الثّلُثَ.
ـــــــ
ذلك من وصفه صلى الله عليه وسلم الثلث بالكثرة انتهى "قال أبو عبد الرحمن: فنحن نستحب أن ينقص من الثلث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: والثلث كثير" يعني لوصفه صلى الله عليه وسلم الثلث بالكثرة وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه كما عرفت آنفاً. وقال النووي في شرح مسلم: إن كان الورثة فقراء استحب أن ينقص منه وإن كانوا أغنياء فلا.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه البخاري ومسلم وتقدم لفظه.
قوله: "حديث سعد حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وقد روى عنه كبير" أي بالموحدة "ويروي كثير" أي بالمثلثة. قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون أن يوصي الرجل بأكثر من الثلث" قال العيني في شرح البخاري: إذا أوصى المسلم بأكثر من ثلث ماله فإن لم يكن له ورثة جاز وإن كان له ورثة، فإن أجازوا جازت الوصية وإن ردوا بطلت الوصية. وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يجوز إلا في الثلث ويوضع الثلثان لبيت المال إنتهى "ويستحبون أن ينقص من الثلث. وقال سفيان الثوري: كانوا يستحبون في الوصية الخمس دون الربع والربع دون الثلث الخ" قال العيني في شرح البخاري: إعلم أن الإجماع قائم على أن الوصية بالثلث جائزة، وأوصى الزبير رضي الله عنه بالثلث. واختلف العلماء في القدر الذي تجوز الوصية به هل هو الخمس أو السدس أو الربع، فعن أبي بكر رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس وقال: إن الله تعالى رضي من غنائم المؤمنين بالخمس. وقال معمر عن قتادة: أوصى عمر رضي الله عنه بالربع. وقال إسحاق: السنة الربع كما روى عن ابن عباس. وروى عن علي رضي الله عنه: لأن أوصى بالخمس أحب إلى من الربع، ولأن أوصى بالربع أحب إلى من الثلث. واختار آخرون السدس. وقال إبراهيم: كانوا يكرهون أن يوصوا مثل نصيب أحد الورثة حتى يكون أقل وكان السدس أحب إليهم من الثلث. واختار آخرون العشر. واختار آخرون لمن كان ماله قليلاً وله وارث ترك الوصية، روى ذلك عن علي واين عباس وعائشة. وفي التوضيح: وقام الإجماع من الفقهاء أنه: لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه وشريك بن عبد الله. قال العيني: هو قول ابن مسعود وعبيدة ومسروق وإسحاق. وقال زيد بن ثابت: لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من ثلثه وإن لم يكن له وارث، وهو قول مالك والأوزاعي والحسن بن حي والشافعي إنتهى كلام العيني.(4/51)
باب ماجاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له
...
7 ـ باب ما جاءَ في تَلْقِينِ المَريضِ عِنْدَ المَوْتِ والدّعَاءِ لَهُ عنده
983 ـ حدثنا أبو سَلَمَةَ يَحْيَى بنُ خَلَفٍ البَصْرِي حدثنا بَشْرُ بنُ المُفَضّلِ عن عُمَارَةَ بنِ غَزِيّةَ عن يَحْيَى بنِ عُمَارَةَ عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَقّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إلَهَ إلاّ الله".
ـــــــ
باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له
قوله: "عن عمارة بن غزية" بفتح المعجمة وكسر الراء بعدها تحتانية ثقيلة ابن الحارث الأنصاري والمدني لا بأس به.
قوله: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" قال النووي في شرح مسلم: معناه من حضره الموت ذكروه لا إله إلا الله ليكون آخر كلامه كما في الحديث: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة. والأمر بهذا التلقين أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين وكرهوا الإكثار عليه والموالاة لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه فيكره ذلك بقلبه أو يتكلم بما لا يليق إنتهى. قال القاري في المرقاة: الجمهور على أنه يندب هذا التلقين، وظاهر الحديث يقتضي وجوبه وذهب إليه جمع، بل نقل بعض المالكية الاتفاق عليه إنتهى. قلت: الأمر كما قال القاري والله تعالى أعلم. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: المراد بقول لا إله إلا الله في هذا الحديث وغيره كلتا الشهادة فلا يرد إشكال ترك ذكر الرسالة.(4/52)
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وأُمّ سَلَمَةَ وعَائِشَةَ وجَابرٍ وسُعْدَى المُرّيّةِ وهيَ امْرَأةُ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ الله.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي سَعِيدٍ حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قال الزين بن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جرى على النطق بالشهادتين شرعاً إنتهى.
إعلم أن المراد من الموتى في هذا الحديث من حضره الموت لا الميت حقيقة، فإن ابن حبان روى عن أبي هريرة بمثل حديث الباب وزاد: فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة يوماً من الدهر وإن أصابه ما أصابه قبل ذلك، ذكره الحافظ في التلخيص. وقال فيه: وروى من حديث عطاء بن السائب عن أبيه عن جده بلفظ: من لقن عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة إنتهى. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله ولقنوهم عند الموت لا إله إلا الله فإنه من كان أول كلامه لا إله إلا الله ثم عاش ألف سنة ما سئل عن ذنب واحد، أخرجه الحاكم في تاريخه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس وقال غريب، كذا في جمع الجوامع للسيوطي.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه مسلم "وأم سلمة" أخرجه مسلم "وعائشة" أخرجه النسائي "وجابر" أخرجه العقيلي في الضعفاء والطبراني في الدعاء وفيه عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك كذا في التلخيص "وسعدى المرية" بضم السين وسكون العين بنت عوف لها صحبة "وهي امرأة طلحة بن عبيد الله" أحد العشرة استشهد يوم الجمل.
قوله: "حديث أبي سعيد حديث غريب حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري.(4/53)
984 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن شَقِيقٍ عن أُمّ سَلَمَةَ قالَتْ قالَ لَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا حَضَرْتُمْ المَرِيضَ أو المَيّتَ فَقُولُوا خَيْراً فإنّ الملائِكةَ يُؤَمّنُون على مَا تَقُولُونَ" قالَتْ: فَلَمّا مَاتَ أبُو سَلَمَةَ أَتَيْتُ النبيَ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسولَ الله إنّ أبَا سَلَمَةَ مَاتَ، قالَ فَقُولِي: "اللّهُمّ اغْفِرْ لِي ولَهُ وأعقِبْنِي مِنْه عُقْبَى حَسَنَةً، قالَتْ فَقُلْتُ فأَعْقَبَنِي الله مِنْهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم".
قال أبو عيسى: شَقِيقٌ هُوَ ابنُ سَلَمَةَ أَبُو وَائِلٍ الأْسَدِيُ.
قال أبو عيسى: حديثُ أُمّ سَلَمَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد كانَ يُسْتَحَبّ أَنْ يُلَقّنَ المَريضُ عِنْدَ المَوْتِ قَوْل لاَ إلَهَ إلاّ الله. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: إذَا قالَ ذَلِكَ مَرّة فَمَا لَمْ يَتَكَلّمْ بَعْدَ ذَلِكَ فلا يَنْبَغِي أَنْ يُلَقّنَ ولا يُكْثَرَ عَلَيْهِ في هذا. ورُوِيَ عن ابنِ المُبَارَكِ أنّهُ لَمّا حَضَرتْهُ الوَفَاةُ جَعَلَ رَجُلٌ يُلَقّنُهُ لا إلَه إلاّ الله. وأكْثَرَ عَلَيْهِ، فقالَ لَهُ عبدُ الله: إذَا قُلْتَ مَرّة فأنَا على ذَلِكَ مَا لَمْ أتَكَلّمْ بِكَلاَمٍ. وإنّمَا مَعْنَى قَوْلِ عبدِ الله
ـــــــ
قوله: "عن الأعمش" إسمه سليمان بن مهران أبو محمد الكاهلي ثقة حافظ.
قوله: "إذا حضرتم المريض أو الميت" أي الحكمى فأو للشك أو الحقيقي فأو للتنويع قاله القاري "فقولوا خيراً أي للمريض أشفه وللميت إغفر له، ذكره المظهر كذا في المرقاة "فإن الملائكة يؤمنون" بالتشديد أي يقولون آمين "على ما تقولون" من الدعاء خيراً أو شراً. قال النووي: فيه الندب إلى قول الخير حينئذ من الدعاء والاستغفار له وطلب اللطف به والتخفيف عنه ونحوه، وفيه حضور الملائكة حينئذ وتأمينهم إنتهى "وأعقبني منه عقبى حسنة" أي عوضني منه عوضاً حسناً "فأعقبني الله منه من هو خير منه" أي أعطاني الله بدله من هو خير منه "رسول الله صلى الله عليه وسلم" بدل من من هو خير منه.
قوله: "حديث أم سلمة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "وروى عن ابن المبارك" هو عبد الله بن المبارك المروزي أحد الأئمة الأعلام وشيوخ الإسلام. قال ابن عيينة: ابن المبارك عالم المشرق والمغرب وما بينهما. وقال شعبة: ما قدم علينا مثله ثقة ثبت فقيه عالم جواد جمعت فيه خصال الخير مات سنة إحدى وثمانين ومائة "وإنما معنى قول عبد الله"(4/54)
إنّما أَرَادَ ما رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كانَ آخِرُ قَوْلِهِ لاَ إلَهَ إلاّ الله دَخَلَ الجَنّةَ".
ـــــــ
أي ابن المبارك "إنما أراد ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من كان آخر قوله الخ" أخرجه أبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل. وقد روى ابن أبي حاتم في ترجمة أبي زرعة أنه لما احتضر أرادوا تلقينه فتذاكروا حديث معاذ فحدثهم به أبو زرعة بإسناده وخرجت روحه في آخر قول لا إله إلا الله(4/55)
8 ـ باب ما جَاءَ في التَشْدِيدِ عِنْدَ المَوْت
985 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن ابنِ الهَادِ عن مُوسَى بنِ سَرْجِسَ عن القَاسِمِ بنِ محمدٍ عن عَائِشَةَ أنّهَا قالَتْ: "رأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بالموْتِ وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فيهِ ماءٌ وهُوَ يُدخِلُ يَدَهُ في القَدَحِ ثُمّ يَمْسَحُ وجْهَهُ بالمَاءِ ثُمّ يقُولُ: اللهُمّ أَعنىّ على غَمَرَاتِ المَوْتِ وسَكَرَاتِ المَوْتِ".
ـــــــ
باب ماجاء في التشديد عند الموت
قوله: "عن ابن الهاد" هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي أبو عبد الله المدني ثقة مكثر من الخامسة "عن أبي موسى بن سرجس" بفتح المهملة وسكون الراء وكسر الجيم بعدها مهملة مدني مستور من السادسة "عن القاسم بن محمد" بن أبي بكر الصديق ثقة أحد الفقهاء بالمدينة من كبار الثالثة.
قوله: "وهو بالموت" أي مشغول أو ملتبس به "ثم يمسح وجهه بالماء" دفعاً لحرارة الموت أو دفعاً للغشيان وكربه "اللهم أعني على غمرات الموت" أي شدائده أي أعني على دفعها. قال في القاموس: غمرة الشيء شدته ومزدحمة ج غمرات وغمار انتهى. وقال في مجمع البحار: غمرات الموت شدائده انتهى. "وسكرات الموت" أي شدائده جمع سكرة بسكون الكاف وهي شدة الموت. قال سراج أحمد في شرح الترمذي: هو عطف بيان لما قبله والظاهر أن يراد بالأولى الشدة وبالأخرى ما يترتب عليها من الدهشة والحيرة الموجبة للغفلة. وقال القاضي في تفسير قوله تعالى {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} إن سكرته شدته الذاهبة بالعقل انتهى.(4/55)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
986 ـ حدثنا الحَسَنُ بنُ الصّبّاحِ البغدادي حدثنا مُبَشّرُ بنُ إِسماعيلَ الحَلَبِيّ عن عَبْدِ الرحمنِ بنِ العَلاَءِ عن أبيهِ عن ابنِ عُمَرَ عن عائِشَةَ قالَتْ: "مَا أَغْبِطُ أحَداً بَهوْنِ مَوْتٍ بَعْدَ الّذِي رَأيتُ مِنْ شِدّةِ مَوْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قالَ: سألْتُ أبا زُرْعَةَ عن هذا الحديثِ و قُلْتُ لَهُ مَنْ عَبْدُ الرحمَنِ بنُ العَلاَءِ؟ فقال هُوَ العَلاَء بن اللّجْلاَجِ وإنْما أعرفهُ مِنْ هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب" لم يحكم عليه الترمذي بشيء من الصحة والضعف والظاهر أنه ضعيف لأن موسى بن سرجس مستور كما تقدم.
قوله: "والحسن بن الصباح البزار" آخره راء أبو علي الواسطي نزيل بغداد صدوق يهم وكان عابداً فاضلاً من العاشرة "أخبرنا مبشر" بكسر المعجمة الثقيلة صدوق من التاسعة "عن عبد الرحمن بن العلاء" بن اللجلاج نزيل حلب مقبول من السابعة "عن أبيه" العلاء بن اللجلاج ثقة من الرابعة.
قوله: "ما أغبط" بكسر الباء يقال غبطت الرجل أغبطه إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ماله وأن يدوم عليه ما هو فيه أي ما أحسد "أحداً" ولا أتمنى ولا أفرح لأحد "بهون موت" الهون بالفتح الرفق واللين أي بسهولة موت، والإضافة فيه إضافة الصفة إلى الموضوف أي لما رأيت شدة وفاته علمت أن ذلك ليس من المنذرات الدالة على سوء عاقبة المتوفي، وأن هون الموت وسهولته ليس من المكرمات. وإلا لكان صلى الله عليه وسلم أولى الناس به فلا أكره شدة الموت لأحد ولا أغبط أحداً يموت من غير شدة. قوله: "هو ابن العلاء اللجلاج" بجيمين وسكون الأول منهما. قوله: "وإنما أعرفه من هذا الوجه" لم يحكم عليه بشيء من الصحة والضعف والظاهر أنه حسن(4/56)
9 ـ باب
987 ـ حدثنا محمد بنُ بَشّارٍ حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عن المُثَنّى بنِ سَعِيدٍ
ـــــــ
باب
قوله: "حدثنا محمد بن بشار" هو محمد بن بشار بندار ثقة من العاشرة.(4/56)
عن قَتَادَةَ عن عَبْدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ عن أبيهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "المُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الجِبِينِ".
قال وفي البابِ عن ابنِ مَسْعُودِ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ وقد قالَ بَعْضُ أَهْلِ العلم، لاَ نَعْرِفُ لِقَتَادَةَ سَمَاعاً مِنْ عَبْدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ.
ـــــــ
قوله: "المؤمن يموت بعرق الجبين" قيل هو عبارة عن شدة الموت، وقيل هو علامة الخير عند الموت. قال ابن الملك: يعني يشتد الموت على المؤمن بحيث يعرق جبينه من الشدة لتمحيص ذنوبه أو لتزيد درجته. وقال التوربشتي: فيه وجهان أحدهما ما يكابده من شدة السياق التي يعرق دونها الجبين، والثاني أنه كناية عن كد المؤمن في طلب الحلال وتضييقه على نفسه بالصوم والصلاة حتى يلقى الله تعالى والأول أظهر كذا في المرقاة. وقال العراقي: اختلف في معنى هذا الحديث فقيل إن عرق الجبين لما يعالج من شدة الموت وقيل: من الحياء وذلك لأن المؤمن إذا جاءته البشرى مع ما كان قد اقترف من الذنوب حصل له بذلك خجل واستحي من الله تعالى فعرق لذلك جبينه، كذا في قوت المغتذي.
قوله: "في الباب عن ابن مسعود" أخرجه الشيخان كذا قال سراج أحمد في شرحه وإني لم أجد في الصحيحين حديثاً عن ابن مسعود في هذا الباب والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن" والحديث أخرجه النسائي وابن ماجه أيضاً، ورواه الحاكم وقال على شرطهما وأقره الذهبي كذا في المرقاة(4/57)
10 ـ باب
988 ـ حدثنا عَبْدُ الله بنُ أَبي زِيَادٍ الكوفي وحدثنا هَارُونُ بنُ عَبْدِ الله البَزّارُ البَغْدَادِيّ قالا: حدثنا سَيّارُ "بنُ حَاتِمٍ" حدثنا جَعْفَرُ بنُ سُليْمَانَ
ـــــــ
باب
قوله: "حدثنا سيار بن حاتم" بفتح السين المهملة وتشديد التحتانية صدوق له أوهام من كبار التاسعة "أخبرنا جعفر بن سليمان" الضبعي صدوق زاهد لكنه يتشيع من الثامنة.(4/57)
عن ثابِتٍ عن أَنَسٍ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ على شَاب وهُوَ في المَوْتِ فقَالَ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قالَ والله يا رسولَ الله إنّي أرْجُو الله وإنّي أَخَافُ ذُنُوبِي. فقَالَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لاَ يَجْتَمِعَانِ في قَلْبِ عَبْد في مِثْلِ هَذَا المَوْطِنِ إلاّ أَعْطَاهُ الله مَا يَرْجُو، وآمَنَهُ مِمّا يَخَافُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن غريبٌ وقد رَوَىَ بَعْضُهُمْ هذا الحَدِيثَ عن ثَابِتٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
ـــــــ
قوله: "وهو بالموت" أي في سكراته "كيف تجدك" قال ابن الملك: أي كيف تجد قلبك أو نفسك في الإنتقال من الدنيا إلى الاَخرة راجياً رحمة الله أو خائفاً من غضب الله "أرجوا الله" أي أجدني أرجو رحمته "وإني" أي مع هذا "أخاف ذنوبي" قال الطيبي: علق الرجاء بالله والخوف بالذنب وأشار بالفعلية إلى أن الرجاء حدث عند السياق وبالإسمية والتأكيد بان إلى أن خوفه كان مستمراً محققاً "لا يجتمعان" أي الرجاء والخوف "في مثل هذا الموطن" أي في هذا الوقت وهو زمان سكرات الموت. ومثله كل زمان يشرف على الموت حقيقة أو حكماً كوقت المبادرة وزمان القصاص ونحوهما فلا يحتاج إلى القول بزيادة المثل. وقال الطيبي: مثل زائدة والموطن إما مكان أو زمان كمقتل الحسين رضي الله تعالى عنه انتهى "ما يرجو" أي من الرحمة "وآمنه مما يخاف" أي من العقوبة بالعفو والمغفرة. قوله: "هذا حديث غريب" قال ميرك عن المنذري إسناده حسن، ورواه ابن أبي الدنيا أيضاً كذا في المرقاة. قلت: ورواه ابن ماجة أيضاً(4/58)
باب ماجاء في كراهية النعي
...
11 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَة النّعي
989 ـ حدثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا عَبْدُ القُدّوسِ بنُ بَكْرٍ بنِ خُنَيْسٍ
ـــــــ
باب ما جاء في كراهية النعي
بفتح النون وسكون العين المهملة وتخفيف الياء وفيه أيضاً كسر العين وتشديد الياء، وهو في اللغة الإخبار بموت الميت كما في الصحاح والقاموس وغيرهما من كتب اللغة. وفي النهاية: نعي الميت نعياً إذا أذاع موته وأخبر به
قوله: "حدثنا عبد القدوس بن بكر بن خنيس" بضم الخاء المعجمة وفتح(4/58)
أخبرنا حَبيبُ بنُ سُلَيْمٍ العَبْسِيّ عن بِلاَلِ بن يَحْيَى العَبْسِيّ عن حُذَيْفَةَ بن اليمان قَالَ: "إذَا مِتّ فلا تُؤْذِنوا بي، إِنّي أخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْياً، فإنّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عن النّعْي". هذا حديثٌ حسنٌ صحيح.
ـــــــ
النون مصغراً. قال أبو حاتم: لا بأس به "أخبرنا حبيب بن سليم" بضم السين وفتح اللام مصغراً. قال الشيخ محمد طاهر في كتابه المغني: سليم كله بالضم إلا سليم بن حبان بفتحها "العبسي" بفتح العين المهملة وسكون الموحدة. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: أخرجا يعني الترمذي وابن ماجه له حديثاً واحداً في الجنائز وحسنه الترمذي وذكره ابن حبان في الثقات "عن بلال بن يحي العبسي" روى عن حذيفة بن اليمان وغيره وعنه حبيب بن سليم العبسي وغيره. قال إسحاق بن منصور حذيفة بن اليمان وغيره وعنه حبيب بن سليم العبسي وغيره. قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ليس به بأس قاله الحافظ في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: صدوق "عن حذيفة" هو ابن اليمان صحابي جليل.
قوله: "فلا تؤذنوا بي أحداً" من الإيذان بمعنى الإعلام أي لا تخبروا بموتي أحداً "وينهي عن النعي" الظاهر أن حذيفة رضي الله عنه أراد بالنعي في هذا الحديث معناه اللغوي وحمل النهي على مطلق النعي. وقال غيره من أهل العلم إن المراد بالنعي في هذا الحديث النعي المعروف في الجاهلية. قال الأصمعي: كانت العرب إذا مات فيها ميت له قدر ركب راكب فرساً وجعل يسير في الناس ويقول: نعاه فلان أي أنعية وأظهر خبر وفاته، قال الجوهري: وهي مبنية على الكسر مثل دراك ونزال كذا في قوت المغتذي. وإنما قالوا هذا لأنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي، وأيضاً قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بموت زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة حين قتلوا بمؤتة. وأيضاً قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال حين أخبر بموت السوداء أو الشاب الذي كان يقم المسجد: ألا آذنتموني. فهذا كله يدل على أن مجرد الإعلام بالموت لا يكون نعياً محرماً وإن كان باعتبار اللغة يصدق عليه اسم النعي، ولذلك قال أهل العلم إن المراد بالنعي في قوله ينهي عن النعي النعي الذي كان في الجاهلية جمعاً بين الأحاديث. قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة، الثانية: دعوة الحفل للمفاخرة فهذه تكرة، الثالثة: الاعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم انتهى.(4/59)
990 ـ حدثنا محمدُ بنُ حُمَيْدٍ الرّازيّ حدثنا حَكاّمُ بنُ سَلْمٍ وحدثنا هَارُونُ بنُ المغيرَةِ عن عَنْبَسَةَ عن أَبي حَمْزَةَ عن إبراهيمَ عن عَلْقَمَةَ عن عَبْدِ الله عن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إيّاكُمْ والنّعْي فإِنّ النّعْيَ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيّةِ". قَالَ عَبْدُ الله: والنّعْيُ أَذَانٌ بالميّتِ. وفي البابِ عن حُذَيْفَةَ.
991 ـ حدثنا سَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرحمن المخْزُومِيّ حدثنا عَبْدُ الله بنُ الوَلِيدِ العَدَنِيّ عن سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عن أَبي حَمْزَةَ عن إبراهيمَ عن عَلْقَمَةَ عن عَبْدِ الله عن النبي صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ "والنّعْيُ أذَانٌ بالميّتِ".
قال أبو عيسى وهذا أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ عَنْبَسَةَ عَن أَبي حَمْزَةَ. وأَبُو حَمْزَةَ هُوَ مَيْمُون الأعْوَرُ ولَيْسَ هُوَ بالقَوِيّ عِنْدَ أهْلِ الحَدِيثِ.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ عَبْدِ الله حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقد كَرِهَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ النّعْيَ. والنّعْيُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُنَاديَ في النّاسِ أَنّ فُلاَناً مَاتَ لِيَشْهَدُوا جَنَازَتَهُ. وقَالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ لا بَأَسَ أن يُعْلِمَ الرجل قَرَابَتَه
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه ابن ماجه أيضاً. وقال الحافظ في الفتح بإسناد حسن.
قوله: "أخبرنا حكام" بفتح الحاء المهملة وتشديد الكاف "ابن سلم" بفتح السين المهملة وسكون اللام ثقة له غرائب من الثامنة "عن أبي خمرة" هو ميمون الأعور وليس بالقوي عند أهل الحديث. قال الحافظ: ميمون ابو خمرة الأعور مشهور بكنيته ضعيف من السادسة "عن إبراهيم" هو النخعي "عن عبد الله" هو ابن مسعود رضي الله عنه.
قوله: "إياكم والنعي" أي اتقوا النعي. المراد بالنعي في هذا الحديث ما يكون على طريقة الجاهلية كما تقدم، عن إبراهيم أنه قال لا بأس إذا مات الرجل أن يؤذن صديقه وأصحابه، إنما كان يكره أن يطاف في المجالس فيقال أنعى فلاناً فعل أهل الجاهلية رواه سعيد بن منصور في سننه. قوله: "والنعي أذان بالميت" أي إعلام بموته.
قوله: "وفي الباب عن حذيفة" قد أخرج الترمذي حديث حذيفة في هذا(4/60)
وإخْوّانِه، ورُوِيَ عن إبرَاهِيمَ أَنه قَالَ: لا بأْسَ بأَنْ يُعْلِمَ الرجُلُ قَرَابَتَهُ.
ـــــــ
الباب، فلعل أشار إلى حديث آخر له والله تعالى أعلم "وقد كره بعض أهل العلم النعي، والنعي عندهم أن ينادى في الناس بأن فلاناً مات ليشهدوا جنازته" قال أبو الطيب في شرحه: أي يركب راكب وينادي في الناس فهذا نعي الجاهلية وهو مكروه، ويؤيده حديث عبد الله: إياكم والنعي فإن النعي من عمل الجاهلية، وقوله: وقال بعض أهل العلم لا بأس بأن يعلم الخ يعني إن نعى نعى غير أهل الجاهلية فلا بأس به وتركه أولى. والذي عليه الجمهور أن مطلق الإعلام بالموت جائز وليس فيه ترك الأولى بل ربما يقال إنه سنة لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي رواه البخاري. وقال بعض الفضلاء: معنى قوله والنعي عندهم الخ أي حملوا النهي على مطلق النعي وهو خبر الموت كما في مقتضى كلام حذيفة على طريق الاحتمال حيث قال فإني أخاف فقوله وقال بعضهم الخ أي يحمل الحديث على نعي أهل الجاهلية انتهى. أقول توجيه حسن إلا أنه يأبى تفسيره للقول الأول بما فسره به تفسيرهم بقولهم أن ينادي آه والله أعلم انتهى كلام أبي الطيب. قلت: فيما قال بعض الفضلاء في شرح كلام الترمذي شيء، وكذا فيما قال أبو الطيب، لكن قول بعض الفضلاء أظهر مما قال أبو الطيب فتفكر. قال الحافظ في فتح الباري: والحاصل أن محض الإعلام بذلك لا يكره فإن زاد على ذلك فلا، وقد كان بعض السلف يشدد في ذلك حتى كان حذيفة إذا مات له الميت يقول لا تؤذنوا به أحداً إني أخاف أن يكون نعياً الخ.
قوله: "وروي عن ابراهيم النخعي أنه قال الخ" أخرجه سعيد بن منصور في سننه وتقدم لفظه وأخرج أيضاً عن ابن سيرين أنه قال لا أعلم بأساً أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه: ذكره الحافظ في الفتح(4/61)
باب ماجاء أن الصبر في الصدمة الأولى
...
12 ـ باب ما جَاءَ أَنّ الصّبْرَ في الصّدْمَةِ الأولَى
992 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْث عن يَزِيدَ بنِ أَبي حَبِيبٍ
ـــــــ
باب ما جاء أن الصبر في الصدمة الأولى
قوله: "عن يزيد بن أبي حبيب" مولى شريك بن الطفيل الأزدي المصري. قال الليث: يزيد عالمنا وسيدنا. وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث مات سنة ثمان(4/61)
عن سَعْدِ بنِ سِنَانٍ عن أَنَسٍ أَنّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الصّبْرُ في الصّدْمَة الأولى".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ هذا الوجْهِ.
993 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارِ حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ عن شُعْبَةَ عن ثَابِتٍ البُنَانِيّ عن أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: "الصّبْرُ عِنْدَ الصّدْمَةِ الأولى".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وعشرين ومائة "عن سعد بن سنان" ويقال سنان بن سعد الكندي المصري، وصوب الثاني البخاري وابن يونس صدوق له أفراد من الخامسة كذا في التقريب.
قوله: "الصبر في الصدمة الأولى" وفي الرواية الاَتية عند الصدمة الأولى وفي رواية للبخاري عند أول صدمة. وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. والمعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر. قال الطيبي: إذ هناك سورة المصيبة فيثاب على الصبر وبعدها تنكسر السورة ويتسلى المصاب بعض التسلى فيصير الصبر طبعاً فلا يثاب عليها انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب من هذا الوجه" أي من هذا الطريق يعني من طريق الليث عن يزيد بن حبيب عن سعد بن سنان عن أنس. وهذا الحديث مشهور من طريق شعبة عن ثابت البناني عن أنس أو بهذا الطريق أخرجه الشيخان في صحيحهما وأخرجه الترمذي أيضاً بهذا الطريق فيما بعد.
قوله: "الصبر عند الصدمة الأولى" أي عند قوة المصيبة وشدتها. قال الخطابي: المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة بخلاف ما يعد ذلك فإنه على الأيام يسلو انتهى. وقال الحافظ في الفتح: الصبر عند الصدمة الأولى أي هو المطلوب المبشر عليه بالصلاة والرحمة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي(4/62)
باب ماجاء في تقبيل الميت
...
13 ـ باب ما جَاءَ في تَقْبيلِ الميّت
994 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عَبْدُ الرحمَن بنُ مَهْدِي حدثنا سُفْيَانُ عن عَاصِمِ بنِ عُبَيْدِ الله عن القَاسِمِ بنِ محمدٍ عن عَائِشَةَ "أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبّلَ عُثمانَ بنَ مَظُعُونٍ وهُوَ مَيّتٌ وهُوَ يَبْكي أَو قالَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَان".
وفي الباب عن ابن عبّاسٍ وجَابِرٍ وعَائِشَةَ قَالُوا: إنّ أَبَا بَكْرٍ قبّلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وهُو مَيّتٌ.
قال أبو عيسى: حَديثُ عائشة حديثٌ حسنٌ صحيح.
ـــــــ
باب ما جاء في تقبيل الميت
قوله: "عن عاصم بن عبيد الله" بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي مدني ضعيف كذا في الخلاصة والتقريب "قبل عثمان بن مظعون" هو أخ رضاعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صاحب المشكاة: هاجر الهجرتين وشهد بدراً وكان حرم الخمر في الجاهلية، وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة في شعبان على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة، ولما دفن قال نعم السلف هو لنا، ودفن بالبقيع، وكان عابداً مجتهداً من فضلاء الصحابة انتهى "وهو ميت" حال من المفعول "وهو" أي النبي صلى الله عليه وسلم "أو قال عيناه تدرفان" أي تجريان دمعاً. وفي رواية ابن ماجه: فكأن أنظر إلى دموعه تسيل على خديه. والحديث يدل على أن تقبيل المسلم بعد الموت والبكاء عليه جائز.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وجابر وعائشة قالوا" أي هؤلاء الثلاثة "إن أبا بكر قبل الخ" روى البخاري عن عائشة وابن عباس أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته انتهى. قال الشوكاني: فيه جواز تقبيل الميت تعظيماً وتبركاً لأنه لم ينقل أنه أنكر أحد من الصحابة على أبي بكر فكان إجماعه انتهى.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" قال المنذري في تلخيص السنن: قال الترمذي حسن صحيح وفي إسناده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة انتهى كلام المنذري(4/63)
باب ماجاء في غسل الميت
...
14ـ باب ما جَاءَ في غُسْلِ الميّت
995 ـ حدثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعِ حدثنا هُشَيْمٌ أَخبرنا خَالدٌ وَ مَنْصُورٌ و هِشَامٌ "فَأَمّا خَالِدٌ وهِشَامٌ فقالا عَنْ محمدٍ و حَفْصَةَ: وقَالَ منْصُورٌ عن محمدٍ" عَن أُمّ عطِيّةَ قالَتْ: "تُوُفّيَتْ إحْدَى بَنَاتِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ اغْسِلْنَهَا وِتْرَا ثَلاَثاً أَو خَمْساً أَو أَكثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنّ، واغْسِلْنَهَا بمَاءِ وسِدْرٍ واجْعَلْنَ في الاَخِرَةِ كَافُوراً أَوْ شَيْئاً مِنْ كَافُورٍ فإِذَا
ـــــــ
باب ما جاء في غسل الميت
قال ابن العربي في العارضة: خبر الواحد مقبول في الأحكام الشرعية باتفاق من أهل السنة، واختلف العلماء هل يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى فرده أبو حنيفة وقد بيناه في أصول الفقه وأنه قد تناقض في مسائل قبل فيها خبر الواحد، ومن هذا الباب غسل الميت إذ ليس في حديث سواه انتهى
قوله: "أخبرنا خالد" هو الحذاء "ومنصور" هو ابن زاذان "وهشام" هو ابن حسان "فأما خالد وهشام فقالا عن محمد وحفصة" محمد هذا هو ابن سيرين وحفصة هذه هي بنت سيرين "وقال منصور عن محمد" أي ولم يذكر حفصة "عن أم عطية" فروى خالد وهشام عن محمد وحفصة عن أم عطية، وروى منصور عن محمد عن أم عطية. قال الحافظ في الفتح: مدار حديث أم عطية على محمد وحفصة ابني سيرين. قال ابن المنذر: ليس في أحاديث الغسل للميت أعلى من حديث أم عطية وعليه عول الأئمة.
قوله: "توفيت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم" هي زينب زوج أبي العاص بن الربيع كما في مسلم وهو المشهور، وقيل إنها أم كلثوم زوج عثمان كما في ابن ماجة ولفظه: دخل علينا ونحن نغسل ابنته أم كلثوم وكذا وقع لابن بشكوال في المبهمات عن أم عطية والدولابي في الذرية الطاهرة. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: فيمكن ترجيح أنها أم كلثوم بمجيئه من طرق متعددة، ويمكن الجمع بأن تكون أم عطية حضرتهما جميعاً، فقد جزم ابن عبد البر في ترجمتها بأنها كانت غاسلة الميتات "من ذلك" بكسر الكاف لأنه خطاب للمؤنث "إن رأيتن"(4/64)
فَرَغْتُنّ فَآذِنّنِي فَلَمّا فَرَغْنَا آذَنّاهُ فأَلْقَى إلينَا حَقْوَه فَقَالَ أَشْعِرنْهَا بهِ"
ـــــــ
أي إن احتجتن إلى أكثر من ثلاث أو خمس للإنقاء لا للتشهي فافعلنه قاله الطيبي "واغسلنها بماء وسدر" قال القاضي هذا لا يقتضي استعمال السدر في جميع الغسلات والمستحب استعماله في الكرة الأولى ليزيل الأقذار ويمنع عنه تسارع الفساد ويدفع الهوام. قال ابن الهمام: الحديث يفيد أن المطلوب المبالغة في التنظيف لا أصل التطهير وإلا فالماء كاف فيه، ولا شك أن تسخين الماء كذلك مما يزيد في تحقيق المطلوب فكان مطلوباً شرعياً. وعند الشافعي لا يغلي قيل يبدأ بالقراح أولاً ليبتل ما عليه من الدرن أولاً فيتم قلعه بالماء والسدر ثم يحصل تطييب البدن بعد النظافة بماء الكافور، والأولى أن يغسل الأوليان بالماء والسدر كما هو ظاهر كتاب الهداية. وأخرج أبو داود عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية يغسل بالسدر مرتين والثالث بالماء والكافور وسنده صحيح كذا في المرقاة. قلت: قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر حديث أبي داود هذا نقلاً عن النووي: إسناده على شرط البخاري ومسلم انتهى. وسكت عنه أبو داود والمنذري. تنبيه: وقع في المرقاة المطبوعة: قال القاضي: هذا لا يقتضي استعمال السدر في جميع الغسلات الخ. قلت: الظاهر أن يكون هذا يقتضي استعمال السدر في جميع الغسلات بحذف كلمة لا كما قال الزين بن المنير: ظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل لأن قوله بماء وسدر يتعلق بقوله اغسلنها انتهى "كافوراً أو شيئاً من كافور" شك من الراوي أي اللفظين قال: والأول محمول على الثاني لأنه نكرة فيصدق بكل شيء منه "فآذنني" بالمد وكسر الذال وتشديد النون الأولى أمر لجماعة النساء من الإيذان وهو الإعلام والنون الأولى أصلية ساكنة والثانية ضمير فاعل وهي مفتوحة والثالثة للوقاية "فألقى إلينا حقوه" بفتح المهملة ويجوز كسرها بعدها قاف ساكنة والمراد به هنا الإزار كما وقع مفسراً في رواية للبخاري. والحقو في الأصل معقد الإزار وأطلق على الإزار مجازاً قاله الحافظ "أشعر نهابه" أي بالحقو في النهاية أي اجعلنه شعارها، والشعار الثوب الذي يلي الجسد لأنه بلى شعره، قال الطيبي: أي اجعلن هذا الحقو تحت الأكفان بحيث يلاصق بشرتها والمراد إيصال البركة إليها.(4/65)
قالَ هُشَيْمٌ: "وفي حدِيثِ غَيْرِ هَؤُلاَءِ ولا أَدْرِي ولَعَلّ هِشَاماً مِنْهُمْ" قالَتْ: وضَفَرْنَا شَعْرَهَا ثَلاَثةَ قُرُونٍ. قالَ هُشَيْمٌ: أَظُنّهُ قالَ فأَلْقَيْنَاهُ خَلْفَهَا. قالَ هُشَيْمٌ: فَحَدّثَنَا خَالِدٌ مِنْ بَيْنِ القَوْمِ عن حَفْصَةَ ومحمدٍ عن أُمّ عَطِيّة قالَتْ: وقالَ لَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: وابْدَأْنَ بِمِيَامِنِهَا ومَوَاضِعَ الوُضُوءِ". وفي البابِ عن أُمّ سُلَيْمٍ.
قال أبو عيسى: حدِيثُ أُمّ عَطِيّةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على
ـــــــ
قوله: "وفي حديث غير هؤلاء" أي خالد ومنصور وهشام "وضفرنا شعرها" الضفر قتل الشعر قال الطيبي: من الضفيرة وهي النسج ومنه ضفر الشعر وإدخال بعضه في بعض "ثلاثة قرون" أي ثلاث ضفائر، ووقع في رواية للبخاري ناصيتها وقرينها أي جانبي رأسها وفي رواية أخرى للبخاري: أنهن جعلن رأس بنت النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون نقضته ثم غسلنه ثم جعلنه ثلاثة قرون "فألقيناه خلفها" أي فألقينا الشعر خلف ظهرها. قال الحافظ في فتح الباري: واستدل به على ضفر شعر الميت خلافاً لمن منعه، فقال ابن القاسم لا أعرف الضفر بل يكف، وعن الأوزاعي والحنفية يرسل شعر الميت خلفها وعلى وجهها مفرقة. قال القرطبي: وكأن سبب الخلاف أن الذي فعلته أم عطية هل استندت فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أم فعلته استحساناً كلا الأمرين محتمل، لكن الأصل أن لا يفعل بالميت شيء من جنس القرب إلا بإذن من الشرع محقق ولم يرد ذلك مرفوعاً كذا قال. وقال النووي: الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره قال الحافظ ابن حجر: وقد رواه سعيد بن منصور بلفظ الأمر عن أم عطية قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسلنها وتراً واجعلن شعرها ضفائر. وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أم عطية اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً واجعلن لها ثلاثة قرون انتهى. "وفي الباب عن أم سليم" لينظر من أخرجه.
قوله: "حديث أم عطية حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(4/66)
هذا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ. وقد رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ أَنّهُ قالَ: غُسْلُ المَيّتِ كالغُسْلِ مِنَ الجَنَابَةِ. وقالَ مَالِكُ بنُ أَنَسٍ: لَيْسَ لِغُسْلِ المَيّتِ عِنْدَنَا حَدّ مُؤقّتٌ ولَيْسَ لِذَلِكَ صِفَةٌ مَعْلُومَة ولكن يُطَهّرُ. قالَ الشّافِعِيّ إنّمَا قَالَ مَالِكٌ قَوْلاً مُجْمَلاً، يُغَسّلُ وَيُنْقى، وَإذَا أُنْقِيَ الميّتُ بِمَاءِ قراحِ أَوْ مَاءِ غَيْرِهِ أجْزَأَ ذَلِكَ مِنْ غُسْلِهِ ولكنْ أحَبّ إليّ أن يُغْسَل ثَلاَثاً فصاعِداً لا يقصر عَنْ ثلاثٍ لِمَا قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اغْسِلنَهَا ثلاثاً أو خَمْساً. وإنْ أَنْقَوا في أَقَلّ مِنْ ثلاث مَرّات أجْزَأَ ولا نرَى أنّ قَوْلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّمَا هُوَ على مَعْنَى الإنْقَاءِ ثلاثاً أو خَمْساً ولَمْ يُؤَقّتْ.
ـــــــ
قوله: "قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال غسل الميت كالغسل من الجنابة" يعني يراعى في غسل الميت ما يراعى في الغسل من الجنابة.
قوله: "وقال مالك بن أنس: ليس لغسل الميت عندنا حد مؤقت وليس لذلك صفة معلومة" قال مالك في الموطأ: وليس لغسل الميت عندنا حد موصوف وليس لذلك صفة معلومة ولكن يغسل فيطهر انتهى.
قلت: بل له حد موصوف وصفة معلومة، فيغسل الميت وتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأى الغاسل، ويبدأ بميامنه ومواضع الوضوء منه، ويغسل بماء وسدر، ويجعل في الغسلة الأخيرة الكافور. وإن كان الميت امرأة فيضفر شعر رأسها ثلاثة قرون ويجعل خلفها. وهذه الصفات كلها قد جاءت في حديث أم عطية الصحيح المتفق عليه فلا حاجة إلى القول المجمل بأنه ليس لغسل الميت حد موصوف وليس لذلك صفة معلومة "قال الشافعي إنما قال مالك قولاً مجملاً يغسل وينقى" ولم يفصل ولم يبين "وإذا أنقى" بصيغة المجهول من الإنقاء. "بماء القراح" قال في القاموس القراح كسحاب الماء لا يخالطه ثفل من سويق وغيره والخالص كالقريح "ولا يرى" وفي بعض النسخ أو لا يرى بهمزة الاستفهام "ولم يؤقت" من التوقيت أي لم يحدد، والمعنى أن المقصود من قوله اغسلنها ثلاثاً أو خمساً هو الانقاء لا التحديد، فإن حصل النقاء والطهارة بأقل من ثلاث مرات أجزأ.(4/67)
وكذَلِكَ قالَ الفُقَهَاءُ وهُمْ أَعْلَمُ بمعَانِي الحَدِيثِ. وقالَ أحمدُ وإسحاقُ وتكُونُ الغَسَلاَتُ بِمَاءٍ وسِدْرٍ ويَكُونُ في الاَخِرَةِ شَيْءٌ مِنَ كافور.
ـــــــ
قوله: "وكذلك قال الفقهاء وهم أعلم بمعاني الحديث" المراد بالفقهاء الفقهاء من المحدثين كسفيان الثوري والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وغيرهم، وقد صرح الترمذي بذلك في كتاب العلل.
قوله: "وقال أحمد وإسحاق وتكون الغسلات بماء وسدر" أي قالا بكون جميع الغسلات بالماء والسدر لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم واغسلنها بماء وسدر، وظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل "ويكون في الاَخرة" أي في الغسلة الاَخرة "شيء من كافور" قال ابن العربي: وقد قالوا الأولى بالماء القراح والثانية بالماء والسدر والثالثة بالماء والكافور. وقد قال النخعي: لا يجعل الكافور في الماء وليس هذا في لفظ الحديث ولم يقتضيه بلفظ الحديث من خلط الماء بالسدر والكافور انتهى(4/68)
باب ماجاء في المسك للميت
...
15 ـ باب ما جَاءَ في المِسْكِ للمَيّت
996 ـ حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ حدثنا عن شُعْبَةَ عن خُلَيدِ بنِ جَعْفَرٍ عن أبي نَضْرَةَ عن أبي سَعِيدٍ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن المِسْكِ فقالَ هُوَ أَطْيَبُ طِيبِكُمْ".
ـــــــ
باب ما جاء المسك للميت
قوله: "حدثنا سفيان بن وكيع" بن الجراح الرواسي الكوفي أبو محمد. قال البخاري يتكلمون فيه. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: لئن "حدثنا أبي" هو وكيع بن الجراح أبو سفيان أحد الأئمة الأعلام ثقة حافظ "عن خليد" بالتصغير "بن جعفر" بن طريف الحنفي البصري صدوق لم يثبت أن ابن معين ضعفه قاله الحافظ.
قوله: "فقال هو أطيب طيبكم" أي أفضله فهو أفخر أنواعه وسيدها، وتقديم العنبر عليه خطأ كما قال ابن القيم، ومطابقة الحديث للباب بأن من المعلوم أن الطيب سنة للميت والمسك فرد من الطيب بل هو من أفضل أفراده فهو أيضاً سنة له.(4/68)
997 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ أخبرنا أبُو دَاوُدَ و شَبَابَةُ قالا أخبرنا شُعْبَةُ عن خُلَيْدِ بن جَعْفَرٍ نحوه.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ. وهُوَ قَوْلُ أحمدَ وإسْحَاقَ وقد كَرِهَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ المِسْكَ لِلْمَيّتِ. قال وقد رَوَاهُ المُسْتَمِرّ بنُ الرّيّانِ أَيْضاً عن أبي نَضْرَةَ عن أبي سَعِيدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قالَ عَلِيّ قال يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ المُسْتَمِرّ بنُ الرّيّانِ ثِقَةٌ قال يحيى خُلَيْدُ بنُ جَعْفَرٍ ثِقَة.
ـــــــ
تنبيه: قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية ص 443 بعد ذكر هذا الحديث: أخرجه مسلم في الطب وأخرجه أبو داود والنسائي في الجنائز وبوبا عليه باب الطيب للميت قال ولم أعرف مطابقته للباب انتهى. قلت: ليس في واحدة من نسخ أبي داود الموجودة عندنا باب الطيب للميت بل وقع في جميعها باب في المسك للميت ووقع في نسخة النسائي المطبوعة الموجودة عندنا المسك وليس فيها لفظ باب ولا لفظ للميت، فالحديث مطابق لتبويبها كما عرفت.
قوله: "وهو قول أحمد وإسحاق واستدل لهما بحديث الباب وما أخرج الحاكم في المستدرك عن أبي وائل" قال: كان عند علي رضي الله تعالى عنه مسك فأوصى أن يحنط به وقال هو فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وسكت. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه ورواه البيهقي في سننه. قال النووي: إسناده حسن وبما أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن سلمان أنه استودع إمرأته مسكا قال: إذا مت فطيبوني به فإنه يحضرني خلق من خلق لا ينالون من الطعام والشراب يجدون الريح انتهى.
قوله: "وقد كره بعض أهل العلم المسك للميت" لم أقف على وجه الكراهة والحق هو الجواز. قوله: "وقد رواه المستمر بن الريان الخ" بفتح الراء المهملة وشدة التحتانية وأخرج روايته مسلم وأبو داود والنسائي. قوله: "قال علي" وهو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم أبو الحسن ابن المديني البصري ثقة ثبت إمام أعلم أهل عصره بالحديث وعلله "قال يحيى بن سعيد" بن فروخ أبو سعيد القطان أحد أئمة الجرح والتعديل.(4/69)
باب ماجاء في الغسل من غسل الميت
...
16 ـ باب ما جَاءَ في الغُسْلِ مِنْ غُسْلِ المَيّت
998 ـ حدثنا محمدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ بنِ أبي الشّوَارِبِ حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ المُخْتَارِ عن سُهَيْلِ بن أبي صَالِحٍ عن أبيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مِنْ غُسْلِهِ الغُسْلُ، ومِنْ حَمْلِهِ الوُضُوءُ يَعْنيِ المَيّتَ". وفي البابِ عن عَلِي وعَائِشَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ. وقد رُوِيَ عن
ـــــــ
باب ما جاء في الغسل من غسل الميت
قوله: "من غسله الغسل" وفي رواية أبي داود من طريق عمرو بن عمير عن أبي هريرة بلفظ: من غسل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ "يعني الميت" هذا تفسير من بعض الرواة للضمير المجرور في قوله من غسله ومن حمله.
قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما ولفظ أبي داود: قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال قد مات قال: اذهب فوار أباك ثم لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني، فذهبت فواريته وجثته فأمرني فاغتسلت ودعا لي انتهى. قال الحافظ: مدار كلام البيهقي على أنه ضعيف ولا يتبين وجه ضعفه. قال وقع عند ابن أبي شيبة في مصنفه بلفظ: فقلت إن عمك الشيخ الكافر قد مات فما ترى فيه؟ قال أرى أن تغسله وتجنه كذا في التلخيص "وعائشة" أخرجه أبو داود وغيره بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع: من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة ومن غسل الميت انتهى والحديث ضعيف.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن" قال الحافظ في الفتح: هو معلول لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: الصواب عن أبي هريرة موقوف انتهى. وقال في التلخيص بعد ما ذكر طرقاً عديدة لحديث أبي هريرة هذا ما لفظه: وفي الجملة هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض. وقد قال الذهبي في مختصر البيهقي: طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحديث احتج بها الفقهاء ولم يعلوها بالوقف(4/70)
أَبي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفاً. وقد اخْتَلَفَ أهْلُ العِلمِ في الذي يُغَسّلُ المَيّتَ فقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ: إِذَا غَسّلَ مَيّتَاً فَعَلَيْهِ الغُسْلُ. وقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ الوُضُوءُ. وقالَ مَالِكُ بنُ أنَسٍ: أسْتْحِبّ الغُسْلَ مِنْ غُسْلِ المَيّتِ ولاَ أرَى ذَلِكَ وَاجِباً وهَكَذَا قالَ الشّافِعِيّ. وقالَ أحمدُ: مَنْ غَسّلَ مَيّتَاً أرْجُو أن لا يَجِبَ عَليهِ الغُسْلُ وأما الوُضُوءُ
ـــــــ
بل قدموا رواية الرفع انتهى. قلت: الحق أن حديث أبي هريرة هذا بكثرة طرقه وشواهده لا ينزل عن درجة الحسن، وقد صحح هذا الحديث ابن حبان كما ذكره الحافظ في التلخيص.
قوله: "فقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبرهم: إذا غسل ميتاً فعليه الغسل" أي فالغسل عليه واجب، وروي ذلك عن علي وأبي هريرة واستدلوا على الوجوب بحديث الباب وما في معناه فإنه بظاهره يدل على الوجوب وقال مالك بن أنس: أستحب الغسل من غسل الميت ولا أرى ذلك واجباً وهكذا قال الشافعي وقال أحمد: من غسل ميتاً أرجو أن لا يجب عليه الغسل، واستدل هؤلاء أيضاً بحديث الباب لكنهم حملوا الأمر فيه على الاستحباب لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه إن ميتكم يموت طاهراً وليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" أخرجه البيهقي وقد حسن الحافظ إسناده وقال فيجمع بينه وبين الأمر في حديث أبي هريرة بأن الأمر على الندب أو المراد بالغسل غسل الأيدي كما صرح به في هذا انتهى، ولحديث ابن عمر رضي الله عنه كما نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح وهو يؤيد أن الأمر في حديث أبي هريرة للندب وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث انتهى، ولحديث أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها غسلت أبا بكر حين توفي ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل على من غسل؟ قالوا لا؟ قالو لا، رواه مالك في الموطأ. قال الشوكاني في النيل: وهو من الأدلة الدالة على استحباب الغسل دون وجوبه، وهو أيضاً من القرائن الصارفة عن الوجوب، فإنه يبعد(4/71)
فَأَقَلّ مَا قِيلَ فيهِ. وقالَ إسْحَاقُ: لاَ بُدّ مِنَ الوُضُوءِ. قال وقد رُوِيَ عن عَبدِ الله بنِ المُبَارَكِ أنّهُ قالَ: لا يَغْتَسِلُ ولاَ يَتَوَضّأُ مِنْ غَسّلِ المَيّتِ.
ـــــــ
غاية البعد أن يجهل أهل ذلك المجمع الذين هم أعيان المهاجرين والأنصار واجباً من الواجبات الشرعية، ولعل الحاضرين منهم جل المهاجرين وأجلهم، لأن موت مثل أبي بكر حادث لا يظن بأحد من الصحابة الموجودين في المدينة أن يتخلف عنه، وهم في ذلك الوقت لم يتفرقوا كما يتفرقوا من بعد انتهى وقال فيه: والقول بالاستحباب هو الحق لما فيه من الجمع بين الأدلة بوجه مستحسن انتهى.
"وقد روي عن عبد الله بن المبارك أنه قال لا يغتسل ولا يتوضأ من غسل الميت" استدل من ذهب إلى عدم استحباب الاغتسال من غسل الميت بحديث ابن عباس المذكور وبحديث أسماء بنت عميس المذكور، وأجابوا عن حديث الباب بأنه ضعيف. قال علي بن المديني وأحمد بن حنبل: لا يصح في الباب شيء. وقال الذهلي: لا أعلم فيه حديثاً ولو ثبت للزمنا استعماله. وقال الرافعي: لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئاً مرفوعاً. وقد عرفت أن الحق أن حديث الباب بكثرة طرقه وشواهده لا ينحط عن درجة الحسن وأجابوا أيضاً بأن حديث الباب منسوخ وقد جزم به أبو داود ونقله عن أحمد وفيه أن النسخ لا يثبت بالاحتمال بل إذا وجد ناسخ صريح وهو متأخر(4/72)
باب ماجاء ما يستحب من الأكفان
...
17 ـ باب مَا يُسْتَحَبّ مِنَ الأكْفَان
999 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا بِشْرُ بنُ المُفَضّلِ عن عَبْدِ الله بنِ عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ عن سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "البَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ البَيَاضَ فإِنّها مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وكفّنُوا فِيها مَوْتَاكُمْ".
ـــــــ
باب ما يستحب من الأكفان
قوله: "البسوا" بفتح الباء "من ثيابكم" من تبعيضية أو بيانية مقدمة "البياض" أي ذات البياض "فإنها" أي الثياب البيض "وكفنوا فيها موتاكم" قال القاري: الأمر فيه للاستحباب. قال ابن الهمام: وأحبها البياض ولا بأس(4/72)
وفي البابِ عن سَمُرَةَ وابنِ عُمَرَ وعائشةَ.
قال أبو عيسى حديثُ ابنِ عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهُوَ الذي يَسْتَحِبّهُ أهْلُ العِلْمِ. وقالَ ابنُ المُبَارَكِ أحَبّ إِليّ أنْ يُكَفّنَ في ثِيَابِهِ الّتِي كان يُصَلّي فِيها. وقالَ أحمدُ وإسْحَاقُ: أحَبّ إلَيْنَا أنْ يُكَفّنَ فِيها البَيَاضُ، ويُسْتَحَبّ حُسْنُ الكَفَنِ.
ـــــــ
بالبرد والكتان للرجال، ويجوز للنساء الحرير والمزعفر والمعصفر اعتباراً للكفن باللباس في الحياة انتهى. قال النووي: استحباب التكفين في البياض مجمع عليه.
قوله: "وفي الباب عن سمرة" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي "وابن عمر" أخرجه ابن عدي في الكامل "وعائشة" أخرجه الشيخان بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب يمانية بيض سحولية إلخ، وفي الباب أحاديث أخرى ذكرى الشوكاني في النيل.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" أخرجه الخمسة إلا النسائي كذا في المنتقى وصححه ابن القطان "وقال ابن المبارك أحب إلى أن يكفن في ثيابه التي كان يصلي فيها" لأنها ثياب عبادة قد تعبد فيها. وروى ابن سعد عن طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر. قال أبو بكر: كفنونني في ثوبي اللذين كنت أصلي فيهما، كذا في فتح الباري في تذكرة الحفاظ للذهبي. قال الزهري: إن سعداً لما احتضر دعا بخلق جبة صوف وقال كفنوني فيها فإني قاتلت فيها يوم بدر إنما خبأتها لهذا.
قوله: "ويستحب حسن الكفن" يأتي بيان حسنه في الباب الأتي(4/73)
18 ـ باب
1000 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عُمرُ بنُ يُونُسَ حدثنا عِكْرِمَةُ بنُ عَمّارٍ عن هِشَامِ بنِ حَسّانَ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ عن أبي قَتَادَةَ قالَ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا وَلِيَ أحَدُكُمْ أخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ".
ـــــــ
باب
قوله: "فليحسن" ضبط بفتح الحاء وإسكانها. قال النووي: كلاهما صحيح "كفنه" قال السيوطي في قوت المغتذي: المشهور في رواية هذا الحديث فتح(4/73)
وفيهِ عن جَابِرٍ. قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقال ابنُ المُبَارَكِ قال سَلاّمُ بنُ أبي مُطِيعٍ في قوله: ولْيُحْسِنْ أحَدُكُمْ كَفَنَ أخِيهِ. قال هُوَ الصّفَاءُ ولَيْسَ بالمُرْتَفِع.
ـــــــ
الفاء وحكى بعضهم سكونها على المصدر انتهى والمراد بإحسان الكفن نظافته ونقاؤه وكثافته وستره وتوسطه وكونه من جنس لباسه في الحياة لا أفخر منه ولا أحقر، وليس المراد بإحسانه السرف والمغالاة ونفاسته لحديث علي رضي الله عنه مرفوعاً: لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً، رواه أبو داود.
قوله: "وفيه عن جابر" أخرجه مسلم. قوله: "قال سلام" بتشديد اللام وسلام هذا هو شيخ ابن المبارك ثقة صاحب سنة، في رواية عن قتادة ضعف من السابعة. قاله الحافظ "هو الصفا" أي النظيف "وليس بالمرتفع" أي في الثمن(4/74)
باب ماجاء في كم كفن النبي صلى الله عليه وسلم
...
19 ـ باب ما جَاءَ في كَفَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم
1001 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا حَفْصُ بنُ غِيَاثٍ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عائِشَةَ قالَتْ: "كُفّنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثَلاثةِ أثْوَابٍ بِيضٍ يَمَانِيّةٍ لَيْسَ فيها قَمِيصٌ ولاَ عِمَامَةٌ. قالَ فَذَكَرُوا لِعَائِشَةَ قَوْلَهُمْ "في ثَوْبَيْنِ وبُرْد حِبَرَةٍ" فقَالَتْ قَدْ أُتِيَ بالبُرْدِ ولَكِنّهُمْ رَدّوهُ ولمْ يُكَفّنُوهُ فيهِ.
ـــــــ
باب ما جاء في كم كفن النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: "يمانية" بتخفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما لغة في تشديدها، وجه الأول أن الألف بدل من ياء النسبة فلا يجتمعان فيقال يمنية أو يمانية بالتخفيف وكلاهما نسبة إلى اليمن "ليس فيها قميص ولا عمامة" فيه دليل على أن القميص ليس بمستحب في الكفن وهو قول الجمهور. وقال مالك والحنفية باستحبابه: وأجابوا عن قول عائشة رضي الله عنها ليس فيها قميص ولا عمامة. بأنه يحتمل نفي وجودهما ويحتمل أن يكون المراد نفي المعدود(4/74)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1002 ـ حدثنا ابنُ أبِي عُمرَ حدثنا بِشْرُ بنُ السّرِيّ عن زَائِدَةَ عن عَبْدِ الله بنِ محمدِ بنِ عَقِيلٍ عن جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كَفّنَ حَمْزَةَ بنَ عَبْدِ المُطّلِبِ في نَمِرَةٍ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ".
وفي البابِ عن عَلِي وابنِ عَبّاسٍ وعَبْدِ الله بنُ مُغَفّلٍ وابنِ عُمرَ.
ـــــــ
أي الثلاثة خارجة عن القميص والعمامة وهما زائدان. وأن يكون معناه ليس فيها قميص جديد، أو ليس فيها القميص الذي غسل فيه، أو ليس فيها قميص مكفوف الأطراف. ويجاب بأن الاحتمال الأول هو الظاهر وما عداه متعسف فلا يصار إليه كذا في النيل.
قوله: "فذكروا لعائشة قولهم في ثوبين وبرد حبرة" بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة ما كان من البرود مخططاً. وروى أبو داود عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثوبين وبرد حبرة انتهى. قال الحافظ في الفتح إسناده حسن لكن روى مسلم والترمذي من حديث عائشة أنهم نزعوها عنه انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "كفن حمزة بن عبد المطلب" عم رسول الله صلى الله عليه وسلم "في نمرة" بفتح نون وكسر ميم هي شملة فيها خطوط بيض وسود أو بردة من صوف يلبسها الأعراب. كذا في القاموس "في ثوب واحد" بدل من في نمرة. وروى أحمد في سنده عن خباب: أن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الأذخر انتهى.
قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والبزار بلفظ قال: كفن النبي صلى الله عليه وسلم في سبعة أثواب. وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيء الحفظ لا يصلح الاحتجاج بحديثه إذا خالف الثقات كما هنا كذا في النيل "وابن عباس" أخرجه أحمد وأبو داود بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب قميصه الذي مات فيه، وحلة نجرانية الحلة ثوبان، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف كبر فتغير. قاله الحافظ "وعبد الله بن مغفل" لينظر من أخرجه "وابن عمر" أخرجه الحاكم بمعنى حديث علي المذكور.(4/75)
قال أبو عيسى: حديثُ عَائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ في كَفَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، وحديثُ عَائِشَةَ أصَحّ الأحَادِيثِ التي رُوِيَتْ في كَفَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. والعملُ حديث عائشة عِنْدَ أَكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ. قالَ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ: يُكَفّنُ الرّجُلُ في ثَلاَثَ أثْوَابٍ، إن شِئْتَ في قَمِيصٍ ولِفَافَتَيْنِ وإنْ شِئْتَ في ثلاثِ لَفَائِفَ. ويجزئ ثَوْبٌ وَاحِدٌ إنْ لَمْ يَجِدُوا ثَوْبَيْنِ، والثّوْبَانِ يُجْزِيَانِ، والثّلاثةُ لِمَنْ وَجَدها أَحَبّ إليهمْ، وهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وأحمدَ وإسْحَاقَ، قالُوا تُكَفّنُ المَرْأَةُ في خَمْسَةِ أثْوَابٍ.
ـــــــ
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه الجماعة "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم" أي عمل أكثر أهل العلم على أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل. قال القاري في المرقاة نقلا عن المواهب: قال مالك والشافعي وأحمد يستحب أن يكون الثلاث لفائف ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال الحنفية: الأثواب الثلاثة إزار وقميص ولفافة انتهى.
قوله: "يجزئ ثوب واحد الخ" قال الحافظ في الفتح: إن الثلاث في حديث عائشة ليست شرطاً في الصحة وإنما هو مستحب وهو قول الجمهور. واختلف فيما إذا شح بعض الورثة بالثاني أو الثالث. والمرجح أنه لا يلتفت إليه، وأما الواحد الساتر لجميع البدن فلا بد منه بالاتفاق انتهى.
قوله: "وقالوا تكفن المرأة في خمسة أثواب" لحديث ليلى بنت قائف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها وكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخفا ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الاَخر، الحديث رواه أحمد وأبو داود وقال القاضي ابن العربي في العارضة: قوله في هذا الحديث أم كلثوم وهم، إنما هي زينب لأن أم كلثوم توفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب ببدر انتهى .(4/76)
باب ماجاء في الطعام يصنع لأهل الميت
...
20 ـ باب ما جَاءَ في الطّعامِ يصْنَعُ لأهْلِ الميّت
1003 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ و عَلِيّ بنُ حُجْرٍ قالاحدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن جَعْفَرِ بنِ خَالِدٍ عن أبيهِ عن عَبْدِ الله بنِ جَعْفَرٍ قالَ: "لَمّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إصْنَعُوا لأهْلِ جَعْفَرٍ طَعَاماً فإنهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ".
ـــــــ
باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل البيت
قوله: "لما جاء نعي جعفر" أي ابن أبي طالب أي خبر موته بموتة وهي موضع عند تبوك سنة ثمان "ما يشغلهم" لفتح الياء والغين وقيل بضم الأول وكسر الثالث. قال في القاموس: شغله كمنعه شغلاً ويضم وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة، والمعنى جاءهم ما يمنعهم من الحزن عن تهيئة الطعام لأنفسهم فيحصل الهم والضرر وهم لا يشعرون. قال الطيبي: دل على أنه يستحب للأقارب والجيران تهيئة طعام لأهل الميت انتهى. قال ابن العربي في العارضة: والحديث أصل في المشاركات عند الحاجة وصححه الترمذي. والسنة فيه أن يصنع في اليوم الذي مات فيه لقوله صلى الله عليه وسلم: "فقد جاءهم ما يشغلهم عن حالهم". فحزن موت وليهم اقتضى أن يتكلف لهم عيشهم. وقد كانت العرب مشاركات ومواصلات في الباب الأطعمة باختلاف الأسباب وفي حالات اجتماعها انتهى قال القاري والمراد طعام يشبعهم يومهم وليلتهم فإن الغالب أن الحزن الشاغل عن تناول الطعام لا يستمر أكثر من يوم، ثم إذا صنع لهم ما ذكر سن أن يلح عليهم في الأكل لئلا يضعفوا بتركه استحياء أو لفرط جزع انتهى. وقال ابن الهمام: ويستحب لجيران أهل الميت والأقرباء الأباعد تهيئة طعام يشبعهم يومهم وليلتهم لقوله صلى الله عليه وسلم : "اصنعوا لاَل جعفر طعاماً، وقال يكره اتخاذ الضيافة من أهل الميت لأنه شرع في السرور لا في الشرور وهي بدعة مستقبحة انتهى". وقال القاري: واصطناع أهل البيت الطعام لأجل اجتماع الناس عليه بدعة مكروهة بل صح عن جرير رضي الله عنه كنا نعده من النياحة وهو ظاهر في التحريم انتهى. قلت: حديث جرير رضي الله عنه أخرجه أحمد وابن ماجه بلفظ:(4/77)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. وقد كَانَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ يَسْتَحِب أَنْ يُوجّه إلى أهْلِ المَيّتِ شَيْءٌ لِشُغْلِهِمْ بالمُصِيبَةِ. وهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ.
قال أبو عيسى وجَعْفَرُ بنُ خَالِدٍ هُوَ ابنُ سَارّةَ وهُوَ ثِقَةٌ رَوَى عَنْهُ ابنُ جُرَيْجٍ.
ـــــــ
في ذلك وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك "ودعا بدعوة الجاهلية" أي بدعائهم. يعني قال عند البكاء ما لا يجوز شرعاً مما يقول به أهل الجاهلية كالدعاء بالويل والثبور وكواكهفاه واجبلاه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم
قال كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة انتهى. وإسناده صحيح.
فإن قلت: حديث جرير هذا مخالف لحديث عاصم بن كليب الذي رواه أبو داود في سننه بسند صحيح عنه عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي: "لحافراً أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه" فلما رجع استقبله داعي امرأته فأجاب ونحن معه، فجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا الحديث. رواه أبو داود والبيهقي في دلائل النبوة هكذا في المشكاة في باب المعجزات. فقوله: فلما رجع استقبله داعي امرأته الخ نص صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب دعوة أهل البيت واجتمع هو وأصحابه بعد دفنه وأكلوا، فإن الضمير المجرور في امرأته راجع إلى ذلك الميت الذي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازته، فما التوفيق بين هذين الحديثين المختلفين؟
قلت: قد وقع في المشكاة لفظ داعي امرأته بإضافة لفظ امرأة إلى الضمير وهو ليس بصحيح بل الصحيح داعي امرأة بغير الإضافة، والدليل عليه أنه قد وقع في سنن أبو داود: داعي امرأة بغير الإضافة. قال في عون المعبود: داعي امرأة كذا وقع في النسخ الحاضرة، وفي المشكاة: داعي امرأته بالإضافة انتهى. وروى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده ص 293 ج 5 وقد وقع فيه أيضاً: داعي امرأة بغير الإضافة بل زاد فيه بعد داعي امرأة لفظ: من قريش، فلما ثبت أن الصحيح في حديث عاصم بن كليب هذا لفظ: داعي امرأة بغير إضافة امرأة إلى الضمير، ظهر أن حديث جرير المذكور ليس بمخالف لحديث عاصم بن كليب هذا فتفكر. هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن" وصححه ابن السكن، والحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه.
قوله: "وجعفر بن خالد هو ابن سارة" بمهملة وخفة راء وقيل بشدته،كذا ذكر صاحب المغني "وهو ثقة" ووثقه أيضاً أحمد وابن معين والنسائي وغيرهم "روى عنه ابن جريج" وابن عيينة. قال البغوي: لا أعلم روى عنه غيرهما كذا في تهذيب التهذيب(4/78)
باب ماجاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب عند المصيبة
...
21 ـ باب ما جَاءَ في النّهْيِ عَنْ ضَرْبِ الخُدُودِ
وشَقّ الجُيُوبِ عِنْدَ المُصِيبَة
1004 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عن سُفْيَانَ قالَ حَدّثَنِي زُبَيْدٌ الأيَامِيّ عن إبَراهِيمَ عن مَسْرُوقٍ عن عَبْدِ الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ : "لَيْسَ مِنّا مَنْ شَقّ الجُيُوبَ وضَرَبَ الخُدُودَ ودَعَا بِدَعْوَةِ الجَاهِلِيّةِ".
قال أبو عيسى رحمه الله: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب ما جاء في النهي عن ضرب الخدود الخ
قوله: "حدثني زبيد" بزاي موحدة مصغراً "الأيامي" بفتح الهمزة ويقال له اليامي بحذف الهمزة أيضاً.
قوله: "ليس منا" أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته لست منك ولست مني. أي ما أنت على طريقتي. وقيل المعنى ليس على ديننا الكامل أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله. قال الحافظ في الفتح: ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبري المذكور في حديث أبي موسى حيث قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة. وأصل البراءه الانفصال من الشيء، وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته مثلاً. قال: وحكى عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويله ويقول ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر انتهى. "من شق الجيوب" جمع جيب بالجيم والموحدة وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقه إكمال فتحه إلى آخره وهو من علامات التسخط "وضرب الخدود" جمع الخد خص الخد بذلك لكونه الغالب(4/79)
باب ماجاء في كراهية النوح
...
22 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ النّوْح
1005 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا قُرّانُ بنُ تَمّامٍ و مَرْوَان بنُ مُعَاوِيَةَ و يزِيدُ بنُ هَارُونَ عن سَعِيدِ بنُ عُبَيْدٍ الطّائِيّ عن عَلِيّ بنِ رَبِيعَةَ الأسَدِيّ قال: "مَاتَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ يُقَال لَهُ قَرَظَةُ بنُ كَعْبٍ فَنِيحَ عَلَيْهِ فَجَاءَ المغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ فَصَعِدَ المِنْبَرَ فَحَمِدَ الله وأثْنَى عليهِ وقالَ: مَا بَالُ النّوْحِ في الإسْلاَمِ أَمَا إِنّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بمَ نِيحَ عَلَيْه عُذّبَ مَا نِيحَ عَلَيْهِ".
وفي البابِ عن عُمَرَ وعَلِي وأبي مُوسَى وقَيْسِ بنِ عَاصِمٍ وأبي هُرَيْرَةَ
ـــــــ
باب ما جاء في كراهية النوح
قوله: "قران" بضم أوله وتشديد الراء "بن تمام" بتشديد الميم الأول ثقة.
قوله: "يقال له فرظة" بفتح القاف والراء والظاء المشالة أنصاري خزرجي كان أحد من وجهه عمر إلى الكوفة ليفقه الناس، وكان على يده فتح الري، واستخلفه علي على الكوفة، وجزم ابن سعد وغيره بأنه مات في خلافته وهو قول مرجوح لما ثبت في صحيح مسلم أن وفاته حيث كان المغيرة بن شعبة أميراً على الكوفة وكانت إمارة المغيرة على الكوفة من قبل معاوية من سنة إحدى وأربعين إلى أن مات وهو عليها سنة خمسين كذا في فتح الباري "من نيح" مجهول ناح "ما نيح عليه" أي ما دام نيح عليه، وفي رواية الصحيحين: من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة.
قوله: "وفي الباب عن عمر رضي الله عنه" أخرجه الشيخان والترمذي "وعلي" أخرجه ابن أبي شيبة "وأبي موسى" أخرجه أحمد مرفوعاً بلفظ: الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة واعضداه واناصراه واكاسباه حبذ(4/80)
وجُنَادَةُ بنِ مَالِكٍ وأنَسٍ وأُمّ عَطِيّةَ وسَمُرَةَ وأبي مَالِكٍ الأشْعَرِيّ.
قال أبو عيسى: حديثُ المُغِيرَةِ حديثٌ غريبٌ حسنٌ صحيحٌ.
1006 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبُو دَاوُدَ أنبأنا شُعْبَةُ والمَسْعُودِيّ عن عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثِدٍ عن أبي الرّبِيعِ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَع فِي أُمّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيّةِ لَنْ يَدَعَهُنّ الناسُ: النّيَاحَةُ والطعْنُ في الأحْسَابِ والعَدْوَى "أجْرَبَ بَعِيرٌ فأَجْرَبَ
ـــــــ
الميت وقيل له: أنت عضدها. أنت ناصرها. أنت كاسبها. إنتهى. أخرجه الترمذي "وقيس بن عاصم" أخرجه النسائي "وأبي هريرة" أخرجه الترمذي وأخرجه ابن عدي من حديث الحسن عن أبي هريرة بلفظ: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة: والمستمعة، وهو ضعيف ذكره الحافظ في التلخيص "وجنادة بن مالك" أخرجه الطبراني "وأنس" وأخرج مسلم عن أنس أن عمر قال لحفصة أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المعول عليه يعذب في قبره"، زاد ابن حبان: قالت بلى كذا في التلخيص "وأم عطية" أخرجه الشيخان والنسائي أخرجه البزار "وسمرة" أخرجه البزار أيضاً "وأبي مالك الأشعري" أخرجه أحمد ومسلم مرفوعاً بلفظ: أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، الحديث وفي الباب أحاديث كثيرة. مذكورة في عمدة القاري صفحة 95 ج 4.
قوله: "حديث المغيرة بن شعبة حديث غريب حسن صحيح" أخرجه الشيخان.
قوله: "أربع في أمتي" أي خصال أربع كائنة في أمتي "من أمر الجاهلية" أي حال كونهن من أمور الجاهلية وخصالها "لن يدعهن" بفتح الدال أي لن يتركهن "النياحة" هي قول واويلاه واحسرتاه، والندبة عد شمائل الميت مثل واشجاعاه واأسداه واجبلاه قاله القاري "والطعن في الأحساب" جمع الحسب وما يعده الرجل من الخصال التي تكون فيه كالشجاعة والفصاحة وغير ذلك، وقيل الحسب ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه. قال ابن السكيت: الحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن لاَبائه شرف، والشرف والمجد لا يكونان(4/81)
مِائَةَ بَعِيرٍ. مَنْ أجْرَبَ البَعِيرَ الأوّلَ؟" والأنْوَاءُ "مُطْرِنَا بِنَوءِ كذَا وكذَا".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
إلا بالاَباء "والعدوى" بفتح العين المهملة وسكون الدال المهملة. قال الجزري في النهاية: هو إسم من الإعداء كالرعوي والبقوي من الإرعاء والإبقاء، يقال أعداه الداء يعديه إعداء وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء، وذلك أن يكون ببعير جرب مثلاً فتنتقي مخالطته بإبل أخرى خداراً أن يتعدى ما به من الجرب إليها فيصيبها ما أصابه وقد أبطله الإسلام لأنهم كانوا يظنون أن المرض بنفسه يتعدى، فأعلمهمم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس الأمر كذلك وإنما الله هو الذي يمرض وينزل الداء "أجرب بعير" أي صار ذا جرب "من أجرب العير الأول" هذا رد عليهم أي من أين صار فيهم الجرب "والأنواء مطرنا بنوء كذا وكذا" الأنواء جمع نوء. قال النووي في شرح مسلم نقلا عن الشيخ أبي عمر الصلاح: النوء في أصله ليس هو نفس الكوكب فإنه مصدر ناء النجم ينوء نوءاً أي سقط وغاب، وقيل نهض وطلع، وبيان ذلك أن ثمانية وعشرين نجماً معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها وهي المعروفة بمنازل القمر الثمانية والعشرين يسقط في كل ثلاث عشرة ليلة منها نجم في المغرب مع طلوع الفجر ويطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته، فكان أهل الجاهلية إذا كان عند ذلك مطر ينسبونه إلى الساقط الغارب منهما. وقال الأصمعي إلى الطالع منهما. قال أبو عبيد: ولم أسمع أن النوء السقوط إلا في هذا الموضع، ثم إن النجم نفسه قد يسمى نوأ تسمية للفاعل بالمصدر. قال أبو إسحاق الزجاج في أمالية الساقطة في المغرب هي الأنواء والطالعة في المشرق هي البوارج إنتهى كلام النووي(4/82)
باب ماجاء في كراهية البكاء على الميت
...
23 ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيَةِ البُكَاءِ على المَيّت
1007 ـ حدثنا عَبْدُ الله بنُ أبي زِيَادٍ حدثنا يَعْقُوبُ بنُ إبرَاهِيمَ بنِ سَعْدٍ حدثنا أَبي عَنْ صَالحِ بنِ كَيْسَانَ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله عن أبيهِ قالَ قالَ عُمَرُ بنُ الخَطابِ قال َ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المَيّتُ يُعَذّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ".
ـــــــ
باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت
قوله: "الميت يعذب ببكاء أهله عليه" فيه دلالة على أنه لا يجوز البكاء على(4/82)
وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ عُمَرَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ البُكَاءَ عَلى المَيّتِ قالُوا: الميّتُ يُعَذّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وذَهَبُوا
ـــــــ
الميت لأنه سبب لتعذيبه. وإليه ذهب بعض أهل العلم كما ستعرف. وقد حكى النووي إجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم أن المراد بالبكاء الذي يعذب الميت عليه هو البكاء بصوت ونياحة لا بمجرد دمع العين.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وعمران بن حصين" أما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان بمثل حديث عمر رضي الله عنه. ولأحمد ومسلم عنه بلفظ: الميت يعذب في قبره بما نيح عليه. وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه النسائي مرفوعاً بلفظ: الميت يعذب بنياحة أهله عليه الحديث.
قوله: "حديث عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وقد كره قوم من أهل العلم البكاء على الميت وقالوا الميت يعذب ببكاء أهله عليه الخ" وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف منهم عمر وإبنه. وروي عن أبي هريرة أنه رد هذه الأحاديث وعارضها بقوله تعالى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وروى عنه أبو يعلى أنه قال: تالله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد فعمدت امرأته سفها وجهلاً فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة، وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية منهم الشيخ أبو حامد وغيره. وذهب جمهور العلماء إلى تأويل هذه الأحاديث لمخالفتها للعمومات القرآنية وإثباتها لتعذيب من لا ذنب له واختلفوا في التأويل، فذهب جمهورهم كما قال النووي إلى تأويلها بمن أوصى بأن يبكى عليه لأنه بسببه ومنسوب إليه، قالوا: وقد كان ذلك من عادة العرب كما قال طرفة بن العبد:
إذا مت فابكيني بما أنا أهله
...
وشقي على الجيب يا أم معبد.
قال في الفتح: واعترض بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور الوصية، والحديث دال على أنه إنما يقع عند الامتثال، والجواب أنه ليس في السياق حصر لا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلاً إنتهى. قلت: والحق هو ما ذهب إليه الجمهور من تأويل هذه الأحاديث الصحيحة(4/83)
إلى هذا الحَدِيثِ وقالَ ابنُ المُبَارَكِ: أَرْجُو إِنْ كَانَ يَنْهَاهُمْ في حَيَاتِهِ أن لاَ يَكُونَ عَليْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
1008 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا محمدُ بنُ عَمّارٍ حَدّثَنِي أَسِيدُ بنُ أبي أَسِيدٍ أنّ مُوسَى بنِ أبي مُوسَى الأشْعَرِيّ أخْبَرَهُ عن أبيهِ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَا مِنْ مَيّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُولُ واجَبَلاَهُ واسَيّدَاهُ أو نَحْوَ ذَلِكَ إِلاّ وُكّلَ بِهِ مَلَكَان يَلْهَزَانِهِ أهَكَذَا كُنْت؟".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
ـــــــ
ولا وجه لردها مع إمكان التأويل، ولهم تأويلات بعضها قريبة وبعضها بعيدة فتؤخذ القريبة وتترك البعيدة. وإن شئت الوقوف على هذه التأويلات فارجع إلى فتح الباري وغيره من شروح البخاري "وقال ابن المبارك: أرجو إن كان ينهاهم في حياتهم أن لا يكون عليه من ذلك شيء" وهذا هو رجائي والله تعالى أعلم.
قوله: "حدثني أسيد بن أبي أسيد" بفتح الهمزة وكسر السين فيهما المراد أبو سعيد المديني صدوق.
قوله: "ما من ميت" أي حقيقي أو مشرف على الموت "يموت" قال الطيبي هو كقول ابن عباس يمرض المريض أو تضل الضالة فسمى المشارف للموت والمرض والضلال ميتاً ومريضاً وضالة، وهذه الحالة هي التي ظهرت على عبد الله بن رواحة إنتهى. قلت: وقصة عبد الله بن رواحة أخرجها البخاري وقد ذكرتها في آخر هذا الباب "يلهزانه" بفتح الهاء أي يضربانه ويدفعانه. وفي النهاية: اللهز الضرب بجمع اليد في الصدر يقال لهزه بالرمح أي طعنه في الصدر "أهكذا كنت" أي توبيخاً وتقريعاً.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" قال الحافظ في التلخيص: ورواه الحاكم وصححه وشاهده في الصحيح عن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تبكي وتقول واجبلاه واكذا واكذا فلما أفاق قال ما قلت شيئاً إلا قيل لي أنت كذا، فلما مات لم تبك عليه(4/84)
باب ماجاء في الرخصة في البكاء على الميت
...
24 ـ باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ في البُكَاءِ على المَيّت
1009 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ عن مَالِكٌ قال وحدثنا إسْحَاقُ بنُ مُوسَى حدثنا مَعْنٌ حدثنا مَالِكٌ عن عَبْدِ الله بنِ أبي بَكْرٍ بنِ محمدِ بنِ عَمْروِ بنِ حَزْمٍ عن أبيهِ عن عَمرَةَ "أنّها أَخْبَرَتْهُ أنها سَمِعَتْ عَائِشَةَ وذُكِرَ لَها أَنّ ابنَ عُمَرَ يَقُولُ: "إِنّ المَيّتَ لَيُعَذّبُ بِبُكَاءِ الحَيّ " فقالَتْ عائِشَةُ: غَفَرَ الله لأبي عَبْدِ الرحمَن أمَا إنّهُ لَمْ يَكْذِبْ ولَكِنّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ "إنّمَا مَرّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيّةٍ يُبْكى عَلَيْهَا فقَالَ إِنّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْها وإنّهَا لَتُعَذّبُ في قَبْرِها".
ـــــــ
باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت
أي في الرخصة في البكاء الذي ليس به صوت ولا نياحة
قوله: "عن عمرة" بفتح العين هي بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية أكثرت عن عائشة رضي الله عنها ثقة من الثالثة.
قوله: "وذكر" بصيغة المجهور "لها" أي لعائشة "غفر الله لأبي عبد الرحمن" كينته عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وهذا من الاَداب الحسنة المأخوذة من قوله تعالى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} فمن استغرب من غيره شيئاً ينبغي أن يوطى ويمهد له بالدعاء إقامة لعذره فيما وقع منه وأنه لم يتعمد، ومن ثم زادت على ذلك بياناً واعتذاراً بقولها "أما" بالتخفيف للتنبيه أو للافتتاح يؤتي بها لمجرد التأكيد "إنه" أي ابن عمر "ولكنه نسي" أي مورده الخاص "أو خطأ" أي في إرادته العام "يبكي عليها" بصيغة المجهول "إنهم" أي اليهود "وإنها" أي اليهودية "لتعذب في قبرها" أي لكفرها. قال القاري في المرقاة: ولا يخفي أن هذا الاعتراض وارد لو لم يسمع الحديث إلا في هذا المورد وقد ثبت بألفاظ مختلفة وبروايات متعددة عنه وعن غيره غير مقيدة بل مطلقة دخل هذا الخصوص تحت ذلك العموم فلا منافاة ولا معارضة فيكون إعتراضها بحسب اجتهادها إنتهى. وقال الحافظ في فتح الباري: قال القرطبي: إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد،(4/85)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ صحيح
1010 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عَبّادُ بنُ عَبّادٍ المُهَلّبِيّ عن محمد بنِ عَمْروٍ عن يَحْيَى بنِ عَبْدِ الرحمَنِ عن ابنِ
عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "المَيّتُ يُعَذّبُ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ. فَقَالتْ عائِشَةُ يَرْحَمُهُ الله لَمْ يَكْذِبْ ولَكِنّهُ وَهِمَ، إنّمَا قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ مَاتَ يَهُودِيّاً: إنّ المَيّتَ لَيُعَذّبُ وإنّ أهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ".
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ وقَرظَةَ بنِ كَعْبٍ وأبي هُرَيْرَةَ وابنِ مَسْعُودٍ وأُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ.
ـــــــ
لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح إنتهى.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه الشيخان.
قوله: "فقالت عائشة يرحمه الله لم يكذب ولكنه وهم الخ" وكذلك حكمت عائشة رضي الله عنها على عمر رضي الله عنه أيضاً بالتخطئة، ففي رواية ابن عباس عن عائشة عند البخاري ومسلم: فقالت يرحم الله عمر والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه" ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه"، وقالت حسبكم القرأن قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال الحافظ في الفتح: وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة وفيه إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر بل بما استشعرته من معارضة القرآن قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة بينت ما نفته عمرة وعروة عنها إلا أنها خصته بالكافر لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذاباً ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء إنتهى.
قوله: "وفي الباب" أي في باب الرخصة في البكاء على الميت "عن ابن عباس" أخرجه أحمد بلفظ: قال ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال(4/86)
قال أبو عيسى: حديثُ عائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن عائِشَةَ. وقد ذَهَبَ أهْلُ العِلْمِ إلى هذا وتَأَوّلُوا هَذِهِ الاَيةَ {ولاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وهُوَ قَوْلُ الشّافَعِيّ.
1011 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ خَشْرَمٍ أخبرنا عِيسى بنُ يُونُسَ عن ابنِ أبي لَيْلَى عن عَطَاءٍ عن جَابرِ بنِ عَبْدِ الله قالَ: "أَخَذَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِ عَبْدِ الرحمَنِ بنِ عَوْفٍ فانْطَلَقَ بِهِ إلى ابنْهِ إبرَاهِيمَ فَوَجَدَهُ يجوُدُ بِنَفْسِهِ فأَخَذَهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ في حِجْرِه فَبَكَى، فقالَ لَهُ عَبْدُ الرحمَن: أَتَبْكِي أَوَ لَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عن البُكاءِ؟ قالَ: لا، ولَكِنْ نَهَيْتُ عن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ وُجُوهٍ وشَقّ جُيُوبٍ ورَنّةِ شيطانٍ" وفي الحَدِيثِ كَلاَمٌ أَكْثَرُ مِنْ هذا.
ـــــــ
"مهلاً يا عمر" ثم قال: "إياكن ونعيق الشيطان" ثم قال: "إنه مهما كان من العين ومن القلب فمن الله عز وجل ومن الرحمة وما كان من اليد ومن اللسان فمن الشيطان" انتهى "وقرظة بن كعب" لينظر من أخرجه قوله: "وأبي هريرة" أخرجه أحمد والنسائي قال : مات ميت من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن ويطردهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهن يا عمر فإن العين دامعة والقلب مصاب والعهد قريب" انتهى "وابن مسعود" لينظر من أخرجه "وأسامة بن زيد" أخرجه الشيخان قال أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه أن ابناً لي قبض فأتنا الحديث وفيه: ففاضت عيناه، فقال سعد يا رسول الله ما هذا؟ فقال "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده فإنما يرحم الله من عباده الرحماء" انتهى.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" أصل القصة رواها الشيخان.
قوله: "يجود بنفسه" أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ما له. قاله الحافظ "أو لم تكن نهيت" بالبناء للفاعل على المشهور وضبطه بعضهم بالبناء للمفعول كذا في قوت المغتذي "صوت" بالجر بدل من صوتين "خمش وجوه" مصدر خمشت المرأة وجهها خمشاً إذا قشرت بالأظفار قاله أبو الطيب السندي "ورنة الشيطان" بفتح راء وتشديد نون صون مع بكاء فيه ترجيع كالقلقلة(4/87)
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ـــــــ
كذا في مجمع البحار. قال النووي في الخلاصة: المراد به الغناء والمزامير. قال وكذا جاء مبيناً في رواية البيهقي. قال العراقي: ويحتمل أن المراد به رنة النوح لا رنة الغناء ونسب إلى الشيطان لأنه ورد في الحديث أول من ناح ابليس، وتكون رواية الترمذي قد ذكر فيها أحد الصوتين فقط واختصر الاَخر. ويؤيده أن في رواية البيهقي: إني لم أنه عن البكاء إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة، وهذا هو رحمة ومن لا يرحم لا يرحم. كذا في قوت المغتذي.
قوله: "هذا حديث حسن" أصل قصة هذا الحديث في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه
قال: وحديث أنس في هذا الباب غير محفوظ.(4/88)
باب ماجاء في المشي امام الجنازة
...
25 ـ باب ما جَاءَ في المَشْيِ أَمَامَ الجَنَازَة
1012 ـ حدثنا قتَيْبَةُ و أَحمد بنُ مَنِيعٍ و إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ و محمودُ بنُ غَيْلاَنَ قالُوا حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن أبيهِ قالَ: "رَأَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبَا بَكْرٍ وعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الجَنَازَةِ".
1013 ـ حدثنا الحَسَنُ بنُ عَلِي الخَلاّلُ حدثنا عمْرُو بنُ عَاصِمٍ عن هَمّامٌ عن مَنْصُورٍ و بَكْر الكُوفِيّ و زِيَادٍ و سُفْيَانَ، كُلُهُمْ يَذْكُرُ أَنّهُ
ـــــــ
باب في المشي أمام الجنازة
قوله: "عن الزهري عن سالم عن أبيه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم الخ" أخرج هذا الحديث أحمد وأصحاب السنن والدارقطني وابن حبان والبيهقي من حديث ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه به. قال أحمد إنما هو عن الزهري مرسل، وحديث سالم فعل ابن عمر، وحديث ابن عيينة وهم كذا في التلخيص.(4/88)
سَمِعَ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله عن أبيهِ قالَ "رَأَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأَبا بَكْرٍ وعُمَرَ يَمشُونَ أَمَامَ الجَنَازَةِ".
1014 ـ حدثنا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ قالَ: "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبُو بَكْرٍ وعُمَرُ يَمْشُونَ أَمَامَ الجَنَازَةِ". قالَ الزّهْرِيّ وأَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنّ أَبَاهُ كَانَ يَمْشِي أَمَامَ الجَنَازَةِ.
قال وفي البابِ عن أنَسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَر هَكَذَا رواه ابنُ جُرَيْجٍ وزِيَادُ بنُ سَعْدٍ وغَيْرُ وَاحِدٍ عن الزّهْرِيّ عَنْ سَالِمٍ عن أبيهِ نَحْوَ حدِيثِ ابنِ عُيَيْنَةَ ورَوَى مَعْمَرٌ ويُونُسُ بنُ يَزِيدَ ومَالِكٌ وغَيْرُ واحد مِنَ الحُفّاظِ عن الزّهْرِيّ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْشِي أَمَامَ الجَنَازَةِ قالَ الزهريّ: وَأَخْبَرَنِي سَالِم أَنّ أَبَاهُ كَانَ يَمْشِي أَمَامَ الجَنَازَةِ، وأهْلُ الحَديثِ كُلّهُمْ يَرَوْنَ أنّ الحَديثَ المُرْسَلَ في ذَلِكَ أَصَحّ.
ـــــــ
قوله: "عن الزهري قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يمشون أمام الجنازة" هذه الرواية مرسلة، ورواية سفيان المتقدمة عن الزهري موصولة، والأصح الإرسال كما صرح به الترمذي فيما بعد. قوله: "وأخبرني سالم أن أباه" أي عبد الله بن عمر رضي الله عنه. قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه الترمذي.
قوله: "وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح" لكن البيهقي اختار ترجيح الموصول لأنه من رواية ابن عيينة وهو ثقة حافظ وعن علي بن المديني قال: قلت لابن عيينة يا أبا محمد خالفك الناس في هذا الحديث فقال استيقن الزهري حدثني مراراً لست أحصيه يعيده ويبديه سمعته من فيه عن سالم عن أبيه. قال الحافظ في التلخيص. وهذا لا ينفي عنه الوهم فإنه ضابط لأنه سمعه منه عن سالم عن أبيه والأمر كذلك إلا أن فيه إدراجاً لعل الزهرى أدمجه إذ حدث به ابن عيينة وفصله لغيره وقد أوضحته في المدرج بأتم من هذا وجزم أيضاً بصحته ابن المنذر وابن حزم انتهى كلام الحافظ.(4/89)
قال أبو عيسى: وسَمِعْتُ يَحْيَى بنَ مُوسَى يَقُولُ سمعت عَبْدَ الرّزّاقِ يقول قالَ ابن المُبَارَكِ: حدِيثُ الزّهْرِيّ في هذا مُرْسَلٌ أَصَحّ مِنْ حَدِيث ابن عُيَيْنَةَ. قالَ ابنُ المُبَارَك: وَأَرَى ابنَ جُرَيْجٍ أَخَذَهُ عن ابنِ عُيَيْنَةَ.
قال أبو عيسى: ورَوَى هَمامُ بنُ يَحْيى هذا الحَديثَ عن زِيَادٍ، وهُوَ ابن سَعْدٍ ومَنْصُورٍ وبَكْرٍ وسُفْيَانَ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن أبيهِ، وإنمَا هُوَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ رَوَى عنهُ هَمّامٌ. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في المَشْيِ أمامَ الجَنَازَةِ فَرَأَى بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرهُمْ أنّ المَشْيَ أمامها أفْضَلُ وهُوَ قَوْلُ الشّافِعيّ وأحمدَ.
1015 ـ حدثنا محمدُ بنُ المُثَنّى حدثنا محمدُ بنُ بَكرٍ حدثنا يُونُسُ بنُ يَزِيدَ عن الزهري عن أنَس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي أمام الجنازة وأبو بكر وعُمَرُ وعُثْمَانُ ".
و سَأَلْتُ محمداً عن هذا الحَدِيثِ فَقالَ: هذا حديث خطأٌ أَخْطَأَ فِيهِ محمدُ بنُ بَكْرٍ وإنّمَا يُرْوَي هذا الحَدِيثُ عن يُونُسَ عن الزّهْرِيّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأَبَا بَكْرٍ وعُمرَ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الجَنَازَةِ" قال الزّهْرِيّ: وأَخْبَرَنِي سَالِمٌ أنّ أَبَاهُ كَانَ يَمْشِي أمَامَ الجَنَازَةِ. قالَ محمدٌ: هذا أصَحّ.
ـــــــ
قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد" وهو قول مالك وهو مذهب الجمهور على ما صرح به الحافظ في الفتح، واستدلوا بحديث ابن عمر المذكور في الباب واستدلوا أيضاً بما أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كان يضرب الناس يقدمهم أمام جنازة زينب بنت جحش رضي الله عنها وبما أخرج ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال رأيت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه وأبا قتادة وابن عمر وأبا أسيد رضي الله عنهم يمشون أمام الجنازة(4/90)
باب ماجاء ف المشي خلف الجنازة
...
26 ـ باب ما جَاءَ في المَشْيِ خَلفَ الجَنَازَة
1016 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ عن شُعْبَةَ عن يَحْيَى إِمَامِ بَنِي تَيْمِ الله عن أبي مَاجِدٍ عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قالَ "سَأَلْنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن المَشْيِ خَلْفَ الجَنَازَةِ قال مَا دُونَ الْخَبَب، فإنْ كَانَ خَيْراً عَجّلْتُمُوهُ، وإن كان شَرّاً فَلاَ يُبَعّدُ إلاّ أهْلُ النّارِ، الجَنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ ولاَ تُتْبَعُ ولَيْسَ منّا مَنْ تَقَدّمَهَا".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ لا يُعرف مِنْ حدِيثِ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ إِلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ. قال: سَمِعْتُ محمدَ بنَ إسْماعيلَ يُضْعّفُ حديثَ أبي مَاجِدٍ لهذا. وقالَ محمدٌ قالَ الحُمَيْدِيّ قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: قِيلَ ليَحْيَى مَنْ أبُو مَاجِدٍ هذا؟ قال طَائِرٌ طَارَ فَحَدّثَنَا. وقد ذَهَبَ بَعْضُ أهلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ
ـــــــ
باب ما جاء في المشي خلف الجنازة
قوله: "عن يحيى إمام بني تيم الله" يحيى هذا بن عبد الله بن الحارث الجابر أبو الحارث الكوفي لين الحديث من السادسة "عن أبي ماجد" قيل اسمه عائذ بن فضلة مجهول لم يرو عنه غير يحيى الجابر من الثانية كذا في التقريب، ويقال له أبو ماجدة أيضاً كما في قوت المغتذي.
قوله: "فقال ما دون الخبب" هو سرعة المشي مع تقارب الخطى كذا في قوت المغتذي "فلا يبعد" قال العراقي يحتمل ضبطه وجهين أحدهما بناؤه للمفعول ويكون المراد أن حاملها يبعدها عنه بسرعة بها لكونه من أهل النار، ويحتمل أن يكون بفتح الياء والعين أيضاً من بعد بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك انتهى. "والجنازة متبوعة" أي حقيقة وحكماً فيمشي خلفها "ولا تتبع" بفتح التاء والباء وبرفع العين على النفي وبسكونها على النهي أي لا تتبع الناس هي فلا نكون عقيبهم وهو تصريح بما علم ضمناً "ليس منها من تقدمها" أي لا يثبت له الأجر.
قوله: "فقال طائر طار فحدثنا" أشار إلى أنه مجهول "وبه يقول الثورى وإسحاق" وبه يقول الأوزاعي واستدل لهم بحديث الباب وبما رواه سعيد بن(4/91)
صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ إلى هذا، رَأَوْا أنّ المَشيَ خلْفَهَا أفْضَلُ. وبهِ يَقُولُ سفيان الثّوْرِيّ وإسْحَاقُ. قال ابن أبا مَاجِدٍ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لا يعرف إنّما يروى عنه حَدِيثَانِ عن ابنِ مسْعُودٍ. ويَحْيَى إمَامُ بنيِ تَيْمِ الله ثِقَةٌ يُكْنَى أبَا الحَارِثِ ويُقَالُ لَهُ يَحْيَى الجَابِرُ، وَيُقَالَ لَهُ يَحْيَى المُجْبرُ أيْضاً وَهُوَ كُوفِيّ رَوَى لَهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ الثّوْرِيّ وأبو الأحْوَص وسُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ.
ـــــــ
منصور وغيره عن علي قال: المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ. قال الحافظ: إسناده حسن وهو موقوف له حكم المرفوع، لكن حكى الأثرم عن أحمد أنه تكلم في إسناده انتهى. وفي الباب أحاديث أخر ذكرها الحافظ الزيلعي في نصب الراية.
قوله: "وله حديثان عن ابن مسعود" الحديث الاَخر ما رواه أبو الأحوص عن يحيى التميمي عن أبي ماجدة عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عفو يحب العفو"، كذا في الميزان وقوت المغتذي.
قوله: "ويحيى إمام بني تيم الله ثقة" قال العراقي: هذا مخالف بقول الجمهور فقد ضعفه ابن معين وأبو حاتم والنسائي والجوزجاني. وقال البيهقي ضعفه جماعة من أهل النقل ثم قال فيه أحمد وابن عدي لا بأس به كذا في قوت المغتذي "ويقال له يحيى الجابر ويقال له يحيى المجبر أيضاً" لأنه كان يجبر الأعضاء، كذا في تهذيب التهذيب(4/92)
باب ماجاء في كراهية الركوب خلف الجنازة
...
27 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الرّكُوبِ خَلْفَ الجَنَازَة
1017 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا عيسَى بنُ يُونُسَ عن أبي بَكْرِ بنِ أبي مَرْيَمَ عن رَاشِدِ بنِ سَعْدٍ عن ثَوْبَانَ قالَ خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في جَنَازَةِ فَرَأَى نَاساً رُكْبَاناً فقَالَ ألاَ تَسْتَحيوُنَ؟ إِنّ مَلاَئِكَةَ الله على أقْدَامِهِمْ وأنْتُمْ على ظهُورِ الدّوَابّ".
ـــــــ
باب ما جاء في كراهية الركوب خلف الجنازة
قوله: "ألا تستحيون إن ملائكة الله الخ" إن هذه بكسر الهمزة قاله(4/92)
قال وفي البابِ عن المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ وجَابِرِ بنِ سَمُرَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ثَوْبَانَ قد رُوِيَ عَنْهُ مَوْقُوفاً.
ـــــــ
القاري. والحديث يدل على كراهة الركوب خلف الجنازة، ويعارضه ما أخرج أبو داود عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها ويسارها قريباً منها" الحديث. والجمع بن هذين الحديثين بوجون منها أن حديث المغيرة في حق المعذور بمرض أو شلل أو عرج ونحو ذلك، وحديث الباب في حق غير المعدور. ومنها أن حديث الباب محمول على أنهم كانوا قدام الجنازة أو طرفها فلا ينافي حديث المغيرة. ومنها أن حديث المغيرة لا يدل على عدم الكراهة وإنما يدل على الجواز فيكون الركوب جائزاً مع الكراهة.
قوله: "وفي الباب عن المغيرة بن شعبة" أخرجه أبو داود وتقدم لفظه وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه بلفظ: الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها "وجابر بن سمرة" أخرجه مسلم والترمذي "حديث ثوبان قد روى عنه موقوفاً" لم يتكلم الترمذي على حديث ثوبان المرفوع المذكور بحسن ولا ضعف، وفي إسناده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف(4/93)
باب ماجاء في الرخصة في ذلك
...
28 ـ باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ في ذَلِك
1018 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبو دَاوُدَ حدثنا شُعْبَةُ عن سِمَاك قالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ سَمُرَةَ يَقُولُ: "كُنّا مَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في جنازة أبي الدّحْداحِ، وهُوَ على فَرَسٍ له يَسعَى ونَحْنُ حَوْلَهُ وهُوَ يَتَوقّصُ بِهِ".
ـــــــ
باب ما جاء في الرخصة في ذلك
قوله: "في جنازة ابن الدحداح" بفتح الدالين المهملتين وحائين مهملتين "وهو على فرس له" أي حين رجع كما في الرواية الاَتية "يسعى" قال العراقي: روى بالياء والنون "وهو يتوقص به" بالقاف المشددة والصاد المهملة أي(4/93)
1019 ـ حدثنا عَبْدُ الله بن الصّبّاحِ الهَاشِمِيّ حدثنا أبو قُتَيْبَةَ عن الجَرّاحِ عن سِمَاكٍ عن جَابِرِ بن سَمُرَةَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اتّبَعَ جَنَازَةَ أبي الدّحْدَاحِ مَاشِياً وَرَجَعَ على فَرَسٍ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
يتثوب به. وفي مصنف ابن أبي شيبة يتوقس بالسين المهملة وهما نعتان كذا في قوت المغتذي وقال في المجمع: أي يثب ويقارب الخطو.
قوله: "عن الجراح" بتشديد.
قوله: "ورجع على فرس" فيه دليل على جواز الركوب عند الإنصراف. وقال العلماء لا يكره الركوب في الرجوع من الجنازة إتفاقاً لإنقضاء العبادة كذا في المرقاة. وقال النووي: فيه إباحة الركوب في الرجوع عن الجنازة وإنما يكره الركوب في الذهاب معها إنتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(4/94)
باب ماجاء في الإسراع في الجنازة
...
29 ـ باب ما جَاءَ في الإسْرَاعِ بالجَنَازَة
1020 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا سفيان بنُ عُيَيْنَةَ عن الزّهْرِيّ سَمِعَ سَعِيدَ بنَ المُسَيّبِ عن أبي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بهِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أسْرِعُوا بالجَنَازَةِ فإِنْ يكُن خَيْراً تُقَدّمُوها إلَيْهِ، وإنْ يكُن شَرّاً تَضَعُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ".
ـــــــ
باب ما جاء في الإسراع بالجنازة
قوله: "يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم" أي يرفع الحديث إليه صلى الله عليه وسلم.
قوله: "أسرعوا" أمر من الإسراع. قال الحافظ في الفتح: نقل ابن قدامة أن الأمر فيه للاستحباب بلا خلاف بين العلماء، وشذ ابن حزم فقال بوجوبه. والمراد بالإسراع شدة المشي، وعلى ذلك حمله بعض السلف وهو قول الحنفية. قال صاحب الهداية: ويمشون بها مسرعين دون الخبب. وفي المبسوط ليس فيه(4/94)
وفي البابِ عن أبي بَكْرَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
شيء مؤقت غير أن العجلة أحب إلى أبي حنيفة وعن الشافعي والجمهور: المراد بالإسراع ما فوق سجية المشي المعتاد ويكره الإسراع الشديد، ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال: من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد ومن كرهه أراد الإفراط فيه كالرمل. والحاصل أنه يستحب الإسراع بها لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل أو المشيع لئلا ينافي المقصود من النظافة أو إدخال المشقة على المسلم إنتهى كلام الحافظ "بالجنازة" أي بحملها إلى قبرها "فإن تك" أي الجثة المحمولة قاله الحافظ. وقال القاريء: أي فلن تكن الجنازة. قال المظهر: الجنازة بالكسر الميت وبالفتح السرير فعلى هذا أسند الفعل إلى الجنازة وأريد بها الميت "خيراً" أي ذا خير، وفي رواية الشيخين: صالحة "تقدموها" أي الجنازة "إليه" أي الخير، وفي رواية الشيخين: فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه. قال القاري قال كان حال ذلك الميت حسناً طيباً فأسرعوا به حتى يصل إلى تلك الحالة الطيبة عن قريب. قال الحافظ: وفي الحديث استحباب المبادرة إلى دفن الميت لكن بعد أن يتحقق أنه مات، أما مثل المطعون والمفلوج والمسبوت فينبغي أن لا يسرع بدفنهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم، نبه على ذلك ابن بزيزة إنتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي بكرة" أخرجه أبو داود من طريق عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص وكنا نمشي مشياً خفيفاً فلحقنا أبو بكرة فرفع سوطه فقال لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمل رملاً انتهى. وسكت عنه أبو داود والمنذري. وقال النووي في الخلاصة: سنده صحيح. قال العيني: نرمل رملاً من رمل رملان ورملانا إذا أسرع في المشي وهز منكبيه، ومراده الإسراع المتوسط. ويدل عليه ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث عبد الله بن عمرو أن أباه أوصاه قال: إذا حملتني على السرير فامش مشياً بين المشيين وكن خلف الجنازة فإن مقدمتها للملائكة وخلفها لبني آدم انتهى.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة(4/95)
باب ماجاء في قتلى أحد وذكر حمزة
...
30 ـ باب ما جَاءَ في قَتْلَى أُحدٍ وذِكْرِ حَمْزَة
1021 ـ حدثنا قُتَيْبَةَ حدثنا أبُو صَفْوانَ عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ عن ابنِ شِهَابٍ عن أنَسٍ بنِ مَالِكٍ قالَ : أَتَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى حَمْزَةَ يَوْمَ أُحُد فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَرَآهُ قَدْ مُثّلَ بِهِ، فقَالَ لَوْلاَ أَنْ تَجدَ صَفِيّةُ في نَفْسِهَا لَتَرَكْتُهُ حَتّى تَأْكُلَهُ العَافِيَةُ حتى يحْشَرَ يَوْمَ القِيَامَة مِنْ بُطُونِهَا. قالَ ثُمّ دَعَا بِنَمِرةٍ فكَفّنَهُ فيها فكَانَتْ إذَا مُدّتْ على رَأْسِهِ بَدَتْ رِجْلاَهُ، وإذَا مُدّتْ على رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ. قالَ فَكَثُرَ القَتلَى وقَلتِ الثّيَابُ، قالَ فكُفّنَ الرّجُلِ والرّجُلاَنِ والثّلاَثَةُ في الثّوْبِ الوَاحِدِ ثُمّ يُدْفَنُونَ في قَبْرٍ وَاحِدٍ. فَجَعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ عَنْهُمْ أَيّهُمْ أكْثَرُ قُرْآناً فَيُقَدّمَهُ إلى القِبْلَةِ. قالَ فَدَفَنَهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولَمْ يُصَلّ عَلَيْهِمْ"
ـــــــ
باب ما جاء في قتلى أحد وذكر حمزة قتلى جمع قتيل
النمرة الكِساءُ الخَلِقُ وقد خولف أسامة بن زيد، في رواية هذا الحديث فروى الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عبد الرحمَن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله بن زيد، وروى معمر عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة عن جابر، ولا نعلم أحداً ذكره عن الزهري عن أنس إلا أُسامة بن زيد.
وسألت محمداً عن هذا الحديث؟ فقال: حديث الليث عن ابن شهاب عن عبد الرحمَن بن كعب بن مالك عن جابرٍ، أصح.
قوله: "قد مثل به" قال في الدر النثير: مثلت بالقتيل جدعت أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئاً من أطرافه، والاسم مثلة "لولا أن تجد" أن تحزن وتجزع "صفية" هي بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشقيقة حمزة رضي الله عنهما "حتى تأكله العافية" قال الخطابي: هي السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها وتجمع على العوافي "حتى يحشر يوم القيامة من بطونها" إنما أراد ذلك ليتم له به الأجر ويكمل ويكون كل البدن مصروفاً في سبيله تعالى إلى البعث أو البيان أنه ليس عليه فيما فعلوا به من المثلة تعذيب حتى إن دفنه وتركه سواء قاله أبو الطيب "بنمرة" بفتح نون وكسر ميم بردة من صوف وغيره مخططة وقيل الكساء.
قوله: "ولم يصل عليهم" واستدل به من قال بأن الشهيد لا يصلي عليه وسيجيء الكلام على هذه المسألة في باب ترك الصلاة على الشهيد.(4/96)
قال أبو عيسى: حديثُ أنَسٍ حديثٌ حسنٌ غريبٌ. لا نَعْرِفُهُ مِنْ حديثِ أنَسٍ إلاّ مِنْ هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
قوله: "حديث أنس حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود وسكت عنه، وذكر المنذري قول الترمذي هذا وأقره(4/97)
31 ـ باب آخر
1022 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا عَلِيّ بنُ مُسْهِرٍ عن مُسْلِمٍ الأعْوَرِ عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ قالَ: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُ المَرِيضَ ويَشْهَدُ الجَنَازَةَ، ويَرْكَبُ الحِمَارَ، ويُجِيبُ دَعْوَةَ العَبْدِ، وكَانَ يَوْمَ بَني قُرَيْظَةَ على حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إِكَافُ لِيف".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حدِيثِ مُسْلِمٍ عن أنَسٍ
ـــــــ
باب آخر
قوله: "ويركب الحمار" قال ابن الملك: فيه دليل على أن ركوب الحمار سنة. قال القاري: فمن استنكف من ركوبه كبعض المتكبرين وجماعة من جهلة الهند فهو أخس من الحمار انتهى. قلت: كيف وقد قال تعالى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} "وكان يوم بني قريظة" بضم القاف وفتح الظاء المعجمة المشالة بوزن جهينة قبيلة من يهود خيبر وكانت هذه الوقعة لسبع بقين من ذي القعدة سنة خمس "محطوم بحبل" أي مجعول في أنفه بحبل "من ليف" بكسر اللام بالفارسية بوست درخمت خرما. قال في القاموس: خطمه بالخطام أي جعله على أنفه كخطمه به أو جر أنفه ليضع عليه الخطام، وهو ككتاب كل ما وضع في أنف البعير أي ونحوه لينقاد به "عليه" أي على الفرس "إكاف ليف" بكسر الهمزة ويقال له الوكاف بالواو وهو للحمار كالسرج للفرس، وإكاف ليف بالإضافة وفي بعض النسخ إكاف من ليف.(4/97)
ومُسْلِمٌ الأعْوَرُ يُضَعّفُ وهُوَ مُسْلِمُ بنُ كَيْسَانَ تكلم فيه وقد روى عنه شعبة وسفيان المُلاَئيّ.
ـــــــ
قوله: "ومسلم الأعور يضعف" قال النسائي وغيره: متروك كذا في الميزان "وهو مسلم بن كيسان الملائي" بميم مضمومة وخفة لام وبياء في آخره نسبة إلى بيع الملاء نوع من الثياب كذا في المعنى(4/98)
32 ـ باب
1023 ـ حدثنا أبُو كُرَيْبِ حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن عَبْدِ الرحمَنِ بنِ أبي بَكْرٍ عن أبي
مُلَيْكَةَ عن عَائِشَةَ قالَتْ: "لَمّا قُبِضَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم اخْتَلَفُوا في دَفْنِهِ، فقالَ أبوُ بَكْرٍ
سَمِعْتُ مِنْ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم شَيئاً مَا نَسِيتُهُ قالَ: "مَا قَبَضَ الله نَبياً إلاّ في الموضِعِ الذِي يُحِبّ أَنْ يُدْفَنَ فيهِ، ادَفَنُوهُ في مَوْضِعِ فِرَاشِهِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ. وعَبْدُ الرحمَنِ بنُ أبي بَكْرٍ المُلَيْكِيّ يُضَعّفُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وقد رُوِيَ هذا الحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هذا وَجْه. فرَوَاهُ ابنُ عَبّاسٍ عن أبي بَكْرٍ الصّدّيقِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
باب
قوله: "اختلفوا في دفنه" أي في موضع دفنه، فقال بعضهم يدفن بمكة وقال الاَخرون بالمدينة في البقيع وقيل في القدس كذا في اللمعات "ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه" إكراماً له حيث لم يفعل به إلا ما يحبه ولا ينافيه كراهة الدفن في البيوت لأن من خصائص الأنبياء أنهم يدفنون حيث يموتون.
قوله: "هذا حديث غريب" قال المناوي: ضعيف لضعف ابن أبي مليكة انتهى. قلت: قد وهم المناوى، فإن ابن أبي مليكة ليس بضعيف بل هو ثقة وضعف هذا الحديث. إنما هو لضعف عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة. قال الحافظ في التقريب. ضعيف، وقال الترمذي: يضعف من قبل حفظه.(4/98)
33 ـ باب آخَر
1024 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ حدثنا مُعَاوِيَةُ بنُ هِشَامٍ عن عِمْرَانَ بنِ أَنَس المَكّيّ عن عَطَاءٍ عن ابنِ عُمَرَ: "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "اُذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وكُفوا عَنْ مَسَاوِيهمْ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ. سَمِعْتُ محمداً يَقُولُ: عِمْرَانُ بنُ أنسٍ المَكّيّ مُنْكَرُ الحَدِيثِ. ورَوَى بَعْضُهُمْ عن عَطَاءٍ عن عائِشَةَ. قال وعِمْرَانُ بنُ أبي أنَسِ مِصْرِيٌ أقْدَمُ وأَثْبَتُ مِنْ عِمْرَانَ بنِ أنَسٍ المَكّيّ.
ـــــــ
باب آخر
قوله: "أذكروا محاسن موتاكم" محاسن جمع حسن على غير قياس، والأمر للندب "وكفوا" أمر للوجوب أي امتنعوا "عن مساويهم" جمع سوء على غير قياس أيضاً. قال حجة الإسلام: غيبة الميت أشد من الحي، وذلك لأن عفو الحي واستحلاله ممكن ومتوقع في الدنيا بخلاف الميت. وفي الأزهار قال العلماء: وإذا رأى الغاسل من الميت ما يعجبه كاستنارة وجهه وطيب ريحه وسرعة انقلابه على المغتسل استحب أن يتحدث به، وإن رأى ما يكره كنيته وسواد وجهه أو بدنه أو انقلاب صورته حرم أن يتحدث به كذا في المرقاة.
قوله: "هذا حديث غريب" ورواه أبو داود وابن حبان.
قوله: "وعمران بن أنس مصري الخ" يعني أن عمران بن أنس اثنان مصري ومكي، والمصري أثبت وأقدم من المكي، قاله الحافظ في التقريب(4/99)
باب ماجاء في الجلوس قبل أن توضع الجنازة
...
34 ـ باب ما جَاءَ في الجُلُوسِ قَبْلَ أنْ تُوضَع
1025 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا صَفْوانُ بنُ عيسَى عن بِشْرِ بنِ رَافِعٍ عن عَبْدِ الله بنِ سُلَيْمَانَ بنِ جُنَادَةَ بنِ أبي أُمَيّةَ عن أبيهِ
ـــــــ
باب ما جاء في الجلوس قبل أن توضع
قوله: "عن بشر بن رافع" الحارثي أبو الأسباط فقيه ضعيف الحديث "عن عبد الله بن سليمان بن جنادة" بضم الجيم وبالنون ضعيف من السادسة "عن أبيه"(4/99)
عن جَدّهِ عن عُبَادَةَ بن الصّامِتِ قالَ: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أَتّبَعَ الجَنَازَةَ لَمْ يَقْعُدْ حَتّى تُوضَعَ في اللّحْدِ، فَعَرَضَ لَهُ حَبْرٌ فقالَ هَكَذاَ نَصْنَعُ يا محمدُ قال: فَجَلَسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقالَ خَالِفُوهُمْ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ. وبِشْرُ بنُ رافِعٍ لَيْسَ بالقَوِيّ في الحَدِيثِ.
ـــــــ
سليمان بن جنادة منكر الحديث من السادسة "عن جده" جنادة بن أبي أمية الأزدي ثقة.
قوله: "حتى توضع في اللحد" بفتح اللام وسكون الحاء الشق في جانب القبلة من القبر "فعرض له حبر" بفتح الحاء وتكسر أي عالم أي ظهر له صلى الله عليه وسلم عالم من اليهود "فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي بعد ما كان واقفاً أو بعد ذلك "وقال خالفوهم" قال القاري: فبقي القول بأن التابع لم يقعد حتى توضع عن أعناق الرجال هو الصحيح انتهى. قلت: هذا الحديث ضعيف لأن في إسناده بشر بن رافع وعبد الله بن سليمان وأباه سليمان جنادة وهؤلاء كلهم ضعفاء. وقد روى الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع. قال الحازمي قد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فقال قوم من تبع جنازة فلا يقعدن حتى توضع عن أعناق الرجال، وممن رأى ذلك الحسن بن علي وأبو هريرة وابن عمر وابن الزبير والأوزاعي وأهل الشام وأحمد وإسحاق. وذكر إبراهيم النخعي والشعبي أنهم كانوا يكرهون أن يجلسوا حتى توضع عن مناكب الرجال، وبه قال محمد بن الحسن، وخالفهم في ذلك آخرون ورأوا الجلوس أولى واعتقدوا الحكم الأول منسوخاً، وتمسكوا في ذلك بأحاديث، ثم ذكر بإسناده حديث الباب وقال هذا حديث غريب أخرجه الترمذي في كتابه وقال بشر بن رافع ليس بقوى في الحديث، وقد روى هذا الحديث من غير هذا الطريق وفيه أيضاً كلام، ولو صح لكان صريحاً في النسخ غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت فلا يقاومه هذا الإسناد، ثم روى الحازمي بإسناده عن علي رضي الله عنه قال: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أول ما قدمنا فكان النبي صلى الله عليه وسلم
لا يجلس حتى توضع الجنازة ثم جلس بعد وجلسنا معه فكان يؤخذ بالاَخر فالاَخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث بهذه الألفاظ غريب أيضاً ولكنه يشيد ما قبله، انتهى كلام الحازمي(4/100)
35 ـ باب فَضْلِ المصِيبَةِ إِذَا احتَسَب
1026 ـ حدثنا سُوَيْدُ بنُ نَصْرٍ حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ عن حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ عن أبي سِنَانٍ قالَ: دَفَنْتُ إبْنيِ سِنَاناً وأبو طَلْحَةَ الخَوْلاَنِيّ جَالِسٌ على شَفِيرِ القَبْرِ فَلَمّا أَرَدْتُ الخُرُوجَ أَخَذَ بِيَدِي فقالَ ألاَ أُبَشّرُكَ يا أبَا سِنَانٍ؟ قُلْتُ بَلَى قالَ: حَدّثَنِي الضّحّاكُ بنُ عَبْدِ الرحمَنِ بنِ عرْزَب عن أبي مُوسَى الأشْعَرِي: "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: إذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قالَ الله لِمَلاَئِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ قبضتم ثمَرَةَ فُؤَادِهِ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: مَاذَا قالَ عَبْدي؟ فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ واسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ الله: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتاً في الجَنّةِ وسَمّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
باب فضل المصيبة إذا احتسب
أي صبر وطلب الثواب
قوله: "على شفير القبر" أي على طرفه "حدثني ضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب" بفتح المهملة وسكون
الراء وفتح الزاي ثم موحدة ثقة من الثالثة "قال الله لملائكته" أي ملك الموت وأعوانه "قبضتم" على تقدير الاستفهام "ولد عبدي" أي روحه "فيقول قبضتم ثمرة فؤاده" أي يقول ثانياً إظهاراً لكمال الرحمة كما أن الوالد العطوف يسأل الفصاد هل فصدت ولدي مع أنه بأمره ورضاه. وقيل سمي الولد ثمرة فؤاده لأنه نتيجة الأب كالثمرة للشجرة "واسترجع" أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون "وسموه بيت الحمد" أضاف البيت إلى الحمد الذي قاله عند المصيبة لأنه جزاء ذلك الحمد، قاله القاري(4/101)
باب ماجاء في التكبير على الجنازة
...
36 ـ بابُ ما جَاءَ في التّكْبِيرِ على الجَنَازَة
1027 ـ حدثنا أحمدُ بن مَنِيعٍ حَدّثَنَا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أبي هُرَيْرَةَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلّى على النّجَاشِيّ فَكَبّرَ أرْبَعاً".
وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ وابنِ أبي أوْفَي وجَابِرٍ وأنس ويزِيدَ بنِ ثَابتٍ.
قال أبو عيسى: ويَزِيدُ بنُ ثَابِتٍ هُوَ أخُو زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ وهُوَ أكْبرُ مِنْهُ شَهِدَ بَدْراً وَزَيْدٌ لَمْ يَشْهَدْ بَدْراً.
ـــــــ
باب ما جاء في التكبير على الجنازة
قوله: "صلى على النجاشي" بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة ثم ياء ثقيلة كياء النسب وقيل بالتخفيف وهو لقب من ملك الحبشة. وحكى المطرزي عن بعضهم تشديد الجيم وخطأه، كذا في فتح الباري واسمه أصحمة بوزن أربعة، وهو ممن آمن به صلى الله عليه وسلم ولم يره وكان ردءاً للمسلمين المهاجرين إليه مبالغاً في الإحسان إليهم "فكبر أربعاً" فيه دليل على أن التكبير على الجنازة أربع تكبيرات وعليه عمل الأكثر.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وابن أبي أوفى وجابر وأنس ويزيد بن ثابت" أما حديث ابن عباس فأخرجه الحازمي في كتاب الاعتبار عنه قال آخر ما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنائز أربعاً، وكبر عمر رضي الله عنه على أبي بكر أربعاً، وكبر عبد الله بن عمر على عمر أربعاً، وكبر الحسن بن علي على علي أربعاً، وكبر الحسين على الحسن أربعاً، وكبرت الملائكة على آدم أربعاً، وأخرجه الدارقطني مختصراً. وهو حديث ضعيف وله طرق أخرى كلها ضعيفة ذكرها الزيلعي في نصب الراية. وأما حديث ابن أبي أوفى فأخرجه أحمد عن عبد الله بن أبي أوفى أنه مات له إبن فكبر أربعاً وقام بعد الرابعة قدر ما بين التكبيرتين يدعو ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هكذا، ورواه أبو بكر الشافعي في الغيلانيات من هذا الوجه، وزاد: ثم سلم عن يمينه وشماله ثم قال: لا أزيد على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع،(4/102)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ والعملُ على هذا عِنْدَ أكثَرِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمِ يَرَوْنَ التّكْبِيرَ على الجَنَازَةِ أَرْبَعَ تَكْبِيراتٍ، وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثوْرِيّ ومَالِك بنِ أنَسٍ وابنِ المُبَارَكِ والشافِعيّ وأحْمَدَ وإسحاقَ.
ـــــــ
ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وأما حديث جابر فأخرجه الشيخان عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه أربعاً. وأما حديث أنس فأخرجه الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر على أهل بدر سبع تكبيرات وعلى بني هاشم سبع تكبيرات وكان آخر صلاته أربعاً حتى خرج من الدنيا، قال وإسناده واهي وقد روي آخر صلاته كبر أربعاً من عدة روايات كلها ضعيفة كذا في نصب الراية. وقد روى أبو داود في سننه عن أنس حديثاً طويلاً وفيه: فكبر أربع تكبيرات لم يطل ولم يسرع ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما حديث يزيد بن ثابت فأخرجه أحمد وابن ماجه وفيه: ثم أتى القبر فصففنا خلفه فكبر عليه أربعاً.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "وهو قول سفيان الثورى ومالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول أبي حنيفة. وقد استدلوا بحديث الباب. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد اختلف السلف في ذلك فروى مسلم عن زيد بن أرقم أنه يكبر خمساً ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه صلى على جنازة رجل من بني أسد فكبر خمساً. وروى ابن المنذر وغيره عن علي أنه كان يكبر على أهل بدر ستاً وعلى الصحابة خمساً وعلى سائر الناس أربعاً. وروي أيضاً بإسناد صحيح عن أبي معبد قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فكبر ثلاثاً. قال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع، وفيه أقوال أخر فذكر ما تقدم قال: والذي نختار ما ثبت عن عمر. ثم ساق بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب قال: كان التكبير أربعاً وخمساً فجمع عمر الناس على أربع. وروى البيهقي بإسناد حسن إلى أبي وائل قال كانوا(4/103)
1028 ـ حدثنا محمدُ بنُ المُثَنّى أخبرنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ أخبرنا شُعْبَةُ عن عَمْروِ بنِ مُرّةَ عن عَبْدِ الرحمَن بنِ أبي لَيْلَى قالَ: "كانَ زَيْدُ بنُ أَرْقَم يُكَبّرُ على جَنَائِزنَا أَرْبعَاً وإنّهُ كَبّرَ على جَنَازَةٍ خَمْساً فَسَأَلْنَاهُ عن ذَلِكَ فقالَ كَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكَبّرُهَا".
قال أبو عيسى: حديثُ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إلى هذا مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِم رأوْا التّكبِيرَ على الجَنَازَةِ خَمْساً وقالَ أحمدُ وإسْحَاقُ: إذَا كَبّرَ الإمَامُ على الجَنازَةِ خَمْساً فإِنّهُ يَتبَعُ الإمَامَ.
ـــــــ
يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وستاً وخمساً وأربعاً، فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة إنتهى.
قوله: "فإنه يتبع الإمام" أي المقتدي يتبع الإمام. قال العيني: ظاهر كلام الخرقي أن الإمام إذا كبر خمساً تابعه المأموم ولا يتابعه في زيادة عليها، ورواه الأثرم عن أحمد. وروى حرب عن أحمد: إذا كبر خمساً لا يكبر معه ولا يسلم إلا مع الإمام. وممن لا يرى متابعة الإمام في زيادة على أربع، الثوري ومالك وأبو حنيفة والشافعي واختاره ابن عقيل كذا ذكره العيني نقلاً عن ابن قدامة. قلت: الراجح عندي أن الإمام إذا كبر خمساً تابعه المأموم(4/104)
باب مايقول في الصلاة على الميت
...
37 ـ باب ما يَقُولُ في الصلاةِ على المَيّت
1029 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا هِقْلُ بنُ زِيَادٍ حدثنا الأوْزَاعِيّ عن يَحْيَى بن أبي كَثِيرٍ حَدّثَنِي
أبو إبراهِيمَ الأشْهَلِيّ عن أبيهِ قالَ: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا صَلّى على الجَنَازَةِ قالَ اللّهُمّ اغْفِرْ لِحَيّنَا
ـــــــ
باب ما يقول في الصلاة على الميت
قوله: "حدثني أبو ابراهيم الأشهلي" مقبول من الثالثة قيل إنه عبد الله بن أبي قتادة، ولا يصح قاله الحافظ في التقريب.(4/104)
وَمَيّتِنَا، وشَاهِدِنَا وغَائِبِنَا وصَغِيرِنَا وكَبِيرِنَا، وذَكَرِنَا وأُنثَانَا"
قالَ يَحْيَى وحدّثَني أَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرحمَنِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ وَزَادَ فِيهِ: "الّلهُمّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنّا فأَحْيهِ على الإسْلاَمِ، ومَنْ تَوَفّيْتَهُ مِنّا فَتَوَفّهُ على الإيمَانِ".
قال وفي البابِ عن عَبْدِ الرحمَنِ وعَائِشَةَ وأبي قَتَادَةَ وعَوْفٍ بنِ مالِكٍ وجَابرٍ.
ـــــــ
قوله: "صغيرنا وكبيرنا" ههنا إشكال وهو أن الصغير غير مكلف لا ذنب له فما معنى الاستغفار له، وذكروا في دفعه وجوها فقيل: الاستغفار في حق الصغير لرفع الدرجات، وقيل المراد بالصغير والكبير الشاب والشيخ. وقال التوربشتي عن الطحاوي أنه سئل عن معنى الاستغفار للصبيان مع أنه لا ذنب لهم فقال معناه السؤال من الله أن يغفر له ما كتب في اللوح المحفوظ أن يفعله بعد البلوغ من الذنوب حتى إذا كان فعله كان مغفوراً وإلا فالصغير غير مكلف لا حاجة له إلى الاستغفار "وذكرنا وأنثانا" المقصود من القرائن الأربع الشمول والاستيعاب كأنه قيل: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات كلهم أجمعين "قال يحيى" أي ابن أبي كثير "فأحيه على الإسلام" أي الاستسلام والانقياد للأوامر والنواهي "فتوفه على الإيمان" أي التصديق القلبي إذا لا نافع حينئذ غيره ورواه أبو داود من طريق يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة وزاد: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده. ووقع في هذه الرواية اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام. قال الشوكاني في النيل: ولفظ فأحيه على الإسلام هو الثابت عند الأكثر وعند أبي داود فأحيه على الإيمان. وتوفه على الإسلام.
قوله: "وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف وعائشة وأبي قتادة وجابر وعوف بن مالك" أما حديث عبد الرحمن وأبي قتادة وجابر فلينظر من أخرجه. وأما حديث عائشة فأخرجه الحاكم. وأما حديث عوف بن مالك فأخرجه مسلم.(4/105)
قال أبو عيسى: حديِثُ وَالِدِ أبي إبرَاهِيمَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ورَوَى هِشَامٌ الدّسْتَوَائِيّ وعَلِيّ بنُ المُبَارَكِ هذا الحَدِيثَ عن يَحْيَى بنِ أبي كَثِير عن أبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرحمَنِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً. ورَوَى عِكْرِمَةُ بنُ عَمّارٍ عن يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ عن أبي سَلَمَةَ عن عَائِشَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وحديثُ عِكْرِمَةَ بنِ عمّارٍ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وعِكْرِمَةُ رُبّمَا يَهِمّ في حدِيثِ يَحْيَى. ورُوِيَ عن يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ عن عَبْدِ الله بنِ أبي قَتَادَةَ عن أبيهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وسَمِعْتُ محمداً يَقُولُ: أَصَحّ الرّوَايَاتِ في هذا حديِثُ يَحْيَى بنِ أَبي كَثِيرٍ عن أبي إبراهِيمَ الأشْهَلِيّ عن أبيهِ. وسَأَلْتُهُ عن اسمِ أبي إبرَاهيمَ فَلَمْ يَعْرِفْهُ.
ـــــــ
قوله: "حديث والد أبي إبراهيم حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي ورواه أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة "وروى هشام الدستوائي الخ" قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة فقال: الحفاظ لا يذكرون أبا هريرة إنما يقولون أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً لا يوصله بذكر أبي هريرة إلا غير متقن والصحيح أنه مرسل وروى عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة الخ. قال الحاكم بعد رواية حديث أبي هريرة المذكور: وله شاهد صحيح فرواه من حديث أبي سلمة عن عائشة نحوه وأعله الترمذي بقوله: "وحديث عكرمة بن عمار غير محفوظ، وعكرمة ربما يهم في حديث يحيى" قال الحافظ في التقريب: عكرمة بن عمار العجلي أبو عمار اليمامي أصله من البصرة صدوق يغلط وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب ولم يكن له كتاب "وروى عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم" وقد توهم بعض الناس أن أبا ابراهيم المذكور هو عبد الله بن أبي قتادة وهو غلط. أبو ابراهيم من بني عبد الأشهل وأبو قتادة من بني سلمة. قاله الحافظ في التلخيص نقلاً عن ابن أبي حاتم عن أبيه.(4/106)
1030 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عَبْدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي حدثنا مُعَاوِيَةُ بنُ صَالِحٍ عن عَبْدِ الرحمَنِ بن جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ عن أبيهِ عن عَوْفٍ بنِ مَالِكٍ قالَ: "سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلّي على مَيّتٍ فَفَهِمْتُ مِنْ صَلاَتِهِ عَلَيْهِ اللّهُمّ اغْفِرْ لَهُ وارْحَمْهُ واغْسِلْهُ بالبَرَد واغسِلْه كَمَا يُغْسَل الثّوْبُ".
ـــــــ
قوله: "ففهمت من صلاته" وفي رواية لمسلم: فحفظت من دعائه، وفي رواية أخرى له: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة يقول "واغسله بالبرد" بفتحتين وهو حب الغمام قاله العيني: روى الترمذي هذا الحديث هكذا مختصراً، ورواه مسلم مطولاً ولفظه: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه واكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وابدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار انتهى، قال النووي: فيه إشارة إلى الجهر بالدعاء في صلاة الجنازة، وقد اتفق أصحابنا على أنه إن صلى عليها بالنهار أسر بالقراءة وإن صلى بالليل ففيه وجهان: الصحيح الذي عليه الجمهور يسر والثاني يجهر. وأما الدعاء فيسر به بلا خلاف وحينئذ يتأول هذا الحديث على أن قوله حفظت من دعائه أي علمنيه بعد الصلاة فحفظته انتهى. قلت: ويرد هذا التأويل قوله في رواية أخرى: سمعت. وقال القاري في المرقاة وهذا يعني قوله حفظت لا ينافي ما تقرر في الفقه من ندب الإسرار لأن الجهر هنا للتعليم لا غير انتهى. وقال الشوكاني في النيل: قوله سمعت النبي صلى الله عليه وسلم. وكذا قوله: فحفظت من دعائه. يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالدعاء وهو خلاف ما صرح به جماعة من استحباب الإسرار بالدعاء، وقد قيل: إن جهره صلى الله عليه وسلم بالدعاء لقصد تعليمهم. وأخرج أحمد عن جابر قال: ما أباح لنا في دعاء الجنازة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر. وفسر أباح بمعنى قدر. قال الحافظ والذي وقفت عليه باح بمعنى جهر. والظاهر أن الجهر والإسرار بالدعاء جائزان انتهى كلام الشوكاني.(4/107)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قالَ محمد: أَصَحّ شَيْءٍ في هذا البابِ هذا الحَدِيثُ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم "وقال محمد بن إسماعيل: أصح شيء في هذا الباب هذا الحديث" أي حديث عوف بن مالك. وقد ورد في هذا الباب أحاديث منها ذكره الترمذي ومنها حديث وائلة بن الأصقع أخرجه أبو داود، ومنها حديث عبد الله بن أبي أوفى أخرجه أحمد وابن ماجه، قال الحافظ ابن حجر: واختلاف الأحاديث في ذلك محمول على أنه يدعو لميته بدعاء ولاَخر بآخر انتهى. قال الشوكاني: إذا كان المصلي عليه طفلاً استحب أن يقول المصلي: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً وأجراً. روى ذلك البيهقي من حديث أبي هريرة. وروى مثله سفيان في جامعه عن الحسن قال: والظاهر أنه يدعو بهذه الألفاظ الواردة في هذه الأحاديث سواء كان الميت ذكراً أو أنثى ولا يحول الضمائر المذكرة إلى صيغة التأنيث إذا كانت الميت أنثى لأن مرجعها الميت وهو يقال على الذكر والأنثى انتهى .
وطلحة بن عبد الله بن عوف هو ابن أخي عبد الرحمَن بن عوفٍ روى عنه الزهري.(4/108)
باب ماجاء في القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب
...
38 ـ بابُ ما جَاءَ في القِرَاءَةِ على الجَنَازَة بفَاتِحَةِ الكِتاب
1031 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا زيْدُ بنُ حُبَابٍ حدثنا إبرَاهِيمُ بنُ عُثْمَانَ عن الحَكَمِ عن مِقْسَمٍ عن ابنِ عَبّاسٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ على الجَنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ".
ـــــــ
بابُ ما جَاءَ في القِرَاءَةِ على الجَنَازَة بفَاتِحَةِ الكِتاب
قوله: "أخبرنا ابراهيم بن عثمان" هو أبو شيبة الواسطي قال الحافظ: مشهور بكنيته متروك الحديث "قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب" أي بعد التكبيرة الأولى. وقد أخرج الشافعي والحاكم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على الميت أربعاً وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى، ولفظ الحاكم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعاً ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأول، وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحي فقد وثقه جماعة منهم الشافعي وابن الأصبحاني وابن عدي وابن عقدة وضعفه آخرون. قاله ابن القيم في جلاء الْافهام.(4/108)
وفي البابِ عن أُمّ شَرِيكٍ.
قال أبو عيسى: حدِيثُ ابن عَبّاسٍ حدِيثٌ لَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَلكَ القَوِيّ. إبرَاهِيمُ بنُ عُثْمَانَ هُوَ أبو شَيْبَةَ الوَاسِطِيّ مُنْكَرُ الحَدِيثِ. والصّحِيحُ عن ابنِ عَبّاسٍ قوله: "مِنَ السّنّةِ القِرَاءَةُ على الجَنَازَةِ بفَاتِحة الكِتَاب)
1032 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عَبْدُ الرحمَنِ بن مَهْدِي أخبرنا
ـــــــ
وقد صرح العراقي في شرح الترمذي بأن إسناد حديث جابر ضعيف.
قوله: "وفي الباب عن أم شريك" أخرجه ابن ماجه عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وفي إسناده ضعف يسير كما قال الحافظ في التلخيص. وفي الباب أيضاً عن أم عفيف النهدية قالت: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب على ميتنا، رواه أبو نعيم كذا في عمدة القاري. وعن أبي أسامة بن سهل بن حنيف قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرأن ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا في الأولى، أخرجه عبد الرزاق والنسائي. قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح انتهى. قلت: روى النسائي في سننه قال أخبرنا قتيبة قال حدثنا الليث عن ابن شهاب عن أبي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ثم تكبر ثلاثاً والتسليم عند الاَخرة. وقال النووي في الخلاصة: إن إسناده على شرط الشيخين، قاله العيني في شرح البخاري.
قوله: "إبراهيم بن عثمان هو أبو شيبة الواسطي منكر الحديث" قال في التقريب بكنيته متروك الحديث.
قوله: "والصحيح عن ابن عباس قوله: من السنة القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب" قال الحافظ في الفتح بعد ذكر قول الترمذي هذا ما لفظه: هذا مصير منه يعني من الترمذي إلى الفرق بين الصيغتين "أي بين قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب وبين قوله من السنة القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب، ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال انتهى" .(4/109)
سُفيَانُ عن سَعْدِ بنِ إبَراهِيمَ عن طَلْحَةَ بنِ عَوْفٍ "أن ابْنَ عَبّاس صَلّى على جَنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ فَقُلْتُ لَهُ فقَالَ "إنّهُ مِنَ السّنّةِ أوْ مِنْ تَمَامِ السّنّةِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ يَخْتَارُونَ أَنْ يقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ بَعْدَ التّكبِيرَةِ الأولَى. وَهُوَ قَوْلُ الشافعيّ وأحمدَ وإسْحَاقَ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ لا يقْرَأُ في الصّلاةِ على الجَنَازَة، إنّمَا هُوَ ثناءٌ على الله والصّلاَةُ على النبي صلى الله عليه وسلم والدُعَاءُ لِلْمَيّتِ، وهُوَ قَوْلُ الثّوْرِيّ وغَيْرِهِ مِنْ أهْلِ الكُوفَةِ.
ـــــــ
قوله: "إن عباس صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقلت له فقال إنه من السنة أو من تمام السنة" شك من الراوي. وفي رواية النسائي: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، جهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته فقال سنة وحق. وللحاكم من طريق ابن عجلان أنه سمع سعيد بن سعيد يقول: صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد ثم قال: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري والنسائي وابن حبان والحاكم.
قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق" وقولهم هو الحق يدل عليه أحاديث الباب "وقال بعض أهل العلم لا يقرأ في الصلاة الخ" وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. قال محمد في موطإه لا قراءة على الجنازة وهو قول أبي حنيفة رحمه الله انتهى، واستدل لهم بحديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء، رواه أبو داود وابن ماجه. قلت هذا الاستدلال ليس بشيء فإن المراد بقوله: فأخلصوا له الدعاء أدعوا له بالاخلاص وليس فيه نفي القراءة على الجنازة: كيف وقد روى القاضي إسماعيل في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي أمامة أنه قال: إن السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت حتى يفرغ ولا يقرأ إلا مرة ثم يسلم، وأخرجه ابن الجارود في المنتقي. قال الحافظ: ورجاله مخرج لهم في الصحيحين.(4/110)
ـــــــ
ففي هذا الحديث أن السنة في الصلاة على الجنازة قراءة الفاتحة وإخلاص الدعاء للميت وكذا وقع الجمع بين القراءة وإخلاص الدعاء للميت في رواية عبد الرزاق وقد تقدمت هذه الرواية. واستدل الطحاوي على ترك القراءة في التكبيرة الأولى بتركها في باقي التكبيرات وترك التشهد. قلت: هذا الاستدلال أيضاً ليس بشيء فإنه قياس في مقابلة النص. وأجابوا عن أحاديث الباب بأن قراءة الفاتحة في الصلاة على الجنازة كانت على وجه الدعاء. قال الطحاوي: ولعل قراءة من قرأ الفاتحة من الصحابة كانت على وجه الدعاء لا على وجه التلاوة. قلت: هذا ادعاء محض لا دليل عليه فهو مما لا يلتفت إليه. قال صاحب التعليق الممجد: قد صنف حسن الشرنبلالى من متأخري أصحابنا يعني الحنفية رسالة سماها بالنظم المستطاب بحكم القراءة في صلاة الجنازة بأم الكتاب ورد فيها على من ذكر الكراهة بدلائل شافية، وهذا هو الأولى لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه انتهى كلام صاحب التعليق الممجد.
فائدة: قال الشوكاني في النيل: ذهب الجمهور إلى أنه لا يستحب الجهر بالقراءة في صلاة الجنازة، وتمسكوا بقول ابن عباس: لم أقرأ أي جهراً إلا لتعلموا أنه سنة: وبقوله في حديث أبي أمامة سراً في نفسه انتهى كلام الشوكاني. قلت: وقع في حديث أبي أمامة عند النسائي: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ بأم القرآن مخافتة، وقد تقدم هذا الحديث آنفاً، وأما لفظ سراً في نفسه فقد وقع عند الشافعي فأخرج في مسنده: أخبرنا مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري أخبرني أبو أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه، الحديث. وأما قول ابن عباس الذي ذكره الشوكاني فأخرجه الحاكم من طريق شرحبيل ابن سعد عن ابن عباس أنه صلى على جنازة بالأبواء فكبر ثم قرأ الفاتحة رافعاً صوته ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: اللهم عبدك وابن عبدك الحديث. وفي آخره ثم انصرف فقال: يا أيها الناس إني لم أقرأ عليها أي جهراً إلا لتعلموا أنها سنة. قال الحافظ في الفتح: وشرحبيل مختلف في توثيقه انتهى. وأخرج ابن الجارود في المنتقى من طريق زيد بن طلحة التيمي قال: سمعت ابن عباس قرأ على جنازة فاتحة الكتاب وسورة وجهر بالقراءة وقال إنما جهرت لأعلمكم أنها سنة. وأخرجه أيضاً من طريق طلحة بن عبد الله قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة فجهر حتى سمعت الحديث، وقد تقدم رواية الحاكم بلفظ إنما جهرت لتعلموا أنها سنة. قال الشوكاني: وقيل يستحب الجهر بالقراءة فيها، واستدل على ذلك بما رواه النسائي من حديث ابن عباس فقد وقع فيه: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر فلما فرغ قال سنة وحق. وقال بعض أصحاب الشافعي: إنه يجهر بالليل كالليلية انتهى كلام الشوكاني.
قلت: قول ابن عباس إنما جهرت لتعلموا أنها سنة يدل على أن جهره كان للتعليم، وأما قول بعض أصحاب الشافعي يجهر بالليل كالليلية فلم أقف على رواية تدل على هذا والله تعالى أعلم.
فائدة أخرى: قد وقع في رواية النسائي التي ذكرتها آنفاً: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وهذا يدل على أن السنة قراءة فاتحة الكتاب وسورة معها. قال الشوكاني: فيه مشروعية قراءة سورة مع الفاتحة في صلاة الجنازة ولا محيص عن المصير إلى ذلك لأنها زيادة خارجة عن مخرج صحيح انتهى. قلت: قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر أثر ابن عباس أنه قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب وقال إنها سنة ما لفظه: ورواه أبو يعلى في مسنده من حديث ابن عباس وزاد: وسورة. قال البيهقي: ذكر السورة غير محفوظ وقال النووي إسناده صحيح انتهى.(4/111)
باب كيف الصلاة على الميت والشفاعة له
...
39 ـ باب ما جاء في الصّلاة على الجنازة والشّفَاعَةُ لَهُ
1033 ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ حدثنا عَبْدُ الله بنُ المُبَارَكِ و يُونُسُ بنُ بكَيْرٍ عن محمدِ بنِ إسْحَاقَ عن يَزِيدَ بنِ أبي حبيبٍ عن مَرْثَدِ بن عَبْدِ الله اليَزَنِيّ قالَ: كانَ مَالِكُ بنُ هُبَيْرَةَ إذَا صَلّى على جَنَازَةٍ فَتَقَالّ
ـــــــ
باب ما كيف الصلاة على الميت والشفاعة له
قوله: "عن مرثد" بفتح الميم وسكون الراء بالتاء المثلثة المفتوحة "بن عبد الله اليزني" بفتح التحتانية والزاي بعدها نون ثقة فقيه. قوله: "كان مالك بن هبيرة" بالتصغير السكوني الكندي صحابي نزل حمص ومصر مات في أيام مروان وكان(4/112)
النّاسَ عَلَيْهَا جَزّأُهُم ثَلاَثَةَ أَجْزَاءٍ ثُمّ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلّى عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ صُفُوفٍ فقد أَوْجَبَ".
قال وفي البابِ عن عَائِشَةَ وأُمّ حَبِيبَةَ وأَبي هُرَيْرَةَ ومَيْمُونَةَ زَوْجِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عيسى: حدِيثُ مَالِكِ بنِ هُبَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. هَكَذَا
ـــــــ
أميراً لمعاوية رضي الله عنه على الجيوش وغزو الروم "فتقال الناس عليها" تفاعل من القلة أي رآهم قليلاً "جزأهم ثلاثة أجزاء" من التجزئة أي فرقهم وجعل القوم الذين يمكن أن يكونوا صفاً واحداً ثلاثة صفوف. وفي رواية أبي داود: جزأهم ثلاثة صفوف. قال القاري في المرقاة: أي قسمهم ثلاثة أقسام أي شيوخاً وكهولاً وشباباً، أو فضلاء وطلبة العلم والعامة انتهى. قال أبو الطيب السندي في شرح الترمذي بعد ذكر هذا القول: هذا بعيد جداً انتهى. قلت: لا شك في بعده بل الحق والصواب أن المراد جعلهم ثلاثة صفوف كما في رواية أبي داود "ثم قال" أي استدلالا لفعله "من صلى عليه ثلاثة صفوف" وأقل الصف أن يكون اثنين على الأصح قاله القاري. قلت: ولا حد لأكثره "فقد أوجب" في رواية أبي داود: وجبت له الجنة. وفي رواية البيهقي: غفر له، كذا في قوت المغتذي. فمعنى أوجب أي أوجب الله عليه الجنة أو أوجب مغفرته وعداً منه وفضلاً.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه مسلم والترمذي "وأم حبيبة" لم أقف على حديثها "وأبي هريرة" أخرجه ابن ماجه بسند صحيح عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى عليه مائة من المسلمين غفر له، كذا في فتح الباري "وميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم" أخرجه النسائي من حديث أبي المليح حدثني عبد الله عن إحدى أمهات المؤمنين وهي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من ميت يصلي عليه أمة من الناس إلا شفعوا فيه. فسألت أبا المليح عن الأمة قال أربعون".
قوله: "حديث مالك بن هبيرة حديث حسن" وصححه الحاكم كما قال الحافظ في الفتح وأخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه ابن ماجه.(4/113)
رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عن محمدِ بنِ إسْحَاقَ. وَرَوَى إبرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عن محمدِ بنِ إسْحَاقَ هذا الحَديِثَ وأدْخَلَ بَيْنَ مَرْثَدٍ ومَالِكٍ بنِ هُبَيْرَةَ رَجُلاً. وروَايَةُ هَؤلاَءِ أَصَحّ عِنْدَنَا.
1034 ـ حدثنا ابنُ أبِي عُمَرَ حدثنا عَبْدُ الوهاب الثّقَفِي عن أيّوبَ وحدثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ وَ عَلِيّ بنُ حُجْر قالا حدثنا إسماعيلُ بنُ إبراهِيمِ عن أيّوبَ عن أبي قِلاَبَةَ عن عَبْدِ الله بنِ يَزِيدَ ـ "رَضِيعٍ كَانَ لِعَائِشَةَ" ـ عن عَائِشَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا يَموتُ أَحَدٌ مِنَ المُسْلمِينَ فَتصلّى عَلَيْه أُمّةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يبلغون أَنْ يَكُونُوا مِائَةً فَيَشْفَعُوا له إلاّ شُفّعُوا فِيهِ". وقالَ عَلِب بن حجر في حَدِيثهِ: مِائَة فَمَا فَوْقَهَا.
ـــــــ
قوله: "رضيع كان لعائشة" بالجر بدل من عبد الله بن يزيد.
قال الحافظ في التقريب: عبد الله بن يزيد رضيع عائشة بصري وثقه العجلي من الثالثة. قلت: قال في القاموس: رضيعك أخوك من الرضاعة.
قوله: "فليصلي عليه أمة" أي جماعة "فيشفعوا له" من المجرد أي دعو له "إلا شفعوا فيه" من التفعيل على بناء المفعول أي قبلت شفاعتهم "فيه" في حقه، وروى مسلم عن ابن عباس مرفوعاً: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه. وفي هذه الأحاديث استحباب تكثير جماعة الجنازة ويطلب بلوغهم إلى هذا العدد الذي يكون من موجبات الفوز. وقد قيد ذلك بأمرين الأول أن يكونوا شافعين فيه أي مخلصين له الدعاء سائلين له المغفرة، الثاني أن يكونوا مسلمين ليس فيهم من يشرك بالله شيئاً كما في حديث ابن عباس. قال النووي في شرح مسلم: قال القاضي: قيل هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد عن سؤاله، قال ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به ثم بقبول شفاعة أربعين ثم ثلاثة صفوف وإن قل عددهم فأخبر به ويحتمل أيضاً أن يقال هذا مفهوم عدد ولا يحتج به جماهير الأصوليين، فلا يلزم من الإخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف،(4/114)
قال أبو عيسى: حدِيثُ عَائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد أَوْقَفَهُ بَعْضُهُمْ ولَمْ يَرْفَعْهُ.
ـــــــ
وحينئذ كل الأحاديث معمول بها ويحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين انتهى كلام النووي. وقال التوربشتي: لا تضاد بين هذه الأحاديث لأن السبيل في أمثال هذا المقام أن يكون الأقل من العددين متأخراً عن الأكثر، لأن الله تعالى إذا وعد المغفرة لمعنى لم يكن من سنته النقصان من الفضل الموعود بعد ذلك، بل يزيد تفضلاً، فيدل على زيادة فضل الله وكرمه على عباده انتهى.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" أخرجه مسلم والنسائي.
قوله: "وقد أوقفه بعضهم ولم يرفعه" قال النووي. قال القاضي عياض:
رواه سعيد بن منصور موقوفاًعلى عائشة فأشار إلى تعليله بذلك وليس معللاً لأن من رفعه ثقة وزيادة الثقة مقبولة انتهى.(4/115)
باب ماجاء في كراهية الصلاة على الجنازة
...
40 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الصّلاةِ على الجَنَازَةِ
عِنْدَ طُلُوعِ الشّمْسِ وعِنْدَ غُرُوبِهَا
1035 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا وَكيعٌ عن مُوسَى بن علَي بنِ رَبَاحٍ عن أبيهِ عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ الجُهَنِيّ قالَ: "ثَلاَثُ سَاعَاتٍ كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلّيَ فِيهِنّ أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشّمْسُ بَازِغَةً حَتى تَرْتَفِعَ، وحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظّهِيرَةِ، حَتّى تَمِيلَ، وحِينَ تَضَيّفُ الشحر لِلْغُرُوبِ حَتّى تَغْرُبَ".
ـــــــ
باب ما جاء في كراهة الصلاة على الجنازة
عند طلوع الشمس وعند غروبها
قوله: "ثلاث ساعات" أي أوقات "أن نصلي فيهن" هو بإطلاقه يشمل صلاة الجنازة لأنها صلاة "أو نقبر فيهن موتانا" من باب نصر أي ندفن فيهن موتانا، يقال قبرته إذا دفنته وأقبرته إذ جعلت له قبراً يوارى فيه، ومنه قوله تعالى {فَأَقْبَرَهُ} كذا في المرقاة. وقال النووي: وهو بضم الباء الموحدة وكسرها لغتان انتهى "حين تطلع الشمس بازغة" أي طالعة ظاهرة حال مؤكدة "وحين يقوم قائم الظهيرة" قال النووي: الظهيرة حال استواء الشمس، ومعناه حين لا يبقى(4/115)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ يَكْرَهُونَ الصّلاَةَ على الجَنَازَةِ في هَذِهِ السّاعَاتِ. وقال ابنُ المُبَارَكِ: مَعْنَى هذا الحَدِيثِ أَن نَقْبُرَ فيهِنّ مَوتْانَا يَعْنِي الصّلاَةَ على الجَنَازَةِ وَكَرِهَ الصّلاَةَ عِنْدَ
ـــــــ
للقائم في الظهيرة ظل في المشرق ولا في المغرب انتهى. وقال ابن حجر: الظهيرة هي نصف النهار وقائمها أما الظل وقيامه وقوفه، من قامت به دابته وقفت، والمراد بوقوفه بطوء حركته الناشئ من بطوء حركة الشمس حينئذ باعتبار ما يظهر للناظر؟ بادى الرأي وإلا فهي سائرة على حالها وأما القائم فيها لأنه حينئذ لا يميل له ظل إلى جهة المشرق ولا إلى جهة المغرب، وذلك كله كناية عن وقت استواء الشمس في وسط السماء "حتى تميل" أي الشمس من المشرق إلى المغرب وتزول عن وسط السماء إلى الجانب الغربي وميلها هذا هو الزوال. قال ابن حجر: ووقت الاستواء المذكور وإن كان وقتاً ضيقاً لا يسع صلاة إلا أنه يسع التحريمة فيحرم تعمد التحريمة فيه "وحين تضيف" بفتح التاء والضاد المعجمة وتشديد الياء أي تميل قاله النووي. وأصل الضيف الميل سمي الضيف لميله إلى من ينزل عليه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "وقال ابن المبارك: معنى هذا الحديث أو أن نقبر فيهن موتانا يعني الصلاة" أي ليس المراد بقوله أو نقبر الدفن كما هو الظاهر بل المراد صلاة الجنازة. قلت: قد حمل الترمذي قوله نقبر فيهن موتانا على صلاة الجنازة ولذلك بوب عليه باب ما جاء في كراهية الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وعند غروبها، ونقل في تأييده قول ابن المبارك، وحمله أبو داود على الدفن الحقيقي فإنه ذكره في الجنائز وبوب عليه باب الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها. قال الزيلعي في نصب الراية: قد جاء بتصريح الصلاة فيه رواه الإمام أبو حفص عمر بن شاهين في كتاب الجنائز من حديث خارجة بن مصعب عن ليث بن سعد عن موسى بن علي به قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي على موتانا عند ثلاث عند طلوع الشمس إلى آخره، انتهى ما في نصب الراية. قلت: لو صحت(4/116)
طُلُوعِ الشَمْسِ وعِنْدَ غُرُوبِهَا وإذَا انْتَصَفَ النهَارُ حَتى تَزُولَ الشمْسُ. وهُوَ قَوْلُ أحمدَ وإسْحاقَ قالَ الشّافِعِيّ: لا بأْسَ في الصّلاة على الجَنَازَةِ في السّاعَاتِ التي تكْرَهُ فِيهِنّ الصّلاَةُ.
ـــــــ
هذه الرواية لكانت قاطعة للنزاع ولوجب حمل قوله أو نقبر فيهن موتانا على الصلاة، لكن هذه الرواية ضعيفة، فإن خارجة بن مصعب ضعيف، قال الحافظ في التقريب في ترجمته: متروك وكان يدلس عن الكذابين، ويقال إن ابن معين كذبه.
تنبيه: قال النووي في شرح مسلم: قال بعضهم: إن المراد بالقبر صلاة الجنازة وهذا ضعيف، لأن صلاة الجنازة لا تكره في هذا الوقت بالإجماع فلا يجوز تفسير الحديث بما يخالف الإجماع، بل الصواب أن معناه تعمد تأخير الدفن إلى هذه الأوقات كما يكره تعمد تأخير العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذر وهي صلاة المنافقين، فأما إذا وقع في هذه الأوقات بلا تعمد فلا يكره. انتهى كلام النووي. قلت: قوله صلاة الجنازة لا تكره في هذا الوقت بالإجماع فيه نظر ظاهر كما ستقف على ذلك في بيان المذاهب.
قوله: "وهو قول أحمد وإسحاق" وهو قول مالك والأوزاعي والحنفية، وهو قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. روى أبي شيبة من طريق ميمون بن مهران قال: كان ابن عمر يكره الصلاة على الجنازة إذا طلعت الشمس وحين تغرب. قال الحافظ في فتح الباري: وإلى قول ابن عمر ذهب مالك والأوزاعي والكوفيون وأحمد وإسحاق انتهى. قال القاري في المرقاة: والمذهب عندنا أن هذه الأوقات الثلاثة يحرم فيها الفرائض والنوافل وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة إلا إذا حضرت الجنازة أو تليت آية السجدة حينئذ فإنهما لا يكرهان، لكن الأولى تأخيرهما إلى خروج الأوقات انتهى. واستدل هؤلاء بحديث الباب، وقولهم هو الظاهر والله تعالى أعلم "وقال الشافعي: لا بأس أن يصلي على الجنازة في الساعات التي يكره فيهن الصلاة" وأجيب من جانبه عن حديث الباب بأنه محمول على الدفن الحقيقي. قال البيهقي: ونهيه عن القبر في هذه الساعات لا يتناول الصلاة على الجنازة وهو عند كثير من أهل العلم محمول على كراهية الدفن في تلك الساعات انتهى. كذا نقل الزيلعي عن البيهقي في نصب الراية. وتعقب بأنه كيف لا يتناول الصلاة على الجنازة وقد رواه إسحاق بن راهويه في كتاب الجنائز بلفظ: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي على موتانا عند ثلاث: عند طلوع الشمس الخ، وقد عرفت أنها رواية ضعيفة فإن قيل: صلاة الجنازة صلاة وكل صلاة منهى عنها في هذه الساعات. فكيف قال الشافعي: لابأس أن يصلي على الجنازة في هذه الساعات؟ يقال: ليس كل صلاة منهى عنها في هذه الساعات؟ عند الشافعي بل المنهى عنها إنما هي الصلوات التي لا سبب لها، وأما ذوات الأسباب من الصلوات فهي جائزة عنده في هذه الساعات، والصلاة على الجنازة من ذوات الأسباب.(4/117)
باب في الصلاة على الأطفال
...
41 ـ باب ما جاء في الصّلاَةِ على الأطْفَال
1036 ـ حدثنا بِشْرُ بنُ آدَمَ ابنِ بِنْتِ أزْهَرَ السّمّان البصري حدثنا إسماعيلُ بنُ سَعِيدِ بن عُبْيدِ الله حدثنا أبي عن زِيَادِ بنِ جُبَيْرِ بنِ حَيّةَ عن أبيهِ عن المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الرَاكِبُ خَلْفَ الجَنَازَةِ، والمَاشِي حَيْثُ شَاءَ منْهَا، والطّفْلُ يُصَلّي عَلَيْهِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. رواه إسْرَائِيلُ وغَيْرُ
ـــــــ
باب ما في الصلاة على الأطفال
قوله: "بشر بن آدم ابن بنت أزهر السمان" قال في التقريب: بشر بن آدم بن يزيد البصرى أبو عبد الرحمن ابن بنت أزهر السمان صدوق فيه لين من العاشرة انتهى. وقال في الخلاصة: روى عن جده لأمه أزهر السمان وابن مهدي وزيد بن الحباب وعنه دت عس ق. قال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال النسائي لا بأس به "عن زياد بن جبير بن حية" بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتانية المفتوحة ثقة.
قوله: "الراكب خلف الجنازة" أي يمشي خلفها "والماشي حيث شاء منها" أي يمشي حيث أراد من الجنازة خلفها أو قدامها أو يمينها أو شمالها، زاد في رواية أبي داود: قريباً منها "والطفل يصلى عليه" قال في القاموس: الطفل بالكسر الصغير من كل شيء والمولود. وفي رواية أبي داود: والسقط يصلي عليه ويدعي لوالديه بالمغفرة والرحمة. قال في القاموس: السقط مثلثة، الولد لغير تمام انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وصححه ابن حبان وأخرجه الحاكم بلفظ: السقط يصلى عليه ويدعي لوالديه بالعافية والرحمة. قال الحاكم صحيح على شرط(4/118)
وَاحِدٍ عن سَعيدِ بنِ عُبَيْدِ الله والعملُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ قالُوا يُصَلّي عَلَى الطّفْلِ وإنْ لَمْ يَستَهِلّ بَعْدَ أَنْ يُعَلَمَ أَنّهُ خُلِقَ. وهُوَ قَوْلُ أحمدَ وإسْحَاقَ.
ـــــــ
البخاري لكن رواه الطبراني موقوفاً على المغيرة وقال لم يرفعه سفيان، ورجح الدارقطني في العلل الموقوف كذا في التلخيص. والحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وفي الباب أيضاً عن علي أخرجه ابن عدي في ترجمة عمرو بن خالد وهو متروك. ومن حديث ابن عباس أخرجه ابن عدي أيضاً من رواية شريك عن ابن إسحاق عن عطاء عنه، وقواه ابن طاهر في الذخيرة، وقد ذكره البخاري من قول الزهري تعليقاً، ووصله ابن أبي شيبة. وأخرج ابن ماجه من رواية البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً: صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم. إسناده ضعيف كذا في التلخيص.
قوله: "قالوا: يصلى على الطفل وإن لم يستهل بعد أن يعلم أنه خلق وهو قول أحمد وإسحاق" قال الخطابي في المعالم: اختلف الناس في الصلاة على السقط، فروى عن ابن عمر أنه قال: يصلى عليه وإن لم يستهل، وبه قال ابن سيرين وابن المسيب. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه كل ما نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر وعشر صلى عليه. وقال إسحاق: إنما الميراث بالاستهلال فأما الصلاة فإنه يصلى عليه لأنه نسمة تامة قد كتب عليها الشقاوة والسعادة فلأي شيء تترك الصلاة عليه. وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا استهل ورث وصلى عليه. وعن جابر: إذا استهل صلى عليه وإن لم يستهل لم يصل عليه. وبه قال أصحاب الرأي، وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي انتهى كلام الخطابي وما ذهب إليه أحمد وإسحاق رجحه العلامة ابن تيمية في المنتقى حيث قال: وإنما يصلى عليه إذا نفخت فيه الروح وهو أن يستكمل أربعة أشهر، فأما إن سقط لدونها فلا لأنه ليس بميت إذ لم ينفخ فيه روح. وأصل ذلك حديث ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. متفق عليه انتهى. قال الشوكاني في النيل بعد ذكر كلام ابن تيمية هذا: ومحل الخلاف فيمن سقط بعد أربعة أشهر ولم يستهل، وظاهر حديث الاستهلال أنه لا يصلى عليه وهو الحق لأن الاستهلال يدل على وجود الحياة قبل خروج السقط كما يدل على وجودها بعده، فاعتبار الاستهلال من الشارع دليل على أن الحياة بعد الخروج من البطن معتبرة في مشروعية الصلاة على الطفل وأنه لا يكتفي بمجرد العلم بحياته في البطن فقط، انتهى كلام الشوكاني.(4/119)
باب ماجاء في ترك الصلاة على الطفل حتى يستهل
...
42 ـ باب ما جَاءَ في تَرْكِ الصّلاَةِ علَى الجنين حَتى يَسْتهِل
1037 ـ حدثنا أبُو عَمّارٍ الحُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ حدثنا محمدُ بنُ يَزِيدَ الواسطي عن إسماعيلَ بنِ مُسْلِمٍ المكي عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الطّفْلُ لاَ يُصَلّي عَلَيْهِ ولاَ يَرِثُ ولاَ يُورَثُ حَتّى يَستَهِلّ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ قد اضْطَرَبَ النّاسُ فيهِ، فَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرْفُوعاً. ورَوَى أشْعَثُ
ـــــــ
باب ما جاء في ترك الصلاة على الطفل حتى بستهل
قوله: "الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل" قال في النهاية: استهلال الصبي تصويته عند ولادته انتهى وكذا في المجمع، وفيه أراد العلم بحياته بصياح أو اختلاج أو نفس أو حركة أو عطاس انتهى. وقال ابن الهمام: الاستهلال أن يكون منه ما يدل على الحياة من حركة عضو أو رفع صوت انتهى. وقد أخرج البزار عن ابن عمر مرفوعاً: استهلال الصبي العطاس. قال الحافظ في التلخيص: وإسناده ضعيف انتهى.
قوله: "هذا حديث قد اضطرب الناس فيه الخ" قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث. أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وفي إسناده إسماعيل المكي عن أبي الزبير عنه أي عن جابر رضي الله عنه وهو ضعيف. قال الترمذي: رواه أشعث وغير واحد عن أبي الزبير عن جابر موقوفاً وكأن الموقوف أصح، وبه جزم النسائي، وقال الدارقطني في العلل: لا يصح رفعه، وقد روى عن شريك عن أبي الزبير مرفوعاً ولا يصح ورواه ابن ماجه من طريق الربيع بن بدر عن أبي الزبير مرفوعاً، والربيع ضعيف. ورواه ابن أبي شيبة من طريق أشعث بن سوار عن أبي الزبير موقوفاً، ورواه النسائي أيضاً وابن حبان في صحيحه(4/120)
بنُ سَوّارٍ وَغَيْرُ واحِدٍ عن أبي الزّبَيْرِ عن جَابِرٍ مَوْقوفاً. وروى محمد بن اسحاق عن عطاء بن ابي رباح عن جابر موقوفاً وكَأَنّ هذا أصَحّ مِنَ الحَدِيثِ المَرْفُوعِ. وقد ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إلى هذا قَالُوا لا يُصَلّى على الطّفْلِ حَتّى يَسْتَهِلّ. وهُوَ قَوْلُ سفيَانُ الثورِيّ والشّافَعِيّ.
ـــــــ
والحاكم من طريق إسحاق الأزرق عن سفيان الثورى عن أبي الزبير عن جابر وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووهم لأن أبا الزبير ليس من شرط البخاري وقد عنعن فهو علة هذا الخبر إن كان محفوظاً عن سفيان الثورى، ورواه الحاكم أيضاً من طريق المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير مرفوعاً وقال لا أعلم أحداً رفعه عن أبي الزبير غير المغيرة، وقد وقفه ابن جريج وغيره ورواه أيضاً من طريق بقية عن الأوزاعي عن أبي الزبير مرفوعاً. انتهى ما في التلخيص "وكأن هذا أصح من المرفوع" قال القاري في المرقاة بعد ذكر كلام الترمذي هذا ما لفظه: وأنت سمعت غير مرة أن المختار في تعارض الوقف والرفع تقديم الرفع لا الترجيح بالأحفظ والأكثر بعد جود أصل الضبط والعدالة. انتهى كلام القاري، قلت هذا ليس بمجمع عليه ثم قد عرفت ما فيه من المقال.
قوله: "وهو قول الثورى والشافعي" وبه قال أصحاب الرأي، وهو قول مالك والأوزاعي كما عرفت في كلام الخطابي. وقال الشوكاني: هو الحق وقد تقدم كلامه.(4/121)
باب ماجاء في الصلاة على الميت في المسجد
...
43 ـ باب ماَ جَاءَ في الصّلاَةِ عَلَى المَيّتِ في المَسْجِد
1038 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ محمدٍ عن عَبْدِ الْوَاحِدِ بنِ حَمْزَةَ عن عَبّادِ بنِ عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ عن عَائِشَةَ قالَتْ: "صَلّى رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى سُهَيْلِ بنِ بَيْضَاءِ في المَسجِدِ".
ـــــــ
باب ما جاء في الصلاة على الميت في المسجد
قوله: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء في المسجد" وفي رواية لمسلم: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه. قال النووي: قال العلماء: بنو البيضاء ثلاثة إخوة سهل وسهيل وصفوان وأمهم البيضاء واسمها وعد والبيضاء وصف وأبوهم وهب عن ربيعة القرشي الفهري وكان سهيل قديم الاسلام هاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدراً وغيرها توفي سنة تسع من الهجرة انتهى كلام النووي.(4/121)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ بعضِ أهْلِ العِلْمِ. قالَ الشّافعِيّ: قالَ مالِكٌ لا يُصَلّى على المَيّتِ في المَسْجِدِ. وقالَ الشّافِعِيّ: يُصَلّى عَلَى المَيّتِ في المَسْجِدِ واحْتَجّ بِهَذَا الحَدِيثِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" أخرجه الجماعة إلا البخاري.
قوله: "قال الشافعي قال مالك لا يصلي على الميت في المسجد" وهو قول ابن أبي ذئب وأبي حنيفة وكل من قال بنجاسة الميت، واحتجوا بحديث أبي هريرة مرفوعاً: من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له. رواه أبو داود وسيجيء بيان ما فيه من الكلام. واحتج بعضهم بأن العمل استقر على ترك ذلك لأن الذين أنكروا ذلك على عائشة رضي الله عنها كانوا من الصحابة. قال الحافظ ابن حجر: ورد بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلموا لها، فدل على أنها حفظت ما نسوه انتهى.
قوله: "وقال الشافعي يصلى على الميت في المسجد واحتج بهذا الحديث" وبه قال أحمد وإسحاق وهو قول الجمهور واستدلوا بحديث الباب، واستدل لهم أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي بالمصلى كما في صحيح البخاري، وللمصلي حكم المسجد فيما ينبغي أن يجتنب فيه بدليل حديث أم عطية: ويعتزل الحيض المصلي. قال الحافظ في فتح الباري: وقد روى ابن أبي شيبة وغيره أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد وأن صهيباً صلى على عمر في المسجد، زاد في رواية: ووضعت الجنازة تجاه المنبر، وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك انتهى. قلت: والحق هو الجواز، وأما حديث أبي داود المذكور فأجيب عنه بأجوبة قال النووي في شرح مسلم: أجابوا عنه بأجوبة أحدها أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به. قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة وهو ضعيف. الثاني: أن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من سنن أبي داود: من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه. ولا حجة لهم حينئذ فيه. الثالث: أنه لو ثبت الحديث وثبت أنه قال فلا شيء له لوجب تأويله على: فلا شيء عليه ليجمع بين الروايتين وبين هذا الحديث وحديث سهيل بن بيضاء وقد جاء له بمعنى عليه كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}. الرابع: أنه محمول على نقص الأجر في حق من صلى في المسجد ورجع ولم يشيعها إلى المقبرة لما فاته من تشييعه إلى المقبرة وحضور دفنه انتهى كلام النووي قلت: الظاهر أن حديث أبي داود حسن: قال الحافظ في التقريب: صالح بن نبهان المدني مولى التوأمة صدوق اختلط بآخره. قال ابن عدي لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج انتهى. وروى أبو داود هذا الحديث من طريق ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة. وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه صلى على أبي بكر في المسجد وأن صهيباً صلى على عمر رضي الله عنه في المسجد ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر ولا على صهيب فوقع إجماع الصحابة رضي الله عنهم على جواز الصلاة على الميت في المسجد. فلا بد من تأويل حديث أبي داود المذكور على تقدير أنه حسن والله تعالى أعلم.(4/122)
باب ماجاء أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة
...
44 ـ باب ما جَاء أيْنَ يَقُومُ الإمَامُ مِنْ الرّجُل والمَرْأَةِ؟
1039 ـ حدثنا عَبْدُ الله بنُ مُنِيرٍ عن سَعِيدٍ بنِ عَامِرٍ عن هَمامٍ عن أبي غَالِبٍ قال صلّيت مع انس بن مالك على جنازة رجل فقام حيال رأسه، ثُمّ جَاؤوا بِجَنَازَةِ امْرَأَةِ مِنْ قُرَيْشٍ. فقَالُوا يا أبَا حَمْزَةَ صَلّ عَلَيْهَا فقَامَ حِيَالَ وَسَطِ السّريرِ، فقالَ لَهُ العَلاَءُ بنُ زِيَادٍ:
ـــــــ
باب ما جاء أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة
قوله: "على جنازة رجل" أي عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما في رواية أبي داود "فقام حيال رأسه" بكسر الحاء أي حذاءه ومقابله "بجنازة امرأة من قريش" وفي رواية أبي داود المرأة الأنصارية. قال القاري: فالقضية إما متعددة وإما متحدة فتكون المرأة قرشية أنصارية انتهى "فقالوا" أي أولياؤها "يا أبا حمزة" كنية أنس رضي الله عنه "فقام حيال وسط السرير" بسكون السين وفتحه. قال الطيبي: الوسط بالسكون يقال فيما كان متفرق الأجزاء كالناس والدواب وغير ذلك، وما كان متصل الأجزاء كالدار والرأس فهو بالفتح، وقيل كل منهما يقع موقع الاَخر وكأنه أشبه. وقال صاحب المغرب: الوسط بالفتح كالمركز للدائرة وبالسكون داخل الدائرة، وقيل ما يصلح فيه بين فبالفتح وما لا(4/123)
هَكَذَا رَأَيْتَ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَامَ على الجَنَازَةِ مَقَامَكَ مِنْهَا ومِنَ الرّجُلِ مقَامَكَ مِنْهُ؟ قالَ نَعَمْ، فَلَمّا فَرَغَ قالَ احْفَظُوا".
وفي البابِ عن سَمُرَةَ.
قال أبو عيسى: حدِيثُ أنَسٍ هذاحديثٌ حسنٌ. وقد رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عن هَمّامٍ مِثْلَ هذا. وَرَوَى وَكِيعٌ هذا الحَدِيثَ عن هَمّامٍ فَوَهِمَ فيهِ فقالَ عن غَالِبٍ عن أَنَسٍ والصّحِيحُ عن أبي غَالِبٍ. وقد رَوَى هذا الحَدِيثَ عَبْدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ وغَيْرُ وَاحِدٍ عن أبي غَالِبٍ مِثْلَ رِوَايَةِ همّامٍ. واخْتَلَفوا في إسْم أبي غَالِبٍ هذا فقَالَ بَعْضُهُمُ يقال اسمُهُ نَافِعٌ ويُقَالُ رَافِعٌ. وقد ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إلى هذا. وهُوَ قَوْلُ أحمدَ وإسْحَاقَ.
ـــــــ
فبالسكون انتهى. ووقع في رواية أبي داود فقام عند عجيزتها. قال في النهاية: العجيزة العجز وهي للمرأة خاصة والعجز مؤخر الشيء "هكذا رأيت" بحذف حرف الاستفهام "قام على الجنازة" أي من المرأة.
قوله: "وفي الباب عن سمرة" رواه الجماعة.
قوله: "حديث أنس حديث حسن" وأخرجه أبو داود وابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص. قال الشوكاني: ورجال إسناده ثقات.
قوله: "واختلفوا في اسم أبي غالب هذا الخ" قال في التقريب: أبو غالب الباهلي مولاهم الخياط اسمه نافع أو رافع ثقة من الخامسة "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا" أي إلى أن الإمام يقوم حذاء رأس الرجل وحذاء عجيزة المرأة "وهو قول أحمد وإسحاق" وهو قول الشافعي وهو الحق وهو رواية عن أبي حنيفة. قال في الهداية: وعن أبي حنيفة أنه يقوم من الرجل بحذاء رأسه ومن المرأة بحذاء وسطها لأن أنساً فعل كذلك وقال هو السنة انتهى. ورجح الطحاوي قول أبي حنيفة هذا على قوله المشهور حيث قال في شرح الآثار: قال أبو جعفر والقول الأول أحب إلينا لما قد شده الاثار التي روينا عن رسول الله صلى الله(4/124)
1040 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْر أخبرنا عبد الله بنُ المُبَارَكِ و الفَضْلُ بنُ مُوسَى عن حُسَيْنٍ المُعَلّمِ عن عَبْدِ الله بن بُرَيْدَةَ عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلّى على امْرَأَةٍ فقَامَ وَسَطَهَا".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رَوَاه شُعْبَةُ عن حُسَيْنٍ المُعَلّمِ نحوه.
ـــــــ
عليه وسلم انتهى. وذهب الحنفية إلى أن الإمام يقوم بحذاء صدر الميت رجلاً كان أو امرأة، وهو قول أبي حنيفة المشهور. وقال مالك: يقوم حذاء الرأس منهما، ونقل عنه أن يقوم عند وسط الرجل وعند منكبي المرأة. وقال بعضهم: حذاء رأس الرجل وثدي المرأة واستدل بفعل علي رضي الله عنه. وقال بعضهم إنه يستقبل صدر المرأة وبينه وبين السرة من الرجل. قال الشوكاني بعد ذكر هذه الأقوال: وقد عرفت أن الأدلة دلت على ما ذهب إليه الشافعي وأن ما عداه لا مستند له من المرفوع إلا مجرد الخطأ في الاستدلال أو التعويل على محض الرأي أو ترجيح ما فعله الصحابي على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. نعم لا ينتهض مجرد الفعل دليلاً للوجوب، ولكن النزاع فيما هو الأولى والأحسن ولا أولى ولا أحسن من الكيفية التي فعلها المصطفى صلى الله عليه وسلم، انتهى كلام الشوكاني.
قوله: "فقام وسطها" المراد بوسطها عجيزتها كما يدل عليه رواية أبي داود. وأما قول الشيخ ابن الهمام: هذا لا ينافي كونه الصدر بل الصدر وسط باعتبار توسط الأعضاء إذ فوته يداه ورأسه وتحته بطنه وفخذاه، ويحتمل أنه وقف كما قلنا إلا أنه مال إلى العورة في حقها فظن الراوي ذلك لتقارب المحلين فما لا التفات إليه بعد ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم حذاء رأس الرجل وحذاء عجيزة المرأة قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة(4/125)
باب ماجاء في ترك الصلاة على الشهيد
...
45 ـ باب ما جَاءَ في تَرْكَ الصّلاةِ على الشّهِيد
1041 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن ابنِ شِهَاب عن عَبْدِ الرحمَنِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكِ أنّ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله أخْبَرَهُ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ في الثّوْبِ الوَاحِدِ ثُمّ يَقُولُ: أَيُهُمَا أَكْثَرُ أخذاً لِلقُرْآنِ؟ فإِذَا أُشِيرَ لهُ إلى أَحَدِهِمَا قَدّمَهُ في اللّحْدِ، وقال أَنَا شَهِيدٌ على هَؤُلاَءِ يَوْمَ القِيَامَةِ" وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ في دِمَائِهِمْ، ولَمْ يُصَلّ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يُغَسّلُوا".
وفي البابِ عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ.
ـــــــ
باب ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد
المراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار ففي الصلاة عليه اختلاف مشهور كما ستقف عليه
قوله: "كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد" أي للضرورة ولا يلزم منه تلاقي بشرتهما إذ يمكن حيلولتهما بنحو إذخر مع احتمال أن الثوب كان طويلاً فأدرجا فيه ولم يفصل بينهما لكونهما في قبر واحد "أيهما أكثر حفظاً للقرآن" وفي بعض النسخ: أخذاً للقرآن "قدمه" أي ذلك الأحد "في اللحد" بفتح اللام وسكون الحاء أي الشق في عرض القبر جانب القبلة "فقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" في المرقاة قال المظهر: أي أنا شفيع لهم وأشهد أنهم بذلوا أرواحهم في سبيل الله انتهى. وأشار إلى أن على بمعنى اللام. قال الطيبي: تعديته بعلى تدفع هذا المعنى ويمكن دفعه بالتضمين، ومنه قوله تعالى {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} انتهى ما في المرقاة مختصراً "ولم يصل عليهم" قال الحافظ في فتح الباري: هو مضبوط في روايتنا بفتح اللام وهو اللائق بقوله بعد ذلك ولم يغسلوا وسيأتي بعد ما بين من وجه آخر عن الليث بلفظ: ولم يصل عليهم ولم يغسلهم وهذه بكسر اللام والمعنى ولم يفعل ذلك بنفسه ولا بأمره. انتهى كلام الحافظ.
قوله: "وفي الباب عن أنس بن مالك" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي(4/126)
قال أبو عيسى: حديثُ جَابِرٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ هذا الحَدِيثُ عن الزهْرِيّ عن أنَسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ورُوِيَ عن الزّهْرِيّ عن عَبْدِ الله بن ثَعْلَبَةَ بن أبي صُعَيْرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ومِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُ عن جَابِرٍ. وقد اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ في الصّلاَةِ على الشّهِيدِ فقالَ بَعْضُهُمْ: لا يُصَلّى على الشّهِيدِ وهُوَ قَوْلُ أَهْلِ المَدِينَةِ، وبِهِ يَقُولُ الشّافِعِيّ وأَحمدُ.
ـــــــ
بلفظ: إن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم. قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" أخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه.
قوله: "وقد روى هذا الحديث عن الزهري عن أنس" أخرجه أبو داود والترمذي من طريق أسامة بن زيد الليثي، وأسامة سيء الحفظ، وقد حكى الترمذي في العلل عن البخاري أن أسامة غلط في إسناد كذا في فتح الباري "وروى عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير عن النبي الخ" أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، والطبراني من طريق عبد الرحمن بن إسحاق وعمرو بن الحارث كلهم عن ابن شهاب عن عبد الله له رواية، فحديثه من حيث السماع مرسل، وقد رواه عبد الرزاق عن معمر فزاد فيه جابراً فيحمل على أن الحديث عند الزهري عن شيخين كذا في فتح الباري. والمراد بقوله عن شيخين عبد الرحمن بن كعب كما في رواية الباب وعن عبد الله بن ثعلبة كما في رواية أحمد والطبراني "ومنهم من ذكره عن جابر" كما في رواية عبد الرزاق.
قوله: "فقال بعضهم لا يصل على الشهيد وهو قول أهل المدينة وبه يقول الشافعي وأحمد" قال الشافعي في الأم: جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد وما روى أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحي على نفسه، قال: وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين يعني والمخالف يقول لا يصلى على القبر إذا طالت المدة. قال وكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم واستغفر لهم حين قرب أجله مودعاً لهم بذلك ولا يدل ذلك على نسخ الحكم الثابت انتهى. قلت: أخرج(4/127)
وقالَ بَعْضُهُمْ يُصَلّى على الشهِيدِ، واحْتَجّوا بِحَدِيثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ صَلّى على حَمْزَةَ وهُوَ قَوْلُ الثّوْرِيّ وأهْلِ الكُوفَةِ. وبهِ يَقُولُ إسْحَاقُ.
ـــــــ
البخاري في صحيحه في غزوة أحد عن عقبة بن عامر قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات " وقال بعضهم: يصلى على الشهيد، واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على حمزة وهو قول الثورى وأهل الكوفة وبه يقول إسحاق" حديث الصلاة على حمزة الذي أشار إليه الترمذي أخرجه الحاكم من حديث جابر قال: فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة حين جاء الناس من القتال فقال رجل رأيته عند تلك الشجيرات، فلما رآه ورأى ما مثل به شهق وبكى فقام رجل من الأنصار فرمى عليه بثوب ثم جيء بحمزة فصلى عليه الحديث، وفي إسناده أبو حماد الحنفي وهو متروك. وأخرج أبو داود في المراسيل والحاكم من حديث أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به ولم يصل على أحد من الشهداء غيره، وأعله البخاري والترمذي والدارقطني بأنه غلط فيه أسامة بن زيد فرواه عن الزهري عن أنس، ورجحوا رواية الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر. وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجى ببردة ثم صلى عليه وكبر سبع تكبيرات ثم أتي بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فيصلي عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة، وفي إسناده رجل مبهم لأن ابن إسحاق قال حدثني من لا أتهم عن مقسم مولى ابن عباس عن ابن عباس قال السهيلي إن كان الذي أبهمه ابن إسحاق هو الحسن بن عمارة فهو ضعيف وإلا فهو مجهول لا حجة فيه. قال الحافظ: الحامل للسهيلي على ذلك ما وقع في مقدمة مسلم عن شعبة أن الحسن بن عمارة حدثه عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد فسألت الحكم فقال لم يصل عليهم انتهى. قال الشوكاني: لكن حديث ابن عباس روى من طريق أخرى فذكرها. واعلم أن في الصلاة على قتلى أحد وعلى حمزة أحاديث أخرى لكن لا يخلو واحد منها عن كلام. قال ابن تيمية في المنتقى: وقد رويت الصلاة عليهم يعني على شهداء أحد بأسانيد لا تثبت انتهى.(4/128)
ـــــــ
ثم اعلم أنه لم يرد في شيء من الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء بدر ولا أنه لم يصل عليهم، وكذلك في شهداء سائر المشاهد النبوية إلا ما روى النسائي في سننه والطحاوي عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه الحديث، وفيه ولكنى اتبعتك على أن أرمي إلى ههنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم أهو هو؟ قالوا نعم، قال صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدمه فصلى عليه فكان مما ظهر من صلاته اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً أنا شهيد على ذلك. وما روى أبو داود في سننه عن أبي سلام عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من المسلمين رجلاً منهم فضربه فأخطأه وأصاب نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوكم يا معشر المسلمين فابتدره الناس فوجدوه قد مات، فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه ودفنه، فقالوا يا رسول الله أشهيد هو؟ قال نعم وأنا له شهيد. قال الشوكاني في النيل: سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده سلام بن أبي سلام وهو مجهول. وقال أبو داود بعد إخراجه عن سلام المذكور: إنما هو عن زيد بن سلام عن جده أبي سلام انتهى. وزيد ثقة انتهى ما في النيل وقد استدل بهذين الحديثين أيضاً لمن قال بالصلاة على الشهيد. قال الشوكاني: أما حديث أبي سلام فلم أقف للمانعين من الصلاة على جواب عليه وهو من أدلة المثبتين لأنه قتل في المعركة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه شهيداً وصلى عليه. نعم لو كان النفي عاماً غير مقيد بوقعة أحد ولم يرد في الإثبات غير هذا الحديث لكان مختصاً بمن قتل مثل صفته انتهى. وأما حديث شداد بن الهاد فهو أيضاً من أدلة المثبتين فإنه قتل في المعركة وسماه شهيداً وصلى عليه. ولكن حمل البيهقي هذا على أنه لم يمت في المعركة. قلت والظاهر عندي أن الصلاة على الشهيد ليست بواجبة فيجوز أن يصلي عليها ويجوز تركها والله تعالى أعلم. وروى الماوردي عن أحمد الصلاةعلى الشهيد أجود وإن لم يصلوا عليه أجزأ، ذكره الحافظ في الفتح. واختار الشوكاني الصلاة على الشهيد وأجاب عن كلام الإمام الشافعي الذي ذكره في الأم.
فائدة: قال الشوكاني في النيل: قد اختلف في الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله والصلاة عليه هل هو مختص بمن قتل في المعركة أو أعم من ذلك، فعند الشافعي أن المراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار، وخرج بقوله في المعركة من جرح في المعركة وعاش بعد ذلك حياة مستقرة، وخرج بحرب الكفار من مات في قتال المسلمين كأهل البغي، وخرج بجميع ذلك من يسمى شهيداً بسبب غير السبب
المذكور ولا خلاف أن من جمع هذه القيود شهيد وروى عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن من جرح في المعركة إن مات قبل الارتثاث فشهيد والإرتثاث أن يحمل ويأكل أو يشرب أو يوصي أو يبقى في المعركة يوما وليلة حيا وذهبت الهادوية إلى أن من جرح في المعركة يقال له شهيد وإن مات بعد الارتثاث وأما من قتل مدافعا عن نفس أو مال في المصر ظلما فقال أبو حنيفة وأبو يوسف إنه شهيد وقال الشافعي إنه وإن قيل له شهيد فليس من الشهداء الذين لا يغسلون وذهبت العترة والحنفية والشافعي في قوله له إن قتيل البغاة شهيد قالوا إذا لم يغسل على أصحابه وهو توقيف انتهى كلام الشوكاني.(4/129)
باب ماجاء في الصلاة على القبر
...
46 ـ باب ما جَاءَ في الصّلاَةِ عَلَى القَبْر
1042 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا هُشَيْمٌ حدثنا الشّيْبَانِيّ أخبرنا الشّعْبِيّ: "أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وَرَأَى قَبْراً مُنْتَبِذاً فَصَفّ أَصْحَابَهُ خلفه فَصَلَى عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ من أَخْبَرَكَم؟ فقالَ ابنُ عَبّاسٍ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الصّلاَةِ عَلَى القَبْر
قوله: "أخبرنا الشيباني" هو سليمان بن أبي سليمان أبو إسحاق الشيباني "أخبرنا الشعبي" هو عامر بن شراحيل الشعبي من كبار التابعين قال: أدركت خمسمائة من الصحابة "ورأى قبراً منتبذاً" قال في النهاية أي منفرداً عن القبور بعيداً عنها "فصف أصحابه فصلى عليه" أي على القبر، وفي رواية البخاري: فأمهم وصلوا خلفه "فقيل له" أي للشعبي "من أخبرك" أي بهذا الحديث "فقال ابن عباس"(4/130)
وفي البابِ عن أَنَسٍ وبُرَيْدَةَ ويَزِيدَ بنِ ثابِتٍ وأبي هُرَيْرَةَ وعَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ وأبي قَتَادَةَ وسَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ وهُوَ قَوْلُ الشّافِعيّ وأحمد وإسحاقَ. وقالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ لا يُصَلّى على القَبْرِ،
ـــــــ
أي فقال الشعبي أخبرني ابن عباس. وفي رواية البخاري: قلت من حدثك هذا يا أبا عمرو؟ قال ابن عباس. قال الحافظ في الفتح: القائل هو الشيباني والمقول له هو الشعبي. قال وسياق الطرق الصحيحة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه في صبيحة دفنه.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه البزار "وبريدة" أخرجها البيهقي "ويزيد بن ثابت" أخرجه أحمد والنسائي ص 326 "وأبي هريرة" أخرجه البخاري ومسلم "وعامر بن ربيعة" أخرجه ابن ماجه "وأبي قتادة" أخرجه البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر البراء، وفي رواية بعد شهر كذا في النيل "وسهل بن حنيف" أخرجه ابن عبد البر في كتابه التمهيد. قال الإمام أحمد: رويت الصلاة على القبر من النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه حسان. قال ابن عبد البر: بل من تسعة كلها حسان وساقها كلها بأسانيده في تمهيده من حديث سهل بن حنيف وأبي هريرة وعامر بن ربيعة وابن عباس وزيد بن ثابت الخمسة في صلاته على المسكينة، وسعد بن عبادة في صلاة المصطفى على أم سعد بعد دفنها بشهر، وحديث الحصين بن وحوح في صلاته على قبر طلحة بن البراء. وحديث أبي أمامة بن ثعلبة أنه صلى الله عليه وسلم رجع من بدر وقد توفيت أم أبي أمامة فصلى عليها، وحديث أنس أنه صلى على امرأة بعد ما دفنت وهو محتمل للمسكينة وغيرها، وكذا ورد من حديث بريدة عند البيهقي وسماها محجنة، كذا في التعليق الممجد.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "والعمل على هذا" أي على مشروعية الصلاة على القبر "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق" سواء صلى على الميت أو لا وهو قول الجمهور انتهى. واستدلوا بأحاديث الباب "وقال بعض أهل العلم: لا يصلى على القبر(4/131)
وهُو قَوْلُ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ. وقالَ عبد الله بنُ المُبَارَكِ: إذَا دُفِنَ المَيّتُ ولَمْ يُصَلّ عَلَيْهِ صُلّيَ عَلى القَبْرِ. ورَأَى ابنُ المُبارَكِ الصّلاَةَ على القَبْرِ.
ـــــــ
وهو قول مالك بن أنس" قال ابن المنذر: ومنعه النخعي ومالك وأبو حنيفة وعنهم إن دفن قبل أن يصلى عليه شرع وإلا فلا. وأجابوا عن أحاديث الباب بأن ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة عند مسلم: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم. قالوا صلاته صلى الله عليه وسلم كانت لتنوير القبر. وقالا يوجد في صلاة غيره فلا يكون الصلاة على القبر مشروعاً. وأجاب ابن حبان عن ذلك بأن في ترك إنكاره صلى الله عليه وسلم على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره وأنه ليس من خصائصه. وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلاً للأصالة. ومن جملة ما أجاب به الجمهور عن هذه الزيادة، أنها مدرجة في هذا الإسناد وهي من مراسيل ثابت، بين ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد. قال الحافظ: وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتاب بيان المدرج. قال البيهقي: يغلب على الظن أن هذه الزيادة من مراسيل ثابت كما قال أحمد انتهى. قلت: وقع في حديث يزيد بن ثابت عند النسائي قال: لا يموت فيكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا يعني آذنتموني به فإن صلاتي له رحمة. وهذا ليس بمرسل وأجاب الشوكاني بأن الاختصاص لا يثبب إلا بدليل ومجرد كون الله ينور القبور بصلاته صلى الله عليه وسلم على أهلها لا ينفي مشروعية الصلاة على القبر لغيره لا سيما بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي انتهى".
قوله: "وقال ابن المبارك إذا دفن الميت ولم يصل عليه الخ" قال الشوكاني في النيل: وأما من لم يصل عليه ففرض الصلاة عليه الثابت بالأدلة وإجماع الأمة باق، وجعل الدفن مسقطاً لهذا الفرض محتاج إلى دليل. قال وقد استدل بحديث الباب يعني حديث ابن عباس المذكور على رد قول من فصل فقال: يصلى على قبر من لم يكن قد صلى عليه قبل الدفن لا من كان قد صلى عليه لأن القصة وردت فيمن قد صلى عليه والمفصل هو بعض المانعين.(4/132)
وقالَ أَحمدُ وإسحاقُ يُصَلّي على القَبْرِ إلى شَهْرٍ، وقالا أكْثَرُ مَا سَمِعْنَا عن ابنِ المُسَيّبِ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلّى على قَبْرِ أُمّ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ بَعْدَ شَهْر.
1043 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عن سَعِيدِ بنِ أبي عَروبَةَ عن قَتَادَةَ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ "أنّ أُمّ سَعْدِ مَاتَتْ والنبيّ صلى الله عليه وسلم غَائِبٌ فَلَمّا قَدِمَ صَلّى عَلَيْهَا وقد مَضَى لذَلِكَ شَهْرٌ".
ـــــــ
قوله: "وقال أحمد وإسحاق: يصلى على القبر إلى شهر" قال الأمير اليماني في سبل السلام ص 194: واختلف القائلون بالصلاة على القبر في المدة التي شرعت فيها الصلاة فقيل إلى شهر بعد دفنه، وقيل إلى أن يبلى الميت لأنه إذا بلى لم يبق ما يصلى عليه، وقيل أبداً لأن المراد من الصلاة عليه الدعاء وهو جائز في كل وقت. قال: هذا هو الحق إذ لا دليل على التحديد بمدة انتهى. قلت استدل أحمد وإسحاق وغيرهما ممن قال إلى شهر بحديث سعيد بن المسيب الذي رواه الترمذي في هذا الباب. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكره: ورواه البيهقي وإسناده مرسل صحيح انتهى. وروى الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعد شهر، وروى عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ميت بعد ثلاث. قلت: الظاهر الاقتصار على المدة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما القياس على مطلق الدعاء وتجويزه في كل وقت ففيه نظر كما لا يخفي.
قوله: "عن سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت الخ" هذا مرسل وقد عرفت آنفاً أنه رواه البيهقي وإسناده مرسل صحيح(4/133)
باب ماجاء في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي
...
47 ـ باب مَا جَاء في صَلاَةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم على النجَاشِي
1044 ـ حدثنا أبو سَلَمَةَ يَحْيَى بنِ خَلَفٍ و حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ
ـــــــ
باب ما جاء في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي
هو من سادات التابعين أسلم ولم يهاجر وهاجر المسلمون إليه إلى الحبشة مرتين وهو يحسن إليهم، وأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن(4/133)
قالا حدثنا بِشْرُ بنُ المفَضّلِ حدثنا يونس بنُ عُبَيْدٍ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ عن أبي المُهَلّبِ عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ قالَ: قالَ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أخَاكُمْ النّجَاشِيّ قد مَاتَ فَقُومُوا فَصَلّوا عَلَيْهِ. قالَ: فَقُمْنَا فَصَفَفْنَا كَمَا يُصَفّ على المَيّتِ وَصَلّيْنَا عليه كَمَا يُصَلّى على المَيّتِ".
ـــــــ
أمية بكتابين أحدهما يدعوه فيه إلى الإسلام والثاني يطلب منه تزويجه بأم حبيبة، فأخذ الكتاب ووضعه على عينيه وأسلم وزوجه أم حبيبة، وأسلم على يده عمرو بن العاص قبل أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم فصار يلغز به فيقال صحابي كثير الحديث أسلم على يد تابعي كذا في ضياء الساري. وقال الحافظ في الفتح: هو بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين ثم ياء ثقيلة كياء النسب وقيل بالتخفيف، ولقب من ملك الحبشة. وحكى المطرزي تشديد الجيم عن بعضهم وخطأه انتهى. قلت: كما يقال لمن ملك الفرس كسرى ولمن ملك الروم قيصر كذلك يقال لمن ملك الحبشة النجاشي، وكان اسمه أصحمة، في صحيح البخاري في هجرة الحبشة من طريق ابن عيينة عن ابن جريج فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة
قوله: "إن أخاكم النجاشي قد مات" وفي رواية للبخاري: قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، وفي رواية أبي هريرة عند البخاري: نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وفيه علم من أعلام النبوة لأنه صلى الله عليه وسلم أعلمهم بموته في اليوم الذي مات فيه مع بعد ما بين أرض الحبشة والمدينة " وصلينا عليه كما يصلى على الميت" استدل به على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف حتى قال ابن حزم لم يأت عن أحد من الصحابة منعه، وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك.
وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب من قصة النجاشي بأمور منها أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد فتعينت الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابي لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته1 ليس بها من يصلى عليه واستحسنه الروياني من الشافعية، وبه ترجم أبو داود في السنن الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك ببلد آخر: قال الحافظ في الفتح: هذا محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصل عليه في بلده أحد. ومنها أنه كشف له صلى الله عليه وسلم عنه حتى رآه
ـــــــ
1 يعني في بلدة(4/134)
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ وجَابِرِ بنِ عَبْدِ الله وأبي سَعِيدٍ وحُذْيْفَةَ بنِ أسِيدٍ وجَرِيرِ بنِ عَبْدِ الله.
ـــــــ
فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون ولا خلاف في جوازها. وأجيب عنه بأن هذا يحتاج إلى نقل صحيح صريح ولم يثبت.
فإن قلت: قد روى عن ابن عباس قال: كشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه، وأخرج ابن حبان عن عمران بن حصين قصة الصلاة على النجاشي وفي روايته: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه أخرجه من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي المهلب عنه، ولأبي عوانة من طريق أبان وغيره عن يحيى: فصلينا خمسة ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا.
قلت: أما رواية ابن عباس فقد ذكرها الواقدى في أسبابه بغير إسناد كما ذكره الحافظ في فتح الباري: وأما رواية عمران بن حصين بلفظ: وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه، وبلفظ ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا، فالمراد به أنهم صلوا عليه كما يصلون على الميت الحاضر من غير فرق. ويدل عليه حديث الباب بلفظ: فقمنا فصففنا كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلى على الميت، وهو مروى عن عمران بن حصين. ومنها أن ذلك خاص بالنجاشي لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ميت غائب، قاله الملهب. وأجاب عنه الحافظ في الفتح فقال كأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثي وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قوي بالنظر إلى مجموع طرقه انتهى. ولمن لم يقل بالصلاة على الغائب اعتذارات أخرى ضعيفة لا حاجة إلى ذكرها والكلام عليها، قال الشوكاني بعد البحث في هذه المسألة ما لفظه: والحاصل أنه لم يأت المانعون من الصلاة على الغائب بشيء يعتد به سوى الاعتذار بأن ذلك مختص بمن كان في أرض لا يصلى عليه فيها وهو أيضاً جمود على قصة النجاشي يدفعه الأثر والنظر انتهى. قلت الكلام في هذه المسألة طويل مذكور في فتح الباري وغيره فعليك أن تراجعه.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله وأبي سعيد وحذيفة بن أسيد وجرير بن عبد الله" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الجماعة. وأما(4/135)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ هذا الوَجْهِ. وقد رَوَاهُ أبُو قِلاَبَةَ عن عَمّهِ أبي المُهَلّبِ عن عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ. وأبو المُهَلّبِ اسْمُهُ عَبْدُ الرحمَنِ بن عَمْرٍو ويُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرو.
ـــــــ
حديث جابر فأخرجه الشيخان. وأما حديث أبي سعيد وحذيفة وجرير فلينظر من أخرجه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي "وأبو المهلب اسمه عبد الرحمن بن عمرو الخ" قال الحافظ في التقريب: أبو المهلب الجرمي البصري عم أبي قلابة فذكر الاختلاف في اسمه ثم قال ثقة من الثانية.(4/136)
باب في فضل الصلاة على الجنازة
...
48ـ باب ما جَاءَ في فَضْلِ الصّلاةِ على الجَنَازَة
1045 ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ حدثنا عَبْدَةُ بنُ سُلَيْمَانَ عن محمدِ بنِ عَمْرو حدثنا أبو سَلَمَةَ عن أبي
هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ صَلّى على جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، ومَنْ تَبعَهَا حَتّى يُقْضَي دَفْنُهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ أَحَدُهُمَا أَوْ أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ" فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لابنِ عُمرَ فَأَرْسَل إلى عَائِشَةَ فسَأَلَها عن ذَلِكَ فقَالَتْ: صَدَقَ أبُو هُرَيْرَةَ، فقَالَ ابنُ عُمَر: لَقَدْ فَرّطْنَا في قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في فَضْلِ الصّلاةِ على الجَنَازَة
قوله: "فله قيراط" بكسر القاف قال الجوهري: أصله قراط بالتشديد لأن جمعه قراريط فأبدل من أحد حرفي تضعيفه ياء، قال: والقيراط نصف دانق والدانق سدس الدرهم فعلى هذا يكون القيراط جزء من اثني عشر جزء من الدرهم. وأما صاحب النهاية فقال: القيراط جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشره في أكثر البلاد في الشام جزء من أربعة وعشرين جزءاً "حتى يقضي دفنها" أي يفرغ من دفنها "أحدهما أو أصغرهما" شك من الراوي "مثل أحد" هذا التفسير المراد ههنا لا للفظ "فذكرت ذلك" هذا مقول أبي سلمة "فرطنا" من التفريط أي ضيعنا كما في رواية لمسلم "في قراريط كثيرة" جمع قيراط أي ضيعنا(4/136)
وفي البابِ عن البَرَاءِ وعَبْدِ الله بنِ مُغَفّلٍ وعَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ وأبي سَعِيدٍ وأُبي بنِ كَعْبٍ وابنِ عُمَر وثَوْبَانَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قد رُويَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
ـــــــ
قراريط كثيرة من عدم المواظبة على حضور الدفن. بين ذلك مسلم في روايته من طريق ابن شهاب عن سالم بن عبد الله قال: كان ابن عمر يصلي على الجنازة ثم ينصرف فلما بلغه حديث أبي هريرة قال فذكره.
قوله: "وفي الباب عن البراء الخ" قال الحافظ في الفتح: وقع لي حديث الباب يعني حديث أبي هريرة الذي ذكره الترمذي في هذا الباب من رواية عشرة من الصحابة غير أبي هريرة، وعائشة من حديث ثوبان عند مسلم، والبراء وعبد الله بن مغفل عند النسائي، وأبي سعيد عند أحمد، وابن مسعود عند أبي عوانة، وأسانيد هؤلاء الخمسة صحاح، ومن حديث أبي بن كعب عند ابن ماجه، وابن عباس عند البيهقي في الشعب، وأنس عند الطبراني في الأوسط، وواثلة بن الأصقع عند ابن عدي، وحفصة عند حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال، وفي كل من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف انتهى.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما.(4/137)
49 ـ باب آخَر
1046 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا رَوْحٌ بنُ عُبَادَةَ حدثنا عَبّادُ بنُ مَنْصُورٍ قالَ سَمِعْتُ أَبَا المُهَزّمِ قال: صَحِبْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَشْرَ سِنينَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ تَبِعَ
ـــــــ
باب آخَر
قوله: "أخبرنا روح بن عبادة" بفتح الراء وسكون الواو ثقة فاضل له تصانيف من التاسعة "سمعت أبا المهزم" قال في المغنى: بمضمومة وفتح هاء وفتح زاي مشددة وهو يزيد بن سفيان انتهى. وقال في التقريب: بتشديد الزاي المكسورة التميمي البصري اسمه يزيد وقيل عبد الرحمن بن سفيان متروك من الثالثة.(4/137)
جَنَازَةً وحَمَلَهَا ثلاثَ مَرّاتٍ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقّهَا".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بهذا الإسْنَادِ ولَمْ يَرْفَعْهُ. وأَبُو المُهَزّمِ إسْمُهُ يَزِيدُ بنُ سُفْيَانَ وضَعّفَه شُعْبَةُ.
ـــــــ
قوله: "وحملها ثلاث مرات" قال ابن الملك: يعني يعاون الحاملين في الطريق ثم يتركها ليستريح ثم يحملها في بعض الطريق يفعل كذلك ثلاث مرات "فقد قضى ما عليه من حقها" أي من حق الجنازة بيان لما قال ميرك أي من جهة المعاونة لا من دين وغيبة ونحوهما انتهى. وقد عد صلى الله عليه وسلم أن من جملة الحقوق التي للمؤمن على المؤمن أن يشيع جنازته.
قوله: "هذا حديث غريب" لم يحكم الترمذي عليه بالضعف وهو ضعيف لأن في سنده أبا المهزم وهو متروك كما عرفت.
قوله: "وضعفه شعبة" قال الذهبي في الميزان: قال مسلم: سمعت شعبة يقول رأيت أبا المهزم ولو يعطي درهماً لوضع حديثاً انتهى.
إعلم أن أهل العلم قد اختلفوا في كيفية حمل الجنازة، فقال محمد رحمه الله في موطإه وصفته أن يبدأ الرجل فيضع يمين الميت المقدم على يمينه ثم يضع يمين الميت المؤخر على يمينه ثم يعود إلى المقدم الأيسر فيضعه على يساره، وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه انتهى. وقال الشافعي رحمه الله: السنة أن يحملها رجلان يضعها السابق على أصل عنقه والثاني على أعلى صدره. واستدل للإمام أبي حنيفة بما رواه ابن ماجه عن عبيد بن بسطاس عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود قال: من اتبع جنازة فليأخذ بجوانب السرير كلها فإنه من السنة وإن شاء فليدع، ثم إن شاء فليدع ورواه أبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما. حدثنا شعبة عن منصور بن المعتمر عبيد بن بسطاس به بلفظ فليأخذ بجوانب السرير الأربعة: ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني في معجمه ورواه محمد بن الحسن الشيباني في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة رضي الله عنه حدثنا منصور بن المعتمر به قال: من السنة حمل الجنازة بجوانب السرير الأربعة كذا في نصب الراية. واحتج للإمام الشافعي رحمه الله بما أخرجه ابن سعد عن شيوخ من بني عبد الأشهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بين العمودين حتى خرج به من الدار. وأجاب صاحب الهداية عن هذا بأن ذلك كان لازدحام الملائكة. قلت: لا شك في أنه كان في جنازة سعد ازدحام الملائكة. فروى سعد بإسناد صحيح عن ابن عمر رفعه قال: لقد شهد سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك، كذا في الدراية لكن لا يلزم من هذا أن حمل جنازته بين العمودين كان لازدحامهم فتفكر. وقد حملت جنائز عدة من الصحابة رضي الله عنه بين العمودين. قال: الحافظ في الدراية: وفي الباب عن الحسن بن الحسن بن علي في جنازة جابر أخرجه الطبراني. وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رأيت سعداً في جنازة عبد الرحمن بن عوف واضعاً السرير على كاهله بين العمودين أخرجه الشافعي. ومن حديث أبي هريرة أنه صنع ذلك في جنازة سعد. ومن حديث عثمان أنه صنع ذلك. ومن طريق ابن عمر في جنازة رافع بن خديج، ومن طريق ابن الزبير في جنازة المسور بن مخرمة: وروى ابن سعد عن مروان أنه فعل ذلك هو وأبو هريرة بجنازة حفصة بنت عمر انتهى ما في الدراية.(4/138)
باب ماجاء في القيام للجنازة
...
50 ـ باب ما جَاءَ في القِيَامِ لِلْجَنَازَة
1047 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا الّليْثُ عن ابنِ شِهَابٍ عن سَالِمٍ بنِ عَبْدِ الله عن أبيهِ عن عَامِرِ بنِ رَبِيَعَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَأخبرنا قُتَيْبَةُ أخبرنا الّليْثُ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَر عن عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذَا رَأَيْتُمْ الجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتّى تُخَلّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في القِيَامِ لِلْجَنَازَة
قوله: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها" وفي حديث جابر عند مسلم: إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا. وفي حديث سهل بن حنيف وقيس بن سعد عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام فقيل له إنها جنازة يهودي فقال أليست نفساً؟ وفي حديث أنس مرفوعاً عند الحاكم فقال: إنما قمنا للملائكة . وفي حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً عند أحند وابن حبان والحاكم: إنما تقومون إعظاماً للذي يقبض النفوس. ولفظ ابن حبان: إعظاماً لله الذي يقبض(4/139)
وفي البابِ عن أبي سَعِيدٍ وجَابِرٍ وسَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ وقَيْسِ بنِ سَعْدٍ وأبي هُرَيْرَةَ. حديثُ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1048 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِيَ الجَهْضَمِيّ والحَسَنُ بنُ عَلِي الخلال الحُلْوَانِيّ قالا حدثنا وهْبُ بنُ جَرِيرٍ حدثنا هِشَامٌ الدّسْتَوَائِيّ عن يحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ عن أبي سَلَمَةَ عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذَا رَأَيْتُمْ الجَنَازَةَ فَقُومُوا لها فَمَنْ تَبِعَهَا فلاَ يَقْعُدَنّ حَتّى تُوضَعَ".
ـــــــ
الأرواح، قال الحافظ في الفتح ما محصله: إنه لا تنافي بين هذه التعليلات لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة. قال: وأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي قال إنما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تأذياً بريح اليهودي. زاد الطبراني من حديث عبد الله بن عياش: فأذاه ريح بخورها. وللطبرى والبيهقي من وجه آخر عن الحسن كراهية أن تعلو رأسه. فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة، أما أولاً فلأن أسانيدها لا تقاوم تلك في الصحة، وأما ثانياً فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
قوله: "حتى تخلفكم" بضم أوله وفتح المعجمة وتشديد اللام المكسورة بعدها فاء أي تترككم وراءها ونسبة ذلك إليها على سبيل المجاز لأن المراد حاملها "أو توضع" أي عن مناكب الرجال. قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد" أخرجه البخاري ومسلم "وجابر" أخرجه البخاري ومسلم "وسهل بن حنيف" لينظر من أخرجه "وقيس بن سعد" أخرجه البخاري ومسلم "وأبي هريرة" أخرجه البخاري ومسلم. قوله: "حديث عامر بن ربيعة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "فمن تبعها فلا يقعدن حتى توضع" قيل أراد به وضعها عن الأعناق ويعضده رواية الثورى حتى توضع بالأرض، وقيل حتى توضع في اللحد قاله الطيبي. قلت: قال الحافظ في التلخيص: المراد بالوضع الوضع على الأرض،(4/140)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي سَعِيدٍ في هذا البَابِ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهُوَ قَوْلُ أَحمدَ وإسْحَاقَ قالا مَنْ تَبِعَ جَنَازَة فَلاَ يَقْعُدَنّ حَتّى تُوضَعَ عن أَعْنَاقِ الرّجَالِ. وقد رُوِيَ عن بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ أَنّهُمْ كَانُوا يَتَقَدّمُونَ الجَنَازَةَ فيَقْعُدُون قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَيْهِمْ الجَنَازَةُ. وهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ.
ـــــــ
ووقع في رواية عبادة: حتى توضع في اللحد، ويرده ما في حديث البراء الطويل الذي صححه أبو عوانة وغيره: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فإنتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلسنا حوله، ووقع في رواية سهيل عن أبيه عن أبي هريرة اختلاف، فقال الثورى عنه حتى توضع بالأرض، وقال أبو معاوية عنه حتى توضع باللحد، حكاه أبو داود ووهم رواية أبي معاوية وكذلك قال الأثرم انتهى.
قوله: "حديث أبي سعيد في هذا الباب حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وهو قول أحمد وإسحاق قالا من تبع الخ" قال الحافظ في الفتح: اختلف الفقهاء في ذلك فقال أكثر الصحابة والتابعين باستحبابه كما نقله ابن المنذر وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن، وروى البيهقي من طريق أبي حازم الأشجعي عن أبي هريرة وابن عمر وغيرهما أن القائم مثل الحامل يعني في الأجر. وقال الشعبي والنخعي: يكره القعود قبل أن توضع. وقال بعض السلف: يجب القيام واحتج برواية سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع، أخرجه النسائي انتهى كلام الحافظ. قوله: "وقد روى عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم كانوا يتقدمون الخ" لم أقف على حديث صحيح يدل على ذلك والظاهر الموافق للأحاديث الصحيحة الصريحة هو ما ذهب إليه أحمد وإسحاق وغيرهما والله تعالى أعلم.(4/141)
51 ـ باب الرخّصَةِ في تَرْكِ القِيَامِ لَهَا
1049 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا الّلْيثُ عن يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عن وَاقِدٍ و "هُوَ ابنُ عَمْروِ بنِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ)
عن نَافِعِ بنِ جُبَيْرٍ عن مَسْعُودِ بنِ الحَكَم عن عَلِيّ بنِ أبي طَالِبٍ أنّهُ ذُكَرَ القِيَام في الجَنَائِزِ حَتّى تُوضَعَ فقَالَ عَلِي: "قَامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثُمّ قَعَدَ".
وفي البابِ عن الحَسَنِ بنِ عَلِيَ وابنِ عَبّاسِ.
ـــــــ
باب في الرخصة في ترك القيام لها أي عند رؤية الجنازة
قوله: "فقال عليّ: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد" قال البيضاوي: يحتمل قول علي ثم قعد أي بعد أن جاوزته وبعدت عنه، ويحتمل أن يريد كان يقوم في وقت ثم ترك القيام أصلاً، وعلى هذا يكون فعله الأخير قرينة في أن المراد بالأمر الوارد في ذلك الندب، ويحتمل أن يكون نسخاً للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر، والأول أرجح لأن احتمال المجاز يعني في الأمر أولى من دعوى النسخ انتهى كلام البيضاوي. قال الحافظ في الفتح: والاحتمال الأول يدفعه ما رواه البيهقي من حديث علي أنه أشار إلى قوم قاموا أن يجلسوا ثم حدثهم الحديث. ومن ثم قال بكراهته القيام جماعة منهم سليم الرازي وغيره من الشافعية. وقال ابن حزم: قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام يدل على أن الأمر للندب ولا يجوز أن يكون نسخاً لأن النسخ لا يكون إلا بنهي أو بترك معه نهى قال الحافظ في الفتح: وقد ورد معنى النهي من حديث عبادة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم للجنازة فمر به حبر من اليهود فقال هكذا نفعل، فقال اجلسوا وخالفوهم أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي فلو لم يكن إسناده ضعيفاً لكان حجة في النسخ انتهى.
قلت: ويدل على النسخ ما رواه أحمد عن علي بلفظ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس.
قوله: "وفي الباب عن الحسن بن علي وابن عباس" أخرجه النسائي من طريق محمد بن سيرين قال: إن جنازة مرت بالحسن بن علي وابن عباس فقام الحسن ولم يقم(4/142)
قال أبو عيسى: حديثُ عَلِي حديث حسنٌ صحيح وفيهِ رِوَايَةُ أَرْبَعَةٍ مِنَ التابِعِينَ بَعْضُهُمْ عن بَعْضٍ. والعملُ على هذا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ. قالَ الشّافِعِيّ: وهذا أَصَحّ شَيْءٍ في هذا البابِ. وهذا الحَدِيثُ نَاسِخٌ لِلحَدِيثِ للأوّلِ "إِذَا رَأَيْتُمْ الجَنَازَةَ فَقُومُوا" وقالَ أحمدُ إنْ شَاءَ قَامَ وإن شَاءَ لَمْ يَقُمْ واحْتَجّ بأَن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد رُوِيَ عَنْهُ أنّهُ قَامَ ثُمّ قَعَدَ،
ـــــــ
ابن عباس فقال الحسن أليس قد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي؟ قال ابن عباس: نعم ثم جلس.
قوله: "حديث علي حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الجنازة ثم قعد بعد.
قوله: "وهذا الحديث ناسخ للحديث الأول: إذا رأيتم الجنازة فقوموا" ويدل على النسخ حديث عبادة وقد تقدم، وما رواه أحمد عن علي بلفظ: ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس وتقدم هذا أيضاً، وما رواه البيهقي من حديث علي أنه أشار إلى قوم قاموا أن يجلسوا ثم حدثهم الحديث وقد تقدم هذا أيضاً "وقال أحمد إن شاء قام وإن شاء لم يقم إلخ" فعند أحمد حديث على هذا ليس بناسخ للحديث الأول. قال الحازمي في كتاب الاعتبار: وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب فقال بعضهم على الجالس أن يقوم إذا رأى الجنازة حتى تخلفه، وممن رأى ذلك أبو مسعود البدري وأبو سعيد الخدري وقيس بن سعد وسهل بن حنيف وسالم بن عبد الله. وقال أحمد بن حنبل إن قام لم أعبه وإن قعد فلا بأس به، وبه قال إسحاق الحنظلي، وقال أكثر أهل العلم: ليس على أحد القيام للجنازة، روينا ذلك عن علي بن أبي طالب والحسن بن علي وعلقمة الأسود والنخعي ونافع بن جبير، وفعله سعيد بن المسيب، وبه قال عروة بن الزبير ومالك وأهل الحجاز والشافعي وأصحابه وذهبوا إلى أن الأمر بالقيام منسوخ وتمسكوا في ذلك بأحاديث، ثم ذكر الحازمي بإسناده حديث علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الجنائز ثم جلس بعد قال: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم، ثم ذكر بإسناده عن مسعود بن الحكم الزرقى أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه في رحبة الكوفة وهو يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في(4/143)
وهَكَذَا قالَ إسْحَاقُ بنُ إبرَاهِيمَ. ومَعْنَى قَوْلِ عَلِي: "قَامَ النبي صلى الله عليه وسلم في الجَنَازَةِ ثُمّ قَعَدَ" . يَقُولُ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذَا رَأَى الجَنَازَة قام ثُمّ تَرَكَ ذَلِكَ بَعْدُ فَكانَ لاَ يَقُومُ إذَا رَأَى الجَنَازَةَ.
ـــــــ
الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس، ثم ذكر بإسناده عن مجاهد عن أبي معمر قال: مرت بنا جنازة فقمنا فقال من أفتاكم بهذا؟ قلنا أبو موسى الأشعري، فقال ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة كان يتشبه بأهل الكتاب فلما نسخ ذلك ونهى عنه انتهى. قال الحازمي فهذه الألفاظ كلها تدل على أن القعود أولى من القيام. قال الشافعي: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تركه بعد فعله والحجة في الاَخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان الأول واجباً فالاَخر من أمره ناسخ، وإن كان استحباباً فالاَخر هو الاستحباب، وإن كان مباحاً لا بأس بالقيام والقعود فالقعود أولى لأنه الاَخر من فعله صلى الله عليه وسلم انتهى.(4/144)
باب ماجاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم:(اللحد لنا والشق لغيرنا).
...
52 ـ باب ما جَاءَ في قَوْلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم "الّلحْدُ لَنَا والشّقّ لِغَيْرِنَا"
1050 ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ و نَصْرُ بنِ عَبْدِ الرحمَنِ الكُوفِيّ و يُوسُفُ بنُ مُوسَى القَطّانُ البَغْدَادِيّ قالُوا حدثنا حَكّامُ بنُ سَلْمٍ عن عَلِيّ بنِ عَبْدِ الأعْلَى عن أبيهِ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الّلحْدُ لَنَا والشّقّ لِغَيْرِنَا".
ـــــــ
باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم اللحد لنا والشق لغيرنا
اللحد بفتح اللام وبالضم وسكون الحاء هو الشق في عرض القبر جانب القبلة، والشق هو الضريح وهو الشق في وسط القبر.
قوله: "حدثنا حكام" بفتح الحاء وتشديد الكاف "بن سلم" بفتح السين وسكون اللام ثقة له غرائب "عن علي بن عبد الأعلى" صدوق ربما وهم.
قوله: "اللحد لنا والشق لغيرنا" قال التوربشتى: أي اللحد آثر وأولى لنا،(4/144)
وفي البابِ عن جَرِيرِ بنِ عَبْدِ الله وعَائِشَةَ وابنِ عُمَر وجَابر.
قال أبو عيسى: حديثُ ابن عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الوَجْهِ.
ـــــــ
والشق آثر وأولى لغيرنا، أي هو اختيار من كان قبلنا من أهل الإيمان، وفي ذلك بيان فضيلة اللحد وليس فيه نهي عن الشق، لأن أبا عبيدة مع جلالة قدره في الدين والأمانة كان يصنعه ولأنه لو كان منهياً لما قالت الصحابة أيهما جاء أولاً عمل عمله، ولأنه قد يضطر إليه لرخاوة الأرض انتهى. وقال الطيبي ويمكن أنه عليه الصلاة والسلام عني بضمير الجمع نفسه أي أوثر لي اللحد وهو أخبار عن الكائن فيكون معجزة انتهى. وقيل معناه اللحد لنا معشر الأنبياء والشق جائز لغيرنا. قلت: الصحيح هو ما ذكره التوربشتي، ويؤيده حديث جرير بن عبد الله بلفظ: اللحد لنا والشق لغيرنا أهل الكتاب.
قوله: "وفي الباب عن جرير بن عبد الله" أخرجه أحمد والبزار وابن ماجه بنحو حديث ابن عباس المذكور في هذا الباب وفيه عثمان بن عمير وهو ضعيف، وزاد أحمد بعد قوله لغيرنا أهل الكتاب "وعن عائشة" أخرجه ابن ماجة بلفظ قالت: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في اللحد والشق حتى تكلموا في ذلك وارتفعت أصواتهم فقال عمر رضي الله عنه لا تصخبوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً ولا ميتاً أو كلمة نحوها فأرسلوا إلى الشقاق واللاحد جميع، فجاء اللاحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دفن صلى الله عليه وسلم " وابن عمر رضي الله عنه" أخرجه أحمد بلفظ: أنهم الحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم لحداً، وفيه عبد الله العمري وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ: ألحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأبي بكر وعمر "وجابر" أخرجه ابن شاهين في كتاب الجنائز بلفظ حديث ابن عباس المذكور. وأحاديث الباب تدل على استحباب اللحد وأنه أولى من الضرح، وإلى ذلك ذهب الأكثر كما قال النووي في شرح مسلم إجماع العلماء على جواز اللحد والشق.
قوله: "حديث ابن عباس غريب من هذا الوجه" أخرجه الخمسة. قال الشوكاني: وصححه ابن السكن وحسنه الترمذي كما وجدنا ذلك في بعض النسخ الصحيحة من جامعه في إسناده عبد الأعلى بن عامر وهو ضعيف انتهى .(4/145)
باب ماجاء ما يقول إذا أدخل الميت قبره
...
53 ـ باب مَا يَقُول إذا أُدْخِلَ المَيّتُ قبره
1051 ـ حدثنا أبُو سَعِيدٍ الأشَجّ حدثنا أبو خَالِدٍ الأحْمَرُ حدثنا الحَجّاجُ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ "أنّ
النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذَا أُدْخِلَ المَيّتُ القَبْرَ ـ "وقالَ أبُو خَالِدٍ مرّةً إذَا وُضِعَ المَيّتُ في لَحْدِهِ" قالَ ـ مَرّةً بِسْمِ الله وبالله وعَلَى مِلّةِ رسولِ الله" وقالَ مَرّةً: "بِسْمِ الله وبالله وَعَلَى سُنّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هَذا الْوَجْهِ.
وقَدْ رُوِيَ هذا الحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ أيضا عن ابنِ عُمَرَ،
ـــــــ
باب مَا يَقُول إذا أُدْخِلَ المَيّتُ قبره
قوله: "إذا أدخل" روى مجهولاً ومعلوماً "الميت" بالرفع أو النصب "القبر" مفعول ثان "قال" أي أبو سعيد الأشج "وقال أبو خالد إذا وضع الميت في لحده" يعني أن أبا خالد قال مرة لفظ إذا وضع الميت في لحده مكان لفظ إذا أدخل الميت القبر، وقد جاء صريح هذا في رواية ابن ماجة كما ستعرف "قال مرة بسم الله" أي وضعته أو وضع أو أدخله "وبالله" أي بأمره وحكمه أو بعونه وقدرته "وعلى ملة رسول الله" أي على طريقته ودينه "وقال مرة بسم الله وبالله وعلى سنة رسول الله" أي على طريقته وشريعته والمراد بملة رسول الله وسنته واحد. قال الطيبي: قوله أدخل روى معلوماً ومجهولاً والثاني أغلب فعلى المجهول لفظ كان بمعنى الدوام وعلى المعلوم بخلافه، لما روى أبو داود عن جابر قال: رأى ناس ناراً في المقبرة فأتوها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر وهو يقول: ناولوني صاحبكم، فإذا هو بالرجل الذي يرفع صوته بالذكر. قال ميرك: وفيه نظر لأنه على تقدير المعلوم يحتمل الدوام أيضاً. وعلى تقدير المجهول يحتمل عدمه أيضاً كما لا يخفى. قال القاري: وفيه أن إدخاله عليه الصلاة والسلام الميت بنفسه الأشرف لم يكن دائماً بل كان نادراً، لكن قوله بسم الله يمكن أن يكون دائماً مع إدخاله وإدخال غيره تأمل انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وابن ماجه.(4/146)
عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. ورَوَاهُ أَبُو الصّدِيقِ النّاجِي عنِ ابْنِ عُمَرَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أبي الصّدّيقِ الناجي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مَوْقُوفاً أيضاً.
ـــــــ
قوله: "رواه أبو الصديق الناجي عن النبي صلى الله عليه وسلم" أخرجه أبو داود "وقد روى عن أبي الصديق موقوفاً أيضاً" قال المنذري وأخرجه النسائي مسنداً وموقوفاً. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الحافظ في التلخيص والزيلعي في نصب الراية.
تنبيه: اعلم أن الترمذي رحمه الله روى حديث الباب بالإجمال وقد رواه ابن ماجه بالإيضاح فقال: حدثنا هشام بن عمار حدثنا اسماعيل بن عياش حدثنا ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا أبو خالد الأحمر حدثنا الحجاج عن نافع عن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أدخل الميت القبر قال بسم الله وعلى ملة رسول الله. وقال أبو خالد مرة: إذا وضع الميت في لحده قال: بسم الله وعلى سنة رسول الله. وقال هشام في حديثه: بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله.(4/147)
باب ماجاء في الثوب الواحد يلقى تحت الميت في القبر
...
54 ـ باب ما جَاءَ في الثّوْبِ الوَاحِدِ يُلْقَى تحْتَ المَيّتِ في القَبْر
1052 ـ حدثنا زَيْدُ بنُ أَخْزَمَ الطّائيّ البصري. حدثنا عُثمانُ بنُ فَرْقَدٍ، قالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحمّدٍ عنْ أَبيهِ قالَ: الّذِي أَلْحَدَ قَبْرَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أبُو طَلْحَةَ. والّذِي أَلْقَى الْقَطِيفَةَ تَحْتَهُ شُقْرَانُ مَوْلَى لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الثّوْبِ الوَاحِدِ يُلْقَى تحْتَ المَيّتِ في القَبْر
قوله: "سمعت جعفر بن محمد" جعفر هذا معروف بالصادق، وأبوه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب معروف بالباقر. قوله: "الذي ألحد" يقال لحد يلحد كذهب يذهب وألحد يلحد إذا حفر اللحد وهو الشق تحت الجانب القبلي من القبر "والذي ألقى القطيفة" قال في النهاية: هي كساء له خمل "شقران" بضم الشين المعجمة وسكون القاف مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/147)
قالَ جَعْفَرٌ: وَأَخْبَرَنِي عبيدالله بْنُ أبي رَافِعٍ قالَ: سَمِعْتُ شُقْرَانَ يَقُولُ: أَنَا، وَالله طرَحْتُ القَطِيفَةَ تحْتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الْقَبْرِ وفي البابِ عنِ ابْنِ عَبّاس.
قال أبو عيسى: حَديثُ شُقْرَانَ حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وَرَوَى عَلِيّ بْنُ المَدِيِنِيّ عنْ عُثْمَانَ بْنِ فَرْقَدٍ هذا الحَدِيثَ.
ـــــــ
قيل اسمه صالح شهد بدراً وهو مملوك ثم عتق. قال الحافظ أظنه مات في خلافة عثمان. قال النووي في شرح مسلم هذه القطيفة ألقاها شقران وقال كرهت أن يلبسها أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نص الشافعي وجميع أصحابنا وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة أو نحو ذلك تحت الميت في القبر، وشذ عنهم البغوي من أصحابنا فقال في كتابه التهذيب: لا بأس بذلك لهذا الحديث. والصواب كراهته كما قاله الجمهور. وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك ولم يوافقه غيره من الصحابة ولا علموا ذلك وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها ويفترشها فلم تطب نفس شقران أن يتبذلها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وخالفه غيره فروى البيهقي عن ابن عباس أنه كره أن يجعل تحت الميت ثوب في قبره، انتهى كلام النووي. "وأخبرني بن أبي رافع قال: سمعت شقران يقول أنا والله طرحت القطيفة الخ" وروى ابن إسحاق في المغازي، والحاكم في الإكليل من طريقه. والبيهقي عنه من طريق ابن عباس، قال: كان شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته أخذ قطيفة قد كان يلبسها ويفترشها فدفنها معه في القبر، وقال والله لا يلبسها أحد بعدك فدفنت معه. وروى الواقدي عن علي بن حسين أنهم أخرجوها وبذلك جزم ابن عبد البر كذا في التلخيص.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه الترمذي في هذا الباب ومسلم وغيره "حديث شقران حديث حسن غريب" ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه.(4/148)
1053 ـ حدثنا محمدُ بْنُ بَشّارٍ. حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عنْ شُعْبَة، عنْ أبي حمْرَةَ، عنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: جُعِلَ في قَبْرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ رَوَى شُعْبَة عنْ أبي حَمْزَةَ القَصّاب، واسْمُهُ عمرُانُ بْنُ أبي عَطَاءٍ. وَرُوِيَ عَنْ أبي جَمْرَةَ الضبَعِيّ. واسْمُهُ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ، وكِلاهُمَا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبّاسٍ.
وقَدْ رُويَ عن ابن عَبّاسٍ: أَنّهُ كَرِهَ أَنْ يُلْقَى تَحْتَ المَيّتِ في القَبْرِ شَيْءٌ. وَإِلَى هذا ذَهَبَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ.
قال: وقالَ مُحّمدُ بنُ بَشّارٍ في مَوْضِعْ آخَرَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بنُ جَعْفَرٍ ويَحْيَى عنْ شُعْبَةَ عن أبي جَمْرَةَ عنْ ابنِ عَبّاسٍ وهذَا أَصَحّ.
ـــــــ
قوله: "اخبرنا يحيى بن سعيد" هو القطان "عن أبي جمرة" بفتح الجيم وسكون الميم "قال جعل" بصيغة المجهول، والجاعل هو شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم والنسائي وابن حبان. قال الحافظ وروى ابن أبي شيبة وأبو داود في المراسيل عن الحسن نحوه وزاد: لأن المدينة أرض سبخة وذكرا بن عبد البر أن تلك القطيفة استخرجت قبل أن يهال التراب انتهى. وقال الحافظ العراقي في ألفيته في السيرة: وفرشت في قبره قطيفة وقيل أخرجت وهذا أثبت.
قوله: "وقد روى شعبة عن أبي حمزة القصاب" بالحاء المهملة والزاي والقصاب بمعنى بائع القصب "واسمه عمران بن أبي عطاء" الواسطي روى عن ابن عباس وأنس وغيرهما وعنه شعبة والثوري وغيرهما ثقة له في مسلم حديث ابن عباس: لا أشبع الله بطنه. وليس له حديث في جامع الترمذي "وروى" أي شعبة "عن أبي جمرة" بفتح الجيم وسكون الراء المهملة "الضبعى" بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة بعدها مهملة "واسمه نصر بن عمران" البصري نزيل خراسان مشهور بكنيته، ثقة ثبت من الثالثة. قوله: "وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم" وذهب الجمهور إلى الكراهة وقولهم هو الراجح وتقدم الجواب عن حديث الباب والله تعالى أعلم قوله: "حدثنا محمد بن جعفر ويحيى عن شعبة عن أبي جمرة" بالجيم لا غير وليس لأبي حمزة القصاب حديث في الترمذي.(4/149)
باب ماجاء في تسوية القبر
...
55 ـ باب ما جَاءَ في تَسْوِيَةِ القَبْر
1054 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِيَ. حدثنا سُفْيَانُ عن حَبِيبِ بنِ أبي ثَابِتٍ، عنْ أبي وَائِلٍ، أَنّ عَليَا قالَ لأَبِي الهَيّاجِ الأسَدِيّ: أبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي به النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنْ لاَ تَدَع قَبْراً مُشْرِفاً إلاّ سَوّيْتَهُ، ولاَ تِمْثَالاً إلاّ طَمَسْتَهُ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في تَسْوِيَةِ القَبْر
قوله: "قال لأبي الهياج" بتشديد التحتية "الأسدي بفتح السين ويسكن "أبعثك على ما أبعثني" أي أرسلك للأمر الذي أرسلني وإنما ذكر تعديته بحرف على، لما في البعث من معنى الاستعلاء والتأمير أي أجعلك أميراً على ذلك كما امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله القاري. "أن لا تدع" أن مصدرية ولا نافية خبر مبتدأ محذوف أي هو "أن لا تدع" وقيل أن تفسيرية ولا ناهية أي لا تترك "قبرأ مشرفاً" قال القاري: هو الذي بنى عليه حتى ارتفع دون الذي أعلم عليه بالرمل والحصباء أو محسومة بالحجارة ليعرف ولا يوطأ "إلا سويته" في الأزهار قال العلماء: يستحب أن يرفع القبر قدر شبر، ويكره فوق ذلك، ويستحب الهدم. ففي قدره خلاف. قيل إلى الأرض تغليظاً وهذا أقرب إلى اللفظ، أي لفظ الحديث من التسوية. وقال ابن الهمام: هذا الحديث محمول على من كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء العالي وليس مرادنا ذلك بتسنيم القبر، بل بقدر ما يبدو من الأرض ويتميز عنها كذا في المرقاة. وقال الشوكاني في النيل: قوله ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. فيه أن السنة أن القبر لا يرفع رفعاً كثيراً من غير فرق بين من كان فاضلاً ومن كان غير فاضل. والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم. وقد صرح بذلك أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك. ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أولياً، القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضاً هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم(4/150)
وفي البابِ عَنْ جَابِرٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَلِي حديثٌ حسنٌ، والعملُ على هذا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ، يَكْرَهُونَ أنْ يُرْفَعَ القَبرُ فَوْقَ الأرْضِ.
ـــــــ
فاعل ذلك. وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام. منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر، فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليه الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجابية تفعله بالأصنام إلا فعلوه. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالماً ولا متعلماً، ولا أميراً ولا وزيراً ولا ملكاً، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه، حلف بالله فاجراً، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكأ وأبي واعترف بالحق. وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة. فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكاره هذا الشرك البين واجباً؟
لقد أسمعت لو ناديت حياً
...
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضاءت
...
ولكن أنت تنفخ في الرماد
ولا تمثالاً" أي صورة "إلا طمسته" أو محوته وأبطلته.
قوله: "وفي الباب عن جابر" لينظر من أخرجه وفي الباب أيضاً عن فضالة بن عبيد أخرجه مسلم عن ثمامة بن شفى قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوى، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.(4/151)
قالَ الشافِعِيّ: أكْرَهُ أَن يُرْفَعَ الْقَبْرُ إِلاّ بِقَدْرِ مَا يُعْرَفُ أَنّهُ قَبْرٌ، لكَيْلا يُوطَأَ وَلاَ يُجْلَسَ عَلَيْهِ.
ـــــــ
قوله: "حديث علي حديث حسن" وأخرجه مسلم "قال الشافعي: أكره أن يرفع القبر إلا بقدر ما يعرف أنه قبر لكيلا يوطأ ولا يجلس عليه" قال النووي في شرح مسلم 213 ج 1 في شرح قوله يأمر بتسويتها: فيه إن السنة أن القبر لا يرفع على الأرض رفعاً كثيراً، ولا يسنم بل يرفع نحو شبر ويسطح، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه. ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء: أن الأفضل عندهم تسنيمها. وهو مذهب مالك انتهى كلام النووي. وأخرج البخاري في صحيحه عن سفيان التمار أنه حدثه أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما، قال الحافظ قوله مسنماً: أي مرتفعاً، زاد أبو نعيم في المستخرج: وقبر أبي بكر وعمر كذلك. واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور. وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية. وأدعى القاضي حسين انفاق الأصحاب عليه، وتعقب بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نص عليه الشافعي، وبه جزم الماوردي وآخرون. وقول سفيان التمار لا حجة فيه كما قال البيهقي لاحتمال أن قبره صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأول مسنماً، فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: دخلت على عائشة فقلت يا أمه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. زاد الحاكم: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدماً وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كان في خلافة معاوية فكأنها كانت في الأول مسطحة، ثم لما بنى جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك صيروها مرتفعة. وقد روى أبو بكر الاَجرى في كتاب صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من طريق إسحاق بن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند عن غنيم بن بسطام المديني قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعاً نحواً من أربع أصابع ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه.
ثم الاختلاف في ذلك في أيهما أفضل لا في أصل الجواز، ورجح المزني التسنيم من حيث المعنى بأن المسطح يشبه ما يصنع للجلوس بخلاف المسنم، ورجحه ابن قدامة بأنه يشبه أبنية أهل الدنيا وهو من شعار أهل البدع، فكأن التسنيم أولى. ويرجح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد: أنه مر بقبر فسوى ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها انتهى كلام الحافظ.(4/152)
باب في كراهية الوطء على القبور والجلوس عليها
...
56 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةَ المشي عَلَى الْقُبُورِ واَلجُلُوسِ عَلَيْهَا والصلاة إليها
1055 ـ حدثنا هَنّادٌ. حدثنا عبد الله بنُ المُبَارَكِ عنْ عَبْدِ الرّحمَنِ بنِ يَزيد بنِ جَابِرٍ، عنْ بُسْرِ بنِ عُبَيْدِ الله، عنْ أبي إِدْرِيسَ الخَوْلاَنِيّ، عنْ وَاثِلَةَ بنِ الأسقَعِ، عنْ أبي مَرْثَدٍ الْغَنَوِي قالَ: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُور ولاَ تُصَلّوا إِلَيْهَا".
وفي البابِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، وعَمْروِ بنِ حَزْمٍ، وبَشِيرِ بنِ الخَصَاصِيَةِ.
ـــــــ
باب ما جاء كراهية المشي على القبور والجلوس عليها والصلاة إليها وفي بعض النسخ باب في كراهية المشي على القبور الخ.
قوله: "عن بسر بن عبيد الله" بضم الموحدة وسكون السين "عن أبي مرثد" بفتح الميم وسكون الراء وفتح الثاء المثلثة "الغنوي" بفتحتين صحابي بدري مشهور بكنيته واسمه كناز بتشديد النون وآخره زاي معجمة "لا تجلسوا على القبور" فيه دليل على تحريم الجلوس على القبر وإليه ذهب الجمهور قاله الشوكاني. قال ابن الهمام: وكره الجلوس على القبر ووطؤه وحينئذ فما يصنعه الناس ممن دفنت أقاربه ثم دفنت حواليه خلق؟ من وطأ تلك القبور إلى أن يصل إلى قبر قريبه مكروه. ويكره النوم عند القبر، وقضاء الحاجة بل أولى. ويكره كل ما لم يعهد من السنة والمعهود منها ليس إلا زيارتها والدعاء عندها قائماً، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل في الخروج في البقيع انتهى "ولا تصلوا إليها" أي مستقبلين إليها قال القاري: وفي معناه بل أولى منه الجنازة الموضوعة وهو مما ابتلى به أهل مكة حيث يضعون الجنازة عند الكعبة ثم يستقبلون إليها.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الجماعة إلا البخاري والترمذي(4/153)
1056 ـ حدثنا مُحمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا عَبْدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي عنْ عبْدِ الله بْنِ المُبَارَكِ، بهذَا الإسْنَادِ، نحْوَهُ.
1057 ـ حدثنا علي بْنُ حُجْرٍ و أبُو عَمّارٍ قالاَ: أخبرنا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ عنْ عَبْدِ الرّحمَنِ بْنِ يَزِيدَ بنِ جَابِرٍ، عنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ الله، عنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأسْقَعِ، عنْ أبي مَرْثَدٍ الغنويّ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوَهُ ولَيْسَ فِيهِ "عنْ أَبي إدْرِيسَ" وهذا الصّحِيحُ.
قال أبو عيسى: قالَ مُحمّدٌ: وحديثُ ابْنِ المُبَارَكِ خَطَأٌ، أخْطَأ فِيهِ ابْنُ المُبَارك، وَزَادَ فِيهِ "عنْ أبي إِدْرِيسَ الخَوْلاَنِيّ" وإنّمَا هُوَ بُسْرُ
ـــــــ
مرفوعاً: لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر "وعمرو بن حزم" أخرجه أحمد بلفظ: قال، رآني النبي صلى الله عليه وسلم متكئاً على قبر فقال لا نؤذ صاحب هذا القبر أو لا نؤذه. قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح "وبشير بن الخصاصية" بفتح الموحدة وكسر الشين هو بشير بن معبد، وقيل ابن زيد بن معبد السدوسي المعروف بابن الخصاصية، بمعجمة مفتوحة وصادين مهملتين بعد الثانية تحتانية صحابي جليل، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجه بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يمشي في نعلين بين القبور، فقال يا صاحب السبتيتين ألقهما. سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات إلا خالد بن نمير فإنه يهم وأخرجه أيضاً الحاكم وصححه قاله الشوكاني في النيل. "فائدة" قال الشوكاني في النيل تحت حديث بشير هذا فيه دليل على أنه لا يجوز المشي بين القبور بالنعلين، ولا يختص عدم الجواز بكون سبتيتين لعدم الفارق بينها وبين غيرها. وقال ابن حزم: يجوز وطء القبور بالنعال التي ليست سبتية لحديث: أن الميت يسمع خفق نعالهم. وخص المنع بالسبتية، وجعل هذا جمعاً بين. الحديثين وهو وهم لأن سماع الميت لخفق النعال لا يستلزم أن يكون المشي على قبر أو بين القبور فلا معارضة انتهى كلام الشوكاني.
قوله: "قال محمد" هو الإمام البخاري "حديث ابن المبارك خطأ أخطأ فيه ابن المبارك وزاد فيه عن أبي إدريس الخولاني الخ" لقائل أن يقول: إن ابن المبارك(4/154)
بْنُ عُبَيْدِ الله عنْ وَاثِلَةَ، هَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عنْ عَبْدِ الرحمَنِ بنِ يَزِيدَ بنِ جَابِرٍ. ولَيْسَ فِيهِ "عنْ أبي إدْريس الخَوْلانِيّ". وبسربه عبيدالله قد سمع من واثلة بن الأسقع.
ـــــــ
ثقة حافظ فيمكن أن يكون الحديث عند بسر بن عبيد الله بالوجهين، أعني رواه أولاً عن وائلة بواسطة أبي إدريس ثم لقيه فرواه عنه من غير واسطة والله تعالى أعلم وحديث أبي مرثد هذا أخرجه مسلم.(4/155)
باب ماجاء في كراهية تخصيص القبور والكتابة عليها
...
57 ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ تَجْصِيِص الْقُبُور وَالْكِتَابَةِ علَيْهَا
1046 ـ حدثنا عَبْدُ الرحمَنِ بنُ الأسْوَدِ أَبُو عَمْروٍ الْبَصْرِيّ. حدثنا مُحمّدُ بْنُ رَبِيعَةَ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ،
عن أبي الزّبَيْرِ، عنْ جَابِرٍ قالَ: "نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ تُجَصّصَ الْقُبُورُ وأنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ تَجْصِيِص الْقُبُور وَالْكِتَابَةِ علَيْهَا
قوله: "نهى أن تجصص القبور" بصيغة المجهول وفي رواية لمسلم: نهى عن تقصيص القبور بالقاف والصادين المهملتين وهو بمعنى التجصيص والقصة هي الجص "وأن يكتب عليها" بالبناء للمفعول، قال أبو الطيب السندي في شرح الترمذي: يحتمل النهي عن الكتابة مطلقاً، ككتاب اسم صاحب القبر وتاريخ وفاته أو كتابة شيء من القرآن وأسماء الله تعالى ونحو ذلك للتبرك، لاحتمال أن يوطأ أو يسقط على الأرض فيصير تحت الأرجل. قال الحاكم بعد تخريج هذا الحديث في المستدرك: الإسناد صحيح وليس العمل عليه، فإن أئمة المسلمين من الشرق والغرب يكتبون على قبورهم، وهو شيء أخذه الخلف عن السلف وتعقبه الذهبي في مختصره بأنه محدث ولم يبلغهم النهي انتهى، قال الشوكاني في النيل: فيه تحريم الكتابة على القبور، وظاهره عدم الفرق بين كتابة اسم الميت على القبر وغيرها، وقد استثنت الهادوية رسم الاسم فجوزوه، لا على وجه الزخرفة، قياساً على وضعه صلى الله عليه وسلم الحجر على قبر عثمان كما تقدم، وهو من التخصيص بالقياس وقد قال به الجمهور، لا أنه قياس في مقابلة النص كما قال في ضوء النهار(4/155)
وأنْ يُبْنَى عَلَيْهَا، وأنْ تُوطَأَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيِح. قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَابِرٍ.
وَقَدْ رَخّصَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الحَسَنُ الْبَصرِي في تَطْيِينِ القُبُورِ.
وَقَالَ الشّافِعيّ: لاَ بَأْسَ أنْ يُطَيّنَ الْقَبْرُ.
ـــــــ
ولكن الشأن في صحة هذا القياس انتهى "وأن يبنى عليها" فيه دليل على تحريم البناء على القبر، وفصل الشافعي وأصحابه فقالوا: إن كان البناء في ملك الباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام. قال الشوكاني ولا دليل على هذا التفصيل. وقد قال الشافعي: رأيت الائمة بمكة يأمرون بهدم ما يبني ويدل على الهدم حديث علي رضي الله عنه انتهى.
قلت: الأمر كما قال الشوكاني وأراد بحديث علي رضي الله عنه حديثه الذي تقدم في باب تسوية القبر "وأن توطأ" أي بالأرجل لما فيه من الاستخفاف قال في الأزهار: والوطء لحاجة كزيارة ودفن ميت لا يكره. قال القاري في المرقاة: وفي وطئه للزيارة محل بحث انتهى. وفي رواية مسلم: وأن يقعد عليه، قال الشوكاني فيه دليل على تحريم القعود على القبر وإليه ذهب الجمهور. وقال مالك في الموطأ: المراد بالقعود الحدث. وقال النووي: وهذا تأويل ضعيف أو باطل، والصواب أو المراد بالقعود الجلوس، ومما يوضحه الرواية الواردة بلفظ: لا تجلسوا على القبور انتهى. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وفي لفظه: نهى أن يبني على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه.
قوله: "وقد رخص بعض أهل العلم منهم الحسن البصري في تطيين القبور الخ" جاء في تطيين القبور روايتان: ما روى أبو بكر النجار من طريق جعفر بن محمد عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره من الأرض شبراً وطين بطين الأحمر من العرصة ذكره الحافظ في التلخيص ص 165 وسكت عنها. والثانية ـ ما ذكر صاحب مسند الفردوس عن الحاكم أنه روى من طريق ابنمسعود مرفوعاً: لا يزال الميت يسمع الأذان ما لم يطين قبره. قال الحافظ في التلخيص ص 165 بعد ذكر هذه الرواية: إسناده باطل فإنه من رواية محمد بن القاسم الطايكاني وقد رموه بالوضع انتهى. واختلف الفقهاء الحنفية في تطيين القبور، قال سراج أحمد السرهندي في شرح الترمذي وفي البرجندي: وينبغي أن لا يجصص القبر، وأما تطيينه ففي الفتاوي المنصورية: لا بأس به خلافاً لما يقوله الكرخي إنه مكروه. وفي المضمرات المختار: أنه لا يكره انتهى. وقال في اللمعات في الخانية: تطيين القبور لا بأس به خلافاً لما قاله الكرخى انتهى. وقال الشوكاني في النيل: وحكى في البحر عن الهادي والقاسم أنه لابأس بالتطيين لئلا ينطمس. وبه قال الإمام يحيى وأبو حنيفة انتهى.(4/156)
باب مايقول الرجل إذا دخل المقابر
...
59 ـ باب مَا يَقُول الرّجُلُ إِذَا دَخَلَ المَقَابِر
1059 ـ حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حدثنا مُحَمّدُ بْنُ الصّلْتِ، عَنْ أبِي كُدَيْنَةَ، عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ضَبْيَانَ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ : مَرّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ
ـــــــ
باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر
جمع مقبرة قال في القاموس: المقبرة مثلثة الباء وكمكنسة موضع القبور.
قوله: "حدثنا أبو كريب" اسمه محمد بن العلاء بن كريب الهمداني الكوفي مشهور بكنيته ثقة حافظ، عن هشيم وابن المبارك وابن عيينة وخلق وعنه ع من العاشرة كذا في التقريب والخلاصة "حدثنا محمد بن الصلت" بن الحجاج الأسدي أبو جعفر الكوفي ثقة من كبار العاشرة "عن أبي كمدينة" بضم الكاف وفتح النون مصغرا اسمه يحيى بن الملهب الكوفي صدوق من السابعة "عن قابوس بن أبي ظبيان" بفتح المعجمة وسكون الموحدة بعدها تحتانية الكوفي فيه لين "عن أبيه" اسمه حصين بن جندب الجنبي ثقة من الثانية. قوله: "فأقبل عليهم" أي على أهل القبور "بوجهه" قال القاري في المرقاة: فيه دلالة على أن المستحب في حال السلام على الميت أن يكون وجهه لوجه الميت، وأن يستمر كذلك في الدعاء أيضاً، وعليه عمل عامة المسلمين خلافاً لما قاله ابن حجر من أن السنة عندنا أنه حالة الدعاء يستقبل القبلة، كما علم من الأحاديث في مطلق الدعاء انتهى. وفيه أن كثيراً(4/157)
فقَالَ "السّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ يَغْفِرُ الله لَنَا وَلَكُمْ. أنتمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالأْثَرِ".
وفي البابِ عَنْ بُرَيْدَةَ وعَائِشَةَ. حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ غَريبٌ.
وَأَبُو كُدَيْنَةَ اسْمُهُ يَحْيى بْنُ الْمُهَلّبِ. وَأَبُو ظَبْيَانَ اسمُهُ حُصَيْنُ بْنُ جُنْدُبٍ.
ـــــــ
من مواضع الدعاء ما وقع استقباله عليه الصلاة والسلام للقبلة منها ما نحن فيه، ومنها حالة الطواف والسعي ودخول الميت وخروجه، وحال الأكل والشرب وعيادة المريض، وأمثال ذلك فيتعين أن يقتصر الاستقبال وعدمه على المورد إن وجد، وإلا فخير المجالس ما استقبل القبلة كما ورد به الخبر انتهى كلام القاري. "أنتم سلفنا" بفتحتين في النهاية، هو من سلف المال كأنه أسلفه وجعله ثمناً للأجر على الصبر عليه، وقيل سلف الإنسان من تقدمه بالموت من الاَباء وذوي القرابة، ولذا سمي الصدر الأول من التابعين بالسلف الصالح انتهى "ونحن بالأثر" بفتحتين يعني تابعون لكم من ورائكم لاحقون بكم.
قوله: "وفي الباب عن بريدة" أخرجه مسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية " وعائشة" وأخرجه أيضاً مسلم بلفظ: قالت كيف أقول يا رسول الله، تعني في زيارة القبور. قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون.(4/158)
باب ماجاء في الرخصة في زيارة القبور
...
60 ـ باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ في زِيَارَةِ الْقُبُور
1060 ـ حدثنا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ وَ مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ وَ الحَسَنُ بْنُ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ في زِيَارَةِ الْقُبُور
قوله: "فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه" فيه دليل على جواز زيارة قبر القريب الذي لم يدرك الإسلام "فزوروها" الأمر للرخصة أو للاستحباب، وعليه الجمهور بل ادعى بعضهم الإجماع، بل حكى ابن عبد البر عن بعضهم وجوبها كذا(4/158)
عَلِيَ الخلالُ قَالُوا: حدثنا أَبُو عَاصِمٍ النّبِيلُ. أَخْبَرْنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيمانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ كنُتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمّدٍ في زِيَارَةِ قَبْرِ أُمّهِ. فَزُورُهَا، فَإِنّها تُذَكّرُ الاَخِرَةَ".
وفي البابِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ وابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ وَأبي هُرَيْرَةَ وَأُمّ سَلَمَةَ.
قال أبو عيسى: حَدِيث بُرَيْدَةَ حَدِيثُ حسنٌ صحيحٌ. والْعَمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. لاَ يَرَوْنَ بزِيَارَةِ الْقُبُورِ بَأْساً. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ وَإسْحَاقَ.
ـــــــ
في المرقات "فإنها تذكر الاَخرة" أي فإن القبور أو زيارتها تذكر الاَخرة.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد" لينظر من أخرجه "وابن مسعود" أخرجه ابن ماجه بلفظ: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الاَخرة " وأنس" أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم ولفظ الحاكم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترق القلوب وتدمع العين وتذكر الاَخرة " وأبي هريرة" أخرجه مسلم بلفظ قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت. " وأم سلمة رضي الله عنها" أخرجه الطبراني بسند حسن بلفظ: نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن لكم فيها عبرة. كذا في المرقاة. قوله: "حديث بريدة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم. قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم الخ" قال النووي تبعاً للعبدري والحازمي وغيرهما: اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة. قال الحافظ في الفتح: فيه نظر لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين وإبراهيم والشعبي الكراهة مطلقاً، فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ، ومقابل هذا القول ابن حزم: أن زيارة القبور واجبة ولو مرة واحدة في العمر لورود الأمر به انتهى.(4/159)
باب ماجاء في كراهية زيارة القبور للنساء
...
61 ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلنّسَاء
1061 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا أَبُو عَوانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبي سَلَمَةَ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَوّارَاتِ الْقُبُورِ.
وفي البابِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وَحَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنّ هذَا كانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخّصَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ. فَلَمّا رَخّصَ دَخَلَ فِي رُخْصَتِهِ الرّجَالُ وَالنّسَاءُ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلنّسَاء
قوله: "لعن زوارات القبور" .. . قال القاري لعل المراد كثيرات الزيارة. وقال القرطبي هذا اللعن إنما هو المكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج، وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك، فقد يقال إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن، لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء انتهى. قال الشوكاني في النيل: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت" أما حديث ابن عباس فأخرجه الترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه.. . وابن حبان في صحيحه كلهم من رواية أبي صالح عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. كذا في الترغيب. قال الحافظ في التلخيص: أبو صالح هو مولى أم هانئ وهو ضعيف. وأما حديث حسان بن ثابت فأخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم.
قوله: "فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء" قال الحافظ بن حجر: وهو قول الأكثر ومحله ما إذا أمنت الفتنة. ويؤيد الجواز حديث أنس قال:(4/160)
وَقَالَ بَعضُهُمْ: إِنّمَا كُرِهَ زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلنّسَاءِ، لِقِلّةِ صَبْرِهِنّ وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنّ.
ـــــــ
مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتقي الله واصبري الخ". فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر وتقريره حجة. وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة رضي الله عنها فروى الحاكم من طريق ابن أبي مليكة أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن، فقيل لها: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالت نعم كان نهى ثم أمر بزيارتها انتهى. قلت ويؤيد الجواز ما رواه مسلم من حديث عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله، تعني إذا زارت القبور. قال: "قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين" الحديث "وقال بعضهم إنما كره" أي النبي صلى الله عليه وسلم وروى بصيغة المجهول قاله القاري، واستدل من قال بالكراهة بأحاديث الباب، وبالأحاديث التي وردت في تحريم اتباع الجنائز للنساء، كحديث أم عطية عند الشيخين: قالت نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا. وأجاب من قال بالجواز عن أحاديث الباب بأنها محمولة على زيارتهن لمحرم كالنوح وغيره. قال القاري في المرقاة بعد ذكر الأحاديث التي مرت في باب الرخصة في زيارة القبور ما لفظه: هذه الأحاديث بتعليلاتها تدل على أن النساء كالرجال في حكم الزيارة إذا زرن بالشروط المعتبرة في حقهن، وأما خبر: لعن الله زوارات القبور فمحمول على زيارتهن لمحرم كالنوح وغيره مما اعتدنه انتهى. وقد تقدم قول القرطبي أن اللعن في حديث الباب للمكثرات من الزيارة. وهذا هو الظاهر والله تعالى أعلم.(4/161)
باب ماجاء في الزيارة للقبور للنساء
...
62 ـ باب ما جاء في الزيارة للقبور للنساء
1062 ـ حدثنا الحسين بن حريث حدثنا عيسى بن يونس عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: تُوفيَ عبد الرحمَن بن أبي بكر بحُبشيّ قال: فحُمِلَ إلى مكة فدفن فيها.
ـــــــ
باب ما جاء في الزيارة للقبور للنساء
قوله: "توفي عبد الرحمن بن أبي بكر" الصديق وهو أخو عائشة رضي الله عنها "بالحبشى" في النهاية بضم الحاء وسكون الباء وكسر الشين وتشديد الياء،(4/161)
فلما قدِمت عائشة أتت قَبر عبد الرحمَن بن أبي بكر فقالت:
وَكُنّا كَنَدَمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً
...
مِنَ الدّهْرِ حَتّى قِيلَ: لَنْ يَتَصَدّعَا
فَلَمّا تَفَرّقْنَا كَأنّى وَمَالِكاً
...
لِطُولِ اجتماعٍ، لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعاً
ثم قالت: والله: لَوْ حَضَرتُكَ مَا دُفِنْتَ إلا حَيْثُ مُتّ. ولو شَهِدْتُكَ مَازُرتُكَ.
ـــــــ
موضع قريب من مكة. وقال الجوهري: جبل بأسفل مكة. وقال السيوطي: مكان بينه وبين مكة اثنا عشر ميلاً "فحمل" أي نقل من الحبشى "فلما قدمت عائشة" أي مكة "فقالت" أي منشدة مثيرة إلى أن طول الاجتماع في الدنيا بعد زواله يكون كأقصر زمن وأسرعه كما هو شأن الفاني جميعه "وكنا كندماني جذيمة" قال الشمني في شرح المغنى: هذا البيت لتميم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً الذي قتله خالد بن الوليد. وجذيمة بفتح الجيم وكسر الذال قال الطيبي: جذيمة هذا كان ملكاً بالعراق والجزيرة وضم إليه العرب وهو صاحب الزباء انتهى. وفي القاموس: الزباء ملكة الجزيرة وتعد من ملوك الطوائف، أي كنا كنديمي جذيمة وجليسيه، وهما مالك وعقيل كانا نديميه وجليسيه مدة أربعين سنة "حقبة" بالكسر أي مدة طويلة "حتى قيل لن يتصدعا" أي إلى أن قال الناس لن يتفرقا "فلما تفرقنا" أي بالموت "كأني ومالكاً" هو أخو الشاعر الميت "لطول اجتماع" قيل اللام بمعنى مع أو بعد كما في قوله تعالى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ومنه صوموا لرؤيته أي بعد رؤيته "لم نبت ليلة معاً" أي مجتمعين "ثم قالت" أي عائشة "لو حضرتك" أي وقت الدفن "ما دفنت" بصيغة المجهول "إلا حيث مت" أي منعتك أن تنقل من مكان إلى مكان بل دفنت حيث مت "ولو شهدتك" أي حضرت وفاتك "ما زرتك" قال الطيبي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور انتهى. ويرد عليه: أن عائشة كيف زارت مع النهي، وإن كانت لم تشهد وقت موته ودفنه؟ ويمكن أن يجاب عنه بأن النهي محمول على تكثير الزيارة لأنه صيغة مبالغة، ولذا قالت: لو شهدتك ما زرتك لأن التكرار ينبئ عن الإكثار، كذا في بعض الحواشي. وقد تقدم الكلام في زيارة القبور للنساء في الباب الذي قبله، ولم يحكم الترمذي على حديث الباب بشيء من الصحة والضعف، ورجاله ثقات إلا أن ابن جريج مدلس، ورواه عن عبد الله بن أبي مليكة بالعنعنة.(4/162)
باب ماجاء في الدفن بالليل
...
63 ـ باب مَا جَاءَ فِي الدّفْنِ بالّلْيل
1063 ـ حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَمْروٍ السّوّاقُ قَالاَ: حدثنا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ عَن الْمِنْهَالِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنِ الْحَجّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَطَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ قَبْراً لَيْلاً. فَأُسْرِجَ لَهُ سِرَاجٌ. فَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وقَالَ: رَحِمَكَ الله إِنْ كُنْتَ لأوّاهاً تَلاّءً لِلقُرْآنِ وَكَبّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعاً".
وفي البابِ عَنْ جَابِرٍ وَيَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ. وَهُوَ أَخُو زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ، أَكْبَرُ مِنْهُ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي الدّفْنِ بالّلْيل
قوله: "ومحمد بن عمرو السواق" بتشديد الواو "عن المنهال بن خليفة" الكوفي أبو قدامة ضعيف من السابعة قوله: "عن الحجاج بن أرطاة" بفتح الهمزة النخعي أبو أرطاة الكوفي القاضي صدوق كثير الخطأ والتدليس. قوله: "فأسرج" ماض مجهول "له" أي للميت أو للنبي صلى الله عليه وسلم "فأخذه" أي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الميت "من قبل القبلة" في الأزهار احتج أبو حنيفة بهذا الحديث على أن الميت يوضع في عرض القبر في جانب القبلة بحيث يكون مؤخر الجنازة إلى مؤخر القبر، ورأسه إلى رأسه، ثم يدخل الميت القبر. وقال الشافعي: والأكثرون يسل من قبل الرأس بأن يوضع رأس الجنازة على مؤخر القبر ثم يدخل الميت القبر انتهى "إن كنت" إن مخففة من المثقلة أي إنك كنت "لأواها" بتشديد الواو أي كثير التأوه من خشية الله. قال في النهاية: الأواه المتأوه المتضرع. وقيل هو الكثير البكاء أو الكثير الدعاء "تلاء" بتشديد اللام أي كثير التلاوة وقوله "وفي الباب عن جابر" أخرجه أبو داود بلفظ قال: رأى ناس ناراً في المقبرة فأتوها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، وإذا هو يقول ناولوني صاحبكم فإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري "ويزيد بن ثابت" لينظر من أخرجه.(4/163)
قال أبو عيسى: حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ إلى هذَا. وَقَالَ: يُدْخَلُ الْمَيّتُ الْقبرَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسَلّ سَلاّ.
ـــــــ
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن" قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية وأنكر عليه لأن مداره على الحجاج بن أرطاة وهو مدلس، ولم يذكر سماعاً قال ابن القطان ومنهال بن خليفة ضعفه ابن معين وقال البخاري رحمه الله: فيه نظر انتهى كلام الزيلعي.
قوله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا" وهو قول أبي حنيفة واستدل له بحديث الباب وقد عرفت أنه ضعيف. وبما أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمير بن سعيد أن علياً رضي الله عنه كبر على يزيد بن المكفف أربعاً، وأدخل من قبل القبلة. وبما أخرج هو أيضاً عن ابن الحنفية أنه ولي ابن عباس فكبر عليه أربعاً وأدخله من قبل القبلة "وقال بعضهم يسل سلا" أي يدخل الميت في القبر من قبل الرأس بأن يوضع رأس الجنازة على مؤخر القبر، ثم يدخل الميت القبر. وهو قول الشافعي وأحمد والأكثرين وهو الأقوى والأرجح دليلاً، واستدلوا بما أخرج أبو داود عن أبي إسحاق قال: أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد، فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر، وقال هذا من السنة. وهذا الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح قاله الشوكاني. وقال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر هذا الحديث: وأخرجه البيهقي، وقال إسناده صحيح. وهو كالمسند لقوله من السنة انتهى. وبما أخرج ابن شاهين في كتاب الجنائز عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل الميت من قبل رجليه ويسل سلا. قال الحافظ ابن حجر في الدراية: إسناده ضعيف ورواه ابن أبي شيبة بإسناده صحيح لكنه موقوف على أنس، انتهى. قلت قال الزيلعي في نصب الراية بعد ما ذكر حديث أنس المرفوع: وروى ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا عبد الأعلى عن خالد عن ابن سيرين قال كنت مع أنس رضي الله عنه في جنازة، فأمر بالميت فأدخل من قبل رجليه انتهى. حدثنا وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر أنه أدخل ميتاً من قبل رجليه انتهى وبما أخرج(4/164)
وَرَخّصَ أَكْثَرُ أهْلِ الْعِلْمِ فِي الدّفَنِ بِاللّيْلِ.
ـــــــ
ابن ماجه عن أبي رافع قال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً ورش على قبره ماء إنتهى. وفي سنده منذر بن علي وهو ضعيف.
فإن قلت ما أخرج أبو داود عن أبي إسحاق كيف يكون إسناده صحيحاً؟ وأبو إسحاق هذا هو السبيعي وكان قد اختلط في آخر في عمره ومع هذا قد كان مدلساً.
قلت: نعم لكن رواه عنه شعبة وهو لا يحمل عن شيوخه إلا صحيح حديثهم كما صرح به الحافظ ابن حجر في فتح الباري ص 051 ج 1 وقد تقرر أن رواية أبي إسحاق من طريق شعبة محمولة على السماع، وإن كانت معنعنة. قال الحافظ ابن حجر في طبقات المدلسين: قال البيهقي وروينا عن شعبة أنه قال: كفيتكم تدليس ثلاثة، الأعمش وأبي إسحاق وقتادة. قال الحافظ: فهذه قاعدة جيدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة، أنها إذا جاءت من طريق شعبة دلت على السماع ولو كانت معنعنة، انتهى. "ورخص أكثر أهل العلم في الدفن بالليل" لأحاديث الباب، وكرهه الحسن البصري، واستدل بحديث جابر رضي الله عنه وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن يقبر الرجل ليلاً حتى يصلى عليه. رواه مسلم. وأجيب عنه بأن الزجر منه صلى الله عليه وسلم إنما كان لترك الصلاة لا للدفن بالليل، أو لأجل أنهم كانوا يدفنون بالليل لرداءة الكفن. فالزجر إنما هو لما كان الدفن بالليل مظنة إساءة الكفن فإذا لم يقع تقصير في الصلاة على الميت، وتكفينه فلا بأس بالدفن ليلاً. وقد دفن النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً كما رواه أحمد عن عائشة وكذا دفن أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ليلاً وعلي رضي الله عنه دفن فاطمة ليلاً.(4/165)
باب ماجاء في الثناء الحسن على الميت
...
64 ـ باب ما جَاءَ في الثّنَاءِ الْحَسنِ عَلَى الْمَيّت
1064 ـ حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ. حدثنا يزِيدُ بْنُ هَارُونَ. أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "مُرّ عَلَى رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْراً. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الثّنَاءِ الْحَسنِ عَلَى الْمَيّت
قوله: "مُر" بصيغة المجهول "فأثنوا عليها خيراً" وفي رواية النضر بن أنس عن أبيه عند الحاكم قالوا: جنازة فلان كان يحب الله ورسوله ويعمل بطاعة الله(4/165)
وجَبَتْ ثمّ قَالَ: أنْتُمْ شُهَدَاءُ الله فِي الأرْضِ". وفي البابِ عَنْ عُمَرَ وَكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وأبِي هُرَيْرَةَ.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ.
1065 ـ حدثنا يَحْيَى بْنُ مُوسَى وَ هارُونُ بنُ عَبْدِ الله الْبزّار قَالاَ: حدثنا أبُو دَاوُدَ الطّيَالِسِيّ. حدثنا دَاوُدُ بنُ أبي الْفُرَاتِ. حدثنا عَبْدُ الله بنْ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِي الأسْوَدِ الدّيْلِيّ، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ. فَمَرّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْراً. فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ. فَقُلْتُ لِعُمَرَ: وَمَا وَجَبَتْ؟ قالَ: أَقُولُ كمَا قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاَثَةٌ إِلاّ وَجَبَتْ لهُ الْجَنّةُ" قَالَ
ـــــــ
ويسعى فيها "وجبت" أي الجنة كما في الحديث الاتي "أنتم شهداء الله في الأرض" أي المخاطبون بذلك من الصحابة، ومن كان على صفتهم من الإيمان. وحكى ابن التين: أن ذلك مخصوص بالصحابة لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم، والصواب أن ذلك يختص بالمتقيات والمتقين انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عمر" أخرجه البخاري والترمذي "وكعب بن عجرة" لينظر من أخرجه "وأبي هريرة" أخرجه أحمد وفي إسناده رجل لم يسم كذا في النيل. قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم "عن أبي الأسود الديلي" بكسر الدال وسكون التحتية ويقال الدؤلي بالضم بعدها همزة مفتوحة هو التابعي الكبير المشهور.
قوله: "ما من مسلم يشهد له ثلاثة إلا وجبت له الجنة" قال الداؤدي: المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفسقة لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ولا من بينه وبين الميت عداوة، لأن شهادة العدو لا تقبل. قال النووي: قال بعضهم معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل وكان ذلك مطابقاً للوافع، فهو من أهل الجنة. فإن كان غير مطابق فلا وكذا عكسه. قال والصحيح أنه على عمومه، وأن من مات منهم فألهم الله تعالى الناس الثناء عليه بخير، كان دليلاً على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة وهذا إلهام يستدل به على تعيينها، وبهذا تظهر فائدة الثناء انتهى. قال الحافظ ابن حجر(4/166)
قُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وإثْنَانِ. قَالَ: وَلَمْ نَسْأَلْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوَاحِدِ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَأَبُو الأسْوَدِ الدّيْلِيّ اسْمُهُ ظَالِمُ بنُ عَمْروِ بنِ سُفْيَانَ.
ـــــــ
وهذا في جانب الخير واضح، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان، والحاكم عن أنس مرفوعاً: ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً، إلا قال الله تعالى: قد قبلت قولكم، وغفرت له ما لا تعلمون. وأما جانب الشر فظاهر الحديث كذلك. لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره، وقد وقع في رواية النضر بن أنس عن أبيه عند الحاكم: إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المره من الخير والشر انتهى "قلنا واثنان" أي فحكم اثنين "قال واثنان" أي وكذلك اثنان وقيل هو عطف تلقين "ولم نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الواحد" قيل الحكمة في الاقتصار على الإثنين لأنهما نصاب الشهادة غالباً. وقال الزين بن المنير: إنما لم يسأل عمر عن الواحد استبعاداً منه أن يكتفي في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري.(4/167)
باب ماجاء في ثواب من قدم ولداً
...
65 ـ باب مَا جَاءَ في ثَوَابِ مَنْ قَدّمَ وَلَدا
1066 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ بنِ أَنَسٍ ح وحدثنا الأنْصَارِيّ. حدثنا مَعْنٌ. حدثنا مَالِكُ بنُ أنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمسيّبِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَمُوتُ لأحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسّهُ النّارُ، إِلاّ تَحِلّةَ الْقَسَمِ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الثّنَاءِ الْحَسنِ عَلَى الْمَيّت
أي مات ولده فصبر. قوله "فتمسه" بالنصب لأن الفعل المضارع ينصب بعد النفي بتقدير أن قاله الحافظ والعيني ولهما ههنا كلام مفيد "إلا تحلة القسم" بفتح المثناة فوق وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام أي ما ينحل به القسم وهو(4/167)
قال وفي البابِ عَنْ عُمَرَ وَمُعَاذٍ وَكَعْبِ بنِ مَالِكٍ وَعُتْبَةَ بنِ عَبْدٍ وَأُمّ سُلَيْمٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وأَبي ذَر وابنِ مَسْعُودٍ وأبي ثَعْلَبَةَ الأشْجَعِيّ وابنِ عَبّاسٍ وَعُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ وَأبي سَعِيدٍ وَقُرّةَ بنِ إِيَاسٍ الْمُزنِيّ.
قال وَأبْو ثَعْلَبَةَ الأشجعي لَهُ عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ وَاحِدٌ، هو هذَا الْحَدِيث، وَلَيْسَ هُوَ بِالخُشَنِيّ.
ـــــــ
اليمين وهو مصدر حلل اليمين أي كفرها. يقال حلل تحليلاً وتحله. وقال أهل اللغة يقال: فعلته تحلة القسم. أي قدر ما حللت به يميني ولم أبالغ. وقال الجزري في النهاية: قيل أراد بالقسم قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} تقول العرب ضربه تحليلاً، وضربه تعذيراً، إذا لم يبالغ في ضربه. وهذا مثل في القليل المفرط في القلة، وهو أن يباشر من الفعل الذي يقسم عليه المقدار الذي يبر به قسمه، مثل أن يحلف على النزول بمكان فلو وقع به وقعة خفيفة أجزأته، فتلك تحلة قسمه. فالمعنى: لا تمسه النار إلا مسة يسيرة مثل تحلة قسم الحالف، ويريد بتحلته الورود على النار والاجتياز بها. والتاء في التحلة زائدة انتهى ما في النهاية. وقال الحافظ في الفتح قالوا أي الجمهور المراد به قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها، ولكنه يدخلها مجتازاً، ولا يكون ذلك الجواز إلا قدر ما يحلل به الرجل يمينه. ويدل على ذلك ما وقع عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في آخر الحديث إلا تحلة القسم، يعني الورود. وذكر الحافظ روايات أخرى تدل على هذا فعليك أن ترجع إلى فتح الباري.
قوله: "وفي الباب عن عمر ومعاذ وكعب بن مالك الخ" وفي الباب أيضاً عن مطرف بن الشخير، وعبادة بن الصامت، وعلي بن أبي طالب، وأبي أمامة، وأبي موسى والحارث بن وقيش، وجابر بن سمرة وعمرو بن عبسة، ومعاوية ابن حيدة، وعبد الرحمن بن بشير، وزهير بن علقمة، وعثمان بن أبي العاص، وعبد الله بن الزبير، وابن النضر السلمى، وسفينة وحوشب بن طخمة، والحسحاس بن بكر، وعبد الله بن عمر، والزبير بن العوام، وبريدة وأبي سلمة راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي برزة الأسلمي، وعائشة أم المؤمنين، وحبيبة بنت سهل، وأم مبشر ورجل لم يسم رضي الله تعالى عنهم، وإن شئت تخريج أحاديث(4/168)
قال أبو عيسى: حَدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1067 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِي الْجَهْضَمِيّ. حدثنا إِسْحاقُ بنُ يُوسُفَ. حدثنا الْعَوّامُ بنُ حَوْشَبٍ عَنْ أبي مُحَمّدٍ مَوْلَى عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، عَنْ أبي عُبَيْدَةَ بنِ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَدّمَ ثَلاَثَةً لَمْ يَبْلغُوُا الحُلمَ كانُوا لَهُ حِصْناً حَصِيناً ".
قَالَ أبُو ذر: قَدّمْتُ اثْنَيْنِ. قَالَ: وَاثْنَيْنِ. فَقَالَ أُبَيّ بنُ كَعْبٍ سَيّدُ الْقُرّاءِ: قَدّمْتُ وَاحِداً؟ قَالَ: وَواحِداً. ولكِنْ إِنّمَا ذَاكَ عِنْدَ الصّدْمةِ اْلأُولَى".
ـــــــ
هؤلاء الصحابة فارجع إلى عمدة القاري ص 03 ج 4 "وأبو ثعلبة له عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد هذا الحديث" أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في معجمه الكبير من رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن عمر بن نبهان عنه قال : قلت يا رسول الله مات لي ولدان في الإسلام. فقال: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الجنة بفضل رحمته إياهما " وليس هو بالخشنى" بضم الخاء المعجمة وفتح الشين وكسر النون، يعني أن أبا ثعلبة الجشمى الذي روى الحديث المذكور آنفاً ليس هو بأبي ثعلبة الخشنى بل هما صحابيان، وأبو ثعلبة الخشنى صحابي مشهور اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً "وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "من قدم ثلاثة من الولد" أي من قدمهم بالصبر على موتهم قال القاري: الظاهر أن معناه من قدم صبر ثلاثة من الولد عند فقدهم واحتسب ثوابهم عند ربهم. أو المراد بالتقديم لازمه وهو التأخر أي الذنب أو البلوغ والظاهر أن هذا قيد للكمال، لأن الغالب أن يكون القلب عليه أرق والصبر عنهم أشق وشفاعتهم أرجى وأسبق "كانوا له حصناً حصيناً عن النار" أي حصاراً محكماً، وحاجراً مانعاً من النار "قدمت اثنين" أي فما حكمه "قال واثنين" أي وكذا من قدم اثنين "فقال أبي بن كعب سيد القراء" إنما قيل له سيد القراء لقوله صلى الله عليه(4/169)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غَرِيبٌ. وأبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ منْ أبيهِ.
1068 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِي الْجَهْضَمِيّ و أبُو الْخَطّابِ زِيَادُ بنُ يَحْيَى الْبَصْرِيّ قَالاَ: حدثنا عَبْدُ رَبّهِ بنُ بَارِقٍ الْحَنَفِيّ قَالَ: سَمِعْتُ جَدّي أبَا أُمّي سِمَاكَ بنَ الْوَلِيدِ الْحَنَفِيّ يُحَدّثُ أنّهُ سَمِعَ ابن عَبّاسٍ يُحدّثُ أنّهُ سَمِع رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ كانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمّتِي أدْخَلَهُ الله بِهِمَا الْجَنّةَ".
فَقَالتْ لَهُ عَائِشَةُ: فَمَنْ كانَ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمّتِكَ؟ قَالَ: "ومَنْ كانَ لَهُ فَرَطٌ، يَا مُوَفّقَةُ" قَالتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمّتِكَ؟ قَالَ: "فَأَنَا فَرَطُ أُمّتِي. لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي".
ـــــــ
وسلم أقرؤكم أبي "ولكن إنما ذلك عند الصدمة الأولى" أي يحصل ذلك بالصبر عند الصدمة الأولى.
قوله: "وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه" أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال اسمه عامر كوفي ثقة من كبار الثالثة، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه كذا في التقريب.
قوله: "أبا أمي" بدل من جدى يعني أنه سمع الحديث من جده الفاسد وهو أبو الأم.
قوله: "من كان له فرطان" بفتحتين أي ولدان لم يبلغا أوان الحلم بل ماتا قبله يقال فرط إذا تقدم وسبق فهو فارط، والفرط هنا الولد الذي مات قبله، فإنه يتقدم ويهيء لوالديه نزلا ومنزلاً في الجنة كما يتقدم فراط القافلة إلى المنازل، فيعدون لهم ما يحتاجون إليه من الماء والمرعى وغيرهما "من أمتي" بيان لمن "فمن كان له فرط" أي فما حكمه أو فهل له هذا الثواب "قال ومن كان له فرط" أي فكذلك "يا موفقة" أي في الخيرات وللأسئلة الواقعة موقعها شفقة على الأمة "فأنا فرط أمتي" أي سابقهم وإلى الجنة بالشفاعة سائقهم بل أنا أعظم من كل فرط فإن الأجر على قدر المشقة "لن يصابوا" أي أمتي "بمثلي" أي بمثل مصيبتي لهم فإن مصيبتي اشد عليهم من سائر المصائب(4/170)
باب ماجاء في الشهداء من هم
...
66 ـ باب مَا جَاءَ في الشُهَدَاءِ مَنْ هُم
1069 ـ حدثنا الأنْصَارِيّ حدثنا مَعنٌ. حدثنا مَالِكُ وحدثنا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَي، عَنْ أبي
صَالحٍ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ "أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَال: "الشّهَدَاءُ خَمْس: الْمَطْعُونُ والْمَبْطُونُ والْغَرِقُ وصَاحِبُ الْهَدْمِ والشهِيدُ في سَبيلِ الله".
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في الشُهَدَاءِ مَنْ هُم
قوله: "عن سمى" بضم السين وفتح الميم، مصغراً مولى أبي بكر بن عبد الرحمن المخزومي أبي عبد الله المدني ثقة من السادسة "الشهداء خمسة" جمع شهيد بمعنى فاعل لأنه يشهد مقامه قبل موته أو بمعنى مفعول لأن الملائكة تشهده أي تحضره مبشرة له، وقد ذكر الحافظ في سبب تسمية الشهيد شهيداً أقوالا أخرى واعلم أن الأحاديث قد اختلفت في عدد أسباب الشهادة. ففي بعضها خمسة، وفي بعضها سبعة، وفي بعضها أقل من ذلك. قال الحافظ الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك انتهى "المطعون" أي الذي ابتلى بالطاعون ومات به "والمبطون" أي الذي يموت بمرض البطن كالاستسقاء ونحوه، قال القرطبي: المراد بالبطن الاستسقاء أو الإسهال على قولين للعلماء "والغريق" أي الذي يموت من الغرق "وصاحب الهدم" بفتح الدال وتسكن أي الذي يموت تحت الهدم. قال في النهاية: الهدم بالتحريك البناء المهدوم فعل بمعنى المفعول، وبالسكون الفعل نفسه "والشهيد في سبيل الله" أي المقتول فيه. قال ابن الملك وإنما أخره لأنه من(4/171)
وفي البابِ عَنْ أنَسٍ وصَفْوَانَ بنِ أُمَيّةَ وجَابِرِ بنِ عَتِيكٍ وخَالِدِ بنِ عُرْفُطَةَ وسُلَيمانَ بنِ صُردٍ وأبي مُوسَى وعَائِشةَ.
قال أبو عيسى: حدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1070 ـ حدثنا عُبَيْدُ بنُ أسْبَاطِ بنِ مُحَمّدٍ القُرَشِيّ الْكُوفِيّ حدثنا أبِي. أخبرنا أبُو سِنَانٍ الشّيْبَانِيّ عَنْ أبي إسْحَاقَ السّبَيْعيّ، قالَ: قالَ سُلَيمانُ بنُ صُرَدٍ لِخَالِدِ بنِ عُرْفُطةَ "أوْ خَالدٌ لِسلَيمان" : أمَا سَمِعْتَ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعذّبْ في قَبْرِهِ"؟
ـــــــ
باب الترقي من الشهيد الحكمى إلى الحقيقي. واعلم أن الشهداء الحكمية كثيرة، وردت في أحاديث شهيرة، جمعها السيوطي في كراسة سماها "أبواب السعادة في أسباب الشهادة".
قوله: "وفي الباب عن أنس وصفوان بن أمية، وجابر بن عتيك، وخالد بن عرفطة، وسليمان بن صرد، وأبي موسى وعائشة" أما حديث أنس فأخرجه البخاري ومسلم عنه مرفوعاً: الطاعون شهادة لكل مسلم. وأما حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه فلينظر من أخرجه. وأما حديث جابر بن عتيك فأخرجه مالك وأبو داود والنسائي. وأما حديث خالد بن عرفطة وسليمان بن صرد فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث أبي موسى فلينظر من أخرجه وأما حديث عائشة فأخرجه البخاري.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
قوله: "حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي الكوفي" صدوق من الحادية عشرة "أخبرنا أبي" وهو أسباط بن محمد بن عبد الرحمن بن خالد القرشي مولاهم ثقة ضعف في الثورى من التاسعة "أخبرنا أبو سنان الشيباني" اسمه سعيد بن سنان البرجمى الأصغر الكوفي نزيل الري صدوق له أوهام من السادسة "قال قال سليمان بن صرد" بضم المهملة وفتح الراء، ابن الجون الخزاعي أبو مطرف الكوفي صحابي قتل بعين الوردة سنة خمس وستين "لخالد بن عرفطة" بضم العين المهملة وسكون الراء وضم الفاء القضاعي، صحابي استنابه سعد على الكوفه، مات سنة أربع وستين "أو خالد لسليمان" شك من الراوي. قوله: "من قتله بطنه"(4/172)
فَقَالَ أحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: نَعَمْ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غَرِيبُ في هذَا البابِ. وقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هذَا الْوَجْهِ.
ـــــــ
إسناده مجازي أي من مات من وجع بطنه وهو يحتمل الإسهال والاستسقاء والنفاس، وقيل من حفظ بطنه من الحرام والشبه فكأنه قتله بطنه، كذا في المرقاة. قلت والظاهر هو الأول "لم يعذب في قبره" لأنه لشدته كان كفارة لسيئته. وصح في مسلم: أن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين أي إلا حقوق الاَدميين.(4/173)
باب ماجاء في كراهية الفرار من الطاعون
...
67 ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الْفِرَارِ منَ الطّاعُون
1071 ـ حدثنا قتيْبَةُ. حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْروِ بنِ ديِنَارٍ، عَنْ عَامِرٍ بنِ سعْدٍ، عَنْ أُسَامَةَ بنِ
زَيْدٍ: أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الطّاعُونَ فقَالَ: "بَقِيّةُ رِجْزٍ أوْ عَذَابٍ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ. فإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا. وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَلَسْتمْ بِهَا فَلاَ تهْبِطُوا عَلَيْهَا".
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الْفِرَارِ منَ الطّاعُون
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد، قال ميرك: وأخرجه النسائي وابن حبان
قوله: "بقية رجز" بكسر الراء أي عذاب "أو عذاب" شك من الراوي "أرسل على طائفة من بني إسرائيل" قال الطيبي: هم الذين أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الباب سجداً فخالفوا، قال تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ} قال ابن الملك: فأرسل عليهم الطاعون فمات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفاً من شيوخهم وكبرائهم "فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها" قال ابن الملك: فإن العذاب لا يدفعه الفرار، وإنما يمنعه التوبة والاستغفار، قال الطيبي: فيه أنه لو خرج لحاجة فلا بأس "فلا تهبطوا عليها" بكسر الباء من باب ضرب يضرب، وفي رواية الشيخين: فلا تقدموا عليه والمراد بالهبوط هو القدوم، وعادة العرب أن يسموا الذهاب بالصعود والقدوم بالهبوط.(4/173)
وفي الْبَاب عنْ سَعْدٍ وخُزيْمَةَ بنِ ثَابِتٍ وعَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن سعد" أي ابن أبي وقاص أخرجه الطحاوي في شرح الآثار بلفظ: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تفروا منها، وإذا كان بأرض فلا تهبطوا عليها" "وخزيمة ابن ثابت" لينظر من أخرجه "وعبد الرحمن بن عوف" أخرجه الشيخان بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه". "وجابر" أخرجه أحمد بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه له أجر شهيد. قال الحافظ في فتح الباري: سنده صالح المتابعات. وقال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب: إسناده حسن. وقال الحافظ العراقي في المغنى عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج إحياء العلوم: إسناده ضعيف "وعائشة" أخرجه أحمد بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فناء أمتي بالطعن والطاعون". فقلت يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال غدة كغدة الإبل. المقيم فيها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف. قال الحافظ العراقي في المغني عن الأسفار: إسناده جيد. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: سنده حسن. وقال الزرقاني: رجاله ثقات. وأحاديث الباب كلها تدل على حرمة الخروج من أرض وقع بها الطاعون فراراً منه، وكذا الدخول في أرض وقع بها الطاعون. لأن الأصل في النهي التحريم. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة: الفار منها كالفار من الزحف. قال الحافظ في فتح الباري: ومنهم من قال النهي فيه للتنزيه فيكره ولا يحرم. وخالفهم جماعة فقالوا: يحرم الخروج منها لظاهر النهي الثابت في الأحاديث الماضية. وهذا هو الراجح عند الشافعية وغيرهم، ويؤيده ثبوت الوعيد على ذلك. فأخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة مرفوعاً في اثناء حديث بسند حسن: قلت يا رسول الله فما الطاعون؟ قال غدة كغدة الإبل، المقيم فيها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف انتهى. وقال النووي في شرح مسلم: وفي هذه الأحاديث منع القدوم على بلدة الطاعون، ومنع الخروج فراراً من ذلك. أما الخروج(4/174)
قال أبو عيسى: حدِيثُ أُسَامَة بنِ زَيْدٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
لعارض فلا بأس. وهذا الذي ذكرنا هو مذهبنا ومذهب الجمهور، قال القاضي: هو قول الأكثرين حتى قالت عائشة: الفرار منه كالفرار من الزحف. قال ومنهم من جوز القدوم عليه والخروج منه فراراً. ثم قال: والصحيح ما قدمناه من النهي عن القدوم عليه والفرار منه لظاهر الأحاديث الصحيحة انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات: ضابطه دروهمين أست كه درانجا كه هست نبا يدر فت وازنجاكه باشد نبايد كريخت واكرحه كريختن در بعض مواضع مثل خانه كه دروى زلزله شده يا آتش كرفته يانشتن درزير ديو اريكه خم شده نزد غلبه ظن بهلاك امده است اما درباب طاعون جز صبرنيا مده وكريختن تجويز نيافته وقياس اين بران مواد فاسد است كه انها از قبيل اسباب عادية اندواين أو اسباب وهمي وبرهد تقدير كريختن ازانجا جائز نيست وهيج جاوارد نشده وهركه بكريز دعاصى ومرتكب كبيره ومردود است نسأل الله العافية انتهى. وقال الشيخ إسماعيل المهاجر الحنفي في تفسيره روح البيان: والفرار من الطاعون حرام، إلى أن وفي الحديث الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف. فهذا الخبر يدل على أن النهي عن الخروج للتحريم، وأنه من الكباتر انتهى. وقال الزرقاني في شرح الموطأ: والجمهور على أنه للتحريم حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب اللهعليها إن لم يعف انتهى. وقال في شرح المواهب: وخالفهم الأكثر وقالوا إنه للتحريم، حتى قال في شرح المواهب: وخالفهم الأكثر وقالوا إنه للتحريم، حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب عليها إن لم يعف، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون غدة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفار منه كالفار من الزحف". رواه أحمد برجال ثقات وروى الطبراني وأبو نعيم بإسناد حسن مرفوعاً: الطاعون شهادة لأمتي ووخز أعدائكم من الجن، غدة كغدة الإبل تخرج في الاَباط والمراق، من مات منه مات شهيداً، ومن أقام به كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كان كالفار من الزحف انتهى قلت والحق أن الخروج من أرض وقع فيها الطاعون فراراً منه حرام. وقد ألفت في هذه المسألة رسالة سميتها "خير الماعون في منع الفرار من الطاعون".
قوله: "حديث أسامة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.(4/175)
باب ماجاء فيمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
...
68 ـ باب مَا جَاءَ فِيمَنْ أَحَبّ لِقَاءَ الله أَحَبّ الله لِقَاءَه
1072 ـ حدثنا أَحْمَدُ بنُ مِقْدَامٍ، أبُو الأشْعَثِ العِجْلِيّ. حدثنا الْمُعْتَمِرُ بنُ سُلَيمانَ قالَ: سَمِعْتُ أبي
يُحَدّثُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ، عَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "مَنْ أَحَبّ لِقَاءَ الله أَحَبّ الله لِقَاءَهُ. ومَنْ كَرِهَ لِقَاءَ الله كَرِهَ الله لِقَاءَهُ".
وفي البابِ عَنْ أبي مُوسَى وأَبي هُرَيْرَةَ وعَائِشَةَ.
قال أبو عيسى: حدِيثُ عُبَادَةَ بنِ الصّامتِ حسنٌ صحيحٌ.
1073 ـ حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ. حدثنا خَالِدُ بنُ الْحَارِثِ. حدثنا سَعِيدُ بنُ أبي عَرُوبَةَ قال: وحدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ. وحدثنا مُحَمّدُ بنُ بكْرٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ أَبي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ أنهَا ذَكَرَتْ أنّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ أَحَبّ لِقَاءَ الله أَحَبّ الله لِقَاءَهُ. ومَنْ كَرِهَ لِقَاءَ الله كَرِهَ الله لِقَاءَهُ". قَالتْ: فَقلت: يَا رَسُولَ الله كُلّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ. قالَ: "لَيْسَ ذلِكَ. وَلكِنّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشّرَ بِرَحْمَةِ الله ورِضْوَانِهِ وَجَنّتِهِ، أَحَبّ ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِيمَنْ أَحَبّ لِقَاءَ الله أَحَبّ الله لِقَاءَه
قوله: "من أحب لقاء الله" قال الجزري في النهاية: المراد بلقاء الله المصير إلى الله أو الاَخرة، وطلب ما عند الله، وليس الغرض به الموت، لأن كلا يكرهه، فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله، ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله، لأنه إنما يصل إليه بالموت انتهى. قوله: "وفي الباب عن أبي موسى" أخرجه البخاري ومسلم "وأبي هريرة" أخرجه مسلم "وعائشة" أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.
قوله: "حديث عبادة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "ليس كذلك" أي ليس الأمر كما ظننت يا عائشة "ولكن المؤمن إذا بشر" أي عند النزع وحضور الملائكة ففي رواية البخاري: ولكن المؤمن(4/176)
لقاء الله، وأَحَبّ الله لِقَاءَهُ. وإنّ الْكافِرَ إِذَا بُشّرَ بِعَذَابِ الله وسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ الله وكَرِهَ الله لِقَاءَهُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
إذا حضره الموت بشر برضوان الله الخ. وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: وليس بالذي تذهب إليه ولكن إذا شخص البصر، وحشرج الصدر، واقشعر الجلد وتشنجت الأصابع، فعند ذلك من أحب لقاء الله الخ. قال النووي في شرح مسلم: وهذا الحديث يفسر آخره أوله، ويبين المراد بباقي الأحاديث المطلقة: من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله. ومعنى الحديث أن الكراهة المعتبرة هي التي تكون عند النزع في حالة لا تقبل توبته ولا غيرها، فحينئذ يبشر كل إنسان بما هو صائر إليه، وما أعد له، ويكشف له عن ذلك. فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا إلى ما أعد لهم، ويحب الله لقاءهم فيجزل لهم العطاء والكرامة، وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه، ويكره الله لقاءهم أي يبعدهم عن رحمته وكرامته، ولا يريد ذلك بهم. وهذا معنى كراهته سبحانه لقاءهم. وليس معنى الحديث أن سبب كراهة الله تعالى لقاءهم كراهتهم ذلك، ولا أن حبه لقاء الاَخرين حبهم ذلك. بل هو صفة لهم انتهى كلام النووي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه البخاري ومسلم.(4/177)
باب ماجاء فيمن يقتل نفسه لم يصل عليه
...
69 ـ باب مَا جَاءَ فِيمَنْ قتَلَ نَفْسَه
1074 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عِيَسى. حدثنا وَكِيعٌ. حدثنا إسْرَائِيلُ و شَرِيكٌ عَنْ سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِر بنِ سَمُرَةَ "أنّ رَجُلاً قَتَلَ نَفْسهُ. فَلَمْ يُصَلّ عَليْه النبيّ صلى الله عليه وسلم".
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِيمَنْ قتَلَ نَفْسَه
قوله: "أن رجلا قتل نفسه الخ" وفي رواية مسلم: أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه. وفي رواية النسائي: أن رجلاً قتل نفسه بمشاقص والمشاقص جمع شقص وهو سهم عريض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فلا أصلي عليه".(4/177)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في هذَا، فقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلّى عَلَى كلّ مَنْ صَلّى إِلَى الْقِبْلةِ، وَعَلى قَاتِلِ النّفْسِ. وَهُوَ قَوْلُ الثّوْرِيّ وَإِسْحَاقَ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري. قوله "فقال بعضهم يصلي على كل من صلى للقبلة وعلى قاتل النفس وهو قول سفيان الثورى وإسحاق" قال النووي في شرح مسلم تحت هذا الحديث ما لفظه: وفي هذا الحديث دليل لمن يقول: لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه. وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي. وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: يصلي عليه. وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه زجراً للناس عن مثل فعله، وصلت عليه الصحابة. وهذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر على من عليه دين زجراً لهم عن التساهل في الاستدانة، وعن إهمال وفائها، وأمر أصحابه بالصلاة عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "صلوا على صاحبكم". قال القاضي مذهب العلماء كافة: الصلاة على كل مسلم. ومحدود ومرجوم، وقاتل نفسه، وولد الزنا. وعن مالك وغيره: أن الإمام يجتنب الصلاة على مقتول في حد، وأن أهل الفضل لا يصلون على الفساق زجراً لهم. وعن الزهري: لا يصلى على مرجوم ويصلى على المقتول في قصاص. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصلى على محارب ولا على قتيل الفئة الباغية. وقال قتادة: لا يصلى على ولد الزنا. وعن الحسن: لا يصلى على النفساء تموت من زنا، ولا على ولدها. ومنع بعض السلف الصلاة على الطفل الصغير. واختلفوا في الصلاة على السقط فقال بها فقهاء المحدثين وبعض السلف: إذا مضى عليه أربعة أشهر. ومنعها جمهور الفقهاء حتى يستهل أو تعرف حياته بغير ذلك. وأما الشهيد المقتول في حرب الكفار فقال مالك والشافعي والجمهور: لا يغسل ولا يصلى عليه. وقال أبو حنيفة: يغسل ولا يصلى عليه. وعن الحسن: يغسل ويصلى عليه انتهى كلام النووي وقال الشوكاني في النيل: وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء إلى أنه يصلى على الفاسق. وأجابوا عن حديث جابر بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يصل عليه بنفسه زجراً للناس. وصلت عليه الصحابة. ويؤيد ذلك(4/178)
وقالَ أحْمَدُ: لاَ يُصَلّي الإمَامُ عَلَى قَاتِلِ النّفْسِ، ويُصَلّي عَلَيْهِ غَيْرُ الإمَامِ.
ـــــــ
ما عند النسائي: أما أنا فلا أصلي عليه انتهى. "وقال أحمد: لا يصلي الإمام على قاتل النفس ويصلي عليه غير الإمام" يدل عليه ما في رواية النسائي من قوله صلى الله عليه وسلم: أما أنا فلا أصلي عليه.(4/179)
باب ماجاء في المديون
...
70 ـ باب مَا جَاءَ في الصلاة على الْمَدْيُون
1075 ـ حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ. حدثنا أبو دَاوُدَ. حدثنا شُعْبَةُ عَنْ عُثْمانَ بنِ عَبْدِ الله بنِ مَوْهِبٍ. قالَ: سَمِعتُ عَبْدَ الله بنَ أبِي قَتَادَةَ يُحَدّثُ عَنْ أبِيهِ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلّي عَليْهِ. فقَال النبيّ صلى الله عليه وسلم: صَلّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. فإنّ عَليْهِ دَيْناً".
قالَ أبو قَتَادَةَ: هُوَ عَلَيّ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في الصلاة على الْمَدْيُون
قوله: "أتي" بصيغة المجهول "برجل" أي بجنازة رجل "صلوا على صاحبكم فإن عليه ديناً" قال القاضي وغيره: امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المديون إما للتحذير عن الدين، والزجر عن المماطلة، والتقصير في الأداء، أو كراهة أن يوقف دعاءه بسبب ما عليه من حقوق الناس ومظالمهم. وقال القاضي ابن العربي في العارضة: وامتناعه من الصلاة لمن ترك عليه ديناً تحذيراً عن التقحم في الديون لئلا تضيع أموال الناس، كما ترك الصلاة على العصاة زجراً عنها، حتى يجتنب خوفاً من العار، ومن حرمان صلاة الإمام وخيار المسلمين انتهى. "قال أبو قتادة وهو على الخ" فيه دليل على جواز الضمان عن الميت سواء ترك وفاء أو لم يترك. وهو قول أكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصح الضمان من حيث لم يخلف وفاء بالاتفاق لو ضمن عن حر معسر ديناً ثم مات من عليه الدين، كان الضمان بحاله. فلما لم يناف موت المعسر دوام الضمان لا ينافي ابتداءه. قال الطيبي والتمسك بالحديث أولى من هذا القياس ذكره القاري نقلاً عن شرح السنة ثم قال: وقال بعض علمائنا تمسك به أبو يوسف ومحمد ومالك(4/179)
فقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بالْوَفَاءِ"؟ قال: بِالوفَاءِ. فَصَلّى عَلَيْهِ.
وفي البابِ عَنْ جَابِرٍ وسَلَمَة بنِ الأكْوَعِ وَأسْماءَ بِنْتِ يَزِيدَ.
قال أبو عيسى: حدِيثُ أبي قَتَادَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
1076 ـ حَدّثَنِي أبُو الْفَضْلِ مَكْتُومُ بنُ الْعَبّاسِ الترمذي قالَ: حَدّثنا عَبْدُ الله بنُ صَالِحٍ، قال حَدّثَنِي الّليْثُ قال حدّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قال أَخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرّحْمَن عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أنّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يُؤتَى بِالرّجُلِ الْمُتَوفَى، عَلَيْهِ الدّيْنُ، فَيَقُولُ "هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟" فَإِنْ حُدّثَ أنّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلّى عَلَيْهِ. وَإِلاّ قالَ لِلْمُسْلِمينَ: "صَلّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ".
ـــــــ
والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى في إنه تصح الكفالة عن ميت لم يترك مالاً وعليه دين. فإنه لو لم تصح الكفالة لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تصح الكفالة عن ميت مفلس، لأن الكفالة عن الميت المفلس كفالة بدين ساقط والكفالة بالدين الساقط باطلة. والحديث يحتمل أن يكون إقراراً بكفالة سابقة، فإن لفظ الاقرار والانشاء في الكفالة سواء، ولا عموم لحكاية الفعل ويحتمل أن يكون وعداً لا كفالة. وكان امتناعه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه ليظهر له طريق قضاء ما عليه فلما ظهر صلى عليه صلى الله عليه وسلم انتهى. قلت والظاهر ما قال به أكثر أهل العلم والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن جابر وسلمة بن الأكوع وأسماء بنت يزيد" أما حديث جابر فأخرجه البخاري ومسلم، وأما حديث سلمة بن الأكوع فأخرجه البخاري وأما حديث أسماء بنت يزيد فأخرجه الطبراني كما في عمدة القاري. قوله: "حديث أبي قتادة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع وفيه قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلى دينه فصلى عليه.
قوله: "بالرجل المتوفي" أي بالميت "عليه دين" جملة حالية "فيقول" أي رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قضاء" أي ما يقضي به دينه "فإن حدث"(4/180)
فَلَمّا فَتَحَ الله عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قامَ فقَالَ: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. فَمنْ تُوُفّيَ مِنَ المسلمين فتَرَكَ دَيْناً، عَلَيّ قَضَاؤُهُ. وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الّليْثِ بنِ سَعْدٍ
ـــــــ
بصيغة المجهول أي أخبر "فلما فتح الله عليه الفتوح" أي الفتوحات المالية "قام" أي على المنبر "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" أي أولى في كل شيء من أمور الدين والدنيا، ولذا أطلق ولم يقيد، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر عليهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وكذلك شفقته صلى الله عليه وسلم عليهم أحق وأحرى من شفقتهم على أنفسهم فإذا حصلت له الغنيمة يكون هو أولى بقضاء دينهم كذا في المرقاة. قال المنذري في الترغيب: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يصلي على المدين، ثم نسخ ذلك وذكر هذا الحديث.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.(4/181)
باب ماجاء في عذاب القبر
...
71 ـ باب ما جَاءَ في عَذَابِ الْقَبْر
1077 ـ حدثنا أبُو سَلَمَةَ يَحْيى بنُ خَلَفٍ البَصْرِيّ حدثنا بِشْرُ بنُ الْمُفَضّلِ، عَنْ عَبْدِ الرحمَنِ بنِ إسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بنِ أبي سَعِيدٍ الْمَقْبُريّ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا قُبِرَ الْمَيّتُ "أوْ قالَ أَحَدُكُمْ" أتَاهُ مَلَكانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ. يُقَالُ لإحَدِهِما الْمُنْكَرُ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في عَذَابِ الْقَبْر
قوله: "إذا قبر الميت" بصيغة المجهول أي إذا أدخل في القبر ودفن "أو قال أحدكم" شك من الراوي أي أو قال أحدكم مكان لفظ الميت "أتاه ملكان أسودان أزرقان" بزاء فراء أي أزرقان أعينهما. زاد الطبراني في الأوسط من طريق أخرى عن أبي هريرة: أعينهما مثل قدور النحاس، وأنيابهما مثل(4/181)
وَالاَخَرُ النّكيرُ. فَيَقُولاَنِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ في هذَا الرّجُلِ؟ فَيَقُولُ مَا كانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ. أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولاَنِ: قَدْ كُنّا نَعْلَمُ أَنّكَ تَقُولُ هذَا. ثمّ
ـــــــ
صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرعد. ونحوه لعبد الرزاق من مرسل عمرو بن دينار وزاد: يحفران بأنيابهما ويطآن في أشعارهما، معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها. كذا في فتح الباري. "يقال لأحدهما المنكر" مفعول من أنكر بمعنى نكر، إذا لم يعرف أحداً "وللاَخر النكير" فعيل بمعنى مفعول من نكر بالكسر، إذا لم يعرفه أحد، فهما كلاهما ضد المعروف سميا بهما، لأن الميت لم يعرفهما ولم ير صورة مثل صورتهما. كذا في المرقاة. وقال الحافظ في الفتح: ذكر بعض الفقهاء أن اسم اللذين يسألان المذنب منكر ونكير، واسم اللذين يسألان المطيع مبشر وبشير "فيقولان ما كنت تقول" زاد في حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري ومسلم: فيقعدانه. وزاد حديث البراء: فتعاد روحه في جسده. وزاد ابن حبان من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه: فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه، والصوم عن شماله، وفعل المعروف من قبل رجليه، فيقال له اجلس فيجلس، وقد مثلت له الشمس عند الغروب. زاد ابن ماجه من حديث جابر: فيجلس فيمسح عينيه، ويقول دعوني أصلي. "في هذا الرجل" وفي حديث أنس عند البخاري: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد. ولأحمد من حديث عائشة: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ قال القسطلاني: عبر بذلك امتحاناً لئلا يتلقن تعظيمه عن عبارة القائل. قيل يكشف للميت حيث يرى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بشرى عظيمة للمؤمن إن صح ذلك. ولا نعلم حديثاً صحيحاً مروياً في ذلك والقائل به إنما استند لمجرد أن الإشارة لا تكون إلا للحاضر. لكن يحتمل أن تكون الإشارة لما في الذهن فيكون مجاز انتهى كلام القسطلاني "فيقول" أي الميت "ما كان يقول" أي قبل الموت "قد كنا نعلم أنك تقول هذا" أي الإقرار بالوحدانية والرسالة. وعلمهما بذلك إما بإخبار الله تعالى إياهما بذلك.(4/182)
يُفْسَحُ لَهُ في قَبْرِهِ سبْعُونَ ذرَاعاً في سَبْعِينَ. ثُمّ يُنَوّرُ لَهُ فِيهِ. ثُمّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ. فَيَقُولُ أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فأُخْبِرُهُمْ؟ فَيَقُولاَنِ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوس الّذِي لاَ يُوقِظُهُ إلا أَحَبّ أَهْلِهِ إلَيْهِ، حَتّى يَبْعَثَهُ الله مِنْ مَضْجَعِهِ ذلِكَ".
"وَإِنْ كانَ مُنَافِقاً قالَ: سَمِعْتُ النّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ. لاَ أدْرِي. فيَقُولاَنِ: قَدْ كُنّا نَعْلَمُ أنّكَ تَقُولُ ذلِكَ. فيُقَالُ لِلأرْضِ: الْتَئِمِي عَلَيْهِ. فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ. فَتَخْتَلِفُ فيها أضْلاَعُهُ. فَلاَ يَزَالُ فِيهَا مُعَذّباً
ـــــــ
أو بمشاهدتهما في جبينه أثر السعادة وشعاع نور الإيمان والعبادة. "لم يفسح" بصيغة المجهول أي يوسع "سبعون ذراعاً في سبعين" أي في عرض سبعين ذراعاً. يعني طوله وعرضه كذلك. قال الطيبي: أصله يفسح قبره مقدار سبعين ذراعاً فجعل القبر ظرفاً للسبعين، وأسند الفعل إلى السبعين مبالغة في السعة "ثم ينور له فيه" أي يجعل النور له في قبره الذي وسع عليه، وفي رواية ابن حبان: وينور له كالقمر ليلة البدر "نم" أمر من نام ينام "فيقول" أي الميت لعظيم ما رأى من السرور "أرجع إلى أهلي" أي أريد الرجوع كذا قيل. والأظهر أن الاستفهام مقدر قاله القاري. "فأخبرهم" أي بأن حالي طيب ولا حزن لي ليفرحوا بذلك "كنومة العروس" هو يطلق على الذكر والأنثى في أول اجتماعهما وقد يقال للذكر العريس "الذي لا يوقظه" الجملة صفة العروس وإنما شبه نومه بنومة العروس لأنه يكون في طيب العيش "إلا أحب أهله إليه" قال المظهر: عبارة عن عزته وتعظيمه عند أهله يأتيه غداة ليلة زفافه من هو أحب وأعطف فيوقظه على الرفق واللطف "حتى يبعثه الله" هذا ليس من مقول الملكين بل من كلامه صلى الله عليه وسلم، وحتى متعلق بمحذوف أي ينام طيب العيش حتى يبعثه الله "سمعت الناس يقولون" وفي بعض النسخ يقولون قولاً وكذلك في المشكاة والمراد بالقول: هو أن محمداً رسول الله "فقلت مثله" أي مثل قولهم "لا أدري" أي أنه نبي في الحقيقة أم لا، وهو استيناف أي ما شعرت غير ذلك القول، ويحتمل أن يكون في محل النصب على الحال "التأمي" أي انضمي واجتمحي "فيختلف أضلاعه" بفتح الهمزة جمع ضلع وهو عظم الجنب، أي تزول عن(4/183)
حتّى يَبْعَثَهُ الله مِنْ مَضْجَعِهِ ذلِكَ".
وفي البابِ عَنْ عَلِي وزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ وابنِ عَبّاسٍ والْبَراءِ بنِ عَازِبٍ وَأبي أيّوبَ وأنَسٍ وجَابِرٍ وعَائِشَةَ وأبي سَعِيدٍ. كُلّهُمْ رَوَوْا عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم في عَذَابِ الْقَبْرِ.
قال أبو عيسى: حدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ حدِيثٌ حسنٌ غريبٌ.
1078 ـ حدثنا هَنّادٌ. حدثنا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ نَافِعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ، قالَ: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ الْمَيّتُ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ. بالغداة والعشيّ فَإِنْ كانَ مِنْ أهْلِ الْجَنّةِ، فَمِنْ أهْلِ الْجَنّةِ. وإنْ
ـــــــ
الهيئة المستوية التي كانت عليها من شدة التئامها عليه وشدة الضغطة، وتجاوز جنبيه من كل جنب إلى جنب آخر "فلا يزال فيها" أي في الأرض أو في تلك الحالة قوله "وفي الباب عن علي رضي الله عنه" لم أقف عليه "وزيد بن ثابت" أخرجه مسلم "وابن عباس" لم أقف عليه "والبراء بن عازب" أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود. وأخرجه أحمد حديثه الطويل. وذكره صاحب المشكاة في باب ما يقال عند من حضره الموت. وصححه أبو عوانة وغيره كما صرح به الحافظ في التلخيص "وأبي أيوب" لم أقف عليه "وأنس" أخرجه البخاري ومسلم "وجابر" أخرجه أحمد وابن ماجه "وعائشة" أخرجه البخاري ومسلم "وأبي سعيد" أخرجه الدارمي والترمذي.
قوله: "عرض عليه مقعده" أي أظهر له مكانه الخاص من الجنة والنار، وزاد في رواية الصحيحين: بالغداة والعشي. قال القرطبي: يجوز أن يكون هذا العرض على الروح فقط، ويحوز أن يكون عليه مع جزء من البدن. قال: والمراد بالغداة والعشي وقتهما، وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء. قال وهذا في حق المؤمن والكافر واضح. فأما المؤمن المخلص فيحتمل في حقه أيضاً لأنه يدخل الجنة في الجملة. ثم هو مخصوص بغير الشهداء لأنهم أحياء وأرواحهم تسرح في الجنة. ويحتمل أن يقال: فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها. فإن فيه قدراً زائداً على ما هي فيه الاَن انتهى. "إن كان" أي الميت "من أهل الجنة فمن أهل الجنة"(4/184)
كانَ مِنْ أهْلِ النّارِ، فَمِنْ أهْلِ النّارِ، ثمّ يُقَالُ: هذَا مَقْعَدُكَ حَتّى يَبْعَثَكَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قال التوربشتي: التقدير. إن كان من أهل الجنة فمقعد من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه ووقع عند مسلم بلفظ: إن كان من أهل الجنة فالجنة. أي فالمعروض الجنة "هذا" أي المقعد المعروض عليك "مقعدك حتى يبعثك الله الخ" قال ابن التين معناه: أي لا تصل إليه إلى يوم البعث. قال الحافظ في الفتح في رواية مسلم عن يحي بن يحي عن مالك: حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة. قال ابن عبد البر: والمعنى حتى يبعثك الله إلى ذلك المقعد، ويحتمل أن يعود الضمير إلى الله، فإلى الله ترجع الأمور. والأول أظهر انتهى. ويؤيده رواية الزهرى عن سالم عن أبيه بلفظ: ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة. أخرجه مسلم انتهى كلام الحافظ.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
باب ما جاء في أجر من عزى مصاباً
العزاء الصبر، والتعزية حمله عليه. قوله: "حدثنا يوسف بن عيسى" بن دينار أبو يعقوب المروزي ثقة فاضل من العاشرة "أخبرنا علي بن عاصم" بن صهيب الواسطي التيمي صدوق يخطئ ويصر ورمى بالتشيع من التاسعة "أخبرنا والله محمد بن سوقة" بضم المهملة الغنوي أبو بكر الكوفي ثقة مرضي عابد من الخامسة. ولا حاجة إلى القسم ولعله لوجه اقتضاه عند التحديث. قوله: "من عزى مصاباً" أي ولو بغير موت بالمأتي لديه أو بالكتابة إليه بما يهون المصيبة عليه، ويحمله بالصبر بوعد الأجر أو بالدعاء له بنحو أعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقك الشكر "فله" أي فللمعزى "مثل أجره" أي نحو أجر المصاب على صبره(4/185)
باب ماجاء في أجر من عزى مصاباً
...
72 ـ باب مَا جَاءَ في أجْرِ مَنْ عَزّى مُصَابا
1067 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عِيسَى. حدثنا عَلِيّ بنُ عَاصِمٍ. قال: حدثنا، والله مُحّمدُ بنُ سُوقَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ "مَنْ عَزّى مُصَاباً فَلَهُ مِثْلُ أجْرِهِ".
ـــــــ
باب ما جاء في أجر من عزى مصابا ً
العزاء الصبر، والتعزية حمله عليه. قوله: "حدثنا يوسف بن عيسى" بن دينار أبو يعقوب المروزي ثقة فاضل من العاشرة "أخبرنا علي بن عاصم" بن صهيب الواسطي التيمي صدوق يخطئ ويصر ورمى بالتشيع من التاسعة "أخبرنا والله محمد بن سوقة" بضم المهملة الغنوي أبو بكر الكوفي ثقة مرضي عابد من الخامسة. ولا حاجة إلى القسم ولعله لوجه اقتضاه عند التحديث. قوله: "من عزى مصاباً" أي ولو بغير موت بالمأتي لديه أو بالكتابة إليه بما يهون المصيبة عليه، ويحمله بالصبر بوعد الأجر أو بالدعاء له بنحو أعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقك الشكر "فله" أي فللمعزى "مثل أجره" أي نحو أجر المصاب على صبره(4/185)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غَرِيبٌ. لاَ نَعْرِفُهُ مَرْفُوعاً إِلاّ مِنْ حدِيثِ عَلِيّ بنِ عَاصِمٍ.
ـــــــ
لأن الدال على الخير كفاعله. قوله: "هذا حديث غريب" والحديث أخرجه ابن ماجة. قال ميرك: ورواه البيهقي وفي سنده ضعف وقال السيوطي في قوت المغتذي: قال الحافظ صلاح الدين العلائي ومن خطه نقلت هذا الحديث. أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من طريق حماد بن الوليد عن سفيان الثوري عن محمد بن سوقة به. ومن طريق محمد بن عبيد الله العزرمي عن أبي الزبير عن جابر به. وتعلق عليه في الأول بحماد بن الوليد فقد قال فيه ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال ابن حبان يسرق الحديث، ويلزق بالثقات ما ليس من حديثهم، ثم ذكر له هذا الحديث. وأنه إنما يعرف من حديث علي بن عاصم، لا من حديث الثوري. وفي الثاني بالعزرمي فقد قال فيه النسائي ليس بثقة. قال العلائي: علي بن عاصم أحد الحفاظ المكثرين، ولكن له أوهام كثيرة تكلموا فيه بسببها، ومن جملتها هذا الحديث. وقد تابعه عليه عن محمد بن سوقة عبد الحليم بن منصور، لكنه ليس بشيء. قال فيه ابن معين والنسائي: متروك فكأنه سرقه من علي ابن عاصم. وقال الحافظ أبو بكر الخطيب كان أكثر كلامهم فيه، يعني علي بن عاصم بسبب هذا الحديث. وقد رواه إبراهيم بن مسلم الخوارزمي عن وكيع عن قيس بن الربيع عن محمد بن سوقة وإبراهيم بن مسلم هذا ذكره ابن حيان في الثقات ولم يتكلم فيه أحد، وقيس بن الربيع صدوق متكلم فيه لكن حديثه يؤيد رواية علي بن عاصم ويخرج به عن أن يكون ضعيفاً واهياً، فضلاً عن أن يكون موضوعاً. وقال يعقوب بن شيبة: هذا حديث كوفي منكر يرون أنه لا أصل له مسنداً ولا موقوفاً. وقد رواه أبو بكر النهشلي وهو صدوق ضعيف عن محمد بن سوقة قوله. قال العلائي: وهذه علة مؤثرة لكن يعقوب بن شيبة ما ظفر بمتابعة إبراهيم بن مسلم وقد روى ابن ماجه والبيهقي من طريق قيس بن عمارة مولى الأنصاري، وقد وثقه ابن حبان عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من عزى أخاه المؤمن من مصيبة كساه الله حلل الكرامة يوم القيامة". والظاهر أن في إسناده انقطاعاً انتهى كلام العلائي. قوله "لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث علي بن عاصم" قد عرفت في كلام العلائي المذكور آنفاً أنه رواه(4/186)
وَرَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ مُحّمدِ بن سُوقَةَ، بِهذَا الإسْنادِ، مِثْلَهُ مَوْقُوفاً، وَلمْ يَرْفَعْهُ.
وَيُقَالُ: أَكْثرُ مَا ابتُلِيَ بِهِ عَلِيّ بنُ عَاصِمٍ، بهذَا الْحَدِيثِ. نَقَمُوا عَلَيْهِ.
ـــــــ
إبراهيم بن مسلم الخوارزمي عن وكيع، عن قبس بن الربيع، عن محمد بن سوقة "موقوفاً" أي على عبد الله بن مسعود. قال القاري: لكن له حكم المرفوع ويعضده خبر ابن ماجه بسند حسن مرفوعاً: ما من مسلم يعزي أخاه بمصببة إلا كساء الله من حلل الكرامة يوم القيامة انتهى. قلت قد عرفت في كلام العلائي أن الظاهر أن في إسناده انقطاعاً "أكثر ما ابتلى به علي بن عاصم بهذا الحديث" يعني أن أكثر كلام المحدثين في علي بن عاصم بسبب هذا الحديث. قال يعقوب بن شيبة: هذا الحديث من أعظم ما أنكره الناس على علي بن عاصم وتكلموا فيه مع ما أنكر عليه سواه. كذا في تهذيب التهذيب "نقموا عليه" أي عابوا وأنكروا عليه(4/187)
باب ماجاء فيمن يموت يوم الجمعة
...
73 ـ باب مَا جَاءَ فِيمَنْ مات يَوْمَ الْجُمعة
1080 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ. حدثنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِي و أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيّ قالاَ: أخبرنا هِشَامُ بنُ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ أبي هِلاَلٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بنِ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْروٍ، قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمعَةِ إلا وَقَاهُ الله فِتْنَةَ الْقَبْرِ".
ـــــــ
باب ماجاء في من يموت يوم الجمعة
قوله: "وأبو عامر العقدي" بفتح المهملة والقاف اسمه عبد الملك بن عمرو القيسي، ثقة من التاسعة "عن ربيعة بن سيف" بن مانع الإسكندراني صدوق له مناكير من الرابعة. قوله: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة" الظاهر أن أو للتنويع لا للشك "إلا وقاه الله" أي حفظه "فتنة القبر" أي عذابه وسؤاله(4/187)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غَرِيبٌ. قال: وهذا حديث ليْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتصِلٍ. رَبِيعَةُ بنُ سَيْفٍ، إنما يرْوِيَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرّحْمنِ الحُبُلّي، عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْروٍ. وَلاَ نَعْرِفُ لِرَبِيعَةَ بنِ سَيْفٍ سَمَاعاً مِنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرو.
ـــــــ
وهو يحتمل الإطلاق، والتقييد والأول هو الأولى بالنسبة إلى فضل المولى. وهذا يدل على أن شرف الزمان له تأثير عظيم كما أن فضل المكان له أثر جسيم.
قوله: "ولا نعرف لربيعة بن سيف سماعاً من عبد الله بن عمرو" فالحديث ضعيف لانقطاعه، لكن له شواهد. قال الحافظ في فتح الباري بعد ذكر هذا الحديث في إسناده ضعف وأخرجه أبو يعلى من حديث أنس نحوه، وإسناده أضعف انتهى. وقال القاري في المرقاة: ذكره السيوطي في باب: من لا يسأل في القبر: وقال أخرجه أحمد والترمذي، وحسنه وابن أبي الدنيا عن ابن عمرو ثم قال: وأخرجه ابن وهب في جامعه، والبيهقي أيضاً من طريق آخر عنه بلفظ: إلا برئ من فتنة القبر. وأخرجه البيهقي أيضاً ثالثة عنه موقوفاً بلفظ وقي الفتان. قال القرطبي: هذه الأحاديث أي التي تدل على نفي سؤال القبر لا تعارض أحاديث السؤال السابقة. أي لا تعارضها بل تخصها، وتبين من لا يسأل في قبره ولا يفتن فيه، فمن يجري عليه السؤال ويقاسي تلك الأهوال. وهذا كله ليس فيه مدخل للقياس، ولا مجال للنظر فيه. وإنما فيه التسليم والانقياد لقول الصادق المصدوق. قال الحكيم الترمذي. ومن مات يوم الجمعة فقد انكشف له الغطاء عما له عند الله لأن يوم الجمعة لا تسجر فيه جهنم وتغلق أبوابها، ولا يعمل سلطان النار فيه ما يعمل في سائر الأيام، فإذا قبض الله عبداً من عبيده فوافق قبضه يوم الجمعة كان ذلك دليلاً لسعادته وحسن مآبه، وإنه لا يقبض في هذا اليوم إلا من كتب له السعادة عنده، فلذلك يقيه فتنة القبر، لأن سببها إنما هو تمييز المنافق من المؤمن، قلت: ومن تتمة ذلك أن من مات يوم الجمعة له أجر شهيد، فكان على قاعدة الشهداء في عدم السؤال. كما أخرجه أبو نعيم في الحلية عن جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء". وأخرج حميد في ترغيبه عن إياس ابن بكير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات يوم الجمعة كتب له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر". وأخرج من طريق ابن جريح عن عطاء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم أو مسلمة يموت في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقى عذاب القبر، وفتنة القبر ولقي الله ولا حساب عليه، وجاء يوم القيامة ومعه شهود يشهدون له أو طابع". وهذا الحديث لطيف صرح فيه بنفي الفتنة والعذاب معاً انتهى كلام السيوطي.(4/188)
باب ماجاء في تعجيل الجنازة
...
74 ـ باب مَا جَاءَ في تَعْجِيلِ الْجَنَازَة
1081 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ. حدثنا عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الله الْجُهَنِيّ، عَنْ محمّدِ بنِ عُمَرَ بنِ عَلِيّ بنِ أبي طَالِبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عَلِيّ بنِ أبي طَالِبٍ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لَهُ "يَا عَليّ ثَلاَثٌ لاَ تُؤَخّرْهَا: الصّلاَةُ إذَا آتَتْ. وَالْجَنَازَةُ إذَا حَضَرَتْ. وَالأيّمُ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في تَعْجِيلِ الْجَنَازَة
قوله: "عن سعيد بن عبد الله الجهني" قال العراقي: ليس له في الكتب ولا يعرف في هذا إلا هذا الحديث. ولا يعرف إلا برواية ابن وهب عنه. وقال فيه أبو حاتم مجهول وذكره ابن حبان في الثقات كذا في قوت المغتذي. قلت: وقال الحافظ في التقريب مقبول "عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب" صدوق من السادسة وروايته عن جده مرسلة كذا في التقريب "عن أبيه" أي عمر بن علي بن أبي طالب، ثقة من الثالثة، مات زمن الوليد وقيل قبل ذلك. قال الحافظ قوله "ثلاث" أي من المهمات وهو المسوغ للابتداء، والمعنى ثلاثة أشياء "الصلاة" بالرفع أي منها أو إحداها "إذا آنت" أي حانت، قال العراقي هو بمد الهمزة بعدها نون ومعناها إذا حضرت، هكذا ضبطناه في أصول سماعنا. قال: ووقع في روايتنا في مسند أحمد: إذا أتت بتاء مكررة وبالقصر، والأول أظهر كذا في قوت المغتذي "والجنازة إذا حضرت" قال القاري في المرقاة: قال الأشرف: فيه دليل على أن الصلاة على الجنازة لا تكره في الأوقات المكروهة. نقله الطيبي وهو كذلك عندنا أيضاً: إذا حضرت في تلك الأوقات من الطلوع والغروب والاستواء. وأما إذا حضرت قبلها، وصلى عليها في تلك الأوقات فمكروهة، وأما بعد الصبح وقبله وبعد العصر فلا تنكره مطلقاً انتهى "والأيم" بتشديد(4/189)
إِذَا وَجَدَتّ لَهَا كُفْؤاً".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غَرِيبٌ. وَمَا أَرَى إسْنَادَهُ بِمُتّصِلٍ.
ـــــــ
الياء المكسورة أي المرأة للعزبة ولو بكرا قاله القاري يعني التي لا زوج لها "إذا وجدت لها كفواً" الكفؤ المثل وفي النكاح: أن يكون الرجل مثل المرأة في الإسلام، والحرية، والصلاح، والنسب، وحسن الكسب، والعمل. قاله القاري. قوله: "هذا حديث غريب وما أرى إسناده متصلاً" وأخرجه ابن ماجه صفحة 108 والحاكم وابن حبان. قال ميرك: رجاله ثقات والظاهر أن إسناده متصل. قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر هذا الحديث عن جامع الترمذي ما لفظه: أخرجه الحاكم في المستدرك في النكاح وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه انتهى. إلا أني وجدته قال عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحى عوض سعيد بن عبد الله الجهني فلينظر انتهى.(4/190)
75 ـ باب آخَرُ فِي فَضْلِ التَعْزِيَة
1082 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ حَاتِمٍ الْمُؤدّبُ حدثنا يونُسُ بنُ مُحَمّدٍ قال: حَدّثَتْنَا أُمّ الأَسْوَدِ عَنْ مُنْيَةَ بنت عُبيْدِ بنِ أبي بَرْزَةَ، عَنْ جَدّها أبي بَرْزَةَ قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَزّى ثَكْلَى، كُسِيَ بُرْداً في الْجَنّةِ".
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وليس اسناده بالقويّ.
ـــــــ
باب آخَرُ فِي فَضْلِ التَعْزِيَة
قوله: "حدثتنا أم الأسود" الخزاعية ويقال الأسلمية ثقة من السابعة "عن منية" بضم الميم وبسكون النون بعدها تحتانية "ابنة عبيد" بالتصغير، قال الحافظ في التقريب: لا يعرف حالها من الرابعة قوله: "من عزى ثكلى" بفتح المثلثة مقصور المرأة التي فقدت ولدها "كسى" بصيغة المجهول أي ألبس "بردا" أي ثوباً عظيماً مكافأة على تعزيتها. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: لا يعزي المرأة الشابة إلا زوجها أو محرمها انتهى. قوله: "هذا حديث غريب وليس إسناده بالقوي" لأنه فيه منية بنت عبيد، وهي مجهولة كما عرفت(4/190)
باب ماجاء في رفع اليدين على الجنازة
...
76 ـ باب مَا جَاءَ في رَفْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْجَنَازَة
1083 ـ حدثنا الْقَاسِمُ بنُ دِينَارٍ الْكُوفِيّ. أخبرنا إسمَاعِيلُ بنُ أَبَانَ الوَرّاقُ عَنْ يَحْيَى بنِ يَعْلَى
الأسلمي، عَنْ أبي فَرْوَةَ يَزِيدَ بنِ سِنَانٍ عَنْ زَيْدٍ بن أبي أُنَيْسَةَ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَبّرَ عَلَى جَنَازَةٍ. فَرَفَعَ يَدَيْهِ في أوّلِ تَكبِيرَةٍ، وَوَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غَريبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هذَا الْوَجْهِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ في هذَا. فَرَأَى أَكْثَرُ أَهْلِ العْلِمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ، أنْ يَرْفَعَ الرّجُلُ يَدَيْهِ، في كُلّ تَكْبِيرَةٍ، عَلَى الجَنَازَةِ. وَهُوَ قَوْلُ ابنِ الْمُبَارَكِ والشّافِعِيّ وأحْمدَ وَإسْحَاقَ.
ـــــــ
باب ما جاء في رفع اليدين على الجنازة
قوله: "حدثنا القاسم بن دينار الكوفي" ثقة من الحادية عشرة "أخبرنا اسماعيل بن أبان الوراق" ثقة تكلم فيه للتشيع "عن يحي بن يعلى الأسلمي" الكوفي شيعي ضعيف من التاسعة "عن أبي فروة يزيد بن سنان" الرهاوي ضعيف من كبار السابعة "عن زيد بن أبي أنيسة" بالتصغير ثقة. قوله: "فرفع يديه في أول تكبيرة ووضع اليمنى على اليسرى" فيه دليل لمن قال برفع اليدين في التكبيرة الأولى دون التكبيرات الباقية والحديث ضعيف قوله: "هذا حديث غريب" وأعله ابن القطان في كتابه بأبي فروة ونقل تضعيفه عن أحمد والنسائي وابن معين والعقيلي قال: وفيه علة أخرى وهو أن يحي بن يعلى الراوي عن أبي فروة هو وأبو زكريا القطواني الأسلمي هكذا صرح به عند الدارقطني وهو ضعيف. قلت قال ابن حبان في أبي فروة كثير الخطأ لا يعجبني الاحتجاج به إذا وافق الثقات. فكيف إذا انفرد؟ وثم نقل عن ابن معين أنه قال: ليس بشيء كذا في نصب الراية قوله: "وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق" واستدل لهم بحديث ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا(4/191)
وقالَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ: لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلاّ في أوّلِ مَرّةٍ. وهُوَ قَوْلُ الثوْرِيّ وأهْلِ الْكُوفَةِ.
وذُكِرَ عَنِ ابنِ الْمُبَارَكِ أنّهُ قالَ "في الصّلاَةِ عَلَى الْجَنَازَةِ" : لاَ يَقْبِضُ يَمِينِهِ عَلَى شِمَالهِ.
وَرَأَى بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ أنْ يَقْبِضَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ كما يَفْعَلُ في الصّلاَةِ.
قال أبو عيسى: "يقبض" أَحَبّ إلَيّ.
ـــــــ
صلى على الجنازة رفع يديه في كل تكبيرة، وإذا انصرف سلم. أخرجه الدارقطني في علله عن عمر بن شيبة: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر فذكره وقال هكذا.. . رفعه عمر بن أبي شيبة. وخالفه جماعة فرووه عن يزيد بن هارون موقوفاً، وهو الصواب. ولم يرو البخاري في كتابه المفرد في رفع اليدين شيئاً في هذا الباب، إلا حديثاً موقوفاً على ابن عمر، وحديثاً موقوفاً على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. كذا في نصب الراية. قلت: لم أجد حديثاً مرفوعاً صحيحاً في هذا الباب قوله: "وقال بعض أهل العلم لا يرفع يديه إلا في أول مرة وهو قول الثوري وأهل الكوفة" واستدل لهم بحديث الباب وقد عرفت أنه ضعيف، واستدل لهم أيضاً بحديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه على الجنازة في أول تكبيرة ثم لا يعود. أخرجه الدارقطني في سننه عن الفضل بن السكن حدثنا هشام بن يوسف حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس فذكره وسكت عنه، لكن أعله العقيلي في كتابه بالفضل بن السكن وقال إنه مجهول. كذا في نصب الراية. قلت: قال الذهبي في الميزان: الفضل بن السكن الكوفي عن هشام بن يوسف لا يعرف وضعفه الدارقطني انتهى.(4/192)
باب ماجاء أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه
...
77 ـ باب ما جاء أن نَفْس الْمؤمنِ مُعَلّقَةٌ بِدَينِهِ حَتّى يُقْضَى عَنْهُ
1084 ـ حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ. أخبرنا أبُو أُسَامَةَ عَنْ زَكَرِيّا بنِ أبي زَائِدَةَ، عَنْ سَعْدِ بنِ
إبْرَاهِيمَ، عَنْ أبي سَلَمَةَ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتّى يُقْضَى عَنْهُ".
1073 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ بشّارٍ. أخبرنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِي. أخبرنا إبرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنْ أبِيه، عَنْ عُمَرَ بنِ أبي سَلَمةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قالَ: "نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتّى يُقْضَى عَنْهُ".
ـــــــ
باب ما جاء أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه
قوله: "نفس المؤمن معلقة" قال السيوطي أي محبوسة عن مقامها الكريم وقال العراقي أي أمرها موقوف لا حكم لها بنجاة ولا هلاك حتى ينظر هل يقضى ما عليها من الدين أم لا انتهى. وسواء ترك الميت وفاء أم لا كما صرح به جمهور أصحابنا، وشذ الماوردي فقال: إن الحديث محمول على من يخلف وفاء كذا في قوت المغتذي. وقال الشوكاني في النيل: فيه الحث للورثة على قضاء دين الميت، والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه. وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه. وأما من لا مال له ومات عازماً على القضاء، فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه، بل ثبت أن مجرد محبة المديون عند موته للقضاء موجبة لتولي الله سبحانه لقضاء دينه، وإن كان له مال ولم يقض منه الورثة. أخرج الطبراني عن أبي أمامة مرفوعاً: من دان بدين في نفسه وفاؤه، ومات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء. ومن دان بدين وليس في نفسه وفاؤه ومات، اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة. وأخرج أيضاً من حديث ابن عمر: الدين دينان. فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات ولا ينوي قضاءه فذلك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذ دينار ولا درهم. وأخرج أحمد(4/193)
ـــــــ
وأبو نعيم في الحلية والبزار والطبراني بلفظ: يدعى بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عز وجل فيقول: يا ابن آدم فيم أخذت هذا الدين؟ وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول: يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ولكن أتي على يدي إما حرق، وإما سرق وإما وضيعة. فيقول الله: صدق عبدي وأنا أحق من قضى عنك. فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه، فترجح حسناته على سيئاته فيدخل الجنة بفضل رحمته. هكذا ذكر الشوكاني هذه الأحاديث بغير الإسناد ولم يتكلم عليها بشيء من الصحة والضعف، ثم ذكر حديث أبي هريرة مرفوعاً: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله. أخرجه البخاري ثم ذكر حديث ميمونة: ما من مسلم يدان ديناً، يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أدى الله عنه في الدنيا والاَخرة. قال أخرج الحاكم بلفظ: من تداين بدين في نفسه وفاؤه ثم مات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء. ثم قال وقد ورد أيضاً ما يدل على أن من مات من المسلمين مديوناً فدينه على من إليه ولاية أمور المسلمين يقضيه عنه من بيت مالهم، وإن كان له مال كان لورثته. أخرج البخاري من حديث أبي هريرة: ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والاَخرة. اقرؤا إن شئتم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه في حديث آخر: من ترك مالا فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلى وعلى. وأنا أولى بالمؤمنين. قال الشوكاني وفي معنى ذلك عدة أحاديث ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قالها بعد أن كان يمتنع من الصلاة على المديون، فلما فتح الله عليه البلاد وكثرت الأموال صلى على من مات مديوناً. وقضى عنه وذلك مشعر من مات مديوناً استحق أن يقضي عنه دينه من بيت مال المسلمين. وهو أحد المصارف الثمانية فلا يسقط حقه بالموت. ودعوى من ادعى اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك ساقطة. وقياس الدلالة ينفي هذه الدعوى في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه". أخرجه أحمد وابن ماجه وسعيد بن منصور والبيهقي. وهم لا يقولون أن ميراث من لا وارث له مختص برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج الطبراني من حديث سلمان ما يدل على انتفاء(4/194)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. وَهُوُ أَصَحّ مِنَ الأوّلِ.
"آخر كتاب الجنائز"
ـــــــ
هذه الخصوصية المدعاة ولفظه: من ترك مالا فلورثته، ومن ترك ديناً فعلي، وعلى الولاة من بعدي من بيت المال. قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وابن ماجه قال الشوكاني: رجال إسناده ثقات إلا عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمَن وهو صدوق يخطئ انتهى.(4/195)
أبواب النكاح
باب ماجاء في فضل التزويج والحث عليه
...
أبواب النكاح
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 ـ باب مَا جَاءَ في فَضْل التزْوِيجِ وَالحَثّ عَلَيْه
1086 ـ حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكِيعٍ. حدثنا حَفْصُ بنُ غِيَاثِ، عَنِ الْحجّاجِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أبي
الشّمَالِ، عَنْ أبي أيّوبَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "أرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرسَلِينَ: الحَيَاءُ والتّعَطُر وَالسّواكُ وَالنّكَاحُ".
ـــــــ
أبواب النكاح
قال القاري في المرقاة: قيل هو مشترك بين الوطء والعقد اشتراكاً لفظياً. وقيل حقيقة في العقد مجاز في الوطء وقيل بقلبه وعليه مشائخنا انتهى. قلت: قال الحافظ في الفتح النكاح في اللغة الضم والتداخل. وفي الشرع حقيقة في العقد. مجاز في الوطء على الصحيح. والحجة في ذلك كثرة وروده في الكتاب والسنة للعقد. حتى قيل إنه لم يرد في القرآن إلا للعقد. قال: وقيل مقول بالاشتراك على كل منهما، وبه جزم الزجاجي وهذا الذي يترجح في نظري. وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد انتهى
"حدثنا حفص بن غياث" بكسر الغين المعجمة الكوفي القاضي ثقة فقيه تغير حفظه قليلاً في الاَخر "عن أبي الشمال" بن ضباب بكسر المعجمة وبموحدتين مجهول كذا في الخلاصة والتقريب. وقال في الميزان: حدث عنه مكحول بحديث: أربع من سنن المرسلين. لا يعرف إلا بهذا الحديث. قاله أبو زرعة قوله: "أربع" أي أربع خصال "من سنن المرسلين" أي فعلاً وقولاً. يعني التي فعلوها وحثوا عليها. وفيه تغليب. لأن بعضهم كعيسى ما ظهر منه الفعل في بعض الخصال وهو النكاح. قاله القاري في المرقاة. وقال المناوي في شرح الجامع الصغير، المراد أن الأربع من سنن غالب الرسل، فنوح لم يختتن وعيسى لم يتزوج انتهى. "الحياء" قال العراقي وقع في روايتنا(4/196)
وفي البابِ عَنْ عُثْمانَ وثَوْبَانَ وابنِ مَسْعُودِ وعَائِشَةَ وَعبْدِ الله بنِ عَمْروٍ وأبي نجج وجَابِرٍ وعَكّافٍ. حدِيثُ أبي أيّوبَ حديثٌ حسنٌ غَرِيبٌ.
ـــــــ
بفتح الحاء المهملة وبعدها ياء مثناة من تحت وصحفه بعضهم بكسر الحاء وتشديد النون، وقال ابن القيم في الهدى: روى في الجامع بالنون والياى أي الحناء والحياء، وسمعت أبا الحجاج الحافظ فيقول الصواب الختان وسقطت النون من الحاشية. كذلك رواه المحاملي عن شيخ الترمذي. كذا في قوت المغتذي وأورد الخطيب التبريزي هذا الحديث في المشكاة نقلاً عن الترمذي هكذا: أربع من سنن المرسلين الحياء ويروي الختان والتعطر الخ. قال القاري في المرقاة: قال الطيبي: اختصر المظهر كلام التوربشتي و قال: في الحياء ثلاث روايات بالحاء المهملة والياء التحتانية يعني به ما يقتضي الحياء من الدين، كستر العورة، والتنزه عما تأباه المروءة ويذمه الشرع من الفواحش وغيرها، لا الحياء الجبلي نفسه، فإنه مشترك بين الناس. وإنه خلق غريزي لا يدخل في جملة السنن، وثانيها: الختان بخاء معجمة وتاء فوقها نقطتان، وهي من سنة الأنبياء من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وثالثها: الحناء بالحاء المهملة والنون المشددة. وهذه الرواية غير صحيحة، ولعلها تصحيف لأنه يحرم على الرجال خضاب اليد والرجل تشبهاً بالنساء. وأما خضاب الشعر به فلم يكن قبل نبيناً صلى الله عليه وسلم، فلا يصح إسناده إلى المرسلين انتهى ما في المرقاة "والتعطر" أي استعمال العطر وهو الطيب.
قوله: "وفي الباب عن عثمان" بن عفان رضي الله عنه مرفوعاً: من كان منكم ذا طول فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لا، فالصوم له وجاء. و "وثوبان" أخرجه الترمذي والروياني ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعاً. كذا في التلخيص. "وابن مسعود" أخرجه الجماعة "وعن عائشة" أخرجه ابن ماجه بلفظ: النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني الحديث. وفي إسناده عيسى بن ميمون وهو ضعيف "وعبد الله بن عمرو" بن العاص أخرجه النسائي وابن ماجه والبيهقي بلفظ: إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كان فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كان إلى غير ذلك فقد هلك . "وجابر" أخرجه الجماعة بلفظ: إ ن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا جابر تزوجت بكراً(4/197)
حدثنا مَحْمُودُ بنُ خِدَاشٍ البغدادي. حدثنا عَبّادُ بنُ الْعَوّام، عنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أبي الشّمالِ، عَنْ أبي أيّوبَ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، نَحْوَ حدِيثِ حَفصٍ.
وَرَوَى هذَا الْحَديِثَ هُشَيمٌ ومُحَمّدُ بنُ يَزِيدَ الوَاسِطِيّ وأبُو مُعَاوِيَةَ وغَيْرُ وَاحِدً عنِ الْحَجّاجِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبي أيّوبَ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ "عَنْ أبي الشّمالِ" .
ـــــــ
أم ثيباً؟ قال ثيباً الحديث. وأخرج عبد الرزاق في الجامع عن جابر مرفوعاً: أيما شاب تزوج في حداثة سنه عج شيطانه عصم مني دينه " وعكاف" قال في القاموس. عكاف كشداد بن وداعة الصحابي انتهى. وقال الحافظ في تعجيل المنفعة: عكاف بن وداعة الهلالي، يقال ابن يسر التميمي، أخرج حديثه أبو علي بن السكن، والعقيلي، في الضعفاء والطبراني، في مسند الشاميين من طريق برد بن سنان عن مكحول عن غضيف بن الحارث عن عطية بن بسر المازني عن عكاف بن وداعة الهلالي، وأخرج أبو يعلى في مسنده وابن مندة في المعرفة من طريق بقية بن الوليد عن معاوية بن يحي عن سليمان بن موسى عن مكحول عن عضيف بن الحارث عن عطية بن بسر المازني قال: جاء عكاف بن وداعة الهلالي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عكاف ألك زوجة؟ قال: لا. قال: ولا جارية؟ قال: لا. قال: وأنت صحيح موسر؟ قال نعم الحمدلله، قال: فأنت إذن من إخوان الشياطين، إما أن تكون من رهبان النصارى، فأنت منهم وإما أن تكون منا فاصنع كما نصنع، فإن من سنتنا النكاح. شراركم عزابكم، ويحك يا عكاف، تزوج الحديث. ثم ذكر الحافظ طرقاً أخرى ثم قال: ولا يخلو طريق من طرقه من ضعف انتهى. قوله: "حديث أبي أيوب حديث حسن غريب" في تحسين الترمذي هذا الحديث نظر، فإنه قد تفرد به أبو الشمال، وقد عرفت أنه مجهول إلا أن يقال: إن الترمذي عرفه ولم يكن عنده مجهولا، أو يقال إنه حسنه لشواهده فروى نحوه عن غير أبي أيوب. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر حديث أبي أيوب هذا: رواه أحمد والترمذي، ورواه ابن أبي خيثمة وغيره من حديث مليح بن عبد الله عن أبيه عن جده نحوه. ورواه الطبراني من حديث ابن عباس انتهى.(4/198)
وحَدِيثُ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ وَعبّادِ بنِ الْعَوّامِ أصَحّ.
1087 ـ حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ. حدثنا أبُو أحْمَدَ الزبيري. حدثنا سُفْيَانُ عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونُحْنُ شَبَابٌ لاَ نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. فقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الشبَابِ عَليْكُمْ بِالْبَاءَةِ. فإنّهُ أغَضّ لِلْبَصَرِ وأحْصَنُ لِلْفَرْجِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَعَلَيْهِ بِالصّوْمِ. فإِنّ الصّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ".
ـــــــ
قوله: "ونحن شباب" على وزن سحاب جمع شاب، قال الأزهر لم يجمع فاعل على فعال غيره "لانقدر على شيء" أي من المال، وفي رواية البخاري: لا نجد شيئاً "يا معشر الشباب" المعشر جماعة يشملهم وصف وخصهم بالخطاب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح "وعليكم بالباءة" بالهمزة وتاء التأنيث ممدوداً. قال النووي فيها أربع لغات: الفصيحة المشهورة البآءة بالمد والهاء. والثانية الباءة بلا مد. والثالثة البآء بالمد بلا هاء. والرابعة الباهة بهائين بلا مد. وأصلها في اللغة الجماع مشتقة من المباءة وهي المنزل. ومنه مباءة الإبل وهي مواطنها. ثم قيل لعقد النكاح باءة لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً. قال واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد: أصحهما أن المراد معناه اللغوي وهو الجماع. فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج. ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه الصوم ليدفع شهوته. والقول الثاني: أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح سميت باسم ما يلازمها. والذي حمل القائلين بهذا قوله: ومن لم يستطع فعليه بالصوم. قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة على المؤن انتهى كلام النووي ملخصاً. "فإنه" أي التزوج "أغض للبصر" أي أخفض وأدفع لعين المتزوج عن الأجنبية من غض طرفه أي خفضه وكفه "وأحصن" أي أحفظ "للفرج" أي عن الوقوع في الحرام "فإن الصوم له وجاء" بكسر الواو وبالمد أي كسر لشهوته، وهو في الأصل رض الخصيتين(4/199)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
حدثنا الحَسَنُ بنُ عَلي الْخَلاّلُ. حدثنا عَبْدُ الله بنُ نُمَيْرٍ. حدثنا الأعْمَشُ عَنْ عمَارَةَ، نحْوَهُ. وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الأعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ، مِثْلَ هذَا. وَرَوَى أبُو مُعَاوِيةَ والْمُحَارِبيّ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، نَحْوَهُ.
ـــــــ
ودقهما لتضعف الفحولة. فالمعنى أن الصوم يقطع الشهوة ويدفع شر المنى كالوجاء قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وروى أبو معاوية والمحاربي عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله الخ" أخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه بهذا السند. وبالسند المتقدم كليهما. وإبراهيم هذا هو النخعي. والمحاربي هذا هو عبد الرحمَن بن محمد بن زياد أبو محمد الكوفي لا بأس به.
تنبيه: استدل بهذا الحديث بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة فلو كان الاستمناء مباحاً لكان الإرشاد إليه أسهل. وتعقب دعوى كونه أسهل لأن الترك أسهل من الفعل. وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء. وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة كذا في فتح الباري.
قلت: في الاستمناء ضرر عظيم على المستمنى بأي وجه كان. فالحق أن الاستمناء فعل حرام لا يجوز ارتكابه لا لغرض تسكين الشهوة. ولا لغرض آخر ومن أباحه لأجل التسكين فقد غفل غفلة شديدة ولم يتأمل فيما فيه من الضرر. هذا ما عندي والله تعالى أعلم.(4/200)
باب ماجاء عن النهي عن التبتل
...
2 ـ باب ما جَاءَ في النّهْيِ عَنِ التّبَتل
1088 ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلي الخَلاّلُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: أخبرنا
ـــــــ
باب ما جَاءَ في النّهْيِ عَنِ التّبَتل
هو في الأصل الانقطاع والمراد به هنا الانقطاع من النساء وترك التزوج.(4/200)
عَبْدُ الرّزّاقِ. أخبرنا مَعْمَرٌ عنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيّبِ، عن سَعْد بن أبي وَقّاصٍ قالَ: "رَدّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثمَانَ بنِ مَظْعُونٍ التّبَتّلَ. ولوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل" أي لم يأذن له حين استأذنه بل نهاه عنه. قال النووي: وهذا عند أصحابنا محمول على من تاقت نفسه ووجد مؤنه "ولو أذن له لاختصينا" أي لجعل كل منا نفسه خصياً كيلا يحتاج إلى النساء. قال الطيبي كان الظاهر أن يقول: ولو أذن له لتبتلنا. ولكنه عدل عن هذا الظاهر إلى قوله: لاختصينا لإرادة المبالغة. أي لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الاختصاء. ولم يرد به حقيقة الاختصاء لأنه حرام. وقيل بل هو على ظاهره، وكان ذلك قبل النهي عن الاختصاء. ويؤيده توارد استيذان جماعة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كأبي هريرة وابن مسعود وغيرهما كذا في فتح الباري. قال النووي وهذا محمول على أنهم كانوا يظنون جواز الاختصاء باجتهادهم، ولم يكن ظنهم هذا موافقاً فإن الاختصاء في الاَدمي حرام صغيراً كان أو كبيراً. قال البغوي: وكذا يحرم خصاء كل حيوان لا يؤكل، وأما المأكول فيجوز خصاؤه في صغره ويحرم في كبره انتهى. قلت يدل على عدم جواز خصاء البهائم مطلقاً صغيرة كانت أو كبيرة مأكولة كانت أو غير مأكولة ما أخرجه البزار قال الشوكاني في النيل بإسناد صحيح من حديث ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر الروح، وعن إخصاء البهائم نهياً شديداً. وأخرجه أيضاً البيهقي في سننه الكبرى. ويؤيد هذا الحديث مارواه أحمد والطحاوي بإسناد ضعيف عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخصاء الخيل والبهائم، ثم قال ابن عمر: فيها نماء الخلق قال الشوكاني في النيل تحت هذا الحديث فيه دليل على تحريم خصي الحيوانات. وقول ابن عمر: فيها نماء الخلق أي زيادته إشارة إلى أن الخصي تنمو به الحيوانات، ولكن ليس كل ما كان جالباً لنفع يكون حلالاً، بل لا بد من عدم المانع وإيلام الحيوان، ههنا مانع لأنه ايلام لم يأذن به الشارع بل نهى عنه انتهى كلام(4/201)
1089 ـ حدثنا أبُو هِشَامٍ الرّفَاعِيّ و زَيْدُ بنُ أَخْزَمَ الطائي و إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيم الصواف الْبَصْرِيّ، قَالُوا: حدثنا مُعَاذُ بنُ هِشَامٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهَى عَنِ التّبَتّلِ".
ـــــــ
الشوكاني. وقد استدل بعض الصحابة والتابعين على عدم جواز إخصاء البهائم بقوله تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} قال ابن عباس يعني بذلك خص الدواب وكذا روى عن ابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب وعكرمة وأبي عياض وقتادة وأبي صالح والثوري. وقد ورد في حديث النهي عن ذلك انتهى. وقيل المراد بتغيير خلق الله في هذه الأية تغيير دين الله ففي تفسير ابن كثير: وقال ابن عباس في رواية عنه ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي، والحسن وقتادة والحكم والسدى والضحاك وعطاء الخراساني: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} يعني دين الله عز وجل وهذا كقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} على قول من جعل ذلك أمراً أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس إلى فطرتهم انتهى.
قلت: لو تأملت وتدبرت في الاَيتين ظهر لك أن المراد بتغيير خلق الله في الاَية الأولى هو تغيير الصورة وأن المراد بتبديل خلق الله في الاَية الثانية هو تبديل دين الله. ويدل على أن المراد بتغيير خلق الله في الاَية الأولى هو تغيير الصورة ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود: قال لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن. المغيرات خلق الله الحديث. وقد استدل من قال بجواز إخصاء البهائم بما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوئين. قالوا: لو كان إخصاء الحيوان المأكول حراماً. لما ضحى بالكبش الموجوء البتة. وفي هذا الاستدلال نظر كما لا يخفى على المتأمل. وقد بسطت الكلام في هذه المسألة في رسالتي إرشاد الهائم إلى حكم إخصاء البهائم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "نهى عن التبتل" قال الجزري في النهاية: التبتل الانقطاع عن النساء.(4/202)
وَزَادَ زَيْد بنُ أَخْزَمَ في حَدِيثِهِ وَقَرَأَ قَتَادَةُ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجَاً وَذُرّيّةً}.
وفي البابِ عَنْ سَعْد وأَنَسِ بنِ مَالِكٍ وعَائِشَةَ وابنِ عَبّاسٍ.
حدِيثُ سَمُرَةَ حدِيثٌ حسنٌ غرِيبٌ. وَرَوَى الأشْعَثُ بنُ عَبْدِ المْلِكِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ. عَنْ سَعْدِ بنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. وَيُقَالُ: كِلاَ الْحَدِيِثَيْنِ صَحْيحٌ.
ـــــــ
وترك النكاح. وامرأة بتول منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم. وبها سميت مريم أم المسيح عليهما السلام. وسمت الفاطمة البتول لانقاعها عن نساء زمانها فضلاً وديناً وحسباً. وقيل لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى انتهى. قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ} الخ يعني أن النكاح من سنة المرسلين فلا ينبغي تركها أصلاً. وقد استدلت عائشة بهذه الاَية على منع التبتل روى النسائي عن سعد بن هشام: أنه دخل على أم المؤمنين عائشة قال قلت إني أريد أن أسألك عن التبتل فما ترين فيه؟ قالت فلا تفعل. أما سمعت الله عز وجل يقول "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية" فلا تبتل.
قوله: "وفي الباب عن سعد" بن أبي وقاص أخرجه الطبراني وفيه: أن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة. كذا في النيل "وأنس بن مالك" أخرجه أحمد بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهياً شديداً. ويقول تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة. وأخرجه أيضاً ابن حبان وصححه وذكره في مجمع الزوائد في موضعين، وحسن إسناده في أحدهما كذا في النيل "وعائشة" أخرجه النسائي بلفظ حديث الباب "وابن عباس" أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم والطبراني مرفوعاً بلفظ: لا صرورة في الإسلام. قال الحافظ في التلخيص: وهو من رواية عطاء عن عكرمة عنه. ولم يقع منسوباً فقال ابن طاهر هو ابن وزار وهو ضعيف لكن في رواية الطبراني ابن أبي الخوار وهو موثق انتهى.
قوله: "حديث سمرة حديث حسن غريب" فيه أن في سماع الحسن عن سمرة خلافاً مشهوراً.(4/203)
باب ماجاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه
...
3 ـ باب ما جاء اذا جاءكم مَنْ تَرْضَوْنَ دِينهُ فَزَوّجُوه
1090 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عَبْدُ الحَمِيدِ بنُ سُلَيمانَ عن ابنِ عَجْلاَنَ، عَنِ ابنِ وَثِيمَةَ النّصْرِيّ، عن
أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ، فَزَوّجُوهُ. إلاّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ وفَسَادٌ عرِيضٌ". وفي البابِ عَنْ أبي حَاتِم المُزَنِيّ وَعَائِشَةَ. حديثُ أبي هُرَيْرَةَ، قَدْ خُولِفَ عبْدُ الحَمِيدِ
ـــــــ
باب ما جاء اذا جاءكم مَنْ تَرْضَوْنَ دِينهُ فَزَوّجُوه
قوله: "حدثنا عبد الحميد بن سليمان" الخزاعي أبو عمر المدني نزيل بغداد ضعيف من الثامنة "عن ابن وثيمة" بفتح واو وكسر مثلثة وسكون ياه اسمه زفر الدمشقي مقبول من الثالثة قوله: "إذا خطب إليكم" أي طلب منكم أن تزوجوه امرأة من أولادكم وأقاربكم "من ترضون" أي تستحسنون "دينه" أي ديانته "وخلقه" أي معاشرته "فزوجوه" أي إياها "إلا تفعلوا" أي إن لم تزوجوا من ترضون دينه وخلقه وترغبوا في مجرد الحسب والجمال أو المال "وفساد عريض" أي ذو عرض أي كبير، وذلك لأنكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مال أو جاه، ربما يبقى أكثر نسائكم بلا أزواج، وأكثر رجالكم بلا نساء، فيكثر الافتتان بالزنا، وربما يلحق الأولياء عار فتهيج الفتن والفساد، ويترتب عليه قطع النسب وقلة الصلاح والعفة. قال الطيبي: وفي الحديث دليل لمالك، فإنه يقول لا يراعى في الكفاءة إلا الدين وحده. ومذهب الجمهور: أنه يراعى أربعة أشياء الدين والحرية والنسب والصنعة، فلا تزوج المسلمة من كافر، ولا الصالحة من فاسق، ولا الحرة من عبد، ولا المشهورة النسب من الخامل، ولا بنت تاجر أو من له حرفة طيبة ممن له حرفة خبيثة أو مكروهة، فإن رضيت المرأة أو وليها بغير كفء صح النكاح كذا في المرقاة.
قوله: "وفي الباب عن أبي حاتم المزني" أخرجه الترمذي "وعائشة" أي أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالماً وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى(4/204)
ابنُ سُلَيمانَ في هذا الحديثِ، فَرَوَاهُ اللّيْثُ بنُ سَعْدٍ عَنْ ابنِ عَجْلاَنَ. عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مُرْسَلاً. قالَ مُحَمّد: وحديثُ اللّيْثُ أشبَهُ. وَلَمْ يَعُدّ حديثَ عبْدِ الحَمِيدِ مَحْفُوظاً.
1091 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ عَمْوو السّواق البلخي حدثنا حَاتِمُ بنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ الله بنِ مُسْلِمِ بنِ هرْمُزَ، عَنْ مُحَمّدٍ وَسَعِيدِ ابْنٍى عبَيْدُ عَنْ أبي حَاتِمٍ المُزَنِيّ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوُهُ، إلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ وَفَسَادٌ".
قَالُوا يا رسولَ الله وَإنْ كانَ فيهِ؟
قالَ: "إذَا جَاءكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فأنْكحِوهُ "ثَلاَثَ مَرّاتٍ". هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وأبُو حاتم المُزَنيّ لَهُ صُحْبَةٌ. وَلاَ نَعْرِفُ لَهُ عَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هذَا الحدْيثَ.
ـــــــ
امرأة من الأنصار. وأخرجه البخاري والنسائي وأبو داود. قوله: "مرسلاً" أي منقطعاً بعدم ذكر ابن وثيمة قوله: "ولم يعد حديث عبد الحميد محفوظاً" لأنه ضعيف، وأما الليث بن سعد ثقة ثبت.
قوله: "وإن كان فيه" أي شيء من قلة المال أو عدم الكفاءة. قوله: "هذا حديث حسن غريب" في سنده عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف، إلا أنه قد تأيد بحديث أبي هريرة المذكور قبله. قوله: "وأبو حاتم المزني له صحة" وقيل لا صحبة له كذا في التقريب(4/205)
باب ماجاء في من تنكح على ثلاث خصال
...
4 ـ باب مَا جَاءَ أن المرأة تنْكَحُ عَلَى ثَلاَث خِصَال
1092 ـ حدثنا أَحْمَدُ بنُ مُحَمّدٍ بنِ مُوسَى. أخبرنا إسْحَاقُ بنُ يُوسُفَ الأزْرَقُ. أخبرنا عَبْدُ الْملكِبن أبي سليمان عَنْ عَطَاءِ، عَنْ جَابِرٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إنّ الْمَرْأةَ تُنْكَحُ عَلَى ديِنهَا ومَالِهَا وجَمَالِهَا. فَعَلَيْكَ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ أن المرأة تنْكَحُ عَلَى ثَلاَث خِصَال
قوله: "تنكح" بصيغة المجهول "على دينها" أي لأجل دينها فعلى بمعنى اللام لما في الصحيحين: تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها. الحديث(4/205)
بِذَاتِ الدّينِ. تَرِبَتْ يَدَاكَ".
وفي البابِ عَنْ عَوفِ بنِ مَالِكٍ وعَائِشَةَ وعَبْدِ الله بنِ عَمْرِو وأبي سَعِيدٍ. حديثُ جابرٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
فعليك بذات الدين" قال القاضي رحمه الله: من عادة الناس أن يرغبوا في النساء ويختاروها لإحدى الخصال، واللائق بذوى المروءات وأرباب الديانات أن يكون الدين مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون، لا سيما فيما يدوم أمره ويعظم خطره انتهى. وقد وقع في حديث عبد الله بن عمر وعند ابن ماجه والبزار والبيهقي رفعه: لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين. ولأمة سوداء ذات دين أفضل. "تربت يداك" قال الجزري في النهاية يقال ترب الرجل إذا افتقر أي لصق بالتراب وأترب إذا استغنى وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر به. قال وكثيراً ترد للعرب ألفاظاً ظاهرها الذم، وإنما يريدون بها المدح كقولهم: لا أب لك، ولا أم لك، ولا أرض لك. ونحو ذلك انتهى. قوله: "وفي الباب عن عوف بن مالك وعائشة" لينظر من أخرج حديثهما "وعبد الله بن عمرو" أخرجه ابن ماجه وتقدم لفظه وأخرجه أيضاً البزار والبيهقي "وأبي سعيد" أخرجه الحاكم وابن حبان بلفظ تنكح المرأة على إحدى ثلاث خصال: جمالها ودينها وخلقها فعليك بذات الدين والخلق. قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.(4/206)
باب ماجاء في النظر إلى المخطوبة
...
5 ـ باب مَا جَاءَ في النّظَرِ إِلى الْمَخْطوبَة
1093 ـ حدثنا أحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ. حدثنا ابنُ أبي زَائِدَةَ قال: حدّثَني عَاصِمٍ بنُ سُلَيمانَ "هو الأحول" عَنْ بَكْرِ بنِ عَبْدِ الله الْمُزْنّي، عَنِ الْمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ أَنّهُ خَطَبَ امْرَأَةً، فقَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنْظُرْ إِلَيْهَا فإِنّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا".
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في النّظَرِ إِلى الْمَخْطوبَة
قوله: "فإنه " أي النظر إليها "أحرى" أي أجدر وأولى والنسب "أن يؤدم بينكما"(4/206)
وفي البابِ عَنْ مُحَمّدِ بنِ مَسْلَمةَ وَجَابِرٍ وأَنَس وأبي حُميْدٍ وأبي هُرَيْرَةَ. هذا حديثٌ حسنٌ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلى هذَا الْحَدِيثِ، وَقالُوا: لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا مَا لَمْ يَرَ مِنْهَا مُحَرّماً. وهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ
ـــــــ
أي بأن يؤلف ويوفق بينكما، قال ابن الملك: يقال أدم الله بينكما يأدم أي أدما بالسكون أصلح وألف، وكذا آدم في الفائق الأدم والإيدام الإصلاح والتوفيق من أدم الطعام وهو إصلاحه بالإدام، وجعله موافقاً للطاعم. والتقدير يؤدم به. فالجار والمجرور أقيم مقام الفاعل ثم حذف أو نزل المتعدي منزلة اللازم، أي يوقع الأدم بينكما يعني يكون بينكما الألفة والمحبة، لأن تزوجها إذا كان بعد معرفة فلا يكون بعدها غالباً ندامة. وقيل بينكما نائب الفاعل كقوله تعالى {تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بالرفع كذا في المرقاة. قوله: "وفي الباب عن محمد بن مسلمة" قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها". أخرجه أحمد وابن ماجه. وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم وصححاه وسكت عنه الحافظ في التلخيص "وجابر " قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا خطب أحدكم المرأة فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل". أخرجه أحمد وأبو داود "وأنس" . أخرجه ابن حبان والدارقطني والحاكم وأبو عوانة وصححوه وهو مثل حديث المغيرة "وأبي حميد" أخرجه أحمد مرفوعاً: إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة، وإن كانت لا تعلم. وأخرجه أيضاً الطبراني والبزار، وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه، وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح "وأبي هريرة" قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنظرت إليها؟" قال لا. قال "فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً". أخرجه مسلم وأحمد والنسائي قوله: "هذا حديث حسن" أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن حبان وصححه. قوله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث وقالوا لا بأس أن ينظر إليها الخ" قال النووي في شرح مسلم تحت حديث أبي هريرة: فيه استحباب النظر إلى من يريد تزوجها. وهو مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة(4/207)
وإسْحَاقَ. ومَعْنَى قَوْلِهِ "أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا" قالَ: أَحْرَى أَنْ تَدُومَ الْمَوَدّةُ بَيْنَكُمَا.
ـــــــ
وسائر الكوفيين، وأحمد وجماهير العلماء. وحكى القاضي عن قوم كراهته، وهذا مخالف لصريح هذا الحديث ومخالف لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة. ثم إنه إنما يباح له النظر إلى وجهها وكفيها فقط لأنهما ليسا بعورة، ولأنه يستدل بالوجه على الجمال، وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها. هذا مذهبنا ومذهب الأكثرين، وقال الأوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم. وقال داود: ينظر إلى جميع بدنها. وهذا خطأ ظاهر تنابذ لأصول السنة والإجماع، ثم مذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور أنه لا يشترط في جواز النظر رضاها بل له ذلك في غفلتها، ومن غير نقدم إعلام. لكن قال مالك: أكره نظره في غفلتها مخافة من وقوع نظره على عورة. وعن مالك رواية ضعيفة: أنه لا ينظر إليها إلا بإذنها، وهذا ضعيف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن في ذلك مطلقاً ولم يشترط استيذانها، ولأنها نستحي غالباً من الإذن انتهى كلام النووي.
قوله: "قال أحرى أن تدوم المحبة بينكما" قال في النهاية: أحرى أن يؤدم بينكما المحبة والاتفاق يقال أدم الله بينكما يأدم ادما بالسكون أي ألف ووفق وكذلك آدم يودم بالمد انتهى.(4/208)
باب ماجاء في إعلان النكاح
...
6 ـ باب مَا جَاءَ في إعْلاَنِ النّكاح
1094 ـ حدثنا أحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ. حدثنا هُشَيمٌ. أخبرنا أَبُو بَلْجٍ عنْ مُحَمّدِ بنِ حَاطِبٍ الْجُمَحِيّ. قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في إعْلاَنِ النّكاح
قوله: "حدثنا هشيم" بالتصغير ابن بشير بوزن عظيم، ابن القاسم بن دينار السلمى أبو معاوية الواسطي ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال "أخبرنا أبو بلج" بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها جيم الكوفي ثم الواسطي، صدوق ربما أخطأ من الخامسة وهو أبو بلج الكبير "الجمحى" بضم الجيم وفتح الميم وبالحاء المهملة منسوب إلى جمح بن عمرو كذا في المغنى.(4/208)
"فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَرَامِ والْحَلاَلِ الدّفّ والصّوْتُ".
وفي البابِ عنْ عَائِشَةَ وجَابِرٍ والرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذٍ. حدِيثُ مُحَمّدِ بنِ حَاطِبٍ حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
قوله: "وفصل ما بين الحلال والحرام" أي فرق ما بينهما "الصوت" قال الجزري في النهاية: يريد إعلان النكاح وذلك بالصوت والذكر به في الناس يقال له صوت وصيت انتهى. "والدف" بضم الدال وفتحها، قال القاري في المرقاة: الصوت أي الذكر والتشهير، والدف أي ضربه فإنه يتم به الإعلان. قال ابن الملك: ليس المراد أن لا فرق بين الحلال والحرام في النكاح إلا هذا الأمر، فإن الفرق يحصل بحضور الشهود عند العقد بل المراد الترغيب إلى إعلان أمر النكاح بحيث لا يخفى على الأباعد. فالسنة إعلان النكاح بضرب الدف وأصوات الحاضرين بالتهنئة أو النغمة في إنشاء الشعر المباح. وفي شرح السنة معناه: إعلان النكاح واضطراب الصوت به، والذكر في الناس كما يقال: فلان ذهب صوته في الناس. وبعض الناس يذهب به إلى السماع وهذا خطأ يعني السماع المتعارف بين الناس الاَن انتهى كلام القاري.
قلت: الظاهر عندي والله تعالى اعلم أن المراد بالصوت ههنا الغناء المباح، فإن الغناء المباح بالدف جائز في العرس، يدل عليه حديث الربيع بنت معوذ الاَتي في هذا الباب، وهو حديث صحيح أخرجه البخاري وفيه: فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر. قال المهلب: في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف والغناء المباح انتهى. وروى البخاري في صحيحه عن عائشة أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة ما كان معكم لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو". قال الحافظ في رواية شريك: فقال فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني. وأخرج النسائي من طريق عامر بن سعد عن قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاريين قال: إنه رخص لنا في اللهو عند العرس الحديث، وصححه الحاكم. وللطبراني من حديث السائب بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: وقيل له أترخص في هذا؟ قال "نعم إنه نكاح لاسفاح، أشيدوا النكاح انتهى". قوله: "حديث محمد بن حاطب حديث حسن"(4/209)
وأبُو بَلْجٍ اسْمُهُ يَحْيَى بنُ أبي سُلَيمٍ، ويُقَالُ ابنُ سُلَيمِ أيْضاً.
ومُحَمّدُ بنُ حَاطِبٍ قَدْ رَأى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهُوَ غُلاَمٌ صَغِيرٌ.
1095 ـ حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ. حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ. أخبرنا عيسَى بنُ مَيْمُونٍ الأنصاري عنِ الْقَاسِمِ بنِ مُحَمّد، عنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَعْلِنُوا هذَا النّكَاحَ واجْعَلُوهُ في المَسَاجِدِ، واضْرِبُوا عَليْهِ بِالدّفُوفِ". هذا حديثٌ غريب حسنٌ فِي هذَا الْبَابِ. وعيسى بنُ مَيْمُونٍ الأنْصَارِيّ يُضَعّفُ فِي الْحَدِيثِ.
ـــــــ
أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم قوله: "أعلنوا هذا النكاح" أي بالبينة فالأمر للوجوب أو بالإظهار والاشتهار فالأمر للاستحباب كما في قوله "واجعلوه في المساجد" وهو إما لأنه أدعى للإعلان أو لحصول بركة المكان "واضربوا عليه" أي على النكاح "بالدفوف" لكن خارج المسجد. وقال الفقهاء: المراد بالدف ما لا جلاجل له. كذا ذكره ابن الهمام قال الحافظ: واستدل بقوله "واضربوا" على أن ذلك لا يختص بالنساء لكنه ضعيف، والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن انتهى. قلت: وكذلك الغناء المباح في العرس مختص بالنساء فلا يجوز للرجال. قوله "هذا حديث حسن غريب" كذا في النسخ الحاضرة وأورد هذا الحديث الشيخ ولي الدين في المشكاة وقال رواه الترمذي، وقال هذا حديث غريب ولم يذكر لفظ حسن. وكذلك أورد الشوكاني هذا الحديث في النيل. وقال قال الترمذي هذا حديث غريب ولم يذكر هو أيضاً لفظ حسن، فالظاهر أن النسخة التي كانت عند صاحب المشكاة وعند الشوكاني هي الصحيحة، ويدل على صحتها تضعيف الترمذي عيسى بن ميمون أحد رواة هذا الحديث. وقد صرح الحافظ في الفتح بضعف هذا الحديث والله تعالى أعلم. وأخرج ابن ماجه هذا الحديث بلفظ: اعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالغربال. وفي سنده خالد بن إلياس وهو متروك. وأخرجه من حديث عبد الله بن الزبير أحمد وصححه ابن حبان والحاكم بلفظ: أعلنوا النكاح وليس فيه: واضربوا عليه بالدفوف. قوله: "وعيسى بن ميمون الأنصارى يضعف في الحديث" عيسى بن ميمون هذا هو مولى القاسم(4/210)
وَعيسَى بنُ مَيْمُونٍ الذي يَرْوِي عنِ ابنِ أبي نَجِيحٍ التّفْسِيرَ هُوَ ثِقَة.
1096 ـ حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ الْبَصْرِيّ حدثنا بِشْرُ بنُ المُفَضّلِ. حدثنا خَالِدُ بنُ ذَكْوَانَ، عنِ الرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذٍ قالَتْ: جَاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيّ غَدَاةَ بنيَ بِي. فَجَلَسَ عَلَى فِراشِي كَمَجْلِسِكَ مِنّي، وَجُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِ بْنَ بِدُفُوِ فِهِنّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ
ـــــــ
بن محمد يعرف بالواسطي. قال البخاري منكر الحديث، وقال ابن حبان يروي أحاديث كلها موضوعات "وعيسى بن ميمون الذي يروي عن أبي نجيح التفسير هو ثقة" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: عيسى بن ميمون الجرشي المكي أبو موسى المعروف بإبن داية وهو صاحب التفسير، وروى عن مجاهد وابن أبي نجيح، وعنه السفيانان وغيرهما. قال الدورى عن ابن معين ليس به بأس. وقال ابن المديني ثقة كان سفيان يقدمه على ورقاء. وقال الساجي ثقة. ووثقه أيضاً الترمذي وأبو أحمد الحاكم والدارقطني وغيرهم انتهى مختصراً. قوله: "عن الربيع" بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد الياء المكسورة "بنت معوذ" بكسر الواو المشددة "غداة بني" بصيغة المجهول "بي" وفي رواية الشيخين: على أي سلمت وزففت إلى زوجي والبناء الدخول بالزوجة، وبين ابن سعد أنها تزوجت حينئذ إياس بن البكير الليثي وأنها ولدت له محمد بن إياس قيل له صحبة "كمجلسك منى" بكسر اللام أي مكانك خطاب لمن يروي الحديث عنها وهو خالد بن ذكوان، قال الحافظ في الفتح. قال الكرماني هو محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب، أو كان قبل نزول آية الحجاب، أو جاز النظر للحاجة، أو عند الأمن من الفتنة انتهى. قال الحافظ والأخير هو المعتمد. والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها. وهو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه، ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية انتهى كلام الحافظ واعترض القاري في المرقاة على كلام الحافظ هذا فقال: هذا غريب فإن الحديث لا دلالة فيه على كشف وجهها، ولا على الخلوة بها، بل(4/211)
مِنْ آبائِي يَوْمَ بَدْرٍ. إلَى أَنْ قالَتْ إِحْدَاهُنّ: "وَفِينَا نَبيّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ" فقَالَ لهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُسْكُتِي عَنْ هذِهِ، وَقُولِي الذي كُنْتِ تَقُولِينَ قَبْلَهَا". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ينافيها مقام الزفاف، وكذا قولها فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف الخ.
قلت لو ثبت بالأدلة القوية أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها لحصل الجواب بلا تكلف، ولكان شافياً وكافياً. ولكن لم يذكر الحافظ تلك الأدلة ههنا "وجويريات" بالتصغير قيل المراد بهن بنات الأنصار دون المملوكات "يضربن بدفهن" بضم الدال ويفتح، قيل تلك البنات لم تكن بالغات حد الشهوة، وكان دفهن غير مصحوب بالجلاجل "ويندبن" بضم الدال من الندبة بضم النون. وهي ذكر أوصاف الميت بالثناء عليه، وتعديد محاسنه بالكرم والشجاعة ونحوها. قوله: "من قتل من أبائي يوم بدر" قال الحافظ: إن الذي قتل من آبائها إنما قتل بأحد، وآباؤها الذين شهدوا بدراً معوذ ومعاذ وعوف واحدهم أبوها وآخران عماها أطلقت الأبوة عليهما تغليباً، "أسكتى عن هذه" أي عن هذه المقالة وفي رواية البخاري دعى هذه أي اتركي ما يتعلق بمدحى الذي فيه الإطراء المنهي عنه. زاد في رواية حماد بن سلمة: لا يعلم ما في غد إلا الله. فأشار إلى علة المنع "وقولي التي كنت تقولين قبلها" فيه جواز سماع المدح والمرثية مما ليس فيه مبالغة تفضي إلى الغلو. قاله الحافظ. قال القاري في المرقاة وإنما منع القائلة بقولها وفينا نبي الخ. لكراهة نسبة علم الغيب إليه لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وإنما يعلم الرسول من الغيب ما أخبره. أو لكراهة أن يذكر في أثناء ضرب الدف وأثناء مرثية القتلى لعلو منصبه عن ذلك انتهى قلت المعتمد هو الأول لما ورد به التصريح في رواية حماد بن سلمة كما مر آنفاً قوله: "وهذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري.(4/212)
باب ماجاء ما يقال للمتزوج
...
7 ـ باب ما جَاءَ فيما يُقَالُ لِلْمُتَزَوّج
1097 ـ حدثنا قُتَيْبَةَ حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ مُحَمّدٍ عنْ سُهَيْلِ بنِ أبي صَالِحٍ، عنْ أبيهِ، عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أَنّ
النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ إِذَا رَفّأَ الإنْسَانَ، إذَا تَزَوّجَ قالَ: "بَارَكَ الله وبَارَكَ عَلَيْكَ. وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا في الْخَيْرِ" وفي البابِ عنْ علي بنِ أبي طَالِب. حَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب فيما يقال للمتزوج
أي من الدعاء. قوله: "كان إذا رفأ الإنسان" بفتح الراء وتشديد الفاء مهموز معناه دعا له. قاله الحافظ في الفتح. وفي القاموس: رفأه ترفئة وترفيا قال له: بالرفاه والبنين أي بالالتئام وجمع الشمل انتهى. وذلك لأن الترفئة في الأصل الالتئام يقال رفأ الثوب لأم خرقه، وضم بعضه إلى بعض. وكانت هذه ترفئة الجاهلية ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشد إلى ما في حديث الباب. فروى بقي بن مخلد عن رجل من بني تميم قال: كنا نقول في الجاهلية بالرفاه والبنين، فلما جاء الاسلام علمنا نبينا قال: قولوا بارك الله لكم وبارك فيكم وبارك عليكم. وأخرجه النسائي والطبراني عن عقيل بن أبي طالب: أنه قدم البصرة فتزوج امرأة فقالوا له بالرفاه والبنين فقال لا تقولوا هكذا، وقولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم وبارك عليهم". ورجاله ثقات "قال بارك الله وبارك عليك" وفي رواية غير الترمذي: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير. قوله: "وفي الباب عن عقيل بن أبي طالب" أنه تزوج امرأة من بني جشم فقالوا بالرفاه والبنين. فقال: لا تقولوا هكذا ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لهم وبارك عليهم. أخرجه النسائي وابن ماجه وأحمد بمعناه وفي رواية له: لا تقولوا ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن ذلك قولوا بارك الله فيك وبارك لك فيها. وأخرجه أيضاً أبو يعلى والطبراني وهو من رواية الحسن عن عقيل قال في الفتح: ورجاله ثقات إلا أن الحسن لم يسمع من عقيل. قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم قاله الحافظ في الفتح(4/213)
باب ماجاء في مايقول إذا دخل على أهله
...
8 ـ بابُ مَا يَقُول إذَا دَخَلَ عَلَى أهْلِه
1098 ـ حدثنا ابنُ أبِي عُمَرَ حدثنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنْ مَنْصُورِ، عنْ سَالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ، عنْ كُرَيْبٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ قالَ: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لوْ أنّ أَحَدَكمْ، إذَا أتَى أهْلَهُ، قالَ: بِسْمِ الله اللّهُمّ جَنّبْنَا الشّيْطَانَ وَجَنّبِ الشيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فإنْ قَضَى الله بَيْنَهُمَا وَلَداً لَمْ يَضُرّهُ الشّيْطانُ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
بابُ مَا يَقُول إذَا دَخَلَ عَلَى أهْلِه
قوله: "إذا أتى أهله" أي جامع امرأته أو جاريته. والمعنى: إذا أراد أن يجامع فيكون القول قبل الشروع، وفي روايته لأبي داود: إذا أراد أن يأتي أهله. وهي مفسرة لغيرها من الروايات التي تدل بظاهرها على أن القول يكون مع الفعل فهي محمولة على المجاز كقوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي إذا أردت القراءة "جنبنا" أي بعدنا "الشيطان" مفعول ثان "ما رزقتنا" من الولد "لم يضره الشيطان" أي لم يسلط عليه بحيث لا يكون له عمل صالح. وإلا فكل مولود يمسه الشيطان إلا مريم وابنها، ولا بد له من وسوسة لكن كان ممن ليس له عليهم سلطان. قاله في المجمع. قلت وقد وقع في رواية لمسلم وأحمد: لم يسلط عليه الشيطان. وقد وقع في رواية للبخاري: لم يضره شيطان أبداً قال الحافظ في الفتح: واختلف في الضرر المنفي بعد الاتفاق على عدم الحمل على العموم في أنواع الضرر، على ما نقل القاضي عياض. وإن كان ظاهراً في الحمل على عموم الأحوال من صيغة النفي مع التأييد. وكان سبب ذلك الاتفاق ما ثبت في الصحيح: إن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد، إلا من استثنى. فإن هذا الطعن نوع من الضرر ثم اختلفوا، فقيل المعنى لم يسلط عليه من أجل بركة التسمية، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" وقيل المراد لم يصرعه، وقيل لم يضره في بدنه. وقال الداودي: معنى لم يضره أي لم يفتنه عن دينه إلى الكفر وليس المراد عصمته منه عن المعصية انتهى كلام الحافظ مختصراً. وقد ذكر أقوالاً أخر من شاء الاطلاع عليه فليرجع إلى الفتح قوله "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا النسائي كذا في المنتقى(4/214)
باب ماجاء في الأوقات التي يستحب فيها النكاح
...
9 ـ باب ما جَاء في الأوْقَاتِ التي يُسْتَحَبّ فيهَا النّكاح
1099 ـ حدثنا محمد بن بشار حدثنا يَحْيَى بنُ سَعيِدٍ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عنْ إسْمَاعِيلَ بنِ أُمَيّةَ، عنْ عَبْدِ الله بنِ عُرْوَةَ، عنْ عُرْوَةَ، عنْ عَائِشَةَ قالَتْ: "تَزَوّجَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في شَوّالٍ، وَبَنَى بِي في شَوّالٍ".
وكانَتْ عائِشَةُ تَسْتَحِبُ أنْ يُبْنَى بِنِسَائِها في شَوّالٍ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديث الثّوْرِيّ عَنْ إسْمَاعِيلِ بن أمية.
ـــــــ
باب ما جَاء في الأوْقَاتِ التي يُسْتَحَبّ فيهَا النّكاح
قوله: "بنى بي" أي دخل معي وزف بي. قال في النهاية: الابتناء والبناء الدخول بالزوجة. والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوج امرأة بنى عليها قبة ليدخل بها فيها. فيقال بنى الرجل على أهله. قال الجوهري: ولا يقال بنى بأهله. وهذا القول فيه نظر، فإنه قد جاء في غير موضع من الحديث وغير الحديث. وعاد الجوهري فاستعمله في كتابه انتهى "وبنى بي في شوال" زاد مسلم في روايته فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني "وكانت عائشة تستحب أن يبني بنائها في شوال" ضمير نسائها يرجع إلى عائشة. قال النووي: فيه استحباب التزويج والتزوج والدخول في شوال، وقد نص أصحابنا على استحبابه، واستدلوا بهذا الحديث: وقصدت عائشة بهذا الكلام رد ما كانت الجاهلية عليه وما يتخيله بعض العوام اليوم من كراهة التزوج والتزويج والدخول في شوال. وهذا باطل لا أصل له وهو من آثار الجاهلية، كانوا يتطيرون بذلك لما في اسم شوال من الإشالة والرفع انتهى. وقال القاري: قيل إنما قالت هذا رداً على أهل الجاهلية فإنهم كانوا لا يرون يمناً في التزوج والعرس في أشهر الحج انتهى، قوله: "هذا حديث حسن" ورواه أحمد ومسلم والنسائي.(4/215)
باب ماجاء في الوليمة
...
10 ـ باب مَا جاء في الوَليمَة
1100 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ ثَابِتٍ، عنْ أَنَسٍ أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ الرّحْمَن بنِ عَوْفٍ أثَرَ صفْرَةٍ. فقَالَ "مَا هذا؟" فقَالَ: إني تَزَوّجْتُ امْرَأَةً
ـــــــ
باب ما جَاء في الأوْقَاتِ التي يُسْتَحَبّ فيهَا النّكاح
قال العلماء من أهل اللغة والفقهاء وغيرهم: الوليمة الطعام المتخذ للعرس مشتقة من الولم وهو الجمع، لأن الزوجين يجتمعان. قاله الأزهري وغيره وقال الأنباري أصلها تمام الشيء واجتماعه والفعل منها أو لم قاله النووي واعلم أن العلماء ذكروا أن الضيافات ثمانية أنواع: الوليمة للعرس. والخرس بضم الخاء المعجمة ويقال بالصاد المهملة أيضاً للولادة والأعذار بكسر الهمزة وبالعين المهملة والذال المعجمة للختان. والوكيرة للبناء. والنقيعة لقدوم المسافر، مأخوذة من النقع وهو الغبار ثم قيل إن المسافر يصنع الطعام وقيل يصنعه غيره له والعقيقة يوم سابع الولادة. والوضيمة بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة، الطعام عند المصيبة. والمأدبة بضم الدال وفتحها، الطعام المتخذ ضيافة بلا سبب. والوضيمة من هذه الأنواع الثمانية ليست بجائرة بل هي حرام. وقال الحافظ في الفتح وقد فاتهم ذكر الحذاق بكسر المهملة وتخفيف الذال المعجمة وآخره قاف الطعام الذي يتخذ عند حذق الصبي ذكره ابن الصباغ في الشامل. وقال ابن الرفعة هو الذي يصنع عند الختم أي ختم القرآن كذا قيده. ويحتمل ختم قدر مقصود منه، ويحتمل أن يطرد ذلك في حذقه لكل صناعة قال وروى أبو الشيخ والطبراني في الأواسط عن أبي هريرة رفعه: الوليمة حق وسنة الحديث. وفي آخره قال: والخرس والاعذار والتوكير أنت فيه بالخيار. وفيه تفسير ذلك، وظاهر سياقه الرفع، ويحتمل الوقف. وفي مسند أحمد من حديث عثمان بن أبي العاص في وليمة الختان: لم يكن يدعى لها انتهى
قوله: "رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة" قال النووي وفي رواية ردع من زعفران براء ودال وعين مهملات. هو أثر الطيب. والصحيح في معنى هذا الحديث أنه تعلق به أثر من الزعفران وغيره من طيب العروس. ولم(4/216)
عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. فقَالَ "بَارَكَ الله لَكَ. أَوْ لِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ".
ـــــــ
يقصده ولا تعمد التزعفر. فقد ثبت في الصحيح النهي عن التزعفر للرجال. وكذا نهى الرجال عن الخلوق لأنه شعار النساء. وقد نهى الرجال عن التشبه بالنساء فهذا هو الصحيح في معنى الحديث. وهو الذي اختاره القاضي والمحققون قال القاضي: وقيل إنه يرخص في ذلك الرجل العروس وقد جاء ذلك في أثر ذكره أبو عبيد. أنهم كانوا يرخصون في ذلك للشاب أيام عرسه. قال وقيل لعله كان يسيراً فلم ينكر انتهى كلام النووي. "على وزن نواة من ذهب" قال الخطابي النواة اسم لقدر معروف عندهم فسروها بخمسة دراهم من ذهب قال القاضي: كذا فسرها أكثر العلماء "أولم ولو بشاة" قال الحافظ ليست "لو" هذه الامتناعية إنما هي التي للتقليل. ووقع في حديث أبي هريرة بعد قوله: أعرست؟ قال نعم. قال أولمت؟ قال لا: فرمى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنواة من ذهب فقال أولم ولو بشاة. وهذا لو صح كان فيه أن الشاة من إعانة النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يعكر على من استدل به على أن الشاة أقل ما يشرع للموسر. ولكن الإسناد ضعيف قال. ولولا ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه بأقل من الشاة لكان يمكن أن يستدل به على أن الشاة أقل ما تجزئ في الوليمة. ومع ذلك فلا بد من تقييده بالقادر عليها. قال عياض. وأجمعوا على أن لا حد لأكثرها، وأما أقلها فكذلك. ومهما تيسر أجزأ والمستحب أنها على قدر حال الزوج. وقد تيسر على الموسر الشاة فما فوقها انتهى.
وقد استدل بقوله: أولم ولو بشاة على وجوب الوليمة، لأن الأصل في الأمر الوجوب. وروى أحمد من حديث بريدة قال: لما خطب على فاطمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لا بد للعروس من وليمة". قال الحافظ: سنده لا بأس به. وهذا الحديث قد استدل به على وجوب الوليمة، وقال به بعض أهل العلم: وأما قول ابن بطال: لا أعلم أحداً أوجبها، ففيه أنه نفى علمه، وذلك لا ينافي ثبوت الخلاف في الوجوب. وقد وقع في حديث وحشي بن حرب عند الطبراني مرفوعاً: الوليمة حق. وكذا وقع في أحاديث أخرى. قال ابن بطال قوله: حق أي ليس بباطل، بل يندب إليها وهي سنة فضيل، وليس المراد بالحق الوجوب، وأيضاً هو طعام لسرور حادث، فأشبه سائر الأطعمة، والأمر محمول على(4/217)
وفي البابِ عِنْ ابنِ مَسْعُودٍ وعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وزُهَيْرِ بنِ عُثمانَ.
حدِيثُ أَنَسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقالَ أحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: وَزْنُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ: وَزْنُ ثَلاَثَةِ دَرَاهمَ وثُلُثٍ. وقالَ إسْحَاقُ: هُوَ وَزْنُ خَمْسَة دَرَاهمَ وثُلُثٍ.
ـــــــ
الاستحباب، ولكونه أمر بشاة وهي غير واجبة اتفاقاً. قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وعائشة وجابر وزهير بن عثمان" أما حديث ابن مسعود فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث عائشة فلينظر من أخرجه. وأما حديث جابر فأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عنه مرفوعاف: إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم، وإن شاة ترك. وأما حديث زهير بن عثمان فأخرجه أبو داود والنسائي، ولفظ أبو داود: الوليمة أول يوم حق والثاني معروف، واليوم الثالث سمعة ورياء قال المنذري في تلخيصه: قال أبو القاسم البغوي: ولا أعلم لزهير بن عثمان غير هذا. وقال أبو عمر النمري: في إسناده نظر. يقال إنه مرسل وليس له غيره. وذكر البخاري هذا الحديث في تاريخه الكبير في ترجمة زهير بن عثمان وقال: ولا يصح إسناده. ولا نعرف له صحبة. وقال ابن عمر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دعى أحدكم إلى وليمة فليجب". ولم يخص ثلاثة أيام ولا غيرها، وهذا أصح. وقال ابن سيرين عن أبيه لما بنى بأهله أولم سبعة أيام، ودعى في ذلك أبي بن كعب فأجابه انتهى. قال الحافظ في الفتح وقد وجدنا لحديث زهير بن عثمان شواهد فذكرها. ثم قال: وهذه الأحاديث وإن كان كل منها لا يخلو عن مقال فمجموعها يدل على أن للحديث أصلاً انتهى كلام الحافظ. قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم. قوله: "وقال أحمد بن حنبل وزن نواة من ذهب وزن ثلاثة دراهم وثلث" قال الحافظ: وقع في رواية حجاج بن أرطاة عن قتادة عند البيهقي: قومت ثلاثة دراهم وثلثاً. وإسناده ضعيف ولكن جزم به أحمد انتهى. "وقال إسحاق هو وزن خمسة دراهم" قال الحافظ: واختلف في المراد بقوله نواة. فقيل المراد واحدة نوى التمر كما يوزن بنوى الخروب. وإن القيمة عنها كانت يومئذ خمسة دراهم. وقيل لفظ النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق. وجزم به الخطابي.(4/218)
1101 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمرَ: حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن وَائِلِ بنِ دَاوُدَ عن أبيه، عن الزُهْرِيّ، عنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أوْ لَمْ عَلَى صَفِيّةَ بِنْتَ حُيَي بِسَوِيِقٍ وتمْرٍ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
1102 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ يَحْيَى. حدثنا الحُمَيْديّ، عنْ سُفْيَانَ، نَحْوَ هذا.
وقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هذا الحَدِيثَ عنِ ابنِ عُيَيْنَةَ، عنِ الزّهْرِيّ عنْ أَنَسٍ. ولَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ "عنْ وَائِلٍ عن ابنِهِ نوف" .
ـــــــ
واختاره الأزهري. ونقله عياض عن أكثر العلماء. ويؤيده أن في رواية البيهقي من طريق سعيد بن بشر عن قتادة: وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم انتهى كلام الحافظ مختصراً. وذكر فيه أقوالاً أخرى.
قوله: "عن وائل بن داود" التيمي الكوفي والد بكر ثقة من السادسة "عن ابنه نوف" بفتح النون وسكون الواو وفي رواية أبي داود عن ابنه بكر بن وائل. وليس في التقريب ولا في الخلاصة ولا في تهذيب التهذيب ذكر نوف بن وائل. فلينظر. وأما بكر بن وائل بن داود فصدوق روى عن الزهرى وغيره. وروى عنه أبوه وائل بن داود وغيره.
"أولم على صفية بنت حي بسويق وتمر" وفي رواية الصحيحين: أولم عليها بحيس قال القاري في المرقاة جمع بينهما بأنه كان في الوليمة كلاهما: فاخر كل راو بما كان عنده انتهى. قلت وقع في رواية للبخاري أنه أمر بالإنطاع فألقى فيها من التمر والأقط والسمن. فكانت وليمته قال الحافظ في الفتح. ولا مخالفة بينهما يعنى بين هذه الرواية وبين الرواية التي فيها ذكر الحيس. لأن هذه من أجزاء الحيس. قال أهل اللغة الحيس يؤخذ التمر فينزع نواه ويخلط بالأقط أو الدقيق أو السويق انتهى. ولو جعل فيه السمن لم يخرج عن كونه حيساً انتهى كلام الحافظ. قلت السمن أيضاً من أجزاء الحيس. قال في القاموس. الحيس الخلط وتمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديداً. ثم يندر منه نواه وربما جعل فيه سويق انتهى قوله: "حديث حسن غريب" ورواه أحمد وأبو داود(4/219)
وكانَ سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ يُدَلّسُ في هذَا الحديث. فَرُبّمَا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ "عن وَائِلٍ عن أبيه" وَرُبّمَا ذَكَرَهُ.
1103 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ موسَى البَصْرِيّ. حدثنا زِيَادُ بنُ عبدِ الله حدثنا عَطَاءُ بنُ السّائِبِ عنْ أبي عَبْدِ الرّحْمَنِ، عنِ ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "طَعَامُ أَوّلِ يَوْمٍ حَقّ. وطَعَامُ يَوْمِ الثّانِي سُنّةٌ. وطَعَامُ يَوْمِ الثّالِثِ سُمْعَةٌ. ومَنْ سَمّعَ سَمّعَ الله بِهِ".
ـــــــ
وابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري. قوله: "وكان سفيان بن عيينة يدلس في هذا الحديث" اعلم أن سفيان بن عيينة لم يكن يدلس إلا عن ثقة كما صرح به الحافظ في طبقات المدلسين.
قوله: "أخبرنا زياد بن عبد الله" بن الطفيل العامري البكائي بفتح المهملة وتشديد الكاف. أبو محمد الكوفي صدوق ثبت في المغازي. وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين. من الثامنة قاله الحافظ "عن أبي عبد الرحمن" السلمي الكوفي المقري اسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة ثقة ثبت من الثانية "طعام أول يوم حق" أي ثابت ولازم فعله وإجابته. أو واجب وهذا عند من ذهب إلى أن الوليمة واجبة أو سنة مؤكدة. فإنها في معنى الواجب. حيث يسيء بتركها ويترتب عتاب. وإن لم يجب عقاب. قاله القاري. قلت هذا الحديث من متمسكات من قال بالوجوب كما تقدم "وطعام يوم الثاني سنة" وروى أبو داود هذا الحديث عن رجل أعود من ثقيف بلفظ الوليمة أول يوم حق. والثاني معروف الخ. أي ليس بمنكر "وطعام يوم الثالث سمعة" بضم السين أي سمعة ورياء ليسمع الناس ويرائيهم. وفي رواية أبي داود سمعة ورياء "ومن سمع سمع الله به" بتشديد الميم فيهما أي من شهر نفسه بكرم أو غيره فخراً أو رياء شهره الله يوم القيامة بين أهل العرصات، بأنه مراء كذاب، بأن أعلم الله الناس بريائه وسمعته، وقرع باب أسماع خلقه، فيفتضح بين الناس. قال الطيبي: إذا أحدث الله تعالى لعبد نعمة حق له أن يحدث شكراً، واستحب ذلك في الثاني جبراً لما يقع من النقصان في اليوم الأول، فإن السنة مكملة للواجب. وأما اليوم الثالث فليس إلا رياء وسمعة، والمدعو يجب عليه الإجابة في الأول، ويستحب في الثاني، ويكره بل يحرم في الثالث انتهى. قال القاري وفيه رد صريح على أصحاب(4/220)
حَديثُ ابنِ مَسْعُودٍ لاَ نَعْرِفُهُ مَرْفُوعاً إلا مِنْ حَديثِ زِيَادِ بنِ عبْدِ الله وزِيَادُ بنُ عَبْدِ الله كَثِيرُ الْغَرَائِبِ والمَنَاكِيرِ.
قال: وسَمِعْتُ مُحَمّدَ بنَ إسْمَاعِيلَ يَذْكُرُ عنْ مُحَمّدِ بنِ عُقْبَةَ قالَ: قالَ وَكِيعٌ: زِيَادُ بنُ عَبْدِ الله، مَعَ شَرَفِهِ، يَكْذِبُ في الْحَدِيثِ.
ـــــــ
مالك حيث قالوا باستحباب سبعة أيام لذلك انتهى. قلت لعلهم تمسكوا بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق حفصة بنت سيرين قالت: لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام. فلما كان يوم الأنصار دعا أبي بن كعب، وزيد بن ثابت وغيرهما، فكان أبي صائماً فلما طعموا دعا أبي وأثنى. وأخرجه البيهقي من وجه آخر أتم سياقاً منه، وأخرجه عبد الرزاق إلى حفصة فيه ثمانية أيام. ذكره الحافظ في الفتح. وقد جنح الإمام البخاري في صحيحه إلى جواز الوليمة سبعة أيام حيث قال باب حق إجابة الوليمة والدعوة ومن أولم بسبعة أيام ونحوه. ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ولا يومين انتهى. وأشار بهذا إلى ضعف حديث الباب. ولكن ذكر الحافظ في الفتح شواهد لهذا الحديث وقال بعد ذكرها: هذه الأحاديث وإن كان كل منها لا يخلو عن مقال فمجموعها يدل على أن للحديث أصلاً. قال وقد عمل به يعني بحديث الباب الشافعية، والحنابلة. قال: وإلى ما جنح إليه البخاري ذهب المالكية، قال عياض: استحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعاً. قال وقال بعضهم: محله إذا دعا في كل يوم من لم يدع قبله ولم يكرر عليهم، وإذا حملنا الأمر في كراهة الثالث على ما إذا كان هناك رياء وسمعة ومباهاة كان الرابع وما بعده كذلك. فيمكن حمل ما وقع من السلف من الزيادة على اليومين عند الأمن من ذلك، وإنما أطلق ذلك على الثالث لكونه الغالب انتهى كلام الحافظ مختصراً. قوله: "حديث ابن مسعود لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث زيادة بن عبد الله" وقال الدارقطني به زياد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمى عنه، قال الحافظ وزياد مختلف في الاحتجاج به، ومع ذلك فسماعه عن عطاء بعد الاختلاط "وزياد بن عبد الله كثير الغرائب والمناكير" قال الحافظ في الفتح وشيخه فيه عطاء بن السائب وسماع زياد منه بعد اختلاطه، فهذه علته انتهى. وقد عرفت أن لحديثه شواهد يدل مجموعها أن للحديث أصلاً "قال وكيع زياد بن عبد الله مع شرفه يكذب في الحديث" قال الحافظ في التقريب: لم يثبت أن وكيعاً كذبه وله في البخاري موضع واحد متابعة انتهى. وحديث الباب أخرجه أبو داود من حديث رجل من ثقيف، قال قتادة: إن لم يكن اسمه زهير بن عثمان فلا أدري ما اسمه. وإسناده ليس بصحيح كما صرح به البخاري في تاريخه الكبير، وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة وفي إسناده عبد الملك بن حسين النخعي الواسطي، قال الحافظ ضعيف. وفي الباب عن أنس عند البيهقي وفي إسناده بكر بن خنيس وهو ضعيف. وذكره ابن أبي حاتم والدارقطني في العلل من حديث الحسن عن أنس ورجحا رواية من أرسله عن الحسن وفي الباب أيضاً عن وحشي بن حرب عند الطبراني بإسناد ضعيف. وعن ابن عباس عنده أيضاً بإسناد كذلك.(4/221)
باب ماجاء في إجابة الداعي
...
11 ـ باب مَا جَاءَ في إجَابَةِ الدّاعِي
1104 ـ حدثنا أبو سَلَمةَ يَحْيَى بنُ خَلَفٍ. حدثنا بِشْرُ بنُ المُفضّلِ عنْ إسْمَاعِيلَ بنِ أُمَيّةَ، عنْ نَافِعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ائْتُوا الدّعْوةَ إذَا دُعِيتُمْ".
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في إجَابَةِ الدّاعِي
قوله: "إئتوا الدعوة إذا دعيتم" قال النووي دعوه الطعام بفتح الدال، ودعوة النسب بكسرها، هذا قول جمهور العرب، وعكسه تيم الرباب فقالوا الطعام بالكسر، والنسب بالفتح. وأما قول قطرب في المثلث: أن دعوة الطعام بالضم فغلطوه فيه. والحديث دليل على أنه يجب الإجابة إلى كل دعوة من عرس وغيره. وقد أخذ بظاهر هذا الحديث بعض الشافعية فقال بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقاً عرساً كان أو غيره بشرطه. ونقله ابن عبد البر عن عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة. وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين.
ويعكر عليه ما روى عن عثمان بن أبي العاص وهو من مشاهير الصحابة أنه قال في وليمة الختان لم يكن يدعى لها لكن يمكن الانفصال عنه بأن ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دعو وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر: أنه دعا لطعام فقال رجل من القوم: أعفني. فقال ابن عمر: إنه لا عافية لك من هذا فقم وأخرج الشافعي وعبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عباس أن ابن صفوان(4/222)
وفي البابِ عنْ عَلِي وأبي هُرَيْرَةَ والبَرَاءِ وأَنَسٍ وأبي أَيّوبَ. حدِيثُ.
ـــــــ
دعاه فقال: إني مشغول، وإن لم تعفني جئته. وجزم بعدم الوجوب في غيره وليمة النكاح المالكية والحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية، وبالغ السرخسي منهم فنقل فيه الإجماع ولفظ الشافعي: إتيان دعوة الوليمة حق. والوليمة التي تعرف وليمة العرس، وكل دعوة دعى إليها رجل وليمة، فلا أرخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبين لي أنه عاص في تركها، كما تبين لي في وليمة العرس. قاله الحافظ. وقال في شرح حديث أبي هريرة الذي أشار إليه الترمذي في هذا الباب وذكرنا لفظه ما لفظه: والذي يظهر أن اللام في الدعوة للعهد من الوليمة المذكورة أولاً. وقد تقدم أن الوليمة إذا أطلقت حملت على طعام العرس، بخلاف سائر الولائم فإنها تقيد انتهى.
قلت: قال الشوكاني في النيل بعد ذكر كلام الحافظ هذا ما لفظه: ويجاب أولاً بأن هذا مصادرة على المطلوب، لأن الوليمة المطلقة هي محل النزاع وثانياً بأن في أحاديث، الباب ما يشعر بالإجابة إلى كل دعوة، ولا يمكن فيه ما أدعاه في الدعوة، وذلك نحو ما في رواية ابن عمر بلفظ: من دعى فلم يجب فقد عصى الله. وكذلك قوله: من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب. ثم قال الشوكاني: لكن الحق ما ذهب إليه الأولون يعني بهم الذين قالوا بوجوب الإجابة إلى كل دعوة. قلت الظاهر هو ما قال الشوكاني والله تعالى أعلم.
فائدة: قال الحافظ في الفتح بعد أن حكى وجوب الإجابة إلى الوليمة، وشرط وجوبها أن يكون الداعي مكلفاً حراً رشيداً وأن لا يخص الأغنياء دون الفقراء، وأن لا يظهر قصد التودد لشخص بعينه لرغبة فيه أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلماً على الأصح. وأن يختص باليوم الأول على المشهور، وأن لا يسبق فمن سبق تعينت الإجابة له دون الثاني، وإن جاءا معاً قدم الأقرب رحماً على الأقرب جواراً، على الأصح، فإن استويا أقرع، وأن لا يكون هناك من يتأذى بحضوره.
قوله: "وفي الباب عن علي" لينظر من أخرجه "وأبي هريرة" قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شر الطعام طعام الوليمة، يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله رسوله أخرجه البخاري ومسلم "والبراء"(4/223)
ابنِ عُمَرَ حدِيثٌ حسنٌ صحيح
ـــــــ
أخرجه البخاري "وأنس" أخرجه أحمد عنه: أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهاله سنخة، فأجابه. كذا في عمدة القاري. "وأبي أيوب" لم أقف على حديثه قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.(4/224)
باب ماجاء فيمن يجيء إلى الوليمة بغير دعوة
...
12 ـ باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَجِيءُ إِلى الْوَلِيمَةِ من غير دَعوَة
1105 ـ حدثنا هَنّادٌ. حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عنِ الأعْمَشِ، عنْ شَقِيقٍ، عنْ أبي مَسْعُودٍ قالَ: جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ إلَى غُلاَمٍ لَهُ لَحّامٍ، فقَالَ: اصْنَعْ لِي طَعَاماً يَكْفِي خَمْسَةً. فَإِنْي رَأَيْتُ في وَجْهِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْجُوعَ قال: فَصَنَعَ طعَاماً، ثُمّ أَرْسَلَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُ وَجُلَسَاءَهُ الّذِينَ مَعَهُ. فَلَمّا قامَ النبيّ صلى الله عليه وسلم اتّبَعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ دُعُوا. فَلَمّا انْتَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الْبَابِ، قالَ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ: "إنّهُ اتّبَعَنَا رَجُلٌ لَمْ يَكَنْ مَعَنَا حِينَ دَعَوْتَنَا، فإنْ أَذِنْتَ لَهُ دَخَلَ". قالَ: فَقَدْ أَذِنّا لَهُ،
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَجِيءُ إِلى الْوَلِيمَةِ من غير دَعوَة
قوله: "إلى غلام له لحام" بتشديد الخاء أي بائع اللحم كتمار، وهو مبالغة لاحم فاعل للنسبة كلابن وتامر، قاله القاري. قلت وقع في رواية للبخاري لفظ قصاب، والقصاب هو الجزار. قال الحافظ وفيه جواز الاكتساب بصنعة الجزارة انتهى. "فإن أذنت له دخل قال فقد أذنا له" فيه أنه لا يجوز لأحد أن يدخل في ضيافة قوم بغير إذن أهلها ولا يجوز للضيف أن يأذن لأحد في الإتيان معه إلا بأمر صريح، أو إذن عام، أو علم برضاه. قال الحافظ في الفتح: وفيه أن المدعو لا يمتنع من الإجابة إذا امتنع الداعي من الإذن لبعض من صحبه. وأما ما أخرجه مسلم من حديث أنس: أن فارسياً كان طيب المرق، صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً ثم دعاه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه لعائشة فقال لا: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا فيجاب عنه بأن الدعوة لم تكن لوليمة،(4/224)
فَلْيَدْخلْ.هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عنِ ابنِ عُمَرَ.
ـــــــ
وإنما صنع الفارسي طعاماً بقدر ما يكفي الواحد، فخشي إن أذن لعائشة أن لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون الفرق أن عائشة كانت حاضرة عند الدعوة بخلاف الرجل، وأيضاً فالمستحب للداعي أن يدعو خواص المدعو معه، كما فعل اللحام بخلاف الفارسي، فلذلك امتنع من الإجابة إلا أن يدعوها. أو علم حاجة عائشة لذلك الطعام بعينه أو أحب أن تأكل معه منه، لأنه كان موصوفاً بالجودة ولم يعلم مثله في قصة اللحام وأما قصة أبي طلحة حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصيدة فقال لمن معه قوموا. فأجاب عنه المازري أنه يحتمل أن يكون علم رضا أبي طلحة فلم يستأذنه، ولم يعلم رضا أبي شعيب فاستأذنه، ولأن الذي أكله القوم عند أبي طلحة كان مما خرق الله فيه العادة لنبيه صلى الله عليه وسلم، فكان جل ما أكلوه من البركة التي لا صنيع لأبي طلحة فيها. فلم يفتقر إلى استيذانه انتهى. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه أبو داود مرفوعاً: من دعى فلم يجب فقد عصى الله ورسوله، ومن دخل على غير دعوة دخل سارقاً وخرج مغيراً. وهو حديث ضعيف كما صرح به الحافظ في الفتح.(4/225)
باب ماجاء في تزويج الأبكار
...
13 ـ باب مَا جَاءَ في تَزْوِيجِ الأبْكار
1106 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن عَمْروِ بنِ دِينَارٍ، عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله قالَ: تَزَوّجْتُ امْرَأةً، فَأَتَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ "أتَزَوّجْتَ يَا جَابِرُ؟" فَقلت: نَعَمْ. فقَالَ "بِكْراً أَمْ ثَيّباً"؟ فَقلت: لاَ. بَلْ ثَيّباً. فقَالَ "هَلاّ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ"؟
ـــــــ
باب ما جاء في تزويج الأبكار
جمع بكر وهي التي لم توطأ واستمرت على حالتها الأولى . قوله: "هلا جارية" أي بكرا "تلاعبها وتلاعبك" فيه أن تزوج البكر أولى، وأن الملاعبة مع الزوج مندوب إليها، قال الطيبي: وهو عبارة عن الألفة التامة، فإن الثيب قد تكون(4/225)
فَقلت: يا رسولَ الله إنّ عَبْدَ الله مَاتَ وتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ أوْ تِسْعاً. فَجِئْتُ بِمَنْ يَقُومُ عَلَيْهِنّ. قال: "فَدَعَا لِي" وفي البابِ عنْ أُبَيّ بنِ كَعْبٍ وَكَعْبِ بنِ عُجْرَةَ.
حديثُ جَابِر بن عبد الله حَدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
معلقة القلب بالزوج الأول فلم تكن محبتها كاملة بخلاف البكر. وعليه ما ورد: عليكم بالأبكار فإنهن أشد حباً وأقل خباً "فجئت بمن يقوم عليهن" وفي رواية للبخاري: كن لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تقوم عليهن وتمشطهن. قال أصبت "فدعا لي" وفي رواية للبخاري: قال فبارك الله لك . وفي الحديث دليل على استحباب نكاح الأبكار إلا لمقتض لنكاح الثيب كما وقع لجابر. قوله: "وفي الباب عن أبي بن كعب" لم أقف على حديثه "وكعب بن عجرة" أخرجه الطبراني بنحو حديث جابر وفيه: تعضها وتعضك وفي الباب أيضاً عن عويم بن ساعدة في ابن ماجة والبيهقي بلفظ: عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير. وعن ابن عمر نحوه وزاد: وأسحن أقبالاً. رواه أبو نعيم في الطب. وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف كذا في التلخيص. قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.(4/226)
باب ماجاء لا نكاح الا لولي
...
14 ـ باب مَا جَاءَ لاَ نِكاحَ إِلاّ بِوَلِي
1107 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ. أَخْبرَنا شَرِيكُ بنُ عَبْدِ الله عنْ أبي إسْحاقَ. وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ. حدثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ أبي إسْحَاقَ. ح وَحَدّثَنَا محمد بن بشّار. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمنِ بنُ مَهْدِي عنْ إسْرَائِيلَ، عنْ أبي إسْحَاقَ. ح وحَدّثَنَا عَبْدُ الله بنُ أبي زِيَادٍ. حدثنا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ عنْ يُونُسَ بنِ أَبي إسْحَاقَ، عنْ أبي إسْحَاقَ، عنْ أبي بُرْدَةَ، عنْ أبي مُوسَى قالَ: "قالَ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ لاَ نِكاحَ إِلاّ بِوَلِي
قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن أبي بردة" بن موسى الأشعري روى عن أبيه وجماعة، وروى عنه أبو إسحاق السبيعي وجماعة، قيل اسمه عامر(4/226)
رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لاَ نِكاحَ إلاّ بِوَلِي". .
وفي البابِ عنْ عَائِشَةَ وابنِ عَبّاسٍ وأبي هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وَأنَسٍ.
1108 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ. حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنْ ابنِ جُرَيْجٍ عنْ سُلَيْمانَ بن موسى، عنِ الزّهْرِيّ، عنْ عُرْوَةَ، عنْ عَائِشَةَ أنّ رسُولَ الله
ـــــــ
وقيل الحارث ثقة من الثانية "لا نكاح إلا بولي" قال السيوطي: حمله الجمهور على نفي الصحة، وأبو حنيفة على نفي الكمال انتهى قلت: الراجح أنه محمول على نفي الصحة، بل هو المتعين كما يدل عليه حديث عائشة الاَتي وغيره. قوله: "وفي الباب عن عائشة" مرفوعاً بلفظ: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل الحديث. أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه أبو عوانة، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم كذا في فتح الباري "وابن عباس" مرفوعاً بلفظ: لا نكاح إلا بولي. والسلطان ولي من لا ولي له. أخرجه الطبراني وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وفيه مقال. وأخرجه سفيان في جامعه، ومن طريقه الطبراني في الأوسط بإسناد آخر حسن عن ابن عباس بلفظ: لا نكاح إلا بولي مرشد أو سلطان. كذا في فتح الباري "وأبي هريرة" قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها. أخرجه ابن ماجه، والدارقطني والبيهقي. قال ابن كثير: الصحيح وقفه على أبي هريرة. وقال الحافظ: رجاله ثقات كذا في النيل "وعمران بن حصين" مرفوعاً بلفظ لا نكاج إلا بولي وشاهدى عدل. أخرجه أحمد والدارقطني والطبراني والبيهقي من حديث الحسن عنه، وفي إسناده عبد الله بن محرر وهو متروك، ورواه الشافعي من وجه آخر عن الحسن مرسلاً، وقال: هذا وإن كان منقطعاً فإن أكثر أهل العلم يقولون به. كذا في التلخيص. "وأنس" أخرجه ابن عدى كذا في شرح سراج أحمد.
قوله: "عن سليمان" هو ابن موسى الأموي مولاهم الدمشقي الأشدق، صدوق فقيه في حديثه بعض لين، خولط قبل موته بقليل كذا في التقريب. وقال في الخلاصة: وثقه رحيم وابن معين، وقال ابن عدى: تفرد بأحاديث وهو عندي ثبت صدوق: وقال النسائي: ليس بالقوى. قال أبو حاتم: محله الصدق،(4/227)
صلى الله عليه وسلم قالَ "أيّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهَا، فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فإنْ دَخَلَ بهَا فَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلّ مِنْ فَرْجِهَا. فإنِ اشْتَجَرُوا، فالسّلْطَانُ وَلِيّ مَنْ لاَ وَلِيّ لَهُ".
هذا حديثٌ حسنٌ. وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ الأنْصَارِيّ ويَحْيَى
ـــــــ
في حديثه بعض الاضطراب. قال ابن سعد: مات سنة تسع عشرة ومائة انتهى. قوله: "أيما امرأة نكحت" أي نفسها وأيما من ألفاظ العموم في سلب الولاية عنهن من غير تخصيص ببعض دون بعض أي أيما امرأة زوجت نفسها "فنكاحها باطل فنكاحها باطل. فنكاحها باطل" كرر ثلاث مرات للتأكيد والمبالغة "بما استحل" أي استمتع "فإن اشتجروا" أي الأولياء أي اختلفوا وتنازعوا اختلافاً للعضل كانوا كالمعدومين قاله القاري. وفي مجمع البحار: التشاجر الخصومة. والمراد المنع من العقد دون المشاحة في السبق إلى العقد، فأما إذا تشاجروا في العقد ومراتبهم في الولاية سواء، فالعقد لمن سبق إليه منهم إذا كان ذلك نظراً منه في مصلحتها انتهى "فالسلطان ولي من لا ولي له" لأن الولي إذا امتنع من التزويج فكأنه لا ولي لها فيكون السلطان وليها، وإلا فلا ولاية للسلطان مع وجود الولي. قوله: "هذا حديث حسن" وصححه أبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم كما عرفت من كلام الحافظ. وقال الحافظ في بلوغ المرام: أخرجه الأربعة إلا النسائي وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم انتهى. وقال في التلخيص: وقد تكلم فيه بعضهم من جهة أن ابن جريج قال: ثم لقيت الزهري فسألته عنه فأنكره، قال: فضعف الحديث من أجل هذا. لكن ذكر عن يحي بن معين أنه قال: لم يذكر هذا عن ابن جريج غير ابن علية. وضعف يحي رواية ابن علية عن ابن جريج انتهى. وحكاية ابن جريج هذه وصلها الطحاوي عن ابن أبي عمران عن يحي بن معين عن ابن علية عن ابن جريج. ورواه الحاكم من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج: سمعت سليمان سمعت الزهري، وعد أبو القاسم بن مندة عدة من رواه عن ابن جريج فبلغوا عشرين رجلاً، وذكر أن معمراً وعبيد الله بن زحر تابعاً ابن جريج على روايته إياه عن سليمان بن موسى. وأن قرة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وأيوب بن موسى وهشام بن سعد وجماعة تابعو سليمان بن موسى(4/228)
ابنُ أَيّوبَ وسُفْيَانُ الثّوْرِيّ وغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الحُفّاظِ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ، نَحْوَ هذَا.
وحدِيثُ أبي مُوسَى حدِيثٌ فِيهِ اخْتِلاَفٌ. رَوَاهُ إسْرَائِيلُ وَشَرِيكُ بنُ عَبْدِ الله وأبُو عَوَانَةَ وزُهَيْرُ بنُ مُعَاوِيَةَ وقَيْسُ بنُ الرّبيعِ عن أبي إسْحَاقَ، عنْ أبي بُرْدَةَ، عنْ أبي مُوسَى، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
عن الزهري. قال ورواه أبو مالك الجنبي. ونوح ابن دراج، ومندل وجعفر بن برقان وجماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ورواه الحاكم من طريق أحمد عن ابن علية عن ابن جريج وقال في آخره: قال ابن جريج فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه، وسألته عن سليمان بن موسى فأثنى عليه قال: وقال ابن معين: سماع ابن علية من ابن جريج ليس بذاك. قال: وليس أحد يقول فيه هذه الزيادة غير ابن علية. وأعل ابن حبان وابن عدى وابن عبد البر والحاكم وغيرهم الحكاية عن ابن جريج. وأجابوا عنها على تقدير الصحة بأنه لا يلزم من نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه. وقد تكلم عليه أيضاً الدارقطني في جزء من حدث ونسي، والخطيب بعده وأطال في الكلام عليه البيهقي في السنن وفي الخلافيات: وابن الجوزي في التحقيق. وأطال الماوردي في الحلوى في ذكر ما دل عليه هذا الحديث من الأحكام نصاً واستنباطاً فأفاد انتهى.
فإن قلت إن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تجيز النكاح بغير ولي كما روى مالك أنها زوجت بنت عبد الرحمن أخيها وهو غائب فلما قدم قال: أمثلي يفتات عليه في بناية؟ فهذا يدل على ضعف حديث عائشة المذكور فإنه يدل على اشتراط الولي قلت قال الحافظ: لم يرد في الخبر التصريح بأنها باشرت العقد فقد يحتمل أن تكون البنت المذكورة ثيباً ودعت إلى كفء وأبوها غائب فانتقلت الولاية إلى الولي الأبعد أو إلى السلطان. وقد صح عن عائشة أنها أنكحت رجلاً من بني أخيها فضربت بينهم بشر، ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا العقد أمرت رجلاً فأنكح، ثم قالت: ليس إلى النساء نكاح. أخرجه عبد الرزاق كذا في فتح الباري قوله: "رواه إسرائيل وشريك بن عبد الله الخ" هذا بيان(4/229)
ورواه أَسْبَاطُ بنُ محمّدٍ وزَيْدُ بنُ حُبَابٍ عنْ يُونُسُ بنِ أَبي إسْحَاقَ، عنْ أبي إسْحَاقَ، عنْ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسَى، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَى أبُو عُبَيْدَةَ الحَدّادُ عن يُونُسَ بنِ أبي إسْحَاقَ، عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسَى، عنِ النبي صلى الله عليه وسلم، نَحْوَهُ. ولَمْ يَذْكُرْ فِيهِ "عنْ أبي إسْحَاقَ".
وَقَدْ رُوِيَ عنْ يُونُسَ بنِ أبي إسْحَاقَ، عن ابي اسحاق عنْ أَبي بُرْدَةَ، عن أبي موسى عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضاً.
وَرَوَى شُعْبَةُ والثّوْرِيّ عنْ أبي إسْحَاقَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ نِكاحَ إلاّ بِوَلِي".
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ سُفْيَانَ عنْ سُفْيَانَ، عنْ أبي إسْحَاقَ، عنْ أبي بُرْدَةَ، عنْ أبي مُوسَى. وَلاَ يَصِحّ.
وَرِوَايَةُ هؤُلاَءِ الْذِينَ رَوَوْا عنْ أبي إسْحَاقَ، عنْ أبي بُردَةَ، عنْ أبي مُوسَى، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا نِكاحَ إلاّ بِولِي" عِنْدِي أصَحّ. لأنّ سَمَاعَهُمَ مِنْ أبي إسْحَاقَ في أوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وإنْ كانَ شُعْبَةُ والثّوْرِيّ أَحْفَطَ وأَثْبَتَ مِنْ جَمِيعِ هؤُلاَءِ الّذِينَ رَوَوْا عنْ أبي إسْحَاقَ هذَا الْحَدِيثَ. فَإِنّ رِوَايَةَ هؤُلاَءِ عِنْدِي أشْبَهُ. لأِنّ شُعْبَةَ والثّوْريّ سَمِعَا هَذَا الحديثَ منْ أبي إسحَاقَ في مَجْلَسٍ واحِدٍ. وَمِمّا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مَا حَدّثَنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ: قال حدثنا أبُو دَاوُدَ: قال أنْبَأَنَا شُعْبَةُ قالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ يَسْأَل أبَا إسْحَاقَ: أَسَمِعْتَ أَبَا بُرْدَةَ يَقُولُ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ نِكاحَ إلاّ بِوَلِي"؟ فقالَ: نَعَمْ.(4/230)
فدَلّ هذَا الحَديِثُ عَلَى أنْ سَمَاعَ شُعْبَةَ والثّوْرِيّ عن مكحول هذَا الحَدْيِثِ في وقْتِ واحِدٍ. وإسْرائِيلُ هو ثقة ثَبْتٌ في أبي إسْحَاقَ.
سَمِعْتُ مُحَمّدَ بنِ المُثَنّى يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْد الرّحْمَنِ بن مَهْدِي يَقُولُ: مَا فَاتَنِي مِنْ حدِيثِ الثّوْريّ عنْ أبي إسْحَاقَ، الذي فاتنى إلاّ لَمّا أتّكَلْتُ بِهِ عَلَى إسْرائيِلَ، لأنّهُ كانَ يَأتِي بِهِ أتمّ.
وحديثُ عائِشَةَ في هذا البابِ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم "لاَ نِكاحَ إلاّ بِوَلِي" حَديثٌ عندي حسنٌ. رَوَاهُ ابنُ جُرَيْجٍ عن سُلَيْمَانَ بن مُوسَى، عنِ الزّهْرِيّ، عنْ عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوَاهُ الحَجّاجُ بنُ أَرْطَاةَ وجَعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ عِن الزّهْرِيّ، عن عُرْوَةَ، عن عَائِشَةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وَرُوِيَ عنْ هِشَام بنِ عُرْوَةَ، عنْ أبيهِ، عنْ عائِشَةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلهُ. وَقَدْ تَكَلّمَ بَعْضُ أصحاب الحديثِ في حَديثِ الزّهْرِيّ، عنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائِشَةَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قالَ ابنُ جُرَيْجٍ: ثمّ لَقِيتُ الزّهْرِيّ فَسَأَلْتُهُ فَأَنْكَرَهُ. فَضَعّفُوا هذَا الحَديثَ مِنْ أجْلِ هذَا. وذُكِرَ عنْ يَحْيَى بنِ مَعينٍ، أنّهُ قالَ: لَمْ يَذْكُرْ هذَا الحَرْفَ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ إلاّ إسْمَاعِيلُ بنُ إبرَاهِيمَ. قالَ يَحْيَى بنُ
ـــــــ
الاختلاف الذي وقع في إسناد حديث أبي موسى، وقد رجح الترمذي رواية اسرائيل وشريك وغيرهما الذين رووا الحديث مسنداً متصلاً، على رواية شعبة والثوري المرسلة ـ لأجل أن سماعهم من أبي إسحاق في مجالس وأوقات مختلفة، وسماعهم منه في مجلس واحد. قوله: "وإسرائيل هو ثبت في أبي إسحاق الخ" قال الحافظ في فتح الباري. وأخرج ابن عدي عن عبد الرحمن بن مهدي، قال: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة وسفيان وأسند الحاكم من طريق علي ابن المديني، ومن طريق البخاري والذهلي وغيرهم ـ: أنهم صححوا حديث إسرائيل. قوله: "وروى الحجاج بن أرطاة وجعفر بن ربيعة عن الزهري عن عروة عن عائشة" فتابع الحجاج وجعفر سليمان بن موسى في روايته هذا الحديث عن الزهري، ولم يتفرد به. "قال ابن جريج: ثم لقيت الزهري فسألته فأنكره"(4/231)
مَعِينٍ: وَسَمَاعُ إسْمَاعيلَ بنِ إبْراَهِيمَ عنَ ابنِ جُرَيْجِ لَيْسَ بِذاكَ. إنمَا صَحّح كُتُبَهُ عَلَى كُتُبِ عَبْدِ المجِيدِ بنِ عَبْدِ العَزيزِ بنِ أبي رَوّادٍ مَا سَمِعَ مِنِ ابنِ جُرَيْج.
وَضَعّفَ يَحْيَى رِوَايَةَ إسْمَاعيلَ بنِ إبْراهِيمَ عنِ ابنِ جُرَيجٍ.
وَالعَمَلُ في هذَا البابِ عَلَى حَدِيثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم "لاَ نِكاحَ إلاّ بِوَلَي" عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ، وَعَلِيّ بنُ أبي طالِبٍ، وعَبْدُ الله بنُ عَبّاسٍ وأبوُ هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمْ.
ـــــــ
أي قال ابن جريج في آخر الحديث "فضعفوا هذا الحديث من أجل هذا" وقد تقدم الجواب عن هذا، فتذكر. "لم يذكر هذا الحرف" أي: ثم لقيت الزهرى فسألته فأنكره. "إلا إسماعيل بن إبراهيم" وهو المعروف بابن علية: ثقة حافظ "إنما صحح كتبه على كتب عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد" بفتح الراء وتشديد الواو الأزدى، أبي عبد الحميد المكي "روى" عن ابن جريج فأكثر، قال أحمد ويحي: ثقة يغلو في الإرجاء، وقال الدارقطني: يعتبر به، ولا يحتج به. كذا في الخلاصة. وقال في التقريب: صندوق يخطئ، أفرط ابن حبان فقال: متروك. "ما سمع من ابن جريج" أي لم يسمع إسماعيل من ابن جريج.
قوله: "والعمل في هذا الباب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" عند أهل العلم الخ" قد اختلف العلماء في اشتراط الولي في النكاح: فذهب الجمهور إلى ذلك، وقالوا: لا تزوج المرأة نفسها أصلاً. واحتجوا بأحاديث الباب. وذهب أبو حنيفة: إلى أنه لا يشترط الولي أصلاً، ويجوز أن تزوج(4/232)
وَهكذَا رُوِيَ عنْ بَعْضِ فقَهاءِ التّابِعِينَ أنهُمْ قَالوا: لا نِكاح إلاّ بِوَلِي. مِنْهُمْ سَعِيدُ بنُ المُسَيّبِ والحَسَنُ البَصْرِيّ وشُرَيْحٌ وإبْرَاهِيمُ النّخَعِيّ وعُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ وَغَيْرُهُمْ.
وَبِهذَا يَقُولُ سُفْيانُ الثّوْرِيّ والأوْزَاعِيّ وعبْدُ الله بنُ المُبَاركِ ومالك والشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ وَإسْحَاقُ.
ـــــــ
نفسها ـ ولو بغير إذن وليها ـ إذا تزوجت كفئاً. واحتج بالقياس على البيع: فإنها تستقل به. وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي، على الصغيرة. وخص بهذا القياس عمومها. وهو عمل سائغ في الأصول، وهو جواز تخصيص العموم بالقياس. لكن حديث معقل يدفع1 هذا القياس، ويدل على اشتراط الولي في النكاح دون غيره، ليندفع عن موليته العار باختيار الكفء. وانفصل بعضهم عن هذا الإيراد، بالتزامهم اشتراط الولي، ولكن لا يمنع ذلك تزويج نفسها، ويتوقف ذلك على إجازة الولي. كما قالوا في البيع. وهو مذهب الأوزاعي. وقال أبو ثور نحوه. لكن قال: يشترك إذن الولي لها في تزويج نفسها. وتعقب بأن إذن الولي لا يصح إلا لمن ينوب عنه، والمرأة لا تنوب عنه في ذلك لأن الحق لها. ولو أذن لها في إنكاح نفسها صارت كمن أذن لها في البيع من نفسها. ولا يصح. كذا في فتح الباري. قلت: أراد بحديث معقل ما رواه البخاري في صحيحه عن الحسن: "فلا تعضلوهن" قال: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه. قال: زوجت أختاً لي من رجل وطلقها. حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها. فقلت له: زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها. ثم جئت تخطبها؟ لا والله لا تعود إليك أبداً. وكان رجلاً لا بأس به. وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه. فأنزل الله هذه الأية {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} فقلت: الاَن أفعل يا رسول الله. فزوجها إياه. قال الحافظ في الفتح: وهي أصرح دليل على اعتبار الولي وإلا لما كان لعضله معنى ولأنها لو كان لها أن تزوج ونفسها لم تحتج إلى أخيها. ومن كان أمره إليه لا يقال. إن غيره منعه منه. قال: وذكر ابن مندة: أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك انتهى. قلت: القول القوي الراجح هو قول الجمهور. والله تعالى أعلم
ـــــــ
1 لفظ الأصل غير منقول في أوله. ثم هو متردد بين "رفع" و"يرفع" و " يدفع" والأخير هو الصواب.(4/233)
باب ماجاء لا نكاح إلا ببينة
...
15 ـ باب مَا جَاء لاَ نِكاحَ إلاّ ببَيّنِة
1109 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ حَمَادٍ البَصْرِيّ حدثنا عَبْدُ الأعْلَى عنْ سَعِيدٍ، عن قَتَادَةَ، عنْ جَابِرِ بنِ
زَيْدٍ، عنِ ابنِ عَبّاسٍ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "البَغَايَا اللاتي يُنْكِحْنَ أَنْفُسَهُنّ بِغَيْرِ بيّنَةٍ". .
قالَ يُوسفُ بنُ حَمّادٍ: رَفَعَ عَبْدُ الأعْلَى هَذَا الحَديثَ في التّفْسِيرِ. وأَوْقَفَهُ في كِتَابِ الطّلاَقِ، ولَمْ يَرْفَعْهُ.
ـــــــ
باب مَا جَاء: لاَ نِكاحَ إلاّ ببَيّنِة
قوله: "حدثنا يوسف بن حماد المعني" بفتح الميم وسكون العين المهملة ثم نون مكسورة ثم ياء مشددة: ثقة من العاشرة "أخبرنا عبد الأعلى" هو: ابن عبد الأعلى البصري الشامي بالمهملة ثقة من الثامنة "عن سعيد" هو: ابن أبي عروبة اليشكرى مولاهم البصرى ثقة حافظ له تصانيف لكنه كثير التدليس واختلط وكان من أثبت الناس في قتادة، قوله: "البغايا" أي الزواني. جمع "بغى" وهي: الزانية. من "البغاء" وهو: الزنا. مبتدأ خبره: "اللاتي ينكحن" بضم أوله أي يزوجن. قاله القاري: "أنفسهن" بالنصب "بغير بينة" قال الطيبي: المراد بالبينة إما الشاهد. فبدونه زنا. عند الشافعي رحمه الله وأبي حنيفة رحمه الله. وإما الولي. إذ به يتبين النكاح. فالتسمية بالبغايا تشديد: لأنه شبهه. انتهى. قال القاري: لا يخفى أن الأول هو الظاهر إذ لم يعهد إطلاق البينة على الولي شرعاً وعرفاً. انتهى.(4/234)
1110 ـ حدثنا قُتَيْبَةَ حدثنا غُنْدَرٌ محمد بن جعفر، عنْ سَعِيدٍ بن أبي عروبة، نَحْوَهُ ولَمْ يَرْفَعْهُ. وهَذَا أَصَحّ.
هذا حديثٌ غَيرُ مَحْفُوظٍ. لاَ نَعْلَمُ أَحَداً رَفَعَهُ إلاّ مَا رُوِيَ عنْ عَبْدِ الأعْلَى عنْ سَعِيدٍ، عنْ قَتَادَةَ مَرْفُوعاً.
وَرُوِيَ عنْ عَبْدِ الأعْلَى عنْ سَعِيدٍ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفاً.
وَالصّحِيحُ مَا رُوِيَ عنِ ابنِ عَبّاسٍ قَوْلُهُ "لاَ نِكاحَ إلاّ بِبيّنَة" .
وَهكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عنْ سَعِيدٍ بنِ أبي عَرُوَبةَ، نَحْوَ هذَا، مَوْقُوفاً.
وَفي هذا الْبَابِ عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وأنَسٍ وأبي هُرَيْرَةَ.
والْعَملُ عَلَى هذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التّابِعِينَ وغَيْرِهِمْ. قَالُوا: لاَ نِكَاحَ إلا بِشُهُودٍ. لَمْ
ـــــــ
قوله: "حدثنا غندر" بضم عين معجمة وسكون. وفتح دال مهملة وقد يضم: لقب محمد بن جعفر المدني البصري. ثقة صحيح الكتاب إلا أن فيه غفلة من التاسعة. قوله: "هذا حديث غير محفوظ. لا نعلم أحداً رفعه إلا ما روى عن عبد الأعلى الخ" قال الحافظ ابن تيمية في المنتقى: وهذا لا يقدح. لأن عبد الأعلى ثقة فيقبل رفعه وزيادته. وقد يرفع الراوي الحديث، وقد يقفه انتهى. قوله: "وفي الباب عن عمران بن حصين" عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ذكره أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله. كذا في المنتقى. قال الشوكاني: وأخرجه الدارقطني في العلل من حديث الحسن عنه، وفي إسناده: عبد الله بن محرر، وهو متروك. ورواه الشافعي من وجه آخر عن الحسن مرسلاً وقال: هذا وإن كان منقطعاً فإن أكثر أهل العلم يقولون به "وأنس" لينظر من أخرج حديثه "وأبي هريرة" مرفوعاً وموقوفاً، أخرجه البيهقي بلفظ: "لا نكاح الا بأربعة: خاطب وولي وشاهدين". وفي(4/235)
يَخْتَلِفُوا فِي ذلِكَ مَنْ مَضَى مِنْهُمْ، إلاّ قَوْماً مِنَ الْمُتَأَخّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وإنّمَا اخْتَلَفَ أهْلُ الْعِلْمِ فِي هذَا إذَا شهِدَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، فقَالَ أكْثَرُ أهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهْم: لاَ يَجُوزُ النّكَاحُ حَتّى يَشْهَدَ الشّاهِدَانِ مَعاً عِنْدَ عُقْدَةِ النّكَاحِ. وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أهْلِ الْمَدِينَةِ إذَا أُشْهِدَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، فأنّهُ جَائِزٌ، إذَا أَعْلَنُوا ذلِكَ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ وغيره هكَذَا قالَ إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهيمَ فِيمَا حَكَى عَنْ أهْلِ الْمدِيَنَةِ. وقالَ بَعْضُ أَهْلُ الْعِلْمِ: يجوز شَهَادَةُ رَجُل وَامْرَأَتَيْنِ فِي النّكَاحِ. وهُوَ قَوْلُ أحْمدَ وَإسْحَاقَ. النكاح، لتقييد الشهادة المعتبرة في حديث عمران بن حصين وعائشة وابن عباس. انتهى. واحتج الشافعي على اشتراط الذكورة في شهود النكاح، بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ، فإن لفظ "الشاهدين" يقع على الذكرين. وأجاب الحنفية عن هذا: بأن لا فرق ـ في باب الشهادة ـ بين الذكر والأنثى، وهذا اللفظ "يقع" على مطلق الشاهدين، مع قطع النظر عن وصف الذكورة والأنوثة. قلت: الظاهر هو قول الشافعي رحمه الله، والله تعالى أعلم
ـــــــ
إسناده: المغيرة بن شعبة، قال البخاري: منكر الحديث. قوله. "وقال بعض أهل العلم: شهادة رجل وامرأتين تجوز في النكاح، وهو قول أحمد واسحاق" وهو قول الحنفية: وقال الشافعي: لا يصح النكاح إلا بشهادة الرجال وقال باشتراط العدالة بالشهود وقالت الحنفية لا تشترط العدالة قال في الهداية ـ من كتب الحنفية ـ: اعلم أن الشهادة شرط في باب النكاح، لقوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بشهود"، وهو حجة على مالك: في اشتراط الإعلان دون الشهادة. ولا بد من اعتبار الحرية فيها، لأن العبد لا شهادة له لعدم الولاية. ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ، لأنه "لا" ولاية بدونهما. ولا بد من اعتبار الإسلام في أنكحة المسلمين، لأنه لا شهادة للكافر على المسلم. ولا يشترط وصف الذكورة حتى ينعقد بحضور رجل وامرأتين، وفيه خلاف الشافعي ولا تشترط العدالة حتى ينعقد بحضرة الفاسقين عندنا، خلافاً للشافعي. له: أن الشهادة من باب الكرامة، والفاسق من أهل الإهانة ولنا: أنه من أهل الولاية، فيكون من أهل الشهادة وهذا لأنه لما لم يحرم الولاية على نفسه لإسلامه، لا يحرم "الشهادة" على غيره، لأنه من جنسه. انتهى. قلت: احتج الشافعي على اشتراط العدالة في شهود النكاح، بتقييد الشهادة بالعدالة في حديث عمران بن حصين، وفي حديث عائشة. قال الشوكاني في النيل: والحق ما ذهب إليه الشافعي: من اعتبار العدالة في شهود(4/236)
باب ماجاء في خطبة النكاح
...
16 ـ باب مَا جَاءَ فِي خُطْبَةِ النّكَاح
1111 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ. حدثنا عَبْثَرُ بنُ الْقَاسِمِ عنِ الأعْمَشِ، عَنْ أبِي إسْحَاقَ، عنْ أبي الأحْوَصِ، عنْ عَبْدِ الله قالَ: عَلّمَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم التّشَهّدَ فِي الصّلاَةِ والتّشَهّدَ فِي الْحَاجَةِ. قالَ "التّشَهّدُ فِي الصّلاَةِ: التّحِيّاتُ لله والصّلَوَاتُ والطّيّبَاتُ. السّلاَمُ عَلَيْكَ أَيّهَا النبيّ وَرَحْمَةُ الله وبَرَكَاتُهُ. السّلاَمُ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ الله الصّالِحِينَ. أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله وأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ. والتّشَهّدُ فِي الْحَاجَةِ، إنّ الْحَمْدَ لله نَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفرُهُ. ونَعُوذُ بالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيّئَات
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي خُطْبَةِ النّكَاح
قوله: "أخبرنا عبثر" بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح المثلثة "بن القاسم" الزبيدي بالضم الكوفي: ثقة من الثامنة. "عن عبد الله" أي ابن مسعود. قوله: "والتشهد في الحاجة" أي من النكاح وغيره "قال" : أي ابن مسعود "التشهد في الصلاة" أي في آخرها "التحيات لله والصلوات الخ" تقدم شرحه في محله "والتشهد في الحاجة: أن الحمد لله" بتخفيف "أن" ورفع "الحمد" قال الطيبي: التشهد مبتدأ خبره "أن الحمد لله"، و "أن" مخففة من المثقلة، كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. "نستعينه" أي في حمده وغيره، وهو وما بعده جمل مستأنفة مبينة لأحوال الحامدين. وفي رواية ابن ماجه: "نحمده ونستعينه" بزيادة "نحمده". "ونستغفره" أي في تقصير عبادته(4/237)
أَعْمَالِنَا، فمَنْ يَهْدِه أَيْ الله فَلاَ مُضلّ لَهُ. ومِنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ. وأشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاّ الله. وأشْهَدُ أنّ مُحَمّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" وَيَقْرَأُ ثَلاَثَ آيَاتٍ.
قالَ عَبْثرُ: فَفَسّرَهَ لنا سُفْيَانُ الثّوْرِيّ: اتّقُوا الله حَقّ تقَاتِه ولاَ تَمُوتُنّ إلاّ وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ. و {اتّقُوا الله الّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرْحَامَ إنّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}. {اتّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}. وفي البابِ عنْ عَدِيّ بنِ حَاتِمٍ.
حدِيثُ عَبْدِ الله حدِيثٌ حسنٌ رَوَاهُ الأعْمَشُ عنْ أبِي إسْحَاقَ، عَنْ أبِي الأحْوَصِ، عنْ عَبْدِ الله، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
من يهد الله" وفي بعض النسخ: "من يهده الله" بإثبات الضمير، وكذلك في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه. أي من يوفقه للهداية. "فلا مضل له" أي من شيطان ونفس وغيرهما "ومن يضلل" بخلق الضلالة فيه "فلا هادى له" أي لا من جهة العقل، ولا من جهة النقل ولا من ولي، ولا من نبي. قال الطيبي: أضاف الشر إلى الأنفس أولاً كسباً، والإضلال إلى الله تعالى ثانياً خلقاً وتدبيراً "قال:" أي ابن مسعود "ويقرأ ثلاث آيات" أي النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يقتضي معطوفاً عليه، فالتقدير: يقول الحمد لله ويقرأ "ففسرها" أي الاَيات الثلاث "اتقوا الله حق تقاته الخ" الاَية التامة هكذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} الخ الاَية التامة هكذا: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} الاَية، الاَية التامة هكذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} قوله: "وفي الباب عن عدي بن حاتم" أخرجه مسلم بتغيير الألفاظ كذا في شرح سراج أحمد. وإني لم أجد حديثه في صحيح مسلم، فلينظر. قوله: "حديث عبد الله حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه(4/238)
ورَوَاهُ شُعْبَةُ عنْ أبِي إسْحَاقَ، عنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عنْ عَبْدِ الله، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وَكِلاَ الْحَدِيثَيْنِ صحيحٌ. لأِنّ إسْرَائِيلَ جَمَعَهُمَا فقَالَ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عنْ أبِي الأحْوَصِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ عنْ عَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إنّ النّكَاحَ جَائِزٌ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
1112 ـ حدثنا أبُو هِشَامٍ الرّفَاعِيّ. حدثنا محمد بنُ فُضَيْل عنْ عَاصِمِ بنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كُلّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهّدٌ فَهِيَ كالْيَدِ الْجَذْمَاءِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غَرِيبٌ.
ـــــــ
أبو عوانة وابن حبان. كذا في فتح الباري.
قوله: "وقد قال بعض أهل العلم: إن النكاح جائز بغير خطبة الخ" ويدل على الجواز حديث إسماعيل بن إبراهيم عن رجل من بني سليم، قال: "خطبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمامة بنت عبد المطلب، فأنكحني من غير أن يتشهد". رواه أبو داود. ورواه البخاري في تاريخه الكبير، وقال: إسناده مجهول. انتهى. قال الشوكاني، وأما جهالة الصحابي المذكور، فغير قادحة. وقال الحافظ في فتح الباري ـ تحت حديث سهل بن سعد الساعدي ـ: وفيه أنه لا يشترط في صحة العقد تقدم الخطبة، إذا لم يقع في شيء ـ من طرق هذا الحديث ـ وقوع حمد ولا تشهد ولا غيرهما من أركان الخطبة وخالف في ذلك الظاهرية: فجعلوها واجبة، ووافقهم من الشافعية أبو عوانة، فترجم في صحيحه: "باب وجوب الخطبة عند العقد" انتهى. قوله: "حدثنا أبو هشام الرفاعي" اسمه: محمد ابن يزيد بن محمد بن كشير العجلي الكوفي، قاضي المدائن، ليس بالقوي، من صغار العاشرة. وذكره ابن عدي في شيوخ البخاري، وجزم الخطيب بأن البخاري روى عنه. لكن قد قال البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه. كذا في التقريب. وقال في الميزان: قال أحمد العجلي: لا بأس به، وقال البرقاني: أبو هاشم ثقة، أمرني الدارقطني أن أخرج حديثه في الصحيح. إنتهى "ابن فضيل" اسمه.
محمد بن فضيل بن غزوان أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق عارف، رمى بالتشيع. قوله: "كل خطبة" بضم الخاء، وقال القاري: بكسر الخاء، وهي التزوج انتهى. قلت: الظاهر أنه بضم الخاء. "ليس فيها تشهد" قال التوربشتي: وأصل التشهد قولك: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ويعبر به عن الثناء. وفي غير هذه الرواية. "كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء" والشهادة: الخبر المقطوع به، والثناء على الله أصدق الشهادات وأعظمها. قال القاري: الرواية المذكورة رواها أبو داود عن أبي هريرة "كاليد الجذماء" بالذال المعجمة، أي المقطوعة التي لا فائدة فيها لصاحبها، أو التي بها جذام كذا في المجمع، قوله: "هذا حديث حسن غريب" قال الحافظ في الفتح في أوائله: قوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع" وقوله: "كل خطبة ليس شهادة فهي كاليد الجذماء" أخرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة وفي كل منهما مقال. انتهى. وقال في التلخيص: حديث أبي هريرة "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم" "أخرجه" أبو داود والنسائي وابن ماجه وأبو عوانة والدارقطني وابن حبان والبيهقي، من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. واختلف في وصله وإرساله: فرجح النسائي والدارقطني الإرسال. قوله: ويروي: "كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر"، هو عند أبي داود والنسائي كالأول، وعند ابن ماجه كالثاني. لكن قال: "أقطع" بدل "أبتر" وكذا عند ابن حبان وله ألفاظ أخرى أوردها الحافظ عبد القادر الرهاوي في أول الأربعين البلدانية. انتهى. كلام الحافظ فالظاهر أن تحسين الترمذي بتعدد الطرق، والله تعالى أعلم.(4/239)
باب ماجاء في استئمار البكر والثيب
...
17 ـ باب مَا جَاءَ فِي اسْتِئْمارِ الْبِكْرِ والَثّيّب
1113 ـ حدثنا إِسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ. أخبرنا مُحَمّدُ بنُ يُوسُفَ. حدثنا الأوْزَاعِيّ عنْ يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ، عنْ أبي سَلَمَةَ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُنْكَحُ الثّيّبُ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي اسْتِئْمارِ الْبِكْرِ والَثّيّب
قوله: "لا تنكح" بصيغة المجهول قوله: "الثيب" قال في النهاية: الثيب من ليس(4/240)
حَتّى تُسْتَأْمَرَ. ولا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتّى تُسْتَاذَنَ. وَإِذْنُهَا الصّمُوتُ". وفي البابِ عَنْ عُمَرَ وابنِ عَبّاس وعَائِشَةَ والْعُرْسِ بنِ عَمِيرَةَ. حدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والْعمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أهْلِ الْعِلْمِ، أنّ الثّيّبَ لا تُزوّجُ حَتّى تُسْتَأْمَرَ. وإِنْ زَوّجَهَا الأبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْمِرَهَا، فَكَرِهَتْ ذلِكَ، فالنّكَاحُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ عَامةِ أهْلِ الْعِلْمِ.
واخْتلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَزْوِيجِ الأبْكَارِ إذَا زَوّجَهُنّ الاَبَاءُ. فَرَأَى أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ، أَنّ الأبَ إذَا زَوّجَ الْبِكْرَ وَهِيَ بَالِغَةٌ، بِغَيْرِ أَمْرِهَا، فَلمْ تَرْضَ بِتَزْوِيجِ الأبِ، فالنكَاحُ مَفْسُوخٌ.
ـــــــ
ببكر وفي رواية الشيخين: "الأيم" بتشديد الياء المكسورة. "حتى تستأمر" على البناء للمفعول، أي حتى تستأذن صريحاً. إذ "الاستيمار": طلب الأمر، والأمر لا يكون إلا بالنطق. "ولا تنكح البكر" المراد بالبكر: البالغة، إذ لا معنى لاستئذان الصغيرة، لأنها لا تدري ما الإذن؟ "حتى تستأذن" أي يطلب منها الإذن "وإذنها الصموت" أي السكوت، يعني: لا حاجة إلى إذن صريح منها، بل يكتفي بسكوتها لكثرة حيائها. وفي رواية الشيخين: "قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "إذنها أن تسكت" واختلف في أن السكوت من البكر يقوم مقام الإذن في حق جميع الأولياء، أو في حق الأب والجد دون غيرهما. وإلى الأول ذهب الأكثر، لظاهر الحديث: قوله "وفي الباب عن عمر" لينظر من أخرجه "وابن عباس" أخرجه الجماعة إلا البخاري. "وعائشة" قالت: "قلت: يا رسول الله، تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم". قلت: إن البكر تستأمر فتستحي فتسكت؟ فقال سكاتها إذنها: أخرجه الشيخان: "والعرس" بضم أوله وسكون الراء. بعدها مهملة "ابن عميرة" بفتح العين المهملة وكسر الميم وسكون التحتانية، صحابي. قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان قوله: "وأكثر أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم أن الأب اذا زوج البكر وهي بالغة بغير أمرها فلم ترض بتزويج الأب فالنكاح مفسوخ"(4/241)
وَقالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: تَزْوِيجُ الأبِ عَلَى الْبِكْرِ جَائِزٌ، وإِنْ كَرِهَتْ ذلِكَ. وهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ والشّافِعِيّ وأحْمَدَ وإسْحَاقَ.
ـــــــ
واحتجوا على ذلك بحديث ابن عباس: "أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت: أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. قال ابن القطان في كتابه: حديث ابن عباس هذا حديث صحيح. "وقال بعض أهل المدينة: تزويج الأب على البكر جائز وإن كرهت ذلك، وهو قول مالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول ابن أبي ليلى والليث. واحتجوا بحديث ابن عباس الاَتي: "الأيم أحق بنفسها من وليها" فإنه دل بمفهومه على أن ولي البكر أحق بها منها. واحتج بعضهم بحديث أبي موسى مرفوعاً: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها"، قال: فقيد ذلك باليتيمة، فيحمل المطلب عليه، وفيه نظر، لحديث ابن عباس بلفظ: "والبكر يستأذنها أبوها في نفسها"، رواه مسلم. وأجاب الشافعي: بأن المؤامرة قد تكون عن استطابة نفس، ويؤيده حديث ابن عمر رفعه: "وأمروا النساء في بناتهن" رواه أبو داود. وقال الشافعي: لا خلاف أنه ليس للأم أمر، لكنه على معنى استطابة النفس. وقال البيهقي: زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباس غير محفوظة، قال الشافعي: رواها ابن عيينة في حديثه، وكان ابن عمر والقاسم.. . وسالم يزوجون الأبكار لا يستأمروهن. قال البيهقي: والمحفوظ في حديث ابن عباس: "البكر تستأمر" ورواه صالح بن كيسان بلفظ: "واليتيمة لا تستأمر"، وكذلك رواه أبو بردة عن أبي موسى، ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. فدل على أن المراد بالبكر: اليتيمة. قال الحافظ ابن حجر: وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب، ولو قال قائل: "بل المراد باليتيمة البكر" لم يدفع. و "تستأمر" بضم أوله، يدخل فيه الأب وغيره. فلا تعارض بين الروايات. ويبقى النظر في أن "الاستثمار" هل هو شرط في صحة العقد، أو مستحب على معنى الاستطابة كما قال الشافعي؟ كل الأمرين محتمل، انتهى. كلام الحافظ. قلت: الظاهر أن الاستثمار هو شرط في صحة العقد لا على طريق الاستطابة يدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنه: أن جارية بكراً أنت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت: أن أباها زوجها وهي(4/242)
ـــــــ
كارهة، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم تخريجه، وهو حديث صحيح. قال الحافظ في الفتح: ولا معنى للطعن في الحديث، فإن طرقه تقوى بعضها ببعض، انتهى. وأجاب البيهقي: بأنه إنه ثبت الحديث في البكر، حمل على أنها زوجت بغير كفء قال الحافظ: وهذا الجواب هو المعتمد، فإنها واقعة عين: فلا يثبت الحكم فيها تعميماً. قلت: قد تعقب العلامة الأمير اليماني، على كلام البيهقي والحافظ في سبل اللام تعقباً حسناً، حيث قال: كلام هذين الإمامين محاماة على كلام الشافعي ومذهبهم وإلا فتأويل البيهقي لا دليل عليه فلو كان كما قال لذكرته المرأة، بل قالت: إنه زوجها وهي كارهة. فالعلة كراهتها، فعليها علق التخيير: لأنها المذكورة. فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كنت كارهة فأنت بالخيار". وقول المصنف ـ يعني الحافظ ابن حجر ـ إنها واقعة عين كلام غير صحيح. بل حكم عام لعموم علته، فأينما وجدت الكراهة ثبت الحكم. وقد أخرج النسائي عن عائشة: "أن فتاة دخلت عليها، فقالت: أبي زوجني من ابن أخيه يرفع في خسيسه1 وأنا كارهة. قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها.
فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للاَباء من الأمر شيء والظاهر أنها بكر، ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس، وقد زوجها أبوها كفئاً ابن أخيه. وإن كانت ثيباً فقد صرحت: أنه ليس مرادها إلا إعلام النساء أنه ليس للاَباء من الأمر شيء. ولفظ "النساء" عام للثيب والبكر، وقد قالت هذه عنده صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه. والمراد بنفي الأمر من الاَباء: ففي التزويج للكارهة، لأن السياق في ذلك. فلا يقال: هو عام لكل شيء. انتهى ما في السبل. قلت: حديث عائشة ـ الذي أخرجه النسائي ـ مرسل فإنه أخرجه عن عبد الله بن بريدة عن عائشة قال البيهقي: هذا مرسل، ابن بريدة لم يسمع من عائشة انتهى لكن رواه ابن ماجه متصلاً، وسنده هكذا: حدثنا هناد بن السري حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن عن ابن بريدة عن أبيه، قال: "جاءت
ـــــــ
1 كذا بالأصل. والرواية المعروفة أو المشهورة "برفع بي (بالباء) خسبيسته
(بزيادة تاء قبل الهاء) " فليراجع .(4/243)
1114 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد حدثنا مَالِكُ بنُ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ الله بن الْفَضْلِ، عنْ نَافِعِ بنِ جُبَيْرِ بنِ مُطعِمٍ عنِ ابنِ عَبّاسٍ أَنّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "الأيّمُ أَحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا. والبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا. وإذْنُهَا صُمَاتُهَا".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. رواه شَعْبَةُ وسُفْيَانُ الثّوْرِيّ عَنْ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ.
وقد احْتَجّ بَعْضُ الناسِ ـ فِي إِجَازَةِ النّكَاحِ بِغَيْرِ وَلي ـ بِهَذَ الحَدِيثِ وَلَيْسَ في هَذَا الحَدِيثِ مَا احْتَجّوا بِه. لأِنّهُ قَدْ رُوِيَ ـ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ـ عنْ ابنِ عَبّاسٍ عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ : "لاَ نِكَاحَ إلاّ بِوَلِي". وهَكَذَا أفْتَى بِهِ ابنُ عَبّاسٍ بَعْدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لاَ نِكَاحَ إلاّ بِوَلِي". وإنّمَا مَعْنَى قَوْلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
فتاة" الخ، بمثل حديث النسائي. وأخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "الأيم" قال الحافظ: ظاهر هذا الحديث "أن" "الأيم" هي: الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق لمقابلتها بالبكر. وهذا هو الأصل في الأيم: ومنه قولهم: "الغزو مأيمة" أي يقتل الرجال. فتصير النساء أيامى. وقد تطلق على من لا زوج لها أصلاً. "وإذنها صماتها" بضم الصاد، بمعنى سكوتها. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري، قوله: "واحتج بعض الناس في إجازة النكاح بغير ولي، بهذا الحديث" قال الحافظ الزيلعي وجهه أنه شارك بينها وبين الولي، ثم قدمها بقوله: "أحق"، وقد صح العقد منه، فوجب أن يصح منها، انتهى. "وليس في هذا الحديث ما احتجوا به، لأنه قد روي من غير وجه، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا نكاح إلا بولي" وهو حديث صحيح كما عرفت "وهكذا أفتى به ابن عباس بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا نكاح إلا بولي" فإفتاؤه به بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يؤيد صحة حديثه. "وإنما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:(4/244)
"الأيّمُ أحَقّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيّهَا" ـ عندَ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ ـ: أنّ الوَلِيّ لاَ يُزوّجُهَا إلاّ بِرِضَاهَا وأمْرِهَا: فإنْ زَوّجَهَا فَالنّكَاحُ مَفْسُوخٌ: عَلَى حَدِيثِ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَم، حَيْثُ زَوّجَهَا أبُوهَا وهِيَ ثَيّبٌ، فَكَرِهتْ ذَلِكَ، فرَدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نِكَاحَهُ.
ـــــــ
"الأيم أحق بنفسها من وليها"، عند أكثر أهل العلم، أن الولي لا يزوجها إلا برضاها وأمرها. فإن زوجها فالنكاح مفسوخ على حديث خنساء بنت خدام الخ" قال الحافظ في الفتح: حديث عائشة "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" حديث صحيح، وهو يبين أن معنى قوله "أحق بنفسها من وليها": أنه لا ينفذ عليها أمره بغير إذنها، ولا يجبرها فإذا أرادت أن تزوج لم يجز لها إلا بإذن وليها. انتهى كلام الحافظ. وقال النووي في شرح صحيح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: "أحق بنفسها" يحتمل ـ من حيث اللفظ ـ أن المراد: أحق من وليها في كل شيء من عقد وغيره، كما قاله أبو حنيفة وداود. ويحتمل.. . "من حيث غيره" أنها أحق بالرضا، أي لا تزوج حتى تنطق بالإذن، بخلاف البكر. ولكن لما صح قوله صلى الله عليه وسلم: "لانكاح إلا بولى" مع غيره من الأحاديث الدالة على اشتراط الولي ـ يتعين الاحتمال الثاني. قال: واعلم أن لفظة "أحق" ههنا المشاركة، "و" معناه: أن لها في نفسها في النكاح حقاً، ولوليها حقاً وحقها أوكد من حقه. فإنه لو أراد تزويجها كفئاً وامتنعت لم تجبر، ولو أرادت أن تتزوج كفئاً فامتنع الولي أجبر، فإن أصر زوجها القاضي. فدل على تأكد حقها ورجحانه. انتهى كلام النووي.(4/245)
باب ماجاء في إكراه اليتيمة على الزواج
...
18 ـ باب مَا جَاءَ في إكْرَاهِ اليَتِيمَةِ عَلَى التّزْوِيج
1115 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ مُحَمّدِ عَن مُحَمّدِ بنِ عمْرو عن أبِي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اليَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا، فإنْ صَمَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا،
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في إكْرَاهِ اليَتِيمَةِ عَلَى التّزْوِيج
قوله: "اليتيمة تستأمر" اليتيمة هي: صغيرة لا أب لها، والمراد هنا:(4/245)
وإنْ أبَتْ فَلاَ جَوَازَ عَلَيْهَا". يعني إذا أدركت فَرَدّتْ.
وفي البَابِ: عنْ أبِي مُوسَى، وابنِ عُمرَ وعائشة.
: حدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ حدِيثٌ حسنٌ.
ـــــــ
البكر البالغة، سماها باعتبار ما كانت. كقوله تعالى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} وفائدة التسمية: مراعاة حقها والشفقة عليها في تحري الكفاية والصلاح فإن اليتيم مظنة الرأفة والرحمة. ثم هي قبل البلوغ لا معنى لإذنها، ولا لإبائها. فكأنه عليه الصلاة والسلام شرط بلوغها فمعناه: لا تنكح حتى تبلغ فتستأمر. قاله القاري في المرقاة. "فإن صمتت" أي سكتت "فهو" أي صماتها "وإن أبت" من الإباء، أي أنكرت ولم ترض "فلا جواز عليها" بفتح الجيم، أي فلا تعدي عليها ولا إجبار. قوله: "وفي الباب عن أبي موسى" أخرجه أحمد مرفوعاً بلفظ: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت لم تكره". وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم وأبو يعلى والدارقطني والطبراني. قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح "وابن عمر" قال: "توفي عثمان بن مظعون، وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص. وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون ـ قال عبد الله: وهما خالاي. ـ فخطبت إلى قدامة ابن مظعون ابنة عثمان بن مظعون، فزوجنيها. ودخل المغيرة بن شعبة "يعني: إلى أمها" فأرغبها في المال: فحطت إليه، فحطت الجارية إلى هوى أمها فأبتا حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون، يا رسول الله. ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة "ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي يتيمة، ولا ننكح إلا بإذنها". قال: فانتزعت ـ والله ـ مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة" رواه أحمد والدارقطني. قال صاحب المنتقى: وهو دليل على أن اليتيمة لا يجبرها وصى ولا غيره. انتهى قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن" قال في المنتقى: رواه الخمسة إلا ابن ماجه وقال في النيل: وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم. قوله(4/246)
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في تَزْوِيجِ اليَتِيمَةِ فَرَأَى بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: أنّ اليَتِيمَةَ إذَا زوّجَتْ فَالنّكَاحُ مَوْقُوفٌ حَتّى تَبْلُغَ، فإِذَا بَلَغَتْ فَلَهَا الخِيَارُ في إجَازَةِ النّكَاحِ أَوْ فَسْخِهِ. وهُوَ قَوْلُ بَعْضِ التّابِعِينَ وغَيْرِهِمْ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ يَجُوزُ نِكَاحُ اليَتِيمَةِ حَتّى تَبْلُغَ، ولاَ يَجُوزُ الخِيَارُ فِي النّكَاحِ. وهُو قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ والشّافِعِيّ وغَيْرِهِمَا منْ أَهْلِ العِلْمِ. وقَالَ أحْمَدُ وإسْحَاقُ: إذَا بَلَغَتْ اليَتِيمَةُ تِسْعَ سِنَينَ فزُوّجَتْ فَرَضِيَتْ، فالنّكَاحُ جَائزٌ، ولاَ خِيَارَ لَهَا إذَا أدْرَكَتْ. واحْتَجّا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بَنَى بِهَا وهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سَنِينَ" وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ "إذَا بَلَغتْ الجَارِيةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ".
ـــــــ
فرأى بعض أهل العلم أن اليتيمة إذا زوجت فالنكاح موقوف حتى تبلغ، فإذا بلغت فلها الخيار في إجازة النكاح وفسخه" وهو قول أصحاب أبي حنيفة. ويدل على جواز تزويج اليتيمة قبل بلوغها، قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} ، قال الحافظ في الفتح: فيه دلالة على تزويج الولي غير الأب التي دون البلوغ بكراً كانت أو ثيباً، لأن حقيقة "اليتيمة" من كانت دون البلوغ ولا أب لها وقد أذن في تزويجها بشرط أن لا يبخس من صداقها. فيحتاج من منع ذلك إلى دليل قوى. انتهى. "وقال بعضهم: لا يجوز نكاح اليتيمة حتى تبلغ، ولا يجوز الخيار في النكاح" وهو قول الشافعي. واحتج بظاهر حديث الباب قال في شرح السنة: والأكثر على أن الوصي لا ولاية له على بنات الموصي، وإن فوض ذلك إليه. وقال حماد بن أبي سليمان: للوصي أن يزوج اليتيمة قبل البلوغ وحكى ذلك عن أبي شريح: أنه أجاز نكاح الوصي مع كراهة الأولياء. وأجاز مالك: إن فوضه الأب إليه انتهى. "وقال أحمد وإسحاق: إذا بلغت اليتيمة تسع سنين فزوجت فرضيت، فالنكاح جائز ولا خيار لها إذا أدركت" أي إذا بلغت. ولم أقف على دليل يدل على قول هذين الإمامين وأما احتجاجهما بحديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بها وهي بنت تسع سنين" ففيه: أن عائشة قد كانت أدركت وهي بنت تسع سنين. "قالت عائشة: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة" كأن عائشة أرادت: أن الجارية إذا بلغت تسع سنين فهي في حكم المرأة البالغة، لأنه يحصل لها حينئذ ما يعرف به نفعها وضررها: من الشعور والتمييز. والله تعالى أعلم.(4/247)
باب ماجاء في الوليين يزوجان
...
19 ـ باب مَا جَاءَ في الوَلِيّيْنِ يُزَوّجَان
1116 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا غُنْدَرٌ حدثنا سَعِيدُ بنُ أبِي عَروُبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَن الحسَن عَن سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ، أنّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "أَيّمَا امْرَأَةٍ زَوّجَهَا وَلِيّانِ فَهِيَ لِلأوّلِ مِنْهُمَا، ومَنْ بَاعَ بَيْعاً مِنْ رَجُلَيْنِ فَهُوَ لِلأوّلِ مِنْهُمَا".
هذا حديثٌ حسنٌ. والعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ، لاَ نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي ذلِكَ اخْتِلاَفاً: إذَا زَوّجَ أَحَدُ الوَلِيّيْنِ قَبْلَ الاَخَرِ، فَنِكَاحُ الأوّلِ جائِزٌ، ونِكَاحُ الاَخَرِ مَفْسُوخٌ. وإذَا زَوّجَا جَمِيعاً فَنكَاحُهُمَا جَمِيعاً مَفْسُوخٌ. وهُوَ قَوْلُ الثّوْرِيّ وأحْمَدَ وإسْحَاقَ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في الوَلِيّيْنِ يُزَوّجَان
قوله: "حدثنا غندر" بفتح معجمة وسكون نون وفتح دال وقد تضم. "زوجها وليان" أي من رجلين "فهي للأول منهما" أي للسابق منهما ببينة أو تصادق. فإن وقعا معاً، أو جهل السابق منهما ـ بطلا معاً. قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه. قال المنذري: وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة شيئاً، وقيل سمع منه حديثاً في العقيقة. انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: حسنه الترمذي، وصححه أبو زرعة وأبو حاتم والحاكم في المستدرك قال الحافظ: وصحته متوقفة على ثبوت سماع الحسن من سمرة، فإن رجاله ثقات، لكن إختلف فيه على الحسن. ورواه الشافعي وأحمد والنسائي، من طريق قتادة أيضاً، عن الحسن عن عقبة بن عامر. قال الترمذي: الحسن عن سمرة في هذا أصح. وقال ابن المديني: لم يسمع الحسن من عقبة شيئاً وأخرجه ابن ماجه من طريق شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة أو عقبة بن عامر. انتهى(4/248)
باب ماجاء في نكاح العبد بغير إذن سيده
...
20 ـ باب مَا جَاءَ فِي نِكَاحِ العَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيّدِه
1117 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ عنْ زُهَيْرِ بنِ مُحمّدٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ مُحَمّدِ بنِ عَقِيلٍ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم: قال "أيّمَا عَبْدٍ تَزَوّجَ بَغيْرِ إذْنِ سَيّدهِ فَهُوَ عَاهِرٌ".
وفي البَابِ: عنْ ابنِ عُمرَ. حدِيثُ جَابِرٍ حديثٌ حسنٌ. ورَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ الله بنِ مُحَمّدِ بنِ عَقِيلٍ عَنْ ابنِ عُمَرَ عَنْ النبيّ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي نِكَاحِ العَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيّدِه
قوله: "بغير إذن سيده" أي مالكه. "فهو عاهر" أي زان. قال المظهر: لا يجوز نكاح العبد بغير إذن السيد وبه قال الشافعي وأحمد، ولا يصير العقد صحيحاً عندهما بالإجازة بعده. وقال أبو حنيفة ومالك: إن جاز بعد العقد صح. قلت: احتج من قال ببطلان النكاح وعدم صحته إلا بإذن السيد: بأنه صلى الله عليه وسلم حكم عليه بأنه عاهر، والعاهر: الزاني، والزنا باطل. وبرواية ابن عمر بلفظ: "إذا نكح العبد بغير إذن مولاه فنكاحه باطل"، وهو حديث ضعيف كما ستعرف. قوله "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن عمر العمري عن نافع عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا نكح العبد بغير إذن مولاه فنكاحه باطل" قال أبو داود: هذا الحديث ضعيف، وهو موقوف، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما. انتهى. قال الحافظ في التلخيص: ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر، بلفظ: "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو زان" وفيه: مندل بن علي، وهو ضعيف. وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر. وصوب الدارقطني ـ في العلل ـ وقف هذا المتن على ابن عمر، ولفظ الموقوف أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: "أنه وجد عبداً له تزوج بغير إذنه، ففرق بينهما، وأبطل صداقه، وضربه حداً" انتهى. قوله: "حديث جابر حديث حسن" قال المنذري ـ بعد نقل تحسين الترمذي هذا ـ ما لفظه: وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد احتج به غير واحد من الأئمة، وتكلم فيه غير واحد(4/249)
صلى الله عليه وسلم ولاَ يَصِحّ. والصّحِيحُ: عنْ عَبْدِ الله بنِ مُحَمّدِ بنِ عَقِيلٍ عنْ جَابِرٍ.
والعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ: أنّ نِكَاحَ العَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيّدِهِ لاَ يَجُوزُ وهُوَ أَحْمَدَ وإِسْحَاقَ وغَيْرِهِمَا بلا إختلاف.
1119 ـ حدثنا سَعِيدُ بنُ يحْيَى بنُ سَعِيدٍ الأمَوِيّ حدثنا أبِي حدثنا ابنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ مُحَمّدِ بنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: "أَيّمَا عَبْدٍ تَزَوّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيّدِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
من الأئمة. انتهى. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" في سنده: عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد عرفت آنفاً أنه قد احتج به غير واحد، وتكلم فيه غير واحد والترمذي ممن احتج به، ولذلك صحح هذا الحديث. قال الخزرجي في الخلاصة: قال الترمذي: صدوق، سمعت محمداً يقول: كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل انتهى.(4/250)
باب ماجاء في مهور النساء
...
21 ـ باب مَا جَاءَ فِي مُهُورِ النّسَاء
1120 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارِ حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ وحدثنا عَبْدُ الرّحْمِن بنُ مَهْدِيّ و مُحَمّدُ بنُ جَعْفَرٍ، قَالُوا: حدثنا شُعْبَةُ عن عَاصِمٍ بنِ عبيد الله، قالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ عنْ أبِيهِ: "أنّ امْرَأةً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ تَزَوّجَتْ على نَعْلَيْنِ، فقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ ومَالِكِ بِنَعْلَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قالَ: فَأَجَازَهُ".
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي مُهُورِ النّسَاء
قوله: "أرضيت" همزة الاستفهام للاستعلام "من نفسك ومالك" بكسر اللام، أي بدل نفسك مع وجود مالك. قاله القاري. "قالت: نعم فأجازه"(4/250)
وفي البَابِ: عَنْ عُمَرَ وأبِي هُرَيْرَةَ وسَهْل بنِ سَعْدٍ وأبِي سَعِيدٍ وأَنَسٍ وعَائِشَةَ وجَابِرٍ وأبِي حَدْرَدٍ الأسْلَمِيّ. حدِيثُ عَامِرٍ بنِ رَبِيعَةَ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
استدل به من قال بجواز كون المهر شيئاً حقيراً له قيمة، لكن الحديث ضعيف. قوله: "وفي الباب عن عمر" أخرجه الخمسة وصححه الترمذي، وسيجيء "وأبي هريرة" قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار" الحديث، وفيه قال: "على كم تزوجتها؟" قال: على أربع أواق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "على أربع أواق: كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك" الخ. أخرجه مسلم. "وسهل بن سعد" أخرجه الترمذي في هذا الباب، وأخرجه الشيخان: "وأبي سعيد" أخرجه الدارقطني مرفوعاً بلفظ: "لا يضر أحدكم بقليل من ماله تزوج أم بكثير، بعد أن يشهد". وفي سنده: أبو هارون العبدي، قال ابن الجوزى: وأبو هارون العبدي أسمه: عمارة بن جرير، قال حماد بن زيد: كان كذاباً، وقال السعدي: كذاب مفتري. كذا في نصب الراية. "وأنس" أخرجه الجماعة بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: "ما هذا؟" قال: تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. قال: "بارك الله" أولم ولو بشاة" "وعائشة" أخرجه أحمد مرفوعاً بلفظ: "إن أعظم النكاح بركة، أيسره مؤنة". وأخرجه أيضاً الطبراني في الأواسط، بلفظ: "أخف النساء صداقا، أعظمهن بركة" وفي إسناده: الحارث بن شبل، وهو ضعيف. وأخرجه أيضاً الطبراني ـ في الكبير والأوسط ـ بنحوه. وأخرج نحوه أبو داود والحاكم. وصححه عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الصداقه أيسره". "وجابر" بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطى في صداق امرأة سويقاً أو تمراً فقد استحل"، أخرجه أبو داود، وأشار إلى ترجيح وقفه. كذا في بلوغ المرام. "وأبي حدرد الأسلمي" لينظر من أخرجه.
قوله: "وحديث عامر بن ربيعة حديث حسن صحيح" قال الحافظ في بلوغ(4/251)
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في المَهْرِ، فقَالَ بَعْضُ أهل العلم: المَهْرُ عَلَى مَا تَرَاضَوْا عَلَيْهِ، وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ والشّافِعِيّ وأحْمَدَ وإسْحَاقَ. وقَالَ مَالِكُ بنُ أنَسٍ: لاَ يَكُونُ المَهْرُ أقَلّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ الكُوفَةِ: لاَ يَكُونُ المَهْرُ أقَلّ مِن عَشْرَةِ دَرَاهِمَ.
ـــــــ
المرام ـ بعد أن حكى تصحيح الترمذي هذا ـ إنه خولف في ذلك. انتهى. وقال الحافظ الزيلعي في نصب الراية ـ بعد أن حكى تصحيح الترمذي له: قال ابن الجوزي في التحقيق: عاصم بن عبيد الله1 قال ابن معين: ضعيف، وقال ابن حبان: كان فأحسن الخطإ فترك، انتهى.
قوله: "واختلف أهل العلم في المهر، فقال بعضهم: المهر على ما تراضوا عليه، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق" قال الحافظ في الفتح: وأجازه الكافة بما تراضى عليه الزوجان، أو "كذا بالأصل. ولعل الصواب: أي" من العقد إليه "كذا بالأصل. ولعل الصواب: عليه" بما فيه منفعة: كالسوط والنعل، وإن كانت قيمته أقل من درهم. وبه قال يحي بن سعيد الأنصاري. وأبو الزناد وربيعة وابن أبي ذئب، وغيرهم من أهل المدينة غير مالك ومن تبعه، وابن جريج ومسلم بن خالد، وغيرهما من أهل مكة، والأوزاعي في أهل الشام، والليث في أهل مصر، والثوري وابن أبي ليلى، وغيرهما من العراقيين غير أبي حنيفة ومن تبعه، والشافعي وداود، وفقهاء أصحاب الحديث، وابن وهب من المالكية. انتهى. وحجتهم أحاديث الباب. "وقال مالك بن أنس: لا يكون المهر أقل من ربع دينار" قال القرطبي: استدل من قاسه بنصاب السرقة: بأنه عضو آدمي محترم، فلا يستباح بأقل من كذا قياساً على يد السارق. وتعقبه الجمهور: بأنه قياس في مقابل النص، فلا يصح وبأن اليد تقطع وتبين، ولا كذلك الفرج. وبأن القدر المسروق يجب رده. "وقال بعض أهل الكوفة: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم" وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. واحتجوا بحديث جابر مرفوعاً: "لا تنكحوا
ـــــــ
1 كذا بالأصل هنا: (عبيد الله) بالياء، وهو مخالف للفظ المتن المتقدم: (عبد) بدون ياء. فليراجع.(4/252)
ـــــــ
النساء إلا الأكفاء، ولا يزوجهن إلا الأولياء، ولا مهر دون عشرة دراهم". وفي سنده: مبشر بن عبيد قال الدارقطني بعد أن أخرج هذا الحديث: هو متروك الحديث، أحاديثه لا يتابع عليها. انتهى. وأسند البيهقي ـ وقد أخرجه في سننه ـ في كتاب المعرفة، عن أحمد، أنه قال: أحاديث مبشر بن عبيد موضوعة. انتهى. وأخرجه أيضاً أبو يعلى الموصلي في مسنده، وابن حبان في كتاب الضعفاء، وقال: مبشر بن عبيد يروي عن الثقات الموضوعات، لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب. انتهى. وأخرجه أيضاً ابن عدي والعقيلي، وأعلاه بمبشر. وأخرج الدارقطني والبيهقي في سننهما، عن الشعبي عن علي موقوفاً: "لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم، ولا يكون المهر أقل من عشرة دراهم" وفي سنده: داود الأودي، وهو ضعيف. وله طرق أخرى في سنن الدارقطني، ولا تخلو عن ضعف. كذا في التعليق الممجد.
تنبيه: قال صاحب العرف الشذي: أكثرنا يحتج بحديث الدارقطني: "لا مهر أقل من عشرة دراهم" وفي جميع طرقه: حجاج بن أرطاة، وهو متكلم فيه. انتهى. قلت: ضعف هذا الحديث مشهور بمبشر بن عبيد، وهو متروك الحديث، بل قال الإمام أحمد رحمه الله: أحاديثه موضوعة. فالعجب من صاحب العرف الشذي أنه ضعف هذا الحديث بحجاج بن أرطاة، ولم يضعفه بمبشر.
تنبيه آخر: قال العيني في البناية مجيباً عن ضعف حديث جابر المذكور: فإنه إذا روى من طرق مفرداتها ضعيفة، يصير حسناً ويحتج به، ورد عليه صاحب عمدة الرعاية، حاشية شرح الوقاية ـ: بأن بكثرة الطرق إنما يصير الحديث حسناً: إذا كان الضعف فيها يسيراً، فيجبر بالتعدد، لا إذا كانت شديدة الضعف: بأن لا يخلو واحد منها عن كذاب أو متهم والأمر فيما نحن فيه كذلك. انتهى.
تنبيه آخر: قالت الحنفية: إن ما يدل على كون المهر أقل من عشرة، محمول على المعجل. قلت: رد عليهم صاحب عمدة الرعاية: بأن هذا الحمل إنما يسلم ـ مع مخالفته للظواهر ـ إذا ثبت التقدير بدليل معتمد وإذ ليس فليس.(4/253)
1121 ـ حدثنا الحَسَنُ بنُ عَلِي الخَلاّلُ حدثنا إسْحَاقُ بنُ عِيسَى وَ عبْدُ الله بنُ نَافِعٍ الصائغ، قالاَ: أخبرنا مَالِكُ بنُ أنَسٍ عَنْ أبِي حَازمِ بنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السّاعِدِيّ: "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالتْ إِنّي وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ. فَقامَتْ طَوِيلاً، فَقالَ رَجُلٌ: يا رسولَ الله، زَوّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ. فَقالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلاّ إِزَارِي هَذَا. فَقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِزَاركَ إنْ أعْطَيْتَهَا جَلَسْتَ وَلاَ إزَارَ لَكَ فالْتَمِسْ شَيْئاً. قالَ: ما أَجِدُ. قالَ فالتَمِسْ وَلَوْ خَاتِماً مِنْ حَديدٍ. قالَ: فالتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئاً، فَقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ معَكَ مِنْ القرْآنِ شَيءٌ؟ قال: نَعمْ سُورَةُ كَذَا، وسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ سَمّاهَا فَقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: زَوّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ ذَهَبَ الشّافِعِيّ إلَى هَذَا الحَدِيثِ، فَقالَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يُصْدِقُهَا، فَتَزَوّجَهَا عَلَى سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ
ـــــــ
تنبيه: اعلم أن حديث جابر المذكور من أخبار الاَحاد، وهو يخالف إطلاق قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فإنه لا تقدير فيه بشيء. وتخصيص الكتاب بخبر الواحد ـ وإن كان صحيحاً ـ لا يجوز عند الحنفية، فما بالك إذا كان ضعيفاً فالعجب منهم أنهم كيف خصصوا بهذا الحديث الضعيف إطلاق الكتاب، وعملوا به. والعجب على العجب أنهم قد استندوا في الجواب عن الأحاديث الصحيحة التي دلت على كون المهر غير مال ـ وهي مروية في الصحيحين ـ بما استندت1 به الشافعية، حيث قالوا: هذا الأحاديث أخبار آحاد مخالفة لظاهر الكتاب، فلا يعمل به الشافعية، حيث قالوا: هذا الأحاديث أخبار آحاد مخالفة لظاهر الكتاب، فلا يعمل2 بظاهرها.
ـــــــ
1 عبارة الأصل المطبوع: "واستندت" ، وهي خطأ ، ومحرفة عما أثبتناه.
2 عبارة الأصل المطبوع: "تعمل" ؛ وهي مصحفة عما أثبتناه – وهو الظاهر -(4/254)
فالنّكاحُ جَائِزٌ، ويُعَلّمُهَا سُورَةً منَ القُرْآنِ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: النّكاحُ جَائِزٌ، ويَجْعَلُ لَهَا صَدَاقَ مِثْلِهَا. وهُوَ قَوْلُ أهْلِ الكُوفَةِ وأَحْمَدَ وإسْحَاقَ.
1122 ـ حدثنا ابنُ أبِي عُمرَ حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أيّوبَ عَنْ ابنِ سِيرِينَ عَنْ أبِي العَجْفَاءِ السّلمى، قالَ: قالَ عُمرُ بنُ الخَطّابِ: "أَلاَ لاَ تُغَالُوا صَدُقَةَ النّسَاءِ. فَإِنّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً في الدّنْيَا أوْ تَقْوَى عِنْدَ الله، لَكانَ أوْلاَكُمْ بِها نَبيّ الله صلى الله عليه وسلم. مَا عَلِمْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَكَحَ شَيْئاً مِن نِسَائِهِ، وَلاَ أنْكَحَ شَيْئاً مِنْ بَنَاتِهِ ـ عَلَى أكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أوِقيّةً".
ـــــــ
قوله: "عن أبي العجفاء"1 بفتح أوله وسكون الجيم: السلمي البصري، قيل: اسمه هرم بن نسيب، وقيل بالعكس، وقيل بالصاد يدل السين المهملتين مقبول من الثانية. "لا تغالوا" بضم التاء واللام "صدقة النساء" بفتح الصاد وضم الدال: جمع "الصداق" قال القاضي: المغالاة التكثير، أي لا تكثروا مهورهن. "فإنها أي الصدقة أو المغالاة، يعني: كثرة الصدقة، "لو كانت مكرمة" بفتح الميم وضم الراء: واحدة "المكارم" أي مما تحمد "أو تقوى عند الله" أو مكرمة في الاَخرة، لقول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} قال القاري قال: وهي غير منونة، وفي نسخة "يعني: من المشكاة" : بالتنوين وقد قريء شاذاً في قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ}. أولادكم بها أي بمغالاة المهور. "نكح شيئاً من نسائه" أي تزوج إحداهن "ولا أنكح" أي زوج "على أكثر من ثنتي عشرة أوقية" وهي: أربعمائة وثمانون درهماً "084" وأما ما روي: "أن صداق أم حبيبة كان أربعة آلاف درهم"
ـــــــ
1 يجب أن يلاحظ الشارح لم يتكلم عن حديث سهل بن سعد الساعدي المتقدم على حديث عمر. فلا يتوهم أن في النقل النفص. وإنما الذي نجوزه:هو أن نسخه الأصل ناقصة ، إذ يعد أن يكون الشارح لم يهتم بالكتابة عنه . إلا أن يكون سيذكر هذا الحديث في الأمور الخاصة بالقرآن ، فأرجأ الكلام عنه. وبثعد أن تكون نسخة الشارح من المتن ناقصة هذا الحديث.(4/255)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبُو العَجْفَاءِ السّلَمِيّ، اسْمُهُ: هَرَمٌ. و "الأوُقية" ـ عنْدَ أهْلِ العِلْمِ ـ: أرْبَعُونَ دِرْهَماً، و "ثِنْتَا عَشْرَةَ أُوقِية: أرْبَعُمَائَةٍ وثَمَانُونَ دِرْهَماً.
ـــــــ
فإنه مستثنى من قول عمر. لأنه أصدقها النجاشي في الحبشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف درهم، من غير تعيين من النبي صلى الله عليه وسلم. وما روته عائشة: "من ثنتي عشرة ونش، فإنه لم يتجاوز عدد الأواقي التي ذكرها عمر. ولعله أراد الأوقية، ولم يلتفت إلى الكسور. مع أنه نفى الزيادة في علمه. ولعله لم يبلغه صداق أم حبيبة، ولا الزيادة التي روتها عائشة. فإن قلت: نهيه عن المغالاة مخالف لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} قلت: النص يدل على الجواز، لا على الأفضلية. والكلام فيها، لا فيه. لكن ورد في بعض الروايات: "أنه قال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة: ما ذاك لك، قال: ولم؟ قالت: لأن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} فقال عمر: "امرأة أصابت، ورجل أخطأ" كذا في المرقاة، قلت: أخرج عبد الرزاق من طريق عبد الرحمن السلمى، قال: "قال عمر رضي الله عنه: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} "من ذهب" قال: وكذلك هي في قراءة ابن مسعود، ـ فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته". وأخرجه الزبير بن بكار، من وجه آخر منقطع، "فقال عمر: امرأة أصابت، ورجل أخطأ" وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن مسروق عن عمر، فذكره متصلاً مطولاً. قال الحافظ في الفتح. قال القاري في المرقاة: ذكر السيد جمال الدين المحدث في "روضة الأحباب" أن صداق فاطمة رضي الله عنها كان أربعمائة مثقال فضة. وكذلك ذكره صاحب المواهب، ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "إن الله عز وجل أمرني أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة" والجمع: أن عشرة دراهم سبعة مثاقيل، مع عدم اعتبار الكسور. لكن يشكل نقل ابن الهمام: "أن صداق فاطمة كان أربعمائة درهم". وعلى كل فما اشتهر بين أهل مكة: "من أن مهرها تسعة عشر مثقالاً من الذهب"،فلا أصل له. اللهم إلا أن يقال: إن هذا المبلغ قيمة درع علي رضي الله تعالى عنه، حيث دفعها إليها مهراً معجلاً. والله تعالى أعلم. انتهى.(4/256)
باب ماجاء في الرجل يعتق الأمة ثم يتزوجها
...
22 ـ باب ما جَاءَ في الرّجُلِ يُعْتِقُ الأمَةَ ثُمّ يَتَزَوّجُهَا
1123 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا أبو عَوَانةَ عَن قَتادَةَ و عَبْدِ العَزِيزِ بن صُهَيبٍ عَن أنَسِ بنِ مَالِكٍ: "أنّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أعتَقَ صَفِيّةَ، وجعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا".
وفي البابِ عَن صَفِيّةَ. حدِيثُ أنَسٍ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ وهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وأحْمَدَ وإسْحَاقَ. وكَرِهَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ أنْ يُجْعَلَ عِتْقُهَا صَدَاقَهَا، حَتّى يَجْعَلَ لَهَا مَهْراً سِوَى العِتْقِ. والقَوْلُ الأوّلُ أصَحّ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الرّجُلِ يُعْتِقُ الأمَةَ ثُمّ يَتَزَوّجُهَا
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال الحافظ في الفتح بعد ذكره: وصححه ابن حبان والحاكم.
قوله: "أعتق صفية" هي: أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب، من سبط هارون بن عمران كانت تحت ابن أبي الحقيق، وقتل يوم خيبر ووقعت صفية في السبي، فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها وماتت سنة خمسين، وقيل غير ذلك "وجعل عتقها صداقها" فيه دليل على صحة جعل العتق صداقاً وقد قال به من القدماء: سعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وطاوس، والزهري. ومن فقهاء الأمصار: الثورى وأبو يوسف وأحمد وإسحاق. قالوا: إذا أعتق أمته، على أن يجعل عتقها صداقها، صح العقد والعتق والمهر. على ظاهر الحديث. قال الحافظ. وهو قول الحسن البصري وعامر الشعبي والأوزاعي وعطاء بن أبي رباح وقتادة وطاوس قاله العيني. قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق" في عد الشافعي من القائلين بصحة جعل العتق صداقاً، كلام. قال النووي: قال الشافعي: فإن أعتقها على هذا الشرط فقبلت، عتقت، ولا يلزمها أن تتزوج به بل له عليها قيمتها: لأنه لم يرض بعتقها مجاناً فإن رضيت وتزوجها على مهر يتفقان عليه، فله عليها القيمة، ولها عليه المهر المسمى من قليل أو كثير وإن تزوجها على قيمتها، فإن كانت القيمة معلومة له ولها: صح الصداق، ولا تبقى له عليها قيمة ولا لها عليه صداق. وإن كانت مجهولة، ففيه وجهان لأصحابنا، أحدهما: يصح الصداق كما لو كانت معلومة، لأن هذا العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف. وأصحهما ـ وبه قال جمهور أصحابنا ـ لا يصح الصداق، بل يصح النكاح، ويجب لها مهر المثل. انتهى. كلام النووي، وقال الحافظ في الفتح: ومن المستغرب قول الترمذي ـ بعد إخراج الحديث ـ: وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، الخ. لكن لعل مراد من نقله عنه، صورة الاحتمال الأول انتهى. وأراد بصورة الاحتمال الأول، ما ذكر قبل بقوله: وأجاب الباقون عن ظاهر الحديث، بأجوبة أقربها إلى لفظ الحديث. أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجبت له عليها قيمتها ـ وكانت معلومة ـ فتزوجها بها انتهى.
"وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها، حتى يجعل لها مهراً سوى العتق" قال الثوري: اختلف العلماء فيمن أعتق أمته على أن يتزوج بها ويكون عتقها صداقها فقال الجمهور: لا يلزمها أن تتزوج به، ولا يصح هذا الشرط. وممن قاله: مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر. انتهى(4/257)
23 ـ باب مَا جَاءَ في الفَضْلِ فِي ذَلِك
1124 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا عَلِيّ بنُ مُسْهِرٍ عن الفَضْلِ بنِ يَزيدَ عَن الشّعْبِيّ عَنْ أبِي بُرْدَةَ بنِ أبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ، قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ: عَبْدٌ أدّى حَقّ الله
ـــــــ
باب ماجاء في الفضل في ذلك
قوله: "ثلاثة" أي من الرجال، أو رجال ثلاثة، مبتدأ وخبره: "يؤتون" بصيغة المجهول "أجرهم مرتين" أي يؤتيهم الله يوم القيامة أجرهم مرتين "عبد" بدل من المبتدإ: بدل بعض والعطف بعد الربط، أو بدل كل والربط بدل العطف. أو خبر مبتدأ محذوف، أي أحدهم أو مبتدأ موصوف محذوف الخبر، أي منهم(4/258)
وحَقّ مَوَاليهِ، فَذَاكَ يُؤْتَى أجْرَهُ مَرّتَيْنِ: وَرَجُلٌ كانَتْ عِنْدَهُ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ فَأَدّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا، ثُمّ أعْتَقَهَا، ثُمّ تَزَوّجَهَا: يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْه الله فَذَلِكَ يُؤْتَى أجْرَهُ مَرّتَيْنِ. وَرَجُلٌ آمَنَ بالكِتَابِ الأوّلِ ثُمّ جَاءَ الكِتابُ الاَخرُ: فآمَنَ بِهِ فَذَلِكَ يُؤْتَى أجْرَهُ مَرّتَيْنِ".
1125 ـ حدثنا ابنُ أبِي عُمرَ حدثنا سُفْيَانُ عَنْ صَالِحِ بنِ صَالِحٍ ـ "وهُوَ ابنُ حَيّ" ـ عَنْ الشّعْبِيّ عَنْ أبِي بُردَةَ عَنْ أبي مُوسَى عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوَهُ بِمَعْنَاهُ.
حَدِيثُ أبِي مُوسَى حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبُو بُردَةَ بنُ أبِي مُوسَى، اسْمُهُ: عَامِرُ بنُ عَبْدِ الله بنِ قَيْسٍ. و رَوَى شُعْبَةُ وسفيان الثّوْرِيّ هذا الحديث عَن صَالحِ بنِ صَالحِ بنِ حَي،
ـــــــ
قال القاري في المرقاة. "أدى حق الله" : من صلاة وصوم، "وحق مواليه" جمع "المولى" للإشارة إلا أنه لو كان مشتركاً بين جماعة: فلا بد أن يؤدي حقوق جميعهم فيعلم المنفرد بالأولى. أو للإيماء إلى أنه إذا تعدد مواليه بالمناوبة على جري العادة الغالبة فيقوم بحق كل. "فذلك" أي ذلك العبد "يؤتى أجره مرتين" أجر لتأدية حق الله، وأجر لتأدية حق مواليه. "وجارية وضيئة" أي جميلة "فأدبها" أي علمها الخصال الحميدة: مما يتعلق بأدب الخدمة إذ الأدب هو: حسن الأحوال من القيام والتعود، وحسن الأخلاق. "فأحسن أدبها" وفي رواية الشيخين: "فأحسن تأديبها" و "إحسان تأديبها" هو: الاستعمال علمها الرفق واللطف. وزاد في رواية الشيخين: "وعلمها فأحسن تعليمها". "يبتغي ذلك" أي بالمذكور: من التأديب والتعليم والتزوج. "فذلك يؤتى أجره مرتين" : أجر على عتقه، وأجر على تزوجه. "ورجل آمن بالكتاب الأول، ثم جاءه الكتاب الاَخر فآمن به" في رواية الشيخين: "رجل من أهل الكتاب: آمن بنبيه، وآمن بمحمد" قوله: "حديث أبي موسى حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه"(4/259)
باب ماجاء فيمن يتزوج المرأة ثم يطلقها قبل أن يدخل بها هل يتزوج أبنتها أم لا
...
24 ـ باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَتَزَوّجُ المَرْأَةَ ثمّ يُطَلّقُهَا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِهَا
هَلْ يَتَزَوّجُ ابنَتَهَا، أمْ لاَ؟
1126 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا ابنِ لَهِيعَةَ عَن عَمْروِ بنِ شُعَيْبٍ عَن أبِيهِ عَن جَدّهِ، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أيّما رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا، فَلاَ يَحِلّ لَهُ نِكَاحُ ابنَتِهَا. وإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلْيَنْكِحْ ابنَتَهَا، وأيّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلاَ يَحِلّ لَهُ نِكاحُ أُمّهَا". قال أبو عيسى: هذا حديثٌ لاَ يَصِحّ مِنْ قِبَلِ إسْنَادِهِ وإنّمَا رَوَاهُ ابنُ لَهِيعَةَ والمثَنّى بنُ الصّبّاحِ عنْ عَمْروِ بنِ شُعَيبٍ وَالمُثَنّى بنُ الصّبّاحِ وابنُ لَهِيعَةَ يضَعّفَانِ في الحَدِيثِ. والعَمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ قَالُوا إذَا تَزَوّجَ الرّجُلُ امْرَأَةً ثُمّ طَلّقَهَا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها حَلّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ ابْنَتَهَا وإِذَا تَزَوّجَ الرّجُلُ الإبنَةَ فَطَلّقَهَا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِهَا لَمْ يَحلّ لَهُ نِكَاحُ أُمّهَا لِقَوْلِ الله تَعالَى {وأُمّهَاتِ نِسَائِكُمْ} وهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وأحْمَدَ وإسْحَاقَ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَتَزَوّجُ المَرْأَةَ
ثمّ يُطَلّقُهَا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِهَا هَلْ يَتَزَوّجُ ابنَتَهَا، أمْ لاَ؟
قوله: "حدثنا ابن لهيعة" بفتح اللام وكسر الهاء، اسمه: عبد الله. قوله "فدخل بها" أي جامعها "فلا يحل له نكاح ابنتها" قال تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وأسقط قيد كونها في حجره لأنه خرج مخرج غلب العادة "فإن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها" أي بعد طلاق أمها قال تعالى : {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}. "فلا يحل له نكاح أمها" لإطلاق قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} قوله: "هذا حديث لا يصح من قبل إسناده" أي من جهة إسناده وإن كان صحيحاً باعتبار معناه مطابقته معنى الاَية. قوله: "والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يضعفان في الحديث" قال البيهقي: أجمع أصحاب الحديث على ضعف ابن لهيعة وترك الاحتجاج بما ينفرد به. كذا في التلخيص. والمثنى بن الصباح ضعيف اختلط بآخره. قاله الحافظ في التقريب. قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول الحنفية قال في الهداية: ولا بأم امرأته دخل بإبنتها أو لم يدخل لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} من غير قيد بالدخول ولا ببنت امرأته التي دخل بها لثبوت قيد الدخول بالنص انتهى.(4/260)
باب ماجاء فيمن يطلق امراته ثلاثا فيتزوجها آخر فيطلقها قبل يدخل بها
...
25 ـ باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ ثَلاَثاً فَيَتَزَوّجُهَا آخَرُ
فَيُطِلّقُهَا قَبْل أَن يَدْخُلَ بِهَا
1127 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمرَ و إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ قالاَ حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَة عنْ الزّهْرِيّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ قالَتْ: "جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ القُرَظِيّ إلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ إنّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلّقَنِي فَبَتّ طَلاَقِي فَتَزَوّجْتُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بنَ الزّبَيْرِ وَمَا مَعَهُ إلاّ مِثْلَ هُدْبَةِ الثّوْبِ فقَالَ: أتُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ حَتّى تَذُوقِي عُسَيْلَتهُ ويَذُوقَ عُسَيْلتَكِ".
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ ثَلاَثاً فَيَتَزَوّجُهَا آخَرُ
فَيُطِلّقُهَا قَبْل أَن يَدْخُلَ بِهَا
قوله: "جاءت امرأة رفاعة" بكسر الراء "القرظي" بضم القاف وفتح الراء وبالظاء المعجمة نسبة إلى قريظة قبيلة من اليهود "عند رفاعة" أي في نكاحه "فبت طلاقي" أي قطعه فلم يبق من الثلاث شيئاً وقيل طلقني ثلاثاً "فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير" بفتح الزاي وكسر الباء "وما معه" أي ليس مع عبد الرحمن من آلة الذكورة "إلا مثل هدبة الثوب" بضم الهاء وسكون الدال بعدها موحدة أي طرفه وهو طرف الثوب الغير المنسوج "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة" في رواية الشيخين قالت نعم كما في المشكاة "لا" وفي رواية الشيخين: قال لا أي لا ترجعي إليه "حتى تذوقي عسيلته" بضم العين وفتح السين أي لذة جماع عبد الرحمن "ويذوق عسيلتك" كناية عن حلاوة الجماع والعسيل تصغير عسل، والتاء فيها على نية اللذة أو النطفة أي حتى تجدي منه لذة ويجد منك لذة بتغيب الحشفة. ولا يشترط(4/261)
وفي البابِ عنْ ابنِ عُمَرَ وأنَسٍ والرّمَيْصَاء أَو الغُمَيْصَاء وأبِي هُرَيْرَةَ.
حدِيثُ عَائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ: "والعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ عَامّةِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ أنّ الرّجُلَ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاَثاً فَتَزَوّجَتْ زَوْجاً غَيْرَهُ فَطَلّقَهَا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِهَا أنّهَا لاَ تَحِلّ للزّوْجِ الأوّلِ إذَا لَمْ يَكُنْ جَامَعَهَا الزّوْجُ الاَخَرُ.
ـــــــ
انزال المني خلافاً للحسن البصري فإنه لا يحل عنده حتى ينزل الثاني حملاً للعسيلة عليه. قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وأنس والرميصاء أو الغميصاء وأبي هريرة" أما حديث ابن عمر فأخرجه النسائي. وأما حديث أنس فأخرجه سعيد بن منصور والبيهقي. وأما حديث الرميصاء أو الغميصاء فأخرجه النسائي. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الطبراني وابن أبي شيبة قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. قوله: "والعمل على هذا عند عامة أهل العلم الخ" قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول إلا سعيد بن المسيب ثم ساق بسنده الصحيح عنه أنه قال: يقول الناس لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول إذا تزوجها تزويجاً صحيحاً لا يريد بذلك إحلالها للأول فلا بأس أن يتزوجها الأول. قال ابن المنذر: هذا القول لا نعلم أحداً وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج. ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن. كذا في فتح الباري. قلت: قول سعيد بن المسيب هذا في الرخصة يقابله قول الحسن البصري في التشديد. فإنه شرط الإنزال كما عرفت قال ابن بطال: شذ الحسن في هذا وخالفه سائر الفقهاء انتهى.(4/262)
باب ماجاء في المحل والمحلل له
...
26 ـ باب مَا جَاءَ فِي المُحِلّ والمُحَلّلِ لَه
1128 ـ حدثنا أبُو سَعِيدٍ الأشَجّ حدثنا أشعْثُ بنُ عَبْدِ الرّحمَنِ ابنِ زُبَيْدٍ الأيَامِي حدثنا مُجَالِدٌ عنِ الشّعْبِيّ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي المُحِلّ والمُحَلّلِ لَه
المحل اسم فاعل من الإحلال، والمحلل اسم مفعول من التحليل. والمراد من المحل هو من تزوج المرأة المطلقة ثلاثاً بقصد الطلاق أو شروطه لتحل هي لزوجها الأول، والمراد من المحلل له الزوج الأول
قوله: "عن الشعبي" بفتح الشين(4/262)
وعنْ الْحَارِثِ عنْ عَلِي قالاَ: "إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَعَنَ المُحِلّ والمُحَلّل لَهُ".
وفي البابِ عنْ ابنِ مَسْعُودٍ وأبي هُرَيْرَةَ وعُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ وابنِ عَبّاسٍ. قال أبو عيسى: حَدِيثُ عَلي وجَابِرٍ حدِيثٌ مَعْلُولٌ. وهَكذَا رَوَى أَشْعَثُ بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ عنْ مُجَالِدٍ عنْ عَامِرٍ الشعبي عنْ الحَارِثِ عنْ عَلِي وعَامِرٌ
ـــــــ
المعجمة هو عامر بن شراحيل ثقة مشهور فقيه فاضل "وعن الحارث" عطف على عن جابر بن عبد الله. قوله: "لعن المحل والمحلل له" وقع في بعض الروايات المحلل والمحلل له كلا اللفظين من باب التفعيل الأول بكسر اللام والثاني بفتحها. قال القاضي: المحلل الذي تزوج مطلقة الغير ثلاثاً على قصد أن يطلقها بعد الوطء ليحل للمطلق نكاحها، وكأنه يحللها على الزوج الأول بالنكاح والوطء والمحلل له والزوج. وإنما لعنهما لما في ذلك من هتك المروءة، وقلة الحمية، والدلالة على خسه النفس وسقوطها. أما بالنسبة إلى المحلل له فظاهر وأما بالنسبة إلى المحلل فلأنه يعير نفسه بالوطء لغرض الغير فإنه إنما يطؤها ليعرضها لوطء المحلل له ولذلك مثله صلى الله عليه وسلم بالتيس المستعار انتهى. قال الحافظ في التلخيص استدلوا بهذا الحديث على بطلان النكاح إذا شرط الزوج أنه إذا نكحها بانت منه. أو شرط أنه يطلقها أو نحو ذلك، وحملوا الحديث على ذلك ولا شك أن إطلاقه يشمل هذه الصورة وغيرها. لكن روى الحاكم والطبراني في الأوسط من طريق أبي غسان عن عمر بن نافع عن أبيه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة ليحلها لأخيه هل يحل للأول. قال: لا إلا بنكاح رغبة. كنا نعد هذا سفاحاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى كلام الحافظ. قلت روى الحاكم هذا الحديث في المستدرك، وصححه كما صرح به الزيلعي في نصب الراية. قوله "وفي الباب عن ابن مسعود" أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وإسحاق بن راهويه "وأبي هريرة" أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى الموصلي وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم وحديث صحيح نص على صحته الزيلعي في نصب الراية. "وعقبة بن عامر" أخرجه ابن ماجه مرفوعاً بلفظ: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له. قال عبد الحق في أحكامه: إسناده حسن "وأبن عباس" أخرجه ابن ماجه وفي إسناده زمعة بن صالح وهو(4/263)
عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا حديثٌ لَيْسَ إسْنَادُهُ بالقَائِمِ لأنّ مُجَالِدَ بنَ سَعِيدٍ قَدْ ضَعّفَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ وَرَوَى عَبْدُ الله بنُ نُمَيْرٍ هذَا الحَدِيثَ عنْ مُجَالِدٍ عنْ عَامِرٍ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله عنْ عَلي. وهذَا قَدْ وَهِمَ فيهِ ابنَ نُمَيرٍ. والحَدِيثُ الأوّلُ أَصَح. وقَدْ رَوَاهُ مُغِيرةُ وابنُ أَبي خَالِدٍ وغَيْرُ وَاحِدٍ عنْ الشّعْبِيّ عنْ الحَارِثِ عنْ عَلِي.
1129 ـ حدثنا محمُودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أَبُو أَحْمَدَ الزهري حدثنا سُفْيَانُ عنْ أَبي قَيْسٍ عنْ هُزَيْلِ بنِ شُرَحْبِيلَ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قالَ: "لَعَنَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المُحِلّ والمُحَلّلَ لَهُ".
قال أبو عيسى هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأَبُو قَيْسٍ الأوْدِيّ اسْمُهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ ثَرَوَانَ وقَدْ روَى هذَا الحَدِيث عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. والعَمَلُ عَلَى هذَا الحديث عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ وعُثْمَانُ بنُ عَفّانَ
ـــــــ
ضعيف. قوله: "لأن مجالد بن سعيد قد ضعفه بعض أهل العلم" قال الحافظ في التقريب: مجالد بضم أوله وتخفيف الجيم ابن سعيد بن عمير الهمداني أبو عمرو الكوفي ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره انتهى. قوله: "عن عبد الله بن مسعود قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحل والمحلل له" قال في سبل السلام: الحديث دليل على تحريم التحليل، لأنه لا يكون اللعن إلا على فاعل المحرم وكل محرم منهي عنه والنهي يقتضي فساد العقد واللعن وإن كان ذلك للفاعل لكنه علق بوصف يصح أن يكون علة الحكم وذكروا للتحليل صوراً منها أن يقول له في العقد: إذا أحللتها فلا نكاح وهذا مثل نكاح المتعة لأجل التوقيت. ومنها أن يقول في العقد: إذا أحللتها طلقتها. ومنها أن يكون مضمراً في العقد بأن يتواطأ على التحليل، ولا يكون النكاح الدائم هو المقصود. وظاهر شمول اللعن وفساد العقد لجميع الصور وفي بعضها خلاف بلا دليل ناهض فلا يستعمل بها انتهى قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وصححه ابن القطان وابن دقيق العيد(4/264)
وعَبْدُ الله بنُ عَمْروٍ وغَيْرِهم. وهُوَ قَوْلُ الفُقَهَاءِ مِنَ التّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ وابنُ المُبَارَكِ والشّافِعِيّ وأَحْمَدُ وإسْحَاقُ قال: وسَمِعْتُ الجَارُودَ بن معاذٍ يذْكُرُ عنْ وَكِيعٍ أَنّهُ قالَ بِهَذَا وقالَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْمَى بِهَذَا البَابِ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الرأيِ. قال جارود: قالَ وكِيعٌ: وقالَ سُفْيَانُ إذَا تَزَوّجَ الرّجل المَرْأَةَ لِيُحَلّلهَا ثُمّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا فَلاَ يَحِلّ لَهْ أَنْ يُمْسِكَهَا حَتّى يَتَزَوّجَهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ.
ـــــــ
على شرط البخاري كذا في التلخيص قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب" أخرج ابن أبي شيبة عنه قال: لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتها. كذا في شرح الترمذي للشيخ سراج أحمد ولم أقف على سنده "وعثمان بن عفان" قال الشيخ سراج أحمد: أخرجه البيهقي. قلت لم أقف على سنده ولا على لفظه "وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق" قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: واعلم أن المصنف يعني صاحب الهداية، استدل بهذا الحديث، يعني بحديث لعن الله المحلل والمحلل له. على كراهة النكاح المشروط به التحليل، وظاهره يقتضي التحريم كما هو مذهب أحمد انتهى. قلت: لا شك في أن ما قال الإمام أحمد هو الظاهر. ثم أجاب الزيلعي فقال: لكن يقال لما سماه محللاً دل على صحة النكاح. لأن المحلل هو المثبت للحل فلو كان فاسداً لما سماه محللاً انتهى، قلت: سماه محللاً على حسب ظنه، فإن من تزوج المطلقة ثلاثاً بقصد الطلاق أو شرطه ظن أن تزوجه إياها ووطأها يحلها لزوجها الأول. وليس تسميته محللاً على أنه مثبت للحل في الواقع، ويؤيده قول ابن عمر: كنا نعد هذا سفاحاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وصححه الحاكم كما تقدم "وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا" أي بما قال سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وقال: أي وكيع "ينبغي أن يرمي بهذا الباب من قول أصحاب الرأي" يعني أبا حنيفة وأصحابه. قال أبو الطيب السندي في شرح الترمذي. أي يطرح ويلقى من قولهم ما ذكروا في هذا الباب من صحة النكاح وإن قصد الإحلال. وذلك لأن اللعن يقتضي النهي عن هذا الفعل وحرمته، والحرمة في باب النكاح يقتضي عدم الصحة. فقولهم بالصحة مخالف للحديث فيكون مرمياً مطروحاً. قال أجابوا عنه أن قولهم(4/265)
ـــــــ
ليس بمخالف للحديث. لأن اللعن قد يكون لخسة الفعل وهتك المروءة وتسميته محللاً يقتضي صحة العقد ليترتب عليه التحليل. وليس في الحديث تصريح بعدم الشرط أو بإثباته، فالتوفيق بينهما أن يحمل اللعن على أنه للخسة لا للتحريم لئلا يعارض قوله محللاً، فلا دلالة فيه على بطلان النكاح بمجرد أن يكون من نيته الإحلال. أو بكونه شرط الإحلال انتهى كلام أبي الطيب. قلت قوله اللعن قد يكون لخسة الفعل وهتك المروءة ادعاء محض لا دليل عليه، بل لعنة الله لا تكون إلا للتحريم. وقد تقدم أن تسميته محللاً لا يقتضي صحة العقد.
تنبيه: قول الإمام وكيع هذا يدل دلالة ظاهرة على أنه لم يكن حنفياً مقلداً للإمام أبي حنيفة فبطل قول صاحب العرف الشذي أن وكيعاً كان حنفياً مقلداً لأبي حنيفة. وقد تقدم الكلام في هذا في باب الإشعار من كتاب الحج "قال وكيع وقال سفيان إذا تزوج المرأة ليحللها ثم بدا له أن يمسكها فلا يحل له أن يمسكها حتى يتزوج بنكاح جديد" قال الخطابي في المعالم: إذا كان ذلك عن شرط بينهما فالنكاح فاسد لأن العقد متناه إلى مدة كنكاح المتعة. وإذا لم يكن شرطاً ودان نية وعقيدة فهو مكروه. فإن أصابها الزوج ثم طلقها وانقضت العدة فقد حلت للزوج الأول. وقد كره غير واحد من العلماء أن يضمر أو ينويا أو أحدهما التحليل وإن لم يشترطاه، وقال ابراهيم النخعي: لا يحلها لزوجها الأول إلا أن يكون نكاح رغبة، فإن كانت نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الثاني أو المرأة أنه محلل، فالنكاح باطل ولا تحل للأول وقال سفيان الثوري. إذا تزوجها وهو يريد أن يحللها لزوجها، ثم بدا له أن يمسكها لا يعجبني إلا أن يفارقها ويستأنف نكاحاً جديداً، وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال مالك بن أنس يفرق بينها على كل حال انتهى كلام الخطابي، وقال الشافعي: إن عقد النكاح مطلقاً لا شرط فيه فالنكاح ثابت، ولا تفسد النية من النكاح شيئاً، لأن النية حديث نفس وقد رفع عن الناس ما حدثوا به أنفسهم ذكر قول الشافعي هذا الحافظ المنذري في تلخيصه. قلت: في كلام الشافعي هذا كلام فتأمل.
تنبيه: قال صاحب العرف الشذي، والمشهور عندنا أن الشرط إثم والنكاح صحيح قال: ولأبي حنيفة: ما أفتى عمر بسند لعله جيد أن رجلاً نكح امرأة للتحليل فقال له عمر رضي الله عنه لا تفارق امرأتك وإن طلقتها فأعزرك. قال فدل على صحة النكاح للتحليل انتهى. قلت روى عبد الرزاق: أن امرأة أرسلت إلى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها، فأمره عمر بن الخطاب أن يقيم معها ولا يطلقها، وأوعده أن يعاقبه إن طلقها. ذكر هذا الأثر الشوكاني في النيل بغير السند، ولم أقف على سنده. فمن يدعى أنه صحيح فعليه البيان، وأثر عمر هذا يخالفه ما أخرج ابن أبي شيبة عنه قال: لا أوتي بمحلل له ولا محلل له إلا رجمتهما، ويخالفه قول ابن عمر رضي الله عنه كنا نعد هذا سفاحاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وصححه الحاكم وقد تقدم ثم قال: صاحب العرف الشذي وإن لم يشترط في اللفظ فإن كان الرجل معروفاً بهذا الفعل فمكروه تحريماً، كما في فتح القدير. وفي بعض كتبنا أنه إذا لم يشترط في اللفظ فالمحل له ثواب لأنه نفع أخيه المسلم انتهى بلفظه.
قلت: وفي بعض كتب الحنفية أنه مأجور وإن شرطاه بالقول لقصد الإصلاح. وهذا هو معمول به عند حنفية ديارنا فيعملون به ويظنون أنهم ينفعون إخوانهم ويصيرون مأجورين فهداهم الله تعالى إلى التحقيق(4/266)
باب ماجاء في تحريم نكاح المتعة
...
27 ـ باب ما جَاءَ فِي تحريم نِكَاحِ المُتْعَة
1130 ـ حدثنا ابنُ أَبي عُمرَ حدثنا سُفْيَانُ عنْ الزّهْرِيّ عنْ عَبْدِ الله و الحَسَنِ ابنيْ مُحَمّدِ بنِ عَلِيَ عنْ
أَبِيهِمَا عنْ عَلِيَ بنِ أَبي طَالِبٍ
ـــــــ
باب ما جَاءَ فِي تحريم نِكَاحِ المُتْعَة
يعني تزويج المرأة إلى أجل فإذا انقضى وقعت الفرقة
قوله: "عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي" بن أبي طالب رضي الله عنه ومحمد هذا هو الذي يعرف بابن الحنفية وابنه عبد الله كنيته أبو هاشم. وذكر البخاري في التاريخ ولأحمد عن سفيان وكان الحسن أرضاهما إلى أنفسنا، وكان عبد الله يتبع السبئية انتهى. والسبئية ينسبون إلى عبد الله بن سبأ وهو من رؤساء الروافض. وكان المختار بن أبي عبيد على رأيه ولما غلب على الكوفة وتتبع قتلة الحسين فقتلهم، أحبته الشيعة ثم فارقه أكثرهم لما ظهر منه من الأكاذيب. وكان من رأى السبئية موالاة محمد بن علي بن أبي طالب، وكانوا يزعمون أنه المهدي وأنه لا يموت حتى يخرج في آخر الزمان. ومنهم من أقر بموته وزعم أن الأمر بعده صار إلى ابنه أبي هاشم هذا. ومات أبو هاشم في آخر ولاية سليمان بن عبد الملك سنة ثمان أو تسع وتسعين(4/267)
"أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عنْ مُتْعَةِ النّسَاءِ وعنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيّةِ زَمَنَ خَيْبَر".
وفي البابِ عنْ سَبْرَةَ الجُهنِيّ وأَبي هُرَيْرَةَ.
حديث عليّ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ والعَمَلُ على هذَا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ وإنّمَا رُوِيَ عنْ ابنِ عَبّاسٍ شَيءٌ مِنَ الرّخْصَةِ فِي المُتْعَةِ ثُمّ رَجَعَ عنْ قَوْلِهِ حَيْثُ أخْبرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأَمْرُ أَكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ المُتْعَةِ وهُوَ قَوْلُ الثّوْرِيّ وابنِ المُبَارِك والشّافِعِيّ وأحْمَدَ وإسْحَاقَ.
ـــــــ
نهى عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر" الظرف متعلق بكلا الأمرين ففي رواية للبخاري: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء، وعن لحوم الحمر الأهلية. وهكذا في رواية لمسلم. قوله: "وفي الباب عن سبرة الجهني" بفتح السين المهملة وسكون الموحدة، أخرجه أحمد ومسلم: أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة. قال فأقمنا بها خمسة عشر فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء. وذكر الحديث إلى أن قال فلم أخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع عن النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً. كذا في المنتقى "وأبي هريرة" أخرجه الدارقطني مرفوعاً بلفظ: هدم المتعة الطلاق والعدة والميراث. قال الحافظ في التلخيص: إسناده حسن قوله: "حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم قوله: "وأمر أكثر أهل العلم على تحريم المتعة، وهو قول الثورى وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق" قال الحازمي في كتاب الاعتبار. وهذا الحكم كان مباحاً مشروعاً في صدر الإسلام وإنما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم لهم للسبب الذي ذكره ابن مسعود: وإنما كان ذلك يكون في أسفارهم ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أباحه لهم وهم في بيوتهم. ولهذا نهاهم عنه غير مرة ثم أباحه لهم في أوقات مختلفة حتى حرمه عليهم في آخر أيامه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وكان تحريم تأبيد لا تأقيت. فلم يبق اليوم في ذلك خلاف بين فقهاء الأمصار(4/268)
1131 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُقْبَةَ أَخُو قَبِيصَةَ بنِ عُقْبَةَ حدثنا سُفْيَانُ الثّوْرِيّ عنْ مُوسَى بنِ عُبَيدَةَ عنْ مُحَمّدِ بنِ كَعْبٍ عنْ ابنِ عَبّاسٍ قالَ: إنّمَا كَانَتْ المُتْعَةُ فِي أَوّلِ الإسْلاَمِ كانَ الرّجُلُ يَقدَمُ البَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فيَتَزَوّجُ المَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أنّهُ يُقيمُ فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ وتُصْلِحُ لَهُ شَيأه إِذَا حَتّى نَزَلَتْ الاَيَةُ {إلاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ} قالَ ابنُ عَبّاسٍ: فَكُلّ فَرْجٍ سوى هذين فَهُوَ حَرَامٌ.
ـــــــ
وأئمة الأمة إلا شيئاً ذهب إليه بعض الشيعة. ويروى أيضاً عن ابن جريج جوازه وسنذكر أحاديث تدل على صحة ما ادعيناه. ثم ذكر الحازمي تلك الأحاديث إن شئت الوقوف عليها فعليك أن تراجعه.
قوله: "عن موسى بن عبيدة" بالتصغير الربذى بفتح الراء والموحدة ضعيف قاله الحافظ "حتى إذا نزلت الاَية: إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم" . قال الطيبي يريد أن الله تعالى وصفهم بأنهم يحفظون فروجهم عن جميع الفروج إلا عن الأزواج والسراري، والمستمتعة ليست زوجة لانتفاء التوارث إجماعاً، ولا مملوكة بل هي مستأجرة نفسها أياماً معدودة، فلا تدخل تحت الحكم انتهى. وحديث ابن عباس هذا رواه الحازمي في كتاب الاعتبار وقال: هذا إسناد صحيح لولا موسى بن عبيدة الربذي يسكن الربذة انتهى. قلت قال الحافظ ضعيف كما تقدم وقد روى روايات عديدة عن ابن عباس في الرجوع ذكرها الحافظ في الفتح. وقال يقوي بعضها بعضاً(4/269)
باب ماجاء من النهي عن نكاح الشغار
...
28 ـ بابُ مَا جَاءَ في النّهيِ عَنْ نِكَاحِ الشّغَار
1132 ـ حدثنا مُحمدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ بنِ أبي الشّوَارِبِ حدثنا بِشْرُ بنُ المُفَضّلِ حدثنا حُمَيدٌ و "هُوَ الطّوِيلُ" قالَ: حَدّثَ الحَسَنُ عنْ عِمرَانَ بنِ
ـــــــ
بابُ مَا جَاءَ في النّهيِ عَنْ نِكَاحِ الشّغَار
قال في النهاية: هو نكاح معروف في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل شاغرني أي زوجني أختك أو بنتك أو من تلى أمرها حتى أزوجك أختي أو بنتي(4/269)
حُصَين عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لاَ جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا شِغَارَ في الإسْلاَمِ، ومَنْ انتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنّا". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وفي البابِ عَنْ أَنَسٍ وأبي رَيْحَانَةَ وابنِ عُمَرَ وجَابِرٍ ومُعَاوِيَةَ وأبِي هُرَيْرَةَ وَوَائِلِ بنِ حُجْرٍ.
ـــــــ
أو من ألى أمرها ولا يكون بينهما مهر، ويكون بضع كل واحدة منهما في مقابلة بضع الأخرى. وقيل له شغار لارتفاع المهر بينهما من شغر الكلب إذا رفع إحدى رجليه ليبول، وقيل الشغر البعد، وقيل الاتساع انتهى
قوله: "ولا جلب ولا جنب" بفتحتين فيهما "ولا شغار" بكسر أوله "في الإسلام" الظاهر أنه قيد في الكل ويحتمل أن يكون قيداً للأخير والجلب والجنب يكونان في السباق وفي الزكاة فالجب في السباق أن يتبع فرسه رجلاً يجلب عليه ويصيح ويزجره حثاً له على الجري. والجنب أن يجنب إلى فرسه فرساً عرياناً فإذا فتر المركوب تحول إليه. والجلب في الزكاة أن لا يقرب العامل أموال الناس بل ينزل موضعاً ثم يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها. فنهى عنه وأمر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم وأماكنهم. والجنب أن يجنب رب المال بماله أي يبعده عن مواضعه حتى يحتاج العامل إلى الإبعاد في أتباعه وطلبه. وفي المرقاة للقاري: والشغار أن تشاغر الرجل وهو أن تزوجه أختك على أن يزوجك أخته ولا مهر إلا هذا، من شغر البلد إذا خلا وهو قول أكثر أهل العلم. والمقتضي إفساده الاشتراك في البضع يجعله صداقاً. وقال أبو حنيفة والثوري: يصح العقد لكل منهما "ومن انتهب نهبة" بفتح النون وسكون الهاء مصدر، وأما بالضم فالمال المنهوب، أي من أخذ ما لا يجوز أخذه قهراً جهراً "فليس منا" أي ليس من المطيعين لأمرنا أو ليس من جماعتنا وعلى طريقتنا. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي. قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه أحمد والنسائي "وأبي ريحانة" أخرجه أبو الشيخ بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المشاغرة. والمشاغرة أن يقول: زوج هذا من هذه وهذه من هذا بلا مهر "وابن عمر" أخرجه الجماعة "وجابر" أخرجه مسلم وأخرج البيهقي أيضاً عن جابر بلفظ: نهى عن الشغار، أن تنكح هذه بهذه بغير صداق يضع هذه(4/270)
1133 ـ حدثنا إسْحَاقُ بنُ مُوسَى الأنْصَارِيّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مَالِكٌ عنْ نَافِع عنْ ابنِ عُمَرَ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عنْ الشّغَار". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ عَامّةِ أهْلِ العِلْمِ لاَ يَرَوْنَ نِكَاحَ الشّغَارِ. والشّغَارُ أَنْ يُزَوّجَ الرّجُل ابْنَتَهَ عَلَى أَنْ يُزَوّجَهُ الاَخَرُ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ ولاَ صَدَاقَ بَيْنَهُمَا. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ نِكَاحُ الشّغَارِ مَفْسُوخٌ ولاَ يَحِلّ وإنْ جعَلَ لَهُمَا صَدَاقاً. وهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وأحْمدَ وإسْحَاقَ. ورُوِيَ عنْ عَطَاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ أنّه قالَ يُقَرّانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا ويُجْعَلُ لَهُمَا صَدَاقُ المِثْلِ وهُوَ قَوْلُ أهْلِ الكُوفَةِ.
ـــــــ
صداق هذه، ويضع هذه صداق هذه، "ومعاوية" أخرجه أحمد وأبو داود "وأبي هريرة رضي الله عنه" أخرجه أحمد ومسلم "ووائل بن حجر" لينظر من أخرجه. وفي الباب أيضاً عن أبي بن كعب مرفوعاً: لاشغار. قالوا: يا رسول الله ما الشغار؟ قال: "نكاح المرأة بالمرأة لا صداق بينهما". قال الحافظ إسناده ضعيف.
قوله: "نهى عن الشغار" هكذا أخرجه الترمذي مختصراً، وأخرجه الشيخان وغيرهما مع تفسير الشغار هكذا نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، وليس بينهما صدق. قال في المنتقى وأبو داود جعله أي تفسير الشغار من كلام نافع، وهو كذلك في تفسير متفق عليها انتهى قال القرطبي: تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة فإن كان مرفوعاً فهو المقصود، وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضاً لأنه أعلم بالمقال وأقعد بالحال انتهى. قلت قد وقع في حديث أبي بن كعب: قالوا يا رسول الله ما الشغار؟ قال "إنكاح" المرأة الخ. فهذا نص صريح في أن تفسير الشغار مرفوع لكن هذا الحديث ضعيف كما عرفت، لكن قال الحافظ: وإسناده وإن كان ضعيفاً لكنه يستأنس به في هذا المقام انتهى. قوله: "وقال بعض أهل العلم نكاح الشغار مفسوخ، ولا يحل، وإن جعل لهما صداق. وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق الخ" قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز. ولكن اختلفوا في صحته فالجمهور على البطلان. وفي رواية عن مالك يفسخ قبل الدخول لا بعده وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي، وذهب الحنفية إلى صحته ووجوب مهر المئل. وهو قول الزهرى ومكحول والثوري والليث، ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول على مذهب الشافعي لاختلاف الجهة، لكن قال الشافعي: إن النساء محرمات إلا ما أحل الله أو ملك يمين، فإذا ورد النهي عن نكاح تأكد التحريم. كذا في فتح الباري. قلت: والظاهر هو ما قال الشافعي رحمه الله والله تعالى أعلم.(4/271)
باب ماجاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها
...
29 ـ باب مَا جَاءَ لاَ تُنْكَحُ المَرأَةُ عَلَى عَمّتِهَا ولاَ عَلَى خَالتِهَا
1134 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِي الجَهْضَمِيّ حدثنا عَبْدُ الأعْلَى بن عبد الأعلى حدثنا سَعيدُ بنُ أبي عَروبَةَ عنْ أبي حريزٍ عنْ عِكْرِمَةَ عنْ ابنِ عَبّاسٍ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ تُزَوّج المَرأة عَلَى عَمّتِهَا أَوْ على خَالتِهَا".
وأبو حريز اسمه عبد الله بن حسين.
1135 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِي. حدّثنَا عَبْدُ الأعْلَى عَنْ هِشَامِ بنِ حَسّانَ، عنِ ابنِ سِيرِينَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
باب مَا جَاءَ لاَ تُنْكَحُ المَرأَةُ عَلَى عَمّتِهَا ولاَ عَلَى خَالتِهَا
قوله: "عن أبي حريز" بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وسكون التحتية وبالزاء، قال الحافظ في التلخيص اسمه عبد الله بن حسين علق له البخاري، ووثقه ابن معين وأبو زرعة، وضعفه جماعة فهو حسن الحديث. قوله: "نهى أن تزوج" بصيغة المجهول أي تنكح "المرأة على عمتها أو خالتها" روى ابن حبان في صحيحه، وابن عدي هذا الحديث من طريق أبي حريز عن عكرمة عن ابن عباس وزاد في آخره: إنكم إذا فعلتم ذلك فطعتم أرحامكم. ذكره الحافظ في التلخيص وفي الباب ما أخرجه أبو داود في المراسيل عن عيسى بن طلحة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة انتهى. وقد ظهر بهذه الزيادة حكمة النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وهي الاحتراز عن قطع الرحم. قال النووي هذا دليل لمذهب العلماء كافة أنه يحرم الجمع بينهما سواء كانت عمة وخالة حقيقية وهي أخت الأب وأخت الأم أو مجازية وهي أخت أبي الأب وأبي الجد وإن علا، وأخت أم الأم وأم الجدة من جهتي الأم والأب وإن علت. فكلهن حرام بالإجماع، ويحرم(4/272)
بِمِثْلِهِ. وفي البابِ عن عَلِي وابنِ عُمَرَ وعَبْدِ الله بنِ عَمْروٍ وأبي سَعِيدٍ وَأبي أُمَامَةَ وَجَابِرٍ وعَائِشَةَ وأبي مُوسى وَسَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ.
1136 ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِي الخلال حدثنا يَزِيدُ بنُ هارُونَ. أنبأنا دَاوُدُ بنُ أبي هِنْدٍ أخبرنا عَامِرٌ عَن أبي هُرَيْرَةَ، "أنّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمّتِهَا أَوِ الْعَمّةُ عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا أَوِ الْمَرْأةُ عَلَى خَالَتِها، أَوِ الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا. وَلاَ تُنْكَحُ الصّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى، ولاَ الكُبْرَى عَلَى الصّغْرَى". حدِيثُ ابنِ عَبّاسٍ وأَبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَملُ علَى هذا عِنْدَ عَامّةِ أهْلِ العِلْمِ،
ـــــــ
الجمع بينهما في النكاح أو في ملك اليمين انتهى. قوله: "وفي الباب عن علي وابن عمر وعبد الله بن عمرو الخ" وقال البيهقي قد جاء من حديث علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأنس وأبي سعيد وعائشة وليس فيها شيء شرط الصحيح انتهى. قال الحافظ في الفتح بعد نقل قول البيهقي هذا: وذكر مثل ذلك الترمذي بقوله: وفي الباب لكن لم يذكر ابن مسعود، ولا ابن عباس ولا أنسا. وزاد بدلهم أبا موسى وأبا أمامة وسمرة. ووقع لي أيضاً من حديث أبي الدرداء ومن حديث عتاب بن أسيد ومن حديث سعد بن أبي وقاص. ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود فصار عدة من رواه غير الأولين يعني جابراً وأبا هريرة. ثلاثة عشر نفساً وأحاديثهم موجودة عند ابن أبي شيبة وأحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وأبي يعلى والبزار والطبراني وابن حبان وغيرهم. قال: ولولا خشية التطويل لأوردتها مفصلة انتهى كلام الحافظ.
قوله: "حدثنا عامر" هو الشعبي. قوله: "نهى أن تنكح" بصيغة المجهول "ولا تنكح الصغرى" أي ببنت الأخ أو بنت الأخت وسميت صغرى لأنها بمنزلة البنت "على الكبرى" أي سناً غالباً أو رتبة فهي بمنزلة الأم. والمراد بها العمة والخالة "ولا الكبرى على الصغرى" كرر النفي من الجانبين للتأكيد لقوله: نهى عن تنكح المرأة على عمتها الخ. قوله: "حديث ابن عباس وأبي هريرة حديث حسن صحيح" المراد(4/273)
لاَ نَعْلَمُ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفاً، أَنّهُ لا يَحِلّ لِلرّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. فَإِنْ نَكَحَ امْرَأَةً عَلَى عَمّتِها أَوْ خَالَتِهَا أوْ العَمّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، فَنِكاحُ الأُخْرَى مِنْهُمَا مَفْسُوخٌ. وَبِهِ يَقُولُ عَامّةُ أهْلِ العِلْمِ.
قال أبو عيسى: أَدْرَكَ الشعْبيّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَرَوَى عَنْهُ. وَسَأَلْتُ مُحَمّداً عَنْ هذَا، فَقَالَ: صَحِيحٌ.
قال أبو عيسى: وَرَوَى الشّعْبيّ عَنْ رَجُلٍ عنْ أَبِي هُرَيْرَة.
ـــــــ
بحديث ابن عباس هو المذكور أولاً وأخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان. وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي أيضاً. ومسلم لم يخرجه هكذا بتمامه ولكنه فرقه حديثين فأخرج صدره عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها انتهى. وأخرج باقيه عن قبيصة بن ذويب عن أبي هريرة مرفوعاً: لا تنكح العمة على بنت الأخ ولا ابنة الأخت على الخالة انتهى. كذا في نصب الراية. قوله: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافاً الخ. وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافاً اليوم. وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج. وإذا ثبت الحكم بالسنة، واتفق أهل العلم على القول به لم يضره خلاف من خالفه. وكذا نقل الإجماع ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي، لكن استثنى ابن حزم عثمان البتي وهو أحد الفقهاء القدماء من أهل البصرة، واستثنى النووي طائفة من الخوارج والشيعة واستثنى القرطبي الخوارج ولفظه: اختار الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها، ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين انتهى. وفي نقله عنهم جواز الجمع بين الأختين غلط بين. فإن عمدتهم التمسك بأدلة القرآن لا يخالفونها البتة. وإنما يردون الأحاديث لاعتقادهم عدم الثقة بنقلتها وتحريم الجمع بين الأختين بنصوص القرآن. كذا في فتح الباري. قوله: "فنكاح الأخرى منهما مفسوخ" أي باطل وأما نكاح الأولى منهما فصحيح. هذا إذا عقد على إحداهما ثم عقد على الأخرى. وأما إذا عقد عليهما معاً بعقد واحد فنكاحهما باطل: قوله: "أدرك الشعبي أبا هريرة" الشعبي بفتح الشين المعجمة هو عامر بن شراحيل الكوفي ثقة مشهور فقيه فاضل قال: أدركت خمسمائة من الصحابة. فائدة الجمع بين زوجة رجل وبنته من غيرها جائز. قال البخاري في صحيحه: جمع عبد الله بن جعفر بين ابنة علي وامرأة علي. وقال ابن سيرين لا بأس به. وكرهه الحسن مرة ثم قال لا بأس به انتهى.(4/274)
باب ماجاء في الشرط عند عقدة النكاح
...
30 ـ باب مَا جَاءَ في الشّرْطِ عِنْدَ عُقْدَةِ النّكاح
1137 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عِيسى. حدثنا وَكِيعٌ. حدثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بنُ جَعْفَرٍ عنْ يَزِيدَ بنِ أَبي حَبِيبٍ، عنْ مَرْثَدِ بنِ عَبْدِ الله الْيزَنِيّ أَبي الخَيْرِ، عنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيّ قالَ: "قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أَحَقّ الشّرُوطِ أَنْ يُوفَى بِهَا، مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُروجَ".
حدثنا أبو مُوسَى مُحَمّدُ بنُ المُثَنّى. حدثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ عَبْدِ الحَمِيدِ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في الشّرْطِ عِنْدَ عُقْدَةِ النّكاح
قوله: "عن مرثد" بفتح الميم وسكون الراء بعدها مثلثة "ابن عبد الله اليزني" بفتح التحتانية والزاي بعدها نون "أبي الخير" كنية مرثد قوله: "إن أحق الشروط أن يوفي بها" بالتخفيف من باب الأفعال، ويجوز التشديد من التفعيل، وأن يوفي بها بدل من الشروط، والمعنى أحق الشروط بالوفاء "ما استحللتم به الفروج" خبر إن، قال القاضي المراد بالشروط، ههنا المهر لأنه المشروط في مقابلة البضع. وقيل جميع ما تستحقه المرأة بمقتضى الزوجية من المهر والنفقة وحسن المعاشرة فإن الزوج التزمها بالعقد فكأنها شرطت فيه. وقيل كل ما شرط الزوج ترغيباً للمرأة في النكاح ما لم يكن محظوراً. قال النووي: قال الشافعي أكثر العلماء على أن هذا محمول على شرط لا ينافي مقتضى النكاح، ويكون من مقاصده كاشتراط العشرة بالمعروف والإنفاق عليها وكسوتها وسكناها، ومن جانب المرأة أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه، ونحو ذلك. وأما شرط يخالف مقتضاه كشرط أن لا يقسم لها ولا يتسرى عليها، ولا ينفق ولا يسافر بها ونحو ذلك. فلا يجيب الوفاء به بل يكون لغواً ويصح النكاح بمهر المثل. وقال أحمد يجب الوفاء بكل شرط. قال الطيبي: فعلى هذا الخطاب في قوله: "ما استحللتم" للتغليب فيدخل فيه الرجال والنساء. ويدل عليه(4/275)
ابنِ جَعْفَرٍ، نحْوَهُ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والْعَمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ منْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. مِنْهُمُ عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ قالَ: إذَا تَزَوّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً. وشَرَطَ لَها أَنْ لا يُخْرِجَهَا منْ مِصْرِهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا، وهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ. وبِهِ يِقُولُ الشّافِعِيّ وأحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عنْ عَلِي بنِ أَبِي طَالِبٍ أَنّهُ قالَ: شَرْطُ الله قَبْلَ شَرْطِهَا. كأَنّهُ رَأَى لِلزّوْجِ أَنْ يُخْرِجَهَا وَإنْ كانَتِ اشْترَطَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَنْ لاَ يُخْرِجَهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْم إِلَى هذَا. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وبَعْضِ أَهْلِ الكُوفَةِ.
ـــــــ
الرواية الأخرى "ما استحللتم به الفروج" كذا في المرقاة. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة. قوله: "منهم عمر بن الخطاب قال: إذا تزوج الرجل امرأة وشرط لها أن لا يخرجها من مصرها فليس له أن يخرجها" روى سعيد بن منصور من طريق إسماعيل بن عبيد الله وهو ابن أبي المهاجر عن عبد الرحمن بن غنيم قال: كنت مع عمر حيث تمس ركبتي ركبته. فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين تزوجت هذه. وشرطت لها دارها وإني أجمع لأمري أو لشأني أن انتقل إلى أرض كذا وكذا فقال: لها شرطها. فقال الرجل: هلك الرجل إذ لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت فقال عمر: المؤمنون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم انتهى. وذكره البخاري في صحيحه مختصراً معلقاً. وقد اختلف عن عمر فروى ابن وهب بإسناد جيد عن عبيد بن السباق أن رجلاً تزوج امرأة فشرط لها أن لا يخرجها من دارها فارتفعوا إلى عمر فوضع الشرط. وقال: المرأة مع زوجها. قال أبو عبيد: تضادت الروايات عن عمر في هذا: وقد قال بالقول الأول عمرو بن العاص ومن التابعين طاؤس وأبو الشعثاء وهو قول الأوزاعي "وهو قول بعض أهل العلم. وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق" قال الحافظ: والنقل في هذا عن الشافعي غريب بل الحديث عندهم محمول على الشروط التي لا تنافي مقتضى النكاح، بل تكون من مقتضياته ومقاصده كاشتراط العشرة بالمعروف والإنفاق والكسوة والسكنى، وأن لا يقصر في شيء من حقها من قسمة ونحوها. وكشرطه عليها أن لا تخرج إلا بإذنه ولا تمنعه نفسها ولا تتصرف(4/276)
ـــــــ
في متاعه إلا برضاه ونحو ذلك، وأما شرط ينافي مقتضى النكاح كأن لم يقسم لها، أو لا يتسرى عليها أو لا ينفق أو نحو ذلك، فلا يجب الوفاء به بل إن وقع في صلب العقد لغى وصح النكاح بمهر المثل في وجه يجب المسمى، ولا أثر للشرط. وفي قول للشافعي يبطل النكاح، وقال أحمد وجماعة يجب الوفاء بالشرط مطلقاً وقد استشكل ابن دقيق العيد حمل الحديث على الشروط التي هي من مقتضيات النكاح، وقال: تلك الأمور لا تؤثر الشروط في إيجابها. فلا تشتد الحاجة إلى تعليق الحكم باشتراطها. وسياق الحديث يقتضي خلاف ذلك لأن لفظ أحق الشروط يقتضي أن يكون بعض الشروط يقتضي الوفاء بها، وبعضها أشد اقتضاء، والشروط التي هي من مقتضى العقد مستوية في وجوب الوفاء بها انتهى. "وعن علي بن أبي طالب أنه قال: شرط الله قبل شرطها كأنه رأى للزوج أن يخرجها، وإن كانت اشترطت على زوجها أن لا يخرجها. وذهب بعض أهل العلم إلى هذا وهو قول سفيان الثورى وبعض أهل الكوفة" قال الحافظ: وقال الليث والثوري والجمهور بقول علي: حتى لو كان صداق مثلها مائة مثلاً فرضيت بخمسين على أن لا يخرجها فله إخراجها، ولا يلزمه إلا المسمى. وقالت الحنفية لها أن ترجع بما نقصته له من الصداق. وقال الشافعي يصح النكاح ويلغو الشرط ويلزمه مهر المثل وعنه يصح وتستحق الكل وقال أبو عبيد والذي نأخذ به أنا نأمره بالوفاء بشرطه من غير أن يحكم عليه بذلك. قال: وقد أجمعوا على أنها لو اشترطت عليه أن لا يطأها لم يجب الوفاء بذلك الشرط فكذلك هذا. قال الحافظ: ومما يقوي حمل حديث عقبة على الندب ما في حديث عائشة في قصة بريرة: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل والوطء والإسكان وغيرهما من حقوق الزوج إذا شرط عليه إسقاط شيء منها كان شرطاً ليس في كتاب الله. وأخرج الطبراني في الصغير بإسناد حسن عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم مبشر بنت البراء ابن معروف فقالت: إني شرطت لزوجي أن لا أتزوج بعده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن هذا لا يصلح" انتهى.(4/277)
باب ماجاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة
...
31 ـ باب مَا جَاءَ في الرّجُلِ يُسلِمُ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَة
1138 ـ حدثنا هَنّادٌ. حدثنا عَبْدَةُ عنْ سَعِيدِ بنِ أبي عَرُوبَةَ، عنْ مَعْمَرٍ، عنْ الزّهْريّ، عنْ سَالِمِ بنِ
عَبْدِ الله، عنِ ابنِ عُمَرَ أَنّ: غَيْلانَ بنَ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ أسْلمَ ولَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ في الْجَاهلِيّةِ، فَأسْلَمنَ مَعَهُ. فَأَمَرَهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَخَيّرَ مِنْهُنّ ارْبَعاً. هكذا رواه معمر عنِ الزّهْرِيّ، عنْ سَالمٍ، عنْ أبِيهِ. قال: وَسَمِعْتُ مُحَمّدَ بنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ: هذا حديثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. والصّحِيحُ مَا رَوَى شُعَيْبُ بنُ أبي حَمْزَةَ وَغَيْرُهُ عنِ الزّهْرِيّ وَحَمْزَةَ، قالَ: حُدّثْتُ عنْ مُحَمّدِ بنِ سُوَيْدٍ الثّقَفِيّ، أَنّ غَيْلاَنَ بن سَلَمَةَ أسْلَمَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ. قالَ مُحَمّدٌ: وإنمَا حَدِيثُ الزّهْرِيّ عنْ سَالمٍ، عنْ أَبِيهِ أنّ رَجُلاً مِنْ ثَقِيف طَلّقَ نِسَاءَهُ. فقالَ لَهُ عُمَرُ:
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في الرّجُلِ يُسلِمُ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَة
قوله: "إن غيلان" بفتح الغين "أن يتخير منهن أربعاً" قال المظهر فيه إن أنكحة الكفار صحيحة، حتى إذا أسلموا لم يؤمروا بتجديد النكاح إلا إذا كان في نكاحهم من لا يجوز الجمع بينهن من النساء، وإنه لا يجوز أكثر من أربع نسوة، وإنه إذا قال اخترت فلانة وفلانة للنكاح ثبت نكاحهن وحصلت الفرقة بينه وبين ما سوى الأربع من غير أن يطلقهن. قال محمد في موطإه: بهذا نأخذ يختار منهن أربعاً أيتهن شاء، ويفارق ما بقي. وأما أبو حنيفة رحمه الله فقال: الأربع الأول جائز ونكاح من بقي منهن باطل. وهو قول ابراهيم النخعي رحمه الله قال ابن الهمام والأوجه قول محمد. وفي الهداية: وليس له أن يتزوج أكثر من ذلك. قال ابن الهمام: اتفق عليه الأربعة وجمهور المسلمين. أما الجواري فله ما شاء منهن انتهى. قوله: "قال محمد وإنما حديث الزهرى عن سالم عن أبيه أن رجلاً من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر الخ" يعني أن المحفوظ عن الزهري بهذا السند هو هذا الموقوف على عمر. وأما الحديث المرفوع المذكور بهذا السند فهو غير محفوظ، بل الصحيح أنه عن الزهري قال حدثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة أسلم الخ. كما روى شعيب بن حمزة وغيره عن الزهري، لا كما(4/278)
لَتُراجِعَنّ نِسَاءَكَ، أوْ لأرْجُمَنّ قَبْرَكَ، كَمَا رُجِمَ قَبْرُ أبِي رِغَالٍ. والعَمَلُ عَلَى حَديثِ غَيْلاَنَ بنِ سَلَمَةَ عِنْدَ أصْحَابِنَا. مِنْهُمْ الشّافِعِيّ وأحْمَدُ وإِسْحَاقُ.
ـــــــ
روى معمر عن الزهري. وحكم مسلم في التمييز على معمر بالوهم، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة: المرسل أصح لكن الإمام أحمد أخرج في مسنده عن ابن علية، ومحمد بن جعفر جميعاً عن معمر بالحديثين معاً المرفوع والموقوف على عمر ولفظه: أن ابن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشرة نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "اختر منهن أربعاً" فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه. فبلغ ذلك عمر. فقال إني لأظن الشيطان مما يسترق من السمع سمع بموتك، فقذفه في نفسك وأعلمك أنك لا تمكث إلا قليلاً. وأيم الله لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثهن منك، ولاَمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال انتهى. والموقوف على عمر هو الذي حكم البخاري بصحته عن الزهري عن سالم عن أبيه بخلاف أول القصة. قوله: "كما رجم قبر أبي رغال" بكسر الراء المهملة بعدها غين معجمة في القاموس في فصل الراء من باب اللام: وأبو رغال ككتاب في سنن أبي داود ودلائل النبوة وغيرهما عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال: "هذا قبر أبي رغال". وهو أبو ثقيف وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه الحديث. وقول الجوهري كان دليلاً للحبشة حين توجهوا إلى مكة فمات في الطريق غير معتد به، وكذا قول ابن سيدة كان عبداً لشعيب وكان عشاراً جائراً انتهى. وفي بعض الحواشي يضرب به المثل في الظلم والشؤم، وهو الذي يرجم الحاج قبره إلى الاَن. قال جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه كما ترجمون قبر أبي رغال.(4/279)
باب ماجاء في الرجل يسلم وعنده أختان
...
32 ـ باب مَا جَاءَ في الرجُلِ يُسلِمُ وعِنْدَهُ أُخْتَان
1139 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ. حدثنا ابنُ لَهِيعَةَ عنْ أبي وَهْبٍ الْجَيْشَانِيّ أنّهُ سَمِعَ ابْنَ فَيْرُوزَ الدّيْلمِي يُحَدّثُ عنْ أبِيهِ قالَ: "أَتَيْتُ النبيّ صلى الله
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في الرجُلِ يُسلِمُ وعِنْدَهُ أُخْتَان
حدثنا محمد بن بشار حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أسلمتُ وتحتي أُختان قال: "اختر أَيتهُما شِئتَ ". قوله: "انه سمع ابن فيروز" بفتح الفاء غير منصرف للعجمة والعلمية واسمه(4/279)
عليه وسلم فَقلت: يَا رَسُولَ الله إني أسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ. فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اخْتَرْ أيّتَهُمَا شِئْتَ". هذا حديثٌ حسنٌ. وأبو وَهْبٍ الْجَيْشَانِيّ اسْمُهُ الدّيْلَمُ بنُ هُوشَع.
ـــــــ
الضحاك "بحديث عن أبيه" هو فيروز الديلي وهو من أبناء فارس من فرس صنعاء، وكان ممن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاتل الأسود العنسي الكذاب الذي ادعى النبوة باليمن قتل في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصله خبره في مرضه الذي مات فيه، روى عنه ابناه الضحاك وعبد الله وغيرهما مات في خلافة عثمان قوله: "اختر أيتهما شئت" وفي رواية أبي داود: طلق أيتهما شئت. قال المظهر: ذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى أنه لو أسلم رجل وتحته أختان وأسلمتا معه كان له أن يختار إحداهما، سواء كانت المختارة تزوجها أولاً أو آخراً، وقال أبو حنيفة رحمه الله: أن تزوجهما معاً لا يجوز له أن يختار واحدة منهما، وأن تزوجهما متعاقبتين له أن يختار الأولى منهما دون الأخيرة انتهى. قال الشوكاني: والظاهر ما قاله الأولون لتركه صلى الله عليه وسلم الاستفصال ولما في قوله: ختر أيتهما من الإطلاق انتهى. قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه قال في النيل: وأخرجه أيضاً الشافعي، وصححه ابن حبان والدارقطني والبيهقي، وأعله البخاري والعقيلي انتهى. قلت: في سند الترمذي ابن لهيعة فتحسينه لتعدد الطرق، قوله: "وأبو وهب الجيشاني" بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة "اسمه الديلم بن هوشع" وقال ابن يونس هو عبيد بن شرحبيل مقبول من الرابعة كذا في التقريب.(4/280)
باب الرجل يشتري الجارية وهي حامل
...
33ـ باب ما جاء في الرّجُلِ يَشْتَرِي الْجَارِيةَ وَهِي حامِل
1140 ـ حدثنا عُمرُ بنُ حَفْصٍ الشّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ. حدثنا عَبْدُ الله بنُ وَهْبٍ. حدثنا يَحْيَى بنُ أيّوبَ عنْ رَبِيعَةَ بنِ سُلَيمٍ، عنْ بُسْرِ بنِ عُبَيْدِ الله، عنْ رُوَيْفِعٍ بنِ ثَابِتٍ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
باب ما جاء في الرّجُلِ يَشْتَرِي الْجَارِيةَ وَهِي حامِل
قوله: "عن بسر" بضم الموحدة وسكون السين المهملة "ابن عبيد الله"(4/280)
قالَ: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِالله والْيَوْمِ الاَخِرِ فَلاَ يَسْقِ مَاءَهُ وَلدَ غَيْرِهِ". هذا حديثٌ حسنٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ رُوَيْفِعِ بنِ ثَابِتٍ. والْعَملُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أهْلِ الْعِلْمِ، لاَ يَرَوْنَ لِلرّجُلِ، إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً وَهِيَ حَامِلٌ، أَنْ يَطَأَهَا حَتّى تَضَعَ. وفي البابِ عنْ أبي الدّرْدَاءِ وابنِ عَبّاسٍ والْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ، وأَبي سَعِيدٍ.
ـــــــ
الحضرمي الشامي ثقة حافظ "عن رويفع" بالتصغير قوله: "فلا يسقى" بفتح أوله أي يدخل "ماءه" أي نطفته "ولد غيره" وفي رواية أبي داود زرع غيره يعني إتيان الحبالى، وزاد أبو داود: ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الاَخر أن يقع على امرأة من السبى حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الأخر أن يبيع مغنماً حتى يقسم. قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود والدارمي وابن أبي شيبة والطبراني والبيهقي والضياء المقدسي وابن حبان وصححه، والبزار وحسنه. قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه الحاكم بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن بيع المغانم حتى تقسم. وقال: لا تسق ماءك زرع غيرك. وأصله في النسائي "وأبي الدرداء" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أتى على امرأة مجح على باب فسطاط فقال لعله يريد أن يلم بها". فقالوا: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، وكيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود، ورواه أبو داود الطيالسي وقال: كيف يورثه وهو لا يحل له؟ وكيف يسترقه وهو لا يحل له؟ والمجح هي الحامل كذا في المنتقى "والعرباض بن سارية" أخرجه أحمد والترمذي بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهم. كذا في المنتقى "وأبي سعيد" أخرجه أحمد وأبو داود بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبى أوطاس "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة". وأخرجه الحاكم وصححه. قال الحافظ في التلخيص إسناده حسن انتهى.(4/281)
باب ماجاء في الرجل يسبي الأمة ولها زوج هل يحل له وطؤها
...
34 ـ باب مَا جَاءَ في الرّجُلِ يَسْبِي الاْءَمَةَ وَلَها زَوْجٌ، هَلْ يَحِلّ لَهُ أن يَطَأَهَا
1141 ـ حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا هُشَيْمٌ. حدثنا عُثمانُ الْبَتّيّ عنْ أبي الْخَليِل، عنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قالَ: أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أوْطَاسٍ، وَلَهُنّ أَزْوَاجٌ في قَوْمِهِنّ. فَذَكَرُوا ذلِكَ لِرَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إلاّ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ}.
هذا حديثٌ حسنٌ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الثّوْرِيّ عنْ عُثمانَ الْبَتّيّ، عنْ أبي الخَلِيلِ، عنْ أبي سَعِيدٍ. وأبُو الْخَليلِ اسْمُهُ صالِحُ بنُ أبي مَرْيمَ. ورَوَى هَمّامٌ هذا الْحَدِيثَ عنْ قَتَادَةَ، عنْ صَالِحٍ أبي الخَلِيلِ، عَنْ أبي عَلْقَمَة الهَاشِميّ، عنْ أبي سَعِيدٍ، عَنْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم. حَدّثَنَا بِذلِكَ عَبدُ بنُ حُمَيْدٍ. حدثنا حَبّانُ بنُ هِلاَلٍ. حدثنا هَمّامٌ.
ـــــــ
باب ما جاء يسبى الأمة ولها زوج هل يحل له أن يطأها
أي هل يجوز للسابى وطء تلك الأمة بعد الاستبراء. قوله: "حدثنا عثمان البتي" هو عثمان بن مسلم البتي بفتح الموحدة وتشديد المثناة أبو عمرو البصري صدوق "أصبنا سبايا يوم أوطاس" بالصرف وقد لا يصرف، موضع أو بقعة على ثلاث مراحل من مكة، فيها وقعة للنبي صلى الله عليه وسلم قال القاري: "والمحصنات" أي وحرمت عليكم المحصنات أي ذوات الأزواج "من النساء" أن تنكحوهن قبل مفارقة أزواجهن حرائر مسلمات كن أولا "إلا ما ملكت أيمانكم" من الإماء بالسبي فلكم وطؤهن، وإن كان لهم أزواج في دار الحرب بعد الاستبراء. والحديث رواه مسلم مطولاً ولفظه. أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشاً إلى أوطاس فلقى عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا فكأن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين. فأنزل الله تعالى في ذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن انتهى. قال النووي المراد بقوله إذا انقضت عدتهن أي استبراؤهن وهي بوضع الحمل عن الحامل، وبحيضة من الحاثل، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة. والحديث دليل عن أن السبايا يحل وطؤهن بعد الاستبراء، وإن كن ذوات الأزواج. قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي(4/282)
باب ماجاء في كراهية مهر البغى
...
35 ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ مَهْرِ الْبَغِي
1142 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبدالرحمن عن أبي مسعود الانصاري قالَ: "نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عنْ ثَمنِ الْكَلْبِ ومَهْرِ البَغِيّ وحُلْوَانِ الْكاهِنِ". وفي البابِ عنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ وأبي جُحَيْفَةَ وأَبي هُرَيْرَةَ وابنِ عَبّاسٍ.
حديثُ أبي مَسْعُودٍ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ مَهْرِ الْبَغِي
بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد التحتانية وهو فغيل بمعنى فاعله، وجمع البغى البغايا، والبغاء بكسر أوله الزنا والفجور، وأصل البغاء الطلب غير أنه أكثر ما يستعمل في الفساد
قوله: "عن ثمن الكلب" فيه دليل على تحريم بيع الكلب وظاهره عدم الفرق بين المعلم وغيره، سواء كان مما يجوز اقتناؤه أو مما لا يجوز. وإليه ذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجوز. وقال عطاء والنخعي يجوز بيع كلب الصيد دون غيره، ويدل عليه ما أخرجه النسائي من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد. قال في الفتح ورجال إسناده ثقات إلا أنه طعن في صحته وأخرج نحوه الترمذي من حديث أبي هريرة لكن من رواية أبي المهزم وهو ضعيف. فينبغي حمل المطلق على المقيد، ويكون المحرم بيع ما عدا كلب الصيد إن صلح هذا المقيد للاحتجاج به "ومهر البغى" المراد به ما تأخذه الزانية على الزنا، وهو مجمع على تحريمه "وحلوان الكاهن" بضم الحاء المهملة وسكون اللام، هو ما يعطاه الكاهن على كهانته. والكاهن ـ قال الخطابي ـ هو الذي يدعى مطالعة علم الغيب، ويخبر الناس عن الكوائن. قال الحافظ في الفتح: حلوان الكاهن حرام بالإجماع لما فيه من أخذ العوض على أمر باطل. وفي معناه التنجيم والضرب بالحصى وغير ذلك مما يتعاطاه العرافون من استطلاع الغيب: قوله: "وفي الباب عن رافع بن خديج وأبي جحيفة وأبي هريرة وابن عباس" أما حديث رافع بن خديج فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي جحيفة فأخرجه البخاري ومسلم. وأما حديث أبي هريرة فلينظر من أخرجه. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد وأبو داود. قوله: "حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة(4/283)
باب ماجاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه
...
36 ـ باب مَا جَاءَ أَنْ لاَ يَخْطُبَ الرّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أخيه
1143 ـ حدثنا أحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ و قُتَيْبَةُ قالاَ: حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنِ الزّهْرِيّ. عنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيّبِ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ "قالَ قتَيْبَةُ: يَبْلُغُ بِهِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقالَ أَحْمَدُ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم" : "لاَ يَبِيعُ الرّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، ولاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ". وفي البابِ عنْ سَمُرَةَ وابنِ عُمَرَ. قال أبو عيسى حدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ. قالَ مَالِكُ بنُ أنَسٍ: إنمَا مَعْنَى كَرَاهِيَةِ أنْ يَخْطُبَ الرّجُلُ
ـــــــ
باب ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه
قال في النهاية خطب يخطب خطبه بالكسر فهو خاطب، والاسم منه الخطبة أيضاً وأما الخطبة بالضم فهو من القول والكلام انتهى. وقال في الصراح خطبة بالكسر زن خواستن
قوله: "قال قتيبة يبلغ به" أي قال قتيبة في روايته يبلغ به أي يرفع أبو هريرة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "وقال أحمد" أي قال أحمد بن منيع في روايته "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فمعنى روايتهما واحد وإنما الفرق في اللفظ. قوله: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه" قال العلماء البيع على البيع حرام. وكذلك الشراء على الشراء. وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار افسخ لأبيعك بأنقص أو يقول للبايع: افسخ لأشتري منك بأزيد: قال الجمهور لا فرق في ذلك بين المسلم والذمي، وذكر الأخ خرج للغائب فلا مفهوم له "ولا يخطب على خطبة أخيه" قال الجزري في النهاية: هو أن يخطب الرجل المرأة فتركن إليه ويتفقا على صداق، ويتراضيا ولم يبق إلا العقد. فأما اذا لم يتفقا ولم يتراضيا. ولم يركن أحدهما إلى الاَخر، فلا يمنع من خطبتها وهو خارج عن النهي انتهى. قوله: "وفي الباب عن سمرة وابن عمر" وفي الباب أيضا عن عقبة بن عامر. أما حديث سمرة فأخرجه أحمد مرفوعاً بلفظ:(4/284)
عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، إذَا خَطَبَ الرّجُلُ الْمَرْأَةَ فَرَضِيَتْ بِهِ، فَلَيْسَ لإحَدٍ أنْ يخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ. وقالَ الشّافِعِيّ مَعْنَى هذَا الْحَدِيثِ "لاَ يَخْطُبُ الرّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ"، هذَا عِنْدَنَا إذَا خَطَبَ الرّجُلُ الْمَرْأَةَ فَرَضِيَتْ بِهِ ورَكَنَتْ إلَيْهِ، فَليْسَ لإحَدٍ أنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ. فَأَمّا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ رِضَاهَا أوْ رُكُونَها إلَيْهِ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَخْطُبَهَا. والحُجّةُ في ذلِكَ حدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، حَيْثُ جَاءَتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ لَهُ أنّ أبَا جَهْمِ بن حُذَيْفَةَ ومعُاوِيَةَ بنَ أبي سُفْيَانَ خَطَبَاهَا. فقالَ "أَمّا أَبُو جَهْمٍ، فَرَجُلٌ لاَ يَرْفَعُ عَصَاهُ عنِ النّسَاءِ. وأمّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ. ولكِنِ انْكِحِي أُسَامَةَ". فَمَعْنَى هذَا الْحَدِيثِ عِنْدَنَا، والله أَعْلَمُ، أنّ فَاطِمَةَ لَمْ تُخْبِرْهُ بِرِضَاهَا بوَاحِدِ مِنْهُمَا. ولَوْ أَخبَرَتْهُ، لَمْ يُشِرْ عَلَيْهَا بِغَيْرِ الّذِي ذَكَرَتْ.
ـــــــ
نهى النبي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه. وأما حديث ابن عمر فأخرجه أحمد والبخاري والنسائي ولفظه: لا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب. وأما حديث عقبة بن عامر فأخرجه أحمد ومسلم ولفظه: المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر. قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري والنسائي قوله: "والحجة في ذلك حديث فاطمة بنت قيس الخ" قال النووي في شرح مسلم: هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم الخطبة على خطبة أخيه. وأجمعوا على تحريمها إذا كان قد صرح للخاطب بالإجابة ولم يأذن ولم يترك فلو خطب على خطبته وتزوج، والحالة هذه عصى، وصح النكاح ولم يفسخ. هذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال داود يفسخ النكاح وعن مالك روايتان كالمذهبين. وقال جماعة من أصحاب مالك: بفسخ قبل الدخول لا بعده وأما إذا عرض له بالإجابة ولم يصرح ففي تحرير الخطبة على خطبته قولان للشافعي: أصحهما لا يحرم. وقال بعض المالكية: لا يحرم حتى يرضو بالزوج ويسمى المهر. واستدلوا لما ذكرناه من أن التحريم إنما هو إذا حصلت الإجابة بحديث فاطمة بنت قيس فإنها(4/285)
1144 ـ حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبُو دَاوُدَ قالَ: أنْبَأَنَا شُعْبَةُ قالَ: أخْبَرَني أبُو بَكْرٍ بنُ الْجَهْمِ قالَ: دَخَلْتُ أنَا وأبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَلى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ. فَحَدّثَتْنَا أنّ زَوْجَهَا طَلّقَهَا ثَلاَثاً، ولَمْ يَجْعَلْ لهَا سُكْنَى ولاَ نَفَقَةً. قَالتْ: وَوَضَعَ لِي عَشْرَةَ أقْفِزَةٍ عِنْدَ ابنِ عَمَ لَهُ: خَمْسَةً شَعِيراً وخَمْسَةً بُراً. قَالتْ: فَأَتيْتُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذلِكَ لَهُ. قَالتْ: فقَالَ "صَدَقَ" قالت فَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَدّ في بَيْتِ أُمّ شَرِيكٍ. ثمّ قالَ لِي رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "إنّ بَيْتَ أُمّ شَرِيكٍ بَيْتٌ يَغْشَاهُ الْمُهَاجِرُونَ. وَلكِنِ اعْتَدّي في بَيْتِ ابنِ أُمّ مَكْتُومٍ. فَعَسَى أَنْ تُلْقِي ثِيَابَكِ فلا يَرَاكِ. فَإذَا انْقْضَتْ عِدّتُكِ فَجَاءَ أَحَدٌ يَخْطُبكِ فآذِنِيني".
ـــــــ
قالت خطبني أبو جهم ومعاوية، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض بل خطبها لأسامة. وقد يعترض على هذا الدليل فيقال لعل الثاني لم يعلم بخطبة الأول، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بأسامة، لا أنه خطب له واتفقوا على أنه إذا ترك الخطبة رغبة عنها، أو أذن فيها جازت الخطبة على خطبته وقد صرح بذلك في هذه الأحاديث انتهى.
قوله: "على فاطمة بنت قيس" أي القرشية أخت الضحاك كانت من المهاجرات الأول "فحدثت أن زوجها طلقها ثلاثاً" ، وفي رواية لمسلم وغيره فبعث إليها بتطليقه كانت بقيت لها "ووضع لي عشرة أقفزة" جمع قفيز وهو مكيال معروف "خمسة شعير وخمسة بر" بدل من عشرة أقفزة "فقال صدق" أي في عدم جعله لك السكنى والنفقة. "يغشاها المهاجرون" أي يدخلون عليها "فعسى أن تلقى ثيابك فلا يراك" قال النووي احتج بعض الناس بهذا على جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف نظره إليها، وهو ضعيف. والصحيح الذي عليه الجمهور أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها لقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الاَية. ولحديث أم سلمة: أفعمياوان أنتما؟ وأيضاً ليس في هذا الحديث رخصة لها في النظر إليه، بل فيه أنها آمنة عنده من نظر غيره، وهي مأمورة بغض بصرها(4/286)
فَلمّا انْقضَتْ عِدّتِي، خَطَبَنِي أبُو جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةُ. قَالتْ: فَأَتَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذلِكَ لَهُ. فَقَالَ: "أمّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ لاَ مَالَ لَهُ. وَأَمّا أبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ شَدِيدُ عَلَى النّسَاءِ". قَالتْ، فَخَطبَنِي أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، فَتَزَوّجَنِي، فَبَارَكَ الله لِي في أُسَامَةَ.
هذا حديثٌ صحيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثّوْرِي عنْ أبي بَكْرِ بنِ أبي الجَهْم نحْوَ هذَا الْحَدِيثِ. وَزَادَ فِيهِ: فقَالَ لِي النبيّ صلى الله عليه وسلم "انْكِحِي أُسَامَةَ". حدثنا مَحْمُودٌ حدثنا وَكِيعٌ عنْ سُفْيَانَ، عنْ أبي بَكْرِ بنِ أبي الْجَهْم بِهذَا.
ـــــــ
عنه انتهى. "خطبني أبو جهم ومعاوية" أبو جهم هذا هو عامر بن حذيفة العدوي القرشى، وهو مشهور بكنيته، وهو الذي طلب النبي صلى الله عليه وسلم انبجانية في الصلاة. قال النووي: وهو غير أبي جهم المذكور في التيمم، وفي المرور بين يدي المصلي ومعاوية هذا هو ابن أبي سفيان بن حرب الأموي. "أما معاوية فرجل لا مال له وفي رواية مسلم: فصعلوك لا مال له. والصعلوك بالضم الفقير الذي لا مال له "وأما أبو جهم فرجل شديد على النساء" وفي رواية لمسلم: فرجل ضراب للنساء. وفي هذا دليل على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند المشاورة وطلب النصيحة، ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة. "فبارك الله في أسامة" وفي رواية مسلم: فجعل الله فيه خيراً واغتبطت. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم بطوله والبخاري مختصراً. قوله: "ورواه سفيان الثوري عن أبي بكر بن أبي جهم الخ" أخرج هذه الرواية مسلم. وقد أخرح مسلم حديث فاطمة بنت قيس من طرق عديدة مطولاً مختصراً. وقد استنبط منه النووي فوائد كثيرة في شرح مسلم فعليك أن تراجعه(4/287)
باب ماجاء في العزل
...
37 ـ باب مَا جَاءَ في الْعَزْل
1145 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بنِ أبِي الشّوَارِبِ حدثنا يَزِيدُ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في الْعَزْل
بفتح العين المهملة وسكون الزاي هو النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج(4/287)
ابنُ زُرَيْعٍ. حدثنا مَعْمَرٌ عنْ يَحْيَى بْنِ أبي كَثِيرٍ، عنْ مُحَمّدِ بنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بنِ ثَوْبَانَ، عنْ جَابرٍ قالَ: "قُلْنَا: ياَ رسولَ الله إنّا كُنَا نَعْزِلُ. فَزَعَمَتِ الْيَهُودُ أنّهُ الْمَوْءُودَةُ الصّغْرَى. فقَالَ: كَذَبَتِ الْيَهُودُ. إِنّ الله إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَهُ فلَمْ يَمْنَعْهُ".
وفي البابِ عنْ عُمَرَ وَالبرَاءِ وأَبي هُرَيْرَةَ وأبي سَعِيدٍ.
ـــــــ
قوله: "فزعمت اليهود أنه" أي العزل "الموءودة الصغرى" الوأد فن البنت حية، وكانت العرب تفعل ذلك خشية الإملاق والعار. قاله النووي. والمعنى أن اليهود زعموا أن العزل نوع من الوأد لأن فيه إضاعة النطفة التي أعدها الله تعالى ليكون منها الولد. وسعياً في إبطال ذلك الاستعداد بعزلها عن محلها "كذبت اليهود" أي في زعمهم إن العزل الموءودة الصغرى "إن الله تعالى إذا أراد أن يخلقه لم يمنعه" أي العزل أو شيء. وهذا الحديث دليل لمن أجاز العزل. قوله: "وفي الباب عن عمر والبراء وأبي هريرة وأبي سعيد" أما حديث عمر فأخرجه أحمد وابن ماجه عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل من الحرة إلا بإذنها . قال صاحب المنتقى ليس إسناده بذاك. وقال الشوكاني: في إسناده ابن لهيعة وفيه مقال معروف، ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق والبيهقى عن ابن عباس قال. نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها. وروى عنه ابن أبي شيبة. أنه كان يعزل عن أمته. وروى البيهقي عن ابن عمر مثله. وأما حديث البراء فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه النسائي نحو حديث أبي سعيد. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أحمد وأبو داود قال. قالت اليهود: العزل الموءودة الصغرى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبت اليهود، إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئاً لم يستطع أحد أن يصرفه. فإن قلت حديث الباب وما في معناه يعارضه حديث جذامة بنت وهب ففيه: ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي". وهي "وإذا الموءودة سئلت" . أخرجه أحمد ومسلم فما وجه الجمع والتوفيق بين هذين الحديثين؟ قلت قد اختلفوا في وجه الجمع، فمن العلماء من جمع بينهما بحمل حديث جذامة على التنزيه. وهذه طريقة البيهقي. ومنهم من ضعف حديث جذامة لمعارضته لما هو أكثر منه طرقاً. قال(4/288)
1146 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ و ابنُ عُمَرَ قالاَ: حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنْ عَمْروِ بنِ دِينَارٍ، عنْ عَطَاءٍ، عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله قالَ: كُنّا نَعْزِلُ، وَالْقُرْآنُ يَنزِلُ.
حدِيثُ جَابِرٍ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ
ـــــــ
الحافظ: وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم. والحديث صحيح لا ريب فيه، والجمع ممكن. ومنهم من ادعى أنه منسوخ. ورد بعدم معرفة التاريخ. وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولاً من موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم علمه الله بالحكم فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه وتعقبه ابن رشد وابن العربي بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحرم شيئاً تبعاً لليهود، ثم يصرح بتكذيبهم فيه. ومنهم من رجح حديث جذامة بثبوته في الصحيح وضعف مقابله بالاختلاف في إسناده والاضطراب. وقال الحافظ: ورد بأنه إنما يقدح في حديث لا فيما يقوى بعضه بعضاً، فإنه يعمل به وهو هنا كذلك، والجمع ممكن ورجح ابن حزم العمل بحديث جذامة بأن أحاديث غيرها موافقة لأصل الإباحة، وحديثها يدل على المنع. قال فمن ادعى أنه أبيح بعد أن منع فعليه البيان. وتعقب بأن حديثها ليس صريحاً في المنع، إذا لا يلزم من تسميته وأدا خفياً على طريقي التشبيه أن يكون حراماً. وجمع ابن القيم فقال الذي كذب فيه صلى الله عليه وسلم اليهود هو زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلاً، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد. فأكذبهم وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأد حقيقة وإنما وأدا خفياً في حديث جذامة. لأن الرجل إنما يعزل هرباً من الحمل فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد. لكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد فقط. فلذلك وصفه بكونه خفياً. وهذا الجمع قوي كذا في النيل.
قوله: "كنا نعزل والقرآن ينزل" فيه جواز الاستدلال بالتقرير من الله ورسوله على حكم من الأحكام لأنه لو كان ذلك الشيء حراماً لم يقررا عليه، ولكن بشرط أن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذهب الأكثر من أهل الأصول على ما حكاه في الفتح: إلى أن الصحابي إذا أضاف الحكم إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع. قال لأن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره. لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن(4/289)
مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَقَدْ رَخّصَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ، في الْعَزْلِ. وقالَ مَالِكُ بنُ أنَسٍ: تُسْتَأْمَرُ الحُرّةُ في الْعَزْلِ، ولا تُسْتَأْمَرُ الأَمَةُ.
ـــــــ
الأحكام. قال وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك، وأخرج مسلم من حديث جابر قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا. قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم. قوله: "وقد رخص قوم من أهلم العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في العزل" فاستدلوا بأحاديث الباب. "وقال مالك بن أنس: تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الأمة" يدل عليه ما رواه أحمد وابن ماجه عن عمر بن الخطاب قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها. وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عباس قال: نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها، وروى عنه ابن أبي شيبة أنه كان يعزل عن أمته. وروى البيهقي عن ابن عمر مثله. وقد اختلف السلف في حكم العزل فحكى في الفتح عن ابن عبد البر أنه قال: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه العزل. قال الحافظ وافقه في نقل هذا الإجماع ابن هبيرة قال: وتعقب بأن المعروف عند الشافعية أنه لاحق للمرأة في الجماع فيجوز عندهم العزل عن الحرة بغير إذنها على مقتضى قولهم. ويدل على اعتبار الإذن من الحرة حديث عمر المذكور. وأما الأمة فإن كانت زوجة فحكمها حكم الحرة. واختلفوا هل يعتبر الإذن منها أو من سيدها؟ وإن كانت سرية فقال في الفتح: يجوز بلا خلاف عندهم إلا في وجه حكاه الروياني في المنع مطلقاً. كمذهب ابن حزم.(4/290)
باب ماجاء في كراهية العزل
...
38 ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الْعَزْل
1147 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ و قُتَيْبَةُ قالاَ: حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنِ ابنِ أبي نجِيحٍ، عنْ مُجَاهِدٍ، عنْ قَزَعَةَ، عنْ أبي سَعِيدٍ قالَ:
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الْعَزْل
قوله "عن قزعة" بفتح القاف والزاي ابن يحي البصري ثقة من الثالثة.(4/290)
ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "لِمَ يَفْعَلُ ذلِكَ أحَدُكُمْ؟". زَادَ ابنُ أبي عمَرَ في حَدِيثِهِ: وَلَمْ يَقلْ لاَ يَفْعَلْ ذَاكَ أَحَدُكُمْ. قالاَ في حَدِيثهِمَا: "فَإِنّهَا لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إلاّ الله خَالِقُهَا". وفي البابِ عنْ جَابِر.
حدِيثُ أَبي سَعِيدٍ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عنْ أبي سَعِيدٍ. وَقَد كَرِهَ الْعَزْلَ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ مِنَ أَصْحَابٍ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ.
ـــــــ
قوله: "لم يفعل ذلك أحدكم. وزاد ابن أبي عمر في حديثه ولم يقل لا يفعل ذلك أحدكم" أشار إلى أنه لم يصرح لهم بالنهي. وإنما أشار إلى أن الأولى ترك ذلك. لأن العزل إنما كان خشية حصول الولد، فلا فائدة في ذلك لأن الله إن كان قد خلق الولد لم يمنع العزل ذلك، فقد يسبق الماء ولم يشعر العازل فيحصل العلوق ويلحقه الولد. ولا راد لما قضى الله. والفرار من حصول الولد يكون لأسباب منها خشية علوق الزوجة الأمة. لئلا يصير الولد رقيقاً، أو خشية دخول الضرر على الولد المرضع إذا كانت الموطوءة ترضعه، أو فراراً من كثرة العيال إذا كان الرجل مقلاً، فيرغب في قلة الولد لئلا يتضرر بتحصيل الكسب. وكل ذلك لا يغني شيئاً. وقد أخرج أحمد والبزار وصححه ابن حبان من حديث أنس: أن رجلاً سأل عن العزل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولداً. وله شاهدان في الكبير للطبراني عن ابن عباس. وفي الأوسط له عن ابن مسعود كذا في الفتح.(4/291)
باب ماجاء في القسمة للبكر والثيب
...
39 ـ باب مَا جَاءَ في الْقِسْمَةِ لِلْبِكْرِ وَالثيّب
1148 ـ حدثنا أبُو سَلَمةَ يَحْيَى بنُ خَلَفٍ حدثنا بِشْرُ بنُ الْمفَضّل عنْ خَالِدٍ الحَذّاءِ، عنْ أبي قِلاَبَةَ، عنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ قالَ: لَوْ شِئْتُ أنْ أَقُولَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وَلكِنّهُ قالَ: السّنّةُ، إِذَا
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في الْقِسْمَةِ لِلْبِكْرِ وَالثيّب
وقال بعض أهل العلم من التابعين: إذا تزوج البكر على إمْرأتِهِ أقام عندها ثلاثاً. وإِذا تزوج الثيب أقام عندها ليلتين والقول الأولُ أصحّ.
قوله: "قال" أي أبو قلابة "لو شئت أن أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه قال السنة" كان يشير إلى أنه لو صرح برفعه إلى النبي صلى الله(4/291)
تَزَوّجَ الرّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى امْرَأَتِهِ، أقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً. وإذَا تَزَوّجَ الثّيّبَ عَلَى امْرَأتِهِ، أقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثاً. وفي البابِ عنْ أُمّ سَلَمَة. حدِيثُ أنَسٍ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقَدْ رَفَعَهُ محَمّدٌ بنُ إسْحَاقَ عَنْ أيّوبَ، عنْ أبي قِلاَبَةَ، عنْ أنَسٍ. ولَمْ يَرْفَعْه بَعْضُهُمْ. قال: والعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ. قَالُوا: إذَا تَزَوّجَ الرّجُلُ امْرَأَةً بِكْراً عَلَى امْرَأَتِهِ، أقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً، ثمّ قَسَمَ بَيْنَهُمَا بَعْدُ، بِالْعَدْلِ. وَإِذَا تَزَوّجَ الثّيّبَ عَلَى امْرَأتِهِ أقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثاً. وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإِسحاق.
ـــــــ
عليه وسلم لكان صادقاً ويكون روى بالمعنى وهو جائز عنده، لكنه رأى أن المحافظة على اللفظ أولى. واعلم أن الصحابي إذا قال السنة أو من السنة فالمراد به سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يتبادر من قول الصحابي. وقد وقع في صحيح البخاري في الحج قول سالم بن عبد الله بن عمر حين سأله الزهري عن قول ابن عمر للحجاج: إن كنت تريد السنة هل تريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقال له سالم وهل يعنون بذلك إلا سنته انتهى. "إذا تزوج الرجل البكر على امرأته" أي يكون عنده امرأة فيتزوج معها بكراً "أقام عندها سبعاً" زاد في رواية الشيخين ثم قسم قوله: "وإذا تزوج ثيباً على امرأته أقام ثلاثاً" زاد في رواية الشيخين ثم قسم. وفي رواية الدارقطني: للبكر سبعة أيام وللثيب ثلاثة ثم يعود إلى نسائه. قوله: "وفي الباب عن أم سلمة" أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام وقال إنه ليس بك هوان على أهلك، فإن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي. وفي رواية الدارقطني: إن شئت أقمت عندك ثلاثاً خالصة لك وإن شئت سبعت لك وسبعت لنسائي قالت تقيم معي ثلاثاً خالصة. وفي إسناد رواية الدارقطني هذه الواقدي وهو ضعيف جداً. قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان. قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم قالوا: إذا تزوج الرجل امرأة بكراً على امرأته أقام عندها سبعاً ثم قسم بينهما بعد بالعدل الخ" واستدلوا بأحاديث الباب فإنها ظاهرة فيما قالوا. وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء قال النووي في شرح مسلم: وفيه أن حق(4/292)
ـــــــ
الزفاف ثابت للمزفوفة. وتقدم به على غيرها فإن كانت بكراً كان لها سبع ليال بأيامها بلا قضاء، وإن كانت ثيباً كان لها الخيار إن شاءت سبعاً ويقضي السبع لباقي النساء، وإن شاءت ثلاثاً ولا يقضي. وهذا مذهب الشافعي وموافقيه. وهو الذي ثبتت فيه هذه الأحاديث الصحيحة. ومن قال به مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن جرير وجمهور العلماء انتهى كلام النووي. وروى الإمام محمد في موطإه حديث أم سلمة وفيه: إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ودرت. قالت: ثلث. قال محمد بهذا نأخذ: ينبغي إن سبع عندها أن يسبع عندهن لا يزيد لها عليهن شيئاً، وإن ثلث عندها يثلث عندهن. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا انتهى. قلت: مذهب الحنفية أنه لا فرق بين الجديدة والقديمة ولا بين البكر والثيب بل يجب القسم بينهن بالسوية. والاستدلال على هذا بحديث أم سلمة غير ظاهر بل الظاهر منه هو ما ذهب إليه الجمهور وقد أقر به صاحب التعليق الممجد على موطإ محمد. وكذا الظاهر من سائر أحاديث الباب هو ما ذهب إليه الجمهور ويؤيده رواية الدارقطني بلفظ: إن شئت أقمت عندك ثلاثاً خالصة لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي. قالت تقيم معي ثلاثاً خالصة. واستدل أبو حنيفة وأصحابه بالظواهر الواردة بالعدل بين الزوجات. وأجيبوا بأن أحاديث الباب مخصصة للظواهر العامة. والحاصل أن المذهب الراجح الظاهر من الأحاديث الصحيحة هو مذهب الجمهور والله تعالى أعلم.
تنبيه: اعلم أن الإمام أبا حنيفة وأصحابه كما تركوا العمل بظاهر أحاديث الباب، كذلك ترك الإمام مالك وأصحابه العمل بظاهر حديث أم سلمة المذكور. فإنه يفهم منه جواز التخيير للثيب بين الثلاث بلا قضاء والسبع مع القضاء وإليه ذهب الشافعي وأحمد والجمهور. وقال مالك وأصحابه لا تخيير بل للبكر الجديدة سبع، وللثيب ثلاث، بدون التخيير والقضاء. قال ابن عبد البر: هذا يعني حديث أم سلمة تركه مالك وأصحابه للحديث الذي رواه مالك عن أنس انتهى. وأشار به إلى حديث أنس المذكور في الباب قال صاحب التعليق الممجد: واعتذر أصحاب مالك عن حديث أم سلمة الدال صريحاً على التخيير، بأن مالكاً رأى ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خص في النكاح بخصائص. فاحتمال الخصوصية منع من الأخذ به. وفيه ضعف ظاهر لأن مجرد الاحتمال لا يمنع الاستدلال انتهى. قلت الأمر كما قال صاحب التعليق الممجد.(4/293)
باب ماجاء في التسوية بين الضرائر
...
40 ـ باب مَا جَاءَ في التّسْوِيَةِ بَيْنَ الضَرائِر
1149 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ أخبرنا بِشْرُ بنُ السّرِيّ. أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمةَ عنْ أيّوبَ، عنْ أبي قِلاَبَةَ، عنْ عَبْدِ الله بنِ يَزِيدَ، عنْ عَائِشَةَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ويَقُولُ: الّلهُمّ هذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيما تَمْلِكُ ولاَ أَمْلِكُ".
حديثُ عَائشةَ هكَذَا، رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عن حمّادِ بنِ سلمَةَ، عنْ أَيّوبَ عنْ أبي قِلاَبَةَ، عنْ عبدِ الله بنِ يَزِيدَ، عنْ عَائِشَةَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقْسم". وَرَوَاهُ حَمّادُ بنُ زَيْدِ وغَيْرُ وَاحدٍ عن أيّوبَ، عنْ أبي قِلاَبَةَ، مُرْسَلاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقْسِمُ" وهذَا أصَحّ مِنْ حَديثِ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ.
ومعنى قوله :لا تلمني فيما تملك ولا أملك إنما يعني به الحب والمودة.كذا فسره بعض أهل العلم.
ـــــــ
باب ما جاء في التسوية بين الضرائر
هي زوجات الرجل لأن كل واحدة تتضرر بالأخرى بالغيرة والقسم كذا في المجمع
قوله: "كان يقسم بين نسائه فيعدل" استدل به من قال أن القسم كان واجباً عليه، وذهب بعض المفسرين إلى أنه لا يجب عليه، واستدلوا بقوله تعالى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية، وذلك من خصائصه "ويقول اللهم هذه قسمتي فيما أملك" أي أقدر عليه "فلا تلمني" أي لا تعاتبني ولا تؤاخذني "فيما تملك ولا أملك" أي من زيادة المحبة والميل. قال ابن الهمام: ظاهره أن ما عداه مما هو داخل تحت ملكه وقدرته يجب التسوية فيه. ومنه عدد الوطآت والقبلات والتسوية فيهما غير لازمة إجماعاً. قوله: "وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة" وكذا أعله النسائي والدارقطني وقال أبو زرعة: لا أعلم أحداً تابع حماد بن سلمة على وصله: والحديث أخرجه الخمسة إلا أحمد وأخرجه أيضاً الدارمي وصححه ابن حبان والحاكم. قوله: "كذا فسره بعض أهل العلم" أخرج البيهقي من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس(4/294)
1150 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا عبدُ الرّحمَنِ بنُ مَهْدِي. أخبرنا هَمامٌ عنْ قتادَةَ، عنِ النّضْرِ بنِ أنَسٍ، عنْ بَشِيرِ بنِ نَهِيكٍ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذا كانتَ عِنْدَ الرّجُلِ امْرَأَتَانِ، فَلْم يعْدِلْ بَيْنَهُمَا، جَاءَ يَوْمَ القِيامَةِ وَشِقّهُ سَاقِطٌ".
وَإنّمَا أَسْنَدَ هذا الحَديثَ هَمّامُ بن يَحْيَى عن قَتَادَة. ورَوَاهُ هِشَامٌ الدّسْتَوَائيّ عنْ قَتَادةَ قالَ: كانَ يُقالُ. وَلاَ نَعْرِفُ هذَا الحديثَ مَرفوعاً إِلاّ مِنْ حدِيثِ هَمّامٍ.
ـــــــ
في قوله: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء" قال في الحب والجماع وعند عبيدة بن عمرو السلماني مثله. قوله: "جاء يوم القيامة وشقه ساقط" وفي بعض الروايات جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطاً أو مائلاً. قال الطيبي في شرح قوله: "وشقه ساقط" أي نصفه مائل قيل بحيث يراه أهل العرصات ليكون هذا زيادة في التعذيب وهذا الحكم غير مقصور على امرأتين، فإنه لو كانت ثلاث أو أربع كان السقوط ثابتاً، واحتمل أن يكون نصفه ساقطاً وإن لزم الواحدة وترك الثلاث أو كانت ثلاثة أرباعه ساقطة على هذا فاعتبر، ثم إن كانت الزوجتان إحداهما حرة والأخرى أمة فللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث. بذلك ورد الأثر قضى به أبو بكر وعلي رضي الله عنهما. كذا في المرقاة: قوله: "وإنما أسند هذا الحديث همام" أي رواه مرفوعاً، "ولا نعرف هذا الحديث مرفوعاً إلا من حديث همام" وقال عبد الحق: هو خبر ثابت لكن علته أن هماماً تفرد به، وأن هشاماً رواه عن قتادة فقال: كان يقال. وأخرج أبو نعيم عن أنس نحوه. وحديث أبي هريرة هذا أخرجه الخمسة وأخرجه أيضاً الدارمي وابن حبان والحاكم قال: وإسناده على شرط الشيخين كذا في المنتقى والنيل(4/295)
باب ماجاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما
...
41 ـ باب مَا جَاءَ في الزّوْجَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمَا
1151 ـ حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ وَ هَنّادٌ قالا: أخبرنا أبُو معَاوِيَةَ عنِ الْحَجّاجِ، عنْ عَمْروِ بنِ شُعَيْبٍ، عنْ أَبِيهِ، عنْ جَدّهِ أنّ رسُولَ الله
ـــــــ
باب ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما
قوله: "عن الحجاج" هو ابن أرطاة صدوق كثير الخطأ والتدليس.(4/295)
صلى الله عليه وسلم ردّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أبي الْعَاصِ بنِ الرّبِيعِ، بِمَهْرٍ جَدِيدٍ وَنِكاحٍ جَدِيدٍ.
هذا حديثٌ فِي إسْنَادهِ مَقالٌ وفي الحديث الاَخر أيضاً مقالٌ والعَمَلُ عَلَى هذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ الْمَرأَةَ إِذَا أَسْلَمت قَبْلَ زَوْجِهَا ثُمّ أسْلَمَ زَوْجُهَا وَهِيَ في الْعِدّةِ أَنّ زَوْجَهَا أَحَقّ بِهَا ما كانَتْ في الْعِدّةِ. وهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ وَالأوْزَاعِيّ وَالشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
1152 ـ حدثنا هَنّادُ أخبرنا يُونُسُ بنُ بُكَيْرٍ عنْ مُحَمّدِ بنِ إسْحَاقَ قالَ: حَدّثَني دَاوُدُ بنُ الحُصَيْن عنْ عِكْرَمَةَ، عنِ ابنِ عَبّاسٍ قالَ: "رَدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أبِي الْعَاصِ بنِ الرّبِيعِ، بَعْدِ سِتّ سِنِينَ، بالنّكاحِ الاْوّلِ. ولَمْ يُحْدِثْ نِكاحاً". هذا حديثٌ لَيْسَ بإسنَادِه بأسٌ، ولَكنْ لا نَعْرِفُ وَجْهَ هذَا الحدَيثِ، وَلَعَلّهُ قَدْ جَاء هذَا
ـــــــ
قوله: "رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد" يخالفه حديث ابن عباس الآتي ففيه أنه صلى الله عليه وسلم ردها عليه بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحاً، وهو أصح كما ستعرف، قوله: "هذا حديث في إسناده مقال في إسناده حجاج بن أرطاة وهو مدلس" . وأيضاً لم يسمعه من عمرو بن شعيب كما قال أبو عبيد، وإنما حمله عن العرزمي وهو ضعيف، وقد ضعف هذا الحديث جماعة من أهل العلم كذا في النيل والحديث أخرجه أيضاً ابن ماجه قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم" أي من حيث أن هذا الحديث يقتضي أن الرد بعد العدة يحتاج إلى نكاح جديد. فالرد بلا نكاح لا يكون إلا قبل العدة. قاله أبو الطيب المدني، "وهو قول مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق" وقال محمد في موطإه: إذا أسلمت المرأة وزوجها كافر في دار الإسلام لم يفرق بينهما حتى يعرض على الزوج الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته، وإن أبى أن يسلم فرق بينهما وكانت فرقتها تطليقة بائنة. وهو قول أبي حنيفة وإبراهيم النخعي انتهى.
قوله: "بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحاً" وفي رواية لأحمد وأبي داود وابن ماجه بعد سنتين قال الشوكاني:وفي رواية بعد ثلاث سنين وأشار في الفتح إلى الجمع فقال: المراد بالست ما بين هجرة زينب وإسلامه، وبالسنتين(4/296)
ـــــــ
أو الثلاث ما بين نزول قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} وقدومه مسلماً فإن بينهما سنتين وأشهراً. قوله: "هذا حديث ليس بإسناده بأس" حديث ابن عباس هذا صححه الحاكم. وقال الخطابي: هو أصح من حديث عمرو بن شعيب، وكذا قال البخاري. قال ابن كثير في الإرشاد: هو حديث جيد قوي وهو من رواية ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس انتهى، إلا أن حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس نسخه، وقد ضعف أمرها علي ابن المديني وغيره من علماء الحديث وابن إسحاق فيه مقال معروف. كذا في النيل. قلت قد تقدم في بحث القراءة خلف الإمام أن الحق أن ابن إسحاق ثقة قابل للاحتجاج. "ولكن لا نعرف وجه الحديث" قال الحافظ: أشار بذلك إلى أن ردها إليه بعد ست سنين أو بعد سنتين أو ثلاث مشكل لاستبعاد أن تبقى في العدة هذه المدة. قال ولم يذهب أحد إلى جواز تقرير المسلمة تحت المشرك إذا تأخر إسلامه عن إسلامها حتى انقضت عدتها. وممن نقل الإجماع في ذلك ابن عبد البر، وأشار إلى أن بعض أهل الظاهر قال بجوازه، ورده بالاجماع المذكور. وتعقب بثبوت الخلاف قديماً فيه، فقد أخرجه ابن أبي شيبة عن علي وإبراهيم النخعي بطرق قوية، وأفتى به حماد شيخ أبي حنيفة، وأجاب الخطابي عن الاشكال بأن بقاء العدة تلك المدة ممكن وإن لم تجر به عادة في الغالب، ولا سيما إن كانت المدة إنما هي سنتان وأشهر فإن الحيض قد يبطئ عن ذات الأقراء لعارض. وبمثل هذا أجاب البيهقي. قال الحافظ: وهو أولى ما يعتمد في ذلك وقال السهيلي في شرح السيرة: إن حديث عمرو بن شعيب هو الذي عليه العمل، وإن كان حديث ابن عباس أصح اسناداً، لكن لم يقل به أحد من الفقهاء، لأن الإسلام قد كان فرق بينهما قال الله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ومن جمع بين الحديثين قال: معنى حديث ابن عباس: ردها عليه على النكاح الأول في الصداق والحباء، ولم يحدث زيادة على ذلك من شرط ولا غيره انتهى. وقد أشار إلى مثل هذا الجمع ابن عبد الله. وقيل: إن زينب لما أسلمت وبقي زوجها على الكفر لم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن قد نزل تحريم نكاح المسلمة على الكافر، فلما نزل قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} الاَية أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابنته أن تعتد، فوصل أبو العاص مسلماً قبل انقضاء العدة فقررها النبي صلى الله(4/297)
مِنْ قِبَلِ دَاوُدَ بنِ حُصَيْنٍ، مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
1153 ـ حدثنا يُوسُفُ بنُ عِيسى أخبرنا وَكيعٌ قال أخبرنا إسْرَائِيلُ عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ، عنْ عِكْرِمَةَ، عنِ ابن عبّاسٍ: "أنّ رَجُلاً جَاءَ مُسْلِماً عَلَى عَهْدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. ثمّ جَاءَتِ امْرأتُهُ مُسْلِمَة. فقَالَ: ياَ رسولَ الله إنهَا كانَتْ أسْلَمَتْ مَعِي. فَرَدّهَا عَلَيْهِ". هذا حديثٌ صحيحٌ. سَمِعْتُ عَبْدَ بن حميدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بنَ هَارُونَ يَذْكُرُ عن محمّدِ بنِ إسْحَاقَ، هذا الحديثَ.
وحديثُ الحجّاجِ، عنْ عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ، عنْ أبيهِ عن جدّهِ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رَدّ ابْنَتَه عَلَى أبي العاصِ بمَهْرٍ جَديدٍ وَنِكاحٍ جَدِيدٍ. فقال يَزِيدُ بنُ هَارُونَ: حدِيثُ ابنِ عبّاس أَجْودُ إسْناداً. والعَمَلُ عَلَى حديثِ عَمْرو بن شُعيْب.
ـــــــ
عليه وسلم بالنكاح الأول. فيندفع الاشكال. قال ابن عبد البر: وحديث عمرو بن شعيب تعضده الأصول وقد صرح فيه بوقوع عقد جديد. والأخذ بالصريح أولى من الأخذ بالمحتمل، ويؤيده مخالفة ابن عباس لما رواه كما حكى ذلك عنه البخاري. قال الحافظ: وأحسن المسالك في تقرير الحديثين ترجيح حديث ابن عباس، كما رجحه الأئمة، وحمله على تطاول العدة فيما بين نزول آية التحريم وإسلاء أبي العاص، ولا مانع من ذلك انتهى. وفي المقام كلام أكثر من هذا فعليك أن تراجع شروح البخاري كالفتح وغيره.
قوله: "فقال يا رسول الله إنها كانت أسلمت معي فردها عليه" فيه أن المرأة إذا أسلمت مع زوجها ترد إليه وهذا مجمع عليه. قوله: "يذكر عن محمد بن إسحاق هذا الحديث" أراد بهذا الحديث حديث ابن عباس المذكور بلفظ: رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب الخ.(4/298)
باب ماجاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها
...
42 ـ باب مَا جَاءَ في الرّجُلِ يَتَزَوّجُ الْمَرْأَةَ فَيَمُوتَ عَنْهَا قَبْلَ
أنْ يَفْرِضَ لهَا
1154 ـ حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا يَزِيْدُ بنُ الْحُبَابِ. حدثنا سُفْيَانُ عنْ مَنْصُورٍ، عنْ إبْرَاهِيمَ، عنْ عَلْقَمَةَ، عنِ ابنِ مَسْعُ ودٍ، أَنهُ سُئِلَ عنْ رَجُلٍ تَزَوّجَ امْرَأَةً ولَمْ يَفْرِضْ لهَا صَدَاقاً، ولَمْ يَدْخُلْ بهَا حَتّى مَاتَ. فقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: لهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا. لاَ وَكْسَ ولاَ شَطَطَ. وعَلَيْهَا العِدّةُ وَلهَا الْمِيرَاثُ. فقَامَ مَعْقِلُ بنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيّ فقَالَ: قضَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، امْرَأَة مِنّا، مِثْلَ الذي قضَيْتَ. فَفرِحَ بهَا ابنُ مَسْعُودٍ. وفي البابِ عَن الْجَرّاحِ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في الرّجُلِ يَتَزَوّجُ الْمَرْأَةَ فَيَمُوتَ عَنْهَا قَبْلَ أنْ يَفْرِضَ لهَا
قوله: "ولم يفرض" بفتح الياء وكسر الراء أي لم يقدر ولم يعين "لها صداقا" أي مهراً "ولم يدخل بها" أي لم يجامعها ولم يخل بها خلوة صحيحة "مثل صداق نسائها" أي نساء قومها "لا وكس" بفتح فسكون أي لا نقص "ولا شطط" بفتحتين أي ولا زيادة "ولها العدة" أي الموفاة "ولها الميراث" زاد في رواية لأبي داود: فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خطأ فمني، ومن الشيطان والله ورسوله بريئان. "فقام معقل" بفتح الميم وكسر القاف "ابن سنان" بكسر السين "الأشجعي" بالرفع صفة معقل "في بروع" قال في القاموس كجدول ولا يكسر بنت واشق صحابية انتهى. وقال في المغنى بفتح الباء عند أهل اللغة وكسرها عند أهل الحديث انتهى. وقال في جامع الأصول: أهل الحديث يرونها بكسر الباء وفتح الواو وبالعين المهملة. وأما أهل اللغة فيفتحون الباء ويقولون إنه ليس بالعربية فعول إلا خروع لهذا النبت، وعقود اسم واد انتهى. قال القاري فليكن هذا من قبيلهما ونقل المحدثين أحفظ. قال وهو غير منصرف "بنت واشق" بكسر الشين المعجمة "ففرح بها" أي بالقضية أو بالفتيا لكون اجتهاده موافقاً لحكمه صلى الله عليه وسلم. قوله: "وفي الباب عن الجراح" بفتح الجيم وتشديد(4/299)
1155 ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلي الْخَلاّلُ. حدثنا يَزيدُ بنُ هارُونَ وعَبْدُ الرّزّاقِ، كِلاَهُمَا عنْ سُفْيَانَ، عنْ مَنْصُورٍ نَحْوَهُ.
حَدِيثُ ابنِ مَسْعُودٍ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ رُوِى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. والْعَمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ.
وَبِه يَقُولُ الثّوْرِيّ وأحْمَدُ وإسْحَاقُ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، مِنْهُمْ عَليّ بنُ أبي طَالبٍ وَزَيْدُ بنُ ثَابِت وابن عباس وابنُ عُمرَ: إِذَا تَزَوّجَ الرّجُلُ المرَأَة ولم يدخل بها ولَمْ يَفْرِضْ لهَا صَدَاقاً حَتّى مَاتَ، قالُوا: لهَا الْمِيرَاثُ، ولاَ صَدَاقَ لهَا، وعَلَيْهَا الْعِدّةُ. وَهُوَ قَوْل
ـــــــ
الراء بن أبي الجراح الأشجعي صحابي مقل وأخرج حديثه أبو داود قوله: "حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح" قال الحافظ في بلوغ المرام: وصححه الترمذي وجماعة انتهى. قال في السبل منهم ابن مهدي وابن حزم وقال: لا مغمز فيه بصحة إسناده. ومثله قال البيهقي في الخلافيات. قلت: الحديث صحيح وكل ما أعلوه به فهو مدفوع. قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وبه يقول الثوري وأحمد وإسحاق" قال في النيل: والحديث فيه دليل على أن المرأة تستحق بموت زوجها بعد العقد قبل فرض الصداق جميع المهر، وإن لم يقع منه دخول ولا خلوة. وبه قال ابن مسعود وابن سيرين وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق وأحمد انتهى. قلت: وهو الحق. "وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر: إذا تزوج الرجل امرأة ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقا حتى مات قالوا لها الميراث ولا صداق لها، وعليها العدة" وهو قول الأوزاعي والليث ومالك وأحمد قول الشافعي. قالوا لأن الصداق عوص، فإذا لم يستوف الزوج المعوض عنه لم يلزم قياساً على ثمن المبيع. وأجابوا عن الحديث بأن فيه اضطراباً فروى مرة عن معقل بن سنان، ومرة عن معقل بن يسار، ومرة عن بعض أشجع لا يسمى، ومرة عن رجل من أشجع أو ناس من أشجع. وضعفه الواقدي بأنه حديث ورد إلى المدينة من(4/300)
الشّافِعيّ. قالَ: لَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ بَرْوَعَ بِنْتِ واشِقٍ لَكانَتِ الْحُجّةُ فِيما رُوِيَ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. ورُوِيَ عنِ الشّافِعيّ أنّهُ رَجَعَ بِمِصْرَ بَعْدُ عنْ هذَا الْقَوْلِ، وقالَ بِحَدِيثِ بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ
ـــــــ
أهل الكوفة فما عرفه علماء المدينة. وروي عن علي رضي الله عنه أنه رده بأنه معقل بن سنان أعرابي بوال على عقبيه. وأجيب بأن الاضطراب غير قادح لأنه متردد بين صحابي وصحابي، وهذا لا يطعن به في الرواية ولا يضر الرواية بلفظ "عن بعض أشجع" أو "عن رجل من أشجع" لأنه فسر ذلك بمعقل. قال البيهقي: قد سمى فيه ابن سنان وهو صحابي مشهور، والاختلاف فيه لا يضر فإن جميع الروايات فيه صحيحة، وفي بعضها ما دل على أن جماعة من أشجع شهدوا بذلك وقال ابن أبي حاتم قال أبو زرعة الذي قال معقل بن سنان أصح. وأما عدم معرفة علماء المدينة فلا يقدح بها عدالة الراوي. وأما الرواية عن علي رضي الله عنه فقال في البدر المنير: لم يصح عنه "وقال لو ثبت حديث بروع بنت واشق لكانت الحجة فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم" وقال الشافعي في الأم: إن كان يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أولى الأمور، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كبر. ولا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتسليم له. ولم أحفظه عنه من وجه يثبت مثله مرة يقال عن معقل بن سنان، ومرة عن معقل بن يسار، ومرة عن بعض أشجع لا يسمى انتهى. وغرضه التضعيف بالاضطراب، وقد عرفت الجواب عنه. وروى الحاكم في المستدرك عن حرملة بن يحيى أنه قال: سمعت الشافعي يقول إن صح حديث بروع بنت واشق قلت به. قال الحاكم: قال شيخنا أبو عبد الله لو حضرت الشافعي لقمت على رؤوس الناس وقلت قد صح الحديث انتهى. وروي عن الشافعي أنه رجع عن هذا القول. وقال بحديث بروع بنت واشق" لثبوته عنده بعد أن كان متردداً في صحته.(4/301)
أبواب الرضاع
باب ماجاء يحرم من الرضاع مايحرم من النسب
...
أبواب الرضاع
1 ـ باب مَا جَاءَ يُحَرّمُ مِنَ الرّضَاعِ مَا يُحَرّمُ مِنَ النّسَب
1156 ـ حدثنا أحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ. حدثنا إِسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ. حدثنا عَليّ بنُ زَيْدٍ عنْ سَعيدِ بنِ الْمُسَيّبِ، عنْ عَلِي بن أبي طالب قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الله حَرّمَ مِنَ الرّضَاعِ مَا حَرّمَ مِنَ النّسَبِ".
ـــــــ
أبواب الرضاع
بفتح الراء وكسرها لغة، وهو القاضي عياض: والرضاع والرضاعة بفتح الراء وكسرها فيهما، وأنكر الأصمعى الكسر في الرضاعة وهو مص الرضيع من ثدي الاَدمية في وقت مخصوص، وهو يفيد التحريم قليلاً كان أو كثير إذا حصل في مدة الرضاع عند جمهور العلماء. وقال الشافعي: لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات. ومدة الرضاعة ثلاثون شهراً عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد سنتان. وبه قال الشافعي وأحمد وغيرهما.
باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
يحرم صيغة المجهول من التحريم . قوله: "إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب" قال القرطبي في الحديث دلالة على أن الرضاع ينشر الحرمة بين الرضيع والمرضعة وزوجها، يعني الذي وقع الإرضاع بين ولده منها، أو السيد فتحرم على الصبي لأنها تصير أمه، وأمها لأنها جدته فصاعداً، وأختها لأنها خالته، وبنتها لأنها أخته، وبنت بنتها فنازلاً لأنها بنت أخته، وبنت صاحب اللبن لأنها أخته، وبنت بنته فنازلاً لأنها بنت أخته، وأمه فصاعداً لأنها جدته، وأخته لأنها عمته ولا يتعدى التحريم إلى أحد من قرابة الرضيع. فليست أخته من الرضاعة أختاً لأخيه، ولا بنتاً لأبيه إذ لا رضاع بينهم، والحكمة في ذلك أن سبب التحريم ما ينفصل من أجزاء المرأة وزوجها وهو اللبن، فإذا اغتذى به الرضيع صار جزءاً من أجزائهما، فانتشر التحريم بينهم بخلاف قرابات الرضيع لأنه ليس بينهم وبين المرضعة ولا زوجها نسب ولا سبب انتهى. قال العلماء يستثنى من عموم قوله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب أربع(4/302)
وفي البابِ عنْ عَائِشَةَ وابنِ عَبّاسٍ وأُمّ حَبِيبَةَ. حديثُ عِلي حَسَنٌ صحيحٌ. والعمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ عَامّةِ أهْلِ العِلْمِ منْ أصْحَابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهْم. لاَ نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ في ذلِكَ اخْتِلاَفاً.
1157 ـ حدثنا بندار حدثنا يَحْيَى بنُ سَعيدِ القطّانُ. حدثنا مَالِكٌ ح. حدثنا إسْحَاقُ بنُ مُوسَى الأَنْصَارِيّ قالَ: حدثنا مَعْنٌ
ـــــــ
نسوة يحرمن في النسب مطلقاً، وفي الرضاع قد لا يحرمن: الأولى ـ أم الأخ في النسب حرام لأنها إما أم وإما زوج أب، وفي الرضاع قد تكون أجنبية فترضع الأخ فلا تحرم على أخيه. الثانية ـ أم الحفيد حرام في النسب لأنها إما بنت أو زوج ابن، وفي الرضاع قد تكون أجنبية فترضع الحفيد فلا تحرم على جده. الثالثة ـ جدة الولد في النسب حرام لأنها إما أم أو أم زوجة، وفي الرضاع قد تكون أجنبية أرضعت الولد فيجوز لوالده أن يتزوجها. الرابعة ـ أخت الولد حرام في النسب لأنها بنت أو ربيبة، وفي الرضاع قد تكون أجنبية فترضع الولد فلا تحرم على الولد. وهذه الصور الأربع اقتصر عليها جماعة ولم يستثن الجمهور شيئاً من ذلك.
وفي التحقيق لا يستثنى شيء من ذلك لأنهن لم يحرمن من جهة النسب، وإنما حرمن من جهة المصاهرة. واستدرك بعض المتأخرين أم العم وأم العمة، وأم الخال وأم الخالة، فإنهن يحرمن في النسب لا في الرضاع وليس ذلك على عمومه. كذا في فتح الباري. وقال النووي أجمعت الأمة على ثبوت حرمة الرضاع بين الرضيع والمرضعة، وأنه يصير ابنها يحرم عليه نكاحها أبداً، ويحل النظر إليها والخلوة بها والمسافرة ولا يترتب عليه أحكام الأمومة من كل وجه، فلا يتوارثان، ولا يجب على واحد منهما نفقة الاَخر، ولا يعتق عليه بالعتق، ولا ترد شهادته لها، ولا يعقل عنها، ولا يسقط عنها القصاص بقتله. فهما كالأجنبيين في هذه الأحكام انتهى. قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه البخاري بلفظ: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. وأخرجه الترمذي وغيره. "وابن عباس" أخرجه البخاري ومسلم بلفظ: يحرم من الرضاعة من يحرم من الرحم وفي لفظ من النسب "وأم حبيبة" لينظر من أخرج حديثها. قوله:(4/303)
قالَ: حدثنا مَالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ، عنْ سُلَيْمانَ بنِ يَسَارٍ، عنْ عُرْوَةَ بنِ الزّبَيْرِ، عنْ عَائِشَةَ قالَتْ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الله حَرّمَ مِنَ الرّضَاعَةِ مَا حَرّمَ مِنَ الْوِلاَدَةِ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والْعَملُ عَلَى هذَا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ. لاَ نَعْلَمُ بَيْنَهُمُ في ذَلِكَ اخْتِلاَفاً.
ـــــــ
"هذا حديث صحيح" وأخرجه أحمد. قوله: "ما حرم من الولادة" وفي رواية ابن ماجه من النسب. قوله: "والعمل على هذا عند عامة أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نعلم بينهم في ذلك اختلافاً" وقد وقع الخلاف هل يحرم بالرضاع ما يحرم من الصهار؟ وابن القيم قد حقق ذلك في الهدى بما فيه كفاية فليرجع إليه، وقد ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه يحرم نظير المصاهرة بالرضاع، فيحرم عليه أم امرأته من الرضاعة، وامرأة أبيه من الرضاعة، ويحرم الجمع بين الأختين من الرضاعة، وبين المرأة وعمتها وبنتها، وبين خالتها من الرضاعة وقد نازعهم في ذلك ابن تيمية كما حكاه صاحب الهدى كذا في النيل.(4/304)
باب ماجاء في لبن الفحل
...
2 ـ باب مَا جَاءَ في لَبَنِ الْفَحْل
1158 ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلي الْخَلاّلُ. حدثنا ابنُ نُمَيْرٍ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أَبِيهِ، عنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ عمّى مِنَ الرّضَاعَةِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيّ. فأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتّى أَسْتَأْمِرَ رسولَ الله صلى الله
ـــــــ
باب ما جاء في لبن الفحل
بفتح الفاء وسكون المهملة، أي الرجل، ونسبة اللبن إليه مجازيه لكونه السبب فيه. قال القاضي عبد الوهاب يتصور تجريد لبن الفحل برجل له امرأتان ترضع إحداهما صبياً. والأخرى صبية، فالجمهور قالوا يحرم على الصبي تزويج الصبية. وقال من خالفهم يجوز. ذكره الحافظ. ويحي تفسير لبن الفحل في الباب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
قوله: "جاء عمي من الرضاعة" وفي رواية البخاري: إن أفلح أخا أبي العقيس ـ جاء يستأذن عليها وهو عمها من(4/304)
عليه وسلم . فقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ فإِنّهُ عَمّكِ" قَالَتْ: إنْمَا أَرْضَعْتَنِي المَرْأَةُ ولَمْ يُرْضِعْني الرّجُلُ. قالَ "فإنّهُ عَمّكِ فَلْيَلِجْ علَيْكِ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَملُ عَلَى هذَا عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ. كَرِهُوا لَبَنَ الْفَحْلِ. وَالأَصْلُ في هذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ. وقَدْ رَخّصَ بعَضُ أهْلِ العِلْمِ فِي لَبَنِ الْفَحْلِ. والْقَوْلُ الأوّلُ أَصَحّ.
ـــــــ
الرضاعة "فليلج عليك" أي ليدخل "إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل" وفي رواية البخاري في تفسير سورة الأحزاب: فإن أخاه أبو القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس "قال فإنه عمك فليلج عليك" فيه دليل على أن لبن الفحل يحرم حتى يثبت الحرمة من جهة صاحب اللبن كما ثبت من جانب المرضعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت عمومة الرضاع وألحقها بالنسب. قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا لبن الفحل" قال الحافظ في الفتح: ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار كالأوزاعي في أهل الشام، والثوري وأبي حنيفة وصاحبيه في أهل الكوفة وابن جريج في أهل مكة، ومالك في أهل المدينة، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأتباعهم إلى أن لبن الفحل يحرم وحجتهم هذا الحديث الصحيح. يعني حديث عائشة المذكور في الباب "وقد رخص بعض أهل العلم في لبن الفحل" روى ذلك عن ابن عمر وأبي الزبير ورافع بن خديج وغيرهم، ومن التابعين عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والشعبي وابراهيم النخعي وغيرهم. واحتجوا بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ولم يذكر العمة والبنت كما ذكرهما في النسب.
وأجيبوا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه ولا سيما وقد جاءت الأحاديث الصحيحة. واحتج بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل.(4/305)
1159 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ. حدثنا مَالِكٌ ح. حدثنا الأنْصَارِيّ. حدثنا مَعْنٌ قالَ: حدثنا مَالِك عنِ ابنِ شِهَابٍ، عنْ عَمْروِ بنِ الشّرِيدِ، عَنِ ابنِ عَبّاسٍ أَنّهُ سُئِلَ عنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَتَانِ. أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا جَارِيَةً وَالأخْرَى غُلاماً. أَيَحِلّ لِلْغُلاَمِ أَنْ يَتَزَوّجَ بالْجَارِيَةَ؟ فقَالَ: لاَ. اللّقَاحُ وَاحِدٌ. وهذَ الأصْلُ في هذَا البَابِ. وهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وإسْحَاقَ.
ـــــــ
والجواب: أنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، وأيضاً فإن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معاً فوجب أن يكون الرضاع منهما، وإلى هذا أشار ابن عباس بقوله في هذه المسألة: اللقاح واحد وأيضاً فإن الوطء يدر اللبن فللفحل فيه نصيب "والقول الأول أصح" فإنه قد ثبت بالأحاديث الصحيحة، ولم يثبت القول الثاني بدليل صحيح:
قوله: "له جاريتان" أي أمتان "أرضعت أحدهما جارية" أي صبية "والأخرى غلاماً" أي والجارية الأخرى أرضعت صبياً "فقال لا" أي لا يحل للغلام أن يتزوج الجارية "اللقاح واحد" قال الجزري في النهاية اللقاح بالفتح اسم ماء الفحل، أراد أن ماء الفحل الذي حملت منه واحد، واللبن الذي أرضعته كل واحدة منهما كان أصله ماء الفحل، ويحتمل أن يكون اللقاح في هذا الحديث بمعنى الإلقاح، يقال ألقح الفحل الناقة إلقاحا ولقاحاً كما يقال أعطى إعطاء وعطاء. والأصل فيه للإبل ثم أستعير للناس انتهى. وأثر ابن عباس هذا سكت عنه الترمذي والظاهر أن إسناده صحيح.(4/306)
باب ماجاء لا تحرم المصة ولا المصتان
...
3 ـ باب ما جَاءَ لاَ تُحَرّمُ الْمَصّةُ وَلاَ الْمَصّتَان
1160 ـ حدثنا مُحمّدُ بنُ عَبْدِ الأعْلَى الصّنْعَانِيّ قال: حدثنا الْمعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ قالَ: سَمِعْتُ أَيّوبَ يُحَدّثُ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبي مُلَيْكَةَ، عنْ
ـــــــ
باب ما جَاءَ لاَ تُحَرّمُ الْمَصّةُ وَلاَ الْمَصّتَان
وسألت محمداً عن هذا فقال: الصحيح عن ابن الزبير عن عائشة وحديث محمد بن دينار وزاد فيه عن الزبير وإنما هو هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير. حدثنا. عبد الله بن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة ويكنى أبا محمدٍ، وكان عبد الله قد استقضاهُ على الطائف.
وقال ابن جريج عن ابن أبي مليكة قال: أَدركتُ ثلاثين من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "لا تحرم المصة ولا المصتان" ، وفي حديث أم الفضل: لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان. وفي رواية لا تحرم الرضعة والرضعتان. والمصة هي المرة من المص كالرضعة من الرضاع. قال في القاموس مصصته بالكسر أمصه(4/306)
عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ، عنْ عَائِشَةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا تحَرّمُ الْمَصّةُ وَلاَ الْمَصّتَانِ". وفي البابِ عنْ أُمّ الْفَضْلِ وأبِي هُرَيْرَةَ والزّبَيْرِ بن العوام وابنِ الزّبَيْرِ. وروى غير واحد هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لاَ تحَرّمُ الْمَصّةُ ولاَ الْمَصّتَانِ".
وَرَوَى مُحَمّدُ بنُ دِينَارِ، عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عنْ أبِيهِ، عنْ عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ، عن الزبير، عنِ النبيّ عَليْهِ الصّلاَةُ والسّلاَمُ. وَزَادَ فِيهِ مُحَمّدُ بنُ دِينَارٍ البصري "عنِ الزّبَيْرِ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم" وهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. والصّحِيحُ عِنْدَ أهْلِ الْحَدِيثِ حدِيثُ ابنِ مُلَيْكَةَ عنْ عبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ، عنْ عَائِشَةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
حَدِيثُ عَائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ومصصته أمصه كخصصته أخصه شربته شرباً رفيقاً انتهى وقال في الصراح: المص مكيدن. وقال في القاموس ملج الصبي أمه كنصر وسمع تناول ثديها بأدنى فمه. وامتلج اللبن امتصه وأملجه أرضعه، والمليج الرضيع انتهى. وقال فيه رضع أمه كسمع وضرب رضعاً ويحرك ورضاعاً ورضاعة وتكسر إن امتص ثديها انتهى. وقال ابن الأثير في النهاية: فلا تحرم الملجة والملجتان. وفي رواية الإملاجة والإملاجتان. الملج المص ملج الصبي أمه إذا رضعها. والملجة المرة، والإملاجة المرة أيضاً من أملجته أمه أي أرضعته يعني أن المصة والمصتين لا يحرمان ما يحرمه الرضاع الكامل انتهى. قوله: "وفي الباب عن أم الفضل" أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أتحرم المصة؟ فقال لا تحرم الرضعة والرضعتان، والمصة والمصتان. وفي رواية قالت: دخل أعرابي على نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيتي، فقال: يا نبي الله إن كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى، فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدثي رضعة أو رضعتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحرم الإملاجة ولا الأملاجتان. أخرجهما أحمد ومسلم "وأبي هريرة" أخرجه النسائي. وقال ابن عبد البر: لا يصح مرفوعاً. كذا في التلخيص "والزبير" أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان "وابن الزبير عن عائشة" أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما. قوله: "وهو غير محفوظ، والصحيح عند أهل الحديث حديث ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن عائشة الخ"(4/307)
والْعَملُ عَلَى هذَا عِنْدَ بَعْض أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ وقالَتْ عَائِشَةُ: أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ {عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ} فَنُسِخَ مِنْ ذلِكَ خَمْسٌ وَصَارَ إِلَى "خَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ" فَتُوُفّيَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم والأَمْرُ عَلَى ذلِكَ.
ـــــــ
وأعل ابن جرير الطبري الحديث بالاضطراب. فإنه روى عن علي بن الزبير عن أبيه وعنه عن عائشة، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة. وجمع ابن حبان بينهما بإمكان أن يكون ابن الزبير سمعه من كل منهم. قال الحافظ في التلخيص: وفي ذلك الجمع بعد على طريقة أهل الحديث انتهى. قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وغيره "والعمل على هذا" أي حديث عائشة: لا تحرم المصة والمصتان "عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم" ذهب أحمد في رواية وإسحاق وأبو عبيدة وأبو ثور وابن المنذر وداود وأتباعه ـ إلا ابن حزم ـ إلى أن الذي يحرم ثلاث رضعات، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة والرضعتان". فإن مفهومه أن الثلاث تحرم. وأغرب القرطبي فقال: لم يقل به إلا داود. كذا في فتح الباري. قوله: "وقالت عائشة أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات" بسكون الشين وبفتح الضاد قاله القاري. "فنسخ من ذلك خمساً" أي فنسخ الله تعالى من ذلك المذكور خمس رضعات. وقد ضبط في النسخة الأحمدية المطبوعة فنسخ بضم النون وكسر السين، ويخدشه قوله خمساً بالنصب. نعم لو كان خمس بالرفع لكان صحيحاً "وصار إلى خمس رضعات الخ" . وفي رواية مسلم قالت: فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن. قال النووي معناه: أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جداً حتى أنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآناً متلواً لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أن هذا لا يتلى. والنسخ ثلاثة أنواع: "أحدها" ـ ما نسخ حكمه وتلاوته كعشر رضعات. "والثاني" ـ ما نسخ تلاوته دون حكمه كخمس رضعات، وكالشيخ والشيخة(4/308)
حدثنا بِذلِكَ إسْحَاقُ بنُ مُوسَى الأَنْصَارِيّ حدثنا مالك حدثنا مَعْن عنْ عَبْد الله بنِ أبي بَكْرٍ، عنْ عَمْرَةَ، عنْ عَائِشَةَ بِهذَا. وبِهذَا كَانَتْ عَائِشَةُ تُفْتِي وبَعْضُ أَزْوَاجِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهُوَ قَوْلُ الشّافِعيّ وإسْحَاقَ. وقالَ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم "لاَ تُحَرّمُ الْمَصّةُ ولاَ الْمَصّتَانِ" وقالَ: إنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إلَى قَوْلِ عَائِشَةَ فِي خَمْسِ رَضَعَاتٍ فَهُوَ مَذْهَبٌ قَوِيّ. وجَبُنَ عَنْهُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ شَيْئاً.
وقالَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابٍ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ: يُحَرّمُ قَلِيلُ الرّضَاعِ وَكَثِيرهُ إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وَمَالِكِ بنِ أنَسٍ والأوْزَاعِيّ وعَبْدِ الله بنِ المُبَارَكِ وَوَكِيعٍ وأهْلِ الْكُوفَةِ
ـــــــ
إذا زنيا فارجموهما. "والثالث" ـ ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته وهذا هو الأكثر وعنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} الاَية. انتهى كلام النووي. "وبهذا كانت عائشة تفتي وبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول الشافعي وإسحاق" قال النووي اختلف العلماء في القدر الذي يثبت به حكم الرضاع، فقالت عائشة والشافعي وأصحابه: لا يثبت بأقل من خمس رضعات. وقال جمهور العلماء يثبت برضعة واحدة. حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وطاؤوس وابن المسيب والحسن ومكحول والزهري وقتادة والحكم وحماد ومالك والأوزاعي والثورى وأبي حنيفة رضي الله عنهم. قال: فأما الشافعي وموافقوه فأخذوا بحديث عائشة خمس رضعات معلومات. وأخذ مالك بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ولم يذكر عدداً وههنا اعتراضات من قبل الشافعية على المالكية، ومن قبل المالكية على الشافعية، مذكورة في شروح مسلم والبخاري. "فهو مذهب قوي" لصحة دليله وقوته "وجبن" الجبن بضم الجيم وسكون الموحدة ضد الشجاعة فهو إما مصدر ويحتمل أن يكون بصيغة الماضي بفتح الموحدة وبضمها.
"عنه" الضمير المجرور يرجع إلى قوله ذاهب "أن يقول فيه" أي في هذا المذهب القوي "شيئاً" والمعنى جبن
عن ذلك الذاهب أن يتكلم في هذا المذهب القوي بشيء من الكلام أو ذلك جبن عنه. والظاهر أن هذا مقولة أحمد. وقيل أنه مقولة الترمذي. وضمير عنه يرجع إلى أحمد. قوله: "وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: يحرم قليل الرضاع وكثيره إذا وصل إلى الجوف. وهو قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، ووكيع وأهل الكوفة" وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وهو قول الجمهور، وإليه ميلان الإمام البخاري رحمه الله فإنه قال في صحيحه: باب من قال لارضاع بعد حولين إلى أن قال: وما يحرم من قليل الرضاع وكثيرة انتهى. قال الحافظ: وهذا مصير منه إلى التمسك بالعموم الوارد في الأخبار انتهى. قلت استدل هؤلاء الأئمة بإطلاق قوله تعالى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وإطلاق حديث: إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب. وغير ذلك قال الحافظ في الفتح: وقوى مذهب الجمهور أن الأخبار اختلفت في العدد. وعائشة التي روت ذلك قد اختلف عليها فيما يعتبر من ذلك. فوجب الرجوع إلى أبل ما ينطلق عليه الإسم. ويعضده من حيث النظر أنه معنى طارئ يقتضي تأييد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر أو يقال مائع يلج الباطن فيحرم فلا يشترط فيه العدد كالمني والله أعلم. وأيضاً فقول عائشة: عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ. لا ينتهض للاحتجاج على الأصح من قولي الأصوليين، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والراوي روى هذا على أنه قرآن لا خبر، فلم يثبت كونه قرآناً، ولا دكر الراوي أنه خبر ليقبل قوله فيه انتهى كلام الحاكم.(4/309)
باب ماجاء في شهادة المرأة الواحدة في الرضاع
...
4ـ باب مَا جَاء في شهَادَةِ المَرأةِ الوَاحِدةِ في الرّضَاع
1161 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ حدثنا إسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ. عنْ أيّوبَ، عنْ عَبْدِ الله بن أبي مُلَيْكَةَ قالَ: حَدّثَنِي عُبَيْدُ بنُ أبي مَرْيَم، عنْ عُقْبَةَ بنِ الحَارِثِ قالَ "وسَمِعْتُهُ مِنْ عُقْبَةَ وَلَكنّي لَحِدِيثِ عُبَيْدٍ أَحْفَظُ)
ـــــــ
باب مَا جَاء في شهَادَةِ المَرأةِ الوَاحِدةِ في الرّضَاع
قوله: "قال وسمعته من عقبة" أي قال عبد الله بن أبي مليكة: وسمعت الحديث من عقبة بن الحارث من غير واسطة عبيد بن أبي مريم "ولكنى لحديث عبيد أحفظ" وأخرجه أبو داود من طريق حماد عن أيوب ولفظه: عن ابن(4/310)
قالَ: تَزَوّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْنَا امْرأَةٌ سَودَاءٌ فقَالَتْ: إنّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. فَأَتَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقلت: تَزَوّجْتُ فُلاَنَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْداءٌ فقَالَتْ: إني قَدْ أرْضَعْتُكُمَا وَهِيَ كَاذِبَةٌ. قالَ فَأَعْرَضَ عَنّي. قالَ فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ. فأعرض عنّي بوجهه فَقلت: إنّهَا كاذِبَةٌ. قالَ "وَكَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أنّهَا قَدْ أرْضَعَتْكُمَا. دَعْهَا عَنْكَ".
حدِيثُ عُقْبَةَ بنِ الحَارِثِ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هذَا الحَدِيثَ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ، عنْ عُقْبَةَ بنِ الحَارِثِ. ولَمْ يَذْكُرُوا
ـــــــ
أبي مليكة عن ابن الحارث قال: وحدثنيه صاحب لي عنه وأنا لحديث صاحبي أحفظ ولم يسمه. قال الحافظ في الفتح: وفيه إشارة إلى التفرقة في صيغ الأداء بين الأفراد والجمع أو بين القصد إلى التحديث وعدمه. فيقول الراوي فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ أو قصد الشيخ تحديثه بذلك حدثني بالإفراد، وفيما عدا ذلك حدثنا بالجمع أو سمعت فلاناً يقول. ووقع عند الدارقطني من هذا الوجه: حدثني عقبة بن الحارث ثم قال: لم يحدثني ولكني سمعته يحدث، وهذا يعين أحد الاحتمالين. وقد اعتمد ذلك النسائي فيما يرويه عن الحارث بن مسكين، فيقول الحارث بن مسكين قرأه عليه وأنا أسمع ولا يقول حدثني ولا أخبرني لأنه لم يقصده بالتحديث، وإنما كان يسمعه من غير أن يشعر به انتهى. قوله: "تزوجت امرأة" وفي رواية للبخاري أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب "فجاءتنا امرأة سوداء" قال الحافظ ما عرفت اسمها: "وقد أرضعتكما" وفي رواية للبخاري قد أرضعت عقبة والتي تزوج بها "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية للبخاري فقال لها عقبة: ما اعلم أنك قد أرضعتني ولا أخبرتني فأرسل إلى آل أبي إهاب فسألهم فقالوا ما علمنا أرضعت صاحبتنا، فركب إلى النبي صلى الله عليه وسلم "قال وكيف بها" أي كيف تشتغل بها وتباشرها وتفضي إليها "وقد زعمت" أي والحال أنها قالت "دعها عنك" وفي رواية للبخاري في الشهادات: فنهاه عنها. وفي رواية أخرى له في كتاب العلم: ففارقها عقبة ونكحت زوجاً غيره. قوله: "حديث عقبة بن الحارث حديث حسن صحيح" أخرجه البخاري.(4/311)
فيهِ "عنْ عُبَيْدِ بنِ أبي مَرْيَمَ" وَلَمْ يَذْكُرُواِيهِ "دَعْهَا عنْكَ" والعَمَلُ عَلَى هذَا الحديث عِنْدَ بَعْض أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ. أجَازُوا شَهادَةَ المَرأةِ الْوَاحِدَةِ في الرّضَاعِ.
وقالَ ابنُ عبّاسٍ: تَجُوزُ شَهادَةُ امرَأةٍ وَاحِدَةٍ فِي الرّضَاعِ، وَيُؤْخَذُ يَمِينُهَا. وَبِهِ يَقُولُ أحْمَدُ وإسْحَاقُ. وقد قالَ بَعضُ أهْلِ العِلْمِ: لاَ تَجُوزُ شَهادَةُ المْرَأَة الوَاحِدَة حَتّى يَكُون أكْثَرَ وهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ. وعبد الله
ـــــــ
قوله: "والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أجازوا شهادة المرأة الواحدة في الرضاع" وهو قول أحمد، قال علي بن سعد سمعت أحمد يسأل عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع. قال: تجوز على حديث عقبة بن الحارث. وهو قول الأوزاعي، ونقل عن عثمان وابن عباس والزهري والحسن وإسحاق وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب قال: فرق عثمان بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء أنها أرضعتهم قال ابن شهاب الناس يأخذون بذلك من قول عثمان اليوم، واختاره أبو عبيد إلا أنه قال: إن شهدت المرضعة وحدها وجب على الزوج مفارقة المرأة، ولا يجب عليه الحكم بذلك. وإن شهدت معها أخرى وجب الحكم به كذا في فتح الباري "وقال ابن عباس: تجوز شهادة امرأة واحدة في الرضاع وتؤخذ يمينها وبه يقول أحمد وإسحاق" يعني أنه رواية عن أحمد، ولم أقف على دليل أخذ اليمين "وقال بعض أهل العلم: لا تجوز شهادة امرأة واحدة في الرضاع حتى يكون أكثر وهو قول الشافعي" قال الحافظ في الفتح: وذهب الجمهور إلى أنه لا يكفي في ذلك شهادة المرضعة لأنها شهادة على فعل نفسها. وقد أخرج أبو عبيد من طريق عمر، والمغيرة بن شعبة، وعلي بن أبي طالب وابن عباس: أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك. فقال عمر فرق بينهما إن جاءت ببينة، وإلا فخل بين الرجل وامرأته إلا أن يتنزها. ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين الزوجين إلا فعلت. وقال الشعبي: تقبل مع ثلاث نسوة بشرط ألا تتعرض نسوة لطلب أجرة. وقيل: لا تقبل مطلقاً. وقيل تقبل في ثبوت المحرمية دون ثبوت الأجرة لها على ذلك. وقال مالك: تقبل مع أخرى وعن أبي حنيفة: لا تقبل في الرضاع(4/312)
ابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة ، ويكنى أبا محمد . وكان عبد الله بن الزبير قد استقضاه على الطائف ، وقال ابن جريح عن ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سَمِعْتُ الجَارُودَ يَقُولُ سَمِعْتُ وكيعاً يقُولُ: لاَ تَجُوزُ شهادَةُ امْرأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الحُكْمِ، ويُفَارِقُهَا في الورَعِ.
ـــــــ
شهادة النساء المتمحضات. وعكسه الأصطخرى من الشافعية. وأجاب من لم يقبل شهادة المرضعة وحدها بحمل النهي في قوله فنهاه عنها على التنزيه. وبحمل الأمر في قوله دعها عنك على الإرشاد انتهى. قال الشوكاني: ولا يخفى أن النهي حقيقة في التحريم فلا يخرج عن معناه الحقيقي إلا لقرينة صارفة. قال والاستدلال على عدم قبول المرأة المرضعة بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} لا يفيد شيئاً لأن الواجب بناء العام على الخاص. ولا شك أن الحديث أخص مطلقاً "وعبد الله بن أبي مليكة" بالتصغير ثقة فقيه من الثالثة "سمعت وكيعاً: لا تجوز شهادة امرأة واحدة في الحكم ويفارقها في الورع" أي يفارقها تورعاً واحتياطاً. قال الشوكاني: وأما ما قيل من أن أمره صلى الله عليه وسلم من باب الاحتياط، فلا يخفي مخالفته لما هو الظاهر ولا سيما بعد أن كرر السؤال أربع مرات، كما في بعض الروايات. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له في جميعها كيف وقد قيل وفي بعضها دعها عنك، وفي بعضها لا خير لك فيها؟ مع أنه لم يثبت في رواية أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالطلاق، ولو كان ذلك بالاحتياط لأمره به. قال فالحق وجوب العمل بقول المرأة المرضعة حرة كانت أو أمة انتهى كلامه بقدر الحاجة.(4/313)
باب ماجاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين
...
5 ـ باب ما جَاء ما ذكر أنّ الرّضَاعةَ لاَ تُحَرّمُ إلاّ فِي الصّغَرِ دُونَ الحْوَلَيْن
1162 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبيه عن فَاطِمَةَ بنْتِ الْمُنْذرِ "وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام وهي امرأة هشام بن عروة" عن أمّ سَلَمَةَ قالَتْ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "لاَ يُحَرّمُ مِنَ الرّضَاعةِ إلاّ مَا فَتَقَ الأمْعَاءَ في الثّدْيِ، وكانَ قَبْلَ الفِطَامِ".
ـــــــ
باب ما جَاء ما ذكر أنّ الرّضَاعةَ لاَ تُحَرّمُ إلاّ فِي الصّغَرِ دُونَ الحْوَلَيْن
قوله: "لا يحرم" بتشديد الراء المكسورة "من الرضاع" بفتح الراء(4/313)
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعَمَلُ علَى هذا عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ أنّ الرّضَاعةَ لاَ تُحَرّمُ إلاّ مَا كانَ دُونَ الحَوْلَيْنِ وَمَا كانَ بَعْدَ الحَوْلَيْنِ الكامِلَيْنِ، فَإِنّهُ لاَ يُحَرّمُ شَيْئاً. وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوّام هي امرأة هشام بن عروة.
ـــــــ
وكسرها "إلا ما فتق الأمعاء" بالنصب على أنه مفعول به أي الذي شق أمعاء الصبي كالطعام، ووقع منه موقع الغذاء. وذلك أن يكون في أوان الرضاع والأمعاء جمع معي وهو موضع الطعام من البطن "في الثدي" حال من فاعل فتق كقوله تعالى {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} أي كائناً في الثدي، فائضاً منه سواء كان بالارتضاع أو بالإيجار. ولم يرد به الاشتراط في الرضاع المحرم أن يكون من الثدي قاله القاري، وقال الشوكاني قوله في الثدي أي في زمن الثدي وهو لغة معروفة، فإن العرب تقول مات فلان في الثدي أي في زمن الرضاع قبل الفطام كما وقع التصريح بذلك في آخر الحديث "وكان" أي الرضاع "قبل الفطام" بكسر الفاء أي زمن الفطام الشرعي. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وصححه الحاكم أيضاً وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا رضاع إلا في الحولين. رواه الدارقطني وابن عدي مرفوعاً وموقوفاً ورجح الموقوف. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لارضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم". رواه أبو داود قوله: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين الخ" وهو قول صاحبي الإمام أبي حنيفة. قال محمد في موطإه لا يحرم الرضاع إلا ما كان في الحولين. فما كان فيها من الرضاع وإن كان مصة واحدة فهي تحرم. كما قال عبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وما كان بعد الحولين لم يحرم شيئاً لأن الله عز وجل قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فتمام الرضاعة الحولان، فلا رضاعة بعد تمامها يحرم شيئاً. وكان أبو حنيفة رحمه الله يحتاط ستة أشهر بعد الحولين فيقول يحرم ما كان في الحولين وبعدها تمام ستة أشهر وذلك ثلاثون شهراً. ولا يحرم ما كان بعد ذلك. ونحن لا نرى أن يحرم، ونرى أنه لا يحرم ما كان بعد الحولين انتهى كلام محمد رحمه الله. قال صاحب التعليق الممجد:ولا يخفي أنه لا احتياط بعد ورود النصوص بالحولين، مع أن الاحتياط هو العمل بأقوى الدليلين وأقواهما دليلاً قولهما انتهى.(4/314)
باب مايذهب مذمة الرضاع
...
6 ـ باب مَا يُذْهِبُ مَذَمّةَ الرّضَاع
1163 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا حاتِمُ بنُ إسْمَاعِيلَ، عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن حّجّاج بن حَجّاج الأسْلَميّ، عنْ أبيهِ، أنّهُ سَأَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ "يا رسولَ الله مَا يُذْهِبُ عَنّي مَذَمّةَ الرّضَاعِ؟ "فقال غُرّةٌ: عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ . هكذا رَوَاهُ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ القَطّانُ ، وَحَاتِمُ بنُ إسْمَاعِيلَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ عنْ هِشَامِ بن عُرْوَةَ، عن أبيِهِ ، عنْ حَجّاج بنِ حَجّاجٍ ، عنْ أبيهِ ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
باب مَا يُذْهِبُ مَذَمّةَ الرّضَاع
قوله: "ما يذهب عني" من الإذهاب أي أي شيء يزيل عني "مذمة الرضاع" قال ابن الأثير في النهاية المذمة بالفتح مفعلة من الذم، وبالكسر من الذمة. والذمام. وقيل هي بالكسر والفتح الحق والحرمة التي يذم مضيعها. والمراد بمذمة الرضاع الحق اللازم بسبب الرضاع فكأنه سأل ما يسقط عني حق المرضعة حتى أكون قد أديته كاملاً. وكانوا يستحبون أن يعطوا للمرضعة عند فصال الصبي شيئاً سوى أجرتها انتهى. "فقال غرة" أي مملوك "عبد أو أمة" بالرفع والتنوين بدل من غرة. وقيل الغرة لا تطلق إلا على الأبيض من الرقيق، وقيل هي أنفس شيء يملك. قال الطيبي: الغرة المملوك وأصلها البياض في جهة الفرس ثم استعير لأكرم كل شيء كقولهم غرة القوم سيدهم، ولما كان الإنسان المملوك خير ما يملك سمي غرة. ولما جعلت الظئر نفسها خادمة جوزيت بجنس فعلها "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. قوله: "عن حجاج بن حجاج الأسلمي" مقبول من الثالثة ولأبيه صحبة. قال الحافظ: وقال الخزرجي في ترجمته: حجازي عن أبيه حجاج بن مالك، وعنه عروة له عندهم فرد حديث "عن أبيه" حجاج بن مالك بن عويمر بن أبي أسيد الأسلمي صحابي(4/315)
وَرَوَى سُفْيانُ بنُ عُيَينةَ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أبيهِ، عنْ حَجّاجِ بنِ أبي حَجّاجٍ، عنْ أبِيهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وَحديثُ ابنِ عُيَيْنَةَ غَيْرُ مَحْفُوظِ.
والصحيحُ مَا رَوَى هؤلاَءِ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عنْ أبيِهِ. وَهِشَامُ بنُ عُرْوَةَ يُكْنَى أَبا المُنذِرِ. وقَدْ أدْرَكَ جَابِرَ بنِ عبدِ الله . وَمَعْنَى قَوْلِهِ مَا يُذْهِبُ عَنِّي مَذَمَّةَ الرَّضَاعِ يَقُولُ إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ ذِمَامَ الرَّضَاعَةِ وَحَقَّهَا يَقُولُ إِذَا أَعْطَيْتَ الْمُرْضِعَةَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَقَدْ قَضَيْتَ ذِمَامَهَا وَيُرْوَى عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ فَبَسَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءَهُ حَتَّى قَعَدَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا ذَهَبَتْ قِيلَ هِيَ كَانَتْ أَرْضَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ـــــــ
له حديث في الرضاع كذا في التقريب "وروى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن حجاج ابن أبي حجاج عن أبيه" فقال عن حجاج بن أبي حجاج وهو غير محفوظ والصحيح عن حجاج بن حجاج كما روى يحيى القطان وحاتم بن إسماعيل وغيرهما "وقال معنى قوله ما يذهب عن مذمة الرضاع الخ" أي قال أبو عيسى معنى قوله الخ وأرجع الشيخ سراج أحمد ضميره. قال إلى هشام بن عروة "يقول إنما يعني ذمام الرضاعة وحقها" قال في القاموس الذمام والمذمة الحق والحرمة. قوله: "ويروي عن أبي الطفيل قال كنت جالساً الخ" أخرجه أبو داود. وأبو الطفيل بالتصغير وهو عامر بن واثلة الليثي. وهو آخر من مات من الصحابة في جميع الأرض "فبسط النبي صلى الله عليه وسلم رداءه" أي تعظيماً لها وانبساطاً بها. قال الطيبي: فيه إشارة إلى وجوب رعاية الحقوق القديمة ولزوم إكرم من له صحبة قديمة وحقوق سابقة "فلما ذهبت" أي وتعجب الناس من إكرامه إياها وقبولها القعود على رداءه المبارك: "قيل هذه أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم" قال في المواهب: إن حليمة جاءته ـ عليه الصلاة والسلام ـ يوم حنين فقام إليها وبسط رداءه لها وجلست انتهى(4/316)
باب ماجاء في الأمة تعتق ولها زوج
...
7 ـ باب ما جَاء في الأمَةِ تُعْتَق وَلها زَوْج
1164 ـ حدثنا عَلِيّ بنُ حُجْر. أخبرنا جَرِيرُ بنُ عَبد الحميدِ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أبيهِ، عن عَائِشَةَ، قالَتْ: كانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عبْداً. فَخَيْرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَلَوْ كانَ حُراً لمْ يُخَيّرْها.
1165 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا أبُو مُعاوِيَةَ، عنِ الأعْمَشِ، عنْ إبْراهِيمَ، عنِ الأسْوَدِ، عنْ عَائِشَةَ، قالَتْ: كانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ حُراً. فخَيّرَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. حديثُ عائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. هكَذَا رَوَى هِشَامٌ، عن أبيهِ، عنْ عَائِشَةَ، قالَتْ: كانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْداً. ورَوَى عكْرِمَةُ عن ابنِ عبّاسٍ قالَ: رَأَيْتُ زَوْجَ بَرِيرةَ، وكانَ عبداً يقالُ لَهُ مُغِيثٌ.
وهكذا رُوِيَ عنِ ابنِ عُمَرَ. والعَملُ علَى هذا عِنْدَ بَعْض أهْلِ العِلْمِ.
ـــــــ
باب ما جَاء في الأمَةِ تُعْتَق وَلها زَوْج
قوله: "كان زوج بريرة عبداً" فيه دليل على أن زوج بريرة كان عبداً حين أعتقت. وفي المنتقى عن عروة عن عائشة: أن بريرة أعتقت وكان زوجها عبداً: الحديث رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه انتهى. وروى مسلم في صحيحه عن القاسم عن عائشة: أن بريرة خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكان زوجها عبداً "ولو كان حرا لم يخيرها" هذه الزيادة مدرجة من قول عروة كما صرح بذلك النسائي في سننه، وبينه أيضا أبو داود في رواية مالك.
قوله: "عن الأسود عن عائشة قالت كان زوج بريرة حراً" استدل به من قال: إن زوج بريرة كان حراً قال البخاري في صحيحه: قول الأسود منقطع ثم عائشة عمة القاسم وخالة عروة، فروايتهما عنها أولى من رواية أجنبي يسمع من وراء حجاب كذا في المنتقى. قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" أراد بحديث عائشة حديثها الذي رواه أولاً من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها، وأخرجه مسلم وغيره(4/317)
وقَالوا: إذَا كانَتِ الأمَةُ تحتَ الحُرّ فَأُعْتِقتْ، فَلاَ خِيَارَ لَها. وإنما يَكُونُ لهَا الخِيارُ إذَا أُعْتِقَتْ وكانَت تحتَ عبْدٍ. وهُوَ قولُ الشّافِعِيّ وأحْمدَ وإسْحَاقَ.
ورَوَى عن الأعْمَش عنْ إبْرَاهيمَ، عنِ الأسْوَدِ، عنْ عَائِشَةَ قَالتْ: كانَ زَوْجُ بَريرةَ حُراً فخَيّرَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
ورَوَى أبُو عَوانَةَ هذَا الحديثَ عنِ الأعْمَشِ، عنْ إبْراهِيمَ، عنِ الأسْوَدِ، عنْ عَائِشَةَ. في قِصّةِ بريرَةَ. قالَ الأسْودُ: وكانَ زَوْجُهَا حُراً.
ـــــــ
كما عرفت. وأما حديثها الذي رواه ثانياً عن طريق الأسود عن عائشة فأخرجه الخمسة كما في المنتقى. "وروى عن عكرمة عن ابن عباس قال: رأيت زوج بريرة وكان عبداً يقال له مغيث" . أخرجه البخاري "وهكذا روي عن ابن عمر" أخرجه الدارقطني والبيهقي قال: كان زوج بريرة عبداً وفي إسناده ابن أبي ليلى وهو ضعيف. قلت: وهكذا روي عن صفية بنت أبي عبيد أن زوج بريرة كان عبداً. أخرجه النسائي والبيهقي بإسناد صحيح. قال الشوكاني في النيل بعد ذكر عدة أحاديث الباب: والحاصل أنه قد ثبت من طريق ابن عباس، وابن عمر وصفية بنت أبي عبيد أنه كان عبداً، ولم يرو عنهم ما يخالف ذلك. وثبت عن عائشة من طريق القاسم وعروة أنه كان عبداً. ومن طريق الأسود أنه كان حراً ورواية اثنين أرجح من رواية واحد على فرض صحة الجميع. فكيف إذا كانت رواية الواحد معلولة بالانقطاع كما قال البخاري "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وقالوا إذا كانت الأمة تحت الحر فأعتقت فلا خيار لها الخ" وهو مذهب مالك والشافعي أحمد وإسحاق والجمهور وهو الأقوى دليلاً "وروى أبو عوانة هذا الحديث عن الأعمش عن ابراهيم عن الأسود عن عائشة في قصة بريرة قال الأسود: وكان زوجها حراً" قال الحافظ في الفتح بعد ذكر روايات عديدة من طريق ابراهيم عن الأسود عن عائشة وغيرها ما لفظه: فدلت الروايات المفصلة التي قدمتها آنفاً على أنه مدرج من قول الأسود أو من دونه يعني قوله "وكان زوجها حراً فيكون من أمثلة ما أدرج في أول الخبر وهو نادر، فإن الأكثر أن يكون في آخره ودونه أن يقع في وسطه، وعلى تقدير أن يكون موصولاً فيرجح رواية من قال: كان عبداً بالكثرة، وأيضاً فآل المرء أعرف(4/318)
والعَمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ بعْضِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ التّابِعِينَ ومَنْ بَعْدَهُمْ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيانَ الثّوْريّ وأهلِ الكُوفةِ.
1166 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا عَبْدَةُ عن سعِيدٍ بن أبي عروبة، عنْ أَيّوبَ. و قَتَادَةُ عنْ عكْرِمَةَ، عنِ ابنِ عَبّاسٍ أنّ زوْجَ بَرِيرةَ كانَ عبداً أَسْوَدَ لِبَني المُغِيرَةِ، يَوْمَ أُعْتِقَتْ بريرَةُ. والله لَكَأَنّي بِهِ في طُرُقِ المَدِينَةِ ونَوَاحِيهَا، وإنّ دُمُوعَهُ لَتَسِيلُ عَلَى لِحْيتهِ، يَتَرَضّاها لِتَخْتَارَهُ، فَلَمْ تَفْعَلْ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وسَعِيدُ بن أبِي عَرُوبةَ هُو سعيدُ بنُ مَهْرَانَ، ويُكْنَى أبَا النّضْرِ.
ـــــــ
بحديثه فإن القاسم ابن أخي عائشة وعروة ابن أختها وتابعهما غيرهما فروايتهما أولى من رواية الأسود فإنهما أقعد بعائشة وأعلم بحديثها والله أعلم. ويترجح أيضاً بأن عائشة كانت تذهب إلى أن الأمة إذ أعتقت تحت الحر لا خيار لها. وهذا بخلاف ما روى العراقيون عنها. فكان يلزم على أصل مذهبهم أن يأخذوا بقولها ويدعو ما روى عنها، لا سيما وقد اختلف عنها فيه انتهى. "وهو قول سفيان الثورى وأهل الكوفة" وهو قول أبي حنيفة وأصحابه واستدلوا بحديث عائشة من طريق إبراهيم عن الأسود عنها قالت: كان زوج بريرة حراً. وقد عرفت ما فيه.
قوله: "كان عبداً أسود" قال القاري: أي كعبد أسود في قبح للصورة أو كان عبداً فأعتق فصار حراً انتهى. قلت هذان التأويلان باطلان مردودان يردهما لفظ: يوم اعتقت بريرة في هذا الحديث، فإنه نص صريح في أن زوج بريرة كان عبداً يوم إعتاقها "ويوم أعتقت" بصيغة المجهول "والله لكأني به في طرق المدينة الخ" وفي رواية للبخاري: كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته. "يترضاها" قال في القاموس: استرضاه وترضاه طلب رضاه انتهى. قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" ، وأخرجه البخاري.
تنبيه: قال صاحب العرف الشذي: قول ابن عباس أنه عبد أسود. لا يدل على كونه عبداً في الحال بل باعتبار ما كان انتهى. قلت هذه غفلة شديدة ووهم(4/319)
ـــــــ
قبيح، فإن ابن عباس رضي الله عنه قد نص في قوله هذا أن زوج بريرة كان عبداً يوم إعتاقها كما في حديث الباب. وقد تقدم بطلان هذا التأويل.
تنبيه: قال صاحب العرف الشذي ما لفظه: لي بحث في أن ابن عباس جاء إلى المدينة مع أبيه في السنة التاسعة، وأنها عتقت قبلها وكانت تخدم عائشة. فإنه عليه السلام سألها عن شأن عائشة في قصة الإفك. قلت: قد وقع في هذه الشبهة من قلة اطلاعه فإنه قد ورد في حديث ابن عباس هذا عند البخاري: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: يا عباس ألا تعجب من حب مغيث الخ قال الحافظ في الفتح: فيه دلالة على أن قصة بريرة كانت متأخرة في السنة التاسعة أو العاشرة. لأن العباس إنما سكن المدينة بعد رجوعهم من غزوة الطائف، وكان ذلك في أواخر سنة ثمان. ويؤيده قول ابن عباس إنه شاهد ذلك وهو إنما قدم المدينة مع أبويه. ويؤيد تأخر قصتها أيضاً بخلاف قول من زعم أنها كانت قبل الإفك أن عائشة في ذلك الزمان كانت صغيرة، فيبعد وقوع تلك الأمور والمراجعة والمسارعة إلى الشراء والعتق منها يومئذ. وأيضاً فقول عائشة: إن شاء مواليك أن أعدها لهم عدة واحدة. فيه إشارة إلى وقوع ذلك في آخر الأمر لأنهم كانوا في أول الأمر في غاية الضيق ثم حصل لهم التوسع بعد الفتح. وفي كل ذلك رد على من زعم أن قصتها كانت متقدمة قبل قصة الإفك، وحمله على ذلك وقوع ذكرها في حديث الإفك. وقد قدمت الجواب عن ذلك هناك ثم رأيت الشيخ تقي الدين السبكي استشكل القصة ثم جوز أنها كانت تخدم عائشة قبل شرائها أو اشترتها وأخرت عتقها إلى بعد الفتح انتهى كلام الحافظ بقدر الحاجة.
تنبيه آخر: إعلم أن روايات كون زوج بريرة عبداً لها ترجيحات عديدة على روايات كونه حراً. ذكرت بعضاً منها فيما تقدم، والباقية مذكورة في فتح الباري والنيل والإمام ابن الهمام قد عكس القضية بوجوه عديدة كلها مخدوشة ولولا مخافة طول الكلام لبينت ما فيها من الخدشات(4/320)
باب ماجاء أن الولد للفراش
...
8 ـ باب ما جَاءَ أنّ الوَلَدَ لِلْفِرَاش
1167 ـ حدثنا أحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ. أخبرنا سُفْيَانُ عنِ الزُهْرِيّ، عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ،
قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "الوَلَدُ لِلْفِراشِ ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ". وفي البابِ عنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وأبِي أُمَامَةَ وعَمْرو بنِ خَارِجَةَ وعبْدِ الله بنِ عَمْرو والبَرَاءِ بنِ عَازِب وزَيْدِ بنِ أرْقَمَ. حديثُ أبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقدْ رَوَاهُ الزّهْرِيّ عنْ سعِيدِ بنِ المُسيّبِ، وأَبِي سَلَمَةَ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ. والعمل على هذا عند أهل العلم .
ـــــــ
باب ما جَاءَ أنّ الوَلَدَ لِلْفِرَاش
قوله: "الولد للفراش" أي لمالكه وهو الزوج والمولى لأنهما يفترشانها قاله في المجمع. وفي رواية للبخاري: الولد لصاحب الفراش. وقال في النيل: اختلف في معنى الفراش فذهب الأكثر إلى أنه اسم للمرأة. وقيل إنه اسم للزوج وروي ذلك عن أبي حنيفة. وأنشد ابن الأعرابي مستدلاً على هذا المعنى قول جرير: باتت تعانقه وبات فراشها. وفي القاموس: إن الفراش زوجة الرجل انتهى. "وللعاهر الحجر" العاهر الزاني يقال عهر أي زنا. وقيل يختص ذلك بالليل وقال في القاموس عهر المرأة كمنع. وعاهرها أي أتاها ليلاً للفجور أو نهاراً انتهى. ومعنى له الحجر الخيبة أي لا شيء له في الولد. والعرب تقول: له الحجر وبفيه التراب يريدون ليس له الخيبة. وقيل المراد الحجر أنه يرجم بالحجارة إذا زنى ولكنه لا يرجم بالحجارة كل زان بل للمحصن فقط. وظاهر الحديث أن الولد إنما يلحق بالأب بعد ثبوت الفراش. وهو لا يثبت إلا بعد إمكان الوطء في النكاح الصحيح أو الفاسد وإلى ذلك ذهب الجمهور. وروي عن أبي حنيفة أنه يثبت بمجرد العقد. قلت: والحق ما ذهب إليه الجمهور. قوله: "وفي الباب عن عمر وعثمان الخ" حديث: الولد للفراش. وروي من طريق بضعة وعشرين نفساً من الصحابة كما أشار إليه الحافظ. قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا أبا داود(4/321)
باب ماجاء في الرجل يرى المرأة تعجبه
...
9 ـ بابُ ما جَاء في الرّجُلِ يَرى المَرْأَةَ تُعْجِبُه
1168 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارِ حدثنا عَبدُ الأعْلَى حدثنا هِشامُ بنُ أبِي عبدِ الله عنْ أبِي الزُبَيْرِ، عنْ جَابِر بن عبد الله "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً، فَدَخلَ عَلَى زَيْنَبَ فَقضَى حَاجَتَهُ وخَرجَ. وقالَ: إنّ المرْأَةَ إذَا أقْبَلْت، أقْبَلتْ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ. فَإذَا رَأَى أَحَدُكُمْ امْرأَةَ فأَعْجَبَتْهُ فلْيَأْتِ أهْلَهُ، فإنّ مَعَهَا مِثْلَ الذِي معَهَا" وفي البابِ عنِ ابن مَسْعودٍ. حديثُ جَابرٍ حديثٌ صحيحٌ حسنٌ غريبٌ. وَهِشَامُ الدّسْتَوَائِيّ هُوَ هِشَامُ بنُ سَنْبَرٍ.
ـــــــ
بابُ ما جَاء في الرّجُلِ يَرى المَرْأَةَ تُعْجِبُه
قوله: "فقضى حاجته" أي من الجماع "أقبلت في صورة شيطان" شبهها بالشيطان في صفة الوسوسة والدعاء إلى الشر "فليأت أهله" أي فليواقعها "فإن معها" أي مع امرأته "مثل الذي معها" أي فرجاً مثل فرجها ويسد مسدها. والحديث رواه مسلم. ولفظه هكذا: إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه. قال النووي رحمه الله معنى الحديث: أنه يستحب لمن رأى امرأة فتحركت شهوته أن يأتي امرأته أو جاريته إن كانت فليواقعها ليدفع شهوته، وتسكن نفسه. قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود " قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته فأتى سودة وهي تصنع طيباً وعندها نساء فاخلينه فقضى حاجته ثم قال أيما رجل رأى امرأة تعجبه فليقم إلى أهله فإن معها مثل الذي معها. رواه الدارمي كذا في المشكاة. قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود وأحمد. قوله: "وهشام بن أبي عبد الله هو صاحب الدستوائي" يعني يقال لهشام بن أبي عبد الله صاحب الدستوائي لأنه كان تاجراً يبيع البر الدستوائي، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ هشام الدستوائي هو الحافظ الحجة أبو بكر بن أبي عبد الله سنبر الربعى مولاهم البصرى التاجر كان يبيع الثياب المجلوبة من دستواء إحدى كور الأهواز، ولذلك يقال له صاحب الدستوائي انتهى. وقال العلامة محمد طاهر الفتنى في المغنى: الدستوائي بمفتوحة وسكون سين مهملتين وفتح مثناه فوق وبهمزة بعد ألف وقيل بنون مكان همزة نسبة إلى دستواء، كورة من الأهواز أو قرية وقيل منسوب إلى بيع ثياب تجلب منها ويقال: هشام صاحب الدستوائي أي صاحب البر الدستوائي انتهى. "هو هشام بن سنبر" بمهملة ثم نون ثم موحدة على وزن جعفر فاسم والد هشام سنبر وكنيته أبو عبد الله.(4/322)
باب ماجاء في حق الزوج على المراة
...
10ـ باب ما جَاءَ في حَقّ الزّوْجِ عَلَى الْمَرأة
1169 ـ حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ. حدثنا النّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ. أخبرنا مُحَمّدُ بنُ عَمْروٍ، عنْ أبي سَلَمة، عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالَ "لَوْ كُنْتُ آمراً أحَداً أنْ يَسْجُدَ لأِحَدٍ، لأمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا".
وفي البابِ عنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ وسُرَاقَةَ بنِ مَالِكِ بنِ جُعْشُمٍ وَعَائِشَةَ وابنِ عَبّاسٍ وعَبْدِ الله بنِ أبي أَوْفَى وطَلْقِ بنِ عَلِيَ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في حَقّ الزّوْجِ عَلَى الْمَرأة
قوله: "لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" أي لكثرة حقوقه عليها وعجزها عن القيام بشكرها. وفي هذا غاية المبالغة لوجوب إطاعة المرأة في حق زوجها فإن السجدة لا تحل لغير الله. قوله: "وفي الباب عن معاذ بن جبل" أخرجه الترمذي وابن ماجه مرفوعاً لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو دخيل يوشك أن يفارق إلينا. كذا في المشكاة "وسراقة بن مالك بن جعشم" بضم الجيم والشين المعجمة بينهما عين مهملة صحابي مشهور من مسلمة الفتح "وعائشة وابن عباس" قال الشوكاني في النيل: وقضية السجود ثابتة من حديث ابن عباس عند البزار، ومن حديث سراقة عند الطبراني، ومن حديث عائشة عند أحمد وابن ماجه، ومن حديث عصمة عند الطبراني وعن غير هؤلاء انتهى. قلت أخرج أحمد وابن ماجه عن عائشة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. ولو أن رجلاً أمر امرأته أن تنقل من جبل(4/323)
وأُمّ سَلَمَةَ وَأَنَس وابنِ عُمَرَ. حدِيثُ أَبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذَا الْوَجْهِ، مِنْ حدِيثِ مُحمّدِ بن عَمْروٍ، عنْ أبي سَلَمَةَ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ.
1170 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا مُلاَزِمُ بنُ عَمْروٍ، قال: حَدّثَنِي عَبْدُ الله بنُ بَدْرِ عنْ قَيْسِ بنِ طَلْقٍ، عنْ أبِيهِ طَلْقِ بنِ عَلي، قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا دعا الرّجُلُ زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِه، وإنْ كانَتْ عَلَى التّنّورِ". هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
أحمر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أحمر لكان نولها أن تفعل". قال الشوكاني ساقه ابن ماجه بإسناد فيه علي بن زيد بن جدعان وفيه مقال، وبقية إسناده من رجال الصحيح انتهى. "وعبد الله بن أبي أوفى" قال لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "ما هذا يا معاذ؟" قال أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن أفعل ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تفعلوا فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه". أخرجه أحمد وابن ماجه. قال الشوكاني: وحديث عبد الله بن أبي أوفى ساقه ابن ماجه بإسناد صالح. "وطلق بن علي" أخرجه الترمذي في هذا الباب "وأم سلمة" أخرجه الترمذي في هذا الباب و "وأنس" أخرجه أحمد بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها. والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد ثم استقبلته تلحسه ما أدت حقه". كذا في المنتقى وابن عمر لم أقف على حديثه. قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن غريب الخ" قال الشوكاني في النيل بعد ذكر أحاديث في معنى حديث أبي هريرة هذا ما لفظه: فهذه أحاديث في أنه لو صلح السجود لبشر لأمرت به الزوجة لزوجها يشهد بعضها لبعض ويقوي بعضها بعضاً انتهى.
قوله: "إذا الرجل دعا زوجته لحاجته" أي المختصة به كناية عن الجماع "فلتأته" أي لتجب دعوته "وإن كانت على التنور" أي وإن كانت تخبز على التنور مع(4/324)
1171 ـ حدثنا وَاصِلُ بنُ عَبْدِ الأعْلَى الكُوفِيّ. حدثنا مُحَمّدُ بنُ فُضَيْلٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أبي نَصْرٍ، عنْ مُسَاوِرٍ الْحِميرِيّ، عنْ أُمّهِ، عنْ أُمّ سَلَمةَ قالَتْ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "أَيّمَا امْرَأَةٍ ماتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ، دَخَلَتِ الْجَنّةَ". هذا حديثٌ حسنٌ غرِيبٌ.
ـــــــ
أنه شغل شاغل لا يتفرغ منه إلى غيره إلا بعد انقضائه. قال ابن الملك هذا بشرط أن يكون الخبز للزوج لأنه دعاها في هذه الحالة فقد رضي بإتلاف مال نفسه، وتلف المال أسهل من وقوع الزوج في الزنا. كذا في المرقاة. قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه النسائي. وروى البزار. عن زيد بن أرقم بلفظ: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلتجب وإن كانت على ظهر قتب.
قوله: "أيما امرأة باتت" من البيتوتة. وفي بعض النسخ ماتت من الموت والظاهر أنه ماتت وكذلك هو في رواية ابن ماجه. "وزوجها عنها راض" جملة حالية "دخلت الجنة" لمراعاتها حق الله وحق عباده. قوله: "هذا حديث حسن غريب" وقد صححه الحاكم وأقره الذهبي كذا في النيل.(4/325)
باب ماجاء في حق المرأة على زوجها
...
11 ـ باب مَا جَاء في حَقّ المَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا
1172 ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ حدثنا عَبْدَةُ بنُ سُلَيمَانَ عنْ مُحَمّدِ بنِ عَمْروٍ. حدثنا أبُو سَلَمةَ، عنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنينَ إيمَاناً أَحْسَنُهمْ خُلُقاً. وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لنِسَائِهِمْ خُلُقاً" وفي البابِ عنْ عَائِشَةَ وابنِ عَبّاسٍ.
حدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب مَا جَاء في حَقّ المَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا
قوله: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً" بضم اللام ويسكن لأن كمال الإيمان يوجب حسن الخلق والإحسان إلى كافة الإنسان "وخياركم خياركم لنسائه" لأنهن محل الرحمة لضعفهن. قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه الترمذي "وابن عباس" أخرجه ابن ماجه مرفوعاً: خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي. قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود إلى قوله خلقاً.(4/325)
1173 ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَلِي الخَلاّلُ. حدثنا الحُسَيْنُ بنُ عَلِي الْجُعفِيّ عنْ زَائِدَةَ، عنْ شَبِيبِ بنِ غَرْقَدَةَ، عنْ سُلَيْمَانَ بنِ عَمْروِ بنِ الأحْوَصِ قالَ: حَدّثَنِي أَبي أَنّهُ شَهِد حَجّةَ الوَدَاعِ مَعَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. فَحَمِدَ الله وأثْنَى عَلَيهِ. وَذَكّرَ وَوَعَظ. فَذَكَر في الْحَدِيثَ قِصّةً فقَالَ "ألاَ واسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيراً، فإنّمَا هُنّ عَوانٌ عِنْدَكمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنّ شَيْئاً غَيْرَ ذلِكَ، إلاّ أَنّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهجُرُوهُنّ في المضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ. فَإنْ أطَعْنكُمُ فَلاَ تَبْغُوا علَيْهِنّ سَبِيلاً. أَلاَ إنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُم حَقّاً. ولِنسَائِكمْ عَلَيْكُمْ حَقاً. فَأَمّا حَقكّمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئنَ فُرُشكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ولاَ يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. ألاَ وحَقهُنّ عَلَيْكُمْ أنْ تُحسِنُوا إِلَيْهِنّ فِي كِسْوَتِهِنّ وطَعَامِهِن". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ومَعْنَى قَوْله "عَوَانٌ عِنْدَكُمْ" يْعني أسْرَى فِي أيْدِيكُم.
ـــــــ
قوله: "ألا" للتنبيه "واستوصوا بالنساء خيراً" قال القاضي: الاستيصاء قبول الوصية والمعنى أوصيكم بهن خيراً فاقبلوا وصيتي فيهن. "فإنما هن عوان" جمع عانية قال في القاموس العاني الأسير "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" كالنشوز وسوء العشرة وعدم التعفف. "فإن فعلن فا هجر وهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح" بتشديد الراء المكسورة وبالحاء المهملة أي مجرح أو شديد شاق "فلا يوطئن" بهمزة أو بإبدالها من باب الإفعال قاله القاري "فرشكم من تكرهون" قال الطيبي أي لا يأذن لأحد أن يدخل منازل الأزواج. والنهي يتناول الرجال والنساء انتهى. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" روى مسلم معناه عن جابر في قصته حجة الوداع قوله: "يعني أسرى" بفتح الهمزة وسكون السين جمع أسير(4/326)
باب ماجاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن
...
12 ـ باب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ إتْيَانِ النّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِن
1174 ـ حدثنا أحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ و هَنّادٌ قالاَ: حدثنا أبُو مُعَاوِيَةَ، عنْ عَاصِمٍ الأحْوَلِ، عنْ عِيسَى بنِ حِطّانَ، عنْ مُسْلمِ بنِ سَلاّمٍ، عنْ عَليّ بنِ طَلْقٍ قالَ: "أتَى أعْرَابِي النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقَالَ: يَا رسول الله الرّجُلُ مِنّا يَكُونُ فِي الْفَلاَةِ، فَتكُونُ مِنْهُ الرّوَيْحَةُ، ويَكُونُ في الْمَاءِ قِلّةٌ؟ فقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضّأْ. ولاَ تَأتُوا النّسَاءَ في أَعْجَازِهِنّ، فَإِنّ الله لاَ يَسْتَحِيى مِنَ الحَقّ".
قال وفي البابِ عنْ عُمَرَ وخُزَيْمَةَ بنِ ثَابِت، وابنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ إتْيَانِ النّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِن
قوله: "عن عيسى بن حطان" بكسر المهملة وتشديد المهملة الرقاشي مقبول من الثالثة كذا في التقريب وقال في الخلاصة: وثقه ابن حبان "عن مسلم بن سلام" بفتح السين وبتشديد اللام قال في التقريب مقبول. وقال في الخلاصة وثقه ابن حبان "عن علي بن طلق" قال في الخلاصة علي بن طلق بن المنذر الحنفي السحيمي اليمامي صحابي له ثلاثة أحاديث وعنه مسلم بن سلام "في الفلاة" قال في القاموس الفلاة القفر أو المفازة لا ماء فيها أو الصحراء الواسعة ج فلا وفلوات وفلو وفلى وفلى "فتكون منه الرويحة" تصغير الرائحة غرض السائل أنه ينبغي أن لا ينقض الوضوء بهذا القدر "إذا فسا أحدكم" أي خرج الريح التي لا صوت له من أسفل الانسان قاله القاري. قال في القاموس: فسا فسوا وفساء مشهور أخرج ريحاً من مفساه بلا صوت "فليتوضأ" وفي رواية أبي داود: إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف فليتوضأ وليعد الصلاة "ولا تأتوا النساء في أعجازهن" جمع عجز بفتح العين وضم الجيم على المشهور مؤخر الشيء، والمراد الدبر ووجه المناسبة بين الجملتين أنه لما ذكر الفساء الذي يخرج من الدبر ويزيل الطهارة والتقرب إلى الله ذكر ما هو أغلظ منه في رفع الطهارة زجراً وتشديداً كذا في اللمعات. قوله: "وفي الباب عن عمر" لم أقف على حديثه "وخزيمة بن ثابت" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن" أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه "وابن عباس" أخرجه الترمذي(4/327)
حدِيثُ عَلِيّ بنِ طَلْقٍ حدِيثٌ حسنٌ. وسَمِعْتُ مُحَمّداً يَقُولُ: لاَ أعْرِفُ لِعَلِيّ بنِ طَلْقٍ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ. ولاَ أعْرِفُ هذَا الحَدِيثَ مِنْ حدِيثِ طَلْقِ بنِ عَلِيّ السّحَيْمِيّ. وكأَنّهُ رَأَى أَنّ هذَا رَجُلٌ آخَر مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وروى وكيع هذا الحديث .
1175 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قالُوا: حدثنا وكِيعٌ عنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بنِ مُسْلمٍ "وهُوَ ابنُ سَلاّمٍ" ، عنْ أبِيهِ، عنْ عَلِي، قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا فَسَا أحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضّأْ. وَلاَ تَأتُوا النّسَاءَ في أعْجَازِهِنّ" . وعليّ هذا هو عليّ بن طلعة. وعَلِيّ هذَا هُوَ عَلِيّ بنُ طَلْق.
ـــــــ
في هذا الباب "وأبي هريرة" أخرجه أحمد وأبو داود مرفوعاً بلفظ: ملعون من أتى امرأة في دبرها. قوله: "حديث علي بن طلق حديث حسن" وأخرجه أبو داود وسكت عنه ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره وصححه ابن حبان قوله: "ولا أعرف هذا الحديث من حديث طلق بن علي السحيمى" كذا وقع في النسخ الحاضرة: طلق بن علي السحيمى وقد ذكر الحافظ بن حجر عبارة الترمذي هذه في تهذيب التهذيب: وفيه علي بن طلق السحيمي وهو الظاهر عندي والله تعالى أعلم. قال الحافظ: في هذا الكتاب علي بن طلق بن المنذر بن قيس بن عمرو بن عبد العزى بن سحيم نسبه خليفة بن خياط الحنفي اليمامي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء من الريح وغير ذلك. وعنه مسلم بن سلام قال الترمذي سمعت محمداً يقول: لا أعرف لعلي بن طلق غير هذا الحديث، ولا أعرف هذا من حديث علي بن طلق السحيمي. قال الترمذي: فكأنه رأى أن هذا رجل آخر. وقال ابن عبد البر السحيمي: أظنه والد طلق بن علي. قلت: هو ظن قوي لأن النسب الذي ذكره خليفة هنا هو النسب المتقدم في ترجمة طلق بن علي من غير مخالفة وجزم به العسكري. انتهت عبارة تهذيب التهذيب بلفظها. "وكأنه" أي كان الإمام البخاري وهذا مقولة الترمذي. قوله: "وروى وكيع هذا الحديث" أي حديث علي بن طلق المذكور وذكره الترمذي بقوله: حدثنا قتيبة وغير واحد الخ. ثقة شيعي قاله الحافظ "عن علي" هو بن طلق(4/328)
1176 ـ حدثنا أبُو سعِيدٍ الأشَجّ حدثنا أبُو خَالِدٍ الأحْمَرُ، عنِ الضحّاكِ بنِ عُثمانَ، عنْ مَخْرَمَةَ بنِ سُلَيْمَانَ، عنْ كُرَيْبٍ، عنِ ابنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَنْظُرُ الله إلَى رَجُلٍ أتَى رَجُلاً أوِ امْرَأَةً في الدّبُرِ". هذا حديثٌ حسنٌ غرِيبٌ.
ـــــــ
المذكور كما صرح به الترمذي قوله: "عن الضحاك بن عثمان" بن عبد الله بن خالد بن حزام الحزامي صدوق يهم من السابعة "عن مخرمة بن سليمان" الأسدي الوالبي المدني روي عن ابن عباس وكريب مولى ابن عباس وغيرهما، ثقة من الخامسة قوله: "لا ينظر الله" ي نظر رحمة "أتى رجلاً" أي لاط به.(4/329)
باب ماجاء في كراهية خروح النساء في الزينة
...
13 ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ خُرُوجِ النّسَاءِ في الزّينَة
1177 ـ حدثنا عَليّ بنُ خَشْرَمٍ. أخبرنا عِيسَى بنُ يُونُسَ، عنْ مُوسَى بنِ عُبَيْدَةَ، عنْ أَيّوبَ بنِ
خَالدٍ، عنْ مَيْمُونَةَ بنت سَعْدٍ "وكانَتْ خَادِماً للنبيّ صلى الله عليه وسلم" قَالتْ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مثَلُ الرّافِلَةِ فِي الزّينَةِ في غَيْرِ أهْلهَا، كمَثَلِ ظُلْمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ نُورَ لهَا". هذا حديثٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حدِيثِ مُوسَى بنِ عُبَيْدَةَ. ومُوسَى بنُ عُبَيْدةَ يُضَعّفُ في الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وهُوَ صَدُوقٌ. وقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عنْ مُوسَى بنِ عُبَيْدَةَ. ولَمْ يَرْفَعْهُ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في كَرَاهِيَةِ خُرُوجِ النّسَاءِ في الزّينَة
قوله: "مثل الرافلة" قال في النهاية الرافلة هي التي ترفل في ثوبها أي تتبختر، والرفل الذيل ورفل إزاره إذا أسبله وتبختر فيه انتهى. "في الزينة" أي في ثياب الزينة "في غير أهلها" أي بين من يحرم نظره إليها "كمثل ظلمة يوم القيامة" أي تكون يوم القيامة كأنها ظلمة "لا نور لها" الضمير للمرأة. قال الديلمي: يريد المتبرجة بالزينة لغير زوجها. قوله: "وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث من قبل حفظه وهو صدوق" قال في التقريب: ضعيف ولا سيما في عبد الله بن دينار وعبيدة بالتصغير وهو ابن نشيط(4/329)
باب ماجاء في الغيرة
...
14 ـ باب مَا جَاءَ فِي الْغَيْرَة
1178 ـ حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ حَدّثَنَا سُفْيَانُ بنُ حَبِيبٍ، عنِ الْحَجّاجِ الصّوّافِ، عنْ يَحْيَى بنِ أَبي كَثِيرٍ، عنْ أبي سَلَمَةَ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الله يَغَارُ، والُمؤْمِن يَغَارُ، وغَيْرَةُ الله أنْ يَأتِي المُؤْمِنُ مَا حَرّمَ عَلَيْهِ" وفي البابِ عنْ عَائِشَةَ وعَبْدِ الله بنِ عُمَرَ. حدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ حدِيثٌ حسنٌ غرِيبٌ. وقَدْ رُوِيَ عنْ يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ، عنْ أبي سَلَمَةَ، عنْ عُرْوَةَ، عنْ أَسْمَاءَ بنت أبي بَكْرٍ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، هذَا الْحَدِيثُ وَكِلاَ الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي الْغَيْرَة
بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها راء قال عياض وغيره: هي مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين. هذا في حق الاَدمي وأما في حق الله، فقال الخطابي: أحسن ما يفسر به ما فسر في حديث أبي هريرة يعني حديث الباب وهو قوله: وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه. قال عياض: ويحتمل أن تكون الغيرة في حق الله الإشارة إلى تغيير حال فاعل ذلك. وقيل الغيرة في الأصل الحمية والأنفة. وهو تفسير بلازم التغير فيرجع إلى الغضب. وقد نسب سبحانه وتعالى إلى نفسه الغضب والرضا. وقال ابن العربي: التغير محال على الله بالدلالة القطعية فيجب تأويله بلازمه كالوعيد وإيقاع العقوبة بالفاعل ونحو ذلك انتهى
قوله: "إن الله يغار" بفتح التحتانية والغين المعجمة، من الغيرة ومعنى غيرة الله مبين في هذا الحديث "والمؤمن يغار" تقدم معنى الغيرة في الاَدمي "وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه" من الفواحش وسائر المنهيات والمحرمات. قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه البخاري في الكسوف والنكاح "وعبد الله بن عمر" لينظر من أخرج حديثه. قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن غريب" وأخرجه البخاري ومسلم. قوله: "وقد روي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عروة عن أسماء ابنة أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث" أخرجه البخاري ومسلم(4/330)
والحَجّاجُ الصّوّافُ، هُوَ الْحَجّاجُ بنُ أبِي عُثمَانَ. وأبُو عُثْمانَ اسْمُهُ مَيْسَرةُ والحّجاجٌ يُكْنَى أبَا الصّلْتِ، وثّقَهُ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ. حدّثَنَا أبُو بَكْرٍ الْعَطّارُ عنْ عَلِيّ بنِ المدينيّ قال سأَلْتُ يَحْيَى بنَ سَعِيدِ الْقَطّانَ عَنْ حَجّاجٍ الصّوّافِ فقَالَ: ثِقةٌ فَطِنٌ كيّسٌ.
ـــــــ
يكنى أبا الصلت" بمفتوحة وسكون لام وبمثناة فوقية كذا في المغنى. قوله: "حدثنا أبو عيسى أخبرنا أبو بكر العطار الخ" كذا في بعض النسخ فهو مقولة تلميذ الترمذي، وليس في بعض النسخ حدثنا أبو عيسى بل فيه حدثنا أبو بكر العطار الخ. قوله: "هو فطن كيس" أي حاذق عاقل، وفطن بفتح الفاء وكسر الطاء من الفطنة، وكيس كحيد من الكيس، وهو خلاف الحمق والعقل.(4/331)
باب ماجاء في كراهية أن تسافر المرأة وحدها
...
15 ـ باب ما جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا
1179 ـ حدثنا أحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ. حدثنا أبُو مُعَاوِيَةَ عنِ الأعْمَشِ، عنْ أبي صَالِحٍ، عنْ أبي سَعِيدٍ الخدري قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالله والْيَوْمِ الاَخِرِ أنْ تُسَافِرَ سَفَراً، يَكُونُ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ فَصَاعِداً، إلاّ ومَعَهَا أَبُوهَا أوْ أخُوهَا أوْ زَوْجُهَا أوِ ابْنُهَا أوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا". وفي البابِ عنْ أَبي هُرَيْرَةَ وابنِ عَبّاسٍ وابنِ عُمَرَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا
قوله: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاَخر" مفهومه أن النهي المذكور يختص بالمؤمنات فتخرج الكافرات كتابية أو حربية وقد قال به بعض أهل العلم. وأجيب بأن الإيمان هو الذي يستمر للمتصف به خطاب الشارع فينتفع به وينقاد له فلذلك قيد به أو أن الوصف ذكر لتأكيد التحريم ولم يقصد به إخراج ما سواه قاله الحافظ "ثلاثة أيام فصاعداً" وقع في حديث ابن عمر عند مسلم مسيرة ثلاث ليال. والجمع بينهما أن المراد ثلاثة أيام بلياليها أو ثلاث ليال بأيامها "أو ذو محرم منها" بفتح الميم والمراد به من لا يحل له نكاحها قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه البخاري ومسلم "وابن عباس وابن عمر" أخرج حديثهما(4/331)
ورُوِيَ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قالَ: "لاَ تُسَافِرُ المرأة مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، إلاّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ". والعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ. يَكْرَهُونَ لِلْمَرْأَةِ أنْ تُسَافِرَ إلاّ مَعَ ذِي مَحْرَم. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فِي الْمَرْأَةِ إِذَا كانَتْ مُوسِرَةً، ولَمْ يَكُنْ لهَا مَحْرَمٌ، هَلَ تَحُجّ؟
ـــــــ
الشيخان قوله: "وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم" أخرجه الترمذي في هذا الباب من حديث أبي هريرة وأخرجه الشيخان أيضاً من حديثه. قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم يكرهون للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم" لكن قال الحنفية: يباح لها الخروج إلى ما دون مسافة القصر بغير محرم. وقال أكثر أهل العلم يحرم لها الخروج في كل سفر طويلاً كان أو قصيراً ولا يتوقف حرمة الخروج بغير المحرم على مسافة القصر، لإطلاق حديث ابن عباس بلفظ: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. قال الحافظ في فتح الباري تحت هذا الحديث: كذا أطلق السفر، وقيده في حديث أبي سعيد الاَتي في الباب فقال. مسيرة يومين، ومضى في الصلاة حديث أبي هريرة مقيداً بمسيرة يوم وليلة. وعنه روايات أخرى. وحديث ابن عمر فيه مقيداً بثلاثة أيام. وعنه روايات أخرى أيضاً. وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات انتهى. وحجة الحنفية أن المنع المقيد بالثلاث متيقن وما عداه مشكوك فيه فيؤخذ بالمتيقن. ونوقض بأن الرواية المطلقة شاملة لكل سفر فينبغي الأخذ بها وطرح ما عداها، فإنه مشكوك فيه. ومن قواعد الحنفية تقديم الخبر العام على الخاص، وترك حمل المطلق على المقيد. وخالفوا ذلك هنا والاختلاف إنما وقع في الأحاديث التي وقع فيها التقييد بخلاف حديث ابن عباس فإنه لم يختلف عليه فيه. قال في الهداية: يباح لها الخروج إلى ما دون مدة السفر بغير محرم. قال ابن الهمام رحمه الله: يشكل عليه ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها. وأخرجا عن أبي هريرة: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاَخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم. وفي لفظ لمسلم: مسيرة ليلة. وفي لفظ: يوم، وفي لفظ أبي داود: بريدا يعني فرسخين واثني(4/332)
فقَالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الحَجّ، لأن المَحْرَمَ مِنَ السّبِيلِ. لِقَوْلِ الله عَزّ وجَلّ {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبيلاً} فَقَالُوا: إذَا لَمْ يَكُنْ لهَا مَحْرَمٌ فلا تَسْتَطِيع إلَيْهِ سَبِيلاً. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وَأهْلِ الكُوفَةِ.
وقَالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: إذَا كانَ الطّرِيقُ آمِناً، فَإِنهَا تَخْرُجُ مَعَ النّاسِ في الْحَجّ. وهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ والشّافِعِيّ.
ـــــــ
عشر ميلاً على ما في القاموس. وهو عند ابن حبان في صحيحه، وقال صحيح على شرط مسلم. وللطبراني في معجمه: ثلاثة أميال فقيل له: إن الناس يقولون ثلاثة أيام فقال: وهموا. قال المنذري: ليس في هذه تباين فإنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قالها في مواطن مختلفة بحسب الأسئلة، ويحتمل أن يكون ذلك كله تمثيلاً لأقل الأعداد، واليوم الواحد أول العدد وأقله، والاثنان أول الكثير وأقله، والثلاثة أول الجمع فكأنه أشار إلى أن هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر مع غير محرم فكيف إذا زاد انتهى. وحاصله أنه نبه بمنع الخروج أقل كل عدد على منع خروجها عن البلد مطلقاً إلا بمحرم أو زوج. وقد صرح بالمنع مطلقاً أن حمل السفر على اللغوي ما في الصحيحين عن ابن عباس مرفوعاً: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. والسفر لغة يطلق على دون ذلك انتهى كلام المحقق. كذا في المرقاة. قوله: "وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة" وهو قول أبي حنيفة، وهو القول الراجح عندي والله تعالى أعلم. قال أحمد: لا يجب الحج على المرأة إذا لم تجد محرماً. وإلى كون المحرم شرطاً في الحج ذهب أبو حنيفة، والنخعي وإسحاق، والشافعي في أحد قوليه على خلاف بينهم هل هو شرط أداء أو شرط وجوب، وقال مالك وهو مروي عن أحمد إنه لا يعتبر المحرم في سفر الفريضة. وروي عن الشافعي وجعلوه مخصوصاً من عموم الأحاديث بالإجماع، ومن جملة سفر الفريضة سفر الحج. وأجيب بأن المجمع عليه إنما هو سفر الضرورة فلا يقاس عليه سفر الاختيار. كذا وقال صاحب المغنى وأيضاً قد وقع عند الدارقطني بلفظ: لا تحجن امرأة إلا ومعها زوج. وصححه أبو عوانة. وفي رواية للدارقطني أيضاً عن أبي أمامة مرفوعاً، لا تسافر المرأة سفر ثلاثة أيام أو تحج إلا ومعها زوجها. فكيف يخص سفر الحج من بقية الأسفار. وقد قيل(4/333)
1180 ـ حدثنا الحَسَنُ بنُ عَلِي الْخَلاّلُ حدثنا بِشْرُ بنُ عُمَرَ. حدثنا مَالِكُ بنُ أَنَسٍ عنْ سَعِيدِ بنِ أبي سَعِيدٍ، عنْ أبِيهِ، عنْ أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُسَافِر امَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، إلاّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
إن اعتبار المحرم إنما هو في حق من كانت شابة لا في حق العجوز لأنها لا تشتهي. وقيل لا فرق لأن لكل ساقط لاقطاً. وهو مراعاة للأمر النادر وقد احتج أيضاً من لم يعتبر المحرم في سفر الحج، بما في البخاري من حديث عدي بن حاتم مرفوعاً بلفظ: يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها. وتعقب بأنه يدل على وجود ذلك لا على جوازه.
وأجيب عن هذا بأنه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام فيحمل على الجواز. والأولى حمله على ما قال المتعقب جمعاً بينه وبين أحاديث الباب كذا في النيل.(4/334)
باب ماجاء في كراهية الدخول على المغيبات
...
16 ـ باب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الدّخُولِ عَلَى الْمُغِيبَات
1181 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ، عنْ يَزِيدَ بنِ أبي حَبِيبٍ، عنْ أبي الْخَيْرِ، عنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِر أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "إيّاكُمْ والدّخُولَ عَلَى النّسَاءِ" فقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رسول الله أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قالَ "الْحَمْوُ المَوْتُ". وفي البابِ عنْ عُمَرَ وجَابِر وعَمْرو بنِ الْعَاصِ. حدِيثُ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الدّخُولِ عَلَى الْمُغِيبَات
جمع المغيبة بضم الميم ثم غين معجمة مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم موحدة من غاب عنها زوجها يقال أغابت المرأة زوجها إذا غاب زوجها قوله: "إياكم والدخول" بالنصب على التحذير وهو تنبيه للمخاطب على محذور ليحترز عنه كما قيل إياك والأسد. وقوله إياكم مفعول بفعل مضمر تقديره: اتقوا. وتقدير الكلام. اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء، والنساء أن يدخلن عليكم. وفي رواية عند مسلم: لا تدخلوا على النساء. وتضمن منع الدخول منع الخلوة بها بالطريق الأولى "أفرأيت الحمو" بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وبالواو، قال(4/334)
وإنّمَا مَعْنَى كَرَاهِيةِ الدّخُولِ عَلَى النّسَاءِ، عَلَى نَحْوِ مَا رُوي عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لاَ يَخْلُوَنّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، إلاّ كانَ ثَالِثَهُمَا الشّيْطَانُ" ومَعْنَى قَوْلِهِ "الْحَمْوُ" يُقَالُ: حَمْوُ أخُو الزّوْجِ. كأَنّهُ كَرِهَ لَهُ أنْ يَخْلُوَ بِهَا.
ـــــــ
في القاموس حمو المرأة وحموها وحمها وحموها أبو زوجها ومن كان من قبله، والأنثى حماة وحمو الرجل أبو امرأته أو أخوها أو عمها أو الأحماء ومن قبلها خاصة انتهى. قال النووي: المراد في الحديث أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه لأنهم محارم الزوجة يجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت. قال وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابن العم وابن الأخت ونحوهم. مما يحل له تزويجه لو لم تكن متزوجة. وجرت العادة بالتساهل فيه فيخلو الأخ بامرأة أخيه فشبه بالموت وهو أولى بالمنع من الأجنبي انتهى. قلت ما قال النووي: هو الظاهر وبه جزم الترمذي وغيره وزاد ابن وهب في روايته عند مسلم: سمعت الليث يقول الحمو أخو الزوج وما أشبه من أقارب الزوج ابن العم ونحوه. "قال الحمو الموت" قال القرطبي في المفهم: المعنى أن دخول قريب الزوج على امرأة الزوج يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة أي فهو محرم معلوم التحريم. وإنما بالغ في الزجر عنه وشبهه بالموت لتسامح الناس به من جهة الزوج والزوجة لإلفهم بذلك حتى كأنه ليس بأجنبي من المرأة. فخرج هذا مخرج قول العرب الأسد الموت، والحرب الموت، أي لقاؤه يفضي إلى الموت. وكذلك دخوله على المرأة قد يفضي إلى موت الدين أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج أو إلى الرجم إن وقعت الفاحشة. قوله: "وفي الباب عن عمر" أخرجه الترمذي بلفظ: لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان كذا في المشكاة "وجابر" أخرجه الترمذي في هذا الباب. وأخرج مسلم عن جابر مرفوعاً بلفظ: ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحاً أو ذو محرم. "وعمرو بن العاص" أخرجه مسلم، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه الشيخان بلفظ: لا يدخل رجل على امرأة ولا يسافر معها إلا ومعها ذو محرم. قوله: "حديث عقبة بن عامر حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان. قوله: "على نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يخلون رجل بامرأة" هذا الحديث الذي أشار إليه الترمذي أخرجه أحمد من حديث عامر بن ربيعة قاله الحافظ في الفتح: "إلا كان ثالثهما الشيطان" برفع الأول(4/335)
17ـ باب
1182 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِي. حدثنا عِيسَى بنُ يُونُسَ، عنْ مُجَالِدٍ، عنِ الشّعْبِيّ، عنْ جَابِرٍ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لاَ تَلِجُوا عَلَى الْمغيبَاتِ. فَإِنّ الشّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ أحَدِكُمْ مَجْرَى الدّمِ" قُلْنَا: ومِنْكَ؟ قالَ "وَمِنّي، ولكِنّ الله أَعَانَنيِ عَلَيْهِ، فَأَسلَم". هذا حديثٌ غرِيبٌ مِنْ هذَا الْوَجْهِ.
وقَدْ تَكَلّمَ بَعْضُهُمْ فِي مُجالِدِ بنِ سَعِيدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وسَمِعْتُ عَلِيّ بنَ خَشْرَمٍ، يَقُولُ: قالَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم "وَلكِنّ الله أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلمُ": يَعْني أَسلَمُ أنَا مِنْهُ.
قالَ سُفْيَانُ والشيطان لاَ يُسْلِمُ.
ـــــــ
ونصب الثاني ويجوز العكس والاستثناء مفرغ. والمعنى يكون الشيطان معهما يهيج شهوة كل منهما حتى يلقيا في الزنا قوله: "لا تلجوا" من الولوج أي لا تدخلوا "على المغيبات" أي الأجنبيات اللاتي غاب عنهن أزواجهن "فإن الشيطان يجري من أحدكم" أي أيها الرجال والنساء "مجرم الدم" بفتح الميم أي مثل جريانه في بدنكم من حيث لا ترونه. قال المجمع: يحتمل الحقيقة بأن جعل له قدرة على الجري في باطن الإنسان ويحتمل الاستعارة لكثرة وسوسته "قلنا ومنك" أي يا رسول الله "قال ومني" أي ومني أيضاً "فأسلم" بصيغة الماضي أي استسلم وانقاد، وبصيغة المضارع المتكلم أي أسلم أنا منه. قال في المجمع: وهما روايتان مشهورتان قوله: "وقد تكلم بعضهم في مجالد بن سعيد من قبل حفظه" قال الحافظ مجالد بضم أوله وتخفيف الجيم ابن سعيد بن عمير الهمداني بسكون الميم أبو عمرو الكوفي ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره "وسمعت علي بن خشرم" بالخاء والشين المعجمتين بوزن جعفر شيخ الترمذي وتلميذ ابن عيينة ثقة "يعني فاسلم أنا منه" يعني قوله فأسلم بصيغة المضارع المتكلم "قال سفيان فالشيطان لا يسلم" يعني قوله فأسلم ليس بصيغة الماضي حتى يثبت إسلام الشيطان فإن الشيطان(4/336)
ولاَ تَلِجُوا عَلِى الْمُغِيبَاتِ، والمُغِيبَةُ: الْمَرْأَةُ الّتِي يَكُونُ زَوْجُهَا غَائِباً والْمغيبَاتُ جَمَاعةُ الْمُغِيبةِ.
ـــــــ
لا يسلم. قال في المجمع وهو ضعيف: فإن الله تعالى على كل شيء قدير، فلا يبعد تخصيصه من فضله بإسلام قرينه انتهى. قال ابن الأثير في النهاية: وما من آدمي إلا ومعه شيطان، قيل: ومعك؟ قال نعم. ولكن الله أعانني عليه فأسلم. وفي رواية حتى أسلم أي انقاد واستسلم وكف عن وسوستي. وقيل دخل في الإسلام فسلمت من شره، وقيل إنما هو فأسلم بضم الميم على أنه فعل مستقبل أي أسلم أنا منه ومن شره. ويشهد للأول الحديث الاَخر كان شيطان آدم كافراً وشيطاني مسلماً انتهى. قلت لو صح هذا الحديث لكان شاهداً قوياً للأول وإني لم أقف على سنده ولا على من أخرجه.(4/337)
18 ـ باب
1183 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ. حدثنا عَمْرُو بنُ عَاصِمٍ. حدثنا هَمّامٌ عنْ قَتَادَةَ، عنْ مُوَرّقٍ، عنْ أبي الأحْوَص، عنْ عَبْدِ الله، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَت اسْتَشْرَفَهَا الشّيْطَانُ". هذا حديثٌ حسنٌ صَحيحٌ غرِيبٌ.
ـــــــ
باب
قوله: "عن مورق" بضم الميم وكسر الراء المشددة ابن مشمرخ بفتح الراء كمدحرج كذا في الخلاصة. وقال في التقريب مورق بتشديد الراء ابن مشمرج بضم أوله وفتح المعجمة وسكون الميم وكسر الراء بعدها جيم العجلي ثقة عابد من كبار الثالثة. قوله: "المرأة عورة" قال في مجمع البحار جعل المرأة نفسها عورة لأنها إذا ظهرت يستحي منها كما يستحي من العورة إذا ظهرت، والعورة السوأة وكل ما يستحي منه إذا ظهر. وقيل إنها ذات عورة "فإذا خرجت استشرفها الشيطان" أي زينها في نظر الرجال وقيل أي نظر إليها ليغويها ويغوى بها. والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء وبسط الكف فوق الحاجب والمعنى أن المرأة يستقبح بروزها وظهورها فإذا خرجت أمعن النظر إليها ليغويها بغيرها، ويغوي غيرها بها ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة. أو يريد بالشيطان شيطان الإنس من أهل الفسق سماه به على التشبيه.(4/337)
19 ـ باب
1184 ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ حدثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَيّاشٍ عنْ بَحِيرِ بنِ سَعْدٍ عنْ خَالِدِ بنِ مَعْدَانَ، عَنْ كَثِيرِ بنِ مُرّةَ الْحَضْرَمِيّ، عنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لاَ تُؤْذِي امْرَأةٌ زَوْجَهَا فِي الدّنْيَا. إِلاّ قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لاَ تُؤْذِيهِ، قَاتَلَكِ الله، فَإِنّمَا هُوَ عِنْدَك دَخِيلٌ يُوشِكَ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا". هذا حديثٌ حسنٌ غرِيبٌ. لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ. وَرِوَايَةُ إسْمَاعِيلَ بنِ عَيّاشٍ عنِ الشّامِييّنَ أَصْلَحُ. ولَهُ عنْ أهْلِ الْحِجَازِ وأهْلِ الْعِرَاقِ مَنَاكِيرُ.
ـــــــ
باب
قوله: "عن بحير" بكسر المهملة "بن سعد" السحولي الحمصي ثقة نبت من السادسة. قوله: "لا تؤذي" بصيغة للنفي "من الحور" أي نساء أهل الجنة جمع حوراء وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها "العين" بكسر العين جمع عيناء بمعنى الواسعة العين "لا تؤذيه" نهى مخاطبة "قاتلك الله" أي قتلك أو لعنك أو عاداك. وقد يرد للتعجب كتربت يداه. وقد لا يراد به وقوع ومنه: قاتل الله سمرة. كذا في المجمع "فإنما هو" أي الزوج "عندك دخيل" أي ضيف ونزيل. يعني هو كالضيف عليك وأنت لست بأهل له حقيقة، وإنما نحن أهله فيفارقك ويلحق بنا. "يوشك أن يفارق إلينا" أي واصلاً إلينا قوله: "هذا حديث غريب" . وأخرجه ابن ماجه "ورواية" إسماعيل بن عياش عن الشاميين أصلح "وله عن أهل الحجاز وأهل العراق مناكير" قال الحافظ في التقريب: إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي بالنون أبو عتبة الحمصي صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم من الثامنة. وقال الخزرجي في الخلاصة وثقه أحمد وابن معين ودهيم والبخاري وابن عدي في أهل الشام، وضعفوه في الحجازيين انتهى. قلت: روى إسماعيل بن عياش حديث الباب عن بحير بن سعد وهو شامي حمصي فالظاهر أن هذا الحديث حسن فإن الرواة غير إسماعيل بن عياش ثقات مقبولون(4/338)
أبواب الطلاق واللعان
باب ماجاء في طلاق السنة
...
كتاب الطلاق واللعان
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 ـ باب مَا جَاءَ في طَلاَقِ السّنّة
1185 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدثنا حَمّادُ بنَ زَيْدٍ عنْ أَيّوبَ
ـــــــ
الطلاق في اللغة حل الوثاق مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك، وفي الشرع حل عقدة التزويج فقط. وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللغوي. قال إمام الحرمين: هو لفظ جاهلي ورد الشرع بتقريره وطلقت المرأة بفتح الطاء وضم اللام وفتحها أيضاً وهو أفصح وطلقت أيضاً بضم أوله وكسر اللام الثقيلة فإن خففت فهو خاص بالولادة. والمضارع فيهما بضم اللام والمصدر في الولادة طلقاً ساكنة اللام فهي طالق فيهما. كذا في فتح الباري. واللعان مصدر لاعن يلاعن ملاعنة ولعاناً وهو مشتق من اللعن وهو الطرد والإبعاد لبعدهما من الرحمة أو لبعد كل منهما عن الاَخر ولا يجتمعان أبداً. واللعان والإلتعان والملاعنة بمعنى، ويقال تلاعنا والتعنا ولا عن الحاكم بينهما، وهو شرعاً عبارة عن شهادات مؤكدة بالإيمان مقرونة باللعن قائمة مقام حد القذف في حقه وحد الزنا في حقها إذا تلاعنا سقط حد القذف عنه وحد الزنا عنها. كذا فسر العلماء الحنفية، والأصل فيه قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
باب ما جاء في طلاق السنة
قال الإمام البخاري في صحيحه: طلاق السنة أن يطلقها طاهراً من غير جماع ويشهد شاهدين. قال الحافظ في الفتح: روى الطبري بسند صحيح عن ابن(4/339)
، عنْ مُحَمّدِ بنِ سِيرِينَ، عنْ يُونُسَ بنِ جُبَيْرٍ قالَ: سَأَلْتُ ابنَ عُمَرَ عنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ. فقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ؟ فَإِنّهُ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وهِيَ حَائِضٌ. فَسَأَلَ عُمَرُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ أنْ يُرَاجِعَهَا.
قالَ: قلت: فَيُعْتَدّ بِتِلكَ التّطْلِيقَةِ؟ قالَ: فَمَهْ. أَرَأَيْتَ إنْ عَجَزَ واسْتَحْمَقَ؟.
ـــــــ
مسعود في قوله تعالى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال: في الطهر من غير جماع، وأخرجه عن جمع من الصحابة ومن بعدهم كذلك قوله: "وهي حائض" قيل هذه جملة من المبتدأ والخبر فالمطابقة بينهما شرط، وأجيب بأن الصفة إذا كانت خاصة بالنساء فلا حاجة إليها. كذا في عمدة القاري. "فقال" أي ابن عمر رضي الله عنه "هل تعرف عبد الله بن عمر" إنما قال له ذلك مع أنه يعرفه وهو الذي يخاطبه ليقرره على اتباع السنة وعلى القبول من ناقلها، وأنه يلزم العامة الإقتداء بمشاهير العلماء فقرره على ما يلزمه من ذلك، لا أنه ظن أنه لا يعرفه. قاله الحافظ وغيره، "فإنه" أي عبد الله بن عمر رضي الله عنه "طلق امرأته" اسمها آمنة بنت غفار. قاله النووي في تهذيبه وقيل بنت عمار بفتح العين المهملة وتشديد الميم ووقع في مسند أحمد أن اسمها نوار بفتح النون. قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن يكون اسمها آمنة ولقبها النوار انتهى. "فأمره أن يراجعها" وفي رواية أوردها صاحب المشكاة عن الصحيحين: فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القاري: فيه دليل على حرمة الطلاق في الحيض لأنه صلى الله عليه وسلم لا يغضب بغير حرام. "قال قلت" أي قال يونس بن جبير قلت لابن عمر رضي الله عنه "فيعتد" بصيغة المجهول أي يحتسب "قال" أي ابن عمر رضي الله عنه "فمه" أصله فما وهو استفهام فيه اكتفاء، أي فما يكون إن لم تحتسب، ويحتمل أن تكون الهاء أصلية. وهي كلمة تقال للزجر أي كف عن هذا الكلام فإنه لا بد من وقوع الطلاق بذلك، قال ابن عبد البر: قول ابن عمر: فمه. معناه فأي شيء يكون إذا لم يعتد بها؟ إنكاراً لقول السائل أيعتد بها؟ فكأنه قال وهل من ذلك بد "أرأيت إن عجز واستحمق" القائل لهذا الكلام هو ابن عمر رضي الله عنه(4/340)
1186 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا وَكِيعٌ عنْ سُفْيَانَ، عنْ مُحَمّدِ بنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ مَوْلَى آل طَلْحَةَ، عنْ سَالِمٍ، عنْ أبِيهِ أنّهُ طَلّقَ امْرَأَتهُ في الْحَيْضِ. فَسأَل عُمَرُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "مُرْهُ فَلْيراجِعْهَا. ثمّ ليُطلّقْهَا طَاهِراً أوْ حَامِلاً".
حديثُ يُونسَ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عُمَرَ، حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وكَذَلِكَ حديثُ سَالِمٍ عنِ ابنِ عُمَرَ. وقَدْ رُوِيَ هذَا الحَديثُ منْ غَيْرِ وجهٍ عنِ ابنِ عُمَرَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. والعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أهلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرهْمِ، أنّ طَلاَقَ السّنّةِ،
ـــــــ
صاحب القصة، ويريد به نفسه وإن أعاد الضمير بلفظ الغيبة، وقد جاء في رواية لمسلم عن ابن عمر: مالي لا أعتد بها؟ وإن كنت عجزت واستحمقت. وقوله أرأيت أي أخبرني. قال الحافظ بن حجر: قوله أرأيت إن عجز واستحمق أي إن عجز عن فرض لم يقمه أو استحمق فلم يأت به يكون ذلك عذراً له؟ وقال الخطابي: في الكلام حذف أي أرأيت إن عجز واستحمق أيسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه؟ وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. قوله: "مره فليراجعها" اختلف في وجوب الرجعة فذهب إليه مالك وأحمد في رواية، والمشهور عنه وهو قول الجمهور أنها مستحبة. وذكر صاحب الهداية أنها واجبة لورود الأمر بها. قاله العيني رحمه الله. قلت: واحتج من قال باستحباب الرجعة بأن ابتداء النكاح لا يجب فاستدامته كذلك. والظاهر قول من قال بالوجوب لورود الأمر بها "ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً" استدل به من ذهب إلى أن طلاق الحامل سني، وهو قول الجمهور. وعن أحمد رواية: أنه ليس بسني ولا بدعي. واختلف في المراد بقوله ـ طاهراً ـ هل المراد به انقطاع الدم أو التطهر بالغسل؟ على قولين وهما روايتان عن أحمد. والراجح الثاني لما في رواية عند النسائي في هذه القصة. قال: مر عبد الله فليراجعها فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء أن يمسكها فليمسكها، قاله الحافظ. قوله "حديث يونس بن جبير عن ابن عمر حديث حسن صحيح الخ" حديث ابن عمر هذا أخرجه(4/341)
أنْ يُطلّقَها طاهِراً مِنْ غَيْرِ جمَاعٍ. وقالَ بَعْضُهُمْ: إنْ طَلّقَهَا ثَلاَثاً وهِيَ طَاهِرٌ، فَإنّهُ يَكُونُ لِلسّنّةِ أيْضاً. وهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وأحْمَدَ بن حنبل وقالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَكُونُ ثَلاَثاً لِلسّنّةِ، إلاّ أَنْ يُطَلّقَهَا وَاحِدَةً واحِدةً.
وهُوَ قَوْلُ سفيان الثّوْرِيّ وإسحَاقَ. وقَالُوا "فِي طَلاقِ الحَامِلِ" : يُطَلّقُهَا مَتَى شَاءَ. وهُوَ قَولُ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ وَإسْحَاقَ. وقالَ بَعْضُهُمْ: يُطَلّقُهَا عِنْدَ كلّ شَهْرِ تَطْليقَةٍ.
ـــــــ
الأئمة الستة وله طرق وألفاظ قوله: "وقال بعضهم: إن طلقها ثلاثاً وهي طاهر فإنه يكون للسنة أيضاً وهو قول الشافعي وأحمد" قال القاري في المرقاة قال في شرح السنة استدل الشافعي على أن الجمع بين الطلقات الثلاث مباح ولا يكون بدعة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ركانة بن عبد يزيد حين طلق امرأته البتة ما أردت بها؟ ولم ينهه أن يريد أكثر من واحدة. وهو قول الشافعي، وفيه بحث فإنه إنما يدل على وقوع الثلاث. وأما على كونه مباحاً أو حراماً فلا انتهى ما في المرقاة. قلت حديث ركانة هذا ضعيف مضطرب كما ستقف فهو لا يصلح أن يحتج به على أن الجمع بين الطلقات الثلاث مباح. ولا على وقوع الثلاث. قال العيني في شرح البخاري: واختلفوا في طلاق السنة فقال مالك: طلاق السنة أن يطلق الرجل امرأته في طهر لم يمسها فيه تطليقة واحدة ثم يتركها حتى تنقضي العدة برؤية أول الدم من الحيضة الثالثة وهو قول الليث والأوزاعي وقال أبو حنيفة: هذا أحسن من الطلاق. وله قول آخر وهو ما إذا أراد أن يطلقها ثلاثاً طلقها عند كل طهر طلقة واحدة من غير جماع. وهو قول الثوري وأشهب وزعم المرغيناني أن الطلاق على ثلاثة أوجه عند أصحاب أبي حنيفة حسن وأحسن وبدعي. فالأحسن أن يطلقها وهي مدخول بها تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي العدة. والحسن وهو طلاق السنة وهو أن يطلق المدخول بها ثلاثاً في ثلاثة أطهار. والمدعي أن يطلقها ثلاثاً بكلمة واحدة أو ثلاثاً في طهر واحد فإذا فعل ذلك وقع الطلاق وكان عاصياً. انتهى كلام العيني(4/342)
باب ماجاء في الرجل طلق أمرأته البته
...
2 ـ باب مَا جَاءَ في الرّجُلِ يطَلّقَ امْرأَتَهُ البَتّة
1187 ـ حدثنا هَنّادٌ أخبرنا قَبيْصَةُ عنْ جَرِيرِ بنِ حازِمٍ، عنِ الزّبَيْرِ بنِ سَعْيد، عنْ عَبْدِ الله بنِ يَزِيدَ بنِ رُكَانَةَ، عنْ أبيهِ، عنْ جَدّهِ قالَ: أتَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَقلت: يا رسولَ الله إني طَلّقْتُ امْرأَتِي الْبَتّةَ. فقَالَ "مَا أَرَدْتَ بِهَا"؟ قلت: وَاحِدَةً. قالَ "والله؟" قُلتُ والله قالَ "فَهُوَ مَا أرَدْتَ". هذا حديثٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هذَا الوَجْهِ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في الرّجُلِ يطَلّقَ امْرأَتَهُ البَتّة
قوله: "عن الزبير بن سعد" كذا في النسخ الموجودة الزبير بن سعد وفي سنن أبي داود وسنن ابن ماجة الزبير بن سعيد. وكذلك في الخلاص والميزان والتقريب فهو الصحيح. قال الذهبي في الميزان في ترجمته: روى عباس عن ابن معين ثقة. وقال في موضع آخر ليس بشيء. وقال النسائي ضعيف. وهو معروف بحديث في طلاق البتة. وقال في التقريب لين الحديث "عن عبد الله بن يزيد بن ركانة" بضم الراء وهو عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة وكذلك وقع في سنن أبي داود وسنن ابن ماجة وقال الحافظ في التقريب: قد ينسب إلى جده وقال هو لين الحديث. وقال الذهبي في الميزان في ترجمته: قال العقيلي إسناده مضطرب ولا يتابع على حديثه، وساق حديث جرير بن حازم عن الزبير بن سعيد المطلبي عن عبد الله عن أبيه عن جده أنه طلق امرأته البتة الحديث والشافعي عن عمه عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة. قال الذهبي: كأنه اراد بقوله عن جده الجد الأعلى وهو ركانة انتهى. "عن أبيه" أي علي بن يزيد بن ركانة. قال في الخلاصة علي بن يزيد بن ركانة المطلبي عن أبيه وجده. وعنه ابناه عبد الله ومحمد وثقه ابن حبان. وقال البخاري لم يصح حديثه "عن جده" أي ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي من مسلمة الفتح ثم نزل المدينة ومات في أول خلافة معاوية.
قوله: "إني طلقت أمرأتي البتة" بهمزة وصل أي قال أنت طالق البتة. من البت بمعنى القطع واسم امرأته سهيمة كما وقع في رواية لأبي داود "قال فهو ما أردت" وفي رواية لأبي داود فردها إليه. قال الخطابي فيه بيان أن طلاق البتة(4/343)
وقَدْ اخْتَلَفَ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرهِمْ في طَلاَقِ البْتّةِ. فَرُوِيَ عنْ عُمر بنِ الخَطّابِ أنّهُ جَعَلَ الْبَتّةَ واحِدَةً، وَرُوِيَ عنْ عَلِي أَنّهُ جَعَلَها ثلاثاً وقال بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ. فيه نِيّةُ الرّجُلِ. إن نوى واحدةً فواحدة وإنْ نَوَى ثَلاَثاً فَثَلاَثٌ، وإنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ لَمْ تَكُنْ إلاّ وَاحِدَةً. وهُوَ قَوْلُ الثّوْرِيّ وأهْلِ الكُوفَةِ.
ـــــــ
واحدة إذا لم يرد بها أكثر من واحدة، وأنها رجعية غير بائن انتهى. قال القاضي رحمه الله في الحديث فوائد: منها ـ الدلالة على الزوج مصدق باليمين فيما يدعيه ما لم يكذبه ظاهر اللفظ. ومنها ـ أن البتة مؤثرة في عدد الطلاق إذ لو لم يكن لما حلفه بأنه لم يرد إلا واحدة وأن من توجه عليه يمين فحلف قبل أن يحلفه الحاكم لم يعتبر حلفه. إذ لو اعتبر لاقتصر على حلفه الأول ولم يحلفه ثانياً. ومنها ـ أن ما فيه احتساب للحاكم له أن يحكم فيه من غير مدع انتهى. قوله: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه" قال المنذري: في إسناد الزبير بن سعيد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد، وذكر الترمذي أيضاً عن البخاري أنه مضطرب فيه، تارة قيل فيه ثلاثاً وتارة قيل فيه واحدة. وأصحه أنه طلقها البتة وأن الثلاث ذكرت فيه على المعنى. وقال أبو داود حديث نافع بن عجير حديث صحيح. وفيما قاله نظر فقد تقدم عن الإمام أحمد بن حنبل أن طرقه ضعيفة وضعفه أيضاً البخاري وقد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه انتهى كلام المنذري. قوله: "فروى عن عمر بن الخطاب أنه جعل البتة واحدة" قال العيني في شرح البخاري: وقد اختلف العلماء في قول الرجل: أنت طالق البتة. فذكر ابن المنذر عن عمر رضي الله عنه أنها واحدة، وإن أراد ثلاثاً فهي ثلاث. وهذا قول أبي حنيفة والشافعي. وقالت طائفة: البتة ثلاث. روي ذلك عن علي وابن عمر وابن المسيب وعروة والزهري وابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي وأبي عبيد انتهى كلام العيني. وقال القاري في المرقاة: طلاق البتة عند الشافعي واحدة رجعية وإن نوى بها اثنتين أو ثلاثاً فهو ما نوى. وعند أبي حنيفة واحدة باثنة، وإن نوى ثلاثاً فثلاث. وعند مالك ثلاث انتهى كلام القاري. "وروي عن علي أنه حعلها ثلاثاً" وهو(4/344)
وقَالَ مَالِكُ بنُ أَنَسٍ "فِي الْبَتّةِ" : إنْ كانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَهِي ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ.
وقالَ الشّافِعِيّ: إِنْ نَوَى وَاحِدَة فَوَاحِدَةً. يَمْلِكُ الرّجْعَةَ. وإنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ فَثِنْتَانِ. وإنْ نَوَى ثَلاَثاً فَثَلاَثٌ.
ـــــــ
مروي عن ابن عمر وابن المسيب وعروة والزهري وغيرهم كما عرفت آنفاً "وقال بعض أهل العلم فيه نية الرجل إن نوى واحدة فواحدة وإن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن نوى اثنتين لم تكن إلا واحدة. وهو قول الثوري وأهل الكوفة" وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. قال في شرح الوقاية من كتب الحنفية قد ذكر في أصول الفقه أن لفظ المصدر واحد لا يدل على العدد. فالثلاث واحد اعتباري من حيث أنه مجموع فتصح نيته. وأما الاثنان في الحرة فعدد محض لا دلالة للفظ المفرد عليه انتهى.(4/345)
باب ماجاء في (امرك بيدك)
...
3 ـ باب مَا جَاءَ في "أمْرُكِ بِيَدِكِ"
1188 ـ حدثنا عَلِي بنُ نَصْرِ بنِ عَلِي. حدثنا سُلَيمانُ بنُ حَرْبٍ. حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ قالَ: قُلْتُ لاِءَيّوبَ: هَلْ عَلِمْتَ أَنّ أحَداً قَالَ فِي "أَمْرُكِ بِيَدِكِ" إنّهَا ثَلاَثٌ إلاّ الْحَسَنَ؟ فقَالَ: لاَ إلاّ الحَسَنَ. ثمّ قالَ: اللّهُمّ غَفْراً إلاّ مَا حَدّثَنِي قَتادَةُ عنْ كَثِيرٍ مَوْلَى بَنِي سَمُرَةَ، عنْ أبي سَلَمَةَ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ "ثَلاَثٌ".
ـــــــ
باب ما جاء في أمرك بيدك
إعلم أنه إذا جعل الرجل أمر امرأته بيدها وقال أمرك بيدك. فإن اختارته ولم تفارقه بل قرت عنده فليس ذلك بطلاق بالانفاق، وأما إذا فارقته واختارت نفسها فهو طلاق. وستقف على ما فيه من اختلاف أهل العلم . قوله: "اللهم غفرا" بفتح الغين المعجمة هو منصوب على المصدر أي اغفر غفراً. قال بعض العلماء: طلب المغفرة من الله تعالى لأنه جعل سماع هذا القول مخصوصاً بالحسن، يعني أنه سمع من قتادة أيضاً مثله انتهى. وقال بعضهم: يحتمل أنه كان سماعه من الحسن(4/345)
قالَ أيّوبُ: فَلَقيتُ كَثِيراً مَوْلَى بَنِي سَمُرَة فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ. فَرَجَعْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: نَسِيَ.
هذا حديثٌ غرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حديثِ سُلَيمَانَ بنِ حَرْبٍ عنْ حَمّادِ بنِ زَيْدٍ. وَسَأَلتُ مُحَمّداً عنْ هذَا الْحَدِيثِ فقَالَ: حدثنا سُلَيمَانُ بنُ حَرْبٍ عنْ حَمّادِ بنِ زَيْدٍ بِهذَا. وإنّما هُوَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفٌ.
وَلَمْ يُعْرَفْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعاً وكانَ عَلِيّ بنُ نَصْرٍ حَافِظاً، صَاحِبَ حدِيثٍ.
ـــــــ
على الجزم واليقين، فلذا قاله جزماً بل حصراً. ولم يكن سماعه من قتادة بهذه الرتبة فذكره بعد طلب المغفرة من الله تعالى بسبب أن يكون فيه شيء من السهو والغفلة انتهى. كذا في حاشية النسخة الأحمدية. قلت: والظاهر عندي أنه كان ينبغي لأيوب أن يقول في جواب حماد بن زيد لا إلا الحسن وفيه حديث مرفوع لكنه غفل عن ذكر الحديث المرفوع، ثم تذكر على الفور فاستغفروا قال اللهم غفرا إلا ما حدثني.. . قتادة عن كثير الخ. والله تعالى أعلم. "عن كثير مولى بني سمرة" قال في تهذيب التهذيب كثير بن أبي كثير البصري مولى عبد الرحمن ابن سمرة قال العجلي: تابعي ثقة وذكره ابن حبان في الثقات. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث" أي إذا قال الرجل لامرأته أمرك بيدك فاختارت نفسها فهي ثلاث "فسألته" أي فسألت كثيراً عن هذا الحديث أي سألته إنك حدثت قتادة بهذا الحديث "فلم يعرفه" وفي رواية أبي داود قال أيوب فقدم علينا كثير. فسألته فقال: ما حدثت بهذا قط "فأخبرته" أي فأخبرت قتادة بما قال كثير فقال "أي قتادة نسي" أي كثير. وفي رواية أبي داود فقال: بلى ولكنه نسي. اعلم أن إنكار الشيخ أنه حدث بذلك إن كان على طريقة الجزم كما وقع في رواية أبي داود فلا شك أنه علة قادحة، وإن لم يكن على طريقة الجزم بل عدم معرفة ذلك الحديث بدون تصريح بالإنكار كما في رواية الترمذي فليس ذلك مما يعد قادحاً في الحديث كما تقرر في أصول الحديث. قوله: "ولم يعرف حديث أبي هريرة مرفوعاً" والحديث أخرجه أبو داود وسكت عنه، وذكر المنذري كلام الترمذي وأقره وأخرجه أيضاً النسائي وقال هذا حديث(4/346)
وقَدْ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في "أَمْرُكِ بِيدِكِ" فقَالَ بَعْضُ أهْلِ العِلمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم مِنْهُمْ عُمرُ بنُ الْخَطّابِ وعَبْدُ الله بنُ مسْعُودٍ: هِيَ وَاحِدَةٌ. وهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِد مِنْ أهْلِ العِلْمِ مِنَ التّابِعينَ ومَنْ بَعْدَهُمْ.
وقَالَ عُثمَانُ بنُ عَفّانَ وزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ: الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ.
وقالَ ابنُ عُمرَ: إِذَا جَعَلَ أمْرَهَا بِيَدِهَا وطَلّقَتْ نَفْسَهَا ثَلاثَاً، وأَنْكرَ الزّوْجِ وقَالَ: لَمْ أَجْعلْ أَمْرَهَا بِيَدِهَا إلاّ في واحِدَةٍ، اسْتُحْلِفَ الزّوْجُ وكانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمينِه.
ـــــــ
منكر. "وكان علي بن نصر حافظاً صاحب حديث" لعل الترمذي أراد بقوله هذا أن علي بن نصر روى هذا الحديث مرفوعاً وكان ثقة حافظاً وروايته مرفوعاً زيادة وزيادة الثقة الحافظ مقبولة والله تعالى أعلم قوله: "فقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود: هي واحدة وهو قول غير واحد من أهل العلم من التابعين ومن بعدهم" يعني إذا قال رجل لامرأته أمرك بيدك ففارقته فهي طلقة واحدة. ولم يصرح الترمذي بأن هذه الوحدة بائنة أو رجعية. وعند زيد بن ثابت رضي الله عنه: هي واحدة رجعية. روى محمد في موطإه عن خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت أنه كان جالساً عنده فأتاه بعض بني أبي عتيق وعيناه تدمعان. فقال له: ما شأنك؟ فقال ملكت امرأتي أمرها بيدها ففارقتني فقال: ما حملك على ذلك؟ قال: القدر قال له زيد بن ثابت: ارتجعها إن شئت فإنما هي واحدة، وأنت أملك بها. وقال الإمام محمد بعد هذه الرواية هذا عندنا على ما نوى الزوج فإن نوى واحدة فواحدة بائنة وهو خاطب من الخطاب. وإن نوى ثلاثاً فثلاث. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا انتهى كلامه. قوله: "وقال عثمان بن عفان وزيد بن ثابت القضاء ما قضت" أي الحكم ما نوت من رجعية أو بائنة واحدة أو ثلاثاً لأن الأمر مفوض إليها. وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما صرح به الإمام محمد في موطإه. وقد عرفت قول زيد بن ثابت لبعض بني أبي عتيق: ارتجعها إن شئت فإنما هي واحدة الخ. فلعل عن زيد بن ثابت روايتين(4/347)
وذَهَبَ سُفْيَانُ وأهْلُ الكُوفَةِ إلَى قَوْلِ عُمرَ وعَبْدِ الله. وأمّا مَالِكُ بنُ أنَسٍ فقَالَ: الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ. وهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وأمّا إسْحَاقُ فَذَهَبَ إلَى قَوْلِ ابنِ عُمرَ.
ـــــــ
والله تعالى أعلم. وقال ابن عمر: إذا جعل أمرها بيدها وطلقت نفسها ثلاثاً وأنكر الزوج "وقال لم أجعل أمرها بيدها إلا في واحدة استحلف الزوج وكان القول قوله مع يمينه" روى الإمام محمد في موطإه عن ابن عمر أنه كان يقول إذا ملك الرجل امرأته أمرها فالقضاء ما قضت إلا أن ينكر عليها فيقول لم أرد إلا تطليقة واحدة فيحلف على ذلك ويكون أملك بها في عدتها "وذهب سفيان وأهل الكوفة إلى قول عمر وعبد الله" وتقدم قول أبي حنيفة وأصحابه "وأما مالك بن أنس فقال القضاء ما قضت" وروى مالك في الموطإ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن رجلاً من ثقيف ملك امرأته أمرها فقالت: أنت الطلاق؟ فسكت، ثم قالت: أنت الطلاق؟ فقال: بفيك الحجر ثم قالت أنت الطلاق، فقال بفيك الحجر فاختصما إلى مروان بن الحكم فاستحلفه ما ملكها إلا واحدة وردها إليه. قال مالك: قال عبد الرحمن فكان القاسم يعجبه هذا القضاء ويراه أحسن ما سمع في ذلك وأحبه إلى انتهى ما في الموطإ. قال الشيخ سلام الله في المحلي في شرح الموطإ: قوله وهذا أحسن أي كون القضاء ما قضت، إلا أن ينكرها الزوج، أحسن ما سمعت في التي يجعل أمرها بيدها أو يملك أمرها وهي المملكة. فلو قالت طلقت نفسي ثلاثاً، وقال: ما أردت ذلك بل أردت تمليكي لك نفسك طلقة أو طلقتين مثلاً فالقول له بخلاف ما لو قال: ما أردت بالتمليك لك شيئاً أبداً فلا يقبل قوله، بل يقع ما أوقعت هذا في المملكة.
وأما المخيرة فإذا اختارت نفسها يقع عنده ثلاث، وإن أنكرها الزوج. هذا تفصيل مذهب مالك كما ذكره ابن أبي زيد وعند أبي حنيفة يقع في أمرك بيدك على ما نوى الزوج فإن واحدة فواحدة بائنة. وإن ثلاثاً فثلاث. وفي اختياري يقع واحدة بائنة. وإن نوى الزوج ثلاثاً. وعند الشافعي يقع رجعية في المملكة والمخيرة كليهما. وهو قول عبد الله بن مسعود انتهى ما في المحلي "وهو قول أحمد" ولم يذكر الترمذي قول الشافعي وقد عرفت قوله آنفاً، وهو أنه يقع عنده رجعية في المملكة والمخيرة كلتيهما(4/348)
باب ماجاء في الخيار
...
4 ـ باب مَا جَاءَ فِي الْخِيَار
1189 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِي. حدثنا سُفَيانُ عنْ إسْمَاعِيلَ بنِ أبِي خَالِدٍ، عنْ الشّعْبيّ، عنْ مَسْرُوقٍ، عنْ عَائِشَةَ قَالتْ: خَيّرنَا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَاخْتَرْنَاهُ. أفَكَانَ طَلاَقَاً؟.
1190ـ حدثنا محمد بن بشار عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدي. حدثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ، عنْ أَبِي الضّحَى، عنْ مَسْرُوقٍ، عنْ عَائِشَةَ، بِمِثلهِ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فِي الْخِيَارِ.
ـــــــ
باب ما جاء في الخيار
المراد به التخيير وهو جعل الطلاق إلى المرأة فإن لم تمتثل فلا شيء عليها قاله العيني قوله: "خيّرنا" وفي رواية مسلم خير نساءه "أفكان طلاقاً" استفهام إنكار أي لم يكن طلاقاً لأنهن اخترن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة. قوله: "واختلف أهل العلم في الخيار الخ" قال الحافظ في الفتح: وبقول عائشة رضي الله عنها يقول جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وهو أن من خير زوجته فاختارته لا يقع عليه بذلك طلاق. لكن اختلفوا فيما إذا اختارت نفسها هل يقع طلقة واحدة رجعية أو بائناً أو يقع ثلاثاً. وحكى الترمذي عن علي إن اختارت نفسها فواحدة بائنة وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية وعن زيد بن ثابت إن اختارت نفسها فثلاث، وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة. وعن عمرو بن مسعود: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة وعنهما رجعية، وإن اختارت زوجها فلا شيء. ويؤيد قول الجمهور من حيث المعنى أن التخيير ترديد بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقاً لاتحدا فدل على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة. وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق زاذان: قال كنا جلوساً عند علي فسئل عن الخيار فقال: سألني عنه عمر. فقلت: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية. قال ليس كما قلت. إن اختارت زوجها فلا شيء قال فلم أجد بدا من متابعته، فلما وليت رجعت إلى(4/349)
فَرُوِيَ عنْ عُمرَ وعَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ أنّهُمَا قَالاَ: إنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، فَوَاحِدَة بائِنَةٌ. وَرُوِيَ عَنْهُمَا أنّهُمَا قَالاَ أيْضاً: وَاحِدَةٌ يَملِكُ الرّجْعَةَ، وإن اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلاَ شَيْءَ. وَرُوِيَ عنْ عَلِي أنّهُ قالَ: إنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ. وإنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ يَملكُ الرّجْعَةَ.
ـــــــ
ما كنت أعرف. قال علي وأرسل عمر إلى زيد بن ثابت فقال فذكر مثل ما حكاه عنه الترمذي. وأخرج ابن أبي شيبة من طرق عن علي نظير ما حكاه عنه زاذان من اختياره. وأخذ مالك بقول زيد بن ثابت واحتج بعض أتباعه لكونها إذا اختارت نفسها يقع ثلاثاً بأن معنى الخيار بت أحد الأمرين، إما الأخذ وإما الترك فلو قلنا إذا اختارت نفسها تكون طلقة رجعية لم يعمل بمقتضى اللفظ إنها تكون بعد في أسر الزوج، وتكون كمن خير بين شيئين فاختار غيرهما. وأخذ أبو حنيفة بقول عمر وابن مسعود فيما إذا اختارت نفسها. فواحدة بائنة ولا يرد عليه إلا إيراد السابق. وقال الشافعي: التخيير كناية فإذا خير الزوج امرأته وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلق منه وبن أن تستمر في عصمته فاختارت نفسها وأرادت بذلك الطلاق طلقت. فلو قالت لم أرد باختيار نفسى الطلاق صدقت. ويؤخذ من هذا أنه لو وقع التصريح في التخيير بالتطليق أن الطلاق يقع جزماً. نبه على ذلك شيخنا حافظ الوقت أبو الفضل العراقي في شرح الترمذي، ونبه صاحب الهداية من الحنفية على اشتراط ذكر النفس في التخيير. فلو قال مثلاً: اختاري. فقالت: اخترت لم يكن تخييراً بين الطلاق وعدمه. وهو ظاهر لكن محله الإطلاق. فلو قصد ذلك بهذا اللفظ ساغ. وقال صاحب الهداية أيضاً: إن قال اختاري ينوي به الطلاق فلها أن تطلق نفسها ويقع بائناً. فلو لم ينو فهو باطل. وكذا لو قال: اختاري فقالت اخترت. فلو نوى فقالت اخترت نفسي وقعت طلقة رجعية. وقال الخطابي: يؤخذ من قول عائشة. فاخترناه فلم يكن ذلك طلاقاً، أنها لو اختارت نفسها لكان ذلك طلاقاً. ووافقه القرطبي في المفهم فقال في الحديث: إن المرأة إذا اختارت نفسها. أن نفس ذلك الاختيار يكون طلاقاً من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدل على الطلاق. قال وهو مقتبس من مفهوم قول عائشة المذكور. قال الحافظ لكن ظاهر الاَية أن ذلك بمجرده(4/350)
وقَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ: إنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَواحِدَةٌ. وإنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلاَثٌ. وذَهَبَ أَكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ والفِقهِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ بَعْدَهُمْ فِي هذا البابِ إلَى قَوْلِ عمرَ وعبدِ الله. وهُوَ قَوْلُ الثّوْرِي وأهْلِ الكُوفةِ. وَأَمّا أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، فَذَهَبَ إلَى قَوْلِ عَلِي رَضِيَ الله عَنْهُ.
ـــــــ
لا يكون طلاقاً بل لا بد من إنشاء الزوج الطلاق لأن فيها فتعالين أمتعكن وأسرحكن أي بعد الاختيار ودلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم انتهى ما في فتح الباري(4/351)
باب ماجاء في المطلقة ثلاثاً لا سكنى لها ولا نفقة
...
5 ـ باب مَا جاءَ في المُطَلّقَةِ ثلاثَاً لاَ سُكْنَى لَهَا وَلاَ نَفَقَة
1191 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا جَرِيرٌ عنْ مُغِيرة، عنِ الشّعْبِيّ، قالَ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ: طَلّقَنِي
زَوْجِي ثَلاَثاً عَلَى عَهْدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ سُكْنَى لَكِ وَلاَ نَفَقَةَ".
قَالَ مُغِيرةُ: فَذَكَرْتُهُ لإبْرَاهِيمَ فقَالَ: قَالَ عُمَرُ: لاَ نَدَعُ كِتَابَ الله وسُنّةَ نَبِيّنا صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لاَ نَدْرِي أَحَفِظتْ أَمْ نَسِيَتْ. وكانَ عُمَرُ يَجْعَلُ لَهَا السّكْنَى وَالنّفَقَةَ.
حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنيعٍ. حدثنا هُشَيمٌ. أنْبأَنَا حُصَيْنٌ وإسْمَاعِيلُ ومُجَالِدٌ.
قالَ هُشَيْمٌ: وحدثنا دَاوُدُ أيْضاً عنِ الشّعْبيّ قالَ: دَخَلْتُ عَلَى فَاطِمَةَ
ـــــــ
باب مَا جاءَ في المُطَلّقَةِ ثلاثَاً لاَ سُكْنَى لَهَا وَلاَ نَفَقَة
قوله: "طلقني زوجي ثلاثاً" وفي رواية فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها "لا سكنى لك ولا نفقة" استدل به أحمد وإسحاق وغيرهما على أن المطلقة ثلاثاً لا سكنى لها ولا نفقة "فذكرته" أي حديث فاطمة بنت قيس "لإبراهيم" هو النخعي "فقال" أي إبراهيم "لا ندع" بفتح الدال أي لا نترك "كتاب الله وسنة نبينا" سيأتي بيان ما هو المراد من كتاب الله وسنة نبينا "بقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت فكان عمر يجعل لها السكنى والنفقة" استدل به من(4/351)
ابنة قَيْسٍ فَسَأَلْتُهَا عنْ قَضَاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيهَا، فقالَتْ: طَلّقَهَا زَوْجُهَا البَتّةَ. فَخَاصَمَتْهُ فِي السّكْنَى والنّفَقةِ، فَلَمْ يجْعَلْ لَهَا النبيّ صلى الله عليه وسلم سُكْنَى ولاَ نَفقة.
وفِي حديثِ دَاوُدَ قَالتْ: وأَمَرَنِي أنْ أعْتَدّ فِي بَيْتِ ابنِ أُمّ مَكْتُومٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ، مِنْهُمْ الحَسَنُ البَصْريّ وعَطاءُ بنُ أبي رَبَاحٍ والشّعْبيّ. وبه يَقُولُ أحْمَدُ وإسحَاقُ. وقَالُوا: لَيْس لِلْمُطَلّقةِ سُكْنَى ولاَ نَفقَةٌ، إذَا لَمْ يملِكْ زَوْجُهَا الرّجْعَةَ. وقالَ بَعْضُ أهلِ العِلْمِ من أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، مِنْهُمْ عُمَرُ وعبدُ الله: إنّ المُطَلّقَةَ ثَلاَثاً، لَهَا السّكْنَى والنّفَقَةُ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وأهلِ الكُوفَةِ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: لَهَا السكْنَى وَلاَ نَفَقَةَ لَهَا. وهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بنِ أنَسٍ واللّيْثِ بنِ سَعْدٍ والشّافِعيّ. وقالَ الشّافعيّ: إنمَا جَعَلْنَا لَهَا
ـــــــ
قال إن للمطلقة ثلاثاً النفقة والسكنى، قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرج حديث فاطمة بنت قيس الجماعة بألفاظ مختصراً ومطولاً قوله: "وهو قول بعض أهل العلم منهم الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والشعبي وبه يقول أحمد وإسحاق وقالوا: ليس للمطلقة سكنى ولا نفقة إذا لم يملك زوجها الرجعة" وهو قول عمرو بن دينار وطاوس وعكرمة وإبراهيم في رواية، وأهل الظاهر كذا في عمدة القاري. "وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر وعبد الله: إن المطلقة ثلاثاً لها السكنى والنفقة وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة" وهو قول حماد وشريح والنخعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن "وقال بعض أهل العلم: لها السكنى ولا نفقة لها وهو قول مالك بن أنس والليث بن سعد والشافعي" وهو قول عبد الرحمن بن مهدي وأبي عبيدة. وقال بعض أهل العلم: إن لها النفقة دون السكنى حكاه الشوكاني في النيل. واحتج الأولون بحديث فاطمة بنت قيس المذكور في الباب وهو نص صحيح صريح في هذه المسألة. قال العيني في شرح البخاري: قصة فاطمة بنت قيس رويت من وجوه صحاح متواترة انتهى. واحتج من قال(4/352)
السّكْنَى بِكِتَابِ الله قالَ الله تعالى {لاَ تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يَخْرُجْنَ إلاّ أنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَة} قالُوا: هُوَ الْبذَاءُ، أنْ تَبْذُوَ عَلَى أهْلِهَا،
ـــــــ
إن لها النفقة والسكنى بقول عمر رضي الله عنه لا نترك كتاب الله وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة. قال الله تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يَخْرُجْنَ إلاّ أنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَة} وأخرجه النسائي ولفظه قال: قال عمر لها إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة. قالوا فظهر أن حديث فاطمة بنت قيس مخالف لكتاب الله وسنة نبيه. وأجيب بأن القول بأنه مخالف لكتاب الله ليس بصحيح فإن الذي فهمه السلف من قوله تعالى {لاَ تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ} فهو ما فهمته فاطمة من كونه في الرجعية لقوله في آخر الاَية {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} لأن الأمر الذي يرجى إحداثه هو الرجعة لا سواه. وهو الذي حكاه الطبري عن قتادة والحسن والسدي والضحاك ولم يحك عن أحد غيرهم خلافه. قال الشوكاني: ولو سلم العموم في الاَية لكان حديث فاطمة بنت قيس مخصصاً له وبذلك يظهر أن العمل به ليس بترك للكتاب العزيز كما قال عمر رضي الله عنه. فإن قلت إن قوله وسنة نبينا يدل على أنه قد حفظ في ذلك شيئاً من السنة، يخالف قول فاطمة لما تقرر أن قول الصحابي من السنة كذا له حكم الرفع. قلت صرح الأئمة بأنه لم يثبت شيء من السنة يخالف قول فاطمة. وما وقع في بعض الروايات عن عمر أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لها السكنى والنفقة. فقد قال الإمام أحمد لا يصح ذلك عن عمر. وقال الدارقطني السنة بيد فاطمة قطعاً. وأيضاً تلك الرواية عن عمر من طريق إبراهيم النخعي ومولده بعد موت عمر بسنتين. فإن قلت: قال، صاحب العرف الشذي إن النخعي لا يرسل إلا صحيحاً كما في أوائل التمهيد انتهى. قلت قال الحافظ في تهذيب التهذيب: وجماعة من الأئمة صححوا مراسيله. وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود انتهى. "وقال الشافعي إنما جعلنا لها" أي للمطلقة ثلاثاً "السكنى بكتاب الله" قال الله تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يَخْرُجْنَ إلاّ أنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَة} قوله تعالى بتمامه هكذا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا(4/353)
واعْتَلّ بأنِ فَاطِمَةَ بنت قَيْسٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا النبيّ صلى الله عليه وسلم السّكْنَى، لِمَا كانَتْ تَبْذُو عَلَى أهْلِهَا.
قالَ الشّافِعِيّ: ولاَ نفقَةَ لَهَا. لحديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي قِصّةِ حديثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيسٍ.
ـــــــ
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً َإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} الخ والظاهر أن قوله تعالى هذا للمطلقات الرجعية، فاستدلال الشافعي به على أن للمطلقة ثلاثاً السكنى محل نظر فتفكر "قالوا هو. . البذاء أن تبذو على أهلها" قال في القاموس البذي كرضى الرجل الفاحش وهي بالباء وقد بذر بذاء وبذاءة وبذوت عليهم وأبذيتهم من البذاء وهو الكلام القبيح انتهى. وقال في تفسير الخازن قال ابن عباس: الفاحشة المبينة بذاءتها على أهل زوجها. فيحل إخراجها لسوء خلقها. وقيل أراد بالفاحشة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ثم ترد إلى منزلها. ويروى ذلك عن ابن مسعود انتهى.
"واعتل بأن فاطمة ابنة قيس لم يجعل لها النبي صلى الله عليه وسلم السكنى لما كانت تبذو على أهلها" وفي رواية للبخاري وغيره: أن عائشة عابت ذلك أشد العيب وقالت إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الرواية تدل على أن سبب الإذن في انتقال فاطمة أنها كانت في مكان وحش وقد وقع في رواية لأبي داود: إنما كان ذلك من سوء الخلق "قال الشافعي: ولا نفقة لها لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة حديث فاطمة بنت قيس" فمذهب الشافعي أن المطلقة ثلاثاً لها السكنى بكتاب الله تعالى ولا نفقة لها بحديث فاطمة بنت قيس. والكلام في هذه المسألة طويل فعليك بالمطولات(4/354)
باب ماجاء لا طلاق قبل النكاح
...
6 ـ باب مَا جَاءَ لاَطَلاَقَ قَبْلَ النّكاح
1192 ـ حدثنا أحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ. حدثنا هُشَيْمٌ حدثنا عَامِرٌ الأحْوَلُ عنْ عَمْروِ بنِ شُعَيْبٍ، عنْ أبِيهِ، عنْ جَدّهِ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "لا نَذْرَ لاِبنِ آدمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولاَ عِتْقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولاَ طَلاَقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ". وفي البابِ عنْ عَلِي ومُعَاذِ بنِ جَبَلٍ وجَابرٍ وابنِ عَبّاسٍ وعَائِشَةَ. حدِيثُ عَبْدِ الله بنِ عَمْروٍ حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ.. وهُو
ـــــــ
باب مَا جَاءَ لاَطَلاَقَ قَبْلَ النّكاح
قوله: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك" أي لا صحة له فلو قال: لله على أن أعتق هذا العبد. ولم يكن ملكه وقت النذر لم يصح النذر. فلو ملكه بعد هذا لم يعتق عليه. كذا نقل القاري عن بعض العلماء الحنفية "ولا عتق له" أي لابن آدم "ولا طلاق له فيما لا يملك" وزاد أبو داود. ولا بيع إلا فيما لك. قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه ابن ماجة مرفوعاً عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عنه مرفوعاً بلفظ: لا طلاق قبل النكاح وجوبير ضعيف. كذا في نصب الراية. وقال الحافظ في فتح الباري: أخرج البيهقي وأبو داود من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش أنه سمع خاله عبد الله بن أبي أحمد بن جحش يقول، قال علي بن أبي طالب: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق إلا من بعد نكاح ولا يتم بعد احتلام" الحديث لفظ البيهقي. ورواية أبي داود مختصرة وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر عن علي مطولاً. وأخرجه ابن ماجة مختصراً وفي سنده ضعف. "ومعاذ" بن جبل أخرجه الحاكم عن طاوس عن معاذ مرفوعاً وهو منقطع. وله طريق أخرى عند الدارقطني عن سعيد بن المسيب عن معاذ مرفوعاً وهي منقطعة أيضاً، وفيها يزيد بن عياض وهو متروك. وزاد الدارقطني في هذه الطريق: ولو سميت المرأة بعينها. كذا في التلخيص ونصب الراية. "وجابر" أخرجه الحاكم قال الحافظ في التلخيص: وله طرق عنه بينتها في تعليق التعليق. وقد قال الدارقطني: الصحيح مرسل ليس فيه جابر "وابن عباس" أخرجه الحاكم وهو ضعيف. وله طريق أخرى عند الدارقطني وهي أيضاً ضعيفة "وعائشة" أخرجه الدارقطني وهو(4/355)
أحْسَنُ شَيءٍ رُوِيَ فِي هذَا البَابِ. وهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ. رُوِيَ ذلِكَ عنْ عَلِيّ بنِ أبي طَالِبٍ وابنِ عَبّاسٍ وجَابرِ بنِ عَبْدِ الله وسَعِيدِ بنِ الْمُسَيّبِ والحَسَنِ وسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ وعَلِيّ بنِ الْحُسَيْنِ وشُرَيْحٍ وجَابرِ بنِ زَيْدٍ وغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ فُقَهَاءِ التّابِعِينَ
ـــــــ
ضعيف. وفي الباب أيضاً عن ابن عمر عند الحاكم والدارقطني وهو ضعيف وعن المسور بن مخرمة عند ابن ماجة. قوله: "حديث عبد اللهن بن عمرو حديث حسن صحيح وهو أحسن شيء روي في هذا الباب" وأخرجه أبو داود وابن ماجة، وسكت عنه أبو داود. وقال المنذري: وقد روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الترمذي: حديث حسن وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وقال أيضاً سألت محمد بن إسماعيل فقلت أي شيء أصح في الطلاق قبل النكاح؟ فقال حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقال الخطابي: وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره وأجراه على عمومه إذ لا حجة مع من فرق بين حال وحال. والحديث حسن إنتهى كلام المنذري. قوله: "وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم" قال الحافظ في الفتح هذه المسألة من الخلافيات المشهورة وللعلماء فيها مذاهب. الوقوع مطلقاً وعدم الوقوع مطلقاً والتفصيل بين ما إذا عين أو خصص ومنهم من توقف. فقال بعدم الوقوع الجمهور، وهو قول الشافعي وابن مهدي وأحمد وإسحاق وداود وأتباعهم وجمهور أصحاب الحديث، وقال بالوقوع مطلقاً أبو حنيفة وأصحابه، وقال بالتفصيل ربيعة والثوري والليث والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن مسعود وأتباعه ومالك في المشهور عنه، وعنه عدم الوقوع مطلقاً ولو عين. وعن ابن القاسم مثله وعنه أنه توقف وكذا عن الثوري وأبي عبيد وقال جمهور المالكية بالتفصيل فإن سمى امرأة أو طائفة أو قبيلة أو مكاناً أو زماناً يمكن أن يعيش إليه لزمه الطلاق والعتق إنتهى كلام الحافظ. قلت واحتج من قال بعدم الوقوع مطلقاً بأحاديث الباب قال البيهقي بعد أن أخرج كثيراً من الأخبار ثم من الآثار الواردة في عدم الوقوع: هذه الآثار تدل على أن معظم الصحابة والتابعين فهموا من الأخبار أن الطلاق أو العتاق(4/356)
وبِهِ يَقُولُ الشّافِعِيّ. وَرُوِيَ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ أَنّهُ قَالَ في "الَمنْصُوبَةِ" : إنهَا تَطْلُقُ. وقَدْ رُوِي عنْ إبْرَاهيمَ النّخَعِيّ والشّعْبِيّ وغَيْرِهِمَا مِنْ أهْلِ العِلمِ: أنّهُمْ قالُوا: إِذَا وَقّتَ نُزّلَ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ ومَالِكِ بنِ أنَسٍ: أنّهُ إذَا سَمّى امْرَأَةً بِعَيْنهَا أَوْ وَقَتَ وَقْتاً أوْ قالَ: إنْ تَزَوّجْتُ مِنْ كُورَةِ كَذَا، فإنّهُ إنْ تَزَوّجَ فإِنهَا تَطْلُقُ.
ـــــــ
الذي علق قبل النكاح والملك، لا يعمل بعد وقوعهما، وأن تأويل المخالف في حمله عدم الوقوع على ما إذا وقع قبل الملك والوقوع فيما إذا وقع بعده ليس بشيء، لأن كل أحد يعلم بعدم الوقوع قبل وجود عقد النكاح أو الملك، فلا يبقى في الأخبار فائدة. بخلاف ما إذا حملناه على ظاهره فإن فيه فائدة وهو الإعلام بعدم الوقوع، ولو بعد وجود العقد فهذا يرجح ما ذهبنا إليه من حمل الأخبار على ظاهرها إنتهى كلام البيهقي. لو أجاب الحنفية عن أحاديث الباب بأنها محمولة على التنجيز. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أنه قال في رجل قال "كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وكل أمة أشتريها فهي حرة": هو كما قال. فقال له معمر: أو ليس جاء: لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك. قال إنما ذلك أن يقول الرجل امرأة فلان طالق وعبد فلان حر. وفيه ما قال الحافظ من أن ما تأوله الزهري ترده الآثار الصحيحة عن سعيد بن المسيب وغيره من مشائخ الزهري في أنهم أرادوا عدم وقوع الطلاق عمن قال: إن تزوجت فهي طلاق سواء عمم أو خصص أنه لا يقع انتهى. وفيه أيضاً ما قال البيهقي من أن معظم الصحابة والتابعين فهموا من الأخبار أن الطلاق أو العتاق الذي علق قبل النكاح والملك لا يعمل بعد وقوعهما. وفيه أيضاً: لو حمل أحاديث الباب على ا لتنجيز لم يبق فيها فائدة كما قال البيهقي. وللحنفية تمسكات أخر ضعيفة، ذكرها الحافظ في الفتح.
واحتج من قال بالتفصيل بأنه إذا عم سد على نفسه باب النكاح الذي ندب الله إليه. قوله: "وروي عن ابن مسعود أنه قال في المنصوبة: إنها تطلق" وفي بعض النسخ المنسوبة بالسين المهملة "وهو الظاهر، أي المرأة المنسوبة إلى قبيلة أو بلدة والمراد من المنصوبة المعينة "وروي عن إبراهيم النخعي والشعبي وغيرهما من أهل العلم أنهم قالوا: إذا وقت نزل" أي(4/357)
وَأَمّا ابنُ المُبَارَكِ فَشَدّدَ في هذَا البَابِ وقالَ: إنْ فَعَلَ، لاَ أَقُولُ هِيَ حَرَامٌ وذُكِرَ عنْ عَبْدِ الله بنِ الْمُبَارَكِ أنّهُ سُئِلَ عنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطّلاَقِ أنّه لاَ يَتَزَوّجُ ثمّ بَدَا لَهُ أنْ يَتَزَوّجَ. هَلْ لَهُ رُخْضَةٌ بأنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ الْفُقهَاءِ الّذِينَ رَخّصُوا في هذَا؟ فقَالَ عبد الله ابنُ الْمُبَارَكِ: إنْ كانَ يَرَى هذَا الْقوْلَ حَقاً مِنْ قَبْلِ أنْ يُبْتَلى بِهذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَلهُ أنْ يَأْخُذَ بقولهمْ. فَأَمّا مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهذَا، فَلَمّا ابْتُلِيَ أحبّ أنْ يَأْخُذَ بقولهمْ، فَلا أرَى لَهُ ذَلِكَ. وقال أحمد إن تزوج لا آمره أن يفارق امرأته وقالَ إسْحَاقُ: أَنَا أُجِيزُ فِي الْمَنْصُوبَةِ، لِحَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ، وَإِنْ تَزَوّجَهَا لاَ أَقُولُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَوَسّعَ إسْحَاقُ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوبَةِ.
ـــــــ
إذا عين وقتاً بأن يقول إن نكحت اليوم أو غداً مثلاً نزل يعني يقع الطلاق. روى وكيع في مصنفه عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: إن قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق. فليس بشيء وإذا وقت لزمه. وكذلك أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن زكريا بن أبي زائدة وإسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال إذا عمم فليس بشيء. وأخرج ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن منصور عن إبراهيم النخعي قال: إذا وقت وقع وبإسناده: إذا قال كل فليس بشيء. ومن طريق حماد بن أبي سليمان مثل قول إبراهيم وأخرجه من طريق الأسود بن يزيد عن ابن مسعود كذا في فتح الباري قال الحافظ: فابن مسعود أقدم من أفتى بالوقوع وتبعه من أخذ بمذهبه كالنخعي ثم حماد انتهى. "وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس" في المشهور عنه كما عرفت "أنه إذا سمى أمرأة بعينها" مثلاً قال إن تزوجت فلانة فهي طالق "أو وقت وقتاً" أي عين وقتاً من التوقيت بأن قال مثلاً: إن تزوجت اليوم أو غداً فهي طالق "أو قال إن تزوجت من كورة كذا" وقال في القاموس. الكورة بالضم المدينة والصقع ج كور وقال فيه الصقع بالضم الناحية. "وأما ابن المبارك فشدد في هذا الباب" أي في هذه المسألة "وقال إن فعل لا أقول هي حرام" أي إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق ثم تزوجها لا أقول وقع الطلاق وصارت حراماً عليه "وذكر عن عبد الله بن المبارك أنه سأل عن رجل الخ" هذا بيان تشدده "وقال أحمد إن تزوج لا آمره أن يفارق امرأته" قال الحافظ ولشهرة الاختلاف كره أحمد مطلقاً وقال: إن تزوج لا آمره أن يفارق. وكذا قال إسحاق في المعينة انتهى(4/358)
باب ماجاء أن طلاق الأمة تطليقتان
...
7 ـ باب مَا جَاءَ أَنّ طَلاَقَ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَان
1193 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ يَحْيَى النّيْسَابُورِيّ. حدثنا أبُو عَاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ، قالَ حدثني مُظَاهِرُ
بنُ أسْلَمَ. قالَ: حَدّثَنيِ الْقَاسِمُ عنْ عائِشَةَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "طَلاَقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتانِ، وَعِدّتُهَا حَيْضَتَانِ".
ـــــــ
باب مَا جَاءَ أَنّ طَلاَقَ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَان
قوله: "حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري" هو الإمام الذهلي ثقة حافظ جليل "أخبرنا أبو عاصم" النبيل الضحاك بن مخلد ثقة ثبت "عن ابن جريج" إسمه عبد الملك بن عبد العزيز الأموي مولاهم المكي ثقة فقيه فاضل "أخبرنا مظاهر بن أسلم" بضم الميم وفتح الظاء المعجمة وبعد الألف هاء مكسورة وراء مهملة قال في التقريب ضعيف. قوله: "طلاق الأمة" مصدر مضاف إلى مفعوله أي تطليقها تطليقتان "وعدتها حيضتان" قال القاري في المرقاة دل ظاهر الحديث على أن العبرة في العدة بالمرأة، وأن لا عبرة بحرية الزوجة وكونه عبداً كما هو مذهبنا. ودل على أن العدة بالحيض دون الإظهار. وقال المظهر بهذا الحديث قال أبو حنيفة الطلاق يتعلق بالمرأة. فإن كانت أمة يكون طلاقها إثنين سواء كان زوجها حراً أو عبداً. وقال الشافعي ومالك وأحمد: الطلاق يتعلق بالرجل فطلاق العبد إثنان، وطلاق الحر ثلاث، ولا نظر للزوجة. وعدة الأمة على نصف عدة الحرة فيما له نصف، فعدة الحرة ثلاث حيض وعدة الأمة حيضتان لأنه لا نصف للحيض. وإن كانت تعتد بالأشهر فعدة الأمة شهر ونصف وعدة الحرة ثلاثة أشهر انتهى ما في المرقاة. وقال الخطابي في المعالم: اختلف العلماء في هذا فقالت طائفة: الطلاق بالرجال والعدة بالنساء، روي ذلك عن ابن عمر وزيد بن ثابت وابن عباس وإليه ذهب عطاء بن رباح. وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق ثم ذكر الخطابي مذهب أبي حنيفة رحمه الله ثم قال:(4/359)
قالَ مُحَمّدُ بنُ يَحْيَى: حدثنا أبُو عَاصِمٍ. أنبأنا مُظاهِرٌ بِهذَا.
وفي البابِ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ.
حدِيثُ عَائِشَةَ حدِيثٌ غَرِيبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ مَرْفُوعَاً إِلاّ مِنْ حَدِيثِ مُظَاهِرِ بنِ أسْلَمَ. وَمُظَاهِرٌ لا نعْرفُ لَهُ فِي الْعِلْمِ غَيْر هَذَا الحَدِيثِ. وَالَعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وَالشّافِعِيّ وَأحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
ـــــــ
والحديث يعني حديث الباب حجة لأهل العراق، ولكن أهل الحديث ضعفوه ومنهم من تأوله على أن يكون الزوج عبداً. انتهى كلام الخطابي. قلت واحتج أيضاً لأبي حنيفة رحمه الله بما رواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً: طلاق الأمة إثنتان وعدتها حيضتان. وفي إسناده عمرو بن شبيب وعطية العوفي وهما ضعيفان. وقال الدارقطني والبيهقي: الصحيح أنه موقوف. واستدل من قال إن الطلاق بالرجال بحديث ابن مسعود: الطلاق بالرجال والعدة بالنساء. رواه الدارقطني والبيهقي وروياه أيضاً عن ابن عباس نحوه وروى أحمد من حديث علي نحوه وأجيب بأن كل واحد من هذه الروايات موقوفة، واستدلوا أيضاً بما رواه مالك في الموطإ عن سليمان بن يسار أن نفيعاً مكاتباً كان لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أو عبداً كان تحته امرأة حرة فطلقها اثنتين، ثم أراد أن يراجعها فأمره أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي عثمان بن عفان فيسأله عن ذلك، فلقيه عند الدرج آخذاً بيد زيد بن ثابت فسألهما فابتدراه جميعاً فقال: حرمت عليك حرمت عليك. وهذا أيضاً موقوف. وبما رواه مالك أيضاً عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول إذا طلق العبد امرأة تطليقتين فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره حرة كانت أو أمة. وعدة الحرة ثلاث حيض، وعدة الأمة حيضتان. وهذا أيضاً موقوف. قوله: "قال محمد بن يحيى وأخبرنا أبو عاصم أخبرنا مظاهر بهذا" أي بهذا الحديث المذكور يعني قال محمد بن يحيى الذهلي وحدثنا أبو عاصم هذا الحديث عن مظاهر بغير واسطة ابن جريج كما حدثنا عن مظاهر بواسطة ابن جريج وفي سنن ابن ماجة قال أبو عاصم فذكرته لا لمظاهر. فقلت حدثني كما حدثت ابن جريج فأخبرني عن القاسم عن عائشة الخ. قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمر" ، أخرجه ابن ماجة وغيره وقد تقدم. قوله: "حديث عائشة حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث مظاهر بن أسلم ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث" وأخرجه أبو داود وابن ماجه. وقال أبو داود: هو حديث مجهول. قال المنذري وقد ذكر له أبو أحمد بن عدي حديثاً آخر رواه عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر آل عمران كل ليلة. قال ومظاهر هذا مخزومي مكي ضعفه أبو عاصم النبيل وقال يحيى بن معين: ليس بشيء مع أنه لا يعرف. وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث. وقال الخطابي والحديث حجة لأهل العراق إن ثبت. ولكن أهل الحديث ضعفوه. ومنهم من تأوله على أن يكون الزوج عبداً. وقال البيهقي: لو كان ثابتاً قلنا به إلا أنا لا نثبت حديثاً يرويه من يجهل عدالته انتهى كلام المنذري.(4/360)
باب ماجاء فيمن يحدث نفسه بطلاق أمرأته
...
8 ـ باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يُحَدّثُ نَفْسَهُ بِطَلاَقِ امْرَأَتِه
1194 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ. حدثنا أبُو عَوَانَةَ، عنْ قَتَادَةَ، عنْ زُرَارَةَ بنِ أَوْفَى، عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "تَجَاوَزَ الله لأُمّتِي مَا حَدّثَتْ بِه أنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَكلّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ: أَنّ الرّجُلَ إِذَا حَدّثَ نفسَه بِالطّلاَقِ، لَمْ يَكُنْ شَيْئاً حَتّى يَتَكلّمَ بِهِ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يُحَدّثُ نَفْسَهُ بِطَلاَقِ امْرَأَة
قوله: "ما حدثت به أنفسها" بالفتح على المفعولية وذكر المطرزي عن أهل اللغة أنهم يقولونه بالضم يريدون بغير اختيارها. كذا في فتح الباري. "ما لم تكلم به" اي في القوليات "أو تعمل به" اي في العمليات واستدل به على أن من كتب الطلاق طلقت امرأته لأنه عزم بقلبه وعمل بكتابته. وشرط مالك فيه الإشهاد على ذلك. ونقل العيني في عمدة القاري عن المحيط: إذا كتب طلاق أمرأته في كتاب أو لوح أو على حائط أو أرض وكان مستبيناً ونوى به الطلاق يقع. وإن لم يكن مستبيناً أو كتب في الهواء أو الماء لا يقع وإن نوى. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان قوله: "إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئاً" أي لا يقع(4/361)
باب ماجاء في الجد والهزل في الطلاق
...
9 ـ باب مَا جَاءَ فِي الْجِدّ والهَزْلِ فِي الطّلاَق
1195 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا حَاتِمُ بنُ إِسْمَاعِيلَ عنْ عَبْدِ الرّحْمنِ بنِ أدرك عنْ عَطَاءٍ، عنِ ابنِ مَاهَكَ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثٌ جِدُهُنّ جِدّ: وَهزْلُهُنّ جِدّ: النّكَاحُ وَالطّلاَقُ وَالرّجْعَةُ" حاشية في التعريب والخلاصة أردك" .
هذا حديثٌ حسنٌ غَرِيبٌ، والْعَمَلُ عَلى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ: قال أبو عيسى وَعَبْدُ الرّحْمَنِ، هُوَ ابنُ حَبِيبِ بنِ أَدْرَكَ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي الْجِدّ والهَزْلِ فِي الطّلاَق
قوله: "عن عبد الرحمن بن أدرك المدني" قال الجوهري النسبة إلى مدينة يثرب مدني وإلى مدينة منصور مديني للفرق كذا في المغنى لصاحب مجمع البحار "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد" قال القاري في المرقاة الهزل أن يراد بالشيء غير ما وضع له بغير مناسبة بينهما، والجد ما يراد به ما وضع له أو ما صلح له اللفظ مجازاً "النكاح والطلاق والرجعة" بكسر الراء وفتحها ففي القاموس بالكسر والفتح: عود المطلق إلى طليقته انتهى يعنى لو طلق أو نكح أو راجع وقال كنت فيه لاعباً هازلاً لا ينفعه. قال القاضي: اتفق أهل العلم على أن طلاق الهازل يقع فإذا جرى صريح لفظة الطلاق على لسان العاقل البالغ لا ينفعه أن يقول كنت فيه لاعباً أو هازلاً. لأنه لو قبل ذلك منه لتعطلت الأحكام وقال كل مطلق أو ناكح إني كنت في قولي هازلاً فيكون في ذلك إبطال أحكام الله تعالى. فمن تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه وخص هذه الثلاث لتأكيد أمر الفرج. قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود وابن ماجه وأخرجه أيضاً الحاكم وصححه وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك وهو مختلف فيه. قال النسائي منكر الحديث، ووثقه غيره قال الحافظ فهو على هذا حسن. وفي الباب عن فضالة بن عبيد عند الطبراني بلفظ: ثلاث لا يجوز اللعب فيهن، الطلاق، والنكاح، والعتق. وفي إسناده ابن لهيعة. وعن عبادة بن الصامت عند الحرث بن أبي أسامة في مسنده رفعه بلفظ: لا يجوز(4/362)
وابنُ مَاهَكَ، هُوَ عِنْدِي يُوسُفُ بنُ مَاهكَ.
ـــــــ
اللعب فيهن الطلاق والنكاح والعتاق، فمن قالهن فقد وجبن. وإسناده منقطع. وعن أبي ذر عند عبد الرزاق رفعه: من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز، ومن اعتق وهو لاعب فعتقه جائز، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز. وفي إسناده انقطاع أيضاً. وعي على موقوفاً عند عبد الرزاق أيضاً، وعن عمر موقوفاً عنده أيضاً كذا في النيل. قوله: "وابن ماهك هو عندي يوسف بن ماهك" بن بهزاد الفارسي المكي ثقة من الثالثة(4/363)
باب ماجاء في الخلع
...
10 ـ باب مَا جَاءَ فِي الْخُلْع
1196 ـ حدثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ أنبأنا الْفَضْلُ بنُ مُوسَى عنْ سُفْيَانَ. أنبأنا مُحَمّدُ بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَهُوَ مَوْلَى آل طَلْحَةَ عنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ، عنِ الرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذِ بنِ عَفْرَاءَ أَنّهَا اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. فَأَمَرَهَا النبيّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ وفي البابِ عنِ ابنِ عَبّاسٍ. قال أبو عيسى:
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي الْخُلْع
بضم الخاء المعجمة وسكون اللام مأخوذ من خلع الثوب والنعل وغيرهما. وذلك لأن المرأة لباس للرجل كما قال الله تعالى {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} وإنما جاء مصدره بضم الخاء تفرقة بين الإجرام والمعاني يقال خلع ثوبه خلعاً بفتح الخاء، وخلع امرأته خلعاً وخلعة بالضم. وأما حقيقته الشرعية فهو فراق الرجل امرأته على عوض يحصل له. كذا نقل العيني في شرح البخاري عن شرح الترمذي لشيخه زين الدين العراقي
قوله: "حدثنا محمد بن عبد الرحمن وهو مولى ال طلحة" كوفي ثقة من السادسة كذا في التقريب "عن الربيع" بالتصغير والتثقيل "بنت معوذ بن عفراء" بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الواو المشددة وبالذال المعجمة الإنصارية البخارية من صغار الصحابة قوله: "أو أمرت" بصيغة المجهول وكلمة أو للشك من الراوي "إن تعتد بحيضة" استدل به من قال إن عدة المختلعة حيضة. قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه(4/363)
حدِيثُ الرّبَيّع الصّحِيحُ انّها أُمِرَتْ أَنْ تَعْتدّ بِحَيْضَةٍ.
1197 ـ أنبأنا مُحَمّدُ بنُ عَبْدِ الرّحِيمِ الْبَغْدَادِيّ أنبأنا عليّ بنُ بَحْرٍ. حدثنا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ عنْ مَعْمَر عن عَمرِو بنِ مُسْلمٍ، عنْ عِكْرِمَةَ، عنِ ابنِ عَبّاسٍ أَنّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى عَهْدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. فَأَمَرَهَا النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ.
هذا حديثٌ حسنٌ غرِيبٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي عِدّةِ الْمُخْتَلِعَة. فقَالَ أَكْثرُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ: إِنّ
ـــــــ
البخاري وغيره "حديث الربيع بنت معوذ الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة" وأخرجه النسائي وابن ماجة من طريق محمد بن إسحاق قال حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي فذكرت قصة وفيها أن عثمان أمرها أن تعتد بحيضة قالت: وتبع عثمان في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس. كذا في نيل الأوطار.
قوله: "أن امرأة ثابت بن قيس" قال الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي ما محصله إنه اختلفت طرق الحديث في اسم امرأة ثابت بن قيس التي خالعها، ففي أكثر طرقه أن اسمها حبيبة بنت سهل. وقد صح أن اسمها جميلة، وصح أن اسمها مريم، وأما تسميتها زينب فلم يصح. قال: وأصح طرقه حديث حبيبة بنت سهل على أنه يجوز أن يكون الخلع قد تعدد غير مرة من ثابت بن قيس لهذه ولهذه، فإن في بعض طرقه أصدقها حديقة وفي بعضها حديقتين ولا مانع من أن يكون واقعتين فأكثر انتهى. قوله: "فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة" وفي رواية أبي داود: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة. قال الخطابي في المعالم: هذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق. لأن الله تعالى قال {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فلو كانت هذه مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد انتهى. قوله "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري. قوله "فقال أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إن عدة المختلعة كعدة المطلقة" أي ثلاثة قروة بناء(4/364)
باب ماجاء في المختلعات
...
11 ـ باب ما جَاءَ في المختلعَات
1198 ـ حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثنَا مُزَاحِمُ بنُ ذَوّادِ بنِ عُلْبَةَ عنْ أَبِيهِ، عنْ لَيْثٍ، عنْ أبي الْخَطّابِ، عنْ أبي زُرْعَةَ، عنْ أبي إدْرِيسَ،
ـــــــ
على أن الخلع طلاق ليس بفسخ. "وهو قول الثوري وأهل الكوفة وبه يقول أحمد وإسحاق" وهو قول أبي حنيفة "وقال بعض أهل العلم من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: عدة المختلعة حيضة" واحتجوا بحديثي الباب. وفي رواية للنسائي والطبراني من حديث الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس ضرب امرأته الحديث. وفي اخره: خذ الذي لها وخل سبيلها قال نعم فأمرها أن تتربص حيضه وتلحق أهلها واستدل بهذه الروايات على أن الخلع فسخ وليس بطلاق. وقال الحافظ في الفتح: وقد قال الإمام أحمد إن الخلع فسخ وقال في رواية: وإنها لا تحل لغير زوجها حتى يمضي ثلاثة أقراء فلم يكن عنده بين كونه فسخاً وبين النقص من العدة تلازم انتهى. "قال إسحاق وإن ذهب ذاهب إلى هذا فهو مذهب قوى" لثبوت أحاديث الباب.(4/365)
عنْ ثَوْبَانَ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "المُخْتَلِعَاتُ هُنّ الْمُنَافِقَات".
هذا حديثٌ غرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بالْقَوِي.
وَرُوِيَ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قالَ: "أَيّمَا امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ غَيرِ بَأْسٍ، لَمْ تَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنّةِ".
ـــــــ
زنيم صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك من السادسة "عن أبي الخطاب" . قال في التقريب: أبو الخطاب شيخ البيت بن أبي سليم مجهول انتهى. "عن أبي زرعة" . قال في التقريب: أبو زرعة عن أبي إدريس الخولاني قيل هو ابن عمرو ابن جرير وإلا فهو مجهول انتهى. وقال في الخلاصة: أبو زرعة عن أبي ادريس وعنه أبو الخطاب لعله يحيى أبي عمرو السبياني "عن أبي إدريس اسمه عائذ الله بن عبد الله الخولاني، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وسمع من كبار الصحابة" ومات سنة ثمانين. قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء. قوله: "المختلعات" بكسر اللام أي اللاتي يطلبن الخلع والطلاق عن أزواجهن من غير بأس "هن المنافقات" أي العاصيات باطناً والمطيعات ظاهراً. قال الطيبي مبالغة في الزجر. قوله: "هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي" لأن في بعض رجاله جهالة، وفي بعضهم ضعفاً كما عرفت. وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعاً: المنتزعات والمختلعات هن المنافقات. أخرجه أحمد والنسائي من طريق أيوب عن الحسن عن أبي هريرة، قال الحافظ في الفتح: وفي صحته نظر لأن الحسن عند الأكثر لم يسمع من أبي هريرة. لكن وقع في رواية النسائي: قال الحسن لم أسمع من أبي هريرة غير هذا الحديث. وقد تأوله بعضهم على أنه أراد لم يسمع هذا إلا من حديث أبي هريرة وهو تكلف، وما المانع أن يكون سمع هذا منه فقط وصار يرسل عنه غير ذلك. فتكون قصته في ذلك كقصته مع سمرة في حديث العقيقة. انتهى كلام الحافظ. وفي الباب أيضاً عن ابن مسعود مرفوعاً: المختلعات والمتبرجات هن المنافقات. أخرجه أبو نعيم في الحلية. قوله: "من غير بأس" أي من غير شدة تلجئها إلى سؤال المفارقة "لم ترح رائحة الجنة" أي لم تشمها قال الجزري في النهاية في حديث: من قتل نفساً معاهدة لم يرح رائحة الجنة. أي لم يشم ريحها يقال راح يريح وراح يراح وأراح يريح إذا وجد رائحة(4/366)
1199 ـ أنبأنا بِذَلكَ بندار أنبأنا عَبْدُ الوَهّابِ أنبأنا أَيّوبُ، عنْ أبي قِلاَبَةَ، عَمّنْ حَدّثَهُ، عنْ ثَوْبَانَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "أيّمَا امْرَأةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاَقاً مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ، فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنّة". هذا حديثٌ حسنٌ. ويُرْوَى هَذَا الحَدِيثُ عنْ أيوبَ، عنْ أبي قِلاَبَةَ، عنْ أبي أسْمَاءَ، عنْ ثَوْبَانَ. وَرَوَاه بَعْضُهُمْ، عنْ أيّوبَ بِهَذَا الإسْنَادِ ولَمْ يَرْفَعْهُ.
ـــــــ
الشيء. والثلاثة قد روى بها الحديث انتهى. قوله: "فحرام عليها رائحة الجنة" أي ممنوع عنها وذلك على نهج الوعيد والمبالغة في التهديد، أو وقوع ذلك متعلق بوقت دون وقت. أي لا تجد رائحة الجنة أول ما وجدها المحسنون. أو لا تجد أصلاً، وهذا من المبالغة في التهديد. ونظير ذلك كثير قاله القاضي. قال القاري: ولا بدع أنها تحرم لذة الرائحة ولو دخلت الجنة. قوله: "وهذا حديث حسن" وأخرجه أبو داود وابن ماجه قال الحافظ في الفتح: رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان انتهى. قوله: "ويروي هذا الحديث عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان" كذلك رواه أبو دواد وابن ماجه.(4/367)
باب ماجاء في مدارات النساء
...
12 ـ باب مَا جَاءَ في مُدَاراةِ النّسَاء
1200 ـ حدثنا عَبْدُ الله بنُ أبي زِيَادٍ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ سَعْدٍ. حَدّثَنَا ابنُ أَخِي ابنِ شهَابٍ عنْ عَمّهِ، عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إنّ الْمَرْأةَ كالضّلَعِ إنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُها كَسَرْتَهَا. وَإنْ تَرَكْتَهَا اسْتَمْتَعْتَ بهَا عَلَى عِوَجٍ".
ـــــــ
باب ما جاء في مداراة النساء
داراه مداراة لاطفه. قوله: "إن المرأة كالضلع" قال في القاموس الضلع كعنب وجذع معروف مؤنثة انتهى، وهو عظم الجنب وهو معوج يعني أن النساء في خلقهن أعوجاج في الأصل فلا يستطيع أحد أن يغيرهن عما جبلن عليه وفي رواية مسلم: إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم على طريقة. "إن ذهبت تقيمها" أي تردها إلى إقامة الاستقامة وبالغت فيها ما سامحتها في أمورها،(4/367)
قال وفي البابِ عَنْ أبِي ذَرٍ وسَمُرَةَ وعَائشَةَ. حَديثُ أبِي هُرَيْرَةَ حدِيثٌ حسن صحيحٌ، غريبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وإِسناده جيد.
ـــــــ
وما تغافلت عن بعض أفعالها. قاله القاري "كسرتها" كما هو مشاهد في المعوج الشديد اليابس في الحس. زاد في رواية مسلم: وكسرها وطلاقها "استمتعت بها على عوج" بكسر العين ويفتح أي مع عوج لا انفكاك لها عنه. وفي رواية مسلم: فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج قوله: "وفي الباب عن أبي ذر وسمرة وعائشة" أما حديث أبي ذر وسمرة فلينظر من أخرجه وأما حديث عائشة رضي الله عنها في هذا الباب فمخرج في الكتب الستة وغيرها. قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(4/368)
باب ماجاء في الرجل يسأله أبوه أن يطلق امرأته
...
13 ـ باب مَا جَاءَ في الرّجُلِ يَسْأَلُهُ أَبُوهُ أنْ يُطَلّقَ ارأته
1201 ـ حدثنا أَحْمَدُ بنُ محَمّدٍ. أنبأنا ابنُ المُبَارَكِ. أنبأنا ابنُ أَبي ذِئْبٍ عنِ الْحَارِثِ بن عَبْدِ
الرّحْمَنِ، عنْ حَمْزَةَ بنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ، عنِ ابنِ عُمَرَ: قالَ: كانَتْ تَحْتِي امْرأَةٌ أُحِبّهَا. وكانَ أبي يَكْرَهُهَا. فَأَمَرَنِي أبي أنْ أُطَلّقَها فَأَبَيْتُ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ "يَا عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ طَلّقِ امْرَأَتَكَ".
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، إنّمَا نَعْرِفهُ مِنْ حدِيثِ ابنِ أبي ذِئْبٍ.
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في الرّجُلِ يَسْأَلُهُ أَبُوهُ أنْ يُطَلّقَ امرأته
قوله: "طلق امرأتك" فيه دليل صريح يقتضي أنه يجب على الرجل إذا أمره أبوه بطلاق زوجته أن يطلقها، وإن كان يحبها فليس ذلك عذراً له في الإمساك، ويلحق بالأب الأم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن لها من الحق على الولد ما يزيد على حق الأب. كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك". قلت ثم من؟ قال: "أمك". قلت ثم من؟ قال "أمك". قال ثم من؟ قال "أباك". الحديث. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره(4/368)
باب ماجاء لا تسأل المرأة طلاق أختها
...
14 ـ باب ما جَاءَ لاَ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلاَق أُخْتِهَا
1202 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنِ الزّهْرِيّ، عنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيّبِ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لاَ تَسْأَلْ المَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا، لِتَكْفِئَ مَا في إنَائِهَا". وفي البابِ عنْ أُمّ سَلَمةَ. حدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ، حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ لاَ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلاَق أُخْتِهَا
قوله: "لا تسأل المرأة طلاق أختها" الظاهر أن المراد بالأخت الأخت في الدين. يوضح هذا ما رواه ابن حبان من طريق أبي كثير عن أبي هريرة يلفظ: لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإن المسلمة أخت المسلمة "لتكفي ما في إنائها" أي لتقلب ما في إنائها قال في النهاية يقال كفأت الإناء وأكفأته إذا كببته وإذا أملته. وهذا تمثيل لإمالة الضرة حق صاحبتها من زوجها إلى نفسها إذا سألت علاقها انتهى. وفي رواية للبخاري: لتستفرغ صحيفتها فإنما لها ما قدر لها. قال النووي: معنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلاً طلاق زوجته ليطلقها ويتزوج بها انتهى. وحمل ابن عبد البر الأخت هنا على الضرة فقال فيه من الفقه إنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق صرتها لتنفرد به انتهى قال الحافظ: وهذا يمكن في الرواية التي وقعت بلفظ: لا تسأل المرأة طلاق أختها. وأما الرواية التي فيها لفظ الشرط "يعني بلفظ لا يصلح لامرأة أن تشترط طلاق أختها لتكفئ إناءها" فظاهر أنها في الأجنبية. ويؤيده قوله فيها ولتنكح أي ولتنزوج الزوج المذكور من غير أن تشترط أن يطلق التي قبلها انتهى. قوله: "وفي الباب عن أم سلمة" لينظر من أخرجه. قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم(4/369)
باب ماجاء في طلاق المعتوه
...
15 ـ باب مَا جَاءَ في طَلاَقِ المعْتُوه
1203 ـ حدثنا مُحَمّدُ بنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصنعاني أنبأنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في طَلاَقِ المعْتُوه
قال الحافظ في الفتح: المعتوه بفتح الميم وسكون المهملة وضم المثناة وسكون(4/369)
الْفَزَارِيّ، عنْ عَطَاءِ بنِ عَجْلاَنَ، عنْ عِكْرِمَةَ بنِ خَالِدٍ المَخْزُومِيّ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "كُلّ طَلاقٍ جَائِزٌ، إلاّ طَلاقَ الْمَعْتُوهِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ". هذا حديثٌ لاَ نَعْرِفُهُ مَرْفُوعاً إلاّ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بنِ عَجْلاَنَ. وعَطَاءُ بنُ عَجْلاَنَ ضَعِيفٌ، ذاهِبُ الْحَدِيثِ. والعَمَلُ عَلَى هذَا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهم أَنّ طَلاَقَ الْمَعْتُوهِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ لاَ يَجُوزُ، إلاّ أَنْ يَكُونَ مَعْتُوهاً، يُفِيقُ الأحْيَانَ، فَيُطَلّقُ فِي حَال إفَاقَتِهِ.
ـــــــ
الواو بعدها هاء، الناقص العقل فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران. والجمهور على عدم اعتبار ما يصدر منه انتهى. قوله: "وكل طلاق جائز" أي واقع "إلا طلاق المعتوه" قال في القاموس عته كعني عتها وعتها وعتاها فهو معتوه نقص عقله أو فقد أو دهش انتهى. وقال الجزري في النهاية المعتوه هو المجنون المصاب بعقله وقد عته فهو معتوه انتهى "المغلوب على عقله" تفسير المعتوه وأورد صاحب المشكلة هذا الحديث بلفظ: والمعتوه قال القاري: كأنه عطف تفسيري ويؤيده رواية المغلوب بلا واو. "هذا حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء بن عجلان وعطاء بن عجلان ضعيف ذاهب الحديث" أي غير حافظ له قال الحافظ زين الدين العراقي هذا حديث أبي هريرة انفرد بإخراجه الترمذي وعطاء بن عجلان ليس له عند الترمذي إلا هذا الحديث الواحد، وليس له في بقية الكتب الستة شيء وهو حنفي بصري يكنى أبا محمد ويعرف بالعطار، اتفقوا على ضعفه. قال ابن معين والفلاس: كذاب. وقال أبو حاتم: والبخاري منكر الحديث. زاد أبو حاتم: جداً. وهو متروك الحديث انتهى. اعلم أن هذا الحديث بهذا اللفظ قد روى عن علي بسند صحيح موقوفاً عليه، قال البخاري في صحيحه: وقال علي رضي الله عنه: وكل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه. قال العيني ذكره بصيغة الجزم لأنه ثابت، ووصله البغوي في الجعديات انتهى. قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن طلاق المعتوه المغلوب على عقله لا يجوز الخ" قال الحافظ في الفتح: وفيه خلاف قديم ذكر ابن أبي شيبة من طريق نافع أن المحير بن عبد الرحمن طلق امرأته وكان معتوهاً فأمرها(4/370)
ـــــــ
ابن عمر بالعدة. فقيل له: إنه معتوه. فقال: إني لم اسمع الله استثنى للمعتوه طلاقاً ولا غيره. وذكر ابن أبي شيبة عن الشعبي وإبراهيم وغير واحد مثل قول علي انتهى. قال في المرقاة: قال زين العرب: والمغلوب على عقله يعم السكران من غير تعد والمجنون والنائم، والمريض الزائل عقله بالمرض، والمغمى عليه، فإنهم كلهم لا يقع طلاقهم. وكذا الصبي. وفي الهداية: ولا يقع طلاق الصبي وإن كان يعقل، والمجنون والنائم. والمعتوه كالمجنون. قال ابن الهمام: قيل هو قليل الفهم المختلط الكلام الفاسد التدبير لكن لا يضرب ولا يشتم بخلاف المجنون. وقيل العاقل من يستقيم كلامه وأفعاله إلا نادراً والمجنون ضده، والمعتوه من يكون ذلك منه على السواء. وهذا يؤدي إلى أن لا يحكم بالعته على أحد والأول أولى وما قيل من يكون كل من الأمرين منه غالباً معناه يكثر منه. وقيل من يفعل فعل المجانين عن قصده مع ظهور الفساد، والمجنون بلا قصد، والعاقل خلافهما وقد يفعل فعل المجانين على ظن الصلاح أحياناً، والمبرسم والمغمى عليه والمدهوش كذلك. وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون انتهى ما في المرقاة. وقال الحافظ في الفتح وذهب إلى عدم وقوع طلاق السكران أيضاً أبو الشعثاء وعطاء وطاوس وعكرمة والقاسم وعمر بن عبد العزيز. ذكره ابن أبي شيبة عنهم بأسانيد صحيحة، وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزني، واختاره الطحاوي واحتج بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع. قال والسكران معتوه بسكره، وقال بوقوعه طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهري والشعبي. وبه قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة. وعن الشافعي قولان المصحح منهما وقوعه. والخلاف عند الحنابلة والترجيح بالعكس. وقال ابن المرابط إذا تيقنا ذهاب عقل السكران لم يلزمه طلاق، وإلا لزمه. وقد جعل الله حد السكر الذي تبطل به الصلاة أن لا يعلم ما يقول. وهذا التفصيل لا يأباه من يقول بعدم وقوع طلاقه وإنما استدل من قال بوقوعه مطلقاً بأنه عاص بفعله لم يزل عنه الخطاب بذلك ولا الإثم، لأنه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر أو فيه. وأجاب الطحاوي بأنه لا تختلف أحكام فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره إذ لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو بسبب من قبل نفسه، كمن كسر رجل نفسه فإنه يسقط عنه فرض القيام وتعقب بأن القيام انتقل إلى بدل وهو القعود فافترقا. وأجاب ابن المنذر عن الاحتجاج بقضاء الصلوات بأن النائم لم يجب عليه قضاء الصلاة ولا يقع طلاقه فافترقا انتهى كلام الحافظ.(4/371)
16 ـ باب
1204 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ. حَدّثَنَا يَعْلَى بنُ شَبِيبٍ عنْ هِشَامٍ بن عُرْوَةَ، عنْ أَبِيهِ، عنْ عَائِشَةَ، قالَتْ: كَانَ النّاسُ، وَالرّجُلُ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ أنْ يُطَلّقَهَا. وَهِيَ امْرَأَتُهُ إِذَا ارْتَجَعَهَا وَهِيَ فِي الْعِدّةِ. وإنْ طَلّقَها مَائةَ مَرّةٍ أوْ أَكثَرَ. حَتَى قالَ رَجُلٌ لاِمْرَأَتِهِ والله لاَ أُطَلّقُكِ فَتَبين مِنّي، ولاَ آوِيكِ أبَداً. قالَتْ: وكَيْفَ ذَاكَ؟ قالَ: أُطَلّقُكِ. فَكُلّمَا هَمّتْ عِدّتُكِ أَنْ تَنْقَضِيَ، رَاجَعْتُكِ. فَذَهَبَتْ الْمَرأَةُ حَتّى دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا. فَسَكَتَتْ عَائِشَةُ حَتّى جَاءَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرتْهُ فَسَكَتَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، حَتّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: {الطّلاَقُ مَرّتَانِ
ـــــــ
باب
قوله: "حدثنا يعلي بن شبيب" المكي مولى ال الزبير لين الحديث من الثامنة كذا في التقريب. وقال في الخلاصة وثقه ابن حبان. ونقل عن هامش الخلاصة عن التهذيب ووثقة النسائي وأبو زرعة قوله: "كان الناس" أي في الجاهلية "وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر" الواو في قوله وإن طلقها وصلية، والمعنى كان له الرجعة ما دامت في العدة. وإن طلقها مائة مرة أو أكثر "ولا أؤويك" من الإيواء أي لا أسكنك في منزلي قال في مجمع البحار أراد الرجعة انتهى. قال في القاموس: أويت منزلي وإليه أويا بالضم ويكسر وأويت تأية وتأويت وأتويت وئتويت نزلته بنفسي أسكنته واويته وأويته أنزلته انتهى "فكلما همت عدتك أن تنقضي" الهم القصد أي فكلما أرادت وقصدت عدتك الانقضاء والمعنى كلما قرب كان انقضاء عدتك "الطلاق مرتان" قال الخازن في تفسيره معنى الاَية: أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثالثة إلا أن تنكح(4/372)
فإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ} قالَتْ عَائِشَة: فاسْتَأْنَفَ النّاسُ الطّلاَقَ مُسْتَقْبَلاً، مَنْ كَانَ طَلّقَ ومَنْ لَمْ يَكُنْ طَلّقَ.
1205 ـ حدثنا أبُو كُريْبٍ حَدّثَنَا عَبْدُ الله بنُ إِدْرِيسَ، عنْ هِشَام بنِ عُرْوَةَ، عنْ أبِيهِ، نَحْوَ هذَا الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ. ولَمْ يَذْكُرْ فِيهِ "عنْ عَائِشَةَ" . وَهذَا أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بنِ شَبِيبٍ.
ـــــــ
زوجاً اخر. وهذا التفسير هو قول من جوز الجمع بين الطلاق الثلاث في دفعة واحدة وهو الشافعي. وقيل معنى الاَية أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، وهذا التفسير هو قول من قال إن الجمع بين الثلاثة حرام، إلا أن أبا حنيفة رح قال يقع الثلاث وإن كان حراماً "فإمساك بمعروف" يعني بعد الرجعة، وذلك أنه إذا راجعها بعد التطليقة الثانية فعليه أن يمسكها بالمعروف، وهو كل ما عرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة "أو تسريح بإحسان" يعني أنه يتركها بعد الطلاق حتى تنقضي عدتها من غيره مضارة وقيل هو أنه إذا طلقها أدى إليها جميع حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها كذا في تفسير الخازن "فاستأنف الناس الطلاق مستقبلاً من كان طلق ومن لم يكن طلق" وفي رواية عن عروة: فاستقبل الناس الطلاق جديداً من ذلك اليوم من كان طلق أو لم يطلق. قوله: "وهذا أصح من حديث يعلي بن شبيب" يعني حديث عبد الله ابن إدريس اصح من حديث يعلى بن شبيب المذكور قبله، فإن عبد الله بن إدريس أوثق من يعلي بن شبيب.(4/373)
17 ـ باب مَا جَاءَ فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَضَع
1206 ـ حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ. حَدّثَنَا حُسَيْنُ بنُ مُحَمّدٍ. حَدّثَنَا شَيْبَانُ عنْ مَنْصُورٍ، عنْ إبْرَاهِيمَ، عنِ الأسْوَدِ، عنْ أبي السّنَابِلِ
ـــــــ
باب ما جاء في الحامل المتوفي عنها زوجها تضع
المقصود أن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها وضع الحمل قوله: "عن أبي السنابل" بفتح المهملة وخفة النون وكسر الموحدة وباللام صحابي مشهور، واختلف في(4/373)
بن بَعْكَكٍ قالَ: وَضَعَتْ سُبَيْعَةُ بَعْدَط وَفَاةِ زَوْجهَا بِثَلاثَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْماً، أوْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْماً. فَلَمّا تَعَلّتْ تَشَوّفَتْ لِلنّكَاحِ. فَأُنْكِرَ عَلَيْهَا. فَذُكِرَ ذلِكَ لِلنّبيّ صلى الله عليه وسلم. فقَالَ "إنْ تَفْعَلْ فَقَدْ حَلّ أَجَلُهَا".
1207 ـ حدثنا أحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ. حَدّثَنَا الْحَسَنُ بنُ مُوسَى. حَدّثَنَا شَيْبَانُ عنْ مَنْصُورٍ نَحْوَهُ.
قال وفي البابِ عنْ أُمّ سَلَمةَ. حَدِيثُ أبِي السّنَابِلِ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ مِنْ هذَا الْوَجْهِ. وَلاَ نَعْرِفُ لْلأَسْوَدِ سماعاً من أَبي السّنَابِلِ. وَسَمِعْتُ مُحَمّداً يَقُولُ: لاَ أَعْرِفُ أَنّ أَبَا السّنَابِلِ عَاشَ بَعْدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
اسمه فقيل عمرو وقيل عامر وقيل حبة وقيل غير ذلك "بن بعكك" بفتح الموحدة وسكون العين وفتح الكاف الأولى "وضعت سبيعة" بضم السين المهملة وفتح الموحدة مصغراً وهي بنت الحارث لها صحبة وذكرها ابن سعد في المهاجرات "بعد وفاة زوجها" اسمه سعد بن خولة "بثلاثة وعشرين يوماً أو خمسة وعشرين يوماً" شك من الراوي "فلم تعلت" أي طهرت من النفاس "تشوفت للنكاح" أي تزينت للخطاب تشوف للشيء أي طمح بصره إليه "فقال إن تفعل" أي سبيعة ما ذكر من التشوف للنكاح "فقد حل أجلها" فيه دليل على أن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها وضع الحمل قوله: "وفي الباب عن أم سلمة" أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأخرجه الترمذي في هذا الباب. قوله: "لا نعرف للأسوف شيئاً عن أبي السنابل" قال الحافظ في الفتح الأسود من كبار التابعين من أصحاب ابن مسعود ولم يوصف بالتدليس فالحديث صحيح على شرط مسلم، لكن البخاري على قاعدته في اشتراط ثبوت اللقاء ولو مرة فلهذا قال ما نقله الترمذي "وسمعت محمداً يقول: لا أعرف أن أبا السنابل عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم" لكن جزم ابن سعد أنه بقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمناً، ويؤيد كونه عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم قول ابن البرقي أن أبا السنابل تزوج سبيعة بعد ذلك وأولدها سنابل ابن أبي السنابل. ومقتضى ذلك أن يكون أبو السنابل عاش بعد النبي صلى الله(4/374)
والعَمَلُ عَلَى هذا عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهْم أَنّ الْحَامِلَ الْمُتَوَفّي عَنْهَا زَوْجُهَا، إذَا وَضَعَتْ فَقَدْ حَلّ التّزْوِيجُ لَهَا، وإنْ لَمْ تَكُنِ انْقَضَتْ عِدّتُهَا.
وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ والشّافِعِيّ وأحْمَدَ وإسْحَاقَ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ. تَعْتَدّ آخِرَ الأَجَلَيْنِ. والْقَوْلُ الأوّلُ أصَحّ.
1208 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ. حَدّثَنَا اللّيْثُ عنْ يَحْيَىَ بنِ سَعِيدٍ، عنْ سُلَيمَانَ بنِ يَسَارٍ أنّ أبَا هُرَيْرَةَ وابنَ عَبّاسٍ وَأَبَا سَلَمةَ بنَ عَبْد الرّحْمنِ تَذَاكَرُوا الْمُتَوَفّي عَنْهَا زَوْجُهَا، الْحَامِلَ تَضَعُ عِنْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا. فقَالَ ابن عَبّاسٍ: تَعْتَدّ آخِرَ الأجَلَيْنِ. وقالَ أَبُو سَلَمةَ: بَلْ تَحِلّ حِينَ تَضَعُ. وقالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابنِ أَخِي. يَعْنِي أَبَا سَلَمةَ.
ـــــــ
عليه وسلم لأنه وقع في رواية عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة أنها تزوجت الشاب. وكذا في رواية داود بن أبي عاصم أنها تزوجت فتى من قومها وقصتها كانت بعد حجة الوداع فيحتاج أن كان الشاب دخل عليها ثم طلقها إلى زمان عدة منه ثم إلى زمان الحمل حتى تضع وتلد سنابل حتى صار أبوه يكنى به أبا السنابل قاله الحافظ. قوله: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم الخ" قال الحافظ وقد قال جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار: إن الحامل إذا مات عنها زوجها تحل بوضع الحمل وتنقضي عدة الوفاة انتهى. وهو الحق لأحاديث الباب "وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم تعتد اخر الأجلين" أي كن وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر تربصت إلى انقضائها، ولا تحل بمجرد الوضع وإن انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع. وبه قال علي رضي الله عنه أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد عنه بسند صحيح. وبه قال ابن عباس ويقال إنه رجع عنه، ويقويه أن المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة في ذلك "والقول الأول أصح" لحديث سبيعة المذكور في الباب ولعله لم يبلغ من خالف هذا القول والله(4/375)
فَأَرْسَلُوا إِلَى أُمّ سَلَمةَ، زَوْجِ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ: قَدْ وَضَعَتْ سُبَيْعَةُ الأسْلَمِيّةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بيَسِيرٍ. فَاسْتفْتَتْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوّجَ. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
تعالى أعلم. قوله "بعد وفاة زوجها" اسمه سعد بن خولة "بيسير" جاء فيه روايات مختلفة قال الحافظ: والجمع بين هذه الروايات متعذر لاتحاد القصة. قال وأقر ما قيل في هذه الروايات نصف شهر. قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.(4/376)
باب ماجاء في عدة المتوفي عنها زوجها
...
18 ـ باب مَا جَاءَ فِي عِدّةِ الْمُتوَفّي عَنْهَا زَوْجُهَا
1209 ـ حدثنا الأَنْصَارِيّ. حَدّثَنَا مَعْنُ بنُ عِيسى أنبأنا مَالِكُ بنُ أنَسٍ، عنْ عَبْدِ الله بنِ أبي بَكْرٍ بنِ مُحَمّدِ بنِ عَمْروِ بنِ حَزْمٍ، عنْ حُمَيْدِ بنِ نَافِعٍ، عنْ زَيْنَب بِنْتِ أبي سَلمَةَ، أنّهَا أخْبَرَتُهُ بِهذِهِ الأحَادِيث الثّلاَثَةِ:
1210 ـ قَالَتْ زَيْنَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النبيّ صلى الله عليه وسلم حين تُوُفّيَ أَبُوهَا، أَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ. فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةُ خَلُوقِ أَوْ غَيْرُهُ، فَدَهَنَتْ بِهِ جَارِيَةً. ثُمّ مَسّتْ بِعَارِضَيْهَا. ثمّ قالَتْ: وَالله مَالِي بِالطيّبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أنّي سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "لاَ يَحِلّ لإِمْرَأةٍ تُؤْمِنُ بالله والْيَوْمِ الاَخِرِ،
ـــــــ
باب مَا جَاءَ فِي عِدّةِ الْمُتوَفّي عَنْهَا زَوْجُهَا
قوله "عن زينب بنت أبي سلمة" هي بنت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم "أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة" أى التي ذكرتها بعد وهي عن أم حبيبة وعن زينب بنت جحش وعن أم سلمة "فيه صفرة خلوق" بفتح الخاء المعجمة مركب من الزعفران وغيره وتغلب عليه الصفرة والحمرة "أو غيره" الظاهر أنه عطف على خلوق "مالي بالطيب من حاجة" إشارة إلى أن آثار الحزن باقية عنده لكن لم يسعها ألا امتثال الأمر(4/376)
أنْ تُحِدّ عَلَى مَيّتٍ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيامٍ. إلاّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً".
1211 ـ قَالَتْ زَيْنَبُ: فَدَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي فِي الطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"
1212 ـ قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعْتُ أُمِّي، أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا. وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا. أَفَنَكْحَلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا" مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ "لَا"
ـــــــ
"أن تحد بضم" فوقية وكسر الحاء المهملة من الإحداد . قال في النهاية أحدت المرأة على زوجها تحد فهي محدة وحدت تحد فهي حادة إذا حزنت عليه ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة وفي المشارق لعياض هو بضم التاء وكسر الحاء وفتحها مع ضم الحاء ويقال حدت وأحدت حدادا وإحداد إذا امتنعت عن الزينة والطيب وأصله المنع فالمعنى أن تمنع نفسها من الزينة وتترك الطيب "على الميت" أي من ولد أو والد أو غيرهما "فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" قال النووي جعلت أربعة أشهر لأن فيها ينفخ الروح في الولد وعشر للاحتياط انتهى "وقد اشتكت عينيها" وفي المشكاة وقد اشتكت عينها - قال القاري بالرفع وفي نسخة بالنصب قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: هو برفع النون . ووقع في بعض الأصول عيناها بالألف . قال الزركشي في التنقيح ويجوز ضم النون على أنها هي المشتكيه وفتحها فيكون في اشتكت ضمير الفاعل وهي المرأة الحادة وقد رجح الأول بما وقع في رواية عيناها انتهى كلام القاري . قلت: وقد رجح الثاني رواية الترمذي هذه بلفظ وقد اشتكت عينيها "أفتنكحلها" بالنون الحاء وفتحها من باب نصر ومنع والضمير البارز إلى الابنة "لا مرتين أو ثلاث مرات" شك من الراوي "كل ذلك" قال القاري بالنصب وفي نسخة بالرفع "يقول لا" قال ابن الملك فيه حجة لأحمد على أنه لا يجوز الاكتحال بالإثمد(4/377)
ثُمَّ قَالَ "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ" .
وَفِي الْبَاب عَنْ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ . حَدِيثُ زَيْنَبَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، تَتَّقِي فِي عِدَّتِهَا الطِّيبَ وَالزِّينَةَ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ
ـــــــ
للمتوفي عنها زوجها لا في رمد ولا في غيره وعندنا وعند مالك يجوز الاكتحال به في الرمد . وقال الشافعي: تكتحل للرمد ليلا وتمسحه نهارا انتهى . "إنما هي" أي عدتكن في الدين الآن "أربعة أشهر وعشرا" بالنصب على حكاية لفظ القرآن وفي المشكاة عشر بالرفع . قال القاري: كذا في النسخ الحاضرة والأصول المصححة المعتمدة بالرفع عطفا على أربعة "ترمي بالبعرة" بسكون العين وفتحها وهي روث البعير. قال في القاموس: البعر ويحرك واحدته بهاء "على رأس الحول" أي في أول السنة قال القاضي كان من عادتهم في الجاهلية أن المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت بيتا ضيقا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا فيه زينة حتى تمر بها سنة . ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتكسر بها ما كانت فيه من العدة بأن تمسح بها قبلها ثم تخرج من البيت فتعطى بعرة فترمي بها وتنقطع بذلك عدتها فأشار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أن ما شرع في الإسلام للمتوفي عنها زوجها من التربص أربعة أشهر وعشرا في مسكنها وترك التزين والتطيب في تلك المدة يسير في جنب ما تكابده في الجاهلية انتهى . قوله حديث زينب حديث حسن صحيح وأخرجه الشيخان قوله "والعمل على هذا عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم الطيب والزينة الخ" وقد تقدم اختلاف أهل العلم في الاكتحال للمتوفي عنها زوجها، وحديث الباب يدل على تحريم الاكتحال لها سواء احتاجت إلى ذلك أم لا ، وجاء في حديث أم سلمة في الموطأ وغيره: اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار . ولفظ أبي داود: فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار قال في الفتح وجه الجمع بينهما أنها إذا لم تحتج إليه لا يحل وإذا احتاجت لم يجز بالنهار ويجوز بالليل مع أن الأولى تركه فإذا فعلت مستحه بالنهار انتهى.(4/378)
باب ماجاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر
...
19 ـ باب ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر
1213 ـ حدثنا أبُو سَعِيدٍ الأشَجّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الله بنُ إدْرِيسَ عنْ مُحَمّدِ بنِ إسْحَاقَ، عنْ مُحَمّدِ بنِ عَمْروِ بنِ عَطَاءٍ، عنْ سُلَيمَانَ بنِ يَسَارٍ، عنْ سَلَمةَ بنِ صَخْر الْبَيَاضِيّ، عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم في المُظَاهِرِ يُوَاقِعُ قَبْلَ أنْ يُكَفّرَ، قالَ "كَفّارَةٌ وَاحِدَةٌ". هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، والعَملُ عَلَى هذَا عِنْدَ أكْثرِ أهْلِ العِلمِ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ ومَالِكٍ والشّافِعِيّ وأحْمَدَ وإسْحَاقَ.
ـــــــ
باب ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر
المظاهر اسم فاعل من الظهار بكسر المعجمة وهو قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي . وإنما خص الظهر بذلك دون سائر الأعضاء لأنه محل الركوب غالبا ولذلك سمى الركوب ظهرا فشبهت الزوجة بذلك لأنها مركوب الرجل . فلو أضاف لغير الظهر كالبطن مثلا كان ظهارا على الأظهر عند الشافعية واختلف فيما إذا لم يعين الأم كأن قال كظهر أختي مثلا . فعن الشافعي في القديم لا يكون ظهارا بل يختص بالأم كما في ورد في القرآن . وكذا في حديث خولة التي ظاهر منها أوس ، وقال في الجديد: يكون ظهارا وهو قول الجمهور . وكذا في فتح الباري . ومذهب الحنفية ما ذكره صاحب شرح الوقاية بقوله هو تشبيه زوجته أو ما يعبر به عنها أو جزء شائع منها بعضو يحرم نظره إليه من أعضاء محارمه نسبا أو رضاعا كانت علي كظهر أمي ، أو رأسك أو نحوه أو نصفك كظهر أمي أو كبطنها أو كفخذها أو كفرجها أو كظهر أختي أو عمتي ويصير به مظاهرا ويحرم وطؤها ودواعيه حتى يكفر انتهى. قوله: "في المظاهر يواقع" أي يجامع "قال" تعلق به الجار المتقدم أي قال في شأن المظاهر الخ. قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن ماجه وفي سنده محمد بن إسحاق وهو رواه عن محمد ابن عمرو بالعنعنة. "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم الخ" قال القاري في(4/379)
وقالَ بَعْضُهُمْ إِذَا وَاقَعَها قبْلَ أَنْ يُكفّرَ، فَعَلَيْهِ كَفّارَتَانِ. وهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرّحْمنِ بن مَهْدِي.
1214 ـ حدثنا أبُو عَمّارٍ الْحُسَيْنُ بنُ حرَيْثٍ. أنبأنا الْفَضْلُ بنُ مُوسَى عنْ مَعْمَرٍ، عنِ الْحَكَمِ بنِ أَبَانَ، عنْ عِكْرِمَةَ. عنِ ابنِ عَبّاسٍ: أنّ رَجُلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا. فقالَ: يَا رسولَ الله إني قد ظَاهَرْتُ مِنْ زوجتي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكفّر. فقَالَ "مَا حَمَلَكَ عَلَى ذلِكَ، يَرْحَمُكَ الله"؟ قالَ: رَأيْتُ خلْخَالهَا في ضَوْءِ الْقَمَرِ. قالَ "فَلاَ تَقْرَبْهَا حَتّى تَفْعَلَ مَا أمَرَكَ الله به".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ.
ـــــــ
المرقاة: ومذهبنا أنه إن وطئها قبل أن يكفر استغفر الله ولا شيء عليه غير الكفارة الأولى، ولكن لا يعود حتى يكفر. وفي الموطأ قال مالك فيمن يظاهر ثم يمسها قبل أن يكفر عنها: يستغفر الله ويكفر ثم قال: وذلك أحسن ما سمعت قوله: "وهو قول عبد الرحمن بن مهدي" وهو منقول عن عمرو بن العاص وقبيصة وسعيد بن جبير والزهري وقتادة. ونقل عن الحسن البصري والنخعي أنه يجب ثلاث كفارات. وحديث الباب حجة على هؤلاء كلهم.
قوله: "رأيت خلخالها" قال في الصراح: خلخال بالفتح بأي برنجن جمعه خلاخيل. وفي رواية ابن ماجه: رأيت بياض حجليها في القمر. والحجل بكسر الحاء ويفتح وهو الخلخال "فلا تقريها" أي لا تجامعها "حتى تفعل ما أمرك الله" أي الكفارة قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه قال الحافظ ورجاله ثقات لكن أعله أبو حاتم والنسائي بالإرسال وقال ابن حزم: رواته ثقات ولا يضر إرسال من أرسله. وأخرج البزار شاهداً له من طريق خصيف عن عطاء عن ابن عباس: أن رجلاً قال يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فرأيت ساقها في القمر فواقعتها قبل أن أكفر. فقال: كفر ولا تعد. وقد بالغ أبو بكر بن العربي فقال ليس في الظهار حديث صحيح.(4/380)
باب ماجاء في كفارة الظهار
...
20 ـ باب مَا جَاءَ في كفّارَةِ الظّهَار
1215 ـ حدثنا إِسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ. أنبأنا هَارُونُ بنُ إِسْمَاعِيلَ الْخَزازُ. أنبأنا عَلِيّ بنُ الْمُبَارَكِ. أنبأنا يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ. أنبأنا أَبُو سَلَمةَ وَ مُحَمّدُ بنُ عَبْدِ الرّحْمنِ بن ثوبان أنّ سَلْمَانَ بنَ صَخْرٍ الأنْصَارِيّ، أَحَد بَنِي بَيَاضَةَ، جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمّهِ حَتّى يَمْضِيَ رَمَضَانُ. فَلَمّا مَضَى نِصْفٌ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ عَلَيْهَا لَيْلاً. فَأَتى رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فقَالَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "أَعْتِقْ رَقَبَة"
ـــــــ
باب مَا جَاءَ في كفّارَةِ الظّهَار
قوله: "أن سلمان بن صخر الأنصاري" هو سلمة بن صخر المذكور في الحديث المتقدم "أحد بني بياضة" بالنصب بدل من سلمان "حتى يمضي رمضان" قال الطيبي رحمه الله فيه دليل على صحة ظهار الموقت "وقع عليها" أي جامعها وفي رواية غير الترمذي قال: كنت امرأ قد أوتيت في جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئاً فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع فبينا هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها. فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري، وقلت لهم انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري. فقالوا: والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا قرآن أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت واصنع ما بدا لك، فخرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم الخ "فذكر ذلك له" وفي رواية غير الترمذي: فأخبرته خبري فقال لي: "أنت بذاك؟" فقلت أنا بذلك. فقال: "أنت بذاك؟" فقلت: أنا بذاك. فقال: "أنت بذاك؟" قلت: نعم ها أنا ذا، فأمض في حكم الله عز وجل، فأنا صابر له "أعتق رقبة" ظاهره عدم اعتبار كونها مؤمنة، وبه قال عطاء والنخعي وأبو حنيفة. وقال مالك والشافعي وغيرهما لا يجوز ولا يجزئ إعتاق الكافر لأن هذا مطلق مقيد بما في كفارة القتل من اشتراط الإيمان. وأجيب بأن تقييد حكم بما في حكم آخر مخالف لا يصح ولكنه(4/381)
قالَ: لاَ أَجِدُهَا. قالَ "فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" قالَ: لاَ أسْتَطِيعُ. قالَ: "أطِعمْ سِتّينَ مِسْكِيناً" قالَ: لاَ أَجِدُ. فقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِفَرْوَةَ بنِ عَمْروٍ "أعْطِهِ ذَلِكَ الْعَرَقَ "وهُوَ مِكْتَلٌ يأخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعاً أوْ سِتّةَ عَشَرَ صَاعاً" إطْعَامَ سِتّينَ مِسْكِيناً".
ـــــــ
يؤيد اعتبار الإسلام حديث معاوية بن الحكم السلمي فإنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إعتاق جاريته عن الرقبة التي عليه قال لها: "أين الله؟" قالت في السماء "فقال من أنا؟" فقالت: رسول الله. قال: "فاعتقها فإنها مؤمنة". ولم يستفصله عن الرقبة التي عليه، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كذا في النيل وغيره، قلت فيه شيء فتفكر "قال فصم شهرين متتابعين قال لا أستطيع" وفي رواية غير الترمذي: وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم "قال أطعم ستين مسكيناً. قال لا أجد" في رواية غير الترمذي: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا وحشاً ما لنا عشاء. "لفروة بن عمرو" بفتح الفاء وسكون الراء البياضي الأنصاري شهد بدراً وما بعدها من المشاهد. روى عنه أبو حازم التمار "ذلك العرق" بفتح العين والراء ويسكن "وهو مكتل" بكسر الميم وسكون الكاف وفتح الفوقية. قال في القاموس: المكتل كمنبر زنبيل يسع خمسة عشر صاعاً انتهى. وقال في النهاية العرق بفتح الراء زنبيل منسوخ من خوص. وفي القاموس: عرق التمر الشقيقة المنسوجة من الخوص قبل أن يجعل منه الزنبيل أو الزنبيل نفسه ويسكن انتهى. وهو تفسير من الراوي "إطعام ستين مسكيناً" أي ليطعم ستين مسكيناً، واحتج بهذا الحديث الشافعي على أن الواجب لكل مسكين مد فإن العرق يأخذ خمسة عشر صاعاً. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: إن الواجب لكل مسكين صاع من تمر أو ذرة أو شعير أو زبيب أو نصف صاع من بر واحتجوا برواية أبي دواد فإنه وقع فيها: فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكيناً. قال الشوكاني: وظاهر الحديث أنه لا بد من إطعام ستين مسكيناً ولا يجزئ إطعام دونهم. وإليه ذهب الشافعي ومالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: انه يجزى إطعام واحد ستين يوماً انتهى. وقال الطيبي: في الحديث(4/382)
هذا حديثٌ حسنٌ. يُقَالُ سَلْمَانُ بنُ صَخْرٍ، ويُقَالُ سَلمَةُ بنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيّ.
والعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، في كفّارَةِ الظّهَارِ.
ـــــــ
دليل على أن كفارة الظهار مرتبة انتهى. قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وقد أعله عبد الحق بالانقطاع، وأن سليمان بن يسار لم يدرك سلمة. وقد حكى ذلك الترمذي عن البخاري وفي إسناده محمد بن إسحاق. قوله: "وفي الباب عن خولة بنت ثعلبة وهي امرأة أوس بن الصامت" هذه العبارة ليست في بعض النسخ. وأخرج حديثها أبو داود وسكت عنه هو والمنذري وفي إسناده محمد بن إسحاق وهو رواه عن معمر بالعنعنة(4/383)
باب ماجاء في الإبلاء
...
21 ـ باب ما جَاءَ فِي الإيلاَء
1216 ـ حدثنا الْحَسَنُ بنُ قَزَعَةَ الْبَصْرِيّ. أنبأنا مَسْلَمَةُ بنُ عَلْقَمَة. أنبأنا دَاوُدُ بنُ عَلِي عنْ عَامِرٍ، عنْ مَسْرُوقٍ، عنْ عَائِشَةَ قالَتْ: آلَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِه، وحَرّمَ. فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلاَلاَ، وَجَعَلَ في الْيَمينِ كَفّارةً. وفي البابِ عنْ أنس و أبي مُوسَى.
ـــــــ
باب ما جاء في الإيلاء
هو مشتق من الألية بالتشديد وهي اليمين والجمع ألايا وزن عطايا قال الشاعر:
قليل الألايا حافظ بيمينه فإن سبقت منه الألية برت
فجمع بين المفرد والجمع وفي الشرع الحلف الواقع من الزوج أن لا يطأ زوجته أربعة أشهر أو أكثر. ويأتي الكلام في ما يتعلق به عن قريب
قوله: "آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" من الإيلاء أي حلف "وحرم فجعل الحرام حلالاً الخ" في الصحيحين أن الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه هو العسل. وقيل تحريم مارية. وروى ابن مردويه عن طريق عائشة ما يفيد الجمع بين الروايتين. وهكذا الخلاف في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الاَية ومدة إيلائه صلى الله عليه وسلم من نسائه شهر كما ثبت في صحيح البخاري واختلف في سبب إيلائه صلى الله عليه وسلم فقيل سببه الحديث(4/383)
حدِيثُ مَسْلَمَةَ بنِ عَلْقَمَةَ عنْ دَاوُدَ، رَوَاهُ عَلِيّ بنُ مُسْهِرٍ وَغَيْرُهُ عنْ دَاوُدَ، عنِ الشّعْبيّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، مُرْسَلاً. وَلَيْسَ فِيهِ "عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَائِشةَ" وهَذَا أصَحّ مِنْ حَدِيثِ مَسْلمةَ بنِ عَلْقَمةَ والإيلاَءُ هو أنْ يَحْلِفَ الرّجُلُ أنْ لاَ يَقْرُبَ امْرَأَتَهُ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ
ـــــــ
الذي أفشته حفصة كما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس. واختلف أيضاً في ذلك الحديث الذي أفشته وقد وردت في بيانه روايات مختلفة. وقد اختلف في مقدار مدة الإيلاء فذهب الجمهور إلى أنها أربعة أشهر فصاعداً، قالوا فإن من أخرجه حلف على أنقص منها لم يكن مؤليا. قوله: "وفي الباب عن أبي موسى" لينظر "وأنس" أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه الحديث. وفي الباب عن أم سلمة عند البخاري بنحو حديث أنس وعن جابر عند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه شهراً قوله: "وهذا أصح من حديث مسلمة بن علقمة" وأخرجه ابن ماجه. قال الحافظ في الفتح: رجاله موثقون ولكنه رجح الترمذي إرساله على وقفه انتهى. قوله: "والإيلاء أن يحلف الرجل أن لا يقرب امرأته أربعة أشهر وأكثر" الإيلاء في اللغة. الحلف وفي الشرع هو ما ذكره الترمذي فلو قال لا أقربك ولم يقل والله. لم يكن مولياً. وقد فسر ابن عباس به قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} بالقسم أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وعبد بن حميد وفي مصحف أبي بن كعب: للذين يقسمون. أخرجه ابن أبي داود في المصاحف عن حماد ثم عند أبي حنيفة وأصحابه والشافعي في الجديد: إذا حلف على ترك قربان زوجته أربعة أشهر يكون مؤلياً. واشترط مالك أن يكون مضراً بها أو يكون في حالة الغضب. فإن كان للإصلاح لم يكن مولياً. ووافقه أحمد وأخرج نحوه عبد الرزاق عن علي. وكذلك أخرج الطبري عن ابن عباس وعلي والحسن. وحجة من أطلق إطلاق قوله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} الاَية. واتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أنه لو حلف أن لا يقرب أقل من أربعة أشهر لا يكون مؤلياً. وكذلك أخرجه الطبري وسعيد بن منصور وعبد بن حميد عن ابن عباس قال: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، فوقت الله لهم أربعة أشهر وعشراً.(4/384)
فَأَكثرَ. واخْتَلفَ أهْلُ العِلْمِ فِيه إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ. فقَالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعةُ أشْهُرٍ يُوقَفُ. فَإِمّا أنْ يَفِيءَ، وإمّا أنْ يُطَلّقَ. وهُوَ قَوْلُ مالِكِ بنِ أنَسٍ وَالشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أصحْابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ: إِذَا مَضَتْ أرْبَعةُ أشْهُر فهِيَ تَطلِيقَةٌ بَائِنةٌ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وأهْلُ الكُوفَةِ.
ـــــــ
فمن كان إيلاؤه أقل فليس بإيلاء. قوله: "فقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إذا مضت أربعة أشهر يوقف" أي المولى يعني لا يقع بمضي هذه المدة الطلاق بل يوقف المولى "فإما يفيء" أي يرجع "وإما أن يطلق" وإن جامع زوجته في أربعة أشهر فليس عليه إلا كفارة يمين "وهو قول مالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحاق" وسائر أهل الحديث كما ستعرف روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق يعني المولى. قال البخاري: ويدكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الحافظ في الفتح من وصل هذه الآثار ثم قال: وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وسائر أصحاب الحديث، إلا أن للمالكية والشافعية بعد ذلك تفاريع يطول شرحها، منها أن الجمهور ذهبوا إلى أن الطلاق يكون فيه رجعياً، لكن قال مالك: لا تصح رجعته إلا أن جامع في العدة. وقال الشافعي: ظاهر كتاب الله تعالى على أن له أربعة أشهر ومن كانت له أربعة أشهر أجلاً فلا سبيل عليه فيها حتى تنقضي، فإذا انقضت فعليه أحد أمرين، إما أن يفيء وإما أن يطلق. فلهذا قلنا لا يلزمه الطلاق بمجرد مضى المدة حتى يحدث رجوعاً أو طلاقاً. ثم رجع قول الوقف بأن أكثر الصحابة قال به، والترجيح قد يقع بالأكثر مع موافقة ظاهر القرآن. ونقل ابن المنذر عن بعض الأئمة قال: لم يجد في شيء من الأدلة أن العزيمة على الطلاق تكون طلاقاً ولو جاز لكان العزم على الفيء فيئاً ولا قائل به، وكذلك ليس في شيء من اللغة أن اليمين الذي لا ينوي به الطلاق تقتضي طلاقاً. وقال غيره:العطف على الأربعة أشهر بالفاء يدل على أن التخيير بعد مضي المدة، والذي يتبادر من لفظ التربص أن المراد به المدة المضروية ليقع التخيير بعدها. وقال غيره: جعل الله الفيء والطلاق معلقين بفعل المولى بعد المدة وهو من قوله تعالى {فَإِنْ فَاءُوا} وان عزموا. فلا يتجه قول من قال أن الطلاق يقع بمجرد مضي المدة انتهى ما في فتح الباري. "وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: اذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. وهو قول الثوري وأهل الكوفة" وهو قول أبي حنيفة رحمه الله قال محمد في موطإه. بلغنا عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت أنهم قالوا اذا آلى الرجل من امرأته فمضت أربعة أشهر قبل أن يفيء فقد بانت بتطليقة بائنة، وهو خاطب من الخطاب وكانوا لا يرون أن يوقف بعد الأربعة.
وقال ابن عباس في تفسير هذه الاَية {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال الفيء الجماع في الأربعة الأشهر وعزيمة الطلاق انقضاء الأربعة، فإذا مضت بانت بتطليقة ولا يوقف بعدها، وكان عبد الله بن عباس أعلم بتفسير القرآن من غيره: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله والعامة انتهى ما في الموطإ. قلت: هذه المسألة من المسائل التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وقد عرفت أن مذهب أكثر الصحابة رضي الله عنهم هو ما ذهب اليه مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وسائر أهل الحديث. ويوافقه ظاهر القرآن فتفكر والله تعالى أعلم(4/385)
باب ماجاء في اللعان
...
22 ـ باب مَا جَاءَ في اللّعَان
1217 ـ حدثنا هَنّادٌ. حدّثَنا عَبْدَةُ بنُ سُلَيْمانَ، عنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ أبي سُلَيمانَ، عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قالَ: سُئِلْتُ عنِ الْمُتلاَعِنَيْنِ
ـــــــ
باب ما جاء في اللعان
هو مأخوذ من اللعن لأن الملاعن يقول: لعنة الله عليه إن كان من المكاذبين. واختير لفظ اللعن دون الغضب في التسمية لأنه قول الرجل وهو الذي بدأ به في الاَية، وهو أيضاً يبدأ به، وله أن يرجع عنه فيسقط عن المرأة بغير عكس. وقيل سمي لعانا لأن اللعن الطرد والإبعاد وهو مشترك بينهما وإنما خصت المرأة(4/386)
في إمَارَةِ مُصْعَبِ بنِ الزّبَيْرِ، أَيُفَرّقُ بَيْنَهُمَا؟ فَما دَرَيْتُ مَا أقُولُ. فَقُمْتُ مَكَانِي إلَى مَنْزِلِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ. اسْتأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَقِيلَ لِي: إنّهُ قائِلٌ. فَسَمِعَ كَلاَمِي فقَالَ: ابنُ جُبَيْرٍ أدْخُلْ، مَا أَجَاءَ بك إلاّ حَاجَةٌ.
قالَ: فَدَخَلْتُ فَإِذَا هُوَ مُفْتَرِشٌ بَرْدَعَةَ رَحْلٍ لَهُ. فَقلت:
ـــــــ
بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها لأن الرجل إذا كان كاذباً لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف وإن كانت هي كاذبة فذنبها أعظم لما فيه من تلويث الفراش، والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به، فتنتشر المحرمية وتثبت الولاية والميراث لمن لا يستحقهما. قاله الحافظ في الفتح. وقال ابن الهمام في شرح الهداية: اللعان مصدر لاعن واللعن في اللغة الطرد والإبعاد وفي الفقه اسم لما يجري بين الزوجين من الشهادات بالألفاظ المعلومات، وشرطه قيام النكاح وسببه قذف زوجته بما يوجب الحد في الأجنبية، وحكمه حرمتها بعد التلاعن، وأهله من كان أهلاً للشهادة. فإن اللعان شهادات مؤكدات بالإيمان عندنا. وأما عند الشافعي فإيمان مؤكدات بالشهادات، وهو الظاهر من قول مالك وأحمد. انتهى كلام ابن الهمام مختصراً قوله "في إمارة مصعب بن الزبير" أي حين كان أميرا على العراق "فما دريت" أي ما علمت "فقمت مكاني عبد الله بن عمر" وفي رواية لمسلم فمضيت ابن عمر بمكة فظهر أن في رواية الترمذي حذفا تقديره فقمت مكاني وسافرت عبد الله بن عمر بمكة وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير قال كنا بالكوفة نختلف في الملاعنة يقول بعضنا يفرق بينهما ويقول بعضنا لا يفرق فظهر من هذا أنه سافر من الكوفة قال الحافظ في الفتح ويؤخذ منه أن الخلاف في ذلك كان قديما وقد استمر عثمان البتي من فقهاء البصرة على أن اللعان لا يقتضي الفرقة وكأنه لم يبلغه حديث ابن عمر انتهى "أنه قائل" من القيلولة وهي النوم نصف النهار "فقال ابن جبير" يرفع ابن وهو استفهام أي أأنت ابن جبير "مفترش بردعة رحل" بفتح الموحدة وسكون الراء وبالدال المهملة وفي رواية مسلم بالدال المعجمة قال في الصراح برذعة كليم كه زير بالان بريشت شترنهند انتهى وقال في القاموس البردعة الحلس يلقى تحت الرحل وقال فيه البرذعة البردعة انتهى . وفيه(4/387)
يَا أبَا عَبْدِ الرّحْمنِ الْمُتَلاَعِنَانِ، أيُفَرّقُ بَيْنَهُمَا؟ فقَالَ سُبْحَانَ الله نَعَمْ. إنّ أوّلَ مَنْ سَأَلَ عنْ ذَلِكَ فُلاَن بنُ فُلاَنٍ. أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رسولَ الله لَوْ أنّ أحَدَنَا رَأَى امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تَكَلّمَ، تَكَلّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ. وإنْ سَكَتَ، سَكَتَ عَلَى أمْرٍ عَظِيمِ. قالَ فَسَكَتَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَلَم يُجِبْهُ.
فَلمّا كانَ بَعْدَ ذَلِكَ، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: إنّ الّذِي سَأَلتُكَ عَنْهُ قَدِ ابتُلِيتُ بِهِ فَأَنْزَلَ الله هذه الاَيَاتِ الّتِي في سُورَةِ النّورِ {والّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلاّ أنْفُسُهُمْ} حَتّى ختمَ الاَياتِ. فَدَعَا الرّجُلَ فَتَلاَ الاَيات عَلَيْهِ. وَوَعَظَهُ وَذَكّرهُ وأخْبَرَهُ أنّ عَذَابَ الدّنْيَا أهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الاَخِرَةِ. فقَالَ: لاَ، والّذِي بَعَثَكَ بِالحقّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا. ثم ثَنّى بِالْمَرْأَةِ فَوَعَظَهَا وذَكّرَهَا. وأخْبَرَهَا أنّ عَذَابَ الدّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الاَخِرَةِ، فقَالَتْ: لاَ، والّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ ما صَدَقَ. قالَ، فَبَدَأَ بِالرّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله إنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. والْخَامِسَةَ أنّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إنْ كانَ مِنَ الْكَاذِبينَ. ثمّ ثَنّى بِالْمَرْأَةِ فَشَهدَتْ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إنّهُ لَمِنَ الكَاذِبينَ.
ـــــــ
وفيه زهادة بن عمر وتواضعه وزاد مسلم في روايته متوسد وسادة حشوها ليف "يا أبا عبد الرحمن" هذا كنية عبد الله بن عمر رضي الله عنه "والذين يرمون أزواجهم" بالزنا "ولم يكن لهم شهداء" عليه "إلا أنفسهم" وقع ذلك لجماعة من الصحابة كذا في تفسير الجلالين "حتى ختم الآيات" والآيات مع تفسيرها هكذا "فشهادة أحدهم" مبتدأ "أربع شهادات" نصب "بالله إنه لمن الصادقين" فيما رمي به من زوجته من الزنا "والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين" في ذلك وخبر المبتدأ يدفع ثم حد القذف "ويدرأ" يدفع "عنها العذاب" أي حد الزنا الذي ثبت بشهاداته "أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين"(4/388)
والْخَامِسَةَ أنّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إنْ كانَ مِنَ الصادِقِينَ. ثمّ فَرّقَ بَيْنَهُمَا وفي البابِ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، وابنِ عَبّاسٍ، وابنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ.
حدِيث ابنِ عُمرَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والْعَملُ عَلَى هذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أهْلِ الْعِلْمِ.
ـــــــ
فيما رماها به من الزنا "والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين" في ذلك "ولولا فضل الله عليكم ورحمته" بالستر في ذلك "وأن الله تواب" بقبوله التوبة في ذلك وغيره "حكيم" فيما حكم به في ذلك وغيره لبين الحق في ذلك وعاجل بالعقوبة من يستحقها كذا في تفسير الجلالين .
قوله: "وذكره" بالتشديد أي خوفه من عذاب الله "وأخبره أن عذاب الدنيا" وهو حد القذف "أهون من عذاب الآخرة" والعاقل يختار الأيسر على الأعسر "وأخبرها أن عذاب الدنيا" وهو الرجم قال النووي فيه أن الإمام يعظ المتلاعنين ويخوفهما من وبال اليمين الكاذبة وإن الصبر على عذاب الدنيا وهو الحد أهون من عذاب الآخرة "فبدأ بالرجل" فيه أن الابتداء في اللعان يكون بالزوج لأن الله تعالى بدأ به ولأنه يسقط عن نفسه حد قذفها وينفي النسب إن كان ونقل القاضي وغيره إجماع المسلمين على الابتداء بالزوج ثم قال الشافعي وطائفة لو لاعنت المرأة قبله لم يصح لعانها وصححه أبو حنيفة وطائفة قاله النووي فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين الخ وهذه ألفاظ اللعان وهي مجمع عليها "ثم فرق بينهما" احتج به الثوري وأبو حنيفة وأتباعهما على أنه لا تقع الفرقة بين المتلاعنين حتى يوقعها عليهما الحاكم وذهب مالك والشافعي إلى أن الفرقة تقع بنفس اللعان قال مالك وغالب أصحابه بعد أفطر المرأة وقال الشافعي وأتباعه وسحنون من المالكية بعد أفطر الزوج واعتل بأن التعان المرأة إنما الحد عنها بخلاف الرجل فإنه يزيد على ذلك في حقه نفي النسب ولحاق الولد وزوال بالحق وتظهر فائدة الخلاف في التوارث لو مات أحدهما عقب أفطر الرجل وفيما إذا علق طلاق امرأة بفراق أخرى ثم لاعن الأخرى قوله وفي الباب عن سهل بن سعد أخرجه الشيخان "وابن عباس" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما "وحذيفة" لينظر من أخرجه "وابن مسعود" أخرجه مسلم قوله "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه(4/389)