وقدْ اختارَ قومٌ من أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن بعدَهُم أن لاَ ينامَ الرجلُ حتى يوترَ.
ورُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن خشِيَ منكم أن لا يستيقظَ منْ آخر الليلِ فليوتِرْ منْ أوّلِهِ ، ومنْ طَمِعَ مِنكمْ أنْ يقومَ مِن آخرِ الليلِ فليوتر من آخر الليل ، فإن قراءةَ القرآنِ في آخِرِ الليلِ محضورةٌ ، وهي أفْضَلُ".
455- حدثنا بذلك هنّادٌ حدثنا أبو معاويةَ عن الأعمشِ عن أبي سفيانَ عن جابرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك" .
ـــــــ
العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أن لا ينام الرجل حتى يوتر" والظاهر أنهم اختاروه لمن يخشى أن لا يستيقظ من آخر الليل كما يدل عليه حديث جابر رضي الله عنه الذي ذكره الترمذي بعد هذا "وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من خشي منكم. إلخ" رواه مسلم أيضاً فإن قراءة القرآن في آخر الليل محضورة أي تحضرها ملائكة الرحمة "وهي" أي قراءة القرآن في آخر الليل. قال الحافظ في الفتح: لا معارضة بين وصية أبي هريرة بالوتر قبل النوم وبين قول عائشة: وإنتهى وتره إلى السحر ، لأن الأول لإرادة الاحتياط والاَخر لمن علم من نفسه قوة كما ورد في حديث جابر عند مسلم انتهى. وقال النووي تحت حديث جابر هذا: فيه دليل صريح على أن تأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل لمن وثق بالاستيقاظ آخر الليل وأن من لا يثق بذلك فالتقديم له أفضل ، وهذا هو الصواب يحمل باقي الأحاديث المطلقة على هذا التفصيل الصحيح الصريح انتهى.(2/542)
330 ـ باب ما جَاءَ في الوِتْرِ من أولِ الليلِ وآخرِه
456ـ حدثنا أحمدُ بنُ منيعٍ حدثنا أبو بكرٍ بنِ عياشٍ حدثنا أبو حَصِينٍ عنْ يحيَى بنِ وثّابٍ عن مسروقٍ: "أنه سألَ عائشةَ عن وترِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: مِن كلّ الليلِ قد أوترَ أوّلهِ وأوسطِهِ وآخرِهِ ، فانتهى وترهُ حينَ ماتَ في إلى السَحَر".
قال أبو عيسى: أبو حَصِينٍ اسمُهُ عثمانُ بن عاصمٍ الأسَديّ.
وفي الباب عن علي وجابرٍ وأبي مسعودٍ الأنصاريّ وأبي قتادةَ.
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في الوِتْرِ من أولِ الليلِ وآخرِه"
قوله: "أخبرنا أبو حصين" بفتح الحاء وكسر الصاد المهلتين "عن يحيى بن وثاب" بتشديد المثلثة الأسدي مولاهم الكوفي المقري ثقة عابد من الرابعة.
قوله: "من كل الليل قد أوتر" أي قد أوتر من كل أجزاء الليل "وأوله وأوسطه وآخره" بالجر بدل من كل الليل ، والمراد بأوله بعد صلاة العشاء "فانتهى وتره حين مات في وجه السحر" قال النووي: معناه كان آخر أمر الإيتار في السحر ، والمراد به آخر الليل كما قالت في الروايات الأخرى ، ففيه استحباب الإيتار آخر الليل وقد تظارهت الأحاديث الصحيحة عليه ، قال وفيه جواز الإيتار في جميع أوقات الليل بعد دخول وقته انتهى ، وقال الحافظ: أجمعوا على أن ابتداء وقت الوتر مغيب الشفق بعد صلاة العشاء كذا نقله ابن المنذر لكن أطلق بعضهم أنه يدخل بدخول وقت العشاء ، قالوا ويظهر أثر الخلاف فيمن صلى العشاء وبان أنه كان بغير طهارة ثم صلى الوتر متطهراً أو ظن أنه صلى العشاء فصلى الوتر فإنه يجزئ على هذا القول دون الأول انتهى.(2/543)
قال أبو عيسى: حديثُ عائشةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وهو الذي اختارَه بعضُ أهلِ العلمِ: الوترُ من آخرِ الليلِ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن علي وجابر وأبي مسعود الأنصاري وأبي قتادة" أما حديث علي فأخرجه ابن ماجه بنحو حديث عائشة المذكور في الباب. وأما حديث جابر فقد تقدم في الباب المتقدم ، وأما حديث أبي مسعود فأخرجه أحمد والطبراني بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره. قال العراقي: إسناده صحيح. وأما حديث أبي قتادة فأخرجه أبو داود. وفي الباب أحاديث أخرى مذكورة في النيل.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.(2/544)
331ـ بابُ ما جاءَ في الوِتْرِ بسَبْع
457ـ حدثنا هنّادٌ ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمشِ عن عمرِو بن مُرّةَ عن يحيى بنِ الجزارِ عن أمّ سَلَمَةَ قالت: "كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوترُ بثلاثِ عشرةَ ركعة فلما كبِرَ وضعُفَ أوتر بسبعٍ".
ـــــــ
"بابُ ما جاءَ في الوِتْرِ بسَبْع"
قوله: "عن يحيى بن الجزار" العرني الكوفي قيل اسم أبيه زبان صدوق رمى بالغلو بالتشيع.
قوله: "يوتر بثلاث عشرة" أي مع سنة العشاء أو مع الركعتين الخفيفتين اللتين يفتتح بهما صلاة الليل كما ستعرف "فلما كبر" من باب علم يستعمل في كبر السن.(2/544)
قال وفي الباب عن عائشةَ رضي الله عنها.
قال أبو عيسى: حديثُ أمّ سَلَمَةَ حديثُ حسنٌ.
وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الوترُ بثلاثِ عَشْرَةَ وإحدى عَشْرَةَ وتسعٍ وسبعٍ وخمسٍ وثلاثٍ وواحدةٍ.
قال إسحاقُ بنُ إِبْرَاهِيمَ: معنى ما رُوِيَ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه البخاري في صحيحه في باب ما يقرأ في ركعتي الفجر من طريق الزهري عن عروة عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ثم يصلي إذا سمع النداء ركعتين خفيفتين ، وقد أخرج البخاري من طريق القاسم بن محمد بن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر. وفي رواية مسلم من هذا الوجه: كانت صلاته عشر ركعات ويوتر بسجدة ويركع ركعتي الفجر فتلك ثلاث عشرة ، فظاهر رواية عائشة الأولى يخالف روايتها الثانية ، قال الحافظ: يحتمل أن تكون أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لكونه كان يصليها في بيته أو ما كان يفتتح به صلاة الليل فقد ثبت عند مسلم من طريق سعد بن هشام عنها أنه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين. قال الحافظ: وهذا أرجح في نظري لأن رواية أبي سلمة عنها بلفظ: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة الحديث. دلت على الحصر في إحدى عشرة جاء في صفتها عند المصنف يعني البخاري وغيره يصلي أربعاً ثم أربعاً ثم ثلاثاً ، فدل على أنها لم تتعرض للركعتين الخفيفتين وتعرضت لهما في رواية الزهري ، والزيادة من الحافظ مقبولة ، وبهذا يجمع بين الروايات انتهى كلام الحافظ.
قوله: "حديث أم سلمة حديث حسن" وأخرجه النسائي "وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الوتر بثلاث عشرة وإحدى عشرة وتسع وسبع وخمس وثلاث وواحدة" ورد في كل ذلك أحاديث كما ستعرف "قال إسحاق بن إبراهيم" هو إسحاق بن راهويه "قال إنما معناه أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة مع الوتر(2/545)
كانَ يوترُ بثلاثِ عَشْرَةَ" قال: إنما معْناهُ أنّه كانَ يُصَلّي مِن الليلِ ثلاثَ عَشْرَةَ ركعةً مع الوترِ فنُسِبَتْ صلاةُ الليلِ إلى الوِترِ.
ورَوَى في ذلكَ حديثاً عن عائشةَ.
واحتجّ بما رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قالَ: "أوْتِرُوا يا أهلَ القرآنِ".
قال: "إنّمَا عَنَى بهِ قيامُ الليلِ ، يقولُ: إنما قيامُ الليلِ على أصحابِ القرآنِ".
ـــــــ
فنسبت صلاة الليل إلى الوتر" وأطلق على صلاة الليل مع الوتر لفظ الوتر ، فمعنى قوله يوتر بثلاث عشرة أي يصلي صلاة الليل مع الوتر ثلاث عشرة ركعة "وروى في ذلك حديثاً عن عائشة" الظاهر أنه أشار إلى ما وقع عند أحمد وأبي داود من رواية عبد الله بن أبي قيس عن عائشة بلفظ: كان يوتر بأربع وثلاث وست وثلاث وثمان وثلاث وعشرة وثلاث ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة ولا أنقص من سبع.(2/546)
332ـ باب ما جاءَ في الوِتر بِخَمْس
457ـ حدثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ ، حدثنا عبدُ الله بن نُمَيرٍ حدثنا هشام بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عن عائشةَ قالت: "كانَتْ صَلاَةُ النبي صلى الله
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الوِتر بِخَمْس"
قوله: "لا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن" أي لا يجلس في ركعة من الركعات(2/546)
عليه وسلم منْ الليلِ ثلاثَ عشرةَ ركعةً يُوترُ منْ ذلكَ بخمسٍ لا يَجلسُ فِي شيءٍ منهنّ إلاّ فِي آخرِهنّ ، فَإذا أذّنَ المؤَذّنُ قامَ فصلّى ركعتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ".
وفي الباب عنْ أبي أيوبَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَائِشَةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقدْ رأى بعضُ أهلِ العلمِ منْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهمْ الوِتْرَ بخمس ، وقالوا: لا يَجلِسُ في شيء منهنّ إلاّ في آخرِهنّ.
ـــــــ
الخمس إلا في آخرهن. وفيه دليل على جواز الإيتار بخمس ركعات بقعدة واحدة ، وفيه رد على من قال بتعيين الثلاث، وفي رواية عند محمد بن نصر في قيام الليل: كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة بركعتيه قبل الفجر: إحدى عشرة ركعة من الليل ست منهن مثنى مثنى ويوتر بخمس لا يقعد فيهن. وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن سعيد بن هشام أنه قال لعائشة ، أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه: فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول فتلك تسع يا بني ، وفي رواية لأحمد وأبي داود والنسائي فلما أسنا وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة ، فهاتان الروايتان تدلان على إثبات القعود في السادسة في الإيتار بالسبع ، والروايتان الأوليان تدلان على نفيه. قال الشوكاني: ويمكن الجمع يحمل النفي للقعود في الروايتين على القعود الذي يكون فيه التسليم انتهى.(2/547)
ـــــــ
قلت: الظاهر عندي أنه صلى الله عليه وسلم كان قد يقعد في السادسة في الإيتار بالسبع وقد لا يقعد فيها والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن أبي أيوب" أخرجه النسائي بلفظ: الوتر حق فمن شاء بسبع ومن شاء أوتر بخمس وقد روى في الإيتار بسبع وبخمس أحاديث كثير ، فمنها عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع وخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام ، أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وعن ابن عباس عند أبي داود بلفظ: ثم صلى سبعاً أو خمساً لم يسلم إلا في آخرهن.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وقد رأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم الوتر بخمس وقالوا لا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن" روى محمد بن نصر في قيام الليل عن إسماعيل بن زيد بن ثابت كان يوتر بخمس ركعات لا ينصرف فيها أي لا يسلم. وقال الشيخ سراج أحمد السرهندي في شرح الترمذي. وهو مذهب سفيان الثوري وبعض الأئمة انتهى.(2/548)
333ـ باب ما جاءَ في الوِتْرِ بثلاث
458ـ حدثنا هنّادٌ ، حدثنا أبو بكرِ بنِ عيّاشٍ عن أبي إسحاقَ عنْ الحارِثِ عنْ عليّ قال: "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يُوترُ بِثلاثٍ يَقرأُ فيهنّ بِتسعِ سُوَرٍ منَ المَفصّلِ يَقْرأُ في كلّ ركعةٍ بِثلاثِ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الوِتْرِ بثلاث"
قوله: "عن الحارث" هو ابن عبد الله الأعور صاحب على أحد كبار الشيعة قال الشعبي وابن المديني كذاب.(2/548)
سورآخرُهُنّ {قُلْ هُوَ الله أحَدٌ}".
وفي الباب عنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ وعَائشةَ وابنِ عباسٍ وأبي أيوبَ "وعبدِ الرحمَنِ بنِ أبْزَى عنْ أبيّ بنِ كعبٍ.
ويُرْوَى أيضاً عنْ عبدِ الرحمَنِ بنِ أبْزَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
هكذا روَى بَعضُهمْ فلم يَذكرْوا فيهِ عنْ أُبيّ.
ـــــــ
قوله: "يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن {قُلْ هُوَ الله أحَدٌ} زاد في مسند أحمد قال أسود بن عامر شيخ أحمد يقرأ في الركعة الأولى {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ الْقَدْرِ} و {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} وفي الركعة الثانية: {وَالْعَصْرِ} و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، وفي الركعة الثالثة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} {قُلْ هُوَ الله أحَدٌ}. كذا في قوت المغتذي.
قوله: "وفي الباب عن عمران بن حصين وعائشة وابن عباس وأبي أيوب وعبد الرحمن بن أبزي عن أبي بن كعب" أما حديث عمران بن حصين فأخرجه النسائي والطبراني ومسلم وفيه يصلي أربعاً فلا تسأل ، عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثاً الحديث. ولعائشة رضي الله عنها أحاديث أخرى في الإيتار بثلاث. وأما حديث ابن عباس فأخرجه مسلم وفيه: ثم أوتر بثلاث ، ولابن عباس حديث أخرجه الترمذي في الباب الاَتي. وأخرجه النسائي وابن ماجه أيضاً. وأما حديث أبي أيوب فأخرجه الأربعة إلا الترمذي وصححه ابن حبان ، ورجح النسائي وقفه. وسيأتي لفظه في هذا الباب. وأما حديث عبد الرحمن بن أبزي عن كبي بن كعب فأخرجه الخمسة إلا الترمذي. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أو {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {قُلْ هُوَ الله أحَدٌ} وفي رواية النسائي يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الركعة الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ الله أحَدٌ} ويروى أيضاً عن عبد الرحمن بن أبزي عن النبي(2/549)
وذكرَ بَعضُهمْ عنْ عبدِ الرحمَنِ بنِ أبزَى عنْ أبيّ" .
قال أبو عيسى: وقدْ ذَهبَ قَومٌ منْ أهلِ العلمِ من أصْحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهِم إلى هذا ورَأَوا أنْ يُوترَ الرّجلُ بِثلاثٍ.
قالَ سفيانُ: إنْ شِئْتَ أوْتَرْتَ بخَمْسٍ، وإنْ شئْتَ أوْترتَ بِثلاثٍ، وإنْ شِئْتَ أوْتَرْتَ بركعةٍ.
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم" أخرجه النسائي والطحاوي وأحمد وعبد بن حميد "هكذا روى بعضهم إلخ" قال الشوكاني في النيل: وعبد الرحمن بن أبزى قد وقع الاختلاف في صحبته، وقد اختلفوا هل هذا الحديث من روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أو من روايته عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. قلت قال الحافظ في التقريب: صحابي صغير قال البخاري: له صحبة ، ووقع في رواية الطحاوي أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فالراجح أنه صحابي، وروى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة أبي بن كعب وبغير واسطة أيضاً والله تعالى أعلم. قال العراقي: وكلاهما عند النسائي بإسناد صحيح. انتهى.
قوله: "قال سفيان إن شئت أوترت بخمس ، وإن شئت أوترت بثلاث ، وإن شئت أوترت بركعة" روى أبو داود والنسائي وابن ماجه وآخرون عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: الوتر حق واجب على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل. قال الحافظ في التلخيص: صحح أبو حاتم والذهلي والدارقطني في العلل والبيهقي وغير واحد وقفه وهو الصواب انتهى. وقال الأمير اليماني في سبل السلام: وله حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد فيه انتهى. فهذا الحديث والأحاديث الأخرى تدل على ما قال سفيان. وقال محمد بن نصر في قيام الليل: الأمر عندنا أن الوتر بواحدة وبثلاث وخمس وسبع وتسع كل ذلك جائر حسن على ما روينا من الأخبار عن النبي صلى الله(2/550)
قالَ سفيانُ: والذي أستَحِبّ: أن أوترَ بِثلاثِ ركعاتٍ.
وهوَ قولُ ابنِ المباركِ وأهلِ الكوفةِ.
459- حدثنا سعيدُ بنُ يعقوبٍ الطالَقَانِيّ حدثنا حمادُ بن زيدٍ عنْ هشامٍ عنْ محمدِ بنِ سيرينَ قالَ: " كانوا يُوترونَ بخمسٍ وبثلاثٍ وبركعةٍ ويَروْنَ كلّ ذلكَ حسناً ".
ـــــــ
عليه وسلم وأصحابه من بعده انتهى. قلت: وهو الحق "قال والذي أستحب أن يوتر بثلاث ركعات" وقد كره بعض أهل العلم أن يوتر بثلاث ركعات كما ستقف عليه "وهو قول ابن المبارك وأهل الكوفة" وأستدلوا بأحاديث الباب وقال الحنفية الوتر ثلاث ركعات لا يجوز أكثر من ذلك ولا أقل. وقولهم هذا باطل ظاهر البطلان ، فإنه قد ثبت الإيتار بأكثر من ثلاث ركعات وبأقل منها بالأحاديث الصحيحة والآثار القوية كما عرفت وكما ستعرف.
قوله: "حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني" أبو بكر ثقة صاحب حديث قال ابن حبان: ربما أخطأ "عن هشام هو ابن حسان الأزدي القردوسي" بالقاف وضم الدال البصري ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين وفي روايته عن الحسن وعطاء مقال لأنه قيل كان يرسل عنهما "قال كانوا يوترون" أي الصحابة والتابعون "بخمس وبثلاث وبركعة ويرون كل ذلك حسناً" ولم يقل أحد منهم ما قال الحنفية من أنه لا يجوز الإيتار بأكثر من ثلاث ركعات ولا بأقل. قال محمد بن نصر في قيام الليل: وزعم النعمان أن الوتر ثلاث ركعات لا يجوز أن يزاد على ذلك ولا ينتقص منه، فمن أوتر بواحدة فوتره فاسد والواجب عليه أن يعيد الوتر فيوتر بثلاث إلى أن قال محمد بن نصر: وقوله هذا خلاف للأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلاف لما جمع عليه أهل العلم انتهى.
تنبيه: قال الحنفية إن العلماء قد أجمعوا على جواز الإيتار بثلاث واختلفوا فيما(2/551)
ـــــــ
عداه فأخذنا ما أجمعوا عليه وتركنا ما عداه وقلنا لا يجوز بأقل من ثلاث ولا بأكثر.
قلت: دعوى الإجماع مردودة عليهم ، وقد ثبت الإيتار بأقل من ثلاث وبأكثر منها بأحاديث صحيحة صريحة فلا تترك باختلاف العلماء البتة ، قال محمد بن نصر: قد احتج بعض أصحاب الرأي للنعمان في قوله: إن الوتر لا يجوز بأقل من ثلاث ولا بأكثر بأن زعم أن العلماء قد أجمعوا على أن الوتر بثلاث جائز حسن ، واختلفوا في الوتر بأقل من ثلاث وأكثر فأخذ بما أجمعوا عليه وترك ما اختلفوا فيه ، وذلك من قلة معرفة المحتج بهذا بالأخبار واختلاف العلماء.
وقد روى في كراهة الوتر بثلاث أخبار بعضها عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ثم ذكر حديث أبي هريرة مرفوعاً: لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب ولكن أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة أو أكثر من ذلك. وفي الباب عن عائشة وميمونة ، وعن ابن عباس الوتر سبع أو خمس ولا نحب ثلاثاً بتراً ، وفي رواية: إن لأكره أن تكون ثلاثاً بتراً لكن بسبع أو خمس ، وعن عائشة رضي الله عنها الوتر سبع أو خمس وإني لأكره أن تكون ثلاثاً بتراً، وفي لفظ أولى للوتر خمس ، وعن يزيد بن حازم قال: سألت سليمان بن يسار عن الوتر بثلاث فكره الثلاث وقال لا تشبه التطوع بالفريضة أوتر بركعة أو بخمس أو بسبع انتهى.
قلت: وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث أبي هريرة: لا توتروا بثلاث إلخ من رواية محمد بن نصر ما لفظه: وقد صححه من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه وإسناده على شرط الشيخين ، وقد صححه ابن حبان والحاكم ومن طريق مقسم عن ابن عباس وعائشة كراهة الوتر بثلاث وأخرجه النسائي أيضاً ، وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر ، فهذه الآثار تقدح في الإجماع الذي نقله انتهى كلام الحافظ.
فإن قلت: ما وجه الجمع بين حديث أبي هريرة المذكور الذي يدل على المنع من(2/552)
ـــــــ
الإيتار بثلاث والتشبيه بصلاة المغرب وبين الأحاديث التي تدل على جواز الإيتار بثلاث موصولة؟
قلت: قد جمع بينهما بأن النهي عن الثلاث إذا كان يقعد للتشهد الأوسط لأنه يشبه المغرب ، وأما إذا لم يقعد إلا في آخرها فلا يشبه المغرب. قال الأمير اليماني: وهو جمع حسن. وقال الحافظ في فتح الباري: وجه الجمع أن يحمل النهي عن صلاة الثلاث بتشهدين وقد فعله السلف يعني الإيتار بثلاث بتشهد واحد ، فروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير ، ومن طريق المسور بن مخرمة أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن ، ومن طريق ابن طاوس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن ، ومن طريق قيس بن سعد عن عطاء وحماد بن زيد عن أيوب مثله ، وروى محمد بن نصر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاث كالمغرب وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور انتهى كلام الحافظ.
قلت: يؤيد هذا الجمع حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن ، وهذا وتر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذه أهل المدينة. رواه الحاكم في المستدرك من طريق أبان بن يزيد العطار عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عنها.
فإن قلت: هذا الحديث بهذا اللفظ غير محفوظ والمحفوظ ما رواه الحاكم في المستدرك من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة بلفظ قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسلم في الركعتين الأوليين من الوتر ، فإن سعيد بن أبي عروبة ثقة حافظ أثبت الناس في قتادة ، وأبان بن يزيد العطار وإن كان من الثقات لكنه دون سعيد فيكون ما رواه سعيد عن قتادة أرجح مما رواه أبان عنه.
قلت: لا مخالفة بين قوله: لا يسلم في الركعتين الأوليين من الوتر وقوله: لا يقعد إلا في آخرهن فتفكر. على أن أبان بن يزيد ثقة ثبت قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال أحمد ثبت في كل المشايخ. وقال ابن معين: ثقة انتهى ، وكان صاحب كتاب. قال ابن عدي في الكامل. وهو حسن الحديث متماسك يكتب حديثه انتهى. ومع هذا لم يكن(2/553)
ـــــــ
فيه شيء من الاختلاط قط. وأما سعيد بن أبي عروبة فلم يكن صاحب كتاب. قال أبو حاتم: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يكن لسعيد بن أبي عروبة كتاب إنما يحفظ ذلك كله انتهى ، ومع هذا كان قد اختلط في آخر عمره. قال الأزدي اختلط اختلاطاً قبيحاً. قال ابن حبان في الثقات: بقي في اختلاطه خمس سنين ، وقال الذهلي عن عبد الوهاب الخفاف خولط سعيد سنة (147) وعاش بعد ما خولط تسع سنين انتهى. وروى عن سعيد بن أبي عروبة هذا فكيف يكون ما رواه سعيد عن قتادة أرجح مما رواه أبان عن قتادة؟ فإن قلت: قد رواه هشام الدستوائي ومعمر وهمام عن قتادة مثل رواية سعيد.
قلت: لم أقف على رواية هؤلاء ، فمن يدعى صحة متابعة هؤلاء لسعيد فعليه أن يذكر رواياتهم سنداً ومتناً لينظر هل هي صالحة للمتابعة أم لا. هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
تنبيه: قال صاحب آثار السنن متعقباً على هذا الجمع ما لفظه: هذا الجمع سخيف جداً بعيد في غاية البعد، لا يذهب إليه ذهن الذاهن بل هو غلط صريح. ثم بين معنى حديث لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب. فقال المعنى أنه لا يترك تطوعاً قبل الإيتار بثلاث فرقاً بينه وبين المغرب.
قلت: كلام صاحب آثار السنن هذا مبني على فرط التعصب ، فإن حسن الجمع المذكور لا يخفى على أهل العلم والإنصاف. وأما قوله في بيان معنى حديث لا توتروا بثلاث إلخ أنه لا يترك تطوعاً قبل الإيتار. بثلاث فكفى لبطلانه أنه يلزم منه أن يكون التطوع قبل الإيتار بثلاث واجباً واللازم باطل فالملزوم مثله فتفكر ، ولبطلانه وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل.(2/554)
334ـ باب ما جاءَ في الوترِ بركعة
460ـ حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا حمادُ بن زيدٍ عنْ أنسِ بنِ سيرينَ قال: سألتُ ابن عمرَ فقلت: أطيل في ركعتي الفجرِ؟ فقالَ: "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي منَ الليلِ مثْنَى مثْنَى ، ويُوترُ بركعةٍ ، وكانَ يُصلي الركعتَيْنِ والأذَانُ في أُذُنهِ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الوترِ بركعة"
قوله: "عن أنس بن سيرين" هو أخو محمد بن سيرين ثقة.
قوله: "أطيل في ركعتي الفجر" بتقدير همزة الاستفهام ، والمراد بركعتي الفجر سنة الفجر وفي رواية البخاري: قلت لابن عمر أرأيت الركعتين قبل صلاة الغداة أطيل فيهما القراءة "يصلي من الليل مثنى مثنى" بلا تنوين لعدم انصرافه للعدل والوصف على ما قاله سيبويه أي ثنتين ثنتين. قال ابن الملك: أستدل أبو يوسف ومحمد والشافعي به على أن الأفضل في صلاة الليل أن يسلم من كل ركعتين "ويوتر بركعة" فيه المشروعية الإيتار بركعة واحدة وهو الحق "وكان يصلي الركعتين" أي سنة الفجر "والأذان في أذنه" وفي رواية البخاري: وكأن الأذان بأذنيه ، قال حماد أي بسرعة. قال الحافظ في الفتح قوله بأذنيه أي لقرب صلاته من الأذان ، والمراد به ههنا الإقامة ، فالمعنى أنه كان يسرع بركعتي الفجر إسراع من يسمع إقامة الصلاة خشية فوات أول الوقت ، ومقتضى ذلك تخفيف القراءة فيهما فيحصل به الجواب عن سؤال أنس بن سيرين عن قدر القراءة فيهما ، قال وقوله بسرعة هو تفسير من الراوي لقوله كأن الأذان بأذنيه انتهى. وقال النووي قال القاضي: المراد بالأذان هنا الإقامة، وهو إشارة إلى شدة(2/555)
وفي الباب عنْ عائشةَ وجَابرٍ والفضلِ بنِ عباسٍ وأبي أيوبَ وابنِ عباسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابن عُمرَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ على هذا عندَ بَعضِ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم والتابعينَ: رأَوْا أنْ يَفْصلَ الرّجلُ بينَ الركعتينِ والثالثةِ، يُوترُ بركعةٍ.
وبه يقولُ مالكٌ والشافعِي وأحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
تخفيفها بالنسبة إلى باقي صلاته صلى الله عليه وسلم.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وجابر والفضل بن عباس وأبي أيوب وابن عباس" أما حديث عائشة فأخرجه الشيخان عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة الحديث. وأما حديث جابر فأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل بلفظ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى وأوتر بواحدة. وأما حديث الفضل بن عباس فأخرجه أيضاً محمد بن نصر في قيام الليل وفيه: فتوضأ ثم صلى ركعتين ركعتين حتى صلى عشر ركعات ثم سلم ثم قام فصلى سجدة فأوتر بها ونادى المنادي عند ذلك. قال محمد بن نصر فجعل هذه الرواية عن الفضل بن عباس ، والناس إنما رووا هذا الحديث عن عبد الله بن عباس وهو المحفوظ عندنا انتهى. وأما حديث أبي أيوب فأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه عنه مرفوعاً: الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل ، وقد تقدم أن وقفه هو صواب. وأما حديث ابن عباس فأخرجه محمد بن نصر بإسناده عن أبي مجلز: سألت ابن عباس عن الوتر فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الوتر ركعة من آخر الليل.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" فأخرجه الشيخان.(2/556)
ـــــــ
قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين رأوا أن يفصل الرجل بين الركعتين والثالثة يوتر بركعة ، وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق" واستدلوا بأحاديث الباب وبحديث القاسم بن محمد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بركعة. رواه الدارقطني وإسناده صحيح، وبحديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يفصل بين الوتر والشفع بتسليمة ويسمعناها. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكره: رواه أحمد وابن حبان وابن السكن في صحيحهما ، والطبراني من حديث إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر به وقواه أحمد انتهى.
قال محمد بن نصر بعد روايته ابن عمر رضي الله عنه بلفظ: إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى ما لفظه: فالذي تختاره لمن صلى بالليل في رمضان وغيره أن يسلم بين كل ركعتين حتى إذا أراد أن يوتر صلى ثلاث ركعات يقرأ في الركعة الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ويتشهد في الثانية ويسلم ثم يقوم فيصلي ركعة يقرأ فيها بفاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والموذتين. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوتر بسبع لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في آخرهن: وقد روى عنه أنه أوتر بتسع لم يجلس إلا في الثامنة والتاسعة ، وكل ذلك جائز أن يعمل به اقتداء به صلى الله عليه وسلم ، غير أن الإختيار ما ذكرنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن صلاة الليل أجاب أن صلاة الليل مثنى مثنى فاخترنا ما هو اختيار لأمته وأجزنا فعل من اقتدى به ففعل مثل فعله إذا لم يرو عنه نهى عن ذلك بل قد روى عنه أنه قال: من شاء فليوتر بخمس ومن شاء فليوتر بثلاث ومن شاء فليوتر بواحدة، غير أن الأخبار التي رويت عنه أنه أوتر بواحدة هي أثبت وأصح وأكثر عند أهل العلم بالأخبار. وقد روينا عن جماعة من السلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أوتروا بركعة: ثم ذكر محمد بن نصر الأخبار المروية عن السلف في الوتر بركعة ، فنحن نذكر ههنا بعضاً منها من كتابه قيام الليل وغيره.
روى البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس فأتى ابن عباس فقال دعه فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/557)
ـــــــ
وروى الطحاوي والدارقطني حسن عن عبد الرحمن التيمي قال: قلت: لا يغلبني الليلة على المقام أحد ، فقمت أصلي فوجدت حس رجل من خلف ظهري فإذا عثمان بن عفان فتنحيت له فتقدم فاستفتح القرآن حتى ختم ثم ركع وسجد ، فقلت أوهم الشيخ ، فلما صلى قلت يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة واحدة ، فقال ، أجل هي وترى.
وروى الطحاوي بإسناد حسن عن عبد الله بن سلمة قال: أمنا بعد بن أبي وقاص في صلاة العشاء الاَخرة، فلما انصر حتى تنحى في ناحية المسجد فصلى ركعة فأتبعته فأخذت بيده فقلت يا أبا إسحاق ما هذه الركعة فقال وتر أنام عليه.
وفي كتاب قيام الليل ن المطلب بن عبد الله المخزومي قال: أتى عبد الله بن عمر رجل فقال كيف أوتر قال أوتر بواحدة ، قال إني أخشى أن يقول الناس إنها البتيراء ، قال: أسنة الله وسنة رسوله تريد هذه اسنة الله وسنة رسوله.
وعن حنش الصنعاني قال: كان أبي بن كعب حين أمره عمر بن الخطاب أن يقوم بالناس يسلم في اثنتين من الوتر: ثم قرأ بعد زيد بن ثابت فسلم في ثلاث، فقال له ابن عمر لم سلمت في ثلاث؟ فقال إنما فعلت ذلك لئلا ينصرف الناس فلا يوترون.
وعن نافع سمعت معاذ القاري يسلم بين الشفع والوتر وهو يؤم الناس في رمضان بالمدينة على عهد عمر بن الخطاب.
وعنه: كنا نقوم في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمنا معاذ فكان يسلم رافعاً صوته ثم يقوم فيوتر بواحدة، وكان يصلي معه رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أر أحداً يعيب ذلك عليه.
وعن السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة أوتر بها.
وعن مالك بن دينار عن مولى بن أبي طالب أن علي بن أبي طالب أوتر بركعة.
وعن شرحبيل أنه رأى سعداً دخل المسجد فصلى ركعة أوتر بها ثم خرج.
وعن أبي عبيد الله رأيت أبا الدرداء وفضالة بن عبيد ومعاذ بن جبل يوتر كل واحد منهم بركعة.
وذكر محمد بن نصر في هذا الباب آثاراً أخرى من شاء الوقوف عليها فليرجع إليه.(2/558)
335ـ باب ما جَاءَ فيما يُقْرأُ في الوِتْر
461ـ حدثنا عليّ بن حُجْرٍ ، أخبرنا شَرِيكٌ عن أبي إسحاقَ عنْ سعيدِ بن جُبَيْرٍ عن ابنِ عباسٍ قال: "كانَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُ فِي الوِترِ بـ{سبّحْ اسمَ ربّكَ الأعلَى} ، {وقُل يَا أيها الكافرونَ} ، {وقلْ هوَ الله أحدٌ} فِي ركعةٍ ركعةٍ".
وفي الباب عنْ عليَ وعائشةَ وعبدِ الرحمَنِ بن أبزَى عنْ أبيّ بن كعبٍ ويروى عن عبدالرحمن بن أبزى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم" .
قال أبو عيسى: وقدْ رُوِيَ عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنهُ قَرأ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ فيما يُقْرأُ في الوِتْر"
قوله: "عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر إلخ" الحديث رواه أبو داود وابن ماجه أيضاً.
قوله: "في ركعة ركعة" قال العراقي: انفرد المصنف يعني الترمذي بهذه الزيادة عن النسائي وابن ماجه ومعناها أنه يقرأ بكل سورة من السور الثلاث في ركعة كذا في قوت المغتذي.
قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه الترمذي في باب ما جاء في الوتر بثلاث "وعائشة" أخرجه الترمذي في هذا الباب "وعبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم" أخرجه أحمد وأبو داود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.(2/559)
في الوِتر في الركعةِ الثالثةِ بالمعوّذِتينِ وقُلْ هوَ الله أحدٌ".
والذي اختارَه أكْثَرُ أهلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ بَعدَهم أنْ يَقرأ بـ {سبّحْ اسمَ ربكَ الأعلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {وقلْ هوَ الله أحدٌ} . يَقرأُ فِي كلّ ركعةٍ منْ ذلكَ بِسورةٍ.
462 ـ حدثنا إسحاقُ بن إبراهيمَ بن حبيبِ بن الشهيدِ البَصْريّ حدثنا محمدُ بن سَلَمَةَ الحرّانيّ عنْ خُصَيْفٍ عنْ عبدِ العزيزِ بن جُرَيجٍ ،
ـــــــ
قوله: "وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في الوتر في الركعة الثالثة بالمعوذتين و {قلْ هوَ الله أحدٌ} رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ، ورواه الترمذي في هذا الباب ، ورواه الدارقطني والطحاوي والحاكم عن عمرة عن عائشة بلفظ: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث: يقرأ في الركعة الأولى بـ {سبّحْ اسمَ ربكَ الأعلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وفي الثالثة {قلْ هوَ الله أحدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} " . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "والذي اختاره أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أن يقرأ بـ {سبّحْ اسمَ ربكَ الأعلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قلْ هوَ الله أحدٌ} يقرأ في كل ركعة من ذلك بسورة" وبه قال الحنفية ، قال ابن الهام وذلك لأن أبا حنيفة روى في مسنده عن حماد عن إبراهيم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث يقرأ في الأولى {سبّحْ اسمَ ربكَ الأعلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة {قلْ هوَ الله أحدٌ} انتهى.
قلت: وإنما اختاره أكثر أهل العلم لأن حديث ابن عباس وأبي بن كعب بإسقاط المعوذتين أصح. وقال ابن الجوزي: أنكر أحمد ويحيى بن معين زيادة المعوذتين كذا في التلخيص.
قوله: "حدثنا إسحاق بن حبيب بن الشهيد البصري" الشهيدي ثقة من العاشرة "أخبرنا محمد بن سلمة الحراني" ثقة "عن خصيف" بالصاد المهملة مصغراً هو(2/560)
قالَ: "سألت عائشةَ بأيّ شيء كانَ يوترُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالتْ كانَ يقرأُ فِي الأولى بـ {سبحْ اسمَ ربّكَ الأعلى} وفي الثانيةِ بِـ {قلْ يا أيها الكافرونَ} ، وفي الثالثةِ بِـ {قلْ هوَ الله أحدٌ} والمعوّذَتينِ".
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسَنٌ غريبٌ.
وعبدُ العزيزِ هذا هو والدُ بنِ جُرْيجٍ صاحب عطاءٍ.
وابنُ جُرَيجٍ اسمهُ عبدُ الملكِ بنُ عبدِ العزيزِ بنِ جريجٍ.
ـــــــ
ابن عبد الرحمن الجزري أبو عون صدوق سيئ الحفظ خلط بآخره رمى بالإرجاء كذا في التقريب. وقال في الخلاصة ضعفه أحمد ووثقه ابن معين وأبو زرعة. وقال ابن عدي: إذا حدث عنه ثقة فلا بأس به "عن عبد العزيز بن جريج" المكي مولى قريش لين. قال العجلي لم يسمع من عائشة ، وأخطأ خصيف فصرح بسماعه من الرابعة كذا في التقريب ، وقال في الخلاصة لا يتابع فيها حديثه انتهى.
قوله: "وهذا حديث حسن غريب" في كونه حسناً نظر فإن عبد العزيز بن جريج لم يسمع من عائشة كما عرفت، وأيضاً فيه خصيف وهو قد خلط بآخره ولا يدري أن محمد بن سلمة رواه عنه قبل الاختلاط أو بعده والله تعالى أعلم. نعم يعتضد برواية عمرة عن عائشة التي أشار إليها الترمذي. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: فيه خصيف وفيه لين انتهى.
قوله: "وعبد العزيز هذا" الذي وقع في إسناد حديث عائشة المذكور "والد ابن جريج" ابن جريج هذا هو الفقيه المشهور المكي المتوفي سنة خمسين ومائة "صاحب عطاء" قال ابن جريج: لزمت عطاء سبع عشرة سنة وعطاء هذا هو ابن أبي رباح "واسمه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج" فهو منسوب إلى جده جريج.(2/561)
وقد روى يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريّ هذا الحديث عن عمرةَ عن عائشةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
قوله: "وقد روى هذا الحديث يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة" رواه الدارقطني والطحاوي والحاكم وقد ذكرنا لفظه: قال الحافظ في التلخيص: ورواه الدارقطني وابن حبان والحاكم من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة ، وتفرد به يحيى بن أيوب عنه وفيه مقال ولكنه صدوق ، وقال العقيلي إسناده صالح انتهى.(2/562)
336ـ باب ما جاءَ فِي الْقُنُوتِ في الوِتر
463ـ حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا أبو الأحْوَصِ عنْ أبي إسحاقَ عنْ بُرَيْدِ بنِ أبي مريمَ عنْ أبي الحَوْرَاءِ قالَ: قالَ الحسنُ بن علي: "علمني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهنّ في الوتر: اللهمّ اهدنيِ فيمنْ هَدَيْتَ وعَافِنِي فِيمَنْ عافَيْتَ وَتَوَلّنِي فِيمَنْ تَوَلّيْتَ وَبَارِكْ
ـــــــ
"باب ما جاءَ فِي الْقُنُوتِ في الوِتر"
قوله: "عن بريد" بضم الموحدة وفتح الراء مصغراً "بن أبي مريم" السلولي البصري ثقة مات سنة أربع وأربعين ومائة "عن أبي الحوراء" بفتح المهملتين اسمه ربيعة بن شيبان السعدي البصري ثقة.
قوله: "اللهم اهدني" أي ثبتني على الهداية "فيمن هديت" أي في جملة من هديتهم أو هديته من الأنبياء والأولياء كما قال سليمان "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" وقال ابن الملك: أي أجعلني فيمن هديتهم إلى الصراط المستقيم ، وقيل في فيه وفيما بعده بمعنى مع قال تعالى { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} "وعافني فيمن عافيت" قال ابن الملك من المعافاة التي هي دفع السوء "وتولني فيمن توليت" أمر مخاطب من(2/562)
لِي فيمَا أعْطَيْتَ وَقِنِي شَرّ ما قضيْتَ فَإِنكَ تَقْضِي ولا يُقْضَى عليكَ، وإنه لا يذِلّ من واليْتَ، تباركتَ ربّنا وتعاليْتَ".
وفي الباب عن علي.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ لا نعرفهُ إلاّ منْ هذا الوجهِ منْ حديثِ أبي الحَوْراءِ السعديّ واسمُهُ ربيعةُ بنُ شيبانَ.
ـــــــ
تولى أحب عبداً وقام بحفظه وحفظ أمره "وبارك" "أي أكثر الخير لي" أي لمنفعتي "فيما أعطيت" أي فيما أعطيتني من العر والمال والعلوم والأعمال "وقني" أي احفظني "شر ما قضيت" ما قدرت لي "فإنك تقضي" أي تقدر أو تحكم بكل ما أردت "ولا يقضي عليك" فإنه لا معقب لحكمك "وإنه" أي الشأن "لا يذل" بفتح فكسر أي لا يصير ذليلاً "من واليت" الموالاة ضد المعاداة ، قال ابن حجر: أي لا يذل من واليت من عبادك في الاَخرة أو مطلقاً وإن ابتلى بمات ابتلى به وسلط عليه من أهانه وأذله باعتبار الظاهر لأن ذلك غاية الرفعة والعزة عند الله وعند أوليائه ولا عبرة إلا بهم ، ومن ثم وقع للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الامتحانات العجيبة ما هو مشهور وزاد البيهقي وكذا الطبراني من عدة طرق: ولا يعز من عاديت: أي لا يعز في الاَخرة أو مطلقاً وإن أعطي من نعيم الدنيا وملكها ما أعطى لكونه لم يمتثل أوامرك ولم يجتنب نواهيك "تباركت" أي تكاثر خيرك في الدارين "ربنا" بالنصب أي يا ربنا "وتعاليت" أي ارتفع عن مشابهة كل شيء. وقال الحافظ في بلوغ المرام: زاد النسائي في آخره: وصلى الله على النبي.
قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك الحديث.
قوله: "هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء(2/563)
ولاَ نعرفُ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم في القُنوتِ شيئاً أحسنَ من هذا.
واختلفَ أهلُ العلمِ في القنوتِ في الوترِ ، فرأى عبدُ الله بنُ مسعودٍ القنوتَ فِي الوترِ في السّنَةِ كلّها ، واختارَ القنوتَ قبلَ الركوعِ.
وهو قولُ بعضِ أهلِ العلمِ.
وبهِ يقولُ سُفيانُ الثوريّ وابنُ المباركِ وإسحاقُ وأهلُ الكُوفةِ.
ـــــــ
السعدي" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي.
قوله: "واختلف أهل العلم في القنوت في الوتر" هل يقنت في الوتر في السنة كلها أم في النصف الاَخر من رمضان فقط وهل يقنت قبل الركوع أم بعده "فرأى عبد الله بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها وأختار القنوت قبل الركوع" روى محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن إبراهيم أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقنت السنة كلها في الوتر قبل الركوع وسنده منقطع. وروى ابن أبي شيبة عن علقمة أن ابن مسعود وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع: قال ابن التركماني في الجوهر النفي: هذا سند صحيح على شرط مسلم. وقال الحافظ في الدراية: إسناده حسن "وهو قول بعض أهل العلم ، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق وأهل الكوفة" وهو قول الحنفية واستدلوا بحديث أبي بن كعب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع ، رواه ابن ماجه والنسائي ، وبما روى البخاري في صحيحه في المغازي عن عبد العزيز قال سأل رجل أسناً رضي الله عنه عن القنوت بعد الركوع أو عند فراغ من القراءة قال بل عند فراغ من القراءة ، وبما روى البخاري ومسلم عن عاصم قال: سألت أنس عن بن مالك رضي الله عنه عن القنوت فقال: قد كان القنوت ، قلت قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله ، قال: فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع ، فقال: كذب إنما قنت(2/564)
وقدْ رُوِيَ عنْ عليّ بنِ أبي طالبٍ أنهُ كانَ لا يقنُتُ إلا في النصفِ الاَخِرِ منْ رَمَضَانَ ، وكانَ يَقْنُتُ بعدَ الركوعِ.
وقدْ ذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى هذا.
وبهِ يقولُ الشافعيّ وأحمدُ.
ـــــــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً أراه كان بعث قوماً يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلاً إلا قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو عليهم.
قلت: قد جاء عن أنس روايات مختلفة في هذا الباب.
"وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه كان لا يقنت إلا في النصف الاَخر من رمضان. وكان يقنت بعد الركوع" روى محمد بن نصر في قيام الليل عن علي أنه كان يقنت في النصف الاَخر من رمضان وروى أيضاً فيه أن علياً كان يقنت في الوتر بعد الركوع ، وقد عقد بابا بلفظ: باب ترك القنوت في الوتر إلا في النصف الاَخر من رمضان ، وذكر فيه آثاراً عديدة فروى أثر معاذ بن الحارث الأنصاري: إذا انتصف رمضان لعن الكفرة ، وكان ابن عمر لا يقنت في الصبح ولا في الوتر إلا في النصف الاَخر من رمضان. وعن الحسن كانوا يقنتون في النصف الاَخر من رمضان. وكان الحسن ومحمد وقتادة يقولون: القنوت في النصف الأواخر من رمضان. وعن عمران بن حدير: أمرني أو مجلز أن أقنت في النصف الباقي من رمضان ، قال: إذا رفعت رأسك من الركوع فاقنت. وعن ابن شهاب كانوا يلعنون الكفرة في النصف ، وفي رواية: لا قنوت في السنة كلها إلا في النصف الاَخر من رمضان. وروى فيه عن الحسن عن أبي بن كعب: أم الناس في رمضان فكان لا يقنت في النصف الأول ويقنت في النصف الاَخر فلما دخل العشر أبق وخلا عنهم فصلى بهم معاذ القاري. وسئل سعيد بن جبير عن بدء القنوت في الوتر فقال: بعث عمر بن الخطاب جيشاً فورطوا متورطاً خاف عليهم فلما كان النصف الاَخر من رمضان قلت يدعو لهم.
قوله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا وبه يقول الشافعي وأحمد" قال محمد(2/565)
ـــــــ
بن نصر في قيام الليل: قال الزعفراني عن الشافعي أحب إلى أن يقنتوا في الوتر في النصف الاَخر ولا يقنت في سائر السنة ولا في رمضان إلا في النصف الاَخر، قال محمد بن نصر وكذلك حكى المزني عن الشافعي حدثني أبو داود قلت لأحمد: القنوت في الوتر السنة كلها؟ قال إن شاء قلت فما تختار؟ قال أما أنا فلا أقنت إلا في النصف الاَخر متى يبتديء؟ قال إذا مضى خمس عشرة ليلة سادس عشرة. وكان إسحاق بن راهويه يختار القنوت في السنة كلها انتهى كلام محمد بن نصر.
قلت: استدل من قال بكون القنوت بعد الركوع بحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت بعد الركعة وأبو بكر وعمر حتى كان عثمان فقلت قبل الركعة ليدرك الناس قال العراقي إسناده جيد، وبحديث أبي هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع رواه البخاري في المغازي، وبحديث عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الاَخرة من الفجر يقول: اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً بعدما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فأنزل الله "ليس لك من الأمر شيء" إلى قوله "فإنهم ظالمون" قال الحافظ في التلخيص: روى البخاري من طريق عاصم الأحول عن أنس أن القنوت قبل الركوع، وقال البيهقي رواة القنوت بعد الرفع أكثر وأحفظ وعليه درج الخلفاء الراشدون انتهى.
وقال محمد بن نصر في قيام الليل: وسئل أحمد عن القنوت في الوتر قبل الركوع أم بعده ترفع الأيدي في الدعاء في الوتر؟ فقال القنوت بعد الركوع ويرفع يديه على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الغداة، وبذلك قال أبو أيوب وأبو خيثمة وابن أبي شيبة ، وكان إسحاق يختار القنوت بعد الركوع في الوتر. قال محمد بن نصر: وهذا الرأي أختاره انتهى.
قلت: يجوز القنوت في الوتر قبل الركوع وبعده، والمختار عندي كونه بعد الركوع قال العراقي: ويعضد كونه بعد الركوع أولى فعل الخلفاء الأربعة لذلك والأحاديث الواردة في الصبح انتهى.(2/566)
ـــــــ
واعلم أن الحنفية اختاروا القنوت قبل الركوع فإذا كانوا يريدون القنوت قبل ركوع الركعة الثانية ، يكبرون ويرفعون أيديهم كرفع اليدين عند التحريمة ثم يقنتون ، أما التكبير فيستدلون على ثبوته ببعض الآثار. وقد عقد محمد بن نصر في قيام الليل لذلك باباً فقال باب التكبير للقنوت ، وذكر فيه عن طارق بن شهاب أن عمر بن الخطاب لما فرغ من القراءة بكر ثم ثنت ثم كبر وركع يعني في الفجر. وعن علي أنه كبر في القنوت حين فرغ من السورة كبر ثم قنت ، وعن إبراهيم في القنوت في الوتر إذا فرغ من القراءة كبر ثم قنت ثم كبر وركع ، وعن سفيان كانوا يستحبون إذا فرغ من القراءة في الركعة الثالثة من الوتر أن يكبر ثم يقنت، وعن أحمد إذا كان يقنت قبل الركوع افتتح بتكبيرة.
قلت: لم أقف على حديث مرفوع في التكبير للقنوت ولم أقف على أسانيد هذه الآثار. وأما رفع اليدين في قنوت الوتر فلم أقف على حديث مرفوع فيه أيضاً ، نعم جاء فيه عن ابن مسعود من فعله فروى البخاري في جزء رفع اليدين عن الأسود عن عبد الله رضي الله عنه أنه كان يقرأ في آخر ركعة من الوتر قل هو الله أحد ثم يرفع يديه فيقنت قبل الركعة. وقد عقد محمد بن نصر باباً بلفظ باب رفع الأيدي عند القنوت ، وذكر فيه عن الأسود أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يرفع يديه في القنوت إلى صدره. وعن أبي عثمان النهدي كان عمر يقنت بنا في صلاة الغداة ويرفع يديه حتى يخرج ضبعية. وكان أبو هريرة يرفع يديه في قنوته في شهر رمضان وعن أبي قلابة ومكحول أنهما كانا يرفعان أيديهما في قنوت رضمان ، وذكر آثاراً أخرى عن التابعين وغيرهم بعضها في ثبوت رفع اليدين وبعضها في نفيه من شاء الوقوف عليها فليرجع إلى كتاب قيام الليل. وقد استدل الحنفية على ثبوت رفع اليدين في قنوت الوتر كرفعهما عند التحريمة بهذه الآثار وفي الاستدلال بها على هذا المطلوب نظر إذ ليس فيها ما يدل على هذا بل الظاهر منها ثبوت رفع اليدين كرفعهما في الدعاء فإن القنوت دعاء(2/567)
337ـ باب ما جَاء في الرجلِ ينامُ عن الوِتْرِ أو ينسى
464ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيلاَنَ ، حدثنا وكيعٌ حدثنا عبدُ الرحمَنِ بنُ زيدِ بن أسلمَ عنْ أبيهِ عنْ عطاءِ بنِ يسارٍ عنْ أبي سعيدٍ الخدريّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "منْ نامَ عنِ الوترِ أوْ نسيَهُ فليصلّ إذا ذكرَ وإذا استيقظَ".
465 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عبدُ الله بنُ زيدِ بن أسلمَ عنْ أبيهِ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "منْ نامَ عنْ وِترِهِ فَليصلّ إذَا أصبحَ".
ـــــــ
"باب ما جَاء في الرجلِ ينامُ عن الوِتْرِ أو ينسى"
قوله: "أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم" ضعيف ضعفه أحمد وابن المديني والنسائي وغيرهم "عن أبيه" زيد بن أسلم العدوي فولى عمر بن الخطاب ثقة.
قوله: "من نام عن الوتر" أي عن أدائه "أو نسيه" فلم يصله "فليصل" أي قضاء "إذا ذكر" راجع إلى النسيان "وإذا استيقظ" راجع إلى النوم والحديث أخرجه أيضاً أبو داود وابن ماجه.
قوله: "أخبرنا عبد الله بن زيد بن أسلم" صدوق فيه لين من السابعة قاله الحافظ وقال الخزرجي وثقه أحمد والقزاز وضعفه ابن معين وابن عدي.
قوله: "من نام عن وتره فليصل إذا أصبح" قال ابن الملك أي فليقض الوتر بعد الصبح متى اتفق ، وإليه ذهب الشافعي في أظهر قوليه. وقال مالك وأحمد لا يقضي الوتر بعد الصبح انتهى.(2/568)
وهذَا أصحّ منَ الحديثِ الأولِ.
سمعتُ أبا داودَ السّجْزِيّ يعني سليمانَ بنَ الأشعثِ يقولُ: "سألتُ أحمدَ بنَ حنبلٍ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ زيدِ بنِ أسلمَ؟ فقال: أخوه عبدُ الله لا بَأسَ بهِ".
وسمعْتُ محمداً يذكرُ عن عليّ بنِ عبدِ الله أنهُ ضعّفَ عبدَ الرحمنِ بنَ زيدِ بنِ أسلمَ ، وقالَ: عبدُ الله بن زَيْدِ بن أسلمَ ثِقةٌ.
ـــــــ
قلت: مذهب الشافعي موافق لهذا الحديث وهو حجة على مالك وأحمد.
فإن قلت: هذا الحديث مرسل والمرسل من أقسام الضعيف.
قلت: قال ميرك نقلاً عن التصحيح: وله شاهد من حديث أغر المدني عند الطبراني بإسناد جيد انتهى، ويؤيده حديث أبي سعيد المذكور في الباب وإسناده عند أبي داود صحيح كما ستعرف.
قوله: "وهذا أصح من الحديث الأول" يعني عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً أصح من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري متصلاً ، فإن عبد الرحمن بن زيد ضعيف، وعبد الله بن زيد ثقة عند أحمد وابن المديني لكن حديث أبي سعيد هذا قد رواه أبو داود من طريق أخرى. قال في النيل: وإسناد الطريق التي أخرجه منها أبو داود صحيح كما قال العراقي.
قوله: "سمعت أبا داود السجزي" بسين مكسورة وغيرها وسكون جيم وبزاي نسبة إلى سجز واسم لسجستان وقيل نسبة إلى سجستان بغير قياس كذا في المغنى ، وأبو داود هذا هو صاحب السنن واسمه سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي السجستاني "وسمعت محمداً" هو محمد بن إسماعيل البخاري "يذكر عن علي بن عبد الله" هو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم أبو الحسن ابن المديني البصري ثقة ثبت إمام أعلم أهل عصرة بالحديث وعلله حتى قال البخاري ما استصغرت نفسي إلا(2/569)
وقد ذهب بعض أهل الكوفة إلى هذا الحديث. وقالوا: يوتر الرجل إذا ذكر وإن كان بعد ما طلعت الشمس.
وبه يقول سفيان الثورى.
ـــــــ
عنده وقال فيه شيخه ابن عيينة كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلمه مني كذا في التقريب:
قوله: "وقد ذهب بعض أهل الكوفة إلى هذا الحديث وقالوا يوتر الرجل إذا ذكر وإن كان بعد ما طلعت الشمس إلخ" قال الشوكاني في النيل: الحديث يعني حديث أبي سعيد الخدري يدل على مشروعية قضاء الوتر إذا فات. وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبادة بن الصامت وعامر بن ربيعة وأبو الدرداء ومعاذ بن جبل وفضاله بن عبيد وعبد الله ابن عباس كذا قال العراقي ، قال ومن التابعين عمرو بن شرحبيل وعبيدة السلمان وإبراهيم النخعي ومحمد بن المنتشر وأبو العالية وحماد بن أبي سليمان ، ومن الأئمة سفيان الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة.
ثم اختلف هؤلاء إلى متى يقضي على ثمانية أقوال: أحدها مالم يصل الصبح ، وهو قول ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومسروق والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي أيوب وأبي خيثمة حكاه محمد بن نصر عنهم.
ثانيها: أنه يقضي الوتر ما لم تطلع الشمس ولو بعد صلاة الصبح، وبه قال النخعي.
ثالثها: أنه يقضي الصبح وبعد طلوع الشمس إلى الزوال، روى ذلك عن الشعبي وعطاء والحسن وطاووس ومجاهد وحماد بن أبي سليمان ، وروى أيضاً عن ابن عمر وذكر الشوكاني باقي الأقوال قال ثامنها التفرقة بين أن يتركه لنوم أو نسيان وبين أن يتركه عمداً فإن تركه لنوم أو نسيان قضاه إذا استيقظ أو إذا ذكر في أي وقت كان ليلاً أو نهاراً وهو ظاهر الحديث ، واختاره ابن حزم واستدل بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(2/570)
ـــــــ
من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها: قال وهذا عموم يدخل فيه كل صلاة فرض أو نافلة وهو في الفرض أمر فرض وفي النفل أمر انتهى.(2/571)
338ـ باب ما جاء في مُبَادَرَةِ الصّبحِ بِالوِتْر
466ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنيعٍ، حدثنا يحيى بنُ زكريا بن أبي زائدةَ حدثنا عُبَيْدُ الله عن نافعٍ عنْ ابنِ عمرَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: َادِرُوا الصبحَ بالوترِ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن صحيحٌ.
467ـ حدثنا الحسنُ بن علي الخلاّل ، حدثنا عبدُ الرزّاقِ أخبرنا مَعْمَرٌ عن يحيى بن أبي كثيرٍ عن أبي نَضْرَةَ عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أوتروا قبلَ أن تصْبِحُوا".
ـــــــ
"باب ما جاء في مُبَادَرَةِ الصّبحِ بِالوِتْر"
قوله: "أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة" الهمداني أبو سعيد الكوفي ثقة متقن من رجال السنة "أخبرنا عبيد الله" بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني ثقة ثبت.
قوله: "بادروا الصبح بالوتر" أي أسرعوا بأداء الوتر قبل الصبح ، والحديث رواه أبو داود أيضاً.
قوله: "أوتروا قبل أن تصبحوا" الحديث رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود.(2/571)
468ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ ، حدثنا عبدُ الرزّاقِ أخبرنا ابنُ جُرَيْجٍ عن سليمانَ بنِ موسى عنْ نافعٍ عنْ ابنِ عمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا طلَعَ الفجرُ فقد ذهبَ كلّ صلاةِ الليلِ والوِترُ فأوْتِروا قبلَ طلوعِ الفجرِ".
قال أبو عيسى: و سليمانُ بنُ موسى قد تفرّدَ بهِ على هذا اللفظِ.
ورُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:لا وِتْرَ بعدَ صلاةِ الصّبحِ.
ـــــــ
قوله: "وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا وتر بعد صلاة الصبح" أخرجه محمد بن نصر في قيام الليل من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا وتر بعد الفجر ، وفي سنده أبو هارون العبدي ، قال الدارقطني يتلون خارجي وشيعي وضعفه شعبة وكذبه الجوزجاني. قال محمد بن نصر بعد رواية حديث ابن عمر وحديث أبي سعيد الخدري المذكورين في الباب ما لفظه: فالذي عليه جمهور أهل العلم أن لا يؤخر الوتر إلى طلوع الفجر أتباعاً للاَثار التي رويناها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوتر قبل الصبح ، وكان وتره صلى الله عليه وسلم عامته كذلك في آخر الليل قبل طلوع الفجر. ثم اختلف الناس فيمن نام عن الوتر أو سها عنه أو فرط فيه فلم يوتر حتى طلع الفجر فرأى بعضهم أن الفجر إذا طلع فقد ذهب وقت الوتر ولا يقضي بعد ذلك لأنه ليس بفرض وإنما يصلي في وقته فإذا ذهب وقته لم يقض على ما روينا عن عطاء وغيره. واحتج بعضهم بحديث يروى عن أبي سعيد الخدري ثم ذكره بإسناده وقد ذكر لفظه آنفاً ثم قال: وهذا حديث لو ثبت لكان حجة لا يجوز مخالفته ، غير أن أصحاب الحديث لا يحتجون برواية هارون العبدي. قال والذي ذهب إليه جماعة من أصحابنا أن من طلع عليه الفجر ولم يوتر فإنه يوتر ما لم يصل الغداة إتباعاً للأخبار التي(2/572)
وهو قولُ غيرِ واحدٍ من أهلِ العلمِ.
وبهِ يقولُ الشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ: لا يرونَ الوترَ بعدَ صلاة الصّبحِ.
ـــــــ
رويت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أوتروا بعد الصبح. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه أوتر بعد ما أصبح فإذا صلى الغداة فإن جماعة من أصحابنا قالوا لا يقضي الوتر بعد ذلك ، وقد روى ذلك عن جماعة من المتقدمين أيضاً. وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم من أصحابنا. ثم ذكر محمد بن نصر الأخبار التي جاءت في الوتر بعد طلوع الفجر بعضها مرفوعة وأكثرها آثار الصحابة والتابعين ومن بعدهم ثم قال: والذي أقول به أنه يصلي الوتر ما لم يصل الغداة فإذا صلى الغداة فليس عليه أن يقضيه بعد ذلك ، وإن قضاة على ما يقضي التطوع فحسن ، قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين قبل الفجر بعد طلوع الشمس في الليلة التي نام فيها عن صلاة الغداة حتى طلعت الشمس ، وكذا الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الظهر بعد العصر في اليوم الذي شغل فيه عنها ، وقد كانوا يقضون صلاة الليل إذا فاتتهم بالليل نهاراً ، فلذلك حسن وليس بواجب انتهى كلام محمد بن نصر.
قوله: "وهو قول غير واحد من أهل العلم ، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق لا يرون الوتر بعد صلاة الصبح" قال في شرح السنة: قيل وتر بعد صلاة الصبح وهو قول عطاء وبه قال مالك وأحمد. وذهب آخرون إلى أنه يقضيه متى كان، وهو قول سفيان الثوري وأظهر قولي الشافعي لما روى أنه قال: من نام عن وتر فليصل إذا أصبح ذكره الطيبي. ومذهب أبي حنيفة أنه يجب قضاء الوتر حتى لو كان المصلى صاحب ترتيب وصلى الصبح قبل الوتر ذاكراً لم يصح(2/573)
339ـ باب ما جاء لا وِترانِ في لَيْلَة
468ـ حدثنا هنّادٌ ، أخبرنا مُلاَزِمُ بنُ عَمْرٍو قال حدثني عبدُ الله بن بَدْرٍ عن قَيْسِ بن طلْقِ بن علي عن أبيهِ قال سمعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : " لا وِتْرَانِ في ليلةٍ ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ غريبٌ.
واختلفَ أهلُ العلمِ في الذي يُوترُ مِن أولِ الليلِ ثم يقومُ مِن آخِرِهِ فرأى بعضُ أهلِ العلمِ مِن أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَن بَعْدَهُمْ نَقْضَ الوِترِ ، وقالوا: يُضِيفُ إليها ركعةً ويصلّي ما بَدَا له ، ثم يُوتِرُ في آخرِ صلاتِهِ لأنّه لا وترانِ في ليلةٍ. وهو الذي ذهبَ إليه إسحاقُ.
ـــــــ
"باب ما جاء لا وِترانِ في لَيْلَة"
قوله: "أخبرنا ملازم بن عمرو" هو ملازم بن عمرو بن عبد الله بن بدر اليمامي صدوق من الثامنة "حدثني عبد الله بن بدر" اليمامي عن ابن عباس وطلق بن علي وعنه سبطه ملازم بن عمرو وعكرمة بن عمار وثقه ابن معين وأبو زرعة كذا في الخلاصة.
قوله: "لا وتران في ليلة" قال ابن العربي في عارضة الأحوذي: معناه أن من أوتر في آخر الليل ثم صلى بعد ذلك لا يعيد الوتر انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" أخرجه الخمسة إلا ابن ماجه كذا في المنتقى. وقال الشوكاني في النيل: قال عبد الحق وغير الترمذي صححه وأخرجه أيضاً ابن حبان وصححه "فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم نقص الوتر وقالوا يضيف إليها ركعة الخ" روى محمد بن نصر في قيام الليل عن عثمان بن عفان(2/574)
وقال بعضُ أهلِ العلمِ مِن أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إذا أوترَ مِن أولِ الليلِ ثم نامَ قام مِنْ آخر الليل: فإنه يصلّي ما بدَا لهُ
ـــــــ
رضي الله عنه أنه قال: إني إذا أردت أن أقوم من الليل أوترت بركعة فإذا قمت ضممت إليها ركعة فما شبهتها إلا بالغربية من الإبل تضم إلى الإبل. وقاله سعيد بن مالك: أما أنا فإذا ركعت أردت أن أصلي من الليل أوترت بركعة فإذا استيقظت صليت إليها ركعة ثم صليت ركعتين ركعتين ثم أوترت. وعن سالم كان ابن عمر رضي الله عنه إذا أوتر أول الليل ثم قال يصلي يشفع وتره الأول بركعة ثم يصلي بوتر. وعن ابن عباس أنه قال: إذا أوتر الرجل من أول الليل ثم أراد أن يصلي شفع وتره ثم صلى ما بدا له ثم أوتر من آخر صلاته. وعن أسامة بمعناه. وعن هشام بن عروة: كان أبي يوتر أول الليل فإذا قام شفع انتهى باختصار.
واحتج هؤلاء بحديث الباب، واحتجوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: إجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً، فقالوا إذا هو قام من الليل فلم يشفع وتره وصلى مثنى مثنى ثم لو يوتر في آخر صلاته كما قد جعل صلاته من الليل شفعاً لا وتراً وترك قول النبي صلى الله عليه وسلم: إجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ، كذا في قيام الليل ، واحتجوا أيضاً بآثار الصحابة المذكورين رضي الله عنهم.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" أخرجه الخمسة إلا ابن ماجه ، وأخرجه أيضاً ابن حبان وصححه. قال عبد الحق: وغير الترمذي صححه.
قوله: "وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إذا أوتر من أول الليل ثم نام ثم قام من آخره أنه يصلي ما بدا له ولا ينقص وتره الخ" روى محمد ابن نصر في قيام الليل عن عائشة عن أبي بكر الصديق أنه كان يوتر قبل أن ينام، فإذا قام من الليل صلى مثنى مثنى حتى يفرغ مما يرد أن يصلي: وعن عمار بن ياسر وقد سئل عن الوتر فقال أما أنا فأوتر قبل أن أنام فإن رزقني الله شيئاً صليت شفعاً شفعاً إلى أن أصبح. وعن عائشة: الذين ينقضون وترهم هم الذين يلعبون بصلاتهم. وروي عن ابن عباس أيضاً بنحوه. وعنه في رواية: في الذي يوتر ثم يريد أن يصلي قال يصلي مثنى(2/575)
ولا ينقضُ وترَهُ ويدَعُ وِترَهُ على ما كانَ. وهو قولُ سفيانَ الثوريّ ومالكِ بنِ أنسٍ وأحمد وابنِ المبارَكِ وهذا أصحّ لأنه قد رُوِيَ مِن غير وجهٍ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد صلّى بعدَ الوترِ.
ـــــــ
مثنى ، وفي رواية: حسبه وتره الأول. وعنه لما بلغه فعل ابن عمر لم يعجبه وقال إن ابن عمر يوتر في ليلة ثلاث مرات. وعن أبي هريرة إذا صليت العشاء صليت بعدها خمس ركعات ثم أنام فإن قمت صليت مثنى مثنى وإن أصبحت على وتر. وسئل رافع بن خديج عن الوتر فقال أما أنا فإني أوتر من أول الليل فإن رزقت شيئاً من آخره صليت ركعتين ركعتين حتى أصبح.
قوله: "وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد وابن المبارك وهذا أصح" وقال محمد بن نصر في قيام الليل: وهذا مذهب الشافعي وأحمد وهو أحب إلي ، وإن شفع وتره اتباعاً للأخبار التي رويناها رأيته جائزاً انتهى. وقال العراقي: وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وقالوا إن من أوتر وأراد الصلاة بعد ذلك لا ينقص وتره ويصلي شفعاً شفعاً حتى يصبح انتهى. وهذا هو المختار عندي ولم أجد حديثاً مرفوعاً صحيحاً يدل على ثبوت نقص الوتر والله تعالى أعلم.
قوله: "لأنه قد روى من غير وجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى بعد الوتر" وأجابوا عن القائلين بجواز نقص الوتر بأنه إذا أوتر الرجل أول الليل فقد قضى وتره ، فإذا هو نام بعد ذلك ثم قام وتوضأ وصلى ركعة أخرى فهذه صلاة غير تلك الصلاة وغير جائز في النظر أن تتصل هذه الركعة بالركعة الأولى التي صلاها في أول الليل فلا يصيران صلاة واحدة وبينهما نوم وحدث ووضوء وكلام في الغالب وإنما هما صلاتان متباينتان ، ومن فعل ذلك فقد أوتر مرتين ، ثم هو إذا أوتر أيضاً في آخر صلاته صار موتراً ثلاث مرات. وقد قال صلى الله عليه وسلم: إجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً ، وهذا قد جعل الوتر في مواضع من صلاة الليل. وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: لا وتران في ليلة ، وهذا قد أوتر ثلاث مرات ، وقال محمد بن نصر: وقد قال من ذهب هذا المذهب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً إنما هو ندب واختيار وليس بإيجاب: والدليل على ذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوتر بالليل ، قال(2/576)
469ـ حدثنا محمدُ بن بشارٍ، حدثنا حَمّادُ بن مسعَدَةَ عن مَيْمونِ بن موسى الَمَرِئيّ عن الحسنِ عن أُمّهِ أمّ سلمة: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعدَ الوِترِ ركعَتَيْنِ".
قال أبو عيسى: وقد رُوِيَ نحوُ هذا عن أبي أُمامةَ وعائشةَ وغيرِ واحدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
والدليل على ذلك أيضاً أن ابن عمر الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً ، وهو الذي كان يشفع وتره. وروى عنه أنه سئل عمن قام من الليل وقد أوتر قبل أن ينام مثنى مثنى ولم يشفع وتره قال ذلك حسن جميل ، فدل فتياه أنه رأى قوله: إجعلوا آخر صلاتكم وتراً ندباً لا إيجاباً ، ثم ذكر محمد بن نصر فتياه بسنده وكذلك قوله صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة إنما هو ندب واختيار لا إيجاب ، والدليل عليه وتر النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وسبع وتسع لم يسلم إلا في آخرهن انتهى.
قوله: "أخبرنا حماد بن مسعدة" التميمي أبو سعيد البصري ثقة "عن ميمون بن موسى الموائي" بفتحتين وهمزة أبو موسى البصري صدوق مدلس من السابعة "عن الحسن" هو مدلس البصري "عن أمه" اسمها خيرة مولاة أم سلمة مقبوله من الثانية.
قوله: "كان يصلي بعد الوتر ركعتين" ورواه أحمد وابن ماجه وزادا وهو جالس.
قوله: "وقد روى نحو هذا عن أبي أمامة وعائشة وغير واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم" أما حديث أبي أمامة فأخرجه أحمد والبيهقي بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس يقرأ جالس يقرأ فيهما بـ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وأخرجه بنحوه محمد بن نصر في قيام الليل وأما حديث عائشة و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وأخرجه بنحوه محمد بن نصر في قيام الليل وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وفي الباب عن أنس رضي الله عنه عند الدارقطني بنحو حديث أبي أمامة. قال النووي: الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما صلى الله عليه وسلم بعد الوتر جالساً لبيان الجواز ولم يواظب على ذلك بل فعله مرة أو مرات قليلة ولا يغتر بقولها كان يصلي ، فإن المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين(2/577)
ـــــــ
أن لفظ كان لا يلزم منها الدوام ولا التكرار قال: وإنما تأولنا حديث الركعتين لأن الروايات المشهورة في الصحيحين كثيرة مشهورة بالأمر بجعل آخر صلاة الليل وتراً ، فكيف يظن به صلى الله عليه وسلم مع هذه الأحاديث وأشباهها أنه يداوم على ركعتين بعد الوتر ويجعلهما آخر صلاة الليل. قال: وأما ما أشار إليه القاضي عياض من ترجيح الأحاديث المشهورة ورد رواية الركعتين فليس بصواب لأن الأحاديث إذا صحت وأمكن الجمع بينها تعين وقد جمعنا بينها ولله الحمد انتهى كلام النووي.(2/578)
340ـ باب ما جاء في الوِتْرِ على الراحِلَة
470ـ حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا مالكُ بن أنسٍ عن أبي بكرٍ بن عُمرَ بن عبدِ الرحمَنِ عن سَعِيدِ بن يسارٍ قال: "كنتُ مع ابن عُمَرَ في سفرٍ فَتَخَلّفْتُ عنه فقال أينَ كنتَ؟ فقلت: أوترتُ ، فقال أليس لك في رسولِ الله أسوةٌ؟ رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُوترُ على راحِلَتِه".
ـــــــ
"باب ما جاء في الوِتْرِ على الراحِلَة"
قوله: "عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن" بن عبد الله بن عمر القرشي العدوي المدني ثقة "عن سعيد بن يسار" المدني ثقة.
قوله: "فتخلفت عنه" وفي رواية البخاري فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت ثم لحقته "فقال أين كنت فقلت أوترت" وفي رواية البخاري: فقال عبد الله بن عمر أين كنت؟ فقلت خشيت الصبح فنزلت فأوترت "أليس لك في رسول الله أسوة حسنة" قال في القاموس: الأسوة بالكسر والضم القدوة إرشاد العالم لرفيقه ما قد يخفى عليه من السنن "يوتر على راحلته" فيه دليل على جواز الوتر على الراحلة وهو الحق ، وفي رواية:(2/578)
وفي الباب عن ابن عباسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَرَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقد ذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم إلى هذا ، ورَأَوا أن يُوتِرَ الرجلُ على راحلتِهِ. وبه يقُولُ الشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: لا يُوترُ الرجلُ على الراحلَةِ وإذا أرادَ أن يُوترَ نزلَ فأوترَ على الأرضِ. وهو قولُ بعضِ أهلِ الكوفةِ.
ـــــــ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح وهو على الراحلة قبل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة كذا في قيام الليل.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه محمد بن نصر في قيام الليل بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر على راحلته.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "وقد ذهب بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إلى هذا ورأوا أن يوتر الرجل إلى راحلته" روى محمد بن نصر في قيام الليل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يوتر على راحلته. عن نافع كان عبد الله رضي الله عنه يوتر على البعير يوميء برأسه. وعن ابن جريج قلت لعطاء أوتر وأنا مدبر عن القبلة على دابتي قال نعم. وعن عطاء: لا بأس أن يوتر على بعيره. وعن سفيان: إن أوترت على دابتك فلا بأس والوتر بأرض أحب إلى "وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق" وهو الحق.
قوله: "وقال بعض أهل العلم لا يوتر الرجل على الراحلة الخ" وهو قول أبي حنيفة.
قال محمد بن نصر في قيام الليل بعد رواية حديث ابن عمر وابن عباس المذكورين(2/579)
ـــــــ
والآثار المذكورة ما لفظه: وزعم النعمان يعني أبا حنيفة. أن الوتر على الدابة لا يجوز خلافاً لما روينا.
وأحتج بعضهم له بحديث رواه عن ابن عمر أنه نزل عن دابته فأوتر بالأرض ، فيقال لمن احتج بذلك هذا ضرب من الغفلة هل قال أحد إنه لا يحل للرجل أن يوتر بالأرض إنما قال العلماء لا بأس أن يوتر على الدابة وإن شاء أوتر بالأرض ، وكذلك كان ابن عمرو يفعل ربما أوتر على الدابة وربما أوتر على الأرض ، وعن نافع أن ابن عمر كان ربما أوتر على راحلته وربما نزل ، وفي رواية كان يوتر على راحلته وكان ربما نزل انتهى.
وقال صاحب التعليق الممجد: أخذ أصحابنا يعني الحنفية بالآثار الواردة بنزول ابن عمر رضي الله عنه للوتر وشيدوه بالأحاديث المرفوعة الواردة في نزوله صلى الله عليه وسلم للوتر وقال المجوزون لأدائه على الدابة إنه لا تعارض ههنا إذا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الأمرين فأحياناً أدى الوتر على الدابة وأحياناً على الأرض واقتدى به ابن عمر. ويؤيده ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار عن مجاهد عن محمد بن أسحاق عن نافع قال كان ابن عمر يوتر على الراحلة وربما نزل فأوتر على الأرض.
وذكر الطحاوي بعد ما أخرج آثار الطرفين الوجه في ذلك عندنا أنه قد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على الراحلة قبل أن يحكم ويغلظ أمره ثم أحكم بعد ولم يرخص في تركه ثم أخرج حديث: إن الله أمدكم بصلاة هي خير من حمر النعم ما بين صلاة العشاء إلى الفجر الوتر الوتر. من حديث خارجة وأبي بصرة ، ثم قال فيجوز أن يكون ما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وتره على الراحلة كان منه قبل تأكيده أياه ثم نسخ ذلك انتهى.
وفيه نظر لا يخفى ، إذ لا سبيل إلى إثبات النسخ بالاحتمال ما لم يُعلم ذلك بنص وارد في ذلك انتهى.(2/580)
341ـ باب ما جاءَ في صَلاَةِ الضّحَى
471 ـ حدثنا أبو كُريبٍ محمدُ بنُ العلاءِ حدثنا يونسُ بن بُكَيرٍ عن محمدِ بنِ إسحاقَ قال حدثني موسى بن فُلانِ بن أنسٍ عن عمهِ ثُمامةَ بن أنسِ بن مالكٍ عن أنسِ بنِ مالكٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الضّحى ثِنْتَيْ عشْرَةَ ركعةً بَنَى الله له قصراً من ذهب في الجنةِ".
وفي الباب عن أُمّ هانئ وأبي هُريْرَةَ ونُعَيْمِ بنِ هَمّارٍ وأبي ذرّ
ـــــــ
"باب ما جاء في صلاة الضحى"
قال العيني في شرح البخاري: الضحى بالضم والكسر فوق الضحوة وهي أرتفاع أول النهار والضحاء بالفتح والمد هو إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده أنتهى. قال القاري في المرقاة: قيل صلاة وقت الضحى والظاهر أن إضافة الصلاة إلى الضحى بمعنى "في" كصلاة النهار وصلاة الليل ، فلا حاجة إلى القول بحذف المضاف، وقيل من باب إضافة المسبب إلى السبب كصلاة الظهر أنتهى.
قوله: "حدثني موسى بن فلان بن أنس" ويقال هو موسى بن حمزة مجهول من السادسة كذا في التقريب "عن عمه ثمامة بن أنس بن مالك" قال الحافظ في التقريب ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري قاضيها صدوق من الرابعة.
قوله: "من صلى الضحى ثنتي عتشرة ركعة" هذا أكثر ما ورد في عدد صلاة الضحى قال العيني لم يرد في صلاة الضحى أكثر من ذلك.
قوله: "وفي الباب عن أم هانئ" أخرجه الشيخان وأخرجه المؤلف أيضاً وأبي هريرة أخرجه المؤلف في الباب وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه.(2/581)
وعائشةَ وأبي أمامةَ وعُتْبَةَ بن عبدٍ السّلَميّ وابن أبي أوفَى وأبي سعيدٍ وزيدِ بن أرقمَ وابن عباسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أنَسٍ حديثٌ غريبٌ لا نعرِفه إلاّ من هذا الوجهِ.
ـــــــ
وأخرج مسلم في صحيحه عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد "ونعيم بن همار" بهاء مفتوحة وشدة ميم وبراء صحابي أخرج حديثه أبو داود والنسائي في الكبرى.
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل: يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره "وأبي ذر" أخرجه مسلم مرفوعاً قال: يصبح على كل سلامي الحديث ، وفي آخره يجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى "وعائشة" أخرجه مسلم من طريق معاذة أنها سألت عائشة: كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى؟ قالت أربع ركعات ويزيد ما شاء.
وأخرج مالك في الموطأ عن عائشة أنها كانت تصلي الضحى ثماني ركعات ثم تقول لو نشر لي أبواي ما تركتها "وأبي أمامة" أخرجه الطبراني بنحو حديث أبي هريرة "وعتبة بن عبد السلمي" أخرجه الطبراني مرفوعاً: من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم ثبت حتى يسبح الله سبحة الضحى كان له كأجر حاج ومعتمر "وابن أبي أوفى" أخرجه الطبراني في الكبير بلفظ: أن عبد الله بن أبي أوفى صلى الضحى ركعتين قالت له امرأته إنما صليتها ركعتين فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ركعتين "وأبي سعيد" أخرجه المؤلف في هذا الباب "وزيد بن أرقم" أخرجه مسلم "وابن عباس" أخرجه الطبراني في الأوسط مرفوعاً بلفظ: على كل سلامي من بني آدم في كل يوم صدقة ويجزيء من ذلك كله ركعتا الضحى.
وفي البابل عن جماعة من الصحابة غير هؤلاء المذكورين رضي الله عنهم ، قد ذكر أحاديثهم العيني في شرح البخاري.
قوله: "حديث أنس غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" قال ميرك: وذكر(2/582)
472ـ حدثنا أبو موسى محمدُ بنُ المُثْنّى حدثنا محمدُ بن جعفرٍ أخبرنا شُعْبَةُ عن عَمْرِو بن مُرّةَ عن عبدِ الرحمَنِ بن أبي لَيْلَى قال: "ما أخْبَرَنِي أحدٌ أنه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصَلّي الضّحى إلاّ أمّ هانئ فإنها حدّثت أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخلَ بيتَها يومَ فتحِ مكةَ فاغتسلَ فسَبّحَ ثمانِ ركعاتٍ ما رأيتُهُ صلى صلاة قطّ أخَفّ منها ، غيرَ أنه كان يُتمّ الرّكُوعَ والسجودَ".
ـــــــ
النووي هذا الحديث في الأحاديث الضعيفة كذا في المرقاة.
قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: وعند الطبراني من حديث أبي الدرداء مرفوعاً: من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ، ومن صلى أربعاً كتب من التائبين ومن صلى ستاكفى ذلك اليوم ، ومن صلى ثمانياً كتب من العابدين ، ومن صلى عشرة بنى الله له بيتاً في الجنة.
قال وفي إسناده ضعف أيضاً ، وله شاهد من حديث أبي ذر رواه البزار في أسناده ضعف أيضاً قال لكن إذا ضم إليه أي إلى حديث أنس حديث أبي ذر وأبي الدرداء قوى وتصلح للاحتجاج به انتهى كلام الحافظ.
قوله: "ما أخبرني أحد وفي رواية ابن شيبة عن ابن أبي ليلى: أدركت الناس وهم متوافرون فلم يخبرني أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى إلا أم هانئ" وهذا إخبار عن عدم وصول الخبر إليه فلا يلزم عدمه. إلا أم هانئ بهمزة بعد النون واسمها فاخته بنت أبي طالب أخت على شقيقته.
قوله: "سبح ثمان ركعات" قال الحافظ زاد كريب عن أم هانئ: فسلم من كل ركعتين أخرجه ابن خزيمة ، وفيه رد على من تمسك به في صلاتها موصولة سواء صلى ثما ركعالت أو أقل. وفي الطبراني من حديث ابن أبي أوفى: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ركعتين ، وهو محمول على أنه رأى من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ورأت أم هانئ بقية الثمان ، وهذا يقوي أنه صلاها مفصولة انتهى كلام الحافظ "غير أنه كان يتم الركوع والسجود" قال الطيبي: استدل به على استحباب صلاة الضحى(2/583)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. وكأنّ أحمدَ رأى أصَحّ شيء في هذا البابِ حديثَ أمّ هانئ.
واختلفوا في نُعَيْمٍ ، فقال بعضهم نُعَيْمُ بن خَمّارٍ ، وقال بعضُهم ابنُ هَمّار ، ويقال ابنُ هَبّارٍ ، ويقال ابنُ هَمّامٍ ، والصحيحُ ابنُ هَمّارٍ.
وأبو نُعَيمٍ وَهِم فيه فقال ابنُ حِمّازٍ وأخطأ فيه ثم ترَكَ فقال نُعَيمٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
أخبرني بذلك عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ عن أبي نُعَيْمٍ.
ـــــــ
وفيه نظر لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لثكرة شغله به. وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الضحى فطول، فيها أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة، وأستدل بهذا الحديث على إثبات سنة الضحى، وحكى عياض عن قوم أنه ليس في حديث أم هانئ دلالة على ذلك ، قالوا وإنما هي سنة الفتح ، وقد صلاها خالد بن الوليد في بعض فتوحه كذلك. وقد قيل إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه ، وتعقبه النووي بأن الصواب صحة الاستدلال به لما رواه أبو داود وغيره من طريق كريب عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى سبحة الضحى. ولمسلم في كتاب الطهارة ثم صلى ثمان ركعات سبحة الضحى. وروى ابن عبد البر في التمهيد من طريق عكرمة بن خالد عن أم هانئ قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فصلى ثمان ركعات فقلت ما هذه قالت هذه صلاة الضحى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وكأن أحمد رأى أصح شيء في الباب حديث أم هانيء" قال الحافظ وهو كما قال.
قوله: "واختلفوا في نعيم" بالتصغير أي في اسم أبيه "فقال بعضهم نعيم بن خمار" بفتح الخاء المعجمة وشدة الميم وبراء "وقال بعضهم ابن همار" بفتح الهاء وشدة الميم وبراء "ويقال ابن هبار" بفتح الهاء الموحدة وبراء "ويقال ابن همام" بميمين "والصحيح ابن هبار" قال الحافظ في التقريب: رجح الأكثر أن اسم أبيه همار انتهى.(2/584)
473ـ حدثنا أبو جعفرٍ السّمْنَانِيّ حدثنا أبو مُسْهرٍ حدثنا إسماعيلُ بن عَيّاشٍ عن بَحيرِ بن سَعْدٍ عن خالدِ بن مَعْدَانَ عن جُبَيْرِ بن نُفَيْرٍ عن أبي الدَرْدَاءِ وأبي ذر عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: عن الله عزّ وجلّ أنه قال: "ابنَ آدمَ اركَعْ لي من أولِ النهارِ أربَع ركْعاتٍ أكفِكَ آخرَهُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن غريبٌ.
ـــــــ
وقال الغلابي عن ابن معين: أهل الشام يقولون نعيم بن همار وهم أعلم به كذا في تهذيب التهذيب "وأبو نعيم وهم فيه" أبو نعيم هذا هو فضل بن دكين وهو من كبار شيوخ البخاري أي أبو نعيم فضل بن دكين وهم في اسم والد نعيم المذكور "أخبرني بذلك عبد بن حميد" بن نصر الكشي أبو محمد قيل اسمه عبد الحميد وبذلك جزم ابن حبان وغير واحد ثقة حافظ انتهى. قلت: روى عنه مسلم والترمذي وغيرهما.
"أبو جعفر السمتاني" بكسر السين المهملة وسكون الميم ونونين اسمه محمد بن جعفر ثقة من الحادية عشرة "أخبرنا أبو مسهر" بمضمومة وسكون مهملة وكسر هاء براء اسمه عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي ثقة فاضل من كبار العاشرة "عن بحير بن سعد" بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة ثقة ثبت من السادسة.
قوله "ابن آدم" أي يا ابن آدم "اركع" أي صل "لي" وقيل أي خالصاً لوجهي "من أول النهار" قبل المرد صلاة الضحى وقيل صلاة الإشراق. سنة الصبح وفرضه لأنه أو فرض النهار الشرعي، قلت: حمل المؤلف وكذا أبو داود هذه الركعات على صلاة الضحى ولذلك أدخلا هذا الحديث في باب صلاة الضحى "أكفك" أي مهماتك "أخره" أي النهار. قال الطيبي أي أكهفك شغلك وحوائجك وأدفع عنك ما تكرهه بعد صلاتك إلى آخر النهار: والمعنى أفرغ بالك بعبادتي في أول النهار أفرغ بالك في آخره بقضاء حوائجك انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" قال المنذري في تلخيص السنن: وأخرجه الترمذي(2/585)
وروى وكيع والنضر بن شميل وغير واحد من الأئمة هذا الحديث عن نهاس به قّهْم ولا نعرفه إلا من حديثه.
474ـ حدثنا محمدُ بن عبدِ الأعلى البَصْريّ حدثنا يزيدُ بن زُرَيْع عن نَهّاسِ بن قَهْمٍ عن شَدّادٍ أبي عَمّارٍ عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حافَظ على شُفْعَةِ الضّحَى غُفِر لَهُ ذنوبُه وإن كانت مِثلَ زَبَدِ البحْرِ".
475ـ حدثنا زيادُ بنُ أيّوبَ البغْداديّ حدثنا محمدُ بن ربيعةَ عن فُضَيْلِ بن مَرْزُوقٍ عن عطيّةَ العوفيّ عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: "كان نبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي الضّحَى حتى نقول لا يدعُ ويدعها حتى نقولَ لا يصلي".
ـــــــ
من حديث أبي الدرداء وأبي ذر وقال حسن غريب هذا آخر كلامه وفي إسناده إسماعيل ابن عياش وفيه مقال ، ومن الأئمة من يصحح حديثه عن الشاميين وهذا الحديث شامي الإسناد انتهى. وعمل من كلام المنذري هذا أن في نسخة الترمذي التي كانت عنده كان فيها هذا حديث حسن غريب.
قوله: "عن نهاس" بفتح النون وتشديد الهاء وآخره سين مهملة "بن قهم" بفتح القاف وسكون الهاء ضعيف من السادسة.
قوله: "من حافظ على شفعة الضحى" قال العراقي: المشهور في الرواية ضم الشين ، وقال الهروي وابن الأثير تروى بالفتح والضم كالغرفة والغرفة وهي مأخوذة من الشفع وهو الزوج، والمراد ركعتا الضحى كذا في قوت المغتذي "وإن كانت مثل زبد البحر" لاشتهاره بالكثرة عند المخاطبين.
قوله: "فضيل بن مرزوق" بضم الفاء مصغراً صدوق يهم ورمى بالتشيع "عن عطية العوفي" بفتح العين المهملة وسكون الواو وبالفاء هو عطية بن سعيد بن جنادة(2/586)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ غريبٌ.
ـــــــ
الكوفي صدوق يخطيء كثيراً كان شيعياً مدلساً من الثالثة.
قوله "حتى تقول" بالنون "لا يدع" أي لا يتركها أبداً "ويدعها" أي أحياناً "حتى نقول" بالنون "لا يدع" أي لا يتكرها أبداً "ويدعها" أي أحياناً "حتى نقول لا يصلي" وكان ذلك بحسب مقتضى الأوقات من العمل بالرخصة والعزيمة كما يفعل في صوم النفل وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه فضعيف قال الحافظ في الفتح: لم يثبت ذلك في خير صحيح ، وقال فيه: حكى شيخنا الحافظ أبو الفضل بن الحسين في شرح الترمذي أنه اشتهر بين العوام: أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى فصار كثير من الناس يتركونها أصلا لذلك. وليس لما قالوه أصل بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على السنة العوام ليحرمهم الخير الكثير لا سيما وما وقع في حديث أبي ذر انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه الحاكم.(2/587)
342ـ باب ما جاءَ في الصّلاةِ عندَ الزّوال
476ـ حدثنا أبو موسى محمدُ بن المثنّى حدثنا أبو داودَ الطيالسيّ حدثنا محمد بن مُسْلمِ بن أبي الوضّاحِ هُوَ أبو سعيدٍ المؤَدّبُ عن عبدِ الكريمِ الجزَرِيّ عن مجاهدٍ عن عَبْدِ الله بن السائبِ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: "كان يصلي أربعاً بعد أن تزولَ الشمسُ قبلَ الظهرِ وقال إنها ساعةٌ تُفْتَحُ فيها أبوابُ السماءِ وأحِبّ أن يَصْعَدَ لي فيها عملٌ صالحٌ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الصّلاةِ عندَ الزّوال"
قوله: "حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح" بفتح الواو وشدة الضاد المعجمة وبالحاء المهملة "هو أبو سعيد المؤدب" القضاعي الجزري مشهور بكنيته صدوق يهم "عن عبد الله(2/587)
وفي الباب عن علي وأبي أيوبَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَبْدِ الله بن السائِبِ حديثٌ حسَنٌ غريبٌ.
ورُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصلّي أربعَ ركعاتٍ بعدَ الزوالِ لا يسلّم إلاّ في آخِرِهنّ".
ـــــــ
بن السائب" هو وأبوه صحابي وليس له عند المصنف إلا هذا الحديث "كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس" قال العراقي هي غير الأربع التي هي سنة الظهر قبلها وتسمى هذه سنة الزوال "وقال إنها" أي ما بعد الزوال وانثه باعتبار الخبر وهو "ساعة تفتح" بالتخفيف ويجوز التشديد "فيها أبواب السماء" لطلوع أعمال الصالحين "أن يصعد" بفتح الياء ويضم "فيها" أي في تلك الساعة "عمل صالح" أي إلى السماء وفيه تلميح إلى قوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}.
قوله: "في الباب عن علي" لم أقف عليه "وأبي أيوب" الأنصاري أخرجه أبو داود وابن ماجه بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء.
قوله: "حديث عبد الله بن السائب حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد "وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي أربع ركعات بعد الزوال لا يسلم إلا في آخرهن" روى ابن ماجه عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر أربعاً إذا زالت الشمس لا يفصل بينهن بتسليم وقال إن أبواب السماء تفتح إذا زالت الشمس. قال المناوي إسناده ضعيف. وقال الحنفية فيه إن الأفضل صلاة الأربع قبل الظهر بتسليمة واحدة ، وقالوا هو حجة على الشافعي في صلاتها بتسليمتين انتهى.(2/588)
343ـ باب ما جَاء في صَلاَةِ الحاجة
477ـ حدثنا عليّ بنُ عيسى بنِ يَزِيدَ البغْدَادِيّ حدثنا عبدُ الله بنُ بكر السهميّ حدثنا عبدُ الله بن مُنِيرٍ عن عَبْدِ الله بنِ بكرٍ عن فائدِ بن عبدِ الرحمَنِ عن عَبْدِ الله بنِ أبي أوفى قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "من كانت له إلى الله حاجةٌ أو إلى أحد من بني آدمَ فليتوضأْ فليُحْسِنْ الوُضُوءَ ثم ليصَلّ ركعتَينِ ثم ليُثْنِ على الله وليُصَلّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثُمّ ليقل: لا إلهَ إلا الله الحليمُ الكريمُ ، سبحانَ الله رَبّ العرشِ العظيم
ـــــــ
"باب ما جَاء في صَلاَةِ الحاجة"
قوله: "وأخبرنا عبد الله بن منير" عطف على حدثنا علي بن عيسى ، وعبد الله بن منير هذا شيخ المؤلف "عن عبد الله بن بكر" هو السهمي المذكور. ولو قال المؤلف حدثنا علي بن عيسى بن يزيد البغدادي وعبد الله بن منير عن عبد الله بن بكر السهمي عن فائد بن عبد الرحمن الخ لكان أوضح وأخضر لكنه لم يقل هكذا لأن علي بن عيسى رواه عن عبد الله بن أبي بكر بلفظ التحديث ، وعبد الله بن منير رواه عنه بلفظ عن ، فلا ظهار هذا الفرق قال كما قال "عن فائد بن عبد الرحمن" بالفاء متروك اتهموه من صغار الخامسة وليس له عند المؤلف إلا هذا الحديث.
قوله: "ثم ليثن" من الإثناء "وليصل" الأصحّ الأفضل صلاة التشهد "لا إله إلا الله الحليم" الذي لا يعجل بالعقوبة "الكريم" الذي يعطي بغير استحقاق وبدون المنة "رب العرش العظيم" اختلف في كون العظيم صفة للرب أو العرش كما قوله عليه الصلاة والسلام لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، نقل ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع(2/589)
الحمدُ لله رَبّ العالمينَ ، أسأَلكَ مُوجِباتِ رحمتكَ وعَزائمَ مغفرتِكَ ، والغنيمةَ من كل بر ، والسلامةَ مِن كلّ إثْمٍ لاَ تَدَعْ لي ذنباً إلا غفرتَه ولا هَمّا إلا فَرّجّتَهُ ، ولا حاجةً هِيَ لَكَ رضًا إلا قَضَيْتَهَا يا أرحَمَ الراحمين".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبُ وفي إسنادِهِ مقالٌ. فائدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ يُضَعّفُ في الحديثِ. وفائد هو أبو الوَرْقاءِ.
ـــــــ
العظيم على أنه نعت للرب، والذي ثبت في رواية الجمهور على أنه نعت للعرش ، وكذلك قراءة الجمهور في قوله تعالى {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} و {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} بالجر كذا في المرقاة. والمعنى المراد في المقام أنه منزه عن العجز فإن القادر على العرش العظيم لا يعجز عن إعطاء مسؤول عبده المتوجه إلى ربه الكريم "موجبات رحمتك" بكسر الجيم أي أسبابها. قال الطيبي: جمع موجبة وهي الكلمة الموجبة لقائلها الجنة. وقال ابن الملك يعني الأفعال والأقوال والصفات التي تحصل رحمتك بسببها "وعزائم مغفرتك" قال السيوطي أي موجباتها جمع عزيمة. وقال الطيبي أي أعمالاً تتعزم وتتأكد بها مغفرتك "والغنيمة من كل بر" قال القاري أي طاعة وعبادة فإنهما غنيمة مأخوذة بغلبة دواعي عسكر الروح على جند النفس ، فإن الحرب قائم بينهما على الدوام ، ولهذا يسمى الجهاد الأكبر لأن أعدى عدوك نفسك التي بينها جنبيك "والسلام من كل إثم" قال العراقي فيه جواز سؤال العصمة من كل الذنوب وقد أنكر بعضهم جواز ذلك إذ العصمة إنما هي للأنبياء والملائكة ، قال: والجواب أنها في حق الأنبياء والملائكة واجبة وفي حق غيرهم جائزة ، وسؤال الجائز جائز إلا أن الأدب سؤال الحفظ في حقنا لا العصمة ، وقد يكون هذا هو المراد هنا انتهى "لا تدع" أي لا تترك "لي ذنباً إلا غفرته" أي إلا موصوفاً بوصف الغفران ، فالاستثناء فيه وفيما يليه مفرع من أعم الأحوال "ولاهما" أي غما "إلا فرجته" بالتشديد ويخفف أي أزلته وكشفته "ولا حاجة هي لك رضى" أي بها يعني مريضة.
قوله: "هذا حديث غريب إلخ" قال المنذري في الترغيب: رواها الترمذي وابن ماجه كلاهما من رواية فائد بن عبد الرحمن بن أبي الورقاء وزاد ابن ماجه بعد قوله يا أرحم(2/590)
ـــــــ
الراحمين ثم يسأل من أمر الدنيا والاَخرة ما شاء فإنه يقدر ، ورواه الحاكم باختصار ثم قال أخرجته شاهداً ، وفائد مستقيم الحديث ، وزاد بعد قوله وعزائم مغفرتك والعصمة من كل ذنب. قال الحافظ المنذري: وفائد متروك روى عنه الثقات ، وقال ابن عدي مع ضعفه يكتب حديثه.(2/591)
344ـ باب ما جَاءَ في صَلاةِ الاستخارَة
478ـ حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا عبدُ الرحمَنِ بن أبي المَوَالِي عن محمدِ بنِ المنكَدِرِ عن جابرِ بن عبدِ الله قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعَلّمُنَا الاستخارة في الأمورِ كلّها كما يُعَلّمُنَا السورةَ مِنَ القرآنِ ، يقول: إذا هَمّ أحدُكُم بالأمر فليركَعْ ركعَتَيْنِ من غيرِ الفريضةِ ثم ليقلْ: اللّهُمّ إنّي أستخِيرُكَ بعلْمِكَ ، وأسْتَقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ ، وأسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ العظيمِ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في صَلاةِ الاستخارَة"
قوله: "أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الموالي" بفتح اسمه زيد وقيل أبو الموال جده أبو محمد مولى آل علي صدوق ربما أخطأ من السابعة.
قوله: "يعلمنا الاستخارة" أي صلاة الاستخارة ودعاءها "في الأمور" زاد في رواية البخاري كلها ، وفيه دليل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمراً لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه ، فرب أمر يستخف بأمره فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أوفى تركه "كما يعلمنا السورة من القرآن" فيه دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة وأنه متأكد مرغب فيه "إذا هم" أي قصد "بالأمر" أي من نكاح أو سفر أو غيرهما مما يريد فعل أو تركه "فليركع ركعتين" أي فليصل ركعتين "من غير الفريضة" فيه دليل على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة "ثم ليقل" أي بعد الصلاة(2/591)
فإنكَ تَقْدِرُ ولا أقدِرُ ، وتعلَمُ ولا أعْلَمُ ، وأنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ اللّهُمّ إن كنتَ تعْلَمُ أنّ هذا الأمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي ومَعِيشَتِي وعاقبةِ أمْرِي وقال في عاجِل أمري وآجِلِهِ فَيَسّرْهُ لِي ، ثم باركْ لِي فيهِ ، وإن كنتَ تَعْلَمُ أنّ هذا الأمْر شَرّ لِي فِي دِينِي ومَعِيشَتِي وعاقبةِ أمري ، أو قال في عاجلِ
ـــــــ
"اللهم إني أستخيرك" أي أطلب منك الخير أو الخيرة. قال صاحب المحكم: استخار الله طلب منه الخير ، وقال صاحب النهاية: خار الله لك ، أي أعطاك الله ما هو خير لك. قال والخيرة بسكون الياء الاسم منه. قال فأما بالفتح فهي الاسم من قوله اختاره الله كذا في النيل "بعلمك" الباء فيه وفي قوله بقدرتك للتعليل أي بأنك أعلم وأقدر ، قاله زين الدين العراقي.
وقال الكرماني: يحتمل أن تكون للاستعانة وأن تكون للاستعطاف كما في قوله {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أي بحق علمك وقدرتك الشاملين كذا في عمدة القاري. وقال القاري في المرقاة: أي بسبب علمك ، والمعنى أطلب منك أن تشرح صدري لخير الأمرين بسبب علمك بكيفيات الأمور وجزئياتها وكلياتها ، إذ لا يحيط بخير الأمرين على الحققية إلا من هو كذلك كما قال تعالى {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} قال الطيبي: الباء فيهما إما للاستعانة أي أطلب خبرك مستعيناً بعلمك ، فإني لا أعلم فيهم خيرك وأطلب منك القدرة فإنه لا حول ولا قوة إلا بك وإما للاستعطاف انتهى مختصراً.
وأستقدرك أي طلب منك أن تجعل لي قدرة عليه "واسألك من فضلك العظيم" أي تعيين الخير وتبيينه وتقديره وتيسيره وإعطاء القدرة لي عليه "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر" أي الذي يريده. قال الطيبي: معناه اللهم إنك معلم ، فأوقع الكلام موقع الشك على معنى التفويض إليه والرضا بعلمه فيه ، وهذا النوع يسميه أهل البلاغة تجاهل العارف ومزج الشك باليقين ، يحتمل أن الشك في أن العلم متعلق بالخير أو الشر لا في أصل العلم انتهى. قال القاري: والقول الاَخر هو الظاهر ونتوقف في جواز الأول بالنسبة إلى الله تعالى "في ديني" أي فيما يتعلق بديني "ومعيشتي" وقع في البخاري ومعاشي. قال العيني: المعاش والمعيشة واحد(2/592)
أمرِي وآجِلِهِ فاصْرِفْهُ عَنّي واصرِفْنِي عنه واقْدُرْ لِي الخَيْرَ حيْثُ كان ثم أرْضِنِي بِهِ. قال ويُسَمّي حاجَتَهُ".
ـــــــ
يستعملان مصدراً واسماً ، وفي المحكم العيش الحياة عاش عيشاً وعيشة ومعيشاً ومعاشاً ثم قال المعيش والمعاش المعيشة ما يعاش به انتهى. قال الحافظ: زاد أبو داود ومعادي وهو يؤيدذ أن المراد بالمعاش الحياة ، ويحمتل أن يريد بالمعاش ما يعاش فيه ، ولذلك وقع في حديث ابن مسعود عند الطبراني في الأوسط في ديني ودنياي ، وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني في دنياي وآخرتي انتهى "وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله" هو شك من الراوي واقتصر في حديث أبي سعيد على عاقبة أمري وكذا في حديث ابن مسعود هو يؤيد أحد الاحتمالين: وأن العاجل والاَجل مذكوران بدل الألفاظ الثلاثة أو بدل الاَخيرين فقط ، وعلى هذا فقول الكرماني لا يكون الداعي جازماً بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا ثلاث مرات يقول مرة في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، ومرة في عاجل أمري وآجله ، ومرة في ديني وعاجل أمري وآجله ذكره الحافظ ، قال ولم يقع ذلك أي الشك في حديث أبي أيوب ولا أبي هريرة أصلاً انتهى.
"فيسره لي" وفي رواية البزار عن ابن مسعود فوفقه وسهله "واقدر لي الخير" بضم الدال وكسرها أي يسره علي وأجعله مقدوراً لفعلي "حيث كان" أي الخير "ثم أرضني به" بهمزة قطع أي اجعلني راضياً به "يسمى حاجته" أي أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في قوله إن كان هذا الأمر.
وفي الحديث استحباب صلاة الاستخارة والدعاء المأثور بعدها في الأمور التي لا يدري العبد وجه وجه الصواب فيها أما هو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف فلا حاجة للاستخارة فيها. قال النووي: إذا استخار مضى بعدها لما شرح له صدره انتهى. وهل يستحب تكرار الصلاة والدعاء وفي الأمر الواحد إذا لم يظهر له وجه الصواب في الفعل أو الترك مما لم ينشرح له صدره؟ قال العراقي: الظاهر الاستحباب وقد ورد تكرار الاستخارة في حديث رواه ابن السني من حديث أنس مرفوعاً بلفظ: إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيها سبع مرات ثم انظر إلى الذي يسبق إلى(2/593)
وفي الباب عن عبدالله بن مسعودٍ وأبي أيوبَ.
قال أبو عيسى: حديثُ جابرٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ غريبٌ لا نعرِفُهُ إلاّ مِن حديثِ عبدِ الرحمَنِ بن أبي المَوَالِي وهو شيخٌ مَدينيّ ثقةٌ رَوَى عنه سفيَانُ حديثاً وقد رَوَى عن عبدِ الرحمَنِ غيرُ واحدٍ من الأئمةِ.
ـــــــ
قلبك فإن الخير فيه ، لكن الحديث ساقط لا حجة فيه. قال النووي وغيره: يستحب أن يقرأ في ركعتي الاستخارة في الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. وقال العراقي: لم أجد في شيء من طرق أحاديث الاستخارة ما يقرأ فيهما.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن مسعود" أخرجه الطبراني في الكبير من طريق الأعمش عن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله "وأبي أيوب" أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي "حديث جابر حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه البخاري.
قوله: "وهو شيخ مدني ثقة الخ" قال العيني في شرح البخاري: حكم الترمذي على حديث جابر بالصحة تبعاً للبخاري في إخراجه في الصحيح ، وصححه أيضاً ابن حبان ومع ذلك فقد ضعفه أحمد بن حنبل فقال: إن حديث عبد الرحمن بن أبي الموالي في الاستخارة منكر. وقال ابن عدي في الكامل: والذي أنكر عليه حديث الاستخارة وقد رواه غير واحد من الصحابة. وقال شيخنا زين الدين كان ابن عدي أراد بذلك أن لحديثه هذا شاهد من حديث غير واحد من الصحابة فخرج بذلك أن يكون فرداً مطلقاً ، وقد وثقه جمهور أهل العلم انتهى.(2/594)
345ـ باب ما جاء في صلاة التسبيح
479ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ محمدُ بن العَلاَءِ حدثنا زيدُ بنُ حُبَابٍ العُكْلِيّ حدثنا موسى بنُ عُبَيْدَةَ حدثني سعيدُ بن أبي سَعِيدٍ مولَى أبي بكرِ بنِ محمدِ
ـــــــ
"باب ما جاء في صلاة التسبيح"
قوله: "أخبرنا موسى بن عبيدة" بضم أوله ابن نشيط الربذي أبو عبد العزيز(2/594)
ابن عمرِو بن حَزْمٍ عن أبي رافعٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للعباسِ: "يا عمّ ألا أصِلُكَ ألا أحْبُوكَ ألاَ أنفَعُكَ قال: بَلَى يَا رَسُولَ الله قال: يا عَمّ صَلّ أربعَ ركعَاتٍ تقرأُ في كلّ ركعةٍ بفاتحةِ الكتابِ وسورةٍ ، فإذا انْقَضَتْ القراءةُ فقل: الله أكبرُ والحمدُ لله وسبحانَ الله "ولا إله إلا الله" خَمْسَ عَشْرَةَ مَرّةً قبلَ أن تركعَ ، ثم اركْع فَقُلْها عشراً ، ثم ارفعْ رَأْسَكَ فَقُلْهَا عشراً ، ثم اسجدْ فَقُلْها عشراً ثم ارْفَعْ رأْسَكَ فَقُلْها عشراً ثم اسْجُدْ "الثانية" فقلْها عشراً ثم ارفعْ رأسَكَ فقلْها عشراً قبل أن تَقُومَ ، فتلك خمسٌ وسبعونَ في كلّ ركعةٍ وهي ثلاثُ مائةٍ
ـــــــ
المدني ضعيف ولا سيما في عبد الله بن دينار وكان عابداً من صغار السادسة "حدثني سعيد بن أبي سعيد" قال الحافظ في التقريب مجهول ، وقال في تهذيب التهذيب ذكره ابن حبان في الثقات ، وكذا قال السيوطي في قوت المغتذي "عن أبي رافع" القبطي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه ابن إبراهيم ، وقيل أسلم أو ثابت أو هرمز مات في أول خلافة على على الصحيح.
قوله: "ألا أصلك" من الصلة "ألا أحبوك" أي ألا أعطيك يقال حباه كذا وبكذا إذا أعطاه والحباء العطية كذا في النهاية "يا عم صل أربع ركعات" ظاهر أنه بتسليم واحد ليلاً كان أو نهاراً "فإذا انقضت القراءة" وفي حديث ابن عباس فإذا فرغت عن القراءة "فقل الله أكبر والحمد لله وسبحان الله" وفي رواية ابن عباس عند أبي داود قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة فأفادت هذه الرواية أن الترتيب غير لازم بل بأيهن بدأ يصح "ثم اركع فقلها عشراً" أي بعد تسبيح الركوع كذا "في شرح السنة ثم ارفع رأسك فقلها عشراً" أي بعد التسميع والتحميد "ثم اسجد فقلها عشراً" أي بعد تسبيح السجود "ثم ارفع رأسك فقلها عشراً" . قال القاري من غير زيادة دعاء عندنا ، وظاهر مذهب الشافعي أن يقولها بعد رب أغفر لي ونحوه انتهى. قلت ظاهر مذهب الشافعي هو الراجح المعول عليه(2/595)
في أربعِ ركعاتٍ فلو كانت ذُنوبُكَ مِثْلَ رَمْلِ عَالَجٍ لغَفَرَها الله لك. قالَ يَا رَسُولَ الله ومَنْ يستطيعُ أن يقُولَها في يومٍ؟ قال فإنْ لم تَسْتَطِعْ أن تقولَها في يوم فَقُلْها في جمعةٍ ، فإنْ لم تَسْتَطِعْ أن تقولَها في جمعةٍ فَقُلْها في شَهْرٍ ، فَلَمْ يَزَلْ يقولُ له حتّى قال فَقُلها في سَنَةٍ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ من حديث أبي رافعٍ.
480ـ حدثنا أحمدُ بن محمدِ بن موسَى أخبرنا عبدُ الله بنُ المباركِ أخبرنا عِكْرِمَةُ بنُ عَمّارٍ حدثني إسحاقُ بنُ عَبْدِ الله بن أبي طلْحَةَ عن أنَسِ بنِ مالكٍ: "أنّ أُمّ سُلَيْمٍ غَدَتْ على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: علّمني كلماتٍ أقولُهنّ في صَلاَتِي ، فقال: كبّرِي الله عشراً ، وسبّحي الله عشراً ، واحمدِيهِ عشراً ثم سَلِي ما شئتِ، يقولُ: نعمْ نَعَمْ".
ـــــــ
"ثم ارفع رأسك فقلها عشراً قبل أن تقوم" أي في جلسة الاستراحة وفيه ثبوت جلسة الاستراحة. قال القاري: هو يحتمل جلسة وجلسة التشهد انتهى. قالت: هو لا يحتمل إلا جلسة الاستراحة. فإن جلسة التشهد لا تكون في الركعة الأولى "فذلك" أي مجموع ما ذكر من التسبيحات "مثل رمل عالج" أوله عين مهملة وآخره جيم وهو ما تراكم من الرمل ودخل بعضه في بعض ، وهو أيضاً اسم موضع كثير الرمال "حتى قال فقلها في سنة" وفي رواية ابن عباس: فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة ، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة.
قوله: "وهذا حديث غريب من حديث أبي رافع" قال السيوطي في قوت المغتذي: بالغ ابن الجوزي فأورد هذا الحديث في الموضوعات وأعله بموسى بن عبيدة الربذي وليس كما قال ، فإن الحديث وإن كان ضعيفا لم ينته إلى درجة الوضع ، وموسى ضعفوه وقال فيه ابن سعد ثقة وليس بحجة ، وقال يعقوب بن شيبة صدوق ضعيف الحديث جدا وشيخه سعيد ليس له عند المصنف إلا هذا الحديث ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال(2/596)
وفي الباب عن ابنِ عباسٍ وعبدِ الله بن عمْروٍ والفضلِ بن عباسٍ وأبي رافع.
قال أبو عيسى: حديثُ أنسٍ حديثٌ حسَنٌ غريبٌ.
وقد رُوِيَ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم غيرُ حديثٍ في صلاةِ التسبيحِ ولا يصح منهُ كبيرُ شيء.
ـــــــ
الذهبي في الميزان ما روى عنه سوى موسى بن عبيدة انتهى ما في قوت المغتذي.
قوله: "كبرى الله عشراً وسبحي الله عشراً واحمديه عشراً" قال العراقي: إيراد هذا الحديث في باب صلاة التسبيح فيه نظر ، فإن المعروف أنه ورد في التسبيح عقب الصلوات لا في صلاة التسبيح ، وذلك مبين في عدة طرق منها في مسند أبي يعلى والدعاء للطبراني فقال: يا أم سليم إذا صليت المكتوبة فقولي سبحان الله عشراً إلى آخره انتهى كذا في قوت المغتذي. وقال أبو الطيب المدني: أجاب عنه بعض الفضلاء بأنه يمكن أن يقال علمها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول في الصلاة وأن تقول بعدها ، وهو الذي فهمه المصنف وبه يحصل التوفيق مع بقاء كل رواية على ظاهرها ، قال: ويؤيد أنه علمها صلى الله عليه وسلم أن تقولها في الصلوات قولها أقولهن في صلاتي لكن لم يذهب أحد من العلماء إلى هذه الطريقة في صلاة التسبيح ، فالظاهر أنه بحذف المضاف أي أقولهن في دبر صلاتي، وإيراد المصنف ههنا باعتبار مناسبة ما انتهى
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي في الدعوات الكبير وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان والحاكم "وعبد الله بن عمرو" بن العاص أخرجه أبو داود "والفضل بن عباس" أخرجه أبو نعيم في كتاب القربان من رواية موسى بن إسماعيل كذا في تخريج أحاديث الأذكار المسماة بنتائج الأفكار للحافظ بن حجر "وأبي رافع" أخرجه المؤلف وابن ماجه.
قوله: "وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث في صلاة التسبيح" قال(2/597)
وقد رَوَى ابنُ المباركِ وغيرُ واحدٍ من أهلِ العلمِ صلاةَ التسبيحِ وذكرُوا الفضلَ فيه.
ـــــــ
الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار: وردت صلاة التسبيح من حديث عبد الله بن عباس وأخيه الفضل وأبيهما العباس وعبد الله بن عمرو علي بن أبي طالب وأخيه جعفر وابنه عبد الله بن جعفر وأم سلمة والأنصاري غير مسمى وقد قيل أنه جابر بن عبد الله ، ثم ذكر الحافظ تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم.
قوله: "ولا يصح منه كبير شيء" قال الحافظ المنذري في الترغيب بعد ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس المذكور: وقد روى هذا الحديث من طريق كثيرة وعن جماعة من الصحابة وأمثلها حديث عكرمة هذا وقد صححه جماعة منهم: الحافظ أبو بكر الاَجري وشيخنا أبو محمد عبد الرحيم المصري وشيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي وقال أبو بكر ابن أبي داود سمعت أبي يقول: ليس في صلاة التسبيح حديث صحيح غير هذا. وقال مسلم ابن الحجاج رحمه الله تعالى لا يروى هذا الحديث إسناد أحسن من هذا يعني إسناد حديث عكرمة عن ابن عباس انتهى كلام المنذري.
وقال الحافظ في التلخيص: قال الدارقطني أصح شيء في فضائل سور القرآن قل هو الله أحد، وأصح شيء في فضل الصلاة صلاة التسبيح وقال أبو جعفر العقيلي: ليس في صلاة التسبيح حديث يثبت. وقال أبو بكر بن العربي: ليس فيها حديث صحيح ولا حسن وبالغ ابن الجوزي فذكره في الموضوعات.
وصنف أبو موسى المديني جزءاً في تصحيحه فتباينا، والحق أن طرقه كلها ضعيفة وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ لشدة الفردية فيه وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر.
ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات موسى بن عبد العزيز وإن كان صادقاً صالحاً فلا يحتمل منه هذا التفرد.
وقد ضعفها ابن تيمية والمزي وتوقف الذهبي حكاه ابن الهادي في أحكامه عنهم. وقد اختلف كلام الشيخ محيى الدين فوهاها في شرح المهذب فقال: حديثها ضعيف وفي استحبابها عندي نظر لأن فيها تغييراً الهيئة الصلاة المعروفة فينبغي أن لا تفعل وليس(2/598)
481- حدثنا أحمدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ حدثنا أبو وهبٍ قال سألت عبدَ الله بنَ المباركِ عن الصّلاةِ التي يُسَبّحُ فيها قال:" يُكَبّرُ ثم يقولُ سبحانكَ اللهُمّ وبحمدكَ ، وتَبَارَكَ اسْمُكَ ، وتعالَى جَدّكَ ، ولا إلهَ غَيْرُكَ ، ثم يقولُ خَمْسَ عَشْرَةَ مرةً سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله ، والله أكبرُ ، ثم يَتَعَوّذُ
ـــــــ
حديثها بثابت: وقال في تهذيب الأسماء واللغات: قد جاء في صلاة التسبيح حديث حسن في كتاب الترمذي وغيره وذكره المحاملي وغيره من أصحابنا وهي سنة حسنة، ومال في الأذكار أيضاً إلى استحبابه أنتهى ما في التلخيص.
قلت قد أختلف كلام الحافظ أيضاً فضعفه في التلخيص كما عرفت آنفاً ، ومال إلى تحسينه في الخصال المفكرة للذنوب المقدمة والمؤخرة.
فقال رجال إسناده لا بأس بهم ، عكرمة أحتج به البخاري والحكم صدوق وموسى ابن عبد العزيز قال فيه ابن معين لا أرى به بأساً. وقال النسائي نحو ذلك. قال ابن المديني: فهذا الإسناد من شرط الحسن فإن له شواهد تقويه.
وقد أساء ابن الجوزي بذكره في الموضوعات وقوله إن موسى مجهول لم يصب فيه لأن من يوثقه ابن معين والنسائي فلا يضره أن يجهل حاله من جاء بعدهما وشاهده ما رواه الدارقطني من حديث العباس والترمذي وابن ماجه من حديث أبي رافع ورواه أبو داود من حديث ابن عمرو بأسناد لا بأس به. ورواه الحاكم من طريق ابن عمرو وله طرق أخرى انتهى. وكذا مال إلى تحسينه في أمالي الأذكار.
قوله: "وقد روى ابن المبارك وغير واحد من أهل العلم صلاة التسبيح وذكروا الفضل فيه" قال المنذري في الترغيب بعد ذكر حديث أبي رافع المذكور: رواه ابن ماجه والترمذي والدارقطني والبيهقي.
وقال: كان عبد الله بن المبارك يفعلها وتداولها الصالحون بعضهم من بعض وفيه تقوية للحديث المرفوع انتهى.
قوله: "أخبرنا أبو وهب" اسمه محمد بن مزاحم العامري مولاهم المروزي صدوق من(2/599)
ويقرأُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وفاتحةَ الكتابِ وسورةً ، ثم يقولُ عَشْرَ مراتٍ سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إلهَ إلا الله والله أكبرُ ثم يركعُ فقولها عشراً ثم يرفَعُ رَأْسَهُ فيقولُها عشراً ثم يسجدُ فيقولُها عشراً ، ثمط يرفَعُ رأْسَه فيَقُولُها عشراً ثم يسجدُ الثانية فيقولُها عشراً ، يُصَلّي أربَع ركعاتٍ على هذا فذلكَ خمسٌ وسبعونَ تسبيحةً في كل ركعةٍ ، يبدأُ في كلّ ركعةٍ بخمس عشرةَ تسبيحةً. ثم يقرأُ ثم يسبحُ عشراً ، فإن صلى ليلاً فأحَبّ إليّ أن يُسَلّمَ في كل ركعتينِ ، وإن صلى نَهاراً فإن شاء سَلَمَ وإنْ شاءَ لم يسلّم.
ـــــــ
كبار العاشرة مات سنة تسع ومائتين "ثم يقول خمس عشرة مرة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ثم يتعوذ ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وفاتحة الكتاب وسورة" ليس فيه حديث أبي رافع ولا في حديث ابن عباس المذكورين ذكر التسبيح قبل القراءة كما عرفت "ثم يقول عشر مرات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثم يركع" وفي رواية أبي رافع المذكور: فإذا انقضت القراءة فقل: الله أكبر والحمد لله سحبان الله خمس عشرة مرة ، وكذلك في حديث ابن عباس المذكور بذكر التسبيح خمس عشرة مرة في هذا الموضع كما عرفت "ثم يسجد الثانية فيقولها عشراً يصلي أربع ركعات على هذا" ليس في رواية ابن المبارك هذه ذكر التسبيح في جلسة الاستراحة ، وقد وقع ذلك في حديث أبي رافع وحديث ابن عباس المذكوري. وقد ذكر المنذري رواية عبد الله بن المبارك هذه في الترغيب نقلاً عن هذا الكتاب أعني جامع الترمذي ثم قال: وهذا الذي ذكره عن عبد الله بن المبارك من صفتها موافق لما في حديث ابن عباس وأبي رافع إلا أنه قال يسبح قبل القراءة خمش عشرة وبعدها عشراً ولم يذكر في جلسة الاستراحة تسبيحاً، وفي حديثهما أنه يسبح بعد القراءة خمس عشرة ولم يذكر قبلها تسبيحاً ، ويسبح أيضاً بعد الرفع في جلسة الاستراحة قبل أن يقوم عشراً.
وروى البيهقي من حديث أبي جناب الكلبي عن أبي الجوزاء عن ابن عمر وقال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ألا أحبوك ألا أعطيك ، فذكر الحديث بالصفة التي(2/600)
قال أبو وَهْبٍ وأخبرَنِي عبد العزيز بن أبي رِزْمَةَ عن عَبْدِ الله أنه قال: يبدأُ في الركوعِ بسبحانَ ربّي العظيمِ ، وفي السجودِ بسبحانَ ربّيَ الأعلى ثلاثاً ثم يُسَبّحُ التسْبيحاتِ.
قال أحمدُ بن عَبْدَةَ وحدثنا وهبُ بنُ زَمعَةَ قال أخبرني عبدُ العزيز وهو ابنُ أبي رِزْمَةَ قال: قلتُ لعَبْدِ الله بن المباركِ إنْ سَهَا فيها يُسَبّحُ في سجدَتَيْ السهْوِ عشراً عشراً؟ قال: لا إنما هي ثلثمائةُ تسبِيحةٍ.
ـــــــ
رواها الترمذي عن ابن المبارك قال: وهذا يوافق ما رويناه عن ابن المبارك، ورواه قتيبة بن سعيد عن يحيى بن سليم عن عمران بن مسلم عن أبي الجوزاء قال: نزل على عبد الله بن عمرو بن العاص فذكر الحديث وخالفه في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر التسبيحات في إبتداء القراءة إنما ذكرها بعدها ثم ذكر جلسة الاستراحة كما ذكرها سائر الرواة انتهى.
قال الحافظ المنذري: جمهور الرواة على الصفة المذكورة في حديث ابن عباس وأبي رافع، والعمل بها أولى أولى إذا لا يصح رفع غيرها انتهى كلام المنذري.
قلت: الأمر كما قال المنذري "وأخبرني عبد العزيز هو ابن أبي رزمة" بكسر الراء المهملة وسكون الزاي المعجمة اليشكري مولاهم أبو محمد المروزي ثقة "عن عبد الله" هو ابن المبارك "قال أحمد بن عبدة" هو الضبي "أخبرنا وهب بن زمعة" التميمي أبو عبد الله المروزي ثقة من قدماء العاشرة "قلت لعبد الله بن المبارك إن سها فيها" أي في صلاة التسبيح "أيسبح في سجدتي السهو عشراً عشراً قال لا إنما هي ثلاث مائة تسبيحة" قال القاري في المرقاة: مفهومة أنه سها ونقص عدداً من محل معين يأتي به في محل آخر تكمله للعد المطلوب انتهى. فوائد فيما يتعلق بصلاة التسبيح: الأولى قد وقع اختلاف أهل العلم في أن حديث صلاة التسبيح هل هو صحيح أم حسن أم ضعيف أم موضوع، والظاهر عندي أنه لا ينحط وإن حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ لشدة الفردية فيه وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر، فجوابه ظاهر من كلامه في الخصال المكفرة وأمالي الأذكار. وأما مخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات فلا وجه لضعفه بعد ثبوته، هذا ما عندي والله تعالى أعلم.(2/601)
ـــــــ
الفائدة الثانية: قال بعض العلماء الحنفية في كتابة الآثار المرفوعة: إعلم أن أكثر أصحابنا الحنفية وكثير من المشائخ الصوفية قد ذكروا في كيفية صلاة التسبيح الكيفية التي حكاها الترمذي والحاكم عن عبد الله بن المبارك الخالية عن جلسة الاستراحة والمشتملة على التسبيحات قبل القراءة وبعد القراءة وذلك لعدم قولهم بجلسة الاستراحة في غيرها من الصلوات الراتبة. والشافعية والمحدثون أكثرهم اختاروا الكيفية المشتملة على جلسة الاستراحة. وقد علم مما أسلفنا أن الأصح ثبوتاً هو هذه الكيفية. فليأخذ بها من يصليها حنيفاً كان أو شافعياً انتهى.
قلت: الأمر كما قال. وقد قال الحافظ المنذري: إن جمهور الرواة على الصفة المذكورة في حديث ابن عباس وأبي رافع والعمل بها أولى إذ لا يصح رفع غيرها انتهى وقد تقدم قوله هذا.
الفائدة الثالثة: الأولى أن يصلي صلاة التسبيح بعد زوال الشمس فقد روى أبو داود في سننه بعد رواية حديث عكرمة عن ابن عباس من حديث أبي الجواز: حدثني رجل كانت له صحبة يرون أنه عبد الله بن عمرو قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم. ، أئتني غداً أحبوك وأثيبك وأعطيك حتى ظننت أنه يعطيني قال: إذا زال النهار فقم فصل أربع ركعات فذكر نحوه قال: ثم ترفع رأسك يعني من السجدة الثانية فاستو جالساً ولا تقم حتى تسبح عشراً وتكبير عشراً وتحمد عشراً وتهلل عشراً ثم تصنع ذلك في الأربع ركعات الحديث، وسكت عنه أبو داود والمنذري: وقال السيوطي في اللآلئ: قال المنذري، رواة هذا الحديث ثقات.
تنبيه: قال القاري في المرقاة: وينبغي للمتعبد أن يعمل بحديث ابن عباس تارة ويعمل بحديث ابن المبارك أخرى ، وأن يفعلها بعد الزوال قبل صلاة الظهر وأن يقرأ فيها تارة بالزلزلة والعاديات والفتح والإخلاص، وتارة بألهاكم والعصر والكافرون والإخلاص، وأن يكون دعاءه بعد التشهد قبل السلام ثم يسلم ويدعو لحاجته، ففي كل شيء ذكرته وردت سنة انتهى.
قلت لم أقف على ما ورد في هذه الأمور من السنة إلا في فعل صلاة التسبيح بعد الزوال. والأولى عندي العمل بحديث ابن عباس وأبي رافع والله تعالى أعلم.(2/602)
346ـ باب مَا جاءَ في صِفَةِ الصّلاةِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم
482ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبو أسامةَ عن مِسْعَرٍ و الأجْلَحِ و مالكِ بن مغْوَلٍ عن الحَكَمِ بن عُتَيْبَةَ عن عبدِ الرحمَنِ بن أبي ليلى عن كعبِ بن عُجْرَةَ قال: قلنا يَا رَسُولَ الله ، هذا السلامُ عليكَ قد عَلِمْنا فكيفَ الصلاة عليك؟ قال: قولوا اللّهُمّ صَلّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما صَلّيتَ على
ـــــــ
"باب مَا جاءَ في صِفَةِ الصّلاةِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم"
قوله: "عن مسعر" هو ابن كدام "والأجلح" بن عبد الله بن حجيبة بالمهملة والجيم مصغر الكندي يقال اسمه يحيى صدوق شيعي من السابعة "مالك بن مغول" بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الواو الكوفي أبو عبد الله ثقة من كبار السابعة "هذا السلام عليك قد علمنا" يعني بما في أحاديث التشهد وهو السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، وهو يدل على تأخر مشروعية الصلاة عن التشهد كذا في النيل "فكيف الصلاة عليك" وفي رواية الصحيحين على ما في المشكاة كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله علمنا كيف نسلم عليك. وفي المرقاة وفي رواية سندها جيد لما نزلت هذه الاَية {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} جاء رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذا السلام عيك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك؟ قال قولوا اللهم صل على محمد إلخ، وفي أخرى لمسلم وغيره أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فسكت عليه السلام حتى تمنينا أنه لم يسأل ، ثم قال قولوا اللهم صل على محمد إلخ ، وفي آخره والسلام كما علمتم أي بفتح فكسر أو بضم فكسر مع تشديد اللام انتهى "قولوا اللهم صلي على محمد" قال ابن الأثير في النهاية: معناه عظمة في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإبقاء شريعته ،(2/603)
إبراهيم إنكَ حميدٌ مجيدٌ وبَارِك على محمدٍ وعلى آل محمد كما بارَكتَ على إبراهيمَ إنكَ حميدٌ مجيدٌ". قال محمودٌ قال أبو أُسامَةَ: وزادَني زائدةُ عن الأعمشِ عن الحَكَمِ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ أبي ليلَى قال: ونحنُ نقولُ: وعلينا معهم.
ـــــــ
وفي الاَخرة بتشفيعه في أمته وتضعيف أجره ومثوبته ، وقيل المعنى لما أمر الله سبحانه بالصلاة عليه ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك أحلناه على الله وقلنا اللهم صل أنت على محمد لأنك أعلم بما يليق به.
وهذا الدعاء قد اختلف فيه هل يجوز إطلاقه على غير النبي صلى الله عليه وسلم أم لا والصحيح أنه خاص به فلا يقال لغيره. وقال الخطابي: الصلاة التي بمعنى التعظيم والتكريم لا تقال لغيره والتي بمعنى الدعاء والتبرك تقال لغيره ومنه الحديث اللهم صلى على آل أبي أوفي أي ترحم وبرك ، وقيل فيه إن هذا خاص له ولكنه هو آثر به غيره وأما سواه فلا يجوز أن يخص به أحد انتهى ما في النهاية "على آل محمد" في رواية لأبي داود وآل محمد بحذف على ، وسائر الروايات في هذا الحديث وغيره بإثباتها. وقد ذهب فالأكثر على أنهم هل بيته ، قال الشافعي: دل هذا الحديث يعني حديث لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد ، أن آل محمد هم الذي حرمت عليهم الصدقة وعوضوا منها الخمس وهم صليبة بني هاشم وبني المطلب ، قيل آله أصحابه ومن آمن به ، وهو في اللغة يقع على الجميع انتهى ما في النهاية.
قلت: وفي تفسير آل النبي صلى الله عليه وسلم أقوال أخرى وقد جاء في تفسير الاَل حديث مرفوع وهو ما أخرجه الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الاَل قال آل محمد تقي ، وروي هذا من حديث علي ومن حديث أنس رضي الله عنهما وفي أسانيدها مقال ، ويؤيد ذلك معنى الاَل لغة ، قال في القاموس: الاَل أهل الرجل وأتباعه وأولياؤه ولا يستعمل إلا فيما فيه شرف غالباً ، فلا يقال آل الإسكاف كما يقال أهل انتهى "كما صليت على إبراهيم" في هذا التشبيه إشكال مشهور وهو أن المقرر كون المشبهه دون المشبه به، والواقع ههنا عكسه لأن محمداً وحده صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم وآله ، وأجيب بأجوبة منها: أن هذا قبل أن يعلم أنه أفضل.(2/604)
وفي الباب عن علي وأبي حميدٍ وأبي مسعودٍ وطلحةَ وأبي سَعيدٍ وبُرَيدةَ وزَيد بن خارجةَ، ويقال ابن جاريةَ وأبي هريْرَةَ.
ـــــــ
ومنها أنه قال تواضعاً.
ومنها أن التشبيه في الأصل لا في القدر كما قيل في {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وكما في {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} وأحسن كما أحسن الله إليك.
ومنها أن الكاف للتعليل كقول تعالى {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}.
ومنها أن التشبيه معلق بقوله وعلى آل محمد.
ومنها أن التشبيه من باب إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر.
ومنها أن المقدمة المذكورة مدفوعة بل قد يكون التشبيه بالمثل وبما دونه كما في قوله تعالى {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ}.
ومنها أن المشبه مجموع الصلاة على محمد وآله بمجموع الصلاة على إبراهيم وآله ، وفي آل إبراهيم معظم الأنبياء فالمشبه به أقوى من هذه الحيثية.
ومنها أن مراده صلى الله عليه وسلم أن يتم النعمة عليه كما أتمها على إبراهيم وآله.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم من جملة آل إبراهيم وكذلك آله فالشبه هو الصلاة عليه وعلى آله بالصلاة على إبراهيم وآله الذي هو من جملتهم فلا ضير في ذلك "إنك حميد" فعيل بمعنى مفعول أي محمود في ذاته وصفاته وأفعاله بألسنة خلقه ، أو بمعنى فاعل فإنه يحمد ذاته وأولياءه وفي الحقيقة هو الحامد وهو المحمود "مجيد" أي عظيم كريم "وبارك على محمد" أي آدم وأثبت ما أعطيته من التشريف والكرامة ، وأصله من برك البعير إذا ناخ في موضعه ولزمه ، وتطلق البركة على الزيادة ، والأصل هو الأول.
قوله: "قال محمود" أي ابن غيلان شيخ الترمذي "وزادني زائدة" هو ابن قدامة الثقفي الكوفي ثقة ثبت صاحب سنة "قال ونحن نقول علينا معهم" أي قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: ونحن نقول بعد قوله: وعلى آل محمد وعلينا معهم ، وهذه الزيادة ليست في الحديث إنما يزيدونها من عند أنفسهم.
قوله: "وفي الباب عن علي وأبي حميد وأبي مسعود وطلحة وأبي سعيد وبريدة وزيد بن خارجة ويقال ابن جارية وأبي هريرة" أما حديث علي فأخرجه النسائي في مسند(2/605)
قال أبو عيسى: حديثُ كعبِ بن عُجْرَةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وعبدُ الرحمَنِ بنُ أبي لَيْلَى كنْيَتُهُ أبو عيسى. وأبو ليلى اسمه يسارٌ.
ـــــــ
علي بلفظ أبي هريرة كذا في النيل ولفظ حديث أبي هريرة يأتي في تخريجه وأما حديث أبي حميد فأخرجه الشيخان بلفظ: أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك ، قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وأوزاجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وأما حديث أبي مسعود فأخرجه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي كذا في المنتفي. وأما حديث طلحة وهو ابن عبيد الله فأخرجه النسائي بلفظ: اللهم صلى على محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. وفي رواية وآل محمد في الموضعين ولم يقل فيها وآل إبراهيم كذا في النيل.
وأما حديث أبي سعيد فأخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه بلفظ: قولوا اللهم صلى على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم. وأما حديث بريدة فأخرجه أحمد بلفظ: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وآل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وفيه أبو داود الأعمى اسمه نفيع وهو ضعيف جداً ومتهم بالوضع. وأما حديث زيد بن خارجة فأخرجه أحمد والنسائي بلفظ: قولوا اللهم صلى على محمد وآل محمد. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود بلفظ: من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صلى على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري.
قوله: "حديث كعب بن عجرة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة "عبد الرحمن بن أبي ليلى" مبتدأ "كنيته أبو موسى" جملة وهي خبر المبتدأ ، قال في الخلاصة: عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الأوسي أبو عيسى الكوفي عن عمرو بن معاذ وبلال وأبي ذر وأدرك مائة وعشرين من الصحابة الأنصاريين ، وعنه ابنه عيسى ومجاهد عمرو بن ميمون أكبر منه والمنهال بن عمرو وخلق وثقه ابن معين مات سنة ثلاث(2/606)
ـــــــ
وثمانين انتهى "وأبو ليلى اسمه يسار" قال في التقريب: أبو ليلى الأنصاري والد عبد الرحمن صحابي اسمه بلال أو بليل بالتصغير ويقال داود، وقيل هو يسار بالتحتانية وقيل أوس شهد أحداً وما بعدها وعاش إلى خلافة علي انتهى.(2/607)
347ـ باب ما جاء في فضْل الصّلاةِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم
482ـ حدثنا محمدُ بن بشارٍ بندار حدثنا محمدُ بنُ خالدِ بنِ عَثْمَةَ: حدثني موسى بنُ يعقوبَ الزّمْعِيّ حدثني عبدُ الله بن كيْسانَ أن عبدَ الله بنَ شَدّادٍ أخبره عن عَبْدِ الله بنِ مسعودٍ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "أوْلى الناسِ بي يومَ القِيامةِ أكثرُهُمْ عليّ صلاةً".
ـــــــ
"باب ما جاء في فضْل الصّلاةِ على النبيّ صلى الله عليه"
قوله: "أخبرنا محمد بن خالد بن عثمة" بمثلثة ساكنة قبلها فتحة ويقال إنها أمه الحنفي البصري صدوق يخطيء من العاشرة كذا في التقريب. وقال في الخلاصة قال أبو زرعة لا بأس به. وقال في هامشها نقلاً عن التهذيب قال أبو حاتم صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات وقال ربما أخطأ "حدثنا موسى بن يعقوب الزمعي" أبو محمد المدني صدوق سيء الحفظ كذا في التقريب. وقال الذهبي في الميزان وثقه ابن معين ، وقال النسائي ليس بالقوي وقال أبو داود هو صالح ، وقال ابن المديني ضعيف منكر الحديث ، وقال ابن عدي عندي لا بأس به وبرواياته انتهى "حدثني عبد الله بن كيسان الزهري مولاهم عن عبد الله بن شداد ، وعنه موسى بن يعقوب الزمعي وثقه ابن حبان كذا في الخلاصة. وقال في التقريب: عبد الله بن كيسان الزهري مولى طلحة بن عبد الله بن عوف مقبول من الخامسة "أن عبد الله بن شداد" ابن الهاد الليثي أبا الوليد المدني ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذكره العجلي(2/607)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ غريبٌ.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن صلى عليّ صلاةً صلّى الله عليه عشراً وكُتِبَ له عشْرُ حَسَنَاتٍ".
483ـ حدثنا علي بنُ حُجْرٍ أخبرنا إسماعيلُ بن جعفر عن العلاءِ بن عبدِ الرحمَنِ عن أبيهِ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن صلّى عليّ صلاةً صلى الله عليهِ عَشْراً".
ـــــــ
من كبار التابعين الثقات وكان معدوداً في الفقهاء، مات بالكوفة مقتولاً سنة إحدى وثمانين وقيل بعدها انتهى.
قوله: "أولى الناس بي" أي أقربهم بي أو أحقهم بشفاعتي "أكثرهم علي صلاة" لأن كثرة الصلاة منبئة عن التعظيم المقتضي للمتابعة الناشئة عن المحبة الكاملة المرتبة عليها محبة الله تعالى قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" أخرجه ابن حبان في صحيحه. قال ابن حبان عقب هذا الحديث. في هذا الخبر بيان صحيح على أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في القيامة يكون أصحاب الحديث إذ ليس في هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم ، وقال غيره لأنهم يصلون عليه قولاً وفعلاً كذا في المرقاة.
قوله: "من صلى علي صلاة" أي واحدة "صلى الله عليه عشراً " أي عشر صلوات ، والمعنى رحمه وضاعف أجره كقوله تعالى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} والظاهر أنه أفل المضاعفة قال الطيبي ، ويجوز أن تكون الصلاة على ظاهرها كلاماً يسمعه الملائكة تشريفاً للصملي وتكريماً له كما جاء: وإن ذكرني في ملأ دكرته في ملأ خير منهم. قال القاري في المرقاة بعد ذكر كلام الطيبي هذا: لا حاجة إلى التقيد بسماع الملائكة لأنه جاء: وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي انتهى. قلت: إذا كانت الصلاة على ظاهرها كلاماً تشريفاً للمصلي وتكريماً له فلا بد من التقييد بسماع الملائكة ليظهر عندهم شرافته وكرامته بسماعهم صلاة الله عليه.(2/608)
وفي الباب عن عبدِ الرحمَنِ بن عوفٍ وعامر بنِ رَبيعةَ وعَمارٍ وأبي طلحةَ وأنسٍ وأُبيّ بنِ كعبٍ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف وعامر بن ربيعة وعمار وأبي طلحة وأنس وأبي بن كعب" أما حديث عبد الرحمن بن عوف فأخرجه أحمد قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل نخلاً فسجد فأطال السجود حتى خشيت أن يكون الله تعالى قد توفاه ، قال فجئت أنظر فرفع رأسه فقال مالك، فذكرت له ذلك فقال إن جبريل عليه السلام قال لي: ألا أبشرك ، إن لله عز وجل يقول لك من صلى عليك صلاة صليت عليه ، ومن سلم عليك سلمت عليه ، قال ميرك: ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ، رواه أبو يعلى وابن أبي الدنيا نحوه وزاد أحمد في بعض رواياته فسجدت شكراً لله انتهى. وقال السخاوي في القول البديع: ونقل البيهقي في الخلافيات عن الحاكم وقال: هذا حديث صحيح ولا أعلم في سجدة الشكر أصح من هذا الحديث انتهى. وله طرق متعددة ذكرها السخاوي في القول البديع. وأما حديث عامر ابن ربيعة فلينظر من أخرجه. وأما حديث عمار وهو ابن ياسر فأخرجه الدارقطني بلفظ: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمار إن الله عز وجل ملكاً أعطاه الخلائق كلها وهو قائم على قبري إذا مت إلى يوم القيامة فليس أحد من أمتي يصلي علي صلاة إلا سماه باسمه وباسم أبيه ، قال صلى عليك فلان وفلان كذا وكذا فيصلي الرب على ذلك الرجل بكل واحد عشراً انتهى.
وأما حديث أبي طلحة النسائي والدارمي بلفظ أن: رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر في وجهه فقال: جاءني جبريل فقال إن ربك يقول: أما يرضيك يا محمد أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً ، ولا يسلم عليه أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً انتهى. ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وابن أبي شيبة في مصنفه انتهى. وأما حديث أن فأخرجه النسائي بلفظ: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات. وحطت عنه عشر خطيئات ، ورفعت له عشر درجات انتهى. قال ميرك:(2/609)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ورُوِيَ عن سفيانَ الثوريّ وغيرِ واحدٍ من أهلِ العلمِ قالوا: صلاةُ الرّبّ الرحمةُ ، وصلاةُ الملائكةِ الاستغفارُ.
484ـ حدثنا أبو داودَ سليمانُ بن سلم المصاحِفِيّ البلْخِيّ أخبرنا النضرُ بن شُمَيْلٍ عن أبي قُرّةَ الأسدِيّ عن سعيدِ بن المُسَيّبِ عن عُمرَ بنِ الخطّابِ قال: إنّ الدّعَاء مَوْقوفٌ بين السماءِ والأرضِ لا يَصْعَدُ منهُ شيءٌ حتى تصلّيَ على نَبِيّكَ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
ورواه ابن حبان والحاكم في صحيحهما. وأما حديث أبي بن كعب فأخرجه الترمذي.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "وروى عن سفيان الثوري غير واحد من أهل العلم قالوا صلاة الرب الرحمة وصلاة الملائكة الاستغفار" وقال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء. قال ابن عباس: يصلون يبركون انتهى. قال الحافظ في الفتح تحت قول أبي العالية: أخرجه ابن أبي حاتم ، وقال تحت قول ابن عباس: وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "يصلون على النبي" قال يبركون على النبي أي يدعون له بالبركة فيوافق قول أبي العالية لكنه أخص منه انتهى.
قوله: "حدثنا أبو داود بن سليمان بن سلم البلخي المصاحفي" قال في الخلاصة: سليمان بن سلم بإسكان اللام ابن سابق الهدادي أبو داود البلخي المصاحفي عن ابن مطيع والنضر بن شميل وعنه تعليقات س ووثقه مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين انتهى. وقال في التقريب ثقة "أخبرنا النضر بن شميل" المازني أبو الحسن النحوي نزيل مرو ثقة ثبت من كبار التاسعة مات سنة أربع ومائتين وله أثنان وثمانون كذا في التقريب(2/610)
قال أبو عيسى: و العلاءُ بنُ عبدِ الرحمَن هو ابنُ يعقوبَ و هو مولى الحرفة لحُرَقَةِ. والعلاءُ هو من التابعينَ سَمِعَ من أنسِ بن مالكٍ وغيرِه.
ـــــــ
"عن أبي قرة" بضم القاف وشدة الراء المهملة "الأسدي" قال في التقريب: أبو قرة الأسدي من أهل البادية مجهول من السادسة انتهى. وقال في الميزان أبو قرة الأسدي حدث ببلد صيداً عن سعيد بن المسيب مجهول تفرد عنه النضر بن شميل انتهى.
قوله: "لا يصعد" بفتح الياء وقيل بضمها كما في قوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} والجمهور على الفتح ، وقريء في الشواذ بالضم "منه" أي من الدعاء جنسه "حتى تصلي على نبيك" قال الطيبي: يحتمل أن يكون من كلام عمر فيكون موقوفاً. وأن يكون ناقلاً كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحينئذٍ فيه تجريد ، وعلى التقديرين الخطاب عام ، لا يختص مخاطب دون مخاطب انتهى. قال ميرك: رواه الترمذي موقوفاً ، وقد روى مرفوعاً أيضاً ، والصحيح وقفه ، لكن قال المحققون من علماء الحديث إن هذا لا يقال من قبل الرأي فهو مرفوع حكماً انتهى. قلت: لكن الحديث ضعيف لجهالة أبي قرة الأسدي. وفي الحصن الحصين قال الشيخ أبو سليمان الداراني: إذا سألت الله حاجة فابدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ادع بما شئت ثم اختم بالصلاة عليه فإن الله سبحانه بكرمه يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما انتهى.
قوله: "والعلاء بن عبد الرحمن" أي الواقع في سند حديث أبي هريرة مر قبل هذا "هو ابن يعقوب هو مولى الحرقة" بضم الحاء وفتح الراء المهملتين. قال في التقريب: العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف أبو شبل بكسر المعجمة وبسكون الموحدة المدين صدوق ربما وهم من الخامسة.
وقال في الخلاصة: العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الجهني مولى الحرقة المدني أحد الأعلام عن أبيه وأنس وعكرمة وعنه ابن جريج وابن إسحاق ومالك وخلق وثقهن أحمد وقال يحيى بن معين: ليس بذاك، وقال النسائي: ليس به بأس وقال أبو حاتم(2/611)
وعبدُ الرحمَنِ بن يعقوبَ وَالِدُ العلاءِ هو من التابعينَ سمع من أبي هريرةَ وأبي سعيدٍ الخدريّ.
ويعقوبُ هو من كبارِ التابعينَ قد أدركَ عُمَرَ بنَ الخطابِ وَرَوَى عنه.
485ـ حدثنا عباسُ العَنْبَرِيّ حدثنا عبدُ الرحمَنِ بنُ مهدي عن مالكِ بنِ أنسٍ عن العَلاءِ بن عبدِ الرحمَنِ بنِ يعقوبَ عن أبيهِ عن جدّه قال: قال عُمر بنُ الخطّابِ رضي الله عنه: لا يَبِعْ في سُوقِنَا إلاّ من تَفَقّهَ في الدّين .
هذا حديث حسن غريب.
ـــــــ
صالح أنكر من حديثه أشياء. قال الواقدي: توفي في خلافة المنصور انتهى "والعلاء هو من التابعين" أي من صغارهم فإن الحافظ عده من الطبقة الخامسة وهي الطبقة الصغرى من التابعين "وعبد الرحمن بن يعقوب والد العلاء هو من التابعين" أي من أوساطهم فإن الحافظ جعله في التقريب من الطبقة الثالثة وهي طبقة الوسطى من التابعين "ويعقوب هو من كبار التابعين قد أدرك عمر بن الخطاب الخ" جعله الحافظ في التقريب من الطبقة الثانية وهي طبقة كبار التابعين. وقال في الخلاصة: يعقوب مولى الحرقة مدني مقل عن عمر وعنه ابنه عبد الرحمن له عنده يعني عند الترمذي ، حديث موقوف انتهى وهو قوله لا يبع في سوقنا إلا من تفقه في الدين كما صرح به في التهذيب.
قوله: "حدثنا عباس بن عبد العظيم العنبري" ثقة حافظ من كبار الحادية عشرة "عن أبيه" أي عبد الرحمن "عن جده" أي يعقوب "قال: قال عمر بن الخطاب لا يبع الخ" قد استدل به الترمذي على ما ادعى من أن يعقوب قد أدرك عمر بن الخطاب وروى عنه ولأجل ذلك أدخل هذا الحديث في هذا الباب.(2/612)
أبواب الجمعة
باب: فضل يوم الجمعة
...
أبواب الجمعة
348ـ باب فضلِ يوم الجمعَة
486ـ حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا المغيرةُ بنُ عبدِ الرحمَنِ عن أبي الزّنادِ عن الأعرجِ عن أبي هريرةَ أنّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فيه الشمسُ يومُ الجمعةِ ، فيه خُلِقَ آدمُ ، وفيه أُدْخِلَ الجنةَ ، وفيه أُخْرِجَ منها ، ولا تقومُ الساعةُ إلاّ في يومِ الجمعةِ".
ـــــــ
"أبواب الجمعة"
يقال بضم الجيم والميم وإسكانها وفتحها حكاهن الفراء والواحدي وغيرهما ، ووجهوا الفتح بأنها تجمع الناس ويكثرون فيها كما يقال همزة ولمزة بكثرة الهمز واللمز ونحو ذلك سميت جمعة لاجتماع الناس فيها وكان يوم الجمعة في الجاهلية يسمي العروبة قاله النووي.
"باب فضلِ يوم الجمعَة"
قوله: "فيه خلق آدم الخ" قال القاضي عياض: الظاهر أن هذه القضايا المعدودة ليست لذكر فضيلته لأن إخراج آدم وقيام الساعة لا يعد فضيلة وإنما هو بيان لما وقع فيه من الأمور العظام وما سيقع ليتأهب العبد فيه بالأعمال الصالحة لنيل رحمة الله ودفع نقمته انتهى. وقال أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي: الجميع من الفضائل وخروج آدم من الجنة هو سبب وجود الذرية وهذا النسل العظيم ووجود الرسل والأنبياء(2/613)
وفي الباب عن أبي لُبَابةَ وسَلْمانَ وأبي ذَر وسَعْدِ بن عُبادَةَ وأوْسِ بن أوْسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
والصالحين والأولياء ، ولم يخرج منها طرداً كما كان خروج إبليس وإنما كان خروجه مسافراً لقضاء أوطار ثم يعود إليها. وأما قيام الساعة فسبب لتعجيل جزاء الأنبياء والصديقين والأولياء وغيرهم وإظهار كرامتهم وشرفهم.
قوله: "وفي الباب عن أبي لبابة" أخرجه ابن ماجه "وسلمان" أخرجه البخاري والنسائي "وأبي ذر" هو الغفار وحديثه عند ابن عبد البر في التمهيد وابن المنذر على ما قاله الشوكاني في النيل "وسعد بن عبادة" أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ "وأوس بن أوس" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدرامي والبيهقي في الدعوات الكبير.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.(2/614)
349ـ باب في السّاعةِ التي تُرْجَى في يَومِ الجُمُعَة
487ـ حدثنا عبدُ الله بنُ الصّبّاحِ الهاشميّ البصريّ العطّار حدثنا عبيدُ الله بنُ عبدِ المجيدِ الحَنَفِيّ حدثنا محمدُ بنُ أبي حُمَيدٍ حدثنا موسى بن وَرْدَانَ
ـــــــ
"باب في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة"
أي تطمع إجابة الدعوة فيها.
قوله: "أخبرنا محمد بن أبي حميد" في التقريب محمد بن أبي حميد إبراهيم الأنصاري الزرقي أبو إبراهيم المدني لقبه حماد ضعيف من السابعة.(2/614)
عن أنس بن مالكٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إلتمسُوا الساعةَ التي تُرْجَى في يومِ الجُمْعَةِ بعدَ العصرِ إلى غيْبُوبَةِ الشمسِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غَريبٌ من هذا الوجْهِ.
"وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن أنسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غيرِ هذا الوجهِ".
ومحمدُ بن أبي حُمَيْدٍ يُضَعّفُ ، ضَعّفَهُ بعضُ أهلِ العلمِ مِن قِبَلِ حِفْظِه و يقالُ له حَمادُ بنُ أبي حُميدٍ ، ويقالُ هو أبو إبراهيمَ الأنصاريّ ، وهو مُنكَر الحديثِ.
ورأى بعضُ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم أن السّاعةَ التي تُرْجَى بعدَ العصرِ إلى أن تَغْرُبَ الشمسُ وبه يقولُ أحمدُ وإسحاقُ.
و قال أحمدُ: أكثرُ الأحاديثِ في الساعةِ التي تُرْجَى فيها إجابةُ الدعوةِ
ـــــــ
قوله: "التمسوا" أي اطلبوا "ترجى" بصيغة المجهول أي تطمع إجابة الدعاء فيها "بعد العصر إلى غيبوبة الشمس" .
"وقد روي هذا الحديث عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه" قال القاري نقلاً عن ميرك: ورواه الطبراني من رواية ابن لهيعة زواد في آخره وهي قدر هذا وأشار إلى قبضته وإسناده أصح من إسناد الترمذي وقال العسقلاني يعني الحافظ بن حجر في شرح البخاري: وروى هذا عن ابن عباس موقوفاً عليه ، رواه ابن جرير ورواه أيضاً مرفوعاً من حديث أبي سعيد الخدري انتهى.
"وقال أحمد: أكثر الحديث في الساعة التي ترجى إجابة الدعوة أنها بعد صلاة(2/615)
أنها بعدَ صَلاةِ العصر ، وتُرْجَى بعد زوالِ الشْمسِ.
ـــــــ
العصر وترجى بعد زوال الشمس" اختلف العلماء في هذه الساعة وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أكثر من أربعين قولاً وقال بعد ذكرها: ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى وحديث عبد الله بن سلام انتهى.
والمراد بحديث أبي موسى هو ما رواه مسلم عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة. والمراد بحديث عبد الله بن سلام هو ما روى الترمذي وغيره في حديث أبي هريرة من قوله: هي بعد العصر إلى أن تغرب الشمس. قال الحافظ بن حجر: قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى ، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام انتهى ، قال وما عداهما إما موافق لهما أو لأحدهما أو ضعيف الإسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف. ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه صلى الله عليه وسلم أنسيها بعد أن علمها لاحتمال أّ يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسى أشار إلى ذلك البيهقي وغيره.
وقد اختلف السلف في أيهما أرجح، فروى البيهقي من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمة النسيابوري أن مسلماً قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة. وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره. وقال ابن النووي: هو الصحيح بل الصواب وجزم في الروضة بأنه الصواب ورجحه أيضاً بكونه مرفوعاً صريحاً وفي أحد الصحيحين.
وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام ، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناساً من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، ورجحه كثير من الأئمة أيضاً كأحمد وإسحاق، ومن المالكية الطرطوشي، وحكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته كان يختاره ويحكيه عن نص الشافعي وأجابوا عن كونه ليس في أحد الصحيحين بأن الترجيح بما في الصحيحين أو أحداهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ كحديث أبو موسى هذا فإنه أعل بالانقطاع والاضطراب(2/616)
488ـ حدثنا زِيادُ بنُ أيوبَ البغْداديّ حدثنا أبو عامر العَقَدِيّ حدثنا كَثِيرُ بنُ عبدِ الله بنِ عَمْرِو بن عَوْفٍ المَزنِيّ عن أبيهِ عن جَدّه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ في الجمعةِ ساعةً لا يسأَلُ الله العبدُ فيها شيئاً إلاّ آتاهُ الله إيّاهُ ، قالوا يَا رَسُولَ الله أيةُ ساعةٍ هي؟ قال: حين تُقامُ الصلاةُ إلى الإنصراف منها".
ـــــــ
ثم ذكر الحافظ وجه الانقطاع والاضطراب ثم قال: وسلك صاحب الهدى مسلكاً آخر فاختار أن ساعة الإجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين وأنهما لا يعارض أحدهما الاَخر لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت وعلى الاَخر في وقت آخر ، وهذا كقول ابن عبد البر الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد وهو أولى في طريق الجمع انتهى كلام الحافظ.
قوله: "زياد بن أيوب البغدادي" أو هاشم الطوسي الأصل ولقبه شعبة الصغير ثقة حافظ من العاشرة مات سنة "أخبرنا أبو عامر العقدي" بفتح العين والقاف اسمه عبد الملك بن عمرو ثقة من التاسعة كذا في التقريب "أخبرنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده" قال الحافظ في التقريب ضعيف من السابعة ، منهم من نسبه إلى الكذب انتهى. وقال الذهبي في الميزان: كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد المزني عن أبيه عن جده ، قال ابن معين ليس بشيء ، وقال الشافعي وأبو داود ركن من أركان الكذب ، وضرب أحمد على حديثه ، وقال الدارقطني وغيره متروك ، وقال ابن حبان له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة. وأما حديث الترمذي فروى من حديثه: الصلح جائز بين المسلمين وصححه ، فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي انتهى مختصراً .
قوله: "لا يسأل الله العبد فيها شيئاً" أي يليق السؤال فيه، وقد ورد في بعض الروايات الاَخر خيراً مكان شيئاً "إلا آتاه" أي أعطى العبد "إياه" أي ذلك الشيء أي إما أن يعجله له وإما أن يدخره له كما ورد في الحديث "قال حين تقام الصلاة إلى انصراف منها" وفي حديث أبو موسى عند مسلم هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة(2/617)
وفي الباب عن أبي موسى وأبي ذر وسَلمانَ وعَبْدِ الله بنِ سَلاَمٍ وأبي لبَابةَ وسعدِ بنِ عُبادَةَ ".
قال أبو عيسى: حديثُ عَمْرِو بن عَوْفٍ حديثٌ حسَنٌ غريبٌ.
489ـ حدثنا إسحاقُ بن موسى الأنصاريّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مالكُ بنُ أنسٍ عن يَزِيدَ بنِ عَبْدِ الله بن الهادِ عن محمدِ بنِ إبراهيمَ عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فيه الشمسُ يومُ الجُمعَةِ ، فيه خُلِقَ آدمُ وفيه أُدْخِلَ الجنّةَ ، وفيه أُهْبِطَ منها ، وفيه ساعةٌ لا يوافقُهَا عبدٌ مسْلمٌ يصلي فيسألُ الله فيها
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي موسى" أخرجه مسلم وتقدم لفظه "وأبي ذر" روى ابن المنذر وابن عبد البر بإسناد قوي إلى الحارث بن يزيد الحضرمي عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي ذر أن امرأته سألته عنها فقال بعد زوال الشمس بشبر إلى ذراع ، كذا في فتح الباري "وسلمان" لينظر من أخرجه "وعبد الله بن سلام" أخرجه ابن ماجه "وأبي لبابة" أخرجه ابن ماجه وأحمد "وسعد بن عبادة" أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه.
قوله: "حديث عمرو بن عوف حديث حسن غريب" في كون هذا الحديث حسناً كلام ، فإن في سنده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وقد تقدم حاله. قال الحافظ في كلام ، فإن في سنده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وقد تقدم حاله. قال الحافظ في فتح الباري بعد ذكر هذا الحديث: وقد ضعف كثير رواية كثير ورواه البيهقي في الشعب من هذا الوجه بلفظ: ما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن تقضى الصلاة ، ورواه ابن أبي شيبة من طريق مغيرة عن واصل الأحدب عن أبي بردة قوله وإسناده قوى إليه وفيه أن ابن عمر استحسن ذلك منه وبرك عليه ومسح على رأسه ، وروى ابن جرير وسعيد بن منصور عن ابن سيرين نحوه انتهى.
قوله: "لا يوافقها" أي لا يصادفها وهو أعلم من أن يقصد لها أو يتفق له وقوع الدعاء فيها "يصلي" صفة لعبد أو حال لاتصافه بمسلم "فيسأل الله فيها شيئاً" أي مما يليق أن يدعو به المسلم ويسأل ربه تعالى ، وفي رواية عن أبي هريرة عند البخاري في الطلاق(2/618)
شيئاً إلا أعطاهُ إياهُ. قال أبو هُرَيْرَةَ: فَلَقِيتُ عبدَ الله بنَ سلامٍ فذكرتُ له هذا الحديثَ ، فقال: أنا أعْلَمُ بتلكَ الساعةِ ، فقلت: أخبرني بها ولا تَضْنَنْ بها عَلَيّ ، قال: هي بعدَ العصرِ إلى أن تغْرُبَ الشمسُ قلتُ كيفَ تكونُ بعدَ العصرِ وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا يُوافِقهَا عبدٌ مسلمٌ وهو يصلي وتلكَ الساعةُ لا يصلّي فيها؟ فقال عبدُ الله بن سلام: ألَيْس قد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن جَلَسَ مجلساً ينتظرُ الصلاةَ فهو في صلاةِ؟ قلت: بلى ، قال: فهو ذَاك".
وفي الحديثِ قصةٌ طويلةٌ.
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسن صحيحٌ.
قال: ومعنى قولهِ أخبْرني بها ولا تضنَنْ بها عليّ والضنّين البخيل والظّنِينُ المُتّهَمُ.
ـــــــ
يسأل الله خيراً ، وفي حديث أبي لبابة عند ابن ماجه: ما لم يسأل حراماً ، وفي حديث سعد بن عبادة عند أحمد: ما لم يسأل إنما أو قطيعة رحم "ولا تضنن" أي لا تبجل ، قال العراقي: يجوز في ضبطه ستة أوجه أحدها فتح الضاد وتشديد النونين وفتحهما والثاني كسر الضاد والباقي مثل الأول والثالث فتح الضاد وتشديد النون الأولى وفتحها وتخفيف الثانية. والرابع كسر الضاد والباقي مثل الذي قبله ، والخامس إسكان الضاد وفتح النون الأولى ، وإسكان الثانية ، والسادس كسر النون الأولى ، والباقي مثل الذي قبله انتهى.
قال أبو الطيب المدني: حاصل جميع الوجوه أنه من باب التأكيد بالنون الثقيلة أو الخفيفة أو من باب الفك ، وعلى التقديرين فالباب يحتمل فتح العين في المضارع وكسرها فتصير الوجوه ستة انتهى. "وفي الحديث قصة طويلة" رواه مالك وأبو داود بطوله.(2/619)
ـــــــ
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه مالك وأبو داود والنسائي "والضنين البخيل والظنين المتهم" الضن بالكسر والضنين يخيل كردن وهو ضنين ، والظنة بالظاء بالكسر التهمة والظنين المتهم كذا في الصراح والقاموس
"باب ما جاء في الاغتسال يوم الجمعة"
قوله: "من أتى الجمعة فليغتسل" هذا الحديث رواه الجماعة ولمسلم: إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل. واستدل به من قال بوجوب غسل الجمعة. واستدل من مفهوم الحديث أن الغسل لا يشرع لمن لا يحضر الجمعة ، وقد جاء التصريح بمقتضاه في رواية عمثان بن واقد عن نافع عند أبي عوانة وابن خزيمة وابن حبان في صحاحهم بلفظ: من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل ومن لم يأتها فليس عليه غسل. قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات ، لكن قال البزار أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه انتهى.(2/620)
350ـ باب ما جاء في الاغتسال يوم الجمعة
490ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنيعٍ ، حدثنا سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن الزّهْرِيّ عن سالمٍ عن أبيه أنه سَمِعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَن أتَى الجمُعةَ فَلْيَغْتَسِلْ".
وفي الباب عن عمر و أبي سَعِيدٍ وجابرٍ والبراءِ وعائشَةَ وأبي الدّرْدَاءِ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الاغتسال يوم الجمعة"
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد وعمر وجابر والبراء وعائشة وأبي الدرداء" أما حديث أبي سعيد فأخرجه الشيخان مرفوعاً بلفظ: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه. وأما حديث عمر فأخرجه الشيخان وأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث جابر فأخرجه النسائي مرفوعاً بلفظ: على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم الجمعة وأما حديث البراء فأخرجه أحمد مرفوعاً(2/620)
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَرَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وَرُوِيَ عن الزهريّ عن عبدِ الله بن عبدالله بنِ عُمَرَ عن أبيهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديثُ أيضاً.
491ـ حدثنا بذلك قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ بن سَعْدٍ عن ابن شهابٍ عن عبد الله بن عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ عن أبيه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَه.
ـــــــ
بلفظ: حقاً على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة الحديث. وأخرجه ابن أي شيبة في المصنف. وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان عنها قالت: كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء فيصيبهم الغبار والعرق فتخرج منهم الريح الحديث وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تطهرتم ليومكم هذا. وأخرج البزار عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى الجمعة فليغتسل، ذكره العيتي في شرح البخاري. وأما حديث أبي الدرداء فلينظر من أخرجه.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة وله طريق كثيرة ، ورواه غير واحد من الأئمة، وعد ابن مندة من رواه عن نافع فبلغوا فوق ثلثمائة نفس ، وعد من رواه من الصحابة غير ابن عمر فبلغوا أربعة وعشرين صحابياً. قال الحافظ: وقد جمعت طرقه من نافع فبلغوا مائة وعشرين نفساً.
قوله: "وروى عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه إلخ" يعني روى هذا الحديث عن الزهري على وجهين أحدهما عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والثاني عن عبد الله بن عبد الله عن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما صحيح كما نقل الترمذي عن الإمام البخاري:
قوله: "إذا دخل رجل" هو عثمان رضي الله عنه كما جاء في عدة روايات. قال ابن(2/621)
وقال محمدٌ: وحديثُ الزهريّ عن سالمٍ عن أبيهِ وحديثُ عَبْدِ الله بنِ عَبْدِ الله عن أبيه ، كلا الحديثَيْنِ صحيحٌ.
وقال بعضُ أصحابِ الزهريّ عن الزهريّ قال: حدثني آل عبدِ الله بنِ عُمرَ عن ابن عُمرَ.
بينما عمر بن الخطاب يخطب يوم الجمعة اذ دخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أية ساعة هذه؟ فقال: ما هو الا أن سمعت النداء وما زدت على أن توضأت قال: والوضوء أيضاً وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل.
492 ـ حدثنا محمدُ بنُ أبانَ أخبرنا عبدُ الرزاقِ عن مَعْمَرٍ عن الزهريّ.
493ـ قال وحدثنا عبدالله بن عبدُ الرحمنِ أخبرنا أبو صالح عبدُ الله بن صالحٍ حدثنا الليثِ عن يونسَ عن الزهريّ بهذا الحديثِ.
ـــــــ
عبد البر: لا أعلم خلافاً في ذلك "فقال" أي عمر رضي الله عنه في أثناء الخطبة "أية ساعة هذه" بتشديد التحتية تأنيث أي وهذا الاستفهام استفهام إنكار وتوبيخ على تأخره إلى هذه الساعة، وكأنه يقول لم تأخرت إلى هذه الساعة "فقال" أي الرجل "ما هو" الضمير للشأن "إلا أن سمعت النداء وما زدت على أن توضأت" وفي رواية البخاري: قال إن شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين. وفي رواية في الموطأ فقال يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت والمراد من النداء الأذان بين يدي الخطيب "والوضوء أيضاً" قال العراقي: المشهور في الرواية النصب أي توضأت الوضوء انتهى وقال الحافظ في الفتح في روايتنا بالنصب ، وعليه اقتصر النووي أي والوضوء أيضاً اقتصرت عليه واخترته دون الغسل ، والمعنى: ما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغسل واقتصرت على الوضوء. وجوز القرطبي الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي الوضوء أيضاً يقتصر عليه انتهى.(2/622)
ورَوَىَ مالكٌ هذا الحديثَ عن الزهرىّ عن سالمٍ قال:بينما عُمَرُ بن الحطاب يَخطُبُ يومَ الْجُمُعَةِ فذكرَ الحديثَ.
قال أبو عيسى:سألتُ محمداً عن هذا فقال: الصحيحُ حديثُ الزهرىّ عن سالمٍ عن أبيهِ.
قال محمد: "وقد رُوِىَ عن مالكٍ أيضاً عن الزهرىّ عن سالمٍ عن أبيه نحو هذا الحديث".
ـــــــ
قوله "وروى مالك هذا الحديث عن الزهري عن سالم قال بينما عمر الخ" أي لم يذكر مالك عبد الله بن عمر بل رواه منقطعا بخلاف معمر ويونس فإنهما روياه عن الزهرى موصولا بذكر عبد الله بن عمر "سألت محمدا عن هذا" أى عن حديث الزهرى عن سالم قال بينما عمر الخ "فقال الصحيح حديث الزهرى عن سالم عن أبيه" كما روى معمر ويونس "قال محمد وقد روى عن مالك أيضا عن الزهرى عن سالم عن أبيه نحو هذا الحديث" رواه البخارى في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينما هو قائم في الخطبة الحديث. قال الحافظ في الفتح: وهو عند رواة الموطأ عن مالك ليس في ذكر ابن عمر، فجلي الاسماعيلي عن البغوى بعد أن أخرجه من طريق روح بن عبادة عن مالك أنه لم يذكر في هذا الحديث أحد عن مالك عبد الله ابن عمر غير روح بن عبادة وجويرية انتهى. وقد تابعهما أيضا عبد الرحمن بن مهدى أخرجه أحمد بن حنبل عنه بذكر ابن عمر. وقال الدارقطني في الموطأ: رواه جماعة من أصحاب مالك الثقات عنه خارج الموطأ موصولا عنهم، فذكر هؤلاء الثلاثة ثم قال وأبو عاصم النبيل وإبراهيم بن طهمان والوليد بن مسلم وعبد الوهاب بن عطاء وذكر جماعة غيرهم في بعصهم مقال ثم ساق أسانيدهم إليهم بذلك انتهى.(2/623)
المجلد الثالث
تابع لأبواب الجمعة
باب في فضل الغسل يوم الجمعة
...
351 ـ باب في فضل الغسل يوم الجمعة
494 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلاَن حدثنا وكيعٌ عن سفيان و أبو جَنابٍ يحيى بن أبي حَيّةَ عن عبدِ الله بن عيسى عن يحيى بن الحارثِ عن أبي الأشَعثِ الصّنْعَانيّ عن أَوْسِ بن أَوْسٍ قال: قالَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن اغْتَسَلَ يومَ الجُمَعَةِ وغَسّلَ وَبكّر وابتكَرَ وَدَنا واستمَعَ وأَنْصَتَ
ـــــــ
باب ما جاء في فضلِ الغُسلِ يومَ الجمعة
"وأبو جناب يحيى بن حَبِيبٍ القصّابُ" "الكوفي".
قوله: "وأبو جناب" بجيم مفتوحة ونون خفيفة وآخره موحدة "يحيى بن أبي حية" بالحاء المهملة والتحتانية المشددة، قال في التقريب: ضعفوه لكثرة تدليسه، رويى عن عبد الله بن عيسى وغيره وعنه وكيع والسفيانان وغيرهم.
اعلم أنه قد وقع في النسخ الموجودة عندنا أبو جناب بالرفع فالظاهر أنه عطف على وكيع وحاصله أن محمود بن غيلان روى هذا الحديث عن وكيع وأبي جناب كليهما، فأما وكيع فرواه عن سفيان عن عبد الله بن عيسى وأما أبو جناب فرواه عن عبد الله بن عيسى من غير واسطة، وقد روى أحمد هذا الحديث في مسنده من طريق سفيان عن عبد الله بن عيسى "عن عبد الله بن عيسى" بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي ثقة "عن يحيى بن الحارث" الذماري القاري ثقة "عن أوس بن أوس" صحابي سكن دمشق.
قوله: "من اغتسل وغسل" روي بالتشديد والتخفيف قيل أراد به غسل رأسه، وبقوله اغتسل غسل سائر بدنه، وقيل جامع زوجته فأوجب عليها الغسل فكأنه غسلها واغتسل، وقيل كرر ذلك للتأكيد. ويرجح التفسير الأول ما في رواية أبي داود في هذا الحديث بلفظ: من غسل رأسه واغتسل، وما في البخاري عن طاوس: قلت لابن عباس ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اغتسلوا واغسلوا رؤوسكم" الحديث "وبكر" بالتشديد على المشهور أي راح في(3/3)
كانَ له بكلّ خُطْوةٍ يَخْطوها أَجرُ سَنَةٍ صيامُها وقيامُها" .
قال محمودٌ: قال وكيعٌ اغْتَسَلَ هو وغسّل امرأتَه.
"قال" : ويُرْوَى عن "عبد الله" بن المباركِ أنه قال في هذا الحديث: مَن غسّلَ واغْتَسَل، يعني غَسل رأسَهُ واغْتَسَل.
"قال" : وفي البابِ عن أبي بكرٍ وعِمْرانَ بنِ حُصَينٍ وسلمانَ وأبي ذَر وأبي سعيدٍ "وابن عمرَ" و "أبي أَيّوبَ" .
ـــــــ
أول الوقت "وابتكر" أي أدرك أول الخطبة ورجحه العراقي، وقيل كرره للتأكيد، وبه جزم ابن العربي. وقال الجزري في النهاية: بكر أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه. وأما ابتكر فمعناه أدرك أول الخطبة، وأول كل شيء باكورته، وابتكر الرجل إذا أكل باكورة الفواكه، وقيل معنى اللفظتين واحد وإنما كرر للمبالغة والتوكيد كما قالوا أجاد مجد انتهى. وزاد أبو داود وغيره في رواياتهم: ومشى ولم يركب "ودنا" زاد أبو داود وغيره من الإمام "واستمع" أي الخطبة "وأنصت" تأكيد "بكل خطوة" بفتح الخاء وتضم بعد ما بين القدمين "صيامها وقيامها" بدل من سنة.
قوله: "قال محمود" هو ابن غيلان شيخ الترمذي "قال وكيع اغتسل هو وغسل امرأته" قال الجزري في النهاية: ذهب كثير من الناس أن غسل أراد به المجامعة قبل الخروج إلى الصلاة لأن ذلك يجمع غض الطرف في الطريق، يقال غسل الرجل امرأته بالتشديد والتخفيف إذا جامعها وقد روي مخففاً وقيل أراد غسل غيره واغتسل هو لأنه إذا جامع زوجته، أحوجها إلى الغسل، وقيل هما بمعنى كرره للتأكيد.
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر وعمران بن حصين وسليمان وأبي ذر وأبي سعيد وابن عمر وأبي أيوب" أما حديث أبي بكر وعمران بن حصين فأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(3/4)
قال أبو عيسى: حديثُ أَوسٍ بنِ أَوْسٍ حديثٌ حسنٌ وأبو الأشَعثِ الصّنْعَانيّ اسمُه شُرحبيلُ بن آدةَ.
ـــــــ
"من اغتسل يوم الجمعة كفرت له ذنوبه وخطاياه فإذا أخذ في المشي كتب له بكل خطوة عشرون حسنة فإذا انصرف من الصلاة أجيز بعمل مئتي سنة" وفي سنده الضحاك بن حمزة ضعفه ابن معين والنسائي وذكر ابن حبان في الثقات كذا في مجمع الزوائد. وأما حديث سلمان فأخرجه البخاري. وأما حديث أبي ذر فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أبو داود. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الطبراني في الأوسط وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن رواد وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد. وأما حديث أبي أيوب فأخرجه أحمد والطبراني في الكبير بلفظ: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحداً ثم أنصت حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى". قال في مجمع الزوائد رجاله ثقات.
قوله: "وحديث أوس بن أوس حديث حسن" قال المنذري في الترغيب بعد ذكره: رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن، والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهحما والحاكم وصححه انتهى. وفي المرقاة قال النووي إسناده جيد نقله ميرك. وقال بعض الأئمة لم نسمع في الشريعة حديثاً صحيحاً مشتملاً على مثل هذا الثواب انتهى.
قوله: "اسمه شرحبيل بن آدة" وفي بعض النسخ شراحيل بن آدة، قال الحافظ في التقريب: شراحبيل بن آدة بالمد وتخفيف وتخفيف الدال أبو الأشعت الصنعاني، ويقال آدة جد أبيه وهو ابن شراحيل بن كليب ثقة من الثانية شهد فتح دمشق انتهى. وقال في تهذيب التهذيب: شراحبيل بن آدة ويقال شرحبيل بن كليب بن آدة، ويقال شراحيل بن كليب، ويقال شراحيل بن شراحيل ويقال شرحبيل ابن شرحبيل انتهى(3/5)
352ـ باب في الوضوءِ يومَ الجُمُعَة
495 ـ حدثنا أبو موسى محمّدُ بن المُثَنّى حدثنا سعيدُ بن سفيانَ الجَحْدَرِيّ حدثنا شعبةُ عن قتادةَ عن الحَسنِ عن سَمُرةَ بنِ جُنْدَبٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَن توضّأَ يومَ الجُمعةِ فَبِهَا وَنِعْمتْ. ومَن اغتسَلَ فالغُسْلُ أفضلُ".
"قال" : وفي البابِ عن أبي هريرةَ وأنسٍ. وعائشةَ
ـــــــ
باب في الوضوء يوم الجمعة
أي في الإكتفاء على الوضوء يوم الجمعة.
قوله: "عن الحسن عن سمرة بن جندب" ذكر النسائي أن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة. قال العراقي: وقد صح سماعه منه لغير حديث العقيقة، ولكن هذا الحديث لم يثبت سماعه منه لأنه رواه عنه بالعنعنة في سائر الطرق ولا يحتج به لكونه يدلس كذا في قوت المغتذي.
قوله: "فبها ونعمت" قال العراقي: أي فبطهارة الوضوء حصل الواجب، والتاء في نعمت للتأنيث، قال أبو حاتم معناه ونعمت الخصلة هي أي الطهارة للصلاة. وقال الحافظ في التلخيص: حكى الأزهري أن قوله فبها ونعمت معناه فبالسنة أخذ ونعمت بالسنة. قاله الأصمعي: وحكاه الخطابي أيضاً وقال إنما ظهر تاء التأنيث لإضمار السنة، وقال غيره: ونعمت الخصلة، وقال أبو أحمد الشاذكي: ونعمت الرخصة، قال لأن السنة الغسل، وقال بعضهم: فبالفريضة أخذ ونعمت الفريضة انتهى ما في التلخيص "ومن اغتسل فالغسل أفضل"، هذا يدل على أن الغسل يوم الجمعة ليس بواجب بل يجوز الاكتفاء على الوضوء، وجه الدلالة أن قوله فالغسل أفضل يقتضي اشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل فيستلزم إجزاء الوضوء.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وعائشة رضي الله عنهما" أما حديث(3/6)
قال أبو عيسى: حديثُ سَمُرَةَ "حديثٌ حسنٌ".
"و" قد رواه بعضُ أصحابِ قتادةَ "عن قَتَادةَ" عن الحسنِ عن سَمُرَةَ "بن جندب". وَرَواهُ بعضُهم عن قتادةَ عن الحسنِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ مِن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَن بَعدَهمُ، اختاروا الغسلَ يومَ الجمعةِ ورأوْا أَن يجزئ الوضوءُ مِن الغسلِ "يومَ الجمعةِ".
ـــــــ
أبي هريرة فأخرجه مسلم عنه مرفوعاً. من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له، وأما حديث أنس فأخرجه ابن ماجه والطحاوي وغيرهما، وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان وقد تقدم لفظه وفيه: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا.
قوله: "حديث سمرة حديث حسن" قال الحافظ في فتح الباري: لهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان وله علتان: أحدهما أنه من عنعنة الحسن والأخرى أنه اختلف عليه فيه وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس والطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمر والبزار من حديث أبي سعيد وابن عدي من حديث جابر وكلها ضعيفة انتهى، وقال في التلخيص: قال في الإمام: من يحمل رواية الحسن عن سمرة على الاتصال يصحح هذا الحديث. قال الحافظ: وهو مذهب علي بن المديني كما نقله عنه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم، وقيل لم يجمع عنه إلا حديث العقيقة وهو قول البزار وغيره، وقيل لم يسمع عنه شيء أصلاً وإنما يحدث من كتابه انتهى.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم اختاروا الغسل يوم الجمعة إلخ" اختلف أهل العلم في الغسل يوم الجمعة(3/7)
قال الشافعيّ ومما يدلّ على أَنّ أمْرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالغسلِ يومَ الجُمعةِ أنه على الإِختيارِ لا على الوجُوبِ: حديثُ عُمَرَ حيثُ قال لعثمانَ: "والوضوءُ" أيضاً. وقد علمتَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمرَ بالغُسلِ يومَ الجُمعَةِ" فلو عَلِمَا أنّ أَمرَه على الوجوبِ لا عَلَى الإِختيارِ لم يَتْركَ عمرُ عثمانَ حتى يَردّه ويقولَ له ارجعْ فاغْتَسِلْ. ولَمَا خَفِيَ على عثمانَ ذلك مع عِلْمِهِ، ولكن دَلّ "في" هذا الحديث أن الغسلَ يومَ الجُمعَةِ فيه فَضْلٌ من غيرِ وجوبٍ يجبُ على المرءِ كذلك.
ـــــــ
فذهب الجمهور إلى أنه مستحب، وقال جماعة إنه واجب. قال الحافظ في شرح حديث غسل الجمعة واجب على كل محتلم ما لفظه. واستدل بقوله واجب على فرضية غسل الجمعة، وقد حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار بن ياسر وغيرهما وهو قول أهلي الظاهر وإحدى الروايتين عن أحمد، وحكاه ابن حزم عن عمر وجمع جم من الصحابة ومن بعدهم، ثم ساق الرواية عنهم لكن ليس فيها عن أحد منهم التصريح بذلك إلا نادراً، وإنما اعتمد في ذلك على أشياء محتملة كقول سعد: ما كنت أظن مسلماً يدع غسل يوم الجمعة انتهى. "فلو علما" أي عمر وعثمان رضي الله عنهما "أن أمره على الوجوب لا على الاختيار لم يترك عمر عثمان حتى يرده ويقول له ارجع فاغتسل ولما خفي على عثمان ذلك ومع علمه إلخ". هذا تقرير الاستدلال وزاد بعضهم في هذا التقرير أن من حضر من الصحابة وافقوهما على ذلك فكان إجماعاً منهم.
وأجيب عنه بأن قصة عمر وعثمان هذه تدل على وجوب الغسل يوم الجمعة لا على عدم وجوبه من جهة ترك عمر الخطبة واشتغاله بمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رؤوس الناس، فلو كان ترك الغسل مباحاً لما فعل عمر ذلك وإنما لم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت إذ لو فعل لفاتته الجمعة: وإنما تركة عثمان لأنه كان ذاهلاً عن الوقت مع أنه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أول النهار لما ثبت في صحيح مسلم عن حمران أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفضي عليه الماء.(3/8)
596 ـ حدثنا هنادٌ، حدثنا أبو معاويةَ عن الأعمشِ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن توضّأَ فأحسَن الوضوءَ ثم أتَى الجُمُعَةَ فَدَنَا واستَمَعَ وأَنْصَتَ غُفِرَ له ما بَيْنَه وبين الجُمعَةِ وزيادةُ ثلاثة أيامٍ، ومَن مَسّ الَحَصى فقد لغا".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وتعقب هذا الجواب بأن عمر رضي الله عنه عاتب عثمان وأنكر عليه ترك السنة المذكورة في هذا الحديث وهي التبكير إلى الجمعة فيكون الغسل كذلك.
قلت: قد جاء في هذا الباب أحاديث مختلفة بعضها يدل على أن الغسل يوم الجمعة واجب وبعضها يدل على أنه مستحب، والظاهر عندي أنه سنة مؤكدة، وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث المختلفة والله تعالى أعلم.
قوله: "من توضأ فأحسن الوضوء" أي أتى بمكملاته من سننه ومستحباته قاله القاري، وقال النووي: معنى إحسان الوضوء الإتيان به ثلاثاً ثلاثاً وذلك الأعضاء وإطالة الغرة والتحجيل وتقديم الميامن والإتيان بسننه المشهورة انتهى "ثم أتى الجمعة" أي حضر خطبتها وصلاتها "فدنا" أي من الإمام "واستمع وأنصت" قال النووي: هما شيئان متمايزان وقد يجتمعان، فالاستماع الإصغاء، والإنصات السكوت ولهذا قال الله تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } انتهى.
قلت: الإنصات هو السكوت مع الإصغاء لا السكوت المحض، وقد حققنا ذلك في كتابنا تحقيق الكلام "غفر له ما بينه وبين الجمعة" ، وفي رواية مسلم: غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وكذلك في حديث سلمان عند البخاري. قال الحافظ في الفتح: المراد بالأخرى التي مضت بينه الليث عن ابن عجلان في روايته عند ابن خزيمة ولفظه، غفر له ما بينه وبين الجمعة التي قبلها انتهى. قال ميرك: وكما في سنن أبي داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة ولفظه: كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها انتهى. "وزيادة ثلاثة أيام" برفع زيادة عطفاً(3/9)
ـــــــ
بالواو بمعنى مع على ما في بينه أي بين يوم الجمعة الذي فعل فيه ما ذكر مع زيادة ثلاثة أيام على السبعة لتكون الحسنة بعشر أمثالها. وجوز الجر في زيادة بالعطف على الجمعة والنصب على المفعول معه. "ومن مس الحصى فقد لغا"، قال النووي: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من أنواع العبث في حال الخطبة، وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة، والمراد باللغو ههنا الباطل المذموم المردود انتهى. "هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي(3/10)
باب ما في التبكير إلى الجمعة
...
353 ـ باب ما جاءَ في التبكِيرِ إلى الجُمعَة
497 ـ حدثنا إسحاقُ بنُ موسى "الأنصاريّ"، حدثنا مَعْنٌ، حدثنا مالكٌ عن سُمَي عنِ أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ أَن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسلَ يومَ الُجُمَعةِ غُسْلَ الجنابةِ ثُمّ رَاحَ فكأَنما قَرّبَ بَدَنَةً، ومن
ـــــــ
"باب ما جاء في التبكير إلى الجمعة"
قال في النهاية: بكر أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه.
قوله: "عن سمي" بضم السين وفتح الميم وشدة الياء هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ثقة.
قوله: "غسل الجنابة". بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي غسلا كغسل الجنابة، وهو كقوله تعالى: {تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}، وفي رواية عند عبد الرزاق: فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة، وظاهره أن التشبيه للكيفية لا للحكم وهو قول الأكثر، وقيل فيه إشارة إلى الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه للجنابة، والحكمة فيه أن تسكن نفسه في الرواح إلى الصلاة ولا تمتد عينه إلى شيء يراه، وفيه حمل المرأة أيضاً على الاغتسال ذلك اليوم، وعليه حمل قائل ذلك حديث من غسل واغتسل على رواية من روى غسل بالتشديد. قال النووي(3/10)
راح في الساعةِ الثانيةِ فكأنّما قَرّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ في السّاعةِ الثالثةِ فكأَنما قَرّبَ كَبْشاً أَقْرَن ومنْ رَاح في الساعةِ الرابعةِ فكأَنْما قَرّبَ دَجَاجةً، ومن راحَ في الساعةِ الخامسةِ فكأَنما قَرّبَ بَيْضةً فإِذا خرج الإمامُ حَضَرَت الملائِكَةُ يستَمعونَ الذّكْرَ".
ـــــــ
ذهب بعض أصحابنا إلى هذا وهو ضعيف أو باطل والصواب الأول وقد حكاه ابن قدامة عن الإمام أحمد وثبت أيضاً عن جماعة من التابعين. وقال القرطبي إنه أنسب الأقوال فلا وجه لإدعاء بطلانه وإن كان الأول أرجح، ولعله أنه عني باطل في المذهب كذا في فتح الباري.
قوله: "ثم راح" زاد أصحاب الموطأ عن مالك في الساعة الأولى.
قوله: "فكأنما قرب بدنة" : قال الحافظ في فتح الباري: أي تصدق بها متقرباً إلى الله، وقيل المراد أن للباردة في أول ساعة نظير ما لصاحب البدنة من الثواب ممن شرع له القربان لأن القربان لم يشرع لهذه الأمة على الكيفية التي كانت للأمم السالفة، وفي رواية الزهري عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة مثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنة، فكأن المراد بالقربان في رواية الباب الإهداء إلى الكعبة. قال الطيبي في لفظ الإهداء إدماج بمعنى التعظيم للجمعة، وأن المبادر إليها كما ساق الهدى إلى الكعبة. والمراد بالبدنة البعير ذكراً كان أو أنثى، والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث. وقال الأزهري في شرح ألفاظ المختصر: البدنة لا تكون إلا من الإبل، وصح ذلك عن عطاء، وأما الهدى فمن الإبل والبقر والغنم، وحكى النووي عنه أنه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم وكأنه خطأ نشأ عن سقط انتهى كلام الحافظ.
قوله: "دجاجة". فتح الدال أفصح من كسرها كذا في الصحاح وحكى الضم، قال الكرماني: فإن قلت: القربان إنما هو في النعم لا في الدجاجة والبيضة قلت معنى قرب ههنا تصدق متقرباً إلى الله تعالى بها. وقال العيني: وفيه إطلاق القربان على الدجاجة والبيضة لأن المراد من التقرب التصدق ويجوز التصدق بالدجاجة والبيضة ونحوهما.(3/11)
"قال" : وفي البابِ عن عبدِ الله بنِ عَمْروٍ وسَمُرَةَ.
ـــــــ
قوله: "يستمعون الذكر" أي الخطبة قال النووي: مذهب مالك وكثير من أصحابه والقاضي حسين وإمام الحرمين: أن المراد بالساعات هنا لحظات لطيفة بعد زوال الشمس والروح عندهم بعد زوال الشمس وادعوا أن هذا معناه في اللغة، ومذهب الشافعي وجماهير أصحابه وجماهير العلماء استحباب التبكير إليها أول النهار والرواح يكون أول النهار وآخره. قال الأزهري: لغة العرب الرواح الذهاب سواء كان أول النهار أو آخره أو في الليل وهذا هو الصواب الذي يقتضيه الحديث والمعنى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة تكتب من جاء في الساعة الأولى وهو كالمهدي بدنة، ثم من جاء في الساعة الثانية، ثم الثالثة ثم الرابعة، ثم الخامسة وفي رواية النسائي السادسة فإذا خرج الإمام طووا الصحف ولم يكتبوا بعد ذلك أحداً ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الجمعة متصلا بعد الزوال وهو بعد انفصال السادسة فدل على أنه لا شيء من الهدى والفضيلة لمن جاء بعد الزوال، وكذا ذكر الساعات إنما كان للحث على التبكير إليها والترغيب في فضيلة السبق وتحصيل الصف الأول وانتظارها بالاشتغال بالنفل والذكر ونحوه، وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال ولا فضيلة لمن أتى بعد الزوال لأن النداء يكون حينئذ ويحرم التخلف بعد النداء انتهى كلام النووي.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وسمرة" أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه ابن خزيمة في صحيحه مرفوعاً بلفظ قال تبعث الملائكة على أبواب المساجد يوم الجمعة يكتبون مجيء الناس فإذا خرج الإمام طويت الصحف ورفعت الأقلام فتقول الملائكة بعضهم لبعض: ما حبس فلانا؟ فتقول الملائكة اللهم إن كان ضالاً فاهده، وإن كان مريضاً فإشفه، وإن كان عائلاً فإغنه، وأما حديث سمرة وهو ابن جندب فأخرجه ابن ماجه بإسناد حسن بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب مثل الجمعة ثم التبكير كأجر البقرة كأجر الشاة حتى ذكر الدجاجة وفي الباب أحاديث عديدة ذكرها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب(3/12)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرة حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله : ( حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح ) أخرجه مالك في المؤطا والبخاري ومسام وأبو داود والنسائى وابن ماجه .(3/13)
354 ـ باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر
498 ـ حدثنا عليّ بن خَشْرَمٍ، أخبرنا عيسى بن يونسَ عن محمدِ بن عَمْروٍ عن عَبِيْدَةَ بن سفيانَ عن أَبي الَجعْدِ "يعني" الضّمْرِيّ وكانت له صحبةٌ فيما زعم محمدُ بن عَمْروٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَن تركَ الجمعةَ ثلاثَ مراتٍ تهاوُناً بها طَبَع الله على قلْبِهِ"
ـــــــ
باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر
قوله: "حدثنا علي بن خشرم" بالخاء والشين المعجمتين على وزن جعفر ثقة من صغار العاشرة "عن محمد بن عمرو" بن علقمة بن وقاص الليثي المدني صدوق له أوهام من السادسة "عن عبيدة ابن سفيان" بفتح العين وكسر الموحدة الحضرمي المدني ثقة من الثالثة قوله: "عن أبي الجعد" ذكرها ابن حبان في الثقات ان اسمه "أدرع" وقال أبو أحمد الحاكم في الكني: وأبو عبد الله بن مندة إن اسمه عمرو بن بكر وقيل إن اسمه جنادة ولم يرو عنه إلا عبيدة بن سفيان. كذا في قوت المغتذي وقال: يعني الضمري بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم منسوب إلى ضمرة بن بكر بن عبد مناف قاله في جامع الأصول وكذا في المغنى "وكانت له صحبة فيما زعم محمد بن عمرو" يعني أن أبا الجعد كان صحابياً فيما قال محمد بن عمرو قال الحافظ في التقريب: صحابي حدث قيل قتل يوم الجمل.
قوله: "تهاوناً بها" قال العراقي المراد بالتهاون الترك عن غير عذر والمراد بالطبع أنه يصير قلبه قلب منافق انتهى، وقال الطيبي أي إهانة والظاهر هو ما قال العراقي والله تعالى أعلم. قال الشيخ عبد الحق في اللمعات: الظاهر أن المراد بالتهاون(3/13)
وفي البابٍ عن ابن عُمَر وابن عباسٍ وسَمُرَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي الجعدِ حديثٌ حسنٌ.
"قال: و" سأَلت محمّداً عن اسم أبي الجَعْدِ الضّمْرِيّ فلم يَعْرِفْ اسمَهُ. وقال: لا أعرف لَهُ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ هذا الحديثَ.
ـــــــ
التكاسل وعدم الجد في أدائه لا الإهانة والاستخفاف فإنه كفر، والمراد بيان كونه معصية عظيمة.
قوله: "طبع الله على قلبه" أي ختم على قلبه بمنع إيصال الخير إليه، وقيل كتبه منافقاً كذا في المرقاة.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه بلفظ: لينتهين أقوام عن ودعهم والجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين "وابن عباس" أخرجه الشافعي والبيهقي بلفظ: من ترك جمعة من غير ضرورة كتب منافقاً في كتاب لا يمحى ولا يبدل "وسمرة" بن جندب أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم بلفظ: من ترك الجمعة من غير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار. وروى أبو يعلى عن ابن عباس من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره، قال الحافظ في التلخيص: رجاله ثقات.
قوله: "حديث أبي الجعد حديث حسن" قال الحافظ في التلخيص: وصححه ابن السكن عن هذا الوجه. قال وفي الباب عن جابر بلفظ: من ترك الجمعة ثلاثاً من غير ضرورة طبع على قلبه، رواه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم، وقال الدارقطني إنه أصح من حديث أبي الجعد، واختلف في حديث أبي الجعد على أبي سلمة فقيل عنه هكذا وهو الصحيح، وقيل عن أبي هريرة وهو وهم قاله الدارقطني في العلل انتهى.(3/14)
قال أبو عيسى: "و" لا نعرفُ هذا الحديثَ إلاّ مِن حديثِ محمدِ بنِ عَمرو
ـــــــ
قوله: "إلا هذا الحديث" قال السيوطي: بل له حديثان أحدهما هذا والثاني ما أخرجه الطبراني فذكر بإسناده عن أبي الجعد الضمري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: وذكر له البزار حديثاً آخر وقال لا نعلم له إلا هذين الحديثين(3/15)
باب ما من كم يؤتى إلى الجمعة
...
355 ـ بابُ ما جاءَ مِنْ كَمْ يُؤْتّى إلى الجمعة
499 ـ حدثنا عَبدُ بنُ حُمَيدٍ و محمدُ بن مَدّوَيةَ قالا: حدثنا الفَضْلُ بن دُكَيْنٍ حدثنا إسرائيلُ عن ثُوَيرٍ عن رجلٍ من أهل قُبَاء عن أبيِه وكان مِن أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أمَرَنَا النبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ نَشْهَدَ الجُمْعَة مِن قُبَاء.
ـــــــ
" باب ما جاء من كم يؤتى إلى الجمعة
أي من كم مسافة يؤتى إليها.
قوله: "ومحمد بن مدوية" بفتح الميم وتشديد الدال المهملة قال في التقريب محمد بن أحمد بن الحسين بن مدوية بميم وتثقيل القرشي صدوق من الحادية عشر، "حدثنا الفضل بن دكين" بضم الدال وفتح الكاف "عن ثوير" مصغراً ابن أبي فاختة سعيد بن علاقة الكوفي أبو الجهم ضعيف رمى بالرفض مقبول من الرابعة كذا في التقريب، وقال الذهبي في الميزان قال الدارقطني: متروك، وروى أبو صفوان الثقفي عن الثوري قال: ثوير ركن من أركان الكذب، وقال خ تركه يحيى وابن مهدي "عن رجل من أهل قباء" هذا الرجل مجهول لا يعرف اسمه "أن نشهد الجمعة من قبا" بضم قاف وخفة موحدة مع مد وقصر موضع بميلين أو ثلاثة من المدينة.(3/15)
قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء
"وقد رُوي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الجمعة على من آواه الليل إلى أهله"
وهذا حديث إسناده ضعيف، إنما يروى من حديث معارك بن عباد
ـــــــ
قوله: "ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء" أما حديث الباب فهو ضعيف من وجهين لأن في سنده ثوير بن فاختة وهو ضعيف كما عرفت ولأنه يروي عن رجل من أهل قباء وهو مجهول، وروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه قال إن أهل قباء كانوا يجمعون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وفي سنده عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف، وقد ثبت أن أهل العوالي يصلون الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، وفي التلخيص الحبير روى البيهقي أن أهل ذي الحليفة كانوا يجمعون بالمدينة قال: ولم ينقل أنه أذن لأحد في إقامة الجمعة في شيء من مساجد المدينة ولا في القرى التي بقربها انتهى.
قوله: "أواه الليل إلى أهله" في النهاية يقال أويت إلى المنزل وآويت غيري وأويته، وفي الحديث من المتعدي قال المظهر أي الجمعة واجبة على من كان بين وطنه وبين الموضع الذي يصلي فيه الجمعة مسافة يمكنه الرجوع بعد أداء الجمعة إلى وطنه قبل الليل كذا في المرقاة. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه: والمعنى أنها تجب على من يمكنه الرجوع إلى أهله قبل دخول الليل، واستشكل بأنه يلزم منه أنه يجب السعي من أول النهار وهو بخلاف الآية انتهى. "هذا حديث إسناده ضعيف"، وروى البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: إنما الغسل على من يجب عليه الجمعة والجمعة على من بات أهله قال الحافظ معنى قوله والجمعة على من بات أهله أن الجمعة تجب عنده على من يمكنه الرجوع إلى موضعه قبل دخول الليل فمن كان فوق هذه المسافة لا تجب عليه عنده.(3/16)
عن عبدِ الله بن سعيدٍ المَقْبُرَيّ. وضعّفَ يحيى بنُ سعيدٍ القَطانُ عبدَ الله بنَ سعيدٍ المَقْبُريّ في الحديثِ.
"قال:" واختلفَ أهلُ العلمِ على منَ تَجِبُ الجمعُة، فقالَ بعضُهُمْ: تجبُ الجمعةُ على من آواهُ الليلُ إلى منزِلهِ. وقال بعضُهُم: لا تجبُ الجمعةُ إلاّ على مَن سَمِعَ النداءَ، وهو قولُ الشافعيّ وأحمدَ وإسحاقَ.
ـــــــ
قوله: "من حديث معارك بن عباد" في التقريب، معارك بضم أوله وآخره كاف ابن عباد أو ابن عبد الله العبدي بصري ضعيف من السابعة انتهى، وقال الذهبي في الميزان قال البخاري منكر الحديث.
قوله: "عن عبد الله بن سعيد المقبري" قال الحافظ في التقريب متروك.
قوله: "قال بعضهم تجب الجمعة على من آواه الليل إلى منزله"، وهو قول عبد الله بن عمر وأبي هريرة وأنس والحسن وعطاء ونافع وعكرمة والحكم والأوزاعي قالوا إنها تجب على من يؤويه الليل إلى أهله، واستدلوا بحديث أبي هريرة المذكور قال العراقي إنه غير صحيح فلا حجة فيه كذا في النيل.
قوله: "وقال بعضهم لا تجب الجمعة إلا على من سمع النداء"، واستدلوا بما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجمعة على كل من سمع النداء. قال أبو داود: وروى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصوراً على عبد الله بن عمرو ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة.
قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق" وحكاه ابن العربي عن مالك. وروى ذلك عن عبد الله بن عمرو راوي الحديث المذكور في النيل. قلت: ظاهر حديث عبد الله بن عمرو المذكور يدل على عدم وجوب الجمعة على من لم يسمع النداء: سواء كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة، أو في خارجه، لكن قال الحافظ في فتح الباري: والذي ذهب إليه الجمهور أنها تجب على من سمع النداء(3/17)
ـ سمعتُ أحمدَ بن الحسنِ يقولُ: كنّا عِندَ أحمدَ بنِ حنبلٍ فذكرُوا على مَن تجبُ الجمعةُ، فلم يذكُرْ أحمدُ فيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئاً: قال أحمدُ: فقلتُ لأحمدَ بن حنبلٍ: فيه عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: فقال أحمدُ: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم "قال أحمد بن الحسن" :
500- حدثنا حجّاجُ بن نُصَيرٍ حدثنا معاركُ بن عَبّادٍ عن عبدِ الله بن سعيدٍ المَقْبُريّ عن أبيه عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "الجمعةُ على من آواهُ الليلُ إِلى أهلِهِ" "قال:" فَغَضِب عليّ أحمدُ بن حنبل وقال: لي استغفرْ ربّك استَغْفِرْ ربّك.
"قال أبو عيسى" إنّما فَعَلَ أَحمدُ بن حنبلٍ هذا لأنه لم يَعُدّ هذا الحديثَ شيئاً وضعّفَهُ لحالِ إسناد.
ـــــــ
أو كان في قوة السامع سواء كان داخل البلد أو خارجه انتهى، وقد حكى العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي ومالك وأحمد ابن حنبل أنهم يوجبون الجمعة على أهل مصر وإن لم يسمعوا النداء انتهى.
قوله: "سمعت أحمد بن الحسن" هذا قول الترمذي وأحمد بن الحسن هذا هو أحمد بن الحسن بن جنيدب الترمذي أبو الحسن الحافظ الجوال كان من تلامذة أحمد بن حنبل، روى عنه البخاري والترمذي وابن خزيمة، وكان أحد أوعية الحديث مات سنة062 ستين ومائتين كذا في الخلاصة وغيره.
قوله: "حدثنا الحجاج بن نصير" بضم النون الفساطيطي التنيسي أبو محمد البصري ضعيف كان يقبل التلقين من التاسعة كذا في التقريب وقائل حدثنا الحجاج بن نصير هو أحمد بن الحسن لا الترمذي وكذا قائل قوله فغضب علي هو أحمد بن الحسن.
قوله: "استغفر ربك" بصيغة الأمر والتكرار للتأكيد أي استغفر ربك يا أحمد بن الحسن من رواية هذا الحديث فإنه ضعيف لأن في سنده ثلاثة ضعفاء(3/18)
ـــــــ
الأول الحجاج بن نصير وهو ضعيف، والثاني معارك وهو أيضاً ضعيف، والثالث عبد الله بن سعيد المقبري وهو أيضاً ضعيف.
قوله: "وإنما فعل به أحمد إلخ" هذا قول الترمذي(3/19)
356ـ باب ما جاءَ في وقتِ الجُمعَة
501 ـ حدثنا أحمدُ بن مَنيعٍ، حدثنا سُرَيْجُ بن النّعمانِ، حدثنا فُلَيْحُ بن سُلَيمانَ عن عثمانَ بنِ عبدِ الرحمَنِ التّيْمِيّ عن أنسِ بن مالكٍ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الجمعةَ حين تميلُ الشمْسُ".
502 ـ حدثنا يحيى بنُ موسى حدثنا أَبو داودَ "الطيالسيّ" حدثنا فُلَيْحُ بن سُليمانَ عن عثمانَ بنِ عبدِ الرحمَن "التّيْمِيّ" عن أنسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوَه.
"قال:" وفي البابِ عن سَلَمةَ بنِ الأكْوعِ وجابرٍ والزّبَيْرِ "بن العَوّامِ".
ـــــــ
باب ما جاء في وقت الجمعة
قوله: "أخبرنا سريج" بالتصغير ابن نعمان الجوهري أبو الحسن البغدادي أصله من خراسان ثقة يهم قليلا من كبار العاشرة وعن عثمان بن عبد الرحمن التيمي المدني ثقة.
قوله: "حين تميل الشمس" أي إلى المغرب وتزول من استوائها يعني بعد تحقق الزوال، قال الحافظ في فتح الباري: فيه إشعار بمواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس انتهى.
قوله: "وفي الباب عن سلمة بن الأكوع" أخرجه الأئمة الستة خلا الترمذي بلفظ: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. وفي رواية لمسلم كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء "وجابر" أخرجه مسلم والنسائي بلفظ: كنا نصلي(3/19)
قال أبو عيسى: حديثُ أُنسٍ حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. وهو الذي أَجمعَ عليهِ أكثرُ أهلِ العلمِ: أَنّ وقتَ الجمعةِ إذا زالتْ الشمسُ كوَقْتِ الظّهْرِ. وهو قولُ الشافعي وأحمدَ وإسحاقَ.
ورأى بعضُهم أن صلاةَ الجمعةِ إذا صُلّيَتْ قبلَ الزّوالِ أنها تجوزُ أيضاً.
ـــــــ
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع فنريح نواضحنا، قال حسن يعني ابن عياش فقلت لجعفر في أي ساعة تلك قال: بعد زوال الشمس "والزبير بن العوام" أخرجه أحمد بلفظ: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف فنبتدر في الاَجام فما نجد من الظل إلا قدر موضع أقدامنا قال يزيد بن هارون الاَجام والاَطام.
قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح" ورواه البخاري وأبو داود.
قوله: "وهو الذي عليه أكثر أهل العلم أن وقت الجمعة إذا أزالت الشمس" واستدلوا بحديث الباب وما في معناه قال النووي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل وإسحاق فجوزاها قبل الزوال وروي في هذا أشياء عن الصحابة لا يصح منها شيء إلا ما عليه الجمهور، وحمل الجمهور هذه الأحاديث على المبالغة في تعجيلها انتهى.
قوله: "ورأى بعضهم أن صلاة الجمعة إذا صليت قبل الزوال أنها تجوز أيضاً" أي كما تجوز بعد الزوال واستدلوا بأحاديث منها حديث أنس: كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة، أخرجه البخاري قال الحافظ ظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره وهو المراد هنا، والمعنى أنهم كانوا يبدأون بالصلاة قبل القيلولة بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد انتهى.(3/20)
وقال أحمد ومن صلاها قبل الزوال فإنه لم لم ير عليه إعادة
ـــــــ
ومنها حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. رواه الجماعة، ووجه الاستدلال به أن الغداء والقيلولة محلهما قبل الزوال وحكوا عن ابن قتيبة أنه قال: لا يسمى غذاء ولا قائلة بعد الزوال، وأجاب عنه النووي وغيره بأن هذا الحديث وما في معناه محمول على المبالغة في تعجيلها وأنهم كانوا يؤجلون الغداء والقيلولة في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة ندبوا إلى التبكير إليها فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فوتها أو فوت التبكير إليها.
ومنها أثر عبد الله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر رضي الله عنه فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد انتصف النهار، وأجاب عنه الحافظ ابن حجر وغيره بأن عبد الله بن سيدان غير معروف العدالة. قال ابن عدي شبه المجهول، وقال البخاري لا يتابع على حديثه بل عارضه ما هو أقوى منه فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس، إسناده قوي، واستدل بعضهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين" قال فلما سماه عيداً جازت الصلاة فيه في وقت العيد كالفطر والأضحى، وتعقب بأنه لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيداً أن يشتمل على جميع أحكام العيد بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقاً سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة.
والظاهر المعول عليه هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، وأما ما ذهب إليه بعضهم من أنها تجوز قبل الزوال فليس فيه حديث صحيح صريح والله تعالى أعلم(3/21)
باب ماجاء في الخطبة على المنبر
...
357 ـ باب ما جاءَ في الخطْبةِ على المنْبر
503 ـ حدثنا أبو حفصٍ عَمْرُو بنُ عليّ الفَلاّسُ أخبرنا عثمانُ بن
ـــــــ
"باب ما جاء في الخطبة على المنبر"
أي مشروعيتها ولم يقيدها بالجمعة ليتناولها ويتناول غيرها.
قوله: "حدثنا أبو حفص عمرو بن علي الفلاس" الصيرفي الباهلي البصري(3/21)
عُمَر و يحيى بنُ كَثير أبو غَسانَ العَنْبَرِيّ قالا حدثنا معاذُ بن العَلاءِ عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخطُبُ إلى جِذعٍ، فلما اتَخَذَ "النبي صلى الله عليه وسلم" المنبرَ حَنّ الجِذْعُ حتى أتَاهُ فالْتَزَمَهُ فسَكَنَ".
"قال" : وفي البابِ عن أنسٍ وجابرٍ وسهلِ بن سعدٍ وأُبيّ بنِ كعبٍ وابن عباسٍ وأمّ سَلَمَةَ.
ـــــــ
ثقة حافظ من العاشرة "أخبرنا عثمان بن عمر" بن فارس العبدي بصري أصله من بخاري ثقة من التاسعة "ويحيى بن كثير أبو غسان العنبري" مولاهم البصري ثقة من التاسعة "حدثنا معاذ بن العلاء" بن عمار المازني أبو غسان البصري صدوق من السابعة " وكان يخطب إلى جذع" أي مستنداً إلى جذع وهو واحد جذوع النخلة.
قوله: "حن الجذع" أي صوت مشتاقاً إليه، وأصل الحنين ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه البخاري في الاعتصام وفي الفتن وفيه خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر "وجابر" أخرجه البخاري وفيه قصة اتخاذ المنبر وصياح النخلة "وسهل بن سعد" أخرجه البخاري وفيه قصة عمل المنبر "وأبي بن كعب" أخرجه ابن ماجه ورواه عبد الله من زياداته في المسند وفيه رجل لم يسم وعبد الله بن محمد بن عقيل وفيه كلام وقد وثق "وابن عباس" أخرجه الطبراني في الكبير مرفوعاً بلفظ: كان يخطب يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم الأضحى على المنبر الحديث وفيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس وهو ضعيف وبقية رجاله موثقون كذا في مجمع الزوائد "وأم سلمة" أخرجه الطبراني في الكبير مرفوعاً بلفظ: كان يخطب إلى جذع المسجد فلما صنع المنبر حن الجذع إليه فاعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم فسكن، قال في مجمع الزوائد: رجاله موثقون(3/22)
قال أبو عيسى: حديثُ ابن عُمَر حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيحٌ.
ومعاذُ بن العَلاءِ هو "بصْريّ وهو" أخو أبي عَمْرِو بن العَلاَءِ.
ـــــــ
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن غريب صحيح" أخرجه مطولاً من طريق أبي حباب الكلبي وهو ثقة لكنه مدلس وقد عنعنه كذا في مجمع الزوائد(3/23)
358 ـ باب ما جاءَ في الجلوسِ بين الخطْبَتَيْن
504 ـ حدثنا حُمَيدُ بن مَسْعدةَ حدثنا أخبرنا خالدُ بنُ الحارثِ حدثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَخْطُبُ يومَ الجمعةِ ثم يَجْلِسُ ثم يقومُ فيَخْطُبُ. قال: مثلَ ما يفعلونَ اليومَ"
ـــــــ
باب ما جاءَ في الجلوسِ بين الخطْبَتَيْن
قوله: "حدثنا حميد بن مسعدة" بضم الحاء المهملة بصري صدوق من العاشرة.
قوله: "كان يخطب يوم الجمعة ثم يجلس ثم يقوم فيخطب" فيه مشروعية الجلوس بين الخطبتين واختلف في وجوبه فقال الشافعي إنه واجب، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه سنة وليس بواجب كجلسة الاستراحة في الصلاة عند من يقول باستحبابها. وقال ابن عبد البر: ذهب مالك والعراقيون وسائر فقهاء الأمصار إلا الشافعي إلى أن الجلوس بين الخطبتين سنة لا شيء على من تركها كذا في عمدة القاري. واستدل الشافعي على وجوبه لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك من قوله: صلوا كما رأيتموني أصلي. قال ابن دقيق العيد. يتوقف ذلك على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخل تحت كيفية الصلاة وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل كذا في فتح الباري: وروى هذا الحديث أبو داود بلفظ يقوم فيخطب ثم يجلس فلا يتكلم ثم يقوم فيخطب وأستفيد من هذا أن حال الجلوس بين الخطبتين لا كلام فيه: قال الحافظ ابن حجر: لكن ليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سراً انتهى.(3/23)
في البابِ عن ابن عباسٍ وجابرِ بنِ عبدِ الله وجابرِ بن سَمُرةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَر حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهو الذي رآهُ أهل العلْمِ أن يَفْصِلَ بين الخطْبَتيْنِ بجلُوِسٍ.
ـــــــ
إعلم أنه لم يرد تصريح مقدار الجلوس بين الخطبتين في حديث الباب وما رأيته في حديث غيره. وذكر ابن التين أن مقداره كالجلسة بين السجدتين وعزاه لابن القاسم وجزم الرافعي وغيره أن يكون بقدر سورة الإخلاص.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني من رواية الحجاج بن أرطأة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: كان يخطب قائماً ثم يقعد ثم يقوم ثم يخطب كذا في عمدة القاري "وجابر بن عبد الله" أخرجه البخاري "وجابر بن سمرة" رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" أخرجه أبو داود من طريق النمري عن نافع عن ابن عمر، قال المنذري في إسناده العمري وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيه مقال انتهى.
قلت: وفي إسنادي الترمذي عبيد الله بن عمر مصغراً وهو ثقة(3/24)
باب ما جاء قصر الخطبة
...
359 ـ باب ما جاءَ في قَصْدِ الخطبة
505 ـ حدثنا قُتَيْبةُ وَ هنّادٌ قالا حدثنا أبو الأحوصِ عن سِمَاكِ
ـــــــ
" باب ما جاء في قصر الخطبة"
بكسر القاف وفتح الصاد، قال في القاموس القصر كعنب خلاف الطول
قوله: "أخبرنا أبو الأحوص" هو سلام بن سليم الكوفي قال ابن معين ثقة متقن.(3/24)
ابنِ حَرْبٍ عن جابرِ بن سَمُرةَ قال "كنتُ أصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فكانتْ صلاتُه قَصْداً وخُطبتُه قصْداً".
"قال:" وفي البابِ عن عَمّارِ "بن ياسرٍ" وابن أبي أوْفى.
ـــــــ
قوله: "فكانت صلاته قصداً" أي متوسطة بين الإفراط والتفريط من التقصير والتطويل.
فإن قلت: حديث جابر هذا ينافي حديث عمار مرفوعاً: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئتة من فقهه فاطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، رواه مسلم.
قلت: قال القاري في المرقاة: لا تنافي بينهما فإن الأول دل على الاقتصاد فيهما والثاني على اختيار المزية في الثانية منهما انتهى. وقال النووي في شرح مسلم: لا مخالفة لأن المراد بحديث عمار أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة لا تطويلاً يشق على المأمومين، وهي حنيئذ قصد أي معتدلة والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها انتهى. وقال العراقي في شرح الترمذي: أو حيث احتج إلى التطويل لإدراك بعض من تخلف قال وعلى تقدير تعذر الجمع بين الحديثين يكون الأخذ في حقنا بقوله لأنه أول لا بفعله لاحتمال التخصيص انتهى.
قوله: "وخطبته قصداً".
فإن قلت: هذا ينافي حديث أبي زيد قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن. رواه مسلم.
قلت: لا تنافي بينهما لورود ما في حديث أبي زيد نادراً اقتضاه الوقت ولكونه بياناً للجواز وكأنه كان واعظاً والكلام في الخطب المتعارفة. قاله القاري.
قوله: "وفي الباب عن عمار بن ياسر" أخرجه مسلم وتقدم لفظه "وابن أبي أوفى" أخرجه النسائي بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة ويقصر الخطبة قال العراقي في شرح الترمذي إسناده صحيح.(3/25)
قال أبو عيسى: حديثُ جابرِ بن سَمُرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "حديث جابر بن سمرة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري وأبا داود كذا في المنتقى(3/26)
360 ـ باب ما جاءَ في القراءَةِ على المِنْبَر
506 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا سفيانُ بن عُيَيْنَةَ عن عَمْروِ بنِ دينار عن عَطَاءٍ عن صَفوانَ بن يَعْلَى بن أميّةَ عن أبيه قال "سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأُ على المنْبَرِ "وَنادَوُا يا مالِكُ".
"قال:" وفي البابِ عن أبي هريرةَ وجَابرِ بن سَمُرةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ يَعْلَى بن أمَيّةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، وهو حديثُ ابنِ عُيَيْنَةَ.
ـــــــ
باب ما جاءَ في القراءَةِ على المِنْبَر
قوله: "يقرأ على المنبر {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ}" أي يقول الكفار لمالك خازن النار "يا مالك ليقض علينا ربك" أي بالموت والمعنى سل ربك أن يقضي علينا، يقولون هذا لشدة ما بهم فيجابون بقوله: "إنكم ماكثون"، أي خالدون: واستدل به على مشروعية القراءة في الخطبة وسيجيء ذكر الاختلاف في وجوبها.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه البزار بلفظ: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم جمعة فذكر سورة وله حديث آخر عند ابن عدي في الكامل: خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس على المنبر يقرأ آيات من سورة البقرة " وجابر بن سمرة" أخرجه الجماعة إلا البخاري والترمذي وفيه: ويقرأ آيات ويذكر الناس.
قوله: "حديث يعلى بن أمية حديث غريب صحيح" أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي(3/26)
وقد اختارَ قومٌ مِن أهلِ العلمِ أَن يقرأَ الإمامُ في الخطبةِ آياً من القرآنِ.
قال الشافِعيّ: وإذا خطبَ الإمامُ فلم يقرأْ في خُطْبتِه شيئاً مِن القرآنِ أَعاد الخطبَةَ.
ـــــــ
قوله: "آياً من القرآن" بمد الهمزة جمع آية.
قوله: "أعاد الخطبة" قال الشوكاني في النيل: ذهب الشافعي إلى وجوب الوعظ وقراءة آية، وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب وهو الحق. قال وقد اختلف في محل القراءة على أربعة أقوال.
الأول: في إحداهما لا بعينها، وإليه ذهب الشافعي وهو ظاهر إطلاق الأحاديث.
والثاني: في الأولى، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي، واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة عن الشعبي مرسلاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس بوجهه ثم قال السلام عليكم ويحمد الله تعالى ويثنى عليه ويقرأ سورة ثم يجلس ثم يقوم فيخطب ثم ينزل. وكان أبو بكر وعمر يفعلانه.
والثالث: أن القراءة مشروعة أيهما جميعاً وإلى ذلك ذهب العراقيون من أصحاب الشافعي.
والرابع: في الخطبة الثانية دون الأولى، ويدل له ما رواه النسائي عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً ثم يجلس ثم يقوم ويقرأ آيات ويذكر الله عز وجل. قال العراقي إسناده صحيح. وأجيب عنه بأن قوله ويقرأ آيات ويذكر الله معطوف على قوله يخطب لا على قوله يقوم. والظاهر من أحاديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يلازم قراءة سورة أو آية مخصوصة في الخطبة بل كان يقرأ مرة هذه السورة ومرة هذه ومرة هذه الآية ومرة هذه انتهى(3/27)
361 ـ باب في استقبالِ الإمامِ إذا خَطَب
507 ـ حدثنا عبادُ بن يَعْقُوبَ الكوفيّ، حدثنا محمدُ بن الفَضْلِ بنِ عَطِيّةَ عن منصورٍ عن إبراهيم عن عَلْقَمَةَ عن عبدِ الله "بن مسعودٍ" قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا استْوَىَ على المنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بوُجُوهِنَا".
"قال أبو عيسى" : وفي البابِ عن ابن عُمَر.
ـــــــ
باب في استقبالِ الإمامِ إذا خَطَب
قوله: "حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي" الرواجني صدوق راضي حديثه في البخاري مقرون بالغ ابن حبان فقال يستحق الترك "أخبرنا محمد بن الفضل بن عطية" الكوفي نزيل بخاري كذبوه من الثامنة مات سنة081 ثماني ومائة كذا في التقريب.
قوله: "استقبلناه بوجوهنا" قال ابن الملك أي توجهناه، فالسنة أن يتوجه القوم الخطيب والخطيب القوم انتهى. قال أبو الطيب المدني في شرح الترمذي أي لا بالتحلق حول المنبر لما سبق من المنع عنه يوم الجمعة بل بالتوجه إليه في الصفوف ويؤيده ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في خطبة العيد ولفظه: فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم. وأما حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يوماً على المنبر وجلسنا حوله، رواه البخاري فيمكن حمله على غير الجمعة والعيد.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه بلفظ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عنده فإذا صعده استقبل الناس بوجهه ، لفظ البيهقي وضعفه وقال الطبراني: فإذا صعد(3/28)
وَحديثُ منصورٍ لا نعرفُهُ إلا مِن حديثِ محمدِ بن الفَضْلِ بن عَطيّةَ.
ومحمدُ بنُ الفضْلِ بنِ عَطيّةَ ضعيفٌ ذاهبُ الحديثِ عند أصحابِنَا.
والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم يَسْتَحِبّونَ استقبَالَ الإمامِ إذا خطَبَ. وهو قولُ سفيانَ الثوريّ والشافعيّ وأحمدَ وإِسحاقَ.
"قال أبو عيسى" : ولا يَصحّ في هذا البابِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيءٌ.
ـــــــ
المنبر توجه إلى الناس وسلم عليهم كذا في عمدة القاري. وفي الباب حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم أخرجه ابن ماجه، وقال ابن ماجه: أرجو أن يكون متصلاً، قال: والد عدي لا صحبة له إلا أن يراد بأبيه جده أبو أبيه فله صحبة على رأي بعض الحفاظ من المتأخرين كذا في النيل.
قوله: "ومحمد بن الفضل بن عطية ضعيف ذاهب الحديث" قال الطيبي أي ذاهب حديثه غير حافظ للحديث وهو عطف بيان لقوله ضعيف "عند أصحابنا" أي عند أصحاب الحديث فحديث ابن مسعود المذكور ضعيف وذكره الحافظ في بلوغ المرام وقال: وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة.
قوله: "وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول الحنفية قال القاري في المرقاة في شرح المنية: يستحب للقوم أن يستقبلوا الإمام عند الخطبة لكن الرسم الآن أنهم يستقبلون القبلة للحرج في تسوية الصفوف لكثرة الزحام. قال القاري لا يلزم من استقبالهم الإمام ترك استقبال القبلة على ما يشهد عليه الحديث الآتي في أول باب العيد فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم. نعم الجمع بينهما متعذر في غير جهة الإمام في المسجد الحرام انتهى ما في المرقاة.
قوله: "ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء" قال الحافظ(3/29)
ـــــــ
في فتح الباري بعد نقل كلام الترمذي هذا يعني صريحاً وقد استنبط المصنف يعني البخاري من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله استقبال الناس الإمام، ووجه الدلالة منه أن جلوسهم حوله لسماع كلامه يقتضي نظرهم إليه غالباً ولا يعكر على ذلك ما تقدم من القيام في الخطبة لأن هذا محمول على أنه كان يتحدث وهو جالس على مكان عال وهم جلوس أسفل منه، وإذا كان ذلك في غير حال الخطبة كان حال الخطبة أولى لورود الأمر بالاستماع لها والإنصات عندها انتهى كلام الحافظ(3/30)
باب في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب
...
362 ـ باب "ما جاء" في الركعَتَيْنِ إذا جاءَ الرجلُ والإمامُ يَخْطُب
508 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا حَمّادُ بن زيدٍ عن عَمْروِ بنِ دينارٍ عن جابرِ بن عبدِ الله قال: "بينا النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُ يومَ الجمعةِ إذ جاءَ رجلٌ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أَصَلّيْتَ؟ قال لاَ قال: فقم فاركَعْ".
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ "أصح شيء في هذا الباب".
509 ـ حدثنا محمدُ بنُ أبي عُمَرَ حدثنا سفيانُ بن عُيَينةَ عن محمدِ
ـــــــ
باب ما جاء في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب
حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا العَلاءُ بنُ خالدٍ القُرَشيّ قال: رأَيتُ الحسنَ البَصْريّ دخلَ المسجدَ يومَ الجمعَةِ والإمامُ يخطبُ فصلّى ركعَتْينِ ثم جلسَ.
"إنّما فعلَ الحسنُ اتبّاعاً للحديثِ. وهُوَ رَوَى عن جابرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديثَ".
قوله: "إذ جاء رجل" هو سليك بمهملة مصغراً الغطفاني "قم فاركع" أي قم فصل وفي بعض النسخ فاركع ركعتين وفي رواية للبخاري قم فصل ركعتين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة وفي رواية: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما. رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وفي رواية إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين، متفق عليه كذا في المنتقى.(3/30)
ابنِ عَجْلانَ عن عِياضِ بن عبدِ الله بن أبي سَرْحٍ" "أن أبا سعيدٍ الخدريّ دخلَ يومَ الجمعةِ ومَروَانُ يخطُبُ فقام يصلّي، فجاءَ الحَرَسُ ليُجْلِسُوهُ فأَبَى حتى صلّى، فلما انصرفَ أتَيناهُ فقلْنا: رحمكَ الله إنْ كادوا ليَقَعُوا بك فقال: ما كنتُ لأتْرُكَهُمَا بعَد شيءٍ رأيتُهُ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكَرَ أن رجلاً جاءَ يومَ الجمعةِ في هَيْئَةِ بَذّةٍ والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُ
ـــــــ
قوله: "عن عياض" بكسر العين المهملة وتخفيف التحتانية وآخره معجمة "بن عبد الله بن أبي سرج" بفتح السين المهملة وسكون الراء بعدها مهملة القرشي العامري المكي ثقة من الثالثة مات على رأس المائة.
قوله: "ومروان يخطب" جملة حالية، ومروان هذا هو مروان بن الحكم بن أبي العاص أمية أبو عبد الملك الأموي المدني ولي الخلافة في آخر سنة أربع وستين ومات سنة خمس في رمضان وله ثلاث أو إحدى وستون سنة لا يثبت له صحبة من الثانية كذا في التقريب. وقال صاحب المشكاة في ترجمته: ولد مروان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل سنة اثنتين من الهجرة وقيل عام الخندق وقيل غير ذلك، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفاه إلى الطائف فلم يزل بها حتى ولي عثمان فرده إلى المدينة فقدمها وابنه معه مات بدمشق سنة 56 خمس وستين، روى عن نفر من الصحابة وروى عنه نفر من التابعين منهم عثمان وعلي وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين انتهى "فجاء الحرس" بفتح الحاء والراء قال في القاموس: حرسه حرساً وحراسة فهو حارس ج حرس وأحراس وحراس والحرسى واحد حرس السلطان وهم الحراس انتهى. وقال في الصراح: حرس بفتحتين نكاهبان دركاه سلطان حراس ج حرسى يكي ازيشال انتهى "وليجلسوه" من الاجلاس والتجليس "إن كادوا ليقعوا بك" كلمة إن مخففة من الثقيلة أي أن الشأن كادوا ليوقعوا بك بالضرب كما هو الظاهر أو السب كذا في شرح الترمذي لأبي الطيب السندي.
قوله: "أن رجلاً جاء" وهو سليك قوله: "في هيأة بذة" بفتح الباء الموحدة وتشديد الذال المعجمة أي سيئة تدل على الفقر، قال في القاموس بذذت كعلمت(3/31)
يومَ الجمعةِ فأمَرهُ فصلّى ركعَتَيْنِ والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ".
قال ابنُ أبي عُمَرَ: كان "سفيان" بنُ عُيَينَة يُصَلّي ركعَتَيْنِ إذ جاءَ والإمامُ يخطبُ وَ "كان" يَأمُرُ به، وكان أبو عبد الرحمَن المقرئ يراهُ.
قال "أبو عيسى" : وسمعت ابن أبي عمَر يقولُ: قال "سفيان" بن عيينة: كان مُحمدُ بنُ عَجْلانَ ثقةً مأموناً في الحديثِ.
ـــــــ
بذاذة وبذاذاً وبذوذة ساءت حالك، وباذ الهيئة وبذها رثها انتهى فصلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال في منتقى الأخبار: هذا يصرح بضعف ما روى أنه أمسك عن خطبته حتى فرغ من الركعتين انتهى. قلت: أشار صاحب المنتقى إلى حديث أنس أخرجه الدارقطني بلفظ قال: جاء رجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قم فاركع ركعتين، وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته قال الدارقطني: أسنده عبيد بن محمد العبدي عن معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس ووهم فيه والصواب عن معتمر عن أبيه كذلك رواه أحمد بن حنبل وغيره عن معتمر ثم رواه من طريق أحمد مرسلاً. وعبيد بن محمد هذا روى عنه أبو حاتم، وإنما حكم عليه الدارقطني بالوهم لمخالفته من هو أحفظ منه أحمد بن حنبل وغيره "قال ابن أبي عمر" هو محمد بن أبي عمر شيخ الترمذي "وكان أبو عبد الرحمن المقري" اسمه عبد الله بن يزيد المكي أصله من البصرة أو الأهواز ثقة فاضل أقرأ القرآن نيفاً وسبعين سنة من التاسعة وهو من كبار شيوخ البخاري كذا في التقريب "يراه" أي يعتقده ويجوزه "كان محمد بن عجلان ثقة مأموناً" قال في التقريب: محمد بن عجلان المدني صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة: وقال الذهبي في الميزان في ترجمته: وثقه أحمد وابن معين وابن عيينة وأبو حاتم وروى عباس عن ابن معين قال: ابن عجلان أوثق من محمد بن عمرو ما يشك في هذا أحد. وقال الحاكم أخرج له مسلم في كتابه ثلاثة عشر حديثاً كلها شواهد، وقد تكلم المتأخرون من أئمتنا في سوء حفظه وقد بسط الذهبي في ترجمته.(3/32)
وفي الباب عن جابرٍ وأبي هريرةَ "وسهلِ بنِ سعدٍ".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي سعيدٍ الخدريّ حديث حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ. وبه يقولُ الشافعيّ وأحمدُ وإِسحاقُ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن جابر" قال العراقي: إن قيل قد صدر المصنف بحديث جابر فما وجه قوله: وفي الباب عن جابر بعد أن ذكره أولا وما عادته أن يعيد ذكر صحابي في الحديث الذي قدمه على قوله وفي الباب، فالجواب لعله أراد حديثاً آخر لجابر غير الحديث الذي قدمه وهو مارواه الطبراني من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: دخل النعمان بن نوفل ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب يوم الجمعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صل ركعتين وتجوز فيهما فإذا أتى أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين وليخففهما" كذا في قوت المغتذي "وأبي هريرة" أخرجه ابن ماجه "وسهل بن سعد" أخرجه ابن أبي حاتم في العلل بنحو حديث أبي سعيد. وفي الباب أيضاً عن سليك عند أحمد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين، ورواه أيضاً ابن عدي في الكامل.
قوله: "حديث أبي سعيد الخدري حديث حسن صحيح" قال في المنتقى: رواه الخمسة إلا أبا داود انتهى. وقال الحافظ في الفتح: ورواه ابن خزيمة وصححه.
قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق" واستدلوا بأحاديث الباب. قال النووي في شرح مسلم: هذه الأحاديث كلها يعني التي رواها مسلم صريحة في الدلالة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء المحدثين أنه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب يستحب له أن يصلي ركعتين تحية المسجد ويكره الجلوس قبل أن يصليهما، وأنه يستحب أن يتجوز فيهما ليسمع بعدهما الخطبة. وحكى هذا المذهب عن الحسن البصري وغيره من(3/33)
وقال بعضهم: إذا دخلَ والإمامُ يخطبُ فإنه يجلسُ ولا يصلّي. وهو قولُ سفيانَ الثوريّ وأهلِ الكوفةِ. والقولُ الأولُ أصحّ.
ـــــــ
المتقدمين وقال بعضهم "إذا دخل والإمام يخطب فإنه يجلس ولا يصلي، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة" قال النووي: قال القاضي وقال مالك والليث وأبو حنيفة والثوري وجمهور السلف من الصحابة والتابعين لا يصليهما، وهو مروى عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
وحجتهم الأمر بالإنصات للإمام، وتألوا أحاديث الباب بأنه كان عرياناً فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام ليراه الناس ويتصدقوا عليه، وهو تأويل باطل يرده صريح قوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما، وهذا نص لا يتطرق إليه تأويل ولا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحاً فيخالفه انتهى. وقال الحافظ في الفتح قال جماعة منهم القرطبي: أقوى ما اعتمده المالكية في هذه المسألة عمل أهل المدينة خلفاً عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقاً.
وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك، فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضاً، ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحاً ما يخالف ذلك. وأما ما نقله ابن بطال عن عمر عثمان رضي الله عنهما وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقاً، فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال كقول ثعلبة بن أبي مالك: أدركت عمر وعثمان وكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة. وجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عني بذلك من كان داخل المسجد خاصة. قال شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي: كل من نقل عنه يعني من الصحابة منع الصلاة والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية وقد ورد فيها حديث يخصها فلا تترك بالاحتمال انتهى. ولم أقف على ذلك صريحاً عن أحد من الصحابة. وأما ما رواه الطحاوي عن عبد الله بن صفوان أنه دخل(3/34)
ـــــــ
المسجد وابن الزبير يخطب فاستلم الركن ثم سلم عليه ثم جلس ولم يركع وعبد الله ابن صفوان وعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران، فقال الطحاوي: لما لم ينكر ابن الزبير على ابن صفوان ولا من حضرهما من الصحابة ترك التحية دل على صحة ما قلناه.
وتعقب بأن تركهم النكير لا يدل على تحريمها بل يدل على عدم وجوبها ولم يقل به مخالفوهم انتهى. "والقول الأول أصح" فإنه يدل عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما، وهذا نص لا يتطرق إليه تأويل. وكل ما أجاب به أهل القول الأول عن أحاديث الباب فهو مخدوش.
ومن الأجوبة التي ذكروها أن هذا كان في حالة إباحة الأفعال في الخطبة قبل أن ينهي عنها، قالوا ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم هذا الرجل، فكلامه مع هذا الرجل يدل على أنه قبل أن ينسخ في الخطبة ثم أمر بالإنصات والاستماع وترك الكلام حتى منع من أن يقول لصاحب أنصت.
وأجيب عنه بأن سليكاً متأخر الإسلام جداً، فالقول بأن هذا كان قبل أن ينسخ الكلام في الخطبة باطل مردود على قائله: قال الحافظ في الفتح: قيل كانت هذه القصة قبل تحريم الكلام في الصلاة. وتعقب بأن سليكاً متأخر الإسلام جداً، وتحريم الكلام متقدم جداً فكيف يدعى نسخ المتأخر بالمتقدم مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال انتهى.
ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خاطب سليكاً سكت عن خطبته حتى فرغ سليك من صلاته، فعلى هذا فقد جمع سليك بين سماع الخطبة وصلاة التحية، فليس فيه حجة لمن أجاز التحية والخطيب يخطب.
قلت: وأجيب عنه بأن الدارقطني الذي أخرجه من حديث أنس قد ضعفه، وقال الصواب أنه من رواية سليمان التيمي مرسلاً أو معضلاً كذا في فتح الباري وقال العيني في عمدة القاري معترضاً على هذا الجواب ما لفظة: المرسل حجة عندنا، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم قال أخبرنا أبو معشر(3/35)
ـــــــ
عن محمد بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمره أن يصلي ركعتين أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتيه ثم عاد إلى خطبته انتهى.
قلت: الحديث المرسل وإن كان حجة عند الحنفية لكن المحقق أنه ليس بحجة كما تقرر في مقره، فحديث سليمان التيمي المرسل ليس بحجة بل هو ضعيف، ويضعفه أيضاً حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه الترمذي في هذا الباب بلفظ، فصلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وهو حديث صحيح، ويضعفه أيضاً حدث جابر رضي الله عنه: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما. رواه أحمد ومسلم وأبو داود، وأما رواية ابن أبي شيبة فهي أيضاً مرسلة ومع إرسالها فيه ضعيفة، قال الدارقطني بعد إخراجها. هذا مرسل لا تقول به الحجة، وأبو معشر اسمه نجيح وهو ضعيف انتهى. قال الحافظ في التقريب: نجيح بن عبد الرحمن السندي أبو معشر مشهور بكنيته ضعيف من السادسة أسن واختلط انتهى.
فالحاصل أنه لم يثبت بحديث صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عن الخطبة حين أمره أن يصلي ركعتين، بل ثبت بالحديث الصحيح أنه صلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب.
ومنها أن ذلك كان قبل شروعه صلى الله عليه وسلم في الخطبة، وقد بوب النسائي في سننه الكبرى عن حديث سليك قال: باب الصلاة قبل الخطبة، ثم أخرج عن أبي الزبير عن جابر قال: جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي فقال له صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين؟ قال لا، قال قم فاركعهما، كذا في عمد القاري.
وأجيب عنه بأن القعود على المنبر لا يختص بالابتداء بل يحتمل أن يكون بين الخطبتين أيضاً فيكون كله بذلك وهو قاعد فلما قام ليصلي قام النبي صلى الله عليه وسلم للخطبة لأن زمن القعود بين الخطبتين لا يطول. ويحتمل أيضاً أن يكون الراوي تجوز في قوله قاعد، لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب كذا في فتح الباري. وقال العيني في عمدة القاري(3/36)
ـــــــ
معترضاً على هذا الجواب ما لفظه: الأصل ابتداء قعوده، وقعوده بين الخطبتين محتمل فلا يحكم به على الأصل انتهى.
قلت: لا نسلم أن القعود الأول أصل والثاني محتمل، بل نقول إن القعودين كليهما أصل، وعلى تقدير التسليم فالحكم بالمحتمل على الأصل متعين ههنا لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، ثم قال العيني معترضاً على قول الحافظ: ويحتمل أن يكون الراوي تجوز إلخ ما لفظه: هذا ترويج لكلامه ونسبة الراوي إلى ارتكاب المجاز مع عدم الحاجة والضرورة انتهى.
قلت: نسبة الراوي إلى ارتكاب المجاز ليس بلا حاجة وضرروة بل ذلك لحاجة شديدة وقد بينها الحافظ بقوله لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. فالحاصل أن لفظ قاعد في حديث جابر إما يراد به القعود بين الخطبتين أو يقال إن الراوي تجوز فيه، وإلا فهذه الزيادة شاذة مخالفة لسائر الروايات الصحيحة فيه غير مقبولة.
ومنها أن هذه الواقعة عين لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد الذي أخرجه أصحاب السنن وغيرهم: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب والرجل في هيئة بذة فقال له أصليت؟ قال لا. قال صل ركعتين، وحض الناس على الصدقة الحديث، فأمره أن يصلي ليراه بعض الناس وهو قائم فيتصدق عليه. ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن هذا الرجل دخل في المسجد في هيئة بذة فأمرته أن يصلي ركعتين وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه.
قلت: هذا مردود، فإن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بكونه صلى الله عليه وسلم قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية. ومما يدل على أن أمره بالصلاة لم ينحصر في قصد التصدق معاودته صلى الله عليه وسلم بأمره بالصلاة أيضاً في الجمعة الثانية بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبين فدخل بهما في الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. أخرجه النسائي وابن خزيمة من حديث أبي سعيد أيضاً، ولأحمد وابن حبان أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث(3/37)
510- حدثنا قتيبة أخبرنا العلاء بن خالد القرشي قال: رأيت الحسن البصري دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فصلى ركعتين ثم جلس.
إنما فعل الحسن اتباعاً للحديث. وهو روى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث.
ـــــــ
مرات في ثلاث جمع، فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة لا علة كاملة كذا قال الحافظ في الفتح. والأمر كما قال الحافظ. كيف وقد ثبت في قصة سليك أنه صلى الله عليه وسلم قال بعد قوله فاركعهما وتجوز فيهما: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما كما عرفت فيما تقدم. والحاصل أن ما أجاب أهل القول الأول عن أحاديث الباب فهو مخدوش ليس مما يلتفت إليه وقد بسط الحافظ في التفح الكلام في هذا المقام بسطا حسناً وأجاد فيه(3/38)
363 ـ باب ما جاءَ في كراهيةِ الكلامِ والإمامُ يخْطب
511 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا اللّيْثُ عن عُقَيْلٍ عن الزّهْرِيّ عن سعيدِ بن المُسيّبِ عن أبي هريرةَ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال " مَن قالَ يومَ الجمعةِ والإمامُ يخطبُ أَنْصِتْ فقد لَغَا"
ـــــــ
مرات في ثلاث جمع، فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة لا علة كاملة كذا قال الحافظ في الفتح. والأمر كما قال الحافظ. كيف وقد ثبت في قصة سليك أنه صلى الله عليه وسلم قال بعد قوله فاركعهما وتجوز فيهما: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما كما عرفت فيما تقدم. والحاصل أن ما أجاب أهل القول الأول عن أحاديث الباب فهو مخدوش ليس مما يلتفت إليه وقد بسط الحافظ في التفح الكلام في هذا المقام بسطا حسناً وأجاد فيه
. باب ما جاءَ في كراهيةِ الكلامِ والإمامُ يخْطب
قوله: " والإمام يخطب" جملة حالية "أنصت" بصيغة الأمر من الإنصات مقول القول " فقد لغا" وفي رواية الشيخين: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت. قال الحافظ في الفتح: قال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه. قال ابن عرفة: اللغو السقط من القول،(3/38)
"قال:" وفي البابِ عن ابنِ أَبي أوفى وجابرِ بنِ عبدِ الله.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ
ـــــــ
وقيل الميل من الصواب، وقيل اللغو الاَثم كقوله تعالى {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} وقال الزين بن المنير: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام. وقال النضر بن شميل: معنى لغوت خبتِ من الأجر، وقيل بطلت فضيلة جمعتك، وقيل صارت جمعتك ظهراً. قال الحافظ: أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى، ويشهد للقول الأخير ما رواه أبو داود وابن خزيمة من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً: ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً. قال ابن وهب أحد رواته: أجزأت عنه الصلاة وحرم فضيلة الجمعة. ولأحمد من حديث علي مرفوعاً: من قال صه فقد تكلم ومن تكلم فلا جمعة له. ولأبي داود نحوه ولأحمد والبزار من حديث ابن عباس مرفوعاً: من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له أنصت ليست له جمعة، وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفاً قال العلماء معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه انتهى. وقال في بلوغ المرام بعد ذكر حديث ابن عباس مرفوعاً من تكلم يوم الجمعة الخ. رواه أحمد بإسناد لا بأس به وهو يفسر حديث أبي هريرة يعني حديث الباب.
قوله: "وفي الباب عن ابن أبي أوفى" أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف قال: ثلاث من سلم منهن غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى من أن يحدث حدثا يعني أذى أو أن يتكلم أو أن يقول صه. قال العراقي ورجاله ثقات، قال وهذا وإن كان موقوفاً فمثله لا يقال من قبل الرأي فحكمه حكم الرفع "وجابر ابن عبد الله" أخرجه أبو يعلي والطبراني قال العراقي رجاله ثقات. وفي الباب أيضاً عن ابن عباس وأبي ذر وأبي الدرداء وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه كذا في المنتقى.(3/39)
عليه عندَ أهلِ العلمِ: كَرِهُوا للرجُلِ أن يتكلّمَ والإمامُ يَخْطُبُ وقالوا إنْ تكلّم غيرُهُ فلا يُنْكِرْ عليهِ إلاّ بالإشارَةِ.
واختلفوا في رَدّ السّلامِ وتَشْمِيتِ العاطِسِ "والإمام يخطب" فرخّصَ بعضُ أهلِ العلمِ في رَدّ السلاِم وتشْميتِ العاطِس والإمامُ يخطُبُ. وهو قولُ أحمدَ وإسحاقَ. وكَرِهَ بعضُ أهلِ العلمِ مِن التابعينَ وغيرِهم ذلك. وهو قولُ الشافعيّ.
ـــــــ
قوله: "فرخص بعض أهل العلم في رد السلام وتشميت العاطس وهو قول أحمد وإسحاق" وقال العيني في شرح البخاري: وعن أبي حنيفة إذا سلم عليه يرده بقلبه، وعن أبي يوسف يرد السلام ويشمت العاطس فيها، وعن محمد يرد ويشمت بعد الخطبة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه انتهى.
قوله: "وكره بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم ذلك وهو قول الشافعي" وحكى ابن العربي عن الشافعي موافقة أحمد وإسحاق. قال العراقي وهو أولى مما نقله عنه الترمذي، وقد صرح الشافعي في مختصر البويطي بالجواز فقال: ولو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه لأن التشميت سنة، ولو سلم رجل على رجل كرهت ذلك له ورأيت أن يرد عليه لأن السلام سنة ورده فرض هذا لفظه، وقال النووي في شرح المهذب إنه الأصح كذا في النيل. وقد كره الحنفية أيضاً رد السلام وتشميت العاطس. وقال الشيخ عبد الحق في اللمعات كره تشميت العاطس ورد السلام، وعن أبي يوسف: لا يكره لأنهما فرض. والجواب أنهما فرضان في كل وقت إلا عند سماع الخطبة لعدم الإذن فيهما، وكذا الحمد للعطسة، وفي رد المنكر بالإشارة بالعين واليد لا يكره، وهو الصحيح انتهى. وقال العيني في شرح البخاري، وقال أصحابنا إذا اشتغل الإمام بالخطبة ينبغي للمستمع أن يجتنب ما يجتنبه في الصلاة لقوله تعالى {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت" الحديث. فإذا كان كذلك يكره له رد السلام وتشميت العاطس انتهى. وقد حكى العيني عن أبي حنيفة إذا سلم عليه يرده بقلبه كما تقدم.(3/40)
قلت: وجه الاختلاف أن ههنا عمومات متعارضة، فالنهي عن التكلم في حال الخطبة يعم كل كلام وكذا الأمر بالإنصات يعم السكوت عن كل كلام، والأمر برد السلام وتشميت العاطس يعم جميع الأوقات، وكذا الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره يعم جميع الأوقات، فأبقى بعض أهل العلم الأول وخصص الثاني، وخصص بعضهم الأول وأبقى الثاني على عمومه.
والأولى عندي في الجمع بين هذه العمومات المتعارضة أن يقال: المراد بالنهي عن التكلم في حال الخطبة النهي عن مكالمة الناس، وكذا المراد بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله كما اختاره ابن خزيمة، فإذا سكت في حال الخطبة عن مكالمة الناس ورد السلام سراً في نفسه أو شمت العاطس سراً أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره يكون عاملاً بكل ما ذكر من النهي والأمر، وهذا كما قال الحنفية بجواز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سراً في نفسه في حال الخطبة عند قراءة الخطيب قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} قال العيني في البناية: فإن قلت توجه عليه أمران أحدهما صلوا عليه وسلموا، والأمر الآخر قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قال مجاهد نزلت في الخطبة والإشتغال بأحدهما يفوت الآخر قلت إذا صلى في نفسه وأنصت وسكت يكون آتياً بموجب الأمرين انتهى. هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
وقال الفاضل اللكنوي في عمدة الرعاية: والحق أنه لا مانع من جواز كل ما منعوه حالة سكتات الخطيب إذا لم يخل بالاستماع(3/41)
باب ما جاء في التخطى يوم الجمعة
...
364ـ باب "ما جاءَ" في كراهِيةِ التّخَطّي يومَ الجُمعَة
512 ـ حدثنا أبوُ كُرَيْبٍ، حدثنا رِشْدِينُ بن سعدٍ عن زَبّانَ بن فائِدٍ عن سهلِ بن مُعَاذِ بن أنس الجُهَنِيّ عن أبيه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَن تَخَطّى رِقَابَ الناسِ يومَ الجمعةِ اتّخِذَ جسْراً إلى جهنّم".
ـــــــ
"باب في كراهية التخطي يوم الجمعة"
قال في الصراح: تخطيت رقاب الناس أي تجاوزتها
قوله: "عن زبان" بفتح الزاي وشدة الموحدة "ابن فائد" بالفاء أبي جوين المصري ضعيف الحديث مع صلاحه وعبادته "عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني" لا بأس به إلا في رواية زبان عنه كذا في التقريب. وقال في الميزان ضعفه ابن معين، وقال ابن حبان في الثقات لست أدري أوقع التخليط منه أو من صاحبه زبان بن فائد انتهى "عن أبيه" أي معاذ بن أنس الجهني وهو صحابي نزل مصر وبقي إلى خلافة عبد الملك.
قوله: "من تخطى" أي تجاوز " رقاب الناس" قال القاضي أي بالخطو عليها "يوم الجمعة" ظاهر التقييد بيوم الجمعة أن الكراهة مختصة به، ويحتمل أنه يكون التقييد خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بكثرة الناس بخلاف سائر الصلوات فلا يختص ذلك بالجمعة بل يكون سائر الصلوات حكمها. ويؤيد ذلك التعليل بالأذية وظاهر هذا التعليل أن ذلك يجري في مجالس العلم وغيرها، ويؤيد أيضاً ما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تخطى حلق قوم بغير إذنهم فهو عاص، ولكن في إسناده جعفر بن الزبير وقد كذبه شعبة وتركه الناس "اتخذ جسراً إلى جهنم"، قال العراقي المشهرر في رواية هذا الحديث اتخذ على بنائه للمفعول بضم التاء المشددة وكسر الخاء المعجمة بمعنى أنه يجعل جسراً على طريق جهنم ليوطأ ويتخطى كما تخطى رقاب الناس فإن الجزاء من جنس العمل، ويجوز أن يكون للبناء للفاعل أي(3/42)
وفي البابِ عن جابرٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ سَهْلِ بن مُعاذِ بن أنسٍ الجُهَنِيّ حديثٌ غريبٌ لا نعرِفهُ إلاّ مِن حديثِ رِشْدِين بنِ سعدٍ والعملُ عليهِ عندَ أهلِ العلمِ:
ـــــــ
أنه اتخذ لنفسه جسراً يمشي عليه إلى جهنم بسبب ذلك، كقوله عليه السلام: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، وفيه بعد، والأول أظهر وأوفق للرواية. وقد ذكره صاحب مسند الفردوس بلفظ: من تخطى رقبة أخيه المسلم جعله الله يوم القيامة جسراً على باب جهنم للناس، كذا في قوت المغتذي. وقال الطيبي والتوربشتي: ضعف المبني للمفعول رواية ودراية انتهى. قلت في كلام الطيبي والتوربشتي خلاف ما قال العراقي، والظاهر الراجح عندي هو قول العراقي ويؤيده لفظ مسند الفردوس: جعله الله يوم القيامة جسراً والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن جابر"، أخرجه ابن ماجه بلفظ أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجعل يتخطى رقاب الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إجلس فقد آذيت وآنيت"، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف. وفي الباب أيضاً عن عبد الله بن بسر بمعنى حديث جابر أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وسكت عنه أبو داود والمنذري وصححه ابن خزيمة وغيره، وعن أرقم بن الأرقم المخزومي مرفوعاً بلفظ: الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه في النار. أخرجه أحمد والطبراني في الكبير وفي إسناده هشام بن زياد ضعفه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وفي الباب أيضاً عن أبي الدرداء عند الطبراني في الأوسط، وعن أنس عنده في الصغير والأوسط، وعن عثمان بن الأزرق عنده في الكبير، وذكر الشوكاني ألفاظ أحاديثهم في النيل مع الكلام عليها.
قوله: "حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني حديث غريب الخ" في إسناده رشدين بن سعد قال في التقريب ضعيف رجح أبو حاتم علية بن علية، وقال ابن يونس كان صالحاً في دينه فأدركته غفلة الصالحين فخلط في الحديث من الخامسة،(3/43)
العلم كَرِهُوا أن يتخطّى الرجل رقاب الناس يومَ الجُمعةِ وشَدّدُوا في ذلك.
وقد تكلّم بعضُ أهلِ العلمِ في رِشْدِين بن سَعْدٍ وضَعّفَهُ مِن قِبَلِ حفظِهِ
ـــــــ
وقال الذهبي في الميزان كان صالحاً عابداً سيء الحفظ غير معتمد انتهى، فحديث الباب ضعيف لكنه معتضد بأحاديث أخرى وقد ذكرنا بعضها، "والعمل عليه عند أهل العلم كرهوا أن يتخطى الرجل يوم الجمعة رقاب الناس وشددوا في ذلك" حكى أبو حامد في تعليقه عن الشافعي التصريح بالتحريم، وقال النووي في زوائد الروضة: إن المختار تحريمه للأحاديث الصحيحة، واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط، وروى العراقي عن كعب الأحبار أنه قال: لأن أدع الجمعة أحب إليّ من أن أتخطى الرقاب، وقال المسيب: لأن أصلي الجمعة بالحرة أحب إليّ من التخطي، وروى عن أبي هريرة نحوه ولا يصح عنه لأنه من رواية صالح مولى التوأمة عنه، قال العراقي: وقد استثنى من التحريم أو الكراهة الإمام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي. وهكذا أطلق النووي بالروضة، وقيد ذلك في شرح المهذب فقال: إذا لم يجد طريقاً إلى المنبر أو المحراب إلا بالتخطي لم يكره لأنه ضرورة، وروى نحو ذلك عن الشافعي، وحديث عقبة بن الحارث قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه الحديث يدل على جواز التخطي للحاجة في غير الجمعة، فمن خصص الكراهة بصلاة الجمعة فلا معارضة بينه وبين أحاديث الباب عنده، ومن عمم الكراهة لوجود العلة المذكورة سابقاً في الجمعة وغيرها فهو محتاج إلى الاعتذار عنه، وقد خص الكراهة بعضهم بغير من يتبرك الناس بمروره ويسرهم ذلك ولا يتأذون لزوال علة الكراهة التي هي التأذي كذا في النيل(3/44)
365ـ باب ما جاءَ في كراهيةِ الاحتباءِ والإمامُ يخطب
513 ـ حدثنا محمدُ بن حُمَيْدٍ الرّازِيّ و العباسُ بنُ محمدٍ الدّورِيّ قالا: حدثنا أبو عبد الرحمَن المقرئ عن سعيدِ بن أبي أيّوب حدّثني أبو مَرْحُومٍ عن سهلِ بن مُعَاذٍ عن أبيهِ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الَحبوةِ يومَ الجمعةِ والإمامُ يخطُبُ".
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية الاحتباء والإمام يخطب" قال الجزري في النهاية: الاحتباء هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشده عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب يقال احتبى يحتبي احتباء والاسم الحبوة بالضم والكسر والجمع حباً وحباً
قوله: "والعباس بن محمد الدوري"، الخوارزمي نزيل بغداد أحد الحفاظ الأعلام روى عن أبي عبد الرحمَن المقري وأبي داود الطيالسي وغيرهما، وروى عنه أصحاب السنن الأربعة، ولزم ابن معين وأخذ عنه الجرح والتعديل، وثقه النسائي وغيره مات سنة 271 إحدى وسبعين ومائتين، "قالا أخبرنا أبو عبد الرحمَن المقري" اسمه عبد الله بن يزيد المكي أصله من البصرة والأهواز ثقة فاضل أقرأ القرآن نيفاً وسبعين سنة من التاسعة وهو من كبار شيوخ البخاري، "عن سعيد بن أبي أيوب" الخزاعي مولاهم المصري ثقة ثبت واسم أبي أيوب مقلاص، "قال حدثني أبو مرحوم" اسمه عبد الرحيم بن ميمون المدني نزيل مصر، قال الحافظ صدوق زاهد من السادسة "عن سهل بن معاذ" بن أنس الجهني.
قوله: "نهى عن الحبوة" قال في القاموس احتبى بالثوب اشتمل أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها والاسم الحبوة وبضم انتهى "يوم الجمعة والإمام يخطب"، قال الخطابي: إنما نهى عن الاحتباء في ذلك الوقت لأنه يجلب النوم ويعرض طهارته للانتقاض، وقد ورد النهي عن الاحتباء مطلقاً غير مقيد بحال الخطبة ولا بيوم الجمعة لأنه مظنة لانكشاف عورة من كان عليه ثوب واحد.(3/45)
قال أبو عيسى: "و" هذا حديثٌ حسنٌ. وأَبو مَرْحُومٍ اسمُهُ عبدُ الرحيمِ بنُ مَيْمُونٍ.
وقد كَرِهَ قومٌ مِن أهل العلم الحَبوةَ يومَ الجمعةِ والإمامُ يخطُبُ.
ورخّصَ في ذلك بعضُهمُ، منهم عبدُ الله بنُ عُمَرَ وغيرهُ. وبه يقولُ أحمدُ وإسحاقُ: لا يَرَيَانِ بالحَبْوَة والإمامُ يخطُبُ بأساً.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود. قال الشوكاني في النيل: في سنده سهل بن معاذ وقد ضعفه يحيى بن معين وتكلم فيه غير واحد وفي سنده أيضاً أبو مرحوم ضعفه ابن معين. وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، قال وفي الباب عن عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاحتباء يوم الجمعة، يعني والإمام يخطب، وفي إسناده بقية بن الوليد وهو مدلس وقد رواه بالعنعنة عن شيخه عبد الله بن واقد، قال العراقي لعله من شيوخه المجهولين، عن جابر عند ابن عدي في الكامل وفي إسناده عبد الله بن ميمون القداح وهو ذاهب الحديث كما قال البخاري.
قوله: "وقد كره قوم من أهل الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب". قال أبو داود في سننه: لم يبلغني أن أحداً كرهها إلا عبادة بن نسى انتهى. قال العراقي: وورد عن مكحول وعطاء والحسن أنهم كانوا يكرهون أن يحتبوا والإمام يخطب يوم الجمعة. رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال ولكنه قد اختلف عن الثلاثة فنقل عنهم القول بالكراهة، ونقل عنهم عدمها، واستدلوا بأحاديث الباب. قال الشوكاني: وهي تقوي بعضها بعضاً. "ورخص في ذلك بعضهم الخ" قال أبو داود في سننه: وكان ابن عمر يحتبي والإمام يخطب وأنس بن مالك وشريح وصعصعة بن صوحان وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ومكحول وإسماعيل بن محمد بن سعد ونعيم بن سلامة قال لا بأس بها انتهى.
وذهب أكثر أهل العلم كما قال العراقي إلى عدم الكراهة واستدلوا بما رواه أبو داود عن يعلى بن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: شهدت مع معاوية فتح(3/46)
ـــــــ
بيت المقدس فجمع بنا، فإذا جل من في المسجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرأيتهم محتبين والإمام يخطب، وسكت عنه أبو داود والمنذري. قال الشوكاني: وفي إسناده سليمان بن عبد الله بن الزبرقان وفيه لين، وقد وثقه ابن حبان، وأجابوا عن أحاديث الباب بأنها كلها ضعيفة، وإن كان الترمذي قد حسن حديث معاذ بن أنس وسكت عنه أبو داود.
قلت: أحاديث الباب وإن كانت ضعيفة لكن يقوي بعضها بعضاً، ولا شك في أن الحبوة جالبة للنوم، فالأولى أن يحترز عنها يوم الجمعة في حال الخطبة هذا ما عندي والله تعالى أعلم(3/47)
باب ما جاء في كراهية رفع الأيدى على المنبر
...
No pages(3/)
366 ـ باب ما جاءَ في كراهِيَةِ رَفعِ الأيدِي على المنْبر
512 ـ حدثنا أحمدُ بن مَنيعٍ، حدثنا هُشَيمٌ، أَخبرنا حُصَيْنٌ قال: سَمِعتُ عُمَارَةَ بنَ رُوَيْبَةَ "الثّقَفِيّ" و بِشرُ بن مَرَوَانَ يخطُب، فرَفع يديه في الدعاءِ فقال عُمَارةُ: قَبّحَ الله هَاتَيْنِ اليُدَيّتَيْنِ القُصَيّرَتَيْنِ "لقد رأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وما يزيدُ على أن يقولَ هكذا، وأشار هُشَيْمٌ بالسّبّابَةِ".
ـــــــ
باب ما جاءَ في كراهِيَةِ رَفعِ الأيدِي على المنْبر
قوله: "أخبرنا هشيم". بالتصغير ابن بشير بوزن عظيم الواسطي ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال، "أخبرنا حصين" هو ابن عبد الرحمَن السلمي أبو الهذيل الكوفي ثقة تغير حفظه في الاَخر، "قال سمعت عمارة" بضم العين "ابن رويبة" براء موحدة مصغراً الثقفي يكنى بأبي زهير صحابي نزل الكوفة "وبشر بن مروان يخطب" جملة حالية وفي رواية مسلم أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه "فرفع يديه في الدعاء" ليس في رواية مسلم لفظ في الدعاء "فقال عمارة قبح الله هاتين اليديتين" بضم التحتية وفتح الدال المهملة وتشديد التحتية المفتوحة تصغير اليدين "القصيرتين" تصغير القصيرتين والظاهر أنه دعاء عليه وقيل إخبار عن قبح صنعه "وما يزيد(3/47)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
على أن يقول" : أي يشير، والحديث يدل على كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي(3/48)
367 ـ باب ما جاءَ في أذانِ الجمعة
515 ـ حدثنا أحمدُ بن منيعٍ، حدثنا حمادُ بن خالدٍ الخَيّاطُ عن ابنِ أبي ذِئْبٍ عن الزّهْريّ عن السّائِبِ بن يزيدَ قال: "كانَ الأذَانُ على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعُمَرَ إذا خَرَجَ الإمامُ "وإذا" أقِيمَتِ الصلاةُ، فلما كانَ عثمانُ "رضي الله عنه" زادَ النّداءَ الثالثَ على الزَوْرَاءِ".
ـــــــ
باب ما جاءَ في أذانِ الجمعة
قوله: "عن السائب بن يزيد" بن سعيد بن ثمامة الكندي وقيل غير ذلك في نسبه ويعرف بإبن أخت النمر صحابي صغير له أحاديث قليلة وحجة الوداع وهو ابن سنين وولاه عمر سوف المدينة سنة 91 إحد وتسعين وقيل قبل ذلك وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة.
قوله: "كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إذا خرج الإمام". أي للخطبة وجلس على المنبر "أقيمت الصلاة"، كذا في النسخ المطبوعة في الهند. وقد ذكر أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي هذا الحديث بلفظ وإذا أقيمت الصلاة وهو الصحيح، وكذلك وقع في رواية أبي عامر عن ابن أبي ذئب عند ابن خزيمة: إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة، وكذا للبيهقي من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب كذا في الفتح، والمعنى كان الأذان في العهد النبوي وعهد أبي بكر وعمر أذانين أحدهما حين خروج الإمام وجلوسه على المنبر والثاني حين إقامة الصلاة. فكان في عهدهم الأذانان فقط ولم يكن(3/48)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
الأذان الثالث، والمراد بالأذانين الأذان الحقيقي والإقامة، وفي رواية وكيع عن ابن أبي ذئب عند ابن خزيمة: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة، قال ابن خزيمة: قوله أذانين يريد الأذان والإقامة يعني تغليباً أو لاشتراكهما في الإعلام كذا في فتح الباري. "فلما كان عثمان" أي خلافته أو كان خليفة "زاد النداء الثالث"، قال الحافظ في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب: فأمر عثمان بالأذان الأول ونحوه للشافعي من هذا الوجه ولا منافاة بينهما لأنه باعتبار كونه مزيداً يسمى ثالثاً وباعتبار كونه جعل مقدماً على الأذان والإقامة يسمى أولاً، ووقع في رواية: أن التأذين بالثاني أمر به عثمان وتسميته ثانياً أيضاً متوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقي لا الاقامة "على الزوراء" بفتح الزاء وسكون الواو بعدها راء ممدودة، قال الإمام البخاري في صحيحه: الزوراء موضع بالسوق بالمدينة، قال الحافظ: ما فسر به البخاري هو المعتمد، وجزم ابن بطال بأنه حجر كبير عند باب المسجد وفيه نظر لما في رواية ابن اسحاق عن الزهري عند ابن خزيمة وابن ماجه بلفظ: زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء، وفي روايته عند الطبراني: فأمر بالنداء الأول على دار له يقال لها الزوراء فكان يؤذن له عليها، وفي رواية له من هذا الوجه: فأذن بالزوراء قبل خروجه ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت كذا في الفتح، وفيه أيضاً: زاد أبو عامر يعني ابن خزيمة عن ابن أبي ذئب، فثبت ذلك حتى الساعة. وفي رواية يونس يعني عند البخاري بلفظ: فثبت الأمر كذلك، والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهاني أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة، وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة لكن منها ما يكون حسناً ومنها ما يكون بخلاف(3/49)
ـــــــ
ذلك، وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياساً على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب انتهى.
تنبيه: قال بعض الحنفية: الأذان الثالث الذي هو الأول وجوداً إذا كانت مشروعيته باجتهاد عثمان وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت، وعدم الإنكار صار أمراً مسنوناً نظراً إلى قوله صلى الله عليه وسلم، "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين" انتهى.
قلت: ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم قال القاري في المرقاة: فعليكم بسنتي أي بطريقتي الثابتة عني واجباً أو مندوباً، وسنة الخلفاء الراشدين فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي، فالإضافة إليهم إما لعملهم بها أو لاستنباطهم واختيارهم إياها انتهى كلام القاري.
وقال صاحب سبل السلام: أما حديث: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي تمسكوا بها وعضواً عليها بالنواجذ، أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه الحاكم وقال على شرط الشيخين، ومثله حديث: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، أخرجه الترمذي وقال حسن، وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان، وله طريق فيها مقال إلا أنه يقوي بعضها بعضاً، فإنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها، فإن الحديث عام لكل خليفة راشد لا يخص الشيخين. ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم. ثم هذا عمر رضي الله عنه نفسه الخليفة الراشد سمى ما رآه من تجميع صلاته ليالي رمضان بدعة ولم يقل إنها سنة فتأمل. على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل، فدل أنهم لم يحملوا الحديث على أن ما قالوه وفعلوه حجة. وقد حقق البرماوي الكلام في شرح ألفيته في أصول الفقه مع أنه قال إنما الحديث الأوليدل على أنه إذا اتفق الخلفاء الأربعة على قول كان حجة لا إذا انفرد واحد منهم. والتحقيق أن الاقتداء ليس هو التقليد بل هو غيره كما حققناه في شرح نظم الكافل في بحث الاجماع انتهى كلام صاحب السبل.
فإذا عرفت أنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم لاح لك أن الاستدلال على كون الأذان الثالث الذي هو من مجتهدات عثمان رضي الله عنه أمراً مسنوناً ليس بتام، ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنه قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فلو كان هذا الاستدلال تاماً وكان الأذان الثالث أمراً مسنوناً لم يطلق عليه لفظ البدعة لا على سبيل الإنكار ولا على سبيل غير الإنكار، فإن الأمر المسنون لا يجوز أن يطلق عليه لفظ البدعة بأي معنى كان فتفكر(3/50)
ـــــــ
فإذا عرفت أنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم لاح لك أن الاستدلال على كون الأذان الثالث الذي هو من مجتهدات عثمان رضي الله عنه أمراً مسنوناً ليس بتام، ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنه قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فلو كان هذا الاستدلال تاماً وكان الأذان الثالث أمراً مسنوناً لم يطلق عليه لفظ البدعة لا على سبيل الإنكار ولا على سبيل غير الإنكار، فإن الأمر المسنون لا يجوز أن يطلق عليه لفظ البدعة بأي معنى كان فتفكر(3/51)
368 ـ باب ما جاءَ في الكلامِ بعد نزولِ الإمامِ من المنْبر
516 ـ حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ، حدثنا أبو داودَ الطيَالسيّ،أخبرنا
ـــــــ
باب ما جاءَ في الكلامِ بعد نزولِ الإمامِ من المنْبر
قوله: "يكلم بالحاجة إذا نزل من المنبر". وفي المنتقى بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل من المنبر يوم الجمعة فيكلمه الرجل في الحاجة ويكلمه ثم يتقدم إلى مصلاه فيصلي، وعزاه إلى الخمسة، وفيه دليل على أنه لا بأس بالكلام بعد نزول الإمام من المنبر عند الحاجة. قال القاضي أبو بكر بن العربي: الأصح عندي أن لا يتكلم فيها لأن مسلماً قد روى أن الساعة التي في يوم الجمعة المستجابة هي من حين يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقام الصلاة، فينبغي أن يتجرد للذكر والتضرع انتهى. قال الشوكاني: ومما يرجح ترك الكلام بين الخطبة والصلاة الأحاديث الواردة في الإنصات حتى تنقضي الصلاة كما عند النسائي بإسناد جيد من حديث سلمان بلفظ: فينصت حتى يقضي صلاته، قال: ويجمع بين الأحاديث بأن الكلام الجائز بعد الخطبة هو كلام الإمام لحاجة أو كلام الرجل للرجل لحاجة انتهى.(3/51)
جريرُ بنُ حازِمٍ عن ثابتٍ عن أنسِ بن مالكٍ قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُكَلّمُ بالحاجةِ إذا نزل عن المنبرِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ لا نعرِفهُ إلا مِن حديثِ جريرِ بنِ حازمٍ. "قال" وسمعتُ محمداً يقولُ: وَهِمَ جريرُ بن حازمٍ في هذا الحديثِ، والصّحِيْح ما رُوِيَ عن ثابتٍ عن أنسٍ قال "أقيمَتِ الصلاةُ فأخذَ رجُلٌ بِيَدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم فما زال يُكَلّمُهُ حتى نَعَسَ بعضُ القومِ".
قال محمدٌ: والحديثُ هو هذا
ـــــــ
قوله: "وهم جرير بن حازم في هذا الحديث والصحيح ما روى الخ" يعني وهم جرير في قوله يكلم بالحاجة إذا نزل من المنبر وإنما الحديث عن ثابت عن أنس: أقيمت الصلاة فأخذ رجل، الحديث، وليس فيه إذا نزل من المنبر بل ظاهر الحديث أنه في صلاة العشاء لقوله: حتى نعس بعض القوم، كما أن جريراً وهم في تحديثه عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا، الحديث. لأن ثابتاً لم يحدث عن أنس وإنما كان جالساً عند تحديث هذا الحديث عن أبي قتادة كذا في شرح الترمذي لأبي الطيب السندي.
وقال أبو داود في سننه: الحديث ليس بمعروف عن ثابت وهو مما تفرد به جرير بن حازم انتهى. وقال الدارقطني: تفرد به جرير بن حازم عن ثابت انتهى.
قال العراقي: في ما أعل به البخاري وأبو داود الحديث من أن الصحيح كلام الرجل له بعد ما أقيمت الصلاة لا يقدح ذلك في صحة حديث جرير بن حازم بل الجمع بينهما ممكن بأن يكون المراد بعد إقامة صلاة الجمعة وبعد نزوله من المنبر فليس الجمع بينهما متعذراً كيف وجرير بن حازم أحد الثقات المخرج لهم في الصحيح، فلا تضر زيادته في كلام الرجل له أنه كان بعد نزوله عن المنبر انتهى.(3/52)
وجريرُ بن حازمٍ ربّما يَهِمُ في الشيءِ وهوَ صدُوقٌ.
قال محمدٌ: وَهِمَ جريرُ بن حازمٍ في حديثِ ثابتٍ عن أنَسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "إذا أُقِيمَتِ الصلاةُ فلا تقوموا حتى تَرَوْنِي".
قال محمدٌ: "و" يُرْوَى عن حمادِ بن زيدٍ قال: كُنّا عند ثابتٍ البُنَانيّ فحدّثَ حجّاجٌ الصَوّافّ عن يحيى بنِ أبي كثيرٍ عن عبدِ الله بن أبي قَتَادَةَ عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقِيمَتِ الصلاةُ فلا تقوموا حتى تَرَوْنِي" فَوَهِمَ جريرٌ فظن أن ثابتاً حدّثهُم عن أنسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
517 ـ حدثنا الحسنُ بن عليّ الخَلاّلُ حدثنا عبدُ الرزاقِ أخبرنا مَعْمَرٌ عن ثابتٍ عن أنس قال: "لقد رَأَيْتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعدَ ما تُقَامُ الصلاةُ يُكَلّمُهُ الرجُلُ يقومُ بينَه وبينَ القِبلةِ، فما زال يكلّمهُ. فلقد رَأيتُ بعضنا يَنْعَسُ مِن طولِ قِيامِ النبيّ صلى الله عليه وسلم "له" ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قلت: لا شك في أن جرير بن حازم أحد الثقات المخرج لهم في الصحيح، لكن قال الحافظ في التقريب وله أوهام إذا حدث من حفظه. وقال في مقدمة فتح الباري: قال الأثرم عن أحمد حدث بمصر أحاديث وهم فيها ولم يكن يحفظ انتهى.(3/53)
باب ما جاء في القراءة في الصلاة الجمعة
...
369 ـ باب ما جاءَ في القراءَةِ في صَلاةِ الجمعة
518 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا حاتمُ بن إسماعيلَ عن جعفر بنِ محمدٍ عن أبِيه عن عُبَيْدِ الله بن أبي رافعٍ مولَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "استخْلَفَ مروانُ أبا هريرةَ على المدينةِ وخرجَ إلى مكةَ فَصلّى بنا أبو هريرةَ يومَ الجمعةِ فَقَرأ سورةَ الجمعةِ، وفي السجدةِ الثانيةِ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} قال عُبَيْدُ الله: فأدرَكتُ أبا هريرةَ فقلت له: تقرأ لسورتين كان عليّ يقرأ بهما بالكوفة قال أبو هريرة: إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقرأُ بهما".
وفي الباب عن ابنِ عباسٍ والنعمانِ بنِ بشيرٍ وأَبي عِنَبَةَ الخَوْلاَنِيّ.
ـــــــ
باب ما جاءَ في القراءَةِ في صَلاةِ الجمعة
قوله أخبرنا "حاتم بن إسماعيل" المدني أبو اسماعيل الحارثي مولاهم أصله من الكوفة صحيح الكتاب صدوق يهم من الثامنة "عن جعفر بن محمد" بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المعروف بالصادق صدوق فقيه إمام "عن أبيه" محمد بن علي بن الحسين أبي جعفر الباقر ثقة فاضل "عن عبيد الله بن أبي رافع" كان كاتب علي وهو ثقة من الثالثة.
قوله: "استخلف مروان" هو ابن الحكم بن أبي العاص أبو عبد الملك الأموي المدني ولي الخلافة في آخر سنة 46 أربع وستين ومات سنة 56 خمس وستين "أبا هريرة على المدينة" أي جعله خليفته ونائبه عليها "وخرج" أي مروان "فقرأ سورة الجمعة" أي في الركعة الأولى "وفي السجدة الثانية" أي الركعة الثانية "فأدركت أبا هريرة" أي لقيته.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس والنعمان بن بشير وأبي عتبة الخولاني" أما حديث ابن عباس فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عنه: أن النبي صلى الله عليه(3/54)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وسلم كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الصبح {ألم تَنْزِيلُ} و {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} ، وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين. وأما حديث النعمان بن بشير فأخرجه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية ب {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} و ألأفي الأولى قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين. وروى الجماعة إلا البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير وسأله الضحاك: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟ قال كان يقرأ هل أتاك حديث الغاشية. وأما حديث ابن عتبة الخولاني فأخرجه ابن ماجه.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري والنسائي. وقد استدل بهذه الأحاديث على أن السنة أن يقرأ الإمام في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقين أو في الأولى بالجمعة وفي الثانية بهل أتاك حديث الغاشية. قال العراقي: والأفضل من هذه الكيفيات قراءة الجمعة في الأولى ثم المنافقين في الثانية، كما نص عليه الشافعي فيما رواه عنه الربيع. وقد ثبتت الأوجه الثلاثة فلا وجه لتفضيل بعضها على بعض، إلا أن الأحاديث التي فيها لفظ "كان" مشعرة بأنه فعل ذلك في أيام متعددة كما تقرر في الأصول.(3/55)
باب ما جاء في ما يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة
...
وَرُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنه كانَ يقرأُ في صلاةِ الجمعةِ" ب { سَبِّحِ اسمَ ربّكَ الأعلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}.
370 ـ باب ما جَاءَ "في" ما يَقْرأُ "به" في صلاةِ الصبْحِ يومَ الجمعة
519 ـ حدثنا عليّ بن حُجْرٍ أخبرنا شَرِيكٌ عن مُخَوّلِ بنِ راشدٍ عن مُسِلمٍ البَطينِ عن سعيدِ بن جبيرٍ عن ابن عباسٍ قال "كانَ رسولُ الله
ـــــــ
باب ما جَاءَ "في" ما يَقْرأُ "به" في صلاةِ الصبْحِ يومَ الجمعة
قوله: "عن مخول" على وزن محمد وقيل على وزن منبرٍ ثقة نسب إلى التشيع "عن مسلم البطين" هو مسلم بن عمران أو ابن عمران البطين من رجال الجماعة.(3/55)
صلى الله عليه وسلم يقرأُ يومَ الجمعةِ في صلاةِ الفجرِ {آلم} تنزيلُ "السّجْدَةَ" و{ هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ}".
"قال" : وفي الباب عن سعدٍ وابنِ مسعودٍ وأبي هريرةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابن عباسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رواه سفيانُ الثوريّ "وشعبة" وغيرُ واحدٍ عن مُخَوّلٍ.
ـــــــ
قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر الخ" قال الحافظ: فيه دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في هذه الصلاة من هذا اليوم لما تشعر الصيغة به من مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، أو إكثاره منه، بل ورد من حديث ابن مسعود التصريح بمداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك أخرجه الطبراني ولفظه يديم ذلك وأصله في ابن ماجه بدون هذه الزيادة ورجاله ثقات لكن صوب أبو حاتم إرساله انتهى.
قوله: "وفي الباب عن سعد وابن مسعود وأبي هريرة" أما حديث سعد وهو ابن أبي وقاص فأخرجه ابن ماجه. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه ابن ماجه أيضاً. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الجماعة إلا الترمذي وأبا داود.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي(3/56)
باب في الصلاة قبل الجمعة وبعدها
...
371 ـ باب "ما جاء" في الصَلاةِ قبلَ الجمعةِ وبعدَها
520 ـ حدثنا ابن أبي عُمَرَ، حدثنا سفيانُ بن عُيَينَةَ عن عَمْروِ بن دينارٍ عن الزهريّ عن سالمٍ عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنه كان يُصَلّي بعدَ الجمعةِ ركعَتيْنِ"
ـــــــ
. باب "ما جاء" في الصَلاةِ قبلَ الجمعةِ وبعدَها
قوله: "كان يصلي بعد الجمعة ركعتين" فيه دليل على أن السنة بعد الجمعة ركعتان وبه استدل من قال به.(3/56)
"قال" : وفي البابِ عن جابرٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَرَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رُوِيَ عن نافعٍ عن ابنِ عُمَر أيضاً. والعملُ على هذا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ وبه يقولُ الشافعيّ وأحمدُ.
521 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا اللّيْثُ عن نافعٍ عن ابن عُمر "أنه كان إذا صلّى الجمعةَ انصرَفَ فصلّى سجدَتَيْنِ في بيتِهِ ثم قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذلك".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
522 ـ حدثنا ابن أبي عُمَر، حدثنا سفيانُ عن سُهيلِ بن أبي صالحٍ عن أبيهِ عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَن كانَ مِنكم مصَلّياً بعدَ الجمعةِ فَلْيُصَلّ أربعاً"
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن جابر" أخرجه ابن ماجه عن جابر وأبي هريرة بلفظ: جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له أصليت ركعتين قبل أن تجيء؟ قال: لا، قال فصل ركعتين وتجوز فيهما. قال الحافظ في التلخيص: لم يذكر الرافعي في سنة الجمعة التي قبلها حديثاً. وأصح ما فيه ما رواه ابن ماجه، ثم ذكر الحافظ هذا الحديث ثم قال: قال المجد بن تيمية في المنتقى: قوله قبل أن تجيء دليل على أنهما سنة الجمعة التي قبلها لاتحية المسجد، وتعقبه المزي بأن الصواب أصليت ركعتين قبل أن تجلس فصحفه بعض الرواة انتهى.
قوله: "وقد روي عن نافع عن ابن عمر أيضاً" أي كما روي عن سالم عن ابن عمر وقد روى الترمذي رواية نافع بعد هذا.
قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وبه يقول الشافعي وأحمد" قال العراقي لم يرد الشافعي وأحمد بذلك إلا بيان أقل ما يستحب وإلا فقد استحبا أكثر من ذلك فنص الشافعي في الأم على أنه يصلي بعد الجمعة أربع ركعات ذكره في باب صلاة الجمعة والعيدين. ونقل ابن قدامة عن أحمد أنه قال: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين وإن شاء صلى أربعاً، وفي رواية عنه: ستا، كذا في النيل.(3/57)
"قال أبو عيسى" : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
حدثنا الحسنُ بن علي حدثنا عليّ بن المَدينيّ عن سُفيانَ بن عُيَيْنَةَ قال: كُنّا نَعُدّ سُهَيْلَ بنَ أبي صالحٍ ثَبْتاً في الحديثِ.
ـــــــ
قوله: "كنا نعد سهيل بن أبي صالح ثبتاً في الحديث" قال الحافظ في التقريب: صدوق تغير حفظه بآخره، روى له البخاري مقروناً وتعليقاً انتهى. قلت احتج به الجماعة سوى البخاري وثقه ابن عيينة والعجلي، وقال النسائي هو خير من فليح وحسين المعلم وعد جماعة يعترض على البخاري في احتجاجه بهم وعدم احتجاجه بسهيل، وروى له البخاري مقروناً وتعليقاً.
قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم" أي على حديث أبي هريرة المذكور: من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً، وهو مذهب أبي حنيفة.
وقد اختلف العلماء في الصلاة بعد الجمعة، فقالت طائفة: يصلي بعدها ركعتين، روى ذلك عن عمر وعمران بن حصين والنخعي، وقالت طائفة: يصلي بعدها أربعاً، روى ذلك عن ابن مسعود وعلقمة والنخعي وهو قول أبي حنيفة وإسحاق وقالت طائفة: يصلي بعدها ركعتين ثم أربعاً، روى ذلك عن علي وابن عمر وأبي موسى، وهو قول عطاء والثوري وأبي يوسف. إلا أن أبا يوسف استحب أن يقدم الأربع قبل الركعتين.
حجة الأولين حديث ابن عمر المذكور، وحجة الطائفة الثانية حديث أبي هريرة المذكور، وحجة الطائفة الثالثة ما رواه أبو إسحاق عن عطاء قال: صليت مع ابن عمر الجمعة فلما سلم قام فركع ركعتين ثم صلى أربعاً ثم انصرف، ووجه قول أبي يوسف ما رواه الأعمش عن إبراهيم عن سليمان بن مسهر عن حرشة بن الحر أن عمر رضي الله عنه كره أن يصلي بعد صلاة مثلها. هذا ملخص مْا في عمدة القاري للعيني.
قلت: واستدل للطائفة الثالثة بما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعاً وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد فقيل له في ذلك فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك والحديث هذا سكت عنه أبو داود والمنذري وقال العراقي إسناده صحيح.(3/58)
قال أبو عيسى هذا حديث حسن والعملُ على هذا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ.
وَرُوِي عَن "عبدِ الله" بنِ مسعودٍ أنه كان يصَلّي قبلَ الجُمعةِ أربعاً وبعدَها أربعاً.
و "قد" رُوِي عن عليّ بن أبي طالبٍ "رضي الله عنه" أنه أمرَ أن يُصَلّى بعدَ الجمعةِ ركعَتيْنِ ثم أربعاً.
ـــــــ
قلت: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ركعتان بعد الجمعة فعلاً وأربع قولاً. وأما الست فلم تثبت عنه صلى الله عليه وسلم بحديث صحيح صريح. نعم ثبتت عن ابن عمر رضي الله عنه من فعله، وروي عن علي أنه أمر بها. وأما حديث ابن عمر الذي نقلناه آنفاً عن أبي داود فقال العراقي: إنما أراد رفع فعله بالمدينة فحسب لأنه لم يصح أنه صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بمكة انتهى. والأولى بالعمل عندي أن يصلى الرجل بعد الجمعة أربعاً لأنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قولاً وأمرنا به وحثنا عليه والله تعالى أعلم.
قوله: "وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً" أخرجه عبد الرزاق ورواه الطبراني عن ابن مسعود مرفوعاً وفي إسناده ضعف وانقطاع، كذا في فتح الباري. وقال الحافظ في التلخيص: وفي ابن ماجه عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربع ركعات لا يفصل بينهن بشيء، وإسناده ضعيف جداً. وفي الباب عن ابن مسعود وعلي رضي الله عنه في الطبراني الأوسط. وصح عن ابن مسعود من فعله رواه عبد الرزاق، وفي الطبراني الأوسط عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها ركعتين رواه في ترجمة أحمد بن عمرو انتهى ما في التلخيص.
قوله: "وروي عن علي بن أبي طالب أنه أمر أن يصلي بعد الجمعة ركعتين ثم أربعاً" أخرجه أحمد بن الحسن البغدادي بسنده إلى علي وزاد: يجعل التسليم في آخرهن، كذا في شرح الترمذي لسراج أحمد السرهندي. وفي عمدة القاري للعيني: في سنن سعيد بن منصور عن أبي عبد الرحمَن السلمي قال: علمنا ابن مسعود أن نصلي بعد الجمعة أربعاً، فلما قدم علينا علي بن أبي طالب علمنا أن نصلي ستاً.(3/59)
وذهبَ سفيانُ الثوريّ وابنُ المباركِ إلى قولِ ابن مسعودٍ.
وقال إسحاقُ: إِن صَلّى في المسجدِ يومَ الجمعةِ صلّى أربعاً، وإن صلّى في بَيْتِه صلّى ركعَتْينِ. واحتَجّ بِأَن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصَلّي بعدَ الجمعةِ ركعَتْينِ في بَيْتِه، وحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم "مَن كانَ منْكمُ مُصَلّياً بعدَ الجمعةِ فَلْيُصلّ أربعاً".
قال أبو عيسى: وابن عُمرَ هوَ الذي رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلّي بعد الجمعةِ ركعَتْينِ في بَيْتِه. وابنُ عُمرَ بعدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجدِ بعدَ الجمعةِ ركعَتْين، وصلّى بعد الركعَتيْنِ أربعاً. حدثنا بِذلك ابن أبي عُمَرَ حدثنا سفيان "بن عيينة" عن ابن جُرَيْجٍ عن عطاءٍ قال: رأيت ابنَ عُمرَ صلّى بعدَ الجمعةِ ركعَتْينِ ثم صلّى بعد ذلك أرْبعاً.
حدثنا سعيدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ المخزوميّ حدثنا سُفيانُ بن عُيَيْنَةَ عن عَمْروِ بنِ دينارٍ قال: ما رأيتُ أحداً أنَصّ للحديثِ مِن الزهريّ، وما رأيتُ أحداً "الدنانير" الدراهِمُ أهونُ عليه منْهُ، إن كانتْ "الدنانير" الدراهِمُ عندَهُ بمنزلةِ البعْرِ.
ـــــــ
قوله: "واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم الخ". حاصل احتجاجه أن حديث الأربع مطلق وليس مقيداً بكونها في البيت وأما حديث الركعتين فهو مقيد بكونهما في البيت، فحديث الركعتين يحمل على ما إذا صلى في البيت، وحديث الأربع على ما إذا صلى في المسجد.
قوله: "قال أبو عيسى: وابن عمر هو الذي روى الخ." مقصود الترمذي الرد على ما قال إسحاق وحاصله أن الأمر لو كان كما قال إسحاق لما صلى ابن عمر بعد الجمعة في المسجد ركعتين، فإنه هو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته "ما رأيت أحداً أنص للحديث من الزهري" قال الجزري في النهاية أي أرفع له وأسند انتهى. وفي تهذيب التهذيب قال علي بن الحسن النسائي عن ابن عيينة: مرض عمرو فعاده الزهري فلما قام(3/60)
ال أبو عيسى: سمعتُ "ابن أبي عُمَرَ" قال: سمعت سفيانَ بن عُيَيْنَةَ يقولُ: كان عَمْرُو بن دينارٍ أسَنّ من الزُهْريّ.
ـــــــ
الزهري قال ما رأيت شيخاً أنص للحديث الجيد من هذا الشيخ انتهى "إن كانت الدراهم عنده" إن هذه مخففة من المثقلة "سمعت أبي عمر" كذا وقع في النسخة الأحمدية، ووقع في غيرها: سمعت ابن أبي عمر وهو الصحيح، وقد سقط لفظ "ابن" من النسخة الأحمدية(3/61)
باب فيمن يدرك من الجمعة ركعة
...
372 ـ باب "ما جاء" فيمن أدرك مِنَ الجمعةِ ركعة
523 ـ حدثنا نصرُ بن علي و سعيدُ بن عبدِ الرحمَنِ وغيرُ واحدٍ قالوا: حدثنا سفيانُ بن عُيَينةَ عن الزهريّ عن أبي سَلَمَة عَن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "من أدركَ من الصلاةِ ركعةً فقد أدركَ الصلاةَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم وغيرِهم قالوا: مَن أدرَك ركعةً من الجُمعَةِ صلّى إليها أُخرى ومَن أدركَهُمْ جُلوساً صلّى أربعاً.
وبه يقولُ سفيانُ الثوريّ وابنُ المباركِ والشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
باب "ما جاء" فيمن أدرك مِنَ الجمعةِ ركعة
قوله: "فقد أدرك الصلاة" ليس على ظاهره بالإجماع لأنه لا يكون بالركعة الواحدة مدركاً لجميع الصلاة بحيث تحصل براءة ذمته من الصلاة فإذا فيه إضمار تقريره فقد أدرك وقت الصلاة أو حكم الصلاة أو نحو ذلك ويلزمه إتمام بقيتها.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "ومن أدركهم جلوساً" أي ومن أدرك الإمام والمصلين معه. جالسين "صلى أربعاً" أي بعد سلام الإمام.(3/61)
قوله: "وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق" وقال أبو حنيفة: من أدرك مع الإمام شيئاً من صلاة الجمعة ولو في التشهد يصلي ما أدرك معه ويتم الباقي ولا يصلي الظهر لإطلاق حديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. أخرجه أصحاب الكتب الستة وغيرهم. واستدل الأولون بحديث الباب فإنه بإطلاقه يشمل الجمعة فيلزم أن مدرك ركعة من الجمعة مدرك لها، وبمفهومه يدل على أن من لم يدرك ركعة بل دونها فهو غير مدرك، ومن لم يدرك الجمعة يصلي أربعاً.
وأجاب عنه الحنفية بأن الحديث مطلق فيفيد أن حكم جميع الصلوات واحد، وحكم سائر الصلوات أنه إذا أدرك شيئاً منها مع الإمام ولو في التشهد يصلي ما أدرك معه ويتم الباقي ولا يزيد على ذلك، فكيف يزيد في الجمعة بإطلاق الحديث، والمفهوم عندهم لا عبرة به، ولو كان معتبراً لا يقدم على الصريح. كذا في شرح أبي الطيب المدني.
واستدل الأولون أيضاً بحديث أبي هريرة: من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى، ومن لم يدرك الركوع من الركعة الأخيرة فليصل الظهر أربعاً، رواه الدارقطني من طريق ياسين بن معاذ عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة، وفي رواية له من طريقه بلفظ: " إذا أدرك أحدكم الركعتين يوم الجمعة فقد أدرك، وإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى، وإن لم يدرك ركعة فليصل أربع ركعات".
وأجيب عنه بأن هذا الحديث ضعيف فإن ياسين ضعيف متروك، ولهذا الحديث طرق كلها معلولة. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكرها: وقد قال ابن حبان في صحيحه إنها كلها معلولة. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا أصل لهذا الحديث إنما المتن: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها. وذكر الدارقطني الاختلاف في علله وقال الصحيح من أدرك من الصلاة ركعة، وكذا قال العقيلي انتهى.
واستدلوا أيضاً بحديث ابن عمر مرفوعاً: من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته. وفي لفظ: فقد أدرك الصلاة، رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني من طريق بقية، حدثني يونس بن يزيد عن الزهري عن سالم عن أبيه.(3/62)
ـــــــ
وأجيب عنه بأن هذا الحديث أيضاً لا يصلح للاحتجاج. قال الحافظ في التلخيص: قال ابن أبي داود والدارقطني: تفرد به بقية عن يونس وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: هذا خطأ في المتن والإسناد وإنما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً: من أدرك من صلاة ركعة فقد أدركها. وأما قوله: من صلاة الجمعة، فوهم. قال الحافظ: إن سلم من وهم بقية ففيه تدليس التسوية لأنه عنعن لشيخه انتهى. ولهذا الحديث طرق أخرى كلها ضعيفة قد ذكرها الحافظ في التلخيص مع بيان ضعفها.
والأصح عندي ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن من أدرك مع الإمام شيئاً من صلاة الجمعة ولو في التشهد يصلي ما أدرك معه ويتم الباقي ولا يصلي الظهر لإطلاق ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. فأما ما ذهب إليه الأولون فلم أجد حديثاً صحيحاً صريحاً يدل عليه والله تعالى أعلم(3/63)
373ـ باب "ما جاء" في القائلَةِ يومَ الجُمعَة
524 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ حدثنا عبدُ العزيزِ بنُ أبي حَازمٍ و عبدُ الله بن جعفرٍ عن أبي حازمٍ عن سهلِ بنِ سعد "رضي الله عنه" قال "ما كُنّا نتغدّى في عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا نَقِيلُ إلا بعدَ الجُمعَةِ ".
ـــــــ
"باب في القائلة يوم الجمعة"
القائلة بمعنى القيلولة وهي الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم وكذلك المقيل
"قوله أخبرنا عبد العزيز بن أبي حازم"، المدني صدوق فقيه " ما كنا نتغدى" بالغين المعجمة والدال المهملة من الغداء وهو الطعام الذي يؤكل أول النهار "ولا نقيل" من قال يقيل قيلولة فهو قائل واستدل بهذا الحديث لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال. وتعقب بأنه لا دلالة فيه على أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال بل فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقائلة بالتهيؤ للجمعة ثم بالصلاة ثم ينصرفون فيقيلون ويتغدون، فكون قائلتهم وغداؤهم بعد الجمعة(3/63)
وفي الباب عن أنسِ "بنِ مالكٍ" "رضي الله عنه".
قال أبو عيسى: حديثُ سهلِ بنِ سعدٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
عوضاً عما فاتهم في وقته من أجل بكورهم، كذا في الفتح وعمدة القاري، قال العيني: وعلى هذا التأويل جمهور الأئمة وعامة العلماء انتهى.
قوله: "حديث سهل بن سعد حديث حسن صحيح" قوله: "وفي الباب عن أنس بن مالك" أخرجه أحمد والبخاري قال كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم نرجع إلى القائلة فنقيل.
قوله: "حديث سهل بن سعد حديث حسن صحيح" أخرجه الجماع(3/64)
باب في من ينعس يوم الجمعة أنه يتحول من مجلسه
...
374 ـ باب في مَن نَعَس يوم الجُمعَة أنه يَتَحَوّلُ من مجلِسِه
525 ـ حدثنا أبو سعيدٍ الأشَجّ حدثنا عَبْدَةُ بنُ سُلَيمانَ و أَبو خالدٍ الأَحْمَرُ عن محمدِ بنِ إسحاقَ عن نافعٍ عن ابن عُمَر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "إذا نَعسَ أحدُكُم يومَ الجُمعَةِ فَلْيَتَحَوّلْ من مجلِسِهِ "ذلك" ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب في من نعس يوم الجمعة أنه يتحول من مجلسه
قوله: "إذا نعس" بفتح العين "يوم الجمعة" وفي رواية أحمد إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة "فليتحول" أي فلينتقل إلى محل آخر. والحكمة في الأمر بالتحول أن الحركة تذهب النعاس، ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان الذي أصابته فيه الغفلة بنومه وإن كان النائم لا حرج عليه فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قصة نومهم عن صلاة الصبح في الوادي بالانتقال منه، وأيضاً من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، فربما كان الأمر بالتحول لإذهاب ما هو منسوب إلى الشيطان من حيث غفلة الجالس في المسجد عن الذكر أو سماع الخطبة أو ما فيه منفعة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وأحمد(3/64)
375 ـ باب ما جاءَ في السّفَرِ يومَ الجمعة
525 ـ حدثنا أحمدُ بن مَنِيعٍ، حدثنا أبو مُعَاويةَ عن الحجّاجِ عن الحكَمِ عن مِقْسَمٍ عن ابنِ عباسٍ قال "بعثَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن رَوَاحَةَ في سَرِيّةٍ فَوافَقَ ذلكَ يومَ الجُمعِة، فَغَدا أصْحَابُه فقالَ: أَتَخَلّفُ فأُصَلّي مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم أَلْحَقُهُمْ، فلمّا
ـــــــ
باب ما جاءَ في السّفَرِ يومَ الجمعة
قوله: "عن الحجاج" هو ابن أرطأة الكوفي القاضي أحد الفقهاء صدوق كثير الخطأ والتدليس من السابعة "عن الحكم" هو ابن عتيبة أبو محمد بن الكندي الكوفي ثقة ثبت فقيه إلا أنه ربما دلس قاله في التقريب "عن مقسم" بكسر أوله ابن بجرلا بضم الموحدة وسكون الجيم ويقال نجدة بفتح النون وبدال أبو القاسم مولى عبد الله بن الحارث ويقال له مولى ابن عباس للزومه له صدوق وكان يرسل وما له في البخاري سوى حديث واحد.
قوله: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة" الأنصاري الخزرجي أحد النقباء شهد العقبة وبدراً وأحداً والخندق والمشاهد بعدها إلا الفتح وما بعده فإنه قتل يوم مؤتة شهيداً أميراً فيها سنة ثمان وهو أحد الشعراء المحسنين، روى عنه ابن عباس وغيره "في سرية" بفتح السين وكسر الراء وتشديد التحتية طائفة من الجيش أقصاها أربعائة "فوافق ذلك" أي زمن البعث " فغدا صحابه" أي ذهبوا أول النهار "فقال" أي عبد الله بن رواحة في نفسه ونوى أن يتخلف(3/65)
صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم رآه فقالَ: ما مَنَعَكَ أن تَغْدوَ مَع أَصحَابِكَ، فقال: أردْتُ أن أُصَلّىَ معَك ثم الْحَقُهُمْ، قال لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الأرضِ "جميعاً" ما أَدْرَكْتَ فَضْلَ غَدْوَتِهمْ".
قال أبو عيسى: هذ حديثُ "غريب" لا نعرِفهُ إلاّ مِن هذا الوجهِ.
قال عليّ بن المَدِينيّ: قال يحيى بنُ سعيدٍ: "و" قال شُعْبةُ: لم يسمعْ الحَكَمُ من مِقْسَمٍ إلاّ خمسةَ أَحاديثَ وعَدّها شعْبةُ، وليسَ هذا الحديثُ فيما عَدّ شُعْبَةُ. فكأنّ هذا الحديثَ لم يسمعْهُ الْحكَمُ من مِقْسَمِ.
وقد اختلفَ أَهلُ العِلم في السفرِ يومَ الجمعةِ، فلم ير بعضُهم بأساً بأن يخرجَ يومَ الجمعةِ في السفرِ ما لم تحضر الصلاةُ.
ـــــــ
فيصلي معه صلى الله عليه وسلم أو قال لبعض أصحابه "فضل غدوتهم" بفتح الغين وضمها أي فضيلة إسراعهم في ذهابهم إلى الجهاد. قال الطيبي كان الظاهر أن يقال غدوتهم أفضل من صلاتك هذه فعدل إلى المذكور مبالغة كأنه قيل لا يوازيها شيء من الخيرات وذلك أن تأخره ذاك ربما يفوت عليه مصالح كثيرة، ولذلك ورد: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
قوله: "وكأن هذا الحديث لم يسمعه الحكم من مقسم" وقال البيهقي انفرد به الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف انتهى كذا في التلخيص. قلت: وحجاج بن أرطأة مدلس وروى هذا الحديث عن الحكم بالعنعنة.
قوله: "فلم ير بعضهم بأساً بأن يخرج يوم الجمعة ما لم تحضر الصلاة" لحديث(3/66)
باب ما جاء في السواك والطيب يوم الجمعة
...
376 ـ باب في السّواكِ والطيبِ يومَ الجمعة
526 ـ حدثنا عليّ بن الحسَنِ الكوفيُ حدثنا أبو يحيى إسماعيلُ
ـــــــ
باب في السّواكِ والطيبِ يومَ الجمعة
قوله: "حدثنا علي بن الحسن الكوفي" قال العراقي: لم يتضح من هو، فإن في هذه الطبقة ثلاثة: الأول علي بن الحسن بن سليمان الكوفي كنيته أبو الحسن ويعرف بأبي الشعثاء روى عنه مسلم، والثاني علي بن الحسن الكوفي روى عن عبد الرحيم بن(3/67)
بن إبراهيم التَيْمِيّ عن يزيدَ بن أبي زيَاد عن عبدِ الرحمَنِ بن أبي لَيْلَى عن البراءِ بن عازبٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "حَقّ على المسلمينَ أن يَغْتسلوا يومَ الجُمعةِ، وليْمَسَ أحدُهم مِن طيبِ أهلِه، فإِن لم يَجِدْ فالماء له طِيبٌ"
ـــــــ
سليمان والمعافى ابن عمران روى عنه النسائي، والثالث علي بن الحسين الكوفي روى عن اسماعيل بن إبراهيم التيمي روى عنه المصنف انتهى. قلت: قال في الخلاصة: علي بن الحسن الكوفي روى عن اسماعيل بن إبراهيم التيمي وعنه صلى الله عليه وسلم فلعله اللاني انتهى. وكذلك قال في التقريب: واللاني هو علي بن الحسن الكوفي الذي روى عنه عبد الرحيم بن سليمان والمعافى وعنه النسائي. وقال في تهذيب التهذيب: علي بن الحسن الكوفي عن أبي يحيى اسماعيل بن إبراهيم ومحبوب بن محرز القواريري روى عنه الترمذي وهو غير أبي الشعثاء وأظنه اللاني، وذكر صاحب الكمال أن الترمذي روى عن أبي الشعثاء فوهم انتهى.
قوله أخبرنا أبو يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيمي قال في التقريب ضعيف عن يزيد بن أبي زياد الهاشمي مولاهم الكوفي ضعيف كبر فتغير وصار يتلقن وكان شيعيا كذا في التقريب. وقال في الخلاصة قال ابن عدي يكتب حديثه. وقال الحافظ شمس الدين الذهبي هو صدوق ردىء الحفظ انتهى.
قوله: "حقاً على المسلمين" قال الطيبي: حقاً مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه اختصاراً "أن يغتسلوا" فاعل حق المقدر "يوم الجمعة" ظرف للاغتسال "وليمس" بكسر اللام ويسكن قال الطيبي عطف على ما سبق بحسب المعنى إذ فيه سمة الأمر أي ليغتسلوا وليمس أحدكم "من طيب أهله" أي بشرط طيب أهله، لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس، أو من طيب له عند أهله" "فإن لم يجد أي طيباً "فالماء له طيب" قال العراقي المشهور في الرواية بكسر التاء وسكون المثناة من(3/68)
وفي البابِ عن أبي سعيدٍ وشيخٍ مِنَ الأنصارِ قال:.
527 ـ حدثنا أحمدُ بن مَنيعٍ حدثنا هُشَيْمٌ عن يزيدَ بن أبي زِيَادٍ بهذا الاسناد: نحوَه.
قال أبو عيسى: حديثُ البَراءِ حديث حسنٌ وروَايةُ هُشيْمٍ أحسنُ مِن رِوَايةِ إسماعيلَ ابنِ إبراهيم التّيْمِيّ وإسماعيلُ بن إبراهيم "التّيْمِيّ" يُضعّفُ في الحديث.
ـــــــ
تحت أي أنه يقوم مقام الطيب قال الطيبي أي عليه أن يجمع بين الماء والطيب، فإن تعذر الطيب فالماء كاف لأن المقصود التنظيف وإزالة الرائحة الكريهة، وفيه تطييب لخاطر المساكين انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد وشيخ من الأنصار" أما حديث أبي سعيد فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. وأما حديث شيخ من الأنصار فأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ: حق على المسلم الغسل يوم الجمعة والسواك والطيب كذا في شرح أحمد السرهندي.
قوله: "قال حدثنا أحمد بن منيع" أي قال أبو عيسى الترمذي حدثنا أحمد بن منيع "نحوه معناه" أخرجه أحمد من طريق هشيم عن يزيد بن أبي زياد ولفظه: إن من الحق على المسلمين أن يغتسل أحدهم يوم الجمعة وأن يمس من طيب إن كان عند أهله وإن لم يكن عندهم طيب فإن الماء أطيب.
قوله: "حديث البراء حسن" وأخرجه أحمد، وفي كونه حسناً كلام، إن مداره فيما أعلم على يزيد بن ابن بن زياد وقد ضعفه جماعة. قال الذهبي في الميزان: قال يحيى ليس بالقوى، وقال أيضاً لا يحتج به، وقال ابن المبارك: ارم به، وقال شعيبة كان يزيد بن أبي زياد رفاعاً. وقال أحمد: حديثه ليس بذلك، وخرج له مسلم مقروناً بآخر وقد عرفت من التقريب أنه كبر فتغير.
قوله: "ورواية هشيم أحسن من رواية اسماعيل بن ابراهيم" فإن هشيماً وهو ابن بشير ثقة ثبت، وإسماعيل بن إبراهيم ضعيف(3/69)
أبواب العيدين
باب في المشى يوم العيد
...
ـ أبواب العيدين
377 ـ باب "ما جاء" في المشْيَ يومَ العيد
528ـ حدثنا إسمَاعيلُ بنُ مُوسى "الفزاري" حدثنا شَرِيكٌ عن أبي إسحاق عنِ الحارثِ عن عليّ بن أبي طالب قال: "من السُنّةِ أن تَخرُجَ إلى العيدِ ماشياً وأن تَأكُلَ شيئاً قبل أن تخرج".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
"باب في المشي يوم العيد"
أصل العيد عود لأنه مشتق من عاد يعود عوداً وهو الرجوع قلبت الواو ياء كما في الميزان والميقات، وسميا عيدين لكثرة عوائد الله تعالى فيهما، وقيل لأنهم يعودون إليه مرة بعد أخرى قاله العيني.
قوله: "حدثنا إسماعيل بن موسى" هو الفزاري أنبأنا "شريك" بن عبد الله الكوفي النخعي صدوق يخطئ كثيراً تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن الحارث" هو الأعور.
قوله: "من السنة أن تخرج إلى العيد ماشياً" هذا له حكم الرفع، وفيه دليل على أن الخروج إلى العيد ماشياً من السنة، والحديث وإن كان ضعيفاً لكن قد ورد في هذا الباب أحاديث ضعاف أخرى تؤيده كما ستعرف "وأن تأكل شيئاً قبل أن تخرج" هذا مختص بعيد الفطر، وأما عيد الأضحى فلا يأكل حتى يصلي لما سيأتي.
قوله: "هذا حديث حسن" في كونه نظر لأن في سنده الحارث الأعور وقد عرفت حاله.
وفي الباب عن ابن عمر وعن سعد القرظ وعن أبي رافع وعن سعد بن أبي وقاص.(3/70)
والعملُ على هذا الحديثِ عندْ أكْثر أهلِ العلْمِ يسْتحِبونَ أن يَخرجَ الرجُلُ إلى العيدِ ماشياً "وأن يأكل شيئاً قبل أن يخرج لصلاة الفطر".
"قال أبو عيسى" : و "يستحب" أن لا يركب إلا من عذر
ـــــــ
فأما حديث ابن عمر فأخرجه ابن ماجه عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى العيد ماشياً ويرجع ماشياً، وفي إسناده عبد الرحمَن بن عبد الله بن عمر العمري كذبه أحمد، وقال أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي متروك وقال البخاري ليس مما يروى عنه.
وأما حديث سعد القرظ فأخرجه أيضاً ابن ماجه بنحو حديث ابن عمر وفي إسناده عبد الرحمَن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ عن أبيه عن جده، وقد ضعفه ابن معين وأبوه سعد بن عمار، قال في الميزان: لا يكاد يعرف، وجده عمار بن سعد قال فيه البخاري: لا يتابع على حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات.
وأما حديث أبي رافع فأخرجه أيضاً ابن ماجه عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي العيد ماشياً، وفي إسناده مندل بن علي ومحمد بن عبد الله بن أبي رافع، ومندل متكلم فيه، ومحمد قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين ليس بشيء.
وأما حديث سعد بن أبي وقاص فأخرجه البزار في مسنده، ذكره الشوكاني في النيل وهو أيضاً ضعيف.
قوله: "والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم: يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشياً، وأن لا يركب إلا من عذر" وعليه العمل عند الحنفية أيضاً، واستدلوا على ذلك بأحاديث الباب. وقد استدل الحافظ العراقي لاستحباب المشي في صلاة العيد بعموم حديث أبي هريرة المتفق عليه. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون. فهذا عام في كل صلاة تشرع فيها الجماعة كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء. قال: وقد ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يأتي إلى صلاة العيد ماشياً، فمن الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، ومن التابعين إبراهيم النخعي وعمر بن(3/71)
ـــــــ
عبد العزيز، ومن الأئمة سفيان الثوري والشافعي وأحمد وغيرهم. ويستحب أيضاً المشي في الرجوع كما في حديث ابن عمر وسعد القرظ. وروى البيهقي في حديث الحارث عن علي أنه قال: من السنة أن تأتي العيد ماشياً ثم تركب إذا رجعت. قال العراقي: وهذا أمثل من حديث ابن عمر وسعد القرظ وهو الذي ذكره أصحابنا يعني الشافعية.
وقد عقد الإمام البخاري في صحيحه باباً لهذه المسألة بلفظ: باب المشي والركوب إلى العيد بغير أذان ولا إقامة، وليس فيما ذكره من الأحاديث ما يدل على مشي ولا ركوب. قال الحافظ في الفتح: لعله أشار بذلك إلى تضعيف ما ورد في الندب إلى المشي ثم ذكر حديث الباب وحديث سعد القرظ وحديث أبي رافع ثم قال: وأسانيد الثلاثة ضعاف انتهى.
قلت: أحاديث الباب وإن كانت ضعافاً لكنها بعضها يعتضد ببعض ويؤيدها عموم حديث أبي هريرة المتفق عليه المذكور، فالقول الراجح ما ذهب إليه أكثر أهل العلم والله تعالى أعلم.
فائدة: أخرج الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلي ثم يكبر حتى يأتي الإمام انتهى. قال البيهقي: الصحيح وقفه علي بن عمر، وقد روي مرفوعاً وهو ضعيف كذا في الدراية ونصب الراية.
فائدة أخرى: روى مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلي. وقد روى في الاغتسال للعيدين عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحاديث كلها ضعيف. قال الحافظ في الدراية روى ابن ماجه من طريق عبد الرحمَن بن عقبة بن الفاكه عن جده، وكانت له صحبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة. وأخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته، والبزار وزاد: يوم الجمعة وإسناده ضعيف، ولابن ماجه عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل يوم الفطر ويوم(3/72)
ـــــــ
الأضحى، وإسناده ضعيف، وللبزار عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل للعيدين. وإسناده ضعيف انتهى ما في الدراية.
فائدة أخرى: روى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عمر أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين، كذا في فتح الباري. وقال محمد بن إسماعيل الأمير في سبل السلام: يندب لبس أحسن الثياب والتطيب بأجود الأطياب في يوم العيد لما أخرجه الحاكم من حديث الحسن السبط قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد، البقرة عن سبعة، والجزور عن عشرة، وأن تظهر التكبير والسكينة والوقار. قال الحاكم بعد إخراجه من طريق إسحاق بن بزرج: لولا جهالة إسحاق لحكمت للحديث بالصحة. قال محمد بن إسماعيل الأمير: وليس بمجهول فقد ضعفه الأزدي ووثقه ابن حبان ذكره في التلخيص انتهى.
وقد استدل البخاري على التجمل في العيدين بحديث ابن عمر قال: أخذ عمر جبة من إستبرق تباع في السوق فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اتبع هذه تجمل بها للعيد والوفود، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذه لباس من لا خلاق له الحديث، ووجه الاستدلال به من جهة تقريره صلى الله عليه وسلم لعمر على أصل التجمل للعيد وقصر الإنكار على لبس مثل تلك الحلة لكونها كانت حريراً(3/73)
378 ـ باب في صَلاةِ العِيدَيْنِ قَبلَ الخطْبة
529 ـ حدثنا محمدُ بنُ المَثنّى، حدثنا أبو أُسامةَ عن عُبَيْدِ الله "هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب" عن نافعٍ
ـــــــ
باب في صَلاةِ العِيدَيْنِ قَبلَ الخطْبة
قوله: "أخبرنا أبو أسامة" إسمه حماد ابن أسامة الكوفي ثقة تقدم ترجمته "عن عبيد الله" هو ابن عمر بن حفص العمري المدني ثقة ثبت.(3/73)
عن ابنِ عمرَ قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ وعُمرُ يُصَلّونَ في العِيدَينِ قبلَ الخطْبةِ ثم يخْطُبُونَ".
"قال" : وفي البابِ عن جابرٍ وابنِ عباسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَر حَديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العِلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهِم أَنّ صلاةَ العِيدَينِ قبلَ الخطبةِ.
ويقالُ إنّ أَوّلَ مَن خطَبَ قَبلَ الصّلاةِ مَرْوَانُ بن الْحَكَمِ.
ـــــــ
قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون في العيدين قبل الخطبة" وفي حديث ابن عباس قال: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة، أخرجه الجماعة إلا الترمذي.
قوله: "وفي الباب عن جابر وابن عباس" أما حديث جابر فأخرجه الشيخان وأبو داود. وأما حديث ابن عباس فتقدم تخريجه ولفظه آنفاً.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا أبا داود.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم إلخ" وهو الحق "ويقال أول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم" قال الحافظ في الفتح: إختلف في أول من غير ذلك، فرواية طارق بن شهاب عن أبي سعيد عند مسلم بلفظ: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل الحديث، صريحة في أنه مروان، وقيل بل سبقه إلى ذلك عثمان. رووى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان صلى بالناس ثم خطبهم يعني على العادة فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة ففعل ذلك أي صار يخطب قبل الصلاة. وهذه العلة غير العلة التي اعتل بها مروان لأن عثمان راعي مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل إنهم كانوا(3/74)
ـــــــ
في زمن مروان يتعمدون ترك سماع خطبته لما فيها من سب من لا يستحق السب والافراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه. ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحياناً بخلاف مروان فواظب عليه فلذلك نسب إليه. وقد أخرج الشافعي عن عبد الله بن يزيد نحو حديث ابن عباس يعني الذي تقدم لفظه وزاد: حتى قدم معاوية فقدم الخطبة، فهذا يشير إلى أن مروان إنما فعل ذلك تبعاً لمعاوية لأنه كان أمير المدينة من جهته انتهى كلام الحافظ بتلخيص.
ومروان بن الحكم المذكور هو أبو عبد الملك الأموي المدني ولي الخلافة في آخر أربع وستين ومات سنة خمس وستين(3/75)
379 ـ باب أنّ صَلاةَ العِيدَينِ بغيرِ أذانٍ ولا إِقامة
530 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا أبو الأحْوَصِ عن سِمَاك "بن حَرْبٍ" عن جابرِ بن سَمُرةَ قال: صليتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرّة ولا مَرّتينِ بغير أذانٍ ولا إقامةٍ".
"قال" : وفي البابِ عَنْ جَابرِ بن عبد الله وابن عَبّاسٍ.
قال أبو عيسى: وحَدِيثُ جابرِ بن سَمُرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ
ـــــــ
باب أنّ صَلاةَ العِيدَينِ بغيرِ أذانٍ ولا إِقامة
قوله: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا مرتين" قال الطيبي: حال أي كثير "بغير أذان ولا إقامة" فيه دليل على أنه لا أذان ولا إقامة في صلاة العيدين.
قوله: "وفي الباب عن جابر بن عبد الله وابن عباس" أخرجه الشيخان بلفظ: قالا لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى.
قوله: "حديث جابر بن سمرة حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود.(3/75)
380 ـ باب في القِراءة في العيدَين
531 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا أبو عَوَانةُ عن إبراهيم بن محمدِ بن المنتَشِر عن أبيه عن حَبِيبِ بن سالمٍ عن النعمانِ بن بَشير قال: " كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدَيْنِ و "في" الجمعةِ ب {سبّح اسمَ رَبّكَ الأعلَى} { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ}، وربما اجْتَمعَا في يومٍ واحدٍ فَيْقرأُ بهمَا"
ـــــــ
باب في القِراءة في العيدَين
قوله: "أخبرنا أبو عوانة" اسمه وضاح بتشديد المعجمة ثم مهملة ابن عبد الله اليشكري الواسطي مشهور بكنيته ثقة ثبت من رجال السنة "عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر" الأجدع الهمداني الكوفي ثقة من رجال السنة.
قوله: "وربما اجتمعا" أي العيد والجمعة "فيقرأ بهما" أي ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ } {وَهَلْ أَتَاكَ}. والحديث يدل على استحباب القراءة في العيدين {بسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {والْغَاشِيَةِ}، وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل، وذهب الشافعي إلى استحباب(3/76)
381ـ باب التكبيرِ في العيدَين
534 ـ حدثنا مُسْلِمُ بنُ عَمْرو أبو عَمْرٍ و الحذّاءُ المدينيّ، حدثنا عبدُ الله بن نافعٍ الصّائغ عن كثِير بن عبدِ الله عن أبيه عن جده " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كبّر في العيدين في الأولى سَبْعاً قبل القِراءةِ، وفي الأخرةِ خَمْساً قبل القِراءة".
"قال" : وفي الباب عن عائشةَ وابن عُمَر وعبد الله بن عَمْرو
ـــــــ
باب التكبيرِ في العيدَين
قوله: "حدثنا مسلم بن عمرو وأبو عمر الحذاء المديني" صدوق "أخبرنا عبد الله بن نافع" الصائغ مولى ابن مخزوم أبو محمد المدني وثقه ابن معين والنسائي كذا في الخلاصة. وقال في التقريب: ثقة صحيح الكتاب وفي حفظه لين "عن كثير بن عبد الله" بن عمرو بن عوف المزني المدني قال الحافظ في التقريب: ضعيف، منهم من نسبه إلى الكذب انتهى. قلت: قال الشافعي، وأبو داود: ركن من أركان الكذب. وقال ابن حبان له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة كذا في الميزان "عن أبيه" هو عبد الله بن عمرو بن عوف، قال الحافظ: مقبول وقال في الخلاصة: وثقه ابن حبان "عن جده" أي عن جد كثير وهو عمرو بن عوف المزني أبو عبد الله صحابي شهد بدر.
قوله: "كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة وفي الآخرة خمساً قبل القراءة" أي كبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات غير تكبيرة الإحرام كما في رواية وسنذكرها، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات غير تكبيرة القيام.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وابن عمر وعبد الله بن عمرو" أما حديث عائشة فأخرجه أبو داود عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً وفي رواية له سوى تكبيرتي الركوع وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف. وأما حديث ابن عمر فأخرجه(3/80)
قال أبو عيسى: حديثُ جَدّ كثير حديثٌ حسنٌ وهو أحسنُ شيء رُوِىَ في هذا الباب عن النبيّ عليه السلام.
ـــــــ
الدارقطني والبزار مرفوعاً بلفظ: التكبير في العيدين في الركعة الأولى سبع تكبيرات وفي الآخرة خمس تكبيرات، وفي إسناده فرج بن فضالة وثقه أحمد، وقال البخاري منكر الحديث. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أحمد وابن ماجه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخسماً في الأخرة، ولم يصل قبلها ولا بعدها. وقال أحمد: أنا أذهب إلى هذا، وفي رواية قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما ". رواه أبو داود والدارقطني. قال الحافظ العراقي: إسناده صالح، ونقل الترمذي في العلل المفردة عن البخاري أنه قال إنه حديث صحيح كذا في نيل الأوطار. وقال في التلخيص صححه أحمد وعلي والبخاري فيما حكاه الترمذي انتهى. وفي الباب أيضاً عن سعد مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة وفي الآخرة خمساً قبل القراءة أخرجه ابن ماجه. قال العراقي: في إسناده ضعف. قلت: وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى من وجه أخرى. قال العلامة علاء الدين في الجوهر النقي: في إسناده بقية وهو متكلم فيه. وعن عبد الرحمَن بن عوف قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تخرج له العنزة في العيدين حتى يصلي إليها فكان يكبر ثلاث عشر تكبيرة وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك . وفي إسناده الحسن البجلي وهو لين الحديث. وقد صحح الدارقطني إرسال هذا الحديث. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة في الأولى سبعاً وفي الآخرة خسماً، وفي إسناده سليمان بن أرقم وهو ضعيف. وعن جابر قال: مضت السنة أن يكبر للصلاة في العيدين سبعاً وخمساً، أخرجه البيهقي. وعن عمارة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في العيدين في الأولى سبعاً وفي الآخرة خمساً وكان يبدأ بالصلاة قبل الخطبة أخرجه الدارقطني. وفي الباب أحاديث أخرى.
قوله: "حديث جد كثير حديث حسن وهو أحسن شيء روي في هذا الباب"(3/81)
واسمُه عَمْرُو بن عَوْفٍ المُزَنيّ والعملُ على هذا عند بعض أهلِ العلم مِن أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
وهكذا رُوِيَ عن أبي هريرة أنه صلّى بالمدينةِ نحو هذه الصلاةِ وهو قول
ـــــــ
قال الحافظ في التلخيص: وقد أنكر جماعة تحسينه على الترمذي انتهى وجه الإنكار هو أن في سنده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وقد عرفت حاله.
وأجاب النووي في الخلاصة عن الترمذي في تحسينه فقال: لعله اعتضد بشواهد وغيرها انتهى. وقال القاري في المرقاة نقلاً عن ميرك لعل اعتضد عند من صححه بشاهد وأمور قد خفيت انتهى. وقال العراقي والترمذي إنما: تبع في ذلك البخاري فقد قال في كتاب العلل المفردة: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال ليس في هذا الباب شيء أصح منه وبه أقول انتهى. قلت: الظاهر أن تحسين الترمذي حديث جد كثير لكثرة شواهده، والترمذي قد يحسن الحديث الضعيف لشواهده، ألا ترى أن حديث معاذ: أن في كل ثلاثين بقرة تبيعاً وفي كل أربعين مسنة، ضعيف وقد حسنه الترمذي، قال الحافظ في فتح الباري: إنما حسنه الترمذي لشواهده انتهى. وأما قول الإمام البخاري: ليس في هذا الباب شيء أصح منه ففيه أن الظاهر أن حديث عبد الله بن عمرو أصح شيء في هذا الباب والله تعالى أعلم.
قوله: "واسمه" أي اسم جد كثير "وهكذا روي عن أبي هريرة إلخ" أخرجه مالك في الموطأ عن نافع مولى عبد الله بن عمر قال: شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة وفي الأخرى خمس تكبيرات قبل القراءة وإسناده صحيح. قلت: وهكذا روي عن ابن عباس أنه كبر في صلاة العيدين ثنتي عشرة تكبيرة. أخرج ابن أبي شيبة عن أبي عمار بن أبي عمار أن ابن عباس كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة وإسناده حسن.(3/82)
أهلِ المدينةِ وبه يقولُ مالكُ بن أنَسٍ والشافعيّ وأَحمدُ وإسحاقُ
ـــــــ
قوله: "وهو قول أهل المدينة وبه يقول مالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحاق" إلا أن مالكاً عد في الأولى تكبيرة الإحرام، وقال الشافعي سواها، والفقهاء على أن الخمس في الثانية غير تكبيرة القيام قاله ابن عبد البر روى الإمام مالك في الموطأ عن نافع مولى عبد الله بن عمر أنه قال: شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة وفي الآخرة خمس تكبيرات قبل القراءة. قال مالك: وهو الأمر عندنا انتهى. قال الشيخ سلام الله في المحلى: وهو حجة الشافعي وأحمد ومالك وروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري انتهى. قلت: وقد عمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قال الحافظ الحازمي في كتاب الاعتبار: الوجه الحادي والثلاثون أن يكون أحد الحديثين قد عمل به الخلفاء الراشدون دون الثاني، فيكون آكد ولذلك قدم رواية من روى في تكبيرات العيدين سبعاً وخمساً على رواية من روى أربعاً كأربع الجنائز لأن الأول قد عمل به أبو بكر وعمر فيكون إلى الصحة أقرب، والأخذ به أصوب، انتهى كلام الحازمي. وقال الشوكاني في النيل: قال العراقي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة، قال: وهو مروي عن عمر وعلي وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وزيد بن ثابت وعائشة، وهو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة وعمر بن عبد العزيز والزهري ومكحول، وبه يقول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق. قال الشافعي والأوزاعي وإسحاق وأبو طالب وأبو العباس: إن السبع في الأولى بعد تكبيرة الإحرام. وقال مالك وأحمد والمزني إن تكبيرة الإحرام معدودة من السبع في الأولى، قال: وفي حديث عائشة عند الدارقطني سوى تكبيرة الافتتاح، وعند أبي داود سوى تكبيرتي الركوع، وهو دليل لمن قال إن السبع لا تعد فيها تكبيرة الافتتاح والركوع، والخمس لا تعد فيها تكبيرة الركوع. واحتج أهل القول الثاني يعني من قال بأن تكبيرة الإحرام معدودة من السبع في الأولى باطلاق الأحاديث(3/83)
ـــــــ
المذكورة في الباب وأجابوا عن حديث عائشة بأنه ضعيف انتهى ما في النيل بقدر الحاجة ملخصاً.
فإن قلت. ما روى الإمام مالك في الموطأ عن نافع هو حديث موقوف على أبي هريرة أعني هو فعله وليس بحديث مرفوع، فكيف يصح استدلال مالك والشافعي وأحمد وغيرهم؟
قلت: نعم هو موقوف لكنه مرفوع حكما فإنه لا مساغ فيه للاجتهاد فلا يكون رأياً إلا توقيفاً بحب التسليم له، على أنه قد جاء فيه حديث عبد الله بن عمرو وهو حديث مرفوع حقيقة، وهو حديث صحيح صالح للاحتجاج، قال العراقي: إسناده صالح، ونقل الترمذي في العلل المفردة عن البخاري أنه قال إنه حديث صحيح، وقال الحافظ في التلخيص: صححه أحمد وعلي والبخاري فيما حكاه الترمذي انتهى. وقد عرفت هذا فيما سبق وقد ورد فيه كثير من الأحاديث المرفوعة حقيقة، وهي إن كانت ضعافاً ولكن يشد بعضها بعضاً.
تنبيه: قال النيموي في آثار السنن بعد ذكر حديث عبد الله بن عمرو: إسناده ليس بقوي، وقال في تعليقه: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه كلام.
قلت: قول النيموي ليس مما يعول عليه، والتحقيق أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيح أو حسن قابل للاحتجاج إذا كان السند إليه صحيحاً وقد تقدم تحقيقه، وقد قال الحافظ في فتح الباري: وترجمة عمرو قوية على المختار حيث لاتعارض انتهى.
ثم قال النيموي: ومع ذلك مداره على عبد الله بن عبد الرحمَن الطائفي، قال الذهبي في الميزان: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين: صويلح، وقال مرة ضعيف، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي كذا قال أبو حاتم انتهى.
قلت: وقال الذهبي في الميزان بعد هذه العبارة ما لفظه: وقال ابن عدي: أما سائر حديثه فعن عمرو بن شعيب وهي مستقيمة انتهى وهو من رجال مسلم. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: له في مسلم حديث واحد كاد أمية أن يسلم انتهى، وفيه وقال العجلي ثقة، وحكى ابن خلفون أن ابن المديني وثقه، فإسناد(3/84)
ـــــــ
هذا الحديث إلى عمرو حسن صالح، وترجمة عمرو قوية على المختار، فالحديث حسن قابل للاحتجاج، كيف وقد قال العراقي إسناده صالح وصححه أحمد وعلي بن المديني والبخاري.
ثم قال النيموي: أما تصحيح الإمام أحمد فيعارضه ما قال ابن القطان في كتابه، وقد قال أحمد بن حنبل: ليس في تكبير العيدين عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح انتهى.
قلت: قد عرفت أن الإمام أحمد قال بما يدل عليه هذا الحديث وذهب إليه فقوله به يدل على أن تصحيحه متأخر من تضعيفه.
ثم قال النيموي: وأما تصحيح البخاري ففيه نظر لأن قوله وحديث عبد الله الطائفي إلخ يحتمل أن يكون من كلام الترمذي. قال الزيلعي في نصب الراية بعد ما أخرج عمرو بن عوف المزني قال الترمذي حديث حسن وهو أحسن شيء روي في هذا الباب انتهى. وقال في علله الكبرى: سألت محمداً عن هذا الحديث فقال ليس شيء في هذا الباب أصح منه وبه أقول، وحديث عبد الله ابن عبد الرحمَن الطائفي أيضاً صحيح، والطائفي مقارب الحديث انتهى. قال ابن القطان في كتابه هذا ليس بصريح في التصحيح فقوله: هو أصح شيء في الباب يعني ما في الباب وأقل ضعفاً، وقوله: به أقول يحتمل أن يكون من كلام الترمذي أي وأنا أقول إن هذا الحديث أشبه ما في الباب وكذا قوله: وحديث الطائفي أيضاً صحيح يحتمل أن يكون من كلام الترمذي انتهى.
قلت: هذا الاحتمال بعيد جداً، بل الظاهر المتعين هو ما فهمه الحافظ ابن حجر وغيره من أن قوله: وبه أقول من كلام البخاري والمعنى أن بهذا الحديث أقول وإليه أذهب والدليل عليه أن الترمذي ينقل عن شيخه الإمام البخاري مثل هذا الكلام كثيراً في الجرح والتعديل وبيان علل الحديث ولا يقول بعد نقل كلامه وبه أقو ألبتة، وإن كنت في شك منه ففتش وتتبع المقامات التي نقل الترمذي فيها عن البخاري مثل هذا الكلام تجد ما قلت لك حقاً صحيحاً.
فالحاصل أن حديث عبد الله بن عمرو وحسن صالح للاحتجاج ويؤيده الأحاديث التي أشار إليها الترمذي والتي ذكرناها(3/85)
ورُوِيَ عن "عبد الله" بن مسعودٍ أنه قال في التكبير في العيدينِ: تِسْعَ تكبيراتٍ في الركعةِ الأولَى خمساً قبلَ القِراءةِ وفي الركعةِ الثانيَةِ يبْدَأُ بالقراءةِ ثم يُكَبّرُ أربعاً مع تكبيرةِ الركوعِ.
وقد رُويَ عن غيرِ واحدٍ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوُ هَذا
ـــــــ
قوله: "وروي عن ابن مسعود أنه قال في التكبير في العيدين تسع تكبيرات في الركعة الأولى وخمس تكبيرات قبل القراءة" أحدها تكبيرة التحريمة والثلاث زوائد وخامسها تكبيرة الركوع كذا قيل وفيه أن تكبير الركوع ليس قبل القراءة "وفي الركعة الثانية يبدأ بالقراءة ثم يكبر أربعاً مع تكبيرة الركوع" فصارت ست تكبيرات زوائد ثلاثاً في الركعة الأولى قبل القراءة وثلاثاً في الركعة الثانية بعد القراءة. وأثر ابن مسعود هذا رواه عبد الرزاق. قال: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن علقمة والأسود قالا: كان ابن مسعود جالساً وعنده حذيفة وأبو موسى الأشعري فسألهم سعيد بن العاص عن التكبير في صلاة العيدين فقال حذيفة سل الأشعري، فقال الأشعري سل عبد الله فإنه أقدمنا وأعلمنا فسأله فقال ابن مسعود: يكبر أربعاً ثم يقرأ ثم يكبر فيركع فيقوم في الثانية فيقرأ ثم يكبر أربعاً بعد القراءة. قال النيموي في آثار السنن إسناده صحيح.
قلت: في إسناده أبو إسحاق السبيعي وهو مدلس ورواه عن علقمة والأسود بالعنعنة فكيف يكون إسناده صحيحاً. وروى عبد الرزاق أيضاً قال: أخبرنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن علقمة والأسود أن ابن مسعود كان يكبر في العيدين تسعاً أربعاً قبل القراءة ثم يكبر فيركع وفي الثانية يقرأ فإذا فرغ كبر أربعاً ثم ركع. قال النيموي: إسناده صحيح.
قلت: في إسناده أيضاً أبو إسحاق السبيعي المذكور، ورواه أيضاً عن علقمة والأسود بالعنعنة "وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا" فمنهم ابن عباس والمغيرة بن شعبة، روى عبد الرزاق عن عبد الله بن الحارث قال: شهدت ابن عباس كبر في صلاة العيد بالبصرة تسع تكبيرات ووالى بين القراءتين. قال: وشهدت المغيرة بن شعبة فعل مثل ذلك. قال الحافظ(3/86)
وهو قولُ أهلِ الكوفةِ. وبه يقولُ سفيانُ الثوريُ.
ـــــــ
في التلخيص: إسناده صحيح انتهى. وروى الطبراني في الكبير عن كردوس قال: أرسل الوليد إلى عبد الله بن مسعود وحذيفة وأبي موسى الأشعري وأبي مسعود بعد العتمة فقال إن هذا عيد للمسلمين فكيف الصلاة؟ فقالوا: سل أبا عبد الرحمَن، فسأله فقال يقوم فيكبر أربعاً ثم يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة من المفصل ثم يكبر أربعاً يركع في آخرهن فتلك تسع في العيدين فما أنكره أحد منهم "وهو قول أهل الكوفة، وبه يقول سفيان الثوري" وهو قول الحنفية واستدلوا بهذه الآثار التي ذكرناها آنفاً وبما رواه أبو داود في سننه عن أبي عائشة جليس لأبي هريرة أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعاً تكبيره على الجنائز، فقال حذيفة: صدق، فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبر في البصرة حيث كنت عليهم. قال أبو عائشة: وأنا حاضر سعيد بن العاص. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري.
قلت: في سند هذا الحديث عبد الرحمَن بن ثابت بن ثوبان العنسي الدمشقي الزاهد متكلم فيه فوثقه جماعة وضعفه جماعة ومع هذا فقد تغير في آخر عمره. قال الحافظ: صدوق يخطئ وتغير بآخره انتهى. وأعله البيهقي في سننه الكبرى بأنه خولف راويه في موضعين في رفعه وفي جواب أبي موسى والمشهور أنهم أسندوه إلى ابن مسعود، فأفتاهم بذلك ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. فلا يصلح هذا الحديث للاستدل، وليس في هذا حديث مرفوع صحيح في علمي والله تعالى أعلم. وأما آثار الصحابة فهي مختلفة كما عرفت.
فالأولى: للعمل هو ما ذهب إليه أهل المدينة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم لوجهين: الأول أنه قد جاء فيه أحاديث مرفوعة عديدة وبعضها صالح للاحتجاج والباقية مؤيدة لها، وأما ما ذهب إليه أهل الكوفة فلم يرد فيه حديث مرفوع غير حديث أبي موسى الأشعري وقد عرفت أنه لا يصلح للاحتجاج. والوجه الثاني أنه قد عمل به أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وقد تقدم في كلام الحافظ(3/87)
ـــــــ
الحازمي أن أحد الحديثين إذا كان عمل به الخلفاء الراشدون دون الثاني فيكون آكد وأقرب إلى الصحة وأصوب بالأخذ. هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
تنبيه: قال الإمام محمد رحمه الله في موطأه بعد ذكر أثر أبي هريرة الذي ذكرناه عن موطأه الإمام مالك زحمه الله ما لفظه: قال محمد: قد اختلف الناس في التكبير في العيدين فما أخذت به فهو حسن وأفضل ذلك عندنا ما روي عن ابن مسعود أنه كان يكبر في كل عيد تسعاً: خمساً وأربعاً فهن تكبيرة الافتتاح وتكبيرتا الركوع ويوالي بين القراءتين ويؤخرها في الأولى ويقدمها في الثانية. وهو قول أبي حنيفة انتهى كلامه.
قلت: بل أفضل ذلك ما روي عن أبي هريرة للوجهين اللذين ذكرناهما آنفاً ولا وجه لأفضلية ما روى عن ابن مسعود. هذا ما عندي والله تعالى أعلم(3/88)
382 ـ باب لا صلاةَ قبلَ العيد ولا بعدَها
535 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلانَ، حدثنا أبو داودَ الطّيَالِسِيّ قال أنبأنا شعبةُ عن عَدِيّ بنِ ثابتٍ قال: سمِعتُ سعيدَ بنَ جُبَير يُحَدثُ عن ابنِ عباسٍ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرجَ يَوْمَ الفِطرِ فصلّى ركعتَينِ ثم لمْ يُصَلّ قبلها ولا بعدها".
ـــــــ
"باب لا صلاة قبل العيدين ولا بعدها"
كذا في النسخ الموجودة والظاهر أن يكون ولا بعدهما بتثنية الضمير
قوله: "لم يصل قبلها ولا بعدها" أي قبل صلاة العيد ولا بعدها. قال الشيخ ابن الهمام: هذا النفي محمول على المصلى لخبر أبي سعيد الخدري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين انتهى. قلت: حديث أبي سعيد هذا أخرجه ابن ماجه. وقد حسن الحافظ ابن حجر إسناده في فتح الباري، وقال صححه الحاكم. وقال الشوكاني في النيل بعد نقل تحسين الحافظ وتصحيح الحاكم ما لفظه: في إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه مقال انتهى.(3/88)
"قال" : وفي الباب عن عبد الله بن عمر، وأبي سعيدٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابن عباسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ عليه عِندَ بعض أهل العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم وبه يقولُ الشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ
ـــــــ
قلت: قال الذهبي في الميزان بعد ذكر ما فيه من كلام أئمة الجرح والتعديل مالفظه: حديثه في مرتبة الحسن. وقال محمد بن عثمان العبسي الحافظ: سألت علي بن المديني عنه فقال كان ضعيفاً، وقال البخاري في تاريخه: كان أحمد وإسحاق يحتجبان به انتهى. وقال الخزرجي في الخلاصة: قال الترمذي: صدوق سمعت محمداً يقول: كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل انتهى. فالظاهر ما قال الذهبي من أن حديث عبد الله بن محمد بن عقيل في مرتبة الحسن والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي سعيد" أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه ابن ماجه بنحو حديث ابن عباس المذكور. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أيضاً ابن ماجه وقد تقدم ذكره آنفاً، وفي الباب أيضاً عن علي عند البزار وعن ابن مسعود عند الطبراني في الكبير بلفظ: ليس من السنة الصلاة قبل خروج الإمام يوم العيد، ورجاله ثقات. وعن كعب بن عجرة عند الطبراني في الكبير أيضاً. وعن ابن أبي أوفى عنده فيه أيضاً. وقد ذكر الشوكاني في النيل أحاديث هؤلاء مع الكلام عليها.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة كذا في المنتفى.
قوله: "والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق" قال ابن قدامة: وهو مذهب ابن عباس وابن عمر. قال: وروي ذلك عن علي وابن مسعود وحذيفة وبريدة وسلمة بن الأكوع وجابر وابن أبي أوفى، وقال به شريح وعبد الله بن مغفل ومسروق والضحاك والقاسم وسالم ومعمر وابن جريج والشعبي ومالك، وروي(3/89)
وقد رَأى طائفةٌ مِن أهِل العلمِ الصّلاةِ بعدَ صلاة العيدينِ وقبلَها مِن أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم والقولُ الأوّلُ أَصَحُ.
536 ـ حدثنا أبو عمّار الحسينُ بن حُرَيْثٍ حدثنا وكيعٌ عن أبانَ بنِ عبدِ الله البَجَليّ عن أبي بكرِ بن حفصٍ وهو ابن عُمَرَ بن سعدِ بن أبي وقّاصٍ عن ابن عُمَرَ "أنه خرج "في" يومَ عيدٍ فلم يُصَلّ قبْلَها ولا بَعْدها، وذكرَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلَهُ".
قال أبو عيسى: "و" هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
عن مالك أنه قال لا يتطوع في المصلى قبلها ولا بعدها، وله في المسجد روايتان، وقال الزهري: لم أسمع أحداً من عليائنا يذكر أن أحداً من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها. قال ابن قدامة: وهو إجماع كما ذكرنا عن الزهري وعن غيره انتهى كذا في النيل.
قلت: يرد دعوى الإجماع ما حكى الترمذي بقوله: "وقد رأى طائفة من أهل العلم الصلاة بعد صلاة العيدين وقبلها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم" روى ذلك العراقي عن أنس بن مالك وبريدة بن الحصيب ورافع بن خديج وسهل بن سعد وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي برزة. قال: وبه قال من التابعين إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير والأسود بن يزيد والحسن البصري وأخوه سعيد بن أبي الحسن وسعيد بن المسيب وصفوان بن محرز وعبد الرحمَن بن أبي ليلى وعروة بن الزبير وعلقمة والقاسم بن محمد ومحمد بن سيرين ومكحول وأبو بردة، ثم ذكر من روى ذلك عن الصحابة المذكورين من أئمة الحديث، قال: وأما أقوال التابعين فرواها ابن أبي شيبة وبعضها في المعرفة للبيهقي "والقول الأول أصح" فإنه يدل عليه أحاديث الباب. وروى أحمد من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: لا صلاة يوم العيد قبلها ولا بعدها. قال الشوكاني في النيل: إن صح هذا كان دليلاً على المنع مطلقاً لأنه نفى في قوة النهي. وقد سكت عليه الحافظ فينظر فيه انتهى. قلت: ويؤيده حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال:(3/90)
ـــــــ
ليس من السنة الصلاة قبل خروج الإمام يوم العيد، رواه الطبراني في الكبير. قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد. رجاله ثقات(3/91)
383 ـ باب في خرُوجِ النّسَاءِ في العيدَين
537 ـ حدثنا أحمدُ بن مَنيعٍ، حدثنا هُشيمٌ، أخبرنا منصورٌ وهو ابنُ زَاذَانَ عن ابْنِ سيرينَ عن أُمّ عَطِيّةَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُخْرِجُ الأبكارَ والعواتِقَ وذَواتِ الخُدُورِ والحُيّضَ في العيدَيْنِ، فأما الحُيّض فَيعْتَزِلْنَ المُصَلّى ويشهدْنَ دَعْوةَ المسلمينَ، قالت إحْدَاهُنّ: يا رسول الله إنْ لَمْ يَكُنْ لها جِلبَابٌ؟
ـــــــ
باب في خرُوجِ النّسَاءِ في العيدَين
قوله: "كان يخرج الأبكار" جمع البكر. قال في القاموس: البكر بالكسر العذراء جمعه أبكار "والعواتق" جمع عاتق وهي المرأة الشابة أول ما تدرك، وقيل هي التي لم تبن من والديها ولم تتزوج بعد إدراكها، وقيل هي التي قاربت البلوغ. وقال ابن السكيت: هي ما بين أن تدرك إلى أن تعنس ولم تزوج كذا في قوت المغتذى. وقال الحافظ في الفتح: وهي من بلغت الحلم أو قاربت واستحقت التزويج، أو هي الكريمة على أهلها، أو التي عتقت عن الامتهان في الخروج للخدمة، قال: وبين العاتق والبكر عموم وخصوص وجهي انتهى. "وذوات الخدور" جمع الخدر قال الجزري في النهاية: الخدر ناحية في البيت يترك عليها ستر فتكون فيه الجارية البكر انتهى "والحيض" بضم الحاء وتشديد التحتية المفتوحة جمع حائض "فيعتزلن المصلى" هو خبر بمعنى الأمر قال في الفتح: حملة الجمهور على الندب لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الحيض من دخوله. وقال ابن المنير: الحكمة في اعتزالهن أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار استهانة بالحال فاستحب لهن اجتناب ذلك "ويشهدن" أي يحضرن "إن لم يكن لها جلباب" بكسر الجيم قال الجزري: الجلباب الإزار والرداء، وقيل الملحفة،(3/91)
قال: فلْتُعرها أُخْتُها مِن جلابيبِها.
538 ـ حدثنا أحمدُ بن مَنيعٍ، حدثنا هُشَيمٌ عن هِشامِ بن حَسّانَ عن حفصةَ بنتِ سِيرينَ عن أُمّ عَطِيّةَ بنحوِه.
: وفي البابِ عن ابنِ عَبّاسٍ وجابرٍ.
ـــــــ
وقيل هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها جمعه جلابيب انتهى. وقال في القاموس: الجلباب كسرداب وسنمار القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة أو ما يغطي به ثيابها من فوق كالملحفة أو هو الخمار انتهى. "فلتعرها" من الإعارة "أختها" أي صاحبتها "من جلبابها" أي فلتعرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه، وفي رواية الشيخين: لتلبسها صاحبتها من جلباها. قال الحافظ: يحتمل أن يكون للجنس أي تعيرها من جنس ثيابها، ويؤيده رواية ابن خزيمة من جلابيبها وللترمذي: فلتعرها أختها من جلابيبها، ويحتمل أن يكون المراد تشركها معها في ثوبها، ويؤيدها رواية أبي داود: تلبسها صاحبتها طائفة من ثوبها يعني إذا كان واسعاً. ويحتمل أن يكون المراد بقوله ثوبها جنس الثياب فيرجع للأول. ويؤخذ منه جواز اشتمال المرأتين في ثوب واحد عند التستر وقيل إنه ذكر على سبيل المبالغة أي يخرجن على كل حال ولو اثنتين في جلباب انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وجابر" أما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج بناته ونساءه في العيدين، وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وهو مختلف فيه، وقد رواه الطبراني من وجه آخر. وأما حديث جابر فأخرجه أحمد بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في العيدين ويخرج أهله، وفي إسناده الحجاج المذكور. وفي الباب أيضاً عن ابن عمر عند الطبراني في الكبير وعن ابن عمرو بن العاص عنده أيضاً وعن عائشة عند ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد في المسند ولعائشة حديث آخر عند الطبراني في الأوسط وعن عمرة أخت عبد الله بن رواحة عند أحمد وأبي يعلى والطبراني في الكبير، وقد ذكر الشوكاني أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم في النيل.(3/92)
قال أبو عيسى: حديثُ أمّ عَطِيّةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد ذَهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى هذا الحديثِ، وَرَخّصَ للنساءِ في الخروجِ إلى العيدَينِ، وكَرِهَهُ بعضُهم.
وَرُوِيَ عن "عبد الله" بنِ المباركِ أنه قال: أكرَهُ اليومَ الخروجَ للنساءِ في العيدَينِ، فإِن أَبَتِ المرأةُ إلاّ أَنْ تخْرُجَ فَلْيَأْذَنْ لها زوجُها أن تَخْرُجَ في أَطْمارِها "الخُلْقَانِ" ولا تَتَزَيّنْ، فان أَبَتْ أَن تَخْرُجَ كذلكَ فللزوجِ أن يمنعَها عن الخروجِ.
ـــــــ
قوله: "حديث أم عطية حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث ورخص للنساء في الخروج إلى العيدين" واحتجوا بأحاديث الباب فإنها قاضية بمشروعية خروج النساء في العيدين إلى المصلى من غير فرق بين البكر والثيب والشابة والعجوز والحائض وغيرها "وروي عن ابن المبارك أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين إلخ". قال الشوكاني في النيل: إختلف العلماء في خروج النساء إلى العيدين على أقوال: إحداها أن ذلك مستحب، وحملوا الأمر فيه على الندب، ولم يفرقوا بين الشابة والعجوز، وهذا قول أبي حامد من الحنابلة والجرجاني من الشافعية وهو ظاهر إطلاق الشافعي. والقول الثاني التفرقة بين الشابة والعجوز. قال العراقي: وهو الذي عليه جمهور الشافعية تبعا لنص الشافعي في المختصر. والقول الثالث أنه جائز غير مستحب لهن مطلقاً، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد فيما نقله عنه ابن قدامة والرابع أنه مكروه وقد حكاه الترمذي عن الثوري وابن المبارك، وهو قول مالك وأبي يوسف وحكاه ابن قدامة عن النخعي ويحيى بن سعيد الأنصاري، وروى ابن أبي شيبة عن النخعي أنه كره للشابة أن تخرج إلى العيد. والقول الخامس أنه حق على النساء الخروج إلى العيد، حكاه القاضي عياض عن أبي بكر وعلي وابن عمر. وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي بكر وعلي أنهما قالا: حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين انتهى. والقول بكراهة الخروج على الاطلاق رد للأحاديث الصحيحة بالاَراء الفاسدة وتخصيص الثواب يأباه صريح الحديث المتفق عليه وغيره انتهى كلام الشوكاني "في أطمارها" جمع طمر بالكسر وسكون(3/93)
وَيُرْوَى عن عائشةَ "رضي الله عنها" قالت: لو رأَى رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم ما أحدث النساء لَمَنَعَهُنّ المسجدَ كما مُنِعَتْ نساءُ بني إسرائيل.
ـــــــ
الميم الثوب الخلق أو الكساء البالي من غير الصوف قاله في القاموس "ويروى عن عائشة قالت: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء أخرجه الشيخان، واستدل بهذا على منع خروج النساء إلى العيدين والمسجد مطلقاً". ورد بأنه لا يترتب على ذلك تغير الحكم لأنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنته فقالت: لو رأى لمنع، فيقال عليه لم ير ولم يمنع فاستمر الحكم حتى إن عائشة لم تصرح بالمنع، وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع.
وأيضاً فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى.
وأيضاً فالإحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت، قال الحافظ في الفتح: وقال فيه: والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بمنع التطيب والزينة وكذلك التقييد بالليل. وقال في شرح حديث أم عطية في باب إذا لم يكن لها جلباب من أبواب العيدين: وقد ادعى بعضهم النسخ فيه. قال الطحاوي وأمره عليه السلام بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد يحتمل أن يكون في أول الإسلام والمسلمون قليل فأريد التكثير بحضورهن إرهاباً للعدو. وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك.
وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. قال الكرماني: تاريخ الوقت لا يعرف، قال الحافظ بل هو معروف بدلالة حديث ابن عباس أنه شهده وهو صغير وكان ذلك بعد فتح مكة، فلم يتم مراد الطحاوي، وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم وهو شهودهن الخير ودعوة المسلمين ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة كما في هذا الحديث ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك. قال: والأولى أن يخص بمن بؤمن عليها وبها الفتنة ولا يترتب على حضورها محذور ولا تزاحمها الرجال(3/94)
ويروى عن سفيان الثوري أنه كره اليوم الخروج للنساء إلى العيد
ـــــــ
في الطرق ولا في المجامع انتهى كلام الحافظ باختصار "ويروي عن سفيان الثوري أنه كره اليوم الخروج للنساء إلى العيد" وهو قول الحنفية في حق الشواب، وأما العجائز فقد جوز الشيخ ابن الهمام وغيره خروجهن إلى العيد. قال ابن الهمام: وتخرج العجائز للعيد لا الشواب انتهى. قال القاري في المرقاة بعد نقل كلام ابن الهمام هذا ما لفظه: وهو قول عدل لكن لا بد أن يقيد بأن تكون غير مشتهاة في ثياب بذلة بإذن حليلها مع الأمن من المفسدة بأن لا يختلطن بالرجال أو يكن خاليات من الحلي والحلل والبخور والشموم والتبختر والتكشف ونحوها مما أحدثن في هذا الزمان من المفاسد. وقد قال أبو حنيفة: ملازمات البيوت لا يخرجن انتهى.
قلت: لا دليل على منع الخروج إلى العيد للشواب مع الأمن من المفاسد مما أحدثن في هذا الزمان بل هو مشروع لهن وهو القول الراجح كما عرفت والله تعالى أعلم(3/95)
باب ما جاء في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغيد في الطريق ورجوعه من طريق آخر
...
384 ـ باب ما جَاء في خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى العيدِ في طريقٍ ورجُوعِه من "طريقٍ" آخر
539 ـ حدثنا عبدُ الأعْلَى بن وَاصِلِ "بن عبدِ الأعْلَى" الكوفيّ و أَبو زُرْعَةَ قالا: حدثنا محَمّدُ بن الصَلتِ عن فُلَيحِ بنِ سليمانَ عن سعيدِ بن الحارثِ عن أبي هريرةَ قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجَ يومَ العيدِ في طريقٍ رَجَعَ في غيرهِ".
ـــــــ
. باب ما جَاء في خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى العيدِ في طريقٍ
قوله: "إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره"، وفي رواية أحمد: إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي خرج فيه.(3/95)
وفي البابِ عن عبدِ الله بن عُمَر وَأبي رافعٍ.
قال أبو عيسى: "و" حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وَرَوَى أَبو تُمَيْلَةَ ويونسُ بن محّمدٍ هذا الحديثَ عن فُلَيحِ بن سليمانَ عن سعيدِ بن الحارثِ عن جابرِ بن عبدِ الله.
"قال" : وقد استحبّ بعضُ أهلِ العلمِ للإمامِ إذا خرجَ في طريقٍ أنْ يرجعَ في غيرِه إتّباعاً لهذا الحديثِ. وهو قولُ الشافعيّ
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمر" أخرجه أبو داود وابن ماجه ورجال اسناد ابن ماجه ثقات، وفي إسناد أبي داود عبد الله بن عمر العمري وفيه مقال "وأبي رافع" أخرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف، وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الشوكاني في النيل.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن"، وأخرجه أحمد والدارمي وابن حبان والحاكم وعزاه صاحب المنتقى إلى مسلم، ولم أر حديث أبي هريرة هذا في صحيح مسلم.
قوله: "روى أبو تميلة" بضم المثناة من فوق مصغراً اسمه يحيى بن واضح، وحديث جابر من هذا الطريق أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق.
قوله: "قد استحب بعض أهل العلم للإمام إذا خرج في طريق أن يرجع في غيره اتباعاً لهذا الحديث"، قال أبو الطيب السندي: الظاهر أنه تشريع عام فيكون مستحباً لكل أحد ولا تخصيص بالإمام إلا إذا ظهر أنه لمصلحة مخصوصة بالأئمة فقط وهو بعيد لأن فعله ما كان لكونه مشرعاً انتهى "وهو قول الشافعي" قال الحافظ في الفتح بعد نقل كلام الترمذي هذا ما لفظه، والذي في الأم أنه يستحب للإمام والمأموم وبه قال أكثر الشافعية، وقال الرافعي: لم يتعرض في الوجيز إلا للإمام انتهى. وبالتعميم قال أكثر أهل العلم انتهى. قلت: وبالتعميم قال الحنفية أيضاً. وقد اختلف في الحكمة في مخالفته صلى الله عليه وسلم الطريق(3/96)
"وحديثُ جَابرٍ كأَنّهُ أَصَحّ"
ـــــــ
في الذهاب والرجوع يوم العيد على أقوال كثيرة، قال الحافظ: اجتمع لي منها أكثر من عشرين قولاً، قال القاضي عبد الوهاب المالكي: ذكر في ذلك فوائد بعضها قريب وأكثرها دعاوي فارغة، فقيل إنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان، وقيل سكانهما من الجن والإنس. وقيل ليسوى بينهما في مزية الفضل بمروره أو في التبرك به أو ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها لأنه كان معروفاً بذلك، وقيل ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل ليصل رحمه، وقيل ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضا، وقيل لإظهار شعار الإسلام فيهما وقيل لإظهار ذكر الله، وقيل ليغيظ المنافقين أو اليهود، وقيل ليرهبهم بكثرة من معه، وقيل فعل ذلك ليعمهم في السرور به أو التبرك بمروره وبرؤيته والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعلم والاقتداء والاسترشاد أو الصدقة أو السلام عليهم وغير ذلك، وقيل لأن الملائكة تقف في الطرقات فأراد أن يشهد له فريقان منهم، وقيل لئلا يكثر الازدحام، وقيل لأن عدم التكرار أنشط عند طباع الأنام، وقيل غير ذلك، وأشار صاحب الهدى إلى أنه فعل ذلك لجميع ما ذكر من الأشياء المحتملة القريبة.
قوله: "وحديث جابر كأنه أصح" أي من حديث أبي هريرة قال الحافظ في الفتح: والذي يغلب على الظن أن الاختلاف فيه من فليح فلعل شيخه سمعه جابر ومن أبي هريرة ويقوي ذلك اختلاف اللفظين، وقد رجح البخاري أنه عن جابر وخالفه أبو مسعود والبيهقي فرجحا أنه عن أبي هريرة ولم يظهر لي في ذلك ترجيح انتهى كلام الحافظ(3/97)
باب في الأكل يوم الفطر قبل الخروج
...
385ـ باب "ما جاء" في الأكْلِ يومَ الفِطْرِ قَبلَ الخرُوج
540 ـ حدثنا الحسنُ بن الصَبّاحِ البَزّارُ البغدادي، حدثنا عبدُ الصّمَدِ بن عبدِ الوارثِ عن ثَوَابِ بن عُتْبةَ عن عبدِ الله بن بُرَيْدَةَ عن أَبيهِ قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخرجُ يومَ الفطرِ حتى يَطْعمَ، ولاَ يَطْعَمُ يومَ الأضْحَى حتى يُصَلّيَ".
"قال" : وفي الباب عن علي وأَنِسٍ.
ـــــــ
باب ما جاء في الأكل يوم الفطر قبل الخروج
قوله: "عن ثواب بن عتبة" بفتح المثلثة وتخفيف الواو وآخره موحدة، ليس له عند المصنف إلا هذا الحديث وليس له في بقية الكتب شيء قاله السيوطي، وقال الحافظ في التقريب: مقبول من السادسة.
قوله: "حتى يطعم" بفتح العين أي يأكل. قال المهلب بن أبي صفرة: إنما يأكل يوم الفطر قبل الغدو إلى الصلاة، لئلا يظن ظان أن الصيام يلزم يوم الفطر إلى أن يصلي صلاة العيد، وهذا المعنى معدوم في يوم الأضحى. وقال ابن قدامة. الحكمة في ذلك أن يوم الفطر حرم فيه للصيام عقب وجوبه فاستحب تعجيل الفطر لإظهار المبادرة إلى طاعة الله وامتثال أمره في الفطر على خلاف العادة، والأضحى بخلافه على ما فيه من استحباب الفطر على شيء من أضحيته كذا في قوت المغتذي "ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي" وفي رواية ابن ماجه: حتى يرجع، وزاد أحمد: فيأكل من أضحيته، ورواه أبو بكر الأثرم بلفظ: حتى يضحي، كذا في المنتقى والنيل. وفي رواية البيهقي: فيأكل من كبد أضحيته، كذا في عمدة القاري، ورواه الدارقطني في سننه وزاد: حتى يرجع فيأكل من أضحيته، وهي زيادة صحيحة صححها ابن القطان كما في نصب الراية.
قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه الترمذي وابن ماجه وفي إسناده الحارث الأعور كذبه الشعبي وأبو إسحاق السبيعي، وعلي بن المديني "وأنس" أخرجه(3/98)
قال أبو عيسى: حديثُ بُرَيْدَةَ بنِ حُصَيْبٍ الأسلَمِيّ حديثٌ غريبٌ. وقال محّمدٌ: لا أَعرفُ لَثَوابِ بن عُتْبَةَ غيرَ هذا الحدِيثِ.
وقد استَحبّ قومٌ مِن أَهلِ العلمِ أَن لا يَخْرُجَ يَوْمَ الفِطْرِ حتى يَطْعَمَ شيئاً. ويُسْتَحبّ له أَن يُفْطِرَ على تَمْرٍ ولا يطْعَمُ يومَ الأضحى حتى يَرجِعَ.
ـــــــ
البخاري بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ، قال الحافظ في بلوغ المرام وفي رواية معلقة ووصلها أحمد: ويأكلهن أفراداً.
قوله: "حديث بريدة بن خصيب" بضم الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة وسكون التحتية وآخره موحدة "الأسلمي حديث غريب" وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان كذا في البلوغ. وقال في النيل: وأخرجه أيضاً ابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان انتهى.
قوله: "وقد استحب قوم من أهل العلم أن لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم شيئاً، ويستحب له أن يفطر على تمر" قال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل يوم الفطر اختلافاً انتهى. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود التخيير فيه، وعن النخعي أيضاً مثله. والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعلو به المنام وهو أيسر من غيره، ومن ثم استحب بعض التابعين أنه يفطر على الحلو مطلقاً كالعسل رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما، وروى فيه معنى آخر عن ابن عون أنه سئل عن ذلك فقال: إنه يحبس البول، هذا كله في حق من يقدر على ذلك وإلا فينبغي أن يفطر ولو على الماء ليحصل له شبه من الاتباع، أشار إليه ابن أبي جمرة. وأما جعلهن وتراً فقال المهلب فللإشارة إلى وحدانية الله تعالى، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يفعل في جميع أموره تبركاً بذلك كذا في الفتح "ولا يطعم يوم الأضحى حتى يرجع" أي فيأكل من أضحيته إن كان له أضحية كما في رواية أحمد. وقد خصص أحمد بن حنبل استحباب تأخير الأكل في عيد الأضحى بمن له ذبح، والحكمة في تأخير الفطر في يوم الأضحى أنه(3/99)
541 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا هشيمٌ عن محمدِ بنِ إسحاقَ عن حفصِ بنِ عُبَيْدِ الله بن أنَسٍ عن أنَسٍ بن مالكٍ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُفْطِرُ على تَمْرَاتٍ يومَ الفِطرِ قبل أن يخرجَ إلى المصَلّى".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح غريبٌ.
ـــــــ
يوم تشرع فيه الأضحية والأكل منها فشرع له أن يكون فطره على شيء منها قاله ابن قدامة. قال الزين بن المنير: وقع أكله صلى الله عليه وسلم في كل من العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها.
قوله: "كان يفطر على تمرات الخ" وفي رواية لابن حبان والحاكم بلفظ: ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أقل من ذلك أو أكثر وتراً كذا في الفتح وعن جابر بن سمرة عند البزار في مسنده قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الفطر أكل قبل أن يخرج سبع تمرات، وإذا كان يوم الأضحى لم يطعم شيئاً، وفي إسناده ناصح أبو عبد الله وهو ضعيف.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه البخاري في صحيحه من طريق هشيم عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس بن مالك(3/100)
386 ـ أبواب السفر
ـ باب التقْصِيرِ فِي السّفَر
542 ـ حدثنا عبدُ الوهابِ "بنُ عبدِ الحكَمِ" الوَرّاقُ البَغدادِي
ـــــــ
ابواب السفر
باب التقصير في السفر
قوله: "حدثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق البغدادي" صاحب أحمد روى عن يحيى بن سعيد الأموي ومعاذ بن معاذ، وعنه أبو داود والترمذي(3/100)
وأخبرنا يحيى بن سُلَيْم عن عُبَيْدِ الله عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ قال: سَافَرْتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعُمَر وعثمانَ فكانوا يُصَلّونَ الظهرَ والعصْرَ رَكْعَتَيْن رَكْعَتَيْنِ لا يُصَلّونَ قبلَها ولا بعدَها وقال عبد الله: لو كنتُ
ـــــــ
والنسائي. قال أحمد: قل من يرى مثله، وثقه النسائي والدارقطني توفي سنة 251 إحدى وخمسين ومائتين "أخبرنا يحيى بن سليم" بالتصغير الطائفي القرشي مولاهم المكي الخراز بمعجمة ثم مهملة وثقه ابن معين وابن سعد والنسائي إلا في عبيد الله بن عمر، وقال أبو حاتم: محله الصدق ولم يكن بالحافظ ولا يحتج به، قال الخزرجي: احتج به الأئمة الستة، وقال الحافظ في مقدمة فتح الباري: وقال النسائي ليس به بأس وهو منكر الحديث عن عبيد الله بن عمر وقال الساجي: أخطأ في أحاديث رواها عن عبيد الله بن عمر. قال الحافظ: لم يخرج له الشيخان من روايته عن عبيد الله بن عمر شيئاً انتهى "عن عبيد الله" هو ابن عمر العمري من الثقات الأثبات.
قوله: "فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين" وفي رواية الشيخين قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك وفي رواية لمسلم: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل. وظاهر هذه الرواية وكذا الرواية التي ذكرها الترمذي أن عثمان لم يصل في السفر تماماً، وفي رواية لمسلم عن ابن عمر أنه قال: ومع عثمان صدراً من خلافته ثم أتم، وفي رواية: ثمان سنين أو ست سنين. قال النووي: وهذا هو المشهور أن عثمان أتم بعد ست سنين من خلافته وتأول العلماء هذه الرواية بأن عثمان لم يزد على ركعتين حتى قبضه الله في غير منى. والرواية المشهورة بإتمام عثمان بعد صدر من خلافته محمولة على الإتمام بمنى خاصة وقد صرح في رواية بأن إتمام عثمان كان بمنى. وفي الصحيحين أن عبد الرحمَن بن يزيد قال: صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين(3/101)
مُصَلّياً قبْلَها أو بعدَها لأتمَمْتُهَا.
"قال" : وفي الباب عن عُمَر وعلي وابنِ عباسٍ وأنَسٍ وعِمْرَانَ بن حُصَينٍ وعائشةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَر حديثٌ "حسنٌ" غريبٌ لا نعرِفُهُ إلا من حديثِ يحيى بن سُلَيْمٍ مثلَ هذا.
ـــــــ
، وصليت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعتان متقبلتان.
واعلم أن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضاً كانت تتم في السفر وسيأتي ذكر سبب إتمامها "لا يصلون قبلها ولا بعدها" أي لا يصلون السنن الرواتب قبلها ولا بعدها، وليس المراد به نفي التطوع في السفر مطلقاً. وسيجيء تحقيق هذه المسألة في باب التطوع في السفر "لو كنت مصلياً" أي رواتب "قبلها أو بعدها لأتممتها" قال الحافظ في الفتح: يعني أنه لو كان مخيراً بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلي الراتبة ولا يتم انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عمر وعلي وابن عباس وأنس وعمران بن حصين وعائشة" أما حديث عمر فأخرجه مسلم. وأما حديث على فأخرجه البزار قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ركعتين إلا المغرب ثلاثاً، وصليت معه في السفر ركعتين إلا المغرب ثلاثا. قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: في سنده الحارث وهو ضعيف. وأما حديث ابن عباس فأخرجه مسلم. وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان. وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه أبو داود. وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى ابن سليم مثل هذا" وقد عرفت ترجمة يحيى بن سليم، وأصل هذا الحديث في الصحيحين كما عرفته أيضاً.(3/102)
قال مُحَمدُ بن إسماعيلَ: وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن عُبَيْدِ الله بن عُمَر عن رجلٍ من آلِ سُرَاقَةَ عن عبدالله بن عُمَر.
قال أبو عيسى: وقد رُوِيَ عن عطيةَ العَوْفِيّ عن ابنِ عُمَرَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَتَطَوّعُ في السّفَرِ قبَل الصلاةِ وبعدَها وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يَقْصُرُ في السفَرِ وأبو بكرٍ وعُمَرُ وعثمانُ صَدْراً من خلافتِهِ.
والعملُ على هذا عندَ أكثرِ أهلِ العلْمِ مِن أَصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيِرِهِمْ.
وقد رُوِيَ عن عائشَةَ أنها كانتْ تُتِمّ الصلاةَ في السّفرِ.
والعملُ على ما رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ
ـــــــ
قوله: "وقد روى عن عطية العوفي عن ابن عمر الخ" أخرجه الترمذي في باب التطوع في السفر.
قوله: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم" وهو القول الراجح المعول عليه "وقد روي عن عائشة أنها كانت تتم الصلاة في السفر" أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: الصلاة أول ما فرضت ركعتان فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: فما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت ما تأول عثمان. قال الحافظ في فتح الباري: قد جاء عنها سبب الإتمام صريحاً وهو فيما أخرجه البيهقي من طريق هشام بن عروة عن أبيه: أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليت ركعتين؟ فقالت يا ابن أختي إنه لا يشق علي، إسناده صحيح وهو دال على أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل انتهى كلام الحافظ.(3/103)
وهو قولُ الشافعيّ وأحمدَ وإسحاقَ إلا أن الشافعيّ يقولُ: التّقْصِيرُ رُخْصَةٌ "له" في السفرِ، فإِن أَتَمّ الصلاةَ أَجْزَأَ عنه
ـــــــ
قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق إلا أن الشافعي يقول التقصير رخصة له في السفر فإن أتم الصلاة أجزأ عنه". قد اختلف أهل العلم هل القصر واجب أو رخصة والتمام أفضل؟ فذهب إلى الأول الحنفية، وروي عن علي وعمر ونسبه النووي إلى كثير من أهل العلم. قال الخطابي في المعالم: كان مذهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن القصر هو الواجب في السفر وهو قول علي وعمر وابن عمر وابن عباس، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن، وقال حماد بن سليمان: يعيد من يصلي في السفر أربعاً، وقال مالك: يعيد ما دام في الوقت انتهى، وذهب إلى الثاني الشافعي ومالك وأحمد قال النووي: وأكثر العلماء، وروي عن عائشة وعثمان وابن عباس. قال ابن المنذر: وقد أجمعوا على أنه لا يقصر في الصبح ولا في المغرب.
واحتج القائلون بوجوب القصر بحجج منها: ملازمته صلى الله عليه وسلم للقصر في جميع أسفاره، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم بحديث صحيح أنه أتم الرباعية في السفر البتة. كما قال ابن القيم. وأما حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم رواه الدارقطني فهو حديث فيه كلام لا يصلح للاحتجاج وإن صحح الدارقطني إسناده، وكذا حديثها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت بأبي وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت، فقال أحسنت يا عائشة. رواه الدارقطني، لا يصلح للاحتجاج وإن حسن الدارقطني إسناده. وقد بين الشوكاني في النيل عدم صلاحيتهما للاحتجاج في النيل بالبسط، من شاء الوقوف عليه فليرجع إليه.
ويجاب عن هذه الحجة بأن مجرد الملازمة لا يدل على الوجوب كما ذهب إلى ذلك جمهور أئمة الأصول وغيرهم.(3/104)
ـــــــ
ومنها حديث عائشة المتفق عليه بألفاظ منها: فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر، قالوا هو دليل ناهض على الوجوب لأن صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها، كما أنها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر.
ويجاب عنه بأنه من قول عائشة غير مرفوع وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة. وفي هذا الجواب نظر أما أولاً فهو مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع، وأما ثانياً فعلى تقدير تسليم أنها لم تدرك القصة مرسل صحابي وهو حجة.
وبجاب أيضاً بأنه ليس هو على ظاهره فإنه لو كان على ظاهره لما أتمت عائشة حديث ابن عباس أنه قال: إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم، على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعاً والخوف ركعة أخرجه مسلم قالوا: هذا الصحابي الجليل قد حكى عن الله تعالى أنه فرض صلاة السفر ركعتين وهو أتقى لله وأخشى من أن يحكى أن الله فرض ذلك بلا برهان.
ومنها حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام من غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه قال في النيل: رجاله رجال الصحيح إلا يزيد بن زياد بن أبي الجعد وقد وثقه أحمد وابن معين. قال ابن القيم في الهدى: هو ثابت عنه.
واحتج القائلون بأن القصر رخصة والتمام أفضل بحجج منها: قول الله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} ونفي الجناح لا يدل على العزيمة بل على الرخصة وعلى أن الأصل التمام والقصر إنما يكون من شيء أطول منه.
وأجيب بأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف لا في قصر العدد لما علم من تقدم شرعية قصر العدد.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"، أخرجه الجماعة إلا البخاري. قالوا: الظاهر من قوله صدقة أن القصر رخصة فقط.(3/105)
543ـ حدثنا أَحمدُ بن مَنِيِعٍ حدثنا هُشَيْمٌ أخبرنا عليّ بن زَيْدِ بنِ جُدعَان "القرشي" عن أبي نَضْرةَ قال: سُئِل عِمْرانُ بنُ حُصينٍ عن صَلاةِ المسافِرِ فقال: حَجَجْتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فصلّى ركعَتيْنِ، وحَجَجْتُ
ـــــــ
وأجيب بأن الأمر بقبولها يدل على أنها لا محيص عنها وهو المطلوب.
ومنها: ما في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم القاصر ومنهم المتم، ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض، كذا قال النووي في شرح مسلم قال الشوكاني في النيل: لم نجد في صحيح مسلم قوله: فمنهم القاصر ومنهم المتم، وليس فيه إلا أحاديث الصوم والإفطار انتهى. قلت: لم نجد أيضاً هذا اللفظ في صحيح مسلم. قال: وإذا ثبت ذلك فليس فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وقرره عليهم وقد نادت أقواله وأفعاله بخلاف ذلك.
ومنها: حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم، أخرجه الدارقطني، وقد تقدم وقد عرفت هناك أنه لا يصلح للاحتجاج. هذا كله تلخيص ما ذكره القاضي الشوكاني في النيل مع زيادة واختصار. وقال الشوكاني في آخر كلامه: وهذا النزاع في وجوب القصر وعدمه، وقد لاح من مجموع ما ذكرنا رجحان القول بالوجوب. وأما دعوى أن التمام أفضل فمدفوعة بملازمته صلى الله عليه وسلم في جميع أسفاره وعدم صدور التمام عنه، ويبعد أن يلازم صلى الله عليه وسلم طول عمره المفضول ويدع الأفضل انتهى.
قلت: من شأن متبعي السنن النبوية ومقتفي الآثار المصطفوية أن يلازموا القصر في السفر كما لازمه صلى الله عليه وسلم ولو كان القصر غير واجب فاتباع السنة في القصر في السفر هو المتعين. ولا حاجة لهم أن يتموا في السفر ويتأولوا كما تأولت عائشة وتأول عثمان رضي الله عنهما. هذا ما عندي والله تعالى أعلم.(3/106)
مع أبي بكرٍ فصلّى ركعَتيْنِ، ومع عُمَر فصلّى ركعَتيْنِ، ومع عثمانَ سِتّ سِنِينَ مِن خِلاَفَتِهِ أو ثمانِي سنينَ فصلّى ركعَتيْنِ"
ـــــــ
قوله: "ومع عثمان ست سنين من خلافته أو ثمان سنين فصلى ركعتين"، وفي حديث ابن عمر عند مسلم: ثم إن عثمان صلى بعد أربعاً، وعند البخاري ثم أتمها. قال الحافظ في الفتح: والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصاً بمن كان شاخصاً سائراً. وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجاً صلى بنا الظهر ركعتين بمكة ثم انصرف إلى دار الندوة فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا: لقد عبت أمر ابن عمك لأنه كان قد أتم الصلاة. قال: وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعاً أربعاً، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة.
وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته فأخذا لأنفسهما بالشدة انتهى. وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي، لكن الوجه الذي قبله أولى لتصريح الراوي بالسبب انتهى كلام الحافظ وذكر سبباً آخر فقال: روى الطحاوي وغيره عن الزهري قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعاً لأن الأعراب كانوا أكثروا في ذلك العام فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع، وروى البيهقي من طريق عبد الرحمَن بن حميد بن عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى ثم خطب فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ولكنه حدث طغام يعني بفتح الطاء والمعجمة فخفت أن يستنوا، وعن ابن جريج أن أعرابياً ناداه في منى: يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين، وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارضة للوجه الذي اخترته بل يقويه من حيث أن حالة الإقامة في أثناء السفر(3/107)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
544 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن محمدِ بنِ المنْكَدِرِ و إبراهيم بنِ مَيَسرةَ سَمِعَا أنَسَ بنَ مالكٍ قال: صلّيْنَا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الظُهرَ بالمدينَةِ أربعاً، وبذِي الحُلَيْفَةِ العصْرَ رَكعَتيْنِ
ـــــــ
أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر، وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان انتهى.
واعلم أنه قد ذكر لإتمام عثمان الصلاة في منى أسباب أخرى ولم أتعرض لذكرها فإنها لا دليل عليها بل هي ظنون ممن قالها.
قوله: "هذا حديث صحيح" في إسناده علي بن زيد بن جدعان، قال الحافظ في التقريب: ضعيف، وقال في التلخيص: حسنه الترمذي وعلي ضعيف انتهى.
قلت: علي بن زيد بن جدعان عند الترمذي صدوق كما في الميزان وغيره فلأجل ذلك حسنه وصححه على أن لهذا الحديث شواهد، وكم من حديث ضعيف قد حسنه الترمذي لشواهده.
قوله: "وإبراهيم بن ميسرة" الطائفي نزيل مكة ثبت حافظ.
قوله: "صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً" أي في اليوم الذي أراد فيه الخروج إلى مكة للحج أو العمرة "وبذي الحليفة ركعتين" ذو الحليفة بضم الحاء المهملة وفتح اللام موضع على ثلاثة أميال من المدينة على الأصح وهو ميقات أهل المدينة، وإنما صلى بذي الحليفة ركعتين لأنه كان في السفر.
واعلم أنه لا يجوز القصر إلا بعد مفارقة بنيان البلد عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد ورواية عن مالك، وعنه أنه يقصر إذا كان من المصر على ثلاثة أميال، وقال بعض التابعين إنه يجوز أن يقصر من منزله: وروى ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه أنه خرج من البصرة فصلى الظهر أربعاً ثم قال: إنا لو جاوزنا هذا الخص لصلينا ركعتين. ذكره ابن الهمام، كذا في المرقاة. قلت: وروى عبد الرزاق(3/108)
هذا حديثٌ صحيحٌ.
545 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا هُشَيمٌ عن منصورِ بنِ زاذَانَ عن ابنِ سِيرينَ عن ابنِ عبّاسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم "خرجَ من المدينَةِ إلى مكةَ لا يخَافُ إلاّ الله ربّ العالَمينَ فصلَى ركعتَيْنِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ "حسن" صحيح.
ـــــــ
في مصنفه أخبرنا سفيان الثوري عن داود بن أبي هند أن علياً لما خرج إلى البصرة رأى خصاً فقال لولا هذا الخص لصليت ركعتين، قلت: وما الخص قال بيت من قصب. وذكر البخاري تعليقاً فقال: وخرج علي فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له: هذه الكوفة قال لا حتى ندخلها. وروى أيضاً أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة حين يخرج من شعب المدينة ويقصر إذا رجع حتى يدخلها، كذا في نصب الراية.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين فصلى ركعتين" ، فيه رد على من زعم أن القصر مختص بالخوف، والذي قال ذلك تمسك بقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ولم يأخذ الجمهور بهذا المفهوم فقيل لأن شرط مفهوم المخالفة أن لا يكون خرج مخرج الغالب، وقيل: هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب ثم زال السبب وبقي الحكم كالرمل، وقيل المراد بالقصر في الآية قصر الصلاة بالخوف إلى ركعة وفيه نظر. لما رواه مسلم من طريق يعلى بن(3/109)
ـــــــ
أمية وله صحبة. أنه سأل عمر عن قصر الصلاة في السفر فقال: إنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم. فهذا ظاهر في أن الصحابة فهموا من ذلك قصر الصلاة في السفر مطلقاً لا قصرها في الخوف خاصة، وفي جواب عمر رضي الله عنه إشارة إلى القول الثاني. وروى السراج عن أبي حنظلة قال: سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال: ركعتان، فقلت. إن الله عز وجل قال. "إن خفتم " ونحن آمنون، فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجع القول الثاني، كذا في فتح الباري.
قوله. "هذا حديث صحيح" قال الحافظ في الفتح، وصححه النسائي(3/110)
باب ما جاء في كم التقصير الصلاة
...
387 ـ باب ما جاءَ في كَمْ تُقصَرُ الصّلاة
546 ـ حدثنا أَحمدُ بُن مَنيعٍ، حدثنا هُشَيمٌ، أَخبرنا يَحيَى بنُ أَبي إسحاقَ "الْحضْرمي" حدثنا أَنسُ بنُ مالكٍ قال: "خرجْنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدِينَةِ إلى مَكةَ فصلّى ركعَتيْنِ، قالَ قلتُ لأنسٍ: كَمْ أَقامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكةَ؟ قالَ عشْراً".
ـــــــ
"باب ما جاء في كم تقصر الصلاة"
يريد بيان المدة التي إذا أراد المسافر الإقامة في موضع إلى تلك المدة يتم الصلاة، وإذا أراد الإقامة إلى أقل منها يقصر وقد عقد البخاري في صحيحه باباً بلفظ: باب في كم تقصر الصلاة. لكنه أراد بيان المسافة التي أراد المسافر الوصول إليها جاز له القصر ولا يجوز له في أقل منها
قوله: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة" أي متوجهين إلى مكة لحجة الوداع "فصلى ركعتين " أي في الرباعية، وفي رواية الصحيحين على ما في المشكاة. فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة "قال عشراً" أي أقام بمكة عشراً، قال القاري في المرقاة. الحديث بظاهره ينافي مذهب الشافعي من أنه إذا أقام أربعة أيام يجب الإتمام انتهى.(3/110)
"قال" : وفي الباب عن ابنِ عباسٍ وجابرٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أَنَسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قلت: قد نقل القاري عن ابن حجر الهيثمي ما لفظه: لم يقم العشر التي أقامها لحجة الوداع بموضع واحد، لأنه دخلها يوم الأحد وخرج منها صبيحة الخميس، فأقام بمنى، والجمعة بنمرة وعرفات، ثم عاد السبت بمنى لقضاء نسكه ثم بمكة لطواف الإفاضة ثم بمنى يومه فأقام بها بقيته، والأحد والاثنين والثلاثاء إلى الزوال، ثم نفر فنزل بالمحصب وطاف في ليلته للوداع، ثم رحل قبل صلاة الصبح. لمتفرق إقامته قصر في الكل. وبهذا أخذنا أن للمسافر إذا دخل محلاً أن يقصر فيه ما لم يصر مقيماً أو ينو إقامة أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج أو يقيمها واستدلوا لذلك بخبر الصحيحين، يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً، وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكة ومساكنة الكفار كما روياه أيضاً. فالإذن في الثلاثة يدل على بقاء حكم السفر فيها بخلاف الأربعة انتهى.
وقال الحافظ في فتح الباري: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة كما في حديث ابن عباس، ولا شك أنه خرج صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس رضي الله عنه، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، وقال أحمد. إحدى وعشرين صلاة انتهى كلام الحافظ.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وجابر"، أما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه وأخرجه الترمذي في هذا الباب، وأما حديث جابر فأخرجه أبو داود.
قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح"، وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.(3/111)
وقد رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أَنه أَقامَ في بعضِ أَسْفارِهِ تِسْعَ عَشرَةَ يُصَلّي رَكعَتيْنِ قال ابنُ عباسٍ: فنحنُ إذا أَقَمْنَا ما بينَنَا وبينَ تِسْع عشرةَ صلّينا ركعَتيْنِ وإن زِدْنَا على ذلك أَتْمَمْنَا الصّلاةَ".
وَرُوِيَ عن علي أنّه قال: مَن أَقامَ عَشْرةَ أَيامٍ أَتَمّ الصّلاةَ.
وَرُوِيَ عن ابنِ عُمَر أَنه قال: مَنْ أَقامَ خمسةَ عَشَر يوماً أَتَمّ الصّلاةَ. وَ قد رُوِيَ عنه ثِنْتَيْ عَشْرَةَ.
ـــــــ
قوله: "وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره" أي في فتح مكة، وأما حديث أنس المتقدم فكان في حجة الوداع قاله الحافظ ابن حجر، وحديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري في صحيحه "تسع عشرة يصلي ركعتين"، وفي لفظ للبخاري تسعة عشر يوماً، وفي رواية لأبي داود عن ابن عباس سبع عشرة، وفي أخرى له عنه خمس عشرة، وفي حديث عمران بن حصين. شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثمانية عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول. يا أهل البلد صلوا أربعاً فإنا قوم سفر. رواه أبو داود "قال أبن عباس. فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة"، هذا هو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما، وبه أخذ إسحاق بن راهويه ورآه أقوى المذاهب "وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة"، أخرجه عبد الرزاق بلفظ: إذا أقمت بأرض عشراً فأتمم. فإن قلت أخرج اليوم أو غداً فصل ركعتين. وإن اقمت شهراً "وروي عن ابن عمر أنه قال. من أقام خمسة عشر يوماً أتم الصلاة" أخرجه محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة حدثنا موسى بن مسلم عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال. إذا كنت مسافراً فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يوماً فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فأقصر الصلاة، وأخرج الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوماً أتم الصلاة، وروي عنه ثنتي عشرة، أخرجه عبد الرزاق. كذا في شرح الترمذي لسراج أحمد السرهندي.(3/112)
وَرُوِيَ عن سعيدِ بن المسيّب أَنهُ قال: إذا أَقامَ أَربعاً صلّى أربعاً.
وَرَوَى عند ذلك قَتَادَةُ وعطاءُ الخراسانيّ وَرَوَى عنه داودُ بن أبي هِنْد خِلاَفَ هذا. واخْتَلَفَ أَهلُ العِلم بَعْدُ في ذلك.
فَأَمّا سُفيانُ الثوريّ وأهلُ الكوفِة فذَهبوا إلى تَوْقِيتِ خَمس عَشْرَةَ، وقالوا: إذا أَجْمَع على إقامِة خمس عَشْرَةَ أَتَمّ الصّلاةَ.
وقال الأوزاعيّ: إذا أجْمَعَ على إِقامةِ ثنَتَيْ عَشْرَة أتَمّ الصّلاة.
ـــــــ
"وروى عنه داود بن أبي هند خلاف هذا" روى محمد بن الحسن في الحجج عن سعيد بن المسيب قال. إذا قدمت بلدة فأقمت خمسة عشر يوماً فأتم الصلاة، "واختلف أهل العلم بعد" بالبناء على الضم أي بعد ذلك "في ذلك" أي فيما ذكر من مدة الإقامة، "فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة وقالوا إذا أجمع" أي نوى "على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة" وهو قول أبي حنيفة، واستدلوا بما رواه أبو داود من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة، قال المنذري: وأخرجه ابن ماجه وأخرجه النسائي بنحوه وفي إسناده محمد بن إسحاق، واختلف علي بن إسحاق فيه فروى منه مسنداً ومرسلاً وروي عنه عن الزهري من قوله انتهى، وقد ضعف النووي هذه الرواية، لكن تعقبه الحافظ في فتح الباري حيث قال: وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في الخلاصة وليس بجيد لأن رواتها ثقات ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراق بن مالك عن عبيد الله كذلك فهي صحيحة انتهى كلام الحافظ.
واستدلوا أيضاً بأثر ابن عمر المذكور، وقد روى عنه توقيت ثنتي عشرة كما حكاه الترمذي "وقال الأوزاعي: إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة"(3/113)
وقال مالك "بن أنس" والشافعيّ وأَحمدُ: إذا أَجْمَعَ على إقامِة أربعة أَتَمّ الصّلاةَ.
وأما إسحاقُ فرأَى أَقْوَى المذاهبِ فيه حديثَ ابنِ عباسٍ، قال: لأنه رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، "ثم تَأَوّلَهُ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم" إذا أَجْمَعَ على إقامةِ تِسْعَ عَشرةَ أَتَمّ الصلاةَ.
ثم أَجْمَعَ أَهلُ العلمِ على أن المسافرِ أن يَقْصُرُ ما لم يُجْمِعْ اقامةً، وإِنْ أَتَى عليه سِنُونَ.
ـــــــ
قال الشوكاني في النيل: لا يعرف له مستند فرعي وإنما ذلك اجتهاد من نفسه انتهى.
قلت: لعله استند بما روي عن ابن عمر توقيت ثنتي عشرة. "وقال مالك والشافعي وأحمد: إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة". قال في السبل صفحة 651: وهو مروي عن عثمان والمراد غير يوم الدخول والخروج، واستدلوا بمنعه صلى الله عليه وسلم المهاجرين بعد مضي النسك أن يزيدوا على ثلاثة أيام في مكة، فدل على أنه بالأربعة الأيام يصير مقيماً انتهى.
قلت: ورد هذا الاستدلال بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة، واستدلوا أيضاً بما روى مالك عن نافع عن أسلم عن عمر أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجراً أن يقيم ثلاثة أيام، قال الحافظ في التلخيص صححه أبو زرعة. "أما إسحاق" يعني ابن راهويه، "فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين، "قال" أي إسحاق "لأنه" أي ابن عباس "روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم" أي أخذ به وعمل عليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، "ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامته وإن أتى عليه سنون"، جمع سنة أخرج البيهقي عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برامهر من تسعة أشهر يقصرون(3/114)
547 ـ حدثنا هنادُ "بن السري" حدثنا أبو مُعاويةَ عن عاصمِ الأحْولِ عن عِكْرِمة عن ابن عباسٍ قال: "سافر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سفراً فصلَى تسعةَ عشرَ يوماً ركعَتْينِ ركعتين ، قال ابن عباسٍ: فنحن نصلّي فيما بينَنَا وبين تِسْع عَشْرَةَ ركعتينِ ركعَتَيْنِ فاذا أقَمْنَا أكثر مِن ذلك صلّينا أربعاً.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
الصلاة، قال النووي إسناده صحيح وفيه عكرمة بن عمار، واختلفوا في الاحتجاج به واحتج به مسلم في صحيحه انتهى، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر في غزاة وكنا نصلي ركعتين انتهى. قال النووي وهذا سند على شرط الصحيحين، كذا في نصب الراية. وذكر الزيلعي فيه آثاراً أخرى.
قوله: "سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً" أي في فتح مكة كما تقدم "فصلى"، أي فأقام فصلى "تسعة عشر يوماً ركعتين ركعتين"، وفي رواية للبخاري أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، قال الحافظ في الفتح أي يوماً بليلة زاد في المعازي بمكة وأخرجه أبو داود بلفظ سبعة عشر بتقديم السين، وله أيضاً من حديث عمران بن حصين: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين. وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة.
وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج، ومن قال سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عد أحدهما، وأما رواية خمس عشرة فضعفها النووي في الخلاصة وليس بجيد لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله(3/115)
ـــــــ
كذلك، وإذا أثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومى الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة، واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات. وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه. ويرجحها أيضاً أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. انتهى كلام الحافظ، وقال في التلخيص بعد ذكر الروايات المذكورة، ورواية عبد بن حميد عن ابن عباس بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة أقام عشرين يوماً يقصر الصلاة ما لفظه: قال البيهقي أصح الروايات في ذلك رواية البخاري وهي رواية تسع عشرة، وجمع إمام الحرمين والبيهقي بين الروايات السابقة باحتمال أن يكون في بعضها لم يعد يومي الدخول والخروج وهي رواية سبعة عشر وعدها في بعضها، وهي رواية تسع عشرة وعد يوم الدخول ولم يعد الخروج وهي رواية ثمانية عشر. قال الحافظ: وهو جمع متين وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها ورواية عشرين وهي صحيحة الإسناد إلا أنها شاذة أيضاً، اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، وأخرجه البخاري وابن ماجه وأحمد(3/116)
388 ـ باب ما جاء في التّطَوّعِ في السّفَر
548 ـ حدثنا قُتَيْبةُ "بن سعيد"، حدثنا الليثُ بنُ سعدٍ عن صَفْوانَ بن سُلَيمٍ عن أَبي بُسْرَةَ الغِفَارِيّ عن البراءِ بن عازبٍ قال: "صَحِبْتُ رسولَ الله صلى الله
ـــــــ
. باب ما جاء في التّطَوّعِ في السّفَر
قوله: "عن صفوان بن سليم"، بضم السين مصغراً ثقة، "عن أبي بسرة" بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة الغفارى. مقبول من الرابعة كذا في التقريب، وقال في الخلاصة وثقه ابن حبان. وقال في قوت المغتذي بضم الموحدة وسكون السين المهملة تابعي لا يعرف اسمه ولم يرو عنه غير صفوان بن سليم،(3/116)
عليه وسلم ثمانيةَ عَشَرَ سَفَراً فما رأيتُهُ ترك الركعَتْينِ إِذا زاغتِ الشمسُ قبلَ الظّهرِ".
وفي الباب عن ابنِ عُمَرَ.
قال و أبو عيسى: حديثُ البَرَاء حديثٌ غريبٌ.
"قال" "و" سألت مُحمداً عنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ إلا من حديثِ الليثِ بنِ سعدٍ ولم يعرف اسمَ أبي بُسْرةَ الغِفَارِيّ
ـــــــ
وليس له في الكتب إلا هذا الحديث عند المصنف وابن ماجه، وربما اشتبه على من يتنبه له بأبي بصرة الغفاري بفتح الباء وبالصاد المهملة، وهو صحابي اسمه حميل بضم الحاء المهملة مصغراً انتهى.
قوله: "ثمانية عشر سفراً" بفتح السين المهملة والفاء قال الحافظ العراقي: كذا وقع في الأصول الصحيحة، قال: وقد وقع في بعض النسخ بدله شهراً وهو تصحيف كذا في قوت المغتذي "فما رأيته ترك الركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر" ، الظاهر أن هاتين الركعتين هما سنة الظهر، فهذا الحديث دليل لمن قال بجواز الإتيان بالرواتب في السفر، قال صاحب الهدى: لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها في السفر إلا ما كان من سنة الفجر انتهى. قال الحافظ في الفتح متعقباً عليه: ويرد على إطلاقه ما رواه أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفراً فلم أره ترك الركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر وكأنه لم يثبت عنده. لكن الترمذي استغربه ونقل عن البخاري أنه رآه حسناً. وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" قد روى عنه في هذا الباب روايتان وسيجيء تخريجهما.
قوله: "حديث البراء حديث غريب". أخرجه أبو داود وسكت عنه.(3/117)
ورآه حسَناً ورُوِيَ عن ابنِ عمرَ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ لا يتطَوّعُ في السّفَرِ قبلَ الصلاةِ ولا بعدَهاَ". وَرُوِيَ عنْه "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم" "أنّه كانَ يتطَوّعُ في السّفَرِ" ثم اختلفَ أهلُ العلمِ بَعدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى بعضُ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ يتَطَوَعَ الرجُلُ في السفرِ وبِه يقولُ أحمدُ وإسحاقُ ولمَ تر طائفةٌ مِن أهلِ العِلْمِ أن يصَلي قَبْلَهَا ولاَ بعدَهَا ومعنى مَن لم يتطَوّعْ في السّفَرِ قبولُ الرخْصَةِ
ـــــــ
قوله: "وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطوع في السفر قبل الصلاة ولا بعدها". أخرجه البخاري ومسلم من طريق حفص بن عاصم قال صحبت ابن عمر في طريق مكة فصلى لنا الظهر ركعتين ثم جاء رحله وجلس فرأى ناساً قياماً فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحاً أتممت صلاتي، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزاد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك، وقد أخرجه الترمذي من وجه آخر. "وروي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه كان يتطوع في السفر"، أخرجه الترمذي في هذا الباب قال بعض العلماء: هذا محمول على التذكر وما روى عنه: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتطوع في السفر محمول على النسيان. والله تعالى أعلم.
وروى مالك في الموطأ بلاغاً عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يرى ابنه عبيد الله يتنقل في السفر فلا ينكر ذلك عليه.
قوله: "فرأى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطوع الرجل في السفر وبه يقول أحمد وإسحاق". المراد من التطوع النوافل الراتبة، وأما النوافل المطلقة فقد اتفق العلماء على استحبابها، "ومعنى من لم يتطوع في السفر قبول الرخصة"، يعني أن من قال بعدم التطوع في السفر مراده أن التطوع رخصة في السفر، فقبل الرخصة ولم يتطوع، وليس مراده أن التطوع في السفر ممنوع،(3/118)
ومن تَطَوّعَ فَلَهُ في ذلِكَ فضلٌ كثيرٌ. وهو قولُ أكثرَ أهلِ العلمِ يختارنَ التطَوعَ في السّفَرِ.
549 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ حدثنا حَفْصُ بنُ غِياثٍ عن الحجّاج عن عَطِيّةَ عَن ابنِ عُمَرَ قالَ "صَلّيتُ معَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهرَ في السفَرِ ركعتينِ وبعدَها ركعتَينِ".
ـــــــ
"وهو قول أكثر أهل العلم يختارون التطوع في السفر"، قال النووي في شرح مسلم: قد اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة، فتركها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي والجمهور، ودليله الأحاديث العامة المطلقة في ندب الرواتب، وحديث صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى يوم الفتح بمكة وركعتي الصبح حين ناموا حتى تطلع الشمس وأحاديث أخرى صحيحة ذكرها أصحاب السنن، والقياس على النوافل المطلقة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر فإن النافلة في البيت أفضل، ولعله تركها في بعض الأوقات تنبيهاً على جواز تركها، وأما ما يحتج به القائلون بتركها من أنها لو شرعت لكان إتمام الفريضة أولى، فجوابه أن الفريضة متحتمة. فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها، وأما النافلة فهي إلى خيرة المكلف، فالرفق به أن تكون مشروعة، ويتخير إن شاء فعلها وحصل ثوابها، وإن شاء تركها ولا شيء عليه انتهى.
قال الحافظ في الفتح تعقب هذا الجواب بأن مراد ابن عمر بقوله: لو كنت مسبحاً لأتممت. يعني أنه لو كان مخيراً بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب عليه. لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلي الراتبة ولا يتم انتهى. قلت: المختار عندي المسافر في سعة إن شاء صلى الرواتب وإن شاء تركها والله تعالى أعلم.
قوله: "عن حجاج"، هو ابن أرطأة الكوفي القاضي صدوق كثير الخطأ(3/119)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ وقد رَواهُ ابنُ أبي ليلَى عن عَطِيّةَ ونافعٍ عن ابن عمَرَ.
550 ـ حدثنا محمدُ بنُ عُبَيدٍ المُحَارِبيّ "يعني الكوفي"، حدثنا عليّ بنُ هاشِمٍ عن ابن أبي ليلى عن عطية و نافع عن ابن عمرَ قَالَ: "صليتُ معَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحضَرِ والسفَرِ، فصليتُ مَعَهُ في الحضَرِ الظّهر أَربعاً وبعدَها ركعتَينْ وصليتُ معهُ في السفرِ الظهرَ ركعتَيْنِ وبعدَهَا ركعتَينِ والعصْرِ ركعتَينِ ولم يُصلّ بعدَها شيئاً والمغرِبَ في الحضَرِ والسّفَرِ سَواءً ثلاثَ ركَعَاتٍ لا تَنْقُصُ في الحَضَر ولا في السفر وهِيَ وترُ النهَارِ وبعدَهَا رَكْعَتَينِ"
ـــــــ
والتدليس. "عن عطية" هو ابن سعد بن جنادة الكوفي أبو الحسن، صدوق يخطئ كثيراً كان شيعياً مدلساً من الثالثة، كذا في التقريب. وقال في الميزان عطية بن سعد العوفي الكوفي تابعي شهير ضعيف عن ابن عباس وأبي سعيد وابن عمر، وعنه مسعر وحجاج بن أرطأة وطائفة.
قوله: "الظهر في السفر ركعتين"، أي فرضاً "وبعدها" أي بعد صلاة الظهر "ركعتين" أي سنة الظهر.
قوله: "هذا حديث . إنما حسن الترمذي هذا الحديث مع أن في سنده حجاج بن أرطأة وعطية، وكلاهما مدلس وروياه بالعنعنة فإنه قد تابع حجاجاً بن أبي ليلى في الطريق الاَتية، وكذلك تابع عطية نافع فيها.
قوله: "والمغرب في الحضر والسفر سواء"، حال أي مستوياً عددها فيهما، وقوله: ثلاث ركعات بيان لها، "ولا ينقص في حضر ولا سفر" على البناء للفاعل، أي لا ينقص رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب عن ثلاث ركعات في الحضر ولا في السفر، لأن القصر منحصر في الرباعية "وهي وتر النهار" جملة حالية كالتعليل لعدم جواز النقصان، قاله الطيبي وحديث ابن عمر هذا يدل على جواز الإتيان بالرواتب في السفر(3/120)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ سمعتُ محمداً يقُولُ مَا رَوى ابنُ أبي لَيلَى حدِيثاً أعجَبَ إِلَيّ مِن هذا(3/121)
389 ـ باب "ما جَاءَ" في الجمعِ بينَ الصّلاتَين أي في السفر
551 ـ حدثنا قُتَيْبةُ "بن سعيد" حدثنا الليثُ "بنُ سعدٍ" عن يزيدَ بنِ أبي حَبِيبٍ عن أبي الطفَيلِ "هو عامر بن واثلة" عنْ معاذِ بنِ جبلٍ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في غزوةِ تَبُوكَ إذا ارتَحلَ قَبلَ زَيغ الشَمسِ أخرَ الظهرَ إلى أن يجمَعَها إلى العصْرِ فيُصلّيهِمَا جميعاً وإذا ارتحلَ بعدَ زَيغِ الشّمْسِ عجّلَ العصْرَ إلى الظّهرِ وصلى الظّهرَ والعَصْرَ جميعاً ثم سارَ وكان إذا ارتحل قَبلَ المغْربِ أخرَ المغرِبَ حتى يصليَهَا مع العِشاءِ وإذا ارتحَلَ بعدَ المغرِبِ عجّلَ العِشَاء فَصَلاّهَا مع المغرِبِ"
ـــــــ
باب "ما جَاءَ" في الجمعِ بينَ الصّلاتَين أي في السفر
قوله: "عن أبي الطفيل"، اسمه عامر بن واثلة بن عبد الله الليثي، وربما سمي عمرواً، ولد عام أحد ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر وعمن بعده وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة، قاله مسلم وغيره، كذا في التقريب.
قوله: "كان في غزوة تبوك" ، غير منصرف على المشهور، وهو موضع قريب من الشام "قبل زيغ الشمس" أي قبل الزوال فإن زيغ الشمس هو ميلها عن وسط السماء إلى جانب المغرب، "عجل العصر إلى الظهر وصل الظهر والعصر جميعاً"، فيه دلالة على جواز جمع التقديم في السفر وهو نص صريح فيه لا يحتمل تأويلاً.(3/121)
"قال" : وفي الباب عن عليَ وابنِ عُمَر وأنسٍ وعبدِ الله بن عمْروٍ وعائشةَ وابنِ عبّاسٍ وأُسَامةَ "بن زَيدٍ" وجابر
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن علي وابن عمر وأنس وعبد الله بن عمرو وعائشة وابن عباس وأسامة بن زيد وجابر"، أما حديث علي فأخرجه الدارقطني عن ابن عقدة بسند له من حديث أهل البيت وفي إسناده من لا يعرف. وفيه أيضاً المنذر الكابوسي وهو ضعيف، وروى عبد الله بن أحمد في زيادات المسند بإسناد آخر عن علي أنه كان يفعل ذلك، وأما حديث ابن عمر فأخرجه الجماعة إلا ابن ماجه، وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل يجمع بينهما، فإذا زاغت قبل أن يرتحل، صلى الظهر ثم ركب. وفي رواية لمسلم: كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر يؤخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما، قال الحافظ في فتح الباري: قوله صلى الظهر ثم ركب كذا فيه الظهر فقط، وهو المحفوظ عن عقيل في الكتب المشهورة، ومقتضاه أنه كان لا يجمع بين الصلاتين إلا في وقت الثانية منهما. وبه احتج من أبى جمع التقديم، لكن روى إسحاق بن راهويه هذا الحديث عن شبابة فقال: كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل. أخرجه الإسماعيلي.
وأعل بتفرد إسحاق بذلك عن شبابة ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحاق.
وليس ذلك بقادح فإنهما إمامان حافظان انتهى. وقال في بلوغ المرام بعد ذكر حديث أنس هذا، وفي رواية الحاكم في الأربعين بإسناد الصحيح صلى الظهر والعصر ثم ركب. ولأبي نعيم في مستخرج مسلم: كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل، انتهى. وقال في التلخيص: وحديث أنس رواه الإسماعيلي والبيهقي من حديث إسحاق بن راهويه عن شبابة بن سوار عن الليث عن عقيل عن الزهري عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل. وإسناده(3/122)
ـــــــ
صحيح، قال النووي: وفي ذهني أن أبا داود أنكره على إسحاق ولكن له متابع رواه الحاكم في الأربعين له عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن محمد بن إسحاق الصغائي عن حسان بن عبد الله عن المفضل بن فضالة عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب. وهو في الصحيحين من هذا الوجه بهذا السياق وليس فيهما والعصر وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه، والعلائي وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في المستدرك، وله طريق أخرى رواها الطبراني في الأوسط ثم ذكرها الحافظ بسندها ومتنها، وأما حديث عبد الله بن عمرو فلينظر من أخرجه، وأما حديث عائشة فأخرجه الطحاوي وأحمد والحاكم عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر يؤخر الظهر ويقدم العصر، ويؤخر المغرب ويقدم العشاء ، وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد وآخرون بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، فإذا لم تزغ في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما . قال الحافظ في الفتح: في إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف لكن له شواهد من طريق حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس، لا أعلمه إلا مرفوعاً: أنه كان نزل منزلاً في السفر فأعجبه أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، ثم يرتحل فإذا لم يتهيأ له المنزل مد في السير فسار، حتى ينزل فيجمع بين الظهر والعصر أخرجه البيهقي، ورجاله ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزوماً بوقفه علي بن عباس ولفظه: إذا كنتم سائرين فذكر نحوه، انتهى كلام الحافظ. وأما حديث أسامة بن زيد فأخرجه البخاري ومسلم، وفيه بيان الجمع بمزدلفة. وأما حديث جابر وهو جابر ابن عبد الله فأخرجه مسلم في حديث طويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً.(3/123)
قال أبو عيسى ورَوَى عليّ بن المدينيّ عن أحمدَ بنِ حَنْبلِ عن قُتَيْبةَ هذا الحديثَ وحديث معاذٍ حديثٌ حسنٌ غريبٌ تفرّدَ بِهِ قُتيبةُ لا نعرفُ أحداً رواهَ عن الليثِ غَيْرهُ وحَديثُ الليثِ عن يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ عن أبي الطُفيِل عَن معاذٍ حديثٌ غريبٌ. والمعرُوفُ عِند أهلِ العِلم حديثُ مُعاذٍ من حديث أبي الزّبيرِ عَن أبي الطّفيلِ عن مُعاذٍ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جَمعَ في غزوَةِ تُبوكَ بين الظهْرِ والعصْرِ وبين المغرِبِ والعِشاء". رَواه قُرّةُ بُن خَالدٍ وسفيانُ الثوريّ ومالكٌ وغيرُ واحدٍ عن أبي الزُبَيرِ المكيّ وبهذا الحديثِ يقولُ الشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ يقولان: لا بأسَ أن يجمعَ بين الصلاتَيْنِ في السّفرِ في وقتٍ إحداهُما"
ـــــــ
قوله: "وروي عن علي بن المديني عن أحمد بن حنبل هذا الحديث"، أي حديث معاذ المذكور في الباب.
قوله: "وحديث معاذ حديث حسن غريب تفرد به قتيبة الخ". قال الحافظ في التلخيص بعد نقل كلام الترمذي: هذا وقال أبو داود هذا حديث منكر وليس في جميع التقديم حديث قائم. وقال أبو سعيد بن يونس لم يحدث بهذا الحديث إلا قتيبة، ويقال إنه غلط فيه تغير بعض الأسماء، وأن موضع يزيد بن حبيب أبو الزبير وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا أعرفه من حديث يزيد والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث. وأطنب الحاكم في علوم الحديث في بيان علة هذا الخبر فيراجع منه. قال وله طريق أخرى عن معاذ بن جبل. أخرجها أبو داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل، وهشام مختلف فيه، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك والثوري وقرة بن خالد وغيرهم، فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم انتهى.
قوله: "وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد وإسحاق" قال الحافظ في الفتح قال بإطلاق جواز الجمع كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء الثوري(3/124)
552 ـ حدثنا هّنادٌ "بن السّريّ" حدثنا عَبْدَةُ بن سليمان عن عُبَيْدِ الله بن عُمَرَ عن نافعٍ
ـــــــ
والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب، انتهى. يعني قالوا بجواز الجمع في السفر مطلقاً، سواء كان سائراً أم لا، وسواء كان سيراً مجداً أم لا. قال الحافظ: وقال قوم لا يجوز الجمع مطلقاً إلا بعرفة ومزدلفة. وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، انتهى. وقيل: يختص الجمع بمن يجد في السير. قاله الليث وهو القول المشهور عن مالك. وقيل: يختص بالمسافر دون المنازل. وهو قول ابن حبيب. وقيل: يختص بمن له عذر. حكي عن الأوزاعي. وقيل: يجوز جمع التأخير دون التقديم وهو مروى عن مالك وأحمد وأختاره ابن حزم انتهى. "يقولان لا بأس أن يجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما"، كذا في النسخ يقولان بصيغة التثنية، والظاهر أن يقول: يقولون يصيغة الجمع والمعنى يقول الشافعي وأحمد وإسحاق يجوز الجمع بين الصلاتين في السفر بجمعي التقديم والتأخير، وهو الحق واستدلوا على جواز جمع التقديم بحديث معاذ المذكور في الباب وبحديث أنس وبحديث ابن عباس وبحديث جابر، وقد ذكرنا ألفاظ هذه الأحاديث، واستدلوا على جواز جمع التأخير بحديث ابن عمر الآتي في هذا الباب، وبحديث أنس الذي تقدم لفظه.
وأجاب الحنفية عن هذه الأحاديث بأنها محمولة على الجمع الصوري.
ورد هذا الجواب بأن الأحاديث الواردة في الجمع بعضها نصوص صريحة في جمع التقديم، وفي جمع التأخير. لا تحتمل تأويلاً. قال صاحب التعليق الممجد: حمل أصحابنا يعني الحنفية الأحاديث الواردة في الجمع على الجمع الصوري. وقد بسط الطحاوي الكلام فيه في شرح معاني الآثار، لكن لا أدري ماذا يفعل بالروايات التي وردت صريحة بأن الجمع كان بعد ذهاب الوقت، وهي مروية في صحيح البخاري وسنن أبي داود وصحيح مسلم وغيرها من الكتب المعتمدة على ما لا يخفي من نظر فيها، فإن حمل على أن الرواة لم يحصل التميز لهم، فظنوا قرب خروج الوقت، فهذا أمر بعيد عن الصحابة الناهين على ذلك، وإن اختير ترك تلك الروايات بإبداء الخلل في الإسناد فهو أبعد وأبعد مع إخراج الأئمة لها وشهادتهم بتصحيحها، وإن عورض بالأحاديث التي صرحت بأن الجمع كان(3/125)
عن ابنِ عُمَرَ "أنه استُغيثَ على بعضِ أهلِهِ فجدّ بِه السّيرُ فَأَخّرَ المغربَ حتى غابَ
ـــــــ
بالتأخير إلى آخر الوقت والتقديم في أول الوقت، فهو أعجب، فإن الجمع بينهما يحملها على اختلاف الأحوال ممكن بل هو الظاهر، انتهى كلام صاحب التعليق الممجد. وقال إمام الحرمين: ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة، فإن سببه احتياج الحاج إليه، لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ولم تتقيد الرخص، كالقصر والفطر بالنسك إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر، فإن القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه، ورفق الجمع واضح لمشقة النزول على المسافر انتهى، كذا نقل كلام إمام الحرمين الحافظ في الفتح.
وتعقب الخطابي وغيره على من حمل أحاديث الجمع على الجمع الصوري، بأن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقاً من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة، فضلاً عن العامة. ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس: أن لا يحرج أمته. أخرج مسلم.
قوله: "أنه استغيث على بعض أهله" ، أي طلب منه الإغاثة على بعض أهله، وذلك أن صفية بنت أبي عبيد زوجة ابن عمر كانت لها حالة الاحتضار. فأخبر بذلك وهو خارج المدينة، فجد به السير وعجل في الوصول، كذا في بعض الحواشي. قلت: في صحيح البخاري في باب يصلي المغرب ثلاثاً في السفر قال سالم: وأخر ابن عمر المغرب وكان استصرخ على امرأته صفية بنت أبي عبيد الخ. قال الحافظ في الفتح: قوله استصرح بالضم أي استغيث بصوت مرتفع وهو من الصراخ والمصرخ المغيث انتهى. "فجد به السير" أي اهتم به وأسرع فيه يقال جد ويجد بالضم والكسر وجد به الأمر وأجد وجد فيه وأجد إذا أجتهد(3/126)
الشّفقُ ثم نَزَلَ فَجمعَ بينهمَا ثم أخْبَرَهُم أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يفعْلُ ذلِكَ إذا جَدّ بهِ السّيرُ .
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
كذا في النهاية. "وأخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما" ، وفي رواية البخاري في باب السرعة في السير من كتاب الجهاد من طريق أسلم قال كنت مع عبد الله بن عمر بطريق مكة فبلغه عن صفية بنت أبي عبيد شدة وجع، فأسرع السير حتى إذا كان بعد غروب الشفق ثم نزل فصلى المغرب والعتمة جمع بينهما "كان يفعل ذلك إذا جد به السير" استدل بهذا الحديث من قال باختصاص رخصة الجمع في السفر بمن كان سائراً لا نازلاً.
وأجيب بما وقع التصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطأ ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة في غزوة تبوك، خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً. قال الشافعي في الأم: قوله دخل ثم خرج لا يكون إلا وهو نازل فللمسافر أن يجمع نازلاً ومسافراً. وقال ابن عبد البر في هذا أوضح دليل على الرد على من قال: لا يجمع إلا من جدبه السير وهو قاطع للالتباس انتهى. وحكى عياض أن بعضهم أول قوله: ثم دخل أي في الطريق ثم خرج عن الطريق للصلاة ثم استبعده ولا شك في بعده، وكأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس والله أعلم. ومن ثم قال الشافعية ترك الجمع أفضل وعن مالك رواية أنه مكروه، وفي هذه الأحاديث تخصيص لأحاديث الأوقات التي بينها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبينها النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حيث قال في آخرها: الوقت ما بين هذين كذا في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وقد أخرج المسند منه مسلم(3/127)
390ـ باب ما جاء في صلاة الاستسقاء
552 ـ حدثنا يحيى بنُ موسى حدثنا عبدُ الرزاق أخبرنا مَعْمر عَن الزهريّ عن عَبّادِ بن تميمٍ عن عَمّه: "أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرجَ بالناسِ يَستسْقي فَصَلّى بهمْ ركعَتَينِ جَهَرَ بالقراءةِ فيهما وَحوّلَ رِدَاءهَ وَرَفعَ يَدَيْهِ واستَسْقَى واستقبَلَ القِبْلَةَ"
ـــــــ
"باب ما جاء في صلاة الاستسقاء"
الاستسقاء لغة طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير، وشرعاً طلبه من الله تعالى عند حصول الجدب على وجه مخصوص، قاله الحافظ: وقال الجزري في النهاية: هو استفعال من طلب السقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد. يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم والإسم السقيا بالضم واستسقيت فلاناً إذا طلبت منه أن يسقيك انتهى. وقال الرافعي: هو أنواع أدناها الدعاء المجرد وأوسطها الدعاء خلف الصلوات وأفضلها الاستسقاء بركعتين وخطبتين. والأخبار وردت بجميع ذلك انتهى.
قوله: "عن عباد بن تميم" بن غزية الأنصاري المازني المدني ثقة من الثالثة، وقد قيل أن له رواية "عن عمه" قال في التقريب: اسم عمه عبد الله بن زيد بن عاصم وهو أخو أبيه لأمه انتهى.
تنبيه: إعلم إن عمه هو عبد الله بن زيد بن عاصم بن مازن الأنصاري لا عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي الذي رأى الأذان في المنام. وهما مختلفان ومن ظنهما واحداً فقد غلط وأخطأ.
قوله: "خرج بالناس"، أي إلى المصلي كما في رواية الشيخين "يستقي" حال أو استئناف فيه معنى التعليل "فصلى بهم ركعتين" فيه دليل على أن الصلاة في الاستسقاء سنة. وقال الشافعي وأحمد ومالك والجمهور، وهو قول أبي يوسف ومحمد. قال محمد في موطأه. أما أبو حنيفة رحمه الله فكان لا يرى في الاستسقاء(3/128)
ـــــــ
صلاة، وأما في قولنا فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه. انتهى.
قلت: قول الجمهور هو الصواب والحق لأنه قد ثبت صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين في الاستسقاء من أحاديث كثيرة صحيحة.
منها: حديث عبد الله بن زيد المذكور في الباب وهو حديث متفق عليه، ومنها حديث أبي هريرة. أخرجه أحمد وابن ماجه، ومنها حديث ابن عباس أخرجه أصحاب السنن الأربعة، ومنها: حديث عائشة أخرجه أبو داود وقال: غريب وإسناده جيد، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، فهذه الأحاديث حجة بينة لقول الجمهور، وهي حجة على الإمام أبي حنيفة. قال بعض العلماء في تعليقه على موطأ الإمام محمد بعد ذكر هذه الأحاديث ما لفظه: وبه ظهر ضعف قول صاحب الهداية في تعليل مذهب أبي حنيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى ولم يرو عنه الصلاة انتهى، فإنه إن أراد أنه لم يرو بالكلية فهذه الأخبار تكذبه، وإن أراد أنه لم يرو في بعض الروايات فغير قادح انتهى. وقد رد على قول صاحب الهداية المذكور الحافظ الزيلعي في نصب الراية حيث قال: أما استسقاؤه عليه السلام فصحيح ثابت، وأما أنه لم يرو عنه الصلاة فهذا غير صحيح بل صح أنه صلى فيه، وليس في الحديث أنه استسقى ولم يصل، بل غاية ما يوجد ذكر الاستسقاء دون ذكر الصلاة، ولا يلزم من عدم ذكر الشيء عدم وقوعه انتهى.
قال العيني في شرح البخاري: قال أبو حنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، فإن صلى الناس وحداناً جاز، إنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار، ثم ذكر أحاديث الاستسقاء التي ليس فيها ذكر الصلاة ثم قال: وأجيب عن الأحاديث التي فيها الصلاة أنه صلى الله عليه وسلم فعلها مرة وتركها أخرى، وهذا لا يدل على السنية وإنما يدل على الجواز انتهى، وكذلك قال غير واحد من العلماء الحنفية.(3/129)
ـــــــ
ورده بعض العلماء الحنفية في تعليقه على موطأ الإمام محمد حيث قال: وأما ما ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة فليس بشيء، فإنه لا ينكر ثبوت كليهما مرة هذا ومرة هذا، لكن يعلم من تتبع الطرق أنه لما خرج بالناس إلى الصحراء صلى فتكون الصلاة مسنونة في هذه الحالة بلا ريب، ودعاءه المجرد كان في غير هذه الصورة انتهى كلامه. وقال في حاشية شرح الوقاية: ولعل هذه الأخبار لم تبلغ الإمام وإلا لم ينكر استنان الجماعة انتهى.
قلت: هذا هو الظن به والله تعالى أعلم.
فإن قلت: استدل الإمام أبو حنيفة بقوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} قال: علق نزول الغيث بالاستغفار لا بالصلاة، فكان الأصل فيه هو الاستغفار، فقوله تعالى هذا يدل على سنية الصلاة في الاستسقاء.
قلت: قوله تعالى هذا لا ينافي سنية الصلاة في الاستسقاء وليس فيه نفيها، وقد ثبت بأحاديث صحيحة أنه صلى الله عليه وسلم صلى مع الناس في الاستسقاء، فاستدلاله بقوله تعالى هذا غير صحيح، ولذلك خالفه أصحابه الإمام محمد وغيره "جهر بالقراءة فيهما" قال النووي في شرح مسلم: أجمعوا على استحبابه وكذا نقل الإجماع على استحباب الجهر ابن بطال "وحول رداءه" كيفية تحويل الرادء أن يأخذ بيده اليمنى الطرف الأسفل من جانب يساره وبيده اليسرى الطرف الأسفل أيضاً من جانب يمينه ويقلب يديه خلف ظهره بحيث يكون الطرف المقبوض بيده اليمنى على كتفه الأعلى من جانب اليمين والطرف المقبوض بيده اليسرى على كتفه الأعلى من جانب اليسار، فإذا فعل ذلك فقد انقلب اليمين يساراً واليسار يميناً والأعلى أسفل وبالعكس كذا في المرقاة. وقال الحافظ في الفتح: وقد وقع بيان المراد من ذلك في زيادة سفيان عن المسعودي عن أبي بكر بن محمد ولفظه: قلب رداءه جعل اليمين على الشمال، وزاد فيه ابن ماجه وابن خزيمة من هذا الوجه والشمال على اليمين، وله شاهد أخرجه أبو داود من طريق الزبيدي عن الزهري(3/130)
ـــــــ
عن عباد بلفظ: فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وعطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، وله من طريق عمارة بن غزية عن عباد: استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليها قلبها على عاتقه. وقد استحب الشافعي في الجديد فعل ما هم به صلى الله عليه وسلم من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف. وزعم القرطبي كغيره أن الشافعي اختار في الجديد تنكيس الرداء لاتحويله، والذي في الأم ما ذكرته. والجمهور على استحباب التحويل فقط، ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط. وعن أبي حنيفة وبعض المالكية لا يستحب شيء من ذلك انتهى كلام الحافظ.
فائدة في بيان محل تحويل الرداء. فاعلم أن محله في أثناء الخطبة حين يستقبل القبلة للدعاء، ففي رواية لمسلم خرج إلى المصلى يستسقي وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه، وفي أخرى له فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله واستقبل القبلة وحول رداءه، وفي رواية للبخاري: خرج بالناس يستسقي لهم فقام فدعا الله قائماً تم توجه قبل القبلة وحول رداءه. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذه الروايات: عرف بذلك أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء. وقال في موضع آخر: محل هذا التحويل بعد فراغ الموعظة وإرادة الدعاء انتهى. وقال النووي في شرح مسلم: قال أصحابنا: يحوله في نحو ثلث الخطبة الثانية وذلك حين يستقبل القبلة انتهى.
فائدة أخرى: قال الحافظ في الفتح: استحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد عن عباد في هذا الحديث بلفظ: وحول الناس معه. وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام وحده فاستثنى ابن الماجشون النساء فقال لا يستحب في حقهن انتهى.
قلت فالقول الظاهر المعول عليه هو ما ذهب إليه الجمهور.
فائدة أخرى: اختلف في حكمة هذا التحويل، فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه.
وتعقبه ابن العربي بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه قال، وإنما التحويل(3/131)
وفي البابِ عن ابنِ عباسٍ وأبي هريرةَ "وأنَسٍ" و "آبى اللّحمِ".
قال أبو عيسى: حديثُ عبدِ الله بن زيدٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وعلى هذا العملُ عندَ أهلِ العلْمِ وبهِ يقولُ الشافعي وأحمدُ وإسحاقُ.
واسم عَم عبّاد بن تميمٍ هو عبدُ الله بنُ زيدِ بنِ عاصِمٍ المازنيّ.
ـــــــ
أمارة بينه وبين ربه، قيل له حول رداءك ليتحول حالك.
وتعقب بأن الذي جزم به يحتاج إلى نقل، والذي رده ورد فيه حديث رجاله ثقاة أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر ورجح الدارقطني إرساله وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن. وقال بعضهم: إنما حول رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع يديه في الدعاء فلا يكون سنة في كل حال، وأجيب بأن التحويل من جهة إلى جهة لا يقتضي الثبوت على العاتق، فالجمل على المعنى الأول أولى فإن الاتباع أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص كذا في الفتح. وفي الدراية وللحاكم من حديث جابر وتحول رداءه ليتحول القحط، وللدارقطني من حديث أنس وقلب رداءه لأن ينقلب القحط إلى الخصب انتهى. فالقول المعول عليه في حكمة التحويل هو ما جزم به المهلب.
قوله: "في الباب عن ابن عباس وأبي هريرة" تقدم تخريج حديثهما "وأنس" أخرجه الطبراني في معجمه الوسط وسيأتي لفظه "وآبى اللحم" أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي.
قوله: "حديث عبد الله بن زيد حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وأخرجه مسلم ولم يذكر الجهر بالقراءة.
قوله: "وعلى هذا العمل عند أهل العلم" أي على ما يدل عليه حديث عبد الله بن زيد "وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول الجمهور وهو الحق(3/132)
554 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ "بن سعد" عن خالِد بن يزيدَ عن سعيدِ بن أبي هلالٍ عن يزيدَ بن عبدِ الله عن عُمَيْرٍ مولى آبى اللحْمِ عن آبى اللحمِ "أنه رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عندَ أحْجَارِ الزَيْتِ يَسْتَسْقِي وهو مُقْنِعٌ بِكفّيْهِ يَدْعوُ".
قال أبو عيسى: كذا قال قُتَيْبَةُ في هذا الحديث "عن آبي اللحمِ" ولا نَعرِفُ لَه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ هذا الحديثَ الواحِدَ.
وعُمَيْرٌ مولى أبى اللحْمِ قد رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديثَ وله صُحْبَةٌ.
555 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا حاتمُ بن إسماعيلَ عن هشَامِ بن إسحاقَ "وهو ابنُ عبد الله بن كِنَانَةَ" عن أبيه قال أرسَلَنِي الوَليدُ بن عُقْبَةَ
ـــــــ
قوله: "عن يزيد بن عبد الله" بن أسامة بن الهاد الليثي المدني وثقه ابن معين والنسائي وهو من رجال الكتب الستة "عن عمير" بالتصغير "مولى أبى اللحم" الغفاري صحابي شهد خيبر وعاش إلى نحو السبعين "عن آبي اللحم" بالمد اسم رجل من قدماء الصحابة سمي بذلك لامتناعه من أكل اللحم أو لحم ماذبح على النصب في الجاهلية، اسمه عبد الله بن عبد الملك استشهد يوم حنين.
قوله: "عند أحجار الزيت" هو موضع بالمدينة من الحرة سميت بذلك لسواد أحجارها بها كأنها طليت بالزيت "يستسقي" حال "وهو مقنع بكفيه" أي رافع كفيه، وفي رواية أبي داود قائماً يدعو يستسقي رافعاً يديه لا يجاوز بهما رأسه. والحديث استدل به لأبي حنيفة رحمه الله على عدم استنان الصلاة في الاستسقاء لأنه ليس فيه ذكر الصلاة وقد تقدم الجواب عنه فتذكر.
قوله: "كذا قال قتيبة في هذا الحديث الخ" والحديث أخرجه أبو داود والنسائي وسكت عنه أبو داود والمنذري.
قوله: "عن هشام بن إسحاق"، المدني القرشي، قال في التقريب مقبول(3/133)
وهو أَميرُ المدينةِ إلى ابنِ عباسٍ أَسْأَلهُ عن استسقاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأتيتُهُ فقال: "إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُتَبَذّلاً مُتَوَاضِعاً مُتَضَرّعاً حتى أَتَى المُصَلّى فلم يَخْطُبْ خُطْبَتكم هذِهِ، ولكن لم يزَل في الدعاءِ والتَضَرّعِ والتكبيرِ، وصلّى ركعَتْينِ كما كانَ يصَلّي في العيدِ"
ـــــــ
وقال في الخلاصة قال أبو حاتم شيخ "عن أبيه" هو إسحاق بن عبد الله بن كنانة. قال النسائي ليس به بأس، وقال أبو زرعة ثقة.
قوله: "خرج منبذة" ، أي لابساً ثياب البذلة تاركاً ثياب الزينة، قال في النهاية: التبذل ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التواضع "متواضعاً" في الظاهر "متخشعاً" في الباطن، وقال في النيل: قوله متخشعاً أي مظهراً للخشوع ليكون ذلك وسيلة إلى نيل ما عند الله عز وجل، وزاد في رواية: مترسلاً أي غير مستعجل في مشيه "متضرعاً" أي مظهراً للضراعة وهي التذلل عند طلب الحاجة "فلم يخطب خطبتكم هذه" النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد، كما يدل على ذلك الأحاديث المصرحة بالخطبة، وفي رواية أبي داود: فرقى المنبر ولم يخطب خطبتكم هذه. فقوله فرقى المنبر أيضاً يدل على أن النفي متوجه إلى القيد، قال الزيلعي في نصب الراية: قال أحمد: لا تسن الخطبة في الاستسقاء واحتجوا له بقوله فلم يخطب ولكنه خطب الخطبة واحدة، فلذلك نفي النوع ولم ولم ينف الجنس، ولم يرو أنه خطب خطبتين فلذلك قال أبو يوسف يخطب خطبة واحدة، ومحمد يقول يخطب خطبتين ولم أجد له شاهداً انتهى كلام الزيلعي، "وصل ركعتين كما كان يصلي في العيد" استدل به الشافعي رحمه الله على أنه يكبر في صلاة الاستسقاء كتكبير العيد، وتأوله الجمهور على أن المراد كصلاة العيد في العدد والجهر بالقراءة وكونها قبل الخطبة، واستدل له بما أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي عن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمَن بن عوف عن(3/134)
ـــــــ
أبيه عن طلحة قال: أرسلني مروان إلى ابن عباس أسأله عن سنة الاستسقاء فقال سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين الحديث، وفيه وصلى ركعتين كبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وقرأ في الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وكبر فيها خمس تكبيرات، قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قال الحافظ الزيلعي: والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: ضعف الحديث فإن محمد بن عبد العزيز هذا قال فيه البخاري منكر الحديث، وقال النسائي متروك الحديث، وقال أبو حاتم ضعيف الحديث ليس له حديث مستقيم.
الثاني: أنه معارض بحديث أخرجه الطبراني في معجمه الوسط عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقي فخطب قبل الصلاة واستقبل القبلة وحول رداءه ثم نزل فصلى ركعتين لم يكبر فيهما إلا تكبيرة . انتهى كلام الزيلعي.
قلت: قال الحافظ في الدراية بعد ذكر حديث أنس هذا: ولا حجة فيه فإنها كانت حينئذ صلاة الجمعة انتهى.
واعلم أنه قد اختلف الأحاديث في تقديم الخطبة على الصلاة أو العكس، ففي حديث أبي هريرة وحديث أنس وحديث عبد الله بن زيد عند أحمد أنه بدأ الصلاة قبل الخطبة، وفي حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين وغيرهما، وكذا في حديث ابن عباس عند أبي داود وحديث عائشة عند أبي داود أنه بدأ بالخطبة قبل الصلاة ولكنه لم يصرح في حديث عبد الله بن زيد الذي في الصحيحين أنه خطب وإنما ذكر تحويل الظهر إلى الناس واستقبال القبلة والدعاء وتحويل الرداء، قال القرطبي، يعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة بمشابهتها للعيد، وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة. قال في الفتح: ويمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب، فاقتصر بعض الرواة على شيء وعبر بعضهم بالدعاء عن الخطبة فلذلك وقع الاختلاف، والمرجح عند الشافعية والمالكية الشروع بالصلاة، وعن أحمد رواية كذلك قال النووي وبه قال الجماهير،(3/135)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
556 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلانَ، حدثنا وَكيعٌ عن سُفيانَ عن هِشامِ بن إسحاقَ بن عبدِ الله بنِ كنَانةَ عن أبيهِ فذكَرَ نَحوَهُ، وزادَ فيهِ مُتَخَشّعاً.
"قال أبو عيسى" : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وهو قولُ الشافعيّ قال: يُصَلّي صلاةَ الاستسقاءِ نحوَ صلاةِ العيدَيْنِ، يُكَبّرُ في الركعةِ الأولىَ سبعاً، وفي الثّانِيةِ خِمساً، واحتجّ بحديث ابنِ عباسٍ.
"قال" "أبو عيسى" : ورُويَ عن مالكِ بن أنسٍ أنه قال: لا يُكَبّرُ في صلاةِ الاستسقاء كما يكبر في صلاة العيدين.
ـــــــ
وقال الليث بعد الخطبة، وكان مالك يقول به ثم رجع إلى قول الجماهير. قال قال أصحابنا: ولو قدم الخطبة على الصلاة صحتا ولكن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها. وجاء في الأحاديث ما يقتضي جواز التقديم والتأخير. واختلف الرواية في ذلك عن الصحابة انتهى. كذا ذكر القاضي الشوكاني في النيل، وقال جواز التقديم والتأخير بلا أولوية هو الحق انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي، وأخرجه أيضاً أبو عوانة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وصححه أيضاً عن أبو عوانة وابن حبان.
قوله: "وزاد فيه متخشعاً" أي مظهراً للخشوع ليكون ذلك وسيلة إلى نيل ما عند الله عز وجل، وزاد في رواية مترسلاً أي غير مستعجل في مشيه.
قوله: "وهو قول الشافعي قال يصلي صلاة الاستسقاء نحو صلاة العيدين يكبر في الركعة الأولى سبعاً وفي الثاينة خمساً، واحتج بحديث ابن عباس" تقدم الكلام في ذلك فتذكر، "وروى عن مالك بن أنس أنه قال: لا يكبر في صلاة الاستسقاء كما يكبر في صلاة العيدين" وهو قول الجمهور. واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك. وقال داود إنه مخير بين التكبير وتركه.(3/136)
ـــــــ
قلت: الراجح عندي قول الجمهور فإنه لم يثبت من حديث مرفوع صحيح صريح أنه يكبر في صلاة الاستسقاء في الركعة الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً كما يكبر في صلاة العيدين. أما حديث ابن عباس الذي أخرجه الترمذي وغيره فليس بصريح في ذلك. وأما حديثه الذي أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي وقد تقدم، فقد عرفت أنه ضعيف لا يصلح للاحتجاج والله تعالى أعلم(3/137)
391ـ باب في صَلاَةِ الكُسُوف
"باب ما جاء في صلاة الكسوف
557 ـ حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ حدثنا يحيَى بنُ سعيدٍ عن سُفيانَ عن حَبيبِ بن أبي ثَابتِ عن طاوُسٍ عن ابن عباسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم " أنه صلّى في كسوف فَقَرأ ثمّ ركَعَ ثم قَرَأَ ثم رَكَعَ "ثم قَرَأَ ثمّ ركَعَ"، "ثلاث مراتٍ" ثم سَجَدَ سجدتَيْن، والأخرَى مثلُها"
ـــــــ
باب في صَلاَةِ الكُسُوف
قال الحافظ في الفتح: المشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر واختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه أفصح وقيل يتعين ذلك، وحكى عياض عن بعضهم عكسه وغلطه لثبوته بالخاء في القرآن. وقيل يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الأحاديث. ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف لأن الكسوف التغير إلى سواد والخسوف النقصان أي الذل، فإذا قيل في الشمس كسفت أو خسفت لأنها تتغير ولحقها النقص ساغ وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان، وقيل بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء، وقيل بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه، وقيل بالخاء لذهاب كل اللون وبالكاف لتغيره انتهى.
قوله: "أنه صلى في كسوف فقرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد سجدتين الخ" أي ركع في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجد سجدتين، والحديث أخرجه أيضاً مسلم ولفظه، ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ(3/137)
وفي الباب عن علي وعائِشةَ وعبدِ الله بن عَمْروٍ والنعمَانِ بن بَشِيرٍ والمُغيرة بن شُعبةَ وأبي مسْعودٍ وأبي بَكْرَةَ وَسَمُرَةَ وأبي موسى "الأشعري" وابنِ مسْعودٍ وأَسماءَ "بنت أبي بكر" "الصديق" وابنِ عُمَرَ وقَبِيصةَ الهِلاليّ وجابرِ "بن عبدِ الله" وعبدِ الرحمَنِ بنِ سَمُرةَ وأبيّ بنِ كَعْبٍ.
ـــــــ
ثم ركع وفي لفظ له ثمان ركعات في أربع سجدات. وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ركع ركوعين في كل ركعة وسجد سجدتين ولفظهما: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم انصرف. وحديث ابن عباس هذا الذي رواه البخاري ومسلم أصح وأقوى.
وأما حديثه الذي رواه الترمذي وحديثه الذي رواه مسلم فهما من طريق حبيب بن أبي ثابت عن طاؤس عن ابن عباس قال الحافظ في التلخيص: قال ابن حبان في صحيحه: هذا الحديث ليس بصحيح لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن طاؤس ولم يسمعه حبيب من طاؤس. وقال البيهقي: حبيب وإن كان ثقة فإنه كان يدلس ولم يبين سماعه فيه من طاؤس، وقد خالفه سليمان الأحول فوقفه انتهى ما في التلخيص: وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ركع في كل ركعة من صلاة الكسوف ركوعين وسجد سجدتين من عدة أحاديث صحيحة. قال الرافعي: واشتهرت الرواية عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أن في كل ركعتين ركوعين انتهى. قال الحافظ في التلخيص: كذا رواه الأئمة عن عائشة وأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس وجابر وأبي موسى الأشعري وسمرة بن جندب انتهى.
قوله: "وفي الباب عن علي وعائشة وعبد الله بن عمرو والنعمان بن بشير والمغيرة بن شعبة وأبي مسعود وأبي بكرة وسمرة وابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر وابن(3/138)
ـــــــ
عمر وقبيصة الهلالي وجابر بن عبد الله وأبي موسى وعبد الرحمَن بن سمرة وأبي بن كعب"، أما حديث علي فأخرجه أحمد ولفظه: قال كسفت الشمس فصلى على الناس فقرأ "يس" ونحوها ثم ركع نحواً من قدر سورة الحديث، وفيه حتى صلى أربع ركوعات ثم قال سمع الله لمن حمده، ثم سجد ثم قام إلى الركعة، ففعل كفعله في الركعة الأولى، ثم جلس يدعو ويرغب حتى انجلت الشمس، ثم حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك فعل انتهى.
وقال مسلم في صحيحه بعد رواية حديث ابن عباس بلفظ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات. وعن علي مثل ذلك ولم يذكر مسلم لفظه. وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان وفي آخره فاستكمل أربع ركعات في أربع سجدات.
وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الشيخان ولفظه: لما كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نودي أن الصلاة جامعة فركع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين في سجدة،، ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلى عن الشمس.
وأما حديث النعمان بن بشير فأخرجه أبو داود وفيه: فجعل يصلي ركعتين ورواه النسائي بلفظ: فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة ركعتين. وأخرجه أحمد والحاكم وصححه ابن عبد البر وأعله ابن أبي حاتم بالانقطاع كذا في التلخيص الحبير.
وأما حديث المغيره بن شعبة فأخرجه الشيخان وفيه فإذا رأيتموهما فادعوا الله تعالى وصلوا حتى ينجلي.
وأما حديث أبي مسعود فأخرجه مسلم.
وأما حديث أبي بكرة فأخرجه البخاري وفيه فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم، ورواه ابن حبان والحاكم ولفظهما فإذا انكسف أحدهما فافزعوا إلى المساجد، وفيه فصلى بهم ركعتين مثل صلاتكم. وللنسائي مثل ما تصلون كذا في التلخيص.(3/139)
ـــــــ
وأما حديث سمرة فأخرجه الترمذي في الباب الاَتي، وأخرجه أبو داود والنسائي أيضاً.
وأما حديث ابن مسعود فأخرجه البزار والطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه حبيب بن حسان وهو ضعيف ولم يذكر لفظه بل أحال على حدشث أولالباب وهو حديث أبي شريح الخزاعي قال كسفت الشمس على عهد عثمان فصلى بالناس تلك الصلاة ركعتين وسجد سجدتين في كل ركعة قال ثم انصرف عثمان فدخل داره وجلس عبد الله بن مسعود إلى حجرة عائشة وجلسنا إليه فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر فإذا رأيتموه قد أصابهما فافزعوا إلى الصلاة الحديث، رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والبزار قال الهيثمي ورجاله موثقون.
وأما حديث أسماء بنت أبي بكر فأخرجه الشيخان.
وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان أيضاً.
وأما حديث قبيصة الهلالي فأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة، وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح كذا في النيل. وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وفيه فكانت أربع ركعات وأربع سجدات. وأما حديث أبي موسى فأخرجه الشيخان. وأما حديث عبد الرحمَن بن سمرة فأخرجه مسلم بلفظ: قال بينما أنا أرمي بأسهمي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انكسفت الشمس فنبذتهن وقلت لأنظرن ما يحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في انكساف الشمس اليوم، فانتهيت إليه وهو يديه يدعو ويكبر ويحمد ويهلل حتى جلى عن الشمس فقرأ سورتين وركع ركعتين. وأما حديث أبي بن كعب فأخرجه أبو داود وفيه: فقرأ بسورة من الطول وركع خمس ركعات وسجد سجدتين ثم قام الثانية فقرأ سورة من الطول وركع خمس ركعات وسجد سجدتين. قال المنذري في إسناده أبو جعفر واسمه عيسى بن عبد الله بن ماهان الرازي وفيه مقال، واختلف فيه قول ابن معين وابن المديني انتهى.(3/140)
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عباسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنّه صلى في كُسُوفٍ أرْبَعَ ركَعَاتٍ في أرْبَعِ سَجَدَاتٍ".
وبه يقولُ الشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
"قال" : واختلفَ أهلُ العلمِ في القراءةِ في "صلاةِ" الكُسوفِ، فرأَى بعضُ أهلِ العلمِ أن يُسِرّ بالقِراءَةِ فيها بالنّهارِ.
ـــــــ
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وقد ضعفه ابن حبان والبيهقي وقد تقدم كلامهما "وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى في كسوف أربع ركعات في أربع سجدات" أخرجه الشيخان وقد تقدم لفظه "وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول الجمهور. قال النووي في شرح مسلم: واختلفوا في صفتها، فالمشهور في مذهب الشافعي أنها ركعتان في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان، وأما السجود فسجدتان كغيرهما. قال ابن عبد البر: وهذا أصح ما في هذا الباب وباقي الروايات المخالفة معللة ضعيفة، وحملوا حديث ابن سمرة بأنه مطلق وهذه الأحاديث تبين المراد به انتهى.
وقال الحافظ ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة في بيان أن تصحيح مسلم لا يبلغ مبلغ تصحيح البخاري ما لفظه: كما روي في حديث الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات، كما روي أنه صلى بركوعين، والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم، وقد بين ذلك الشافعي وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم، ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب انتهى كلامه.(3/141)
ورأى بعضُهم أن يَجْهرَ بالقِراءَةِ فيها كَنَحْوِ صَلاةِ العِيدينِ والجُمعَةِ.
وبه يقولُ مالِكٌ وأحمدُ وإسحاقُ يَرَوْنَ الجهر فيها.
"وقال" الشافعيّ لا يَجْهَرُ فيها.
وقد صَحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كِلْتَا الرّوايتَيْنِ.
صَحّ عنه أنه صلّى أربعَ ركعَات في أربعِ سَجَداتٍ، وصَحّ عنه "أيضاً" أنه صلّى ستّ ركَعَاتٍ في أربعِ سَجَداتٍ.
وهذا عندَ أهلِ العلمِ جائزٌ على قَدْرِ الكُسوفِ، إنْ تَطَاوَلَ الكُسُوفُ فَصَلّى سِتّ رَكَعَاتٍ في أربعِ سَجَداتٍ فهو جائزٌ، وإن صَلّى أربعَ ركَعَاتٍ في أرْبَعِ سَجَدَاتٍ وأطالَ القِراءةَ فهو جائزٌ.
ويرون أصحابُنَا أن تُصَلّى صلاةَ الكُسوفِ في جماعةٍ في كُسُوفِ الشمسِ والقمرِ.
ـــــــ
قوله: "فرأى بعضهم أن يسر بالقراءة فيها بالنهار، ورأى بعضهم أن يجهر بالقراءة فيها كنحو صلاة العيدين والجمعة" ويجيء دلائل الفريقين "وبه يقول مالك وأحمد وإسحاق يرون الجهر فيها" وهو الراجح عندي " صح أنه صلى أربع ركعات في أربع سجدات إلخ" هذا بيان لقوله قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كلتا الروايتين والمراد بالركعات الركوعات "ويروي أصحابنا" أي أصحاب الحديث "أن يصلي صلاة الكسوف في جماعة في كسوف الشمس والقمر" أي وإن لم يحضر الإمام الراتب فيؤم لهم بعضهم وبه قال الجمهور، وعن الثوري إن لم يحضر الإمام صلوا فرادى كذا في فتح الباري.
قلت: وقال الحنفية أيضاً بأنه إن لم يحضر إمام الجمعة صلوا فرادى وقالوا لا جماعة في صلاة خسوف القمر، ففي شرح الوقاية عند الكسوف يصلي إمام الجمعة بالناس ركعتين وإن لم يحضر أي إمام الجمعة صلوا فرادى كالخسوف انتهى(3/142)
558 ـ حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الملكِ بنِ أبي الشّوارِب حدثنا يزيدُ بن زُرَيعٍ حدثنا مَعْمرٌ عن الزّهْرِيّ عن عُرْوَةَ عن عائِشةَ أنها قالت: "خَسَفَتْ الشمسُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فصَلّى رسولُ الله "صلى الله عليه وسلم" بالنّاسِ فأطالَ القراءةَ ثم رَكَعَ فأطالَ الركوعَ، ثم رَفَعَ رَأسَهُ فأَطالَ القراءةَ، وهي دونَ الأولَى، ثم رَكَعَ فأَطالَ الركوعَ، وهو دونَ الأولِ، ثم رفعَ رأَسَهُ فسَجد ثم فعلَ "مثل" ذلك في الرّكعةِ الثّانِيةِ".
ـــــــ
مختصراً. والقول الراجح الظاهر هو ما قال به الجمهور فأنه قد روى الشيخان من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا". وفي لفظ: فافزعوا إلى الصلاة. وكذلك روياه من حديث ابن عمر ومن حديث أبي مسعود الأنصاري. ومعلوم أن صلاته صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس كانت بالجماعة فالظاهر أن تكون الصلاة في خسوف القمر أيضاً بالجماعة. وأما إذا لم يحضر الإمام الراتب فيؤم لهم بعضهم. وأما تعليلهم بأن في الجمع بدون حضور الإمام المأذون له احتمال الفتنة ففيه أنهم إذا اتفقوا على أحد يؤمهم وتراضوا به لا يكون احتمال الفتنة.
قوله : "ثم رفع رأسه فسجد" وفي رواية للبخاري: ثم سجد سجوداً طويلاً، ووقع عند مسلم من حديث جابر بلفظ: ثم رفع فأطال ثم سجد، ففيه تطويل الرفع الذي يتعقبه السجود، ولكن قال النووي هي رواية شاذة مخالفة فلا يعمل بها، أو المراد زيادة الطمأنينة في الاعتدال لا إطالته نحو الركوع. قال الحافظ في الفتح ما لفظه: وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو أيضاً ففيه: ثم ركع فأطال حتى قيل لا يرفع، ثم رفع فأطال حتى قيل لا يسجد، ثم سجد فأطال حتى قيل لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل لا يسجد، ثم سجد. لفظ ابن خزيمة من طريق الثوري عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه، والثوري سمع من عطاء قبل الإختلاط، فالحديث صحيح ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا. وقد نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام وإلا فهو محجوج بهذه الرواية انتهى كلام الحافظ.(3/143)
قال أبو عيسى: "و" هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وبهذا الحديثِ يقولُ الشافعيُ وأحمدُ وإسحاقُ يَرَوْنَ صلاةَ الكُسوفِ أربعَ ركَعَاتٍ في أربعِ سَجَدَاتٍ.
قال الشافعيّ: يقرأُ في الركعةِ الأولى بأُمّ القرآنِ ونحواً من سورةِ البقرةِ
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد وإسحاق يرون صلاة الكسوف أربع ركعات في أربع سجدات" المراد بالركعات الركوعات أي يرون في كل ركعة ركوعين وسجدتين وهو القول الراجح المعول عليه، وقال الحنفية: إن في كل ركعة ركوعاً واحداً كسائر الصلوات الثنائية، واستدلوا على ذلك بحديث أبي بكرة الذي أشارة إليه الترمذي وقد ذكرنا لفظه، ففي رواية البخاري فصلى بنا ركعتين، وفي رواية ابن حبان والحاكم فصلى بهم ركعتين مثل صلاتكم، وللنسائي مثل ما تصلون: وحمله ابن حبان والحاكم فصلى بهم ركعتين مثل صلاتكم، وللنسائي مثل ما تصلون: وحمله ابن حبان البيهقي على أن المعنى كما تصلون في الكسوف، لأن أبا بكرة خاطب بذلك أهل البصرة، وقد كان ابن عباس علمهم أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان، كما روى ذلك الشافعي وابن أبي شيبة وغيرهما: ويؤيد ذلك رواية أبي بكرة من طريق عبد الوارث عن يونس في صحيح البخاري في أواخر الكسوف أن ذلك وقع يوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم: وقد ثبت في حديث جابر عند مسلم مثله وقال فيه: إن في كل ركعة ركوعين، فدل ذلك على اتحاد القصة وظهر أن رواية أبي بكرة مطلقة، وفي رواية جابر زيادة بيان في صفة الركوع، والأخذ بها أولى، ووقع في أكثر الطرق وعن عائشة أيضاً: أن في كل ركعة ركوعين، وعند ابن خزيمة من حديثها أيضاً أن ذلك كان يوم مات إبراهيم عليه السلام كذا في فتح الباري: واستدلوا أيضاً بحديث النعمان بن بشير وقد تقدم تخريجه وفيه فجعل يصلي ركعتين. ورواه النسائي بلفظ فصلوا كأحدث صلاة صليتموها.
والجواب أن هذا الحديث مطلق، وفي رواية جابر وغيره زيادة بيان في صفة الركوع فالأخذ بها هو أولى كما عرفت(3/144)
سراً إن كانَ بالنّهارِ، ثم رَكَعَ ركوعاً طويلا نحواً من قراءتِهِ، ثم رَفَعَ رأْسَه بتَكبيرٍ وثَبَتَ قَائِماً كما هُوَ، وقرأ أيضاً بأمّ القرآنِ ونحواً من آلِ عمرانَ، ثم رَكَعَ ركوعاً طويلاً نحواً من قرَاءتهِ ثم رَفَعَ رأسَه، ثم قال: سمعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، ثم سَجَدَ سجدتَيْن تامّتَيْنِ، ويقيمُ في كلّ سَجْدَةٍ نحواً مما أقامَ في ركُوعِه، ثم قامَ فقرأ بأمّ القرآنِ ونحواً من سُورةِ النّساء، ثم رَكَعَ ركوعاً طويلاً نحواً من قرَاءَته، ثم رَفَعَ رَأسَهُ بتكبير وثبَتَ قائِماً، ثم قرأ نحواً من سُورةِ المائِدةِ، ثم رَكَعَ ركوعاً طويلاً نحواً من قراءَته، ثم رَفَعَ فقالَ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، ثم سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثم تَشهّدَ وَسَلّم"(3/145)
392ـ باب كيف القراءة في الكُسُوف
"باب كيف القراءة في الكسوف" أي بالجهر أو بالسر.
559 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلان، حدثنا وَكيعٌ حدثنا سُفيانُ عن الأسوْدَ بن قَيْسٍ عن ثَعْلَبَةَ بن عِبَادٍ عن سَمُرَةَ بن جُنْدُب قال: "صلّى بنا النبيّ صلى الله عليه وسلم في كُسوف لا نسمَعُ له صوَتاً"
ـــــــ
باب كيف القراءة في الكُسُوف
قوله: "عن الأسود بن قيس" العبدي ويقال العجلي الكوفي يكنى أبا قيس ثقة من الرابعة "عن ثعلبة بن عباد" بكسر العين المهملة وتخفيف الموحدة العبدي البصري مقبول كذا في التقريب: وقال الذهبي في الميزان: تابعي سمع سمرة وعنه الأسود بن قيس فقط بحديث الكسوف الطويل: قال ابن المديني: الأسود يروي عن مجاهيل، وقال ابن حزم: ثعلبة مجهول انتهى.
قوله: "لا نسمع له صوتاً" قال القاري في المرقاة: هذا يدل على أن الإمام(3/145)
"قال" : وفي الباب عن عائشةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ سَمُرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. غريب
ـــــــ
لا يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، وبه قال أبو حنيفة وتبعه الشافعي وغيره. قال ابن الهمام: ويدل عليه أيضاً حديث ابن عباس روى أحمد وأبو يعلى في مسندهما عنه: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع منه حرفاً من القراءة، ورواه أبو نعيم في الحيلة عن ابن عباس قال: صليت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كسفت الشمس فلم أسمع له قراءة، قال ولهما رواية عن عائشة في الصحيحين قالت: جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته، وللبخاري من حديث أسماء جهر عليه الصلاة والسلام في صلاة الكسوف، ورواه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ولفظه: صلى صلاة الكسوف فجهر فيها بالقراءة ثم قال: وإذا حصل التعارض وجب الترجيح بأن الأصل في صلاة النهار الإخفاء انتهى ما في المرقاة.
قلت: أحاديث الجهر نصوص صريحة في الجهر، وأما حديث الباب أعني حديث سمرة فهو ليس بنص في السر ونفي الجهر: قال الحافظ بن تيمية في المنتقى: وهذا يحتمل أنه لم يسمعه لبعده لأن في رواية مبسوطة له: أتينا والمسجد قد امتلأ انتهى. وأما حديث ابن عباس بلفظ: صليت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ فهو لا يوازي أحاديث الجهر في الصحة، فلا شك في أن حديث الجهر مقدمة على حديث سمرة وحديث ابن عباس المذكورين والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه أبو داود وفيه: فصلى بالناس فخزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة الحديث وفي سنده محمد بن إ سحاق وقد تفرد هو بهذا اللفظ.
قوله: "حديث سمرة بن جندب حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بعضهم مطولاً وبعضهم مختصراً، وقد صححه ابن حبان والحاكم أيضاً: قال الحافظ في التلخيص: وأعله ابن حزم بجهالة ثعلبة بن عباد(3/146)
وقد ذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى هذا. وهو قَوْلُ الشافعيّ.
560 ـ حدثنا أبو بكرٍ محمدُ بن أبانَ حدثنا إبراهيم بن صَدَقَةَ عن سُفيانَ بن حُسَين عن الزُهريّ عن عُرْوَةَ عن عائشةَ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةَ الكُسُوفِ وجَهَرَ بالقراءةِ فيها "
ـــــــ
راويه عن سمرة، وقد قال ابن المديني إنه مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات مع أنه لا راوي له إلا الأسود بن قيس انتهى.
قوله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا" أي إلى الإسرار بالقراءة في صلاة الكسوف "وهو قول الشافعي" وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ومالك رحمه الله قال النووي في شرح مسلم: إن مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة رحمه الله ومالك رحمه الله قال النووي في شرح مسلم: إن مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة رحمه الله والليث بن سعد وجمهور الفقهاء أنه يسر في كسوف الشمس ويجهر في خسوف القمر انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قال الأئمة الثلاثة يعني مالكاً والشافعي وأبا حنيفة: يسر في الشمس ويجهر في القمر انتهى. وقد عد الترمذي مالكاً من القائلين بالجهر بالقراءة في صلاة الكسوف فلعل من الإمام مالك روايتين والله تعالى أعلم.
قال الحافظ في الفتح: واحتج الشافعي بقول ابن عباس قرأ نحواً من سورة البقرة لأنه لو جهر لم يحتج إلى تقدير. وتعقب باحتمال أن يكون بعيداً منه. لكن ذكر الشافعي تعليقاً عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فلم يسمع منه حرفاً، ووصله البيهقي من ثلاثة طرق أسانيدها داهية. وعلى تقدير ثبوتها فمثبت الجهر معه قدر زائد فالأخذ به أولى، وإن ثبت التعدد فيكون فعل ذلك لبيان الجواز، وهكذا الجواب عن حديث سمرة عند أبي خزيمة والترمذي لم يسمع له صوتاً أنه إن ثبت لا يدل على نفي الجهر.
قوله: "أخبرنا إبراهيم بن صدقة" البصري صدوق.
قوله: "وجهر بالقراءة فيها" هذا نص صريح في الجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس، وفي رواية ابن حبان كسفت الشمس فصلى بهم أربع ركعات(3/147)
قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ.
ورواه أبو إسحاقَ الفزارِيّ عن سُفيانَ ين حُسَينٍ نحوَه.
وبهذا "الحديثِ" يقولُ مالكُ "بن أنس" وأحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
في ركعتين وأربع سجدات وجهر بالقراءة، وبهذه الرواية بطل ما قال النووي من أن رواية الجهر في خسوف القمر ورواية الإسرار في كسوف الشمس. وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، قال الحافظ في الفتح: وقد ورد الجهر فيها عن علي مرفوعاً وموقوفاً أخرجه ابن خزيمة وغيره، وقال به صاحباً أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية، وقال الطبري يخير بين الجهر والإسرار انتهى.
قوله: "حديث حسن صحيح" وأخرجه الطحاوي.
فإن قلت: روى هذا الحديث سفيان بن حسين عن الزهري وهو ثقة في غير الزهري فكيف يكون حديثه هذا بلفظ: وجهر بالقراءة فيها، حسناً صحيحاً.
قلت: لم يتفرد هو برواية هذا الحديث بهذا اللفظ عن الزهري بل تابعه على ذلك سليمان بن كثير عند أحمد وعقيل عند الطحاوي وإسحاق بن راشد عند الدارقطني، قال الحافظ: وهذه طرق يعضد بعضها بعضاً يفيد مجموعها الجزم بذلك فلا معنى لتعليل من أعله بتضعيف سفيان بن حسين وغيره انتهى.
قوله: "وبهذا الحديث يقول مالك وأحمد وإسحاق" وهذا القول هو الراجح المعول عليه(3/148)
393ـ باب ما جاء في صلاةِ الخوْف
561 ـ حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الملكِ بنِ أبي الشّوَاربِ، حدثنا يزيدُ بن زُرَيعٍ حدثنا مَعْمَرٌ عن الزُهريّ عن سالمٍ عن أبيهِ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةَ الخوفِ بإحدى الطائِفَتَيْنِ ركعةً والطائِفةُ الأخْرَى مُواجهَةُ العَدُوّ ثم انصَرَفوا فقاموا في مَقَامِ أولئكَ، وجاءَ أولئِكَ فصلّى بهمْ ركعةً أُخرى، ثم سَلّم عليهم فقامَ هؤلاءِ فَقَضَوا ركعتَهم، وقَامَ هؤلاءِ فَقَضَوْا ركعتَهُمْ".
ـــــــ
"باب ما جاء في صلاة الخوف"
أي أحكام الصلاة عند الخوف من الكفار، وأجمعوا على أن صلاة الخوف ثابتة الحكم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي يوسف أنها مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ}.
وأجيب بأنه قيد واقعي نحو قوله: "إن خفتم" في صلاة المسافر، ثم اتفقوا على أن جميع الصفات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف معتد بها، وإنما الخلاف بينهم في الترجيح. وما أحسن قول أحمد لا حرج على من صلى بواحدة مما صح عنه عليه الصلاة والسلام، كذا في المرقاة، وذكر الحافظ ابن تيمية في منهاج السنة وغيره: أن الاختلاف الوارد فيه ليس اختلاف تضاد بل اختلاف وسعة وتخيير انتهى
قوله: "عن سالم عن أبيه". أي عبد الله بن عمر.
قوله: "والطائفة الأخرى مواجهة العدو". وفي رواية البخاري فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو "ثم انصرفوا" أي الطائفة الأولى التى صلت معه صلى الله عليه وسلم " فقاموا في مقام أولئك" ، أي في مقام الطائفة الثانية التي لم تصل "ثم سلم" أي النبي صلى الله عليه وسلم "عليهم" أي على الطائفة الثانية " فقام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم" وفي رواية البخاري فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين.(3/149)
ـــــــ
قال الحافظ في فتح الباري: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا. وظاهر أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه: ثم سلم فقام هؤلاء أي الطائفة الثانية فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا انتهى. وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها ووقع في الرافعي تبعاً لغيره من كتب الفقه أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا، ولم نقف على ذلك في شيء من الطرق، وبهذه الكيفية أخذ الحنفية، واختار في حديث ابن مسعود أشهب والأوزاعي وهي الموافقة لحديث سهل بن أبي حثمة من رواية مالك عن يحيى بن سعيد انتهى كلام الحافظ.
وقال القاري في المرقاة في شرح قوله فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين، تفصيله أن الطائفة الثانية ذهبوا إلى وجه العدو وجاءت الأولى إلى مكانهم وأتموا صلاتهم منفردين وسلموا وذهبوا إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الثانية وأتموا منفردين وسلموا كما ذكره بعض الشراح من علمائنا، قال ابن الملك كذا قيل وبهذا أخذ أبو حنيفة لكن الحديث لم يشعر بذلك انتهى. وهو كذلك، لكن قال ابن الهمام: ولا يخفى أن هذا الحديث إنما يدل على بعض ما ذهب إليه أبو حنيفة وهو مشي الطائفة الأولى وإتمام الطائفة الثانية في مكانها من خلف الإمام وهو أقل تغييراً. وقد دل على تمام ما ذهب إليه ما هو موقوف على ابن عباس من رواية أبي حنيفة، ذكره محمد في كتاب الآثار وساق إسناد الإمام، ولا يخفى، أن ذلك مما لا مجال للرأي فيه، فالموقوف فيه كالمرفوع انتهى ما في المرقاة.
قلت: قال محمد في كتاب الآثار: أخبرنا، أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في صلاة الخوف قال إذا صلى الإمام بأصحابه فلتقم طائفة منهم مع الإمام وطائفة بإزاء العدو فيصلي الإمام بالطائفة الذين معه ركعة ثم تنصرف الطائفة الذين صلوا مع الإمام من غير أن يتكلموا حتى يقوموا في مقام أصحابهم وتأتي الطائف(3/150)
وفي البابِ عن جابر وحُذَيْفة وزيدِ بنِ ثابتٍ وابن عباسٍ وأبي هريرةٍ وابن مسعودٍ وسهلِ بن أبي حَثْمَةَ وأبي عيّاشٍ الزُرَقيّ "واسمُه زيدُ بنُ صامتٍ" وأبي بَكرَةَ.
قال أبو عيسى: وقد ذهبَ مالكُ بن أنسٍ في صَلاةِ الخوفِ إلى حَديثِ سَهْلِ بن أبي حَثْمَةَ
ـــــــ
الأولى حتى يصلوا ركعة وحدانا ثم ينصرفون فيقومون مقام أصحابهم وتأتي الطائفة الأخرى حتى يقضوا الركعة التي بقيت عليهم وحدانا. قال محمد أخبرنا أبو حنيفة حدثنا الحارث عن عبد الرحمَن عن ابن عباس مثل ذلك قال محمد وبهذا كله نأخذ انتهى ما في كتاب الآثار.
قلت: الحارث هذا إن كان هو الأعور فقد كذبه الشعبي وابن المديني وإن كان غيره فلا أدري من هو.
قوله: "وفي الباب عن جابر وحذيفة وزيد بن ثابت وابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود وسهل بن أبي حثمة وأبي عياش الزرقي واسمه زيد بن ثابت وأبي بكرة" أما حديث جابر فأخرجه الشيخان. وأما حديث حذيفة فأخرجه أبو داود والنسائي. وأما حديث زيد بن ثابت فأخرجه النسائي. وأما حديث ابن عباس فأخرجه النسائي. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه أبو داود. وأما حديث سهل بن أبي حثمة فأخرجه الشيخان. وأما حديث أبي عياش الزريق فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. وأما حديث أبي بكرة فأخرجه أحمد وأبو داود النسائي.
قلت: وفي الباب أيضاً عن علي وعائشة وخوات بن جبير وأبي موسى الأشعري. أما حديث علي فأخرجه البزار. وأما حديث عائشة فأخرجه أبو داود. وأما حديث خوات بن جبير فأخرجه أبو مندة في معرفة الصحابة وأما حديث أبي موسى فأخرجه ابن عبد البر في التمهيد.
قوله: "وقد ذهب مالك بن أنس في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة" الاَتي، وفي هذا الباب قال مالك في الموطأ: وحديث القاسم بن محمد عن صالح بن(3/151)
وهو قولُ الشافعي.
وقال أحمدُ: قد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلاةُ الخوفِ على أوجهٍ، وما أعْلَمُ في هذا البابِ إلا حديثاً صحِيحاً، وأَخْتارُ حديثَ سَهْلِ بن أبي حَثْمةَ.
وهكذا قال إسحاقُ بنُ إبراهيم قال: ثبتَت الرواياتُ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاةِ الخوفِ، ورأى أن كُلّ ما رُوِيَ عن النبيّ صلى الله
ـــــــ
خوات أحب ما سمعت إلي في صلاة الخوف انتهى. والمراد بحديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات هو حديث سهل بن أبي حثمة "وهو قول الشافعي إلخ".
قال الحافظ في الفتح: قد ورد في كيفية صلاة الخوف صفات كثيرة ورجح ابن عبد البر الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الإسناد ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه. وعن أحمد قال: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة وكذا رجحه الشافعي ولم يختر إسحاق شيئاً على شيء، وبه قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر وسرد ثمانية أوجه وكذا ابن حبان في صحيحه وزاد تاسعاً.. وقال ابن حزم: صح فيها أربعة عشر وجهاً وبينها في جزء مفرد وقال ابن العربي في القبس: جاء فيها أربعة عشر وجهاً وبينها في جزء مفرد ولم يبينها، وقال النووي في شرح مسلم ولم يبينها أيضاً وقد بينها شيخنا أبو الفضل في شرح الترمذي وزاد وجهاً آخر فصارت سبعة عشر وجها لكن يمكن أن تتداخل. قال صاحب الهدى: أصولها ست صفات بلغها بعضهم أكثر وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجهاً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من اختلاف الرواة انتهى، وهذا هو المعتمد وإليه أشار شيخنا بقوله: يمكن تداخلها انتهى ما في الفتح "وما أعلم في هذا الباب إلا حديثاً صحيحاً". قال الحافظ في التلخيص: ونقل ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: ما أعلم في هذا الباب حديثاً إلا صحيحاً.(3/152)
عليه وسلم في صَلاةِ الخوفِ فهو جائز وهذا على قَدْرِ الخوفِ.
قال إسحاقُ: وَلَسْنَا نختَارُ حديثَ سَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ على غيرهِ منِ الرواياتِ.
562 ـ حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ حدثنا يحيى بن سَعيدٍ القطّان حدثنا يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريّ عن القاسِم بن محمدٍ عن صالح بن خَوّات بن جُبَيْر عن سهلِ بن أبي حَثْمَةَ أنه قال في صَلاةِ الخوفِ، قال: "يقومُ الإمامُ مستقبلَ القِبْلَةِ وتقومُ طائفةٌ منهم مَعهُ، وطائفةٌ من قِبَلِ العَدُوّ ووجُوهُهُمْ إلى العدوّ، فيركَعُ بهم ركعةً، ويركعون لأنفُسهِم، ويسجُدون لأنفسِهِمْ سجْدتَيْنِ في مكانِهم، ثم يَذْهَبُونَ إلى مَقَامِ أولئكَ ويجيءُ أولئكَ فيركَعُ بهم ركعةً ويسجدُ بهم سجْدَتَيْنِ فهي له ثِنْتَانِ ولَهُمْ واحِدَةٌ ثم يركَعُون ركعةً ويسجُدونَ سجْدَتَيْن"
ـــــــ
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح". أخرجه الأئمة الستة.
قوله: "عن صالح بن خوات". بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو وبالتاء الفوقانية أنصاري مدني تابعي مشهور غزير الحديث سمع أباه وسهل بن أبي حثمة "عن سهل بن أبي حثمة" الأنصاري الخزرجي المد ثلاث من الهجرة وله أحاديث مات في خلافة معاوية.
قوله: "فيركع بهم ركعة ويركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون لأنفسهم سجدتين في مكانهم ثم يذهبون في مقام أولئك" وفي رواية مالك وفي الموطأ فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذي معه ثم يقوم فإذا استوى قائماً ثبت وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم فيكونون وجاه العدو "ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد بهم سجدتين" أي ثم يسلم وحده " فهي" أي فهذه الصلاة "له" صلى الله عليه وسلم ثنتان أي ركعتان "ولهم" أي لكل واحد من الطائفتين "واحدة" أي ركعة واحدة "ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين" أي ثم يسلمون.(3/153)
563ـ "قال محمد بن عيسى" : قال محمدُ بن بَشّار: سألتُ يحيى بن سعيدٍ عن هذا الحديثِ فحدّثَنِي عن شُعْبَةَ عن عبدِ الرحمَن بن القاسِم عن أبيهِ عن صالحِ بن خَوّاتٍ عن سهلِ بن أبي حَثْمَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثلِ حديثِ يحيى بن سعيدٍ الأنصاريّ وقال لي يحيى: اكتُبْهُ إلى جَنْبِه، ولَسْتُ أحفظُ الحديثَ ولكنهُ مِثْلُ حديثِ يحيى بن سَعِيدٍ "الأنصاريّ".
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لم يرفَعْهُ يحيى بنُ سعيدٍ
ـــــــ
وفي رواية مالك في الموطأ: ثم يقبل الاَخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم ويسجد بهم ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الثانية ثم يسلمون.
قوله: "قال محمد بن بشار سألت يحيى بن سعيد" أي القطان "عن هذا الحديث" أي هل بلغك هذا الحديث مرفوعاً أم لا "فحدثني" أي يحيى القطان "بمثل حديث يحيى بن سعيد الأنصاري" المذكور الموقوف "وقال لي اكتبه إلى جنبه" هذا مقول محمد بن بشار أي وقال لي يحيى بن سعيد القطان: اكتب الحديث الذي رويته عن شعبة مرفوعاً إلى جنب الحديث الذي رويته عن يحيى القطان لست أحفظ لفظ الحديث الذي رويته عن شعبة مرفوعاً "لكنه" أي لكن الحديث المرفوع "مثل حديث يحيى بن سعيد الأنصاري" الموقوف المذكور.
تنبيه: إعلم أن بعض العلماء الحنفية قد فسر قوله: وقال لي أكتبه إلخ هكذا قوله وقال لي أكتبه مقولة يحيى أن قال لي شعبة أكتب هذا الحديث الذي رويت لك إلى جنب الحديث الذي رويت عن يحيى بن سعيد الأنصاري انتهى، وفي هذا نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل.
قوله: "وهذا حديث حسن صحيح" أي هذا الحديث الموقوف الذي رواه يحيى بن سعيد الأنصاري حسن صحيح وأخرجه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم أيضاً.(3/154)
الأنصارِيّ عن القاسِم بن محمد، وهكذا رَوَاهُ أصحابُ يحيى بنِ سعيدٍ الأنصارِي موقوفاً، ورَفَعهُ شُعْبَةُ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ القاسِمِ "بنِ محمدٍ".
564 ـ ورَوَى مالكُ بن أنسٍ عن يزيدَ بن رُوْمَانَ عن صالحِ بنِ خَوّاتٍ عن من صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الخوفِ فذكَرَ نحوَه.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وبه يقولُ مالكٌ والشافعيّ وأحمدُ وإسحاقٌ.
ورُوِيَ عن غيرِ واحِدٍ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بإحدَى الطائِفَتَيْنِ ركْعَةً ركْعةً فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ركعَتَانِ ولهم ركْعةٌ ركْعةٌ".
ـــــــ
قوله: "وبه" أي بحديث سهل بن أبي حثمة "يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق" وأخذ أبو حنيفة بحديث عبد الله بن عمر المذكور كما تقدم بيان ذلك وروى عن غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ركعة إلخ أخرج روايات هؤلاء أبو داود في سننه من شاء الاطلاع عليه فليرجع إليه. وأخرج الشيخان عن جابر قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع الحديث، وفيه فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان. ولا اختلاف بين هذا وبين ما روى أنه صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ركعة لاختلاف القصتين(3/155)
394ـ باب ما جَاء في سُجُود القُرآن
565 ـ حدثن سُفيانُ بن وكِيع حدثنا عبدُ الله بنُ وَهْبٍ عن عَمرِو بن الحارِثِ عن سَعيدِ بنِ أبي هِلالٍ عن عُمَرَ الدّمَشْقيّ عن أمّ الدّرْدَاءِ عن أبي الدّرْدَاءِ قال "سَجَدْتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً منها التي في النّجْمِ"
ـــــــ
باب ما جَاء في سُجُود القُرآن
أي سجدة التلاوة وهي أربع عشرة سجدات معروفة عند أبي حنيفة والشافعي، غير أن الشافعي عد منها السجدة الثانية من سورة الحج دون سجدة ص، وقال أبو حنيفة بالعكس، هذا هو المشهور. وقال الترمذي: رأى بعض أهل العلم أن يسجد في ص وهو قول سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق انتهى. فعلى هذا يكون عند الشافعي وأحمد خمس عشرة سجدة وهو رواية عن مالك، كذا في المحلي شرح الموطأ للشيخ سلام الله.
وقال النووي في شرح مسلم: قد أجمع العلماء على إثبات سجود التلاوة وهو عندنا وعند الجمهور سنة ليس بواجب، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه واجب ليس بفرض على اصطلاحه في الفرق بين الواجب والفرض، وهو سنة للقارئ والمستمع، ويستحب أيضاً للسامع الذي لا يسمع لكن لا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع، ويستحب أيضاً للسامع الذي لا يسمع لكن لا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع المصغي انتهى كلام النووي. وقال القاري في المرقاة: هي سجدة منفردة منوية محفوفة بين تكبيرتين مشروط فيها ما شرط للصلاة من غير رفع يد وقيام وتشهد وتسليم وتجب على القارئ والسامع ولو لم يكن مستمعاً عند أبي حنيفة وأصحابه انتهى كلام القاري.
قوله: "عن عمر الدمشقي" هو ابن حيان الدمشقي وهو مجهول كما صرح به الحافظ في التقريب.
قوله: "سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة إلخ" هذا لا ينافي الزيادة غايته أن أبا الدرداء سجد معه إحدى عشرة سجدة ولم يحضر في غيرها قاله صاحب إنجاح الحاجة.(3/156)
قلت: ومع هذا فهو حديث ضعيف فإن في سنده عمر الدمشقي وهو مجهول كما عرفت، وفي طريقه الثاني الآتي قال عمر الدمشقي سمعت مخبراً يخبرني فهذا المخبر أيضاً مجهول. وقد صرح أبو داود بتضعيفه حيث قال في سننه: روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة وإسناده واه انتهى كلام أبي داود. وروى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وقال الحافظ في التلخيص حسنه المنذري والنووي وضعفه عبد الحق وابن القطان وفيه عبد الله بن منين وهو مجهول، والراوي عنه الحارث بن سعيد العتقي وهو لا يعرف أيضاً. وقال ابن ماكولا ليس له غير هذا الحديث انتهى كلام الحافظ.
قلت: قال الحافظ في التقريب: عبد الله بن منين بنون مصغر اليحصبي المصري وثقه يعقوب بن سفيان انتهى. وقال في ترجمة الحارث بن سعيد العتقي أنه مقبول، فالظاهر أن هذا الحديث حسن، وفيه دليل على أن مواضع السجود خمسة عشر موضعاً، وإليه ذهب أحمد والليث وإسحاق وابن وهب وطائفة من أهل العلم. قال الطيبي: واختلفوا في عدة سجدات القرآن فقال أحمد: خمس عشرة أخذاً بظاهر حديث عمرو بن العاص فأدخل سجدة ص فيها. وقال الشافعي أربع عشرة سجدة منها ثنتان في الحج وثلاث في المفصل وليست سجدة ص منهن بل هي سجدة شكر. وقال أبو حنيفة: أربع عشرة فأسقط الثانية من الحج وأثبت سجدة ص. وقال مالك: إحدى عشرة فأسقط سجدة ص وسجدات المفصل انتهى كلام الطيبي.
قلت: الظاهر هو ما ذهب إليه الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي أيضاً على ما حكى الترمذي وهو رواية عن مالك وهو مذهب الليث وغيره كما عرفت.
فائدة: إعلم أن أول مواضع السجود خاتمة الأعراف، وثانيها عند قوله في الرعد {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}، وثالثها عند قوله في النحل {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، ورابعها عند قوله في بني إسرائيل { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}، وخامسها عند قوله في مريم {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} ، وسادسها عند قوله في الحج {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}، وسابعها(3/157)
وفي البابِ عن علي وابنِ عباسٍ وأبي هُريرةَ وابنِ مسعودٍ وزيدِ بنِ ثابتٍ وَعمرو بنِ العاصِ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي الدرْداءِ حديثٌ غريبٌ لا نعرِفُهُ إلاّ مِن حديثِ سعيدِ بن أبي هِلالٍ عن عُمَرَ الدّمَشْقيّ.
ـــــــ
عند قوله في الفرقان {وَزَادَهُمْ نُفُورا} {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، وتاسعها عند قوله في {تَنْزِيلٌ} {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}، وعاشرها عند قوله في ص {وَخَرَّ رَاكِعاً} وأناب، والحادي عشر عند قوله في حم السجدة {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور عند قوله وهم لا يسأمون، والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر سجدات المفصل، والخامس عشر السجدة الثانية في الحج كذا في النيل.
قوله: "وفي الباب عن علي وابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود وزيد بن ثابت وعمرو بن العاص" أما حديث علي فأخرجه الطبراني في الأوسط وسنده ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الصبح في تنزيل السجدة، وأخرج البيهقي عنه بلفظ عزائم السجود أربع {ألم تنزيل للسجدة}، {وحم السجدة}، و{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ }، والنجم. كذا في شرح السراج. وأما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري والترمذي. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم والترمذي. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه الشيخان. وأما حديث زيد بن ثابت فأخرجه أيضاً الشيخان. وأما حديث عمرو بن العاص فأخرجه أبو داود وابن ماجه وتقدم لفظه.
قوله: "حديث أبي الدرداء حديث غريب" وهو ضعيف كما عرفت "لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن أبي هلال عن عمر الدمشقي" وهو مجهول كما عرفت. وقال الحافظ في ترجمة سعيد بن أبي هلال: صدوق لم أر لأبن حزم في تضعيفه سلفاً. إلا أن الساجي حكى عن أحمد أنه اختلط.(3/158)
566- حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا عبد الله بن صالح أخبرنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن عمر وهو ابن حيان الدمشقي قال سمعت مخبرا يخبرني عن أم درداء عن أبي درداء قال " سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة منها التي في النجم
وهذا أصح من حديث سفيان بن وكيع عن عبد الله بن وهب
ـــــــ
قوله: "وهذا أصح من حديث سفيان بن وكيع"
أي حديث عبد الله بن عبد الرحمَن أرجح من حديث سفيان بن وكيع وضعفه أقل من ضعفه، فإن سفيان بن وكيع متكلم فيه. قال الحافظ في التقريب: كان صدوقاً إلا أنه ابتلى بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه انتهى. وقال الخزرجي في الخلاصة قال البخاري يتكلمون فيه(3/159)
باب في الخروج النساء إلى المساجد
...
395 ـ باب في خُرُوج النّساءِ إلى المساجد
567 ـ حدثنا نصرُ بنُ علي حدثنا عيسى بنُ يونُسَ عن الأعمَشِ عن مُجَاهِد قال: كُنّا عندَ ابنِ عُمَر فقال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " ايذَنُوا للنّسَاءِ بالليلِ إلى المسَاجِدِ" فقال ابنُهُ: والله لا نَأذَنُ لَهُنَ يَتّخِذْنَهُ
ـــــــ
ـ باب "ما جاءَ" في خُرُوج النّساءِ إلى المساجد
"قوله أخبرنا: عيسى بن يونس" بن أبي إسحاق السبيعي بفتح المهملة وكسر الموحدة أخو إسرائيل كوفي نزل الشام من ابطا ثقة مأمون.
قوله: "ايذنوا بصيغة الأمر من الإذن" وكأنه أصله إءذنوا فأبدلت الهمزة الثانية بالياء "بالليل" خص الليل بالذكر لما فيه من الستر بالظلمة "فقال ابنه" أي بلال أو واقد. قال المنذري وابن عبد الله بن عمر هذا هو بلال بن عبد الله(3/159)
دَ غلاً، فقال: فعلَ الله بِكَ وفَعَلَ، أقولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "وتقولُ لا نأذَنُ "لهنّ" ؟".
"قال" : وفي البابِ عن أبي هُرَيرةَ وزَينَبَ امرأةِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ وزيدِ بنِ خالد
ـــــــ
بن عمر جاء مبيناً في صحيح مسلم وغيره، وقيل هو ابنه واقد بن عبد الله بن عمر ذكره مسلم في صحيحه أيضاً. وقد حقق الحافظ في الفتح أن الراجح أن صاحب القصة بلال "والله لا نأذن لهن" أي للخروج إلى المساجد "يتخذنه دغلاً" بفتح المهملة ثم المعجمة وأصله الشجن الملتف ثم استعمل في المخادعة لكون المخادع يلف في ضميره أمراً ويظهر غيره، وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت وحملته على ذلك الغيرة فقال ابن عمر "فعل الله بك وفعل " وفي رواية بلال عند مسلم: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً ما سمعته يسبه مثله قط. وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات، وفي رواية زائدة عن الأعمش فانتهره وقال أف لك وإنما أنكر عليه ابن عمر بمخالفة الحديث. وأخذ منه تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وتأديب الرجل ولده وان كان كبيراً إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران. فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عند أحمد فما كلمه عبد الله حتى مات. وهذا إن كان محفوظاً يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة كذا في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وزينب امرأة عبد الله بن مسعود وزيد بن خالد" أما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد وأبو داود مرفوعاً بلفظ: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة. وأما حديث زينب فأخرجه مسلم بلفظ: إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً. وأما حديث زيد بن خالد فأخرجه ابن حبان بمثل حديث أبي هريرة.(3/160)
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَر حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري مختصراً ومسلم مطولاً.
فائدة: اعلم أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، ومع هذا لو استأذنت للصلاة إلى المسجد لا تمنع بل تؤذن لكن لا مطلقاً بل بشروط قد وردت في الأحاديث. قال النووي في شرح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، هذا وشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث وهي أن لا تكون مطيبة ولا متزينة، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها ولا ثياب فاخرة، ولا مختلطة بالرجال، ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها، وأن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها. وهذا النهي عن منعهن من الخروج محمول على التنزيه إذا كانت المرأة ذات زوج أو سيد ووجدت الشروط المذكورة فإن لم يكن لها زوج ولا سيد حرم المنع إذا وجدت الشروط. انتهى كلام النووي.
وقال الحافظ في الفتح: قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث عام في النساء إلا أن الفقهاء خصوه بشروط منها أن لا تطيب وهو في بعض الروايات: وليخرجن تفلات، أن غير متطيبات، ولمسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود: إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً، قال ويلحق بالطيب ما في معناه لأن سبب المنع منه ما فيه من تحريك داعية الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة وكذا الاختلاط بالرجال. وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر إلا إن أخذ الخوف عليها من جهتها لأنها إذا عريت مما ذكر وكانت مستترة حصل الأمن عليها ولا سيما إذا كان ذلك بالليل. وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث وغيره ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد. فعند أبي داود عن ابن عمر: لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن، وصححه ابن خزيمة، وعند أحمد والطبراني عن أم حميد(3/161)
ـــــــ
الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، قال: "قد علمت وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة" ، وإسناد أحمد حسن انتهى ما في الفتح مختصراً(3/162)
باب في الكراهية البزاق في المسجد
...
396ـ باب في كراهيةِ البُزَاقِ في المسْجِد
568 ـ حدثنا محمدُ بن بَشّار حدثنا يحيى بنُ سعيد عن سُفيانَ عن مَنْصورٍ عن ربْعيّ بن حِرَاشٍ عن طارقِ بن عبدِ الله المُحارِبيّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إذا كنتَ في الصلاةِ فلا تَبْزُقْ عن يَمينِكَ، ولكن خَلْفَكَ أو تِلْقَاءَ شِمَالِكَ، أو تَحْتَ قَدَمِكَ اليُسرَى".
ـــــــ
باب في كراهيةِ البُزَاقِ في المسْجِد
قوله: "أخبرنا يحيى بن سعيد" هو القطان "عن سفيان" هو الثوري "عن منصور" هو ابن المعتمر الكوفي ثقة ثبت "عن ربعي" بكسر الراء وسكون الموحدة "بن حراش" بكسر المهملة وآخره معجمة الكوفي ثقه عابد مخضرم.
قوله: "إذا كنت في الصلاة فلا تبزق عن يمينك" وفي حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه ملكاً "ولكن خلفك" أي إذا لم يكن خلفك أحد يصلي "أو تلقاء شمالك" أي جانب شمالك. قال الخطابي إن كان عن يساره أحد فلا يبزق في واحد من الجهتين لكن تحت قدمه أو ثوبه. قال الحافظ في الفتح: وفي حديث طارق المحاربي عند أبي داود ما يرشد لذلك فإنه قال فيه أو تلقاء شمالك إن كان فارغاً وإلا فهكذا وبزق تحت رجله ودلك، ولعبد الرزاق من طريق عطاء عن أبي هريرة نحوه، ولو كان تحت رجلة مثلاً شيء مبسوط أو نحوه تعين الثوب انتهى "أو تحت قدمك اليسرى" وفي حديث أبي هريرة عند البخاري(3/162)
وفي البابِ عن أبي سعيدٍ وابنِ عُمَر وأنسٍ وأبي هرَيْرةَ.
قال أبو عيسى: "و" حديثُ طارقٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ.
"قال" : وسَمِعْتُ الجَارُودَ يقولُ: سَمِعْتُ وكيعاً يقولُ: لَمْ يكذِبْ رِبْعيّ بنُ حِرَاشٍ في الإسلامِ كَذْبَةً.
"قال" : وقال عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي أثْبَتُ أهلِ الكوفَةِ منصورُ بنُ المُعْتَمِرِ.
ـــــــ
أو تحت قدمه فيدفنه. قال النووي في الرياض: المراد بدفنها ما إذا كان المسجد ترابياً أو رملياً، وأما إذا كان مبلطاً مثلاً فدلكها عليه بشيء مثلاً فليس ذلك بدفن بل زيادة في التقذير انتهى. قال الحافظ في الفتح: لكن إذا لم يبق لها أثر البتة فلا مانع، وعليه يحمل قوله في حديث عبد الله بن الشخير: ثم دلكه بنعله انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد وابن عمر وأنس وأبي هريرة" أما حديث أبي سعيد فأخرجه الشيخان عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ثخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فختها وقال: إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى. وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقاً في جدار القبلة فحكه ثم أقبل على الناس فقال: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله سبحانه قبل وجهه إذا صلى". وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان مرفوعاً: البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أيضاً الشيخان مرفوعاً: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها.
قوله: "حديث طارق حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه.(3/163)
569ـ حدثنا قُتَيْبة حدثنا أبو عَوَانَةَ عن قَتَادَةَ عن أنسِ بن مالكٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "البُزَاقُ في المسْجِدِ خَطِيئَةٌ وكَفّارَتها دَفْنُها".
قال "أبو عيسى" : "و" هذا حديثٌ "حسنٌ" صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "البزاق في المسجد خطيئة" قال النووي: اعلم أن البزاق في المسجد خطيئة مطلقاً سواء احتاج إلى البزاق أو لم يحتج بل يبزق في ثوبه فإن بزق في المسجد فقد ارتكب الخطيئة وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفن البزاق، هذا هو الصواب: أن البزاق خطيئة كما صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله العلماء، وللقاضي عياض فيه كلام باطل حاصله أن البزاق ليس بخطيئة إلا في حق من لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فليس بخطيئة، واستدل له بأشياء باطلة فقوله هذا غلط صريح مخالف لنفس الحديث انتهى.
قال الحافظ في الفتح: حاصل النزاع أن ههنا عمومين تعارضا وهما قوله البزاق في المسجد خطيئة، وقوله وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فالنووي يجعل الأول عاماً ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي بخلافه يجعل الثاني عاماً ويخص الأول بمن لم يرد دفنها، وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في التنقيب والقرطبي في المفهم وغيرهما، ويشهد لهم ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعاً قال: من تنخم في المسجد فلم يدفنه فسيئة وإن دفنه فحسنة فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن. ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعاً قال: وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخامة في المسجد لا تدفن، قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد بل به ويتركها غير مدفونة انتهى، قال وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر وهو تفصيل حسن انتهى.
قوله: "وكفارتها دفنها" قال النووي: معناه إن ارتكب هذه الخطيئة فعليه تكفيرها كما أن الزنا والخمر وقتل الصيد في الإحرام محرمات وخطايا وإذا(3/164)
ـــــــ
ارتكبها فعليه عقوبتها. واختلف العلماء في المراد بدفنها. فالجمهور قالوا المراد دفنها في تراب المسجد ورمله وحصاته إن كان فيه تراب أو رمل أو حصاة ونحوها وإلا فيخرجها انتهى.
تنبيه: كان للترمذي أن يورد باب خروج النساء إلى المساجد، وباب كراهية البزاق في المسجد قبل أبواب سجود القرآن أو بعدها، وأما إيرادهما في أثنائها فليس مما ينبغي.(3/165)
397- باب في السجدة في إذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك الذي خلق
570 ـ حدثنا قُتَيْبةُ "بنُ سعيدٍ" حدثنا سفيانُ بن عُيَينةَ عن أيوبَ بنِ موسى عن عَطاءِ بن مِيناءَ عن أبي هريرةَ قال "سَجَدْنَا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ} و {إذا السّمَاءُ انشَقّتْ}".
571 ـ حدثنا قُتَيْبَةَ حدثنا سفيانُ "بن عيينة" عن يحيى بن سعيدٍ عن أبي بكرِ بن محمدِ "هو" ابن عَمرِو بن حَزْمٍ عن عُمَر بنِ عبد العزيزِ عن أبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمَنِ بنِ الحارثِ بن هِشَام عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَه.
ـــــــ
باب ما جاء في السّجدْة في {إذا السّماءُ انْشَقّت} إلخ.
قوله: "عن عطاء بن ميناء" بكسر الميم وسكون التحتية وبنون وبمد ويقصر كذا في المغنى قال الحافظ صدوق من الثالثة "سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقرأ باسم ربك وإذا السماء انشقت" هما من المفصل فالحديث حجة على مالك رحمه الله.(3/165)
في "هذا" الحديثِ أربعة مِنَ "التّابِعينَ بعضُهم عن بعضٍ".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ يَرَوْنَ السجودَ في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ}.
ـــــــ
قوله: "وفي الحديث" أي في إسناده "أربعة من التابعين" من يحيى بن سعيد إلى أبي بكر بن عبد الرحمَن.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري.
قوله: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم يرون السجود في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك" وهذا هو الحق والصواب يدل عليه حديث الباب وحديث عمرو بن العاص المتقدم(3/166)
398- باب ما جَاء في السّجْدةِ في النّجم
572ـ حدثنا هارونُ بن عبدِ الله البزارُ "البغدادي" حدثنا عبدُ الصّمد بنُ عبدِ الوَارِثِ حدثنا أبي عن أيوبَ عن عِكْرَمَةَ عن ابن عباس قال "سَجَدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيها يعْنِي النّجْمَ والمسلِمونَ والمشركُونَ والجِنّ والإنسُ".
ـــــــ
باب ما جَاء في السّجْدةِ في النّجم
قوله: "حدثنا هارون بن عبد الله البزاز" بالموحدة والزايين المنقوطتين الحال أبو موسى ثقة من العاشرة "أخبرنا أبي" أي عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوري ثقة ثبت، قال الذهبي أجمع المسلمون على الاحتجاج به "عن أيوب" هو السختياني.
قوله: "سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يعني النجم والمسلمون والمشركون والجن والإنس" هذه اللامات في هذه الأربعة للعهد أي الذين كانوا عنده وهذا كان بمكة في المسجد الحرام. كذا في المرقاة نقلاً عن ميرك. وقال النووي في شرح(3/166)
وفي البابِ عن ابنِ مسعودٍ وأبي هريرةَ.رضي الله عنه.
قال أبو عيسى: حديثُ ابن عباسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ يَرَوْنَ السجودَ في سُورةِ النّجْمِ.
وقال بعضُ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهِمْ: ليسَ في المفَصّل سَجْدَة. وهو قولُ مالِكِ بن أنسٍ. والقولُ الأولُ أصَحُ. وبه يقولُ الثوريّ وابنُ المبارَكِ والشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
مسلم: قال القاضي عياض رحمه الله وكان سبب سجودهم فيما قال ابن مسعود رضي الله عنه أنها أول سجدة نزلت، قال القاضي: وأما ما يرويه الإخباريون والمفسرون أن سبب ذلك ما جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم فباطل لا يصح فيه شيء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل لأن مدح إله غير الله تعالى كفر ولا يصح نسبة ذلك إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يقوله الشيطان على لسانه، ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك انتهى.
وقال الحافظ في فتح الباري: قال الكرماني: سجد المشركون مع المسلمين لأنها أول سجدة نزلت فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم، أو وقع ذلك منهم بلا قصد، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم. انتهى كلام الكرماني. قال الحافظ: والاحتمالات الثلاثة فيها نظر، والأول منها لعياض، والثاني يخالفه سياق ابن مسعود حيث زاد فيه: إن الذي استثناه منهم أخذ كفاً من حصى فوضع جبهته عليه فإن ذلك ظاهر في القصد، والثالث أبعد إذ المسلمون حينئذ هم الذين كانوا خائفين من المشركين لا العكس، انتهى كلام الحافظ. قال الكرماني: وما قيل من أن ذلك بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صحة له عقلاً ولا نقلاً انتهى كلام الكرماني. قال الحافظ: ومن تأمل ما أوردته من ذلك في تفسير سورة الحج عرف وجه الصواب في هذه المسألة بحمد الله تعالى انتهى.(3/167)
ـــــــ
قلت: قال الله تعالى في سورة الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ، قال الإمام البخاري في صحيحه: قال ابن عباس في أمنيته إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم آياته، ويقال أمنيته قراءته الأماني يقرأون ولا يكتبون. قال الحافظ في الفتح: وعلى تأويل ابن عباس هذا يحمل ما جاء عن سعيد بن جبير وقد أخرجه ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فلما بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسان ه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا فنزلت هذه الآية . ثم ذكر الحافظ طرقاً عديدة لهذا الحديث ثم قال: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين: أحدهما: ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني أبو بكر بن عبد الرحمَن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه، والثاني ما أخرجه أيضاً من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية، ثم رد الحافظ على من قال إن هذه القصة لا أصل لها، وأن كل ما روى فيها فهو باطل، ثم قال إن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلاً. قال وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض. قال وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلي وإن شفاعتهن لترتجي فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمداً ما ليس منه وكذا سهواً إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته.
ثم ذكر تأويلات للعلماء ورد على كل واحد منها إلا تأويلاً واحداً فأقره وجعله أحسن الوجوه فقال وقد سلك العلماء في ذلك مسالك: فقيل: جرى ذلك(3/168)
ـــــــ
على لسانه حين أصابته سنة وهو لا يشعر، فلما علم ذلك أحكم الله آياته. قال ورده عياض بأنه لا يصح لكونه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا ولاية للشيطان عليه في النوم.
وقيل إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره، ورده ابن العربي بقوله تعالى حكاية عن الشيطان: "وما كان لي عليكم من سلطان" الآية ، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة في طاعة، وهكذا ذكر الحافظ تأويلات أخر ورد عليها ثم قال: وقيل: كان صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكياً نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها، قال وهذا أحسن الوجوه انتهى كلام الحافظ ملخصاً.
قلت: في هذا التأويل أيضاً كلام كما لا يخفى على المتأمل. وأما قوله إن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك أن لها أصلاً ففيه أن هذا ليس قانوناً كلياً. قال الزيلعي في نصب الراية: وكم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه وهو حديث ضعيف كحديث الطير، وحديث الحاجم والمحجوم، وحديث من كنت مولاه فعلى مولاه، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفاً، انتهى كلام الزيلعي فتأمل وتفكر.
تنبيه: الغرانيق بفتح الغين المعجمة طيور الماء، شبهت الأصنام المعتقدون فيها أنها تشفع لهم بالطيور تعلو في السماء وترتفع، وقال العيني في شرح البخاري: وقد فسر الكلبي في روايته الغرانيق العلى بالملائكة لا بآلهة المشركين كما يقولون: إن الملائكة بنات الله وكذبوا على الله ورد الله ذلك عليهم بقوله { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} فعلى هذا فلعله كان قرآناً ثم نسخ لتوهم المشركين بذلك مدح آلهتم، انتهى كلام العيني.
قلت: قوله فعلى هذا فلعله كان قرآناً ثم نسخ فيه نظر، فإن الروايات المروية في هذه القصة صريحة في أن هذه الكلمات ألقاها الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ولو سلم أن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} ، نزل في هذه القصة فقوله تعالى هذا أيضاً(3/169)
ـــــــ
صريح في أن ملقي هذه الكلمات على لسان النبي صلى الله عليه وسلم هو الشيطان قال العيني في شرح البخاري: فأخبر الله في هذه الآية أن سنته في رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه فهذا نص في أن الشيطان زاده في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله انتهى كلام العيني. فكيف يصح أن يقال إن هذه الكلمات أعنى تلك الغرانيق العلى إلخ. كانت قرآناً ثم نسخت فتأمل.
تنبيه آخر: قال صاحب العرف الشذي: التحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا اللفظ يعني تلك الغرانيق العلى إلخ بطوعه وأنه آية من القرآن نسخ تلاوتها قال: والمشار إليه بتلك الغرانيق الملائكة قال: وأتى العيني والحافظ بروايتين صحيحتين مرفوعتين على هذا القول الصحيح انتهى كلامه.
قلت: كلامه هذا مردود عليه، فإنه لم يثبت برواية مرفوعة صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا اللفظ بطوعه وأنه آية من القرآن نسخ تلاوتها. وأما قوله: وأتى العيني والحافظ بروايتين صحيحتين مرفوعتين على هذا القول الصحيح فخطأ فاحش ووهم قبيح، فإنه لم يأت العيني ولا الحافظ برواية مرفوعة صحيحة على هذا القول فضلاً عن روايتين مرفوعتين صحيحتين(3/170)
399ـ باب ما جَاء مَنْ لم يسْجُدْ فيه
573 ـ حدثنا يَحيى بنُ موسى حدثنا وكيعٌ عن ابنِ أبي ذِئب عن يزَيدَ بنِ عبدِ الله بن قُسَيْطٍ عن عطاءٍ بن يَسَارٍ عن زيدِ بن ثابتٍ قال " قرأتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم النّجْمَ فلَم يَسْجُدْ فيها".
ـــــــ
ـ "باب ما جاء من لم يسجد فيه"
أي في النجم.
قوله: "عن ابن أبي ذئب" هو محمد بن عبد الرحمَن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي المدني ثقة فقيه فاضل "عن يزيد بن عبد الله بن قسيط" بقاف مضمومة وسين مهلمة مصغراً وآخره طاء مهلمة ثقة من الرابعة.
قوله: " قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فيها " احتج(3/170)
قال أبو عيسى: حديثُ زيدِ بن ثابتٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وتَأوّلَ بعضُ أهلِ العلمِ هذا الحديثَ فقالَ: إنّما تَرَكَ النبيّ صلى الله عليه وسلم السّجُودَ لأنّ زيدَ بنَ ثابتٍ حينَ قَرَأ فلَم يَسْجُدْ لَمْ يَسْجُدِ النبيّ صلى الله عليه وسلم .
ـــــــ
بهذا من قال إن المفصل ليس فيه سجدة كالمالكية أو أن النجم بخصوصها لا سجود فيها كأبي ثور. قال الحافظ في الفتح: ترك السجود فيها في هذه الحالة لا يدل على تركه مطلقاً لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك إما لكونه كان بلا وضوء أو لكون الوقت كان وقت كراهة أو لكون القارئ كان لم يسجد، أو ترك حينئذ لبيان الجواز وهذا أرجح الاحتمالات وبه جزم الشافعي لأنه لو كان واجباً لأمره بالسجود ولو بعد ذلك انتهى كلام الحافظ.
قوله: "حديث زيد بن ثابت حسن صحيح" وأخرجه البخاري.
قوله: "وتأول بعض أهل العلم هذا الحديث قال إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم السجود لأن زيد بن ثابت حين قرأ فلم يسجد لم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم" يعني أن القارئ إمام للسامع، فلما لم يسجد زيد لم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم اتباعاً لزيد، ويدل على كون القارئ إماماً للسامع قول ابن مسعود لتميم بن حذلم وهو غلام فقرأ عليه سجدة فقال اسجد فإنك إمامنا فيها، ذكره البخاري تعليقاً، قال الحافظ في الفتح: وصله سعيد بن منصور من رواية مغيرة عن إبراهيم قال: قال تميم بن حذلم قرأت القرآن على عبد الله وأنا غلام فمررت بسجدة فقال عبد الله أنت إمامنا فيها. وقد روي مرفوعاً أخرجه ابن أبي شيبة من رواية ابن عجلان عن زيد بن أسلم: أن غلاماً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم السجدة فانتظر الغلام النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد فلما لم يسجد قال يا رسول الله أليس في هذه السجدة سجود؟ قال بلى ولكنك كنت إمامنا فيها ولو سجدت لسجدنا. رجاله ثقات إلا أنه مرسل، وقد روى عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال بلغني فذكر نحوه أخرجه البيهقي من رواية ابن وهب عن هشام(3/171)
وقالوا: السّجْدةُ واجبة على من سَمِعَهَا فلم يُرَخّصُوا في تركِهَا.
وقالوا: إن سَمِعَ الرجُلُ وهو على غَيْر وضوءٍ فإذَا توضّأَ سَجَدَ. وهوَ قولُ سفيانَ "الثوري" وأهلِ الكُوفةِ. وبه يقولُ إسحاقُ.
ـــــــ
بن سعد وحفص بن ميسرة معاً عن زيد بن أسلم به انتهى كلام الحافظ. "وقالوا السجدة واجبة على من سمعها ولم يرخصوا في تركها، وقالوا إن سمع الرجل وهو على غير وضوء فإذا توضأ سجد وهو قول سفيان وأهل الكوفة وبه يقول إسحاق"، وبه قال أبو حنيفة. قال العيني في عمدة القارئ: استدل صاحب الهداية على الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم "السجدة على من سمعها السجدة على من تلاها" ، ثم قال كلمة على للإيجاب، والحديث غير مقيد بالقصد. قال العيني: هذا غريب لم يثبت وإنما روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر رضي الله عنه، أنه قال السجدة على من سمعها، وفي البخاري قال عثمان: إنما السجود على من استمع، قال: واستدل أيضاً بالاَيات { فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}، وقالوا: الذم لا يتعلق إلا بترك واجب، والأمر في الاَيتين للوجوب انتهى كلام العيني. واستدل أيضاً بحديث أبي هريرة: إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلى النار، أخرجه مسلم.
قلت: قول ابن عمر رضي الله عنه السجدة على من سمعها، وقول عثمان إنما السجود على من استمع، لو سلم أنهما يدلان على وجوب سجدة التلاوة فهو قولهما وليس بمرفوع، وقولهما هذا مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين كما ستقف عليه. وأما قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} فمعناه لا يسجدون إباءاً وإنكاراً كما قال الشيطان أمرت بالسجود فأبيت، فالذم متعلق بترك السجود إباءاً وإنكاراً. قال ابن قدامة في المغنى: فأما الآية فإنه ذمهم لترك السجود غير معتقدين فضله ولا مشروعيته انتهى. وأما الاستدلال على وجوب سجدة التلاوة بقوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} ، وقوله {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فموقوف على أن يكون الأمر فيهما للوجوب وعلى أن يكون المراد بالسجود سجدة(3/172)
وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: إنّما السّجْدَةُ على مَن أرادَ أن يَسْجُدَ فيها والْتَمَسَ فضْلَهَا، ورَخّصُوا في تَركِها إنْ أرادَ ذلكَ. واحْتَجّوا بالحديثِ المرْفوعِ، حديثِ زيدِ بن ثابتٍ "حيث" قال " قرأتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم النّجْم فلم يَسْجُدْ "فيها" " فقالوا: لو كانتْ السّجْدةُ واجبةً لَمْ يَتْرُكِ النبيّ صلى الله عليه وسلم زيداً حتّى كانَ يَسجُدُ ويَسْجُدُ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
التلاوة وهما ممنوعان. قال الإمام البخاري في صحيحه: باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود، قال الحافظ في الفتح: أي وحمل الأمر في قوله: {اسْجُدُوا} على الندب أو على أن المراد به سجود الصلاة أو في الصلاة المكتوبة على الوجوب، وفي سجود التلاوة على الندب على قاعدة الشافعي ومن تابعه في حمل المشترك على معنييه. ومن الأدلة على أن سجود التلاوة منها ما هو بصيغة الخبر ومنها ما هو بصيغة الأمر، وقد وقع الخلاف في التي بصيغة الأمر هل هي فيها سجود أولاً، وهي ثانية الحج وخاتمة النجم واقرأ، فلو كان سجود التلاوة واجباً لكان ما ورد بصيغة الأمر أولى أن يتفق على السجود فيه مما ورد بصيغة الخبر انتهى.
"وقال بعض أهل العلم إنما السجدة على من أراد أن يسجد فيها والتمس فضلها ورخصوا في تركها قالوا إن أراد ذلك"، وهو قول الشافعي ومالك في أحد قوليه وأحمد وإسحاق والأوزاعي وداود، قالوا إنها سنة، وهو قول عمر وسلمان وابن عباس وعمران بن حصين وبه قال الليث كذا في عمدة القاري "واحتجوا بالحديث المرفوع حديث زيد بن ثابت قال قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فقالوا لو كانت السجدة واجبة لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم زيداً حتى كان يسجد ويسجد النبي صلى الله عليه وسلم"، أجاب العيني وغيره عن حديث زيد بن ثابت هذا بأن معناه أنه لم يسجد على الفور ولا يلزم منه أنه ليس في النجم سجدة ولا فيه نفي الوجوب انتهى. وقد عرفت في كلام الحافظ أن في ترك السجود فيها في هذه الحالة احتمالات، وأرجح الاحتمالات أنه ترك حينئذ لبيان الجواز(3/173)
واحْتَجُوا بحديثِ عُمَر: "أنهُ قَرأ سَجْدَةً على المِنْبَرِ فنَزَلَ فسجَدَ، ثم قَرأَهَا في الجمعةِ الثانيةِ فَتَهَيّأَ النّاسُ للسّجودِ، فقال إنها لم تُكْتَبْ علينَا إلا أن نَشَاءَ فلم يَسْجُدْ ولم يسْجُدوا. فذهبَ بَعْضُ أهلِ العلْمِ إلى هذَا وهوَ قَوْلُ الشّافَعيّ وأحْمَدَ.
ـــــــ
"واحتجوا بحديث ابن عمر أنه قرأ سجدة على المنبر فنزل فسجد ثم قرأها في الجمعة الثانية فتهيأ الناس للسجود فقال إنها لم تكتب علينا إلا أن نشاء فلم يسجد ولم يسجدوا"، أخرجه البخاري بلفظ: قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاءت السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر، وزاد نافع عن ابن عمر: أن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء انتهى. واستدل بقوله لم يفرض على عدم وجوب سجود التلاوة وأجاب بعض الحنفية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب.
وتعقب بأنه اصطلاح لهم حادث وما كان الصحابة يفرقون بينهما، ويغني عن هذا قول عمر: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، واستدل بقوله إلا أن نشاء على أن المراد مخير في السجود فيكون ليس بواجب.
وأجاب من أوجبه بأن المعنى: إلا أن نشاء قراءتها فيجب، ولا يخفي بعده ويرده تصريح عمر بقوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، بأن انتقاء الإثم عمن ترك الفعل مختاراً بدل على عدم وجوبه. كذا في فتح الباري.
تنبيه: قال العيني في شرح البخاري: واحتجوا أي القائلون بعدم وجوب سجدة التلاوة بحديث عمر رضي الله عنه أن الله لم يكتب علينا السجود إلا أن نشاء وهذا ينفي الوجوب. قالوا: قال عمر هذا القول والصحابة حاضرون، والإجماع السكوتي عندهم حجة انتهى كلام العيني. وأجاب هو عن هذا بأن ما روي عن عمر رضي الله عنه فموقوف وهو ليس بحجة عندهم انتهى.
قلت: العجب من العيني أنه لم يجب عن الإجماع السكوتي بل سكت عنه وهو حجة عنده وعند أصحابه الحنفية، قال هو في رد حديث القلتين ما لفظه: حديث(3/174)
ـــــــ
القلتين خبر آحاد ورد مخالفاً لإجماع الصحابة فيرد بيانه أن ابن عباس وابن الزبير أفتيا في زنجي وقع بئر في زمزم بنزح الماء كله ولم يظهر أثره وكان الماء من قلتين. وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهما ولم ينكر عليهما أحد منهم فكان إجماعاً، وخبر الواحد إذا ورد مخالفاً للإجماع يرد. انتهى كلامه. فللقائلين بعدم وجوب سجدة التلاوة أن يقولوا نحن لا نحتج بمجرد قول عمر رضي الله عنه بل بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإن عمر رضي الله عنه قال هذا القول بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم. والحق أن هذا الاحتجاج احتجاج صحيح ليس عند الحنفية جواب شاف عن هذا الاحتجاج. وقد أنصف بعض الحنفية في تعليقاته على جامع الترمذي حيث قال: قوله واحتجوا بحديث عمر الخ ليس هذا مرفوعاً بل أثر عمرو هذا تمسك الحجازيين. وأما الجواب من جانب الأحناف بأنه موقوف ومذهب عمر رضي الله عنه فلا يفيد، فإنه بمحضر جماعة من الصحابة فيمكن للشافعية قول إنه إجماع جمهور الصحابة، فما أجاب أحد جواباً شافياً انتهى. ثم قال هذا البعض راداً على العيني ما لفظه: وقال العيني بحذف المستثنى المتصل لأنه أصل فيكون المعنى: أنها لم تكتب علينا إلا أن نشاء مكتوبيتها. وقال أيضاً: إن المشيئة يتعلق بالتلاوة لا بالسجدة. وقال الحافظ إنها تتعلق بالسجدة. أقول تأويل العيني فيه أنا إذا قلنا إن المستثنى منه الوجوب والمستثنى هو التطوع يكون الاستثناء أيضاً متصلاً، وليس حد المتصل والمنفصل ما هو مشهور على الألسنة بل تفصيله مذكور في قطر الندى وشرح الشيخ السيد محمود الألوسي على المقدمة الأندلسية، وأيضاً يخالف قول العيني لفظ الباب فلم يسجد ولم يسجدوا الخ فإنه تحقق التلاوة في واقعة الباب. وأما قول إنه تأخير السجدة الآن الآن الأداء لا يجب في الفور فبعيد لأنه لا عذر ولا نكتة لترك السجدة الآن بخلاف ما مر منّ واقعة النبي صلى الله عليه وسلم فلم أر جواباً شافياً انتهى كلام بعض الحنفية في تعليقه المسمى بالعرف الشذي.
قلت: قول عمر رضي الله عنه ومن لم يسجد فلا إثم عليه دليل صريح على عدم وجوب سجدة التلاوة كما عرفت في كلام الحافظ، وأما تأويل العيني بأن معناه من لم يسجد فلا إثم عليه في تأخيره عن وقت السماع فباطل مردود عليه فإنه لا دليل على هذا التأويل(3/175)
400 ـ باب ما جَاء في السّجدة في ص
574 ـ حدثنا ابنُ أبي عمرَ حدثنا سفيانُ عن أيوبَ عن عِكرمةَ عن ابن عباسٍ قال " رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يسجدُ في صَ. قال ابن عباسٍ: وليستْ مِن عَزَائِمِ السّجودِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
واختلفَ أهلُ العلمِ في ذلك. فرأى بعض أهل العلم "من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم" "وغيرهم" أن يسجد فيها. وهو قولُ سفيانَ "الثوري" وابن المباركِ والشافعيّ وأحمدَ وإسحاقَ. وقال بعضهم: إنها تَوْبةُ نبي ولَمْ يَرَوُا السجودَ فيها.
ـــــــ
باب ما جَاء في السّجدة في ص
قوله: "عن أيوب" هو السختياني.
قوله: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في ص"، هذا دليل صريح على ثبوت السجدة في ص "قال ابن عباس وليست من عزائم السجود" ، المراد بالعزائم ما وردت العزيمة على فعله كصيغة الأمر مثلاً بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من لا يقول بالوجوب. وقد روى ابن المنذر وغيره عن علي بن أبي طالب بإسناد حسن أن العزائم حم، والنجم، واقرأ، وألم تنزيل، وكذا ثبت عن ابن عباس في الثلاثة الأخر، وقيل الأعراف، وسبحان،، وحم، وألم، أخرجه ابن أبي شيبة كذا في فتح الباري.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي.
قوله: "فرأى بعض أهل العلم أن يسجد فيها وهو قول سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقد عد الترمذي الشافعي(3/176)
ـــــــ
من القائلين بسجود التلاوة في صلاته، وقوله المشهور أنه لا يسجد فيها في الصلاة ويسجد خارج الصلاة، قال السجدة فيها ليست سجدة تلاوة بل سجدة شكر وسجود الشاكر لا يشرع في الصلاة. قال العيني في شرح البخاري: لا خلاف بين الحنفية والشافعية في أن صلاته فيها سجدة تفعل، وهو أيضاً مذهب سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق، غير أن الخلاف في كونها من العزائم أم لا، فعنه الشافعي ليست من العزائم وإنما هي سجدة شكر تستحب في غير الصلاة وتحرم فيها الصحيح، وهذا هو المنصوص عنده، وبه قطع جمهور الشافعية، وعند أبي حنيفة وأصحابه هي من العزائم، وبه قال ابن شريح وأبو إسحاق المروزي، وهو قول مالك أيضاً. وعن أحمد كالمذهبين والمشهور منهما كقول الشافعي "وقال بعضهم إنها توبة نبي ولم يرو السجود فيها"، قال العيني: قال داود: عن ابن مسعود لا سجود فيها، وقال هي توبة نبي، وروي مثله عن عطاء وعلقمة. قال واحتج الشافعي ومن معه بحديث ابن عباس هذا يعني المذكور في الباب، ولابن عباس حديث آخر في سجوده في صلاته أخرجه النسائي من رواية عمر بن أبي ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاته فقال سجدها داود عليه السلام توبة ونسجدها شكراً. وله حديث آخر أخرجه البخاري والنسائي أيضاً في الكبرى في التفسير ولفظه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد في ص {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} قال العيني: هذا كله حجة لنا، والعمل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى من العمل بقول ابن عباس، وكونها توبة لا ينافي كونها عزيمة، وسجدها داود توبة ونحن نسجدها شكراً لما أنعم الله على داود عليه السلام بالغفران والوعد بالزلفى وحسن مآب، ولهذا لا يسجد عندنا عقيب قوله: "وأناب" بل عقيب قوله "وحسن مآب" وهذه نعمة عظيمة في حقنا فكانت سجدة تلاوة لأن سجدة التلاوة ما كان سبب وجوبها إلا التلاوة، وسبب وجوب هذه السجدة تلاوة هذه الآية التي فيها الإخبار عن هذه النعم على داود عليه السلام وإطماعنا في نيل مثله انتهى كلام العيني.(3/177)
ـــــــ
قلت: لا منافاة بين العمل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبين العمل بقول ابن عباس رضي الله عنه، فالأولى بل المتعين أن يسجد في ص اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وخارج الصلاة، ويرى أن هذه السجدة ليست من عزائم السجود كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، وقول ابن عباس هذا مقدم على قول أبي حنيفة ومن تبعه أنها من عزائم السجود هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة، أما حديث أبي سعيد فأخرجه أبو داود قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد. و أما حديث أبي هريرة فأخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وراء الدارقطني أيضاً(3/178)
401ـ باب في السجْدةِ في الحَج
575 ـ حدثنا قُتَيْبةُ أخبرنا ابن لَهِيعَةَ عن مِشرَحِ بن هاعَانَ عن عُقبةَ بن عامرٍ قال: "قلتُ يا سولَ الله فُضّلَتْ سورةُ الحجّ بأنّ فيها سَجْدَتَيْنِ؟ قال: نَعَمْ، ومَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فلا يَقْرَأْهُمَا".
ـــــــ
باب في السجْدةِ في الحَج
قوله: "أخبرنا ابن لهيعة" هو عبد الله بن لهيعة ضعيف "عن مشرح" كمنبر "بن هاعان" بالهاء والعين بينهما ألف ثم ألف ونون كذا في نسخ الترمذي وكذا في التقريب والخلاصة، وقال في القاموس: ومشرح كمنبر ابن عاهان التابعي انتهى، وكذلك في المغنى لصاحب مجمع البحار فلعله يقال لوالد مشرح عاهان بتقديم العين على الهاء أيضاً: قال الحافظ في التقريب في ترجمته مقبول، وقال الذهبي في الميزان مشرح بن هاعان المصري عن عقبة بن عامر صدوق لينه بن حبان، وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين ثقة، قال ابن حبان بكني أبا مصعب يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها فالصواب ترك ما انفرد به انتهى.
قوله: "فضلت سورة الحج " بتقدير همزة الاستفهام " بأن فيها سجدتين"(3/178)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ ليسَ إسنادُهُ بذاك القويّ.
واختلفَ أهلُ العلمِ في هذا. فَرُوِيَ عن عُمَر بن الخطابِ وابن عُمَر
ـــــــ
أولاهما عند قوله تعالى {اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} وهي متفق عليها والثانية عند قوله تعالى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} " ومن لم يسجدهما" أي السجدتين "فلا يقرأهما" قال القاري في المرقاة أي آيتي السجدة حتى لا يأثم بترك السجدة، وهو يؤيد وجوب سجدة التلاوة. ووجه النهي أن السجدة شرعت في حق التالي بتلاوته والإتيان بها من حق التلاوة، فإذا كان بصدد التضييع فالأولى به تركها لأنها إما واجبة فيأثم بتركها أو سنة فيتضرر بالتهاون بها، كذا ذكر الطيبي. قال ابن الهمام: والسجدة الثانية في الحج عندنا لأنها مقرونة بالأمر بالركوع، والمعهود في مثله من القرآن كونه من أوامر ما هو ركن الصلاة بالاستقراء نحو "اسجدي واركعي مع الراكعين" انتهى ما في المرقاة.
قلت: حديث الباب هذا ضعيف لكنه معتضد بحديث عمرو بن العاص وقد تقدم تخريجه وبرواية مرسلة وبآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما ستعرف، فهو مقدم على الاستقراء الذي ذكره ابن الهمام، فالقول الراجح المعول عليه أن سورة الحج سجدتين والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث ليس إسناده بالقوي" وأخرجه أحمد وأبو داود. قال ميرك: يريد أن في إسناده عبد الله بن لهيعة ومشرح بن هاعان وفيهما كلام، لكن الحديث صحيح أخرجه الحاكم في مستدركه من غير طريقهما يعني من غير طريق أبي داود والترمذي، وأقره الذهبي على تصحيحه قاله الشيخ الجزري. كذا في المرقاة. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر حديث الباب ما لفظه: وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وقد ذكر الحاكم أنه تفرد به وأكده الحاكم بأن الرواية صحت فيه من قول عمر وابنه وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى وعمار ثم ساقها موقوفة عنهم، وأكده البيهقي بما رواه في المعرفة من طريق خالد بن معدان مرسلاً انتهى.
قلت: وفي الباب عن عمرو بن العاص وقد تقدم تخريجه.(3/179)
أنهما قالا: فُضّلَتْ سورةُ الحجّ بأنّ فيها سَجْدَتَيْنِ. وبه يقولُ ابنُ المباركِ والشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
ورأى بعضُهم فيها سَجْدَةً وهو قولُ سفيانَ الثوريّ "ومالِكٍ" "وأهلِ الكُوفةِ" .
ـــــــ
قوله: "واختلف أهل العلم في هذا فروي عن عمر بن الخطاب وابن عمر أنهما قالا فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين"، أخرج مالك في الموطأ عن نافع مولى ابن عمر: أن رجلاً من أهل مصر أخبره أن عمر بن الخطاب قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين ثم قال إن هذه السورة فضلت بسجدتين، وأخرج عن عبد الله بن دينار أنه قال: رأيت عبد الله بن عمر سجد في سورة الحج سجدتين، وروى الطحاوي عن أبي الدرداء وأبي موسى الأشعري أنهما سجدا في الحج سجدتين، وروى الحاكم على ما ذكره الحافظ في التلخيص والزيلعي في نصب الراية عن هؤلاء الأربعة وابن عباس وابن مسعود وعمار بن ياسر: أنهم سجدوا فيه سجدتين "وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق" قال بعض العلماء الحنفية في تعليقه على الموطأ للإمام محمد: والحق في هذا الباب هو ما ذهب إليه عمر رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنه انتهى.
قلت: الأمر قال "ورأى بعضهم فيها سجدة" أي واحدة وهي السجدة الأولى، قال الإمام محمد في الموطأ: وكان ابن عباس لا يرى في الحج إلا سجدة واحدة الأولى انتهى. قال الطحاوي في شرح معاني الآثار بعد رواية أثر ابن عباس هذا: فبقول ابن عباس نأخذ انتهى.
قلت: روى ابن أبي شيبة عن علي وأبي الدرداء وابن عباس أنهم سجدوا فيه سجدتين، كذا في المحلي، وقد تقدم أن الحاكم روى عن ابن عباس أنه سجد فيه سجدتين "وهو قول سفيان الثوري ومالك وأهل الكوفة" وهو قول أبي حنيفة رحمه الله(3/180)
باب ما جاء ما يقول في سجود القرآن
...
402ـ باب ما يقولُ في سجودِ القرآن
576 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا محمدُ بن يزيدَ بن خُنَيْسٍ حدثنا الحسنُ بنُ محمدِ بنِ عُبَيْدِ الله بن أبي يزيدَ قال: قال لي ابنُ جريجٍ: يا حَسَنُ أخبرني عُبَيْدُ الله بن أبي يزيدَ عن ابن عباس قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسولَ الله إنّي رأيْتُني اللّيلةَ وأنا نائِمٌ كأَنّي أُصَلّي خَلْفَ شجَرَةٍ فسَجدْتُ فَسَجَدَتِ الشَجرةُ لسُجودي، فَسَمِعْتُها وهي تقولُ: اللّهُمّ اكتُبْ لي بها عندَكَ أجراً، وضَعْ عَنّي بها وِزراً واجعَلْهَا لي عندَك ذُخْراً، وتَقَبّلْها منّي كما تَقَبّلْتَها مِن عبدِك داودَ. قال الحسنُ:
ـــــــ
باب ما يقولُ في سجودِ القرآن
قوله: "أخبرنا محمد بن يزيد بن خنيس" بضم الخاء المعجمة مصغراً. قال في التقريب مقبول. وقال في الخلاصة قال أبو حاتم شيخ وقال في هامش الخلاصة زاد في التهذيب صالح كتبنا عنه بمكة، وذكره ابن حبان في الثقات قال: كان من خيار الناس ربما أخطأ يجب أن يعتبر بحديثه إذا بين السماع في خبره انتهى. "أخبرنا الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد" قال في التقريب مقبول، وقال في الخلاصة: قال العقيلي لا يتابع عليه، وكذا في الميزان وزاد فيه وقال غيره فيه جهالة ما روى عنه سوى ابن خنيس "أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد" المكي ثقة كثير الحديث.
قوله "جاء رجل" قال ميرك: هو أبو سعيد الخدري كما جاء مصرحاً به في روايته، وقد أبعد من قال إنه ملك من الملائكة، قال الشيخ الجزري في تصحيح المصابيح كذا في المرقاة "فسجدت" يحتمل أن تكون السجدة صلاتية والأظهر أنها سجدة تلاوة وأن الآية آية ص "اللهم اكتب لي" أي اثبت لي بها أي بسبب هذه السجدة "وضع" أي حط "وزراً" أي ذنباً "واجعلها لي عندك ذخراً" أي كنزاً قيل ذخراً بمعنى أجراً، وكرر لأن مقام الدعاء يناسب(3/181)
قالَ "لي" ابن جُرَيْجٍ: قال لي جدّكَ: قال ابنُ عباسٍ: "فقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم سجدةٍ ثم سَجَدَ. "قال" فقال ابن عباسٍ: فسمعْتُه وهو يقولُ مثلَ ما أخبرهُ الرجلُ عن قولِ الشجرةِ".
"قال" : وفي البابِ عن أبي سعيدٍ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ "حسن" غريبٌ مِن حديثِ ابن عباسٍ لا نعرِفهُ إلا مِنْ هذا الوجِه.
ـــــــ
الإطناب، وقيل الأول طلب كتابة الأجر وهذا طلب بقائه سالماً من محبط أو مبطل. قال القاري: هذا هو الأظهر "كما تقبلتها من عبدك داود"، فيه إيماء إلى أن سجدة ص للتلاوة: قال السيوطي في قوب المغتذي: قال القاضي أبو بكر بن العربي: عسر علي في هذا الحديث أن يقول أحد ذلك فإن فيه طلب قبول مثل ذلك القبول وأين ذلك اللسان وأين تلك النية. قلت: ليس المراد المماثلة من كل وجه بل في مطلق القبول، وقد ورد في دعاء الأضحية وتقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك ومحمد نبيك، وأين المقام من المقام ما أريد بهذا إلا مطلق القبول، وفيه إيماء إلى الإيمان بهؤلاء الأنبياء وإذا ورد الحديث بشيء اتبع ولا إشكال انتهى كلام السيوطي.
قوله: "قال لي جدك" هو عبيد الله بن أبي يزيد.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد" أخرجه البيهقي، واختلف في وصله وإرساله، وصوب الدارقطني في العلل رواية حماد عن حميد عن بكر أن أبا سعيد رأى فيما يرى النائم وذكر الحديث كذا في النيل والتلخيص.
قوله: "هذا حديث غريب إلخ" وأخرجه ابن ماجه ولفظه: اللهم احطط عني بها وزراً واكتب لي بها أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وأقره الذهبي على تصحيحه كذا في المرقاة. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر حديث الباب ما لفظه: رواه الترمذي والحاكم(3/182)
577 ـ حدثنا محمدُ بن بَشّار حدثنا عبدُ الوهّابِ الثقَفي حدثنا خالدٌ الحَذّاء عن أبي العاليةِ عن عائشةَ قالت " كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ في سجودِ القرآنِ بالليلِ: سجدَ وَجْهِي للذِي خَلَقَه وشَقّ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ بحَوْلَهِ وقوتهِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وابن حبان وابن ماجه وفيه قصة، وضعفه العقيلي بالحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد فقال فيه جهالة انتهى.
قوله: "يقول في سجود القرآن بالليل" : حكاية للواقع لا للتقييد به " سجد وجهي" بفتح الياء وسكونها "للذي خلقه وشق سمعه وبصره"، تخصيص بعد تعميم أي فتحهما وأعطاهما الإدراك وأثبت لهما الإمداد بعد الإيجاد. قال القاري في المرقاة: قال ابن الهمام: ويقول في السجدة ما يقول في سجدة الصلاة على الأصح، واستحب بعضهم {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } لأنه تعالى أخبر عن أوليائه وقال: { يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } قال القاري: وينبغي أن لا يكون ما صحح على عمومة، فإن كانت السجدة في الصلاة فيقول فيها ما يقال فيها، فإن كانت فريضة قال سبحان ربي الأعلى أو نفلاً قال ما شاء مما ورد لسجد وجهي وكقول اللهم اكتب لي الخ، قال وإن كان خارج الصلاة قال كل ما أثر من ذلك انتهى كلام القاري.
قلت: إن كانت السجدة في الصلاة المكتوبة يقول فيهما أيضاً ما شاء مما ورد بإسناد صحيح كسجد وجهي للذي خلقه الخ لا مانع من قول ذلك فيها. هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه أحمد وأصحاب السنن والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن السكن وقال في آخره ثلاثاً، زاد الحاكم في آخره: فتابرك الله أحسن الخالقين، وزاد البيهقي وصوره بعد قوله خلقه،(3/183)
ـــــــ
وللنسائي من حديث جابر مثله في سجود الصلاة، ولمسلم من حديث علي كذلك كذا في التلخيص والنيل.
فائدة: قال ابن قدامة في المغنى: يشترط للسجود ما يشترط لصلاة النافلة من الطهارتين من الحدث والنجس وستر العورة واستقبال القبلة والنية ولا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه في الحائض تسمع السجدة تومئ برأسها، وبه قال سعيد بن المسيب قال ويقول اللهم لك سجدت، وعن الشعبي فيمن سمع السجدة على غير وضوء يسجد حيث كان وجهه. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقبل الله صلاة بعير طهور، فيدخل في عمومه السجود ولأنه صلاة فيشترط له ذلك كذات الركوع انتهى.
وقال الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير في سبل السلام: والأصل أنه لا يشترط الطهارة إلا بدليل، وأدلة وجوب الطهارة وردت للصلاة، والسجدة لا تسمى صلاة، فالدليل على من شرط ذلك انتهى.
وقال الشوكاني في النيل ما ملخصه: ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدل على اعتبار أن يكون الساجد متوضئاً، وهكذا ليس في الأحاديث ما يدل على اعتبار طهارة الثياب والمكان. وأما ستر العوره واستقبال القبلة مع الإمكان فقيل إنه معتبر اتفاقاً، قال في الفتح: لم يوافق ابن عمر أحد على جواز السجود بلا وضوء إلا الشعبي، أخرجه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح. وأخرج أيضاً عن أبي عبد الرحمَن السلمي أنه كان يقرأ السجدة ثم يسجد وهو على غير وضوء إلى غير القبلة وهو يمشي يوميء إيماءاً انتهى كلام الشوكاني.
قلت: الاحتياط للعمل فيما قال ابن قدامة في المغنى، وعليه عملنا. هذا ما عندنا والله تعالى أعلم(3/184)
باب ماذكر فيمن فاته حزبه من اليل فقضاه بالنهار
...
403ـ باب باب ما ذُكِر فيمن فاتَه حِزْبهُ من الليلِ فقضاهُ بالنهار
578 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا أبو صفوانَ عن يونسُ "بن يزيد" عن ابن شهاب "الزهري" أن السائبَ بن يزيدَ و عبيدَ الله بن عُتْبَةَ بن مسعودٍ أخبراه عن عبدِ الرحمَن بن عبدِ القاريّ قال: سَمِعْتُ عُمَر بن الخطابِ يقولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ نَامَ عَن حِزبهِ أو عَن شيءٍ منهُ فقرأَهُ ما بين صَلاةِ الفجرِ وصلاةِ الظهرِ كُتِبَ له كأَنّما قرأَه منَ الليلِ".
ـــــــ
"باب ما ذكر فيمن فاته حزبه من الليل فقضاه بالنهار"
قال الجزري في النهاية: الحزب ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالورد انتهى.
قوله: "عن يونس" هو ابن يزيد "أن السائب بن يزيد وعبيد الله أخبراه" الضمير المنصوب يرجع إلى ابن شهاب، وعبيد الله هذا هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري ثقة ثبت "عن عبد الرحمَن بن عبد القاري" قال الحافظ في التقريب: عبد الرحمَن بن عبد بغير إضافة إلى القاري يقال له روية، وذكره العجلي في ثقات التابعين. واختلف قول الواقدي فيه، قال تارة له صحبة، وتارة تابعي والقاري بتشديد الياء منسوب إلى القارة قبيلة مشهورة بجودة الرمي.
قوله: "من نام عن حزبه" بكسر الحاء المهملة وسكون الزاي وبالموحدة أي عن ورده يعني عن تمامه، وفي رواية ابن ماجه عن جزئه بجيم مضمومة وبالهمزة مكان الموحدة وفي رواية النسائي: من نام عن حزبه أو قال جزئه وهو شك من بعض الرواة. قال العراقي: وهل المراد به صلاة الليل أو قراءة القرآن في صلاة أو غير صلاة، يحتمل كلا من الأمرين انتهى "أو عن شيء منه" أي من حزبه يعني عن بعض ورده "كتب له" جواب الشرط "كأنما قرأه من الليل" صفة مصدر محذوف أي أثبت أجره في صحيفة عمله إثباتاً مثل إثباته حين قرأه من الليل. قاله القاري. والحديث يدل على مشروعية اتخاذ ورد في الليل(3/185)
ال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. "قال" : وأبو صَفْوانَ اسمُه عبدُ الله بن سَعيدٍ المَكيّ وَروَى عنه الحُمَيْدِيّ وكبارُ الناس.
ـــــــ
وعلى مشروعية قضائه إذا فات لنوم أو لعذر من الأعذار، وأن من فعله ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كان كمن فعله في الليل. وقد ثبت من حديث عائشة عند مسلم والترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة.
: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري.
قوله: "وأبو صفوان اسمه عبد الله بن سعيد المكي الخ" قال في التقريب: عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان أبو صفوان الأموي الدمشقي نزيل مكة ثقة من التاسعة مات على رأس المائتين "روى عنه الحميدي وكبار الناس" كأحمد وابن المديني(3/186)
404 ـ باب ما جاءَ من التشديِدِ في الذي يَرْفَعُ رأسَهُ قَبْلَ الإمام
579 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا حَمّادُ بن زيدٍ عن محمدِ بن زيادٍ "وهو أبو الحارثِ البَصريّ ثقةٌ" عن أبي هريرةَ قال: قال محمدٌ صلى الله عليه وسلم "أمَا يَخْشَى الذي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قبل الإمامِ يحوّل الله رأْسَهُ رأْس حِمَارٍ".
ـــــــ
باب ما جاء من التشديد في الذي يرفع راسه فبل الإمام
قوله: "عن محمد بن زياد" الجمحي مولاهم "وهو أبو الحرث البصري ثقة" ثبت ربما أرسل من رجال الستة.
قوله: "أما يخشى" الهمزة للاستفهام وما نافية "الذي يرفع رأسه قبل الإمام" أي من السجود أو الركوع "أن يحول الله رأسه رأس حمار" اختلف في معنى هذا الوعيد فقيل يحتمل أن يرجع إلى أمر معنوي، فإن الحمار موصوف بالبلادة فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الإمام ويرجح لهذا المجاز أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين لكن ليس في الحديث(3/186)
قال قُتَيْبَةُ: قال حمادٌ: قال لي محمدُ بن زيادٍ "و" إنما قال "أمَا يخشى".
ـــــــ
أن ذلك يقع ولا بد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضاً لذلك وكون فعله ممكناً لأن يقع عنه ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء. قال ابن دقيق العيد: وقال ابن بزيزة: يحتمل أن يراد بالتحويل المسخ أو تحويل الهيئة الحسية أو المعنوية أو هما معاً. وحمله آخرون على ظاهره إذ لا مانع من وقوع ذلك، بل يدل على جواز وقوع المسخ في هذه الأمة حديث أبي مالك الأشعري فان فيه ذكر الخسف وفي آخره يمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة.
ويقوي حمله على ظاهره أن في رواية ابن حبان من وجه آخر عن محمد بن زياد أن يحول الله رأسه رأس كلب، فهذا يبعد المجاز لانتقاء المناسبة التي ذكروها من بلاده الحمار. ومما يبعده أيضاً إيراد الوعيد بالأمر المستقبل وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال مثلاً فرأسه رأس حمار. وإنما قلت ذلك لأن الصفة المذكورة وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور فلا يحسن أن يقال له يخشى إذا فعلت ذلك أن تصير بليداً مع أن فعله المذكور إنما نشأ من البلادة. كذا في فتح الباري.
قلت: القول الظاهر الراجح هو حمله على الظاهر ولا حاجة إلى التأويل مع ما فيه ذكره الحافظ.
ويؤيد حمله على الظاهر ما حكى عن بعض المحدثين أنه رحل إلى دمشق لأخذ الحديث عن شيخ مشهور بها فقرأ جملة لكنه كان يجعل بيني وبينه حجاباً ولم ير وجهه فلما طالت ملازمته له ورأى حرصه على الحديث كشف له الستر فرأى وجهه وجه حمار فقال له احذر يا بني أن تسبق الإمام فإني لما مر بي الحديث استبعدت وقوعه فسبقت الإمام فصار وجهي كما ترى والله تعالى أعلم.
قوله: "قال لي محمد بن زياد إنما قال أما يخشى" في حاشية النسخة الأحمدية غرضه من هذا القول دفع توهم من قال إنا نشاهد من الناس الرفع قبل الإمام ولا يحول رأسه، فقال محمد: إن قوله أما يخشى ورد البتة لكن المراد منه إما التهديد أو يكون في البرزخ أو في النار انتهى ما في الحاشية.(3/187)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ومحمدُ بن زيادٍ "هو" بصري ثقة يُكْنَى أبا الحارثِ.
ـــــــ
قلت: روى شعبة هذا الحديث عن محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ: أما يخشى أحدكم، أو ألا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام، كما في صحيح البخاري، فوقع الشك لشعبة في أن محمد بن زياد حدثه عن أبي هريرة بلفظ: أما يخشى أو ألا يخشى، فالظاهر أن حماد بن زيد سأل محمد بن زياد عن أن أبا هريرة حدثك بلفظ أما يخشى أو ألا يخشى، فأجابه محمد بن زياد بقوله إنما قال أي أبو هريرة أما يخشى. والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.و أبوداود(3/188)
405 ـ باب ما جاءَ في الذي يصلّي الفريضَةَ ثم يؤمّ الناسَ بعد ذلك
580 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا حمادُ بن زيدٍ عن عَمْروِ بن دينارٍ عن جابرِ بن عبدِ الله "أن مُعاذَ بن جَبَلٍ كان يُصَلّي مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المغربَ ثم يرجعُ إلى قومهِ فَيؤمّهم".
ـــــــ
قلت: روى شعبة هذا الحديث عن محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ: أما يخشى أحدكم، أو ألا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام، كما في صحيح البخاري، فوقع الشك لشعبة في أن محمد بن زياد حدثه عن أبي هريرة بلفظ: أما يخشى أو ألا يخشى، فالظاهر أن حماد بن زيد سأل محمد بن زياد عن أن أبا هريرة حدثك بلفظ أما يخشى أو ألا يخشى، فأجابه محمد بن زياد بقوله إنما قال أي أبو هريرة أما يخشى. والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.و أبوداود
باب ما جاءَ في الذي يصلّي الفريضَةَ ثم يؤمّ الناسَ بعد ذلك
قوله: "كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب" وفي رواية مسلم من طريق منصور عن عمر وعشاء الآخرة "ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم" في رواية من الطريق المذكورة فيصلي بهم تلك الصلاة، وللبخاري في الأدب فيصلي بهم الصلاة أي المذكورة. وفي هذا رد على من زعم أن المراد أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي صلى الله عليه وسلم غير الصلاة التي كان يصليها بقومه، وفي رواية البخاري من طريق شعبة عن عمرو ثم يرجع فيؤم قومه فصلى العشاء قال الحافظ في الفتح: كذا في معظم الروايات، ووقع في رواية لأبي عوانة والطحاوي صلى بأصحابه المغرب، فإن حمل على التعدد أو على أن المراد بالمغرب العشاء وإلا فما في الصحيح أصح انتهى.(3/188)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ أصحابِنا الشافعيّ وأحمدَ وإسحاقَ. قالوا: إذا أمّ الرجلُ القومَ في المكتوُبَةِ وقد كان صلاّها قبلَ ذلكَ أنّ صلاةَ مَنِ ائْتَمّ به جائزةٌ واحتجوا بحديثِ جابرٍ في قصةِ مُعَاذٍ. وهو حديثٌ صحيحٌ، وقد رُوِيَ مِن غَيْرِ وجْهٍ عن جابرٍ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "والعمل على هذا عند أصحابنا الشافعي وأحمد وإسحاق" فيه دليل على أن المراد من قول الترمذي أصحابنا أصحاب الحديث كالإمام أحمد والإمام الشافعي وغيرهما، وقد مر ما يتعلق به في المقدمة "قالوا إذا أم الرجل القوم في المكتوبة وقد كان صلاها قبل ذلك أن صلاة من ائتم به جائزة. واحتجوا بحديث جابر في قصة معاذ" قال الحافظ في الفتح: استدل بهذا الحديث على صحة اقتداء المفترض بالمتنفل بناء على أن معاذاً كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل، ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوي والدارقطني وغيرهم من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب، زاد هي له تطوع ولهم فريضة، وهو حديث صحيح. وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه منه فانتفت تهمة تدليسه فقول ابن الجوزي: إنه لا يصح مردود، وتعليل الطحاوي له بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج ولم يذكر هذه الزيادة ليس بقادح في صحته، لأن ابن جريج آسن وأجل من ابن عيينة وأقدم أخذاً عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه ولا أكثر عدداً، فلا مانع في الحكم بصحتها. وأما رد الطحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة فجوابه أن الأصل عدم الأدراج حتى يثبت التفصيل، فمهما كان مضموماً إلى الحديث فهو منه ولا سيما إذا روى من وجهين والأمر هنا كذلك. فإن الشافعي أخرجها متابعاً لعمرو بن دينار عنه.
وقول الطحاوي هو ظن من جابر مردود، لأن جابراً كان ممن يصلي مع معاذ فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يظن بجابر أنه يخبر عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه.(3/189)
وَرُوِيَ عن أبي الدّرْداءِ أَنه سُئِلَ عن رجُل دخلَ المسجدَ والقومُ في صلاةِ العَصرِ وهو يَحْسَبُ أنها صلاةُ الظهرِ فائْتَمّ بهم. قال: صلاتُه جائزةٌ.
ـــــــ
وأما قول الطحاوي لا حجة فيها لأنها لم تكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقريره فجوابه أنهم لا يختلفون في أن رأى الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم كلهم صحابة وفيهم ثلاثون عقبياً وأربعون بدرياً. قاله ابن حزم، قال ولا يحفظ من غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وابن عمر وأبو الدرداء وأنس وغيرهم انتهى.
فإن قلت: روى أحمد والطحاوي عن معاذ بن رفاعة عن سليم رجل من بني سلمة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن معاذ بن جبل يأتينا الحديث وفي آخره يا معاذ لا تكن فتاناً إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك فهذه الرواية تدل على عدم صحة اقتداء المفترض بالمتنفل فإن قوله: إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك قال الطحاوي: معناه إما أن تصلي معي ولا تصلي بقومك وإما أن تخفف بقومك أي ولا تصلي معي.
قلت: في صحة هذه الرواية كلام، قال الشوكاني في النيل: قد أعلها ابن حزم بالانقطاع لأن معاذ ابن رفاعة لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولا أدرك الذي شكا إليه لأن هذا الشاكي مات قبل أحد انتهى.
ثم في صحة ما ذكره الطحاوي في معنى قوله إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك كلام أيضاً. قال الحافظ في الفتح: وأما دعوى الطحاوي أن معناه إما أن تصلي معي ولا تصل بقومك، وإما أن تخفف بقومك ولا تصل معي ففيه نظر، لأن لمخالفه أن يقول بل التقدير: إما أن تصلي معي فقط إذا لم تخفف وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي وهو أولى من تقديره لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف لأنه هو المسئول عنه المتنازع فيه انتهى.
قوله: "وهو حديث صحيح".
قوله: "وروي عن أبي الدرداء أنه سئل عن رجل دخل المسجد والقوم في صلاة العصر وهو يحسب أنها صلاة الظهر فائتم به قال صلاته جائزة" لم أقف على من أخرجه ولم أر في جوازها حديثاً مرفوعاً. وأما القياس على قصة معاذ فقياس مع الفارق كما لا يخفى على المتأمل والله تعالى أعلم.(3/190)
قد قال قومٌ مِن أهلِ الكُوفِة: إذا ائْتَمّ قومٌ بإِمامٍ وهو يُصلّي العصرَ وهم يحسَبونَ أنها الظُهرُ فصلّى بهم واقْتَدَوْا به، فإِنّ صلاةَ المُقْتَدِي فاسدَةٌ إذا اختلفَ نِيّةُ الإمام و "نيّةُ" المأمُوم.
ـــــــ
وفتوى أبي الدرداء هذه فيما إذا يحسب الداخل أنها صلاة الظهر، وأما إذا يعلم أنها صلاة العصر ومع علمه بذلك قد ائتم به بنية الظهر، فالظاهر أن صلاته ليست بجائزة، يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت. قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد بعد ذكر هذا الحديث بهذا اللفظ ما لفظه: قلت له في الصحيح فلا صلاة إلا المكتوبة، ومقتضى هذا أنه لو لم يصل الظهر وأقيمت صلاة العصر فلا يصلي إلا العصر لأنه قال فلا صلاة إلا التي أقيمت، رواه أحمد والطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة وفيه كلام انتهى كلام الهيثمي "وقد قال قوم من أهل الكوفة إذا ائتم قوم بإمام وهو يصلي العصر وهم يحسبون أنها الظهر فصلى بهم واقتدوا به فإن صلاة المقتدي فاسدة إذا اختلفت نية الإمام والمأموم"، وهو قول الحنفية واحتجوا بأن المقتدين قد اختلفوا على إمامهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، الحديث. أخرجه الشيخان عن أبي هريرة.
وأجيب عنه بأن الاختلاف المنهى عنه مبين في الحديث بقوله فإذا كبر فكبروا الخ وفيه شيء فتأمل(3/191)
باب ما ذكر من الرخصة في السجود على الثواب في الحر والبرد
...
406 ـ باب
ما ذُكِرَ مِنَ الرّخْصَةِ في السجودِ على الثوبِ في الحَرّ والبَرْد
581 ـ حدثنا أحمدُ بن محمد حدثنا "عبدُ الله" بن المباركِ أَخبرنا خالدُ بن عبدِ الرحمَن "قال" حدثني غالبٌ القَطانُ عن بَكْرِ بن عبدِ الله
ـــــــ
باب ما ذُكِرَ مِنَ الرّخْصَةِ في السجودِ على الثوبِ في الحَرّ والبَرْد
قوله: "حدثنا أحمد بن محمد" بن موسى المروزي أبو العباس السمسار مردويه الحافظ وقد تقدم، "أخبرنا خالد بن عبد الرحمَن" السلمي أبو أمية البصري،(3/191)
المُزَنيّ عن أنسِ بن مالكٍ قال " كُنّا إذا صلّيْنَا خَلْفَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالظّهَائِرِ سَجَدْنا على ثِيابِنا اتّقَاءَ الحَرّ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
"قال" : وفي البابِ عن جابرِ بن عبدِ الله وابن عباسٍ. "وقد رَوَى وَكيعٌ هذا الحديث عن خالدِ بن عبدِ الرحمَن".
ـــــــ
قال أبو حاتم صدوق له في البخاري فرد حديث "وحدثني غالب القطان" هو غالب ابن خطاف أبو سليمان بن أبي غيلان البصري وثقه أحمد وابن معين.
قوله: "بالظهائر" جمع ظهيرة وهي شدة الحر نصف النهار، ولا يقال في الشتاء ظهيرة " سجدنا على ثيابنا" الثياب جمع الثوب والثوب في اللغة يطلق على غير المخيط وقد يطلق على المخيط مجازاً قاله الحافظ "اتقاء الحر" بالنصب على العلية أي لاتقاء الحر ولفظ أبي داود: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه. وفي الحديث جواز استعمال الثياب وكذا وغيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض لاتقاء حرها وكذا بردها، واستدل به على إجازة السجود على الثوب المتصل بالمصلى. قال النووي: وبه قال أبو حنيفة والجمهور، وحمله الشافعي على الثوب المنفصل انتهى وأيده البيهقي هذا الحمل بما رواه الاسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: فيأخذ أحدنا الحصى في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه، قال فلو جاز السجود على شيء متصل به لما احتاجوا إلى تبريد الحصى مع طول الأمر فيه.
وتعقب باحتمال أن يكون الذي كان يبرد الحصى لم يكن في ثوبه فضلة يسجد عليها مع بقاء سترته له كذا في فتح الباري.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "وفي الباب عن جابر بن عبد الله وابن عباس" أما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه ابن عدي وفي سنده عمر وبن شمر وجابر الجعفي وهما ضعيفان، وفي حديث جابر(3/192)
هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد على كور عمامته. وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب يتقي بفضوله حر الأرض وبردها، وأخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط والكبير، قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح كذا في النيل(3/193)
باب ما ذكر مما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس
...
407ـ باب ذِكْر ما يُسْتَحبُ مِن الجُلوسِ في المسْجدِ بعد صَلاةِ الصبحِ حتى تَطْلُعَ الشمْس
582 ـ حدثنا قُتَيْبةُ أخبرنا أبو الأحْوَصِ عن سِمَاك "بن حرب" عن جابرِ بنِ سَمُرَةَ قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الفجرَ قَعَدَ في مُصَلاّهُ حتى تَطْلُعَ الشمسُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
583 ـ حدثنا عبدُ الله بن معاويةَ الجُمَحِيّ البَصْريّ حدثنا عبدُ العزيزِ بن مُسْلِمٍ حدثنا أبو ظِلاَلٍ عن أنس بن مالك قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
ذِكْر ما يُسْتَحبُ مِن الجُلوسِ في المسْجدِ بعد صَلاةِ الصبحِ حتى تَطْلُعَ الشمْس
قوله: "إذا صلى الفجر قعد في مصلاه" أي يذكر الله تعالى كما في رواية الطبراني "حتى تطلع الشمس" حسناه، كذا هو ثابت في مسلم وأسقطه في رواية أخرى، وفي الحديث ندب القعود في المصلى بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي" بضم الجيم وفتح الميم وكسر الحاء المهملة منسوب إلى جمع بن عمر ثقة معمر من العاشرة. قال في الخلاصة: وثقه(3/193)
"مَنْ صَلى الغداة في جَمَاعَةِ ثُمّ قَعَدَ يَذْكُرُ الله حتى تَطْلُعَ الشمْسُ ثُمّ صلّى ركعَتيْنِ كانَتْ له كأَجْرِ حَجّةٍ وعُمْرةٍ "قال" : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: تَامّةٍ تَامّةٍ تَامّةٍ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريب "قال" : وسأَلْتُ محمدَ بن إسماعيلَ عن أبي ظِلاَلٍ فقال: هو مُقَارِبُ الحديث. قال محمدٌ: واسمُهُ هِلاَلٌ.
ـــــــ
الترمذي وابن حبان "أخبرنا عبد العزيز بن مسلم" القسملي أبو زيد المروزي ثم البصري ثقة عابد ربما وهم "أخبرنا أبو ظلال" بكسر المعجمة وتخفيف اللام وقد بين الترمذي اسمه فيما بعد ويجيء هناك ترجمته.
قوله: "ثم صلى ركعتين" أي بعد طلوع الشمس قال الطيبي: أي ثم صلى بعد أن ترتفع الشمس قدر رمح حتى يخرج وقت الكراهة، وهذه الصلاة تسمى صلاة الإشراق وهي أول صلاة الضحى.
قلت: وقع في حديث معاذ حتى يسبح ركعتي الضحى وكذا وقع في حديث أمامة وعتبة بن عبد "كانت" أي المثوبة "قال" أي أنس "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تامة تامة تامة" صفة لحجة وعمرة كررها ثلاثاً للتأكيد، وقيل أعاد القول لئلا يتوهم أن التأكيد بالتمام وتكراره من قول أنس. قال الطيبي: هذا التشبيه من باب إلحاق الناقص بالكامل ترغيباً أو شبه استيفاء أجر المصلي تاماً بالنسبة إليه باستيفاء أجر الحاج تاماً بالنسبة إليه. وأما وصف الحج والعمرة بالتمام إشارة إلى المبالغة، كذا في المرقاة "هذا حديث حسن غريب"، حسنه الترمذي في إسناده أبو طلاف وهو متكلم فيه لكن له شواهد، فمنها حديث أبي أمامة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاة الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام فصلى ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة، أخرجه الطبراني(3/194)
ـــــــ
قال المنذري في الترغيب: إسناده جيد ومنها حديث أبي أمامة وعتبة بن عبد مرفوعاً: من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم ثبت حتى يسبح لله سبحة الضحى كان له كأجر حاج ومعتمر تاماً له حجرة وعمرة، أخرجه الطبراني قال المنذري: وبعض رواته مختلف فيه، قال: وللحديث شواهد كثيرة انتهى. وفي الباب أحاديث عديدة ذكرها المنذري في الترغيب "وسألت محمد بن إسماعيل عن أبي ظلال فقال هو مقارب الحديث" هو من ألفاظ التعديل وقد تقدم تحقيقه في المقدمة "قال محمد" يعني البخاري "واسمه هلال" قال الحافظ في التقريب: أبو ظلال بكسر المعجمة وتخفيف اللام اسمه هلال بن أبي هلال أو ابن أبي مالك وهو ابن ميمون وقيل غير ذلك في اسم أبيه القسملي البصري ضعيف مشهور بكنيته انتهى. وقال الذهبي في الميزان: هلال بن ميمون وهو هلال بن أبي سويد أبو ظلال القسملي صاحب أنس، قال ابن معين: ضعيف ليس بشيء وقال النسائي والأزدي ضعيف، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه، وقال ابن حبان: مغفل لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال البخاري عنده مناكير انتهى. وقال في الكني واه بمرة(3/195)
408ـ باب ما ذُكِرَ في الالتفَاتِ في الصّلاة
584 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلانَ وغيرُ واحدٍ قالوا حدثنا الفضلُ بن موسى عن عبدِ الله بن سعيدِ بن أبي هندٍ عن ثَوْرِ بن زَيْدٍ عن عِكْرمَةَ عن ابن عباسٍ " أَنّ رسوُلَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يَلْحَظُ في الصّلاةِ يَمِيناً وشِمَالاً ولا يَلويِ عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْره"
ـــــــ
باب ما ذُكِرَ في الالتفَاتِ في الصّلاة
قوله: "كان يلحظ في الصلاة" بفتح الحاء المهملة وبالظاء أي ينظر بمؤخر عينيه، واللحظ هو النظر بطرف العين الذي يلي الصدغ "يميناً وشمالاً" أي تارة إلى جهة اليمين وتارة إلى جهة الشمال "ولا يلوي عنقه" أي لا يصرف ولا يميل عنقه "خلف ظهره" أي إلى جهته قال الطيبي: اللي فتل الحبل، يقال لويته ألويه لياً، ولوى رأسه وبرأسه أماله ولعل هذا الالتفات كان منه في التطوع فإنه أسهل لما في حديث أنس أي الاَتي، وقال ابن الملك قيل التفاته عليه الصلاة والسلام(3/195)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ. وقد خَالَف وكيعٌ الفَضْلَ بنَ موسَى في روايتهِ.
584 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلانَ حدثنا وكيعٌ عن عبدِ الله بن سعيدِ بن أبي هندٍ عن بعضِ أصحابِ عِكْرِمةَ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَلحَظُ في الصّلاةِ" فَذكرَ نحوَه.
"قال" : وفي البابِ عن أنسٍ وعائشَةَ.
ـــــــ
مرة أو مراراً قليلة لبيان أنه غير مبطل أو كان لشيء ضروري، فان كان أحد يلوي عنه خلف ظهره أي يحول صدره عن القبلة فهو مبطل للصلاة كذا في المرقاة. وقد أخرج الحازمي حديث ابن عباس هذا في كتاب الاعتبار بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت في صلاته الخ ثم قال: هذا حديث غريب تفرد به الفضل بن موسى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند متصلاً وأرسله غيره عن عكرمة انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" قال ميرك: ورواه الحاكم وقال على شرط البخاري وأقره الذهبي، وقال الترمذي حديث حسن غريب. وقال النووي: إسناده صحيح وروى مرسلاً كذا في المرقاة. قلت: وقع في النسخ الموجودة عندنا: هذا حديث غريب ليس في واحد منها حسن غريب.
قوله: "وقد خالف وكيع الفضل بن موسى في روايته" فإنه رواه عن عبد الله بن سعيد مرسلاً كما ذكره الترمذي بقوله حدثنا محمود بن غيلان الخ.
قوله: "وفي الباب عن أنس وعائشة" أخرج حديثهما الترمذي في هذا الباب وحديث عائشة رضي الله عنها أخرجه الشيخان أيضاً وفي الباب أحاديث كثيرة ذكرها الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد. وقال الحافظ في الفتح: ورد في كراهية الالتفات صريحاً على غير شرط البخاري عدة أحاديث منها عند أحمد وابن خزيمة من حديث أبي ذر رفعه: لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه عنه(3/196)
586 ـ حدثنا مُسْلِمُ بن حاتمٍ البَصْريّ حدثنا محمدُ بن عبدِ الله الأنصَاريّ عن أبيهِ عن عليّ بن زَيدٍ عن سَعيدِ بن المُسَيّبِ قال: قال أنس بن مالك: "قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "يا بُنَيّ إيّاكَ والالْتِفَاتَ في الصّلاةِ فإنّ الالتفاتَ في الصّلاةِ هَلَكَةٌ فإِنْ كان لاَ بُدّ فَفِي التّطَوّعِ لا في الفَريضَةِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ
587 ـ حدثنا صالحُ بن عبدِ الله حدثنا أبو الأحْوَصِ عن أشْعَثَ
ـــــــ
انصرف ومن حديث الحارث الأشعري نحوه وزاد "فاذا صليتم فلا تلتفتوا" وأخرج الأول أيضا أبو داود والنسائي قال: والمراد بالالتفات المذكور ما لم يستدبر القبلة بصدره أو عنقه كله وسبب كراهة الالتفات يحتمل أن يكون لنقص الخشوع أو لترك استقبال القبلة ببعض البدن انتهى قوله "يا بني إياك والالتفات في الصلاة" أي بتحويل الوجه "فان الالتفات في الصلاة هلكة" بفتحتين أي هلاك لأنه طاعة الشيطان وهو سبب الهلاك قال ميرك الهلاك على ثلاة أوجه افتقاد الشيء عندك وهو ثم غيرك عندك موجود كقوله تعالى: { هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} وهلاك الشيء باستحالته والثالث الموت كقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} وقال الطيبي: الهلكة الهلاك وهو استحالة الشيء وفساده لقوله تعالى :{ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} والصلاة بالالتفات تستحيل من الكمال إلى الاختلاس المذكور في حديث عائشة "فان كان لا بد" أي من الالتفات "ففي التطوع لا في الفريضة" لأن مبني التطوع على المساهلة ألا ترى أنه يجوز قاعدا مع القدرة على القيام وفيه الإذن بالالتفات للحاجة في التطوع والمنع من ذلك في صلاة الفرض
قوله "هذا حديث حسن" ذكر الحافظ ابن تيمية هذا الحديث في المنتقى وقال رواه الترمذي وصححه(3/197)
بن أبي الشّعْثَاء عن أبيهِ عن مَسْروقٍ عن عائشَةَ قالت "سأَلْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفاتِ في الصّلاةِ قال "هو اخْتِلاَسٌ يَخْتَلسُهُ الشيطانُ مِنْ صَلاةِ الرجلِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
قوله: "قال هو اختلاس" افتعال من الخلس وهو السلب أي استلاب وأخذ بسرعة وقيل شيء يختلس به "يختلسه الشيطان" أي يحمله على هذا الفعل. وأحاديث الباب تدل على كراهة الالتفات في الصلاة وهو قول الأكثر والجمهور وأنها كراهة تنزيه ما لم يبلغ إلى حد استدبار القبلة، والحكمة في التنفير عنه ما فيه من نقص الخشوع والإعراض عن الله تعالى وعدم التصميم على مخالفة وسوسة الشيطان.
واعلم أن الحافظ الحازمي قد استدل على نسخ الالتفات بحديث رواه بإسناده إلى ابن سيرين قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة نظر هكذا وهكذا، فلما نزل {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، نظر هكذا قال ابن شهاب: يبصره نحو الأرض. قال: وهذا وإن كان مرسلاً فله شواهد، واستدل أيضاً بقول أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزل {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قلت: في هذا الاستدلال كلام كما لا يخفى على المتأمل.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود(3/198)
باب ما ذكر في الرجل يدرك الإمام ساجدا كيف يصنع
...
409ـ باب ما ذُكِرَ في الرجُلِ يُدْرِكُ الإمَامَ وهو ساجد كيفَ يَصْنَع
588 ـ حدثنا هِشَامُ بن يُونسَ الكوفيّ حدثنا المُحارِبيّ عن الحَجّاجِ بن أَرْطأةَ عن أبي إسحاقَ عن هُبَيْرَةَ "بن يريم" عن عَلِي، وعن عَمْرِو بن مُرّةَ عن ابن أبي لَيْلَى عن مُعَاذِ بن جَبَلٍ قالا: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتَى أَحدُكم الصلاةَ والإمامُ على حالٍ فَلْيَصْنَعْ كما يَصْنَعُ الإمامُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ لا نعَلمُ أحداً أسْنَدَهُ إلا ما رُوِيَ
ـــــــ
باب ما ذُكِرَ في الرجُلِ يُدْرِكُ الإمَامَ وهو ساجد كيفَ يَصْنَع
قوله: "حدثنا هشام بن يونس الكوفي" اللؤلؤي أبو القاسم ثقة روي عن ابن عيينة وغيره وعنه الترمذي وثقه النسائي "أخبرنا المحاربي" هو عبد الرحمَن بن زياد الكوفي ثقة "عن أبي إسحاق" اسمه عمرو بن عبد الله السبيعي ثقة عابد اختلط بآخره "عن هبيرة" بضم الهاء وفتح الموحدة ابن مريم على وزن عظيم الكوفي عن علي وعنه أبو إسحاق السبيعي وثقه ابن حبان كذا في الخلاصة، وقال في التقريب: لا بأس به وقد عيب بالتشيع "وعن عمرو بن مرة" عطف على قوله عن هبيرة فإن هبيرة وعمرو بن مرة كليهما من شيوخ أبي إسحاق.
قوله: "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال" أي من قيام أو ركوع أو سجود أو قعود " فليصنع كما يصنع الإمام" أي فليوافق الإمام فيما هو فيه من القيام أو الركوع أو غير ذلك أي فلا ينتظر الإمام إلى القيام كما يفعله العوام.
قوله: "هذا حديث غريب الخ" قال الحافظ في التلخيص: فيه ضعف وانقطاع انتهى، وقال الشوكاني في النيل صفحة 3431: والحديث وإن كان فيه ضعف لكنه يشهد له ما عند أحمد وأبي داود من حديث ابن أبي ليلى عن معاذ قال:(3/199)
مِنْ هذا الوجهِ. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ، قالوا: إذا جاء الرجلُ والإمامُ ساجدٌ فَلْيَسْجُدْ ولا تُجْزئُهُ تلكَ الركعةُ إذا فاتَهُ الركوعُ مع الإمامِ.
واختارَ عبدُ الله بن المبارَكِ أن يسجدَ مع الإمامِ. وَذَكَرَ عن بعضهمْ فقال: لَعَلّهُ لا يَرْفَعُ رَأسَهُ في تلك السجْدَةِ حتى يُغْفَرَ له.
ـــــــ
أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال فذكر الحديث وفيه: فجاء معاذ فقال لا أجده على حال أبداً إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني، قال فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها، قال فقمت معه فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قام يقضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا، وابن أبي ليلى وإن لم يسمع من معاذ فقد رواه أبو داود من وجه آخر عن عبد الرحمَن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه: فقال معاذ لا أراه على حال إلا كنت عليها الحديث. ويشهد له أيضاً ما رواه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعاً: من وجدني راكعاً أو قائماً أو ساجداً فليكن معي على حالتي التي أنا عليها، وما أخرجه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة مثل لفظ ابن أبي شيبة، قال الشوكاني: والظاهر أنه يدخل معه في الحال التي أدركه عليها مكبراً معتداً بذلك التكبير وإن لم يعتد بما أدركه من الركعة كمن يدرك الإمام في حال سجوده أو قعوده. انتهى كلام الشوكاني.
قوله: "ولا تجزئه تلك الركعة إذا فاته الركوع مع الإمام" وأما إذا أدرك الركوع مع الإمام فتجزؤه تلك الركعة وهذا هو مذهب الجمهور فقالوا: إن من أدرك الإمام راكعاً دخل معه واعتد بتلك الركعة وإن لم يدرك شيئاً من القراءة، وقال بعض أهل العلم لا تجزئه تلك الركعة إذا فاته القيام قراءة فاتحة الكتاب وإن أدرك الركوع مع الإمام، وقد ذهب إلى هذا أهل الظاهر وابن خزيمة وأبو بكر الضبعي، روى ذلك ابن سيد الناس في شرح الترمذي وذكر فيه حاكياً عمن روى عن ابن خزيمة أنه احتج لذلك بما روى عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: من أدرك الإمام في الركوع فليركع معه وليعد الركعة، وقد رواه البخاري في القراءة(3/200)
ـــــــ
خلف الإمام من حديث أبي هريرة أنه قال إن أدركت القوم ركوعاً لم يعتد بتلك الركعة. فقال الحافظ: وهذا هو المعروف عن أبي هريرة موقوفاً وأما المرفوع فلا أصل له. وقال الرافعي تبعاً للإمام إن أبا عاصم العبادي حكى عن ابن خزيمة أنه احتج به، وقد حكى هذا المذهب البخاري في القراءة خلف الإمام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، وحكاه الحافظ في الفتح عن جماعة من الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي وغيره من محدثي الشافعية، ورجحه المقبلي قال: وقد بحثت هذه المسألة وأحطتها في جميع بحثي فقهاً وحديثاً فلم أحصل منها على غير ما ذكرت يعني من عدم الاعتداد بإدراك الركوع فقط.
واستدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة: من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة في صلاته يوم الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى. رواه الدارقطني من طريق يسين بن معاذ وهو متروك، وأخرجه الدارقطني بلفظ: إذا أدرك أحدكم الركعتين يوم الجمعة فقد أدرك، وإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى، ولكنه رواه من طريق سليمان بن داود الحراني ومن طريق صالح بن أبي الأخضر وسليمان متروك وصالح ضعيف. على أن التقييد بالجمعة في كلا الروايتين مشعر بأن غير الجمعة بخلافها، وكذا بالركعة في الرواية الأخرى يدل على خلاف المدعين لأن الركعة لجميعها وإطلاقها على الركوع وما بعده مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة كما وقع عند مسلم من حديث البراء بلفظ: فوجدت قيامه فركعته فاعتداله فسجدته، فإن وقوع الركعة في مقابلة القيام والاعتدال والسجود قرينة تدل على أن المراد بها الركوع. وقد ورد حديث من أدرك ركعة من صلاة الجمعة بألفاظ لا تخلو طرقها عن مقال، حتى قال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا أصل لهذا الحديث إنما المتن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها، وكذا قال الدارقطني والعقيلي، وأخرجه ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه، وليس في ذلك دليل لمطلوبهم لما عرفت من أن مسمي الركعة جميع أركانها وأذكارها حقيقة شرعية وعرفية وهما مقدمتان على اللغوية. كما تقرر في الأصول، فلا يصح جعل حديث ابن خزيمة وما قبله قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي، فإن قلت: فأي فائدة على هذا في التقييد بقوله: قبل أن يقيم صلبه، قلت:(3/201)
ـــــــ
دفع توهم أن من دخل مع الإمام ثم قرأ الفاتحة وركع الإمام قبل فراغه منها غير مدرك، وأما استدلال الجمهور بحديث أبي بكرة حيث صلى خلف الصف مخافة أن تفوته الركعة فقال صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد، ولم يأمر بإعادة الركعة فليس فيه ما يدل على ما ذهبوا إليه، لأنه كما لم يأمر بالإعادة فلم ينقل إلينا أنه اعتد بها. والدعاء بالحرص لا يستلزم الاعتداد بها، لأن الكون مع الإمام مأمور به سواء كان الشيء الذي يدركه المؤتم معتداً به أم لا كما في حديثه: إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً، رواه أبو داود وغيره على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أبا بكرة عن العود إلى مثل ذلك، والاستدلال بشيء قد نهي عنه لا يصح. كذا ذكر الشوكاني في النيل.
قلت: واستدل من ذهب إلى أن مدرك الركوع لا يكون مدركاً للركعة إذا فاته القيام وقراءة فاتحة الكتاب بحديث: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وما في معناه، وبحديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا، قال الحافظ في الفتح: قد استدل به على أن من أدرك الإمام راكعاً لم يحتسب له تلك الركعة للأمر بإتمامه ما فاته لأنه فاته القيام والقراءة فيه، ثم قال: حجة الجمهور حديث أبي بكرة انتهى.
قلت: القول الراجح عندي قول من قال: إن من أدرك الإمام راكعاً لم يحتسب له تلك الركعة وأما حديث أبي بكرة فواقعة عين، فتفكر. هذا ما عندي والله تعالى أعلم(3/202)
باب كراهية أن بنتظر الناس والأمام وهم قيام عند افتتاح الصلاة
...
410ـ باب كَرَاهِيَةَ أن يَنْتَظِرَ الناسُ الإمَامَ وهُم قيامٌ عندَ افتتاحِ الصّلاة
589 ـ حدثنا أحمدُ بن محمدٍ حدثنا عبدُ الله "بنُ المبارَكِ" أخبرنا مَعْمَرٌ عن يحيىَ بن أبي كثيرٍ عن عبدِ الله بن أَبي قَتَادَةَ عن أَبيِه قال: قال
ـــــــ
باب كَرَاهِيَةَ أن يَنْتَظِرَ الناسُ الإمَامَ وهُم قيامٌ عندَ افتتاحِ الصّلاة
قوله: "حدثنا أحمد بن محمد" بن موسى أبو العباس السمسار المعروف بمردويه ثقة حافظ.(3/202)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إذا أُقِيمَتِ الصّلاَةُ فلا تَقُومُوا حتى تَرَوْنيِ خَرَجْتُ".
ـــــــ
قوله: "إذا أقيمت الصلاة" أي إذا ذكر ألفاظ الإقامة "فلا تقوموا حتى تروني خرجت" أي من الحجرة الشريفة فقوموا، قال الحافظ في الفتح: قال مالك في الموطأ: لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة بحد محدود إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس، فإن منهم الثقيل والخفيف، وذهب الأكثرون إلا أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة، رواه ابن المنذر وغيره، وكذا رواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله وعن سعيد بن المسيب قال: إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، وإذا قال حي على الصلاة عدلت الصفوف، وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام. وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح، فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام، وأما إذا لم يكن الإمام في المسجد فذهب الجمهور إلى أنهم لا يقومون حتى يروه، وخالف من ذكرنا على التفصيل الذي شرحنا، وحديث الباب حجة عليهم وفيه جواز الإقامة والإمام في منزله إذا لم يسمعها وتقدم إذنه في ذلك. قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة: أن بلالاً كان لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ويجمع بينهما بأن بلالاً كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يروه، ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم. وأما ما رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة أن الصلاة كانت تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ الناس مقامهم قبل أن يجيء النبي صلى الله عليه وسلم فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنيعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي عن ذلك في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطى فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره انتهى كلام الحافظ باختصار.(3/203)
وفي البابِ عن أنسٍ. وحديثُ أنَسٍ غيرُ مَحْفُوظٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي قتادَةَ حَديثٌ حَسنٌ صحيحٌ. وقد كَرِهَ قَوْمٌ مِن أهلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم "وغيرِهم" أن ينْتَظِرَ الناسُ الإمامَ وهم قِيَامٌ.
وقال بعضُهم: إذا كانَ الإمامُ في المسْجدِ فأقِيمَتِ الصلاةُ فإنما يقومُونَ إذا قال المؤذّن: "قد قامَتِ الصلاةُ". وهو قولُ ابنِ المبارَكِ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أنس" لم أقف على من أخرجه. وفي الباب أيضاً عن أبي هريرة أن الصلاة كانت تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم مقامه، أخرجه مسلم وأبو داود، وعنه أيضاً قال أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياماً قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلينا، الحديث أخرجه الشيخان.
قوله: "حديث أبي قتادة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه ولم يذكر البخاري فيه قد خرجت.
قوله: "وقال بعضهم: إذا كان الإمام في المسجد وأقيمت الصلاة فإنما يقومون إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، وهو قول ابن المبارك" لم أر في هذا حديثاً مرفوعاً صحيحاً، نعم فيه أثر أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة وقد تقدم في عبارة الحافظ، وفيه حديث مرفوع ضعيف رواه الطبراني في الكبير من طريق حجاج بن فروخ عن عبد الله بن أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال بلال: قد قامت الصلاة نهض فكبر، ذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: حجاج بن فروخ ضعيف جداً(3/204)
باب مل ذكر في الثناء على الله والصلاة على النيى صلى الله وسلم قبل الدعاء
...
411ـ باب ما ذُكِرَ في الثناءِ على الله والصلاةِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء
590 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلانَ حدثنا يحيىَ بن آدم حدثنا أبو بكرِ بنَ عَيّاشٍ عن عاصمٍ عنْ زِر عن عبدِ الله قال: "كُنْتُ أُصَلّي والنبيّ صلى الله عليه وسلم وأبُو بكرٍ وعُمَرُ معه، فلما جَلَسْتُ بَدَأْتُ بالثناءِ على الله ثم الصّلاةِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم دَعوْتُ لنَفْسِي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: سَلْ تُعْطَهْ. سَلْ تُعْطَهْ".
"قال" : وفي البابِ عن فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ.
ـــــــ
باب ما ذُكِرَ في الثناءِ على الله والصلاةِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء
قوله: "أخبرنا يحيى بن آدم" بن سليمان الكوفي أبو زكريا ثقة حافظ فاضل من كبار التاسعة مات سنة 203 ثلاث ومائتين "أخبرنا أبو بكر بن عياش" الأسدي الكوفي مختلف في اسمه والصحيح أنه لا اسم له إلا كنيته، ثقة عابد إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح من السابعة قاله الحافظ في مقدمة الفتح والتقريب "عن عاصم" بن بهدلة صدوق له أوهام حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون "عن زر" بكسر الزاي المعجمة وتشديد الراء المهملة ابن حبيش بمهملة وموحدة ومعجمة مصغراً ثقة جليل مخضرم "عن عبد الله" هو ابن مسعود.
قوله: "كنت أصلي" أي الصلاة ذات الأركان بدليل قوله الآتي فلما جلست "والنبي صلى الله عليه وسلم" أي حاضر أو جالس ونحوه قاله الطيبي " وأبو بكر وعمر معه" جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى وهي حال من فاعل أصلي "سل تعطه" الهاء إما للسكت كقوله حسابيه وإما ضمير للمسئول عنه لدلالة سل عليه.
قوله: "وفي الباب عن فضالة بن عبيد" قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/205)
قال أبو عيسى: حديثُ "عبدِ الله " حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وروى أحمدُ بن حَنْبلٍ عن يحيىَ بنِ آدمَ مخْتَصراً.
ـــــــ
قاعد إذا دخل رجل فصلى فقال اللهم اغفر لي وارحمني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجلت أيها المصلي إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله وصل علي ثم ادعه" ، قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أيها المصلي أدع تجب، رواه الترمذي، وروى أبو داود والنسائي نحوه كذا في المشكاه.
قوله: "حديث عبد الله حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن ماجه(3/206)
412 ـ باب ما ذُكِرَ في تَطْيِيبِ المسَاجد
591 ـ حدثنا محمدُ بن حاتمٍ "المؤدب" "البغدادي" "البصري" حدثنا عامرُ بن صالحٍ الزّبَيْرِيّ "هو من ولد الزبير" حدثنا هِشَامُ بن عُروْةَ عن أبيهِ عن عائشَة قالت: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِبِنَاء المسَاجدِ في الدّورِ وأنْ تُنَظّفَ وتُطَيّبَ".
ـــــــ
باب ما ذُكِرَ في تَطْيِيبِ المسَاجد
قوله: "حدثنا محمد بن حاتم البغدادي" الذمى أبو جعفر الخراساني ثم البغدادي ثقة، روى عنه الترمذي والنسائي ووثقه "أخبرنا عامر بن صالح الزبيري" قال في التقريب: عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير القرشي الزبيري المدني نزل بغداد متروك الحديث، أفرط فيه ابن معين فكذبه وكان عالماً بالأخبار من الثامنة.
قوله: "أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور" فسر سفيان بن عيينة الدور بالقبائل كما في الرواية الاَتية. وقال في المرقاة: هو جمع دار وهو اسم جامع للبناء والعرصية والمحلة، والمراد المحلات فإنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة داراً، أو محمول على اتخاذ بيت في الدار للصلاة كالمسجد(3/206)
592 ـ حدثنا هنادٌ حدثنا عَبْدَةُ و وَكيعٌ عن هِشامِ بن عُروةَ عن أَبيهِ أنّ "النبيّ صلى الله عليه وسلم "أَمَر" فَذكرَ نحوهُ.
"قال أبو عيسى" "و" هذا أَصَحّ مِن الحديثِ الأوّلِ.
593 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمرَ حدثنا سُفيانُ بن عُيَيْنَة عن هِشَامِ بن عُروةَ عن أَبيهِ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَر" فذكرَ نحَوهُ.
قال سُفيانُ: "قوله" ببناءِ المساجدِ في الدُوْرِ يعني القَبَائِلَ.
ـــــــ
يصلي فيه أهل البيت. قاله ابن الملك، والأول هو المعول وعليه العمل. وحكمة أمره لأهل كل محلة ببناء مسجد فيها أنه قد يتعذر أو يشق على أهل محلة الذهاب للأخرى فيحرمون أجر المسجد وفضل إقامة الجماعة فيه فأمروا بذلك ليتيسر لأهل كل محلة العبادة في مسجدهم من غير مشقة تلحقهم.
وقال البغوي: قال عطاء: لما فتح الله تعالى على عمر رضي الله عنه الأمصار أمر المسلمين ببناء المساجد وأمرهم أن لا يبنوا مسجدين يضار أحدهما الاَخر، ومن المضارة فعل تفريق الجماعة إذا كان هناك مسجد يسعهم فان ذاك سن توسعته أو اتخاذ مسجد يسعهم انتهى ما في المرقاة "وأن تنظف" بالتاء والياء بصيغة المجهول أي تطهر كما في رواية ابن ماجه، والمراد تنظيفها من الوسخ والدنس والنتن والتراب "وتطيب" بالتاء والياء أي بالرش أو العطر، ويجوز أن يحمل التطييب على التجمير في المسجد. قال في المرقاة: قال ابن حجر: وبه يعلم أنه يستحب تجمير المسجد بالبخور خلافاً لمالك حيث كرهه، فقد كان عبد الله يجمر المسجد إذا قعد عمر رضي الله عنه على المنبر، واستحب بعض السلف التخليق بالزعفران والطيب، وروى عنه عليه السلام فعله، وقال الشعبي هو سنة. وأخرج ابن أبي شيبة أن ابن الزبير لما بنى الكعبة طلى حيطانها بالمسك. وأنه يستحب أيضاً كنس المسجد وتنظيفه، وقد روى ابن أبي شيبة أنه عليه السلام كان يتبع غبار المسجد بجريدة انتهى ما في المرقاة.(3/207)
413ـ باب ما جاءَ أنّ صلاةَ اللّيْلِ والنْهارِ مَثْنَى مَثْنَى
594 ـ حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ حدثنا عبدُ الرحمَنِ بن مهديّ حدثنا شعبةُ عن يَعْلَى بن عطاءٍ عن علي الأزْديّ عن ابنِ عُمَر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "صلاةُ اللّيْلِ والنهَارِ مَثْنَى مَثْنَى".
قال أبو عيسى: اختلف أصحابُ شُعْبةَ في حديثِ ابن عُمَر، فرفَعَهُ بعضُهُم وأوقَفَه بعضُهُم.
وَرُوِيَ عن عبدِ الله العُمَرِيّ عن نافعٍ عن ابنِ عُمَر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوُ هذا.
ـــــــ
باب ما جاءَ أنّ صلاةَ اللّيْلِ والنْهارِ مَثْنَى مَثْنَى
قوله "عن علي الأزدي" هو ابن عبد الله البارقي صدوق ربما أخطأ من الثالثة "قال صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" قد فسر ابن عمر رضي الله عنه راوي الحديث معنى مثنى مثنى، فعند مسلم من طريق عقبة بن حريث قلت لابن عمر: ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين وفيه رد على من زعم من الحنفية أن معنى مثنى مثنى أن يتشهد بين كل ركعتين، لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به: وما فسره به هو المتبادر إلى الفهم لأنه لا يقال في الرباعية مثلاً إنها مثنى مثنى.
قوله "وروي عن عبد الله العمري" هو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني ضعيف عابد "عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا" أي نحو حديث على الأزدي المذكور(3/208)
414ـ باب كَيْفَ كانَ يتطوع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنّهَار
595 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلاَنَ حدثنا وَهْبُ بن جَرِيرٍ حدثنا شُعْبَةُ عن أبي إسْحَاقَ عن عاصِمِ بن ضَمْرَةَ قال: " سأَلْنَا علياً عن صَلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن النهارِ، فقال: إنكم لا تُطِيقُونَ ذاكَ فَقُلْنَا: مَن أَطاقَ ذاكَ مِنّا. فقال كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت الشّمسُ من ههنا كهَيْئَتِها مِن ههنا عندَ العصْرِ صلّى ركعَتْين، وإذا
ـــــــ
باب كَيْفَ كانَ يتطوع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنّهَار
قوله "عن عاصم بن ضمرة" السلولي الكوفي صدوق قاله الحافظ.
قوله " فقال إنكم لا تطيقون ذلك" أي الدوام والمواظبة على ذلك، وعند ابن ماجه في آخر هذا الحديث: وقل من يداوم عليها "فقلنا من أطاق ذلك منا" خبره محذوف أي أخذه وفعله، وفي رواية ابن ماجه: فقلنا أخبرنا به نأخذ منه ما استطعنا "إذا كانت الشمس من ههنا" زاد في رواية ابن ماجه: يعني من قبل المشرق "كهيئتها من ههنا" يعني من قبل المغرب كما في رواية ابن ماجه "عند العصر صلى ركعتين" والحاصل أنه إذا ارتفعت الشمس من جانب المشرق مقدار ارتفاعها من جانب المغرب وقت العصر صلى ركعتين وهي صلاة الضحى وقيل هي صلاة الإشراق، واستدل به لأبي حنيفة على أن وقت العصر بعد المثلين.
قلت: إن كان المراد من صلاة الإشراق الصلاة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم بعدما طلعت الشمس فظاهر أن هذه الصلاة غير صلاة الإشراق، وإن كان المراد من صلاة الإشراق غيرها فلا يصح الاستدلال فتفكر. وقد سمي صاحب إنجاح الحاجة هذه الصلاة الضحوة الصغرى، والصلاة الثانية الاَتية في(3/212)
كانت الشمْسُ مِن ههنا كَهَيْئَتِها مِن ههنا عنْدَ الظّهر صَلّى أربعاً، وصلّى أربعاً قبلَ الظّهرِ أربعاً وبعدها ركعَتَيْنِ، وقبلَ العصْرِ أربعاً يَفْصِلُ بينَ كُلّ ركعَتَيْنِ بالتسليمِ على الملائِكَةِ المقربين والنّبِيّينَ والمُرْسَلِين ومَن تَبِعَهُم مِنَ المؤْمِنينَ والمسْلمينَ".
596 ـ حدثنا محمد بن المَثنّى حدثنا محمد بن جَعْفَرٍ حدثنا شُعْبَةُ عن أبي إسحاقَ عن عاصمِ بن ضَمْرَةَ عن علي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوَه.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ.
ـــــــ
الحديث الضحوة الكبرى حيث قال: هذه الصلاة هي الضحوة الصغرى وهو وقت الاشراق وهذا الوقت هو أوسط وقت الاشراق وأعلاها، وأما دخول وقته فبعد طلوع الشمس وارتفاعها مقدار رمح أو رمحين حين تصير الشمس بازغة ويزول وقت الكراهة، وأما الصلاة الثانية فهي الضحوة الكبرى انتهى "وإذا كانت الشمس من ههنا" أي من جانب المشرق "كهيئتها من ههنا" أي من جانب المغرب "عند الظهر صلى أربعاً" وهي الضحوة الكبرى ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين قال العراقي: حمل بعضهم هذا على أن المراد بالفصل بالتسليم والتشهد لأن فيه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عباد الله الصالحين، قاله إسحاق بن إبراهيم، فإنه كان يرى صلاة النهار أربعاً، قال وفيما أوله عليه بعد. انتهى كلام العراقي.
قلت: قد ذكر الترمذي هذا الحديث مختصراً في باب ما جاء في الأربع قبل العصر وذكر هناك قول إسحاق بن إبراهيم: ولا بعد عندي فيما أوله عليه، بل هو الظاهر القريب بل هو المتعين، إذ النبيون والمرسلون لا يحضرون الصلاة حتى ينويهم المصلي بقوله السلام عليكم، فكيف يراد بالتسليم تسليم التحلل من الصلاة: هذا ما عندي والله تعالى أعلم.(3/213)
وقال إسحاقُ بن ابراهيمَ: أحْسَنُ شَيءٍ رُوِيَ في تَطَوّعِ النبيّ صلى الله عليه وسلم في النهار هذا.
ورُوِيَ عن "عبدَ الله" بنِ المبارَكِ أَنه كان يُضَعّفُ هذا الحديث .
ـــــــ
قال في المرقاة: قال البغوي: المراد بالتسليم التشهد دون السلام، أي وسمي تسليماً على من ذكر لاشتماله عليه وكذا قاله ابن الملك. قال الطيبي: ويؤيده حديث عبد الله بن مسعود: كنا إذا صلينا قلنا السلام على الله قبل عباده السلام على جبرائيل، وكان ذلك في التشهد انتهى ما في المرقاة.
وأما قول ابن حجر المكي: لفظ الحديث يأبى ذلك، وإنما المراد بالتسليم فيه للتحلل من الصلاة فيسن للمسلم منها أن ينوي بقوله السلام عليكم من على يمينه وعلى يساره وخلفه من الملائكة ومؤمني الإنس والجن انتهى.
ففيه أنه يلزم على هذا التقدير مسنوناً للمصلي أن ينوي النبيين والمرسلين أيضاً بقوله السلام عليكم، والحال أن النبيين والمرسلين لا يحضرون الصلاة ولا يكونون على يمين المصلي ولا على يساره وخلفه فتأمل.
قوله "هذا حديث حسن" وأخرجه ابن ماجه والنسائي.
قوله "قال إسحاق بن إبراهيم" بن مخلد الحنظلي أبو محمد بن راهويه المروزي ثقة حافظ مجتهد قرين أحمد بن حنبل "أحسن شيء روي في تطوع النبي صلى الله عليه وسلم بالنهار هذا" أي هذا الحديث لعله أراد بكونه أحسن بشيء في تطوعه صلى الله عليه وسلم بالنهار باعتبار أنه مشتمل على ست عشرة ركعة دون غيره من الأحاديث والله تعالى أعلم، زاد ابن ماجه بعد رواية هذا الحديث قال وكيع: زاد فيه أبي فقال حبيب بن أبي ثابت: يا أبا إسحاق ما أحب أن لي بحديثك هذا ملء مسجدك هذا ذهباً انتهى.
"وروي عن ابن المبارك أنه كان يضعف هذا الحديث" الظاهر أن تضعيفه إنما هو من جهة عاصم بن ضمرة فإنه مختلف فيه في روايته عن علي رضي الله عنه(3/214)
. وإِنّما ضَعّفَهُ عندَنا، والله أعلمُ لأنه لا يُرْوَى مِثْلُ هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ مِن هذا الوجِه عن عاصمِ بن ضَمْرَةَ عن عليَ. وعاصمُ بن ضَمْرَةَ هو ثِقَةٌ عندَ بعضِ أَهلِ العلم.
قال عليّ بن "المَدِينّي" : قال يحيى بن سعيدٍ القَطّانُ. قال سفيانُ: كُنّا نَعْرِفُ فَضْلَ حديثِ عاصمِ بن ضَمْرَةَ على حديثِ الحارثِ.
ـــــــ
كما ستعرف "وإنما ضعفه عندنا والله أعلم لأنه لا يروى مثل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه عن عاصم بن ضمرة عن علي وعاصم بن ضمرة هو ثقة عند بعض أهل الحديث الخ" قال الذهبي في الميزان: عاصم بن ضمرة صاحب علي وثقه ابن معين وابن المديني، وقال أحمد: هو أعلى من الحارث الأعور وهو عندي حجة، وقال النسائي ليس به بأس: وأما ابن عدي فقال ينفرد على عليّ بأحاديث والبلية منه. وقال أبو بكر بن عياش: سمعت مغيرة يقول: لم يصدق في الحديث على علي إلا أصحاب ابن مسعود. وقال ابن حبان: روى عنه أبو إسحاق والحكم رديء الحفظ فاحش الخطأ يرفع عن علي قوله كثيراً فاستحق الترك على أنه أحسن حالاً من الحارس.
وقال الجوزجاني: روى عنه أبو إسحاق تطوع النبي صلى الله عليه وسلم ست عشرة ركعة ركعتين عند الثالثة من النهار ثم أربعاً قبل الزوال ثم أربعاً بعده ثم الركعتين بعد الظهر ثم أربعاً قبل العصر، فيا عباد الله أما كان الصحابة وأمهات المؤمنين يحكون هذا إذ هم معه في دهرهم، يعني أن عائشة وابن عمر وغيرهما حكوا عنه خلاف هذا وعاصم بن ضمرة ينقل أنه عليه السلام كان يداوم على ذلك. قال ثم خالف الأمة وروى: كان في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه انتهى كلام الذهبي(3/215)
باب في الكراهية الصلاة في لحف النساء
...
415ـ باب "في" كَرَاهِيَة الصّلاةِ في لُحُفِ النّسَاء
597 ـ حدثنا محمدُ بن عبدِ الأعلى حدثنا خالدُ بن الحارثِ عن أشْعَثَ "وهو ابن عبدِ الملكِ" عن محمدِ بن سيرينَ عن عبدِ الله بن شَقِيقٍ عن عائشةَ قالت "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يصَلّي في لُحُفِ نِسَائِهِ"
ـــــــ
"باب في كراهية الصلاة في لحف النساء"
بضم اللام والحاء جمع لحاف بكسر اللام وهو والملحفة: اللباس الذي فوق سائر اللباس من دثار البرد ونحوه، قال في المحكم كذا في قوت المغتذي
قوله "أخبرنا خالد بن الحارث" بن عبيد بن سليم الهجيمي أبو عثمان البصري ثقة ثبت "عن أشعث وهو ابن عبد الملك" الحمراني بضم المهملة بصري يكنى أبا هاني ثقة فقيه "عن عبد الله بن شقيق" العقيلي بالضم بصرى ثقة فيه نصب من الثالثة كذا في التقريب.
قوله "لا يصلي في لحف نسائه" وفي رواية أبي داود: في شعرنا أو لحفنا شك من الراوي. والحديث يدل على مشروعية تجنب ثياب النساء التي هي مظنة لوقوع النجاسة فيها وكذلك سائر الثياب التي تكون كذلك، وفيه أيضاً أن الاحتياط والأخذ باليقين جائز غير مستنكر في الشرع وأن ترك المشكوك فيه من المتيقن المعلوم جائز وليس من نوع الوسواس، وأما ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الثوب الذي يجامع فيه أهله ما لم ير فيه أذى فهو من باب الأخذ بالمئنة لعدم وجوب العمل بالمظنة كذا في النيل.
قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.(3/216)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ في ذلك. رخصة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
قوله "وقد روي في ذلك رخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم" أشار إلى حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلينا شعارنا وقد ألقينا فوقه كساء، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الكساء فلبسه ثم خرج فصلى الغداة الحديث، رواه أبو داود وروى مسلم وأبو داود عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعلى مرط وعليه بعضه. قال القاضي الشوكاني: كل ذلك يدل على عدم وجوب تجنب ثياب النساء وإنما هو مندوب فقط عملاً بالاحتياط، وبهذا يجمع بين الأحاديث انتهى(3/217)
باب ما يجوز من المشى والعمل في صلاة التطوع
...
416 ـ باب "ذكر" ما يجوزُ من المَشْيِ والعَمَلِ في صلاةِ التطَوّع
598 ـ حدثنا أبو سَلَمةَ يحيى بن خَلَفٍ حدثنا بِشْرُ بن المُفَضّل عن بُرْدِ بن سِنَانٍ عن الزّهْرِيّ عن عُرْوَةَ عن عائشةَ قالت: "جِئْتُ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلّي في البيتِ والبابُ عليهِ مُغْلَقٌ،
ـــــــ
باب ما ذكر ما يجوز من المشى والعمل في الصلاة التطوع
قوله "عن برد" بضم الموحدة وسكون الراء "بن سنان" بكسر مهملة وخفة نون أولى الدمشقي نزيل البصرة مولى قريش صدوق رمى بالقدر. كذا في التقريب وقال في الخلاصة: وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي.
قوله "يصلي في البيت" وفي رواية النسائي يصلي تطوعاً "والباب عليه مغلق" فيه أن المستحب لمن صلى في بيت بابه إلى القبلة أن يغلق الباب عليه ليكون سترة للبار بين يديه وليكون أستر. وفي رواية أبي داود: فجئت فاستفتحت(3/217)
فَمَشى حتى فَتَحَ لي ثُمّ رَجَعَ إلى مَكَانِهِ، ووَصَفَتِ البابَ في القِبلَةِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
" فمشى حتى فتح لي" قال ابن رسلان: هذا المشي محمول على أنه مشى خطوة أو خطوتين أو مشى أكثر من ذلك متفرقاً. قال الشوكاني: وهو من التقييد بالمذهب ولا يخفي فساده "ثم رجع إلى مكانه" وفي رواية أبي داود: إلى مصلاه أي رجع إلى مكانه على عقبيه "ووصفت الباب في القبلة" أي ذكرت عائشة أن الباب كان إلى القبلة أي فلم يتحول صلى الله عليه وسلم عنها عند مجيئه إليه، ويكون رجوعه إلى مصلاه على عقبيه إلى خلف. قال الأشرف: هذا قطع وهم من يتوهم أن هذا الفعل يستلزم ترك استقبال القبلة ولعل تلك الخطوات لم تكن متوالية، لأن الأفعال الكثيرة إذا تفاصلت ولم تكن على الولاء لم تبطل الصلاة قال المظهر: ويشبه أن تكون تلك المشية لم تزد على خطوتين. قال القاري: الإشكال باق لأن الخطوتين مع الفتح والرجوع عمل كثير فالأولى أن يقال تلك الفعلات لم تكن متواليات انتهى.
قلت: هذا كله من التقيد بالمذهب، والظاهر أن أمثال هذه الأفعال في صلاة التطوع عند الحاجة لا تبطل الصلاة وإن لم تكن متوالية: قال ابن الملك: مشيه عليه الصلاة والسلام وفتحه الباب ثم رجوعه إلى مصلاه يدل على أن الأفعال الكثيرة إذا تتوالى لا تبطل الصلاة، وإليه ذهب بعضهم انتهى كلامه. قال القاري: وهو ليس بمعتمد في المذهب انتهى.
قلت: ما قال ابن الملك هو ظاهر الحديث لكن في صلاة التطوع عند الحاجة لا مطلقاً، وهو الراجح المعتمد المعول عليه وإن لم يكن معتمداً في المذهب الحنفي والله تعالى أعلم.
قوله "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره(3/218)
417ـ باب ما ذُكِرَ في قِراءة سورتَيْنِ في رَكْعَة
599 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلانَ حدثنا أبو دَاودَ قال أنبأنا شُعْبَةُ عن الأعْمَشِ قال: "سَمِعْتُ أبا وائلٍ قال: سأَل رَجُلٌ عبدَ الله عن هذا الحَرْفِ {غَيْرِ آسِنٍ} أو يَاسِنٍ قال: كُلّ القرآنِ قرأْتَ غَيْرَ هذا "الحرف"؟ قال نعم، قال: إنّ قَوْماً يَقْرَءُونَهُ يَنْثُرونَهُ نَثْرَ الدّقَلِ، لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ،
ـــــــ
باب ما ذُكِرَ في قِراءة سورتَيْنِ في رَكْعَة
قوله "أخبرنا أبو داود" هو الطيالسي.
قوله "سأل رجل" هو نهيك بفتح النون وكسر الهاء ابن سنان البجلي "عبد الله" هو ابن مسعود "عن هذا الحرف غير آسن أو ياسن" ي عني هذا اللفظ بهمزة أو بياء، وهذا اللفظ وقع في سورة محمد هكذا "فيها أنهار من ماء غير آسن" الآية أي غير متغير "قال كل القرآن قرأت غير هذا؟" بتقدير همزة الاستفهام وبنصب كل على أنه مفعول قرأت بفتح التاء على الخطاب، أي قال عبد الله بن مسعود للرجل: أكل القرآن قرأت غير هذا الحرف "قال نعم" أي قال الرجل نعم قرأت كل القرآن غير هذا وأحصيته، وفي رواية لمسلم: كيف تقرأ هذا الحرف ألفاً تجده أو ياء؟ "من ماء غير آسن" أو "من ماء غير ياسن" قال فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذا قال: أني لأقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد الله هزاً كهز الشعر، إن أقواماً يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع. الحديث "ينثرون نثر الدقل" أي يرمون بكلماته من غير روية وتأمل كما يرمى الدقل بفتحتين وهو رَدِيئُ التمر فإنه لرداءته لا يحفظ ويلقي منثوراً وقال في النهاية: أي كما يتساقط الرطب اليابس من العذق إذا هز "لا يجاوز تراقيهم" جمع ترقوة بالفتح وهي العظم بين النحر والعاتق، وهو كناية عن عدم القبول والصعود في موضع العرض. وقال النووي معناه: أن قوماً يقرأون وليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان(3/219)
إنّي لأَعْرِفُ السّوَرَ النظَائِرَ التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرنُ بَيْنَهُنّ، قال فأَمَرْنَا عَلْقَمَةَ فَسَأَلَهُ فقال: عشرونَ سورةً مِنَ المُفَصّلِ كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقرُنُ بَيْنَ كلّ سورَتَيْنِ في رَكْعَةٍ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
فلا يجاوز تراقيهم ليصل قلوبهم، وليس ذلك هو المطلوب بل المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب "إني لأعرف السور النظائر" أ ي السور المتماثلة في المعاني كالمواعظة أو الحكم أو القصص لا المتماثلة في عدد الاَي. قال المحب الطبري: كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العدد حتى اعتبرتها فلم أجد فيها شيئاً متساوياً "يقرن" بضم الراء وكسرها "قال" أي أبو وائل "فأمرنا علقمة" بن قيس بن مالك النخعي أي قال أبو وائل فأمرنا علقمة أن يسأل ابن مسعود عن السور النظائر "فسأله" أي فسأل علقمة عبد الله بن مسعود "فقال عشرون سورة من المفصل" وهو من ق إلى آخر القرآن على الصحيح لكثرة الفصل بين سورة بالبسملة على الصحيح قاله الحافظ "يقرن بين كل سورتين في كل ركعة" أي يجمع بين سورتين منها في كل ركعة على تأليف ابن مسعود فإنه جمع القرآن على نسق غير ما جمعه زيد وهي الرحمَن والنجم في ركعة. واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت والنون في الركعة، والمعارج والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم في ركعة، وعم والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس في ركعة، كذا في مجمع البحار. قلت: كذلك وقع بيان جمع السورتين في كل ركعة في رواية أبي داود وقال في آخره تأليف ابن مسعود رحمه الله انتهى.
ويتبين بهذا أن في قوله عشرون سورة من المفصل في حديث الباب تجوز لأن الدخان ليست منه، قاله الحافظ. وفي الحديث جواز الجمع بين سورتين في كل ركعة، وقد روى أبو داود وصححه ابن خزيمة من طريق عبد الله بن شقيق(3/220)
ـــــــ
قال: سألت عائشة أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين السور؟ قالت: نعم من المفصل. قال الحافظ: ولا يخالف هذا ما ورد أنه جمع بين البقرة وغيرها من الطوال لأنه يحمل على النادر انتهى.
قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما(3/221)
باب ماذكر في فضل المشى إلى المسجد وما يكتب له من الأجر في خطاه
...
418 ـ باب ما ذُكِرَ في فَضْلِ المَشْي إلى المسْجدِ وما يُكْتَبُ لهُ مِنَ الأجْرِ في خُطَاه
600 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلان حدثنا أبو داودَ قال أنبأنا شُعبةُ عن الأعمَشِ سَمِعَ ذكوَانَ عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تَوَضّأَ الرجُلُ فأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثم خَرجَ إلى الصّلاةِ لا يخُرِجُهُ أو "قال" لا يُنْقِزُهُ إلا إيّاهَا لم يَخْطُ خُطْوَةً إلاّ رَفَعَهُ الله بها دَرَجَةً أو حَطّ عنهُ بها خَطِيئَةً".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قال: سألت عائشة أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين السور؟ قالت: نعم من المفصل. قال الحافظ: ولا يخالف هذا ما ورد أنه جمع بين البقرة وغيرها من الطوال لأنه يحمل على النادر انتهى.
قوله "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما
باب ما ذُكِرَ في فَضْلِ المَشْي إلى المسْجدِ وما يُكْتَبُ لهُ مِنَ الأجْرِ في خُطَاه
قوله أخبرنا "أبو داود" هو الطيالسي "سمع ذكران" هو أبو صالح السمان الزيات المدني ثقة ثبت وكان يجلب الزيت إلى الكوفة من الثالثة مات سنة إحدى ومائة قاله الحافظ، وقال في الخلاصة: روى عن سعد وأبي الدرداء وعائشة وأبي هريرة وخلق. وعنه بنوه سهيل وعبد الله وصالح وعطاء بن أبي رباح، وسمع منه الأعمش ألف حديث، قال أحمد ثقة ثقة شهد الدار انتهى.
قوله: "فأحسن الوضوء" بأن راعى فروضه وشروطه وآدابه "أو قال لا ينهزه" كلمة أو للشك من الراوي، أي لا يدفعه، قال في النهاية: النهز الدفع يقال نهزت الرجل أنهزه إذا دفعته، ونهز رأسه إذا حركه "إلا إياها" أي إلا الصلاة، والمعنى خرج إلى المسجد ولم ينو بخروجه غير الصلاة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه بألفاظ(3/221)
باب ما ذكر في الصلاة بعد المغرب في البيت أفضل
...
419ـ باب ما ذُكِرَ في الصّلاةِ بعدَ المغربِ أنه في البيتِ أفْضَل
601 ـ حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ حدثنا إبراهيم بن أبي الوَزِيرِ "البصري ثقة" حدثنا محمدُ بن موسى عن سعدِ بن إسحاقَ بن كَعْبِ بن عُجْرَةَ عن أبيهِ عن جَدّهِ قال: "صَلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم في مَسْجِدِ بَني عبدِ الأشْهَلِ المغْرِبَ فَقَامَ نَاسٌ يَتَنَفّلُونَ، فقَال النبيّ صلى الله عليه وسلم: عَلَيكُمْ بهَذِهِ الصّلاة في البُيُوتِ".
ـــــــ
باب ما ذُكِرَ في الصّلاةِ بعدَ المغربِ أنه في البيتِ أفْضَل
قوله: "أخبرنا إبراهيم ابن أبي الوزير" هو إبراهيم بن عمر بن مطرف الهاشمي مولاهم أبو إسحاق بن أبي الوزير المكي نزيل البصرة صدوق من التاسعة قال الحافظ: وقال في الخلاصة: روى عن عبد الرحمَن بن الغسيل ونافع بن عمر ومالك، وعنه ابن المثنى وابن بشار. قال أبو حاتم لا بأس به. "أخبرنا محمد بن موسى" بن أبي عبد الله الفطري بكسر الفاء وسكون الطاء المدني مولاهم، روى عن المقبري ويعقوب بن سلمة الليثي وعون بن محمد بن الحنفية وروى عنه عبد الرحمَن بن أبي الموال وابن مهدي وابن أبي فديك وأبو المطرف بن أبي الوزير وإبراهيم بن أبي عمر بن أبي الوزير وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث كان يتشيع، وقال الترمذي ثقة، وقال أبو جعفر الطحاوي محمود في روايته، كذا في التقريب وتهذيب التهذيب "عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة" البلوي المدني حليف الأنصار ثقة من الخامسة "عن أبيه" هو إسحاق بن كعب بن عجرة، قال الذهبي في الميزان: إن إسحاق بن كعب تابعي مستور تفرد بحديث سنة المغرب وهو غريب جداً انتهى. وقال الحافظ في التقريب: مجهول الحال قتل يوم الحرة "عن جده" هو كعب بن عجرة صحابي مشهور مات بعد الخمسين وله نيف وسبعون.
قوله "في مسجد بني عبد الأشهل" هم طائفة من الأنصار "فقام ناس يتنفلون" وفي رواية أبي داود فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها "عليكم بهذه الصلاة" أي النوافل "في البيوت" وفي رواية أبي داود: هذه صلاة البيوت. قال القاري(3/222)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غَرِيبٌ "من حديث كعب بن عجرة" لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هَذَا الوجْهِ. والصحيحُ ما رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ قال: "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصَلّي الرّكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ في بَيْتِهِ".
ـــــــ
في المرقاة: هذا إرشاد لما هو الأفضل، والظاهر أن هذا إنما هو لمن يريد الرجوع إلى بيته بخلاف المعتكف في المسجد فإنه يصليها فيه ولا كراهة بالاتفاق.
قوله "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" قد عرفت أن إسحاق بن كعب مستور وقد تفرد هو بهذا الحديث، وحديث كعب بن عجرة هذا أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي.
قوله "والصحيح ما روي عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته" أخرجه البخاري بلفظ: قال حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته الحديث، وفي لفظ له: وأما المغرب والعشاء ففي بيته. واستدل به على أن فعل النوافل الليلية في البيوت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار، وحكى ذلك عن مالك والثوري: وفي الاستدلال به على ذلك نظر، والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالباً وبالليل يكون في بيته غالباً. وأغرب ابن أبي ليلى. فقال لا تجزي سنة المغرب في المسجد، حكاه عبد الله بن أحمد عنه عقب روايته لحديث محمود بن لبيد رفعه: أن الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت، وقال: إنه حكى ذلك لأبيه عن ابن أبي ليلى فاستحسنه. كذا في فتح الباري.
قلت: في مسند الإمام أحمد حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا المغرب في مسجدنا، فلما سلم منها قال اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم للسبحة بعد المغرب انتهى، والظاهر أن إسناده حسن. ويعقوب هذا هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد(3/223)
وقد رُوِيَ عن حُذَيْفَةَ "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلّى المَغْرِبَ فَمَا زَالَ يُصَلّي في المسْجِدِ حَتّى صَلّى العِشَاءَ الاَخِرَةَ" فَفِي هذا الحَديِثِ دَلاَلَةٌ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلّى الرّكْعَتَيْنِ بعدَ المغرِبِ في المسْجدِ.
ـــــــ
الزهري، وفيه في روايته الأخرى: قال أبو عبد الرحمَن هو عبد الله بن الإمام أحمد: قلت لأبي إن رجلاً قال من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد لم تجزه إلا أن يصليهما في بيته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه من صلوات البيوت. قال: من قال هذا؟ قلت: محمد بن عبد الرحمَن، هو ابن أبي ليلى قال: ما أحسن ما قال أو ما أحسن ما انتزع انتهى. ففي قول الحافظ: والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد الخ. نظر ظاهر.
قوله: "وقد روي عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب فما زال يصلي في المسجد حتى صلى العشاء الاَخرة" في مسند أحمد ص 404 جزء 5 حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا زيد بن الحباب أنبأنا إسرائيل أخبرني ميسرة بن حبيب عن المنهال عن زر بن حبيش عن حذيفة قال: قالت لي أمي: متى عهدك بالنبي صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه: فجئته فصليت معه المغرب فلما قضى الصلاة قام يصلي فلم يزل يصلي حتى صلى العشاء ثم خرج انتهى. وإسناده حسن "ففي هذا الحديث دلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين بعد المغرب في المسجد" وروى أبو داود في سننه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد، ففي هذا الحديث أيضاً دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين بعد المغرب في المسجد، لكن في سنده يعقوب بن عبد الله القمي. قال المنذري قال الدارقطني: ليس بالقوى انتهى. فطريق الجمع بين هذه الأحاديث أن يقال إنه يجوز فعل الركعتين بعد المغرب في المسجد، والأولى والأفضل أن تصليا في البيت والله تعالى أعلم(3/224)
420ـ باب ما ذكر في الاغْتِسَالِ عندَ ما يُسْلِمُ الرجُل
602 ـ حدثنا محمد بن بشّار حدثنا عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي حدثنا سُفْيَانُ عن الأغَرّ بن الصّبّاحِ عن خَلِيفَةَ بن حُصَيْنٍ عن قَيْسِ بن عَاصِمٍ "أنّهُ أَسْلَمَ فَأَمرهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يَغْتَسِلَ بماءٍ وسِدْرٍ".
"قال" : وفي الباب عن أبي هُرَيْرَةَ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ لا نعرِفُهُ إلاّ مِن هذا الوجْهِ.
ـــــــ
باب ما ذكر في الاغْتِسَالِ عندَ ما يُسْلِمُ الرجُل
قوله: "أخبرنا سفيان" هو الثوري "عن الأغر" بفتح الغين المعجمة بعدها راء مشددة "بن الصباح" بالموحدة المشددة بعد الصاد التميمي المنقري مولاهم الكوفي روى عن أبي نضرة وغيره وعنه الثوري وغيره ثقة، وثقه يحيى بن معين والنسائي "عن خليفة بن حصين" بن قيس بن عاصم التميمي المنقري عن جده قيس بن عاصم وعلي بن أبي طالب، وعنه الأغر المنقري وثقه النسائي "عن قيس بن عاصم" بن سنان بن خالد المنقري صحابي مشهور بالحلم.
قوله: "فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر" فيه دليل على مشروعية الغسل لمن أسلم، فذهب بعض أهل العلم إلى وجوبه، وذهب الأكثرون إلى الاستحباب.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه أحمد بلفظ: أن ثمامة أسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل، وأخرجه أيضاً عبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان وأصله في الصحيحين وليس فيهما الأمر بالاغتسال وإنما فيهما أنه اغتسل كذا في النيل.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وابن حبان وابن خزيمة وصححه ابن السكن كذا في النيل، وسكت عنه أبو داود وذكر المنذري تحسين الترمذي وأقره.(3/225)
والعملُ عليهِ عندَ أهلِ العِلْمِ يَسْتَحِبّونَ للرّجُلِ إذا أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَغْسِلَ ثِيابَهُ.
ـــــــ
قوله. "والعمل عليه عند أهل العلم يستحبون للرجل إذا أسلم أن يغتسل" قال الخطابي: هذا الغسل عند أكثر أهل العلم على الاستحباب لا على الإيجاب، وقال الشافعي: إذا أسلم الكافر أحب له أن يغتسل فإن لم يفعل ولم يكن جنباً أجزأه أن يتوضأ ويصلي. وكان أحمد بن حنبل وأبو ثور يوجبان الاغتسال إذا أسلم قولاً بظاهر الحديث، وقالوا لا يخلو المشرك في أيام كفره من جماع أو احتلام وهو لا يغتسل، ولو اغتسل لم يصح ذلك منه لأن الاغتسال من الجنابة فرض من فروض الدين وهو لا يجزيه إلا بعد الإيمان كالصلاة والزكاة ونحوها. وكان مالك يرى أن يغتسل الكافر إذا أسلم انتهى كلام الخطابي.
قلت: واستدل من قال بالاستحباب ـ إلا لمن أجنب ـ بأنه لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من أسلم بالغسل، ولو كان واجباً لما خص بالأمر به بعضاً دون بعض، فيكون ذلك قرينة تصرف الأمر إلى الندب. وأما وجوبه على المجنب فللأدلة القاضية بوجوبها لأنها لم تفرق بين كافر ومسلم. واحتج القائل بالاستحباب مطلقاً لعدم وجوبه على المجنب بحديث: الإسلام يجب ما قبله. قال القاضي الشوكاني: والظاهر الوجوب لأن أمر البعض قد وقع به التبليغ، ودعوى عدم الأمر لمن عداهم لا يصلح متمسكاً لأن غاية ما فيها عدم العلم بذلك وهو ليس علماً بالعدم انتهى "ويغسل ثيابه" وإن كان عليه شعر الكفر يحلق ويختتن. لما رواه أبو داود عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد أسلمت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألق عنك شعر الكفر، يقول احلق، قال وأخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الآخر معه: ألق عنك شعر الكفر واختتن انتهى، لكن الحديث ضعيف. قال المنذري: قال عبد الرحمَن بن أبي حاتم كليب والد عثيم بصري روى عن أبيه مرسل هذا آخر كلامه، وفيه أيضاً رواية مجهول انتهى كلام المنذري. والمراد بشعر الكفر الشعر الذي هو للكفار علامة(3/226)
ـــــــ
لكفرها، وهي مختلفة الهيئة في البلاد المختلفة. فكفرة الهند ومصر لهم في موضع من الرأس شعور طويلة لا يتعرضون لها بشيء من الجز أو الحلق أبداً. وإذا يريدون حلق الرأس يحلقون كله إلا ذلك المقدار(3/227)
باب ما ذكر من التسمية في دخول الخلاء
...
421 ـ باب مَا ذُكِرَ مِنَ التّسْمِيَةِ عند دُخُولِ الخَلاَء
603 ـ حدثنا محمدُ بن حُمَيْدٍ الرّازِيّ حدثنا الحَكَمُ بن بَشِيرِ بنِ سَلْمَانَ حدثنا خَلاّدٌ الصّفّارُ عن الحَكَمِ بن عبدِ الله النَصْرِيّ عن أَبي إسْحَاقَ عن أبي جُحَيْفَةَ عن عليّ بن أَبي طَالِب "رضي الله عنه" أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال "سَتْرُ مَا بَيْنَ أعْيُنِ الجِنّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمِ الخَلاَءَ أنْ يَقُولَ: بِسْمِ الله".
ـــــــ
باب مَا ذُكِرَ مِنَ التّسْمِيَةِ عند دُخُولِ الخَلاَء
قوله: "حدثنا محمد بن حميد الرازي" حافظ ضعيف وكان ابن معين حسن الرأي فيه "أخبرنا الحكم بن بشير بن سلمان" النهدي الكوفي صدوق له فرد حديث عندهما "أخبرنا خلاد الصفار" هو خلاد ابن عيسى أو ابن مسلم العبدي أبو مسلم الكوفي وثقه يحيى بن معين "عن الحكم بن عبد الله النصري" بالنون وثقه ابن حبان كذا في الخلاصة، وقال في التقريب مقبول "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن أبي جحيفه" بتقديم الجيم على الحاء المهملة مصغراً اسمه وهب بن عبد الله السوائي مشهور بكنيته ويقال له وهب الخير صحابي معروف وصحب علياً رضي الله عنه وكان من صغار الصحابة، مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ الحلم، وكان من كبار أصحاب علي وخواصه، كذا في التقريب والخلاصة.
قوله: "ستر ما بين أعين الجن" بفتح السين مصدر، وقيل بالكسر وهو الحجاب "وعورات بني آدم" بسكون الواو "إذا دخل أحدهم الخلاء" أي وقت دخول أحد بني آدم الخلاء "أن يقول بسم الله" خبر لقوله ستر ما بين أعين الجن. قال المناوي: وذلك لأن اسم الله تعالى كالطابع على بني آدم فلا يستطيع الجن(3/227)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هَذا الوجْهِ. وإسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ "القويّ".
وقد رُوِيَ عن أَنَسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء في هذَا.
ـــــــ
فكه، وقال: قال بعض أئمتنا الشافعية: ولا يزيد الرحمَن الرحيم، لأن المحل ليس محل ذكر، ووقوفاً مع ظاهر هذا الخبر انتهى. وقال ابن حجر المكي: يسن أن يقدم على كل من التعوذين بسم الله انتهى. قال القاري بعد نقل كلام ابن حجر هذا ما لفظه: ولا بعد أن يؤخر عنهما على وفق تقدم الاستعاذة على البسملة في التلاوة، ولو اكتفى بكل منهما لحصل أصل السنة والجمع أفضل انتهى.
قوله: "هذا حديث غريب" أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجه. قال المناوي بإسناد صحيح.
قلت: إسناد الترمذي ليس بصحيح كما صرح به بقوله "وإسناده ليس بذاك" أي ليس بالقوى لأن محمد بن حميد الرازي شيخ الترمذي ضعيف.
قوله: "وقد روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في هذا" أخرجه الطبراني بلفظ: ستر بين أعين الجن وبين عورات بني آدم إذا وضع أحدهم ثوبه أن يقول بسم الله. كذا في الجامع الصغير. قال المناوي في شرحه بإسناد حسن. قال القاري في المرقاة بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه: هذا الحديث يدل على أن "ما" زائدة في الحديث السابق يعني حديث على المذكور في هذا الباب وأن الحكم عام، ثم الظرف قيد واقعي غالي للتكشف المحتاج إلى الستر بالبسملة المتقدمة لا أنه احترازي فإنه ينبغي أن يبسمل إذا أراد كشف العورة عند خلع الثوب أو إرادة الغسل انتهى(3/228)
باب ما ذكر من سيماء هذه الأمة من آثار السجود والطهور يوم القيامة
...
422ـ باب ما ذُكِرَ مِنْ سِيمَا هذه الأمّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ آثَارِ السّجُودِ والطّهُور يوم القيامة
604 ـ حدثنا أبو الوَلِيدِ "أحمد بن بكار" الدّمَشْقِيّ أخبرنا الوَلِيدُ بن مُسْلِمٍ قال: قال صَفْوَانُ بن عَمْروٍ أخْبَرَنِي يَزِيدُ بنُ خُمَيْرٍ عن عبدِ الله بن بُسْرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أُمّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّ مِنَ السّجُودِ مُحَجّلُونَ مِنَ الوُضُوءِ".
ـــــــ
باب ما ذُكِرَ مِنْ سِيمَا هذه الأمّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ آثَارِ السّجُودِ والطّهُور يوم القيامة
قوله: "قال صفوان بن عمرو" السكسكي أبو عمرو الحمصي قال عمرو بن علي ثبت، وقال أبو حاتم ثقة له في مسلم فرد حديث "أخبرني يزيد بن خمير" بالخاء المعجمة مصغراً الهمداني الزيادي الحمصي روى عن أبي أمامة وعبد الله بن بسر وعنه صفوان بن عمر وشعبة ووثقه، ووثقه أيضاً ابن معين والنسائي.
قوله: "قال أمتي يوم القيامة غر" بضم الغين المعجمة وشدة الراء جمع أغر وهو أبيض الوجه "من السجود" أي من أثر السجود في الصلاة "محجلون من الوضوء" المحجل من الدواب التي قوائمها بيض مأخوذ من الحجل وهو القيد كأنها مقيدة بالبياض. والمعنى يأتون يوم القيامة بيض الوجوه من آثار السجود، وبيض مواضع الوضوء من اليدين والرجلين من آثار الوجوه، فالغرة من أثر أبي هريرة عند مسلم وغيره مرفوعاً قال: وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض، وفي رواية ابن ماجه: تردون على غراً محجلين من الوضوء سيماء أمتي ليس لأحد غيرها.(3/229)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِن هذا الوجْهِ مِن حَدِيثِ عبدِ الله بن بُسْرٍ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وفي الباب عن أبي هريرة وتقدم آنفاً لفظ حديثه. وفي الباب أيضاً عن أبي الدرداء أخرج حديثه أحمد وفيه: فقال رجل يا رسول الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: هم غر محجلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم الحديث. وهذا نص صريح في أن الغرة والتحجيل من خصوصيات هذه الأمة.
فإن قلت: جعل السجود في حديث عبد الله بن بسر المذكور في هذا الباب علة للغرة يعارضه جعل الوضوء علة للغرة والتحجيل في حديث أبي هريرة وحديث أبي الدرداء الذين ذكرنا لفظهما آنفاً.
قلت: يمكن أن يقال إن للغرة علتين للسجود والوضوء، وأما التحجيل فعلته هو الوضوء وحده والله تعالى أعلم(3/230)
423 ـ باب مَا يُسْتَحَبّ مِنَ التّيَمّنِ في الطّهُور
605 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا أَبو الأحْوَصِ عن أَشْعَثَ بن أَبي الشّعْثَاء عن أَبيِه عن مَسْرُوقٍ عن عَائِشَةَ قالت: "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُحِبّ التّيَمّنَ في طُهُورِهِ إذا تَطَهّرَ، وفي تَرَجّلِهِ إذا تَرَجّلَ، وفي إنْتِعَالِهِ إذا انْتَعَلَ".
وأبو الشّعْثَاءِ اسْمُهُ سُلَيْمُ بنُ أَسْوَدَ المُحَارِبيّ.
ـــــــ
باب مَا يُسْتَحَبّ مِنَ التّيَمّنِ في الطّهُور
قوله: "يحب التيمن" أي الابتداء في الأفعال والرجل اليمنى والجانب الأيمن "في طهوره" بالضم ويفتح والمراد به المصدر "وفي ترجله" أي امتشاطه الشعر من اللحية والرأس "وانتعاله" أي لبس نعلة.(3/230)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما(3/231)
باب ذكر قدر ما يجزىء من الماء في الوضوء
...
424ـ باب قَدْرِ ما يُجْزِيءُ مِنَ الماءِ في الوضُوء
606 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا وَكِيعٌ عن شَرِيْكٍ عن عبدِ الله بن عيسى عن ابن جَبْرٍ عن أَنَسِ "بن مَالِكٍ" أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُجْزِيءُ في الوُضُوءِ رَطْلاَنِ مِنْ مَاءٍ".
ـــــــ
باب ذكر قدر ما يجزئ من الماء في الوضوء
قد عقد الترمذي في أبواب الطهارة باباً بلفظ: باب الوضوء بالمد، وذكر هناك اختلاف أهل العلم في هذه المسألة، فالظاهر أنه لم يكن له حاجة إلى عقد هذا الباب ههنا فتفكر.
قوله: "عن شريك" هو ابن عبد الله الكوفي القاضي بواسط ثم الكوفة صدوق يخطئ كثيراً تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً شديداً على أهل البدع "عن عبد الله بن عيسى" هو ابن عبد الرحمَن بن أبي ليلى الأنصاري أبو محمد الكوفي ثقة فيه تشيع "عن ابن جبر" هو عبد الله بن عبد الله بن جبر كما صرح به الترمذي وهو ثقة "يجزئ في الوضوء رطلان من ماء" الرطل بالفتح ويكسر اثنتا عشرة أوقية والأوقية أربعون درهماً كذا في القاموس، وقوله يجزئ ظاهره أنه لا يجزئ في الوضوء دون رطلين من الماء، ويعارضه حديث عباد بن تميم عن أم عمارة بنت كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فأتى بماء في إناء قدر ثلثي المد، رواه أبو داود والنسائي وصححه أبو زرعة. وحديث الباب قد تفرد به شريك القاضي وقد عرفت أنه يخطئ كثيراً وتغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة.(3/231)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ على هذا اللفْظِ.
ورَوَى شُعْبَةُ عن عبدِ الله بنِ عبدِ الله بن جَبْرٍ عن أنَسِ "بنِ مالِكٍ" "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَتَوَضّأُ بالمَكّوكِ وَيغْتَسِلُ بِخَمْسَةِ مَكَاكِيّ".
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب" وأخرج بنحوه أحمد وأبو داود.
قوله: "كان يتوضأ بالمكوك" بفتح الميم وضم الكاف الأولى وتشديدها بوزن تنور: قال النووي: لعل المراد بالمكوك هنا المد انتهى. وقال صاحب مجمع البحار: أراد بالمكوك المد وقيل الصاع والأول أشبه انتهى. "ويغتسل بخمسة مكاكي" جمع مكوك وأصله مكاكيك أبدلت الكاف الأخيرة بالياء وأدغمت الياء في الياء: وقد جاء في قدر ماء الاغتسال وماء الوضوء روايات مختلفة، قال الشافعي وغيره: الجمع بين هذه الروايات أنها كانت اغتسالات في أحوال انتهى، وكذلك كانت وضوآت في أحوال، قال الشوكاني: القدر المجزئ من الغسل ما يحصل به تعميم البدن على الوجه المعتبر سواء كان صاعاً أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في النقصان إلى مقدار لا يسمى مستعمله مغتسلاً أو إلى مقدار في الزيادة يدخل فاعله في حد الإسراف. وهكذا الوضوء القدر المجزئ منه ما يحصل به غسل أعضاء الوضوء سواء كان مداً أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في الزيادة إلى حد الإسراف أو النقصان إلى حد لا يحصل به الواجب انتهى كلام الشوكاني. قلت: الأمر كما قال(3/232)
425 ـ باب مَا ذُكِرَ في نَضْحِ بَوْلِ الغُلاَمِ الرّضِيع
607 ـ حدثنا محمد بن بشار حدثنا مُعَاذُ بن هِشَامٍ قال: حَدّثَنيِ أبي عَن
ـــــــ
باب مَا ذُكِرَ في نَضْحِ بَوْلِ الغُلاَمِ الرّضِيع
قوله: "أخبرنا معاذ بن هشام" بن أبي عبد الله الدستوائي البصري وقد سكن اليمن صدوق ربما وهم مات سنة مائتين "قال حدثني أبي" هو هشام بن أبي(3/232)
قَتَادةَ عَنْ أبي حَرْبِ بنِ أَبي الأَسْوَدِ عن أبيهِ عن عليَ بن أَبي طالب "رضي الله عنه" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بَوْل الغلاَم الرّضِيعِ: "يُنْضَحُ بَوْلُ الغُلاَمِ ويُغْسَلُ بَوْلُ الَجارِيَةِ". قَال قَتَادَةُ وهَذَا ما لم يَطْعَما. فإِذا طَعِما غُسِلا جميعاً.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ "صحيح".
رفعَ هشَامٌ الدّسْتَوائِيّ هذا الحَديثَ عن قَتادةَ، وأَوقَفَهُ سعِيدُ بنُ أبي عَرُوبَةَ عن قَتادَةَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ.
ـــــــ
عبد الله سنبر وزن جعفر أبو بكر البصري الدستوائي ثقة ثبت وقد رمى بالقدر من كبار السابعة "عن أبي حرب بن أبي الأسود" الديلي البصري ثقة قيل اسمه محجن وقيل عطاء من الثالثة مات سنة 108 ثمان ومائة "عن أبيه" هو أبو الأسود الديلي بكسر المهملة وسكون التحتانية ويقال الدؤلي بالضم بعدها همزة مفتوحة البصري، اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان، ويقال عمرو بن ظالم، ويقال غير ذلك ثقة فاضل مخضرم.
قوله: "قال في بول الغلام الرضيع: ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية" قال الجزري في النهاية: نضح عليه الماء ونضحه به إذا رشه عليه انتهى. وفي القاموس: نضح البيت ينضحه رشه. وقال فيه الرش نقض الماء والدم والدمع انتهى. وهذا الحديث حجة صريحة في أنه يكفي النضح في بول الصبي ولا يكفي في بول الجارية بل لا بد من غسله وهو الحق. واعلم أن الترمذي رحمه الله قد عقد في أبواب الطهارة باباً في هذه المسألة بلفظ: باب ما جاء في نضج بول الغلام قبل أن يطعم وذكر فيه حديث أم قيس بنت محصن وأشار إلى أحاديث منها حديث علي المذكور ههنا ثم قال: وهو قول غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم مثل أحمد وإسحاق، قالوا ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية وهذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلاً جميعاً انتهى كلامه، فلا أدري لم ذكر(3/233)
ـــــــ
هذا الباب ههنا والظاهر أنه تكرار، وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة هناك فتذكر.
تنبيه: اعلم أن المصنف رحمه الله قد ذكر في آخر كتاب الصلاة أبواباً كان موضع ذكرها كتاب الطهارة فلا أدري لم فعل هكذا فتفكر(3/234)
باب ما ذكر في الرخصة للجنب في الأكل والوم إذا توضأ
...
426ـ باب مَا "ذُكِرَ" في الرّخْصَةِ لِلْجُنُبِ في الأكلِ والنّوْمِ إذا تَوَضّأ
608 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا قَبِيصَةُ عن حَمّادِ بن سَلَمَةَ عن عَطاءٍ الخُرَاسَانِي عن يَحْيى بن يَعْمَرَ عن عَمّار "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رَخّصَ للجُنُبِ إذا أرادَ أَنْ يَأَكُلَ أو يَشْرَبَ أو يَنَامَ أَنْ يَتَوَضّأَ وُضُوءَه للصّلاةِ".
ـــــــ
باب مَا "ذُكِرَ" في الرّخْصَةِ لِلْجُنُبِ في الأكلِ والنّوْمِ إذا تَوَضّأ
قوله: "أخبرنا قبيصة" بن عقبة بن محمد بن سفيان السوائي أبو عامر الكوفي صدوق ربما خالف روى عن الثوري وشعبة وحماد بن سلمة وغيرهم، وعنه البخاري والذهلي وهناد بن سري وغيرهم كذا في التقريب وتهذيب التهذيب "عن يحيى بن يعمر" بفتح التحتانية والميم بينهما مهملة ساكنة البصري نزيل مرو وقاضيها ثقة فصيح وكان يرسل من الثالثة كذا في التقريب. وقال صاحب مجمع البحار في كتابه المغنى بفتح الميم وضمها.
قوله: "رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة" أي الوضوء الشرعي. والحديث يدل على أفضلية الغسل للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام لأن العزيمة أفضل من الرخصة، وعلى أنه(3/234)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ "صحيحٌ".
ـــــــ
يجوز له أن يأكل أو يشرب أو ينام قبل الاغتسال، وهذا كله مجمع عليه قاله النووي: وأما من أراد أن يأكل أو يشرب فقد اتفق الناس على عدم وجوب الوضوء عليه، وحكى ابن سيد الناس في شرح الترمذي عن ابن عمر واجب، وأما من أراد أن ينام وهو جنب فقال الظاهرية وابن حبيب من المالكية بوجوب الوضوء عليه وذهب الجمهور إلى استحبابه وعدم وجوبه. وتمسك القائلون بالوجوب بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضأ واغسل ذكرك ثم نم"، رواه الشيخان. وتمسك الجمهور بحديث ابن عباس مرفوعاً: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة، أخرجه أصحاب السنن، وبحديث عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب ولا يمس ماءاً، أخرجه أبو داود والترمذي، وهو حديث ضعيف لا يصلح للاستدلال. قال الشوكاني في النيل بعد ذكر ما تمسك به الفريقان ما لفظه: فيجب الجمع بين الأدلة بحمل الأمر على الاستحباب، ويؤيد ذلك أنه أخرج ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث ابن عمر أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم ويتوضأ إن شاء انتهى كلام الشوكاني.
قلت: الأمر عندي كما قال الشوكاني والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد. وأخرج الشيخان عن عائشة مرفوعاً بلفظ: كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وأخرج أحمد والنسائي عنها مرفوعاً بلفظ: إذا أراد أن يأكل أو يشرب وهو جنب يغسل يديه ثم يأكل ويشرب، قال الشوكاني: يجمع بين الروايات بأنه تارة يتوضأ وضوءه للصلاة، وتارة يقتصر على غسل اليدين، لكن هذا في الأكل والشرب خاصة، وأما في النوم والمعاودة فهو كوضوء الصلاة لعدم المعارض للأحاديث المصرحة فيهما بأنه كوضوء الصلاة انتهى(3/235)
427ـ باب مَا "ذُكِرَ" في فَضْلِ الصّلاة
609 ـ حدثنا عبدُ الله بن أبي زِيَادٍ "القطواني" "الكوفي" حدثنا عُبَيْدُ الله بنُ موسى حدثنا غَالِبٌ أَبو بِشْرٍ عن أَيّوبَ بنِ عَائِذٍ الطّائِيّ عن قَيْس بن مُسْلِمٍ عن طَارِقِ بن شِهَابٍ عن كَعْبِ بن عُجْرَةَ قال: قال لِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُعِيذُكَ بالله يَا كَعْبُ بن عُجْرَةَ مِنْ أُمَرَاء يكُونونَ "مِنْ" بَعْدِي، فَمَنْ غَشِيَ أبْوَابَهُم فَصَدّقَهُمْ في كَذِبِهِمْ وأَعَانَهُم على ظُلْمِهمْ فَلَيْسَ مِنّي ولَسْتُ مِنهُ،
ـــــــ
باب مَا "ذُكِرَ" في فَضْلِ الصّلاة
قوله: "حدثنا عبد الله بن أبي زياد" هو عبد الله بن الحكم بن أبي زياد القطواني الكوفي الدهقان من شيوخ الترمذي، "أخبرنا عبيد الله بن موسى" العبسي الكوفي ثقه من رجال الستة "أخبرنا غالب أبو بشر" هو غالب بن نجيح الكوفي وثقه ابن حبان كذا في الخلاصة "عن أيوب بن عائذ الطائي" اليحتري ثقة "عن قيس بن مسلم" الجدلى الكوفي ثقة "عن طارق بن شهاب" الأحمصي كوفي مخضرم، قال أبو داود: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، وثقه ابن معين "عن كعب بن عجرة" بضم وسكون العين وسكون الجيم الأنصاري المدني صحابي مشهور.
قوله: "أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء" أي من عملهم أو من الدخول عليهم أو اللحوق بهم "يكونون من بعدي" يعني سفهاء موصوفين بالكذب والظلم "فمن غشى أبوابهم" وفي رواية النسائي. فمن دخل عليهم، وهو المراد من غشيان أبوابهم، قال في النهاية غشيه يغشاه غشياناً إذا جاء وغشاه تغشية إذا غطاه، وغشى الشيء إذا لابسه انتهى "فصدقهم في كذبهم" بفتح فكسر ويجوز بكسر فسكون والأول أصح وأفصح لعدم ورود غيره من القرآن، وقيل الكذب إذا أخذ في مقابلة الصدق كان بسكون الذال للازدواج، وإذا أخذ وحده كان بالكسر كذا في المرقاة "وأعانهم على ظلمهم" أي بالإفتاء ونحوه "فليس مني ولست منه"(3/236)
ولاَ يَرِدُ عليّ الحْوضَ، وَمَنْ غَشيَ أَبْوابَهم أَوْ لَمْ يغْشَ فلمْ يُصَدّقْهُم في كَذبِهِم ولمْ يُعِنْهُم على ظُلْمِهِمِ فَهُو مِنّي وأَنَا مِنهُ، وَسَيَرِدّ عَليّ الحَوْضَ، يَا كَعْب بن عُجْرَةَ الصّلاةُ بُرْهَانٌ، والصّوْمُ جُنّةٌ حَصِينَةٌ، والصّدَقَةُ تُطْفِيء الخَطِيئَةَ كَما يُطْفِيءُ الماءُ النَارَ، يا كَعْبُ بنَ عُجْرَةَ، إنهُ لاَ يَرْبُو لَحمٌ نَبَتَ مِن سُحْتٍ إلاّ كاَنتِ النّارُ أَوْلَى بِهِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الوجْهِ لا نعرفه إلا من حديث عُبيد الله بن موسى وأيوب بن عائذ "الطائي" يضعف ويقال: كان يَرَى رأي الإرجاء. وسَأَلْتُ محمداً عَن هَذا الحَديِثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ إلاّ مِن حديثِ عُبَيْدِ الله بنِ موسى واسْتَغْرَبَه جداً.
610 ـ حدثنا ابنُ نُمَيْرٍ عن عُبَيْدِ الله بن موسى عن غالبٍ بهذا.
ـــــــ
أي بين وبينه براءة ونقض ذمة قاله القاري، وقيل هو كناية عن قطع الوصلة بين ذلك الرجل وبينه صلى الله عليه وسلم، أي ليس بتابع لي وبعيد عني، وكان سفيان الثوري يكره تأويله ويحمله على ظاهره ليكون أبلغ في الزجر "ولا يرد" من الورود أي لا يمر "علي" بتشديد الياء بتضمين معنى العرض، أي لا يرد معروضاً على "الحوض" أي حوض الكوثر "فهو مني وأنا منه" كناية عن بقاء الوصلة بينه وبينه صلى الله عليه وسلم بشرط ألا يكون قاطع آخر "الصلاة برهان" أي حجة ودليل على إيمان صاحبها "والصوم جنة" بضم الجيم وتشديد النون هو الترس "حصينة" أي مانعة من المعاصي بكسر القوة والشهوة "والصدقة تطفئ الخطيئة" التي تجر إلى النار، يعني تذهبها وتمحو أثرها "إنه" ضمير الشأن "لا يربو" أي لا يرتفع ولا يزيد، ربا المال يربو إذا زاد "لحم نبت" أي نشأ "من سحت" بضم السين وسكون الحاء أي حرام.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه النسائي(3/237)
428ـ باب مِنْه
611 ـ حدثنا مُوسَى بنُ عبدِ الرحمَنِ "الكندي" الكُوفيّ حدثنا زَيْدُ بن الحُبابِ أخبرنا مُعَاويةُ بنُ صَالحٍ حدّثَنيِ سُلَيْم بنُ عامرٍ قال: سَمِعْتُ أبا أُمَامةَ يقولُ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ في حَجّةِ الوَدَاعِ فقال "اتّقُوا الله "رَبّكُمْ"، وصلّوا خَمْسَكُمْ، وصوُمُوا شهْركُمْ، وأَدّوا زكاةَ أمْوَالِكُمْ وأَطِيعُوا ذا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنّةَ رَبّكُمْ" قال:
ـــــــ
"باب منه"
أي من الباب المتقدم، والمعنى هذا باب آخر في فضل الصلاة.
قوله: "حدثنا موسى بن عبد الرحمَن الكوفي" هو موسى بن عبد الرحمَن بن سعيد بن مسروق الكندي المسروقي أبو عيسى الكوفي من شيوخ الترمذي، قال في التقريب: ثقة من كبار الحادية عشر "حدثني سليم بن عامر" الكلاعي ويقال الخبايري الحمصي ثقة من الثالثة، غلط من قال إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، مات سنة ثلاثين ومائة.
قوله: "وصلوا خمسكم" أضاف إليهم ليقابل العمل بالثواب في قوله جنة ربكم، ولينعقد البيع والشراء بين العبد والرب كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} الآية . وقال الطيبي: حكمة إضافة هذا وما بعده إليهم إعلامهم بأن ذوات هذه الأعمال بكيفيتها المخصوصة من خصوصياتهم التي امتازوا بها عن سائر الأمم. وحثهم على المبادرة للامتثال بتذكيرهم بما خوطبوا به، وتذكيرهم بأن هذه الإضافة العملية يقابلها إضافة فضلية هي أعلى منها وأتم وهي الجنة المضافة إلى وصف الربوبية المشعر بمزيد تربيتهم وتربية نعيمهم بما فارقوا به سائر الأمم "وصوموا شهركم" المختص بكم وهو رمضان وأبهمه الدلالة على أنه صار من الظهور عندهم إلى حد لا يقبل الشك والتردد "وأدوا زكاة أموالكم" في الخلعيات وأدوا زكاتكم طيبة بها أنفسكم، وحجوا بيت ربكم، كذا في قوت(3/238)
فقلتُ لأبي أُمَامَةَ: مُنْذُ كَمْ سَمِعْتَ "من رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا الحديثَ؟ قال سَمِعْتُهُ وأَنا ابنُ ثلاثينَ سَنَةً.
ـــــــ
المغتذي، والمراد بأموالكم أي التي هي ملك لكم "وأطيعوا ذا أمركم" قال القاري: أي الخليفة والسلطان وغيرهما من الأمراء، أو المراد العلماء، أو أعم، أي كل من تولى أمراً من أموركم سواء كان السلطان ولو جائراً ومتغلباً وغيره ومن أمرائه وسائر نوابه، ألا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولم يقل أميركم إذ هو خاص عرفاً ببعض من ذكر ولأنه أوفق لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} انتهى كلام القاري.
قلت: المراد بقوله "ذا أمركم" هو الذي أريد بقوله {أُولِي الْأَمْرِ} في هذه الآية : قال البخاري في صحيحه: باب قوله {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ذوي الأمر، قال الحافظ: وهو تفسير أبي عبيدة، قال ذلك في هذه الآية وزاد. والدليل على ذلك أن واحدها ذو أي واحد أولى لأنها لا واحد لها من لفظها، قال: واختلف في المراد ب {أُولِي الْأَمْرِ} في هذه الآية ، فعن أبي هريرة هم الأمراء أخرجه الطبراني بإسناد صحيح، وأخرج عن ميمون بن مهران وغيره نحوه، وعن جابر بن عبد الله قال: هم أهل العلم والخير، وعن مجاهد وعطاء وأبي الحسن وأبي العالية: هم العلماء، ومن وجه آخر أصح منه عن مجاهد قال: هم الصحابة وهذا أخص، وعن عكرمة: أبو بكر وعمر، وهذا أخص من الذي قبله، ورجح الشافعي الأول واحتج له بأن قريشاً كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير، فأمروا بالطاعة لمن ولي الأمر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: من أطاع أميري فقد أطاعني . متفق عليه، واختار الطبري حملها على العموم، وإن نزلت في سبب خاص، قاله الحافظ في الفتح:
قلت: والراجح أن المراد بقوله "ذا أمركم" في الحديث وبقوله {أُولِي الْأَمْرِ} في الآية هم الأمراء، ويؤيده شأن نزولها، فروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية انتهى. وعقد البخاري رحمه الله في ابتداء كتاب الأحكام من صحيحه باباً بلفظ: باب قول الله {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وأورد فيه حديثين الأول(3/239)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
آخر أبواب الصلاة
ـــــــ
حديث أبي هريرة الذي فيه: ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني ، والثاني حديث ابن عمر: ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته . قال الحافظ في الفتح: في هذا إشارة من المصنف إلى ترجيح القول الصائر إلى أن الآية نزلت في طاعة الأمراء خلافاً لمن قال نزلت في العلماء، وقد رجح ذلك أيضاً الطبري، وقال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عنها ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} الآية فقال هذه في الولاة انتهى. وقال العيني في عمدة القاري ص 554ج8 قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في تفسيره أحد عشر قولاً الأول الأمراء قاله ابن عباس وأبو هريرة وابن زيد والسدي، الثاني أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، الثالث جميع الصحابة قاله مجاهد، الرابع الخلفاء الأربعة قاله أبو بكر الوراق فيما قاله الثعلبي، الخامس المهاجرون والأنصار قاله عطاء، السادس الصحابة والتابعون، السابع أرباب العقل الذين يسوسون أمر الناس قاله ابن كيسان، الثامن العلماء والفقهاء قاله جابر بن عبد الله والحسن وأبو العالية، التاسع أمراء السرايا قاله ميمون بن مهران ومقاتل والكلبي، والعاشر أهل العلم والقرآن قاله مجاهد واختاره مالك، الحادي عشر عام في كل من ولى أمر شيء وهو الصحيح، وإليه مال البخاري بقوله ذوي الأمر انتهى كلام العيني.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم ولا يعرف له علة ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بأحاديث لسليم بن عامر وسائر رواته متفق عليهم، كذا في نصب الراية. وفي الباب عن أبي الدرداء أخرجه الطبراني في كتاب مسند الشاميين مرفوعاً بلفظ: أخلصوا عبادة ربكم وصلوا خمسكم وأدوا زكاة أموالكم وصوموا شهركم وحجوا بيت ربكم تدخلوا جنة ربكم، ذكره الزيلعي في نصب الراية(3/240)
ابواب الزكاة
باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الزكاة من التشديد
...
أبواب الزكاة عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
1 ـ باب ما جَاء عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في مَنْعِ الزّكَاة مِنَ التّشْديد
612ـ حدثنا هَنّادُ بنُ السّرِيّ التميمي الكوفي حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن المَعْرُورِ بنِ سُوَيْدٍ عن أبِي ذَر قال : "جِئْتُ إلى رسولِ الله صلى الله
ـــــــ
أبواب الزكاة
هي الركن الثالث من الأركان التي بني الإسلام عليها. قال ابن العربي في عارضة الأحوذي: تطلق الزكاة على الصدقة الواجبة والمندوبة والنفقة والحق والعفو، وتعريفها في الشرع: إعطاء جزء من النصاب الحولي إلى فقير ونحوه غير هاشمي ولا مطلبي، ثم لها ركن وهو الإخلاص. وشرط وهو السبب وهو ملك النصاب الحولي، وشرط من تجب عليه وهو العقل والبلوغ والحرية، ولها حكم وهو سقوط الواجب في الدنيا، وحصول الثواب في الأخرى، وحكمة وهي التطهير من الأدناس ورفع الدرجة واسترقاق الأحرار انتهى. قال الحافظ في الفتح: هو جيد لكن في شرط من تجب عليه اختلاف انتهى.
باب ما جَاء عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في مَنْعِ الزّكَاة مِنَ التّشْديد
قوله: "عن معرور بن سويد"، الأسدي الكوفي يكنى بأبي أمية ثقة من الثانية عاش مائة وعشرين سنة "عن أبي ذر" هو أبو ذر الغفاري الصحابي المشهور(3/241)
عليه وسلم وهُوَ جالِسٌ في ظِلّ الكَعْبَةِ، قال: فَرَآنِي مُقْبِلاً فقال: "هُمُ الأخْسَرُونَ وَرَبّ الكَعْبَةِ يَوْمَ القيامَةِ"، قال: فَقُلْتُ مَالِي لَعَلّهُ أُنْزِلَ فِيّ شَيْءٌ، قال: قلت: مَنْ هُمْ فِدَاكَ أَبِيْ وَأُمّي؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هُمُ الأكثَرُونَ إلاّ مَنْ قالَ هكذَا وهكذَا، وهكذا فَحَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ وعن يَمِيِنهِ وَعَن شِمَالِهِ، ثم قال: والذّي نَفْسي بِيَدِهِ لا يَمُوتُ رَجُلٌ فَيَدَعُ إبلاً أو بَقَراً لَمْ يُؤَدّ زَكَاتَهَا إلاّ جَاءَتْهُ يَوْمَ القيامة
ـــــــ
رضي الله عنه اسمه جندب بن جنادة على الأصح وهو من أعلام الصحابة وزهادهم أسلم قديماً بمكة يقال كان خامساً في الإسلام، ثم انصرف إلى قومه فأقام عندهم إلى أن قدم المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الخندق، ثم سكن الربذة إلى أن مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنه. قال الذهبي: كان يوازي ابن مسعود في العلم وكان رزقه أربعمائة دينار ولا يدخر مالاً.
قوله: "هم الأخسرون" هم ضمير عن غير مذكور لكن يأتي تفسيره وهو قوله هم الأكثرون الخ " ورب الكعبة" الواو للقسم "قال فقلت" أي في نفسي "فداك أبي وأمي" بفتح الفاء لأنه ماض خبر بمعنى الدعاء، ويحتمل كسر الفاء والقصر لكثرة الاستعمال، أي يفديك أبي وأمي وهما أعز الأشياء عندي، قاله القاري. وقال العراقي: الرواية المشهورة بفتح الفاء والقصر على أنها جملة فعلية، وروي بكسر الفاء والمد على الجملة الاسمية انتهى "هم الأكثرون"، وفي رواية الشيخين هم الأكثرون أموالاً أي الأخسرون مالاً، هم الأكثرون مالاً "إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا" أي إلا من أشار بيده من بين يديه وعن يمينه وعن شماله. قال الطيبي: يقال قال بيده أي أشار، وقال بيده أي أخذ، وقال برجله أي ضرب، وقال بالماء على يده أي صبه، وقال بثوبه أي رفعه "فحثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله" أي أعطى في وجوه الخير، قال في القاموس: الحثي كالرمي ما رفعت به يدك، وحثوت له أعطيته يسيراً "فيدع" أي يترك "إبلاً وبقراً"(3/242)
أعظم ما كانَتْ وأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بأَخْفَافِهَا وتَنْطحُهُ بقُرُونِها كُلّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عليهِ أُولاَها حتّى يُقْضَى بَيْنَ النّاسِ".
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ مِثْلُه. وعن عليّ بن أبي طَالِبٍ رضي الله عنه: "لُعِنَ مَانِعُ الصّدَقَةِ" وعن قَبِيصَةَ بنِ هُلْبٍ عن أبيهِ، وجابرِ بنِ عبدِ الله وعبدِ الله بن مسعودٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي ذَر حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
أو للتقسيم "أعظم ما كانت" بالنصب حال وما مصدرية "وأسمنه" أي أسمن ما كانت "تطؤه بأخفافها" أي تدوسه بأرجلها، وهذا راجع للإبل، لأن الخف مخصوص بها كما أن الظلف مخصوص بالبقر والغنم والظباء، والحافر يختص بالفرس والبغل والحمار، والقدم للاَدمي قاله السيوطي "وتنطحه" أي تضربه، والمشهور في الرواية بكسر الطاء قاله السيوطي "بقرونها" راجع للبقر "كلما نقدت" روى بكسر الفاء مع الدال المهملة من النفاد وبفتحها والذال المعجمة من النفوذ قاله السيوطي. قوله "وفي الباب عن أبي هريرة مثله" أخرجه البخاري ومسلم "وعن علي بن أبي طالب قال: لعن مانع الزكاة" أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي والخطيب في تاريخه وابن النجار، وفيه محمد بن سعيد البورقي كذاب يضع الحديث، كذا في شرح سراج أحمد السندي "وقبيصة بن هلب عن أبيه" أي هلب الطائي قيل إنه بضم الهاء وإسكان اللام وآخره باء موحدة، وقيل بفتح الهاء وكسر اللام وتشديد الباء، قال ابن الجوزي وهو الصواب كذا في قوت المغتذي "وجابر بن عبد الله" أخرجه مسلم "وعبد الله بن مسعود" أخرجه ابن ماجه والنسائي بإسناد صحيح وابن خزيمة في صحيحه.
قوله: "حديث أبي ذر حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم(3/243)
واسْمُ أبي ذَر جُنْدَبُ بنُ السّكَنِ. ويُقَالُ ابنُ جُنَادَةَ.
613 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ مُنِيرٍ عن عُبَيْدِ الله بن موسَى عن سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عن حَكِيمِ بنِ الدّيْلَمِ عن الضَحّاكِ بنِ مُزَاحِمٍ قال: "الأَكْثَرُونَ أَصْحَابُ عَشَرةِ آلافٍ".
ـــــــ
"واسم أبي ذر جندب بن السكن ويقال ابن جنادة" بضم الجيم وخفة النون وإهمال الدال، قال العراقي: ما صدر به قول مرجوح وجعله ابن حبان وهما، والصحيح الذي صححه المتقدمون والمتأخرون الثاني.
قوله: "حدثنا عبد الله بن منير" بنون آخره مهملة مصغراً المروزي أبو عبد الرحمَن الزاهد الحافظ الجوال، روى عن النضر بن شميل ووهب بن جرير وخلق: وعنه البخاري وقال لم أر مثله والترمذي والنسائي ووثقه، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين كذا في الخلاصة، وقد ضبط الحافظ في التقريب لفظ منير بضم الميم وكسر النون وكذا ضبطه في الفتح في باب الغسل في المخضب "عن حكيم بن الديلم" المدائني صدوق "عن الضحاك بن مزاحم" الهلالي مولاهم الخراساني يكنى أبا القاسم عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما، قال سعيد بن جبير لم يلق ابن عباس، ووثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة، وقال ابن حبان: في جميع ما روي نظر، إنما اشتهر بالتفسير مات سنة خمس ومائة كذا في الخلاصة، وقال في التقريب: صدوق كثير الإرسال "قال الأكثرون أصحاب عشرة آلاف" قال القاضي أبو بكر بن العربي: يعني درهماً، وإنما جعله حد الكثرة لأنه قيمة النفس المؤمنة وما دونه في حد القلة وهو فقه بالغ، وقد روي عن غيره وإني لأستحبه قولاً وأصوبه رأياً انتهى كلامه. وفي حاشية النسخة الأحمدية هذا التفسير من الضحاك لحديث آخر هو قوله صلى الله عليه وسلم: من قرأ ألف آية كتب من المكثرين المقنطرين، وفسر المكثرين بأصحاب عشرة آلاف درهم، وأورد الترمذي هذا التفسير ههنا لمناسبة ضعيفة انتهى ما في الحاشية.(3/244)
2ـ باب ما جَاءَ إذَا أَدّيْتَ الزكاةَ فقد قَضَيْتَ ما عَلَيْك
614 ـ حدثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ الشّيْبَانِيُ البصري حدثنا عبدُ الله بنُ وَهْب أخبرنا عَمْرُو بنُ الحَارِثِ عن دَرّاجٍ عن ابنِ حُجَيْرَةَ "هو عبد الرحمن بن حجيزة البصري" عن أبي هُرَيْرَةَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "إِذا أَدّيْتَ زكاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ إذَا أَدّيْتَ الزكاةَ فقد قَضَيْتَ ما عَلَيْك
قوله: "عن دراج" بتثقيل الراء وآخره جيم ابن سمعان أبي السمح، قيل اسمه عبد الرحمَن ودراج لقبه، وثقه ابن معين وضعفه الدارقطني، قال أبو داود: حديثه مستقيم إلا عن أبي الهيثم "عن ابن حجيرة" بضم الحاء وفتح الجيم مصغراً اسمه عبد الرحمَن ثقة وهو ابن حجيرة الأكبر.
قوله: "إذا أديت" أي أعطيت "زكاة مالك" الذي وجبت عليك فيه زكاة "فقد قضيت" أي أديت "ما عليك" من الحق الواجب فيه ولا تطالب بإخراج شيء آخر منه. قال أبو الطيب السندي في شرح الترمذي: قوله ما عليك أي من حقوق المال، وهذا يقتضي أنه ليس عليه واجب مالي غير الزكاة، وباقي الصدقات كلها تطوع وهو يشكل بصدقة الفطر والنفقات الواجبة، إلا أن يقال الكلام في حقوق المال وليس بشيء من هذه الأشياء من حقوق المال بمعنى أنه يوجبه المال بل يوجبه أسباب أخر، كالفطر والقرابة والزوجية وغير ذلك انتهى.(3/245)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أنّهُ ذَكَرَ الزكاةَ، فقالَ رجلٌ: "يا رسولَ الله هَلْ عَلَيّ غَيْرُهَا؟ فقال لا إلا أنْ تَتَطَوّع".
615 ـ حدثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ، حدثنا عليّ بنُ عبدِ الحميد الكُوفِيّ حدثنا سُلَيْمَانُ بنُ المُغِيرَةِ عن ثَابِتٍ عن أَنَسٍ قال: "كُنّا نَتَمَنّى أن يَأتي الأعْرَابِيّ العَاقِلُ فَيَسْأَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه ابن ماجه والحاكم في الزكاة. وقال الحاكم صحيح كذا في شرح الجامع الصغير للمناوى. وقال الحافظ في الفتح بعد نقل تحسين الترمذي وصححه الحاكم وهو على شرط ابن حبان، وعن أم سلمة عند الحاكم وصححه ابن القطان أيضاً وأخرجه أبو داود، وقال ابن عبد البر في سنده مقال، وذكر شيخنا يعني الحافظ العراقي في شرح الترمذي: إن سنده جيد، قال الحافظ وفي الباب عن جابر أخرجه الحاكم بلفظ: إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره، ورجح أبو زرعة والبيهقي وغيرهما وقفه كما عند البزار انتهى. قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري رحمه الله صرح به الحافظ كما ستقف "حدثنا علي بن حميد الكوفي" المعنى كوفي ثقة وكان ضريراً من العاشرة "أخبرنا سليمان بن المغيرة" القيسي مولاهم البصري أبو سعيد ثقة أخرج له البخاري مقروناً وتعليقاً من السابعة "عن ثابت" هو ابن أسلم البناني البصري ثقة عابد من الرابعة.
قوله: "يبتدئ" أي بالسؤال "الأعرابي العاقل" روى بالعين المهملة والقاف وهو المشهور وبالغين المعجمة والفاء والمراد به هنا الذي لم يبلغه النهي عن السؤال. كذا في قوت المغتذي. قال الحافظ في الفتح: وقع في رواية موسى(3/246)
ونَحْنُ عِنْدَهُ، فَبَيْنَا نَحْنُ كذَلِكَ إِذْ أَتَاهُ أَعْرَابِيّ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيِ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمدُ إنّ رَسُولَكَ أَتَانَا فَزَعَم لَنَا أَنّكَ تَزْعُم أَنّ الله أَرْسَلَكَ، فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، قالَ: فَبِالّذِي رَفَع السّمَاءَ، وبَسَطَ الأرْضَ، ونَصَبَ الجِبَالَ آلله أَرْسَلَكَ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، قال: فإِنّ رَسُولَكَ زَعَمَ لَنَا أَنّكَ تَزْعُمُ أَنّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ في اليَوْمِ واللّيْلَةِ، فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، قالَ: فَبِالّذِي أَرْسَلَكَ آلله أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قال: نعم فإنّ رَسُولَكَ زَعَمَ لَنَا أَنّكَ تَزْعُمُ أَنّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرٍ في السّنَةِ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
بن إسماعيل في أول هذا الحديث عن أنس قال: نهينا في القرآن أن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعجبنا أن يَجِيِئَ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل، وكأن أنساً أشار إلى آية المائدة، قال: وتمنوه عاقلاً ليكون عارفاً بما يسأل عنه "فبينا نحن كذلك" أي على هذه الحالة وهي حالة التمني "إذ أتاه أعرابي" اسمه ضمام بن ثعلبة "فجثا" أي جلس على ركبته "فزعم لنا" أي فقال لنا، والزعم كما يطلق على القول المحقق أيضاً كما نقله أبو عمرو الزاهدي في شرح فصيح شيخه ثعلب، وأكثر سيبويه من قوله زعم الخليل في مقام الاحتجاج قاله الحافظ، والمراد به ههنا هو الأخير "إنك تزعم" أي تقول.
قوله: "فبالذي رفع السماء" أي أقسمك بالذي رفع السماء "الله" بمد(3/247)
صَدَقَ، قالَ: فَبِالّذِي أَرْسَلَكَ آلله أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، قالَ: فإِنّ رَسُولَكَ زَعَمَ لَنَا أَنّكَ تَزْعُمُ أَنّ عَلَيْنَا في أَمْوَالِنَا الزكَاةَ فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ، قالَ: فَبِالّذِي أَرْسَلَكَ آلله أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قالَ النبي صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، قال: فإنّ رَسُولَكَ زَعم لنا أنّكَ تزعم أنّ علينا الحج إلى البيتِ من استطاعَ إليه سبيلاً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: نعم، قالَ: فبِالّذِي أرْسَلَكَ آلله أمَرَكَ بِهَذَا؟ فقالَ: النبي صلى الله عليه وسلم نعم، فقالَ: والّذِي بَعَثَكَ بالحَقّ لاَ أَدَعُ مِنْهُنّ شَيْئاً وَلاَ أُجَاوِزُهُنّ، ثُمّ وَثَبَ، فقالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: إِنْ صَدَقَ الأعْرَابِيّ دَخَل الجنّةَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الوجْهِ. وقد رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هذا الوجْهِ عن أَنَسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
الهمزة للاستفهام كما في قوله تعالى {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} "لا أدع" أي لا أترك "ولا أجاوزهن" أي إلى غيرهن يعني لا أزيد عليهن باعتقاد الافتراض، وفي رواية مسلم: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص "ثم وثب" أي قام بسرعة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" من هذا الوجه ذكر الإمام البخاري في صحيحه هذا الحديث معلقاً فقال بعد روايته حديث أنس بإسناده ما لفظه: رواه موسى وعلي بن عبد الحميد عن سليمان عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا انتهى. قال الحافظ في الفتح موسى هو ابن إسماعيل التبوذكي وحديثه موصول عند أبي عوانة في صحيحه وعند ابن مندة في الإيمان، وإنما علقه البخاري لأنه لم يحتج بشيخه سليمان بن المغيرة، قال: وحديث علي بن عبد الحميد موصول عند الترمذي، أخرجه عن البخاري عنه، وكذا أخرجه الدارمي عن علي بن عبد الحميد وليس له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق انتهى.
قوله: "وروي من غير هذا الوجه عن أنس الخ" رواه البخاري ومسلم(3/248)
سَمِعْتُ محمدَ بنَ إسماعيلَ يقولُ: قالَ بَعْضُ أهلِ العلم: فقهُ هذا الحديثِ أنّ القِرَاءةَ على العَالِمِ والعَرْضَ عليهِ جَائزٌ مِثْلُ السّمَاعِ. واحْتَجّ بأَنّ الأعْرَابِيّ عَرَضَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم فَأَقَرّ بهِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
وغيرهما "قال بعض أهل الحديث فقه هذا الحديث" أي الحكم المستنبط منه، والمراد ببعض أهل الحديث أبو سعيد الحداد أخرجه البيهقي من طريق ابن خزيمة قال سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: قال أبو سعيد الحداد: عندي خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة على العالم، فقيل له فقام قصة ضمام بن ثعلبة قال آلله أمرك بهذا، قال: نعم، كذا في فتح الباري "أن القراءة على العالم والعرض عليه جائز مثل السماع" أي القراءة على الشيخ جائز كما يجوز السماع من لفظ الشيخ، وكان يقول بعض المتشددين من أهل العراق: إن القراءة على الشيخ لا تجوز ثم انقرض الخلاف فيه واستقر الأمر على جوازه، وأختلف في أن أيهما أرفع رتبة، والمشهور الذي عليه الجمهور أن السماع من لفظ الشيخ أرفع رتبة من القراءة عليه ما لم يعرض عارض يصير القراءة عليه أولى، ومن ثم كان السماع من لفظه في إملاء أرفع الدرجات لما يلزم منه من تحرز الشيخ والطالب كذا في الفتح(3/249)
باب ما جاء في الزكاة الذهب والورق
...
3 ـ باب ما جَاء في زكاةِ الذّهَبِ والوَرِق
616 ـ حدثنا محمدُ بنُ عبدِ المَلِك بنِ أبي الشّواَربِ حدثنا أبو عَوَانَةَ عن أبي إسحاقَ عن عَاصِمِ بنِ ضَمْرَةَ عن علي قالَ: قالَ
ـــــــ
"باب ما جاء في زكاة الذهب والورق"
أي الفضة، يقال ورق بفتح الواو وكسرها وبكسر الراء وسكونها.
قوله: "عن عاصم بن ضمرة" السلولي الكوفي، قال في التقريب صدوق، وقال في الخلاصة وثقه ابن المديني وابن معين وتكلم فيه غيرهما.(3/249)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "قَدْ عَفَوْتُ عن صَدَقَةِ الخَيْلِ والرّقِيقِ فهَاتُوا صَدَقَةَ الرّقَةِ مِنْ كُلّ أرْبَعِينَ دِرْهَماً دِرْهَماً. وَلَيْسَ في تِسْعِينَ ومائةٍ شيءٌ فإذا بَلَغَتْ مائتينِ فَفِيها خَمْسَةُ الدّرَاهِمَ".
وفي البابَ عن أبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وعَمِرْو بنِ حَزْمٍ.
قال أبو عيسى: روَى هذا الحديثَ الأعْمَشُ وأبو عَوَانَةَ وغَيْرُهُمَا عن أبي إسحاقَ عن عَاصِمِ بنِ ضَمْرَةَ عن علي. وَرَوَى سُفيانُ الثّوْرِيّ
ـــــــ
قوله: "قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق" أي إذا لم يكونا للتجارة، وفي الخيل السائمة اختلاف وسيجيء بيانه وتحقيق الحق فيه في باب ما جاء ليس في الخيل والرقة صدقة. قال الطيبي: قوله: " عفوت" مشعر بسبق ذنب عن إمساك المال عن الإنفاق أي تركت وجاوزت عن أخذ زكاتهما مشيراً إلى أن الأصل في كل مال أن تؤخذ منه الزكاة "فهاتوا صدقة الرقة" أي زكاة الفضة، والرقة بكسر الراء وتخفيف القاف أي الدارهم المضروبة أصلة ورق وهو الفضة، خذف منه الواو وعوض عنه التاء كما في عدة ودية، قاله القاري في المرقاة، وقال الحافظ في الفتح: الرقة الفضة الخالصة سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة "وليس لي في تسعين ومائة شيء" إنما ذكر التسعين لأنه آخر عقد قبل المائة، والحساب إذا جاوز الاَحاد كان تركيبه بالعقود كالعشرات والمئتين والألوف، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن المائتين، ويدل عليه قوله "فإذا بلغت" أي الرقة "مائتين ففيها خمسة دراهم" أي الواجب فيها خمسة دراهم بعد حولان الحول.
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر الصديق وعمرو بن حزم" أما حديث الصديق فأخرجه البخاري وأحمد، وأما حديث عمرو بن حزم فأخرجه الطبراني والحاكم والبيهقي.(3/250)
وابنُ عُيَيْنَةَ وغَيْرُ واحِدٍ عن أَبِي إسحاقَ عن الحارِثِ عن علي. قال: وسألْتُ محمدَاً عن هذا الحَديثِ فقالَ كِلاَهُمَا عِنْدِي صحيحٌ عن أَبِي إسحاقَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ روى عَنْهُما جَمِيعاً.
ـــــــ
قوله: "يحتمل أن يكون" أن هذا الحديث "عنهما جميعاً" أي عن عاصم بن ضمرة والحارث كليهما فروى أبو إسحاق عنهما، قال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث علي هذا. أخرجه أبو داود وغيره وإسناده حسن انتهى(3/251)
باب ماجاء في الزكاة الإبل والغنم
...
4 ـ باب ما جَاءَ في زكاةِ الإبِلِ والغَنَم
617 ـ حدثنا زِيَادُ بنُ أَيُوبَ البَغْدَادِيّ و إبراهيم بنُ عبدِ الله الهَرَوِيّ و محمدُ بنُ كَامِل المَرْوَزِيّ ـ "المعْنَى وَاحِدٌ" ـ قالُوا: حدثنا عَبّادُ ابنُ العَوّامِ عن سُفيانَ بنِ حُسَين عن الزُهْرِيّ عن سَالِمٍ عن أبيهِ أنّ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في زكاةِ الإبِلِ والغَنَم
قوله: "حدثنا زياد بن أيوب البغدادي" الطوسي الأصل أبو هاشم يلقب دلويه وكان يغضب منها ولقبه أحمد شعبة الصغير ثقة حافظ، وروى عنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي "وإبراهيم بن عبد الله الهروي" أبو عبد الله نزيل بغداد، قال الدارقطني ثقة ثبت، وضعفه أبو داود وغيره لوقفه في القرآن "ومحمد بن كامل المروزي" ثقة من صغار العاشرة "المعنى واحد" أي ألفاظهم مختلفة والمعنى واحد "أخبرنا عباد بن العوام" بن عمر الكلابي مولاهم أبو سهل الواسطي ثقة من الثامنة "عن سفيان بن حسين" الواسطي ثقة في غير الزهري باتفاقهم كذا في التقريب، وقال في الميزان: قال عثمان بن سعيد: سألت يحيى عنه فقال ثقة وهو ضعيف الحديث عن الزهري، وقال ابن عدي: سمعت أبا يعلى يقول: قيل لابن معين حدث سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن(3/251)
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَتَبَ كِتَابَ الصّدَقَةِ فَلَمْ يُخْرِجْهُ إلى عُمّالِهِ حتى قُبِضَ فَقَرَنَهُ بِسَيْفِهِ، فَلَمّا قُبِضَ عَمِلَ بِهِ أبو بَكْرٍ حتّى قُبِضَ، وعُمَرُ حتّى قُبِضَ، وكانَ فيهِ "في خَمْسٍ مِنَ الإبِلِ شَاةٌ، وفي عَشْرٍ شَاتَانٍ، وفي خَمْسَ عَشْرَةَ ثلاثُ شِيَاهٍ، وفي عِشرينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وفي خَمْسٍ وَعِشْرينَ بِنْتُ مَخَاضٍ إلى خَمْسٍ وثلاثينَ، فإذا زَادَتْ فَفِيهَا ابْنَةُ لَبُونٍ إلى خَمْسٍ وأَرْبَعِينَ، فإذا زَادَتْ فَفِيهَا حِقّةٌ إلى سِتّينَ، فإذا
ـــــــ
أبيه في الصدقات فقال لم يتابعه عليه أحد ليس يصح انتهى. قلت: بل تابعه عليه سليمان بن كثير كما ستقف عليه في كلام المنذري.
قوله: "فقرنه بسيفه" أي كتب كتاب الصدقة فقرنه بسيفه لإرادة أن يخرجه إلى عماله فلم يخرجه حتى قبض، ففي العبارة تقديم وتأخير، قال أبو الطيب السندي: وفيه إشارة إلى أن من منع ما في هذا يقاتل بالسيف، وقد وقع المنع والقتال في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه وثباته على القتال مع مدافعة الصحابة أولاً يشير إلى أنه فهم الإشارة، قال هذا من فوائد بعض المشائخ انتهى "وكان فيه" أي في كتاب الصدقة "ثلاث شياه" جمع شاة " وفي خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين" استبدل به على أنه لا يجب فيما بين العدد شيء غير بنت مخاض خلافاً لمن قال كالحنفية تستأنف الفريضة فيجب في كل خمس من الإبل شاة مضافة إلى بنت المخاض قاله الحافظ في الفتح. قلت: لعله أراد بالحنفية بعضهم، وإلا ففي الهداية وشرح الوقاية وغيرهما من كتب الفقه الحنفي المعتبرة مصرح بخلافه موافقاً لما في الحديث. وبنت مخاض بفتح الميم والمعجمة الخفيفة وآخره معجمة، هي التي أتى عليها حول ودخلت في الثاني وحملت أمها، والماخض الحامل أي دخل وقتها وإن لم تحل "ففيها بنت لبون" بفتح اللام هي التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة سميت بها لأن أمّها تكون لبوناً أي ذات لبن ترضع به أخرى غالباً "ففيها حقة" بكسر الحاء وتشديد القاف هي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة سميت(3/252)
زَادَت فَجَذَعَةٌ إلى خَمْس وسَبْعِينَ، فإذا زَادَتْ ففِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلى تِسْعِينَ، فإذا زَادَتْ فَفِيهَا حِقّتَانِ إلى عشْرينَ ومائَةٍ، فإذا زَادَتْ على عِشْرِينَ ومائَةٍ فِفِي كُلّ خَمْسِينَ حِقّةٌ، وفي كُلّ أرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ، وفي الشّاءِ في كُلّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إلى عِشْرِينَ ومائَةٍ، فإذا زَادَتْ فَشَاتَانِ إلى مائَتَيْنِ، فإذا زَادَتْ فثلاَثُ شِيَاهٍ إلى ثلاثمائَةِ شَاةٍ فإذا زَادَتْ على ثلاثمائة شَاةٍ ففِي كُلّ مائَةِ شَاةٍ شَاةٌ، ثم لَيْسَ فيها شيءٌ حتى تَبْلُغَ أرْبَعَمائِةٍ ولا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرّقٍ ولا يُفَرّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ مَخَافَةَ الصّدَقَةِ.
ـــــــ
بها لأنها استحقت أن تركب وتحمل ويطرقها الجمل "ففيها جذعة" بفتح الجيم والذال المعجمة هي التي أتت عليها أربع سنين ودخلت في الخامسة سميت بها لأنها تجذع أي تقلع أسنان اللبن "فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون" فواجب مائة وثلاثين بنتاً لبون وحقة، وواجب مائة وأربعين بنت لبون وحقتان وهكذا. قال في المرقاة: قال القاضي: دل الحديث على استقراء الحساب بعد ما جاوز العدد المذكور يعني أنه إذا زاد الإبل على مائة وعشرين لم تستأنف الفريضة. وهو مذهب أكثر أهل العلم، وقال النخعي والثوري وأبو حنيفة: تستأنف فإذا زادت على المائة والعشرين خمس لزم حقتان وشاة، وهكذا إلى بنت مخاض وبنت لبون على الترتيب السابق انتهى "وفي السماء في كل أربعين شاة شاة" قال أبو الطيب السندي: المراد عموم الحكم لكل أربعين شاة بالنظر إلى الأشخاص أي في أربعين شاة شاة كائنة لمن كان وأما بالنظر إلى شخص واحد ففي أربعين شاة ولا شيء بعد ذلك حتى تزيد على عشرين ومائة انتهى. "ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع مخافة الصدقة" بالنصب على أنه مفعول لأجله والفعلان على بناء المفعول، وفي رواية البخاري خشية الصدقة. قال الحافظ في الفتح: قال مالك في الموطأ: معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت فيه الزكاة فيجمعونها حتى لا تجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة، أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاتان فيكون(3/253)
ومَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بالسّوِيّةِ، ولا يؤْخَذُ في الصّدَقَةِ هَرِمَةٌ ولا ذَاتُ عَيْبٍ".
وقال الزّهْرِيّ: إذَا جَاءَ المُصَدّقُ قَسّمَ الشّاءَ أثْلاثاً: ثُلُثُ خِيَارٌ،
ـــــــ
عليهما فيها ثلاث شياه فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد إلا شاة واحدة. وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة، وللساعي من جهة، فأمر كل واحد منهم أن لا يحدث شيئاً من الجمع والتفريق خشية الصدقة، فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة فيجمع أو يفرق لتقل، والساعي يخشى أن تقل الصدقة فيجمع أو يفرق لتكثر، فمعنى قوله "خشية الصدقة" أي خشية أن تكثر الصدقة أو خشية أن تقل الصدقة، فلما كان محتملاً للأمرين، لم يكن الحمل على أحدهما بأولى من الاَخر، فحمل عليهما معاً، لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر. والله أعلم انتهى. "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية" يريد أن المصدق إذا أخذ من أحد الخليطين ما وجب أو بعضه من مال أحدهما، فإنه يرجع المخالط الذي أخذ منه الواجب أو بعضه بقدر حصته الذي خالطه من مجموع المالين مثلاً في المثلى كالثمار أو الحبوب، وقيمته في المقوم كالإبل والبقر والغنم، فلو كان لكل منهما عشرون شاة رجع الخليط على خليطه بقيمة نصف شاه لا بنصف شاة لأنها غير مثلية، ولو كان لأحدهما مائة وللاَخر مائة، فأخذ الساعي الشاتين الواجبتين من صاحب المائة رجع بثلث قيمتها أو من صاحب الخمسين، رجع بثلثي قيمتها، أو من كل واحد شاة رجع صاحب المائة بثلث قيمة شاته، وصاحب الخمسين بثلثي قيمة شاته. كذا في إرشاد الساري للقسطلاني "ولا يؤخذ في الصدقة هرمة" بفتح الهاء وكسر الراء، الكبيرة التي سقطت أسنانها "ولا ذات عيب" أي معيبة، واختلف في ضبطه، فالأكثر على أنه ما يثبت به الرد في البيع، وقيل ما يمنع الإجزاء في الأضحية، ويدخل في المعيب المريض والذكورة بالنسبة إلى الأنوثة، والصغير سناً بالنسبة إلى سن أكبر منه، قاله الحافظ "إذا جاء المصدق" بتخفيف الصاد وكسر الدال المشددة عامل الصدقة، أي إذا جاء العامل عند أرباب المال لأخذ الصدقة.(3/254)
وثُلُثٌ أوْسَاطٌ وثُلُثٌ شِرَارٌ. وأَخَذَ المُصَدّقُ مِنَ الوسَطِ. ولم يَذْكُرِ الزّهْرِيّ البَقَرَ.
وفي البابِ عن أبي بَكْرٍ الصّدّيقِ وبهز بنِ حَكِيمٍ عن أبيهِ عن جَدّهِ وأَبِي ذَر وأَنَسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَرَ حديثٌ حسنٌ. والعملُ على هذا الحديثِ عند عَامّةِ الفُقَهَاءِ. وقد رَوَى يونسُ بنُ يَزيدَ وغيرُ واحِدٍ عن الزُهْرِيّ عن سَالِمٍ بهذا الحديثَ ولم يَرْفَعُوهُ، وإنّمَا رَفَعَهُ سُفْيَان بنُ حُسَيْنٍ.
ـــــــ
قوله: "وفي هذا الباب عن أبي بكر الصديق" أخرجه البخاري وأحمد بطوله "وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده" أخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "وإنما رفعه سفيان بن حسين" قال الحافظ في الفتح: وسفيان بن حسين ضعيف في الزهري وقد خالفه من هو أحفظ منه في الزهري فأرسله انتهى. وقال المنذري وسفيان بن حسين أخرج له مسلم، واستشهد به البخاري. إلا أن حديثه عن الزهري فيه مقال، وقد تابع سفيان بن حسين على رفعه سليمان بن كثير وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه. وقال الترمذي في كتاب العلل: سألت محمد بن اسماعيل عن هذا الحديث فقال أرجو أن يكون محفوظاً وسفيان بن حسين صدوق انتهى(3/255)
5ـ باب ما جَاءَ في زكاةِ البَقَر
618 ـ حدثنا محمدُ بنُ عُبَيْد المُحَارِبيّ و أَبُو سَعِيدٍ الأشَجُ قالا: حدثنا عبدُ السّلاَمِ بنُ حَرْبٍ عن خُصَيْفٍ عن أبي عُبَيْدَةَ عن عبدِ الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "في ثلاثينَ مِنَ البَقَرِ تَبِيْعٌ أو تَبِيعةٌ. وفي كُلّ أرْبَعِينَ مُسِنّةٌ".
وفي البابِ عن مُعَاذٍ بنِ جَبَلٍ.
قال أبو عيسى: هكَذَا رَوَى عبدُ السّلاَمِ بنُ حَرْبٍ عن خصيْفٍ. وعبدُ السّلاَمِ ثِقَةٌ حَافِظٌ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في زكاةِ البَقَر
قوله: "عن خصيف" بالصاد المهملة مصغراً ابن عبد الرحمَن الجزري صدوق سيء الحفظ خلط بآخره من الخامسة "عن أبي عبيدة" هو ابن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته والأشهر أنه لا إسم له غيرها ويقال اسمه عامر كوفي في ثقة من كبار الثلاثة. والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه كذا في التقريب.
قوله: "في كل ثلاثين من البقر تبيع" أي ما كمل له سنة ودخل في الثانية، وسمي به لأنه يتبع أمه بعد والأنثى تبيعة "وفي كل أربعين سنة" أي ما كمل له سنتان، وطلع سنها ودخل في الثالثة. وأخرج الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً: وفي كل أربعين مسنة أو مسن، والحديث دليل على وجوب الزكاة في البقر وأن نصابها ما ذكر. قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ.
قوله "وفي الباب عن معاذ بن جبل" أخرجه الترمذي في هذا الباب وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه.(3/256)
وَرَوَى شَرِيكٌ هذا الحديثَ عن خصَيْفٍ عن أبي عُبَيدَةَ عن أبيهِ عن عبدِ الله. وأبو عُبَيْدَةَ بنُ عبدِ الله لَمْ يَسْمَعْ مِنْ "أبيهِ".
619 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلانَ، حدثنا عبدُ الرّزاقِ أخبرنا سُفْيَانُ عن الأعْمَشِ عن أبي وَائِلٍ عن مَسْروقٍ عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ قال: "بعَثَنِي النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليَمَنِ، فأَمَرَنِي أنْ آخُذَ مِنْ كُلّ ثلاثينَ بَقَرَة تَبِيعاً أو تَبِيعَة، ومِنْ كُلّ أَرْبَعِينَ مُسِنّةً، ومِنْ كُلّ حَالِمٍ دينَاراً أَو عدْلَهُ مَعافِرَ".
ـــــــ
قوله "وروي شريك هذا الحديث عن خصيف عن أبي عبيدة عن أبيه عن عبد الله" فزاد شريك لفظ "عن أبيه" بين لفظ عن أبي عبيدة وبين لفظ عن عبد الله، وشريك هذا هو ابن عبد الله الكوفي القاضي يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة فزيادته لفظ "عن أبيه" منكرة، ورواية عبد السلام بن حرب بحذف هذه الزيادة، هي محفوظة فإنه ثقة حافظ، وقيل عن عبد الله بدل من عن أبيه.
قوله "أن أخذ من كل ثلاثين بقرة" قال ابن الهمام: البقر من بقر إذا شق سمي به لأنه يشق الأرض وهو اسم جنس، والتاء في بقرة للوحدة فيقع على الذكر والأنثى لا للتأنيث.
قوله "من كل حالم ديناراً" أراد بالحالم من بلغ الحلم وجرى عليه حكم الرجال سواء احتلم أم لا، والمراد به أخذ الحرية من لم يسلم "أو عدله" قال الخطابي: عدله أي ما يعادل قيمته من الثياب. قال الفراء: هذا عدل الشيء بكسر العين أي مثله في الصورة، وهذا عدله بفتح العين إذا كان مثله في القيمة. وفي النهاية العدل بالكسر وبالفتح وهما بمعنى المثل "معافر" على وزن مساجد حي(3/257)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ.
وَرَوَى بعضُهُم هذا الحديثَ عن سُفْيَانَ عن الأعْمَشِ عن أبي وَائِلٍ عن مَسْرُوقٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذاً إلى اليَمَنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ" وهذا أصحّ.
620 ـ حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ حدثنا شُعْبَةُ عن عَمْرِو بنِ مُرّةَ قال: سَأَلْتُ أبا عُبَيْدَةَ بن عبد الله هل يذْكُرُ عنْ عبدِ الله شيئاً؟ قال: لا.
ـــــــ
من همدان لا ينصرف لما فيه من صيغة منتهى الجموع وإليهم تنسب الثياب المعافرية، والمراد هنا الثياب المعافرية كما فسره بذلك أبو داود.
قوله "هذا حديث حسن" وزعم ابن بطال أن حديث معاذ هذا متصل صحيح قال الحافظ: وفي الحكم بصحته نظر لأن مسروقاً لم يلق معاذاً وإنما حسنه الترمذي لشواهده، ففي الموطأ من طريق طاؤس عن معاذ نحوه، وطاؤس عن معاذ منقطع أيضاً، وفي الباب عن علي عند أبي داود.
قوله "وروى بعضهم هذا الحديث عن سفيان الخ" أي رواه بعضهم مرسلاً بغير ذكر معاذ، وهذا المرسل أخرجه ابن شيبة بسنده عن مسروق قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن فذكره كذا في نصب الراية(3/258)
باب في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة
...
6ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ أَخْذِ خِيَارِ المالِ في الصّدَقَة
621 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ، حدثنا وَكيعٌ، حدثنا زَكَرِيا بنُ إسْحَاقَ المَكّيّ، حدثنا يَحْيى بنُ عبدِ الله بن صَيْفِي عن أَبي مَعْبَدٍ عن ابنِ عباسٍ "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذاً إلى اليَمَنِ فقال له: إنّكَ تَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ فادْعُهُمْ إلى شَهَادَةِ أَنْ لا إلهَ إلاّ الله وأَنّى رَسُولُ الله، فإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فأَعْلِمْهُم أن الله افترَضَ عَلَيْهِم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في اليَوْمِ واللّيْلَةِ، فإِن هُمْ أَطَاعُوا لِذلِكَ فأَعْلِمْهُمْ أنّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِم صَدَقَةً في أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وتُرَدّ على فُقَرائِهِمْ،
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ أَخْذِ خِيَارِ المالِ في الصّدَقَة
قوله "أخبرنا يحيى بن عبد الله بن صيفي" هو يحيى بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن صيفي المكي ثقة من السادسة كذا في التقريب.
قوله "بعث معاذاً إلى اليمن" أي أرسله إليه أميراً أو قاضياً "فإن هم أطاعوا لذلك" أي إنقادوا للإسلام وهو من قبيل حذف عامله على شريطة التفسير كقوله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} " فأعلمهم" من الإعلام " تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" قال البخاري في صحيحه: باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، ثم ذكر هذا الحديث، قال الحافظ: ظاهر الحديث أن الصدقة ترد على فقراء من أخذت من أغنيائهم، وقال ابن المنير: اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال لعموم قوله " فترد في فقرائهم" لأن الضمير يعود على المسلمين، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة في أية جهة كان، فقد وافق عموم الحديث انتهى. والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث عدم النقل وأن الضمير يعود على المخاطبين فيختص بذلك فقراؤهم، لكن(3/259)
فإنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فإيّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ. واتّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فإنّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وبَيْنَ الله حِجَابٌ".
ـــــــ
رجح ابن دقيق العيد الأول. قال: إنه وإن لم يكن الأظهر إلا أنه يقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر في الزكاة كما لا تعتبر في الصلاة فلا يختص بهم الحكم وإن اختص بهم خطاب المواجهة انتهى. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فأجاز النقل الليث وأبو حنيفة وأصحابهما، ونقله ابن المنذر عن الشافعي واختاره، والأصح عند الشافعية والمالكية والجمهور وترك النقل، فلو خالف ونقل أجزأ عند المالكية على الأصح، ولم يجزئ عند الشافعية على الأصح إلا إذا فقد المستحقون لها، ولا يبعد أنه اختيار البخاري لأن قوله حيث كانوا يشعر بأنه لا ينقل عن بلد وفيه ممن هو متصف بصفة الاستحقاق انتهى كلام الحافظ.
قلت: والظاهر عندي عدم النقل إلا إذا فقد المستحقون لها أو يكون في النقل مصلحة أنفع وأهم من عدمه والله تعالى أعلم.
قال الحافظ: وفيه إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون لعموم قوله "من أغنيائهم" قاله عياض وفيه بحث،، وأن الزكاة لا تدفع إلى الكافر لعود الضمير في فقرائهم إلى المسلمين سواء قلنا بخصوص البلد أو العموم انتهى "فإياك وكرائم أموالهم" جمع كريمة وهي خيار المال وأفضله، أي احترز من أخذ خيار أموالهم "واتق دعوة المظلوم" أي اتق الظلم خشية أن يدعو عليك المظلوم "فإنها ليس بينها وبين الله حجاب" مانع بل هي معروضة عليه تعالى. قال السيوطي: أي ليس لها ما يصرفها ولو كان المظلوم فيه ما يقتضي أنه لا يستجاب لمثله من كون مطعمه حراماً أو نحو ذلك، حتى ورد في بعض طرقه "وإن كان كافراً" رواه أحمد من حديث أنس قال ابن العربي: ليس بين الله وبين شيء حجاب عن قدرته وسمعه وبصره ولا يخفى عليه شيء، وإذا أخبر عن شيء أن بينه وبينه حجاباً فإنما يريد منعه انتهى.(3/260)
في البابِ عن الصّنَابِحِيّ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عباسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبو مَعْبَدٍ مَوْلَى ابنِ عباسٍ اسْمُهُ نَافِذٌ.
ـــــــ
قوله "وفي الباب عن الصنابحي" هو صنابح بن الأعسر، قال الحافظ في التقريب: الصنابح بضم أوله ثم نون وموحدة ومهملة ابن الأعسر الأحمصي صحابي سكن الكوفة ومن قال فيه الصنابحي فقد وهم انتهى. قال سراج أحمد السرهندي في شرح الترمذي: أخرج حديثه ابن أبي شيبة قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم ناقة حسنة في إبل الصدقة فقال ما هذه؟ قال صاحب الصدقة: إني ارتجعتها ببعيرين من حواشي الإبل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنعم إذاً". كذا في شرح سراج أحمد السرهندي.
قوله "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
قوله "اسمه نافذ" بفاء ومعجمة ثقة من الرابعة مات سنة أربع ومائة(3/261)
باب ما جاء في الصدقة الزرع والثمر والحبوب
...
7 ـ باب ما جَاء في صَدَقَةِ الزّرْع والتّمرِ والحُبُوب
622 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا عبدُ العَزِيزُ بن محمدٍ عن عَمْرِو بنِ يَحْيَى المَازِنِيّ عن أبيهِ عن أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ: أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خمسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ
ـــــــ
باب ما جَاء في صَدَقَةِ الزّرْع والتّمرِ والحُبُوب
قوله: "ليس فيما دون خمسة ذود" أي من الإبل كما في رواية البخاري وغيره، والذود بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة. قال الحافظ الأكثر على أن الذود من الثلاثة إلى العشرة وأنه لا واحد له من لفظه. وقال أبو عبيد:(3/261)
ولَيْسَ فيما دُونَ خمسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ".
وفي البابِ عن أبي هُرَيرَةَ وابن عُمَرَ وجَابِرٍ وعبدِ الله بن عَمْروٍ.
623 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي حدثنا سُفْيَانُ و شُعْبَةُ وحدثنا مَالِكُ بنُ أنَسٍ عَن عَمْرِو بنِ يَحْيَى عن أبيهِ عن أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوَ حَدِيثِ عبدِ العَزِيزِ عن عَمْروِ بنِ يَحْيَى.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي سَعيدٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد
ـــــــ
من الثنتين إلى العشرة. وقال القسطلاني: القياس في تمييز ثلاثة إلى عشر أن يكون جمع تكسير جمع قلة فمجيئه اسم جمع كما في هذا الحديث قليل. والذود يقع على المذكر والمؤنث والجمع والمفرد فلذا أضاف خمس إليه انتهى.
قوله: "وليس فيما دون خمس أواق" أي من الورق كما من رواية مالك في الموطأ. قال الحافظ: أواق بالتنوين وبإثبات التحتانية مشدداً أو مخففاً جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد التحتانية. وحكى الجياني وقية بحذف الألف وفتح الواو. ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهماً بالاتفاق انتهى.
قوله: "وليس فيما دون خسمة أوسق" جمع وسق بفتح الواو ويجوز كسرها كما حكاه صاحب المحكم وجمعه حينئذ أو ساق كحمل وأحمال، وقد وقع كذلك في رواية مسلم وهو ستون صاعاً بالاتفاق وفي رواية لمسلم: ليس فيما دون خمس أوسق من تمر ولا حب صدقة، ولفظ دون في المواضع الثلاثة بمعنى أقل، لا أنه نفى عن غير الخمس الصدقة كما زعم من لا يعتد بقوله كذا في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه أحمد "وابن عمر" أخرجه البخاري "وجابر" أخرجه مسلم "وعبد الله بن عمرو" لينظر من أخرج حديثه.
قوله: "حديث أبي سعيد حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.(3/262)
رُوِيَ مَنْ غَيْرِ وَجْه عنهُ. والعملُ على هذا عِنْدَ أهلِ العلمِ أنْ لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةٍ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ. والوسقُ سِتونَ صاعاً، وخَمْسَةُ أوْسُقٍ ثلاثُمائة
ـــــــ
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم أن ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" كذا أطلق الترمذي، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، وبه قال صاحباً أبي حنيفة محمد وأبو يوسف رحمهم الله تعالى، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجب العشر أو نصف العشر فيما أخرجت الأرض من غير تفصيل بين أن يكون قدر خمسة أوسق أو أقل أو أكثر. قال الإمام محمد في الموطأ بعد رواية حديث أبي سعيد المذكور ما لفظه: وبهذا نأخذ، وكان أبو حنيفة يأخذ بذلك إلا في خصلة واحدة فإنه كان يقول فيما أخرجت الأرض العشر من قليل أو كثير إن كانت تشرب سيحاً أو تسقيها السماء، وإن كانت تشرب بغرب أو دالية فنصف عشر. وهو قول إبراهيم النخعي ومجاهد انتهى. كلام محمد رحمه الله، وهو قول عمر بن عبد العزيز فإنه قال: فيما أنبتت الأرض من قليل أو كثير العشر . أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وأخرج عن مجاهد والنخعي نحوه. واستدل لهم بحديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر، أخرجه البخاري، ولفظ أبي داود: فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر، وفيما سقى بالسواني أو النضح نصف العشر ، وبحديث جابر مرفوعاً فيما سقته الأنهار والغيم العشر، وفيما سقى بالسانية نصف العشر، أخرجه مسلم، وبحديث معاذ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمرني أن آخذ مما سقت السماء وما سقى بعلا العشر، وما سقى بالدوالي نصف العشر، أخرجه ابن ماجه.
وتعقب بأن هذه الأحاديث مبهمة، وحديث أبي سعيد المذكور وما في معناه من الأخبار مفسرة، والزيادة من الثقة مقبولة فيجب حمل المبهم على المفسر.
وأجاب الحنفية عنه بأنه إذا ورد حديثان متعارضان أحدهما عام والآخر(3/263)
ـــــــ
خاص فإن علم تقدم العام على الخاص خص بالخاص، وإن علم تقدم الخاص كان العام ناسخاً له فيما تناولاه، وإن لم يعلم التاريخ يجعل العام متأخراً لما فيه من الاحتياط، وههنا حديث أبي سعيد رضي الله عنه وما في معناه خاص، وحديث ابن عمر رضي الله عنه وما في معناه عام، ولم يعلم التاريخ فيجعل العام متأخراً ويعمل به.
قلت: لا تعارض بين حديث أبي سعيد وما في معناه وبين حديث ابن عمر رضي الله عنه وما في معناه أصلاً، فإن حديث ابن عمر رضي الله عنه سيق للتمييز بين ما يجب فيه العشر أو نصف العشر، وحديث أبي سعيد مساق لبيان جنس المخرج منه وقدره.
قال الحافظ ابن القيم في أعلام الموقعين: المثال السابع والثلاثون: رد السنة الصحيحة المحكمة في تقدير نصاب المعشرات بخمسة أوسق بالمتشابه من قوله فيما سقت السماء العشر وما سقى بنضح أو غرب فنصف العشر، قالوا وهذا يعم القليل والكثير وقد عارضه الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قدم الأحوط وهو الوجوب، فيقال يجب العمل بكلا الحديثين ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية، فإن طاعة الرسول فرض في هذا وفي هذا، ولا تعارض بينهما بحمد الله بوجه من الوجوه، فإن قوله فيما سقت السماء العشر إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وبين ما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث وبينه نصاً في الحديث الاَخر، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دل عليه البتة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصد، وبيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص ـ إلى أن قال: ثم يقال إذا خصصتم عموم قوله فيما سقت السماء العشر بالقصب والحشيش ولا ذكر لهما في النص فهلا خصصتموه بالقياس الجلي الذي هو من أجلي القياس وأصحه على سائر أنواع الذي تجب فيه الزكاة. فإن زكاة الخاصة لم يشرعها الله في مال إلا وجعل له نصاباً كالمواشي والذهب والفضة.(3/264)
صَاعٍ، وصَاعُ النبيّ صلى الله عليه وسلم خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وثُلُثٌ، وصَاعُ أهْلِ الكُوفَةِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ. وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْس أوَاقٍ صَدَقَةٌ والأوقيّةُ
ـــــــ
ويقال أيضاً: هلا أوجبتم الزكاة في قليل كل مال وكثير عملا بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وبقوله صلى الله عليه وسلم: "وما بعد من صاحب إبل ولا بقر لا يؤذي زكاتها إلا بطح له يوم القيامة بقاع قرقر" وبقوله: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة بصفائح من نار" وهلا كان هذا العموم عندكم مقدماً على أحاديث النصب الخاصة، وهلا قلتم هناك تعارض مسقط وموجب فقدمنا الموجب أحتياطاً، وهذا في غاية الوضوح انتهى كلام ابن القيم.
وإذا عرفت هذا كله ظهر لك أن القول الراجح المعول عليه هو ما قال به الجمهور وأما ما قال به الإمام أبو حنيفة وإبراهيم النخعي فهو قول مرجوح، ولذلك قال الإمام محمد في كتاب الحجج ما لفظه: ولسنا نأخذ من قول أبي حنيفة وإبراهيم ولكننا نأخذ بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" ، انتهى كلامه. "والوسق ستون صاعاً" أي من صاع النبي صلى الله عليه وسلم. قال الإمام محمد في كتاب الحجج: والوسق عندنا ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم انتهى "وخمسة أوسق ثلاثمائة صاع" لأنك إذا ضربت الخمسة في الستين حصل هذا المقدار.
قوله: "وصاع النبي صلى الله عليه وسلم خمس أرطال وثلث، وصاع أهل الكوفة ثمانية أرطال" أخرج الدارقطني في سننه عن إسحاق بن سليمان الرازي قال: قلت لمالك بن أنس: أبا عبد الله كم قدر صاع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعرقي أنا حزرته فقلت أبا عبد الله خالفت شيخ القوم، قال من هو؟ قلت: أبو حنيفة يقول ثمانية أرطال، فغضب غضباً شديداً ثم قال لجلسائه: يا فلان هات صاع جدك، يا فلان هات صاع جدتك، قال إسحاق: فاجتمعت آصع، فقال ما تحفظون في هذا؟ فقال: هذا حدثني أبي عن أبيه(3/265)
أرْبَعُونَ دِرْهَماً وخَمْسُ أوَاقٍ مائَتَا دِرْهَمٍ. ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صدقةٌ، يَعْنِي لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ مِنْ الإبِلِ، فإذا بلَغَتْ خَمْساً وعِشْرينَ مِنَ الإبِلِ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، وفِيما دُونَ خَمْسٍ وعِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ في كُلّ خْمسٍ مِنَ الإبِلِ شَاةٌ.
ـــــــ
أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال مالك: أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثاً انتهى.
قال القاضي الشوكاني في النيل: هذه القصة مشهورة أخرجها أيضاً البيهقي بإسناد جيد. وقد أخرج ابن خزيمة والحاكم من طريق عروة عن أسماء بنت أبي بكر أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمد الذي يقتات به أهل المدينة، وللبخاري عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يعطي زكاة رمضان عند النبي صلى الله عليه وسلم بالمد الأول، ولم يختلف أهل المدينة في الصاع وقدره من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، أنه كما قال أهل الحجاز خمسة أرطال وثلث بالعراقي، وقال العراقيون منهم أبو حنيفة أنهم ثمانية أرطال وهو قول مردود تدفعه هذه القصة المسندة إلى صيعان الصحابة التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم وقد رجع أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة بعد هذه الواقعة إلى قول مالك وترك قول أبي حنيفة انتهى كلام الشوكاني.
قلت: أخرج الطحاوي عن أبي يوسف قال قدمت المدينة فأخرج إلى من أثق به صاعاً وقال هذا الصاع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته خمسة أرطال وثلثا، قال الطحاوي: وسمعنا ابن أبي عمران يقول الذي أخرجه لأبي يوسف هو مالك انتهى. وذكر الحافظ الزيلعي رواية الدارقطني المذكورة وقال بعد ذكرها قال صاحب التنقيح إسناده مظلم وبعض رجاله غير مشهورين، والمشهور ما أخرجه البيهقي عن الحسين بن الوليد القرشي وهوثقة قال قدم علينا أبو يوسف رحمه الله(3/266)
ـــــــ
من الحج فقال: إني أريد أن أفتح عليكم باباً من العلم أهمني ففحصت عنه فقدمت المدينة فسألت عن الصاع فقال صاعنا هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لهم ما حجتكم في ذلك؟ فقالوا نأتيك بالحجة غداً، فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخاً من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم صاع تحت ردائه، كل رجل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته أن هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت فإذا هي سواء، قال عيرته فإذا خمسة أرطال وثلث بنقصان يسير، فرأيت أمراً قوياً. فتركت قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في الصاع وأخذت بقول أهل المدينة، هذا هو المشهور من قول أبي يوسف رحمه الله. وقد روي أن مالكاً رضي الله تعالى عنه ناظره واستدل عليه بالصيعان التي جاء بها أولئك الرهط فرجع أبي يوسف إلى قوله. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سمعت علي بن المديني يقول: عيرت صاع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته خمسة أرطال وثلث رطل بالتمر انتهى كلامه، كذا في نصب الراية.
قلت: ظهر بهذا كله أن الحق أن صاع النبي صلى الله عليه وسلم كان خمسة أرطال وثلث رطل، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذا الصاع النبوي يخرجون زكاة الفطر في عهده صلى الله عليه وسلم. وأما صاع أهل الكوفة فهو خلاف صاع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يخرج زكاة الفطر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة رضي الله عنهم بصاع أهل الكوفة، فالصاع الشرعي هو الصاع النبوي دون غيره.
وأما حديث الدارقطني عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال فضعيف، والحديث في الصحيحين عن أنس ليس فيه ذكر الوزن، وكذا حديثه عن عائشة رضي الله عنها جرت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغسل من الجنابة صاع من ثمانية أرطال، وفي الوضوء رطلان ضعيف، وكذا حديث ابن عدي عن جابر رضي الله عنه بمثل حديث أنس المذكور ضعيف، صرح الحافظ بضعف هذه الأحاديث في الدراية.
وأما ما روى أبو عبيد عن إبراهيم النخعي قال: كان صاع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أرطال ومده رطلين فهو مرسل وفيه الحجاج بن أرطأة قال الحافظ،(3/267)
8ـ باب ما جَاءَ لَيْسَ في الخَيْلِ وَالرّقِيقِ صَدَقَة
624 ـ حدثنا أبو كريب محمدُ بنُ العَلاَءِ و محمودُ بنُ غَيْلاَنَ قال حدثنا وَكِيعٌ عن سُفْيَانَ و شُعْبَةَ عن عبدِ الله بن دِينارٍ عن سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ عن عِرَاكِ بنِ مَالِكٍ عن أبي هُرَيْرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "لَيْسَ على المُسْلِمِ، في فَرَسِهِ ولافي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ".
وفي البابِ عن عبدِ الله بنِ عَمْر وٍ عليّ
ـــــــ
باب ما جَاءَ لَيْسَ في الخَيْلِ وَالرّقِيقِ صَدَقَة
قوله: "عن عبد الله بن دينار" العدوي مولاهم المدني ثقة "عن عراك بن مالك" بكسر العين وتخفيف الراء الغفاري المدني فقيه أهل دهلك ثقة فاضل مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة، ودهلك جزيرة قريبة من أرض الحبشة من ناحية اليمن هو مدني الأصل، نفاه يزيد بن عبد الملك إلى دهلك لكلمة قالها أيام عمر بن عبد العزيز.
قوله: "ليس على المسلم في فرسه ولا عبده صدقة" أي إذا لم يكونا للتجارة. قال الحافظ في الفتح: واستدل به من قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما مطلقاً ولو كان للتجارة، وأجيبوا بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وعلي" أما حديث عبد الله بن عمرو فليظر من أخرجه. وأما حديث علي فأخرجه أبو داود بإسناد حسن وأخرجه الترمذي أيضاً في باب زكاة الذهب والورق.(3/268)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
والعملُ عليهِ عِندَ أهْلِ العلْمِ أنّهُ لَيْسَ في الخَيْلِ السّائِمَةِ صَدقَةٌ، ولا في الرّقِيقِ إذا كانُوا لِلْخدمَةِ صَدقَةٌ، إلاّ أَنْ يَكُونُوا للتّجَارَةِ، فإذا كانُوا لِلتّجَارَةِ فَفِي أَثْمَانِهم الزّكَاةُ إذا حَالَ عَلَيْها الحَوْلُ.
ـــــــ
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما.
قوله: "والعمل عليه عند أهل العلم، أنه ليس في الخيل السائمة صدقة ولا في الرقيق إذا كانوا للخدمة صدقة إلا أن يكونوا للتجارة" وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة رحمهما الله. قال محمد في موطأه بعد رواية حديث الباب: وبهذا نأخذ ليس في الخيل صدقة سائمة كانت أو غير سائمة. وأما في قول أبي حنيفة رحمه الله فإذا كانت سائمة يطلب نسلها ففيها الزكاة إن شئت في كل فرس دينار وإن شئت فالقيمة. ثم في كل مائتي درهم خمسة دراهم، وهو قول إبراهيم النخعي انتهى كلام محمد قال القاري في شرح الموطأة وافقه أي محمداً أبو يوسف واختاره الطحاوي وفي الينابيع: عليه الفتوى، وهو قول مالك والشافعي انتهى كلام القاري.
وقال النووي في شرح مسلم تحت حديث الباب: هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها، وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة، وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف، إلا أن أبا حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان، وزفر أوجبوا في الخيل إذا كانت إناثاً أو ذكوراً وإناثاً في كل فرس دينار، وإن شاء قومها وأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم، وليس لهم حجة في ذلك، وهذا الحديث صريح في الرد عليهم انتهى.
قلت: والقول الراجح المعول عليه هو ما قال به العلماء كافة، واستدل لأبي حنيفة بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق الليث بن حماد الأصطخري أخبرنا أبو يوسف عن فورك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر مرفوعاً: في الخيل السائمة في كل فرس دينار.(3/269)
ـــــــ
وأجيب عنه بوجهين: أحدهما أن هذا الحديث ضعيف جداً، قال الدارقطني تفرد به فورك وهو ضعيف جداً ومن دونه ضعفاء انتهى. وقال البيهقي: لو كان هذا الحديث صحيحاً عند أبي يوسف لم يخالفه انتهى، وقد استدل له بأحاديث أخرى لا تصلح للاحتجاج، وقد أجاب عنها الطحاوي في شرح الآثار جواباً شافياً. من شاء الاطلاع عليه فليرجع إليه(3/270)
9ـ باب ما جَاءَ فِي زكاةِ العَسَل
625 ـ حدثنا محمدُ بنُ يَحْيَى النّيْسَابُورِيّ حدثنا عَمْرُو بنُ أبي سَلَمَةَ التّنّيسِيّ عن صَدَقَة بنِ عبدِ الله عن مُوسَى بن يَسَارٍ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَر قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "في العَسَلِ في كُلّ عَشْرَةِ أزُقّ، زِقّ".
ـــــــ
وأجيب عنه بوجهين: أحدهما أن هذا الحديث ضعيف جداً، قال الدارقطني تفرد به فورك وهو ضعيف جداً ومن دونه ضعفاء انتهى. وقال البيهقي: لو كان هذا الحديث صحيحاً عند أبي يوسف لم يخالفه انتهى، وقد استدل له بأحاديث أخرى لا تصلح للاحتجاج، وقد أجاب عنها الطحاوي في شرح الآثار جواباً شافياً. من شاء الاطلاع عليه فليرجع إليه
باب ما جَاءَ فِي زكاةِ العَسَل
قوله: "حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري" هو الحافظ الذهلي أحد الأعلام الكبار، له رحلة واسعة ونقد، وروى عنه البخاري ويدلسه1 "12"، وروى عنه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وهو الذي جمع حديث الزهري في مجلدين. قال الذهلي: أنفقت على العلم مائة وخمسين ألفاً. قال الحافظ في التقريب: ثقة حافظ جليل مات سنة ثمان وخمسين ومائتين وله ست وثمانون سنة "أخبرنا عمرو بن أبي سلمة التنيسي" بكسر مثناة فوق وقيل بفتحها وكسر نون مشددة تحت وسين مهملة، قال في التقريب: صدوق له أوهام من كبار العاشرة "عن صدقة ابن عبد الله" السمين الدمشقي ضعيف من السابعة.
قوله: "في كل عشرة أزق" بفتح الهمزة وضم الزاي وتشديد القاف أفعل جمع قلة "زق" بكسر الزاي مفرد الأزق وهو ظرف من جلد يجعل فيه السمن والعسل.
ـــــــ
أي لا يصرح باسمه كما في تهذيب التهذيب1(3/270)
وفي البابِ عن أبي هُرَيرَةَ وأبِي سَيّارَةَ المُتَعِيّ وعبدِ الله بنِ عمْروٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَرَ في إسْنَادِهِ مَقَالٌ. ولا يَصِحُ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا البابِ كَبِيرٌ شَيْءٍ. والعملُ على هذا
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وأبي سيارة المتعي وعبد الله بن عمرو" أما حديث أبي هريرة فأخرجه عبد الرزاق عنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر، وفي إسناده عبد الله بن محرر قال البخاري في تاريخه: عبد الله متروك ولا يصح في زكاة العسل شيء، كذا في فتح الباري. وأما حديث أبي سيارة فأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عنه قال: قلت يا رسول الله أن لي نحلا، قال: فأد العشور الحديث وهو منقطع، قال ابن عبد البر: لا يقوم بهذا حجة. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود والنسائي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي له وادياً فحماه له، فلما ولى عمر كتب إلى عامله إن أدى إليك عشور نحله فاحم له سلبه وإلا فلا. قال الحافظ في الفتح بعد ذكره: إسناده صحيح إلى عمرو، وترجمة عمرو قوية على المختار لكن حيث لا تعارض، وقد ورد ما يدل على أن هلالاً أعطى ذلك تطوعاً، فعند عبد الرزاق عن صالح بن دينار عن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عثمان بن محمد ينهاه أن يأخذ من العسل صدقة، إلا إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذها فجمع عثمان أهل العسل فشهدوا أن هلال بن سعد قدم النبي صلى الله عليه وسلم بعسل فقال "ما هذا؟" قال: صدقة، فأمر برفعها ولم يذكر العشور، لكن الإسناد الأول أقوى، إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحمى. كما يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب انتهى كلام الحافظ.
قوله: "في إسناده مقال" لأنه قد تفرد به صدقة بن عبد الله وهو ضعيف كما تقدم.
قوله: "ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شيء"(3/271)
عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. وبهِ يقُولُ أحمدُ وإسحاقُ. وقالَ بعضُ أهلِ العِلْمِ لَيْسَ في العَسَلِ شَيْءٌ
ـــــــ
وقال البخاري في تاريخه: لا يصح في زكاة العسل شيء.
قوله: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم ليس في العسل شيء"، وقال ابن المنذر ليس في العسل خبر يثبت ولا إجماع فلا زكاة وهو قول الجمهور، وعن أبي حنيفة وأحمد وإسحاق: يجب العشر فيما أخذ من غير أرض الخراج. قال الحافظ في الفتح بعد نقل قول ابن المنذر هذا: وما نقله عن الجمهور مقابله قول الترمذي، ثم ذكر الحافظ قول الترمذي هذا ثم قال: وأشار شيخنا في شرحه إلى أن الذي نقله ابن المنذر أقوى انتهى كلام الحافظ. وقال الشوكاني في النيل: وذهب الشافعي ومالك والثوري وحكاه ابن عبد البر عن الجمهور إلى عدم وجوب الزكاة في العسل قال: واعلم أن حديث أبي سيارة وحديث هلال إن كان غير أبي سيارة لا يدلان على وجوب الزكاة في العسل لأنهما تطوعا بها وحمى لها بدل ما أخذ، وعقل عمر العلة فأمر بمثل ذلك، ولو كان سبيله سبيل الصدقات لم يخبر في ذلك، وبقية الأحاديث لا تنتهض للاحتجاج بها انتهى(3/272)
باب ما جاء لا زكاة على المال المستفادة حتى يحول عليه الحول
...
10 ـ باب ما جَاءَ لا زكَاةَ عَلَى المَالِ المسْتفَادِ حتى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْل
626حدثنا يَحْيَى بنُ موسَى حدثنا هارُونُ بنُ صَالحٍ الطّلْحيّ المدني
ـــــــ
"باب ما جاء لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه الحول"
المراد بالمال المستفاد المال الذي حصل للرجل في أثناء الحول من هبة أو ميراث أو مثله ولا يكون من نتائج المال الأول
قوله: "أخبرنا هارون بن صالح الطلحي" نسبة إلى طلحة جد جده، قال في التقريب صدوق.(3/272)
أخبرنا عبدُ الرحمَنِ بنُ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عن أبيهِ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَن اسْتفَادَ مَالاً فلاَ زكاةَ عَلَيْهِ حَتّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ عند ربّه".
وفي البابِ عن سَرّارَ بِنْتِ نِبْهانَ
627 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ أخبرنا عبدُ الوَهّابِ الثّقَفِيّ حدثنا أيّوبُ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ قال: مَن استْفَادَ مالاً فلا زكاةَ فِيهِ حَتّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ عِنْدَ رَبّهِ.
قال أبو عيسى: وهذا أصَحّ مِنْ حدِيثِ عبدِ الرحمَنِ بنِ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ".
ـــــــ
قوله: "من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول" إعلم أن المال المستفاد على نوعين أحدهما أن يكون من جنس النصاب الذي عنده، كما إذا كانت له إبل فاستفاد إبلا في أثناء الحول، وثانيهما أن يكون من غير جنسه كما إذا استفاد بقراً في صورة نصاب الإبل، وهذا لا ضم فيه اتفاقاً، بل يستأنف للمستفاد حساب آخر، والأول على نوعين: أحدهما أن يكون المستفاد من الأصل كالأرباح والأولاد وهذا يضم إجماعاً، والثاني أن يكون مستفاداً بسبب آخر كالمشتري والموروث، وهذا يضم عند أبي حنيفة ولا يضم عند مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، واستدل الأئمة الثلاثة بحديث ابن عمر المروي في هذا الباب وبآثار الصحابة رضي الله عنهم، فروى البيهقي عن أبي بكر وعلي وعائشة موقوفاً عليهم مثل ما روى عن ابن عمر رضي الله عنه "وفي الباب عن سري" قال الحافظ في التقريب: بفتح أولها وتشديد الراء مع المد وقيل القصر بنت بنهان الغنوية صحابية لها حديث انتهى، ولم أقف على حديثها.
قوله: "وهذا أصح من حديث عبد الرحمَن بن زيد بن أسلم" أي هذا الموقوف صحيح والحديث المرفوع ليس بصحيح. قال الحافظ في البلوغ بعد ذكر حديث ابن عمر المرفوع ما لفظه: والراجح وقفه، وقال في التلخصي بعد ذكر حديث(3/273)
قال أبو عيسى: وَروَى أيّوبُ وعُبَيْد الله بن عمر وغَيْرُ وَاحِدٍ عن نَافعٍ عن ابن عُمَرَ مَوقُوفاً. وعبدُ الرحمَن بنُ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ ضَعِيفٌ في الحَديثِ، ضَعفَهُ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ وعليّ بنُ المَدِينيّ وغيْرُهُما مِنْ أهلِ الحَديثِ، وهو كَثِيرُ الغَلَطِ.
وقد رُوِيَ عن غَيْرِ واحدٍ من أَصْحَابٍ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ لا زكاةَ في المال المُسْتَفَادِ حَتّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ. وبهِ يقولُ مالكُ بنُ أنَسٍ والشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: إذا كانَ عندَهُ مالٌ تَجِبُ فِيهِ الزكاةُ فَفِيهِ الزكاةُ وإن لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ سِوَى المَالِ المُسْتَفَادِ ـ مَال تَجِبُ فيهِ الزكاةُ ـ لَمْ يجِبْ علَيهِ في المَالِ المُسْتَفَادِ زكاةٌ حَتّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ. فإن اسْتَفَادَ مالاً
ـــــــ
ابن عمر رضي الله عنه المرفوع ما لفظه: قال الترمذي: والصحيح عن ابن عمر موقوف، وكذا قال البيهقي وابن الجوزي وغيرهما. وروى الدارقطني في غرائب مالك من طريق إسحاق بن إبراهيم الحنيني عن مالك عن نافع عن ابن عمر نحوه. قال الدارقطني الحنيني ضعيف والصحيح عن مالك موقوف. وروى البيهقي عن أبي بكر وعلي وعائشة موقوفاً عليهم مثل ما روي عن ابن عمر قال: والاعتماد في هذا وفي الذي قبله على الآثار عن أبي بكر وغيره انتهى ما في التلخيص. وحديث ابن عمر المرفوع أخرجه الدارقطني والبيهقي.
قوله: "وقال بعض أهل العلم: إذا كان عنده مال تجب فيه الزكاة ففيه الزكاة" أي إذا كان عنده مال سوى المال المستفاد وكان ذلك المال بقدر النصاب فيجب الزكاة في المال المستفاد ويضم مع ماله الذي كان عنده ويزكي معه إذا كان المال المستفاد من جنس ماله الذي كان عنده، ولا يستأنف للمال المستفاد حساب آخر.(3/274)
َبْلَ أنْ يَحُولَ عَليهِ الحَوْلُ فإِنّهُ يُزَكّي المالَ المُسْتَفَادَ مَعَ مالِهِ الّذِي وَجَبَتْ فيهِ الزكاةُ. وبهِ يقولُ سُفْيانُ الثّوْرِيُ وأهلُ الكُوفَةِ.
ـــــــ
فقوله "تجب فيه الزكاة" صفة لقوله "مال" والضمير في قوله "ففيه الزكاة" راجع إلى المال المستفاد "وبه يقول سفيان الثوري وأهل الكوفة" وهو قول الحنفية. وأجابوا عن حديث الباب بأنه ضعيف، قالوا وعلى تسليم ثبوته فعمومه ليس مراداً للإنفاق على خروج الأرباح والأولاد فعللنا بالمجانسة فقلنا إنما أخرج الأولاد والأرباح للمجانسة لا للتوليد. فيجب أن يخرج المستفاد إذا كان من جنسه وهو أدفع للحرج على أصحاب الحرف الذين يجدون كل يوم درهماً فأكثر وأقل، فإن في اعتبار الحول لكل مستفاد حرجا عظيماً وهو مدفوع بالنص.
قلت: لا شك في أن حديث الباب المرفوع ضعيف والراجح أنه موقوف وهو في حكم المرفوع. قال صاحب سبل السلام: له حكم الرفع لأنه لا مسرح للاجتهاد فيه انتهى. وقد عرفت أن اعتماد الشافعية وغيرهم في هذه المسألة على الآثار لا على الحديث المرفوع(3/275)
11 ـ باب ما جَاء لَيْسَ على المُسْلِمِينَ جِزْيَة
628ـ حدثنا يَحْيَى بن أَكْثَم حدثنا جَريرٌ عن قَابُوسَ بنِ أبِي
ـــــــ
"باب ماجاء ليس على المسلمين جزية"
الجزية ما يؤخذ من أهل الذمة وتسميتها بذلك للاجتراء بها في حقن دمهم. قال العراقي في شرح الترمذي: معناه أنه إذا أسلم في أثناء الحول لا يؤخذ عن ذلك العام شيء، قال: وقد جرت عادة المصنفين بذكر الجزية بعد الجهاد، وقد أدخلها المصنف في الزكاة تبعاً لمالك. قال ابن العربي: أول من أدخل الجزية في أبواب الصدقة مالك في الموطأ، فتبعه قوم من المصنفين وترك اتباعه آخرون. قال ووجه إدخالها فيها التكلم على حقوق الأموال، فالصدقة حق المال على المسلمين، والجزية حق المال على الكفار.(3/275)
ظَبْيَانَ عن أبيهِ عن ابنِ عباسٍ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "لاَ تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ في أرْضٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ على المُسْلِمينَ جِزْيَةٌ".
629 ـ حدثنا أبُو كُرَيْبٍ حدثنا جَريرٌ عن قَابُوسٍ بهذا الإسْنادِ نحوَه.
وفي البابِ عن سعيدِ بنِ زَيْدٍ وجَدّ حَرْبِ بن عُبَيْدِ الله الثّقَفِيّ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا يحيى بن أكثم" بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح المثلثة قال في التقريب: يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن التميمي المروزي أبو محمد القاضي المشهور فقيه صدوق إلا أنه رمى بسرقة الحديث ولم يقع ذلك له، وإنما كان يرى الرواية بالإجازة والوجادة من العاشرة "أخبرنا جرير" هو ابن عبد الحميد "عن قابوس بن أبي ظبيان" بفتح المعجمة وسكون الموحدة بعدها تحتانية، قال الحافظ: فيه لين "عن أبيه" أي أبي ظبيان واسمه حصين بن جندب الكوفي ثقة.
قوله: "لا يصلح قبلتان في أرض واحدة" قال التوربشتي: أي لا يستقيم دينان بأرض واحدة على سبيل المظاهرة والمعادلة، أما المسلم فليس له أن يختار الإقامة بين ظهراني قوم كفار، لأن المسلم إذا صنع ذلك فقد أحل نفسه فيهم محل الذمي فينا، وليس له أن يجر إلى نفسه الصغار، وأما الذي يخالف دينه دين الإسلام فلا يمكن من الإقامة في بلاد الإسلام إلا ببذل الجزية ثم لا يؤذن له في الإشاعة بدينه انتهى. " وليس على المسلمين جزية" أي من أسلم من أهل الذمة قبل أداء ما وجب عليه من الجزية فإنه لا يطالب به لأنه مسلم وليس على مسلم جزية. والحديث رواه أبو داود وزاد في آخره: وسئل سفيان الثوري عن هذا فقال يعني إذا إسلم فلا جزية عليه، وروى الطبراني في معجمه الأوسط عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أسلم فلا جزية عليه
قوله: "وفي الباب عن سعيد بن زيد وجد حرب بن عبيد الله الثقفي"(3/276)
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عباسٍ قد روِيَ عن قَابُوس بنِ أبي ظَبْيَانَ عن أبيهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً.
والعملُ على هذا عِنْدَ عامّةِ أهْلِ العلمِ أَنّ النّصْرانِيّ إذَا أَسْلَمَ وُضعِتْ عَنْهُ جِزْيَةُ رَقَبَتِهِ. وقولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم "لَيْسَ على المُسْلِمِينَ عُشُور" إنّما يَعْني به جِزْيَةَ الرّقَبَةِ. وفي الحَدِيثِ ما يُفَسّرُ هذَا حَيْثُ قال "إنّما العُشُورُ على اليَهُودِ والنّصَارى، ولَيْسَ على المُسْلِمِينَ عُشُورٌ".
ـــــــ
أما حديث سعيد بن زيد فلينظر من أخرجه، وأما حديث جد حرب فأخرجه أبو داود مرفوعاً بلفظ: إنما العشور على اليهود والنصارى وليس على المسلمين عشور.
قوله: "وحديث ابن عباس قد روى إلخ" لم يحكم الترمذي على حديث ابن عباس بشيء من الصحة أو الضعف وقد عرفت أن في سنده قابوس بن ظبيان وفيه لين، والحديث أخرجه أحمد وأبو داود.
قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس على المسلمين جزية عشور يعني به جزية الرقبة" أي المراد من قوله جزية عشور جزية الرقبة لإخراج الأرض، "وفي الحديث ما يفسر هذا حيث قال إنما العشور" بضم العين جمع عشر "على اليهود والنصارى وليس على المسلمين عشور" أخرجه أبو داود. وقد فهم الترمذي أن المراد من العشور في هذا الحديث جزية الرقبة، قال ابن العربي في عارضة الأحوذي: ظن أبو عيسى أن حديث أبي أمية عن أبيه في العشور أنه الجزية وليس كذلك، وإنما أعطوا العهد على أن يقروا في بلادهم ولا يعترضوا في أنفسهم وأما على أن يكونوا في دارنا كهيئة المسلمين في التصرف وفيها والتحكم بالتجارة في مناكبها فلما أن داحت الأرض بالإسلام وهدأت الحال عن الاضطراب وأمكن الضرب فيها للمعاش أخذ منهم عمر ثمن تصرفهم وكان شيئاً يؤخذ منهم في الجاهلية(3/277)
ـــــــ
فأقره الإسلام وخفف الأمر فيما يجلب إلى المدينة نظراً لها إذا لم يكن تقدير حتم ولا من النبي صلى الله عليه وسلم أصل، وإنما كان كما قال ابن شهاب حملا للحال كما كان في الجاهلية. وقد كانت في الجاهلية أمور أقرها الإسلام، فهذه هي العشور التي انفرد بروايتها أبو أمية، فأما الجزية كما قال أبو عيسى فلا، انتهى كلام ابن العربي.
وقال القاري في المرقاة شرح المشكاة في شرح هذا الحديث ما لفظه: قال ابن الملك: أراد به عشر مال التجارة لا عشر الصدقات في غلات أرضهم. قال الخطابي: لا يؤخذ من المسلم شيء من ذلك دون عشر الصدقات، وأما اليهود والنصارى فالذي يلزمهم من العشور هو ماصولحوا عليه وقت العقد، فإن لم يصالحوا على شيء فلا عشور عليهم، ولا يلزمهم شيء أكثر من الجزية، فأما عشور أراضيهم وغلاتهم فلا تؤخذ منهم الشافعية، وقال أبو حنيفة: إن أخذوا منا عشوراً في بلادهم إذا ترددنا إليهم في التجارات أخذنا منهم، وإن لم يأخذوا لم نأخذ انتهى، وتبعه ابن الملك لكن المقرر في المذهب1 في مال التجارة أن العشر يؤخذ من مال الحربي، ونصف العشر من الذمي، وربع العشر من المسلم بشروط ذكرت في كتاب الزكاة. نعم يعامل الكفار بما يعاملون المسلمين، إذا كان بخلاف ذلك، وفي شرح السنة إذا دخل أهل الحرب بلاد الإسلام تجاراً. فإن دخلوا بغير أمان ولا رسالة غنموا، وإن دخلوا بأمان وشرطه أن يؤخذ منهم عشر أو أقل أو أكثر، أخذ المشروط، وإذا طافوا في بلاد الإسلام فلا يؤخذ منهم في السنة إلا مرة انتهى ما في المرقاة
ـــــــ
1 أي المذهب الحنفية(3/278)
باب ما جاء في زكاة الحلى
...
631 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبو دَوادَ عن شُعْبَةَ عن الأَعْمَشِ قالَ: سَمِعْتُ أبَا وَائِلٍ يُحَدّثُ عن عَمْرو بنِ الحارِثِ بنِ أخِي زَيْنبَ امْرَأَةِ عبدِ الله عن زَيْنَبَ امْرَأَةِ عبدِ الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
قال أبو عيسى: وهذَا أصَحّ مِنْ حَدِيِثِ أبي مُعَاوِيَةَ.
وأبو مُعَاوِيَةَ وَهِمَ في حَدِيِثِهِ فَقَالَ: عن عَمْرو بنِ الحارِثِ عن ابنِ أخِي زَيْنَبَ. والصّحِيحُ إنّما هُو عن عَمْرو بنِ الحارِثِ ابنِ أخِي زَيْنَبَ.
ـــــــ
يتوهم أن الحلي من الحوائج الأصلية ولا تجب فيها الزكاة ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم "فإنكن أكثر أهل جهنم"، أي لترك الواجبات.
وأما كون الخطاب للحاضرات خصوصاً فممنوع، بل الخطاب لكل من يصلح للخطاب، نعم فيه تلميح إلى حسن الصدقة في حق غير الغنيات فلا يرد أن كون الأمر للوجوب لا يستقيم، ويؤيده ما في آخر هذا الحديث في البخاري: قالت زينب لعبد الله قد أمرنا بالصدقة فأته فسله فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم الحديث، لأن النوافل من الصدقات، لا كلام في جوازهما لو صرفت إلى الزوج، انتهى كلام أبي الطيب.
قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على وجوب الزكاة في الحلي نظر، فإنه ليس بنص صريح فيه لاحتمال أن يكون معنى قوله ولو من حليكن أي ولو تيسر من حليلكن كما قيل، وهذا لا يدل على وجوب الزكاة في الحلي إذ يجوز أن يكون واجباً على الإنسان في أمواله الآخر ويؤديه من الحلي، وقد ذكر أبو الطيب هذا الاحتمال ولم يجب عن هذا جواباً شافياً فتفكر.
قوله: "وأبو معاوية وهم في حديثه فقال عن عمرو بن الحارث عن ابن أخي زينب، والصحيح إنما هو عن عمرو بن الحارث بن أخي زينب" كما قال شعبة، فوهم أبي معاوية في حديثه، أنه جعل عمرو بن الحارث وابن أخي زينب رجلين(3/280)
وقد رُوِيَ عن عَمْرِو بنِ شعَيْبٍ عن أبيه عن جَدّهِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ رَأَى في الحُلِيّ زكاةً. وفي إسْنَادِ هذا الحديث مَقَالٌ.
واخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ في ذلكَ، فَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ العِلمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم والتابِعِينَ في الحُلِيّ زكاةَ ما كانَ مِنْهُ ذَهَبٌ وفِضّةٌ.
ـــــــ
الأول يروي عن الثاني وليس الأمر كذلك، بل ابن أخي زينب صفة لعمرو ابن الحارث، والحاصل أن زيادة لفظ "عن" بين عمرو بن الحارث وابن أخي زينب وهم الصحيح حذفه كما في رواية شعبة، قال الحافظ في الفتح: وقد حكى ابن القطان الخلاف فيه على أبي معاوية وشعبة، وخالف الترمذي في ترجيح رواية شعبة في قوله عن عمرو بن الحارث عن ابن أخي زينب لانفراد أبي معاوية بذلك. قال ابن القطان: لا يضره الانفراد لأنه حافظ وقد وافقه حفص بن غياث في رواية عنه، وقد زاد في الإسناد رجلاً لكن يلزم من ذلك أن يتوقف في صحة الإسناد، لأن ابن أخي زينب حينئذ لا يعرف حاله، وقد حكى الترمذي في العلل المفردات أنه سأل البخاري عنه فحكم على رواية أبي معاوية بالوهم، وأن الصواب رواية الجماعة عن الأعمش عن شقيق عن عمرو بن الحارث بن أخي زينب انتهى ما في الفتح.
قوله: "وقد روي عن عمرو بن شعيب إلخ" أخرجه الترمذي في هذا الباب وبين ما فيه من المقال.
قوله: "فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين في الحلي زكاة ما كان منه ذهب وفضة" يعني أن اختلاف أهل العلم إنما هو في حلي الذهب والفضة، وأما في حلى غير الذهب والفضة كاللؤلؤ فليس فيه اختلاف إذا لم يكن للتجارة. وأخرج ابن عدي في الكامل عن عمر بن أبي عمر الكلاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً لا زكاة في حجر، وضعف بعمر(3/281)
وبهِ يقولُ سُفْيَان الثوْرِيّ وعبدُ الله بن المَبارَكِ. وقالَ بعضُ أصحابِ
ـــــــ
الكلاعي وقال إنه مجهول لا أعلم حديث عنه غير بقية وأحاديثه منكرة وغير محفوظة انتهى، وأخرجه أيضاً عن محمد بن عبيد الله الغردمي عن عمرو بن شعيب به وضعف الغردمي عن البخاري والنسائي والفلاس ووافقهم عليه في ذلك، وأخرج بن أبي شيبة في مصنفه عن عكرمة قال: ليس في حجر اللؤلؤ ولا حجر الزمرد زكاة إلا أن يكون للتجارة، فإن كانت للتجارة فيه الزكاة، كذا في نصب الراية "وبه يقول سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك" وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد ومجاهد والزهري وطاؤس وميمون بن مهران والضحاك وعلقمة والأسود وعمر بن عبد العزيز وذر الهمداني والأوزاعي وابن شبرمة والحسن بن حي، وقال ابن المنذر وابن حزم: الزكاة واجبة بظاهر الكتاب والسنة، كذا في عمدة القاري شرح البخاري للعلامة العيني. وفي نصب الراية: أخرج ابن أبي شيبة عن عطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وطاؤس وعبد الله بن شداد أنهم قالوا في الحلي الزكاة زاد ابن الشداد: حتى في الخاتم، وأخرج عن عطاء أيضاً وإبراهيم النخعي قالوا: السنة أن في الحلي الذهب والفضة الزكاة انتهى، وفيه أيضاً روى ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا وكيع عن مساور الوراق عن شعيب بن يسار قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يزكين حليهن. قال البخاري في تاريخه هو مرسل انتهى. وقال الحافظ في الدراية: أخرج ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف أن عمر كتب إلخ، وروي عبد الرزاق رواه الطبراني في معجمه، ذكره الحافظ الزيلعي وابن حجر في تخريجهما وسكتا عنه. وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب إلى خازنه سالم أن يخرج زكاة حلى نسائه كل سنة، ورواه ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن جرير بن حازم(3/282)
ـــــــ
عن ابن عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو أنه كان يأمر نسائه أن يزكين حليهن انتهى.
قال في سبل السلام: وفي المسألة أربعة أقوال: الأولى وجوب الزكاة، وهو مذهب الهدوية وجماعة من السلف وأحد أقوال الشافعي عملا بهذه الأحاديث. والثاني لا تجب الزكاة في الحلية. وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في أحد أقواله لاَثار وردت عن السلف قاضية بعدم وجوبها في الحلية، ولكن بعد صحة الحديث لا أثر للاَثار، والثالث أن زكاة الحلية عاريتها، كما روى الدارقطني عن أنس وأسماء بنت أبي بكر، الرابع أنها تجب فيها الزكاة مرة واحدة رواه البيهقي عن أنس، وأظهر الأقوال دليلاً وجوبها لصحة الحديث وقوته انتهى.
قلت: القول بوجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة هو الظاهر الراجح عندي يدل عليه أحاديث، فمنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الذي روى أبو داود في سننه من طريق حسين بن ذكوان المعلم عنه وهو حديث صحيح كما ستعرف.
ومنها حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب فقالت يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: "إذا أديت زكاته فليس بكنز" ، أخرجه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم. كذا في بلوغ المرام. وقال الحافظ في الدراية: قواه ابن دقيق العيد.
ومنها حديث عائشة رواه أبو داود عن عبد الله بن شداد أنه قال: دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق، " فقال ما هذا يا عائشة؟" فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، "قال أتؤدين زكاتهن؟" قلت: لا، أو ما شاء الله، "قال هو حسبك من النار". وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الحافظ في الدارية: قال ابن دقيق العيد: هو على شرط مسلم.
ومنها حديث أسماء بنت يزيد أخرجه أحمد في مسنده حدثنا علي بن عاصم عن عبد الله بن عثمان ابن خيثم عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: دخلت(3/283)
أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أسورة من ذهب فقال لنا: "أتعطيان زكاتها؟" فقلنا لا، قال: أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار؟ أديا زكاتها؟ ذكر الحافظ في التلخيص وسكت عنه وقال في الدراية: في إسناده مقال. وقال العيني في عمدة القاري: فإن قلت. قال ابن الجوزي وعلي بن عاصم وعبد الله بن خيثم قال ابن معين أحاديثه ليست بالقوية، وشهر بن حوشب قال ابن عدي لا يحتج بحديثه، قلت: ذكر في الكمال: وسئل أحمد عن علي بن عاصم فقال هو والله عندي ثقة، وأنا أحدث عنه، وعبد الله بن خيثم قال بن معين هو ثقة حجة، وشهر بن حوشب قال أحمد ما أحسن حديثه ووثقه، وعن يحيى هو ثقة، وقال أبو زرعة: هو لا بأس به. فظهر من هذا كله سقوط كلام ابن الجوزي وصحة الحديث انتهى كلام العيني.
قلت: علي بن عاصم متكلم فيه، قال البخاري. ليس بالقوي عندهم يتكلمون فيه انتهى كذا في الميزان. وشهر بن حوشب صدوق كثير الإرسال والأوهام كما في التقريب، ففي صحة حديث أسماء بنت يزيد نظر، لكن لا شك في أنه يصلح للاستشهاد.
ومنها حديث فاطمة بنت قيس قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطرق فيه سبعون مثقالاً من ذهب، فقلت يا رسول الله خذ منه الفريضة فأخذ منه مثقالاً وثلاثة أرباع مثقال . أخرجه الدارقطني وفي إسناده أبو بكر الهزلي وهو ضعيف، ونصر بن مزاحم وهو أضعف منه، وتابعه عباد بن كثير أخرجه أبو نعيم في ترجمة شيبان بن زكريا من تاريخه كذا في الدراية.
ومنها حديث عبد الله بن مسعود قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لامرأتي حلياً من ذهب عشرين مثقالاً قال فأد زكاته نصف مثقال وإسناده ضعيف جداً أخرجه الدارقطني كذا في الدراية.(3/284)
النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم ابنُ عُمَرَ وعائِشَةُ وجابرُ بنُ عبدِ الله وأنسُ بنُ مالكٍ: لَيْسَ في الحُلِيّ زكاةٌ. وهكذَا رُوِيَ عن بعضِ فُقَهَاء التّابِعِينَ. وبه يقولُ مالكُ بنُ أَنَسٍ والشافعيّ وأَحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
قوله: "وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن عمر وعائشة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك: ليس في الحلي زكاة" قال الحافظ في الدراية: قال الأثرم: قال أحمد: خمسة من الصحابة كانوا لا يرون في الحلي زكاة: ابن عمر وعائشة وأنس وجابر وأسماء انتهى. فأما ابن عمر فهو عند مالك عن نافع عنه، وأما عائشة فعنده أيضاً وهما صحيحان، وأما أنس فأخرجه الدارقطني من طريق علي بن سليمان: سألت أنساً عن الحلي فقال: ليس فيه زكاة، وأما جابر فرواه الشافعي عن سفيان عن عمر بن شعيب. سمعت رجلاً سأل جابراً عن الحلي أفيه زكاة قال: لا، قال البيهقي في المعرفة: فأما ما يروي عن جابر مرفوعاً. ليس في الحلي زكاة فباطل لا أصل له، وإنما يروى عن جابر من قوله، وأما أسماء فروى الدارقطني من طريق هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تحلي بناتها الذهب ولا تزكي نحواً من خمسين ألفاً انتهى ما في الدراية. "وهكذا روى عن بعض فقهاء التابعين" كالقاسم بن محمد والشعبي فقالا: لا تجب الزكاة في الحلي "وبه يقول مالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحاق" قال العيني: كان الشافعي بهذا في العراق وتوقف بمصر، وقال هذا مما استخير الله فيه، وقال الليث: ما كان من حلي يلبس ويعار فلا زكاة فيه وإن اتخذ للتحرز عن الزكاة ففيه الزكاة. وقال أنس: يزكي عاماً واحداً لا غير انتهى كلام العيني.
واحتج لمن قال بعدم وجوب الزكاة في الحلي بحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الحلي زكاة، رواه ابن الجوزي في التحقيق بسنده عن عافية بن أيوب عن ليث بن سعد عن أبي الزبير عنه".
وأجيب عنه بأنه حديث باطل لا أصل له. قال البيهقي في المعرفة: وما يروى عن عافية بن أيوب عن الليث عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً: ليس في الحلى(3/285)
632 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا ابنُ لَهِيعَةَ عن عَمْروِ بنِ شُعَيْبٍ عن أَبيهِ عن جَدّهِ أنّ امْرَأَتَيْنِ أَتَتَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي أَيْدِيهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فقالَ لَهُمَا: أَتُؤَدّيَانِ زَكَاتَهُ؟ قَالَتَا: لا، فقالَ
ـــــــ
زكاة، فباطل لا أصل له، إنما يروى عن جابر من قوله. وعافية بن أيوب مجهول، فمن احتج به مرفوعاً كان مغروراً بدينه داخلاً فيما يعيب المخالفين من الاحتجاج برواية الكذابين انتهى. وقال الشيخ في الإمام: رأيت بخطة شيخنا المنذري رحمه الله وعافية بن أيوب لم يبلغني فيه ما يوجب تضعيفه، قال الشيخ: ويحتاج من يحتج به إلى ذكر ما يوجب تعديله انتهى.
واحتج لهم أيضاً بآثار ابن عمر وعائشة وأنس وجابر: وللقائلين بعدم وجوب الزكاة في الحلى أعذار عديدة كلها باردة. فمنها أن أحاديث الزكاة في الحلى محمولة على أنها كانت في ابتداء الإسلام حين كان التحلي بالذهب حراماً على النساء فلما أبيح لهن سقطت الزكاة، وهذا العذر باطل، قال البيهقي كيف يصح هذا القول من حديث أم سملة رضي الله عنها وحديث فاطمة بنت قيس وحديث أسماء وفيها التصريح بلبسه مع الأمر بالزكاة انتهى.
ومنها أن الزكاة المذكورة في هذه الأحاديث إنما كانت للزيادة على قدر الحاجة، وهذا إدعاء محض لا دليل عليه، بل في بعض الروايات مايرده، قال الحافظ الزيلعي وبسند الترمذي رواه أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم وألفاظهم قال لهما: فأديا زكاة هذا الذي في أيديكما، وهذا اللفظ يرفع تأويل من يحمله على أن الزكاة المذكورة فيه شرعت الزيادة فيه على قدر الحاجة انتهى.
ومنها أن المراد بالزكاة في هذه الأحاديث التطوع إلى الفريضة، أو المراد بالزكاة الإعارة، قال القاري في المرقاة: وهما في غاية البعد إذ لا وعيد في ترك التطوع والإعارة مع أنه لا يصح إطلاق الزكاة على العارية لا حقيقة ولا مجازاً انتهى.
قوله: "وفي أيديهما سواران" تثنية سوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار(3/286)
لَهُمَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَتُحِبّانِ أنْ يُسَوّرَكُمَا الله بِسِوارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ قَالَتَا: لا، قال: فَأَدّيَا زكاَتَهُ".
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ قد رَوَاهُ المُثَنّى بنُ الصّبّاحِ عن عَمْروِ بن شُعَيْبٍ نَحْوَ هذَا. والمُثَنّى بنُ الصّبّاحِ وابنُ لَهِيعَةَ يُضَعّفَانِ في الحديثِ ولا يَصِح في هذَا الباب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ.
ـــــــ
بالضم وجمعه أسورة وأساور وأساورة كذا في القاموس، قلت يقال له في الفارسية دست برنجن وفي الهندية كنكن " أتؤديان زكاته" أي الذهب أو ما ذكر من السوارين، قال الطيبي الضمير فيه بمعنى اسم الإشارة كما في قوله تعالى. {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} "فأديا زكاته" فيه دليل وجوب الزكاة في الحلى وهو الحق.
قوله. "ولا يصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء" قال ابن الملقن: بل رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح ذكره ميرك كذا في المرقاة، وقال الزيلعي في نصب الراية: قال المنذري: لعل الترمذي قصد الطريقين الذين ذكرهما، فطريق أبي داود لا مقال فيها انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في الدراية بعد نقل كلام الترمذي هذا ما لفظه: كذا قال وغفل عن طريق خالد بن الحارث انتهى. قلت: روى أبو داود في سننه حدثنا أبو كامل وحميد بن مسعدة المعنى أن خالد بن الحارث حدثهم أخبرنا حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال "لها أتعطين زكاة هذا؟" قالت: لا، قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟" قال فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله ورسوله. وإلى هذا الحديث أشار ابن الملقن والمنذري والحافظ بن حجر. وقال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر حديث أبي داود هذا ما لفظه: قال ابن القطان في كتابه إسناده صحيح، وقال المنذري في مختصر إسناده لا مقال فيه(3/287)
ـــــــ
فإن أبا داود رواه عن أبي كامل الجحدري وحميد بن مسعدة وهما من الثقات احتج بهما مسلم، وخالد بن الحارث إمام فقيه احتج به البخاري ومسلم وكذلك حصين بن ذكوان المعلم احتجا به في الصحيح. ووثقه ابن المديني وابن معين وأبو حاتم وعمرو بن شعيب فهو ممن قد علم، وهذا إسناد يقوم به الحجة إن شاء الله تعالى انتهى.
قلت: فظهر أن قول الترمذي لا يصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء غير صحيح والله تعالى أعلم(3/288)
باب ما جاء في زكاة الخضروات
...
13ـ باب ما جاءَ في زكاةِ الخَضْرَاوَات
633ـ حدثنا عليّ بنُ خَشْرَمٍ، أخبرنا عيسى بنُ يُونُسَ عن الحَسَنِ بن عمارة عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمَنِ بنِ عُبَيْدٍ عن عيسى بنِ طَلْحَةَ عن مُعَاذٍ " أنهُ كَتَبَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يَسأَلُهُ عن الخَضْراوَاتِ وهيَ البُقُولُ، فقالَ: لَيْسَ فيها شَيْءٌ".
ـــــــ
"باب ما جاء في زكاة الخضراوات"
بفتح الخاء المعجمة جمع خضراء والمراد بها الرياحين والورود والبقول والخيار والقثاء والبطيخ والباذنجان وأشباه ذلك.
قوله: "عن محمد بن عبد الرحمَن بن عبيد" القرشي مولى آل طلحة كوفي ثقة من السادسة "عن عيسى بن طلحة" بن عبيد الله التيمي المدني ثقة فاضل من كبار الثالثة "وهي البقول" هذا تفسير من بعض الرواة "فقال ليس فيها شيء" لأنها لا تقتات، والزكاة لا تختص بالقوت، وحكمته أن القوت ما يقوم به من بدن الإنسان، لأن الاقتيات من الضروريات التي لا حياة بدونها، فوجب فيها حق لأرباب الضرورات قاله القاري. والحديث يدل على عدم وجوب الزكاة في الخضراوات، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي وقالا: إنما تجب فيما يكال ويدخس للاقتيات. وعن(3/288)
ـــــــ
أحمد أنها تخرج مما يكال ويدخر ولو كان لا يقتات، وبه قال أبو يوسف ومحمد. وأوجبها في الخضراوات الهادي والقاسم إلا الحشيش والحطب لحديث: الناس شركاء في ثلاث، ووافقهما أبي حنيفة إلا أنه استثنى السعف والتبن.
واستدلوا على وجوب الزكاة في الخضراوات بعموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} وقوله {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وبعموم حديث: فيما سقت السماء معشر ونحوه، قالوا: وحديث الباب ضعيف لا يصلح لتخصيص هذه العمومات.
وأجيب بأن طرقه يقوي بعضها بعضاً فينتهي لتخصيص هذه العمومات، ويقوي ذلك ما أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني من حديث أبي موسى ومعاذ حين بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فقال: لا تأخذ الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر، قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل، وما أخرجه الطبراني عن عمر قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة فذكرها، وهو من رواية موسى بن طلحة عن عمر، قال أبو زرعة: موسى عن عمر مرسل، وما أخرجه ابن ماجه والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، زاد ابن ماجه: والذرة، وفي إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي وهو متروك، وما أخرجه البيهقي من طريق مجاهد قال: لم تكن الصدقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في خمسة فذكرها، وأخرج أيضاً من طريق الحسن فقال: لم يفرض الصدقة النبي صلى الله عليه وسلم إلا في عشرة، فذكر الخمسة المذكورة والإبل والبقر والغنم والذهب والفضة، وحكى أيضاً عن الشعبي أنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، قال البيهقي: هذه المراسيل طرقها مختلفة وهي يؤكد بعضها بعضاً انتهى. فلا أقل من انتهاض هذه الأحاديث لتخصيص تلك العمومات التي قد دخلها التخصيص بالأوساق والبقر والعوامل وغيرها، فيكون الحق ما ذهب إليه الحسن البصري والحسن بن صالح والثوري والشعبي من أن الزكاة(3/289)
قال أبو عيسى: إسْنَادُ هذا الحَدِيثِ لَيْسَ بصَحِيحٍ. ولَيْسَ يَصِحّ في هذا البَابِ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ. وإنّمَا يُرْوَى هذا عن موسى بنِ طَلْحةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً. والعملُ على هذا عِنْدَ أهلِ العِلم أنهُ لَيْسَ في الخضْروَاتِ صَدَقَةٌ.
ـــــــ
لا تجب إلا في البر والشعير والتمر والزبيب، لا فيما عدا هذه الأربعة مما أخرجت الأرض. وأما زيادة الذرة في حديث عمرو بن شعيب فقد عرفت أن في إسنادها متروكاً ولكنها معتضدة بمرسل مجاهد والحسن انتهى كلام الشوكاني.
قلت: في إسناد حديث أبي موسى ومعاذ وطلحة بن يحيى وهو مختلف فيه قاله الحافظ بن حجر في الدراية ص 164: ورواه الحاكم في المستدرك مرفوعاً باللفظ المذكور، ورواه البيهقي بلفظ أنهما حين بعثا إلى اليمن لم يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة، قال الشيخ في الإمام: وهذا غير صريح في الرفع كذا في نصب الراية. وأما ما أخرجه الحاكم من طريق مجاهد ففي سنده خصيف، قال الحافظ في التقريب: الخصيف بن عبد الرحمَن الجزري صدوق سيء الحفظ خلط بآخره. وأما ما أخرج من طريق الحسن ففي سنده عمرو بن عبيد وهو متكلم فيه على ما قال الزيلعي في نصب الراية.
قوله: "وليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء" وفي الباب عن علي وعائشة ومحمد بن جحش وأنس وطلحة لكنها كلها ضعيفة وقد ذكرها مع بيان ضعفها الحافظ الزيلعي في نصب الراية وقال بعد ذكرها: قال البيهقي: وهذه الأحاديث يشهد بعضها بعضاً ومعها قول بعض الصحابة، ثم أخرج عن الليث عن مجاهد عن عمر قال: ليس في الخضراوات صدقة. قال الشيخ في الإمام: ليث بن أبي سليم قد علل البيهقي به روايات كثيرة، ومجاهد عن عمر منقطع، وأخرج عن قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله تعالى عنه قال: ليس في الخضراوات والبقول صدقة، قال الشيخ: وقيس بن الربيع متكلم فيه انتهى.
قوله: "وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم(3/290)
ال أبو عيسى: والحَسَنُ هو ابنُ عُمَارَةَ وهو ضَعِيفٌ عندَ أهلِ الحَديِثِ، ضَعّفَهُ شُعْبَةُ وغَيْرُهُ وتَرَكَهُ عبدُ الله بنُ المَبارَكِ.
ـــــــ
مرسلاً"، رواه الدارقطني في سننه "والحسن هو ابن عمارة الخ" قال الحافظ في التقريب: الحسن بن عمارة البجلي مولاهم أبو محمد الكوفي قاضي بغداد متروك من السابعة(3/291)
باب ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالنهار وغيرها
...
14 ـ باب ما جَاءَ في الصّدَقَةِ فيما يُسْقَى بالأنْهَارِ وغَيْرِها
634 ـ حدثنا أبو موسى الأنْصَارِيّ، حدثنا عَاصِمُ بنُ عبدِ العَزِيزِ المَدَنِيّ حدثنا الحَارِثُ بنُ عبدِ الرحمَنِ بنِ أبي ذُبَابٍ عن سُلَيْمانَ بنِ يَسَارٍ و بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "فِيمَا سَقَتِ السّمَاءُ والعُيُونُ العُشْرُ، وفِيمَا سُقِيَ بالنّضْح نِصْفُ العُشْرِ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الصّدَقَةِ فيما يُسْقَى بالأنْهَارِ وغَيْرِها
قوله: "مديني" خبر مبتدأ محذوف أي هو مديني "أخبرنا الحارث بن عبد الرحمَن بن أبي ذباب" بضم المعجمة وبموحدتين صدوق يهم من الخامسة "وبسر بن سعيد" بضم أوله ثم مهملة ساكنة ثقة جليل من الثانية.
قوله: "فيما سقت من السماء" أي المطر من باب ذكر المحل وإرادة الحال، وليس المراد خصوص المطر بل السيل والأنهار كذلك "والعيون" أي الجارية على وجه الأرض التي لا يتكلف في رفع مائها لاَلة ولا لحمل "العشر" مبتدأ وخبره فيما سقت السماء، أي العشر واجب فيما سقت السماء "وفيما سقي بالنضح" بفتح النون وسكون المعجمة بعدها مهملة أي بالسانية وهي رواية مسلم، والمراد بها الإبل التي يستقى عليها، وذكر الإبل كالمثال وإلا فالبقر وغيرها كذلك في الحكم، كذا في الفتح، والنضح في الأصل مصدر بمعنى السقي، قال الجزري في النهاية: النواضح هي الإبل التي يستقى عليها والواحد الناضح انتهى.(3/291)
قال وفي البابِ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ وابنِ عُمَرَ وجَابِرٍ.
قال أبو عيسى: وقد رُوِيَ هذا الحَديِثُ عن بُكَيْرِ بنِ عبدِ الله بنِ الأشَجّ وعن سُلَيْمانَ بنِ يَسَارٍ و وبُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلا. وكأَنّ هذا أَصَحّ. وقد صَحّ حديثُ ابنِ عُمَر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا البابِ وعليهِ العملُ عندَ عَامّةِ الفُقَهَاءِ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أنس بن مالك وابن عمر وجابر" أما حديث أنس فأخرجه ابن النجار عن أبان عن أنس، وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري وأصحاب السنن، وأما حديث جابر فأخرجه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود.
قوله: "وعليه العمل عند عامة الفقهاء" قال النووي في شرح مسلم في شرح حديث جابر: فيما سقت الأنهار والغيم العشور وفيما سقي بالسانية نصف العشر ما لفظه: في هذا الحديث وجوب العشر فيما سقي بماء السماء والأنهار ونحوها مما ليس فيه مؤنة كثيرة، ونصف العشر فيما سقي بماء السماء والأنهار ونحوها مما ليس فيه مؤنة كثيرة، ونصف العشر فيما سقي بالنواضح وغيرها مما فيه مؤنة كثيرة، وهذا متفق عليه، ولكن اختلف العلماء في أنه هل يجب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض من الثمار والزروع والرياحين وغيرها إلا الحشيش والحطب ونحوها أم يختص؟ فعمم أبو حنيفة وخصص الجمهور على اختلاف لهم فيما يختص به انتهى.
قلت: قد تقدم الكلام في هذا في الباب السابق. وقال الحافظ في الفتح: دل الحديث على التفرقة في القدر المخرج الذي يسقى بنضح أو بغير نضح. فإن وجد ما يسقي بهما فظاهره أنه يجب فيه ثلاثة أرباع العشر إذا تساوى ذلك، وهو قول أهل العلم، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً، وإن كان أحدهما أكثر كان حكم الأقل تبعاً للأكثر، نص عليه أحمد. وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، والثاني يؤخذ بالقسط، ويحتمل أن يقال إن أمكن فصل كل واحد منهما أخذ بحسابه. وعن ابن القاسم صاحب مالك: العبرة بما تم به الزرع وانتهى ولو كان أقل انتهى.(3/292)
635ـ حدثنا أَحمدُ بنُ الحَسَنِ حدثنا سعِيدُ بنُ أَبي مَرْيَمَ حدثنا ابنُ وَهْبٍ حدثني يُونُسُ عن ابنِ شِهَابٍ عن سَالِمٍ عن أَبيِه عَنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم "أَنّهُ سَنّ فِيمَا سَقَتِ السّمَاءُ والعُيُونُ أو كانَ عَثَرِيّاً العشرَ، وفِيمَا سُقِيَ بالنّضْجِ نِصْف العُشْرِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "عن أبيه" أي عبد الله بن عمر رضي الله عنه "أنه سن" أي شرع وقرر "أو كان عثرياً" بفتح المهملة والمثلثة وكسر الراء وتشديد التحتانية، قال في النهاية: هو من النخل الذي يشرب بعروقه من ماء المطر يجتمع في حفيرة، وقيل هو العذق الذي لا يسقيه إلا ماء المطر، قال القاضي: والأول ههنا أولى لئلا يلزم التكرار وعطف الشيء على نفسه، وقيل: ما يزرع في الأرض تكون رطبة أبداً لقربها من الماء، كذا في المرقاة "العشور" قال النووي: ضبطناه بضم العين جمع عشرة، وقال القاضي عياض: ضبطناه من عامة شيوخنا بفتح العين، وقال هو اسم للمخرج من ذلك، وقال صاحب المطالع: أكثر الشيوخ يقولونه بالضم وصوابه الفتح، قال النووي: وهذا الذي ادعاه من الصواب ليس بصحيح وقد اعترف بأن أكثر الرواة رووه بالضم وهو الصواب جمع عشر، وقد اتفقوا على قولهم: عشور أهل الذمة بالضم ولا فرق بين اللفظين انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وغيره.
تنبيه: مذهب جمهور أهل العلم والأئمة الأربعة: وجوب العشر في جميع الحبوب من الحنطة والشعير والعدس والحمص والأرز ونحو ذلك. قال الإمام مالك في موطأه: والحبوب التي فيها الزكاة: الحنطة والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والعدس والجلبان واللوبيا والجلجلان وما أشبه ذلك من الحبوب التي تصير طعاماً فالزكاة تؤخذ منها كلها بعد أن تحصد وتصير حباً انتهى. وتمسكوا بعموم أحاديث الباب وبعموم الآيات التي تدل على وجوب العشر. وذهب الحسن البصري والحسن بن صالح والثوري والشعبي وابن سيرين، إلى أنه لا يجب الزكاة إلا في الشعير والحنطة والزبيب والتمر، فوجوب العشر عند هؤلاء منحصر في هذه الأربعة، واحتجوا(3/293)
ـــــــ
بما روى الطبراني والحاكم والدارقطني عن أبي موسى الأشعري ومعاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما: "لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر". قال صاحب سبل السلام: قال البيهقي رواته ثقات وهو متصل، وروى الطبراني من حديث موسى بن طلحة عن عمر: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة فذكرها، قال أبو زرعة إنه مرسل، ورجح هذا المذهب حيث قال: فالأوضح دليلاً مع الحاصرين للوجوب في هذه الأربعة انتهى. وكذا رجح الشوكاني في النيل هذا المذهب حيث قال: فالحق أن الزكاة لا تجب إلا في البر والشعير والتمر والزبيب لا فيما عدا الأربعة مما أخرجت الأرض. قال: وأما زيادة الذرة في حديث عمرو بن شعيب فقد عرفت أن في إسنادها متروكاً لكنها معتضدة بمرسل مجاهد والحسن انتهى.
قلت: في سند حديث أبي موسى ومعاذ المذكور طلحة بن يحيى وهو مختلف فيه، قال الحافظ في الدراية: وروى الحاكم من طريق أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ حين بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن: لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة فذكرها، ورواه البيهقي عنهما موقوفاً، وفي الإسناد طلحة بن يحيى مختلف فيه، وهو أمثل مما في الباب انتهى كلام الحافظ.
ثم الحصر فيه ليس حصراً حقيقياً وإلا يلزم أن لا تجب الزكاة في صنف غير هذه الأصناف الأربعة، واللازم باطل فالملزوم مثله، بل الحصر فيه إضافي. قال القاري في المرقاة في شرح هذا الحديث: والحصر فيه إضافي انتهى. والدليل على كون هذا الحصر إضافياً ما رواه الحاكم في المستدرك عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر"، "وفيما سقي بالنضح نصف العشر، وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب"، وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فالحق عندي ما ذهب إليه الجمهور والله تعالى أعلم.
تنبيه آخر: قال الحنفية: إن العشر والخراج لا يجتمعان على مسلم ويستدلون بحديث: لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم.
قلت: لم يقم دليل صحيح على قولهم هذا، وأما هذا الحديث الذي يستدلون(3/294)
به فباطل لا أصل له، قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: الحديث الثالث قال عليه السلام: "لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم"، قلت رواه ابن عدي في الكامل عن يحيى بن عنبسة حدثنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع على مسلم خراج وعشر" ا نتهى. قال ابن عدي: يحيى بن عنبسة منكر الحديث وإنما يروي هذا من قول إبراهيم، وقد رواه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قوله: فجاء يحيى بن عنبسة فأبطل فيه ووصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويحيى بن عنبسة مكشوف الأمر في ضعفه لروايته عن الثقات الموضوعات انتهى. قال ابن حبان: ليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث لا يحل الرواية عنه انتهى: وقال الدارقطني: يحيى هذا دجال يضع الحديث وهو كذب على أبي حنيفة ومن بعده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وقال البيهقي: هو حديث باطل ويحيى هذا متهم بالوضع انتهى ما في نصب الراية.
قلت: وأحاديث الباب بعمومها تدل على الجمع بين الخراج والعشر. قال الزيلعي في نصب الراية: استدل ابن الجوزي في التحقيق للشافعي في الجمع بين العشر والخراج بعموم الحديث عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن في ما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشور، وفيما سقي بالنضح نصف العشر تفرد به البخاري، وهذا عام في الخراجية وغيرها انتهى. وقال الزيلعي في ذلك الكتاب استدل الشيخ تقي الدين في الإمام للشافعي بما أخرجه البيهقي عن يحيى بن آدم حدثنا سفيان بن سعيد عن عمرو بن ميمون بن مهران قال: سألت عمر بن عبد العزيز عن المسلم يكون في يده أرض الخراج، فيسأل الزكاة فيقول إنما على الخراج، فقال: الخراج على الأرض والعشر على الحب انتهى. قلت: إسناده صحيح. قال الحافظ في الدراية: وقد صح عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لمن قال إنما على الخراج: الخراج على الأرض والعشر على الحب. أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن آدم في الخراج له، وفيها عن الزهري. لم يزل المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده يعاملون على الأرض ويستكرونها ويؤدون الزكاة عما يخرج منها وفي الباب حديث ابن عمر: فيما سقت السماء العشر، متفق عليه ويستدل بعمومه انتهى ما في الدارية.(3/295)
ـــــــ
والحاصل أنه لم يقم دليل صحيح على أن الخراج والعشر لا يجتمعان على مسلم، بل حديث ابن عمر وما في معناه بعمومه يدل على الجمع، وأثر عمر بن عبد العزيز وأثر الزهري يدلان على أن العمل كان على ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده.
تنبيه آخر: قال صاحب الهداية: لم يجمع أحد من أئمة العدل والجور بينهما يعني بين الخراج والعشر، وكفي بإجماعهم حجة انتهى.
قلت: دعوى الإجماع باطلة جداً. قال الحافظ في الدراية راداً على صاحب الهداية: ولا إجماع مع خلاف عمر بن عبد العزيز والزهري بل لم يثبت عن غيرهما التصريح بخلافهما انتهى(3/296)
15ـ باب ما جَاءَ في زكاةِ مَالِ اليَتيم
636 ـ حدثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ حدثنا إبراهيم بنُ مُوسَى حدثنا الولِيدُ بنُ مُسْلِمٍ عن المُثَنّى بنِ الصّبّاحِ عن عَمْروِ بنِ شُعَيْبٍ عن أَبيِه عن جَدّهِ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النّاسَ فقالَ: "أَلاَ مَنْ وَلِيَ يَتِيماً لَهُ مَالٌ فَليَتّجِرْ فيهِ ولاَ يترُكْهُ حَتّى تَأْكُلَهُ الصّدَقَة".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في زكاةِ مَالِ اليَتيم
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري "أخبرنا إبراهيم بن موسى" بن يزيد بن زاذان التميمي أبو إسحاق الرازي الفراء المعروف بالصغير روى عن هشام بن يوسف الصنعائي والوليد بن مسلم وغيرهما وعنه البخاري ومسلم وأبو داود، وروى الباقون عنه بواسطة، ثقة حافظ كذا في تهذيب التهذيب والتقريب.
قوله: "ألا" للتنبيه "من ولي" بفتح الواو وكسر اللام، قال القاري في المرقاة: وفي نسخة أي من المشكاة بضم الواو وتشديد اللام المكسورة أي صار ولي يتيم "له مال" صفة ليتيم أي من صار ولياً ليتيم ذي مال "فليتجر" بتشديد الفوقية أي بالبيع والشراء "فيه" أي في مال اليتيم "ولا يتركه" بالنهي وقيل بالنفي "حتى تأكله الصدقة" أي تنقصه وتفنيه، لأن الأكل سبب الفناء. قال(3/296)
قال أبو عيسى: وإنما رُوِيَ هذا الحديثُ مِن هذا الوجْهِ وفي إسْنَادِهِ مَقَالٌ لأنّ المُثَنّى بنَ الصّبّاحِ يُضَعّفُ في الحَدِيثِ. وَرَوَى بَعْضُهمُ هذا الحَدِيثَ عن عَمْروِ بن شُعَيْبٍ أنّ عُمَرَ بن الخطّابِ فَذَكَرَ هذا الحدِيثَ.
وقد اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ في هذَا البَابِ، فَرَأَى غَيْرُ واحِدٍ مِن أَصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم في مَالِ اليَتِيمِ زَكَاةً مِنْهُمْ عُمَرُ وعَلِيّ وعائِشَةُ وابنُ عُمَرَ. وبهِ يقُولُ مَالِكٌ والشّافِعِيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
ابن الملك: أي يأخذ الزكاة منها فينقص شيئاً فشيئاً، وهذا يدل على وجوب الزكاة في مال الصبي، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك، وعند أبي حنيفة لا زكاة فيه انتهى.
قوله: "وفي إسناده مقال الخ" قال الحافظ في بلوغ المرام: وله شاهد مرسل عند الشافعي انتهى. وقال في التلخيص: ورواه الدارقطني من حديث أبي إسحاق الشيباني أيضاً عن عمرو بن شعيب لكن راويه عنه مندل بن علي وهو ضعيف، ومن حديث العرزمي عن عمرو والعرزمي ضعيف متروك، ورواه ابن عدي من طريق عبد الله بن علي وهو الإفريقي وهو ضعيف، قال الحافظ: وروى الشافعي عن عبد المجيد بن أبي رواد عن ابن جريج عن يوسف بن ماهك مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة، ولكن أكده الشافعي بعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة. وفي الباب عن أنس مرفوعاً: اتجروا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة، رواه الطبراني في الأوسط في ترجمة علي بن سعد انتهى.
قوله: "وروى بعضهم هذا الحديث عن عمرو بن شعيب أن عمر بن الخطاب فذكر هذا الحديث" قال الدارقطني في العلل: رواه حسين المعلم عن مكحول عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن عمر، ورواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمرو بن شعيب عن عمر لم يذكر ابن المسيب وهو أصح وإياه عني الترمذي انتهى كذا في التلخيص.
قوله: "منهم عمر وعلي وعائشة وابن عمر" روى مالك في الموطأ عن عمر(3/297)
وقالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْلِ العِلْمِ: لَيْسَ في مَالِ اليَتِيمِ زكاة، وبهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَوْرِيّ وعبدُ الله بنُ المبارَكِ.
ـــــــ
بن الخطاب قال: اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة، ورواه البيهقي وقال إسناده صحيح قاله الحافظ في التلخيص، وقال فيه وروى الشافعي عن ابن عيينة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موقوفاً أيضاً. قال: وروى الدارقطني والبيهقي وابن عبد البر ذلك من طرق عن علي بن أبي طالب وهو مشهور عنه انتهى، وروى مالك عن عبد الرحمَن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة تليني وأخاً لي يتيمين في جحرها فكانت تخرج من أموالنا الزكاة.
قوله: "وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق" واستدلوا بأحاديث الباب وهي وإن كانت ضعيفة لكنها يؤيدها آثار صحيحة عن الصحابة رضي الله عنهم وبعموم الأحاديث الواردة في إيجاب الزكاة.
قوله: "وقالت طائفة من أهل العلم: ليس في مال اليتيم زكاة وبه يقول سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك" وبه يقول أبو حنيفة، واستدل هؤلاء بحديث عائشة وعلي وغيرهما رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلي حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر. قال ابن الهمام في فتح القدير: وأما ما روى عن عمر وابنه وعائشة رضي الله عنهم من القول بالوجوب في مال الصبي والمجنون لا يستلزم كونه عن سماع إذ يمكن إذ يمكن الرأي فيه فيجوز كونه بناء عليه، فحاصله قول صحابي عن اجتهاد عارضه رأي صحابي آخر. قال محمد ابن الحسن في كتاب الآثار: أنبأنا أبو حنيفة حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن مسعود قال: ليس في مال اليتيم زكاة، وليث كان أحد العلماء العباد وقيل اختلط في آخر عمره، ومعلوم أن أبا حنيفة لم يكن ليذهب فيأخذ عنه حال اختلاطه ويرويه وهو الذي شدد أمر الرواية ما لم يشدده غيره، وروى مثل قول ابن مسعود عن ابن عباس تفرد به ابن لهيعة انتهى.
قلت: لم يثبت عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم بسند صحيح عدم القول بوجوب الزكاة في مال الصبي. وأما أثر ابن مسعود فهو ضعيف من وجهين(3/298)
وعَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ هو ابنُ محمدِ بنِ عبدِ الله بنِ عَمْروِ بنِ العَاصِ. وشعَيْبٌ قد سَمِعَ مِن جَدّهِ عبدِ الله بنِ عَمْرو. وقد تكَلّمَ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ
ـــــــ
الأول أنه منقطع والثاني أن في إسناده ليث بن أبي سليم، قال الحافظ بن حجر في التقريب: صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه، وقال الزيلعي في نصب الراية، قال البيهقي: وهذا أثر ضعيف فإن مجاهداً لم يلق ابن مسعود فهو منقطع وليث بن أبي سليم ضعيف عند أهل الحديث انتهى. وأجاب ابن الهمام عن الوجه الأول ولم يجب عن الوجه الثاني، وفيما أجاب عن الوجه الأول كلام فتفكر. وأما أثر ابن عباس فقد تفرد به ابن لهيعة كما صرح به ابن الهمام وهو ضعيف عند أهل الحديث قاله الترمذي في باب الرخصة في استقبال القبلة بغائط أو بول. وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: يروى حديثه في المتابعات ولا يحتج به انتهى.
وأما حديث عائشة وعلي المذكور ففي الاستدلال به على عدم وجوب الزكاة في مال الصبي نظر، كيف وقد رواه عائشة وعلي رضي الله تعالى عنهما وهما قائلان بوجوب الزكاة في مال الصبي. وقال الزيلعي في نصب الراية: قال ابن الجوزي: والجواب أن المراد قلم الإثم أو قلم الأذى انتهى. وقال القاضي ابن العربي في عارضة الأحوذي: وزعم أبو حنيفة أن الزكاة أوجبت شكر نعمة المال كما أن الصلاة أوجبت شكر نعمة البدن ولم يتعين بعد على الصبي شكر، قلنا محل الصلاة يضعف عن شكر النعمة فيه، ومحل الزكاة وهو المال كامل لشكر النعمة، فإن قيل لا يصح منه القربة، قلنا يؤدي عنه كما يؤدي عن المغمى عليه: وعن الممتنع جبراً. وكما يؤدي عنه العشر والفطرة وهو دين يقضي عنه لمستحقة وإن لم يعمل به لأن الناظر لم حكم به انتهى.
قوله: "وشعيب قد سمع من جده عبد الله بن عمرو" وأما قول ابن حبان: لم يصح سماع شعيب من جده عبد الله فقال الدارقطني هو خطأ. وقد روى عبيد الله بن عمر العمري وهو من الأئمة العدول عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: كنت جالساً عند عبد الله بن عمرو فجاء رجل فاستفتاه في مسألة فقال: يا شعيب امض معه إلى ابن عباس، فقد صح بهذا سماع شعيب من جده عبد الله وقد أثبت سماعه منه أحمد بن حنبل وغيره كذا في نصب الراية ص 378 تخريج(3/299)
في حديثِ عَمْروِ بنِ شُعَيْبٍ وقالَ: هُوَ عِنْدَنَا وَاهٍ. ومَنْ ضَعّفَهُ فإِنّمَا ضَعّفَهُ مِنْ قِبَلِ أَنّهُ يُحدّثُ مِنْ صَحِيفَةِ جَدّهِ عبدِ الله بنِ عَمْروٍ.
وأَمّا أكْثَرُ أهْلِ الحَدِيثِ فَيَحْتَجّونَ بِحَدِيثِ عَمْروِ بن شُعَيْبٍ فيُثْبِتُونَهُ، مِنْهُم أَحمدُ وإسحاقُ وغَيْرُهُمَا.
ـــــــ
الهداية. قلت: وقد أسند ذلك الدارقطني في السنن قال حدثنا أبو بكر بن زياد النيسابوري حدثنا محمد بن يحيى الذهلي وغيره قالوا حدثنا محمد بن عبيد حدثنا عبيد الله بن عمر ورواه الحاكم أيضاً من هذا الوجه ذكره الحافظ في تهذيب التهذيب وقال فيه: وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله في أماكن وصح سماعه كما تقدم، وكما روى حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن شعيب قال: قال سمعت عبد الله بن عمرو فذكر حديثاً أخرجه أبو داود من هذا الوجه إنتهى.
قلت: وقد سمع عمرو من أبيه شعيب، ففي تهذيب التهذيب قال محمد بن علي الجوزجاني قلت لأحمد: عمرو سمع من أبيه شيئاً قال يقول حدثني أبي انتهى "وقد تكلم يحيى بن سعيد" هو القطان "في حديث عمرو بن شعيب وقال هو عندنا واه" أي ضعيف وكذلك تكلم فيه غير واحد من أئمة الحديث ولكن أكثرهم على أنه صحيح قابل للاحتجاج كما صرح به الترمذي "ومن ضعفه فإنما ضعفه من قبل أنه يحدث من صحيفة جده عبد الله بن عمرو" يعني تضعيف من ضعفه ليس إلا من جهة أنه يحدث من صحيفة جده: قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال الساجي: قال ابن معين: هو ثقة في نفسه وما روى عن أبيه عن جده لا حجة فيه وليس بمتصل وهو ضعيف من قبيل أنه مرسل وجد شعيب كتب عبد الله بن عمرو فكان يرويها عن جده إرسالا وهي صحاح عن عبد الله بن عمرو غير أنه لم يسمعها: قال الحافظ: فإذا شهد له ابن معين أن أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة وهو أحد وجوه التحمل والله تعالى أعلم إنتهى.
قوله "وأما أكثر أهل الحديث فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب ويثبتونه منهم أحمد وإسحاق وغيرهما" قال الحافظ بن حجر في فتح الباري ص 51 ج2:(3/300)
ـــــــ
ترجمة عمرو قوية على المختار لكن حيث لا تعارض إنتهى. وفي شرح ألفية العراقي للمصنف: وقد اختلف في الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأصح الأقوال أنها حجة مطلقاً إذا صح السند إليه. قال ابن الصلاح: وهو قول أكثر أهل الحديث حملاً للجد عند الإطلاق على الصحابي عبد الله بن عمرو دون إبنه محمد والد شعيب لما ظهر لهم من إطلاقه ذلك، فقد قال البخاري رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيدة وأبا خيثمة وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ما تركه أحد منهم وثبتوه، فمن الناس بعدهم؟ وقول ابن حبان: هي منقطعة لأن شعيباً لم يلق عبد الله مردود، فقد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو كما صرح به البخاري في التاريخ وأحمد، وكما رواه الدارقطني والبيهقي في السنن بإسناد صحيح إنتهى(3/301)
باب ما جاء أن العجماء جرحها جبار في الركاز الخمس
...
16 ـ باب ما جَاءَ أَنّ العَجْمَاءَ جُرْحُهَا جُبَارٌ وفي الرّكَازِ الخُمُس
637 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا اللّيْثُ بنُ سَعْدٍ عن ابنِ شِهَابٍ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ و أَبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال "العَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ، والمعْدِنُ جُبَارٌ، والبِئْرُ جُبَارٌ، وفي الرّكَازِ الخُمْسُ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ أَنّ العَجْمَاءَ جُرْحُهَا جُبَارٌ وفي الرّكَازِ الخُمُس
قوله "العجماء" أي البهيمة وهي في الأصل تأنيث الأعجم وهو الذي لا يقدر على الكلام سمي بذلك لأنه لا يتكلم "جرحها" بضم الجيم وفتحها والمفهوم من النهاية نقلاً عن الأزهري أنه بالفتح لا غير لأنه مصدر وبالضم الجراحة "جبار" بضم الجيم أي هدر، أي إذا أتلفت البهيمة شيئاً ولم يكن معها قائد ولا سائق وكان نهاراً فلا ضمان، وإن كان معها أحد فهو ضامن لأن الإتلاف حصل بتقصيره، وكذا إذا كان ليلاً لأن المالك قصر في ربطها إذ العادة أن تربط(3/301)
الدواب ليلاً وتسرح نهاراً، كذا ذكره الطيبي وابن الملك "والمعدن" بفتح الميم وكسر الدال مكان يخرج منه شيء من الجواهر والأجساد المعدنية من الذهب والفضة والنحاس وغير ذلك من عدن بالمكان إذا أقام به "والبئر" بهمز ويبدل "جبار" أي إذا استأجر حافراً لحفر البئر أو استخراج المعدن فانهار عليه لا ضمان، وكذا إذا وقع فيه إنسان فهلك إن لم يكن الحفر عدواناً وإن كان ففيه خلاف "وفي الركاز" بكسر الراء " الخمس" إعلم أن مالكاً رحمه الله والشافعي رحمه الله والجمهور حملوا الركاز على كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وقالوا لا خمس في المعدن بل فيه الزكاة إذا بلغ قدر النصاب، وهو المأثور عن عمر بن عبد العزيز وصله أبو عبيد في كتاب الأموال وعلقه البخاري في صحيحه. وأما الحنفية فقالوا الركاز يعم العدن والكنز ففي كل ذلك الخمس، وما ذهب إليه الجمهور من التفرقة بين الركاز والمعدن وهو الظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المعدن جبار وفي الركاز الخمس". عطف الركاز على المعدن وفرق بينهما في الحكم، فعلم منه أن المعدن ليس بركاز عند النبي صلى الله عليه وسلم بل هما شيئان متغايران، ولو كان المعدن ركازاً عنده لقال المعدن جبار وفيه الخمس، ولما لم يقل ذلك ظهر أنه غيره لأن العطف يدل على المغايرة. قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: والحجة للجمهور التفرقة من النبي صلى الله عليه وسلم بين المعدن والركاز بواو العطف فصح أنه غيره انتهى.
ولأن الركاز في لغة أهل الحجاز هو ما ذهب إليه الجمهور، ولا شك في أن النبي الحجازي صلى الله عليه وسلم تكلم بلغة أهل الحجاز وأراد به ما يريدون منه، قال ابن الأثير في النهاية: الركاز عند أهل الحجاز الجاهلية المدفونة في الأرض وعند أهل العراق المعادن، والقولان تحتملهما اللغة لأن كل منهما مركوز في الأرض أي ثابت يقال ركزه يركزه ركزاً إذا دفنه وأركز الرجل إذا وجد الركاز، والحديث إنما جاء في التفسير الأول وهو الكنز الجاهلي، وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه انتهى.
وفي المرقاة لعلي القاري: وأما ما روى عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "في الركاز الخمس"، قيل وما الركاز يا رسول الله؟ قال: "الذهب الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت الأرض". رواه البيهقي وذكره في(3/302)
وفي البابِ عن أنَسِ بنِ مالِكٍ وعبدِ الله بنِ عَمْروٍ وعُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ وعَمْروِ بنِ عَوْفٍ المُزَنيّ وجَابرٍ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
الإمام، فهو وإن سكت عنه في الإمام مضعف بعبد الله بن أبي سعيد المقبري انتهى.
قوله "وفي الباب عن أنس بن مالك وعبد الله بن عمرو وعبادة بن الصامت وعمرو بن عوف المزني وجابر" وفي الباب أيضاً عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وزيد بن أرقم وأبي ثعلبة الخشني وسراء بنت نبهان الغنوية. فحديث أنس عند أحمد والبزار مطولاً وفيه: هذا ركاز وفيه الخمس، وحديث عبد الله بن عمرو عند الشافعي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كنز وجده رجل في خربة جاهلية: "إن وجدته في قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس" . وحديث عبد الله بن الصامت رواه ابن ماجه من رواية إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المعدن جبار وجرحها جبار"، وهذا منقطع لأن إسحاق لم يدرك عبادة، وحديث عمرو بن عوف المزني رواه بن ماجه أيضاً، وحديث جابر رواه أحمد والبزار من رواية مجالد عن الشعبي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السائبة، الحديث وفيه: في الركاز الخمس، كذا في عمدة القاري وتخريج أحاديث عبد الله بن مسعود وغيره مذكور فيه أيضاً من شاء الوقوف عليه فليرجع إليه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة(3/303)
17 ـ باب ما جاءَ في الخَرْص
638 ـ حدثنا مَحمُودُ بن غَيْلاَنَ، حدثنا أبو داودَ الطّيَالِسِيّ، أخبرنا
ـــــــ
"باب ما جاء في الخرص"
الخرص في اللغة هو الحزر والتخمين، وسيجيء بيان ما هو المراد منه من المؤلف.(3/303)
شُعْبَةُ أخبَرَني خُبَيْبُ بنُ عبدِ الرّحمَنِ قال سَمِعْتُ عبدِ الرّحمَنِ بنِ مَسْعُودِ بنِ نَيارٍ يقول: جاءَ سَهْلُ بنُ أَبي حَثْمَةَ إِلى مَجْلِسنَا فَحدّثَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ: "إذا خَرصْتُمْ فَخُذُوا ودَعُوا الثّلُثَ، فإِن لم تَدَعُوا الثّلُثَ فدَعُوا الرّبُعَ".
ـــــــ
قوله: "أخبرني خبيب بن عبد الرحمَن" أبو الحارث المدني ثقة من الرابعة "قال سمعت عبد الرحمَن بن مسعود بن نيار" بكسر النون وبالتحتانية الأنصاري المدني مقبول من الرابعة "جاء سهل بن أبي حثمة" بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة صحابي صغير "إذا خرصتم" أي حزرتم وخمنتم أيها السعاة "فخذوا" أي زكاة المخروص "ودعوا الثلث" أي اتركوه، قال الطيبي: فخذوا جواب للشرط، ودعوا عطف عليه، أي إذا " خرصتم" فبينوا مقدار الزكاة ثم خذوا ثلثي ذلك المقدار واتركوا الثلث لصاحب المال حتى يتصدق به انتهى. وقال القاضي: الخطاب مع المصدقين أمرهم أن يتركوا للمالك ثلث ما خرصوا عليه أو ربعه توسعة عليه حتى يتصدق به هو على جيرانه ومن يمر به ويطلب منه فلا يحتاج إلى أن يغرم ذلك من ماله، وهذا قول قديم للشافعي وعامة أهل الحديث. وعند أصحاب الرأي لا عبرة بالخرص لإفضائه إلى الربا، وزعموا أن الأحاديث الواردة فيه كانت قبل تحريم الربا، ويرده حديث عتاب بن أسيد فإنه أسلم يوم الفتح وتحريم الربا كان مقدماً انتهى.
قال القاري بعد نقل كلام القاضي هذا: وحديث جابر الطويل في الصحيح صريح فإن تحريم الربا كان في حجة الوداع انتهى.
قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: قال الخطابي أنكر أصحاب الرأي الخرص وقال بعضهم: إنما كان يفعل تخويفاً للمزارعين لئلا يخونوا. لا يلزم به الحكم لأنه تخمين وغرور، أو كان يجوز قبل تحريم الربا والقمار، وتعقبه الخطابي بأن تحريم الربا والميسر متقدم والخرص عمل به في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ثم أبو بكر وعمر فمن بعدهم، ولمن ينقل عن أحد منهم ولا من التابعين تركه إلا عن الشعبي قال: وأما قولهم إنه تخمين وغرور فليس كذلك بل هو اجتهاد(3/304)
قال: وفي البابِ عن عائِشَةَ وعَتّابِ بنِ أَسِيدٍ وابنِ عبّاسٍ.
قال أبو عيسى: والعَمَلُ على حدِيثِ سَهْلِ بن أبي حَثْمَةَ عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ في الخَرصِ، وبحَديِثِ سَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ يَقولُ أحمدُ واسحاق:
ـــــــ
في معرفة مقدار التمر وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير. قال: واعتل الطحاوي بأنه يجوز أن يحصل للثمرة آفة فتتلفها فيكون ما يؤخذ من صاحبها مأخوذاً بدلاً مما يسلم له. وأجيب بأن القائلين به لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص. قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان انتهى.
قال الحافظ بن القيم في اعلام الموقعين: المثال التاسع والعشرون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في خرص الثمار في الزكاة والعرايا وغيرها إذا بدا إصلاحها، ثم ذكر أحاديث الخرص ثم قال: فردت هذه السنن كلها بقوله تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} قالوا: والخرص من باب القمار والميسر فيكون تحريمه ناسخاً لهذه الآثار، وهذا من أبطل الباطل فإن الفرق بين القمار والميسر والخرص المشروع كالفرق بين البيع والربا، والميتة والمذكى، وقد نزه الله رسوله وأصحابه عن تعاطي القمار وعن شرعه وإدخاله في الدين، ويا لله العجب أكان المسلمون يقامرون إلى زمن خيبر ثم استمروا على ذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين، ثم انقضى عصر الصحابة وعصر التابعين على القمار ولا يعرفون أن الخرص قمار حتى بينه بعض فقهاء الكوفة؟ هذا والله الباطل حقاً والله الموفق انتهى كلام ابن القيم.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه أبو داود "وعتاب" بفتح العين المهملة وتشديد المثناة الفوقانية "بن أسيد" بفتح الهمزة وكسر المهملة وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي.
قوله: "وبحديث سهل بن أبي حثمة يقول إسحاق وأحمد" قال الحافظ في فتح الباري بعد ذكر حديث سهل بن أبي حثمة: قال بظاهره الليث وأحمد وإسحاق وغيرهم، وفهم منه أبو عبيد في كتاب الأموال أنه القدر الذي يأكلونه بحسب(3/305)
والخَرْصُ إذا أَدْرَكَتِ الثّمَارُ مِنَ الرّطَبِ والعِنَب مِمّا فيهِ الزكاةُ بَعَثَ السّلْطَانُ خَارِصاً يخَرصُ عليهِمْ. والخَرْصُ أنْ يَنْظُرَ مَنْ يُبْصِرُ ذلكَ فيقولُ: يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الزّبِيبِ كَذَا وكَذَا ومِنَ التّمْرِ كَذَا وكَذَا فيُحصى عَلَيْهِمْ، ويَنْظُر مَبلَغَ العُشْرِ مِنْ ذلكَ فَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ ثم يُخَلّي بَيْنَهُمْ وبَيْنَ الثّمَارِ فَيَصْنَعُونَ ما أحَبّوا، فإذا أَدْرَكَتِ الثّمَارُ أُخِذَ منهم العُشْرُ. هكذا فَسّرَهُ بعضُ أَهلِ العلمِ. وبهذا يقولُ مالكٌ والشافعيّ وأحمدُ وإسْحاقُ.
639 ـ حدثنا أبو عَمْرٍو مسلم بنُ عَمْرٍو الحَذَاءُ المَدَنِيّ حدثنا عبدُ الله بن نافعٍ الصائغ عن محمدِ بنِ صالحٍ التّمّارُ عن ابنِ شِهَابٍ عن سعيدِ بنِ المُسَيّبِ عن عَتّابِ بنِ أَسِيدٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَبْعَثُ على الناسِ مَنْ يَخْرُصُ عليهم كُرُومَهمُ وثِمَارَهُم وبهذا الإسنادِ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: في زكاةِ الكُرُومِ "إنّها تُخْرَصُ كمَا يُخْرَصُ النّخْلُ ثم تُؤَدّى زكاتُهُ زَبِيباً كمَا تُؤَدّى زكاةُ النّخْلِ تَمْراً".
ـــــــ
احتياجهم إليه، فقال يترك قدر احتياجهم. وقال مالك وسفيان: لا يترك لهم شيء. وهو المشهور عن الشافعي. قال ابن العربي: والمتحصل من صحيح النظر أن يعمل بالحديث وهو قدر المؤنة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رطباً انتهى.
قوله: "والخرص إذا أدركت الثمار الخ" من ادراك الشيء بلغ وقته كذا القاموس. قال الحافظ بن حجر: وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها والبيع من زهوها وإيثار الأهل والجيران والفقراء لأن في منعهم منها تضييقاً لا يخفى انتهى.
قوله: "عن محمد بن صالح التمار" بفتح المثناة الفوقانية وتشديد الميم صدوق يخطئ من السابعة "كرومهم" بضمتين جمع الكرم وهو شجر العنب. قال ابن حجر: ولا ينافي تسمية العنب كرماً خبر الشيخين: لا تسموا العنب كرماً(3/306)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقد رَوَى ابنُ جُرَيْجٍ هذا الحديثَ عن ابنِ شِهَابٍ عن عُرْوَةَ عن عائِشَةَ. وسأَلْتُ محمداً عن هذا الحديث فقالَ: حديثُ ابنِ جُرَيْجٍ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وحديثُ ابنِ المُسَيّبِ عن عتّابِ بنِ أَسِيدٍ أثبت أصَحّ.
ـــــــ
فإن الكرم هو المسلم، وفي رواية: فإنما الكرم قلب المؤمن. لأنه نهى تنزيه. على أن تلك التسمية من لفظ الراوي فلعله لم يبلغه النهي أو خاطب به من لا يعرفه إلا به انتهى "زبيباً" هو اليابس من العنب(3/307)
18 ـ باب ما جَاءَ في العَامِل على الصّدَقَةِ بالحق
640 ـ حدثنا أحمد بن مَنِيعٍ حدثنا يزيدُ بنُ هارونَ أخبرنا يزيدُ بنُ عَياضٍ عن عاصِمِ بن عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ ح وحدثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ قال: أخْبرنا أَحمدُ بنُ خالدٍ عن محمدِ بنِ إسحاقَ عن عاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ عن محمودِ بنِ لَبيدٍ عن رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العَامِلُ على الصّدَقَةِ بالحَقّ كالغَازِي في سَبِيلِ الله حتى يَرْجِعَ إلى بَيْتِهِ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في العَامِل على الصّدَقَةِ بالحق
قوله: "العامل على الصدقة بالحق" متعلق بالعامل أي عملاً بالصدق والصواب، أو بالإخلاص والاحتساب "كالغازي في سبيل الله" أي في تحصيل بيت المال واستحقاق الثواب في تمشية أمر الدارين قاله القاري "حتى يرجع" أي العامل. قال ابن العربي في شرح الترمذي: وذلك أن الله ذو الفضل العظيم، قال من جهز فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا، والعامل على الصدقة خليفة الغازي لأنه يجمع مال سبيل الله فهو غاز بعمله وهو غاز بنيته، وقال عليه السلام: إن بالمدينة قوماً ما سلكتم وادياً ولا قطعتم شعباً إلا وهم معكم حبسهم العذر، فكيف بمن حبسه العمل للغازي وخلافته وجمع ماله الذي ينفقه في سبيل(3/207)
باب في المعتدي في الصدقة
...
19 ـ باب ما جاءَ في المُعْتَدِي في الصّدَقَة
641 ـ حدثنا قُتَيْبةُ أخبرنا اللّيْثُ عن يَزِيدَ بنِ أَبي حَبِيبٍ عن سَعْدِ بنِ سِنَانٍ عن أنَسِ بنِ مالكٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "المُعْتَدِي في الصّدَقَةِ كَمَانِعهَا".
ـــــــ
باب ما جاءَ في المُعْتَدِي في الصّدَقَة
قوله "المعتدي في الصدقة كمانعها" الاعتداء مجاوزة الحد، فيحتمل أن يكون المراد به المزكي الذي يعتدي بإعطاء الزكاة غير مستحقيها ولا على وجهها أو العامل. قال التوربشتي: إن العامل المعتدي في أخذ الصدقة عن المقدار الواجب هو في الوزر كالذي يمنع عن أداء ما وجب عليه، كذا في اللمعات. وقال في شرح السنة: معنى الحديث أن على المعتدي في الصدقة من الإثم ما على المانع فلا يحل لرب المال كتمان المال وإن اعتدى عليه الساعي انتهى. وقيل المعتدي في الصدقة هو الذي يجاوز الحد في الصدقة بحيث لا يبقى لعياله شيئاً، وقيل. هو الذي يعطي ويمن ويؤذي، فالإعطاء مع المن والأذي كالمنع عن أداء ما وجب(3/308)
قال: وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وأُمّ سَلَمَةَ وأبي هُرَيْرةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أنَسٍ حديثٌ غريبٌ مِن هذا الوَجْهِ.
وقد تَكَلَمّ أحمدُ بنُ حَنبلٍ في سَعْدِ بنِ سِنَانٍ. وهكذا يقولُ اللّيْثُ بنُ سَعْدٍ عن يَزِيدَ بنِ أَبي حَبِيبٍ عن سَعْدِ بنِ سِنَانٍ عن أنَسِ بنِ مَالكٍ.
ـــــــ
عليه، قال تعالى {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} قلت: الظاهر أن المراد بالمعتدى في الصدقة العامل المعتدي في أخذ الصدقة، ويؤيده حديث بشير بن الخصاصية قال: قلنا إن أهل الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون؟ قال: لا، رواه أبو داود. فمعنى الحديث أن على المعتدي في الصدقة من الإثم ما على المانع لأن العامل إذا اعتدى في الصدقة بأن أخذ خيار المال أو الزيادة على المقدار الواجب ربما يمنعها المالك في السنة الأخرى، فيكون في الإثم كالمانع والله تعالى أعلم.
قوله "وفي الباب عن ابن عمر وأم سلمة وأبي هريرة، لينظر من أخرج حديثهم حديث أنس حديث غريب من هذا الوجه" وأخرجه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه، كلهم من رواية سعد بن سنان عن أنس كذا في الترغيب.
قوله "وقد تكلم أحمد بن حنبل في سعد بن سنان" قال الذهبي في الميزان في ترجمته: قال أحمد: لم أكتب أحاديثه لأنهم اضطربوا فيه وفي حديثه. وقال الجوزجاني: أحاديثه واهية. وقال س: منكر الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. ونقل ابن القطان أن أحمد يوثقه انتهى. وقال الحافظ في التقريب: سعد بن سنان، ويقال سنان بن سعد الكندي المصري، وصوب الثاني البخاري وابن يونس، صدوق له أفراد من الخامسة.
قوله "وهكذا يقول الليث بن سعد الخ" حاصله أن الرواة مختلفون في اسم سعد بن سنان، فقال الليث: سعد بن سنان، وقال عمرو بن الحارث وابن لهيعة: سنان بن سعد. ونقل الترمذي عن البخاري أن الصحيح سنان بن سعد ويقول عمرو بن الحارث وابن لهيعة "عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس(3/309)
قال أبو عيسى سَمِعْتُ محمداً يقولُ: والصّحِيحُ سِنَانُ بنُ سَعْدٍ. وقَوْلُهُ "المُعْتَدِي في الصّدَقَةِ كَمَانِعِهَا" يقولُ: على المُعْتَدِي مِن الإثْمِ كَمَا على المَانِعِ إذا مَنَعَ.
ـــــــ
بن مالك" لم توجد هذه العبارة في بعض النسخ "سمعت محمداً يقول: والصحيح سنان بن سعد قد بسط الكلام في هذا المقام الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة سعد بن سنان فعليك أن تراجعه فإنه نافع.
قوله "وقوله المعتدي في الصدقة كمانعها، يقول: على المعتدى من الإثم الخ" قال ابن الأثير في النهاية: المعتدي في الصدقة كمانعها هو أن يعطي الزكاة غير مستحقها، وقيل: أراد أن الساعي إذا أخذ خيار المال ربما منعه في السنة الأخرى فيكون سبباً في ذلك فهما في الإثم سواء انتهى(3/310)
باب ما جاء في رضى للمصدق
...
20 ـ باب ما جَاءَ في رضا المُصَدّق
642 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا محمدُ بنُ يَزِيدَ عن مُجَالِدٍ عن الشّعْبِيّ عن جَرِيرٍ قال: قالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم "إذا أَتَاكُمْ المُصَدّقُ فلا يُفَارِقَنّكُمْ إلا عَنْ رِضاً".
ـــــــ
"باب ما جاء في رضى المصدق"
بتخفيف الصاد أي آخذ الصدقة وهو العامل.
قوله: "إذا أتاكم المصدق فلا يقارقنكم إلا عن رضى" وفي رواية مسلم: إذا أتاكم المصدق فليصدر عنكم وهو عنكم راض. قال الطيبي: ذكر السبب وأراد السبب لأنه أمر للعامل وفي الحقيقة أمر للمزكي. والمعنى تلقوه بالترحيب وأداء زكاة أموالكم ليرجع عنكم راضياً، وإنما عدل إلى هذه الصفة مبالغة في استرضاء المصدق وإن ظلم انتهى. قال السيوطي في قوت المتغتذي: إذا أتاكم المصدق بتخفيف الصاد وهو العامل فلا يفارقنكم إلا عن رضى. قال الشافعي: يعني والله اعلم أن يوفوه طائعين ويتلقوه بالترحيب لا أن يؤتوه من أموالهم ما ليس(3/310)
643 ـ حدثنا أبو عَمّارٍ الحسين بن حريث حَدّثنا سُفيَانُ بن عيينة عن داودَ عن الشّعْبِيّ عن جريرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنَحْوِهِ.
قال أبو عيسى: حديثُ داودَ عن الشّعْبِيّ أَصَحّ مِنْ حديثِ مُجَالِدٍ. وقد ضَعّفَ مُجَالِداً بعضُ أهلِ العلمِ وهو كَثِيرُ الغَلَطِ.
ـــــــ
عليهم. قال البيهقي في سننه: وهذا الذي قاله الشافعي محتمل لولا ما في رواية أبي داود من الزيادة وهي: قالوا يا رسول الله: وإن ظلمونا؟ قال: ارضوا مصدقيكم وإن ظلمتم فكأنه رأى الصبر على تعديهم انتهى.
قوله: "حديث داود عن الشعبي أصح من حديث مجالد" والحديث أخرجه مسلم "وقد ضعف مجالداً بعض أهل العلم إلخ" في التقريب: مجالد بضم أوله وتخفيف الجيم ابن سعيد بن عمير الهمداني أبو عمرو الكوفي ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره من صغار السادسة انتهى. وقال الذهبي في الميزان: قال ابن معين وغيره: لا يحتج به. وقال أحمد: يرفع كثيراً مما لا يرفعه الناس ليس بشيء وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه انتهى مختصراً(3/311)
21 ـ باب ما جَاءَ أنّ الصّدَقَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الأغْنِياءِ فتُرَدّ على الفُقَرَاء
644 ـ حدثنا عليّ بن سَعِيدٍ الكِنْدِيّ الكوفيّ، حدثنا حَفْصُ بن غِيَاثٍ عن أَشْعَثَ عن عَوْنِ بنِ أَبي حُجَيْفَةَ عن أَبيهِ قال: "قَدِمَ عَلَيْنَا مُصَدّقُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأَخَذَ الصّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَجَعَلَهَا في فُقَرَائِنَا، وكُنْتُ غَلاَماً يَتِيماً فأَعْطَانِي منها قَلُوصاً".
ـــــــ
باب ما جاء أن الصدقة تؤخذ من الأغنياء فترد على الفقراء
قوله: "عن عون بن أبي جحيفة" بتقديم الجيم على الحاء كجهينة.
قوله: "فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا" قال في حاشية النسخة(3/311)
ـــــــ
الأحمدية: أي فقراء ذلك القوم والبلد وهذا مستحب، اللهم إذا كان غيرهم أحوج منهم وأحق فيحمل الصدقة من بلد إلى بلد ومن قوم إلى قوم آخر انتهى بلفظه.
قلت: قد اختلف العلماء في هذه المسألة فأجاز النقل الليث وأبو حنيفة وأصحابهما. ونقله ابن المنذر عن الشافعي واختاره والأصح عند الشافعية والمالكية والجمهور ترك النقل، فلو خالف ونقل أجزأ عند المالكية على الأصح ولم يجزئ عند الشافعية على الأصح إلا إذا فقد المستحقون لها، كذا في فتح الباري. وفيه: ولا يبعد أنه اختيار البخاري لأن قوله حيث كانوا يشعر بأنه لا ينقلها عن بلد وفيه ممن هو متصف بصفة الاستحقاق انتهى.
قلت: قد عقد البخاري في صحيحه بلفظ: باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، وأورد فيه حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: إنك ستأتي قوماً أهل الكتاب الحديث وفيه: فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم. قال الحافظ في الفتح: ظاهر حديث الباب أن الصدقة ترد على فقراء من أخذت من أغنيائهم. وقال ابن المنير: اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال لعموم قوله: فترد في فقرائهم لأن الضمير يعود على المسلمين، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة في أي جهة كان فقد وافق عموم الحديث انتهى. قال: والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث عدم النقل وأن الضمير يعود على المخاطبين فيختص بذلك فقرائهم، لكن رجح ابن دقيق العيد الأول وقال: وإن لم يكن الأظهر إلا أنه يقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر في الزكاة كما لا تعتبر في الصلاة فلا يختص بها الحكم وإن اختص بهم خطاب المواجهة انتهى ما في الفتح.
قلت: لا شك أن الظاهر المتبادر إلى الذهن من هذا الحديث هو عدم النقل، ويؤيده حديث أبي جحيفة الذي أورده الترمذي في هذا الباب وحديث عمران بن حصين أنه استعمل على الصدقة فلما رجع قيل له أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟ أخذناه من حيث كنا نأخذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناه حيث كنا نضعه، رواه أبو داود وابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح. فالراجح عندي أن الصدقة ترد في فقراء(3/312)
قال: وفي الباب عن ابن عباس.
قال أبو عيسى: حديث أبي جُحَيْفَةَ حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
من أخذت من أغنيائهم إلا إذا فقدوا أو تكون في نقلها مصلحة أنفع من ردها إليهم، فحينئذ تنقل لما علم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستدعي الصدقات من الإعراب إلى المدينة ويصرفها في فقراء المهاجرين والأنصار، كما أخرج النسائي من حديث عبد الله بن هلال الثقفي قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كدت أقتل بعدك في عناق أو شاة من الصدقة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لولا أنها تعطى فقراء المهاجرين ما أخذتها"، والله تعالى أعلم "قلوصاً" بفتح القاف الناقة الشابة ويجمع على قلاص بكسر القاف.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه الشيخان "حديث أبي جحيفة حديث حسن غريب" قال في النيل: رجال هذا الحديث ثقات إلا أشعث بن سوار ففيه مقال وقد أخرج له مسلم متابعة انتهى(3/313)
22 ـ باب مَنْ تَحِلّ لَهُ الزكاة
645 ـ حدثنا قُتَيْبةُ و عَليّ بن حُجْرٍ قال قُتَيْبةُ حدثنا شَرِيكٌ وقال عليّ حدثنا شَرِيكٌ "والمَعْنَى واحِدٌ" عن حَكِيمِ بنِ جُبَيْرٍ عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمَنِ بن يَزيِدَ عَنْ أبيهِ عن عبدِ الله بن مَسْعُودٍ قال: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ سَأَلَ النّاسَ ولَهُ ما يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ القِيامةِ ومَسْأَلَتُهُ في وجْهِهِ خُمُوشٌ أو خُدُوشٌ أَو كُدُوحٌ" قِيلَ يا رَسُولَ الله
ـــــــ
باب مَنْ تَحِلّ لَهُ الزكاة
قوله: "المعنى واحد" أي لفظ حديث قتيبة وعلي بن حجر مختلف ومعنى حديثهما واحد.
قوله: "وله ما يغنيه" أي عن السؤال "ومسألته" أي أثرها "في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح" بضم أوائلها ألفاظ متقاربة المعاني جمع خمش(3/313)
وما يُغْنِيهِ؟ قال "خَمْسُونَ دِرْهماً أو قِيمَتُهَا مِنَ الذهَبِ".
قال: وفي البابِ عن عبدِ الله بن عَمْروٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ مَسْعُودٍ حديثٌ حسنٌ. وقد تَكَلّمَ شُعْبَةُ في حَكِيمِ بنِ جُبَيْرٍ مِنْ أجْلِ هذا الحديثِ.
ـــــــ
وخدش وكدح، فـ "أو" هنا إما لشك الراوي إذا الكل يعرب عن أثر ما يظهر على الجلد واللحم من ملاقاة الجسد ما يقشر أو يجرح، ولعل المراد بها آثار مستنكرة وفي وجهه حقيقة أو أمارات ليعرف ويشهر بذلك بين أهل الموقف، أو لتقسيم منازل السائل فإنه مقل أو مكثر أو مفرط في المسألة، فذكر الأقسام على حسب ذلك، والخمش أبلغ في معناه من الخدش، وهو أبلغ من الكدح، إذا الخمش في الوجه، والخدش في الجلد، والكدح فوق الجلد، وقيل الخدش قشر الجلد بعود، والخمش قشره بالأظفار، والكدح العض، وهي في أصلها مصادر لكنها لما جعلت أسماء للاَثار جمعت، كذا في المرقاة.
قوله: "وما يغنيه" أي كم هو أو أي مقدار من المال يغنيه "قال خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب" أي قيمة الخمسين من الذهب.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" أخرجه النسائي بلفظة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله أربعون درهماً فهو الملحف".
قلت: وفي الباب عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد له صحبة في أثناء حديث مرفوع قال فيه: من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً، أخرجه أبو داود. وعن سهل بن الحنظلية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار"، فقالوا يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: "قدر ما يغديه ويعشيه"، أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، كذا في فتح الباري "حديث ابن مسعود حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي.
قوله: "وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث" وتكلم فيه غيره أيضاً. قال الذهبي في الميزان: شيعي مقل. قال أحمد: ضعيف منكر الحديث.(3/314)
646 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا يَحْيَى بنُ آدَمَ حدثنا سُفيانُ عن حَكِيمِ بنِ جُبَيرٍ بهذا الحَديثِ، فقالَ لَهُ عبدُ الله بنُ عُثْمَانَ صَاحِبُ شُعْبَةَ: لَوْ غَيْرُ حَكِيمٍ حَدّثَ بهذا الحديث، فقالَ لَهُ سُفْيَانُ وما لحكِيمٍ لا يُحَدّثُ عنهُ شُعْبَةُ قال: نعَمْ قال سُفيانُ سَمِعْتُ زُبَيْداً يُحَدّثُ بهذا عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمَنِ بنِ يَزِيدَ. والعملُ على هذا عندَ بعضِ أَصْحَابِنَا. وبه يَقُولُ الثّوْرِيّ وعبدُ الله بنُ المبَارَكِ وأحمدُ وإسحاقُ، قالوا إذا كانَ عندَ الرّجُلِ خمسونَ دِرْهَماً لَمْ تَحِلّ لَهُ الصّدَقَةُ.
ـــــــ
وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: متروك. وقال الجوزجاني: حكيم بن جبير كذاب انتهى مختصراً. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف رمي بالتشيع.
قوله: "فقال له" أي لسفيان، وقائل هذا يحيى بن آدم "لو غير حكيم حدث بهذا" كلمة لو للتمني "فقال له" أي لعبد الله بن عثمان "لا يحدث عنه شعبة" بتقدير همزة الاستفهام أي ألا يحدث عنه شعبة "قال نعم" أي قال عبد الله بن عثمان: نعم لا يحدث عنه شعبة. قال الذهبي في الميزان: قال معاذ: قلت لشعبة: حدثنى بحديث حكيم بن جبير قال أخاف النار أن أحدث عنه، قلت فهذا يدل على أن شعبة ترك الرواية بعد انتهى "قال سفيان سمعت زبيداً يحدث بهذا عن محمد بن عبد الرحمَن بن يزيد" وفي رواية أبي داود قال يحيى: فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: فقد حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمَن بن يزيد. قلت: زبيد هذا هو ابن الحارث اليامي الكوفي ثقة ثبت عابد من السادسة. قال الحافظ المنذري في تلخيص السنن: قال الخطابي: وضعفوا الحديث للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم، قالوا: أما مارواه سفيان فليس فيه بيان أنه أسنده وإنما قال فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمَن بن يزيد حسب. وحكى الترمذي أن سفيان صرح بإسناده فقال سمعت زبيدا يحدث بهذا عن محمد بن عبد الرحمَن بن يزيد، وحكاه ابن عدي أيضاً، وحكى أيضاً أن الثوري قال: فأخبرنا به زبيد، وهذا يدل على أن الثوري حدث به مرتين(3/315)
ولم يَذْهَبْ بعضُ أهلِ العلمِ إلى حَدِيثِ حَكِيمِ بنِ جُبَيْرٍ وَوَسّعُوا في هذا وقالوا: إذا كانَ عِنْدَهُ خَمْسُونَ دِرْهَماً. أو أكْثَرُ وهو مُحْتَاجٌ فَلَهُ أَنْ يَأخُذَ مِنَ الزكاةِ. وهو قَوْلُ الشافعيّ وغَيْرِهِ مِنْ أَهلِ الفِقْهِ والعلمِ.
ـــــــ
لا يصرح فيه بالإسناد ومرة يسنده فتجتمع الروايات. وسئل يحيى بن معين: يرويه أحد غير حكيم؟ فقال يحيى: نعم يرويه يحيى بن آدم عن زبيد. ولا أعلم أحداً يرويه إلا يحيى بن آدم، وهذا وهم لو كان كذا لحدث به الناس جميعاً عن سفيان، لكنه حديث منكر. هذا الكلام قاله يحيى أو نحوه انتهى كلام المنذري ملخصاً.
قوله: "وهو قول الشافعي وغيره من أهل الفقه والعلم"، وقال الشافعي قد يكون الرجل غنياً بالدرهم مع الكسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله.
وفي المسألة مذاهب أخرى، أحدها قول أبي حنيفة: إن الغنى من ملك نصاباً فيحرم عليه أخذ الزكاة. واحتج بحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: "تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فوصف من تؤخذ الزكاة منه بالغنى". وقد قال: "لا تحل الصدقة لغني".
ثانيها: أن حده من وجد ما يغديه وما يعشيه على ظاهر حديث سهل بن الحنظلية حكاه الخطابي عن بعضهم، ومنهم من قال وجهه من لا يجد غداء ولا عشاء على دائم الأوقات.
ثالثها: أن حده أربعون درهماً، وهو قول أبي عبيد بن سلام على ظاهر حديث أبي سعيد وهو الظاهر من تصرف البخاري لأنه أتبع ذلك قوله لا يسألون الناس إلحافاً، وقد تضمن الحديث المذكور أن من سأل وعنده هذا القدر فقد سأل إلحافاً كذا في فتح الباري. والمراد بحديث أبي سعيد ما روايه النسائي عنه وفيه: ومن سأل وله أوقية فقد ألحف(3/316)
23 ـ باب ما جَاءَ مَنْ لا تَحِلّ لَهُ الصّدَقَة
647 ـ حدثنا أبو بكر محمد بن بَشّارٍ، حدثنا أبو دَاودَ الطّيَالِسيّ،أخبرنا
ـــــــ
لا يصرح فيه بالإسناد ومرة يسنده فتجتمع الروايات. وسئل يحيى بن معين: يرويه أحد غير حكيم؟ فقال يحيى: نعم يرويه يحيى بن آدم عن زبيد. ولا أعلم أحداً يرويه إلا يحيى بن آدم، وهذا وهم لو كان كذا لحدث به الناس جميعاً عن سفيان، لكنه حديث منكر. هذا الكلام قاله يحيى أو نحوه انتهى كلام المنذري ملخصاً.
قوله: "وهو قول الشافعي وغيره من أهل الفقه والعلم"، وقال الشافعي قد يكون الرجل غنياً بالدرهم مع الكسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله.
وفي المسألة مذاهب أخرى، أحدها قول أبي حنيفة: إن الغنى من ملك نصاباً فيحرم عليه أخذ الزكاة. واحتج بحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: "تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فوصف من تؤخذ الزكاة منه بالغنى". وقد قال: "لا تحل الصدقة لغني".
ثانيها: أن حده من وجد ما يغديه وما يعشيه على ظاهر حديث سهل بن الحنظلية حكاه الخطابي عن بعضهم، ومنهم من قال وجهه من لا يجد غداء ولا عشاء على دائم الأوقات.
ثالثها: أن حده أربعون درهماً، وهو قول أبي عبيد بن سلام على ظاهر حديث أبي سعيد وهو الظاهر من تصرف البخاري لأنه أتبع ذلك قوله لا يسألون الناس إلحافاً، وقد تضمن الحديث المذكور أن من سأل وعنده هذا القدر فقد سأل إلحافاً كذا في فتح الباري. والمراد بحديث أبي سعيد ما روايه النسائي عنه وفيه: ومن سأل وله أوقية فقد ألحف(3/316)
سُفْيَانُ وحدثنا محمودُ بن غَيْلاَنَ أخبرنا عبدُ الرّزّاقِ أخبرنا سُفْيَانُ عن سَعْدِ بنِ إبراهيم عن رَيْحَانَ بنِ يزيد عن عبدِ الله بن عَمْرٍو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "لا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِغَنِي ولا لِذِي مرّةٍ سَوِيّ".
قال: وفي البابِ عن أبي هُرَيرَةَ وحُبْشِيّ بن جُنَادَةَ وقَبِيصَةَ بنِ مخَارِقِ.
قال أبو عيسى: حديثُ عبدِ الله بنِ عَمْروٍ حديثٌ حسنٌ. وقد رَوَى شُعْبَة عن سَعْدِ بن إبراهيم هذا الحديِثَ بهذا الإسْنَادِ ولَمْ يَرْفَعْهُ.
وقد رُوِيَ في غَيْرِ هذا الحديثِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "لا تَحِلّ المسْأَلَةَ لِغَنِي ولا لِذِي مِرّةٍ سَوِي".
وإذا كانَ الرجُلُ قَوِيّاً مُحْتَاجاً ولَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ فتُصُدّقَ عَلَيْهِ أجْزَأ عَن المُتَصَدّقِ عندَ أهلِ العلمِ وَوَجْهُ هَذَا الحَدِيثِ عِنْدَ بعضِ أَهْلِ العِلْمِ عَن المسْأَلَةِ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ مَنْ لا تَحِلّ لَهُ الصّدَقَة
قوله: " ولا لذي مرة" بكسر الميم وتشديد الراء أي قوة "سوى" أي مستوى الخلق قاله الجوهري والمراد استواء الأعضاء وسلامتها.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه أبو دادو والنسائي وابن ماجه "وحبشي بن جنادة" أخرجه الترمذي "وقبيصة بن المخارق" أخرجه مسلم "حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن" وأخرجه أبو داود والدارمي.
قوله: "ووجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة" أي حديث عبد الله بن عمرو المذكور عند بعض أهل العلم محمول على المسألة، والمراد بقوله: لا تحل الصدقة. لا تحل المسألة والدليل عليه حديث حبشي بن جنادة الآتي لكنه ضعيف.
قوله: "عن حبشي" بضم الحاء وسكون الموحدة "بن جنادة" بضم الجيم.
قوله: "ولا لذي مرة" أي لذي قوة على الكسب "سوى" صحيح سليم(3/317)
648 ـ حدثنا عليّ بنُ سَعيدٍ الكِنْدِيّ حدثنا عبد الرّحِيمِ بن سُليمانَ عن مُجَالِدٍ عن عَامِرٍ الشعبي عن حُبْشِيّ بن جُنَادَةَ السّلُوليّ. قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في حَجّةِ الوَدَاعِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ أتَاهُ أَعْرَابِيّ فأخَذَ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَسَأَلَهُ إيّاهُ فَأَعْطَاهُ وَذَهَبَ فَعِنْدَ ذلك حَرُمَتِ المسْأَلَةُ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ المسْأَلَةَ لا تَحِلّ لِغَنِي ولا لِذِي مِرّةٍ سَوِي إلاّ لِذِي فَقْر مُدْقِعٍ أَو غُرْمٍ مُفْظِعٍ، ومَنْ سَأَلَ النّاسَ لِيُثْري بهِ مَالهُ كان خُمُوشاً في وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامةِ ورضْفاً يأْكُلُهُ مِنْ جَهَنّمَ، ومَنْ شَاءَ فَلْيُقِلّ ومَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ".
ـــــــ
الأعضاء "إلا لذي فقر مدقع" بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر القاف وهو الفقر الشديد الملصق صاحبه بالدقعاء وهي الأرض التي لا نبات بها "أو غرم مفظع" بضم الغين المعجمة وسكون الراء وهو ما يلزم أداؤه تكلفاً لا في مقابلة عوض والمفظع بضم الميم وسكون الفاء وكسر الظاء المعجمة وبالعين المهملة وهو الشديد الشنيع الذي جلوز الحد. كذا في النيل الأوطار. وقال القاري في المرقاة: قال الطيبي: والمراد ما استدان لنفسه وعياله في مباح. قال: ويمكن أن يكون المراد به ما لزمه من الغرامة بنحو دية وكفارة انتهى "ليثرى" من الإثراء "به" أي بسبب السؤال وبالمأخوذ "ماله " قال القاري في المرقاة: بفتح اللام ورفعه أي ليكثر ماله من أثرى الرجل إذا كثرت أمواله، كذا قاله بعض الشراح. وفي النهاية. الثري المال، وأثرى القوم كثروا وكثرت أموالهم. وفي القاموس. الثروة كثرة العدد من الناس والمال، وثري القوم ونموا، والمال كذلك، وثري كرضي كثر ماله، كأثرى. إذا عرفت ذلك فاعلم أن في أكثر النسخ ماله بفتح اللام، وهو خلاف ما عليه أهل اللغة من أن أثرى لازم فيتعين رفعه اللهم إلا أن يقال "ما" موصولة و "له" جار ومجرور انتهى "كان" أي السؤال أو المال "خموشاً" بالضم أي عبساً "ورضفاً" بفتح فسكون أي حجراً محمياً "فمن شاء فليقل" أي هذا السؤال أو ما يترتب عليه من النكال "ومن شاء فليكثر" وهما أمر(3/318)
ـ حدثنا مَحمودُ بن غَيْلاَنَ حدثنا يَحْيَى بنُ آدَمَ عن عبدِ الرّحيمِ بنِ سُليمَانَ نَحْوَهُ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ مِنْ هذا الوجْهِ.
ـــــــ
تهديد، ونظيره قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً}.
قوله: "هذا حديث غريب من هذا الوجه" لم يحكم الترمذي على هذا الحديث بشيء من الصحة أو الضعف، والحديث ضعيف لأن في سنده مجالداً وهو ضعيف(3/319)
باب من تحل له الصدقة من الغارمين وغيرهم
...
24 ـ باب ما جاءَ مَن تَحِلّ لَهُ الصّدَقَةُ مِنَ الغَارِمِينَ وغَيْرِهِم
650 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا اللّيْثُ عن بُكَيْرِ بنِ عبدِ الله بن الأشَجّ عن عِيَاضِ بنِ عبدِ الله عن أَبيِ سَعيدٍ الخُدْرِيّ قال: أُصِيبَ رَجُلٌ في عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُه فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "تَصَدّقُوا عليهِ"، فَتَصَدّقَ الناسُ عليهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ: "خُذُوا ما وَجَدْتُمْ ولَيْسَ لكُمْ إلاّ ذلكَ".
ـــــــ
باب ما جاءَ مَن تَحِلّ لَهُ الصّدَقَةُ مِنَ الغَارِمِينَ وغَيْرِهِم
قوله: "أصيب رجل" أي أصابه آفة، قيل هو معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه "في ثمار" متعلق بأصيب "ابتاعها" أي اشتراها، والمعنى لحقه خسران بسبب إصابة آفة في ثمار اشتراها ولم ينقد ثمنها "فكثر دينه" أي فطالبه البائع بثمن تلك الثمار، وكذا طالبه بقية غرمائة وليس له مال يؤديه "فلم يبلغ ذلك" أي ما تصدقوا عليه "لغرمائه" جمع غريم وهو بمعنى المديون والدائن، والمراد ههنا هو الأخير "وليس لكم إلا ذلك" أي ما وجدتم، والمعنى ليس لكم إلا أخذ ما وجدتم،(3/319)
وفي الباب عن عائشة وجويرية وأنس
قال أبو عيسى: حديث أبي سعيد حديث حسن صحيح
ـــــــ
والإمهال بمطالبة الباقي إلى الميسرة. وقال المظهر. أي ليس لكم زجره وحبسه لأنه ظهر إفلاسه، وإذا ثبت إفلاس الرجل لا يجوز حبسه في الدين بل يخلى ويمهل إلى أن يحصل له مال فيأخذه الغرماء، وليس معناه أنه ليس لكم إلا ما وجدتم وبطل ما بقي من ديونكم، لقوله تعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} كذا في المرقاة.
قلت: ما نفاه المظهر قد قال به جماعة، وهم الذين ذهبوا إلى وجوب وضع الجائحة. قال النووي في شرح مسلم: اختلف العلماء في الثمرة إذا بيعت بعد بدو الصلاح وسلمها البائع إلى المشتري بالتخلية بينه وبينها ثم تلفت قبل أوان الجذاذ بآفة سماوية، هل تكون من ضمان البائع أو المشتري؟ فقال الشافعي في أصح قوليه وأبو حنيفة والليث بن سعد وآخرون: هي من ضمان المشتري ولا يجب وضع الجائحة لكن يستحب. وقال الشافعي في القديم وطائفة: هي من ضمان البائع ويجب وضع الجائحة. وقال مالك: إن كانت دون الثلث لم يجب وضعها وإن كانت الثلث فأكثر، وجب وضعها وكانت من ضمان البائع، ثم ذكر النووي دلائل هؤلاء الأئمة من شاء الوقوف عليها فليرجع إليه.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وجويرية وأنس" أما حديثي عائشة وحديث جويرية فلينظر من أخرجهما، وأما حديث أنس فأخرجه أحمد وأبو داود عنه مرفوعاً: إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة. لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع. كذا في المنتقى. وفي الباب أحاديث أخرى مذكورة في نصب الراية والدراية.
قوله حديث أبي سعيد حديث حسن صحيح و أخرجه مسلم.(3/320)
25 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الصدقَةِ للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأَهْلِ بَيْتِهِ ومَوَالِيه
651 ـ حدثنا بندار أخبرنا مَكّيّ بنُ إبراهيم و يوسُفُ بنُ سعيد
ـــــــ(3/320)
الضّبَعِيّ قالا: حدثنا بَهْزُ بنُ حَكِيمٍ عن أَبيهِ عن جَدّهِ قال " كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتِيَ بِشَيْءٍ سأَلَ "أَصَدَقَةٌ هيَ أَمْ هَدِيّةٌ؟ فإِنْ قَالُوا صَدَقَةٌ لَم يَأْكُلْ، وإنْ قالُوا هَدِيّةٌ أَكَلَ".
قال: وفي البابِ عن سَلْمَانَ وأَبي هُرَيْرَةَ وأَنَسٍ والحسَنِ بنِ علي وأبي عمِيرَةَ "جَد مُعَرّفُ بنِ وَاصِلٍ واسْمُهُ رشَيْدُ بنُ مَالِكٍ" ومَيْمُونِ بن مهْرانَ وابنِ عباسٍ وعبدِ الله بنِ عَمْروٍ وَأبي رَافِعٍ وعبدِ الرحمَنِ بنِ عَلْقَمَةَ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الصدقَةِ للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأَهْلِ بَيْتِهِ ومَوَالِيه
قوله: "ويوسف بن يعقوب الضبعي" بضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة وعين مهملة نزل في بني ضبيعة فنسب إليهم وليس منهم.
قوله: "وإن قالوا هدية أكل" فارقت الصدقة الهدية حيث حرمت عليه تلك وحلت له هذه بأن القصد من الصدقة ثواب الاَخرة، وذلك ينبئ عن عز المعطي وذل الآخذ في احتياجه إلى الترحم عليه والرفق إليه، ومن الهدية التقرب إلى المهدي إليه وإكرامه بعرضها عليه، ففيها غاية العزة والرفعة لديه. وأيضاً فمن شأن الهدية مكافأتها في الدنيا، ولذا كان عليه الصلاة والسلام يأخذ الهدية ويثيب عوضها عنها فلا منة البتة فيها بل لمجرد المحبة كما يدل عليه حديث: تهادوا تحابوا وأما جزاء الصدقة ففي العقبي ولا يجازيها إلا المولى.
قوله: "وفي الباب عن سلمان وأبي هريرة وأنس والحسن بن علي وأبي عميرة جد معروف بن واصل واسمه رشيد بن مالك وميمون أو مهران وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأبي رافع وعبد الرحمَن بن عقلمة" أما حديث سلمان فأخرجه أحمد والحاكم في المستدرك من رواية أبي ذر الكندي عن سلمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة الحديث، وفيه فسأله أصدقة أم هدية؟ فقال: هدية. فأكل، اللفظ للحاكم. وروى أحمد من رواية أبي الطفيل عن سلمان قال. كان(3/321)
ـــــــ
النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان. وأما حديث أنس فأخرجه أيضاً الشيخان. وأما حديث الحسن بن علي فأخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير من رواية أبي الحوراء قال: كنا عند الحسن بن علي فسأل ما عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كنت أمشي معه فمر على جرين من تمرة الصدقة فأخذت تمرة فألقيتها في فمي فأخذها بلعابها، فقال بعض القوم. وما عليك لو تركتها؟ فقال. إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة، وإسناده صحيح.
وأما حديث أبي عميرة بفتح العين وكسر الميم واسمه رشيد بضم الراء وفتح الشين المعجمة فأخرجه الطحاوي عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى يطبق عليه تمر فقال أصدقة أم هدية الحديث، وفيه: إنا آل محمد لا نأكل الصدقة، وأخرجه الكجي في مسنده نحوه.
وأما حديث ميمون أو مهران فأخرجه عبد الرزاق.
وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو يعلى والطبراني في الكبير قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم الأرقم بن أبي الأرقم على السعاية فاستتبع أبا رافع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا أبا رافع إن الصدقة حرام عليّ وعلى آل محمد وإن مولى القوم من أنفسهم.
وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أحمد عنه بلفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة تحت جنبه من الليل فأكلها فلم ينم تلك الليلة فقال بعض نسائه: يا رسول الله أرقت البارحة قال: "إني وجدت تمرة فأكلتها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة فخشيت أن يكون منه".
وأما حديث أبي رافع فأخرجه أبو داود بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم فقال لأبي رافع: إصحبني فإنك تصيب منها فقال: حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله، فأتاه فسأله فقال: مولى القوم من أنفسهم وإنا لا تحل لنا الصدقة. واسم أبي رافع إبراهيم أو أسلم أو ثابت أو هرمز مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث عبد الرحمَن بن علقمة فأخرجه النسائي عنه قال: قدم وفد لثقيف(3/322)
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ أيضاً عن عبدِ الرحمَنِ بنِ عَلْقَمَةَ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ أَبي عَقِيلٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وجَدّ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ اسْمُهُ مُعَاوِيةُ بنُ حَيْدَةَ القُشَيْرِيّ.
قال أبو عيسى: حديثُ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
652 ـ حدثنا محمدُ بنُ المُثَنّى قال: حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ حدثنا شُعْبَةُ عن الحكَمِ عن ابنِ أبي رَافِعٍ عن أبي رَافِعٍ رضي الله عنه "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلاً مِنْ بَنيِ مَخْزُومٍ على الصّدَقة، فقالَ لأبي رَافِعٍ "اصحَبْنيِ كَيْمَا تُصيبَ منها"، فقال: لا حَتّى آتِيَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأَسْأَلَهُ، فانطَلَقَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فقال: "إنّ الصّدَقَةَ لاَ تَحِلّ لنَا وإن مَوَالِيَ القَوْمِ مِنْ أنْفُسِهِمْ".
ـــــــ
على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم هدية فقال: أهدية أم صدقة الحديث، وفيه: قالوا لا، فقبلها.
قوله: "عن عبد الرحمَن بن أبي عقيل" بفتح العين وكسر القاف "اسمه معاوية بن حيدة" بفتح الحاء المهملة وسكون التحتانية وفتح الدال المهملة "القشيري" قال في المغنى بضم قاف وفتح شين معجمة وسكون ياء منسوب إلى قشير بن كعب منه بهز بن حكيم انتهى.
قوله: "بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة" أي أرسله ساعياً ليجمع الزكاة ويأتي بها إليه، والرجل هو الأرقم بن أبي الأرقم قاله السيوطي "فقال" أي الرجل "اصحبني" أي رافقني وصاحبني في هذا السفر "كما تصيب" نُصب بكى وما زائدة أي لتأخذ "منها" أي من الصدقة "فقال لا" أي لا أصحبك "فاسأله" أي استأذنه، أو اسأله هل يجوز لي أم لا؟ "وإن موالي القوم" أي عتقاؤهم "من أنفسهم" بضم الفاء أي فحكمهم كحكمهم، والحديث يدل على تحريم الصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم وتحريمها على آله، ويدل على تحريمها على موال آل بني هاشم ولو كان الأخذ على جهة العمالة، قال الحافظ في الفتح: وبه قال أحمد وأبو حنيفة(3/323)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأَبو رَافِعِ مَوْلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم اسْمُهُ أسْلَمُ وابنُ أبي رَافِعٍ هُوَ عُبَيْدُ الله بنُ أبي رَافِعِ كَاتِبُ عليّ بن أبي طَالِبٍ رضي الله عنه.
ـــــــ
وبعض المالكية كإبن الماجشون وهو الصحيح عند الشافعية. وقال الجمهور: يجوز لهم لأنهم ليسوا منهم حقيقة، وكذلك لم يعوضوا بخمس الخمس ومنشأ الخلاف قوله: منهم أو من أنفسهم هل يتناول المساواة في حكم تحريم الصدقة أم لا، وحجة الجمهور أنه لا يتناول جميع الأحكام فلا دليل فيه على تحريم الصدقة، لكنه ورد على سبب الصدقة، وقد اتفقوا على أنه لا يخرج السبب وإن اختلفوا هل يخص به أو لا انتهى. قلت: والظاهر ما ذهب إليه أحمد وأبو حنيفة وغيرهما والله تعالى أعلم.
قوله: "وهذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي "وابن أبي رافع هو عبيد الله أبي رافع إلخ" ثقة من الثالثة(3/324)
26 ـ باب ما جَاءَ في الصّدَقَةِ على ذِيِ القَرَابَة
653 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عاصمٍ الأحْوَلِ عن حَفْصَةَ بِنْتِ سِيْرِيْنَ عن الرّبَابِ عن عمّها سَلْمَانَ بنِ عامرٍ يَبْلُغُ بِهِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "إذا أفْطَرَ أَحَدُكم فليُفْطِرْ على تَمْرٍ فإِنّهُ بَرَكَةٌ، فإِن لم يَجِد تَمْرَاً فالماءُ فإِنّهُ طَهُورٌ وقال: "الصّدَقَةُ على المسْكِينِ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الصّدَقَةِ على ذِيِ القَرَابَة
قوله: "عن حفصة بنت سيرين" أم الهذيل الأنصارية البصرية ثقة من الثالثة "عن الرباب" بفتح الراء وتخفيف الموحدة وآخرها موحدة.
قوله: "فإنه" أي التمر "بركة" أي ذو بركة وخير كثير، أو أريد به المبالغة. قال الطيبي: أي فإن الإفطار على التمر فيه ثواب كثير وبركة. وفيه أنه يرد على عدم حسن المقابلة بقوله: فإنه طهور، قاله القاري "فإن لم يجد تمراً فالماء " أي فالماء كاف للإفطار أو مجزئ عن أصل السنة "فإنه طهور" أي بالغ في الطهارة فيبتدأ(3/324)
صَدَقَةٌ وهِيَ على ذِي الرّحِمِ ثِنْتَانِ صدَقَةٌ وصِلَةٌ".
قال: وفي البابِ عن زَيْنَبَ امْرَأَةِ عبدِ الله بن مَسْعُودٍ وجابرٍ وأبي هُرَيْرَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ سَلْمَانَ بنِ عَامِرٍ حديثٌ حسنٌ. والرّبَابُ هَيِ اّمّ الرّائِحِ بنت صُلَيْعٍ. وهَكَذَا رَوَى سُفْيَانُ الثوريّ عن عَاصِمٍ عن حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرينَ عن الرّبَابِ عَن سَلْمَانَ بنِ عَامِرٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هذا الحديثِ. وَرَوَى شُعْبَةُ عن عَاصِمٍ عن حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرينَ عن سَلْمَانَ بنِ عَامِرٍ ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ "عن الرّبَابِ". وحديثُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وابْنِ عُيَيْنَةَ أَصَحّ. وهَكذَا رَوَى ابنُ عَوْنٍ وهِشَامُ بنُ حَسّانَ عن حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عن الرّبَابِ عن سَلْمَانَ بنِ عَامِرٍ.
ـــــــ
به تفاؤلا بطهارة الظاهر والباطن. قال الطيبي: لأنه مزيل المانع من أداء العبادة ولذا من الله تعالى على عباده {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وقال ابن الملك: يزيل العطش عن النفس انتهى. ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام عند الإفطار، ذهب الظمأ "الصدقة على المسكين" أي صدقة واحدة "وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة" يعني أن الصدقة على الأقارب أفضل لأنه خيران ولا شك أنهما أفضل من واحد.
قوله: "وفي الباب عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود وجابر وأبي هريرة" أما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه البخاري وفيه: قال نعم لها أجران أجر القرابة وأجر الصدقة. وأما حديث جابر فأخرجه أحمد. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم.
قوله: "وحديث سلمان بن عامر حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي، ولم يذكر: فإنه بركة غير الترمذي، وفي رواية أخرى: كذا في المشكاة. وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال صحيح الإسناد. كذا في الترغيب "والرباب هي أم الرائح" بالراء والهمزة والحاء المهملة "ابنة صليع" بمهملتين مصغرة(3/325)
27ـ باب ما جَاءَ أَن في المالِ حقا سِوى الزكاة
654 ـ حدثنا محمدُ بن أحمد بن مَدّوَيه، حدثنا الأسودُ بنُ عَامِرٍ عن شَرِيكٍ عن أبي حَمْزَةَ عن الشّعْبِيّ عن فَاطِمَةَ بنت قَيْس قالَتْ: سَأَلْتُ أو سُئِلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الزكاةِ فقال: "إنّ في المالِ لَحَقّاً سِوَى الزكاةِ" ثُمّ تَلاَ هذِهِ الآية الّتي في البَقَرَةِ: {لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ} الآية .
655 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ عبدِ الرحمَنِ أخبرنا محمدُ بنُ الطُفَيْلِ عن شَرِيكٍ عن أبي حمْزَةَ عن عَامِرٍ الشّعبيّ عن فَاطِمَةَ بِنْت قَيْسٍ عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ في المالِ حَقّاً سِوَى الزكاةِ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ أَن في المالِ حقا سِوى الزكاة
قوله: "حدثنا محمد بن مدويه" بفتح الميم وتشديد الدال قال الحافظ في التقريب: محمد بن أحمد بن الحسين بن مدويه بميم وتسكين الدال المهملة القرشي أبو عبد الرحمَن الترمذي صدوق من الحادية عشرة.
قوله: "إن في المال لحقاً سوى الزكاة" كفكاك أسير وإطعام مضطر وإنقاذ محترم، فهذه حقوق واجبة غيرها، لكن وجوبها عارض فلا تدافع بينه وبين خبر: ليس في المال حق سوى الزكاة. قاله المناوي في شرح الجامع الصغير. وقال القاري في المرقاة: وذلك مثل أن لا يحرم السائل والمستقرض، وأن لا يمنع متاع بيته من المستعير كالقدر والقصعة وغيرهما، ولا يمنع أحد الماء والملح والنار. كذا ذكره الطيبي وغيره انتهى "ثم تلا هذه الآية إلخ" أي قرأها اعتضاداً واستشهاداً، والآية بتمامها هكذا {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} قال الطيبي رحمه الله: وجه الاستشهاد أنه تعالى ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه ثم قفاه بإيتاء الزكاة فدل ذلك على أن في المال حقاً سوى الزكاة، قيل: الحق حقان: حق يوجبه الله تعالى على عباده، وحق يلتزمه العبد على نفسه الزكية الموقاة من الشح المجبول عليه الإنسان انتهى.(3/326)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ إسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ. وأبو حَمْزَةَ مَيْمُونٌ الأعْوَرُ يُضَعّفُ وَرَوَى بَيَانٌ وإسماعيلُ بنُ سَالِمٍ عن الشّعْبِيّ هذا الحديثَ قَوْلَهُ وهذا أصَحّ.
ـــــــ
قوله: "عن عامر" هو الشعبي الذي وقع في المسند التقدم "هذا حديث إسناده ليس بذاك" والحديث أخرجه أيضاً ابن ماجه والدارمي "وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف" قال أحمد: متروك الحديث، وقال الدارقطني: ضعيف. وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم. وقال النسائي: ليس بثقة كذا في الميزان(3/327)
28 ـ باب ما جَاء في فَضْلِ الصّدَقَة
656 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا اللّيْثُ عن سَعِيدٍ بن أبي سعيد المَقْبُرِيّ عن سَعِيدِ بنِ يَسَارٍ أنّهُ سَمِعَ أبا هريرةَ يقولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "ما تَصدقَ أحَدٌ بصَدَقَةٍ مِن طَيّبٍ ولا يَقْبَلُ الله إلاّ الطّيّبَ إلاّ أخَذَهَا الرّحْمَنُ بِيَمِينِهِ وإنْ كانَتْ تَمْرَةً تَرْبُو في كَفّ الرحمنِ حتّى تكُونَ أَعْظَمَ
ـــــــ
باب ما جَاء في فَضْلِ الصّدَقَة
قوله: "عن سعيد المقبري" هو ابن سعيد كيسان أبو سعد المدني ثقة من الثالثة تغير قبل موته بأربع سنين.
قوله: "من طيب" أي من حلال "ولا يقبل الله إلا الطيب" جملة معترضة لتقرير ما قبله. وفيه إشارة إلى أن غير الحلال غير مقبول. قال القرطبي: وإنما لا يقبل الله الصدقة بالحرام لأنه غير مملوك للمصدق وهو ممنوع من التصرف فيه والمتصدق به متصرف فيه فلو قبل منه لزم أن يكون الشيء مأموراً ومنهياً من وجه واحد وهو محال انتهى.
قوله: "إلا أخذها الرحمن بيمينه" وفي حديث عائشة عند البزار: فيتلقاها الرحمن بيده. قال في اللمعات: المراد حسن القبول ووقوعها منه عز وجل موقع الرضا، وذكر اليمين للتعظيم والتشريف وكلتا يدي الرحمن يمين انتهى. وقال الزبير ابن المنير: الكناية عن الرضا والقبول بالتلقي باليمين لتثبت المعاني المعقولة من(3/327)
مِنَ الجَبَلِ كما يُرَبّي أَحَدُكم فَلُوّهُ أو فَصِيلَه".
قال: وفي البابِ عن عائِشةَ وعَدِيّ بنِ حاتِمٍ وأنَسٍ وعبدِ الله بنِ أبي أَوْفَى وحَارِثَةَ بنِ وَهْبٍ وعبدِ الرحمَنِ بنِ عَوْفٍ وبُرَيْدَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
657 ـ حدثنا محمدُ بنُ إسماعيل، حدثنا موسى بنُ إسماعيلَ أخبرنا
ـــــــ
الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات، أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه، لا أن التناول كالتناول المعهود، ولا أن المتناول به جارحة انتهى. قلت: وسيجيء في هذا الباب ما هو الحق في أحاديث الصفات "تربو" أي تزيد "حتى تكون " أي التمرة "فلوه" بفتح الفاء ويضم وبضم اللام وتشديد الواو أي المهر وهو ولد الفرس "أو فصيله" ولابن خزيمة من طريق سعيد بن يسار عن أبي هريرة فلوه أو قال فصيله، وهذا يشعر بأن أو للشك قال الحافظ في الفتح: قال في القاموس: الفصيل ولد الناقه إذا فصل عن أمه جمعه فصلان بالضم والكسر وككتاب. وقال في النهاية: لارضاع بعد فصال أي بعد أن يفصل الولد عن أمه وبه سمي الفصيل من أولاد الإبل فعيل بمعنى مفعول، وأكثر من يطلق في الإبل وقد يقال في البقر انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وعدي بن حاتم وأنس وعبد الله بن أبي أوفى وحارثة بن وهب وعبد الرحمن بن عوف وبريدة" أما حديث عائشة فأخرجه مسلم، وأما حديث عدي بن حاتم فأخرجه الشيخان وأحمد والترمذي وابن ماجة كذا في شرح سراج أحمد. وأما حديث أنس فأخرجه الترمذي في هذا الباب.
وأما حديث عبد الله بن أبي أوفى فلينظر من أخرجه. وأما حديث حارثة بن وهب فأخرجه الشيخان وأحمد والنسائي. وأما حديث عبد الرحمن بن عوف فأخرجه ابن سعد وابن عدي في الكامل والطبراني في الأوسط. وأما حديث بريدة فأخرجه مسلم.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(3/328)
صَدَقَةُ بنُ موسى عن ثَابِتٍ عن أَنَسٍ قال: سُئِلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الصّوْمِ أفْضَلُ بَعْدَ رمَضَانَ؟ فقال: "شَعْبَانُ لِتَعْظيمِ رمَضَانَ"، قيال: فأَيّ الصّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قال: "صّدَقَةٌ في رَمَضَانَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ. وصَدَقَةُ بنُ موسى لَيْسَ عِندهُم بذاكَ القَوِيّ.
658 ـ حدثنا عُقْبَةُ بنُ مكْرَمٍ العميّ البصْرِيّ، حدثنا عبدُ الله بنُ عيسى الخَزّازُ البصري عن يونُسَ بن عُبَيْدٍ عن الحَسَنِ عن أنَسِ بنِ مالكٍ قال: قال
ـــــــ
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري أخبرنا موسى بن إسماعيل المنقري مولاهم أبو سلسة التبوذكي البصري، روى عن جرير بن حازم ومهدي ابن ميمون وخلق، وروى عنه البخاري وأبو داود، وروى الباقون عنه بواسطة الحسن بن الخلال ثقة ثبت.
قوله: "قال شعبان لتعظيم رمضان" أي صوم شعبان ليطابق المبتدأ، قال العراقي: يعارضه حديث مسلم عن أبي هريرة: أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وحديث أنس ضعيف وحديث أبي هريرة صحيح فيقدم عليه انتهى. وقال أبو الطيب السندي: ولا يعارضه حديث: أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ، لجواز أن يكون أفضل الصيام شعبان، ولعل المراد بتعظيم رمضان تعظيم صيامه بأن تتعود النفس له لئلا يقل على النفس فتكرهه طبعا ولئلا تخل بآدابه فجأة الصيام انتهى. ويأتي باقي الكلام في صوم شعبان في كتاب الصيام.
قوله: "وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوى" ضعفه ابن معين والنسائي وغيرهما، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه وليس بقوي كذا في الميزان، وقال الحافظ: صدوق له أوهام.
قوله: "حدثنا عقبة بن مكرم" بضم الميم وسكون الكاف وفتح الراء ثقة من الحادية عشرة "أخبرنا عبد الله بن عيسى الخزاز" بمعجمات ضعيف من التاسعة "عن يونس بن عبيد" أحد الأئمة من رجال الكتب الستة "عن الحسن" هو الحسن البصري.(3/329)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إِنّ الصّدقةَ لَتُطْفِيءُ غَضَبَ الرّبّ وتَدْفَعُ عن مِيتَة السّوءِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن غريبٌ مِنْ هذا الوجْهِ.
659 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ محمدُ بنُ العَلاَء حدثنا وَكيعٌ حدثنا عَبّادُ بنُ منصُورٍ حدثنا القاسِمُ بنُ محمدٍ قال: سَمِعْتُ أبا هريرةَ يقولُ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إنّ الله يَقْبَلُ الصّدَقَةَ ويَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فيُرَبّيهَا لأحَدِكُمْ كَمَا يُرَبّي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ، حتّى إنّ اللّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أحدٍ"، وتَصْدِيقُ ذلك في كِتَابِ الله عزّ وجَلّ {أَلَمْ يَعْملوُا أن الله هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عن عِبَادِهِ ويَأْخُذُ الصّدَقَاتِ} و {يمْحَقُ الله الرّبَا ويُرْبِي الصّدَقَاتِ}.
قال: هذا حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب" أي سخطه على من عصاه "وتدفع ميتة السوء" بكسر الميم وهي الحالة التي يكون عليها الإنسان في الموت، والسوء بفتح السين ويضم قال العراقي: الظاهر أن المراد بها ما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم الهدم والتردي والغرق والحرق وأن يتخبطه الشيطان عند الموت وأن يقتل في سبيل الله مدبراً، وقال بعضهم: هي موت الفجاءة، وقيل ميتة الشهرة كالمصلوب مثلا انتهى.
قوله: "كما يربى أحدكم مهره" بضم الميم وسكون الهاء قال في القاموس: المهر بالضم ولد الفرس أو أول ما ينتج منه ومن غيره. جمعه أمهار ومهار ومهارة والأنثى مهرة "وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} " قال العراقي: في هذا تخليط من بعض الرواة والصواب: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة الآية وقد رويناه في كتاب الزكاة ليوسف القاضي على الصواب انتهى.
قوله: "هذا حديث صحيح" وقد صرح بصحته المنذري في الترغيب "وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو هذا" تقدم لفظه وتخريجه.(3/330)
وقد رُوِيَ عن عائشةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوُ هذا.
وقد قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِنْ أَهلِ العلمِ في هذا الحديثِ وما يُشْبِهُ هذا مِنَ الرّوَايَاتِ مِنَ الصّفَاتِ ونُزُولِ الرّبّ تَبَارَكَ وتعاَلى كُلّ لَيْلَةٍ إلى السّمَاءِ الدّنْيَا، قالوا: قد تثبُتُ الرّوَايَاتُ في هذا ويؤمَنُ بِهَا ولا يُتَوَهّمُ ولا يُقَال كَيْفَ؟ هكَذَا رُوِيَ عن مالكِ وسُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ وعبدِ الله بنِ المبَارَكِ أنهم قالوا في هذه الأحَاديثِ: أَمِرّوها بلا "كَيْفَ"، وهكذا قَوْلُ أهلِ العلمِ مِنْ أهلِ السّنّةِ والجمَاعةِ. وأما الْجَهمِيَةُ فأَنْكَرَتْ هذهِ الرّوَاياتِ وقالوا هذا
ـــــــ
قوله: "وأمروها بلا كيف" بصيغة الأمر من الإمرار أي أجردها على ظاهرها ولا تعرضوا لها بتأويل ولا تحريف بل فوضوا الكيف إلى الله سبحانه وتعالى "وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة" وهو الحق والصواب. وقد صنف الحافظ الذهبي في هذا الباب كتاباً سماه كتاب العلو للعلي الغفار في إيضاح صحيح الأخبار وسقيمها، وهو كتاب مفيد نفيس نافع جداً، ذكر في أوله عدة آيات من آيات الاستواء والعلو ثم قال: فإن أحببت يا عبد الله الإنصاف فقف مع نصوص القرآن والسنة ثم انظر ما قاله الصحابة والتابعون وأئمة التفسير في هذه الآيات وما حكوه من مذاهب السلف، إلى أن قال: فإننا على اعتقاد صحيح وعقد متين من أن الله تعالى تقدس اسمه لا مثل له وأن إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بذاته المقدسة، إذ الصفات تابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري ونميز ذاته المقدسة عن الأشباه من غير أن نعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته نؤمن بها ونتعقل وجودها ونعلمها في الجملة من غير أن نتعقلها أو نكيفها أو نمثلها بصفات خلقه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فالاستواء كما قال الإمام مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول، ثم ذكر الذهبي الأحاديث الواردة في العلو واستوعبها مع بيان صحتها وسقمها، ثم ذكر بعد سرد الأحاديث أقوال كثير من الأئمة، وحاصل الأقوال كلها وهو ما قال إن إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بذاته المقدسة إلخ، ونقل عن الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفات فكلهم قالوا لي(3/331)
شْبِيهٌ. وقد ذَكَرَ الله عزّ وجلّ في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْيَدَ والسّمْعَ والبَصَرَ فَتَأَوّلَتْ الْجَهمِيّةُ هذِه الآيات ففَسّرُوهَا على غَيْرِ ما فَسّرَ أهلُ العِلمِ، وقالوا إنّ الله لم يَخْلُقْ آدَمَ بيَدِهِ، وقالوا إنّ مَعْنَى الْيَدِ ههنا القُوّةُ.
وقال إسحاقُ بنُ ابراهيمَ: إنّما يَكُونُ التّشْبِيهُ إذا قال يَدُ كيَدٍ أَوْ مِثْلُ يَدٍ، أَوْ سَمْعٌ كَسَمْعٍ أو مِثْلُ سَمْعٍ، فإِذا قالَ سَمْعٌ كَسَمْعٍ أو مِثْلُ سَمْعٍ فهذا التَشْبِية. وأما إذا قال كما قالَ الله تعالى يَدٌ وسَمْعٌ وبَصَرٌ ولا يقولُ كَيْفَ ولا يَقُولُ مِثْلُ سَمْعٍ ولا كَسَمْعٍ فهذا لا يَكُونُ تَشْبِيهاً وهُوَ كَمَا قالَ الله تعالَى في كتَابِهِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ}.
ـــــــ
أمروها كما جاءت بلا تفسير وإن شئت تفاصيل تلك الأقوال فارجع إلى كتاب العلو.
قوله: "وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات إلخ" قال الحافظ في مقدمة الفتح: الجهمية من ينفي صفات الله تعالى التي أثبتها الكتاب والسنة ويقول القرآن مخلوق "وقالوا هذا تشبيه" وذهبوا إلى وجوب تأويلها "فتأولت الجهمية هذه الآيات وفسروها على غير ما فسر أهل العلم" فتفسيرهم هذه الآيات ليس إلا تحريفاً لها، فالحذر الحذر عن تأويلهم وتفسيرهم "وقالوا إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا إنما معنى اليد القوة" فغرضهم من هذا التأويل هو نفي اليد لله تعالى ظناً منهم أنه لو كان له تعالى يد لكان تشبيهاً، ولم يفهموا أن مجرد ثبوت اليد له تعالى ليس بتشبيه "وقال إسحاق بن إبراهيم" هو إسحاق بن راهويه "إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد إلخ" هذا جواب عن قول الجهمية(3/332)
29 ـ باب ما جَاءَ في حَقّ السّائل
660 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا اللّيْثُ بن سعد عن سعِيدِ بنِ أبي سعيد عن عبدِ الرحمَنِ بنِ بُجَيدٍ عن جَدّتِهِ أُم بُجَيْدٍ "وكانت مِمّنْ بَايَعَ رسول الله صلى الله
ـــــــ
باب ما جَاءَ في حَقّ السّائل
قوله: "عن سعيد بن أبي هند" الفزاري مولاهم ثقة من الثالثة "عن عبد الرحمَن بن بجيد" بضم الموحدة وفتح الجيم مصغراً له روية ذكره بعضهم في الصحابة(3/332)
عليه وسلم أنها قالَت لِرَسولِ الله صلى الله عليه وسلم إنّ المِسْكِينَ لَيَقُومُ على بَابِي فَمَا أَجِدُ لَهُ شَيْئاً أُعْطِيْهِ إيّاهُ، فقالَ لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم تَجِدِي شَيْئاً تُعِطينه إيّاهُ إلاّ ظِلْفاً مُحْرَقاً فادْفَعِيهِ إليه في يَدِهِ".
قال: وفي البابِ عن علي وحُسَيْنِ بنِ علي وأبي هريرةَ وأبي أُمَامَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أُمّ بُجَيْدٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
عن جدته أم بجيد" يقال إن اسمها حواء صحابية.
قوله: "إلا ظلفا" بكسر الظاء المعجمة وإسكان اللام وبالفاء هو للبقر والغنم كالحفر للفرس "محرقاً" اسم مفعول من الإحراق، وقيد الإحراق مبالغة في رد السائل بأدنى ما يتيسر أي لا ترديه محروماً بلا شيء مهما أمكن حتى إن وجدت شيئاً حقيراً مثل الظلف المحرق اعطيه إياه. وقال القاضي أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي: اختلف في تأويله فقيل ضربه مثلاً للمبالغة كما جاء: من نبي الله له بيتاً في الجنة ، وقيل إن الظلف المحرق كان له عندهم قدراً بأنهم يسحقونه ويسفونه انتهى.
قوله: "وفي الباب عن علي وحسين بن علي وأبي هريرة وأبي أمامة" أما حديث علي فأخرجه أبو داود بمثل حديث حسين بن علي الآتي وفي سنده رجل مجهول، وأما حديث حسين بن علي فأخرجه أيضاً أبو داود مرفوعاً بلفظ: للسائل حق وإن جاء على فرس وإسناده حسن إلا أنه مرسل، قال أبو علي بن السكن وأبو القاسم البغوي وغيرهما: كل روايات حسين بن علي رضي الله عنه مراسيل فهو مرسل صحابي وجمهور العلماء على الاحتجاج به. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان مرفوعاً بلفظ: لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة، وأما حديث أبي أمامة فلينظر من أخرجه .
قوله: "حديث أم بجيد حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود(3/333)
30 ـ باب ما جَاءَ في إعْطَاءِ المُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُم
661 ـ حدثنا الحَسنُ بنُ علي الخَلاّلُ، حدثنا يَحْيى بنُ آدَمَ عن
ـــــــ(3/333)
ابنِ المبارَكِ عن يُونُسَ بن يزيد عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن صَفْوَانَ بنِ أُمَيّةَ قال "أعْطَانِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَومَ حُنَيْنٍ وإنَهُ لأبْغَضُ الخَلْقِ إلَيّ فمَا زَالَ يُعْطِينيِ حَتّى إنّهُ لأحَبّ الخَلْقِ إليّ".
قال أبو عيسى: حدثني الحَسنُ بنُ علي بهذا أو شِبْههِ في المُذَاكَرَةِ قال: وفي البابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ صَفْوَانَ رَوَاهُ مَعْمَرٌ وغَيْرُهُ عن الزّهْرِيّ عن سَعِيدِ بنِ المَسيّبِ أنّ صَفْوَانَ بنَ أُمَيّةَ قال: "أعْطَانِي رسولُ الله صلى الله
ـــــــ
"باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم"
قال ابن العربي: اختلف الناس في المؤلفة قلوبهم هل كانوا مسلمين لكن إسلامهم كان يتوقع عليه الضعف أو الذهاب فأعطوا تثبيتاً، وقيل: بل كانوا كفاراً أعطوا استكفاء لشرهم واستعانة للمجاهدين المحاربين بهم، وهذا هو الصحيح وعليه تدل الأخبار كلها انتهى. قلت: في قوله "وعليه تدل الأخبار كلها" نظر ففي حديث أنس عند مسلم: فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم الحديث.
قوله: "أخبرنا يحيى بن آدم" بن سليمان الكوفي أبو زكريا مولى بني أمية ثقة حافظ فاضل من كبار التاسعة مات سنة ثلاث ومائتين "عن صفوان بن أمية" بن خلف بن وهب القرشي الجمحي المكي صحابي من المؤلفة، مات أيام قتل عثمان "يوم حنين" كزبير موضع بين الطائف ومكة.
قوله: "وبهذا أو شبهه" كأن الترمذي لم يضبط لفظ حديث الحسن بن علي ضبطاً كاملاً فلذلك قال هذا.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد" أخرجه مسلم. قلت: وفي الباب أيضاً عن أنس أخرجه أحمد بإسناد صحيح، وعن عمرو بن تغلب أخرجه أحمد والبخاري. قال الشوكاني في النيل: وفي الباب أحاديث كثيرة قال: وقد عد ابن الجوزي أسماء المؤلفة قلوبهم في جزء مفرد فبلغوا نحو الخمسين نفساً انتهى.(3/334)
عليه وسلم" وكَأَنّ هذا الحديثَ أَصَحّ وأَشْبَهُ إنّما هُوَ "سَعِيدُ بنُ المسَيّبِ أنّ صَفْوَانَ".
وقد اخْتَلَفَ أهلُ العلمِ في إعْطَاءِ المؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَرَأَى أكثرُ أهلِ العلمِ أنّ لا يُعْطَوْا وقالوا إنّما كانوا قَوْماً على عَهْدِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كان يَتَأَلّفُهم على الإسْلاَمِ حتّى أَسْلَمُوا، ولَمْ يَروْا أَنْ يُعْطَوْا اليَوْمَ مِنَ الزكاةِ على مِثْلِ هذا المعنَى، وهو قولُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وأَهلِ الكُوفَةِ وغَيْرِهِم، وبِهِ يقولُ أحمدُ وإسحاقُ.
وقال بَعْضُهُم: مَنْ كانَ اليَوْمَ على مِثْلِ حَالِ هَؤلاَءِ وَرَأَى الإمامُ أنْ يَتَأَلّفَهُمْ على الإسْلاَمِ فأعْطَاهُم جَازَ ذلكَ، وهو قَوْلُ الشّافعيّ.
ـــــــ
قوله: "رواه معمر وغيره عن الزهري عن سعيد بن المسيب أو صفوان بن أمية الخ" أي بلفظ "إن" مكان لفظ "عن" "وكأن هذا الحديث" أي حديث معمر وغيره بلفظ: أن صفوان بن أمية "أصح وأشبه" من حديث يونس بلفظ. عن صفوان بن أمية، ويونس هذا هو ابن يزيد الأيلي، قال الحافظ في التقريب ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلاً "إنما هو سعيد بن المسيب أن صفوان بن أمية" قال ابن العربي في العارضة. الصحيح من هذا عن سعيد بن المسيب أن صفوان بن أمية لأن سعيداً لم يسمع من صفوان شيئاً وإنما يقول الراوي فلان عن فلان إذا سمع شيئاً ولو حديثاً واحداً فيحمل سائر الأحاديث التي سمعها من واسطة عنه على العنعنة، فأما إذا لم يسمع منه شيئاً فلا سبيل إلى أن يحدث عنه لا بعنعنة ولا بغيرها انتهى.
قوله: "فرأى أكثر أهل العلم أن لا يعطوا الخ" قال الزيلعي في نصب الراية: روى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر الشعبي قال: إنما كانت المؤلفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه انقطعت انتهى. قال الحافظ في الدراية: في إسناده جابر الجعفي وأخرجه الطبراني وأخرجه عن الحسن نحوه، وروى الطبراني من طريق حبان(3/335)
ـــــــ
بن أبي جبلة أن عمر لما أتاه شيبة بن حصين قال: الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. يعني ليس اليوم مؤلفة "وقال بعضهم من كان اليوم على مثل هؤلاء ورأى الإمام أن يتألفهم على الإسلام فأعطاهم جاز ذلك. وهو قول الشافعي" قال ابن العربي: قال قوم إذا احتاج الإمام إلى ذلك الآن فعله وهو الصحيح عندي، وبه قال الشافعي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً"، فكل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لحكمة وحاجة وسبب فوجب أن السبب والحاجة إذا ارتفعت أي يرتفع الحكم وإذا عادت أن يعود ذلك انتهى. وقال الشوكاني في النيل: والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه، فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب فله أن يتألفهم ولا يكون لفشو الإسلام تأثير لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة إنتهى(3/336)
باب ما جاء في المتصدق يرث الصدقة
...
31 ـ باب ما جَاءَ في المُتَصَدّقّ يَرِثُ صَدَقَته
662 ـ حدثناعليّ بنُ حُجْرٍ، حدثنا عليّ بنُ مُسْهِرٍ عن عبدِ الله بنِ عَطَاءٍ عن عبدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ عن أبيهِ قال: "كُنْتُ جَالِساً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ أتَتَهُ امْرَأَةٌ فقالت يا رسولَ الله إني كُنْتُ تَصَدّقْتُ على أُمّي بِجَارِيَةٍ وإنّهَا مَاتَتْ، قال: وَجَبَ أَجْرُكِ، وَرَدّهَا عَلَيْكِ المِيرَاثُ، قالت: يا رسولَ الله إنّها كانَ عليها صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قال: صُومِي عَنْهَا
ـــــــ
باب ما جَاءَ في المُتَصَدّقّ يَرِثُ صَدَقَته
قوله: " قال وجب أجرك" أي بالصلة " وردها عليك الميراث" النسبة مجازية أي رد الله الجارية عليك بالميراث وصارت الجارية ملكاً لك بالإرث وعادت إليك بالوجه الحلال، والمعنى أنه ليس هذا من باب العود في الصدقة لأنه ليس أمراً إختيارياً. قال ابن الملك: أكثر العلماء على أن الشخص إذا تصدق بصدقة على قريبه ثم ورثها حلت له، وقيل يجب صرفها إلى فقير لأنها صارت حقاً لله تعالى انتهى. وهذا تعليل في معرض النص فلا يعقل كذا في المرقاة.
قوله: "صومي عنها" قال الطيبي: جوز أحمد أن يصوم الولي عن الميت ما كان(3/336)
لت: يا رسولَ الله إنّهَا لَمْ تَحُجّ قَط أَفأَحُجّ عَنْهَا؟ قال: نَعم حُجّي عَنْهَا".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لا يُعْرَفُ هذا مِنْ حديثِ بُرَيْدَةَ إلا مِنْ هذا الوَجْهِ. وعبدُ الله بنُ عَطَاءٍ ثِقَةٌ عِنْدَ أهلِ الحديثِ. والعملُ على هذا عِنْدَ أكثَرِ أهلِ العلمِ أنّ الرّجُلَ إذا تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ ثم وَرِثهَا حَلّتْ لَهُ.
وقال بَعْضُهم إنّما الصدقةَ شَيْءٌ جَعَلَهَا لله، فإِذا وَرِثَهَا فَيَجِبُ أَنْ يَصْرِفَهَا في مِثْلِهِ. وَرَوَى سُفْيَانُ الثّوْرِيّ وزُهَيْر بنُ مُعَاوِيَةَ هذا الحديثَ عن عبدِ الله بنِ عَطَاء.
ـــــــ
عليه من قضاء رمضان أو نذر أو كفارة بهذا، ولم يجوز مالك والشافعي وأبو حنيفة انتهى، بل يطعم عنه وليه لكل يوم صاعاً من شعير أو نصف صاع من بر عند أبي حنيفة، وكذا لكل صلاة، وقيل لصلوات كل يوم، كذا في المرقاة. قلت: ما قال أحمد هو ظاهر الحديث، ويجيء تحقيق هذه المسألة في موضعها.
قوله: "قال نعم حجى عنها" أي سواء وجب عليها أم لا، أوصت به أم لا، قال ابن الملك: يجوز أن يحج أحد عن الميت بالإنفاق "وعبد الله بن عطاء ثقة عند أهل الحديث" ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدوري عن ابن معين عبد الله بن عطاء صاحب ابن بريدة ثقة كذا هو في تاريخ الدوري رواية أبي سعيد بن الأعرابي عنه. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "وقال بعضهم إنما الصدقة شيء جعلها الله فإذا ورثها فيجب أن يصرفها في مثله" قول هذا البعض تعليل في معرض النص فلا يلتفت إليه، والحق هو ما ذهب إليه أكثر أهل العلم(3/337)
32 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ العَوْدِ في الصّدَقَة
663حدثنا هارونُ بنُ إسحاقَ الهَمْدَانِيّ حدثنا عبدُ الرّزّاق عن
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ العَوْدِ في الصّدَقَة
قوله: "حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني" بسكون الميم الكوفي أبو القاسم(3/337)
مَعْمَرٍ عن الزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن ابنِ عُمَر عن عُمَر أنّهُ حَمَلَ على فَرَسٍ في سبيلٍ الله ثم رَآهَا تُبَاعُ فأرادَ أن يَشْتَرِيَهَا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "لا تَعْدُ في صَدَقَتِكِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ. والعملُ على هَذا عِنْدَ أكثَرِ أهلِ العلمِ.
ـــــــ
صدوق من صغار العاشرة "أنه حمل على فرس في سبيل الله" المراد أنه ملكه إياه ولذلك ساغ له بيعه. ومنهم من قال: كان عمر قد حبسه وإنما ساغ للرجل بيعه لأنه حصل فيه هزال عجز بسببه عن اللحاق بالخيل وضعف عن ذلك وانتهى إلى عدم الإنتفاع به، ويرجح الأول قوله: "لا تعد في صدقتك" ولو كان حبساً لعلة به، كذا في النيل.
قوله: "ولا تعد في صدقتك" زاد الشيخان في رواية: وإن أعطاك بدرهم فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه. قال ابن الملك: ذهب بعض العلماء إلى أن شراء المتصدق صدقته حرام لظاهر الحديث، والأكثرون على أنها كراهة تنزيه لكون القبح فيه لغيره، وهو أن المتصدق عليه ربما يسامح المتصدق في الثمن بسبب تقدم إحسانه فيكون كالعائد في صدقته في ذلك المقدار الذي سومح انتهى.
فإن قلت: هذا الحديث يعارضه حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: لا تحل الصدقة إلا لخمسة: لعامل عليها أو رجل إشتراها بماله الحديث، فكيف الجمع بينهما؟ قلت: جمع بينهما مجمل حديث الباب على كراهة التنزيه. وقال الشوكاني: الظاهر أنه لا معارضة بين هذين الحديثين، فإن حديث عمر في صدقة التطوع، وحديث أبي سعيد في صدقة الفريضة، فيكون الشراء جائزاً في صدقة الفريضة لأنه لا يتصور الرجوع فيها حتى يكون الشراء مشبهاً له بخلاف صدقة التطوع فإنه يتصور الرجوع فيها فكره ما يشبهه وهو الشراء انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم(3/338)
باب ما جاء في الصدقة الميت
...
33ـ باب ما جَاءَ في الصدقةِ عن المَيّت
664 ـ حدثنا أحمدُ بنَ مَنِيعٍ، حدثنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ حدثنا زَكَرِيّا بنُ إسحاقَ قال: حدثني عَمْروُ بنُ دِينارٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عباس "أنّ رَجُلاً قالَ: يا رسولَ الله إنّ أُمّي تُوُفّيَتْ أفَيَنْفَعُها إنْ تَصَدّقْتُ عنها؟، قالَ: نَعم، قالَ: فإنّ لي مَخْرَفاً فأُشْهِدُكَ أنّي قد تَصَدّقْتُ بِهِ عنها".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ وبِهِ يقولُ أهلُ العِلمِ. يقُولُونَ: لَيْسَ شَيْءٌ يَصِلُ إلى المَيّتِ إلاّ الصَدَقَةُ والدُعَاءُ.
وقد رَوَى بَعْضُهُم هذا الحدِيثَ عن عَمْروِ بنِ دِينَارٍ عن عِكْرِمَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلاً قال: ومَعْنَى قَوْلِهِ "إنّ لي مَخْرَفاً " يعْنِي بُسْتَاناً.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الصدقةِ عن المَيّت
قوله: "أفينفعها إن تصدقت عنها" بكسر الهمزة على أنها شرطية وفاعل ينفع ضمير راجع إلى التصدق المفهوم من الشرط ولا يلزم الإضمار قبل الذكر، لأن قوله أفينفعها" في معنى جزاء الشرط فكأنه متأخر عن الشرط رتبة، أو يقال إن المرجع متقدم حكماً لأن سوق الكلام دال عليه كما في قوله تعالى { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} أي أبوي الميت، قاله أبو الطيب السندي.
قوله: "فان لي مخرفاً" بفتح الميم الحديقة من النخل أو العنب أو غيرهما "فأشهدك" بصيغة المتكلم من الإشهاد "به" أي بالمخرف "عنها" أي عن أمي.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي.
قوله: "وبه يقول أهل العلم: يقولون ليس شيء يصل إلى الميت إلا الصدقة والدعاء" أي وصول نفعهما إلى الميت مجمع عليه لا اختلاف بين علماء أهل السنة والجماعة، واختلف في العبادات البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن. قال القاري في شرح الفقه الأكبر: ذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف رحمهما الله إلى وصولها، والمشهور من مذهب الشافعي ومالك عدم وصولها انتهى.(3/339)
ـــــــ
وقال في المرقاة: قال السيوطي في شرح الصدور: إختلف في وصول ثواب القرآن للميت، فجمهور السلف والأئمة الثلاثة على الوصول، وخالف في ذلك إمامنا الشافعي مستدلاً بقوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وأجاب الأولون عن الآية بأوجه: أحدها إنها منسوخة بقوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية ، أدخل الأبناء الجنة بصلاح الاَباء. الثاني: أنها خاصة بقوم إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، فأما هذه الأمة فلها ما سعت وما سعى لها، قاله عكرمة. الثالث: أن المراد بالإنسان هنا الكافر، فأما المؤمن، فله ما سعى وسعى له، قاله الربيع بن أنس. الرابع: ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، فأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله ما شاء، قاله الحسين بن فضل. الخامس: أن اللام في الإنسان بمعنى على، أي ليس على الإنسان إلا ما سعى، واستدلوا على الوصول بالقياس على الدعاء والصدقة والصوم والحج والعتق فإنه لا فرق في نقل الثواب بين أن يكون عن حج أو صدقة أو وقف أو دعاء أو قراءة، وبما أخرج أبو محمد السمرقندي في فضائل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عن علي مرفوعاً: من مر على المقابر وقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إحدى عشرة مرة ثم وهب أجره للأموات أعطى من الأجر بعدد الأموات. وبما أخرج أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني في فوائده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل المقابر ثم قرأ فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد وألهاكم التكاثر ثم قال إني جعلت ثواب ما قرأت من كلامك لأهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات كانوا شفعاء له إلى الله تعالى" ، وبما أخرج صاحب الخلال بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم وكان له بعدد من فيها حسنات". وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فمجموعها يدل على أن لذلك أصلاً وأن المسلمين ما زالوا في كل مصر وعصر يجتمعون ويقرأون لموتاهم من غير نكير فكان ذلك إجماعاً، ذكر ذلك كله الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي في جزء ألفه في المسألة انتهى ما في المرقاة بتقديم وتأخير.
قلت: قوله فمجموعها يدل على أن لذلك أصلاً فيه تأمل، فلينظر هل يدل مجموعها على أن لذلك أصلاً أم لا، وليس كل مجموع من عدة أحاديث ضعاف(3/340)
ـــــــ
يدل على أن لها أصلاً. فأما قوله: وأن المسلمين ما زالوا في كل مصر وعصر يجتمعون ويقرأون لموتاهم ففيه نظر ظاهر، فإنه لم يثبت عن السلف الصالحين رضي الله عنهم اجتماعهم وقراءتهم لموتاهم، ومن يدعي ثبوته فعليه البيان بالإسناد الصحيح. وقال الشوكاني في النيل: والحق أنه يخصص عموم الآية يعني آية { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} بالصدقة من الولد وبالحج من الولد ومن غير الولد أيضاً وبالعتق من الولد لما ورد في هذا كله من الحديث، وبالصلاة من الولد أيضاً. لما روى الدارقطني أن رجلاً قال: يا رسول الله إنه كان لي أبوان أبرهما في حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن من البر أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صيامك." قال: وبالصيام من الولد لهذا الحديث ولحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم أن امرأة قالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر؟ فقال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يودي ذلك عنها" قالت: نعم، قال: "فصومي". ومن غير الولد لحديث: من مات وعليه صيام صام عنه وليه. متفق عليه من حديث عائشة. قال: وبقراءة يس من الولد وغيره لحديث: "إقرأوا على موتاكم يس"، قال: وبالدعاء من الولد وغيره لحديث: "أو ولد صالح يدعو له"، ولحديث: "أستغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت"، ولغير ذلك من الأحاديث وبجميع ما يفعله الولد لوالديه من أعمال البر لحديث: "ولد الإنسان من سعيه". وقد قيل: إنه يقاس على هذه المواضع التي وردت بها الأدلة غيرها فيلحق الميت كل شيء فعله غيره. هذا تلخيص ما قاله الشوكاني في النيل.
قلت: وحديث الدارقطني الذي ذكره الشوكاني ضعيف لا يصلح للاحتجاج، وذكره مسلم في مقدمة صحيحه وذكر وجه ضعفه(3/341)
34ـ باب ما جاءَ في نَفَقَةِ المرأةِ مِن بَيْتِ زَوْجِهَا
665 ـ حدثنا هنّادُ حدثنا إسماعيلُ بنُ عَيّاشِ، حدثنا شُرَحْبِيلُ بنُ مُسْلِمٍ الخَوْلاَنِيّ عن أَبي أُمَامَةَ البَاهِلِيّ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله
ـــــــ
باب ما جاءَ في نَفَقَةِ المرأةِ مِن بَيْتِ زَوْجِهَا
قوله: "لا تنفق" نفي وقيل نهى "إلا بإذن زوجها" أي صريحاً أو دلالة "قال(3/341)
عليه وسلم في خُطْبَتِهِ عَامَ حَجّةِ الوَدَاعِ يقول: "لا تُنفِق امْرَأَةٌ شيئاً مِنْ بَيْتِ زَوْجهَا إلاّ بإِذْنِ زَوْجِهَا"، قيلَ يا رسُولَ الله ولا الطّعَامُ؟ قالَ: "ذاكَ أفْضَلُ أَمْوَالِنَا".
وفي الباب عن سَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ وأَسْمَاءَ بنت أبي بَكْرٍ وأَبي هُرَيْرَةَ وعبدِ الله بنِ عَمْروٍ وعائشةَ رضي الله عنها.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي أُمَامَةَ حديثٌ حسنٌ.
666 ـ حدثنا محمدُ بنُ المُثَنّى، حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ حدثنا شُعْبَةُ عن
ـــــــ
ذلك أفضل أموالنا" يعني فإذا لم تجز الصدقة بما هو أقل قدراً من الطعام بغير إذن الزوج فكيف تجوز بالطعام الذي هو أفضل.
قوله: "وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص" أخرجه أبو داود بلفظ قال: لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر. فقالت يا نبي الله أنأكل على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا ما يحل لنا من أموالهم؟ قال: الرطب تأكلنه وتهدينه "وأسماء بنت أبي بكر" أخرجه عبد الرزاق بلفظ: أن أسماء بنت أبي بكر قالت: ما لي شيء إلا ما يدخل على الزبير فأتصدق منه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنفقي ولا توكي فيوكى عليك" "وأبي هريرة" أخرجه الشيخان مرفوعاً بلفظ: إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فلها نصف أجره " وعبد الله بن عمرو" لينظر من أخرجه "وعائشة" أخرجه الشيخان وأخرجه الترمذي أيضاً في هذا الباب.
قوله: "حديث أبي أمامة حديث حسن" في سنده إسماعيل بن عياش الحمصي صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم، وقد روى هذا الحديث عن شرحبيل بن مسلم الخولاني وهو من أهل بلده فإنه شامي. قال في التقريب في ترجمته: صدوق فيه لين، وقال في الخلاصة: وثقه العجلي وأحمد وضعفه ابن معين.(3/342)
عَمْروِ بنِ مُرّةَ قالَ: سَمِعْتُ أبا وَائِلٍ يُحَدّثُ عن عَائشةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا تَصَدّقَتِ المرأَةُ مِن بَيْتِ زَوْجِهَا كانَ لها بِهِ أجْرٌ وللزّوجِ مِثْلُ ذلكَ وللخازِنِ مِثْلُ ذلكَ ولا ينقُصُ كُلّ واحدٍ منهم مِنْ أَجْرِ صَاحِبِهِ شيئاً لَهُ بِمَا كَسَبَ ولهَا بِمَا أَنْفَقَتْ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ.
667 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا المُؤمّلُ عن سُفْيَانَ عن مَنْصُورٍ عن أبي وَائِلٍ عن مَسْرُوقٍ عن عائِشَةَ قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إذا أعْطَتِ المرأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِطِيبِ نَفْسٍ غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كان لها مِثْلُ أجْرِهِ لها ما نَوَتْ حَسناً وللخازِنِ مِثْلُ ذلكَ".
ـــــــ
قوله: "إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها" أي بطيب نفس غير مفسدة كما في الرواية الاَتية، وفي رواية للبخاري: من طعام بيتها.
قوله: "وللخازن" أي الذي كانت النفقة بيده "له بما كسب" أي للزوج بسبب كسبه وتحصيله "ولها بما أنفقت" أي وللزوجة بسبب إنفاقها. قال محي السنة: عامة العلماء على أنه لا يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه وكذا الخادم. والحديث الدال على الجواز أخرج على عادة أهل الحجاز يطلقون الأمر للأهل والخادم في التصدق والإنفاق عند حضور السائل ونزول الضيف كما قال عليه الصلاة والسلام: لا توعي فيوعى الله عليك انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن وأخرجه البخاري ومسلم".
قوله: "إذا أعطت المرأة من بيت زوجها" أي أنفقت وتصدقت "غير مفسدة" نصب على الحال أي غير مسرفة في التصدق. وهذا محمول على إذن الزوج لها بذلك صريحاً أو دلالة، وقيل هذا جار على عادة أهل الحجاز فإن عاداتهم أن يأذنوا لزوجاتهم وخدمهم بأن يضيفوا الأضياف ويطعموا السائل والمسكين والجيران فحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته على هذه العادة الحسنة والخصلة المستحسنة، كذا في المرقاة "فإن لها مثل أجره" أي للمرأة مثل أجر الزوج "لها ما نوت حسناً" حال من الموصولة في قوله: ما نوت كذا في بعض الحواشي.(3/343)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهذا أَصحّ مِنْ حديثِ عَمْرِو بن مُرّةَ عن أبي وَائِلٍ. وعَمْروُ بن مُرّةَ لا يذْكُرُ في حديِثهِ عن مَسْرُوقٍ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وهو أصح من حديث عمرو بن مرة عن أبي وائل" أي حديث منصور عن أبي وائل بذكر مسروق أصح من حديث عمرو بن مرة عن أبي وائل بدون ذكر مسروق فإنه قد تابع منصوراً الأعمش في ذكر مسروق كما في صحيح البخاري(3/344)
35 ـ باب ما جاءَ في صَدَقَةِ الفِطر
668 ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلاَنَ، حدثنا وكِيعٌ عن سُفْيَانَ عن زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عن عِيَاضِ بنِ عبدِ الله عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ قال: "كُنّا نُخْرِجُ زكاةَ الفِطْرِ إذ كانَ فِينَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صَاعاً مِنْ طَعَامٍ أو صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ أو صَاعاً مِنْ تَمْرٍ أو صَاعاً مِن زَبِيبٍ أو صَاعاً مِنْ
ـــــــ
باب ما جاءَ في صَدَقَةِ الفِطر
أي من رمضان فأضيفت الصدقة للفطر لكونها تجب بالفطر منه ويقال لها زكاة الفطر وزكاة رمضان وزكاة الصوم، وكان فرضها في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان قبل العيد بيومين، قاله القسطلاني.
قوله: "صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر" ظاهره المغايرة بين الطعام وبين ما ذكر بعده وقد حكى الخطابي أن المراد بالطعام هنا الحنطة وأنه اسم خاص له، قال هو وغيره قد كانت لفظة الطعام تستعمل في الحنطة عند الإطلاق حتى إذا قيل اذهب إلى سوق الطعام فهم منه سوق القمح، وإذا غلب العرف نزل اللفظ عليه. قال الحافظ في الفتح. وقد رد ذلك ابن المنذر وقال ظن بعض أصحابنا أن قوله في حديث أبي سعيد صاعاً من طعام حجة لمن قال صاع من حنطة وهذا غلط منه، وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام ثم فسره ثم أورد طريق حفص بن ميسرة عند البخاري وغيره إن أبا سعيد قال. كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم(3/244)
36 ـ باب ما جَاءَ في تَقْديِمها قبلَ الصّلاة
672 ـ حدثنا مُسْلِمُ بنُ عَمْروِ بنِ مُسلْمٍ أبو عَمْروٍ الحَذّاءُ المدني حدّثَنيِ عبدُ الله بنِ نَافِعٍ الصائغُ عن ابنِ أبي الزّنَادِ عن موسى بنِ عُقْبَةَ عن نَافِعٍ عن ابنِ عُمَر "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يَأْمُرُ بإِخْرَاجِ الزكاةِ قَبْلَ الغدو للِصلاةِ يَوْمَ الفِطْرِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب. وهو الذي يَسْتَحِبّهُ أهلُ العلمِ أنْ يُخْرِجَ الرّجُلُ صَدَقَةَ الفِطْرِ قَبْلَ الغَدُوّ إلى الصّلاةِ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في تَقْديِمها قبلَ الصّلاة
قوله: "عن ابن أبي الزناد" اسمه عبد الرحمَن المدني مولى قريش صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد وكان فقيهاً من السابعة "عن موسى بن عقبة" بن أبي عياش الأسدي مولى آل الزبير ثقة فقيه إمام في المغازي من الخامسة لم يصح أن ابن معين لينه "كان يأمر بإخراج الزكاة قبل الغدو للصلاة يوم الفطر" الغدو المشي أول النهار أي قبل خروج الناس للصلاة وبعد صلاة الفجر.
قوله: "هذا حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم(3/351)
ـــــــ
بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن يؤدى قبل خروج الناس للصلاة وبعد صلاة الفجر.
قوله: "وهو الذي يستحبه أهل العلم الخ" قال ابن عيينة في تفسيره: عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته فإن الله يقول {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} ولابن خزيمة من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال نزلت في زكاة الفطر. كذا في فتح الباري. وفي صحيح البخاري: وكان ابن عمر يعطيها للذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين. قال البخاري: كانوا يعطون ليجمع لا للفقراء.
وفي موطأ الإمام مالك عن نافع أن ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي يجمع قبل الفطر بيومين أو ثلاثة قال الحافظ في الفتح: وأخرجه الشافعي عنه وقال هذا حسن وأنا أسحبه، يعني تعجيلها قبل يوم الفطر انتهى. ويدل على ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري في الوكالة وغيرها عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان الحديث، وفيه: أنه أمسك الشيطان ثلاث ليال وهو يأخذ من التمر، فدل على أنهم كانوا يعجلونها، وعكسه الجوزقي فاستدل به على جواز تأخيرها عن يوم الفطر وهو محتمل للأمرين انتهى.
قلت: أثر ابن عمر رضي الله عنه إنما يدل على جواز إعطاء صدقة الفطر قبل الفطر بيوم أو يومين ليجمع لا للفقراء كما قال البخاري رحمه الله، وكذلك حديث أبي هريرة. وأما إعطاؤها قبل الفطر بيوم أو يومين للفقراء فلم يقم عليه دليل والله أعلم(3/352)
باب ما جاء في التعجيل الزكاة
...
37 ـ باب ما جَاءَ في تعجيل الزكاة
673 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ عبدِ الرحمَنِ، أخبرنا سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في تعجيل الزكاة
قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمَن" بن الفضل بن بهرام السمرقندي أبو محمد الحافظ صاحب المسند ثقة فاضل متقن، روى عنه مسلم وأبو داود(3/352)
أخبرنا إسماعيلُ بنُ زَكَرِيّا عن الحَجّاجِ بنِ دِينَارٍ عن الحَكَمِ بنِ عُتَيْبَةَ عن حُجَيّةَ بنِ عَدِي عن علي "أنّ العَبّاسَ سَأَلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أن تَحِلّ فَرَخّصَ له في ذلكَ".
674 ـ حدثنا القَاسِمُ بنُ دِينَارٍ الكُوفِيّ حدثنا إسحاقُ بنُ منصورٍ عن إسرائيلَ عن الحَجّاجِ بنِ دِينارٍ عن الحَكمِ بنِ جَحْلٍ عن حُجْرٍ العَدَوِيّ عن علي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لِعُمَرَ: "إنّا قد أَخَذْنَا زكاةَ العَبّاسِ عَامَ الأوّلِ لِلْعَامِ".
ـــــــ
والترمذي والبخاري في غير الصحيح مات سنة خمس وخمسين ومائتين "عن سعيد بن منصور" بن شعبة الخراساني نزيل مكة ثقة مصنف، وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوبه به، كان حافظاً جوالاً صنف السنن جمع فيها ما لم يجمعه غيره، مات سنة 227 سبع وعشرين ومائتين "عن الحكم بن عتيبة" بالمثناة ثم الموحدة مصغراً الكندي الكوفي ثقة ثبت فقيه إلا أنه ربما دلس من الخامسة "عن حجية" بضم الحاء المهملة وفتح الجيم وتشديد التحتانية بوزن علية "بن عدي" الكندي. قال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ من الثالثة. وقال الذهبي في الميزان: حجية بن عدي الكندي عن علي، قال أبو حاتم شبه مجهول لا يحتج به. قلت روى عنه الحكم وسلمة بن كهيل وأبو إسحاق وهو صدوق إن شاء الله، قد قال فيه العجلي ثقة انتهى.
قوله: "قبل أن تحل" أي قبل أن يجيء وقتها من حلول الأجل مجيئه كذا في بعض الحواشي. وقال في مجمع البحار قبل أن يحل بكسر الحاء من الحلال أو من حلول الدين أي يجب. وقال القاري في المرقاة: قبل أن تحل بكسر الحاء أي تجب الزكاة وقيل قبل أن تصير حالاً بمعنى الحول "فرخص له" أي للعباس وفيه دليل على جواز تعجيل الصدقة قبل الحول.
قوله: "عن الحكم بن جحل" بفتح الجيم وسكون المهملة الأزدي البصري ثقة من السادسة "عن حجر العدوي" قال الحافظ في التقريب قيل هو حجية بن عدي وإلا فمجهول من الثالثة.
قوله: "إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام" المعنى: إنا قد أخذنا(3/353)
وفي البابِ عن ابنِ عباسٍ.
قال أبو عيسى: لا أعرِفُ حديثَ تَعْجِيلِ الزكاةِ مِنْ حديثِ إسْرَائيلَ عن الحَجّاجِ بنِ ديِنَارٍ إلاّ مِنْ هذا الوجْهِ. وحديثُ إسماعيلَ بنِ زكريّا عن الحجّاجِ عِنْدِي أَصَحّ مِنْ حديثِ إسرائيلَ عن الحجّاجِ بنِ دِينَارٍ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن الحَكَمِ بنِ عُتَيْبَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
وقد اخْتَلَفَ أَهلُ العِلْمِ في تَعْجِيلِ الزكاةِ قَبْلَ مَحلّهَا، فَرَأَى طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ العِلمِ أن لا يُعَجّلَهَا. وبِهِ يقولُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ. قال: أحَبّ إلَيّ أَن
ـــــــ
زكاته العام الأول لهذا العام. وروى أبو داود الطيالسي من حديث أبي رافع بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس رضي الله عنه عام أول كذا في التلخيص، وفيه أيضاً دليل على جواز تعجيل الصدقة.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه الدارقطني عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعياً فأتى العباس فأغلظ له فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله العام والعام المقبل. وفي إسناده ضعف، وأخرجه أيضاً هو والطبراني من حديث أبي رافع نحو هذا وإسناده ضعيف أيضاً، ومن حديث أبن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين، وفي سنده محمد بن ذكوان وهو ضعيف. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذه الروايات: وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق والله أعلم انتهى.
قوله: "وقد روي هذا الحديث عن الحكم بن عتيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل" أي وهو مرسل ذكر الدارقطني الاختلاف فيه على الحكم ورجح رواية منصور عن الحسن بن مسلم بن يناق عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وكذا رجحه أبو داود، وكذا في التلخيص.
قوله: "فرأى طائفة من أهل العلم أن لا يعجلها" وهو قول مالك قال:(3/354)
لا يُعَجّلَهَا. وقال أكثرُ أَهلِ العِلمِ إنْ عجّلَهَا قَبْلَ مَحلّهَا أَجْزَأَتْ عَنهُ. وبه يقولُ الشّافِعِيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
الزكاة إسقاط الواجب، ولا إسقاط قبل الوجوب وصار كالصلاة قبل الوقت بجامع أنه أداء قبل السبب إذ السبب هو النصاب الحولي ولم يوجد. قال ابن الهمام في جوابه: قلنا لا نسلم اعتبار الزائد على مجرد النصاب جزءاً من السبب بل هو النصاب فقط والحول. تأجيل في الأداء بعد أصل الوجوب، فهو كالدين المؤجل، وتعجيل المؤجل صحيح فالأداء بعد النصاب كالصلاة في أول الوقت لا قبله، وكصوم المسافر رمضان لأنه بعد السبب. ويدل على صحة هذا الاعتبار ما في أبو داود والترمذي من حديث علي أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل زكاته الحديث.
قوله: "وقال أكثر أهل العلم إن عجلها قبل محلها أجزأت عنه، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول الحنفية وهو الحق. واستدلوا بحديث الباب وبحديث أبي هريرة : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، وفيه: وأما العباس فهي علي ومثلها معي، رواه مسلم. قال النووي قوله: فهي علي ومثلها معها معناه أني تسلفت منه زكاة عامين. وقال الذين لا يجوزون تعجيل الزكاة معناه أنا أؤديها عنه. قال أبو عبيدة وغيره: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرها عن العباس إلى وقت يساره من أجل حاجته إليها والصواب أن معناه تعجلتها منه، وقد جاء في حديث آخر في غير مسلم: إنا تعجلنا منه صدفة عامين انتهى كلام النووي.
قلت: أشار النووي إلى ما رواه الطبراني والبزار من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس صدقة عامين وفي إسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف، ورواه البزار من حديث موسى بن طلحة عن أبيه نحوه وفي إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وفي إسناده مندل بن علي والعزرمي وهما ضعيفان، والصواب أنه مرسل(3/355)
38ـ باب ما جَاءَ في النّهْيِ عن المَسْأَلَة
"باب ما جاء في النهي عن المسألة" أي السؤال
675 ـ حدثنا هنّادٌ، حدثنا أبو الأحْوَصِ عن بَيَانِ بنِ بِشْرٍ عن قَيْسِ بن أَبِي حَازِمٍ عن أبي هريرةَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لأن يَغْدُوَ أَحَدُكُم فَيَحْتَطِبَ على ظَهْرِهِ فَيَتَصَدّقَ مِنْهُ فَيَسْتَغْنِيَ بهِ عن النّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاٌ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فإِنّ اليَدَ العُلْيَا أفضل مِنَ اليَدِ السّفْلَى وابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ".
ـــــــ
"باب ما جاء في النهي عن المسألة" أي السؤال
قوله: "عن بيان بن بشر" الأحمصي الكوفي أبي بشر الكوفي ثقة ثبت من الخامسة "عن قيس بن أبي حازم" البجلي الكوفي ثقة من الثانية مخضرم "لأن يغدو أحدكم" بفتح اللام، والغدو السير في أول النهار. وغالب الخطابين يخرجون كذلك، ويطلق على مطلق السير إطلاقاً شائعاً فيمكن حمله على الحقيقة وعلى المجاز الشائع "فيحتطب" بالنصب عطف على يغدو أي يجمع الحطب "على ظهره" متعلق بمقدر هو حال مقدرة أي حاملاً على ظهره أي مقدراً حمله على ظهره إذ لا حمل حال الجمع بل بعده، وإنما حال الجمع بل بعده وإنما حال الجمع تقدير الحمل "فيتصدق منه ويستغني به" عطف على الفعل السابق وأن مع مدخولاتها مبتدأ خبره قوله خير، أي ما يلحقه مشقة الغدو والاحتطاب وتصدق والاستغناء به خير من ذل السؤال، قاله أبو الطيب السندي "فإن اليد العليا خير من اليد السفلى" اليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف والمسألة: "اليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا هي المنفقة والسفلى السائلة وذكر الحافظ في الفتح أحاديث في هذا ثم قال: فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة معطية وأن السفلى هي السائلة"، وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور "وابدأ بمن تعول" خطاب للمنفق أي ابدأ في الإتفاق بمن تمون ويلزمك نفقته من عيالك فإن فضل شيء فلغيرهم.(3/356)
وفي البابِ عن حَكِيمِ بنِ حِزامٍ وأَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ والزّبَيْرِ بنِ العَوّامِ وعَطِيّةَ السّعْدِيّ وعبدِ الله بنِ مَسْعُودٍ ومَسْعُودِ بنِ عَمْرٍو وابنِ عَبّاسٍ وثوبانَ وزيادِ بنِ الحَارِثِ الصُدَائِيّ وأَنَسٍ وحُبْشِيّ بنِ جُنَادَةَ وقَبِيصَةَ بنِ مُخَارِقٍ وسَمُرَةَ وابنِ عُمَرَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هُرَيْرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ يُسْتَغْرَبُ مِنْ حديثِ بَيَانٍ عن قَيْسٍ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن حكيم بن حزام وأبي سعيد الخدري والزبير بن العوام وعطية السعدي وعبد الله بن مسعود ومسعود بن عمرو وابن عباس وثوبان وزياد بن الحارث الصدائي وأنس وحبشي بن جنادة وقبيصة بن مخارق وسمرة وابن عمر" أما حديث حكيم بن حزام أخرجه البخاري ومسلم، وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه أيضاً البخاري ومسلم، وأما حديث الزبير بن العوام فأخرجه البخاري، وأما حديث عطية السعدي فلينظر من أخرجه، وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه الترمذي وأبو داود وعنه حديث آخر أخرجه أبو يعلى والغالب على روايته التوثيق، ورواه الحاكم وصحح إسناده كذا في الترغيب. وأما حديث مسعود بن عمرو فأخرجه البيهقي. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضاً البيهقي. وأما حديث ثوبان فأخرجه أحمد والبزار والطبراني. وأما حديث زياد بن الحارث فلينظر من أخرجه. وأما حديث أنس فأخرجه أبو داود والبيهقي مطولاً والترمذي والنسائي مختصراً. وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه الترمذي. وأما حديث قبيصة بن مخارق فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. وأما حديث سمرة فأخرجه الترمذي وأبو داود. وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري ومسلم. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها المنذري في الترغيب والترهيب ومن شاء الوقوف على ألفاظ هذه الأحاديث التي أشار إليها الترمذي فليرجع إلى الترغيب.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.(3/357)
676 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا سُفْيَانُ عن عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ عن زَيْدِ بنِ عُقْبَةَ عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ المْسأَلَة كَدّ يَكُدّ بها الرّجُلُ وَجْهَهُ إِلاّ أَنْ يَسْأَلَ الرجُلُ سُلْطَاناً أوْ في أمْرٍ لا بُدّ مِنْهُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "عن عبد الملك بن عمير" بن سويد اللخمي الكوفي ثقة فقيه تغير حفظه وربما دلس من الثالثة "عن زيد بن عقبة" الفزاري الكوفي ثقة من الثالثة "إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه" قال في النهاية: الكد الإتعاب يقال: كد يكد في عمله إذا استعجل وتعب، وأراد بالوجه ماءه ورونقه انتهى. وقال السيوطي في قوت المغتذي: كد بفتح الكاف وتشديد الدال المهملة، وفي رواية أبي داود: كدوح بضم الكاف والدال وحاء مهملة، وقد ذكر اللفظين معاً أبو موسى المديني في ذيله على الغريبين وفسر الكدوح بالخدوش في الوجه والكد بالتعب والنصب. قال العراقي: ويجوز أن يكون الكدح بمعنى الكد من قوله تعالى {إِنَّكَ كَادِحٌ} وهو السعي والحرص انتهى ما في قوت المغتذي "إلا أن يسأل الرجل سلطاناً" وفي رواية أبي داود: إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان أي ذا حكم وسلطنة بيده بيت المال فيسأل حقه فيعطيه منه إن كان مستحقاً. قال الخطابي: أي ولو مع الغناء فسأله حقه من بيت المال لأن السؤال مع الحاجة دخل في قوله: أو في أمر لا بد منه انتهى "أو في أمر لا بد منه" كما في الحمالة والجائحة والفاقة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي.(3/358)
أبواب الصوم
باب ما جاء في فضل شهر رمضان
...
كتاب الصوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 ـ باب ما جَاءَ في فَضْلِ شَهْرِ رَمَضَان
677 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ محمدُ بنُ العَلاءِ بنِ كُرَيْبٍ، حدثنا أبو بَكْرِ بنِ عَيّاشٍ عن الأعْمَشِ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أَوّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفّدَتِ الشّيَاطِينُ ومَردَةُ الجِنّ وغُلّقَتْ أَبْوَابُ النِارِ فلم يُفْتَحْ منها بابٌ وفُتّحَتْ أبوابُ
ـــــــ
أبواب الصوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
باب ما جَاءَ في فَضْلِ شَهْرِ رَمَضَان
قوله: "صفدت" قال الحافظ في الفتح. بالمهملة المضمومة بعدها فاء ثقيلة مكسورة أي شدت بالأصفاء وهي الأغلال وهو بمعنى سلسلت "الشياطين" وفي رواية النسائي من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة بلفظ. وتغل فيه مردة الشياطين "ومردة الجن" جمع ما رد كطلبة وجهلة وهو المتجرد للشر، ومنه الأمرد لتجرده من الشعر، وهو تخصيص بعد تعميم أو عطف تفسير وبيان كالتتميم. وقيل الحكمة في تقييد الشياطين وتصفيدهم كيلا يوسوسوا في الصائمين. وأمارة ذلك تنزه أكثر المنهمكين في الطغيان عن المعاصي ورجوعهم بالتوبة إلى الله تعالى. وأما ما يوجد خلاف ذلك في بعضهم فإنها تأثيرات من تسويلات الشياطين أغرقت في عمق تلك النفوس الشريرة وباضت في رؤوسها. وقيل قد خص من عموم صفدت الشياطين زعيم زمرتهم وصاحب دعوتهم لكان الإنظار الذي سأله من الله فأجيب إليه فيقع ما يقع من المعاصي بتسويله وإغوائه. ويمكن أن يكون التقييد كناية عن ضعفهم في الإغواء والإضلال، كذا في المرقاة. قال الحافظ في الفتح. قال عياض. يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول(3/359)
الجَنّةِ فلم يُغْلَقْ منها بابٌ ويُنَادِي مُنَادٍ يا بَاغِيَ الخَيْرِ أقْبِل وَيا بَاغِيَ الشّرّ أَقْصِرْ. ولله عُتَقَاء مِنَ النّار وذلك كُلّ لَيْلَةٍ".
ـــــــ
الشهر وتعظيم حرمته ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو وأن الشياطين يقل إغوائهم فيصيرون كالمصفدين. قال ويؤيد هذا الاحتمال الثاني قوله في رواية عند مسلم. فتحت أبواب الرحمة، قال ويحتمل أن يكون فتح الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات وذلك أسباب لدخول الجنة، وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الاَيلة بأصحابها إلى النار. وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات. قال الزبير بن المنير: والأول أوجه ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره. وأما الرواية التي فيها أبواب الرحمة وأبواب السماء فمن تصرف الرواة. والأصل أبواب الجنة بدليل ما يقابله وهو غلق أبواب النار قال الحافظ: وقال القرطبي بعد أن رجح حمله على ظاهره فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيراً فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك، فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه أو المصفد بعض الشياطين كما تقدم في بعض الروايات يعني رواية الترمذي والنسائي وهم المردة لاكملهم أو المقصود تقليل الشرور فيه. وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره. إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية لأن لذلك أسباباً غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية انتهى "وينادي مناد" قيل يحتمل أنه ملك أو المراد أنه يلقي ذلك في قلوب من يريد الله إقبالة على الخير كذا في قوت المغتذي "يا باغي الخير" أي طالب العمل والثواب "أقبل" أي إلى الله وطاعة بزيادة الاجتهاد في عبادته وهو أمر من الإقبال أي تعال فإن هذا أوانك فإنك تعطي الثواب الجزيل بالعمل القليل. أو معناه يا طالب الخير المعرض عنا وعن طاعتنا أقبل إلينا وعلى عبادتنا فإن الخير كله تحت قدرتنا وإرادتنا. قال العراقي. ظن ابن العربي أن قوله في الشقين يا باغي من البغي فنقل عن أهل العربية أن أصل البغي في الشرق وأقله ما جاء في طلب الخير ثم ذكر قوله تعالى {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} وقوله { يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ(3/360)
وفي البابِ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ عَوْفٍ وابنِ مَسْعُودٍ وسَلْمَانَ.
678 ـ حدثنا هَنّادُ حدثنا عَبْدَةُ والمُحَارِبِيّ عن محمدِ بنِ عَمْروٍ عن أَبِي سَلَمَةَ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وقَامَهُ إيماناً واحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ قَامَ لَيْلَةَ
ـــــــ
بغير الحق} والذي وقع في الاَيتين هو بمعنى التعدي، وأما الذي في هذا الحديث فمعناه الطلب والمصدر منه بغاء وبغاية بضم الباء فيهما قال الجوهري: بغيته أو طلبته انتهى.
قلت: الأمر كما قال العراقي، وكذلك في قوله تعالى {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} معناه الطلب {ويا باغي الشر أقصر} بفتح الهمزة وكسر الصاد أي يا مريد المعصية أمسك عن المعاصي وارجع إلى الله تعالى فهذا أو أن قبول التوبة وزمان استعداد المغفرة، ولعل طاعة المطيعين وتوبة المذنبين ورجوع المقصرين في رمضان من أثر الندائين ونتيجة إقبال الله تعالى على الطالبين. ولهذا ترى أكثر المسلمين صائمين حتى الصغار والجوار بل غالبهم الذين يتركون الصلاة يكونون حينئذ مصلين، مع أن الصوم أصعب من الصلاة وهو يوجب ضعف البدن الذي يقتضي الكسل عن العبادة وكثرة النوم عادة، ومع ذلك ترى المساجد معمورة وبإحياء الليل مغمورة والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، كذا في المرقاة "ولله عتقاء من النار" أي ولله عتقاء كثيرون من النار فلعلك تكون منهم "وذلك" قال الطيبي: أشار بقوله ذلك إما البعيد وهو النداء، وإما للقريب وهو لله عتقاء "كل ليلة" أي في كل ليلة من ليالي رمضان.
قوله: "وفي الباب عن عبد الرحمَن بن عوف" أخرجه النسائي وابن حبان "وابن مسعود" أخرجه البيهقي "وسلمان" أخرجه ابن حبان في الضعفاء والأربعة والبيهقي كذا في شرح سراج أحمد.
قوله: "من صام رمضان وقامه إيماناً" أي تصديقاً بأنه فرض عليه حق وأنه من أركان الإسلام ومما وعد الله عليه من الثواب والأجر قاله السيوطي. وقال الطيبي: نصب على أنه مفعول له أي للإيمان وهو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والاعتقاد بفريضة الصوم "واحتساباً" أي طلباً للثواب منه تعالى،(3/361)
القَدْرِ إيماناً واحْتِساباً غُفِرَ لَهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ الّذِي رَوَاهُ أبوُ بَكْرِ بنُ عَيّاش حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ مِنْ روَايَةِ أبي بَكْرِ بن عَيّاشٍ عن الأعْمَشِ عَنْ أَبي صَالحٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ إلاّ من حديثِ أبي بَكْرٍ قال: وسألتُ مُحَمّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عن هَذَا الحديثِ فقالَ: الحسن بن الربيع حدثنا أبُو الأَحْوَصِ عن الأعْمَشِ عن مُجَاهِدٍ قوله: "إذا كانَ أَوّل لَيْلَةٍ مِن شَهْرِ رَمَضَانَ" فَذَكَرَ الحَديثَ، قال محمدٌ: وهذا أَصَحّ عِنْدِي مِنْ حديثِ أبي بَكْرِ بِن عَيّاشٍ.
ـــــــ
أو إخلاصاً، أي باعثه على الصوم ما ذكر لا الخوف من الناس ولا الاستحياء منهم ولا قصد السمعة والرياء عنهم "غفر له ما تقدم من ذنبه" قال السيوطي: زاد أحمد في مسنده: وما تأخر، وهو محمول على الصغائر دون الكبائر انتهى. قال النووي: إن المكفرات إن صادفت السيئات تمحوها إذا كانت صغائر وتخففها إذا كانت كبائر وإلا تكون موجبة لرفع الدرجات في الجنات.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان "غريب لا نعرفه إلا من رواية أبي بكر بن عياش الخ" الحديث أخرجه ابن ماجه أيضاً. قال الجزري: كلاهما من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وهذا إسناد صحيح. قال ميرك: وهذا لا يخلو عن تأمل، فإن أبا بكر بن عياش مختلف فيه. والأكثر على أنه كثير الغلط وهو ضعيف عن الأعمش ولذا قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من رواية أبي بكر، "وسألت محمد بن إسماعيل الخ" لكن يفهم من كلام الشيخ ابن حجر العسقلاني أن الحديث المرفوع أخرجه ابن خزيمة والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وقال: واللفظ لابن خزيمة ونحوه للبيهقي من حديث ابن مسعود وقال فيه: فتحت أبواب الجنة فلم يغلق باب منها الشهر كله انتهى كلامه. ويقوي رفع الحديث أن مثل هذا لا يقال بالرأي فهو مرفوع حكماً والله أعلم تم كلام ميرك، كذا نقل القاري من المرقاة كلام الجزري وكلام ميرك، ثم تعقب على ميرك بوجوه لا يخلو بعضها عن كلام(3/362)
باب ما جاء لا تتقدموا الشهر بصوم
...
فعُدّوا ثلاثينَ ثُمّ أفْطِرُوا".
قال: وفي البابِ عن بعضِ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم "أخبرنا مَنْصُورُ بنُ المُعْتَمِرِ عن رِبْعِيّ بنِ حِرَاشٍ عن بعضِ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ هذا".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عِنْدَ أهلِ العلمِ: كَرِهُوا أن يَتَعَجّلَ الرّجُلُ بِصِيَامٍ قَبْلَ دُخُولِ شهْرِ رَمَضَانَ لِمَعْنَى رَمَضَانَ وإنْ كانَ رَجُلٌ يَصُومُ صَوْماً فَوَافَقَ صِيَامُهُ ذلِكَ فلا بأسَ به عندَهُم.
ـــــــ
غطى الهلال في ليلة الثلاثين. قال الجزري في النهاية: يقال غم علينا الهلال إذا حال دون رؤيته غيم أو نحوه من غممت الشيء إذا غطيته، وفي غم ضمير الهلال، ويجوز أن يكون غم مسنداً إلى الظرف أي فإن كنتم مغموماً عليكم فأكملوا العدة انتهى "فعدوا ثلاثين" بصيغة الأمر من العد. والمعنى أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً.
قوله: "وفي الباب عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الخ" قال الحافظ في الفتح: وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة من طريق ربعي عن حذيفة مرفوعاً: لا تقدموا الشهر متى ترووا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى ترووا الهلال أو تكملوا العدة. وقيل الصواب فيه عن ربعي عن رجل من الصحابة مبهم ولا يقدح ذلك في صحته انتهى.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد.
قوله : "كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخوله شهر رمضان لمعنى رمضان" قال السيوطي في قوت المغتذي: قوله لا تقدموا الشهر بيوم ولا يومين إنما نهي عن فعل ذلك احتياطاً لاحتمال أن يكون من رمضان، وهو معنى قول المصنف لمعنى رمضان انتهى وقال الحافظ في الفتح: قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي لما أخرجه فذكر الحافظ كلام الترمذي هذا إلى قوله: لمعنى رمضان.(3/346)
باب ما جاء في الكراهية صوم يوم الشك
...
3ـ باب ما جاءَ في كَرَاهَيةِ صَوْمِ يَوْمِ الشّك
681 ـ حدثنا أبو سَعِيدٍ عبدُ الله بنُ سعيدٍ الأشَجّ حدثنا أبو خَالِدٍ الأحْمَرُ عن عَمْروِ بنِ قَيْسٍ الملائي عن أبي إسحاقَ عن صِلَةَ بنِ زُفَرَ قال:
ـــــــ
باب ما جاءَ في كَرَاهَيةِ صَوْمِ يَوْمِ الشّك
قوله: "أخبرنا أبو خالد الأحمر" اسمه سليمان بن حيان الأزدي الكوفي صدوق يخطئ من الثامنة "عن صلة بن زفر" بكسر الصاد المهملة وتخفيف اللام المفتوحة وزفر بالزاي والفاء على وزن عمر كوفي عبسي من كبار التابعين وفضلائهم.(3/365)
"كُنّا عِنْدَ عَمّارِ بنِ يَاسِرٍ فأُتّيَ بِشَاةٍ مَصْلِيّةٍ فقال: كُلُوا فَتَنَحّى بَعْضُ القَوْمِ فقال إنّي صَائِمٌ، فقال عمّارٌ: مَنْ صَامَ اليوم الذي يُشَكّ فيهِ فَقَدْ عَصَى أبا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم".
قال: وفي الباب عن أبي هريرةَ وأَنَسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَمّارٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا
ـــــــ
قوله: "كنا عند عمار بن ياسر" صحابي جليل مشهور من السابقين الأولين بدري قتل مع علي بصفين سنة سبع وثلاثين "مصلية" أي مشوية "فتنحى بعض القوم" أي اعتزل "فقال" أي بعض القوم الذي اعتزل واحترز عن أكلها "من صام اليوم الذي شك فيه" وفي بعض النسخ يشك فيه، وذكر البخاري هذا الحديث في صحيحه تعليقاً بلفظ: من صام يوم الشك والمراد من اليوم الذي يشك فيه يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلته بغيم ساتر أو نحوه، فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان "فقد عصى أبا القاسم" هو كنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل فائدة تخصيص ذكر هذه الكنية الإشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكامه زماناً ومكاناً وغير ذلك. قال الحافظ في فتح الباري: استدل به على تحريم يوم الشك لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل رأيه فيكون من قبل المرفوع. قال ابن عبد البر: هو مسند عندهم لا يختلفون في ذلك، وخالفهم الجوهري المالكي فقال: هو موقوف، والجواب، أنه موقوف لفظاً مرفوع حكماً انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه البزار بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام ستة أيام أحدها اليوم الذي يشك فيه وفي إسناده عبد الله بن سعيد المقبري عن جده وهو ضعيف، وأخرجه أيضا الدارقطني وفي إسناده الواقدي، وأخرجه أيضا البيهقي وفي إسناد عباد وهو عبد الله بن سعيد المقبري المتقدم وهو منكر الحديث كما قال أحمد بن حنبل، كذا في النيل "وأنس" لم أقف على من أخرجه.
قوله: "حديث عمار حديث حسن صحيح" وأخرجه أيضاً ابن حبان وابن خزيمة وصححاه والحاكم والدارقطني والبيهقي. قال العراقي في شرح الترمذي: جمع الصاغاني في تصنيف له الأحاديث الموضوعة فذكر فيه حديث عمار المذكور وما أدري ما وجه الحكم عليه بالوضع وليس في إسناده من يتهم بالكذب وكلهم(3/366)
عنْدَ أكثَر أَهلِ العلمِ منْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَن بَعْدَهُمْ مِنَ التّابِعينَ. وبهِ يقولُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ ومالكُ بنُ أنسٍ وعبدُ الله بنُ المبارَكِ والشّافِعِيّ وأحمدُ وإسحاقُ: كَرِهُوا أَنْ يَصُومَ الرّجُلُ الْيَوْمَ الّذِي يُشَكّ فيهِ، وَرَأى أكْثَرُهُمْ إنْ صَامَهُ فكانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أن يَقْضِيَ يَوْماً مكَانَهُ.
ـــــــ
ثقات وقال: وقد كتبت على الكتاب المذكور كراسة في الرد عليه في أحاديث منها هذا الحديث قال نعم في اتصاله نظر، فقد ذكر المزي في الأطراف أنه روى عن أبي إسحاق السبيعي أنه قال: حدثت عن صلة بن زفر لكن جزم البخاري بصحته إلى صلة فقال في صحيحه: وقال صلة، وهذا يقتضي صحته عنده، وقال البيهقي في المعرفة: إنه إسناده صحيح انتهى.
قوله: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم الخ" قال في النيل: وقد استدل بهذه الأحاديث أي بحديث عمار بن ياسر المذكور في الباب وما في معناه كأحاديث الأمر بالصوم لرؤية الهلال وكأحاديث النهي عن استقبال رمضان بصوم على المنع من صوم يوم الشك. قال النووي: وبه قال مالك والشافعي والجمهور، وحكى الحافظ في الفتح عن مالك وأبي حنيفة أنه لا يجوز صومه عن فرض رمضان ويجوز عما سوى ذلك. قال ابن الجوزي: ولأحمد في هذه المسألة وهي إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو غيره ليلة الثلاثين من شعبان ثلاثة أقوال: أحداها: يجب صومه على أنه من رمضان، وثانيها: لا يجوز فرضاً ولا نفلاً مطلقاً بل قضاء وكفارة ونذراً ونفلاً يوافق عادة، ثالثها: المرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر، وذهب جماعة من الصحابة إلى صومه منهم علي وعائشة وعمرو بن عمر وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر وأبي هريرة ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم وجماعة من التابعين. واستدل المجوزون لصومه بأدلة، ثم ذكرها الشوكاني وتكلم عليها وليس فيها ما يفيد مطلوبهم ثم قال: قال ابن عبد البر: وممن روي عنه كراهة صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمار وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو هريرة وأنس بن مالك، ثم قال: والحاصل أن الصحابة مختلفون في ذلك، وليس قول بعضهم بحجة على أحد والحجة ما جاءنا عن الشارع وقد عرفته. قال: وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في الأبحاث التي كتبتها على رسالة الجلال(3/367)
4ـ بابُ ما جَاء في إحْصَاءِ هِلاَلِ شَعْبانَ لِرَمَضَان
682 ـ حدثنا مُسْلُمِ بنُ حَجّاجِ حدثنا يَحْيَى بنُ يَحْيَى حدثنا أبو معاوِيَةَ عن محمدِ بنِ عَمْروٍ عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "أحْصُوا هِلاَلَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ لا نَعْرِفُهُ مِثْلَ هذا إلا مِنْ حديثِ أبي مُعَاوِيَةَ. والصّحِيحُ مَا رُوِيَ عن محمدِ بنِ عَمْروٍ عن أبي سَلَمَةَ عن أبي
ـــــــ
بابُ ما جَاء في إحْصَاءِ هِلاَلِ شَعْبانَ لِرَمَضَان
قوله: "حدثنا مسلم بن حجاج" هو صاحب الصحيح. قال العراقي: لم يرو المصنف في كتابه شيئاً عن مسلم صاحب الصحيح إلا هذا الحديث وهو من رواية الأقران فإنهما اشتركا في كثير من شيوخهما انتهى.
قوله: "أحصوا" بقطع الهمزة أمر من الإحصاء وهو في الأصل العد بالحصا أي عدوا "هلال شعبان" أي أيامه "لرمضان" أي لأجل رمضان أو للمحافظة على صوم رمضان. وقال ابن الملك: أي لتعلموا دخول رمضان. قال الطيبي: الإحصاء المبالغة في العد بأنواع الجهد، ولذلك كنى به عن الطاقة في قوله عليه الصلاة والسلام. استقيموا ولن تحصوا انتهى. وقال ابن حجر: أي اجتهدوا في إحصائه وضبطه بأن تتحروا مطالعه وتتراءوا منازله لأجل أن تكونوا على بصيرة في إدراك هلال رمضان على حقيقة حتى لا يفوتكم منه شيء، كذا في المرقاة. قال السيوطي في قوت المغتذي: هذا الحديث مختصر من حديث وقد رواه الدارقطني بتمامه فزاد: ولا تخلطوا برمضان إلا أن يوافق ذلك صياماً ما كان يصومه أحدكم، وصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فإنها ليست تغمى عليكم العدة انتهى.
قوله: "لا نعرفه مثل هذا" أي بهذا اللفظ "إلا من حديث معاوية يعني أنه قد تفرد بهذا اللفظ والصحيح ما روى عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة الخ"(3/368)
5 ـ باب ما جَاء أنّ الصّوْمَ لِرُؤْيَةِ الهلاَلِ والإفْطَار لَه
683 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا أبو الأحْوَصِ عن سِمَاكِ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عباسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "لا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ حَالَتْ دُونَهُ غَيَابَة فأكْمَلُوا ثلاثين يَوْماً".
ـــــــ
باب ما جَاء أنّ الصّوْمَ لِرُؤْيَةِ الهلاَلِ إلخ.
قوله: "صوموا لرؤيته" الضمير للهلال على حد توارت بالحجاب اكتفاء بقرينه السياق. قال الطيبي: اللام للتوقيت كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} "دونه" أي دون الهلال "غيابه" بفتح الغين المعجمة واليائين المثناتين من تحت وهي السحاب ونحوها. قال القاري: هذا هو المشهور في ضبط هذا الحديث. وقال ابن العربي: يجوز أن يجعل بدل الياء الأخيرة باء موحدة من الغيب، وتقديره ما خفي عليك واستتر، أو نوناً من الغين وهو الحجاب، كذا في قوت المغتذي(3/369)
وفي البابِ عن أبي هريرةَ وأبي بَكْرَةَ وابنِ عُمَرَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ عنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الشيخان "وأبي بكرة" أخرجه الشيخان "وابن عمر" أخرجه الشيخان.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي(3/370)
6- "باب ما جاء أن الشهر يكون تسعاً وعشرين"
684 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيع، حدثنا يَحْيِى بنُ زكَرِيّا بنُ أبي زَائِدَةَ أخْبَرَنِي عيسى بنُ دِينَار عن أبيهِ عن عَمْروِ بنِ الحَارِثِ بنِ أبي ضرَار عن ابن مَسْعُودٍ قال: "ما صُمْتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم تسعاً وعِشْرِينَ أكْثَرُ مِمّا صُمْنَا ثلاثينَ".
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه الشيخان "وأبي بكرة" أخرجه الشيخان "وابن عمر" أخرجه الشيخان.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي
"باب ما جاء أن الشهر يكون تسعاً وعشرين"
أي قد يكون تسعاً وعشرين
قوله: "عن عمرو بن الحارث بن أبي ضرار" بكسر المعجمة صحابي قليل الحديث وهو أخو جويرية أم المؤمنين. كذا في التقريب.
قوله: "ما صمت مع النبي صلى الله عليه وسلم الخ" وفي رواية أبي داود: لما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الخ. قال أبو الطيب السندي في شرح الترمذي كلمة "ما" تحتمل أن تكون مصدرية في الموضعين أي صومي تسعاً وعشرين أكثر من صومي ثلاثين، وتحتمل أن تكون في الموضعين موصولة والعائد محذوف، والتقدير ما صمته حال كونه تسعاً وعشرين أكثر مما صمناه حال كونه ثلاثين، فيكون تسعاً وعشرين، وكذلك ثلاثين حال من ضمير المفعول المحذوف الراجع إلى رمضان المراد بالموصول، وعلى التقديرين قوله "أكثر" مرفوع على الخبرية. والحاصل أن الأشهر الناقصة أكثر من الوافية. وأما القول بأن كلمة "ما" الأولى نافية وعلى هذا التقدير يكون قوله أكثر منصوباً ويكون الحاصل أن الناقص ما كان غالباً على الوافي فبعيد، ويؤيد هذا البعد ما قال الشيخ ابن حجر قال بعض الحفاظ: صام صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات منها رمضانان فقط(3/370)
قال: وفي البابِ عن عُمَرَ وأبي هريرةَ وعائِشَةَ وسَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ وابنِ عباسٍ وابنِ عُمَرَ وأنَسٍ وجَابرٍ وأم سَلَمَةَ وأبي بكْرَةَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الشّهْرُ يَكُونُ تِسْعاً وعِشْرِينَ".
685 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجرٍ، حدثنا إسماعيلُ بنُ جَعْفَرٍ عن حُمَيْدٍ عن أنَسٍ أنّهُ قال: "آلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن نِسائِهِ شَهْراً فأَقَامَ في مَشْرُبَةٍ تِسْعاً وعِشْرِينَ يَوْماً، قالوا يا رسولَ الله إنّكَ آلَيْتَ شَهْراً فقالَ: الشّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ".
ـــــــ
ثلاثون. وقال النووي: وقد يقع النقص متوالياً في شهرين وثلاثة وأربعة ولا يقع أكثر من أربعة انتهى كلام أبي الطيب باختصار. وحديث ابن مسعود هذا أخرجه أبو داود أيضاً وسكت هو والمنذري عنه، وذكره الحافظ في الفتح وسكت عنه هو أيضاً وقال: ومثله عن عائشة عند أحمد بإسناد جيد انتهى. قلت: والظاهر أن حديث ابن مسعود حسن.
قوله: "وفي الباب عن عمر وأبي هريرة الخ" أما حديث عمر رضي الله عنه فأخرجه الشيخان، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أيضاً الشيخان، وأما حديث عائشة فأخرجه أحمد، وأما حديث سعد بن أبي وقاص فأخرجه مسلم، فأما حديث ابن عمر وأنس وجابر وأم سلمة فأخرجه مسلم وغيره، وأما حديث ابن عباس وأبي بكرة فلينظر من أخرجه.
قوله: "آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه" أي حلف أن لا يدخل عليهن، وليس المراد بالإيلاء في هذا الحديث الإيلاء الشرعي بل المراد الإيلاء اللغوي وهو الحلف "فأقام في مشربة" بضم الراء وفتحها أي غرفة. قال الجزري في النهاية: المشربة بالضم والفتح الغرفة، وفي القاموس: المشربة الغرفة أو العلية انتهى. والغرفة بالضم والعلية بالضم والتشديد معناهما بالفارسية برواره، كذا في الصراح، وبروار على وزن همواره معناه بالفارسية بالإخانة وحجرة بالاء حجرة "الشهر تسع وعشرون" أي هذا الشهر تسع وعشرون أو المعنى الشهر قد يكون كذلك. قال الحافظ في الفتح: ظاهره حصر الشهر في تسع وعشرين مع أنه لا ينحصر فيه بل قد يكون ثلاثين، والجواب أن المعنى أن الشهر يكون تسعة(3/371)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وعشرين أو اللام للعهد والمراد شهر بعينه أو هو محمول على الأكثر الأغلب، كقول ابن مسعود: ما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعاً وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين. ويؤيد الأول قوله في حديث أم سلمة: إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً. وقال ابن العربي: معناه حصره من جهة أحد طرفيه أي أنه يكون تسعاً وعشرين وهو أقله ويكون ثلاثين وهو أكثره فلا تأخذوا أنفسكم بصوم الأكثر احتياطاً ولا تقتصروا على الأقل تخفيفاً، ولكن اجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداء وانتهاء باستهلاله انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري(3/372)
7 ـ باب ما جَاء في الصّوْمِ بالشّهَادَة
686 ـ حدثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ، حدثنا محمدُ بنُ الصّبّاحِ حدثنا الولِيدُ بنُ أبي ثَوْرٍ عن سِمَاكٍ عن عَكْرِمَةِ عن ابنِ عباسٍ قال: "جَاءَ أعْرابي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنّي رأَيْتُ الهِلاَلَ، فقال: "أتَشْهَدُ أن لا إلهَ إلاّ الله؟ أتَشْهَدُ أنّ محمداً رسولُ الله؟ قال: نعم، قال: يا بِلاَلُ أذّنْ في النّاسِ أنْ يَصُومُوا غداً".
ـــــــ
باب ما جَاء في الصّوْمِ بالشّهَادَة
قوله: "حدثنا محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري رحمه الله "أخبرنا محمد بن الصباح" الدولابي أبي جعفر البغدادي ثقة حافظ من العاشرة "أخبرنا الوليد بن أبي ثور" هو الوليد بن عبد الله بن أبي ثور الهمداني الكوفي وقد ينسب بجده ضعيف من الثامنة كذا في التقريب "جاء أعرابي" أي واحد من الأعراب وهم سكان البادية "إني رأيت الهلال" يعني هلال رمضان كما في رواية يعني وكان غيماً، وفيه دليل على أن الإخبار كاف ولا يحتاج إلى لفظ الشهادة ولا إلى الدعوى " فقال أتشهد أن لا إله إلا الله الخ" قال ابن الملك: دل على أن الإسلام شرط في الشهادة "أذن في الناس" أمر من التأذين أي ناد فيهم وأعلمهم.(3/372)
687 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ حدثنا حُسَيْنٌ الجُعْفِيّ عن زَائِدَة عن سِمَاك نَحْوَهُ بهذا الإسناد.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عباس فيهِ اخْتِلاف. وَرَوَى سُفْيَانُ الثّوْرِي وغَيْرُهُ عنِ سِمَاكِ عن عِكْرِمَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسلاً وأكثرُ أصحابِ سَمِاكٍ رَوَوْا عن سِمَاكٍ عن عِكْرِمَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسِلاً.
والعملُ على هذا الحديثِ عند أكثر أهلِ العلمِ، قالوا تُقْبَلُ شهادَةُ رَجُلٍ وَاحِد في الصّيَامِ. وبهِ يقولُ ابنُ المباركِ والشّافِعِيّ وأحمدُ وأهلُ الكوفة. قال إسحاقُ: لا يُصَامُ إلاّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أهلُ العلمِ في الإفطَارِ أنّهُ لا يُقْبَلُ فيهِ إلاّ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ.
ـــــــ
قوله: "وأكثر أصحاب سِمَاك رووا عن سِمَاك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً" وقال النسائي: إنه أولى بالصواب، وسِمَاك إذا تفرد بأصل لم يكن حجة، كذا الحافظ في التلخيص: وقال في بلوغ المرام: رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجح النسائي إرساله انتهى.
قوله: "وبه يقول ابن المبارك والشافعي" أي في أحد قوليه. قال النووي: وهو الأصح "وأحمد" وبه قال أبو حنيفة رحمه الله: وهو قول الجمهور كما صرح به الحافظ في الفتح، واستدلوا بحديث الباب وبحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه، رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم "وقال إسحاق: لا يصام إلا بشهادة رجلين" وبه قال مالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي في أحد قوليه، واستدلوا بحديث عبد الرحمَن بن زيد بن الخطاب أنه خطب في اليوم الذي شك فيه فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم أنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وأنسكوا لها، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوماً، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا" . رواه أحمد والنسائي ولم يقل فيه "مسلمان" قال الشوكاني في النيل:(3/373)
ـــــــ
ذكره الحافظ في التلخيص ولم يذكر فيه قدحاً وإسناده لا بأس به على اختلاف فيه انتهى. واستدلوا أيضاً بحديث أمير مكة الحارث بن حاطب قال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما، رواه أبو داود والدارقطني وقال هذا إسناد متصل صحيح.
وأجاب من قال بقبول شهادة رجل في الصيام عن هذين الحديثين بأن التصريح بالإثنين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد بالمفهوم، وحديث ابن عباس وحديث ابن عمر المذكورين يدلان على قبوله بالمنطوق ودلالة المنطوق أرجح "ولم يختلف أهل العلم في الإفطار أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين" قال النووي في شرح مسلم: لا تجوز شهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوزه بعدل انتهى. واحتجوا بما رواه الدارقطني والطبراني في الأوسط من طريق طاؤس قال شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس فجاء رجل إلي وإليها وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه وقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين، قال الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر الأيلي وهو ضعيف.
فإن قلت: هذا الحديث ضعيف فكيف يصح الاحتجاج به على عدم جواز شهادة رجل واحد في الإفطار.
قلت: أصل الاحتجاج بحديث عبد الرحمَن بن زيد وحديث الحارث بن حاطب المذكورين، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا" في حديث عبد الرحمَن بن زيد، وقوله: "فإن لم نره وشهد شاهداً عدل نسكنا بشهادتهما" في حديث الحارث يدلان بمفهومهما على عدم جواز شهادة رجل واحد في الإفطار ولا يعارضه منطوق بل منطوق حديث ابن عمر وابن عباس وإن كان ضعيفاً يؤيدهما(3/374)
باب ما جاء شهرا عيد لا ينفصان
...
4ـ باب ما جَاء شَهْراً عِيد لا يَنْقُصَان
688 ـ حدثنا أبو سلمة يَحْيَى بنُ خَلَفٍ البَصْرِيّ حدثنا بِشْرُ بنُ المُفَضّلِ عن خالدٍ الحَذّاءِ عن عبدِ الرحمَنِ بن أبي بَكْرَةَ عن أبيهِ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "شَهْرا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ: رمَضَانُ وذو الحِجّةِ".
ـــــــ
ذكره الحافظ في التلخيص ولم يذكر فيه قدحاً وإسناده لا بأس به على اختلاف فيه انتهى. واستدلوا أيضاً بحديث أمير مكة الحارث بن حاطب قال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما، رواه أبو داود والدارقطني وقال هذا إسناد متصل صحيح.
وأجاب من قال بقبول شهادة رجل في الصيام عن هذين الحديثين بأن التصريح بالإثنين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد بالمفهوم، وحديث ابن عباس وحديث ابن عمر المذكورين يدلان على قبوله بالمنطوق ودلالة المنطوق أرجح "ولم يختلف أهل العلم في الإفطار أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين" قال النووي في شرح مسلم: لا تجوز شهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوزه بعدل انتهى. واحتجوا بما رواه الدارقطني والطبراني في الأوسط من طريق طاؤس قال شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس فجاء رجل إلي وإليها وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه وقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين، قال الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر الأيلي وهو ضعيف.
فإن قلت: هذا الحديث ضعيف فكيف يصح الاحتجاج به على عدم جواز شهادة رجل واحد في الإفطار.
قلت: أصل الاحتجاج بحديث عبد الرحمَن بن زيد وحديث الحارث بن حاطب المذكورين، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا" في حديث عبد الرحمَن بن زيد، وقوله: "فإن لم نره وشهد شاهداً عدل نسكنا بشهادتهما" في حديث الحارث يدلان بمفهومهما على عدم جواز شهادة رجل واحد في الإفطار ولا يعارضه منطوق بل منطوق حديث ابن عمر وابن عباس وإن كان ضعيفاً يؤيدهما(3/374)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي بَكْرَةَ حديثٌ حسنٌ.
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ أبي بَكْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْسلاً.
قال أحمدُ: مَعْنَى هذا الحديثِ "شَهْرا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ" يقولُ: لا يَنْقُصَانِ مَعاً في سَنَةٍ واحِدَةٍ شَهْرُ رَمَضَانَ وذُو الحِجّةِ إنْ نقَصَ أحَدُهُمَا تَمّ الآخر.
وقال إسحاقُ: مَعْنَاهُ لا بَنْقُصَانِ، يقُولُ وإنْ كانَ تِسعاً وعِشْرِينَ فَهُوَ تَمَامٌ غَيْرُ نُقْصَانٍ. وعلى مَذْهَبِ إسحاقَ يَكُونُ يَنْقُصُ الشّهْرَانِ مَعاً في سَنَةٍ واحِدَةٍ.
ـــــــ
باب ما جَاء شَهْراً عِيد لا يَنْقُصَان
قوله: "رمضان وذو الحجة" بدلان وبيانان أطلق على رمضان أنه شهر عيد لقربه من العيد، ونظير قوله صلى الله عليه وسلم: "المغرب وتر النهار"، أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وصلاة المغرب ليلية جهرية وأطلق كونها وتر النهار لقربها منه. قاله الحافظ.
قوله: "حديث أبي بكر حديث حسن" وأخرجه الشيخان فالظاهر أنه صحيح "قال أحمد" أي ابن حنبل رحمه الله "إن نقص أحدهما تم الآخر" أي إن جاء أحدهما تسعاً وعشرين جاء الآخر ثلاثين "وقال إسحاق" أي ابن راهويه رحمه الله وإن كان تسعاً وعشرين فهو تمام غير نقصان أي فهو تام في الفضيلة غير ناقص "وعلى مذهب إسحاق يكون ينقص الشهران معاً في سنة واحدة" أي على مذهب إسحاق يجوز أن ينقصا معاً في سنة واحدة وفي صحيح البخاري: وقال أبو الحسن: كان إسحاق بن راهويه يقول: لا ينقصان في الفضيلة إن كان تسعة وعشرين أو ثلاثين انتهى. وذكر ابن حبان لهذا الحديث معنيين: أحدهما ما قال إسحاق، والآخر أنهما في الفضل سواء لقوله في الحديث الآخر: ما من أيام العمل فيها أفضل من عشر ذي الحجة، وقيل معناه لا ينقصان في عام بعينه وهو العام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم تلك المقالة. وقيل: المعنى لا ينقصان في الأحكام، وبهذا جزم البيهقي وقبله الطحاوي فقال معنى لا ينقصان أي الأحكام فيهما وإن كانتا تسعة(3/375)
ـــــــ
وعشرين متكاملة غير ناقصة عن حكمهما إذا كانا ثلاثين وقيل معناه لا ينقصان في نفس الأمر لكن ربما حال دون رؤية الهلال مانع، وهذا أشار إليه ابن حبان أيضاً ولا يخفي بعده. وقيل معناه لا ينقصان معاً في سنة واحدة على طريق الأكثر الأغلب وإن ندر وقوع ذلك، وهذا أعدل مما تقدم لأنه ربما وجد وقوعهما ووقوع كل منهما تسعة وعشرين. هذا تلخيص ما قاله الحافظ في فتح الباري.
وقال النووي في شرح مسلم: الأصح أن معناه لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما وإن نقص عددهما، وقيل معنا لا ينقصان جميعاً في سنة واحدة غالباً، وقيل لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان لأنه فيه المناسك حكاه الخطابي وهو ضعيف، والأول هو الصواب المعتمد، ومعناه أن قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقوله: "من قام رمضاناً إيماناً واحتساباً"، وغير ذلك، فكل هذه الفضائل تحصل سواء تم عدد رمضان أم نقص انتهى.
قلت: الظاهر هو ما قاله النووي والله تعالى أعلم(3/376)
بابما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم
...
9ـ باب ما جَاء لِكُلّ أهْلِ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُم
689 ـ حدثنا عَلِيّ بن حُجْرٍ، حدثنا إسماعيلُ بنُ جَعْفَر حدثنا محمدُ بنُ أبي حَرْمَلَةَ أخْبَرَنِي كُرَيْبٌ "أنّ أُمّ الفَضْلِ بِنْتَ الحَارِثِ بَعَثَتْهُ إلى مُعَاوِيَةَ بالشّامِ، قال: فَقَدِمْتُ الشّامَ فَقَضَيْتُ حَاجتَها واستُهِل عَليّ هِلاَلُ رَمَضَانَ وأنا بالشّامِ فرأَيْنَا الهِلاَلَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، ثمّ قَدِمْتُ المَدِينَةَ في آخرِ الشهْرِ فَسَأَلَنِي ابنُ عبّاسٍ ثُمّ ذكَرَ الهِلاَلَ فقالَ متَى رأَيْتُمْ الهِلاَلَ؟ فقلت: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فقال: أَأنْتَ رَأَيْتَهُ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ؟ فَقلت: رَآهُ النّاسُ فَصَامُوا وصَام مُعَاويِةُ، قَالَ: لكنْ رأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السّبْتِ فلا نَزَالُ نَصُوُمُ
ـــــــ
باب ما جَاء لِكُلّ أهْلِ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُم
قوله: "بعثته" أي كريباً "واستهل على رمضان" بضم التاء من استهل قاله النووي يعني بصيغة المجهول "فرأينا الهلال" وفي رواية مسلم: فرأيت الهلال "فقال أنت رأيته ليلة الجمعة فقلت رآه الناس وصاموا وصام معاوية " وفي رواية(3/376)
حتى نُكْمِلَ ثلاثينَ يَوْماً أو نَرَاهُ، فَقُلْتُ ألا تَكْتَفِي بِرُؤيَةِ مُعَاوِيَةَ وصِيَامِهِ؟ قال: لا هكَذَا أَمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم".
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
والعملُ على هذا الحديثِ عندَ أهلِ العلمِ أَنّ لِكُلّ أهْلِ بَلَدٍ رُؤْيَتهُمْ.
ـــــــ
مسلم: فقال أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية "فقال لكن رأيناه" أي فقال ابن عباس: لكن رأيناه "حتى نكمل" من الإكمال أو التكميل "فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه قال لا الخ" هذا بظاهره يدل على أن لكل أهل بلد رؤيتهم ولا تكفي رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر. قال النووي في شرح مسلم: والصحيح عند أصحابنا أن الرؤية لا تعم الناس بل تختص بمن قرب على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، وقيل إن اتفق المطلع لزمهم وإن اتفق الإقليم وإلا فلا. وقال بعض أصحابنا: تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض، فعلى هذا تقول: إنما لم يعمل ابن عباس بخبر كريب لأنه شهادة فلا تثبت بواحد، لكن ظاهر حديثه أنه لم يرده لهذا وإنما رده لأن الرؤية لا يثبت حكمها في حق البعيد انتهى.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم" ظاهر كلام الترمذي هذا أنه ليس في هذا اختلاف بين أهل العلم والأمر ليس كذلك.
قال الحافظ في الفتح: قد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: أحدها لأهل كل بلد رؤيتهم، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس ما يشهد له، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه، وحكى الماوردي وجهاً للشافعية.
ثانيها: مقابله إذا رؤى ببلدة لزم أهل البلاد كلها وهو المشهور عند المالكية، لكن حكى ابن عبد البر الإجماع على خلافه، وقال أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلاد كخراسان والأندلس. قال القرطبي: قد قال شيوخنا إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم. وقال بان الماجشون: لا يلزمهم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد(3/377)
ـــــــ
إذ حكمه نافذ في الجميع. وقال بعض الشافعية: إن تقاربت البلاد كان الحكم واحداً وإن تباعدت فوجهان لا يجب عند الأكثر، واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب، وحكاه البغوي عن الشافعي وفي ضبطه البعد أوجه: أحدها اختلاف المطالع، قطع به العراقيون والصيدلاني وصححه النووي في الروضة وشرح المهذب ثانيها مسافة القصر قطع به الإمام البغوي وصححه الرافعي في الصغير والنووي في شرح مسلم، ثالثها: اختلاف الأقاليم، رابعها: حكاه السرخسي فقال: يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم، خامسها: قول ابن ماجشون المتقدم. انتهى كلام الحافظ.
قلت: حديث ابن عباس الذي يشهد القول الأول أخرجه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عن كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل على رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال. فقال متى رأيتم الهلال؟ فقلت رأيناه ليلة الجمعة، فقال أنت رأيته؟ فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نراه، فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشوكاني في النيل بعد ذكر الأقوال التي ذكرها الحافظ ما لفظه: وحجة أهل هذه الأقوال حديث كريب هذا، ووجه الاحتجاج به أن ابن عباس لم يعمل برؤية أهل الشام وقال في آخر الحديث: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أنه قد حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر. واعلم أن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس والمشار إليه بقوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله: فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، والأمر الكائن من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ: لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين، وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الإنفراد بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم، لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم. ولو سلم توجه الإشارة في كلام ابن عباس إلى عدم لزوم رؤية(3/378)
10 ـ باب ما جَاء ما يُسْتَحَبّ عَلَيْهِ الإفْطَار
690 ـ حدثنا محمدُ بنِ عُمَرَ بنِ علي المُقدّميّ حدثنا سَعِيد بنِ عامِرٍ حدثنا شعْبَةُ عن عبدِ العزيزِ بنِ صُهَيْبٍ عن أنسِ بنِ مالكٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ وَجَدَ تَمْراً فَلْيُفْطِرْ عَلَيْهِ ومنْ لاَ فلْيُفْطِرْ على مَاءٍ فإِنّ الماء طَهُورٌ".
ـــــــ
أهل بلد لأهل بلد آخر، لكان عدم اللزوم مقيدأ بدليل العقل وهو أن يكون بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع. وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف عمل بالاجتهاد وليس بحجة، ولو سلم عدم لزوم التقييد بالعقل فلا يشك أن الأدلة قاضية بأن أهل الأقطار يعمل بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام الشرعية والرؤية من جملتها، وسواء كان بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أم لا، فلا يقبل التخصيص إلا بدليل. ولو سلم صلاحية حديث كريب هذا للتخصيص فينبغي أن يقتصر فيه على محل النص إن كان النص معلوماً أو على المفهوم منه إن لم يكن معلوماً لو رووه على خلاف القياس، ولم يأت ابن عباس بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بمعنى لفظه حتى ننظر في عمومه وخصوصه، إنما جاء بصيغة مجملة أشار بها إلى قصة هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام على تسليم أن ذلك المراد، ولم نفهم منه زيادة على ذلك حتى نجعله مخصصاً لذلك العموم، فينبغي الاقتصار على المفهوم من ذلك الوارد على خلاف القياس وعدم الإلحاق به، فلا يجب على أهل المدينة العمل برؤية أهل الشام دون غيرهم، ويمكن أن يكون في ذلك حكمة لا تعقلها. ولو تسلم صحة الإلحاق وتخصيص العموم به، فغايته أن يكون في المحلات التي بينها من البعد ما بين المدينة والشام أو أكثر وأما في أقل من ذلك فلا، وهذا ظاهر فينبغي أن ينظر ما دليل من ذهب إلى اعتبار البريد أو الناحية أو البلد في المنع من العمل بالرؤية. والذي ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وحكاه القرطبي عن شيوخه أنه إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد كلها، ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أن هذا القول خلاف الإجماع، قال لأنهم قد أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كخراسان والأندلس، وذلك لأن الإجماع لا يتم والمخالف مثل هؤلاء الجماعة. انتهى كلام الشوكاني فتفكر وتأمل(3/379)
باب ما جاء أن الفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون
...
11 ـ باب ما جَاء الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تُضحّون
693 ـ أخبرني محمدُ بنُ إسماعيل أخبرنا إبراهيم بنُ المُنْذِرِ أخبرنا إسحاقُ بنُ جَعْفَرٍ بنِ محمدٍ: حدّثَنِي عبدُ الله بنُ جَعْفَرٍ عن عثمانَ بنِ محمدٍ الأَخْنَسي عن سعيدٍ المَقْبُرِيّ عن أبي هُرَيْرَةَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "الصّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، والفِطْرُ يومَ تَفْطِرُونَ، والأضْحَى يَوْم تُضَحُونَ".
ـــــــ
باب ما جَاء الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تُضحّون
قوله: "الصوم يوم تصومون الخ" هذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجه أيضاً إلا أنهما لم يذكرا الصوم يوم تفطرون وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها بلفظ(3/382)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ وفَسّرَ بَعْضُ أهلِ العلمِ هذا الحديثَ فقال: إنّما مَعْنَى هذا، أنّ الصّوْم والفِطْر مع الجَمَاعَةِ وعظَمِ النّاسِ.
ـــــــ
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس"، أخرجه الترمذي وصححه وأخرجه الدارقطني أيضاً وقال: وقفه عليها هي الصواب.
قوله: "هذا حديث غريب حسن" وسكت عنه أبو داود والمنذري، وقال الشوكاني في النيل: رجال إسناده ثقات انتهى.
قوله: "وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس" بكسر العين وفتح الظاء أي كثرة الناس. وقال الخطابي في معنى الحديث: إن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قوماً اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد ثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعاً وعشرين فإن صومهم وفطرهم ماض لا شيء عليهم من وزر أو عيب، وكذلك هذا في الحج إذا أخطأوا يوم عرفة فإنه ليس عليهم إعادته. وقال المنذري في تلخيص السنن: وقيل فيه الإشارة إلى أن يوم الشك لا يصام احتياطاً وإنما يصوم يوم يصوم الناس، وقيل فيه الرد على من يقول إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل جاز له أن يصوم به ويفطر دون من لم يعلم، وقيل إن الشاهد الواحد إذا رأى الهلال ولم يحكم القاضي بشهادته أن هذا لا يكون هذا صوماً له كما لم يكن للناس انتهى. قال الشوكاني في النيل بعد كلام المنذري. وقد ذهب إلى الأخير محمد بن الحسن الشيباني قال: إنه يتعين على المنفرد برؤية هلال الشهر حكم الناس في الصوم والحج وإن خالف ما تيقنه، وروى مثل ذلك عن عطاء والحسن، والخلاف في ذلك للجمهور فقالوا يتعين عليه حكم نفسه فيما تيقنه وفسروا الحديث بمثل ما ذكر الخطابي. وقيل في معنى الحديث إنه إخبار بأن الناس يتحزبون أحزاباً ويخالفون الهدي النبوي، فطائفة تعمل بالحساب وعليه أمة من الناس، وطائفة يقدمون الصوم والوقوف بعرفة وجعلوا ذلك شعاراً وهم الباطنية، وبقي على الهدى النبوي الفرقة التي لا تزال ظاهرة على الحق فهي المرادة بلفظ الناس في الحديث وهي السواد الأعظم ولو كانت قليلة العدد، كذا في النيل(3/383)
12ـ باب ما جَاءَ إذا أقْبلَ اللّيْلُ وأَدْبَرَ النّهَارُ فَقَدْ أفطرَ الصّائِم
694 ـ حدثنا هارونُ بنُ إسحاقَ الهَمَدَانِي حدثنا عَبْدَةُ بن سليمان عن هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عَاصِمِ بنِ عُمَرَ عن عُمَر بنِ الخطّابِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إذا أقْبَلَ اللّيْلُ وأَدْبَرَ النّهَارُ وغَابَتِ الشّمس فقَدْ أَفْطَرْتَ".
قال: وفي الباب عن ابنِ أبي أَوْفَى وأَبى سعيدٍ
ـــــــ
باب ما جَاءَ إذا أقْبلَ اللّيْلُ وأَدْبَرَ النّهَارُ فَقَدْ أفطرَ الصّائِم
قوله: "إذا أقبل الليل" أي ظلامه من جهة المشرق "وأدبر النهار" أي ضياؤه من جانب المغرب "وغربت الشمس" أي غابت كلها: قال الطيبي: وإنما قال: وغربت الشمس مع الاستغناء عنه لبيان كمال الغروب كيلا يظن أنه يجوز الإفطار لغروب بعضها انتهى. وقال الحافظ في الفتح: ذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور لأنها وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الأصل غير متلازمة، فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة بل لوجود أمر يغطي ضوء الشمس، وكذلك إدبار النهار فمن ثم قيد بقوله: وغربت الشمس إشارة إلى اشتراط تحقق الإقبال والأدبار وأنهما بواسطة غروب الشمس لا بسبب آخر انتهى "فقد أفطرت" وفي رواية الشيخين: فقد أفطر الصائم. قال الحافظ: أي دخل في وقت الفطر كما يقال. أنجد إذا أقام بنجد وأتهم إذا أقام بتهامة، ويحتمل أن يكون معناه فقد صار مفطراً في الحكم لكون الليل ليس ظرفاً للصيام الشرعي، وقد رد هذا الاحتمال ابن خزيمة وأومأ إلى ترجيح الأول فقال: قوله "فقد أفطر الصائم" لفظ خبر ومعناه الأمر أي فليفطر الصائم. ورجح الحافظ الاحتمال الأول برواية شعبة بلفظ: فقد حل الإفطار. وقال الطيبي: ويمكن أن يحمل الإخبار على الإنشاء إظهاراً للحرص على وقوع المأمور به انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن أبي أوفى وأبي سعيد" أما حديث ابن أبي أوفى فأخرجه البخاري ومسلم، وأما حديث أبي سعيد فلم أقف عليه، وذكر البخاري في صحيحه تعليقاً من فعله بلفظ: وأفطر أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس. قال الحافظ في الفتح: وصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من طريق عبد الواحد ابن أيمن عن أبيه قال: دخلنا على أبي سعيد فأفطر ونحن نرى أن الشمس لم تغرب.(3/384)
قال أبو عيسى: حديثُ عُمَر حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.(3/385)
13ـ باب ما جَاءَ في تَعْجِيلِ الإفْطَار
695 ـ حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبدُ الرحمَن بنُ مَهْدِي عن سُفْيَانَ عن أبي حَازِمٍ ح قال وأخبرنا أبو مُصْعَبٍ قِرَاءَةً عن مَالِك عن أبي حَازِمٍ عن سهْلِ بنِ سَعْدٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "لا يَزَالُ الناسُ بِخَيْر مَا عَجّلُوا الفِطْرَ".
قال: وفي البابِ عن أبي هريرةَ وابنِ عباسٍ وعائشةَ وأنسِ بنِ مالكٍ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في تَعْجِيلِ الإفْطَار
قوله: "لا يزال الناس بخير" في حديث أبي هريرة: لا يزال الدين ظاهراً، وظهور الدين مستلزم لدوام الخير "ما عجلوا الفطر " أي ما داموا على هذه السنة، زاد أبو ذر في حديثه: وأخروا السحور، أخرجه أحمد، "وما" ظرفية، أي مدة فعلهم ذلك امتثالاً للسنة واقفين عند حدها غير متنطعين بعقولهم ما يغير قواعدها زاد أبو هريرة: لأن اليهود والنصارى يؤخرون، أخرجه أبو داود وغيره. واتفق العلماء على أن محل ذلك إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بإخبار عدلين وكذا عدل واحد في الأرجح، قاله الحافظ في الفتح: قال القاري: قال بعض علمائنا: ولو أخر لتأديب النفس ومواصلة العشاءين بالنفل غير معتقد وجوب التأخير لم يضره ذلك، أقول: بل يضره حيث يفوته السنة، وتعجيل الإفطار بشربة ماء لا ينافي التأديب والمواصلة، مع أن في التعجيل إظهار العجز المناسب للعبودية ومبادرة إلى قبول الرخصة من الحضرة الربوبية انتهى كلام القاري.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه مرفوعاً بلفظ: لا يزال هذا الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون " وابن عباس" أخرجه الطيالسي بلفظ: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا، ونضع(3/385)
قال أبو عيسى: حديثُ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهو الذي اختارَهُ أهلُ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهِم اسْتَحَبّوا تَعْجِيلٍ الفِطْرِ. وبه يقولُ الشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
696 ـ حدثنا إسحاق بنُ موسى الأنْصَاريّ حدثنا الوليدُ بنُ مُسْلِمٍ عن الأوزاعِيّ عن قُرّةَ بن عبد الرحمن عن الزهْرِيّ عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هُريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "قال الله عزّ وجلّ: أحبُ عِبَادِي إليّ أَعْجَلُهُمْ فِطْراً".
697 ـ حدثنا عبدُ الله بنُ عبدِ الرحمَنِ أخبرنا أبو عاصِمٍ و أبو المُغِيرَةِ عن الأوزَاعِي بهذا الإسناد نحوَهُ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ـــــــ
أيماننا على شمائلنا في الصلاة"، كذا في سراج السرهندي "وعائشة رضي الله عنها" أخرجه الترمذي "وأنس بن مالك" أخرجه الحاكم وابن عساكر بلفظ: من فقه الرجل في دينه تعجيل فطره، وتأخير سحوره، وتسحروا فإنه الغذاء المبارك.
قوله: "حديث سهل بن سعد حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وهو الذي اختاره أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الخ" أخرجه عبد الرزاق وغيره بإسناد قال الحافظ صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً انتهى.
قوله: "أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً" أي أكثرهم تعجيلاً في الإفطار. قال الطيبي: ولعل السبب في هذه المحبة المتابعة للسنة والمباعدة عن البدعة والمخالفة لأهل الكتاب انتهى. وقال القاري: وفيه إيماء إلى أفضلية هذه الأمة لأن متابعة الحديث توجب محبة الله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وإليه الإشارة بحديث: لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" ورواه أحمد وابن حزيمة وابن حبان في صحيحهما نقله ميرك، كذا في المرقاة.(3/386)
698 ـ حدثنا هنادٌ حدثنا أبو مُعاوِيَةَ عن الأعمشِ عن عُمَارَةَ بنِ عُمَيْرٍ عن أبي عَطِيّةَ قال: دخَلْتُ أنا ومَسْروقٌ على عائشةَ فَقُلْنَا يا أُمّ المُؤْمِنِينَ رَجُلاَنِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَحَدُهُمَا يُعَجّلُ الإِفْطَارَ ويُعَجّلُ الصّلاةَ، والآخر يُؤخّرُ الإفطَارَ ويؤَخّرُ الصلاةَ. قالت: أيّهُما يُعَجّلُ الإفطَارَ ويُعَجّلُ الصلاةَ؟ قلنا عبدُ الله بنُ مَسْعُودٍ، قالت: هكذَا صَنَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. والآخر أبو مُوسى.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبو عطيةَ اسْمُهُ مَالِكُ بنُ أَبِي عَامِر الهَمدَانِيّ ويقال: ابن عَامِرٍ الهَمْدَانيّ وابن عامرٍ أَصَحّ.
ـــــــ
قوله: "ويعجل الصلاة" الظاهر أن المراد صلاة المغرب، ويمكن حملها على العموم وتكون المغرب من جملتها، قاله أبو الطيب السندي "والآخر أبو موسى" قال الطيبي: الأول عمل بالعزيمة والسنة والثاني بالرخصة انتهى. قال القاري: وهذا إنما يصح لو كان الاختلاف في الفعل فقط أما إذا كان الاختلاف قولياً فيحمل على أن ابن مسعود اختار المبالغة في التعجيل وأبو موسى اختار عدم المبالغة فيه، وإلا فالرخصة متفق عليها عند الكل، والأحسن أن يحمل عمل ابن مسعود على السنة وعمل أبي موسى على بيان الجواز انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(3/387)
14 ـ باب ما جَاءَ في تَأْخِيرِ السّحُور
699 ـ حدثنا يَحْيَى بنُ موسى حدثنا أبو داوُدَ الطيالِسِيّ حدثنا هِشَامٌ الدّسْتَوَائِي عن قَتَادَةَ عن أنسِ بن مالك عن زَيْدِ بن ثابتٍ قال "تَسَحّرْنَا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قُمْنَا إلى الصلاةِ قال: قلت كَمْ كانَ قَدْرُ ذلكَ؟ قال: قَدْرُ خَمْسِينَ آيةً".
ـــــــ
"باب ما جاء في تأخير السحور"
بفتح السين وهو ما يتسحر به من الطعام وبالضم مصدر
قوله: "قال: قلت" أي قال أنس: قلت لزيد بن ثابت "كم كان قدر ذاك؟"(3/378)
15 ـ باب ما جَاءَ في بَيَانِ الفَجْر
701 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا مُلاَزِمُ بنُ عَمْروٍ حدّثني عبدُ الله بنُ النّعْمَانِ عن قَيْسِ بنِ طَلْقِ بنِ عليَ حدّثني أبي طَلْقُ بنُ علي أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُوا واشْرَبُوا ولا يَهِيْدَنّكُمُ السّاطِعُ المُصْعَدُ وكُلُوا واشْرَبُوا حتى يَعْتَرِضَ لكُم الأحْمَرُ".
قال: وفي البابِ عن عَدِيّ بنِ حاتِمٍ وأبي ذر وسَمُرَةَ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في بَيَانِ الفَجْر
قوله: "أخبرنا ملازم بن عمرو" بن عبد الله بن بدر أبو عمرو اليمامي صدوق من الثامنة كذا في التقريب، قلت: روي عن عبد الله بن نعمان وغيره وعنه هناد وغيره، وقال ابن معين وأبو زرعة والنسائي ثقة "قال حدثني عبد بن النعمان" السحيمي اليمامي مقبول من السادسة كذا في التقريب وقال في الخلاصة: وثقه ابن حبان "ولا يهيدنكم" بفتح أوله وبالدال من هاده يهيده هيداً وهو الزجر "الساطع المصعد" بصيغة المفعول من الإصعاد أي المرتفع. قال في المجمع: أي لا تنزعجوا للفجر المستطيل فتمتنعوا به عن السحور فإنه الصبح الكاذب، وأصل الهيد الحركة انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قوله "لا يهيدنكم" بكسر الهاء أي لا يزعجنكم فتمتنعوا به عن السحور فإنه الفجر الكاذب، يقال: هدته أهيده إذا أزعجته. ولإبن أبي شيبة عن ثوبان مرفوعاً: الفجر فجران، فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئاً ولا يحرمه ولكن المستطير، أي هو الذي يحرم الطعام ويحل الصلاة، وهذا موافق للآية الماضية يعني {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} " حتى يعترض لكم الأحمر" أي الفجر الأحمر المعترض من المراد به الصبح الصادق. وفي عمدة القاري: قوله الساطع المصعد قال الخطابي: سطوعه ارتفاعه مصعداً قبل أن يعترض، قال ومعنى الأحمر ههنا أن يستبطن البياض المعترض أوائل حمرة. انتهى ما في العمدة.
قوله: "وفي الباب عن عدي بن حاتم وأبي ذر وسمرة" أما حديث عدي بن(3/389)
قال أبو عيسى: حديثُ طَلْقِ بن علي حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الوجْهِ. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ أنه لا يَحْرُم على الصّائِمِ الأكلُ والشرْبُ حتى يكُونَ الفَجْرُ الأحْمَر المُعْتَرِضُ. وبهِ يقولُ عَامّةُ أهلِ العلمِ.
أخبرنا هَنّادٌ و يوسُفُ بنُ عيسى قالا أخبرنا وَكيعٌ عن أبي هِلاَلِ عن سَوَادَةَ بنِ حَنْظَلَةَ "هو القشيري" عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "لا يُمْنَعَنّكُمْ مِنْ سُحُورِكُم أذانُ بِلاَلٍ ولا الفَجْرُ المُسْتَطِيل ولكنِ الفَجْرُ المُسْتَطيرُ في الأفُقِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
حاتم فأخرجه الشيخان وأخرجه أيضاً الترمذي في كتاب التفسير، وأما حديث أبي ذر فأخرجه الطحاوي في شرح الآثار بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: إنك تؤذن إذا كان الفجر ساطعاً وليس ذلك الصبح إنما الصبح هكذا معترضاً كذا في نصب الراية. وأما حديث سمرة فأخرجه مسلم مرفوعاً بلفظ: لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا يعني معترضاً. وفي رواية: ولا هذا البياض حتى يستطير، وأخرجه الترمذي في هذا الباب.
قوله: "حديث طلق بن علي حديث حسن غريب من هذا الوجه" ذكر الحافظ هذا الحديث في فتح الباري وسكت عنه.
قوله: "وبه يقول عامة أهل العلم" من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وغيرهم وعليه تدل الأحاديث المرفوعة الصحيحة. وذهب معمر وسليمان الأعمش وأبو مجلز والحكم بن عتيبة إلى جواز التسحر ما لم تطلع الشمس، واحتجوا في ذلك بحديث حذيفة الذي أشار إليه الترمذي وذكرنا لفظه. وقال ابن حزم عن الحسن: كل ما امتريت. وعن ابن جريج قلت لعطاء أيكره أن أشرب وأنا في البيت لا أدري لعلي أصبحت؟ قال لابأس بذلك هو شك. وقال ابن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم قال: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق. وعن معمر أنه كان يؤخر السحور(3/390)
ـــــــ
جداً حتى يقول الجاهل لا صوم له. وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر من طرق عن أبي بكر أنه أمر بغلق الباب حتى لا يرى الفجر. وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه أنه صلى الصبح ثم قال: الآن حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. وقال ابن المنذر: ذهب بعضهم إلى أن المراد بتبيين بياض النهار من سواد الليل أن ينتشر البياض من الطرق والسكك والبيوت. وروي بإسناد صحيح عن سالم بن عبيد الأشجعي وله صحبة أن أبا بكر رضي الله عنه قال له: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال فنظرت ثم أتيته فقلت قد أبيض وسطع، ثم قال اخرج فانظر هل طلع؟ فنظرت فقلت قد اعترض فقال الآن ابلغني شرابي. وروى من طريق وكيع عن الأعمش أنه قال: لولا الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت، كذا في عمدة القاري وفتح الباري.
قلت: تقدم الجواب عن حديث حذيفة، وأما الآثار فهي لا تقاوم الأحاديث المرفوعة الصحيحة(3/391)
16ـ باب ما جَاءَ في التشْدِيدِ في الغيْبَةِ للصّائِم
702 ـ حدثنا أبو موسى محمدُ بنُ المُثَنّى حدثنا عُثْمَانُ بنُ عُمَرَ قال وأخبرنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عن المَقْبُرِيّ عن أبيهِ عن أبي هُريرةَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزّورِ والعَمَلَ بهِ فَلَيْسَ لله حاجَةٌ بأَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في التشْدِيدِ في الغيْبَةِ للصّائِم
قوله: "من لم يدع" أي لم يترك "قول الزور" زاد البخاري في رواية "والجهل" قال الحافظ في الفتح: المراد بقول الزور الكذب انتهى. وقال القاري: المراد به الباطل، وهو ما فيه اسم والإضافة بيانية. وقال الطيبي: الزور الكذب والبهتان، أي من لم يترك القول الباطل من قول الكفر وشهادة الزور والإفتراء والغيبة والبهتان والقذف والشتم واللعن وأمثالها مما يجب على الإنسان اجتنابها ويحرم عليه ارتكابها " والعمل" بالنصب "وبه" أي بالزور يعني الفواحش من الأعمال لأنها في الإثم كالزور. وقال الطيبي: هو العمل بمقتضاه من الفواحش وما نهى الله عنه " فليس لله حاجة" أي التفات ومبالاة، وهو مجاز عن عدم القبول(3/391)
قال: وفي البابِ عن أنسِ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
به نفي السبب وإرادة نفي المسبب "بأن يدع طعامه وشرابه" فإنهما مباحان في الجملة فإذا تركهما وارتكب أمراً حراماً من أصله استحق المقت وعدم قبول طاعته. قال القاضي: المقصود من الصوم كسر الشهوة وتطويع الأمارة، فإذا لم يحصل منه ذلك لم يبال بصومه ولم ينظر إليه نظر عناية، فعدم الحاجة عبارة عن عدم الإلتفات والقبول، وكيف يلتفت إليه والحال أنه ترك ما يباح من غير زمان الصوم من الأكل والشرب وارتكب ما يحرم عليه في كل زمان انتهى. قال ابن بطال: ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه، وهو مثل قوله: من باع الخمر فليشقص الخنازير أي يذبحها، ولم يأمره بذبحها ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر. وأما قوله "فليس" لله حاجة فلا مفهوم له، فإن الله لا يحتاج إلى شيء انتهى. قال الحافظ في الفتح: قال شيخنا يعني العراقي في شرح الترمذي: لما أخرج الترمذي هذا الحديث ترجم ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم وهو مشكل لأن الغيبة ليست قول الزور ولا العمل به لأنها أن يذكر غيره بما يكره، وقول الزور هو الكذب، وقد وافق الترمذي بقية أصحاب السنن فترجموا بالغيبة وذكروا هذا الحديث، وكأنهم فهموا من ذكر قول الزور والعمل به الأمر بحفظ النطق، ويمكن أن يكون فيه إشارة إلى الزيادة التي وردت في بعض طرقه وهي الجهل، فإنه يصح إطلاقه على جميع المعاصي. وأما قوله "والعمل به" فيعود على الزور، ويحتمل أن يعود أيضاً على الجهل أي والعمل بكل منهما انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ: من لم يدع الخنا والكذب، ورجاله ثقات، قاله الحافظ في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا مسلماً والنسائي(3/392)
17 ـ باب ما جَاء في فَضْلِ السّحُور
703ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا أبو عَوَانَةَ عن قَتَادَةَ و عبدِ العَزِيزِ بنِ
ـــــــ
به نفي السبب وإرادة نفي المسبب "بأن يدع طعامه وشرابه" فإنهما مباحان في الجملة فإذا تركهما وارتكب أمراً حراماً من أصله استحق المقت وعدم قبول طاعته. قال القاضي: المقصود من الصوم كسر الشهوة وتطويع الأمارة، فإذا لم يحصل منه ذلك لم يبال بصومه ولم ينظر إليه نظر عناية، فعدم الحاجة عبارة عن عدم الإلتفات والقبول، وكيف يلتفت إليه والحال أنه ترك ما يباح من غير زمان الصوم من الأكل والشرب وارتكب ما يحرم عليه في كل زمان انتهى. قال ابن بطال: ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه، وهو مثل قوله: من باع الخمر فليشقص الخنازير أي يذبحها، ولم يأمره بذبحها ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر. وأما قوله "فليس" لله حاجة فلا مفهوم له، فإن الله لا يحتاج إلى شيء انتهى. قال الحافظ في الفتح: قال شيخنا يعني العراقي في شرح الترمذي: لما أخرج الترمذي هذا الحديث ترجم ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم وهو مشكل لأن الغيبة ليست قول الزور ولا العمل به لأنها أن يذكر غيره بما يكره، وقول الزور هو الكذب، وقد وافق الترمذي بقية أصحاب السنن فترجموا بالغيبة وذكروا هذا الحديث، وكأنهم فهموا من ذكر قول الزور والعمل به الأمر بحفظ النطق، ويمكن أن يكون فيه إشارة إلى الزيادة التي وردت في بعض طرقه وهي الجهل، فإنه يصح إطلاقه على جميع المعاصي. وأما قوله "والعمل به" فيعود على الزور، ويحتمل أن يعود أيضاً على الجهل أي والعمل بكل منهما انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ: من لم يدع الخنا والكذب، ورجاله ثقات، قاله الحافظ في الفتح.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا مسلماً والنسائي(3/392)
صُهَيْبٍ عن أنَسٍ بنِ مالكٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "تَسَحّرُوا فإنّ في السّحُورِ بَرَكَةً".
قال: وفي البابِ عن أبي هريرة وعبدِ الله بنِ مَسْعُودٍ وجَابرِ بنِ عبدِ الله وابنِ عباسٍ وعَمْرِو بنِ العاصِ والعِربَاضِ بنِ سَارِيَةَ وعُتْبَةَ بنِ عَبْد الله وأبِي الدّارْدَاءِ.
ـــــــ
باب ما جَاء في فَضْلِ السّحُور
بالفتح هو اسم ما يتسحر به من الطعام والشراب، وبالضم المصدر والفعل نفسه كذا في النهاية
قوله : "تسحروا" أمر ندب كما أجمعوا عليه أي تناولوا شيئاً ما وقت السحر لحديث: تسحروا ولو بجرعة ماء، وقد صححه ابن حبان وقيل إنه ضعيف انتهى. قلت: قال الحافظ في فتح الباري: يحصل السحور بأقل ما يتناوله المرء من مأكول ومشروب. وقد أخرج أحمد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين: ولسعيد بن منصور من طريق أخرى مرسلة: تسحروا ولو بلقمة انتهى "فإن في السحور بركة" قال القاري: الرواية المحفوظة عند المحدثين فتح السين وهو ما يتسحر به من الطعام والشراب انتهى. وقال الجزري في النهاية: أكثر ما يروى بالفتح وقيل الصواب بالضم لأنه المصدر والأجر في الفعل لا في الطعام انتهى. قال الحافظ في الفتح: هو بفتح السين وبضمها لأن المراد بالبركة الأجر والثواب فيتناسب الضم لأنه مصدر بمعنى التسحر أو البركة لكونه يقوي على الصوم وينشط له ويخفف المشقة فيه فيناسب الفتح لأنه ما يتسحر به، وقيل البركة ما يتضمن من الاستيقاظ والدعاء في السحر، والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة وهي أتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوى به على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، أو يجتمع معه الأكل والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وابن عباس وعمرو بن العاص والعرباض بن سارية وعتبة بن عبد وأبي الدرداء"(3/393)
قال أبو عيسى: حديثُ أنسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ورُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فَضْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنا وصِيَامِ أهْلِ الكِتَابِ أكْلَةُ السّحَرِ".
704 ـ حدثنا بذلك قُتَيْبَةُ حدثنا اللّيْثُ عن موسى بنِ عَلي عن أبيهِ عن أبي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرو بنِ العاصِ عن عَمْروِ بنِ العاصِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك.
ـــــــ
أما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود وابن حبان عنه مرفوعاً: نعم سحور المؤمن التمر. وأما حديث عبد الله بن مسعود وحديث جابر فلينظر من أخرجهما. وأما حديث ابن عباس فأخرجه البزار والطبراني في الكبير عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة ليس عليهم حساب فيما طعموا إن شاء الله تعالى إذا كان حلالاً: الصائم والمتسحر والمرابط في سبيل الله". وأما حديث عمرو بن العاص فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث العرباض بن سارية فأخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال المنذري: رووه كلهم عن الحارث بن زياد عن أبي رهم عن العرباض، والحارث لم يرو عنه غير يونس بن سيف وقال أبو عمر النمري مجهول يروى عن أبي رهم حديثه منكر انتهى. وأما حديث عتبة بن عبد فلينظر من أخرجه، وأما حديث أبي الدرداء فأخرجه ابن حبان في صحيحه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هو الغداء المبارك"، يعني السحور.
قوله: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب" ما زائدة أضيف إليها الفصل بمعنى الفرق "أكملة السحر" قال النووي: بفتح الهمزة هكذا ضبطناه وهكذا ضبطه الجمهور وهو المشهور في روايات بلادنا وهي عبارة عن المرة الواحدة من الأكل كالغدوة والعشوة وإن كثر المأكول فيها. وأما الأكلة بالضم فهي اللقمة الواحدة، وادعى القاضي عياض أن الرواية فيه بالضم ولعله أراد رواية بلا وهم فيها بالضم قال والصواب الفتح لأنه المقصود هنا انتهى كلام النووي. قال التوربشتي: والمعنى أن السحور هو الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب لأن الله تعالى أباحته لنا إلى الصبح بعد ما كان حراماً علينا أيضاً في بدء الإسلام، وحرمه عليهم بعد أن يناموا أو مطلقاً، ومخالفتنا إياهم تقع موقع الشكر لتلك النعمة،(3/394)
ال: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وأهْلُ مِصْرَ يقُولُونَ: موسى بنُ عَلي، وأهْلُ العِراقِ يقُولُونَ: موسى بنُ عُلَيّ بنِ رَبَاحٍ اللّخْمِيّ.
ـــــــ
فقول ابن الهمام إنه من سنن المرسلين غير صحيح، كذا في المرقاة.
قوله: "وهذا حديث حسن صحيح" أخرجه مسلم.
قوله: " وأهل مصر يقولون موسى بن علي" بفتح العين وكسر اللام "وأهل العراق يقولون موسى بن علي" بضم العين مصغراً "وهو موسى بن علي بن رباح اللخمي" أبو عبد الرحمَن البصري صدوق ربما أخطأ من السابعة كذا في التقريب.(3/395)
باب ما جاء في في كراهية الصوم في السفر
...
18 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الصّومِ في السّفَر
705 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ عن جَعْفَرِ بنِ محمدٍ عن أبيهِ عن جَابرِ بنِ عبدِ الله "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلى مَكّةَ عامَ الفَتْحِ فَصامَ حتى بَلَغ كُرَاعَ الغَمِيمِ وصَامَ الناسُ مَعَهُ، فقيلَ لَهُ: إنّ الناسَ قَدْ شَقّ عليهِم الصّيَامُ وإنّ الناسَ يَنْظُرونَ فيما فَعَلْتَ، فدعَا بِقَدَحٍ مِنْ ماءٍ بعدَ العَصْرِ فَشَرِبَ والناسُ ينظرونَ إليهِ فأفْطَرَ بَعْضُهُمْ وصَامَ بعضُهُمْ، فبلغَهُ أنّ ناساً صاموا، فقال أولئكَ العُصَاةُ".
قال: وفي البابِ عن كَعْبِ بنِ عاصمٍ وابنِ عباسٍ وأبي هريرةَ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الصّومِ في السّفَر
قوله: "عام الفتح" أي فتح مكة "حتى بلغ كراع الغميم" بضم الكاف والغميم بفتح المعجمة وهو اسم واد أمام عسفان قاله الحافظ "فدعا بقدح من ماء" زاد في رواية مسلم: فرفعه "فقال أولئك العصاة" جمع العاصي: وفي رواية مسلم: أولئك العصاة أولئك العصاة مكرراً مرتين . قال النووي: هذا محمول على من تضرر بالصوم أو أنهم أمروا بالفطر أمراً جازماً لمصلحة بيان جوازه فخالفوا الواجب، وعلى التقديرين لا يكون الصائم اليوم في السفر عاصياً إذا لم يتضرر به ويؤيد التأويل الأول قوله: فقيل إن الناس قد شق عليهم الصيام.
قوله: "وفي الباب عن كعب بن عاصم" أخرجه أحمد. قال الحافظ في التلخيص:(3/395)
قال أبو عيسى: حديثُ جابرٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال "لَيْسَ مِنَ البِرّ الصيامُ في السّفَرِ".
واختلَفَ أهلُ العلمِ في الصّوْمِ في السّفَرِ، فرأَى بعض أهلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم أنّ الفِطْرَ في السّفَرِ أفْضَلُ، حتى رأَى بعضُهم عليهِ الإعادَةَ إذا صَامَ في السّفَرِ. واختارَ أحمدُ وإسحاقُ الفِطْرَ في السّفَرِ.
وقال بعضُ أهلِ العِلمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم: إنْ وَجَدَ قُوّةً فصَامَ فَحَسَنٌ وهو أفْضَلُ، وهُوَ قَوْلُ سفيانَ الثّوْرِيّ ومالكِ بنِ أنسٍ وعبدِ الله بنِ المبارَكِ.
ـــــــ
روى أحمد من حديث كعب بن عاصم الأشعري بلفظ: ليس من أمبر مصيام في مسفر، وهذه لغة لبعض أهل اليمن يجعلون لام التعريف ميما، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بها هذا الأشعري كذلك لأنها لغته، ويحتمل أن يكون الأشعري هذا نطق بها على ما ألف من لغته فحملها عنه الراوي عنه وأداها باللفظ الذي سمعها به، وهذا الثاني أوجه عندي والله تعالى أعلم انتهى كلام الحافظ.
قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس من البر الصيام في السفر" أخرجه البخاري ومسلم عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال "ما هذا؟" قالوا: صائم، فقال: "ليس من البر الصوم في السفر"، ترجم البخاري في صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر: ليس من البر الصوم في السفر، قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر " ر ما ذكر من المشقة، وأن من روى الحديث مجرداً فقد اختصر القصة انتهى.
قوله: "واختلف أهل العلم في الصوم في السفر الخ" قال الحافظ في فتح الباري: وقد اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة: لا يجزئ الصوم في السفر عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر لظاهر قوله(3/396)
وقال الشافعيّ: وإنّما مَعْنَى قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم "لَيْسَ مِنَ البِرّ الصّيَامُ في السّفَرِ" وقولِه حين بلَغَهُ أنّ ناساً صامُوا فقال "أولئكَ العُصَاةُ" فَوَجْهُ هذا إذا لَمْ يَحْتَمِلْ قْلبُهُ قَبُولَ رُخْصَةِ الله، فأما مَنْ رأَى الفِطْرَ مُباحاً وصامَ وقَوِيَ على ذلكَ فهو أعْجَبُ إليّ.
ـــــــ
تعالى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر"، ومقابلة البر الإثم، وإذا كان آثماً بصومه لم يجزئه، وهذا قول بعض أهل الظاهر، وحكي عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم، واحتجوا بقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قالوا: ظاهره فعليه عدة، أو فالواجب عدة، وتأوله الجمهور بأن التقدير: فأفطر فعدة، ومقابل هذا القول قول من قال إن الصوم في السفر لا يجوز لمن خاف على نفسه الهلاك والمشقة الشديدة، حكاه الطبري عن قوم. وذهب أكثر العلماء ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق عليه، وقال كثير منهم الفطر أفضل عملاً بالرخصة، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال آخرون: هو مخير مطلقاً، وقال آخرون: أفضلهما أيسرهما لقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واختاره ابن المنذر. والذي يترجح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة كما في المسح على الخفين انتهى كلام الحافظ.
قوله: "فوجه هذا إذا لم يحتمل قلبه قبول رخصة الله تعالى الخ" والظاهر أن قوله: ليس من البر الح وقوله: أولئك العصاة، محمول على من تضرر بالصوم وشق عليه كما تقدم(3/397)
19 ـ باب ما جَاء في الرُخصَةِ في الصوّمِ في السّفَر
706 ـ حدثنا هارونُ بنُ إسحاقَ الهَمَدانِيّ عن عَبْدَة بنُ سُلَيمانَ
ـــــــ(3/397)
عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عَائشَةَ أنّ حمزةَ بنَ عَمْروٍ الأسْلَمِيّ سأَلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الصّومِ في السّفرِ وكان يَسْرُدُ الصّومَ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِر".
قال: وفي البابِ عن أنسِ بنِ مالكٍ وأبي سعيدٍ وعبدِ الله بنِ مسْعودٍ وعبدِ الله بنِ عَمْروٍ وأبي الدّرْدَاءِ وحَمْزَةَ بنِ عَمْروٍ الأسْلَمِيّ.
ـــــــ
باب ما جَاء في الرُخصَةِ في الصوّمِ في السّفَر
قوله: "وكان يسرد الصوم" من باب نصر ينصر أي يتابعه ويواليه، وفي رواية الصحيحين: قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأصوم في السفر، وكان كثير الصيام، وفي رواية لمسلم: فقال يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم فأصوم في السفر. قال الحافظ في التلخيص: وفي رواية صحيحة عند أبي داود ما يقتضي أنه سأله عن الفرض وصححها الحاكم "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" قال النووي: فيه دليل لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان، قال وفيه دلالة لمذهب الشافعي ومرافقيه أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف ضرراً ولا يفوت به حقاً بشرط فطر يوم العيدين والتشريق لأنه أخبره بسرده لم ينكر عليه بل أقره عليه انتهى.
قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على عدم كراهة صوم الدهر نظراً لأنه يحتمل أن يكون المراد من قوله إني رجل أسرد الصوم أي أكثر الصيام كما يدل عليه قوله: وكان كثير الصيام، فما لم ينتف هذا الاحتمال لا يتم الاستدلال.
قوله: "وفي الباب عن أنس بن مالك وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وأبي الدرداء وحمزة بن عمرو الأسلمي" أما حديث أنس بن مالك فأخرجه الشيخان عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر فنزلنا منزلاً في يوم حار فسقط الصوامون وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر". وأما حديث أبي سعيد فأخرجه مسلم وأخرجه الترمذي أيضاً في هذا الباب هذا الباب وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه الطحاوي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر ويفطر. وأما حديث عبد الله بن عمرو فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي الدرداء فأخرجه الشيخان عنه قال: خرجنا مع(3/398)
قال أبو عيسى: حديثُ عائشة أنّ حَمزَةَ بنَ عَمْرٍو سأَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
707 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَليّ الجَهْضَمِيّ حدثنا بِشْرُ بنُ المُفَضّلِ عن سَعِيدِ بنِ يزيدَ أبي مَسْلَمَةَ عن أبي نَضْرةَ عن أبي سعيدٍ الخدري قال "كُنّا نُسَافِرُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في رَمَضَانَ فما يَعيبُ على الصائِمِ صَوْمهُ ولا على المُفْطِرِ إفطارَهُ".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
708 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عليَ حدثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ حدثنا الجُرَيْرِي، ح قال وحدثنا سفيانُ بنُ وَكيعٍ حدثنا عبدُ الأعلَى عن الجُرَيْرِيّ عن أبي نَضْرَةَ عن أبي سعيدٍ قال "كُنّا نُسَافِرُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَمِنّا الصّائِمُ ومنّا المُفْطِرُ فلا يَجِدُ المُفْطِرُ على الصّائِمِ ولا الصّائِمُ على المُفْطِرِ، فكانوا يَرَوْنَ أنّهُ مَنْ وَجَدَ قُوّةَ فصَامَ فَحَسَنٌ، ومَنْ وَجَدَ ضَعفاً فأَفْطَر فَحَسَنٌ"
ـــــــ.
رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا يضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة. وأما حديث حمزة بن عمرو الأسلمي فأخرجه مسلم والنسائي عنه أنه قال يا رسول الله أجد مني قوة على الصوم في السفر فهل على جناح؟ فقال: "هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه".
قوله: "حديث عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "فما يعاب على الصائم صومه" لعمله بالعزيمة " ولا على المفطر ففطره" لعمله بالرخصة.
قوله: "فلا يجد المفطر على الصائم" أي لا يغضب قال في القاموس: وجد عليه يجد ويجد وجد أو جدة وموجدة غضب "وكانوا يرون أنه من وجد قوة فصام فحسن ومن وجد ضعفاً فأفطر فحسن" قال النووي: هذا صريح بترجيح(3/399)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
مذهب الأكثرين وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة، وقال بعض العلماء الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث، والصحيح قول الأكثرين والله أعلم انتهى. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه: وهذا التفصيل هو المعتمد وهو نص رافع النزاع إنتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(3/400)
20 ـ باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ للِمُحَارِبِ في الإفْطَار
709 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا ابنُ لَهْيَعَةَ عن يَزِيدَ بْن أبي حَبِيبٍ عن مَعْمَرِ بنِ أبي حُيَيّةَ عن ابنِ المسَيّبِ "أنّهُ سَأَلَهُ عن الصّوْمِ في السّفَرِ فَحَدّثَ أنّ عُمَرَ بن الخَطّابِ قال غَزَوْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في رَمَضَانَ غَزْوتَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ والفَتْحِ فَأَفْطَرْنَا فيهِمَا".
قال: وفي البابِ عن أبي سَعِيدٍ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الرّخْصَةِ للِمُحَارِبِ في الإفْطَار
قوله: "عن معمر" بفتح الميم وسكون العين "بن أبي حبيبة" بضم الحاء المهملة وتكراراً المثناة من تحت مصغراً، وقد قيل فيه ابن أبي حبيبة، وليس له عند المصنف إلا هذا الحديث، كذا في "قوت المغتذي".
قوله : "أنه سأله" أي أن معمر بن أبي حبيبة سأل ابن المسيب "والفتح" أي فتح مكة "فأفطرنا فيهما" إما لأجل السفر وإما للتقوى عند لقاء العدو، ويعين الثاني حديث أبي بكر بن عبد الرحمَن عن بعض الصحابة وسيجيء لفظه وفيه دليل على جواز الإفطار للمحارب عند لقاء العدو "وفي الباب عن أبي سعيد" أخرجه مسلم ولفظه: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، قال: فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر فقال : إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا . فكانت عزمة فأفطرنا الحديث، مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا . فكانت عزمة فأفطرنا الحديث، وأخرجه مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمَن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس في سفره عام الفتح(3/400)
قال أبو عيسى: حديث عُمَرَ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هذا الوجْهِ.
وقد رُوِيَ عن أبي سعيدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ أمَرَ بالفِطْرِ في غَزْوَةٍ غَزَاهَا وقد رُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخطّابِ نحوُ هذا، أَنّهُ رخّصَ في الإفْطَارِ عِنْدَ لِقَاءِ العَدُوّ. وبِهِ يقولُ بعضُ أهلِ العلمِ.
ـــــــ
بالفطر وقال: "تقووا لعدوكم"، وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه عنه الشافعي في المسند وأبو داود وصححه الحاكم وابن عبد البر، كذا في التلخيص.
قوله: "حديث عمر لا نعرفه إلا من هذا الوجه" وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف لكنه يعتضد بحديث أبي سعيد المذكور "وقد روي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالفطر في غزوة غزاها" رواه مسلم وقد تقدم آنفاً لفظه(3/401)
باب ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع
...
21ـ باب ما جَاءَ في الرّخصَة لاَ في الإفْطَارِ للحُبْلى وَالمُرْضِع
711 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ و يُوسفُ بنُ عيسى قالا: حدثنا وَكيعٌ، حدثنا أبو هِلاَلٍ عن عبدِ الله بنِ سَوادَةَ عن أنَسٍ بنِ مَالِكٍ "رَجُلٌ من بَنِي عبدِ الله بنِ كَعْبٍ" قال: "أغارَتْ عَلَيْنَا خَيْلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأَتَيْتُ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الرّخصَة لاَ في الإفْطَارِ للحُبْلى وَالمُرْضِع
قوله: "عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب" زاد في رواية أبي داود: إخوة بني قشير. قال الحافظ في التقريب: أنس بن مالك القشيري الكعبي أبو أمية وقيل أبو أميمة أو أبو مية صحابي نزل البصرة انتهى. وقال ابن أبي حاتم في علله: سألت أبي عنه يعني الحديث فقال: اختلف فيه. والصحيح عن أنس بن مالك القشيري انتهى. وفي المرقاة: الصواب أنه من بني عبد الله بن كعب على ما جزم به البخاري في ترجمته، فهو كعبي لا قشيري خلافاً لما وقع لابن عبد البر لأن كعباً له ابنان عبد الله جد أنس هذا وقشير وهو أخو عبد الله، وأما أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم فهو أنصاري تجاري خزرجي انتهى.
قوله: "أغارت علينا" أي على قومنا فإنه كان مسلماً من قبل، والإغارة النهب "خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي فرسانه صلى الله عليه وسلم(3/401)
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُهُ يتغَدّى، فقال: "ادْنُ فكُلْ" "فقُلْت إني صَائِمٌ، فقال: "ادْنُ أُحَدّثْكَ عن الصّومِ أَو الصّيامِ: إنّ الله تعالى وَضَعَ عنِ المُسَافِرِ الصوم وشَطْرَ الصّلاَةِ، وعَنِ الحَامِلِ أو المُرْضِعِ الصّوْمَ أو الصّيَامَ" والله لَقَدْ قالَهُمَا النبيّ صلى الله عليه وسلم كِلتَيْهِمَا أو إِحداهما، فيا لَهْفَ نفسِي أنْ لا أكُونَ طَعِمْتُ مِنْ طَعَامِ النبيّ صلى الله عليه وسلم".
قال: وفي البابِ عن أبي أُمَيّةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أَنَسِ بنِ مالِكٍ الكَعْبِيّ حديثٌ حسنٌ ولا نَعْرِفُ لأنَسِ بنِ مَالِكٍ هذا عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هذا الحَدِيثِ الواحِدِ.
والعملُ على هذا عندَ بعضِ أهل العلمِ.
وقال بعضُ أهلِ العلمِ: الحَامِلُ والمُرضِعُ تفْطِرنِ وتقْضِيَانِ وتطْعِمَان. وبهِ يقولُ سُفْيانُ ومالِكٌ والشّافِعِيّ وأحْمَدُ. وقالَ بعضُهم: يفطران ويطعمان
ـــــــ
"فقال أدن" أمر من الدنو بمعنى القرب "إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة" أي نصفه يعني نصف الصلاة الرباعية "وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام" وفي رواية أبو داود: إن الله وضع شطر الصلاة أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر وعن المرضع أو الحبلى، والله لقد قالهما جميعاً أو أحدهما "والله لقد قالهما النبي صلى الله عليه وسلم كليهما أو أحدهما" أ ي قال الحامل والمرضع كليهما أو أحدهما.
قوله: "وفي الباب عن أبي أمية" أخرجه النسائي وليس فيه ذكر المرضع والحبلى.
قوله: "حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره.
قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم" كذا قال الترمذي ولا خلاف في جواز الإفطار للحامل والمرضعة إذا خافت المرضعة على الرضيع والحامل على الجنين. قال الشوكاني في النيل: يجوز للحبلى والمرضع الإفطار، وقد ذهب إلى ذلك العترة والفقهاء إذا خافت المرضعة على الرضيع والحامل على الجنين، وقالوا إنها(3/402)
ولا قَضَاء عَلَيْهِمَا، وإن شَاءَتَا قَضَتَا ولا إطعَامَ عَلَيْهِمَا. وبهِ يقولُ إسحاقُ.
ـــــــ
تفطر حتماً. قال أبو طالب: ولا خلاف في الجواز انتهى "وقال بعض أهل العلم: الحامل والمرضع يفطران ويقضيان ويطعمان، وبه يقول سفيان ومالك والشافعي وأحمد" أما أنهما يقضيان فلأنهما في حكم المريض والمريض يفطر ويقضي، وأما أنهما يطعمان فلاَثار بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم روى أبو داود في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في قوله "وعلى الذين يطيقونه" قال كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الطعام، أن يفطرا أو يطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا يعني على أولادهما أفطرتا وأطعمتا، وأخرجه البزار كذلك وزاد في آخره: وكان ابن عباس يقول لأم ولد له حبلى: أنت بمنزلة الذي لا يطيقه فعليك الفداء ولا قضاء عليك. وصحح الدارقطني إسناده. وروى الإمام مالك في الموطأ بلاغاً أن عبد الله بن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها واشتد عليها الصيام فقال تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من حنطة بمد النبي صلى الله عليه وسلم. قال مالك: وأهل العلم يرون عليها القضاء كما قال الله عز وجل {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ويريدون ذلك مرضاً من الأمراض مع الخوف على ولدها انتهى "وقال بعضهم: يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما وإن شاءتا قضتا ولا إطعام، وبه يقول إسحاق" فعنده لا يجمع بين القضاء والإطعام، فإذا أفطرت الحامل والمرضع قضتا ولا إطعام أو أطعمتا ولا قضاء.
قال الحافظ في الفتح: اختلف في الحامل والمرضع ومن أفطر لكبر ثم قوي على القضاء بعد، فقال الشافعي: يقضون ويطعمون، وقال الأوزاعي والكوفيون: لا إطعام انتهى. قال البخاري في صحيحه: قال الحسن وإبراهيم في المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما تفطران وتقضيان ولا إطعام بأن الأصل فيه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي إذا أفطر يلزم عليه الصوم بقدر ما فاته ولا أثر للفدية فيه، والحامل والمرضع أعطى لهما حكم المريض فيلزم عليهما القضاء فقط، ويشهد له حديث الباب.
وقال العلامة الشاه ولي الله في المصفى بعد ذكر قول إسحاق المذكور ما لفظه:(3/403)
ـــــــ
أين قول بتطبيق أدله مناسب ترمي نمايد انتهى. والظاهر عندي أنهما في حكم المريض فيلزم عليهما القضاء فقط والله تعالى أعلم(3/404)
22ـ باب ما جَاءَ في الصّومِ عنِ الميّت
712 ـ حدثنا أبو سَعِيدٍ الأشَجّ، حدثنا أبو خالِدٍ الأحْمَرُ عِن الأعَمشِ عن سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ و مُسْلِمٍ البَطِينِ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ و عَطَاءٍ و مُجَاهِد عن ابنِ عبّاس قال جاءَت امرأةٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ أُخْتِي مَاتَتْ وعليها صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنَ؟ قال: "أَرَأَيْتِ لَوْ كان على أُخْتِكِ دَيْنٌ أَكْنتِ تَقْضِينَه"؟ قالت: نعَم، قال: "فَحَقّ الله أَحَقّ".
قال: وفي البابِ عن بُرَيْدَةَ وابنِ عُمَرَ وعائشةَ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الصّومِ عنِ الميّت
قوله: "ومسلم البطين" بفتح الموحدة وكسر المهملة ثم تحتانية ساكنة ثم نون ثقة من رجال الأئمة الستة.
قوله: "جاءت امرأة" وفي رواية للبخاري: جاء رجل "فقالت إن أختي ماتت" وفي رواية للبخاري: إن أمي ماتت وعليها صوم شهرين متتابعين وفي رواية للشيخين: وعليها صوم نذر، وفي رواية للبخاري: وعليها صوم شهر، وفي رواية له: وعليها خمسة عشر يوماً. قال الحافظ في الفتح: وقد ادعى بعضهم أن هذا اضطراب من الرواة والذي يظهر تعدد الواقعة وأما الاختلاف في كون السائل رجلاً أو امرأة والمسئول عنه أختاً أو أماً فلا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث "أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضينه" فيه مشروعية القياس وضرب الأمثال ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه "قال فحق الله أحق" وفي رواية للبخاري: فدين الله أحق أن يقضى، وفي رواية للشيخين أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم، قال: فصومي عن أمك. والحديث فيه دليل على أن من مات وعليه صوم صام عنه وليه، وهو قول أصحاب الحديث وهو المرجح.
قوله: "وفي الباب عن بريدة وابن عمر وعائشة" أما حديث بريدة فأخرجه(3/404)
قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح.
713 ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ أخبرنا أبو خَالِدٍ الأحْمَرُ عن الأعْمَشِ بهذا الإسنادِ نَحْوَهُ
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عباسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال: وسمعت محمداً يقول: جوّد أبو خالد الأحمر هذا الحديث عن الأعْمَش. قال محمدٌ: وقد رَوَىَ غَيْرُ أبي خالِدٍ عن الأعمَشِ مِثْلَ رِوَايَةِ أبي خَالِدٍ.
قال أبو عيسى: ورَوَى أبو مُعاوِيةَ وغَيْرُ واحِدٍ هذا الحَديثَ عن الأعْمَشِ عن مُسْلِمِ البَطِين عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْر عن ابنِ عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يذكُرُوا فيه سَلَمَة بن كُهَيْلٍ ولا عَن عَطاءٍ ولا عَنْ مُجَاهِدٍ.
ـــــــ
أحمد ومسلم وأبو داود عنه قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتته امرأة فقالت إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت، فقال "وجب أجرك وردها عليك الميراث"، قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر فأصوم عنها؟ قال: "صومي عنها "الحديث. وأما حديث ابن عمر فلم أقف على من أخرجه في الصوم عن الميت. وأما حديثه في الإطعام عن الميت فأخرجه الترمذي في الباب الآتي وسيجيء ما فيه من الكلام، وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان وغيرهما عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".
قوله: "وروى أبو معاوية وغير واحد هذا الحديث عن الأعمش الخ" أخرجه البخاري في صحيحه(3/405)
23 ـ باب ما جَاء في الكَفارة
714 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عَبْثرٌ "بن القاسم" عن أشْعَثَ عن محمدٍ عن نافعٍ عن ابنِ عُمَر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "مَنْ مَاتَ وعليهِ صِيَامُ شَهْرٍ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ مَكانَ كُلّ يَوْمٍ مِسْكِيناً"
ـــــــ
باب ما جَاء في الكَفارة
قوله: "أخبرنا عبثر" بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح المثلثة ابن القاسم الزبيدي بالضم أبو زبيد كذلك الكوفي ثقة.
قوله: "فليطعم عنه" على بناء الفاعل أي فليطعم ولي من مات "مكان كل يوم" من أيام الصيام الفائتة "مسكيناً" كذا وقع بالنصب في نسخ الترمذي(3/405)
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَرَ لا نَعْرِفُهُ مرفُوعاً إلاّ مِنْ هذا الوجْهِ. والصحيحُ عِن ابنِ عُمَرَ مَوْقوفٌ. قولُهُ واختلفَ أهلُ العِلم في هذا الباب. فقالَ بعضُهم يُصَامُ عن المَيّتِ، وبهِ يقولُ أحمدُ وإسحاقُ قالا: إذا كان على المَيّتِ نَذْرُ صِيَامٍ يصوم عَنْهُ، وإذا كانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَطْعَمَ عنهُ.
ـــــــ
الموجودة عندنا، ووقع في كتاب المشكاة مسكين بالرفع، وعلى هذا يكون قوله "فليطعم" على بناء المجهول، ولم يبين في هذا الحديث مقدار الطعام وقد جاء في رواية البيهقي أنه مد من الحنطة وستجيء فأنتظر.
قوله: "لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه. والصحيح عن ابن عمر موقوف قوله" قال الحافظ في التلخيص بعد نقل قول الترمذي هذا ما لفظه: رواه ابن ماجه من هذا الوجه ووقع عنده عن محمد بن سيرين بدل محمد بن عبد الرحمَن وهو وهم منه أو من شيخه وقال الدارقطني: المحفوظ وقفه على ابن عمر وتابعه البيهقي على ذلك انتهى. وقال الزيلعي في نصب الراية: وضعفه عبد الحق في أحكامه بأشعث وابن أبي ليلى. وقال الدارقطني في علله: المحفوظ موقوف هكذا رواه عبد الوهاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر. وقال البيهقي في المعرفة: لا يصح هذا الحديث فإن محمد بن أبي ليلى كثير الوهم ورواه أصحاب نافع عن نافع عن ابن عمر قوله ثم أخرجه عن عبيد الله بن الأخنس عن نافع عن ابن عمر قال: من مات وعليه صيام رمضان فليطعم عنه كل يوم مسكيناً مداً من حنطة انتهى.
قوله: "واختلف أهل العلم في هذا، فقال بعضهم: يصام عن الميت، وبه يقول أحمد وإسحاق قالا إذا كان على الميت نذر صيام يصام عنه، وإذا كان عليه قضاء رمضان أطعم عنه" وهو قول الليث وأبو عبيد، واستدلوا بحديث ابن عباس المذكور في الباب فإن قوله فيه: وعليها صوم شهرين متتابعين يقتضي أنه لم يكن عليها صوم شهر رمضان، بل كان عليها صوم النذر، بل قد وقع في رواية للشيخين: وعليها صوم نذر، وقد جاء في رواية أحمد وغيره بيان سبب النذر بلفظ: إن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهراً، فأنجاها الله فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال : "صومي عنها". وحملوا العموم الذي في حديث عائشة الذي أشار إليه الترمذي(3/406)
وقالَ مالِكٌ وسفيانٌ والشافعيٌ لا يَصَومُ أحَدٌ عن أَحَدٍ. قال: وأَشْعَثُ هو ابنُ سَوّارٍ. ومحمدٌ هو مسند ابنُ عبدِ الرحمَنِ بنِ أبي لَيْلَى.
ـــــــ
وذكرنا لفظه على المقيد في حديث ابن عباس.
وفيه أنه ليس بين حديث ابن عباس وحديث عائشة تعارض حتى يجمع بينهما فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم حيث قيل في آخره: فدين الله أحق أن يقضى "وقال مالك وسفيان والشافعي لا يصوم أحد عن أحد" وهو قول الحنفية واستدلوا بحديث ابن عمر المذكور في الباب، وفيه أنه قد تقدم أن المحفوظ أنه موقوف، وللاجتهاد فيه مسرح فلا يصلح للاستدلال، ثم ليس فيه ما يمنع الصيام.
فإن قلت: روى مالك بلاغاً أن ابن عمر كان يسأل هل يصوم أحد عن أحد أو يصلي أحد عن أحد؟ فيقول: لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن احد ففيه ما يمنع الصيام.
قلت: قد جاء عن ابن عمر خلاف ذلك كما ذكره البخاري تعليقاً وسيجيء فاختلف قوله على أنه موقوف أيضاً، والحديث الصحيح أولى بالاتباع.
واستدلوا أيضاً بما روى النسائي في الكبرى بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، وبما روي عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم قالت: يطعم عنها. وعن عائشة قالت: لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم، أخرجه البيهقي.
قالوا فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه دل ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه، وفيه أن هذا الاستدلال أيضاً مخدوش، أما أولاً فلأنه جاء عن ابن عباس خلاف ذلك، فروى ابن أبي شيبة بسند صحيح سند ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر فقال يصام عنه النذر، وفي صحيح البخاري تعليقاً. أمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة فقال: صلى عنها. وقال ابن عباس نحوه. قال ابن عبد البر: والنقل في هذا عن ابن عباس مضطرب. قال الحافظ في الفتح: ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي انتهى. وأما أثر عائشة الأول فليس فيها ما يمنع الصيام، وأما أثرها الثاني فضعيف جداً كما صرح(3/407)
ـــــــ
به الحافظ في الفتح، وأما ثانياً فلأن الراجح أن المعتبر ما رواه الصحابي لا ما رآه كما تقرر في مقره.
تنبيه: ذكر الترمذي في هذا الباب قولين، وفيه قول ثالث وهو أنه يجوز للولي أن يصوم عن الميت إذا مات وعليه صوم، أي صوم كان. قال الحافظ في الفتح: قد اختلف السلف في هذه المسألة فأجاز الصيام عن الميت أصحاب الحديث، وهو قول أبي ثور وجماعة من محدثي الشافعية، وقال البيهقي في الخلافيات: هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافاً بين أهل الحديث في صحتها، فوجب العمل بها، ثم ساق بسنده إلى الشافعي كل ما قلت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه، فخذوا بالحديث ولا تقلدوني ، ثم ذكر الحافظ القولين اللذين ذكرهما الترمذي.
قلت: هذا القول الثالث الذي قال به أهل الحديث هو الراجح المعول عليه عندي، يدل عليه حديث ابن عباس وحديث بريدة وحديث عائشة، وهذه الأحاديث الثلاثة قد تقدمت في الباب المتقدم(3/408)
24ـ باب ما جَاءَ في الصّائِم يَذْرَعُهُ الَقْيء
715 ـ حدثنا محمدُ بنُ عُبَيْدٍ المُحارِبيّ حدثنا عبدُ الرحمَن بنُ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عن أَبيه عن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عن أَبي سعيدٍ الخُدْرِيّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " ثَلاثٌ لا يُفْطِرْنَ الصّائِمَ: الحِجَامَةُ والقَيْء والاحْتِلاَمُ".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي سعيدٍ الخُدرِي حديث غَيْر مَحْفوظٍ.
وقد رَوَى عبدُ الله بنُ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ وعبدُ العزيرِ بنُ محمدٍ وغَيْرُ واحدٍ
ـــــــ
"باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء" أي يغلبه
قوله: "حدثنا محمد بن عبيد" بضم العين مصغراً.
قوله: "ثلاث" أي ثلاث خصال "لا يفطرن" من التفطير "الحجامة" بكسر الحاء أي الاحتجام "والقيء" أي إذا غلبه. قال البيهقي في المعرفة: هو محمول على ما لو ذرعه القيء جمعاً بين الأخبار انتهى "والاحتلام" أي ولو تذكر المنام ورأى المنى لأنه وإن كان في معنى الجماع لكن حيث أنه ليس باختياره لا يضره بالإجماع.(3/408)
هذا الحديثَ عن زَيْدِ بنِ أسْلَمَ مُرْسَلاً ولم يَذْكُرُوا فيهِ "عن أبي سعيدٍ". وعبدُ الرحمَنِ بنُ زيْدِ بنِ أسْلَمَ يُضَعّفُ في الحديثِ قال: سَمِعْتُ أبا دَاوُدَ السّجْزِيّ يقولُ: سأَلْتُ أحمدَ بنَ حَنْبَلٍ عن عبدِ الرحمَن بنِ زَيْدِ بنِ أسْلَم؟ فقال: أخوهُ عبدُ الله بنُ زَيْدٍ لا بَأسَ بهِ قال: وسَمْعتُ محمداً يَذْكُرُ عن عَلِي بنِ عبدِ الله المديني قالَ: عبدُ الله بنُ زَيْدِ بن أسْلَمَ ثِقَةٌ. وعبدُ الرحمَن بنُ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ ضعيفٌ. قال محمدٌ: ولا أَرْوِي عنْهُ شيئاً.
ـــــــ
قوله: "حديث أبي سعيد غير محفوظ الخ" وأخرجه البيهقي "ولم يذكروا فيه عن أبي سعيد" ورواه أبو داود عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورجحه أبو حاتم وأبو زرعة وقال إنه أصح وأشبه بالصواب كذا في النيل.
قوله: "سمعت أبا داود السجزي" قال العراقي: يريد أبا داود السجستاني صاحب السنن فإنه روى عنه. قال ابن مأكولا السجزي نسبة إلى سجستان على غير قياس، كذا في قوت المغتذي. وقال في المغنى: السجزي بمكسورة وسكون جيم وبزاي نسبة إلى السجز وهو اسم لسجستان وقيل نسبة إلى سجستان بغير قياس انتهى. "فقال أخوه عبد الله بن زيد لا بأس به" يعني وعبد الرحمَن بن زيد بن أسلم ضعيف. اعلم أن لزيد بن أسلم ثلاثة بنين عبد الله وعبد الرحمَن وأسامة فعند أحمد عبد الله ثقة والآخران ضعيفان، وعند يحيى بن معين بنو زيد كلهم ضعيف "وسمعت محمداً" هو الإمام البخاري "يذكر عن علي بن عبد الله" هو ابن المديني(3/409)
25 ـ باب ما جَاءَ في من اسْتَقَاءَ عَمْدا
716 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ حدثنا عيسى بنُ يونُسَ عن هِشَامِ بنِ حَسّانَ عن محمد ابنِ سيرينَ عن أبي هُرَيْرَةَ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "مَنْ ذَرَعَهُ القَيْءُ فَلَيْسَ عليهِ قَضَاءٌ ومَنِ استْتَقَاءَ عَمْداً فَلْيَقْضِ".
ـــــــ
باب ما جاء من استقاء عمدا"
قوله: "ومن ذرعة القيء" بالذال المعجمة أي غلبه وسبقه في الخروج "فليس عليه قضاء" لأنه لا تقصير منه "ومن استقاء عمداً" أي من تسبب لخروجه قصداً(3/409)
قال: وفي البابِ عن أبي الدّرْدَاءِ وثَوْبَانَ وفَضَاَلَة بنِ عُبَيْدٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرِفُهُ مِنْ حديثِ هِشَامٍ عن ابنِ سِيرِينَ عن أبي هُرَيرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ مِنْ حديثِ عيسى بنِ يونُسَ. وقالَ محمدٌ: لا أَراهُ مَحْفُوظاً.
قال أبو عيسى: وقد رُوِيَ هذا الحديثُ مِنْ غَيْرٍ وَجْهٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يَصحّ إسْنَادُهُ. وقد رُوِيَ عن أبيِ الدّرْدَاء وثَوْبَانَ وفَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَأَفْطَرَ.
وإنّما مَعْنَى هذا أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ صَائِماً مُتَطَوّعاً فَقَاءَ فَضَعُفَ فأَفْطَر لذَلِكَ. هكذا رُوِيَ في بعضِ الحديثِ مُفَسّراً.
ـــــــ
"فليقض" قال ابن الملك: والأكثر على أنه لا كفارة عليه.
قوله: "وفي الباب عن أبي الدرداء وثوبان" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارمي عن معدان بن طلحة أن أبا الدراداء حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، قال فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فقلت إن أبا الدرداء حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، قال: صدق وأنا صببت له وضوءه "وفضالة بن عبيد" أخرجه ابن ماجه بلفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم في يوم كان يصومه فدعا بإناء فشرب فقلنا يا رسول الله إن هذا يوم كنت تصومه قال أجل ولكني قئت. وفي الباب عن ابن عمر موقوفاً عند مالك في الموطأ والشافعي بلفظ: من استقاء وهو صائم فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فليس عليه القضاء .
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن غريب" أخرجه الخمسة وأعله أحمد وقواه الدارقطني كذا في بلوغ المرام.
قوله: "وقال محمد" هو البخاري "لا أراه" بضم الهمزة أي لا أظنه. قال الطيبي: الضمير راجع إلى الحديث وهو عبارة عن كونه منكراً انتهى. وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ليس من ذا شيء. قال الخطابي: يريد أن الحديث غير محفوظ.
قوله: "هكذا روي في بعض الحديث مفسراً" قال الزيلعي في نصب الراية: والحديث المفسر الذي أشار إليه الترمذي رواه ابن ماجه من حديث أبي مرزوق(3/410)
والعملُ عندَ أَهْلِ العلمِ على حديثِ أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الصّائِمَ إذا ذَرَعَهُ القَيْءُ فلا قَضَاءَ عليهِ، وإذا اسْتَقَاءَ عَمْداً فَلْيَقْضِ . وبهِ يقولُ سفيانُ الثّوْرِيّ والشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
قال: سمعت فضالة بن عبيد الأنصاري يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم فذكر الحديث وقد تقدم لفظه آنفاً.
قوله: "وبه يقول الشافعي وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق" وهو قول أبي حنيفة، ففي الموطأ للإمام محمد أخبرنا مالك أخبرنا نافع أن ابن عمر كان يقول: من استقاء وهو صائم فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فليس عليه شيء. قال محمد: وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة(3/411)
باب ما جاء في الصائم يأكل ويشرب ناسيا"
...
26 ـ باب ما جَاءَ في الصّائِم يأْكُلُ و يَشْرَبُ ناسِيا
717 ـ حدثنا أبو سَعِيدٍ الأشجّ حدثنا أبو خالدٍ الأحمرُ عن حَجّاجٍ بن أرطأة عن قَتادَةَ عن ابنِ سِيريِنَ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيا فلا يُفْطِرْ فإِنّمَا هُو رِزْقّ رَزَقَهُ الله".
718 ـ حدثنا أَبو سَعِيدٍ الأشج حدثنا أبو أُسَامَةَ عن عَوْف عن ابنِ سِيريِنَ و خَلاّسٍ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ أَو نَحْوَهُ.
قال: وفي البابِ عن أبي سعيدٍ وأُمّ إسحاقَ الغَنَوِيّةِ.
ـــــــ
باب ما جاء في الصيام يأكل ويشرب ناسيا
قوله :" من أكل أو شرب ناسيا" أي أنه في الصوم "فلا يفطر" وفي رواية للبخاري: فليتم صومه "فإنما هو رزق رزقه الله " وفي رواية البخاري :فإنما أطعمه الله وسقاه.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد وأم إسحاق الغنوية" أما حديث أبي سعيد فلم أقف عليه، وأما حديث أم إسحاق فأخرجه أحمد بلفظ: أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بقصعة من ثريد فأكلت معه ثم تذكرت أنها كانت صائمة، فقال لها ذو اليدين: الآن بعد ما شبعت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتمي(3/411)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
والعملُ على هذا عندَ أكثَرِ أهلِ العلمِ. وبهِ يقولُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ والشافِعِيّ وأَحمدُ وإسحاقُ.
وقالَ مَالِكُ بنُ أَنَسٍ: إذا أَكَلَ في رمَضَانَ ناسِياً فَعَلَيْهِ القَضَاءُ. والقول الأوّلُ أَصَحّ.
ـــــــ
صومك فإنما هو رزق ساق الله إليك" انتهى. قال الحافظ في الفتح: وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيره، قال ومن المستظرفات ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار أن إنساناً جاء إلى أبي هريرة فقال أصبحت صائماً فنسيت فطعمت، قال لا بأس، قال ثم دخلت على إنسان فنسيت فطعمت وشربت، قال لا بأس الله أطعمك وسقاك، ثم قال دخلت على آخر فنسيت فطعمت قال أبو هريرة أنت إنسان لم تتعود الصيام.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق" وهو قول أبي حنيفة، فهؤلاء كلهم يقولون إن من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه ولا قضاء عليه ولا كفارة واحتجوا بحديث الباب "وقال مالك بن أنس: إذا أكل في رمضان ناسياً فعليه القضاء" وأجاب بعض المالكية عن حديث الباب بأنه محمول على صوم التطوع.
وقال القرطبي: احتج به من أسقط القضاء، وأجيب بأنه لم يتعرض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة، لأن المطلوب صيام يوم لا حزم فيه، لكن روى الدارقطني فيه سقوط القضاء وهو لا يقبل الاحتمال، لكن الشأن في صحته فإن صح وجب الأخذ به وسقط القضاء انتهى. وقال المهلب وغيره: لم يذكر في الحديث إثبات القضاء فيحمل على سقوط الكفارة عنه وإثبات عذره ورفع الإثم عنه وبقاء نيته التي بيتها انتهى.
والجواب عن ذلك كله بما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة، فعين رمضان وصرح بإسقاط القضاء ذكره الحافظ في فتح الباري، وقال بعد ذكر طرق هذا(3/412)
27ـ باب ما جَاءَ في الإفطارِ مُتَعَمّدا
719 ـ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بنُ سَعِيد و عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي قالا: حدثنا سُفْيَانُ عن حَبيبِ بنِ أَبي ثَابِتٍ، حدثنا أبو المُطَوّسِ عن أبِيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ أفْطَرَ يَوْماً مِنْ رَمَضَانَ منْ غَيْرِ رُخْصَةٍ ولا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِ عنهُ صَوْمُ الدّهْرِ كُلّهِ وإنْ صَامَهُ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الإفطارِ عمداً
قوله: "أخبرنا المطوس" بكسر الواو المشددة هو يزيد، وقيل عبد الله بن المطوس لين الحديث كذا في التقريب "عن أبيه" هو المطوس قال في التقريب: المطوس بتشديد الواو المكسوره، ويقال أبو المطوس عن أبي هريرة مجهول من الرابعة.
قوله: "من غير رخصة" كسفر "ولا مرض" أي مبيح للإفطار، من عطف الخاص على لعام "لم يقض عنه صوم الدهر كله" أي صومه، فالإضافة بمعنى في نحو مكر الليل، وكله للتأكيد "وإن صامه" أي ولو صام الدهر كله. قال الطيبي: أي لم يجد فضيلة الصوم المفروض بصوم النفل وإن سقط قضاؤه بصوم يوم واحد، وهذا على طريق المبالغة والتشديد، ولذلك أكده بقوله "وإن صامه" أي حق الصيام قال ابن الملك: وإلا فالإجماع على أنه يقضي يوماً مكانه، وقال ابن حجر: وما اقتضاه ظاهره أن صوم الدهر كله بينة القضاء عما أفطره من رمضان(3/413)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ لا نعرِفُهُ إلاّ مِنْ هذا الوجْهِ. وسَمِعْتُ محمداً يقولُ: أبو المُطَوّسِ اسْمُهُ يَزِيدُ بنُ المُطَوّسِ ولا أعْرِفُ لهُ غَيْرَ هذا الحديثِ.
ـــــــ
لا يجزئه قال به علي وابن مسعود والذي عليه أكثر العلماء يجزئه وإن كان ما أفطره في غاية الطول والحر وما صامه بدله في غاية القصر والبرد كذا في المرقاة.
قلت: قال البخاري في صحيحه: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: من أفطر يوماً في رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه. وبه قال ابن مسعود. وقال سعيد بن المسيب وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد: يقضي يوماً مكانه انتهى. وذكر الحافظ في الفتح من وصل هذه الآثار قال وصله يعني أثر ابن مسعود للطبراني والبيهقي بإسناد لهما عن عرفجة قال قال عبد الله بن مسعود: من أفطر يوماً في رمضان متعمداً من غير علة ثم قضى طوال الدهر لم يقبل منه، وبهذا الإسناد عن علي مثله انتهى. وقال أبو هريرة بمثل قول ابن مسعود رضي الله عنه كما سيجيء، فظهر أن ما ادعى ابن الملك من أن الإجماع على أنه يقضي يوماً مكانه ليس بصحيح.
قوله: "حديث أبي هريرة رضي الله عنه حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه" أخرجه أصحاب السنن الأربعة وصححه ابن خزيمة من طريق سفيان الثوري وشعبة كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن عمارة بن عمير عن أبي المطوس عن أبيه عن أبي هريرة.
قوله: "وسمعت محمداً يقول: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس ولا أعرف له غير هذا الحديث" وقال البخاري في التاريخ: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا. قال الحافظ في الفتح: واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافاً كثيراً فحصلت فيه ثلاث علل الاضطراب والجهل بحال أبي المطوس والشك في سماع أبيه عن أبي هريرة، وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء. وذكر ابن حزم من طريق العلاء بن عبد الرحمَن عن أبيه عن أبي هريرة مثله موقوفاً انتهى كلام الحافظ(3/414)
باب ما جاء في الكفارة الفطر في رمضان
...
28ـ باب ما جاءَ في كَفّارَةِ الفِطْرِ في رَمَضَان
720 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَلِي الجَهْضَمِيّ و أَبو عَمّارٍ "والمَعْنَى واحِدٌ والّلفْظُ لَفْظُ أبي عَمّارٍ" قال: أَخبرنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن الزّهْرِيّ عن حُمَيْدِ بنِ عبدِ الرحمَنِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: "أتَاهُ رَجُلٌ فقالَ: يا رسولَ الله هلَكْتُ، قالَ: "وما أَهْلَكَكَ؟ قال: وَقَعْتُ على امْرأَتِي في رَمَضَانَ، قال: هل تَسْتَطِيعُ أَن تعْتِقَ رَقَبَةً؟ قال: لا، قالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَن تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟
ـــــــ
باب ما جاءَ في كَفّارَةِ الفِطْرِ في رَمَضَان
قوله: "أتاه رجل" وفي رواية للبخاري وغيره: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، قال الحافظ: لم أقف على تسميته إلا أن عبد الغني في المبهمات وتبعه ابن بشكوال جزماً بأنه سلمان أو سلمة بن صخر البياضي "فقال يا رسول الله" وقع في رواية: جاء رجل وهو ينتف شعره ويدق صدره ويقول: هلك الأبعد، وفي رواية يلطم وجهه، وفي رواية: ويحثى على رأسه التراب. قال الحافظ بعد ذكر هذه الروايات: واستدل بهذا على جواز هذا الفعل والقول ممن وقعت له معصية، ويفرق بذلك بين مصيبة الدين والدنيا، فيجوز في مصيبة الدين لما يشعر به الحال من شدة الندم وصحة الإقلاع، ويحتمل أن تكون هذه الواقعة قبل النهي عن لطم الخدود وحلق الشعر عند المصيبة "هلكت" وفي حديث عائشة احترقت. واستدل به على أنه كان عامداً لأن الهلاك والاحتراق مجاز عن العصيان المؤدي إلى ذلك، فكأنه جعل المتوقع كالواقع، وبالغ فعبر عنه بلفظ الماضي. وإذا تقرر ذلك فليس فيه حجة على وجوب الكفارة على الناس وهو مشهور قول مالك والجمهور، وعن أحمد وبعض المالكية يجب على الناس وتمسكوا بترك استفساره عن جماعة هل كان عن عمد أو نسيان وترك الاستفصال في الفعل يترك منزلة العموم في القول كما اشتهر.
والجواب: أنه قد تبين حاله بقوله: هلكت واحترقت، فدل على أنه كان عامداً عارفاً بالتحريم، وأيضاً فدخول النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد. "وقعت على امرأتي في رمضان" وفي حديث عائشة وطئت امرأتي "قال هل تستطيع أن تعتق رقبة؟"(3/415)
قال: لا؟ قالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتّينَ مِسْكِيناً؟ قال: لا، قالَ: اجْلِسْ فَجَلسَ، فَأُتِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيه تَمْرٌ، والعَرَقُ المِكْتَلُ الضّخْمُ، قال: تَصَدّقْ بِه، فقالَ: مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَحَدٌ أَفْقَرَ مِنّا،
ـــــــ
أي عبداً أو أمة "قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا" قال القاضي وكذا في شرح السنة: رتب الثاني بالفاء على فقد الأول ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني فدل على الترتيب. وقال مالك بالتخيير فإن المجامع مخير بين الخصال الثلاث عنده قال ابن حجر: الكفارة مرتبة ككفارة الظهار المذكورة في سورة المجادلة، وهو قول الشافعي والأكثرين. وقال مالك إنها مخيرة كالكفارة المذكورة في سورة المائدة لرواية أبي داود أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً.
وأجابوا بأن "أو" كما لا تقتضي الترتيب لا تمنعه كما بينته الروايات الأخر، وحينئذ فالتقدير "أو" يصوم إن عجز عن العتق أو يطعم إن عجز عن الصوم، ورواتها أكثر وأشهر فقد رواها عشرون صحابياً وهي حكاية لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ورواة هذا اثنان وهو لفظ الراوي انتهى كذا في المرقاة.
قلت: لا شك أن رواة الكفارة مرتبة أكثر، وأما إنها رواها عشرون صحابياً ففيه نظر. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: وسلك الجمهور في ذلك مسلك الترجيح بأن الذين رووا الترتيب عن الزهري أكثر ممن روى التخير إلى أن قال: بل روى الترتيب تمام ثلاثين نفساً أو أزيد، قال ويترجح الترتيب أيضاً بأنه أحوط لأن الأخذ به مجزي سواء قلنا بالتخيير أو لا بخلاف العكس انتهى كلام الحافظ. والحاصل أن القول بالترتيب هو الراجح المعول عليه "بعرق" بفتحتين "والعرق المكتل" بكسر الميم أي الزنبيل "الضخم" بسكون الخاء أي العظيم، وفي حديث علي عند الدارقطني: تطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مد، وفيه فأتى بخمسة عشر صاعاً فقال أطعمه ستين مسكيناً، وكذا في رواية حجاج عن الزهري عند الدارقطني في حديث أبي هريرة، وقد جاء في بيان مقدار ما في المكتل من التمر روايات مختلفة وبرواية على هذه يحصل الجمع بينها كما ذكره الحافظ في الفتح "قال فتصدق به" أي على الفقراء "فقال" أي الرجل "ما بين لابتيها" أي المدينة(3/416)
ل: فَضَحِكَ النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، قال: فخُذْهُ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ " قال: وفي البابِ عن ابنِ عُمَرَ وعائِشَةَ وعبدِ الله بنِ عَمْروٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ حَديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا الحديثِ عندَ أهلِ العلمِ في مَنْ أفْطَرَ في رَمَضَانَ مُتَعَمّداً مِنْ جِمَاعٍ. وأمّا مَنْ أفْطَرَ مُتَعَمّداً مِنْ أَكْلٍ أو شُرْبٍ فإِنّ أهلَ العلمِ قد اخْتَلَفُوا في ذلكَ، فقالَ بعضُهُم: عليهِ القَضَاءُ والكَفّارةُ، وشبهُوا الأكْلَ والشّرْبَ بالجِمَاعِ. وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وابنِ المُبَارَكِ وإسحاقَ.
وقال بعضُهُم: عليهِ القَضَاءُ ولا كَفّارَةَ عليهِ، لأنّهُ إِنّما ذُكِرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الكَفّارةُ في الجِمَاعِ ولمُ تذكر عنهُ في الأكْلِ والشّرْبِ، وقالوا: لا يُشْبِهُ الأكْلُ والشّرْبُ الجِمَاعَ. وهُوَ قَوْلُ الشافعيّ وأحمدَ. وقال الشافعيّ: وقَوْلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم للرّجُلِ الذي أَفْطَرَ فَتَصَدّقَ عليهِ "خُذْهُ فأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ" يَحْتَمِلُ هذا مَعانِيَ، يَحْتَمِلُ أنْ تكونَ الكَفّارَةُ على مَنْ قَدَرَ عليها، وهذا رَجُلٌ لَمْ يَقدِرْ على الكَفّارَةِ فَلمّا أعْطَاهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً ومَلَكَهُ فقال الرجُلُ "ما أَحَدٌ أفْقَرَ إليهِ مِنّا" فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "خُذْهُ فأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ" لأنّ الكَفّارَةَ إنّما تكونُ بعدَ الفَضْلِ عن قُوتِهِ. واختارَ الشافعيّ لِمَنْ كانَ على مِثْلِ هذا الحالِ أنْ يَأْكُلهُ، وتكُونَ الكَفّارَةُ عليهِ دَيْناً فمَتَى ما مَلَكَ يَوْماً ما كَفّرَ.
ـــــــ(3/417)
29 ـ باب ما جَاءَ في السّوَاكِ للصّائِم
721 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارِ، حدثنا عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي، أخبرنا
ـــــــ
باب ما جَاءَ في السّوَاكِ للصّائِم
قوله: "عن عاصم بن عبيد الله" بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي المدني ضعيف من الرابعة.(3/417)
سُفْيَانُ عن عاصِمِ بنِ عُبَيْدِ الله عن عبدِ الله بنِ عامِرِ بنِ رَبِيعَةَ عن أبيهِ قال "رأَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ما لا أُحْصِي يَتَسَوّكُ وهو صَائِمٌ".
قال: وفي البابِ عن عائِشَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عامِرِ بنِ رَبِيعَةَ حديثٌ حسنٌ. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ لا يَرَوْنَ بالسّواكِ للصّائِمِ بَأْساً إلاّ أن بعضَ أهلِ العلمِ كَرِهُوا السّوَاكَ للصّائِمِ بالْعُودِ الرّطْبِ وكَرِهُوا لَهُ السّوَاكَ آخِرَ النّهارِ.
ـــــــ
قوله: "ما لا أحصى" أي مقداراً لا أقدر على إحصائه وعده لكثرته "يتسوك" مفعول ثان لأنه خبر على الحقيقة "وما" موصوفة "ولا أحصى" صفتها وهي ظرف ليتسوك مرات لا أقدر على عدها. قاله الطيبي قال ميرك: ولعله حمل الرؤية على معنى العلم، فجعل يتسوك مفعولاً ثانياً، ويحتمل أن تكون بمعنى الإبصار ويتسوك حينئذ حال، وقوله "وهو صائم" حال أيضاً إما مترادفة وإما متداخلة، كذا في المرقاة.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه ابن ماجه والدارقطني بلفظ: قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير خصال الصائم السواك" "حديث عامر بن ربيعة حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه وقال كنت لا أخرج حديث عاصم ثم نظرت فإذا شعبة والثوري قد رويا عنه، وروي يحيى وعبد الرحمَن عن الثوري عنه، وروى مالك عنه خبراً في غير الموطأ. قال الحافظ: وضعفه ابن معين والذهلي والبخاري وغير واحد انتهى.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون بالسواك للصائم بأساً" قبل الزوال وبعده، رطباً كان السواك أو يابساً. وهو قول أكثر أهل العلم، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي على ما حكى عنه الترمذي، واحتجوا بحديث الباب وبحديث عائشة الذي أشار إليه الترمذي وبحديث أبي هريرة: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء، أخرجه النسائي، وبجميع الأحاديث التي رويت في معناه وفي فضل السواك فإنها بإطلاقها تقتضي إباحة السواك في كل وقت وعلى كل حال وهو الأصح والأقوى "إلا أن بعض أهل العلم كرهوا السواك للصائم بالعود الرطب" كالمالكية والشعبي فإنهم كرهوا للصائم الاستياك بالسواك الرطب(3/418)
ولَمْ يَرَ الشافعيّ بالسّوَاكِ بَأْساً أَوّلَ النهَارِ و لا آخِرَهُ. وكَرِهَ أحمدُ وإسحاقُ السّوَاكَ آخِرَ النّهَارِ.
ـــــــ
لما فيه من الطعم، وأجاب عن ذلك ابن سيرين جواباً حسناً، قال البخاري في صحيحه: قال ابن سيرين: لا بأس بالسواك الرطب، قيل له طعم، قال والماء له طعم وأنت تمضمض به انتهى. وقال ابن عمر: لا بأس أن يستاك الصائم بالسواك الرطب واليابس رواه ابن أبي شيبة، قلت هذا هو الأحق، لأن أقصى ما يخشى من السواك الرطب أن يتحلل منه في الفم شيء وذلك الشيء كماء المضمضة فإذا قذفه من فيه لا يضره بعد ذلك والله تعالى أعلم. "وكرهوا له السواك آخر النهار" واحتجوا على ذلك بأن في الاستياك آخر النهار إزالة الخلوف المحمود بقوله صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
وأجيب بأن الخلوف بضم الخاء المعجمة على الصحيح تغير رائحة الفم من خلو المعدة وذلك لا يزال بالسواك. قال ابن الهمام: بل إنما يزيل أثره الظاهر عن السن من الاصفرار، وهذا لأن سبب الخلوف خلو المعدة من الطعام، والسواك لا يفيد شغلها بطعام ليرتفع السبب، ولهذا روى عن معاذ مثل ما قلنا، روى الطبراني عن عبد الرحمَن بن غنم قال: سألت معاذ بن جبل أتسوك وأنا صائم: قال نعم قلت: أي النهار شئت غدوة وعشية، قلت: إن الناس يكرهونه عشية ويقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؟" فقال: سبحان الله، لقد أمرهم بالسواك وهو يعلم أنه لا بد بفي الصائم خلوف وإن استاك، وما كار الذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً، ما في ذلك من الخير شيء بل فيه شر إلا من ابتلى ببلاء لا يجد منه بداً انتهى.
قلت: إسناد هذا الأثر جيد كما صرح به الحافظ في التلخيص الحبير. قال ابن الهمام: وكذا الغبار في سبيل الله لقوله عليه الصلاة والسلام: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار، إنما يؤجر عليه من اضطر إليه ولم يجد عنه محيصاً فأما من ألقى نفسه عمداً فما له في ذلك من الأجر شيء". قيل: فيدخل في هذا أيضاً(3/419)
ـــــــ
من تكلف الدوران تكثيراً للمشي إلى المساجد نظراً إلى قوله عليه الصلاة والسلام: وكثرة الخطا إلى المساجد قال: وفي المطلوب أحاديث مضعفة منها ما رواه البيهقي عن إبراهيم بن عبد الرحمَن حدثنا إسحاق الخوارزمي قال: سألت عاصم الأحول أيستاك الصائم بالسواك الرطب؟ قال: نعم، أتراه أشد رطوبة من الماء؟ قلت: أول النهار وآخره؟ قال: نعم، قلت: عمن رحمك الله؟ قال: عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى ابن حبان عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك آخر النهار، وهذا هو الصحيح عن ابن عمر من قوله: قلنا. كفى ثبوته عن ابن عمر مع تعدد الضعيف فيه مع عمومات الأحاديث الواردة في فضل السواك.
وأما ما روى الطبراني عنه عليه الصلاة والسلام: إذا صمتم فاستاكوا بالغدوة ولا تستاكوا بالعشى فإن الصائم إذا يبست شفتاه كانت له نوراً يوم القيامة، فحديث ضعيف لا يقاوم ما قدمنا انتهى كلام ابن الهمام ملخصاً.
قلت: حديث: إذا صمتم فاستاكوا بالغدوة الخ، رواه الدارقطني والبيهقي من حديث خباب وضعفاه، وروياه أيضاً من حديث علي وضعفاه أيضاً، قاله الحافظ في التلخيص وقال فيه: وأخرج الدارقطني من طريق عمر بن قيس عن عطاء عن أبي هريرة قال لك السواك إلى العصر فإذا صليت العصر فالقه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" انتهى.
قلت: وهذا الحديث أيضاً ضعيف فإن عمر بن قيس متروك، قال في التقريب: عمر بن قيس المكي المعروف بسندل متروك من السابعة انتهى. وقال في الخلاصة: في ترجمته عن عطاء وعنه ابن عيينة وابن وهب قال البخاري منكر الحديث انتهى.
قوله: "ولم ير الشافعي بالسواك بأساً أول النهار وآخره" كذا حكى الترمذي عن الشافعي، والمشهور عنه أنه كان يكره السواك بعد الزوال(3/420)
30ـ باب ما جَاءَ في الكُحْلِ للِصّائِم
722 ـ حدثنا عبدُ الأعْلَى بنُ وَاصِلٍ الكوفي حدثنا الحسَنُ بنُ عَطِيّةَ، أخبرنا
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الكُحْلِ للِصّائِم
قوله: "حدثنا عبد الأعلى بن واصل" بن عبد الأعلى الأسدي الكوفي ثقة(3/420)
أبو عَاتِكَةَ عن أَنَسِ بن مالِكٍ قال "جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: اشْتَكَتْ عَيْنَي أفَأَكْتَحِلُ وأنا صَائِمٌ؟ قال: نَعَمْ".
قال: وفي البابِ عن أبي رَافِعٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أنَسٍ حديثٌ ليس إسْنَاده بالقوِيّ ولا يَصِحّ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا البابِ شَيْءٌ. وأبُو عَاتِكَةَ يُضَعّفُ.
ـــــــ
من كبار العاشرة "أخبرنا الحسن بن عطية" بن نجيح القرشي أبو علي البزاز صدوق من التاسعة "أخبرنا أبو عاتكة" مجمع على ضعفه وسيجيء ترجمته "قال اشتكت عيني" بالتشديد: وفي نسخة بالتخفيف، أي أشكو من وجع عيني، قاله القاري "قال نعم" فيه جواز الاكتحال بلا كراهة للصائم، وبه قال الأكثرون.
قوله: "وفي الباب عن أبي رافع" أخرجه البيهقي من طريق محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتحل وهو صائم. قال ابن أبي حاتم عن أبيه هذا حديث منكر، وقال في محمد إنه منكر وكذا قال البخاري، ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر وسنده مقارب، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب الصيام له من حديث ابن عمر أيضاً ولفظه: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مملؤتان من الإئمد وذلك في رمضان وهو صائم، ذكره الحافظ في التلخيص، قال: ورواه أبو داود من فعل أنس ولا بأس بإسناده. قال: وفي الباب عن بريرة مولاة عائشة في الطبراني الأوسط وعن ابن عباس في شعب الإيمان للبيهقي بإسناد جيد انتهى. وفي الباب أيضاً عن عائشة قالت: اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، أخرجه ابن ماجه عن بقية حدثنا الزبيدي عن هشام بن عروة عن أبيه عنها، والزبيدي هو سعيد بن أبي سعيد الزبيدي كما هو مصرح في رواية البيهقي وهو ضعيف.
قوله: "وأبو عاتكة يضعف" قال في التقريب. اسمه طريف بن سليمان أو بالعكس ضعيف وبالغ السليماني فيه من الخامسة. وقال في الخلاصة عن أنس وعنه الحسن بن عطية، قال البخاري. منكر الحديث انتهى، وقال في الميزان. مجمع على ضعفه.(3/421)
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلمِ في الكُحْلِ للصّائِمِ، فكَرِهَهُ بعضُهمُ، وهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ وابنِ المبَارَكِ وأَحمدَ وإسحاقَ. ورَخّصَ بعضُ أهلِ العلمِ في الكُحْلِ للصّائِمِ، وهو قولُ الشّافِعيّ.
ـــــــ
قوله: "واختلف أهل العلم في الكحل للصائم فكرهه بعضهم وهو قول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق" واستدل لهم بما أخرج أبو داود من طريق عبد الرحمَن بن النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم وقال ليتقه الصائم . قال أبو داود: قال لي يحيى بن معين. هو حديث منكر انتهى. قال الزيلعي. قال صاحب التنقيح معبد وابنه النعمان كالمجهولين، وعبد الرحمَن بن النعمان قال ابن معين ضعيف، وقال لي أبو حاتم صدوق انتهى. فهذا الحديث لا يصلح للاستدلال على كراهة الكحل للصائم وليس في كراهته حديث صحيح "ورخص بعض أهل العلم في الكحل للصائم، وهو قول الشافعي" وهو قول الحنفية، وروى أبو داود في سننه بإسناده هو الأعمش قال: ما رأيت أحداً من أصحابنا يكره الكحل للصائم، وكان إبراهيم يرخص أن يكتحل الصائم بالصبر انتهى. وهذا الأثر سكت عنه أبو داود والمنذري، واستدل لهم بأحاديث الباب وهي بمجموعها تصلح للاحتجاج على جواز الاكتحال للصائم وليس في كراهته حديث صحيح، فالراجح هو القول بالجواز من غير كراهة والله تعالى أعلم.
فإن قلت: قد يوجد طعم الكحل في الحلق وقد ورد الفطر مما دخل وليس مما خرج.
قلت: حديث الفطر مما دخل وليس مما خرج مرفوعاً ضعيف، ثم المراد بالدخول دخول شيء بعينه من منفذ إلى الباطن، لا وصول أثر شيء من المسامات إلى الباطن، ولذا لا يفطر شم العطر ونحوه(3/422)
31 ـ باب ما جَاءَ في القُبْلَةِ للصّائِم
723 ـ حدثنا هَنّادٌ و قُتَيْبةُ قالا: حدثنا أَبو الأحْوَصِ عن زِيَادِ بنِ عِلاَقَةَ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في القُبْلَةِ للصّائِم
قوله: "عن زياد بن علاقة" بكسر العين المهملة وبالقاف ثقة من الثالثة.(3/422)
عن عَمْروِ بنِ مَيْمُونٍ عن عائِشَةَ أَن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُقَبّلُ في شَهْرِ الصّوْمِ".
قال: وفي البابِ عن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ وحَفْصةَ وأَبي سَعِيدٍ وأُمّ سَلَمةَ وابنِ عباسٍ وأَنَسٍ وأَبي هُرَيْرَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
واخْتَلَفَ أَهلُ العلِمِ مِنْ أَصحابِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم في القُبْلَةِ للصائِمِ. فرَخّصَ بَعْضُ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم في القُبْلَةِ للشّيْخِ ولَمْ
ـــــــ
قوله : "كان يقبل في شهر الصوم" أي في رمضان، وفي رواية لمسلم. يقبل في رمضان وهو صائم. قال الحافظ في الفتح. فأشارت عائشة إلى عدم التفرقة بين صوم الفرض والنفل انتهى.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما بألفاظ.
قوله: "وفي الباب عن عمر بن الخطاب" أخرجه أحمد وأبو داود بلفظ قال: هششت يوماً فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟" قلت: لا بأس بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "ففيم؟ " كذا في المنتقى قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث. أخرجه أبو داود والنسائي، قال النسائي منكر، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم انتهى "وحفصة" أخرجه ابن ماجه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم "وأم سلمة" أخرجه الشيخان بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم "وابن عباس" أخرجه ابن ماجه بلفظ قال: رخص للكبير الصائم في المباشرة وكره للشاب "وأنس" لينظر من أخرجه "وأبي هريرة" أبو داود بلفظ: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب انتهى. وسكت عنه أبو داود والمنذري. وقال ابن الهمام: سنده جيد، كذا في المرقاة.
قوله: "فرخص بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في القبلة للشيخ ولم(3/423)
يُرَخّصُوا للشّابِ مَخَافَةَ أَن لا يَسْلَمَ لَهُ صَوْمُهُ. والمُبَاشَرَةُ عندَهُمْ أَشَدّ وقد قالَ بَعْضُ أَهلِ العِلمِ: القُبْلَةُ تُنْقِصُ الأجْرَ ولا تُفْطِرُ الصّائِمَ، ورَأَوْا أنّ للصّائِمِ إذا مَلَكَ نَفْسَهُ أَن يُقبّلَ، وإذا لَمْ يَأْمَنْ على نَفْسِهِ تَرَكَ القُبْلَةَ لِيَسْلَمَ لَهُ صَوْمُهُ. وهو قولُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ والشّافِعيّ.
ـــــــ
يرخصوا للشاب إلخ" قال الحافظ في الفتح: فرق قوم بين الشاب والشيخ فكرهها يعني القبلة للشاب وأباحها للشيخ وهو مشهور عن ابن عباس أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما وجاء فيه حديثان مرفوعان فيهما ضعف أخرج أحدهما أبو داود من حديث أبي هريرة والآخر أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص انتهى.
قوله: "وقال بعض أهل العلم: القبلة تنقض الأجر ولا تفطر الصائم ورأوا أن الصائم إذا ملك نفسه أن يقبل إلخ" قال الحافظ في الفتح بعد نقل كلام الترمذي هذا: ويدل على ذلك ما رواه مسلم من طريق عمر بن أبي سلمة وهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيقبل الصائم؟ فقال: سل هذه، لأم سلمة، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له . فدل ذلك على أن الشاب والشيخ سواء، لأن عمر حينئذ كان شاباً ولعله كان أول ما بلغ. وفيه دلالة على أنه ليس من الخصائص.
وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار أنه قبل امرأته وهو صائم فأمر امرأته أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فسألته فقال: إن أفعل ذلك، فقال زوجها يرخص الله لنبيه فيما يشاء، فرجعت فقال أنا أعلمكم بحدود الله وأتقاكم. وأخرجه مالك لكنه أرسله، قال عن عطاء أن رجلاً فذكر نحوه مطولاً انتهى كلام الحافظ. قال قبل هذا. قد اختلف في القبلة والمباشرة للصائم، فكره قوم مطلقاً وهو مشهور عند المالكية، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يكره القبلة والمباشرة. ونقل ابن المنذر وغيره عن قوم تحريمها، واحتجوا بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية ، فمنع من المباشرة في هذه الآية نهاراً.
والجواب عن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله تعالى(3/424)
ـــــــ
وقد أباح المباشرة نهاراً، فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبلة ونحوها.
وأباح القبلة قوم مطلقاً وهو المنقول صحيحاً عن أبي هريرة وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة، بل بالغ بعض أهل الظاهر فاستحيها انتهى كلام الحافظ.
قلت: أعدل الأقوال عندي ما ذهب إليه سفيان الثوري والشافعي من أن الصائم إذا ملك نفسه جاز له التقبيل وإذا لم يأمن تركه، وبه يحصل الجمع والتوفيق بين الأحاديث المختلفة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله قال محمد بن الحسن في الموطأ: لا بأس بالقبلة للصائم إذا ملك نفسه بالجماع، فإن خاف أن لا يملك نفسه فالكف أفضل وهو قول أبي حنيفة رحمه الله والعامة قبلنا انتهى(3/425)
باب ما جاء في مباشرة للصائم
...
32ـ باب ما جَاءَ في مُبَاشَرَةِ الصائِم
724 ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أخبرنا وَكِيعٌ، حدثنا إسرَائيلُ عن أبي إسحاقَ عن أبي مَيْسَرَةَ عن عائِشَةَ قالت "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُبَاشِرُنِي وَهُوَ صَائِمٌ وكانَ أَمْلَككُم لإرْبِه".
725 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن إبراهيم عن عَلْقَمةَ و الأسْوَدِ عن عائِشَةَ قالت " كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يِقُبّلُ وَيُبَاشِرُ وهُوَ صَائِمٌ وكانَ أَمْلَكَكُم لإربِهِ".
ـــــــ
وقد أباح المباشرة نهاراً، فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبلة ونحوها.
وأباح القبلة قوم مطلقاً وهو المنقول صحيحاً عن أبي هريرة وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة، بل بالغ بعض أهل الظاهر فاستحيها انتهى كلام الحافظ.
قلت: أعدل الأقوال عندي ما ذهب إليه سفيان الثوري والشافعي من أن الصائم إذا ملك نفسه جاز له التقبيل وإذا لم يأمن تركه، وبه يحصل الجمع والتوفيق بين الأحاديث المختلفة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله قال محمد بن الحسن في الموطأ: لا بأس بالقبلة للصائم إذا ملك نفسه بالجماع، فإن خاف أن لا يملك نفسه فالكف أفضل وهو قول أبي حنيفة رحمه الله والعامة قبلنا انتهى
باب ما جاء في مباشرة الصائم
المباشرة أعم من القبلة، قيل هي مس الزوج المرأة فيما دون الفرج، وقيل هي القبلة واللمس باليد، قاله القاري.
قوله: "يباشرني" قال النووي: معنى المباشرة هنا اللمس باليد، وهو من التقاء البشرتين انتهى "وكان أملككم لأريه" بفتح الهمزة والراء وبالموحدة أي حاجته، ويروي بكسر الهمزة وسكون الراء أي عضوه، والأول أشهر وإلى ترجيحه أشار البخاري من التفسير، كذا في فتح الباري.
قلت: قال البخاري بعد رواية هذا الحديث: قال ابن عباس: إرب حاجة، وقال طاؤس "غير أولى الإربة" الأحمق لا حاجة له في النساء انتهى. قال الجزري(3/425)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وأَبُو مَيْسَرَةَ اسْمُهُ عمرُو بنُ شُرَحْبِيلَ. ومَعْنَى لإربِه يَعْنِي لِنَفْسِهِ.
ـــــــ
في النهاية: أي لحاجته تعني أنه كان غالباً لهواه، وأكثر المحدثين يروونه بفتح الهمزة والراء يعنون الحاجة وبعضهم يرويه بكسر الهمزة والراء يعنون الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء وله تأويلان أحدهما أنه الحاجة والثاني أرادت به العضو وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة انتهى. وفي مجمع البحار: خدش التفسير بالعضو بأنه خارج عن سنن الأدب انتهى. قال النووي: معنى كلام عائشة رضي الله تعالى عنها أنه ينبغي لكم الاحتراز عن القبلة ولا تتوهموا من أنفسكم أنكم مثل النبي صلى الله عليه وسلم في استباحتها لأنه يملك نفسه ويأمن الوقوع في قبلة يتولى منها إنزال أو شهوة وهيجان نفس ونحو ذلك وأنتم لا تأمنون ذلك، فطريقكم الإنكفاف عنها انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما بألفاظ "وأبو ميسرة اسمه عمرو بن شرحبيل" الكوفي الهمداني ثقة عابد مخضرم "ومعنى لأربه يعني لنفسه" هذا بيان حاصل المعنى، وقد عرفت أصل معنى لأربه(3/426)
33 ـ باب ما جَاءَ لا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ مِنَ اللّيْل
726 ـ حدثنا إسحاقُ بنُ منصورٍ أخبرنا ابن أبي مَرْيَمَ أخبرنا يَحْيى بنُ أَيوبَ عن عبدِ الله بنِ أبي بَكْرٍ عن ابنِ شِهَابٍ عن سَالِمِ بنِ عبدِ الله عن أَبيهِ عن حَفْصَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال "مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فلا صِيَامَ لَهُ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ لا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ مِنَ اللّيْل
قوله : "من لم يجمع الصيام" قال في النهاية: الإجماع إحكام النية والعزيمة أجمعت الرأي وأزمعته وعزمت وعزمت عليه بمعنى انتهى. والمعنى من لم يصمم العزم على الصوم "قبل الفجر" أي قبل الصبح الصادق "فلا صيام له" ظاهره أنه لا يصح الصوم بلا نية قبل الفجر فرضاً كان أو نفلاً، وإليه ذهب ابن عمر وجابر بن زيد ومالك والمزني وداود، وذهب الباقون إلى جواز النفل بنية من النهار وخصصوا هذا الحديث بما روي عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني(3/426)
قال أبو عيسى: حديثُ حَفْصَةَ حديثٌ لا نَعْرِفُهُ مرفوعاً إِلا مِنْ هذا الوجْهِ وقد رُوِيَ عن نافِعٍ عن ابنِ عُمَر قَوْلُهُ وهو أَصَحّ: وهكذا أيضاً روي هذا الحديث عن الزهري موقوفاً ولا نعلم أحداً رفعه إلاّ يحيى بن أيوب وإِنّمَا مَعْنَى هذا عندَ أهلِ العِلْمِ: لا صِيَامَ لِمَن لم يُجْمِعْ الصّيَامَ قبلَ طُلُوعِ الفَجْرِ في رَمَضَانَ أَو في قَضَاءِ رَمَضَانَ أو في صيَامِ نَذْرٍ إذا لَمْ يَنْوِهِ مِنَ اللّيْلِ لَمْ يُجْزِهِ.
ـــــــ
ويقول: "أعندك غداء؟" فأقول: لا، فيقول: "إني صائم"، وفي رواية إني إذن لصائم. وإذن للاستقبال وهو جواب وجزاء، كذا في المرقاة.
قلت: والظاهر الراجح هو ما ذهب إليه الباقون.
قوله: "حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وقد روي عن نافع عن ابن عمر قوله وهو أصح" قال في المنتقى بعد ذكر هذا الحديث: رواه الخمسة، وقال في النيل: أخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان وصححاه مرفوعاً، وأخرجه أيضاً الدارقطني. وقال الحافظ في التلخيص: واختلف الأئمة في رفعه ووقفه، فقال ابن أبي حاتم عن أبيه لا أدري أيهما أصح يعني رواية يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن سالم لكن الوقف أشبه. وقال أبو داود: لا يصح رفعه. وقال الترمذي الموقوف أصح. ونقل في العلل عن البخاري أنه قال هو خطأ، وهو حديث فيه اضطراب. والصحيح عن ابن عمر موقوف. وقال النسائي: الصواب عندي موقوف ولم يصح رفعه. وقال أحمد: ماله عندي ذلك الإسناد. وقال الحاكم في الأربعين: صحيح على شرط الشيخين. وقال في المستدرك: صحيح على شرط البخاري. قال البخاري: رواته ثقات إلا أنه روى موقوفاً. وقال الخطابي: أسنده عبد الله بن أبي بكر والزيادة من الثقة مقبولة. وقال ابن حزم: الاختلاف فيه يزيد قوة. وقال الدارقطني. كلهم ثقات انتهى كلام الحافظ.
قال الشوكاني: وقد تقرر في الأصول أن الرفع من الثقة زيادة مقبولة، وإنما قال ابن حزم. الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة، لأن من رواه مرفوعاً فقد رواه موقوفاً باعتبار الطرق قال وفي الباب عن عائشة عند الدارقطني وفيه عبد الله بن عباد وهو مجهول وقد ذكره ابن حبان في الضفعاء. وعن ميمونة بنت سعد عند الدارقطني أيضاً بلفظ . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أجمع الصيام من الليل فليصم ومن أصبح ولم يجمعه فلا يصم"، وفي إسناده الوافدي انتهى كلام الشوكاني.(3/427)
وَأَمّا صِيَامُ التّطَوّعِ فَمُبَاحٌ لَهُ أَن يَنْوِيَهُ بَعْدَ مَا أَصْبَحَ. وهو قَوْلُ الشافعيّ وأَحمدَ وَإسحاقَ.
ـــــــ
قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق" واستدلوا بحديث الباب وبحديث عائشة المذكور. وتقرير الاستدلال بأن قوله صلى الله عليه وسلم: لا صيام في حديث الباب نكرة في سياق النفي فيعم كل صيام، ولا يخرج عنه إلا ما قام الدليل على أنه لا يشترط فيه إجماع قبل الفجر وهو حديث حفصة المذكور في الباب، والظاهر أن النفي متوجه إلى الصحة لأنها أقرب المجازين إلى الذات أو متوجه إلى نفي الذات الشرعية. وقد عرفت ما ذهب إليه ابن عمر وجابر بن زيد رضي الله تعالى عنهما ومالك وغيرهم، ولعل حديث عائشة المذكور لم يبلغهم. وفي اللمعات: والمذهب عندنا يعني الحنفية أنه يجوز صوم رمضان والنفل والنذر المعين بنية من نصف النهار الشرعي، وشرط للقضاء والكفارة والنذر المطلق أن يبيت النية لأنها غير متعينة فلا بد من التعيين في الابتداء، والدليل لنا في الفرض ما روي في السنن الأربعة عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم بعد ما شهد عنده الأعرابي برؤية الهلال. "ألا من أكل فلا يأكل بقية يومه ومن لم يأكل فليصم" ، وأما حديث حفصة مع أنه قد اختلف في رفعه فمحمول على نفي الكمال انتهى ما في اللمعات.
قلت: أجيب عن رواية ابن عباس بأنه إنما صحت النية في النهار في صورة شهادة الأعرابي برؤية الهلال لأن الرجوع إلى الليل غير مقدور، والنزاع فيما كان مقدوراً فيخص الجواز بمثل هذه الصورة أعني من انكشف له في النهار أن ذلك اليوم من رمضان وكمن ظهر له وجوب الصيام عليه من النهار كالمجنون يفيق والصبي يحتلم والكافر يسلم. وأما الاختلاف في رفع حديث حفصة فأجيب عنه بأن الرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة. وأما حمله على نفي الكمال فغير ظاهر والظاهر أن النفي متوجه إلى الصحة أو إلى نفي الذات الشرعية. هذا ما عندي والله تعالى أعلم(3/428)
34 ـ باب ما جَاءَ في إِفْطَارِ الصّائِم المُتطَوّع
727 ـ حدثنا قُتَيْبةُ أبو الأحْوَصِ عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في إِفْطَارِ الصّائِم المُتطَوّع
قوله: "عن ابن أم هانئ" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: هارون بن أم هانئ،(3/428)
عن ابنِ أُمّ هانِيءٍ عن أُمّ هانِيءٍ قالت "كُنْتُ قَاعِدَةً عندَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فأُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمّ نَاوَلَنِي فشَرِبْتُ مِنْهُ فقلتُ إِنّي أَذْنَبْتُ فاسْتَغْفِر لِي فقال: وماذَاك؟ قالت كُنْتُ صَائِمَةً فأَفْطَرْتُ، فقال: أَمِنْ قَضَاءِ كُنْتِ تَقْضِينَهُ؟ قالت: لا قال: فلا يَضُرّكِ".
قال: وفي البابِ عن أبي سعيدٍ وعائشةَ.
ـــــــ
ويقال ابن أم هانئ، ويقال ابن بنت أم هانئ والثالث وهم، روى حديثه سِمَاك بن حرب عنه عن أم هانئ مرفوعاً: الصائم المتطوع أمير نفسه. ولأم هانئ ابن يقال له جعدة بن هبيرة قال الحافظ، فيحتمل أن يكون هارون هذا ولد جعدة بن هبيرة. وأما أبو الحسن بن القطان فقال لا يعرف انتهى "عن أم هانئ" بهمزة بعد نون مكسورة بنت أبي طالب.
قوله: "كنت قاعدة عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بشراب" أي من ماء فإنه المراد عند الإطلاق، وفي رواية أبي داود قالت: لما كان يوم الفتح فتح مكة جاءت فاطمة فجلست على يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب "ثم ناولني" أي بقية الشراب "أمن فضاء كنت تقضينه" وفي رواية أبي داود: أكنت تقضين شيئاً "فلا يضرك" أي ليس عليك إثم في إفطارك، وفي رواية أبي داود فلا يضرك إن كان تطوعاً.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد" أخرجه البيهقي قال: صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فلما وضع قال رجل أنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعاك أخوك وتكلف لك، أفطر فصم مكانه إن شئت". قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: إسناده حسن "وعائشة" أخرجه الجماعة إلا البخاري. قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم من شيء؟" فقلت: لا، فقال: "فإني إذن صائم"، ثم أتانا يوماً آخر فقلنا يا رسول الله أهدى لنا حيس، فقال "أرينيه فلقد أصبحت صائماً" فأكل انتهى . وأحاديث الباب تدل على أنه يجوز لمن صام تطوعاً أن يفطر لا سيما إذا كان في دعوة إلى طعام أحد من المسلمين.(3/429)
حديث أم هانىء في إسناده مقال والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: أن الصائم المتطوع إذا أفطر فلا قضاء عليه إلا أن يحب أن يقضيه. وهو قول سفيان الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي
728-حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا أبو داود، حدثنا شُعْبَةُ قال: كُنْتُ أَسْمَعُ سِمَاكَ بنَ حَرْبٍ يقول: "أَحَدُ ابْنَى أُمّ هَدانِيءٍ حدّثَنِي فَلَقِيتُ أَنا أفْضَلَهُما وكان اسْمُهُ جَعْدَةَ، وكانت أُمّ هَانِيءٍ جَدّتَهُ فَحَدّثَني عن جَدّتِهِ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخلَ عليها فدَعا بشَرابٍ فَشَرِبَ
ـــــــ
قوله: "في إسناده مقال" فإن في سنده سِمَاك وقد اختلف عليه فيه. وقال النسائي: سِمَاك ليس يعتمد عليه إذا انفرد، وفي إسناده أيضاً هارون بن أم هانئ. قال ابن القطان: لا يعرف، وقال الحافظ في التقريب: مجهول.
قوله: "إن الصائم المتطوع إذا أفطر فلا قضاء عليه إلا أن يجب أن يقضيه، وهو قول سفيان الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي" وهو قول الجمهور من أهل العلم، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " وإن كان تطوعاً فإن شئت وفاقضي وإن شئت فلا تقضي" في حديث أم هانيء، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر فصم مكانه إن شئت" في حديث أبي سعيد الخدري قال الحافظ: هو دال على عدم الإيجاب انتهى. وقال أبو حنيفة: يلزمه القضاء، واحتج بحديث عائشة الآتي في الباب الآتي.
قوله: "فلقيت أنا أفضلهم" أي أفضل بني أم هانئ وهذا قول شعبة "وكان اسمه" أي اسم أفضل بني أم هانئ "جعدة" قال في التقريب: جعدة المخزومي من ولد أم هانئ قيل: هو ابن يحيى بن جعدة بن هبيرة وهو مقبول من السادسة انتهى. وقال في الخلاصة. جعدة المخزومي عن أبي صالح مولى أم هانئ وعنه شعبة. قال البخاري: لا يعرف إلا بحديث المتطوع أمير نفسه، وفيه نظر انتهى. وقال في التهذيب هو من ولد أم هانئ بنت أبي طالب أخو هارون وهو ابن ابنها انتهى.(3/430)
ثم نَاوَلَها فشَرِبَتْ، فقالت يا رسولَ الله أَمَا إِنّي كُنْتُ صَائِمَةً، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الصّائِمُ المُتَطَوّعُ أَمينُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وإنْ شَاءَ أَفْطَرَ".
قال شُعْبَةُ: قلتُ له: أَأنتَ سَمِعْتَ هذا مِنْ أُمّ هانِيءٍ؟ قال: لا أخْبَرَنِي أبو صَالحٍ وأَهْلُنَا عن أُمّ هَانِيءٍ.
ورَوَى حَمّادُ بنُ سَلَمةَ هذا الحديثَ عن سِمَاكٍ بن حرب، فقال عن: هارونَ بنِ بنْتِ أمّ هَانِيءٍ عنْ أمّ هَانِيءٍ. وروَايَةُ شُعْبَةَ أَحْسَنُ. هكذا حدثنا محمودُ بن غَيْلاَنَ عن أبي داودَ، فقال "أمينُ نَفْسِهِ" وحدثنا غَيْرُ محمودٍ عن أبي داودَ فقالَ "أمِيرُ نَفْسِهِ أَو أَمِينُ نَفْسِهِ" على الشّكّ. وهكذا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عن شُعْبَةَ "أَمِين نَفْسِهِ أَو أَمِير نَفْسِهِ" على الشكّ.
729 ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا وَكِيعٌ، عن طَلْحَةَ بنِ يَحْيى، عن عَمّتِهِ
ـــــــ
قوله: "أمين نفسه" بالنون، قال في المجمع. معناه: أنه إذا كان أمين نفسه فله أن يتصرف في أمانة نفسه على ما يشاء انتهى. "قلت له" أي لجعدة "أخبرني أبو صالح" اسمه باذام بالذال المعجمة ويقال آخره نون مولى أم هانئ ضعيف مدلس من الثالثة، كذا في التقريب. وقال في الخلاصة: باذام بمعجمة بين ألفين مولى أم هانئ أبو صالح مدلس، يروي عن مولاته. قال ابن معين. ليس به بأس. قال النسائي. ليس بثقة.
قوله: "عن هارون بن بنت أم هانئ" قال في الخلاصة: هارون بن أم هانئ وقيل إنه حفيدها، عن أم هانئ وعنه سِمَاك مجهول، وقد عرفت من عبارة تهذيب التهذيب أن هارون بن أم هانئ يقال له ابن أم هانئ، ويقال ابن بنت أم هانئ والثالث وهم.
قوله: "فقال أمير نفسه أو أمين نفسه" تقدم بيان معنى أمين نفسه، ومعنى أمير نفسه أنه أمير لنفسه بعد دخوله في الصوم إن شاء صام أي أتم صومه، وإن شاء أفطر، إما بعذر أو بغيره.
قوله: "عن طلحة بن يحيى" ابن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني نزيل الكوفة(3/431)
ائشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عن عائِشَةَ أمّ المُؤْمِنِينَ قالت: "دَخَلَ عليّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْماً فقال هَلْ عِنْدَكُم شَيْءٌ قالت: قلت: لا، قال: "فإِنّي صَائِمٌ".
730 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا بِشْرُ بنُ السّرِيّ عن سُفْيَان عن طَلْحَةَ بنِ يَحْيى عن عائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عن عائِشَةَ أُمّ المؤْمِنِينَ قالت: "إن كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي فيقولُ أَعِنْدَكِ غَدَاءٌ؟ فَأَقُولُ: لا، فيقولُ: إنّي صَائِمٌ: قالَت: فأَتَانِي يَوْماً فقلتُ يا رسولَ الله إنّهُ قد أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيّةٌ، قال: وما هِيَ؟ قالت قلت: حَيْسٌ، قال: أَمَا إنّي قد أَصْبَحْتُ صَائِماً، قالت: ثم أَكَلَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
صدوق يخطئ من السادسة عن عمته عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمية أم عمران كانت فائقة الجمال وهي ثقة من الثالثة.
قوله: "أعندك غداء" بفتح المعجمة والدال المهملة وهو ما يؤكل قبل الزوال "قلت حيس" بفتح الحاء المهملة وسكون الياء تمر مخلوط بسمن وأقط، وقيل طعام يتخذ من الزبد والتمر والأقط، وقد يبدل الأقط بالدقيق والزبد بالسمن، وقد يبدل السمن بالزيت، قاله القاري "قالت: ثم أكل" قال ميرك: يدل هذا على جواز إفطار النفل وبه قال الأكثرون. وقال أبو حنيفة: يجوز بعذر وأما بدونه فلا.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مسلم(3/432)
35 ـ بابُ ما جَاءَ في إيجابِ القَضَاءِ عَلَيْه
731 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا كثِيرُ بنُ هِشَامٍ، حدثنا جَعْفَرُ بنُ بُرْقَانَ
ـــــــ
"باب ما جاء في إيجاب القضاء عليه"
أي على الصائم المتطوع الذي أفطر
قوله: "جعفر بن برقان" بضم الموحدة وسكون الراء بعدها قاف أبو عبد الله(3/432)
عن الزّهريّ عن عُرْوَةَ عن عائِشَةَ قالت "كُنْت أَنا وحَفْصَةُ صَائمَتَيْنِ فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فأَكَلْنَا مِنْهُ فَجاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَبَدَرَتْنِي إليهِ حَفْصَةُ وكانَتِ ابْنَةَ أَبيها، فقالَت: يا رسولَ الله إنا كُنّا صَائِمَتَيْنِ فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فأَكَلْنَا مِنْهُ، قال "اقْضِيَا يَوْماً آخَرَ مَكَانَه".
قال أبو عيسى: ورَوَى صالحُ بنُ أبي الأخْضَرِ ومحمدُ بنُ أَبي حَفْصَةَ هذا الحديِثَ عن الزّهريّ عن عُرْوَةَ عن عائِشَةَ مِثْلَ هذا. ورواه مالِكُ بنُ أَنَسٍ ومَعْمَرٌ وعُبَيْدُ الله بنُ عُمَر وزِيَادُ بنُ سَعْدٍ وغَيْرُ واحِدٍ مِنَ الحفّاظِ عن الزّهْرِيّ عن عائِشَةَ مُرْسَلاً ولَمْ يَذْكُرُوا فيهِ "عن عُرْوَةَ" وهذَا أَصَحّ لأنّهُ رُوِيَ عن ابنِ جُرَيْجٍ قال: سَأَلْتُ الزّهْرِيّ قُلْتُ له: أَحَدّثَكَ عُرْوَةُ عن عائِشَةَ؟ قالَ: لَمْ أسْمَع مِنْ عُرْوَةَ في هذا شيئاً، ولكني سَمِعْتُ في خِلاَفَةِ سُلَيْمَانَ بنِ عَبْدِ المَلِكِ مِنْ نَاسٍ عن بَعْضٍ مَنْ سَأَلَ عائِشَةَ عن هذا الحديثِ.
732 ـ حدثنا بذلك عليّ بنُ عيسَى بنُ يَزِيدَ البَغْدَادِيّ حدثنا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ فَذَكَرَ الحديثَ.
ـــــــ
الرقي صدوق يهم في حديث الزهري، كذا في التقريب.
قوله: "كنت أنا وحفصة" بالرفع "صائمتين" أي نفلا فعرض لنا طعام بصيغة المجهول أو عرضه هنا أحد بطريق الهدية "فبدرتني إليه حفصة" أي سبقتني إليه صلى الله عليه وسلم في الكلام، من بدرت الشيء بدوراً أسرعت إليه "وكانت ابنة أبيها" تعني على خصال أبيها أي كانت جريئة كأبيها.
قوله: "ولم يذكروا فيه عن عروة وهذا أصح" وقال النسائي: هذا خطأ. وقال ابن عيينة في روايته: سئل الزهري عنه أهو عن عروة؟ فقال لا. وقال الخلال: اتفق الثقات على إرساله وشذ من وصله وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا، كذا في فتح الباري.(3/433)
وقد ذَهبَ قَوْمٌ مِنْ أهلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهم إلى هذا الحديثِ فَرَأَوْا عليهِ القَضَاءَ إذا أفْطَر، وهو قولُ مالِكِ بنِ أنَسٍ.
ـــــــ
قوله: "فرأوا عليه القضاء إذا أفطر، وهو قول مالك بن أنس" وهو قول الحنفية واستدلوا عليه بحديث الباب وبحديث أبي سعيد الذي أشار إليه الترمذي في الباب المتقدم وقد ذكرنا لفظه، وأجيب عن ذلك بما في حديث أم هانئ وإن كان تطوعاً فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي، رواه أحمد وأبو داود بمعناه فيجمع بينه وبين حديث عائشة وأبي سعيد بحمل القضاء على التخيير، وهو مذهب الجمهور من أهل العلم. قال الشوكاني في النيل ص131: ويدل على جواز الإفطار وعدم وجوب القضاء حديث أبي جحيفة يعني الذي فيه قصة زيادة سلمان أبا الدرداء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر ذلك ولم يبين لأبي الدرداء وجوب القضاء عليه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. قال ابن المنير: ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة كقوله تعالى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} لأن الخاص يقدم على العام كحديث سلمان. وقال ابن عبد البر: من احتج في هذا بقوله تعالى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فهو جاهل بأقوال أهل العلم، فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء، كأنه قال "لا تبطلوا أعمالكم" بالرياء بل أخلصوها لله. وقال آخرون لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر، ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يفرض الله عليه ولا أوجب على نفسه بنذر أو غيره لامتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب وهم لا يقولون بذلك انتهى. قال الشوكاني: ولا يخفى أن الآية عامة، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، فالصواب ما قال ابن المنير انتهى(3/434)
36 ـ باب ما جَاءَ في وِصَالِ شَعْبَانَ برَمَضَان
733 ـ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي عن سفْيَانَ عن مَنْصُورٍ عن سَالِمِ بنِ أَبي الجَعْدِ عن أَبي سَلَمَةَ عن أُمّ سَلَمَةَ قالت: "ما رَأَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إلاّ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ".
ـــــــ(3/434)
وفي البابِ عن عائِشَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أُمّ سَلَمَةَ حديثٌ حسنٌ.
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ لا عن أبي سَلَمَةَ عن عائِشَةَ أَنها قَالَتْ "ما رَأَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم في شَهْرٍ أكْثَرَ صِيَاماً مِنْهُ في شَعْبَانَ، كانَ يَصُومُهُ إلاَ قليلاً بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلّهُ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في وِصَالِ شَعْبَانَ برَمَضَان
قوله: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلخ" وفي رواية أبي داود وغيره: أنه لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصله برمضان، وهذا اللفظ أوفق لما ترجم به الترمذي. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذه الرواية: أي كان يصوم معظمه واستدل عليه برواية عائشة عند مسلم بلفظ: كان يصوم شعبان إلا قليلاً وسيجيء تحقيقه.
قوله: "حديث أم سلمة حديث حسن" وأخرجه أبي داود والنسائي وابن ماجه وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، "وقد روي هذا الحديث أيضاً عن أبي سلمة عن عائشة" قال الحافظ في الفتح. يحتمل أن يكون أبو سلمة رواه عن كل من عائشة وأم سلمة، ويؤيده أن محمد بن إبراهيم التيمي رواه عن أبي سلمة عن عائشة تارة وعن أم سلمة تارة أخرى أخرجهما النسائي انتهى.
قوله: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر" بالنصب على أنه ثاني مفعول رأيت "صياماً" تمييز "منه" أي من النبي صلى الله عليه وسلم "في شعبان" متعلق بـ "صياماً"، والمعنى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شعبان وفي غيره من الشهور سوى رمضان وكان صيامه في شعبان أكثر من صيامه فيما سواه كذا ذكره الطيبي. وقال بعض الشراح قوله "في شهر" يعني به غير شعبان وهو حال من المستكن في أكثر "وفي شعبان" حال من المجرور في منه العائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي ما رأيته كائناً في غير شعبان أكثر صياماً منه كائناً في شعبان، مثل زيد قائماً أحسن منه قاعداً، أو كلاهما ظرف أكثر الأول باعتبار الزيادة والثاني باعتبار أصل المعنى ولا تعلق له برؤيته، وإلا يلزم تفضيل الشيء على نفسه بإعبتار حالة واحدة، كذا ذكره القاري "كان يصومه إلا قليلاً بل كان يصومه كله" أي لغاية القلة، وفي رواية مسلم من طريق أبي لبيد عن(3/435)
734 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا عَبْدَةُ عن محمدِ بنِ عَمْرٍو حدثنا أبو سَلَمةَ عن عائِشَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلكَ.
ورُوِيَ عن ابنِ المبَارَكِ أنهُ قالَ في هَذا الحَديِثِ قال: هُوَ جَائِزٌ في كَلاَمِ العَرَبِ إذا صَامَ أكثرَ الشّهْرِ أَنْ يُقَالَ صَامَ الشّهْرَ كُلّهُ، ويُقَالُ: قام فلانٌ ليلهُ أجمَعَ ولعلّهُ تعشى واشتغل ببعض أمره، كأن ابن المبارك قَدْ رَأَى كِلاَ الحَديثَيْنِ مُتّفِقَيْنِ، يَقُولُ: إنّما مَعْنَى هذا الحديثِ أنّه كانَ يَصُومُ أكثرَ الشّهْرِ.
ـــــــ
أبي سلمة عن عائشة. كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً.
قوله: "كأن ابن المبارك قد رأى كلا الحديثين متفقين يقول إنما معنى الحديث أنه كان يصوم أكثر الشهر" المراد بكلا الحديثين الحديث الذي ورد فيه صوم أكثر شعبان والحديث الذي جاء فيه صوم شعبان كله. قال الحافظ في الفتح. حاصل ما قال ابن المبارك أن الرواية الأولى مفسرة للثانية وأن المراد بالكل الأكثر، وهو مجازاً قليل الاستعمال واستبعده الطيبي قال لأن الكل تأكيد لإرادة الشمول ودفع التجوز فتفسيره بالبعض مناف له، قال فيحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان، وقيل المراد بقولها كله أنه كان يصوم من أوله تارة ومن آخره أخرى ومن أثنائه طوراً فلا يخلي شيئاً منه من صيام ولا يخص ببعضه بصيام دون بعض. وقال الزين بن المنير: إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة والمراد الأكثر وإما أن يجمع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان وأخبرت ثانياً عن آخر أمره أنه كان يصومه كله انتهى ولا يخفى تكلفه والأول هو الصواب، ويؤيده رواية عبد الله بن شقيق عن عائشة عند مسلم وسعد بن هشام عنها عند النسائي ولفظه: ولا صام شهراً كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان انتهى كلام الحافظ.(3/436)
ـــــــ
واختلف في الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان على أقوال قد ذكرها الحافظ في الفتح وقد ذكر في تأييد بعضها بعض الأحاديث الضعاف ثم قال: والأولى في ذلك ما جاء في حديث أصح مما مضى أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"، ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى لكن قال فيه: إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم، قال ولا تعارض بين هذا وبين ما جاء من النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده انتهى(3/437)
باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الباقي من شعبان لحال رمضان
...
37ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الصّوْمِ في النّصْفِ الثاني مِنْ شَعْبَانَ لَحِالِ رَمَضَان
735 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا عبدُ العزِيز بنُ محمدٍ عن العَلاَءِ بنِ عبدِ الرحمَنِ عن أَبيهِ عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إذا بَقِيَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فلا تَصُوموا".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الصّوْمِ في النّصْفِ الثاني مِنْ شَعْبَانَ لَحِالِ رَمَضَان
قوله: "إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا" وفي رواية أبي داود وغيره: إذا انتصف شعبان، وفي رواية: فلا صيام حتى يكون رمضان. قال القاري في المرقاة: والنهي للتنزيه رحمة على الأمة أن يضعفوا عن حق القيام بصيام رمضان على وجه النشاط. وأما من صام شعبان كله فيتعود بالصوم ويزول عنه الكلفة ولذا قيده بالانتصاف أو نهى عنه لأنه نوع من التقدم والله أعلم. قال القاضي: المقصود استجمام من لا يقوى على تتابع الصيام فاستحب الإفطار كما استحب إفطار عرفة ليتقوى على الدعاء، فأما من قدر فلا نهى له، ولذلك جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الشهرين في الصوم انتهى.(3/437)
قال أبو عيسى: حديثُ أَبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هذا الوجْهِ على هذا اللفْظِ.
ومَعْنَى هذا الحديثِ عِنْدَ بَعْضِ أهلِ العلمِ أَنْ يكونَ الرّجُلُ مُفْطِراً فإِذا بَقِيَ مِنْ شَعْبَانَ شيءٌ أَخَذَ في الصوّمِ لَحِالِ شَهْرِ رَمَضَانَ.
ـــــــ
وقال الحافظ في فتح الباري: قال كثير من الشافعية بمنع الصوم من أول السادس عشر من شعبان لحديث العلاء بن عبد الرحمَن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا، أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره. وقال الروياني من الشافعية: يحرم التقدم بيوم أو يومين لحديث: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، ويكره التقدم من نصف شعبان للحديث الآخر. وقال جمهور العلماء. يجوز الصوم تطوعاً بعد النصف من شعبان وضعفوا الحديث الوارد فيه، وقال أحمد وابن معين. إنه منكر، واستدل البيهقي بحديث الباب يعني لا يتقدمن أحدكم شعبان بصوم يوم أو يومين على ضعفه فقال: الرخصة في ذلك بما هو أصح من حديث العلاء وكذا منع قبله الطحاوي، واستظهر بحديث ثابت عن أنس مرفوعاً. أفضل الصيام بعد رمضان شعبان. لكن إسناده ضعيف، واستظهر أيضاً بحديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "هل صمت من سرد شعبان شيئاً؟" قال: لا، قال: "فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين"، ثم جمع بين الحديثين يعني بين حديث العلاء ابن عبد الرحمَن وبين حديث: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، بأن حديث العلاء على من يضعفه الصوم وحديث التقدم بصوم يوم أو يومين مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان وهو جمع حسن انتهى كلام الحافظ.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وصححه ابن حبان وغيره: وقال أحمد وابن معين إنه منكر كما قال الحافظ في الفتح: قال أبو داود في سننه: وكان عبد الرحمَن لا يحدث به قلت لأحمد لم؟ قال لأنه كان عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان. وقال عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه قال أبو داود: وليس هذا عندي خلافه ولم يجيء به غير العلاء عن أبيه انتهى. وقال المنذري في تلخيصه: حكى أبو داود عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث(3/438)
وقد رُوِيَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَا يُشْبِهُ قولهم، حَيْثُ قالَ صلى الله عليه وسلم "لا تَقَدّمُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِصِيَامٍ إلاّ أَنْ يُوَافِقَ ذلكَ صَوْماً كانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ" وقد دَلّ في هذا الحديثِ إنّما الكَرَاهِيَةُ على مَنْ يَتَعَمّدُ الصّيَامَ لِحَالِ رَمَضَانَ.
ـــــــ
منكر، قال: وكان عبد الرحمَن يعني ابن مهدي لا يحدث به، ويحتمل أن يكون الإمام أحمد إنما أنكره من جهة العلاء بن عبد الرحمَن فإن فيه مقالاً لأئمة هذا الشأن.
قال: والعلاء بن عبد الرحمَن وإن كان فيه مقال فقد حدث عنه الإمام مالك مع شدة انتقاده للرجال وتحريه في ذلك، وقد احتج به مسلم في صحيحه وذكر له أحاديث انفرد بها رواتها، وكذلك فعل البخاري أيضاً، وللحفاظ في الرجال مذاهب فعل كل منهم ما أدى إليه اجتهاده من القبول والرد رضي الله عنهم انتهى كلام المنذري.
قلت: الحق عندي أن الحديث صحيح والله تعالى أعلم.
قوله: "ما يشبه قوله" أي قول بعض أهل العلم "والمعنى أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم" مثل قوله: "وهذا حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم إلخ" أي ما قلنا من أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله فلأنه صلى الله عليه وسلم قال إلخ، فهذا إشارة إلى قوله: وقد روى إلخ، وحيث تعليلية، وقال بعضهم: وهذا أي كراهة الأخذ في الصوم لحال رمضان لأنه صلى الله عليه وسلم إلخ، وقيل: وهذا أي دليل كراهة الأخذ في الصوم لحال رمضان حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم قال إلخ، والظاهر هو ما قلنا والله تعالى أعلم(3/439)
ـ باب ما جَاءَ في لَيْلَةِ النّصْفِ مِنْ شَعْبَان
736 ـ حدثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا يَزِيدُ بنُ هَارُونَ أخبرنا الحَجّاجُ بنُ أَرْطاةَ عن يَحْيى بنِ أَبي كَثِيرٍ عن عُرْوَةَ عن عائِشَةَ قالَتْ "فَقَدْتُ
ـــــــ
"باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان"
هي الليلة الخامسة عشر من شعبان وتسمى ليلة البراءة، وذكر هذا الباب هنا استطراد لذكر شعبان وإلا فالكلام في الصيام، قاله أبو الطيب المدني(3/439)
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَخَرَجْتُ فإِذا هُوَ بالبَقِيعِ، فقالَ "أَكُنْتِ تَخَافينَ أَنْ يحيفَ الله عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟ قلت: يا رسولَ الله ظَننْتُ أنكَ أتَيْتَ بَعْض نِسَائِكَ، فقالَ: إنّ الله عزّ وجلّ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إلى السَمَاءِ الدّنْيَا فَيَغْفِرُ لأكْثَرَ مِنْ عَدِدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ".
وفي البابِ عن أبي بَكْرٍ الصّديقِ.
ـــــــ
قوله: "فقدت" أي لم أجده قال في النهاية: فقدت الشيء أفقده إذا غاب عنك "ليلة" من ليالي تعني الليلة التي كان فيها عندي "فإذا هو البقيع" أي واقف فيه، والمراد بالبقيع بقيع الغرقد وهو موضع بظاهر المدينة فيه قبور أهلها كان به شجر الغرقد فذهب وبقي اسمه كذا في النهاية "أن يحيف" أي يجور ويظلم "الله عليك ورسوله" ذكر الله تنويهاً لعظم شأنه عند ربه على حد { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} قال الطيبي: أو تزييناً للكلام وتحسيناً، أو حكاية لما وقع في الآية {أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله} وإشارة إلى التلازم بينهما كالإطاعة والمحبة، قال: يعني ظننت أني ظلمتك بأن جعلت من نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمن تصدى بمنصب الرسالة. "قلت: يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك" أي زوجاتك لبعض مهماتك فأردت تحقيقها وحملني على هذا الغيرة الحاصلة للنساء التي تخرجهن عن دائرة العقل وحائزة التدبر للعاقبة من المعاتبة أو المعاقبة، والحاصل أني ما ظننت أن يحيف الله ورسوله علي أو على غيري بل ظننت أنك بأمر من الله أو باجتهاد منك خرجت من عندي لبعض نسائك لأن عادتك أن تصلي النوافل في بيتك كذا في المرقاة "إلى سماء الدنيا" وفي رواية ابن ماجه: إلى السماء الدنيا "فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب" أي قبيلة بني كلب، وخصهم لأنهم أكثر غنماً من سائر العرب. نقل الأبهري عن الأزهار أن المراد بغفران أكثر عدد الذنوب المغفورة لا عدد أصحابها وهكذا رواه البيهقي انتهى ذكره القاري وفي المشكاة زاد رزين: ممن استحق النار.
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر الصديق" أخرجه البزار والبيهقي بإسناد لا بأس به كذا في الترغيب والترهيب للمنذري في باب الترهيب من التهاجر.(3/440)
قال أبو عيسى: حديثُ عائِشَةَ لا نَعْرِفُهُ إلا مِنْ هذا الوجْهِ مِنْ حديثِ الحَجّاجِ. وسَمِعْتُ محمداً يُضَعّفُ هذا الحديثَ. وقال يَحْيى بنُ أبي كَثِيرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ. والحَجّاجُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ يحْيى بنِ أبي كَثِيرٍ.
ـــــــ
قوله: "حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه" وأخرجه ابن ماجه والبيهقي "وقال يحيى بن كثير لم يسمع من عروة الخ" فالحديث منقطع في موضعين أحدهما ما بين الحجاج ويحيى والآخر ما بين يحيى وعروة.
اعلم أنه قد ورد في فضيلة ليلة النصف من شعبان عدة أحاديث مجموعها يدل على أن لها أصلاً، فمنها حديث الباب وهو منقطع، ومنها حديث عائشة قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض، فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه فتحرك فرجع، فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته قال: "يا عائشة أو يا حميراء أظننت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خاس بك؟" قلت: لا والله يا رسول الله ولكني ظننت أنك قبضت طول سجودك، فقال "أتدري أي ليلة هذه؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "هذه ليلة النصف من شعبان إن الله عز وجل يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم" ، رواه البيهقي. وقال هذا مرسل جيد ويحتمل أن يكون العلاء أخذه من مكحول. قال الأزهري: يقال للرجل إذا غدر بصاحبه فلم يؤته حقه قد خاس به، كذا في الترغيب والترهيب للحافظ المنذري.
ومنها حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاجن"، قال المنذري في الترغيب بعد ذكره: رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه والبيهقي، ورواه ابن ماجه بلفظه من حديث أبي موسى الأشعري والبزار والبيهقي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه بنحوه بإسناد لا بأس به. انتهى كلام المنذري. قلت: في سند حديث أبي موسى الأشعري عند ابن ماجه بن لهيعة وهو ضعيف.
ومنها حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يطلع الله عز وجل إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين(3/441)
ـــــــ
مشاحن وقاتل نفس" ، قال المنذري: رواه أحمد بإسناد لين انتهى.
ومنها حديث مكحول عن كثير بن مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة النصف من شعبان: يغفر الله عز وجل لأهل الأرض إلا مشرك أو مشاحن، قال المنذري: رواه البيهقي وقال هذا مرسل جيد قال: ورواه الطبراني والبيهقي أيضاً عن مكحول عن أبي ثعلبة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يطلع الله إلى عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمؤمنين ويمهل الكافرين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه"، قال البيهقي: وهو أيضاً بين مكحول وأبي ثعلبة مرسل جيد انتهى.
ومنها حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول ألا من مستغفر فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلي فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر"، رواه ابن ماجه وفي سنده أبو بكر ابن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة القرشي العامري المدني، قيل اسمه عبد الله وقيل محمد وقد ينسب إلى جده رموه بالوضع كذا في التقريب. وقال الذهبي في الميزان: ضعفه البخاري وغيره. وروى عبد الله وصالح ابناً أحمد عن أبيهما قال: كان يضع الحديث، وقال النسائي: متروك انتهى.
فهذه الأحاديث بمجموعها حجة على من زعم أنه لم يثبت في فضيلة ليلة النصف من شعبان شيء والله تعالى أعلم.
تنبيه: اعلم أن المراد من ليلة مباركة في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} عند الجمهور هي ليلة القدر، وقيل هي ليلة النصف من شعبان، وقول الجمهور وهو الحق، قال الحافظ بن كثير: من قال إنها ليلة النصف من شعبان فقد أبعد، فإن نص القرآن أنها في رمضان انتهى. وفي المرقاة شرح المشكاة قال جماعة من السلف: إن المراد في الآية هي ليلة النصف من شعبان إلا أن ظاهر القرآن بل صريحه يرده لإفادته في آية أنه نزل في رمضان وفي أخرى أنه نزل في ليلة القدر ثبت أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم في الآية هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان، ولا نزاع(3/442)
ـــــــ
في أن ليلة نصف شعبان يقع فيها فرق كما صرح به الحديث، وإنما النزاع في أنها المرادة من الآية والصواب أنها ليست مرادة منها، وحينئذ يستفاد من الحديث والآية وقوع ذلك الفرق في كل من الليلتين إعلاماً لمزيد شرفهما، ويحتمل أن يكون الفرق في أحدهما إجمالاً وفي الأخرى تفصيلاً أو تخص إحداهما بالأمور الدنيوية والأخرى بالأمور الأخروية وغير ذلك من الاحتمالات العقلية انتهى.
تنبيه آخر: قال القاري في المرقاة: إعلم أن المذكور في اللاَلي أن مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات في كل ركعة مع طول فضله للديلمي وغيره موضوع، وفي بعض الرسائل قال علي ابن إبراهيم: ومما أحدث في ليلة النصف من شعبان الصلاة الألفية مائة ركعة بالإخلاص عشراً عشراً بالجماعة، واهتموا بها أكثر من الجمع والأعياد، لم يأت بها خبر ولا أثر إلا ضعيف أو موضوع ولا تغتر بذكر صاحب القوت والإحياء وغيرهما، وكان للعوام بهذه الصلاة افتتان عظيم حتى التزم بسببها كثرة الوقيد وترتب عليه من الفسوق وانتهاك المحارم ما يغني عن وصفه حتى خشي الأولياء من الخسف وهربوا فيها إلى البراري. وأول حدوث لهذه الصلاة ببيت المقدس سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، قال: وقد جعلها جهلة أئمة المساجد مع صلاة الرغائب ونحوهما شبكة لجمع العوام وطلباً لرياسة التقدم وتحصيل الحطام، ثم إنه أقام الله أئمة الهدى في سعي إبطالها فتلاشى أمرها وتكامل إبطالها في البلاد المصرية والشامية في أوائل سني المائة الثامنة. قيل أول حدوث الوقيد من البرامكة وكانوا عبدة النار، فلما أسلموا أدخلوا في الإسلام ما يموهون أنه من سنن الدين ومقصودهم عبادة النيران حيث ركعوا وسجدوا مع المسلمين إلى تلك النيران ولم يأت في الشرع استحباب زيادة الوقيد على الحاجة في موضع، وما يفعله عوام الحجاج من الوقيد بجبل عرفات وبالمشعر الحرام وبمنى فهو من هذا القبيل. وقد أنكر الطرسوسي الاجتماع ليلة الختم في التراويح ونصب المنابر وبين أنه بدعة منكرة. قال القاري رحمه الله: ما أفطنه وقد ابتلى به أهل الحرمين الشريفين حتى في ليالي الختم يحصل اجتماع من الرجال والنساء والصغار والعبيد ما لا يحصل في الجمعة والكسوف والعيد ويستقبلون النار ويستدبرون بيت الله الملك ويقفون على هيئة عبدة النيران في نفس المطاف حتى يضيق على الطائفين المكان ويشوشون عليهم وعلى غيرهم من الذاكرين والمصلين(3/443)
ـــــــ
وقراء القرآن في ذلك الزمان، فنسأل الله العفو والعافية والغفران والرضوان. انتهى كلام القاري مختصراً.
تنبيه آخر: لم أجد في صوم يوم ليلة النصف من شعبان حديثاً مرفوعاً صحيحاً. وأما حديث علي رضي الله عنه الذي رواه ابن ماجه بلفظ: إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها الخ فقد عرفت أنه ضعيف جداً، ولعلي رضي الله عنه فيه حديث آخر وفيه: فإن أصبح في ذلك اليوم صائماً كان كصيام ستين سنة ماضية وستين سنة مستقبلة، رواه ابن الجوزي في الموضوعات وقال: موضوع وإسناده مظلم(3/444)
باب ما جاء في الصوم المحرم
...
ـ باب ما جَاءَ في صَوْمِ المُحرّم
737 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا أبو عَوَانَةَ عن أَبي بِشْرٍ عن حُمَيْدِ بنِ عبدِ الرحمَنِ الحِمْيَرِيّ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "أَفْضَلُ الصّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ الله المُحَرّمُ".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةُ حديثٌ حسنٌ.
738 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ قال: أخبرنا عليّ بنُ مُسْهِرٍ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ إسحاقَ عن النّعْمَانِ بنِ سَعْدٍ عن علي قال: "سألَهُ رَجُلٌ فقالَ أَيّ شَهْرٍ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في صَوْمِ المُحرّم
قوله: "أفضل الصيام بعد صيام شهر رمضان شهر الله المحرم" أي صيام شهر الله المحرم، وأضاف الشهر إلى الله تعظيماً. فإن قلت: قد ثبت إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان، وهذا الحديث يدل على أن أفضل الصيام بعد صيام رمضان صيام المحرم. فكيف أكثر النبي صلى الله عليه وسلم منه في شعبان دون المحرم؟ قلت: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه كسفر ومرض وغيرهما، كذا أفاد النووي رحمه الله في شرح مسلم.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن" وأخرجه مسلم في صحيحه بسند الترمذي وزاد: وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل.(3/444)
تأْمُرُنيِ أَنْ أَصُومَ بَعْدَ شَهْر رَمَضَانَ؟ قالَ لَهُ ما سَمِعْتُ أحداً يَسْأَلُ عن هذا إلاّ رَجُلاً سَمِعْتُهُ يَسْأَلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأَنا قَاعِدٌ فقالَ يا رسولَ الله أَيّ شَهْرٍ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ قالَ: إنْ كُنْتَ صَائِماً بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصُمِ المُحَرّمَ فإِنّهُ شَهْرُ الله، فيهِ يَوْمٌ تَابَ فيهِ على قَوْمٍ ويَتُوبُ فيهِ على قَوْمٍ آخَريِ نَ".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
ـــــــ
قوله: "فيه يوم تاب الله فيه على قوم" هم قوم موسى بنو إسرائيل نجاهم الله من فرعون وأغرقه "هذا حديث حسن غريب" وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد عن غير أبيه، قاله المنذري في الترغيب: ونقل تحسين الترمذي وأقره(3/445)
40 ـ باب ما جَاءَ في صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَة
739 ـ حدثنا القَاسِمُ بنُ دِينَارٍ حدثنا عُبَيْدُ الله بنُ موسى و طَلْقُ بنُ غَنّامٍ عن شَيْبَانَ عن عاصِمٍ عن زِر عن عبدِ الله قال "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ غُرّةِ كُلّ شَهْرٍ ثلاثةَ أيامٍ، وقَلّ ما كانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الجُمُعَةِ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَة
قوله: "من غرة كل شهر" قال العراقي: يحتمل أن يراد بغرة الشهر أوله وأن يراد بها الأيام الغر وهي البيض كذا في قوت المغتذي "قل ما كان يفطر يوم الجمعة" قال المظهر: تأويله أنه كان يصومه منضماً إلى ما قبله أو إلى ما بعده أو أنه مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم كالوصال انتهى. قلت: وجه تأويله أنه قد ثبت النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام، وقد ذهب الجمهور إلى كراهته، وذهب أبو حنيفة ومالك إلا أنه لا كراهة فيه واستدل لهما بهذا الحديث. قال الحافظ في فتح الباري: واستدل الحنفية بحديث أبي مسعود يعني الذي ذكره الترمذي في هذا الباب وليس فيه حجة لأنه يحتمل أن يريد كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها ولا يضاد ذلك كراهة إفراده بالصوم جمعاً بين الحديثين انتهى كلام الحافظ. وقال(3/445)
وفي البابِ عن ابنِ عُمَر وأَبي هريرةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عبدِ الله حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وقد اسْتَحَبّ قَوْمٌ مِنْ أهلِ العلمِ صِيَامَ يَوْمِ الجُمُعَةِ. وإنّما يُكْرَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الجُمُعَةِ لا يَصُومُ قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ.
قَالَ ورَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ هَذَا الحَديِثَ ولَمْ يَرْفَعْهُ.
ـــــــ
العيني رحمه الله: فإن قلت: يعارض هذه الأحاديث "يعني الأحاديث التي تدل على كراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم" ما رواه الترمذي من حديث عبد الله "يعني الحديث الذي ذكره الترمذي في هذا الباب" قلت: لا نسلم هذه المعارضة لأنه لا دلالة فيه على أنه صلى الله عليه وسلم صام يوم الجمعة وحده، فنهيه صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث يدل على أن صومه يوم الجمعة لم يكن في يوم الجمعة وحده بل إنما كان بيوم قبله أو بيوم بعده وذلك لأنه لا يجوز أن يحمل فعله على مخالفة أمره إلا بنص صحيح صريح، فحينئذ يكون نسخاً أو تخصيصاً، وكل واحد منهما منتف. انتهى كلام العيني ملخصاً.
قلت: حاصل كلام العيني هذا هو ما قال الحافظ، فالعجب كل العجب من العيني أنه نقل قول الحافظ ثم اعترض عليه وقال: والعجب من هذا القائل يترك ما يدل عليه ظاهر الحديث ويدفع حجيته بالاحتمال الناشئ من غير دليل الذي لا يعتبر ولا يعمل به وهذا كله عسف ومكابرة انتهى. فاعتراض العيني هذا إن كان صحيحاً فهو واقع على نفسه فإن حاصل كلامهما واحد فتفكر.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمرو وأبي هريرة" أما حديث ابن عمر فأخرجه ابن أبي شيبة عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطر يوم جمعة قط، كذا في عمدة القاري. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الحافظ ابن عبد البر بسنده إلى أبي هريرة أنه قال: من صام الجمعة كتب له عشرة أيام من أيام الآخرة لا يشاكلهن أيام الدنيا، كذا في النيل، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة نحو رواية ابن عمر المذكور.
قوله: "حديث عبد الله حسن" وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان وابن عبد البر وابن حزم كذا في عمدة القاري(3/446)
باب ما جاء في كراهية صوم يوم الجمعة ويعده
...
41ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَحْدَه
740 ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن أبي صَالحٍ عن أبي هريرةَ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "لا يَصُومُ أحَدُكُم يَوْمَ الجُمُعَةِ إلاّ أنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أو يَصُومَ بَعْدَهُ".
قال: وفي البابِ عن علي وجابرٍ وجُنَادَةَ الأزْدِيّ وجُويْرِيَةَ وأنَسٍ وعبدِ الله ابنِ عَمْروٍ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَحْدَه
قوله: "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة" نفى معناه نهى. قال الحافظ: ذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه واختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال: أحدها: لكونه يوم عيد والعيد لا يصام. واستشكل ذلك مع الإذن بصيامه مع غيره، وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري. ثانيها: لئلا يضعف عن العبادة وهذا اختاره النووي. ثالثها: خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت. رابعها: خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذاك: خامسها: مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم. قال الحافظ بعد ذكر هذه الأقوال مع مالها وما عليها ما لفظه: واقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها، وورد فيه صريحاً حديثان أحدهما رواه الحاكم وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً: يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده، والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: من كان منكم متطوعاً من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر انتهى.
قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه ابن أبي شيبة وتقدم لفظه آنفاً "وجابر" أخرجه الشيخان "وجنادة الأزهري" أخرجه أحمد "وجويرية" أخرجه البخاري وأحمد وأبو داود "وأنس" أخرجه الطبراني من رواية صالح بن جبلة عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من صام الأربعاء والخميس والجمعة بنى الله له في(3/447)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ يَكْرَهُونَ لِلرّجُلِ أنْ يَخْتَصّ يَوْمَ الجُمُعَةِ بِصِيَامٍ لا يصُومُ قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ. وبهِ يقولُ أحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
الجنة قصراً من لؤلؤ وياقوت وزبرجد وكتب له براءة من النار" . وصالح بن جبلة ضعفه الأزدي، كذا في عمدة القاري "وعبد الله بن عمرو" أخرجه النسائي.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح وأخرجه الشيخان".
قوله: "وبه يقول أحمد وإسحاق" وبه يقول الشافعي والجمهور. وقال مالك: لا كراهة فيه ففي الموطأ قال يحيى: وسمعت مالكاً يقول: لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يقتدي به نهي عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه انتهى. وبه قال أبو حنيفة قال سراج أحمد في شرح الترمذي: قال إمامنا أبو حنيفة: يندب صوم الجمعة ولو منفرداً وتمسك بحديث أخرجه الترمذي عن ابن مسعود، وكره منفرداً الشافعي وأحمد. قال النووي: السنة مقدم على ما رآه مالك وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة ومالك معذور في أنه لم يبلغه انتهى. قلت: وقد تقدم الجواب عن حديث ابن مسعود فالحق في هذا الباب ما ذهب إليه الشافعي وأحمد والجمهور والله تعالى أعلم(3/448)
باب ما جاء في الصوم يوم السبت
...
42 ـ باب ما جاءَ في صَوْمِ يَوْمِ السّبْت
741 ـ حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ حدثنا سُفْيَانُ بنُ حبيبٍ عن ثَوْرِ بنِ يَزِيدَ عن خالِدِ بنِ مَعْدَانَ عن عبدِ الله بنِ بُسْرٍ عن أخْتِهِ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تَصُومُوا يَوْمَ السّبْتِ إلاّ فيما إفْتَرَضَ الله عَلَيْكُمْ،
ـــــــ
باب ما جاءَ في صَوْمِ يَوْمِ السّبْت
قوله: "عن عبد الله بن يسر" بضم الموحدة وسكون السين "عن أخته" وفي رواية أبي داود: عن أخته الصماء. قال القاري: بتشديد الميم اسمها بهية وتعرف بالصماء.
قوله: "لا تصوموا يوم السبت أي وحده إلا فيما افترض عليكم" بصيغة المجهول. قال الطيبي: قالوا النهي عن الإفراد كما في الجمعة والمقصود مخالفة اليهود(3/448)
فإن لَمْ يَجِدْ أحَدُكُمْ إِلا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أو عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. ومَعْنَى كَرَاهِنةِ في هذا أنْ يَخُصّ الرّجُلُ يَوْمَ السّبْتِ بِصِيامٍ، لأنّ اليَهُودَ تُعَظّمُ يَوْمَ السّبْتِ.
ـــــــ
فيهما، والنهي فيهما للتنزيه عند الجمهور، وما افترض يتناول المكتوب والمنذور وقضاء الفوائت وصوم الكفارة، وفي معناه ما وافق سنة مؤكدة كعرفة وعاشوراء أو وافق ورداً. وزاد ابن الملك: وعشرة ذي الحجة أو في خير الصيام صيام داود فإن النهي عنه شدة الاهتمام والعناية به حق كأنه يراه واجباً كما تفعله اليهود. قال القاري: فعلى هذا يكون النهي للتحريم، وأما على غير هذا الوجه فهو للتنزيه بمجرد المشابهة "إلا لحاء عنبة" قال التوربشتي اللحاء ممدود وهو قشر الشجر، والعنبة هي الحبة من العنب انتهى "أو عود شجرة" عطف على الحاء عنبة "فليمضغه" قال في القاموس: مضغة كمنعه ونصره لاكه بأسنانه، وهذا تأكيد بالإفطار لنفي الصوم وإلا فشرط الصوم النية فإذا لم توجد لم يوجد ولو لم يأكل.
قوله: "هذا حديث حسن" وصححه الحاكم على شرط البخاري وقال النووي: صححه الأئمة، كذا في المرقاة. وقال أبو داود في السنن: هذا الحديث منسوخ انتهى. وقال فيه أيضاً: قال مالك: هذا كذب انتهى. وقال المنذري: وروى هذا الحديث من حديث عبد الله بن بسر ومن حديث أبيه بسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حديث الصماء عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النسائي: هذه أحاديث مضطربة انتهى كلام المنذري. وقال الحافظ في التلخيص: قال الحاكم: وله معارض بإسناد صحيح، ثم روى عن كريب أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوه إلى أم سلمة أسألها عن الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لها صياماً فقالت يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فقاموا بأجمعهم إليها فسألوها فقالت صدق، وكان يقول إنهما يوم عيد للمشركين فأنا أريد أن أخالفهم، ورواه النسائي والبيهقي وابن حبان. وروى الترمذي من حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين الخ انتهى.(3/449)
ـــــــ
قلت: قد جمع بين هذه الأحاديث بأن النهي متوجه إلى الإفراد والصوم باعتبار انضمام ما قبله أو ما بعده، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قد أذن لمن صام الجمعة أن يصوم يوم السبت بعدها، والجمع مهما أمكن أولى من النسخ. وأما علة الاضطراب فيمكن أن تدفع بما ذكره الحافظ في التلخيص. وأما قوله مالك إن هذا الحديث كذب فلم يتبين لي وجه كذبه والله تعالى أعلم(3/450)
باب ما حاء في صوم يوم الإثنين والخميس
...
43ـ باب ما جَاءَ في صَوْمِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ والخَميِس
742 ـ حدثنا أبو حَفْصٍ عَمْروُ بنُ علي الفَلاّسُ حدثنا عبدُ الله بنُ دَاوُدَ عن ثَوْرِ بنِ يَزِيدَ عن خَالِدِ بنِ مَعْدَانَ عن رَبِيعَةَ الجُرَشِيّ عن عائِشَةَ قالت "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرّى صَوْمَ الاثْنَيْنِ والخَمِيسِ".
قال: وفي البابِ عن حَفْصَةَ وأَبي قَتَادَةَ وأبي هريرة وأُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ عائِشَةَ حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِنْ هذا الوجْهِ.
743 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبو أحمدَ و مُعَاوِيَةُ بنُ هِشَامٍ قالا حدثنا سُفْيَانُ عن منصورٍ عن خَيْثَمَةَ عن عائِشَةَ قالت "كان رسولُ الله
ـــــــ
باب ما جَاءَ في صَوْمِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ والخَميِس
قوله: "عن ربيعة الجرشي" بضم الجيم وفتح الراء بعدها معجمة مختلف في صحبته وثقه الدارقطني وغيره كذا في التقريب.
قوله: "يتحرى صوم الاثنين والخميس" أي يقصده ويطلبه. والتحري طلب الأحرى والأولى، وقيل التحري طلب الثواب والمبالغة في طلب شيء.
قوله: "وفي الباب عن حفصة وأبي قتادة وأسامة بن زيد" أما حديث حفصة فأخرجه أبو داود، وأما حديث أبي قتادة فأخرجه مسلم، وأما حديث أسامة فأخرجه أبو داود والنسائي، كذا في التلخيص.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن غريب من هذا الوجه" وأعله ابن القطان بالراوي عنها وأنه مجهول، وأخطأ في ذلك فهو صحابي، كذا في التلخيص.(3/450)
صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنَ الشّهْرِ السّبْتَ والأحَدَ والاْثَنْينِ، ومِنَ الشّهْرِ الآخر الثلاثَاء والأرْبِعَاءَ والخَمِيسَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. وَرَوَى عبدُ الرحمَنِ بنُ مَهْدِي هذا الحديِثَ عن سُفْيَانَ ولَمْ يَرْفَعْهُ.
744 ـ حدثنا محمدُ بنُ يَحْيَى حدثنا أبو عاصِمٍ عن محمدِ بنِ رِفَاعَةَ عن سُهيْلِ بنِ أبي صالحٍ عن أبيهِ عن أبي هريرةَ أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "تُعْرَضُ الأعمالُ يَوْمَ الاْثَنيْنِ والخَميِسِ فأُحِبّ أنْ يُعْرَضَ عَمَلي وأنا صَائِمٌ".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ في هذا البابِ حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
.
ـــــــ
قوله: "يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين" مراعاة للعدالة بين الأيام فإنها أيام الله تعالى، ولا ينبغي هجران بعضها لانتفاعنا بكلها. قال الطيبي: وقد ذكر الجمعة في الحديث السابق فكان يستوفي أيام الأسبوع بالصيام قال ابن ملك: وإنما لم يصم صلى الله عليه وسلم الستة متوالية كيلا يشق على الأمة الاقتداء به رحمة لهم وشفقة عليهم، كذا في المرقاة.
قوله: "وروى عبد الرحمَن بن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه" قال الحافظ في فتح الباري: وهو أشبه.
قوله: "تعرض الأعمال" أي على الله تعالى "فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" أي طلب الزيادة رفعة الدرجة. قال ابن الملك: وهذا لا ينافي قوله عليه السلام: "يرفع عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، للفرق بين الرفع والعرض، لأن الأعمال تجمع في الأسبوع وتعرض في هذين اليومين". وفي حديث مسلم: تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا. قال ابن حجر: ولا ينافي هذا رفعها في شعبان فقال إنه شهر ترفع فيه الأعمال وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم، لجواز رفع أعمال الأسبوع مفصلة وأعمال العام مجملة. كذا في المرقاة.(3/451)
ـــــــ
قلت: حديث رفع الأعمال في شعبان أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث أسامة قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان قال ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم، ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى كذا في النيل(3/452)
باب ما جاء في الصوم الأربعاء والخميس
...
44ـ باب ما جَاءَ في صَوْمِ يوم الأربعَاءِ والخَميِس
745 ـ حدثنا الحُسَيْنُ بنُ محمدٍ الجُزيْرِيّ و محمدُ بنُ مَدّوَيْهِ قالا حدثنا عُبَيْدُ الله بنُ موسى أخبرنا هارونُ بنُ سَلْمَانَ عن عُبَيْد الله المسلمِ القُرَشِيّ عن أبيهِ قال: "سَأَلْتُ "أو سُئلَ" رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صِيَامِ الدّهْرِ فقال: إنّ لأهْلِكَ عَلَيْكَ حَقَاً، صُمْ رَمَضَانَ والذي يَلِيهِ وكُلّ أَرْبعَاءَ وخَمِيسٍ، فإِذا أنْتَ قَدْ صُمْتَ الدّهْرَ وأَفْطَرْتَ".
وفي البابِ عن عائِشَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ مُسْلِمٍ القُرَشِيّ حديثٌ غريبٌ. ورَوَى بَعْضُهم عن هارونَ بنِ سَلْمَانَ عن مُسْلِمِ بنِ عُبَيْدِ الله عن أبيهِ.
ـــــــ
باب ما جاء في صوم الأربعاء والخميس
قوله: "محمد بن مدويه" بفتح الميم وشدة الدال هو محمد بن أحمد بن الحسين بن مدويه القرشي أبو عبد الرحمَن الترمذي صدوق من الحادية عشر.
قوله: "صم رمضان والذي يليه" قيل أراد الست من شوال، وقيل أراد به شعبان "وكل أربعاء" بالمد وعدم الانصراف "وخميس" بالجر والتنوين "فإذاً" بالتنوين والفاء جزاء شرط محذوف أي إن فعلت ما قلت لك فقد صمت، وإذا جواب جيء لتأكيد الربط.
قوله: "حديث مسلم القرشي حديث غريب" الحديث أخرجه أبو داود أيضاً وسكت عنه "وروى بعضهم عن هارون بن سلمان عن مسلم بن عبيد الله عن أبيه" قال المنذري في تلخيص السنن بعد نقل الكلام الترمذي هذا: وقد أخرج النسائي الروايتين، الرواية الأولى والثانية التي أشار إليها الترمذي انتهى(3/452)
باب ما جاء في فضل الصوم يوم عرفة
...
45ـ باب ما جَاءَ في فَضْل صّوْمِ عَرَفَة
746 ـ حدثنا قُتَيْبةُ و أحمدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ قالا أخبرنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن غَيْلاَنَ بنِ جَرِيرٍ عن عبدِ الله بنِ مَعْبَدٍ الزّمّانِيّ عن أبي قَتَادَةَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إنّي أحْتَسِبُ على الله أنْ يُكَفّرَ السّنَةَ التي بعده والسّنَةَ و التي قبله ".
قال: وفي البابِ عن أَبي سَعِيدٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي قَتَادَةَ حديثٌ حسنٌ. وقد اسْتَحَبّ أهلُ العلمِ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلاّ بِعَرَفَةَ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في فَضْل صّوْمِ عَرَفَة
قوله: "عن عبد الله بن معبد الزماني" بكسر الزاي وتشديد الميم وبنون بصري ثقة من الثالثة كذا في التقريب.
قوله: "إني أحتسب على الله" أي أرجو منه. قال الطيبي: كأن الأصل أن يقال أرجو من الله أن يكفر فوضع موضعه أحتسب وعداه بعلي الذي للوجوب على سبيل الوعد مبالغة لحصول الثواب انتهى "أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله" قال النووي: قالوا المراد بالذنوب الصغائر، وإن لم تكن الصغائر يرجى تخفيف الكبائر، فإن لم تكن رفعت الدرجات. وقال القاري في المرقاة: قال إمام الحرمين: المكفر الصغائر. وقال القاضي عياض. وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة. أو رحمة الله انتهى. فإن قيل: كيف يكون أن يكفر السنة التي بعده مع أنه ليس للرجل ذنب في تلك السنة. قيل: معناه أن يحفظه الله تعالى من الذنوب فيها، وقيل أن يعطيه من الرحمة الثواب قدراً يكون ككفارة السنة الماضية والسنة القابلة إذا جاءت واتفقت له ذنوب انتهى.
قوله: "حديث أبي قتادة حديث حسن" وأخرجه مسلم مطولاً.(3/453)
46ـ باب ما جاء في كَرَاهِيَةِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَة
747 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا إسماعيلُ بنُ عُلَيّةَ حدثنا أيوبُ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عبّاسٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أفْطَرَ بِعَرَفَةَ وأَرْسَلَتْ إليهِ أَمّ الفَضْلِ بَلبَنٍ فَشَرِبَ".
وفي البابِ عن أبي هريرةَ وابنِ عُمَرَ وأُمّ الفَضْلِ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عبّاسِ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ عن ابنِ عُمَر قال : "حَجَجْتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَصُمْهُ "يَعْنِي يَوْمَ عَرَفَةَ"، ومَعَ أبي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ، ومَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ ومع عثمان فلم يصمه".
والعملُ على هذا عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ يَسْتَحِبّونَ الإفطَارَ بِعَرَفَةَ لِيَتَقَوّى بهِ الرّجُلُ على الدّعَاءِ. وقد صَامَ بَعْضُ أهلِ العلمِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ.
ـــــــ
باب ما جاء في كَرَاهِيَةِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَة
قوله: "أخبرنا اسماعيل بن علية" بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد التحتية.
قوله: "وأرسلت إليه أم الفضل" أي بنت الحارث وهي امرأة العباس.
قوله: "وفي الباب أبي هريرة" أخرجه أحمد وابن ماجه بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم عرفة بعرفات، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي وفيه مهدي الهجري وهو مجهول، ورواه العقيلي في الضعفاء من طريقه وقال لا يتابع عليه. قال العقيلي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد أنه لم يصم يوم عرفة بها ولا يصح النهي عن صيامه. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر كلامه هذا. قد صححه ابن خزيمة ووثق مهدياً المذكور ابن حبان "وابن عمر" أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان "وأم الفضل" أخرجه الشيخان.
قوله، "وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة" قال الحافظ في الفتح. وعن ابن الزبير وأسامة ابن زيد وعائشة أنهم كانوا يصومونه أي يصومون يوم(3/454)
748 ـ حدثنا أحمدُ بنُ منِيعٍ و عليّ بنُ حُجْرٍ قالا حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ و إسماعيلُ بنُ إبراهيم عن ابنِ أبي نَجِيحٍ عن أبيهِ قال: سُئِلَ ابنُ عُمَر عنج صَوْمِ يوم عَرَفَةَ بعرفة قال: "حَجَجْتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَصُمْهُ، ومَعَ أَبي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ، ومَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ، ومَعَ عُثْمانَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وأنا لا أَصُومُه ولا آمُرُ بهِ ولا أنهَى عنهُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن ابنِ نَجِيحٍ عن أَبيهِ عن رَجُلٍ عن ابنِ عُمَرَ
ـــــــ
عرفة بعرفة، وكان ذلك يعجب الحسن ويحكيه عن عثمان، وعن قتادة مذهب آخر قال لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، ونقله البيهقي في المعرفة عن الشافعي في القديم، واختاره الخطابي والمتولي من الشافعية، وقال الجمهور. يستحب فطره حتى قال عطاء من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم. وقال الطبري: إنما أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ليدل على الاختيار للحاج بمكة لكي لا يضعف عن الدعاء والذكر المطلوب يوم عرفة. وقيل إنما كره صوم يوم عرفة لأنه يوم عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه، ويؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعاً. يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام انتهى كلام الحافظ.
قلت: ما ذهب إليه الجمهور من أنه يستحب الفطر يوم عرفة بعرفة هو الظاهر، ويدل عليه حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن صوم عرفة بعرفة : وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة والحاكم على ما قاله الحافظ في الفتح وأخذ بظاهره بعض السلف. فجاء عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: يجب فطر يوم عرفة للحاج والله تعالى أعلم.
قلت: "وأبو نجيح اسمه يسار" المكي مولى ثقيف مشهور بكنيته ثقة من الثالثة وهو والد عبد الله بن أبي نجيح مات سنة تسع ومائة كذا في التقريب.
قوله: "وقد روي هذا الحديث أيضاً عن ابن أبي نجيح عن رجل عن ابن عمر"(3/455)
ـــــــ
فالظاهر أن أبا نجيح سمع أولاً هذا الحديث بواسطة رجل ثم لقي ابن عمر فسمعه منه بلا واسطة(3/456)
باب ما جاء في الحث على الصوم يوم عاشوراء
...
47ـ باب ما جَاءَ في الحَثّ على صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاء
749 ـ حدثنا قُتَيْبةُ و أَحمدُ بنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ قالا: حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن غَيْلاَنَ بنِ جَرِيرٍ عن عبدِ الله بنِ مَعْبَدٍ عن أبي قَتَادَةَ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "صِيَامُ يَوْمِ عَاشوراءَ إنّي أحْتَسِبُ على الله أنْ يُكَفّرِ السّنَةَ التي قَبْلَهُ".
وفي البابِ عن علي ومحمدِ بنِ صَيْفِيّ وسَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ وهندِ بنِ أسْمَاءَ وابنِ عَبّاسٍ والرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذِ بنِ عَفْرَاءَ وعبدِ الرحمَنِ بنِ سَلَمَةَ الخزاعيّ عن عَمّهِ
ـــــــ
"باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء"
بالمد على المشهور وحكي فيه القصر. قال الطيبي: وهو اليوم العاشر من المحرم، وسيجيء الكلام في تعيينه.
قوله: "إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" فإن قيل: ما وجه أن صوم عاشوراء يكفر السنة التي قبله، وصوم يوم عرفة يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده؟ قيل: وجهه أن صوم يوم عرفة من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وصوم يوم عاشوراء من شريعة موسى عليه الصلاة والسلام. وقال الحافظ في الفتح: روى مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعاً. إن صوم عاشوراء يكفر سنة وإن صيام عرفة يكفر سنتين. وظاهر أن صيام عرفة أفضل من صيام عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك أن يوم عاشوراء منسوبة إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك كان أفضل انتهى والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن علي أخرجه الدارمي والترمذي وأحمد والبيهقي والنسائي "ومحمد بن صيفي" أخرجه ابن ماجه و "سلمة بن الأكوع" أخرجه الشيخان "وهند بن أسماء" أخرجه الطحاوي "وابن عباس" أخرجه الشيخان "والربيع بنت معوذ" أخرجه مسلم "عبد الرحمَن بن سلمة الخزاعي عن عمه" أخرجه الطحاوي(3/456)
عبدِ الله بنِ الزّبَيْرِ، ذَكَرُوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّهُ حَثّ على صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
قال أبو عيسى: لا نَعْلَمُ في شيءٍ مِنَ الرّوَايَاتِ أَنهُ قال : صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفّارَةُ سَنَةٍ. إلاّ في حديثِ أبي قَتَادَةَ، وبحديثِ أبي قَتَادَةَ يقولُ أحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
"وعبد الله بن الزبير" أخرجه أحمد والبزار والطبراني "ذكروا" أن هؤلاء الصحابة المذكورون رضي الله عنهم(3/457)
48 ـ باب ما جَاءَ في الرخْصَةِ في تَرْكِ صَوْمِ يومِ عَاشُورَاء
750 ـ حدثنا هارونُ بنُ إسحاقَ الهَمْدَانِيّ حدثنا عَبْدَةُ بنُ سُلَيْمانَ عنِ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عائِشَةَ قالت: "كانَ عَاشُورَاءُ يوماً تَصُومُهُ قُرَيْشٌ في الجاهليةِ، وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصُومُهُ فَلمّا قَدِمَ المدِينةَ صَامَهُ وأَمَرَ الناسَ بِصِيَامِهِ، فلما افْتُرِضَ رَمَضَانُ كانَ رَمَضَانُ هُوَ الفَرِيضَةَ وتُرِكَ عَاشورَاء، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الرخْصَةِ في تَرْكِ صَوْمِ يومِ عَاشُورَاء
قوله: "وكان عاشوراء يوم تصومه قريش" هكذا في غالب النسخ والظاهر يوماً بالنصب واعتباره منصوباً مضافاً إلى الجملة بعده كما في "يوم ينفع الصادقين يبعده إشتمال تصومه على ضمير عائد إليه فإن اشتمال الجملة" المضاف إليها على ضمير المضاف غير متعارف في العربية بل قد منعه بعضهم، فالظاهر أن الجملة التي بعده صفة له واعتبار اليوم اسم كان على أن عاشوراء خبر كان بعيد من حيث المعنى ومن حيث علم الإعراب، لأن عاشوراء معرفة ويوم نكرة، فالوجه أن يقال إن كان فيه ضمير الشأن وعاشوراء مبتدأ خبره يوماً كذا في شرح الترمذي لأبي الطيب "فلما افترض رمضان كان رمضان هو الفريضة" ظاهر هذا الحديث أن صوم عاشوراء كان فرضاً ثم نسخ وجوبه بوجوب صوم رمضان. قال الحافظ في الفتح: يؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجباً لثبوت الأمر بصومه، ثم(3/457)
وفي البابِ عن ابنِ مَسْعُودٍ وقَيْسِ بنِ سَعْدٍ وجَابِرِ بنِ سَمُرَةَ وابنِ عُمَرَ ومُعَاوِيَةَ.
قال أبو عيسى: والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ، على حديثِ عائِشَةَ وهو حديثٌ صحيحٌ. لايَرَوْنَ صِيَامَ يوم عَاشُورَاءَ واجِباً إلا مَنْ رَغِبَ في صِيَامِهِ لِمَا ذُكِرَ فيهِ مِنَ الفَضْلِ.
ـــــــ
تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم: لما فرض رمضان ترك عاشوراء، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باق، فدل على أن المتروك وجوبه. وأما قول بعضهم المتروك تأكد استحبابه والباقي مطلق استحبابه، فلا يخفي ضعفه، بل تأكد استحبابه باق ولاسيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول: لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر، ولترغيبه في صومه، وأنه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وقيس بن سعد وجابر بن سمرة وابن عمر ومعاوية" أما حديث ابن مسعود فمتفق عليه، وأما حديث قيس بن سعد فأخرجه ابن أبي شيبة، وأما حديث جابر بن سمرة فأخرجه مسلم، وأما حديث ابن عمر ومعاوية وهو ابن أبي سفيان فمتفق عليهما.
قوله: "وهو حديث صحيح" وأخرجه البخاري والنسائي(3/458)
باب ما جاء في عاشوراء أى يوم هو
...
49 ـ باب ما جَاءَ عاشُورَاءَ أَيّ يَوْمٍ هُو
751 ـ حدثنا هَنّادٌ و أبو كُرَيْبٍ. قالا: أخبرنا وَكيعٌ عن حَاجِبِ بنِ عُمَر عن الحَكَمِ بنِ الأعْرَجِ قال: "انْتَهَيْتُ إلى ابنِ عَبّاسٍ وهُوَ مُتَوَسّدٌ رِدَاءَهُ في زَمْزَم فَقلت: أَخْبِرْنِي عن يَوْمِ عاشُورَاءَ أَيّ يَوْمٍ هو أَصُومُهُ؟ فقالَ: إذا رَأَيْتَ هِلاَلَ المُحَرّمِ فاعْدُدْ ثم أصْبِحْ مِنْ التاسعِ صَائِماً،
ـــــــ
باب ما جَاءَ عاشُورَاءَ أَيّ يَوْمٍ هُو
قوله: "وهو متوسد رداءه في زمزم" وفي رواية لمسلم: عند زمزم "ثم أصبح(3/458)
50 ـ باب ما جَاءَ في صِيَامِ العَشْر
753 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن إبراهيم عن الأسْودِ عن عائِشَةَ قالَتْ: "ما رَأَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم صَائِماً فيِ العَشْرِ قَطّ".
ـــــــ
"باب ما جاء في صيام العشر"
أي عشر ذي الحجة
قوله: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط" وفي رواية(3/461)
قال أبو عيسى: هَكَذَا رَوَى غَيْرُ واحِدٍ عن الأعْمَشِ عن إبراهيم عن الأسْوَدِ عن عائِشَةَ. وَرَوى الثورِيّ وغَيْرُهُ هذا الحَدِيثَ عن مَنْصُورٍ عن إبراهيم "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرَ صَائِماً في العَشْرِ".
وَرَوَى أَبو الأحْوَصِ عنَ منصُورٍ عن إبراهيم عنْ عَائِشَةَ ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ "عنِ الأسْوَدِ". وقد اخْتَلَفُوا على مَنْصُورٍ في هذا الحَدِيثِ، ورِوَايَةُ الأعْمَشِ أَصَحّ وَأَوْصَلُ إسْنَاداً. قالَ: وسَمِعْتُ محمدَ بنَ أَبَانٍ يقولُ: سَمِعْتُ وَكِيعاً يقولُ: الأعْمَشُ أَحْفَظُ لإسنَادِ إبراهيم مِنْ مَنْصُورِ.
ـــــــ
مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر. قال النووي: قال العلماء: هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر ههنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة قالوا: وهذا مما يتأول فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً لاسيما التاسع منها وهو يوم عرفة. وثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه". يعني العشر الأوائل من ذي الحجة، فيتأول قولها لم يصم العشر أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما أو أنها لم تره صائماً فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر. ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر والخميس، رواه أبو داود وهذا لفظه وأحمد والنسائي وفي روايتهما: وخميسين انتهى. وقال الحافظ في الفتح في شرح حديث البخاري الذي ذكره النووي ما لفظه: واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل، قال: ولا يرد على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته. كما رواه الصحيحان من حديث عائشة أيضاً انتهى.
قوله: "ورواية الأعمش أصح وأوصل إسناداً" والحديث أخرجه مسلم من طريق الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة وأخرجه أبو داود أيضاً من هذه الطريق(3/462)
51ـ باب ما جَاءَ في العَمَلِ في أَيّامِ العَشْر
754 ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعْمَشِ عن مُسْلِمٍ "هو البَطِينُ، وهو ابنُ أبي عِمْرَانَ عن سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عبّاس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أيّامٍ العَمَلُ الصّالِحُ فِيهِنّ أحَبّ إلى الله مِنْ هَذهِ الأيّامِ العَشْرِ"، فقالُوا يا رسولُ الله: ولا الجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ولا الجِهَادُ في سَبِيل الله، إلاّ رَجُلٌ خَرجَ بِنَفْسِهِ ومَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ من ذَلِكَ بِشَيْءٍ".
ـــــــ
"باب ما جاء في العمل في أيام العشر"
أي عشر ذي الحجة
قوله: "وهو ابن أبي عمران البطين" بفتح الموحدة هو لقب مسلم بن أبي عمران لقب بذلك لعظم بطنه ذكره الحافظ.
قوله: "ما من أيام" من زائدة "العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر" أي العشر الأول من ذي الحجة. وفي حديث جابر في صحيحي أبي عوانة وابن حبان: ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة، كذا في الفتح. قال الطيبي: العمل مبتدأ وفيهن متعلق به والخبر أحب والجملة خبر ما أي واسمها أيام ومن الأولى زائدة والثانية متعلقة بأفعل وفيه حذف، كأنه قيل ليس العمل في أيام سوى العشر أحب إلى الله من العمل في هذه العشر. قال ابن الملك: لأنها أيام زيارة بيت الله والوقت إذا كان أفضل كان العمل الصالح فيه أفضل وذكر السيد اختلف العلماء في هذه العشر، والعشر الأخير من رمضان فقال بعضهم: هذه العشر أفضل لهذا الحديث، وقال بعضهم: عشر رمضان أفضل للصوم والقدر، والمختار أن أيام هذه العشر أفضل ليوم عرفة وليالي عشر رمضان أفضل لليلة القدر، لأن يوم عرفة أفضل أيام السقة، وليلة القدر أفضل ليالي السنة، ولذا قال ما من أيام ولم يقل من ليال كذا في الأزهار وكذا في المرقاة "ولا الجهاد في سبيل الله " أي أفضل من ذلك "إلا رجل" أي إلا جهاد رجل "لم يرجع من ذلك" أي مما ذكر من نفسه وماله "بشيء" أي(3/463)
وفي البابِ عَنْ ابنِ عُمَرَ وأبي هُرَيْرَةَ وعبدِ الله بنِ عَمْروٍ وجَابِرٍ.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ ابنِ عَبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
755 ـ حدثنا أبو بَكْرِ بنِ نافعِ البصرِيّ حدثنا مَسْعُودُ بنُ واصِلٍ عن نَهّاسِ بنِ قَهْمٍ عن قَتَادَةَ عن سعيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَا مِنْ أيّامٍ أحَبّ إلى الله أنْ يتَعَبّدَ لَهُ فيها مِنْ عَشْرِ ذِي الحجّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلّ يَوْمٍ مِنْهَا بصِيَامُ سَنَةٍ وقِيَامُ كُلّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ القَدْرِ".
ـــــــ
صرف ماله ونفسه في سبيل الله فيكون أفضل من العامل في أيام العشر أو مساوياً له.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه أبو عوانة في صحيحه "وأبي هريرة" أخرجه الترمذي وابن ماجه "وعبد الله بن عمرو" لم أقف على من أخرجه "وجابر" أخرجه أبو عوانة وابن حبان في صحيحهما.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن غريب صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه.
قوله: "حدثنا أبو بكر بن نافع البصري" اسمه محمد بن أحمد بن نافع العبدي مشهور بكنيته صدوق من صغار العاشرة "أخبرنا مسعود بن واصل" الأرزق البصري صاحب السابري لين الحديث من التاسعة "عن نهاس" بتشديد الهاء ثم مهملة "بن قهم" بفتح القاف وسكون الهاء البصري ضعيف من السادسة.
قوله: "ما" بمعنى ليس "من أيام" من زائدة وأيام اسمها "أحب إلى الله" بالنصب على أنه خبرها وبالفتح صفتها وخبرها ثابتة وقيل بالرفع على أنه صفة أيام على المحل والفتح على أنها صفتها على اللفظ. وقوله: "أن يتعبد" في محل رفع بتأويل المصدر على أنه فاعل أحب، وقيل التقدير لأن يتعبد أي يفعل العبادة "له" أي لله "فيها" أي في الأيام "من عشر ذي الحجة " قال الطيبي: قيل لو قيل أن يتعبد مبتدأ وأحب خبره ومن متعلق بأحب يلزم الفصل بين أحب ومعموله بأجنبي فالوجه أن يقرأ أحب بالفتح ليكون صفة أيام وأن يتعبد فاعله ومن متعلق بأحب والفصل ليس بأجنبي والفصل ليس بأجنبي وهو كقوله ما رأيت رجلاً أحسن(3/464)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ لا نَعْرِفُهُ إلا مِنْ حديثِ مَسْعُودِ بنِ واصِلٍ عن النّهّاسِ. قال: وسَأَلْتُ محمداً عن هذا الحَديثِ فَلْم يَعْرِفْهُ مِنْ غَيْرِ هذا الوجْهِ مِثْلَ هذا. وقَالَ: قَد رُوِيَ عن قَتَادَةَ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً شيءٌ مِنْ هذا
ـــــــ
في عينه الكحل من عين زيد، وخبر ما محذوف، أقول: لو جعل أحب خبر ما وأن يتعبد متعلقاً بأحب بحذف الجار أي ما من أيام أحب إلى الله لأن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة لكان أقرب لفظاً ومعنى، أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فلأن سوق الكلام لتعظيم الأيام والعبادة تابعة لها لا عكسه، وعلى ما ذهب إليه القائل يلزم العكس مع ارتكاب ذلك التعسف "يعدل" بالمعلوم وقيل بالمجهول أي يسوي "صيام كل يوم منها" أي ما عدا العاشر. وقال ابن الملك: أي من أول ذي الحجة إلى يوم عرفة "صيام سنة" أي لم يكن فيها عشر ذي الحجة، كذا قيل، والمراد صيام التطوع فلا يحتاج إلى أن يقال: لم يكن فيها أيام رمضان.
قوله: "هذا حديث غريب الخ" وأخرجه ابن ماجه، وهذا حديث ضعيف لأن في سنده مسعود بن واصل وهو لين الحديث، وفيه نحاس بن قهم وهو ضعيف كما عرفت(3/465)
52 ـ باب ما جَاءَ في صِيامِ سِتّةِ أيّامٍ مِنْ شَوّال
756 ـ حدثنا أَحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ حدثنا سَعِدُ بنُ سَعِيدٍ عن عُمَرَ بنِ ثابتٍ عن أبي أيّوبَ قالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثم أتْبَعَهُ سِتّا مِنْ شَوّالٍ فَذَلِكَ صِيَامُ الدّهْرِ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في صِيامِ سِتّةِ أيّامٍ مِنْ شَوّال
قوله: "من صام رمضان ثم أتبعه" بهمزة قطع أي جعل عقبه في الصيام "بست من شوال" وفي رواية مسلم ستاً من شوال قال النووي: هذا صحيح: ولو كان ستة بالهاء جاز أيضاً، قال أهل اللغة: يقال صمنا خمساً وستاً وخمسة وستة، وإنما يلتزمون إثبات الهاء في المذكر إذا ذكروه بلفظه صريحاً فيقولون: صمنا ستة(3/465)
وفي البابِ عن جَابرٍ وأبي هُرَيْرَةَ وثَوْبانَ.
قال أبو عيسى: حَديثُ أبي أيّوبَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وقدِ اسْتَحَبّ قَوْمٌ صِيَامَ سِتّةِ أيامٍ مِنْ شَوّالٍ بهذا الحَديِثِ.
قال ابنُ المُبَارَك هُوَ حَسنٌ هو مِثْلُ صِيَامِ ثلاثةِ أيامٍ منْ كلّ شَهْرٍ. قال ابنُ المُبَارَكِ: ويُرْوَى في بعضِ الحديثِ: وَيُلْحَقُ هذا الصّيَامُ برَمَضَانَ واختارَ ابن المُبارَكِ أنْ تكُونَ سِتّةَ أيامٍ في أوّلِ الشّهْرِ وقد رُوِيَ عن ابنِ المبَارَكِ أنه قالَ: إنْ صامَ سِتّةَ أيامٍ مِنْ شَوّالٍ مُتَفَرّقاً فَهُوَ جَائِزٌ.
ـــــــ
أيام ولا يجوز ست أيام، فإذا حذفوا الأيام جاز الوجهان. ومما جاء حذف الهاء فيه من المذكر إذا لم يذكر بلفظه قوله تعالى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} أي عشرة أيام انتهى. "فذلك صيام الدهر" لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين. قال النووي. وقد جاء هذا في حديث مرفوع في كتاب النسائي.
قوله: "وفي الباب عن جابر وأبي هريرة وثوبان" وفي الباب أيضاً عن البراء بن عازب وابن عباس وعائشة. قال ميرك في تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أما حديث جابر فرواه الطبراني وأحمد والبزار والبيهقي، وأما حديث أبي هريرة فرواه البزار والطبراني وإسنادهما حسن. وقال المنذري أحد طرقه عند البزار صحيح، وأما حديث ثوبان فرواه ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان ولفظه عند ابن ماجه: من صام ستة أيام بعد الفطر كان كصيام السنة "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" وأما لفظ البقية فقريب منه، وأما حديث ابن عباس فرواه الطبراني وأحمد والبزار والبيهقي، وأما حديث عائشة فرواه الطبراني أيضاً، كذا في المرقاة. قلت: وأما حديث البراء بن عازب فرواه الدارقطني.
قوله: "حديث أبي أيوب حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه.
قوله: "وقد استحب قوم صيام ستة من شوال لهذا الحديث" وهذا هو(3/466)
قال أبو عيسى : وقد رَوَى عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ عن صَفْوانَ بنِ سُلَيم وسَعْدِ بنِ سعيدٍ عن عُمَرَ بنِ ثابتٍ عَنْ أبي أيّوبَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا. وَرَوَى شُعْبَةُ عن ورْقاءَ بنِ عُمَرَ عن سَعْدِ بنِ سَعِيدٍ هذا الحديثَ. وسَعْدُ بنُ سَعيدٍ هو أخوُ يَحْيى بنِ سَعيدٍ الأنْصَاريّ. وقد تَكَلّمَ بَعضُ أهلِ الحديثِ في سَعْدِ بنِ سعيدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
ـــــــ
الحق. قال النووي: فيه دلالة صريحة لمذهب الشافعي وأحمد وداود وموافقيهم في استحباب صوم هذه الستة. وقال مالك وأبو حنيفة: يكره ذلك قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها، قالوا فيكره لئلا يظن وجوبه ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح وإذا ثبت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها، وقولهم: قد يظن وجوبها ينتقض بصوم يوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب انتهى كلام النووي.
قلت: قول من قال بكراهة صوم هذه الستة باطل مخالف لأحاديث الباب، ولذلك قال عامة المشايخ الحنفية بأنه لا بأس به. قال ابن الهمام: صوم ست من شوال عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته، وعامة المشايخ لم يروا به بأساً انتهى.
قوله: "ويروى" بصيغة المجهول ونائب فاعله هو قوله: ويلحق هذا الصيام برمضان، كذا في بعض الحواشي. قلت: لم أقف أنا على الحديث الذي روى فيه هذا اللفظ، نعم قد وقع في حديث ثوبان: من صام ستة أيام بعد الفطر كان كصيام السنة، والظاهر المتبادر من البعدية هي البعدية القريبة "واختار ابن المبارك أن يكون ستة أيام من أول الشهر" أي من أول شهر شوال متوالية "وروي عن ابن المبارك أنه قال: إن صام ستة أيام متفرقاً فهو جائز" قال النووي: قال أصحابنا: والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر فإن فرقها أو أخرها عن أوائل الشهر إلى أواخره حصلت فضيلة المتابعة لأنه يصدق أنه اتبعه ستاً من شوال انتهى.
قلت: الظاهر هو ما نقل النووي عن أصحابه، فإن الظاهر المتبادر من لفظ بعد الفطر المذكور في حديث ثوبان المذكور هي البعدية القريبة والله تعالى أعلم.
قوله: "وقد تكلم بعض أهل الحديث في سعد بن سعيد من قبل حفظه"(3/467)
ـــــــ
قال الحافظ في التقريب: سعد بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري أخو يحيى صدوق سيء الحفظ من الرابعة انتهى.
فإن قلت: كيف صحح الترمذي حديث سعد بن سعيد المذكور مع تصريحه فإنه قد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه.
قلت: الظاهر أن تصحيحه لتعدد الطرق، وقد تقدم في المقدمة أنه قد يصحح الحديث لتعدد طرقه على أنه لم يتفرد به سعد بن سعيد بل تابعه صفوان بن سليم كما تقدم(3/468)
باب ما جاء في صوم ثلاثة من كل شهر
...
53ـ باب ما جاء في صَوْمِ ثَلاثَة أيام مِنْ كلّ شَهْر
757 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا أبو عَوَانَةَ عن سِماكِ بنِ حَرْبٍ عن أَبي الرّبيعِ عن أبي هُريرة قال: عَهِدَ إليّ النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثةً: "أَنْ لا أنامَ إلاّ على وِتْرٍ، وصَوْمَ ثلاثةِ أيامٍ مِنْ كلّ شَهْرٍ وأنْ أُصَلّىَ الضّحَى".
ـــــــ
باب ما جاء في صَوْمِ ثَلاثَة أيام مِنْ كلّ شَهْر
قوله: "عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي أوصي، وفي رواية الشيخين: أوصاني خليلي "ثلاثة" أي ثلاثة خصال "أن لا أنام إلا على وتر" قال الحافظ: فيه استحباب تقدم الوتر على النوم وذلك في حق من لم يثق بالاستيقاظ، ويتناول من يصلي بين النومين، وهذه الوصية لأبي هريرة ورد مثلها لأبي الدرداء فيما رواه مسلم ولأبي ذر فيما رواه النسائي انتهى كلام الحافظ. قال الشيخ عبد الحق في اللمعات: لعله اكتفى لأبي هريرة بأول الليل لأنه كان يحفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستحضر ملفوظاته وكان يمضي جزء كثير من الليل فيه، وذلك أفضل لأن الاشتغال بالعلم أفضل من العبادة وهو السبب في الوصية له بأن يوتر قبل أن ينام. انتهى كلام الشيخ، قلت: ويمكن أن يكون لسبب آخر كما هو في الوصية لأبي الدرداء ولأبي ذر رضي الله عنهما والله تعالى أعلم "وصوم ثلاثة أيام من كل شهر" قال الحافظ: الذي يظهر أن المراد بها البيض "وأن أصلي الضحى" زاد أحمد في رواية: كل يوم، وفي رواية للبخاري بلفظ: وركعتي الضحى. قال ابن دقيق العيد. لعله ذكر الأقل الذي يوحد التأكيد بفعله وفي هذا(3/468)
758 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أبو داودَ قال أنْبأَنَا شُعْبَةُ عنِ الأعْمَشِ قال: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ بَسّامٍ يُحَدّثُ عن موسى بنِ طَلْحةَ قال سَمِعْتُ أبا ذَرَ يقولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذَرَ إذا صُمْتَ مِنَ الشّهْرِ ثلاَثةَ أيامٍ فَصُمْ ثلاثَ عَشْرَةَ وأرْبعَ عَشْرَةَ وخَمْسَ عَشْرَةَ".
وفي البابِ عن أبي قَتَادَةَ وعبدِ الله بنٍ عَمْرٍو وقرّةَ بنِ إياسٍ المُزَنِيّ وعبدِ الله بنِ مَسْعُودٍ وأبي عَقْرَبٍ وابنِ عباسٍ وعائِشَةَ وقتادَةَ بنِ مِلْحانَ وعُثمانَ بنِ أبي العاصِ وجَريرٍ.
ـــــــ
دلالة على استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان. قال الحافظ في الفتح: حكى شيخنا الحافظ أبو الفضل بن الحسين في شرح الترمذي أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى. فصار كثير من الناس يتركونها أصلاً لذلك وليس لما قالوا أصل، بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليحرمهم الخير الكثير لاسيما ما وقع في حديث أبي ذر انتهى. وحديث أبي هريرة المذكور لم يحكم عليه الترمذي بشيء هو حديث صحيح وأخرجه الشيخان.
قوله: "سمعت يحيى بن بسام" بفتح الموحدة وتشديد السين المهملة وآخره ميم.
قوله: "فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" هي أيام الليالي البيض.
قوله: "وفي الباب عن أبي قتادة" أخرجه مسلم وفيه: ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان. فهذا صيام الدهر كله، "وعبد الله بن عمرو" أخرجه الشيخان وفيه: ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله، صم كل شهر ثلاثة أيام واقرأ القرآن في كل شهر "وقرة بن إياس المزني" أخرجه أحمد بإسناد صحيح عنه مرفوعاً: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر كله وإفطاره، وأخرجه أيضاً البزار والطبراني وابن حبان في صحيحه كذا في الترغيب "وعبد الله بن مسعود" قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام وقلما كان يفطر يوم الجمعة، أخرجه الترمذي والنسائي وأخرجه أبو داود إلى ثلاثة أيام وقلما كان يفطر يوم الجمعة، أخرجه الترمذي والنسائي وأخرجه أبو داود إلى ثلاثة أيام وصححه ابن خزيمة "وأبي عقرب" لينظر من أخرج حديثه "وابن عباس" أخرجه النسائي "وعائشة" أخرجه مسلم والترمذي في هذا الباب "وقتادة بن ملحان" بكسر الميم وقيل بفتحها ولم أقف على من أخرج حديثه "وعثمان بن أبي العاص"(3/469)
قال أبو عيسى: حديثُ أَبي ذَر حديثٌ حسنٌ.
وقد رُوِيَ في بعضِ الحديثِ أنّ مَنْ صَامَ ثلاثةَ أيامٍ من كلّ شَهْرٍ كانَ كَمَنْ صامَ الدّهْرَ.
759 ـ حدثنا هَنّادٌ أبو مُعاوِيَةَ عن عاصمٍ الأحْولِ عن أبي عُثمانَ النّهدي عن أبي ذَر قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صامَ مِنْ كلّ شَهْرٍ ثلاثةَ أيامٍ فَذَلِكَ صيامُ الدّهْرِ فأَنْزَلَ الله عزّ وجل تَصْديقَ ذلك في كِتابه {مَنْ جاء بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} اليَوْمُ بِعَشْرَةِ أيامٍ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح.
وقد رَوى شُعْبَة هذا الحديثَ عن أبي شِمْرٍ وأبي التّيّاحِ عن أبي عُثمانَ عن أبي هُريرةَ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
760 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلانَ حدثنا أبو دَاودَ أخبرنا شُعْبَةُ عن يزيدَ الرّشْكِ قَال سَمِعْتُ مُعاذَةَ قَالت: قُلْتُ لِعائِشةَ: "أكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثلاثةَ أيامٍ مِنْ كلّ شَهْرٍ؟ قالت: نَعمْ، قلت: مِنْ أيّهِ كانَ يَصُومُ؟ قالت: كانَ لا يُبَالي مِنْ أيّهِ صامَ".
ـــــــ
أخرجه النسائي والبيهقي "وجرير" أخرجه النسائي وقال الحافظ إسناده صحيح.
قوله: "حديث أبي ذر حديث حسن" وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان كذا في المرقا.
قوله: "فذلك صيام الدهر" وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها فيعدل صيام الثلاثة الأيام من كل شهر صيام الشهر كله فيكون كمن صام الدهر.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه ابن ماجه.
قوله: "عن أبي شمر" بكسر الشين المعجمة وسكون الميم الضبعي مقبول من الرابعة.(3/470)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ قال: ويَزيدُ الرّشْك هُوَ يَزيدُ الضّبَعيّ وهو يَزيدُ بنُ القاسِم وهو القَسّامُ، والرّشْكُ هو القَسّامُ في لُغَةِ أهْلِ البْصْرَةِ.
ـــــــ
قوله: "قالت نعم" أي وهذا أقل ما كان يقتصر عليه "قلت من أيه" صام أي من أي يوم وفي رواية مسلم: من أي أيام الشهر "كان لا يبالي في أية همام" وفي رواية مسلم: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "ويزيد الرشك" : بكسر الراء وسكون الشين المعجمة "هو يزيد الضبعي" بضم المعجمة وفتح الموحدة بعدها عين مهملة، قال في الخلاصة: يزيد بن أبي يزيد الضبعي مولاهم أبو الأزهر البصري الذارع القسام الرشك عن مطرف بن الشخير وعنه شعبة ومعمر، وثقه أبو حاتم وله في البخاري فرد حديث(3/471)
54ـ بابُ مَا جَاءَ في فَضْلِ الصّوْم
761 ـ حدثنا عِمْرانُ بنُ موسى القَزّازُ البَصْرِيّ حدثنا عبدُ الوارثِ بنُ سَعيدٍ حدثنا عليّ بنُ زَيْدٍ عن سَعيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ رَبكُمْ يقولُ كلّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أمْثالِها إلى سَبْعِمائةِ ضِعْفٍ والصّوْمُ لِي وأنا أجْزِي بهِ الصّوْمُ جُنَةٌ مِنَ النّارِ
ـــــــ
بابُ مَا جَاءَ في فَضْلِ الصّوْم
قوله: "القزاز" بفتح القاف وشده الزاي الأولى، قال في القاموس: القز الإبريسم والقزاز ككتان بائع القز.
قوله: "كل حسنة بعشر أمثالها" أي تضاعف بعشر أمثالها "إلى سبعمائة ضعف" بكسر الضاد أي مثل "والصوم لي" وفي رواية الشيخين: كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي الخ، قال الحافظ في الفتح: قد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: "الصيام لي وأنا أجزي به" مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزى بها على أقوال، ثم ذكر الحافظ عشرة أقوال ثم قال: وأقرب الأقوال التي ذكرتها إلى الصواب الأول(3/471)
ولَخُلوفُ فَمِ الصّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ ريحِ المِسْكِ وَ إنْ جَهِلَ عَلى أحَدِكُمْ جَاهِلٌ وهُوَ صائِمٌ فَلْيَقُلْ إنّي صائِمٌ".
ـــــــ
والثاني، وأنا أذكر ههنا هذين القولين، ومن شاء الوقوف على باقيها فليرجع إلى الفتح، فالقول الأول أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، قال أبو عبيد في غريبه: قد علمنا أن أعمال البر كلها لله وهو الذي يجزي بها فترى والله اعلم أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب، ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في الصيام رياء"، حدثنيه شبابة عن عقيل عن الزهري فذكره يعني مرسلاً، قال: وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى عن الناس. هذا وجه الحديث عندي انتهى، قال الحافظ: وقد روى الحديث المذكور البيهقي في الشعب من طريق عقيل وأورده من وجه آخر عن الزهري موصولاً عن أبي سلمة عن أبي هريرة وإسناده ضعيف ولفظه: الصيام لا رياء فيه. قال الله عز وجل: هو لي وأنا أجزي به، وهذا لو صح لكان قاطعاً للنزاع. قال الحافظ: معنى النفي في قوله: لا رياء في الصوم، أنه لا يدخله الرياء بفعله وإن كان قد يدخله الرياء بالقول كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها. وثانيها أن المراد بقوله: وأنا أجزي به، أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعفت من عشرة إلى سبع مائة إلى ما شاء الله إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السياق الرواية الأخرى يعني رواية الموطأ وكذلك رواية الأعمش عن أبي صالح حيث قال: كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، قال الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، أي أجازي عليه جزاء كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} انتهى. والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال انتهى ما في الفتح.(3/472)
وفي البابِ عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ وسَهْلِ بنِ سَعدٍ وكَعْبِ بنِ عُجْرَةَ وسَلاَمَةَ بنِ قَيْصَرَ وبَشِيرِ بنِ الخَصَاصِيّةِ. واسْمُ بشيرٍ زَحْمُ بنُ مَعْبَدٍ، والخَصَاصِيّةُ هِيَ أُمّهُ.
قال أبو عيسى: وحديثُ أبي هُريرةَ حديثٌ حسنٌ غريبٌ مِن هذا الوَجْهِ.
762 ـ حدثنا محمدُ بنُ بشارٍ حدثنا أبو عامِرٍ العَقَدِيّ عن هِشَامِ بنِ سَعْد عن أبي حازِمٍ عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن معاذ بن جبل وسهل بن سعد وكعب بن عجرة وسلامة بن قيصر وبشير بن الخصاصية" أما حديث معاذ بن جبل فأخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم من رواية أبي وائل عن معاذ، والحديث طويل وفيه: الصوم جنة، وذكر المنذري هذا الحديث الطويل في باب الصمت. وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وأما حديث كعب بن عجرة فأخرجه الحاكم عنه قال . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احضروا المنبر، فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: "آمين"، فلما ارتقى الدرجة الثانية، قال: "آمين"، فلما ارتقي الدرجة الثالثة قال: "آمين"، فلما نزل قلنا يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه؟ قال، "إن جبريل عرض لي فقال". بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له قلت. "آمين"، فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت: "آمين". قال الحاكم صحيح الإسناد. وأما حديث سلامة بن قيصر فأخرجه أبو يعلى والبيهقي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام يوماً ابتغاء وجه الله بعده الله من جهنم كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرماً"، كذا في الترغيب، لكن فيه سلمة بن قيصر بغير الألف، وقال المنذري بعد ذكر هذا الحديث. ورواه الطبراني فسماه سلامة بزيادة ألف وفي إسناده عبد الله بن لهيعة انتهى. وأما حديث بشير بن الخصاصية فلينظر من أخرجه.
قوله: "وإسم بشير زحم" بالزاء وسكون الحاء المهملة.(3/473)
" في الجَنّةِ باب يُدْعَى الرّيّانُ يُدْعى لَهُ الصّائِمُونَ فَمَنْ كانَ منَ الصّائِمينَ دَخَلهُ، وَمَنْ دَخَلَهُ لمْ يَظْمأ أبداً".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
763 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ عن سهْيلِ بنِ أبي صالحٍ عن أبيهِ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "للصّائِمِ فَرْحَتانِ فرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ وفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقى رَبّهُ".
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "في الجنة باب يدعى" أي يسمى "الريان" بفتح الراء وتشديد التحتانية وزن فعلان من الري اسم علم، باب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه، وهو مما وقعت المناسبة بين لفظه ومعناه لأنه مشتق من الري وهو مناسب لحال الصائمين. قال القرطبي: اكتفي بذكر الري عن الشبع لأنه يدل عليه من حيث أنه يستلزمه: قال الحافظ: أو لأنه أشق على الصائم من الجوع انتهى وفي رواية الشيخين: في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان "يدعي له الصائمون" وفي رواية الشيخين: لا يدخله إلا الصائمون " ومن دخله لم يظمأ أبداً" وفي رواية النسائي وابن خزيمة: من دخل شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه الشيخان.
قوله: "فرحة حين يفطر" قال القرطبي: معناه فرحة بزوال جوعه وعطشه حيث أبيح له الفطر، وهذا الفرح طبعي وهو السابق للفهم، وقيل إن فرحه بفطره إنما هو من حيث أنه تمام صومه وخاتمة عبادته وتخفيف من ربه ومعونة على مستقبل صومه(3/474)
55ـ باب ما جاءَ في صَوْمِ الدّهْر
764 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ و أحمدُ بنُ عَبْدَةَ قالا: حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن غَيْلانَ بنِ جَريرٍ عن عبدِ الله بنِ مَعْبَدٍ عن أبي قَتادَةَ قال: "قيلَ يا رسول الله كَيْفَ بمَنْ صامَ الدّهْرَ قال: "لا صامَ ولا أفْطَرَ" أوْ "لَمْ يَصُمْ وَلم يُفْطِرْ".
وفي البابِ عن عبدِ الله بنِ عَمْروٍ وعبدِ الله بن الشّخّيرِ وعِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ وأبي مُوسى.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي قَتَادَةَ حديثٌ حسنٌ.
وقد كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ العلمِ صِيامَ الدّهْرِ، وأجازه قوم أخرون، وقالوا إنما يَكُونُ صِيامُ الدّهْرِ إذا لم يُفْطِرْ يوْمَ الفِطْرِ ويومَ الأضحى وأيّامَ التشْريقِ فَمَنْ أفْطَرَ
ـــــــ
باب ما جاءَ في صَوْمِ الدّهْر
قوله: "قال لا صام ولا أفطر أو لم يصم ولم يفطر" هو من شك من أحد رواته. قال في اللمعات: اختلفوا في توجيه معناه، فقيل هذا دعاء عليه كراهة لصنيعه وزجراً له عن فعله، والظاهر أنه إخبار، فعدم إفطاره ظاهر، وأما عدم صومه فلمخالفته السنة، وقيل لأنه يستلزم صوم الأيام المنهية وهو حرام. وقيل لأنه يتضرر وربما يفضي إلى إلقاء النفس إلى التهلكة وإلى العجز عن الجهاد والحقوق الآخر انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" أخرجه الشيخان وفيه: لا صام من صام الأبد مرتين "وعبد الله بن الشخير وعمران بن حصين" قال في التلخيص: ولأحمد وابن حبان عن عبد الله بن الشخير من صام الأبد فلا صام ولا أفطر. وعن عمران بن حصين نحوه انتهى. "وأبي موسى" أخرجه ابن حبان وغيره بلفظ: من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا، وعقد تسعين ، كذا في التلخيص. وقال في الفتح: أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان.
قوله: "وحديث أبي قتادة حسن" وأخرجه مسلم مطولاً.(3/475)
في هذه الأيّامِ فقَدْ خَرَجَ مِنْ حَدّ الكَراهِيَةِ ولا يَكونُ قد صامَ الدّهْرَ كُلّهُ. هكذا رُوِيَ عن مالكِ بنِ أنسٍ وهُوَ قَوْلُ الشّافعيّ وقالَ أحمدُ وإسحاقُ نَحْواً مِنْ هذا وقالا: لا يجبُ أن يُفْطِرَ أيّاماً غَيْرَ هذه الخَمْسةِ الأيّامِ التي نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عنها يَوْمِ الفِطْرِ ويَوْمِ الأضْحى وأيّاِمِ التّشْرِيقِ.
ـــــــ
قوله: "وقد كره قوم من أهل العلم صيام الدهر وقالوا إنما يكون صيام الدهر إذا لم يفطر يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق الخ". قال النووي في شرح مسلم: واختلف العلماء فيه فذهب أهل الظاهر إلى منع صيام الدهر لظواهر هذه الأحاديث، قال القاضي وغيره: وذهب جماهير العلماء إلى جوازه إذا لم يصم الأيام المنهى عنها وهي العيدان والتشريق، ومذهب الشافعي وأصحابه أن سرد الصيام إذا أفطر العيد والتشريق لا كراهة فيه بل هو مستحب بشرط أن لا يلحقه به ضرر ولا يفوت حقاً فإن تضرر أو فوت حقاً فمكروه، واستدلوا بحديث حمزة بن عمرو وقد رواه البخاري ومسلم أنه قال: يا رسول الله إني أسرد الصوم أفأصوم في السفر، فقال "إن شئت فصم". وهذا لفظ رواية مسلم، فأقره صلى الله عليه وسلم على سرد الصيام، ولو كان مكروهاً لم يقره لاسيما في السفر، وقد ثبت عن ابن عمر بن الخطاب أنه كان يسرد الصيام، وكذلك أبو طلحة وعائشة وخلائق من السلف. وأجابوا عن حديث: لا صام من صام الأبد، بالاَجوبة أحدها أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين والتشريق، وبهذا أجابت عائشة رضي الله عنها، والثاني أنه محمول على من تضرر به أو فوت به حقاً، ويؤيده أن النهي كان خطاباً لعبد الله بن عمرو بن العاص. وقد ذكر مسلم عنه أنه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة، قالوا فنهى ابن عمرو لعلمه بأنه سيعجز. وأقر حمزة بن عمر ولعلمه بقدرته بلا ضرر، والثالث أن معنى لا صام أنه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره فيكون خبراً لا دعاءاً انتهى كلام النووي.
قلت: في الاستدلال بأحاديث جواز سرد الصوم على جواز صيام الدهر عندي نظر(3/476)
56ـ باب ما جَاءَ في سَرْدِ الصّوْم
765 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا حَمّادُ بنُ زَيْدٍ عن أَيّوبَ عن عبدِ الله بنِ شَقِيقٍ قال: "سأَلْتُ عَائِشَةَ عن صِيَامِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: كانَ يَصُومُ حتى نَقُولَ قَدْ صَامَ ويُفْطِرُ حتى نقولَ قد أفْطَرَ. قالت: وما صَام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شَهْراً كامِلاً إلا رَمَضَانَ".
وفي البابِ عن أنَسٍ وابنِ عبّاسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَائِشَةَ حديثٌ صحيحٌ.
766 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ حدثنا إسماعيلُ بنُ جَعْفَرٍ عن حُمَيْدٍ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كانَ يَصُومُ مِنَ الشّهْرِ حتى نَرَى أَنّهُ لا يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ، ويُفْطِرُ حتى نرى
ـــــــ
"باب ما جاء في سرد الصوم"
أي تواليه وتتابعه
قوله: "حتى نقول قد صام" وفي رواية مسلم: قد صام قد صام بتكرار لفظ قد صام "حتى نقول قد أفطر" وفي رواية مسلم: قد أفطر قد أفطر، وفي رواية للشيخين: رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وهذه الرواية مفسرة لرواية الباب "وما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً إلا رمضان" وإنما لم يستكمل غير رمضان لئلا يظن وجوبه قاله النووي.
قوله وفي الباب عن أنس أخرجه البخاري والترمذي وابن عباس أخرجه الشيخان والترمذي.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأخرجه هو والبخاري بلفظ آخر.
قوله: "كان يصوم من الشهر" أياماً كثيرة "حتى يرى" بصيغة المجهول أي حتى يظن، وفي رواية للبخاري حتى نظن "أن يفطر منه" أي من الشهر(3/477)
أنّهُ لا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ مِنْهُ شَيْئاً، وكُنْتَ لا تَشَاءُ أنْ تَرَاهُ مِنَ اللّيْلِ مُصَلّياً إلاّ رأيتَهُ مُصَلّياً، ولا نَائِماً إلاّ رأَيْتَهُ نَائِماً".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
767 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا وَكِيعٌ عن مِسْعَرٍ و سُفْيانَ عن حَبِيبِ بنِ أَبي ثَابتٍ عن أَبي العَبّاسِ عن عبدِ الله بنِ عَمْروٍ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أفْضَلُ الصّوْمِ صوم أَخِي دَاوُدَ كانَ يَصُومُ يَوْماً ويُفْطِرُ يَوْماً ولا يَفِرّ إذَا لاَقَى".
ـــــــ
"فكنت لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً الخ" وفي رواية للبخاري: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائماً إلا رأيته ولا مفطراً إلا رأيته، ولا من الليل قائماً إلا رأيته. قال الحافظ في الفتح: يعني أن حاله في التطوع بالصيام والقيام كان يختلف فكان تارة يقوم من أول الليل وتارة من وسطه وتارة من وسطه وتارة من آخره، فكان من أراد أن يراه في وقت من أوقات الليل قائماً أو في وقت من أوقات الشهر صائماً فراقبه المرة بعد المرة فلا بد أن يصادفه قام أو صام على وفق ما أراد أن يراه، هذا معنى الخبر، وليس المراد أنه كان يسرد الصوم ولا أنه كان يستوعب الليل قياماً انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" تقدم تخريجه.
قوله: "ولا يفر إذا لاقى" أي العدو، وزاد النسائي من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة: وإذا وعد لم يخلف، قال الحافظ: ولم أرها من غير هذا الوجه ولها مناسبة بالمقام وإشارة إلى أن سبب النهي خشيته أن يعجز عن الذي يلزمه فيكون كمن وعد فأخلف، كما أن في قوله: وكان لا يفر إذا لاقى. إشارة إلى حكمه صوم يوم وإفطار يوم. قال الخطابي: محصل قصة عبد الله بن عمرو أن الله تعالى لم يتعبد عبده بالصوم خاصة بل تعبده بأنواع من العبادات فلو استفرغ جهده لقصر في غيره، فالأولى الاقتصاد فيه ليستبقي بعض القوة لغيره، وقد أشير إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في داود عليه السلام: وكان لا يفر إذا لاقى، لأنه كان يتقوى بالفطر لأجل الجهاد.(3/478)
و قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأَبو العَبّاسِ هو الشّاعِرُ المكيّ الأعْمَى واسْمُهُ السّائِبُ بنُ فَرّوخٍ.
وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: أفْضَلُ الصّيَامِ أَنْ تصوم يَوْماً وتُفطر يَوْماً، ويُقَالُ: هذا هُوَ أَشَدّ الصّيَامِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه باختلاف الألفاظ.
قوله: "وقال بعض أهل العلم أفضل الصيام أن يصوم يوماً ويفطر يوماً ويقال هذا هو أشد الصيام" قال الحافظ: وذهب جماعة منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل وهو ظاهر الحديث بل صريحه، ويترجح من حيث المعنى أيضاً بأن صيام الدهر قد يفوت بعض الحقوق وبأن من اعتاده فإنه لا يكاد يشق عليه بل تضعف شهوته عن الأكل وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهاراً وبألف تناوله في الليل بحيث يتجدد له طبع زائد بخلاف من يصوم يوماً ويفطر يوماً فإنه ينتقل من فطر إلى صوم ومن صوم إلى فطر انتهى.(3/479)
57 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الصّومِ يَوْمَ الفِطْرِ ويوم النّحْر
768 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا عبدُ العزِيزِ بنُ محمدٍ عن عَمرِو بنِ يَحْيى عن أَبيهِ عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ قالَ : "نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامَيْنِ: يَوْمِ الأضْحَى ويَوْمِ الفِطْرِ".
قال: وفي البابِ عَنْ عُمَرَ وعَلِي وعَائشِةَ وأبي هُرَيْرَةَ وعُقْبَةَ بنِ عَامرٍ وأَنَسٍ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الصّومِ يَوْمَ الفِطْرِ ويوم النّحْر
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامين صيام يوم الأضحى ويوم الفطر" وفي لفظ للبخاري: لا صوم في يومين، ولمسلم: لا يصح الصيام في يومين .
قوله: "وفي الباب عن عمر" أخرجه الترمذي والبخاري ومسلم "وعلي" يأتي تخريجه في الباب الآتي
"وعائشة" أخرجه مسلم "وأبي هريرة" أخرجه البخاري ومسلم "وعقبة بن عامر" أخرجه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي كذا في الرحمة المهداة "وأنس" أخرجه الدارقطني ويأتي لفظه في الباب الاَتي(3/479)
قال أبو عيسى: حديثُ أَبي سَعِيدٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ عليهِ عندَ أهلِ العلمِ.
قال أبو عيسى: وعَمْروُ بنُ يَحْيى هو ابنُ عُمَارةَ بنِ أبي الحسَنِ المازِنِيّ المدني، وهو ثِقَةُ، رَوَى له سُفْيَانُ الثوريّ وشُعْبَةُ ومالكُ بنُ أنَسٍ.
769 ـ حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الملِكِ بنِ أبي الشّوَارِبِ حدثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعِ حدثنا مَعْمَرٌ عن الزّهْرِيّ عن أبي عُبَيْدٍ مَوْلَى عبدِ الرحمَن بنِ عَوْف قَال: "شَهِدْتُ عُمَرَ بنَ الخطّابِ في يَوْمِ النحر بَدَأَ بالصّلاةِ قَبلَ الخُطْبَةِ ثم قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَنْهى عَنْ صَوْمِ هَذَيْنِ اليَوْمَيْنِ أمّا يَوْمُ الفِطْرِ فَفِطْرُكُمْ مِنْ صَوْمِكُمْ وعِيدٌ للمسْلِمِينَ، وأمّا يوْمُ الأضْحَى فَكُلُوا مِنْ لَحْمِ نُسُكِكُمْ".
قال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأبو عُبَيْدٍ مَوْلَى عبدِ الرحمَن بنِ عَوْفٍ اسْمُهُ سَعْدٌ، ويقالُ له مَوْلى عبدِ الرحمَنِ بنِ أزْهَرَ أيضاً. وعبدُ الرحمَن بنُ أزْهَرَ هو ابنُ عمّ عبدِ الرحمَن بنِ عَوْفٍ.
ـــــــ
قوله: "حديث أبي سعيد حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "والعمل عليه عند أهل العلم" قال النووي في شرح صحيح مسلم: قد أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك، ولو نذر صومهما متعمداً لعينهما قال الشافعي والجمهور لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما، وقال أبو حنيفة: ينعقد ويلزمه قضاؤهما قال: فإن صامهما أجزأه وخالف الناس كلهم في ذلك انتهى.
قوله: "وأما يوم الأضحى فكلوا من لحم نسككم" النسك بضم النون والسين جمع النسيكة والمراد بها هنا الذبيحة المتقرب بها.
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "ويقال له" أي لأبي عبيد "مولى عبد الرحمَن بن أزهر أيضاً" قال البخاري في صحيحه: وقال ابن عيينة: من قال مولى ابن أزهر فقد أصاب ومن قال مولى عبد الرحمَن(3/480)
ـــــــ
بن عوف فقد أصاب انتهى. قال الحافظ في الفتح: قال ابن التين: وجه كون القولين صواباً ما روى أنهما اشتركا في ولائه، وقيل يحمل أحدهما على الحقيقة والآخر على المجاز، وسبب المجاز أما بأنه كان يكثر ملازمة أحدهما إما لخدمة أو للأخذ عنه أو لانتقاله من ملك أحدهما إلى ملك الاَخر. وجزم الزبير بن بكار بأنه كان مولى عبد الرحمَن بن عوف، فعلى هذا فنسبته إلى ابن أزهر هي المجازية. قال: واسم ابن أزهر أيضاً عبد الرحمَن وهو ابن عم عبد الرحمَن بن عوف وقيل ابن أخيه انتهى كلام الحافظ(3/481)
58ـ بابُ ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الصّوْمِ في أيامِ التّشْرِيق
770ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا وَكِيعٌ عن موسى بنِ علي عن أبيهِ عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمُ عَرَفَةَ ويَوْمُ النَحْرِ وأيّامُ التّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الإسْلاَمِ، وهِيَ أيامُ أكْلٍ وشُرْبٍ".
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية صوم أيام التشريق"
هي ثلاثة أيام تلي عيد النحر سميت بذلك من تشريق اللحم وهو تقديده وبسطه في الشمس ليجف لأن لحوم الأضاحي كانت تشرق فيها بمنى، وقيل سميت به لأن الهدى والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس أي تطلع كذا في النهاية
قوله: "يوم عرفة" أي اليوم التاسع من ذي الحجة "ويوم النحر" أي اليوم العاشر من ذي الحجة "وأيام التشريق" أي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر "عيدنا" بالرفع على الخبرية "أهل الاسلام" بالنصب على الاختصاص "وهي" أي الأيام الخمسة "أيام أكل وشرب" في الحديث دليل على أن يوم عرفة وأيام التشريق أيام عيد كما أن يوم النحر يوم عيد وكل هذه الأيام الخمسة أيام أكل وشرب. قال الشوكاني في النيل: ظاهر حديث أبي قتادة مرفوعاً: صوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي أنه يستحب صوم عرفة مطلقاً، وظاهر حديث عقبة بن عامر يعني المذكور في هذا الباب أنه يكره صومه مطلقاً، وظاهر حديث أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم عرفة بعرفات، رواه أحمد وابن ماجه أنه لا يجوز(3/481)
وفي البابِ عن علي وسَعْدٍ وأَبي هُرَيْرَةَ وجَابِرٍ ونُبَيْشَةَ وبِشْرِ بنِ سُحَيْمٍ وعبدِ الله بنِ حُذَافَةَ وأَنَسٍ وحَمْزةَ بنِ عَمْروٍ الأسْلَمِيّ وكَعْبِ بنِ مَالِكٍ وعَائِشَةَ وعَمْروِ بنِ العَاصِ وعبدِ الله بنِ عَمْروٍ.
ـــــــ
صومه بعرفات فيجمع بين الأحاديث بأن صوم هذا اليوم مستحب لكل أحد مكروه لمن كان بعرفات حاجاً. والحكمة في ذلك أنه ربما كان مؤدياً إلى الضعف عن الدعاء والذكر يوم عرفة هنالك والقيام بأعمال الحج، وقيل الحكمة أنه يوم عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه، ويؤيده حديث عقبة بن عامر انتهى كلام الشوكاني محصلاً.
قوله: "وفي الباب عن علي" أخرجه النسائي من طريق مسعود بن الحكم عن أمه أنها رأت وهي بمنى في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم راكباً يصيح يقول: يا أيها الناس إنها أيام أكل وشرب ونساء وبعال وذكر الله، قالت فقلت من هذا؟ قالوا علي بن أبي طالب، ورواه البيهقي من هذا الوجه لكن قال إن جدته حدثته كذا في التلخيص "وسعد" بن أبي وقاص أخرجه أحمد بلفظ قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنادي أيام منى أنها أيام أكل وشرب ولا صوم فيها، يعني أيام التشريق، وأخرجه البزار أيضاً. قال في مجمع الزوائد: رجالهما رجال الصحيح "وأبي هريرة" أخرجه الدارقطني في سننه في الضحايا وفيه: وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال، وفي سنده سعيد بن سلام العطار قال الزيلعي: رماه أحمد بالكذب "وجابر" لينظر من أخرجه "ونبيشة" الهذلي أخرجه مسلم بلفظ: أيام التشريق أيام أكل وشرب "وبشر بن سحيم" بمهملتين مصغراً أخرجه النسائي بنحو حديث نبيشة "وعبد الله بن حذافة" أخرجه الدارقطني بلفظ: لا تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال يعني أيام منى. وفي إسناده الواقدي "وأنس" أخرجه الدارقطني بلفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خمسة أيام في السنة يوم الفطر ويوم النحر وثلاثة أيام التشريق، وفي إسناده محمد بن خالد الطحان وهو ضعيف "وحمزة بن الأعور الأسلمي" لينظر من أخرجه "وكعب بن مالك" أخرجه أحمد ومسلم وفيه: أيام منى أيام أكل وشرب "وعائشة" وابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى، أخرجه البخاري "وعمرو بن العاص" أخرجه أبو داود "وعبد الله بن عمرو" أخرجه البزار.(3/482)
قال أبو عيسى: وحديثُ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذَا عندَ أهلِ العلمِ يَكْرَهُونَ صِيَامَ أَيامِ التّشْرِيقِ، إلاّ أَنّ قومْاً مِنْ أصْحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم رخَصّوا للمُتَمَتّعِ إذا لَمْ يَجِدْ هَدْياً ولم يَصُمْ في العَشْرِ أَنْ يَصُومَ أَيّامَ التّشْرِيقِ. وبهِ يقولُ مالكُ بنُ أنسٍ والشّافِعِيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
قال الزيلعي في نصب الراية: قال المنذري في حواشيه: وقد روى هذا الحديث من رواية نبيشة.
قوله: "حديث عقبة بن عامر حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي وسكت عنه أبو داود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره.
قوله: "إلا أن قوماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم رخصوا للمتمتع إذا لم يجد هدياً ولم يصم في العشر أن يصوم أيام التشريق" قال الحافظ في الفتح: وقد روى ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي طلحة الجواز مطلقاً، وعن علي وعبد الله بن عمرو بن العاص المنع مطلقاً، وهو المشهور عن الشافعي، وعن ابن عمر وعائشة وعبيد بن عمير في آخرين منعه إلا للمتمتع الذي لا يجد الهدى، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وعن الأوزاعي وغيره أيضاً يصومها المحصر والقارن انتهى. واستدل القائلون الجواز للمتمتع بحديث عائشة وابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق، إلا لمن لم يجد الهدى، رواه البخاري، وله عنهما أنهما قالا: الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هدياً ولم يصم صام أيام منى. قال الشوكاني: وهذه الصيغة لها حكم الرفع، وقد أخرجه الدارقطني والطحاوي بلفظ: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدى أن يصوم أيام التشريق،
وفي إسناده يحيى بن سلام وليس بالقوي ولكنه يؤيد ذلك عموم الآية . قالوا وحمل المطلق على المقيد واجب وكذلك بناء العام على الخاص. قال الشوكاني: وهذا أقوى المذاهب، وأما القائل بالجواز مطلقاً فأحاديث الباب جميعها ترد عليه "وبه يقول مالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحاق" وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصوم أيام التشريق(3/483)
قال أبو عيسى: وأهلُ العِراقِ يقولُونَ: موسى بنُ عَلي بنِ رَباحٍ وَأَهلُ مِصْرَ يَقُولُونَ مُوسَى بنُ عُلَيّ. وقال: سَمِعْتُ قُتَيْبةَ يَقُولُ سَمِعْتُ اللّيْثَ بنَ سَعْدٍ يقولُ: قالَ موسى بنُ علي: لا أجْعَلُ أحَداً في حِل صَغّر اسْمَ أبِي.
ـــــــ
. قال محمد في الموطأ لا ينبغي أن يصام أيام التشريق لمتعة ولا لغيرها لما جاءت من النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي حنيفة والعامة من قبلنا انتهى.
قوله: "أهل العراق يقولون موسى بن علي بن رباح" بضم العين وفتح اللام مصغراً "وأهل مصر يقولون موسى بن علي" بفتح العين وكسر اللام مكبراً(3/484)
59 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الحِجَامَةِ للصّائِم
771 ـ حدثنا محمدُ بن يحيى وحدثنا محمدُ بنُ رافِعٍ النَيْسَابُورِيّ و محمودُ بنُ غَيْلاَنَ و يَحْيى بنُ مُوسى قالوا حدثنا عبدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عن يَحْيى بنِ أبي كثيرٍ عن إبراهيم بنِ عبدِ الله بنِ قَارِظٍ عن السّائِبِ بنِ يَزِيدَ عن رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ "أفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ".
قال أبو عيسى: وفي البابِ عن علي وسَعْدٍ وشَدّادِ بنِ أوْسٍ وثَوْبَانَ وأُسَامَةَ بنِ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الحِجَامَةِ للصّائِم
قوله: "عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ" بقاف وظاء، وقيل هو عبد الله بن إبراهيم بن قارظ ووهم من زعم أنهما اثنان صدوق من الثالثة كذا في التقريب "أفطر الحاجم والمحجوم" استدل بظاهر هذا الحديث من قال بحرمة الحجامة للصائم وسيجيء ذكرهم.
قوله: وفي الباب عن سعد أي ابن أبي وقاص مالك بن وهب بن عبد مناف أحد العشرة، أخرج حديثه ابن عدي في الكامل وفي سنده داود بن الزبرقان وهو ضعيف "وعلي" بن أبي طالب، أخرجه النسائي وذكر الاختلاف فيه، وأخرجه البزار في مسنده وقال: جميع ما يرويه الحسن عن علي مرسل وإنما يروى عن قيس بن عباد وغيره عن علي "وشداد بن أوس وثوبان" قال الحافظ في التلخيص: أما حديث ثوبان وشداد فأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان. قال علي بن سعيد النسوي: سمعت أحمد يقول هو أصح ما روي فيه، وكذا قال(3/484)
زَيْدٍ وعَائِشَةَ ومَعْقِلِ بنِ سَنان، ويُقَالُ "ابن يسارٍ" وأبي هُرَيْرَةَ وابنِ عبّاسٍ وأبي موسى وبِلاَلٍ وسعد.
قال أبو عيسى: وحديثُ رَافِعِ بنِ خَدِيْجٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وذُكِرَ عن أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ أنّهُ قالَ: أصَحّ شَيْءٍ في هذا البابِ حَدِيثُ رَافِعِ بنِ خَديجٍ وذُكِرَ عن عليّ بنِ عبدِ الله أَنه قال أَصَحّ شَيءٍ في هذا البابِ حديثُ ثَوْبانَ وشَدّادِ بنِ أوْسٍ لأنّ يَحْيَىَ بنَ أبي كَثيرٍ رَوَى عن أبي قِلاَبَة الحَديثَيْنِ جَميعاً حَديثَ ثَوْبانَ وحَديثَ شَدّادِ بنِ أوْسٍ.
ـــــــ
الترمذي عن البخاري ورواه المذكورون من طريق يحيى بن أبي كثير أيضاً عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس وصحح البخاري الطريقين تبعاً لعلي بن المديني، نقله الترمذي في العلل. وقد استوعب النسائي طرق هذا الحديث في السنن الكبرى انتهى "وأسامة بن زيد" أخرجه النسائي من حديث أشعث بن عبد الملك عن الحسن عنه ثم قال: لا نعلم تابع أشعث على روايته أحد "وعائشة" أخرجه النسائي أيضاً وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف ومعقل بن يسار ويقال "معقل بن سنان" أخرجه النسائي أيضاً وذكر الاختلاف فيه "وابن عباس" أخرجه النسائي "وأبي موسى" أخرجه النسائي والحاكم وصححه علي بن المديني، وقال النسائي رفعه خطأ والموقوف أخرجه ابن أبي شيبة وعلقه البخاري "وبلال" أخرجه النسائي، وقد ذكر الحافظ الزيلعي في نصب الراية والحافظ بن حجر في التلخيص هذه الأحاديث وغيرها مع الكلام عليها مفصلاً من شاء الوقوف عليها فليرجع إليهما.
قوله: "حديث رافع بن خديج حديث حسن صحيح" وأخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين "وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج" قال الحافظ في الفتح: لكن عارض أحمد يحيى بن معين في هذا فقال حديث رافع أضعفها. وقال البخاري: هو غير محفوظ، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه هو عندي باطل. وقال الترمذي: سألت إسحاق بن منصور عنه فأبى أن يحدثني به عن عبد الرزاق وقال هو غلط، قلت: ما علته؟ قال: روى هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير(3/485)
وقد كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أهلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهمْ الحِجَامَةَ للصّائِمِ حتّى أنّ بعضَ أَصحابَ النبيّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ باللّيْلِ مِنْهُمْ أَبو مُوسى الأشْعَرِيّ وابنُ عُمَرَ وبهذَا يقولُ ابنُ المبارَك.
ـــــــ
بهذا الإسناد حديث: مهر البغي خبيث، وروي عن يحيى عن أبي قلابة أن أبا أسماء حدثه أن ثوبان أخبره به فهذا هو المحفوظ عن يحيى، فكأنه دخل لمعمر حديث في حديث انتهى "وذكر عن علي بن عبد الله" بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم أبو الحسن بن المديني البصري ثقة ثبت إمام أعلم أهل عصره بالحديث وعلله "وأنه قال أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة الحديثين جميعاً حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس" يعني فانتفى الاضطراب وتعين الجمع بذلك. وقد صحح للبخاري الطريقين تبعاً لعلي بن المديني كما عرفت في بيان تخريج حديثهما، وكذا قال عثمان الدارمي: صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم من طريق ثوبان وشداد، قال: وسمعت أحمد يذكر ذلك، وقال المروزي: قلت لأحمد: إن يحيى بن معين قال ليس فيه شيء يثبت، فقال: هذا مجازفة. وقال ابن خزيمة: صح الحديثان جميعاً وكذا قال ابن حبان والحاكم كذا في الفتح.
قوله: "وقد كره قوم من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم الحجامة للصائم" واحتجوا بحديث الباب وهو بظاهره يدل صراحة على أن الحجامة تفطر الصائم. قال الطيبي: ذهب إلى هذا الحديث جمع من الأئمة وقالوا يفطر الحاجم والمحجوم، ومنهم أحمد وإسحاق، وقال قوم منهم مسروق والحسن وابن سيرين: يكره الحجامة للصائم ولا يفسد الصوم بها، وحملوا الحديث على التشديد وأنهما نقصا أجر صيامهما وأبطلاه بارتكاب هذا المكروه. وقال الأكثرون: لا بأس بها إذ صح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم، وإليه ذهب مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وقالوا معنى قوله "أفطر" تعرض للإفطار كما يقال هلك فلان إذا تعرض الهلاك انتهى كلام الطيبي، وقال البغوي في شرح السنة: معنى قوله "أفطر الحاجم(3/486)
قال أبو عيسى: سَمِعْتُ إسحاقَ بنَ مَنْصُورٍ يقولُ: قال عَبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِي: مَنِ احْتَجَمَ وهُوَ صائِمٌ فَعَلَيْهِ القَضَاءُ. قال إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ وهكذا قال أحمدُ بن حنبل وإسحاقُ بن إبراهيم.
قال أبو عيسى وأخبرني الحسن بن محمد الزّعْفرانِيّ قال: قال الشّافعيّ: قد رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنهُ احْتَجَمَ وهُوَ صائمٌ ورُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: "أَفْطَر الحَاجِمُ والمَحْجُومُ " ولا أَعْلَمُ واحداً منْ هَذَيْنِ الحَديثَيْنِ ثابِتاً. ولو تَوَقّى رَجُلٌ الحِجَامَةَ وهُوَ صائمٌ كان أحَبّ إلَيّ لو احْتَجَمَ صائمٌ لمْ أَرَ ذَلكَ أَنْ يُفْطِرَهُ.
قال أبو عيسى: هكذا كانَ قولُ الشّافعيّ ببغْدادَ، وأَمّا بِمصْرَ فَمالَ إلى الرّخْصَةِ، ولمْ يَرَ بالحِجَامَةِ للصائم بأْساً واحْتَجّ بأَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ في حَجّةِ الودَاعِ وهُوَ مُحْرِمٌ صائم.
ـــــــ
والمحجوم" أي تعرضا للإفطار، أما الحاجم فلأنه لا يأمن من وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المص، وأما المحجوم فلأنه لا يأمن ضعف قوته بخروج الدم فيؤول أمره إلى أن يفطر انتهى كلام البغوي(3/487)
60 ـ باب ما جَاءَ منَ الرّخْصَةِ في ذلك
772 ـ حدثنا بشْرٌ بنُ هِلالٍ البَصْرِيّ، حدثنا عبدُ الوارثِ بنُ سعيدٍ حدثنا أَيوبُ عَنْ عكْرِمَةَ عن ابنِ عبّاسٍ قال: "احتجمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحْرِمٌ صَائمٌ".
قال أبو عيسى هذا حديث صحيح هكذا روى وهيب نحو
ـــــــ
باب ما جَاءَ منَ الرّخْصَةِ في ذلك
قوله: "احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم" أي احتجم في حال اجتماع الصوم مع الإحرام.(3/487)
رواية عبد الوارث وروى إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة مرسلا ولم يذكر فيه عن ابن عباس.
773 ـ حدثنا أَبو موسى، حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الله الأنْصارِيّ عن حَبيبِ بنِ الشّهيدِ عن مَيْمُونِ بنِ مِهْرانَ عن ابنِ عبّاسٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وهُوَ صَائِمٌ".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ منْ هذا الوجْهِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "هكذا روى وهيب نحو رواية عبد الوارث" ورواية وهيب أخرجها البخاري في صحيحه "وروى إسماعيل بن إبراهيم" وهو معروف بإبن علية.
قوله: "عن حبيب بن الشهيد" الأزدي البصري ثقة ثبت من الخامسة "عن ميمون بن مهران" الجزري أصله كوفي نزل الرقة ثقة فقيه ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز وكان يرسل من الرابعة.
قوله: "هذا حديث غريب من هذا الوجه" ورواه النسائي أيضاً بإسناد الترمذي وزاد: وهو محرم، وقال: هذا حديث منكر لا أعلم أحداً رواه عن حبيب غير الأنصاري، ولعله أراد النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة كذا في عمدة القاري.
وله: احتجم فيما بين مكة والمدينة وهو محرم صائم قال الحافظ في التلخيص له طرق عند النسائي وهاها وأعلها، واستشكل كونه صلى الله عليه وسلم جمع بين الصيام والإحرام لأنه لم يكن من شأنه التطوع بالصيام في السفر، ولم يكن محرماً إلا وهو مسافر، ولم يسافر في رمضان إلى جهة الإحرام إلا في غزاة الفتح ولم يكن حينئذ محرماً. قال الحافظ بعد ذكر هذا الكلام ما لفظه: وفي الجملة الأولى نظر، فما المانع من ذلك. فلعله فعل مرة لبيان الجواز وبمثل هذا لا نرد الأخبار الصحيحة. ثم ظهر لي أن بعض الرواة جمع بين الأمرين في الذكر، فأوهم أنهما وقعا معاً والأصوب رواية البخاري: احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم فيحمل على أن كل واحد منهما وقع في حالة مستقلة وهذا لا مانع منه، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم صام في رمضان وهو مسافر وهو في الصحيحين(3/488)
774 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدثنا عبدُ الله بنُ إدْريسَ عن يَزيدَ بن أبي زِيَادٍ عن مِقسَمٍ عن ابنِ عبّاسٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ فيما بين مَكّةَ والمَدِينَةَ وهو مُحْرِمٌ صائِمٌ".
قال أبو عيسى: وفي البابِ عن أبي سَعيدٍ وجابرٍ وأنَسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عبّاسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد ذَهَبَ بَعْضُ أَهلِ العلمِ منْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم إلى هذا الحديثِ ولمْ يَرَوْا بالحِجَامَةِ للّصائِمِ بأْساً وهوَ قَوْلُ سُفْيانَ الثّوْرِيّ ومالكِ بنِ أَنَسٍ والشّافِعِيّ.
ـــــــ
بلفظ: وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة، ويقوي ذلك أن غالب الأحاديث ورد مفصلاً انتهى كلام الحافظ.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد وجابر وأنس" أما حديث أبي سعيد فأخرجه النسائي من رواية أبي المتوكل عن أبي سعيد قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم والحجامة: وأما حديث جابر فأخرجه النسائي أيضاً من رواية أبي الزبير عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، وأما حديث أنس رضي الله عنه فأخرجه الدارقطني من رواية ثابت عنه وفيه: ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم. وفي الباب أيضاً عن ابن عمر وعائشة ومعاذ وأبي موسى، وتخريج أحاديث هؤلاء رضي الله عنهم مذكور في عمدة القاري.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي وله طرق كما تقدم في كلام الحافظ.
قوله: "وقد ذهب بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحديث الخ" قال ابن حزم: صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم بلا ريب لكن وجدنا من حديث أبي سعيد: أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم وإسناده صحيح فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً انتهى. قال الحافظ في(3/489)
ـــــــ
الفتح بعد ذكر كلام ابن حزم هذا ما لفظه: والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه وله شاهد من حديث أنس أخرجه الدارقطني ولفظه: أول ما كرهت الحجامة للصائم، أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أفطر هذان، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم ورواته كلهم من رجال البخاري إلا أن في المتن ما ينكر لأن فيه أن ذلك كان في الفتح وجعفر كان قتل قبل ذلك. ومن أحسن ما ورد في ذلك ما رواه عبد الرزاق وأبو داود من طريق عبد الرحمَن بن عابس عن عبد الرحمَن بن أبي ليلى عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه، إسناده صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر، وقوله " إبقاء على أصحابه" يتعلق بقوله "نهى" وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ولفظه: عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف أي لئلا يضعف انتهى كلام الحافظ(3/490)
61 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ الوِصالِ للصائم
775 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ علي حدثنا بِشْرُ بنُ المُفَضّلِ و خالِدُ بنُ الحارثِ عن سَعيد عن قَتَادَةَ عن أنَسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُوَاصِلُوا، قالُوا فإِنّكَ تُوَاصِلُ يا رسولَ الله قال: إِنّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إِنّ رَبّي يُطْعِمُني ويَسْقِيني".
ـــــــ
باب ما جاء في كراهية الوصال في الصيام
هو الترك في ليالي الصيام لما يفطر بالنهار بالقصد فيخرج من أمسك اتفاقاً ويدخل من أمسك جميع الليل أو بعضه، قاله الحافظ ابن حجر: وقال الجزري في النهاية: هو أن لا يفطر يومين أو أياماً انتهى.
قوله: "إني لست كأحدكم" وفي حديث ابن عمر: لست مثلكم، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: لستم في ذلك مثلي "إن ربي يطعمني ويسقيني"(3/490)
وفي البابِ عن علي وأبي هُرَيرةَ وعَائِشَةَ وابن عُمَرَ وجَابرٍ وأبي سَعيد وبَشِيرِ بنِ الخَصاصِيَةِ.
قال أبو عيسى: حديثُ أنسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلم كَرِهُوا الْوِصالَ في الصيامِ وَرُوِيَ عن عبدِ الله بنِ الزّبَيْرِ أنّهُ كانَ يُوَاصِلُ الأيّامَ ولا يُفْطِرُ.
ـــــــ
استئناف مبين لنفي المساواة. قال الجمهور: هذا مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة فكأنه قال: يعطيني قوة الاَكل والشارب ويفيض على ما يسد مسد الطعام والشراب ويقوي على أنواع الطاعة من غير ضعف في القوة ولا كلال في الإحساس، ويحتمل أن يكون المراد أي يشغلني بالتفكر في عظمته والتملي بمشاهدته والتغذي بمعارفه وقرة العين بمحبته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب وإلى هذا جنح ابن القيم وقال: قد يكون هذا الغذاء أعظم ومن له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني ولا سيما الفرح المسرور بمطلوبه الذي قرت عينه بمحبوبه.
وقيل: هو على حقيقته وأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلاً. قلت: في هذا التعقب نظر فتفكر.
قوله: "وفي الباب عن علي وأبي هريرة وعائشة وابن عمر وجابر وأبي سعيد وبشير بن الخصاصية" أما حديث علي فأخرجه أحمد، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان، وأما حديث عائشة فأخرجه أيضاً الشيخان، وأما حديث ابن عمر فأخرجه أيضاً الشيخان، وأما حديث جابر فأخرجه الطبراني، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه البخاري، وأما حديث بشير بن الخصاصية فأخرجه أحمد في مسنده.
قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم كرهوا الوصال في الصيام" واختلفوا في المنع، فقيل على سبيل التحريم، وقيل على سبيل الكراهة، وقيل يحرم على من شق ويباح لمن لا يشق عليه. وذهب الأكثرون إلى تحريم الوصال وهو القول الراجح "وروي عن عبد الله بن الزبير أنه كان يواصل الأيام" أخرج(3/491)
ـــــــ
بن أبي شيبة عن ابن الزبير بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً ذكره الحافظ في الفتح(3/492)
62ـ باب ما جَاءَ في الجُنُبِ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وهُو يُريدُ الصّوْم
776 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا اللّيْثُ عن ابنِ شِهابٍ عن أبي بكْرِ بنِ عبدِ الرحمَنِ بنِ الحَارثِ بنِ هِشام قال: "أخْبرتْنِي عائشةُ وأُمّ سَلَمَةَ زَوْجا النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وهو جُنُبٌ مِنْ أَهْلهِ ثمّ يَغْتَسِلُ فَيصُومُ".
قال أبو عيسى: حديثُ عائشةَ وأُمّ سَلَمَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ والعَمَلُ على هَذا عنَد أكثرِ أهلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِم وهو قَوْلُ سُفْيانَ والشّافعيّ وأحمدَ وإسحاقَ وقد قال قوْمٌ مِنَ التّابعينَ: إذا أصْبَحَ جُنُباً يَقْضي ذلكَ اليَوْمَ. والقَوْلُ الأوّلُ أَصَحّ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في الجُنُبِ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وهُو يُريدُ الصّوْم
قوله: "زوجا النبي" بصيغة التثنية سقط نون التثنية بالإضافة.
قوله: "وهو جنب من أهله" أي من الجماع لا من الاحتلام "حديث عائشة وأم سلمة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم" قال النووي في شرح مسلم: قد أجمع أهل هذه الأعصار على صحة صوم الجنب سواء كان من احتلام أو جماع وبه قال جماهير الصحابة والتابعين، وحكي عن الحسن بن صالح بن حي إبطاله وكان عليه أبو هريرة، والصحيح أنه رجع عنه كما صرح به في رواية مسلم، وقيل لم يرجع عنه وليس بشيء، وحكى عن طاوس وعروة: إن علم بجنابته لم يصح وإلا فيصح، وحكى مثله عن أبي هريرة، وحكى أيضاً عن الحسن البصري أنه يجزئه في صوم التطوع دون العرض، وحكى عن سالم بن عبد الله والحسن البصري والحسن بن صالح يصومه ويقضيه، ثم ارتفع هذا الخلاف وأجمع العلماء بعد هؤلاء على صحته انتهى كلام النووي.
قوله: "وقد قال قوم من التابعين إذا أصبح جنباً يقضي ذلك اليوم" وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يفتي الناس أنه من أصبح جنباً فلا يصوم ذلك اليوم(3/492)
ـــــــ
ثم رجع عن هذه الفتيا. قال الحافظ في الفتح: وقد بقي على مقالة أبي هريرة بعض التابعين كما نقله الترمذي ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي. وأما ابن دقيق العيد فقال: صار ذلك إجماعاً أو كالإجماع انتهى "والقول الأول أصح" فإن قلت: قد ثبت من حديث أبي هريرة ما يخالف حديث الباب فأخرج الشيخان عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح جنباً فلا صوم له" ، وقد بقي على العمل بحديث أبي هريرة هذا بعض التابعين كما ذكره الترمذي فما وجه كون القول الأول أصح من القول الثاني.
قلت: لو وجوه مذكورة في فتح الباري وغيره. قال ابن عبد البر: إنه صح وتواتر حديث عائشة وأم سلمة، وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتي بذلك، وأيضاً رواية اثنين مقدمة على رواية واحد ولا سيما وهما زوجتان للنبي صلى الله عليه وسلم والزوجات أعلم بحال الأزواج. وقال الحافظ في التلخيص: قال ابن المنذر: أحسن ما سمعت في هذا الحديث أنه منسوخ لأن الجماع في أول الإسلام كان محرماً على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل الاغتسال، وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل على الأمر الأول ولم يعلم النسخ، فلما علمه من حديث عائشة وأم سلمة رجع إليه. قال الحافظ: وقال المصنف إنه محمول عند الأئمة على ما إذا أصبح مجامعاً واستدامه مع علمه بالفجر، والأول أولى انتهى. وقال محمد في موطئه: من أصبح جنباً من جماع من غير احتلام في شهر رمضان ثم اغتسل بعد ما طلع الفجر فلا بأس بذلك، وكتاب الله تعالى يدل على ذلك(3/493)
63ـ باب ما جَاءَ في إِجَابَةِ الصّائِمِ الدّعْوَة
777 ـ حدثنا أَزْهَرُ بنُ مَروانَ البَصْرِيّ حدثنا محمد بن سواء حدثنا سَعيدُ بنُ أبي عَرُوَبةَ عن أَيّوبَ عن محمدِ بنِ سيرينَ عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلى طَعامٍ فَلْيُجِبْ، فإِنْ كانَ صائِماً فَلْيُصَلّ" يَعْني الدّعاءَ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في إِجَابَةِ الصّائِمِ الدّعْوَة
قوله: "فإن كان صائماً فليصل" أي فليدع لأهل الطعام بالبركة كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني، وإن كان صائماً فليدع بالبركة " يعني الدعاء" هذا تفسير(3/493)
778 ـ حدثنا نصْرُ بنُ علي حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أبي الزّنادِ عن الأعْرَجِ عن أبي هُرَيرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا دُعِيَ أحَدُكُمْ وهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ: إنّي صَائِمٌ".
قال أبو عيسى: وكِلاَ الحَديثَيْنِ في هذا البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ـــــــ
من بعض الرواة أو الترمذي، أي ليس المراد بقوله "فليصل" الصلاة كما هو الظاهر بل المراد به الدعاء، وحمله الطيبي على ظاهره فقال: أي ركعتين في ناحية البيت كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم انتهى. قال القاضي في المرقاة: ظاهر حديث أم سليم أن يجمع بين الصلاة والدعاء انتهى. قلت: حديث أم سليم أخرجه البخاري عن أنس ولفظه هكذا قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم فأتته بتمر وسمن فقال أعيدوا سمنكم في سقائه وتمركم في وعائه فإني صائم ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة فدعا لأم سليم وأهل بيتها انتهى. ويجوز لمن صام صوم نفل أن يفطر ويطعم لما أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء لم يطعم انتهى.
قوله: "فليقل إني صائم" قال ابن الملك: أمر صلى الله عليه وسلم المدعو حين لا يجيب الداعي أن يعتذر عنه بقوله إني صائم، وإن كان يستحب إخفاء النوافل لئلا يؤدي ذلك إلى عداوة وبغض في الداعي انتهى. وقال النووي: محمول على أنه يقوله اعتذاراً له وإعلاماً بحاله فإن سمح له ولم يطالبه بالحضور سقط عنه الحضور، وإن لم يسمح وطالبه بالحضور لزمه الحضور وليس الصوم عذراً في إجابة الدعوة لكن إذا حضر لا يلزمه الأكل ويكون الصوم عذراً في ترك الأكل بخلاف المفطر فإنه يلزمه الأكل على أصح الوجهين عندنا وأما الأفضل للصائم فقال أصحابنا إن كان يشق على صاحب الطعام صومه استحب له الفطر وإلا فلا، هذا إذا كان صوم تطوع، فإن كان صوماً واجباً حرم الفطر انتهى كلام النووي.
قوله: "فكلا الحديثين في هذا الباب عن أبي هريرة حسن صحيح" وأخرجهما مسلم(3/494)
64ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ صَوْمِ المَرأَةِ إلاّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا
779 ـ حدثنا قُتَيْبةُ ونصْرُ بنُ عَلي قالا حدثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أبي الزنّادِ عن الأعْرَجِ عن أبي هُريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ تَصُومُ المَرْأةُ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْماً مِن غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلاّ بإِذْنِهِ".
قال: وفي البابِ عن ابنِ عبّاسٍ وأبي سَعيدٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وقد رُوِيَ هذا الحَديثُ عن أبي الزّنادِ عن موسى بنِ أبي عُثْمانَ عن أبيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ صَوْمِ المَرأَةِ إلاّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا
قوله: "لا تصوم المرأة" النفي بمعنى النهي، وفي رواية مسلم: لا يحل للمرأة أن تصوم "وزوجها شاهد" أي حاضر معها في بلدها "إلا بإذنه" تصريحاً أو تلويحاً. قال القاري في المرقاة: ظاهر الحديث إطلاق منع صوم النفل فهو حجة على الشافعية في استثناء نحو عرفة وعاشوراء انتهى. قلت: الأمر كما قال القاري، وإنما لم يلحق بالصوم الإعتكاف لا يصح بدون الصوم انتهى "وفي الباب عن ابن عباس وأبي سعيد" أما حديث ابن عباس فأخرجه الطبراني عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ومن حق الزوج على الزوجة أن لا تصوم تطوعاً إلا بإذنه فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها، كذا في الترغيب. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أبو داود وابن ماجه، كذا في المشكاة في باب عشرة النساء.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما(3/459)
65ـ باب ما جَاءَ في تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَان
780 ـ حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا أبو عَوانَةَ عن إسماعيلَ السّدّيّ عن عبدِ الله البَهِيّ عن عَائِشةَ قالت: "مَا كُنْتُ أقْضى ما يَكُونُ عَلَيّ مِنْ رَمَضَانَ إلاّ في شَعْبَانَ حَتَى تُوُفّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، قال: وقَد رَوَى يَحْيى بنُ سَعيدٍ الأنْصَارِيّ عن أبي سَلَمَةَ عن عَائشةَ نَحْوَ هذَا.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَان
قوله: "وعن عبد الله البهي" بفتح الموحدة وكسر الهاء ليس نسبة إلى أحد وإنما هو لقب عبد الله البهي مولى مصعب بن الزبير، كذا في جامع الأصول.
قوله: "إلا في شعبان" زاد البخاري: قال يحيى: الشغل من النبي صلى الله عليه وسلم أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الزيادة مدرجة من قول يحيى بن سعيد الأنصاري كما بينه الحافظ في الفتح، وقال فيه: ومما يدل على ضعف الزيادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم لنسائه فيعدل وكان يدنو من في المرأة في غير نوبتها فيقبل ويلمس من غبر جماع، فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصوم اللهم إلا أن يقال إنها كانت لا تصوم إلا بإذنه ولم يكن يأذن لاحتمال احتياجه إليها، فإذا ضاق الوقت أذن لها، وكان هو صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان فلذلك كانت لا يتهيأ لها القضاء إلا في شعبان. وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً سواء كان لعذر أو بغير عذر لأن الزيادة كما بيناه مدرجة، فلو لم تكن مرفوعة لكان الجواز مقيداً بالضرورة، لأن للحديث حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع توفر دواعي أزواجه على السؤال منه عن أمر الشرع، فلولا أن ذلك كان جائزاً لم تواظب عائشة عليه. ويؤخذ من حرصها على ذلك في شعبان. أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر(3/496)
66ـ باب ما جَاءَ في فَضْل الصّائِمِ إذَا أُكِلَ عِنْدَه
781 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرِ أخبرنا شَريِكٌ عن حَبِيبِ بنِ زَيْدٍ عن لَيْلَى عَنْ مَوْلاَتِهَا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الصّائِمُ إذَا أَكَلَ عِنْدَهُ المَفَاطِيرُ صَلّتْ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ".
قال أبو عيسى: ورَوَى شُعْبَةُ هذَا الحَدِيثَ عَنْ حَبِيبِ بنِ زَيْدٍ عن ليلى عَنْ جَدّتِهِ أُمّ عُمَارَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
782 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا أَبو دَاوُدَ، أخبرنا شُعْبَةُ عن حَبِيبِ بنِ زَيْدٍ قالَ: سَمِعْتُ مَوْلاَةً لَنَا يُقَالُ لَهَا لَيْلَى تُحَدّثُ عَنْ جدّة أُمّ عُمَارَةَ بنت كَعْبٍ الأنْصَارِيّةِ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فقَدّمَتْ إِلَيْهِ طَعَاماً فقالَ: كُلِى، فَقَالَتْ: إنّي صَائِمَةٌ، فقالَ رسولُ الله صلى الله
ـــــــ
باب ما جَاءَ في فَضْل الصّائِمِ إذَا أُكِلَ عِنْدَه
قوله: "أخبرنا شريك" بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي صدوق يخطئ كثيراً تغير حفظ منذ ولي القضاء بالكوفة "عن ليلى" قال في التقريب: ليلى مولاة أم عمارة الأنصارية مقبولة من السادسة، وذكرها الذهبي في الميزان في فصل النسوة المجهولات "عن مولاتها" أي معتقتها بالكسر وهي أم عمارة ويطلق المولاة على المعتقة بالفتح أيضاً.
قوله: "إذا أكل عنده المفاطير" جمع المفطر أي المفطرون "صلت عليه الملائكة" أ ي دعت له الملائكة بما صبر مع وجود المرغب.
قوله: "عن جدته أم عمارة" بضم العين وتخفيف الميم الأنصارية يقال اسمها نسيبة بنت كعب بن عمرو الأنصارية والدة عبد الله بن زيد صحابية مشهورة.
قوله: "سمعت مولاة لنا" المراد بالمولاة ههنا المعتقة بالفتح.(3/497)
عليه وسلم إنّ الصّائِمَ تُصَلّي عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ إذَا أُكِلَ عِنْدَهُ حَتَى يَفْرُغُوا، ورُبّمَا قالَ "حَتّى يَشْبَعُوا".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
783 ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ حدثنا شُعْبَةُ عن حَبِيبِ بنِ زَيْدٍ عن مَوْلاَةٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهَا لَيْلَى عَنْ أُمّ عُمَارَةَ بِنْتِ كَعْبٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ "حتّى "يَفْرُغُوا أَو يَشْبَعُوا"".
قال أبو عيسى: وأُم عُمَارَةَ هِيَ جَدّةُ حَبِيبِ بنِ زَيْدٍ الأنْصَارِيّ.
ـــــــ
قوله: "تصلي عليه الملائكة" أي تستغفر له "إن الصائم إذا أكل عنده" أي ومالت نفسه إلى المأكول واشتد صومه عليه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجه أيضاً ورواه النسائي عن ليلى مرسلاً.
قوله: "وعن مولاة لهم" المراد بالمولاة ههنا المعتقة بالفتح(3/498)
67 ـ باب ما جَاءَ في قَضَاء الحَائِضِ الصّيَامَ دُونَ الصلاة
784 ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ أخبرنا عليّ بنُ مُسْهر عن عُبَيْدَةَ عن إبراهيم عن الأسْوَدِ عن عائِشَةَ قالت "كُنّا نَحِيضُ على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثُمّ نَطْهُرُ فَيَأْمُرُنَا بِقَضَاءِ الصّيَامِ ولا يَأْمُرُنَا بِقَضَاءِ الصّلاةِ".
ـــــــ
باب ما جَاءَ في قَضَاء الحَائِضِ الصّيَامَ دُونَ الصلاة
قوله: "عن عبيدة" بالتصغير ابن معتب بميم مضمومة وفتح عين وكسر مثناة فوقية ثقيلة بعدها موحدة الكوفي الضرير ضعيف واختلط بآخره من الثامنة، ما له في البخاري سوى موضع واحد في الأضاحي، كذا في التقريب. قلت: علق له البخاري في ذلك الموضع الواحد.
قوله: "فيأمرنا بقضاء الصيام ولا يأمرنا بقضاء الصلاة" قد علل ذلك بأن قضاء الصوم لا يشق لأنه لا يكون في السنة إلا مرة بخلاف قضاء الصلاة فإنه يشق كثيراً لأنه يكون غالباً في كل شهر ستاً أو سبعاً وقد يمتد إلى عشر فيلزم قضاء صلوات أربعة أشهر من السنة وذلك في غاية المشقة، قاله القاري.(3/498)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. وقد رُوِيَ عن مُعَاذَةَ عن عَائِشَةَ أَيْضاً. والعملُ على هذا عِنْدَ أهلِ العلمِ لا نَعْلَمُ بَيْنَهُم اخْتِلاَفاً أنّ الحَائِضَ تَقْضِي الصّيَامَ وَلاَ تَقْضي الصّلاةَ.
قال أبو عيسى: وعُبَيْدَةُ هُوَ ابنُ مُعَتّبٍ الضّبّيّ الكُوفِيّ يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الكَرِيمِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" قد عرفت أن في سنده عبيدة بن معتب وهو ضعيف ومع كونه ضعيفاً كان قد اختلط بآخره إلا أنه معتضد بطريق معاذة عن عائشة.
قوله: "وقد روي عن معاذة عن عائشة أيضاً" أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه(3/499)
68 ـ باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ مُبَالَغَةِ الاسْتِنْشَاقِ للصّائِم
785 ـ حدثنا عبدُ الوَهّابِ بن عبدالحكيم البغداديّ الوَرّاقُ وأَبُو عَمّارٍ الحسين بن حرث قالاَ حدثنا يَحْيى بنُ سُلَيْمٍ حَدّثَنيِ إسماعيلُ بنُ كثِيرٍ قالَ سَمِعْتُ عَاصِمَ بنَ لَقِيطِ بنِ صَبْرَةَ عن أبيهِ قالَ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنِي عنِ الوُضُوءِ قالَ: "أَسْبِغ الوُضُوءَ، وخَلّلْ بَيْنَ الأصَابِعِ، وبَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ صَائِماً ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقد كرِهَ أَهْلُ العِلْمِ السّعُوطَ للِصّائِمِ وَرَأَوْا أَنّ ذلكَ يُفْطرهُ، وفي الباب ما يُقَوّي قَوْلَهُمْ.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في كَرَاهِيَةِ مُبَالَغَةِ الاسْتِنْشَاقِ للصّائِم
قوله: "سمعت عاصم بن لقيط بن صبرة" بفتح الصاد وكسر الباء ويجوز سكون الباء مع فتح الصاد وكسرها كذا في التهذيب "أخبرني عن الوضوء" أي كماله "قال أسبغ الوضوء" بضم الواو أي أتم فرائضه وسننه "وخلل بين الأصابع" أي أصابع اليدين والرجلين "وبالغ في الاستنشاق" بإيصال الماء إلى باطن الأنف "إلا أن تكون صائماً" فلا تبالغ لئلا يصل إلى باطنه فيبطل الصوم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه ابن ماجه والدارمي إلى قوله بين الأصابع.(3/499)
ـــــــ.
قوله: "وقد كره أهل العلم السعوط للصائم" قال في القاموس: سعطه الدواء كمنعه ونصره وأسعطه إياه سعطة واحدة وإسعاطه واحدة أدخله في أنفة فاستعط، والسعوط كصبور ذلك الدواء "ورأوا أن ذلك" أي السعوط "يفطره" من التفطير أي بجعل الصائم مفطراً ويفسد صومه "وفي الحديث ما يقوي قولهم" قال الخطابي: في الحديث من الفقه إن وصل الماء إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان ذلك بفعله، وعلى قياس ذلك كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو في غيره من حشو جوفه انتهى. واختلف إذا دخل من ماء المضمضة والاستنشاق إلى جوفه خطأ، فقالت الحنفية ومالك والشافعي في أحد قوليه والمزني أنه يفسد الصوم، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق والأوزاعي وأصحاب الشافعي أنه لا يفسد الصوم كالناسي، وقال الحسن البصري والنخعي يفسد إن لم يكن لفريضة(3/500)
69ـ باب ما جَاءَ فِيمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فلا يَصُومُ إِلاّ بإِذْنِهِم
786 ـ حدثنا بِشْرُ بنُ مُعَاذٍ العَقَدِيّ البَصْرِيّ حدثنا أَيّوبُ بنُ وَاقِدٍ الكُوفِيّ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عَائِشَةَ قالَتْ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ نَزَلَ على قَوْمٍ فَلاَ يَصُومَنّ تَطَوّعاً إلاّ بإِذْنِهِمْ"
ـــــــ.
باب ما جَاءَ فِيمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ إلخ .
قوله: "بشر بن معاذ العقدي" بفتح المهملة والقاف أبو سهل الضرير صدوق من العاشرة كذا في التقريب "أخبرنا أيوب بن واقد الكوفي" أبو الحسن ويقال أبو سهل سكن البصرة متروك من الثامنة كذا في التقريب. وقال الذهبي في الميزان: قال البخاري: منكر الحديث. وقال أحمد: ضعيف. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه انتهى.
قوله: "فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم" جبراً لخاطرهم، والنهي للتنزيه، كذا في التيسير. وقال أبو الطيب في شرح الترمذي: لئلا يتحرجوا بصومه بسبب تقييد الوقت وإحسان الطعام للصائم بخلاف ما إذا كان مفطراً فيأكل معهم كما يأكلون، فيندفع عنهم الحرج، ولأنه من آداب الضيف أن يطيع المضيف، فإذا خالف فقد ترك الأدب انتهى.(3/500)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ مُنْكَرٌ لا نَعْرِفُ أحَداً مِنَ الثّقَاتِ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ. وقد رَوَى مُوسى بنِ دَاوُدَ عَنْ أبي بَكْرٍ المَدِنّي عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أبيهِ عَنْ عائِشَة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْواً مِنْ هذا.
وهذا حديثٌ ضعيفٌ أيْضاً. أبُو بَكْرٍ ضعيفٌ عندَ أهلِ الحَديثِ. وأبو بَكْرٍ المْدنِيّ الذي رَوَى عَنْ جَابِرِ بنِ عبدِ الله اسْمُهُ الفَضْلُ بنُ مُبَشّرٍ وهُوَ أوْثَقُ مِنْ هذَا وأقْدَمُ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث منكر" المنكر ما تفرد به الضعيف "وقد روى موسى بن داود" الضبي أبو عبد الله الطرطوسي نزيل بغداد ولي قضاء طرسوس صدوق ففيه زاهد له أوهام من صغار التاسعة، قاله الحافظ في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب: روى له مسلم حديث أبي سعيد في الشك في الصلاة فقط، واستشهد به الترمذي في حديث في صيام التطوع انتهى.
قوله: "وهو أوثق من هذا وأقدم" أي أبو بكر المديني الذي روى عن جابر أوثق وأقدم من أبي بكر المديني عن هشام. قال الحافظ في التقريب: أبو بكر المديني عن هشام ضعيف من السابعة، وقال فيه الفضل بن مبشر بموحدة ومعجمة ثقيلة الأنصاري أبو بكر المدني مشهرو بكنيته فيه لين من الخامسة انتهى. وقال الخزرجي: الفضل بن مبشر الأنصاري أبو بكر المدني ضعفه جماعة انتهى. فظهر أن المراد بقول الترمذي: "هو أوثق من هذا" أنه وإن كان هو في نفسه ضعيفاً أيضاً لكنه أقوى من هذا، وضعفه أقل من ضعف هذا(3/501)
70 ـ باب ما جَاءَ في الاْعتِكاف
787 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا عبدُ الرّزّاقُ أخبرنا مَعْمَرٌ عنِ الزّهْرِيّ عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ و عُرْوَةٌ عَنْ عَائِشَة
ـــــــ
"باب ما جاء في الاعتكاف"
الاعتكاف لغة لزوم الشيء وحبس النفس عليه، وشرعاً المقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة، وليس بواجب إجماعاً إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامداً عند قوم، واختلف في اشتراط الصوم له كذا في فتح الباري وغيره.(3/501)
" أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتّى قَبَضَهُ الله".
قَالَ: وفي البابِ عَنْ أُبَيّ بنِ كَعْبٍ وأبي ليلى وأبِي سَعِيدٍ وأنَسٍ وابنِ عُمَرَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ وعَائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
788 ـ حدثنا هَنّادُ حدثنا أبو مُعَاوِيةَ عن يَحْيى بنِ سَعيدٍ عنْ عَمْرَةَ عن عائشةَ قالت: " كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أَرادَ أنْ يَعَتكِفَ صَلّى الفَجْرَ ثُمّ دَخَل في مُعْتكَفِهِ".
ـــــــ
قوله: "عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وعروة عن عائشة" يعني أن الزهري روى هذا الحديث من طريقين: الأول عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة والثاني عن عروة عن عائشة.
قوله: "حتى قبضه الله" وفي رواية الصحيحين: حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده. قال ابن الهمام: هذه المواظبة المقرونة بعدم الترك مرة لما اقترنت بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة كانت دليل السنية وإلا كانت دليل الوجوب، أو نقول اللفظ وإن دل على عدم الترك ظاهراً لكن وجدنا صريحاً يدل على الترك وهو ما في الصحيحين وغيرهما، ثم ذكر حديث عائشة وفيه: فلما انصرف صلى الله عليه وسلم من الغداة أبصر أربع قباب فقال: "ماهذا؟" فأخبر خبرهن "ما حملن على هذا البر؟" انزعوها فنزعت، فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال.
قوله: "وفي الباب عن أبي بن كعب" بلفظ: واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان فسافر عاماً فلم يعتكف، فلما كان من قابل اعتكف عشرين يوماً، أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وغيرهم "وأبي ليلى" لينظر من أخرجه "وأبي سعيد" أخرجه الشيخان "وأنس" أخرجه الترمذي وابن ماجه "وابن عمر رضي الله عنه" أخرجه الشيخان.
قوله: "حديث أبي هريرة وعائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "صلى الفجر ثم دخل معتكفه" بصيغة المفعول أي مكان اعتكافه،(3/502)
قال أبو عيسى: وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن يَحْيَى بنِ سعيدٍ عن عَمْرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً. رَوَاهُ مالِكٌ وغَيْرُ واحِدٍ عن يَحيى بنِ سَعِيدٍ عن عمرة مُرْسَلاً. وَرَوَاهُ الأوْزَاعِيّ وسُفْيان الثّوْرِيّ وغير واحد عن يَحْيى بن سعيدٍ عن عَمْرةَ عن عائِشَةَ.
والعَمَلُ على هذا الحديثِ عِنْدَ بعْضِ أَهلِ العلمِ يقُولُونَ : إذَا أرادَ الرّجُلُ أنْ يَعْتَكِفَ صلّى الفَجْرَ ثم دَخَلَ في مُعْتَكَفِهِ. وهو قَوْلُ أَحمدَ بن حنبل
ـــــــ
أي انقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا أن ذلك وقت ابتداء اعتكافه بل كان يعتكف من الغروب ليلة الحادي والعشرين وإلا لما كان معتكفاً العشر بتمامه الذي ورد في عدة أخبار أنه كان يعتكف العشر بتمامه، وهذا هو المعتبر عند الجمهور اعتكاف عشر أو شهر، وبه قال الأئمة الأربعة، ذكره الحافظ العراقي كذا في شرح الجامع الصغير للمناوي. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: فيه أن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، وهو قول الأوزاعي والليث والثوري، وقال الأئمة الأربعة وطائفة: يدخل قبيل غروب الشمس وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح انتهى كلام الحافظ. وقال أبو الطيب السندي: وإنما جنح الجمهور إلى التأويل المذكور للعمل بالحديثين: الأول ما روى البخاري عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان والثاني ما رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام الحديث، فاستفيد من الحديث الأول عشر ليال ومن الآخر عشرة أيام، فأولوا بما تقدم جمعاً بين الحديثين انتهى.
قوله: "وقد روى هذا الحديث إلخ" والحديث أخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وهو قول أحمد بن حنبل" قال أبو الطيب في شرح الترمذي: يفهم من هذا أن هذا هو مذهب الإمام أحمد وليس كذلك، بل إنما هو رواية عنه. قال الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح المقدسي في كتابه الفروع: ومن أراد أن يعتكف العشر الأخير تطوعاً أدخل قبل ليلته الأولى نص عليه أي الإمام أحمد، وعنه بعد صلاة الفجر أول يوم منه انتهى مختصراً.(3/503)
وإسحاقَ بنِ إبراهيمَ. وقالَ بَعْضُهُمْ إذَا أرادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْتَغِبْ لهُ الشمس منَ الّليْلَةِ التي يريدُ أنْ يعْتَكِفَ فيها مِنَ الغَدِ، وقد قَعَدَ في مُعْتَكَفِه وهو قولُ سُفْيانَ الثّوْريّ ومالِك بنِ أنَسٍ.
ـــــــ
قوله: "وقد قعد في معتكفه" جملة حالية وذو الحال قوله الشمس، أي فلتغب له الشمس في حالة الاعتكاف، كذا في بعض الحواشي، والظاهر أن هذه الجملة حال من الضمير المجرور في قوله له أي فلتغب له الشمس حال كونه قاعداً في معتكفه.
قوله: "وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس" وهو قول الجمهور وبه قال الأئمة الأربعة كما عرفت في كلام الحافظ(3/504)
71ـ باب ما جَاءَ في لَيْلَةِ القَدْر
789 ـ حدثنا هارُونُ بنُ إسحاقَ الهَمْدَانِيّ حدثنا عَبْدَةُ بنُ سُلَيمانَ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيهِ عن عائِشَةَ قالَتْ: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمضَانَ وَيَقُولُ: "تَحرّوْا ليْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأوَاخِرِ منْ رَمضَانَ".
وفي البابِ عن عُمَرَ وأُبَي وجابِرِ بنِ سَمُرَةَ وجابِرِ بنِ عبدِ الله وابنِ عُمَرَ والفَلَتَانِ بنِ عاصِمٍ وأَنَسٍ وأَبي سَعيدٍ وعبدِ الله بنِ أُنَيْسٍ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في لَيْلَةِ القَدْر
قوله: "يجاوز" أي يعتكف "في العشر الأواخر" بكسر الخاء المعجمة جمع الأخرى، وقال في المصابيح: لا يجوز أن يكون جمع آخر، والمعنى: كان يعتكف في الليالي العشر الأواخر من رمضان "تحروا" أي اطلبوا. قال في النهاية: أي تعمدوا طلبها فيها، والتحري القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عمر رضي الله عنه" أخرجه بن أبي شيبة "وأبي ابن كعب" أخرجه مسلم والترمذي "وجابر بن سمرة" بلفظ: رأيت ليلة القدر فأنسيتها فاطلبوها في العشر الأواخر هي ليلة ريح ومطر ورعد، أخرجه الطبراني(3/504)
وأبي بَكْرَةَ وابنِ عبّاسٍ وبِلاَلٍ وعُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَائِشَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وقَوْلُها "يُجاوِرُ" يعنى يعْتَكِفُ وأَكْثَرُ الرّوَاياتِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قالَ "التمسوها في العَشْرِ الأواخِرِ في كلّ وِتْرٍ". وَرُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةِ القَدْرِ أَنّها لَيْلَةُ إحْدى وعِشْرينَ وليْلَةُ ثلاثٍ وعِشْرينَ وخَمْسٍ وعِشْرينَ وسَبْعٍ وعِشْرينَ وتِسْعٍ وعِشْرينَ وآخِرِ ليْلَةٍ منْ رَمضانَ.
ـــــــ
"وجابر عن عبد الله" لينظر من أخرجه "وابن عمر" أخرجه الشيخان وغيرهما "والفلتان" بفتح الفاء واللام المفتوحة وبالتاء المثناة من فوق ثم ألف ثم نون "ابن عاصم" الجرمي ويقال المنقري والصواب الأول، قال أبو عمرو هو خال كليب بن شهاب الجرمي والد عاصم بن كليب يعد في الكوفيين، كذا في شرح الترمذي لأبي الطيب "وأنس" أخرجه الديلمي في الفردوس "وأبي سعيد" أخرجه الشيخان وغيرهما "وعبد الله بن أنيس" بضم الهمزة مصغراً أخرجه أبو داود "وأبي بكرة" أخرجه الترمذي "وابن عباس" أخرجه البخاري وأبو داود وأحمد "وبلال" أخرجه أحمد بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة القدر ليلة أربع وعشرين " وعبادة بن الصامت" أخرجه البخاري.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم "وأكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال التمسوها في العشر الأواخر في كل وتر" فالأرجح والأقوى أن كون ليلة القدر منحصر في رمضان ثم في العشر الأخير منه ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها وقال: قد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً وتحصل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً ثم ذكر هذه الأقوال ثم قال: وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير وأنها تنتقل كما يفهم من أحاديث الباب، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين انتهى.(3/505)
قالَ الشافِعيّ كأَنّ هذا عِنْدي والله أعلمُ أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجيبُ على نَحْوِ ما يُسْأَلُ عنهُ. يُقالُ لهُ نَلْتَمِسُها في لَيْلَةِ كذَا فيقُولُ الْتَمِسُوها في لَيْلَةِ كذَا. قالَ الشافعيّ: وأَقْوَى الرّوَاياتِ عِنْدي فيها لَيْلَةُ إِحْدى وعِشْرينَ.
قال أبو عيسى: وقد رُوِيَ عن أُبَيّ بنِ كعْبٍ أَنّهُ كانَ يَحْلِفُ أنّها ليْلَةُ سبْعٍ وعِشْرينَ ويقُولُ: أخبرنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِعلاَمَتِها فَعَدَدْنا وحَفِظْن ا ورُوِيَ عن أبي قِلاَبَةَ أنّهُ قال: ليَلةُ القَدْرِ تَنْتَقِلُ في العَشْرِ الأواخِرِ أَخبرنا بِذَلكَ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ حدثنا عبدُ الرّزّاقِ عنْ مَعْمَرٍ عن أيّوبَ عن أبي قِلاَبَةَ بهذا.
790 ـ حدثنا واصِلُ بنُ عبدِ الأعْلَى الكُوفِيّ حدثنا أَبُو بكْرٍ عن عاصمٍ عن زَر قالَ: قُلْتُ لأبيّ بنِ كَعْبٍ: أنّى عَلِمْتَ أبا المُنْذِرِ أَنّها ليْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرينَ؟ قال: بَلى أخْبَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنها ليلةٌ صَبِيحَتُها تَطْلُعُ الشّمْسُ لَيْسَ لها شُعاعٌ. فَعدَدْنا وحَفِظْنا
ـــــــ
قوله: "قال الشافعي: كان هذا عندي والله اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل عنه إلخ" قد اعترض على القاري في المرقاة على كلام الشافعي هذا ولفظه فيه أنه ما يحفظ حديث ورد بهذا اللفظ فكيف يحمل عليه جميع ألفاظ النبوة انتهى.
قوله: "وقد روى عن أبي بن كعب" رواه الترمذي في هذا الباب "وروى عن أبي قلابة أنه قال ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر" ونص عليه مالك والثوري وأحمد وإسحاق، وزعم الماوردي أنه متفق عليه، وكأنه أخذه من حديث ابن عباس أن الصحابة اتفقوا على أنها في العشر الأخير ثم اختلفوا في تعيينها قاله الحافظ.
قوله: "أني علمت" بفتح الهمزة وتشديد النون وبالألف المقصورة، أي من أين علمت ومن أي دليل عرفت؟ "أبا المنذر" بحذف حرف النداء وهو كنية أبي بن كعب "ليس لها شعاع" قال الطيبي: الشعاع ما يرى من ضوء الشمس عند حدودها مثل الحبال والقضبان مقبلة إليك لما نظرت إليها انتهى. قال النووي: قال القاضي:(3/506)
والله لَقدْ عَلِمَ ابنُ مَسْعُودٍ أنّها في رَمضَانَ وأنّها لَيلَةُ سَبْعٍ وعِشْرينَ ولكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخْبِرَكُمْ فَتَتّكِلُوا.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
791 ـ حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ، حدثنا يَزيدُ بنُ زُرَيْع حدثنا عُيَيْنَةُ بنُ عبدِ الرحمَنِ قال حَدّثَني أبي قالَ: ذُكِرَتْ ليْلَةُ القَدْر عِنْدَ أَبي بكْرَةَ فقالَ: ما أنا مُلْتَمِسُها لِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلاّ في العَشْرِ الأواخِرِ فإِنّي سَمِعْتُهُ يقُولُ: "التْمِسُوها في تِسْع يَبْقَيْنَ أوْ في سَبْعٍ يَبْقيْنَ أوْ في خَمْسٍ يَبْقَيْنَ أَوْ في ثلاَثٍ أَواخر ليْلَةَ. قالَ:
ـــــــ
قيل معنى "لا شعاع لها" أنها علامة جعلها الله تعالى لها. قال: وقيل بل لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها بما تنزل به سترت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها انتهى. قال في المرقاة فيه: أن الأجسام اللطيفة لا تستر شيئاً من الأشياء الكثيفة، نعم لو قيل غلب نور تلك الليلة ضوء الشمس مع بعد المسافة الزمانية مبالغة في إظهار أنوارها الربانية لكان وجهاً وجيهاً انتهى. قلت فيه ما فيه كما لا يخفي على المتأمل. قيل فائدة العلامة أن يشكر على حصول تلك النعمة إن قام بخدمة الليلة وإلا فيتأسف على ما فاته من الكرامة ويتدارك في السنة الاَتية، وإنما لم يجعل علامة في أول ليلها إبقاء لها على إبهامها.
قوله: "والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان إلخ" وفي رواية مسلم: قلت إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال رحمه الله أراد أن لا يتكل الناس. أما إنه قد علم أنها في رمضان إلخ "فتتكلموا" أي فتعتمدوا على قول واحد وإن كان هو الصحيح الغالب فلا تقوموا إلا في تلك الليلة وتتركوا قيام سائر الليالي فيفوت حكمة الإبهام الذي نسي بسببها عليه الصلاة والسلام.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "التمسوها" أي ليلة القدر "في تسع" أي تسع ليال "يبقين" بفتح الياء والقاف وهي التاسعة والعشرون "أو في سبع يبقين" وهي السابعة والعشرون(3/507)
وكانَ أبو بكْرَةَ يُصَلّي في العِشْرينَ منْ رَمضَانَ كَصَلاتِه في سائِرِ السّنَةِ، فإِذَا دَخَلَ العَشْرُ اجْتَهدَ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"أو في خمس يبقين" وهي الخامسة والعشرون "أو ثلاث" أي يبقين وهي الثالثة والعشرون "أو آخر ليلة" من رمضان أي سلخ الشهر. قال الطيبي: يحتمل التسع أو السلخ رجحنا الأول بقرينة الأوتار، كذا في المرقاة شرح المشكاة. وقال في اللمعات: قوله في تسع يبقين قيل في تسع يبقين محمول على الثانية والعشرين، وفي سبع يبقين محمول على الرابعة والعشرين، وفي خمس يبقين على السادسة والعشرين، وأو ثلاث على الثامن والعشرين، أو آخر ليلة محمول على التاسع والعشرين، وقيل على السلخ أقول هذا إذا كان الشهر ثلاثين يوماً، وأما إذا كان تسعاً وعشرين فالأولى على الحادية والعشرين والثانية على الثالثة والعشرين والثالثة على الخامسة والعشرين والرابعة على السابعة والعشرين، وهذا أولى لكثرة الأحاديث الورادة في الأتار، بل نقول: لا دليل على كونها أولى هذه الأعداد، فالظاهر أن المراد من كونها في تسع يبقين الخ ترديدها في الليالي الخمس أو الأربع أو الثلاث أو الاثنين أو الواحدة انتهى ما في اللمعات(3/508)
72 ـ باب مِنْه
792 ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ، حدثنا وكيعٌ، حدثنا سُفْيَانُ عن أبي إسحاقَ عن هُبَيْرَةَ بن يَرِيم عن علي "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ في العَشْرِ الأواخِر مِنْ رمَضَانَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
باب مِنْه
قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن هبيرة" بضم هاء وفتح موحدة "ابن يريم" بفتح التحتية وكسر الراء بوزن عظيم، قال الحافظ: لا بأس به. وقد عيب بالتشيع.
قوله: "كان يوقظ أهله" أي للصلاة، وروى الترمذي عن أم سلمة: لم يكن صلى الله عليه وسلم إذا بقى من رمضان عشرة أيام يدع أحداً يطيق القيام إلا أقامه.(3/508)
793 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا عبدُ الواحد بنُ زِيادٍ عن الحَسنِ بنِ عُبَيْدِ الله عن إبراهيم عن الأسْوَدِ عن عائِشَةَ قالت: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأواخِر ما لا يَجْتَهدُ في غَيْرِها".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريب حسنٌ صحيحٌ
ـــــــ.
قوله: "يجتهد في العشر الأواخر" قيل أي يبالغ في طلب ليلة القدر فيها، قال القاري: والأظهر أنه يجتهد في زيادة الطاعة والعبادة "ما لا يجتهد في غيرها" أي في غير العشر.
قوله: "هذا حديث غريب حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم(3/509)
73ـ باب ما جَاءَ في الصّوْمِ في الشّتَاء
794 ـ حدثنا محمدُ بنُ بشّارٍ، حدثنا يَحْيى بنُ سَعِيدٍ حدثنا سُفْيانُ عَنْ أبي إسحاقَ عن نُمْيرِ بنِ عَريبٍ عن عامِرِ بنِ مَسْعُودٍ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ : "الغَنيمَةُ البارِدَةُ الصّوْمُ في الشّتَاءِ"
ـــــــ.
باب ما جَاءَ في الصّوْمِ في الشّتَاء
قوله: "هذا حديث غريب حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم
قوله: "عن نمير" بضم النون وفتح الميم مصغراً "بن عريب" بفتح العين المهملة وكسر الراء وسكون التحتية وآخره موحدة. قال في التقريب مقبول من الثالثة "عن عامر بن مسعود" بن أمية بن خلف الجمحي، يقال له صحبة وذكره ابن حبان وغيره في التابعين كذا في التقريب.
قوله: "الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء" لوجود الثواب بلا تعب كثير وفي الفائق: الغنيمة الباردة هي التي تجيء عفواً من غير أن يصطلي دونها بنار الحرب ويباشر حر القتال في البلاد، وقيل هي الهيئة الطيبة مأخوذة من العيش البارد، والأصل في وقوع البرد عبارة عن الطيب والهناءة أن الماء والهواء لما كان طيبهما ببردهما خصوصاً في بلاد الحارة قبل: ماء بارد وهواء بارد على طريق الاستطابة ثم كثر حتى قيل عيش بارد وغنيمة بارد وغنيمة باردة وبرد أمرنا. قال الطيبي: والتركيب من قلب التشبيه لأن أصل الصوم في الشتاء كالغنيمة الباردة، وفيه من المبالغة أن يلحق الناقص بالكامل كما يقال زيد كالأسد فإذا عكس وقيل الأسد(3/509)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ مُرسلٌ. عامِر بنُ مَسْعُود لَمْ يُدْرِكِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وهُوَ والِد إبراهيم بنِ عامِرٍ القُرَشيّ الّذِي روَى عَنْهُ شُعْبَةُ والثّوْرِيّ.
ـــــــ
كزيد يجعل الأصل كالفرع والفرع كالأصل يبلغ التشبيه إلى الدرجة القصوى في المبالغة، والمعنى أن الصائم يجوز الأجر من غير أن يمسه حر العطش أو يصيبه ألم الجوع من طول اليوم انتهى.
قوله: "هذا حديث مرسل، عامر بن مسعود لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم" قال صاحب المشكاة في الإكمال: عامر بن مسعود عو عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الجمحي وهو ابن أخي صفوان بن أمية روى عنه نمير بن عريب، أخرج حديثه الترمذي في الصوم وقال هو مرسل لأن عامر بن مسعود لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أورده ابن مندة وابن عبد البر في أسماء الصحابة، وقال ابن معين: لا صحبة له انتهى. وحديث عامر بن مسعود وهذا أخرجه أحمد في مسنده أيضاً "هو والد إبراهيم بن عامر القرشي" قال ابن معين والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق لا بأس به(3/510)
74 ـ باب ما جَاءَ {وعلى الذينَ يُطيقُونَهُ}
795- حدثنا قُتَيْبةُ، حدثنا بكْرُ بنُ مُضَرَ عن عَمْروِ بنِ الحَارثِ عن بُكَيْرِ بن عبد الله بن الأشج عن يَزيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ عن سلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ قال: لَمّا نَزَلَتْ {وعلى الّذينَ يُطيقُونَهُ فِدْيَةٌ طعَامُ مِسْكينِ}
ـــــــ
"باب ما جاء على الذين يطيقونه"
أي باب ما جاء في أن قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} منسوخ.
قوله: "لما نزلت: وعلى الطريق يطيقونه" أي الصوم إن أفطروا "فدية" مرفوع على الابتداء وخبره مقدم وهو قوله "وعلى الذين " وقراءة العامة فدية بالتنوين وهي الجزاء والبدل من قولك فديت الشيء بالشيء أي هذا بهذا قاله العيني "طعام مسكين" بيان لفدية أو بدل منها، وهو نصف صاع من بر أو صاع من(3/510)
كانَ مَنْ أرادَ مِنّا أَنْ يُفْطِرَ ويَفْتَدِيَ حتى نَزَلَتَ الآية التي بَعْدَها فَنَسَخَتْها.
ـــــــ
غيره عند أهل العراق، وعند أهل الحجاز مد قاله العيني " كان من أراد من أن يفطر ويفتدي" كذا وقع في رواية الترمذي وفي رواية الشيخين، ووقع في رواية أبي داود كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل، وهذه الرواية هي مفسرة لرواية الترمذي والشيخين، وفي رواية لمسلم: كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "حتى نزلت الآية التي بعدها" أي {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} كما في رواية مسلم المذكورة "فنسختها" أي فنسخت الثانية والأولى وهذا الحديث دليل صريح على أن قوله تعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } منسوخ وهو قول الجمهور وهو الحق. ويدل عليه صراحة ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر أنه قرأ "فدية طعام مساكين" قال هي منسوخة. قال الحافظ في الفتح: وقد أخرجه الطبري من طريق عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله بن عمر بلفظ: نسخت هذه الآية { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } ا لتي بعدها {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} انتهى. وفي صحيح البخاري: قال ابن نمير حدثنا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم عمن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها "وأن تصوموا خير لكم" فأمروا بالصوم. قال الحافظ في الفتح: واتفقت هذه الأخبار يعني رواية سلمة وابن عمر وابن أبي ليلى عن أن قوله {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} منسوخ، وخالف في ذلك ابن عباس فذهب إلى أنها محكمة لكنها مخصوصة بالشيخ الكبير ونحوه انتهى.
قلت: مذهب ابن عباس هذا مبنى على أنه قرأ "يطوقونه" بصيغة المجهول من التطويق وهي قراءة ابن مسعود أيضاً كما صرح به الحافظ، وقراءة العامة "يطيقونه" من أطاق يطيق. روى البخاري في صحيحه عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: ليست بمنسوخة هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كل يوم مسكينا. قال الحافظ في الفتح: قوله "يطوقونه" بفتح الطاء وتشديد الواو مبنياً للمفعول مخفف الطاء من طوق بضم أوله بوزن قطع وهذه قراءة ابن مسعود أيضاً: وقد وقع عند النسائي(3/511)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ ويَزيدَ هُوَ ابنُ أبي عُبَيْد مَوْلَى سلَمةَ بنِ الأكْوَعِ.
ـــــــ
من طريق ابن أبي نجيح عن عمرو بن دينار "يطوقونه" يكلفونه وهو تفسير حسن أي يكلفونه إطاقته انتهى. وقال فيه أيضاً: ورجح ابن المنذر النسخ من جهة قوله {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال: لأنها لو كانت في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام لم يناسب أن يقال له "وأن تصوموا خير لكم" مع أنه لا يطيق الصيام انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي "ويزيد هو ابن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع" ثقة من الرابعة(3/512)
باب ما جاء من أكل ثم خرج يريد سفرا"
...
75 ـ باب مَنْ أَكلَ ثمّ خَرَجَ يُريدُ سَفَرا
796 ـ حدثنا قُتَيْبةُ حدثنا عبدُ الله بنُ جَعْفَرٍ عن زيدِ بن أسْلَمَ عن محمدِ بنِ المُنْكَدِرِ عن محمدِ بنِ كَعْبٍ أنّهُ قال: "أتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ في رمَضَانَ وهُوَ يُريدُ سَفَراً وقد رُحلَتْ لهُ راحِلَتُهُ وَلَبِسَ ثِيَابَ السّفَرِ فَدَعا بِطَعامٍ فأَكلَ فقُلْتُ لهُ سُنّةٌ؟ فقالَ سَنّةٌ ثمّ رَكِبَ".
ـــــــ
باب مَنْ أَكلَ ثمّ خَرَجَ يُريدُ سَفَرا
قوله: "أخبرنا عبد الله بن جعفر" بن نجيح السعدي مولاهم أبو جعفر المدني والد علي بصري أصله من المدينة ضعيف من الثامنة يقال تغير حفظه بآخره، كذا في التقريب. وقال الذهبي في الميزان: متفق على ضعفه لكنه لم يتفرد بهذا الحديث بل تابعه محمد بن جعفر في الرواية الآتية وهو ثقة "وقد رحلت له راحلته" أي وضع الرحل على راحلته لركوبه السفر. والراحلة هي البعير القوي على الأسفار والأحمال يستوي فيه الذكر وغيره، وهاؤه للمبالغة "فقلت له سنة" أي هذا سنة؟ "فقال سنة" فيه دليل لمن قال إنه يجوز للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج. وفي الباب حديث عبيد بن جبير قال: كنت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع ثم قرب غداءه قال: اقترب. قلت: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأكل، أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري والحافظ في التلخيص، وقال الشوكاني في النيل: رجال إسناده ثقات.(3/512)
797 ـ حدثنا محمدُ بنُ إسماعيلَ حدثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَم حدثنا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ قال حَدّثَني زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ قال حَدّثَني محمدُ بنُ المُنْكَدِرِ عن محمدِ بنِ كَعْبٍ قال: "أتَيْتُ أَنَسَ بنَ مالِكٍ في رَمَضَانَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ ومحمدُ بنُ جَعْفَرٍ هُوَ ابنُ أَبي كَثِيرٍ هو مَدِينِيّ ثِقَةٌ وهُو أخُو إسماعِيلَ بنِ جَعْفَرٍ وعَبْدُ الله بنُ جَعْفَرٍ هُوَ ابنُ نَجيحٍ والِدُ عليّ بنِ المَديِنيّ. وكانَ يَحْيى بنُ معِين يُضَعّفُهُ. وقد ذَهَبَ بعْضُ أهْلِ العِلمِ إلى هذا الحَدِيثِ وقالوا لِلْمُسافِرِ أَنْ يُفْطِرَ في بَيْتِهِ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ وليْس لهُ أَنْ يَقْصُرَ الصّلاَةَ حتّى يَخْرُجَ مِنْ جِدارِ المَدينَةِ أوِ القَرْيَةِ وهُوَ قَوْلُ إسحاقَ بنِ إبراهيم
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن" ولا بأس بكون عبد الله بن جعفر في الطريق الأولى فإنه لم يتفرد به بل تابعه محمد بن جعفر في الطريق الثانية وهو ثقة.
قوله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث الخ" قال الشوكاني في النيل: وهذان الحديثان يعني حديث أنس وحديث عبيد بن جبر يدلان على أنه يجوز للمسافر أن يفطر قبل خروجه من الموضع الذي أراد السفر منه. قال ابن العربي في العارضة: هذا صحيح ولم يقل به إلا أحمد، أما علماؤنا فمنعوا منه، لكن اختلفوا: إذا أكل هل عليه كفارة؟ فقال مالك: لا، وقال أشهب هو متأول، وقال غيرهما: يكفر ونحب أن لا يكفر لصحة الحديث ولقول أحمد عذر يبيح الإفطار فطريانه1 على الصوم يبيح الفطر كالمرض، وفرق بأن المرض لا يمكن دفعه بخلاف السفر قال ابن العربي: وأما حديث أنس فصحيح يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر ثم ذكر أن قوله من السنة لا بد من أن يرجع إلى التوقيف. والخلاف في ذلك معروف في الأصول. والحق أن قول الصحابي من السنة ينصرف إلى سنة الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صرح هذان الصحابيان بأن الإفطار للمسافر قبل مجاوزة البيوت من السنة انتهى ما في النيل "وهو قول إسحاق بن إبراهيم" هو إسحقاق بن راهويه
ـــــــ
1 كذا بالأصل ولعل الصواب "فسريانه على الصوم"(3/513)
76ـ باب ما جَاءَ في تُحْفَةِ الصّائِم
798 ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنيعٍ، حدثنا أبُو مُعَاوِيةَ عن سعدِ بنِ طَريفٍ عن عُمَيْرِ بنِ مأْمُونٍ عنِ الحَسَنِ بنِ عَلِي قالَ: قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تُحْفَةُ الصّائِمِ الدّهْنُ والمِجْمَرُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ ليْسَ إِسْنَادُهُ بِذاكَ لا نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حديثِ سَعْدِ بنِ طَريف. وسَعْد بن طريف يُضَعّفُ ويُقَالُ عُمَيْرُ بنُ مأْمُومٍ أَيْضاً.
ـــــــ
باب ما جَاءَ في تُحْفَةِ الصّائِم
قوله: "عن سعد بن طريف" الحنظلي الكوفي متروك ورماه ابن حبان بالوضع وكان رافضياً كذا في التقريب "عن عمير بن مأمون" مقبول من الرابعة.
قوله: "تحفة الصائم الدهن والمجمر" بكسر الميم هو الذي يوضع فيه النار للبخور. قال في النهاية: يعني أنه يذهب عنه مشقة الصوم وشدته، والتحفة طرفة الفاكهة وقد تفتح الحاء والجمع التحف ثم تستعمل في غير الفاكهة من الألطاف والنغض انتهى. فإذا زار أحدكم أخاه وهو صائم فليتحفه بذلك.
قوله: "هذا حديث غريب ليس إسناده بذاك" أي ليس إسناده بالقوى "وسعد يضعف" قال ابن معين: لا يحل لأحد أن يروي عنه، وقال أحمد وأبو حاتم ضعيف الحديث وقال النسائي والدارقطني متروك، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الفور، وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم، كذا في الميزان. وذكر الذهبي فيه حديث الباب من منكراته.
قوله: "ويقال عمير بن مأموم أيضاً" يعني بالميم بدل النون(3/514)
77 ـ باب ما جَاءَ في الفِطْرِ والأضْحَى مَتى يكُون
799 ـ حدثنا يَحْيى بنُ موسى، حدثنا يَحْيى بنُ اليَمانِ عن مَعْمَرٍ عن
ـــــــ
"باب ما جاء في الفطر والأضحى متى يكون"
وقد بوب الترمذي فيما تقدم بلفظ: باب ما جاء أن الفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون، وذكر فيه حديث أبي هريرة مرفوعاً: الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون وحسنه.(3/514)
محمد بن المندكر عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحّي الناس"
قال أبو عيسى: سألت محمدا قلت له: محمد بن المنكدر سمع من عائشة؟ قال : نعم يقول في حديثه سمعت عائشة.
قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه.
ـــــــ
قوله: الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس" قال الترمذي فيما تقدم: فسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس انتهى، قال في سبل السلام: فيه دليل على أنه يعتبر في ثبوت العيد الموافقة للناس وأن المنفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره ويلزمه حكمهم في الصلاة والإفطار والأضحية انتهى. وقد تقدم الكلام في هذا.(3/515)
78 ـ باب ما جَاءَ في الإعْتِكافِ إذَا خَرَجَ مِنْه
800ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارِ حدثنا ابنُ أبي عَدِي قال: أنْبأَنَا حُمَيْدٌ الطّوِيلُ عن أنَسِ بنِ مالِكٍ قالَ: "كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمضَانَ، فَلَم يَعتَكِف عاماً. فلمّا كانَ في العَامِ المُقْبِلِ اعتكَفَ عِشْرِينَ".
ـــــــ
.باب ما جاء في الاعتكاف إذا خرج منه"
قد عقد الترمذي فيما تقدم باب الاعتكاف ثم عقد عدة أبواب لا تعلق لها بالاعتكاف ثم عقد هذا الباب وهذا ليس بمستحسن، وكان له أن يسوق أبواب الاعتكاف كلها متوالية متناسقة.
قوله: " فلم يعتكف عاماً" قال القاري: لعله كان لعذر انتهى. قلت: الظاهر أن عدم اعتكافه كان لعذر السفر، يدل عليه ما أخرجه النسائي واللفظ له وأبو داود وصححه ابن حبان وغيره من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فسافر عاماً فلم يعتكف فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين، كذا في الفتح "فلما كان العام المقبل" اسم فاعل من الإقبال " "اعتكف عشرين"" بكسر العين والراء وقيل بفتحهما على التثنية،(3/515)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِنْ حديث أَنَسٍ بن مالك. واخْتَلَفَ أَهْلُ العلمِ في المُعْتَكِفِ إذَا قَطَعَ اعْتِكَافَهُ قَبْلَ أَنْ يُتِمّهُ على ما نَوَى، فقالَ بَعْضُ أَهلِ العِلمِ إذَا نَقَضَ اعْتِكَافَهُ وَجَبَ عليهِ القَضَاءُ، واحْتَجّوا بالحَدِيثِ: "أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ فاعْتَكَفَ عَشْراً مِنْ شَوّالٍ، وهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وقالَ بَعْضُهُمْ: إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَذْرُ اعْتِكَافٍ أَو شَيْءٌ أَوْجَبَهُ على نَفْسِهِ وكانَ مُتَطَوّعاً فَخَرَجَ فَلَيْسَ عليهِ أَنْ يَقْضِيَ، إِلاّ أنْ يُحبّ ذلكَ اخْتِيَاراً مِنْهُ ولا يَجِبُ ذلكَ عليهِ". وهُوَ قَوْلُ الشّافَعِيّ.
قالَ الشّافِعِيّ: فكُلّ عَمَلٍ لَكَ أن لا تَدْخُلَ فيهِ، فإِذَا دَخَلْتَ فيهِ فَخَرَجْتَ مِنْهُ فَلَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَقْضِيَ إلاّ الحَجّ والعُمْرَةَ. وفي البابِ عن أَبي هُرَيْرَةَ.
ـــــــ
قال في اللمعات: أي اهتماماً ودلالة على التأكيد لا لأن ما فات من النوافل المؤقتة يقضي انتهى. ووجه المناسبة بالترجمة أنه صلى الله عليه وسلم لما قضى الاعتكاف لمجرد النية وكان لم يشرع فيه بعد فقضاؤه بعد الشروع أولى بالثبوت كذا في بعض الحواشي.
قوله هذا حديث حسن غريب صحيح من حديث أنس وأخرجه النسائي وأبو داود من حديث أبي بن كعب وصححه ابن حبان وغيره كما تقدم.
قوله: " "قبل أن يتمه على ما نوى" " أي قبل إتمامه على قدر ما نوى، "فقال بعض أهل العلم: إذا نقض اعتكافه وجب عليه القضاء واحتجوا بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من اعتكافه فاعتكف عشراً من شوال" " أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وفي حديث البخاري: فترك الاعتكاف ذلك الشهر ثم اعتكف عشراً من شوال، ولفظ " "خرج من اعتكافه" " ليس في واحد من هذه الكتب الخمسة ولم أقف على من أخرج الحديث بهذا اللفظ "وهو قول مالك" وبه قال الحنفية " "وهو قول الشافعي"" وأجاب الشافعي ومن تبعه عن حديث عائشة المذكور بأن قضاءه صلى الله عليه وسلم للاعتكاف كان على طريق الاستحباب لأنه كان إذا عمل عملاً أثبته ولهذا لم ينقل أن نساءه اعتكفن معه في شوال " "وكل عمل"" مبتدأ " "لك أن لا تدخل فيه"" صفة للمبتدأ أو هو كناية عن أن يكون نفلاً.
قوله: " "وفي الباب عن أبي هريرة"" لينظر من أخرجه(3/516)
79ـ باب المُعْتَكِفِ يَخْرُجُ لَحاجَتِهِ أَمْ لا؟
801 ـ حدثنا أَبو مُصْعَبٍ المدني قِرَاءَةً عن مَالِكِ بنِ أَنَسٍ عن ابنِ شِهَابٍ عن عُرْوَةَ و عَمْرَةَ عن عَائِشَةَ أَنها قالَتْ: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا اعْتَكَفَ أدْنَى إِليّ رَأْسَهُ فأُرَجّلُهُ، وكانَ لا يَدْخُلُ البَيْتَ إلا لِحاجَةِ الإنْسَانِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. هَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ
ـــــــ
باب المُعْتَكِفِ يَخْرُجُ لَحاجَتِهِ أَمْ لا؟
قوله: "عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة" كذا وقع في النسخ الموجودة عندنا عن عروة وعمرة عن عائشة بالجمع بينهما والصواب أن يكون عن عروة عن عمرة عن عائشة يدل عليه قول الترمذي الاَتي: وهكذا رواه غير واحد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة. وقال الحافظ في الفتح: ورواه مالك يعني عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عمرة. قال أبو داود وغيره: لم يتابع عليه، وذكر البخاري أن عبيد الله بن عمر تابع مالكاً وذكر الدارقطني أن أبا أويس رواه كذلك عن الزهري انتهى ما في الفتح "أدنى" أي قرب "إلي" بتشديد الياء "رأسه" زاد الشيخان في روايتهما: وهو في المسجد "فأرجله" من الترجيل وهو تسريح الشعر وهو استعمال المشط في الرأس أي أمشطه وأدهنه. قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث جواز التنظيف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقاً بالترجل. والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد. وعن مالك: تكره فيه الصنائع والحرف حتى طلب العلم انتهى. وقال ابن الملك: فيه دليل على أن المعتكف لو أخرج بعض أجزائه من المسجد لا يبطل اعتكافه "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" فسرها الزهري بالبول والغائظ وقد اتفقوا على استئنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب ولو خرج لهما فتوضأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما القيء والفصد لمن احتاج إليه.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.(3/517)
عَنْ مَالِكِ عن ابنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ وعَمرةَ عن عَائِشَةَ ورواه بعضهم عن مالك عن ابنِ شِهَابٍ عن عُرْوَةَ عن عَمْرَةَ عن عَائِشَةَ والصّحِيحُ عن عُرْوَةَ وعَمْرَةَ عن عَائِشَةَ.
802 ـ حدثنا بِذَلِكَ قُتَيْبةُ حدثنا اللّيْثُ بن سعد عن ابن شهاب عن عروة و عمرة عن عائشة والعملُ على هذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلمِ إذَا اعْتَكَفَ الرّجُلُ أن لا يخرج من اعتكافه الا لحاجة الانسان واجتمعوا على هذا أنه يخرج لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ لِلْغَائِطِ والْبَوْلِ. ثُمّ اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلمِ في عِيَادَةِ المرِيضِ وشُهُودِ الجُمُعَةِ والجَنَازَةِ للمُعْتَكِفِ، فَرَأَى بَعْضُ أَهلِ العِلمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغَيْرِهِمْ أَنْ يَعُودَ المرِيضَ ويُشَيّعَ الجَنَازَةَ ويَشْهَدَ الجُمُعَةَ إذا اشْتَرَطَ ذَلِكَ، وهوُ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ وابنِ المُبَاركِ
ـــــــ
قوله: "والصحيح عن عروة وعمرة عن عائشة، هكذا روى الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة" روى البخاري في صحيحه قال: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة وعن عمرة بنت عبد الرحمَن أن عائشة الخ. قال الحافظ في الفتح: قوله: عن عروة وعمرة كذا في رواية الليث جمع بينهما ورواه يونس عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة وحده، ورواه مالك عنه عن عروة عن عمرة إلى آخر ما نقلنا عبارته فيما تقدم ثم قال: واتفقوا على أن الصواب قول الليث وأن الباقين اختصروا منه ذكر عمرة، وأن ذكر عمرة في رواة مالك من المزيد في متصل الأسانيد، وقد رواه بعضهم عن مالك فوافق الليث. انتهى كلام الحافظ.
قوله: "وأجمعوا على هذا أنه يخرج لقضاء حاجته للغائط والبول" وكذا لغسل الجناية أن لا يمكنه الاغتسال في المسجد "فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن يعود المريض ويشيع الجنازة ويشهد الجمعة إذا اشترط ذلك" أي في ابتداء اعتكافه "وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك" وهو قول إسحاق كما بينه الترمذي فيما بعد. قال الحافظ في الفتح: وقال الثوري والشافعي وإسحاق: إن شرط شيئاً من ذلك يعني عيادة المريض وتشييع الجنازة وشهود الجمعة لم يبطل اعتكافه بفعله وهو رواية عن أحمد انتهى. قلت: قولهم(3/518)
وقالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لَهُ أنْ يَفْعَل شَيْئاً مِنْ هذَا وَرَأَوْا للمُعْتَكِفِ إذَا كانَ في مِصْرٍ يُجَمّعُ فيهِ أنْ لا يَعْتَكِفَ إلاّ في مَسْجِدِ الجَامِعِ لأنّهُم كَرِهُوا الخُرُوجَ له مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلى الجُمُعَةِ، ولَمْ يَرَوْا لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الجُمُعَةَ فقالوا لا يَعْتَكِفُ إلاّ في مَسْجِدِ الجَامِعِ حتّى لا يَحْتَاجَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِغَيْرِ قضاءِ حاجةِ الإنسانِ لأن خروجه لِغَيْرِ حاجةِ الإنْسَانِ قَطْعٌ عِنْدَهُمْ للاْعتِكَافِ، هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ والشّافِعِيّ. وقالَ أحمدُ: لاَ يَعُودُ المَرِيضَ ولاَ يَتْبَعُ الجَنَازَةَ على حَدِيثِ عَائِشَةَ. وقال إسحاقُ: إن اشْتَرَطَ ذلكَ فَلَهُ أنْ يَتْبَعَ الجَنَازَةَ ويَعُودَ المَريِضَ.
ـــــــ
هذا محتاج إلى دليل صحيح "وقال بعضهم: ليس له أن يفعل شيئاً من هذا" واحتجوا بما روى أبو داود من طريق عبد الرحمَن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا ما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. قال أبو داود غير عبد الرحمَن لا يقول فيه السنة. وقال المنذري في مختصره: وعبد الرحمَن بن إسحاق أخرج له مسلم ووثقه يحيى بن معين وأثنى عليه غيره، وتكلم فيه بعضهم انتهى، وقال الحافظ في بلوغ المرام بعد ذكر هذا الحديث: لا بأس برجاله إلا أن الراجح وقف آخره وقال في فتح الباري: وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها: لا يخرج إلا لحاجة، وما عداه ممن دونها، وروينا عن علي والنخعي والحسن البصري إن شهد المعتكف جنازة أو عاد مريضاً أو خرج للجمعة بطل اعتكافه، وبه قال الكوفيون وابن المنذر إلا في الجمعة انتهى. يعني أن الكوفيين يقولون: إذا خرج المعتكف للجمعة لا يبطل اعتكافه، وإن شهد الجنازة أو عاد مريضاً يبطل. قال صاحب شرح الوقاية: ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان أو للجمعة وقت الزوال انتهى. وقال الأمير اليماني في سبل السلام في شرح حديث عائشة قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً الخ ما لفظه: فيه دلالة على أنه لا يخرج المعتكف لشيء مما عينته هذه الرواية وأيضاً لا يخرج لشهود الجمعة وأنه إن فعل(3/519)
ـــــــ
ذلك بطل اعتكافه، وفي المسألة خلاف كبير ولكن الدليل قائم على ما ذكرناه انتهى كلام الأمير. قلت: ويؤيده حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يسأل عن المريض إلا ماراً في اعتكافه ولا يعرج عليه، أخرجه أبو داود وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف والصحيح عن عائشة من فعلها وكذلك أخرجه مسلم وغيره، وقال ابن حزم صح ذلك عن علي، كذا في التلخيص "ورأوا للمعتكف إذا كان في مصر يجمع فيه لا يعتكف إلا في المسجد الجامع الخ" هذا هو المختار عندي والله تعالى أعلم(3/520)
80 ـ باب ما جَاءَ في قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَان
803 ـ حدثنا هَنّادٌ، حدثنا محمدُ بنُ الفُضَيْلِ عن دَاوُدَ بنِ أبي هِنْدٍ عن الوَلِيدِ بنِ عَبْدِ الرحمَنِ الجُرَشِيّ عن جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ عن أَبي ذَرَ قال: "صُمْنَا مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُصَلّ بِنَا حتّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنَ الشّهْرِ فقامَ بِنَا حتَى ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ ثُمّ لَمْ يَقُمْ بِنَا في السّادِسَةِ وقَامَ بِنَا في الخَامِسَةِ حتّى ذَهَبَ شَطْرُ اللّيْلِ، فَقُلْنَا له يا رسولَ الله لو نفّلْتَنَا بَقِيّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ؟ فَقَالَ إنّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإمَامِ حَتّى يَنْصَرِفَ هو كُتِبَ لَهُ قِيَامُ
ـــــــ
باب ما جَاءَ في قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَان
قوله : "صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي في رمضان "فلم يصل بنا" أي لم يصل بنا غير الفريضة من ليالي شهر رمضان، وكان إذا صلى الفريضة دخل حجرته "حتى بقي سبع من الشهر" أي ومضى اثنان وعشرون. قال الطيبي: أي سبع ليال نظراً إلى المتيقن وهو أن الشهر تسع وعشرون فيكون القيام في قوله "فقام بنا" أي ليلة الثالثة والعشرين، والمراد بالقيام صلاة الليل "حتى ذهب ثلث الليل" أي صلى بنا بالجماعة صلاة الليل إلى ثلث الليل، وفيه ثبوت صلاة التراويح بالجماعة في المسجد أو الليل "ثم لم يقم بنا في السادسة" أي مما بقي وهي الليلة الرابعة والعشرون " "وقام بنا في الخامسة"" وهي الليلة الخامسة والعشرون "حتى ذهب شطر الليل" أي نصفه "لو نفلتنا" من التنفيل "بقية ليلتنا هذه" أي لو جعلت بقية الليل زيادة لنا على قيام الشطر. وفي النهاية: لو زدتنا من الصلاة النافلة سميت(3/520)
لَيْلَةٍ. ثُمّ لَمْ يُصَلّ بِنَا حَتى بَقِيَ ثَلاَثٌ مِنَ الشهْرِ وصَلّى بِنَا في الثّالِثَةِ وَدَعَا أَهْلَهُ ونِسَاءَهُ فَقَامَ بِنَا حَتّى تَخَوّفْنَا الفَلاَحَ، قُلْتُ لَهُ: ومَا الفَلاَحُ؟ قالَ: "السّحورُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
بها النوافل لأنها زائدة على الفرائض. قال المظهر: تقديره لو زدت قيام الليل على نصفه لكان خيراً لنا، ولو للتمني "إنه" ضمير الشأن "من قام مع الإمام" ي من صلى الفرض معه " "حتى ينصرف"" أي الإمام "كتب له قيام ليلة" أي حصل له قيام ليلة تامة، يعني أن الأجر حاصل بالفرض وزيادة النوافل مبنية على قدر النشاط لأن الله تعالى لا يمل حتى تملوا، والظاهر أن المراد بالفرض العشاء والصبح لحديث ورد بذلك " "حتى بقي ثلاث من الشهر" " أي الليلة السابعة والعشرون والثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون " "وصلى بنا في الثالثة" " وهي الليلة السابعة والعشرون " "ودعا أهله ونساءه"" وفي رواية أبي داود: جمع أهله ونساءه والناس " "قلت:"" قائلة جبير بن نفير " "له"" أي لأبي ذر " "ما الفلاح؟ قال السحور" " بالضم والفتح قال في النهاية: السحور بالفتح اسم ما يتسحر به من الطعام والشراب وبالضم المصدر والفعل نفسه، وأكثر ما يروي بالفتح، وقيل الصواب بالضم لأنه بالفتح الطعام، والبركة والأجر والثواب في الفعل لا في الطعام انتهى. قال القاضي: الفلاح الفوز بالبغية، سمي السحور به لأنه يعين على إتمام الصوم وهو الفوز بما كسبه ونواه والموجب للفلاح في الآخرة وقال الخطابي: أصل الفلاح البقاء وسمي السحور فلاحاً إذا كان سبباً لبقاء الصوم ومعيناً عليه انتهى.
تنبيه: إعلم أنه لم يرد في حديث أبي ذر هذا بيان عدد الركعات التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليالي، لكن قد ورد بيانه في حديث جابر رضي الله عنه وهو أنه صلى الله عليه وسلم، صلى في تلك الليالي ثمان ركعات ثم أوتر كما ستقف عليه.
قوله: " "هذا حديث حسن صحيح"" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وسكت عنه أبو داود. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وقال ابن حجر المكي: هذا الحديث صححه الترمذي والحاكم انتهى.(3/521)
واخْتَلَفَ أَهْلُ العِلمِ في قِيَامِ رَمَضَانَ، فَرَأَىَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُصَلّيَ إحْدَى وأَرْبَعِينَ رَكْعَةً مَعَ الوِتْرِ، وهُوَ قَوْلُ أَهْلِ المَدِينَةِ، والعَمَلُ على هذَا عِنْدَهُمْ بالمَديِنَةِ.
ـــــــ
قوله: " "واختلف أهل العلم في قيام رمضان"" أي في عدد ركعات التراويح "فرأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعون ركعة مع الوتر" وهو قول أهل المدينة، ولم أر فيه حديثاً مرفوعاً لا صحيحاً ولا ضعيفاً وروي فيه أثار، فأخرج محمد بن نصر في قيام الليل عن محمد بن سيرين أن معاذاً أبا حليمة القاري كان يصلي بالناس في رمضان إحدى وأربعين ركعة وعن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال: أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعين يوترون منها بخمس انتهى. قال العيني: قال شيخنا يعني الحافظ العراقي: وهو أكثر ما قيل فيه. قال العيني: وذكر ابن عبد البر في الاستذكار عن الأسود بن يزيد: كان يصلي أربعين ركعة ويوتر بسبع هكذا ذكره. ولم يقل إن الوتر من الأربعين "والعمل على هذا عندهم بالمدينة" قول الترمذي هذا يخالف ما رواه محمد بن نصر عن ابن أيمن قال مالك: أستحب أن يقوم الناس في رمضان بثمان وثلاثين ركعة ثم يسلم الإمام والناس ثم يوتر بهم بواحدة، وهذا العمل بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم انتهى. قال العيني بعد ذكر هذه الرواية: هكذا روى ابن أيمن عن مالك وكأنه جمع ركعتين من الوتر مع قيام رمضان وإلا فالمشهور عن مالك ست وثلاثون والوتر بثلاث والعدد واحد انتهى كلام العيني. قلت تأويل العيني رواية ابن أيمن بقوله: وكأنه جمع الخ يرده لفظ رواية ابن أيمن فتفكر.
إعلم أن الترمذي رحمه الله في قيام رمضان قولين: الأول: إحدى وأربعون ركعة مع الوتر، والثاني: عشرون ركعة، وفيه أقوال كثيرة لم يذكرها الترمذي قلنا أن نذكرها. قال العيني في عمدة القاري بعد ذكر القول الأول: ورواية ابن أيمن عن مالك المذكورة ما لفظه: وقيل: ست وثلاثون، وهو الذي عليه عمل أهل المدينة، وروى ابن وهب قال: سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن نافع قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعاً وثلاثين ركعة ويوترون منها بثلاث.
وقيل: أربع وثلاثون على ما حكي عن زرارة بن أوفي أنه كذلك كان يصلي بهم في العشر الأخير.(3/522)
ـــــــ
وقيل: ثمان وعشرون، وهو المروى عن زرارة بن أوفى في العشرين الأولين من الشهر، وكان سعيد بن جبير يفعله في العشر الأخير.
وقيل: أربع وعشرون وهو مروي عن سعيد بن جبير.
وقيل عشرون، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، فإنه مروىيعن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة وهو قول أصحابنا الحنفية.
وقيل: إحدى عشرة ركعة، وهو اختيار مالك لنفسه واختاره أبو بكر بن العربي انتهى كلام العيني.
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في رسالته المصابيح في صلاة التراويح: قال الجوزي من أصحابنا عن مالك أنه قال: الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إلي وهو إحدى عشرة ركعة وهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له إحدى عشرة ركعة بالوتر؟ قال نعم وثلاث عشرة قريب ، قال ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير انتهى.
قلت: القول الراجح المختار الأقوى من حيث الدليل هو هذا القول الأخير الذي اختاره مالك لنفسه أعني إحدى عشرة ركعة، وهو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسند الصحيح، بها أمر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وأما الأقوال الباقية فلم يثبت واحد منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صحيح ولا ثبت الأمر به عن أحد من الخلفاء الراشدين بسند صحيح خال عن الكلام. فأما ما قلنا من أن إحدى عشرة ركعة هي الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمَن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً الحديث. فهذا الحديث الصحيح نص صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.
تنبيه: قد ذكر العيني رحمه الله في عمدة القاري تحت هذا الحديث أسئلة مع أجوبتها وهي مفيدة فلنا أن نذكرها قال: الأسئلة والأجوبة منها أنه ثبت في الصحيح من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأول يجتهد(3/523)
ـــــــ
فيه ما لا يجتهد في غيره، وفي الصحيح أيضا من حديثها كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد ميزرة، وهذا يدل على أنه كان يزيد في العشر الأواخر على عادته فكيف يجمع بينه وبين حديث الباب.
فالجواب: أن الزيادة في العشر الأواخر يحمل على التطويل دون الزيادة في العدد.
ومنها أن الروايات اختلف عن عائشة رضي الله عنها في عدد ركعات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، ففي حديث الباب: إحدى عشرة ركعة، وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه: كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، وفي رواية مسروق أنه سألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر، وفي رواية إبراهيم عن الأسود عن عائشة أنه كان يصلي الليل تسع ركعات، رواه البخاري والنسائي وابن ماجه.
والجواب: أن من عدها ثلاث عشرة أراد بركعتي الفجر، وصرح بذلك في رواية القاسم عن عائشة رضي الله عنها: كانت صلاته بالليل عشر ركعات ويوتر بسجدة ويركع بركعتي الفجر فتلك ثلاث عشرة ركعة، وأما رواية سبع وتسع فهي في حالة كبره وكما سيأتي إن شاء الله تعالى انتهى كلام العيني.
قلت: الأمر كما قال العيني رحمه الله في الجواب عن السؤال الثاني. وأما الجواب عن السؤال الأول ففيه أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد يصلي ثلاث عشرة ركعة سوى الفجر ، فروى مسلم في صحيحه من حديث زيد بن خالد الجهني أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة، فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهمادون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما. ثم أوتر. فلذلك ثلاث عشرة ركعة، فالأحسن في الجواب أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان يفتح صلاته بالليل بركعتين خفيفتين كما في هذا الحديث، وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين.
وروي أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم من الليل فليفتح صلاته بركعتين خفيفتين". فقد عدت هاتان الركعتان الخفيفتان، فصار قيام الليل ثلاث عشرة ركعة. ولما لم تعد لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخففهما، صار إحدى عشرة ركعة والله تعالى أعلم.(3/524)
ـــــــ
ويدل على هذا القول الأخير الذي اختاره مالك لنفسه، أعني إحدى عشرة ركعة حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد، ورجونا أن يخرج فلم نزل فيه حتى أصبحنا ثم دخلنا فقلنا: يا رسول الله اجتمعنا البارحة في المسجد، ورجونا أن تصلي بنا. فقال إني خشيت أن يكتب عليكم رواه الطبراني في الصغير ومحمد بن نصر المروزي في قيام الليل، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
قال الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال بعد ذكر هذا الحديث: إسناده وسط انتهى. وهذا الحديث صحيح عند ابن خزيمة وابن حبان، ولذا أخرجاهما في صحيحهما. وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذا الحديث في فتح الباري لبيان عدد الركعات التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بالناس في شهر رمضان، فهو صحيح عنده أو حسن، فإنه قد قال في مقدمة الفتح: فأسوق إن شاء الله تعالى الباب وحديثه أولاً، ثم أذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية ثم استخرج ثانياً ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث، من الفوائد المتنية والإسنادية، من تتمات وزيادات وكشف غامض، وتصريح مدلس بسماع، ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، كل من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والاجزاء والفوائد، بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك انتهى.
فإن قلت: قال النيموي في آثار السنن بعد ذكر حديث جابر المذكور: في إسناده لين. وقال في تعليقه: مداره على عيسى بن جارية ثم ذكر جرح ابن معين والنسائي وأبي داود، وتوثيق أبي زرعة وابن حبان. ثم قال: قول الذهبي إسناده وسط ليس بصواب بل إسناده دون وسط انتهى.
قلت: قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: الذهبي من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال انتهى. فلما حكم الذهبي بأن إسناده وسط بعد ذكر الجرح والتعديل في عيسى بن جارية وهو من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال، فحكمه بأن إسناده وسط هو الصواب ويؤيده إخراج ابن خزيمة وابن حبان هذا الحديث في صحيحيهما ولا يلتفت إلى ما قال النيموي، ويشهد لحديث جابر هذا حديث عائشة المذكور: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.
ويدل على هذا القول الأخير الذي اختاره مالك أعني إحدى عشرة ركعة ما رواه أبو يعلى من حديث جابر بن عبد الله قال: جاء بن أبي كعب إلى رسول الله(3/525)
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه كان مني الليلة شيء يعني في رمضان، قال "وما ذاك يا أبي؟" قال نسوة في داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك. قال فصليت بهن ثمان ركعات وأوترت. فكانت سنة الرضا، ولم يقل شيئاً . قال الهيثمي في مجمع الزوائد: إسناده حسن.
وأما ما قلنا من أن بإحدى عشرة ركعة أمر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فلأن الإمام مالك رحمه الله روى في موطئه عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب رضي الله عنه وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة وكان القارئ يقرأ حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر. ورواه أيضاً سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة قال النيموي في آثار السنن: إسناده صحيح.
فإن قلت: قال الحافظ في الفتح بعد ذكر أثر عمر رضي الله عنه هذا: ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف فقال: إحدى وعشرين انتهى. وقال الزرقاني في شرح الموطأ قال ابن عبد البر: روى غير مالك في هذا إحدى وعشرون. وهو الصحيح، ولا أعلم أحداً قال فيه إحدى عشرة إلا مالك. ويحتمل أن يكون ذلك أولاً ثم خفف عنهم طول القيام ونقلهم إلى إحدى وعشرين إلا أن الأغلب عندي أن قوله إحدى عشرة وهم انتهى.
قلت: قول ابن عبد البر أن الأغلب عندي أن قوله إحدى عشرة وهم باطل جداً قال الزرقاني في شرح الموطأ بعد ذكر قول ابن عبد البر هذا ما لفظه: ولا وهم وقوله: إن مالكاً انفرد به ليس كما قال. فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف فقال: إحدى عشرة كما قال مالك انتهى كلام الزرقاني. وقال النيموي في آثار السنن: ما قاله ابن عبد البر من وهم مالك فغلط جداً، لأن مالكاً قد تابعه عبد العزيز بن محمد عند سعيد بن منصور في سننه، ويحيى بن سعيد القطان عند أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه، كلاهما عن محمد بن يوسف وقالا إحدى عشرة. كما رواه مالك عن محمد بن يوسف. وأخرج محمد بن نصر المروزي قي قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال كنا نصلي في زمن عمر رضي الله عنه في رمضان ثلاث عشرة ركعة(3/526)
وأَكْثَرُ أهْلِ العِلمِ على ما رُوِيَ عن عُمَر وعلي وغَيْرِهِمَا مِنْ أَصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ رَكْعَةً.
ـــــــ
قال النيموي: هذا قريب مما رواه مالك عن محمد بن يوسف أي مع الركعتين بعد العشاء انتهى كلام النيموي.
قلت: فلما ثبت أن الإمام مالكاً لم ينفرد بقوله: إحدى عشرة بل تابعه عليه عبد العزيز بن محمد وهو ثقة ويحيى بن سعيد القطان إمام الجرح والتعديل، قال الحافظ في التقريب: ثقة متقن حافظ إمام ظهر لك حق الظهور أن قول ابن عبد البر أن الأغلب أن قوله إحدى عشرة وهم ليس بصحيح بل لو تدبرت ظهر لك أن الأمر على خلاف ما قال ابن عبد البر، أعني أن الأغلب أن قول غير مالك في هذا الأثر إحدى وعشرون كما في رواية عبد الرزاق وهم، فإنه قد انفرد هو بإخراج هذا الأثر بهذا اللفظ، ولم يخرجه به أحد غيره فيما أعلم. وعبد الرزاق وإن كان ثقة حافظاً لكنه قد عمي في آخر عمره فتغير. كما صرح به الحافظ في التقريب. وأما الإمام مالك فقال الحافظ في التقريب: إمام دار الهجرة رأس المتقنين وكبير المثبتين حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر انتهى. ومع هذا لم ينفرد هو بإخراج هذا لأثر بلفظ: إحدى عشرة بل أخرجه أيضاً بهذا اللفظ سعيد بن منصور وابن أبي شيبة كما عرفت.
فالحاصل أن لفظ: إحدى عشرة. في أثر عمر بن الخطاب المذكور صحيح ثابت محفوظ، ولفظ إحدى وعشرون في هذا الأثر غير محفوظ والأغلب أنه وهم والله تعالى أعلم.
قوله: "وأكثر أهل العلم على ما روي عن علي وعمر وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عشرين ركعة" أما أثر علي رضي الله عنه فأخرجه البيهقي في سننه وابن أبي شيبة عن أبي الحسناء: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمر رجلاً أن يصلي بالناس خمس ترويحات عشرين ركعة. قال النيموي في تعليق آثار السنن: مدار هذا الأثر على أبي الحسناء وهو لا يعرف انتهى.
قلت الأمر كما قال النيموي قال الحافظ في التقريب في ترجمة أبي الحسناء: أنه مجهول وقال الذهبي في ميزانه: لا يعرف انتهى. وروى عن علي أثر آخر فروى البيهقي في سننه من طريق حماد بن شعيب عن عطاء بن السائب عن أبي(3/527)
ـــــــ
عبد الرحمَن السلمي عن علي رضي الله تعالى عنه ودعاء القراء في رمضان فأمر منهم رجلاً يصلي بالناس عشرين ركعة، قال وكان علي رضي الله تعالى عنه يوتر بهم. وروي ذلك من وجه آخر عن علي. قال النيموي بعد ذكر هذا الأثر: حماد بن شعيب ضعيف. قال الذهبي في الميزان: ضعفه ابن معين وغيره. وقال يحي مرة: لا يكتب حديثه. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي، أكثر حديثه مما لا يتابع عليه انتهى كلام النيموي قلت: الأمر كما قال النيموي.
فائدة قال الشيخ ابن الهمام في التحرير: إذا قال البخاري للرجل فيه نظر فحديثه لا يحتج به، ولا يستشهد به ولا يصلح للاعتبار انتهى كلام ابن الهمام. قلت: فأثر على هذا لا يحتج به ولا يستشهد به ولا يصلح للاعتبار فإن في سنده حماد بن شعيب وقال البخاري فيه نظر.
تنبيه يستدل بهذين الأثرين على أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أمر أن يصلي التروايح عشرين ركعة. وعلي أنه رضي الله عنه صلى التروايح عشرين ركعة وقد عرفت أن هذين الأثرين ضعيفان لا يصلحان للاستدلال. ومع هذا فهما مخالفان لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث الصحيح.
وأما أثر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمر رجلاً يصلي بهم عشرين ركعة. قال النيموي في آثار السنن: رجاله ثقات، لكن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يدرك عمر رضي الله تعالى عنه انتهى.
قلت: الأمر كما قال النيموي فهذا الأثر منقطع لا يصلح للاحتجاج ومع هذا فهو مخالف لما ثبت بسند صحيح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. أخرجه مالك في الموطأ. وقد تقدم، وأيضاً هو مخالف لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث الصحيح. وأما أثر عمر رضي الله تعالى عنه الذي أخرجه عبد الرزاق فقد عرفت حاله، وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن عبد العزيز بن رفيع قال: كان أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة ويوتر بثلاث. قال النيموي عبد العزيز بن رفيع لم يدرك أبي بن كعب انتهى. قلت الأمر كما قال النيموي، فأثر أبي بن كعب هذا منقطع. ومع هذا فهو مخالف لما ثبت عن(3/528)
وَهُوَ قَوْلُ الثّوْرِيّ وابنِ المُبَارَكِ والشّافِعيّ.رحمه الله وقَالَ الشّافِعيّ:
ـــــــ
عمر رضي الله تعالى عنه أنه أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وأيضاً هو مخالف لما ثبت عن أبي بن كعب أنه صلى في رمضان بنسوة داره ثمان ركعات وأوتر. وقد تقدم ذكره بتمامه. وفي قيام الليل قال الأعمش: كان أي ابن مسعود "وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي" وهو قول الحنفية واستدل لهم بما روى ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني وعنه البيهقي من طريق إبراهيم بن عثمان أبي شيبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر انتهى. وهذا الحديث ضعيف جداً لا يصلح للاستدلال، فاستدلالهم بهذا الحديث ليس بصحيح. قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: وهو معلول بابن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان جد الإمام أبي بكر بن أبي شيبة، وهو متفق على ضعفه، ولينه ابن عدي في الكامل، ثم إنه مخالف للحديث الصحيح عن أبي سلمة بن عبد الرحمَن: أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة. الحديث انتهى كلام الزيلعي، وقال النيموي في تعليق آثار السنن: وقد أخرجه عبد بن حميد الكشي في مسنده والبغوي في معجمه، والطبراني في معجمه الكبير والبيهقي في سننه، كلهم من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان جد الإمام أبي بكر بن أبي شيبة وهو ضعيف، قال البيهقي بعد ما أخرجه: انفرد به أبو شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي وهو ضعيف انتهى. وقال المزي في تهذيب الكمال: قال أحمد ويحيى وأبو داود ضعيف، وقال يحيى أيضاً ليس بثقة، وقال النسائي والدولابي متروك الحديث وقال أبو حاتم ضعيف الحديث سكتوا عنه، وقال صالح ضعيف لا يكتب حديثه. ثم قال المزي ومن مناكيره حديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة انتهى. وهكذا في الميزان، وقال الحافظ في التقريب: متروك الحديث انتهى كلام النيموي، وقال الشيخ ابن الهمام في فتح القدير بعد ذكر هذا الحديث: ضعيف بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان جد(3/529)
الإمام أبي بكر بن أبي شيبة، متفق على ضعفه مع مخالفته للصحيح انتهى، وقال العيني في عمدة القاري بعد ذكر هذا الحديث وأبو شيبة هو إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي قاضي واسط جد أبي بكر بن أبي شيبة كذبه شعبة وضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي وغيرهم. وأورد له ابن عدي هذا الحديث في الكامل في مناكيره انتهى.
واستدل لهم أيضاً بما روى البيهقي في سننه عن السائب بن يزيد قال: كنا نقوم في زمان عمر ابن الخطاب بعشرين ركعة والوتر وصحح إسناده السبكي في شرح المنهاج وعلي القاري في شرح الموطأ.
قلت: في سنده أبو عثمان البصري واسمه عمرو بن عبد الله قال النيموي في تعليق آثار السنن: لم أقف من ترجم له انتهى. قلت لم أقف أنا أيضاً على ترجمته مع التفحص الكثير وأيضاً في سنده أبو طاهر للفقيه شيخ البيهقي ولم أقف على من وثقه. فمن ادعى صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كون كل منهما ثقة قابلاً للاحتجاج. فإن قلت قال التاج السبكي في الطبقات الكبرى في ترجمة أبي بكر الفقيه: كان إمام المحدثين والفقهاء في زمانه وكان شيخاً أديباً عارفاً بالعربية، له يد طولى في معرفة الشروط، وصنف فيه كتاباً انتهى. فهذا يدل على كونه ثقة قلت: لا دلالة في هذا على كونه ثقة قابلاً للاحتجاج، نعم فيه دلالة على كونه جليل القدر في الحديث والفقه والعربية ومعرفة الشروط، ولكن لا يلزم من هذا كونه ثقة فالحاصل أن في صحة هذا الأثر نظراً وكلاماً، ومع هذا فهو معارض بما رواه سعيد بن منصور في سننه قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثني محمد بن يوسف سمعت السائب بن يزيد يقول: كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإحدى عشرة ركعة. قال الحافظ جلال الدين السيوطي في رسالته المصابيح في صلاة التراويح بعد ذكر هذا الأثر: إسناده في غاية الصحة انتهى، وأيضاً هو معارض بما رواه محمد بن نصر في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنا نصلي في زمن عمر رضي الله عنه في رمضان ثلاث عشرة ركعة، وهو أيضاً معارض بما رواه مالك في الموطأ، عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، فأثر السائب بن يزيد(3/530)