.....................................................................................................
ـــــــ
كما ستعرف ولو سلم أنه صحيح فليس فيه دلالة على النسخ لاحتمال أن بلالا كان مذهبه الإباحة والتخيير.
وأجاب العيني في البناية بأن ما رواه الشافعي محمول على الجمع بين الكلمتين في الإقامة والتفريق في الأذان وعلى الإتيان قولا بحيث لا ينقطع الصوت.
ورد بأن هذا تأويل باطل يبطله حديث عبد الله بن زيد المذكور بلفظ ثم تقول إذا أقمت الصلاة الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، وكذا يبطله حديث أنس المذكور فتأويل العيني هذا مردود عليه.
والحق أن أحاديث إفراد الإقامة صحيحة ثابتة محكمة ليست بمنسوخة ولا بِمُؤَلَة، نعم قد ثبت أحاديث تثنية الإقامة أيضا وهي أيضا محكمة ليست بمنسوخة ولا بِمُؤَلَة، وعندي الإفراد والتثنية كلاهما جائزان والله تعالى أعلم. قال الحافظ في الفتح: قال ابن عبد البر ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن حبان وابن جرير إلى ذلك من الاختلاف المباح فإن ربع التكبير الأول في الأذان أو ثناه أو رجع في التشهد أو لم يرجع أو ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا قد قامت الصلاة فالجميع جائز، وعن ابن خزيمة إن ربع الأذان ورجع فيه ثنى الإقامة وإلا أفردها، قيل ولم يقل بهذا التفصيل أحد قبله انتهى كلام الحافظ.(1/579)
142 ـ بابُ مَا جَاءَ أَنّ الاْقَامَةَ مَثْنَى مثنى
194 ـ حدثنا أَبُو سَعِيدٍ الأْشَجّ حدثنا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ عن ابْنِ أَبي لَيْلَى
ـــــــ
"باب ما جاء في أن الإقامة مثنى مثنى" أي مرتين مرتين
قوله: "حدثنا أبو سعيد الأشج" اسمه عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي الكوفي، ثقة من صغار العاشرة كذا في التقريب، قلت روى عنه الإئمة الستة "نا عقبة بن خالد" بن عقبة السكوني أبو مسعود الكوفي المجدر بالجيم، صدوق صاحب حديث "عن ابن أبي ليلى" هو محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى الفقيه المقرئ، حدث عن الشعبي وعطاء(1/579)
عن عَمْرِو بْنِ مُرّةَ عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عن عَبْدِ الله بْنِ زَيْدٍ قالَ: "كَانَ أَذَانُ رَسول الله صلى الله عليه وسلم شَفْعاً شَفْعاً: فِي الأْذَانِ وَالإْقامَةِ".
قال أبو عيسى: حَدِيثُ عَبْد الله بْنِ زَيْدٍ رَوَاهُ وَكِيعٌ عن الأعْمَشِ عن عَمْرِو بْنِ مُرّةَ عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلَى "قالَ: حدثنا أَصْحَابُ مُحَمّدِ صلى الله عليه وسلم": "أَنّ عَبْدَ الله بْنَ زَيْدٍ رَأى الأذَانَ فِي المنَامِ".
ـــــــ
والحكم ونافع وعمرو بن مرة وطائفة، وكان أبوه من كبار التابعين فلم يدرك الأخذ عنه حدث عنه شعبة والسفيانان وزائدة ووكيع وخلائق، قاله الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ وقال حديثه في وزن الحسن ولا يرتقي إلى الصحة لأنه ليس بالمتقن عندهم انتهى. "عن عمرو بن مرة" بن عبد الله بن طارق الجملي المرادي أبي عبد الله الكوفي الأعمى ثقة عابد كان لا يدلس ورمي بالإرجاء وهو من رجال الكتب الستة "عن عبد الرحمن بن أبي ليلى" الأنصاري المدني ثم الكوفي ثقة من الثانية كذا في التقريب، وقال في الخلاصة أدرك مائة وعشرين من الصحابة الأنصاريين مات سنة ثلاث وثمانين.
قوله : "شفعا شفعا" أي مثنى مثنى "في الأذان والإقامة" استدل به من قال بتثنية الإقامة، وحديث إفراد الإقامة أصح وأثبت وقد ثبت بطريقين صحيحين عن عبد الله بن زيد إفراد الإقامة كما عرفت فيما تقدم.
قوله : "حديث عبد الله بن زيد رواه وكيع عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام" أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، فقال حدثنا وكيع ثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إن عبد الله بن زيد الأنصاري جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران فقام على حائط فأذن مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى، وأخرجه البيهقي في سننه عن وكيع به قال في الإمام وهذا رجال الصحيح وهو متصل على مذهب الجماعة في عدالة الصحابة وأن جهالة أسمائهم لا تضر كذا في نصب الراية.(1/580)
وَقالَ شُعْبَةُ عن عَمْرو بْنِ مُرّةَ عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلَى: "أَنّ عَبْد الله بْنَ زَيْدٍ رَأى الأذَانَ فِي الْمنَامِ".
وَهَذَا أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى.
وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ الله بْنِ زَيْدٍ.
ـــــــ
قلت في إسناده الأعمش وهو مدلس ورواه عن عمرو بن مرة بالعنعنة "وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمَن بن أبى ليلى قال ثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ" لم أقف عليه.
قوله: "وهذا أصح من حديث ابن أبي ليلى" أي المذكور في الباب "وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من عبد الله بن زيد" قال البيهقي في كتاب المعرفة حديث عبد الرحمن بن أبى ليلى قد اختلف عليه فيه فروى عنه عن عبد الله بن زيد وروى عنه عن معاذ بن جبل وروى عنه قال حدثنا أصحاب محمد قال ابن خزيمة عبد الرحمن ابن أبى ليلى لم يسمع من معاذ ولا من عبد الله بن زيد، وقال محمد بن إسحاق لم يسمع منهما ولا من بلال فإن معاذا توفي في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة وبلال توفي بدمشق سنة عشرين وعبد الرحمن ابن أبى ليلى لست بقين من خلافة عمر، وكذلك قاله الواقدي ومصعب الزبيري فثبت انقطاع حديثه انتهى كلامه كذا في نصب الراية ص 140 ج1 وحديث عبد الله بن زيد هذا له روايات، فمنها ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ومنها ما أخرجه الطحاوي بلفظ قال أخبرني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد الأنصاري رأى في المنام الأذان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال علمه بلالا فأذن مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى وقعد قعدة، قال بعضهم إسناده صحيح.
قلت في إسناده أيضا الأعمش ورواه عن عمرو بن مرة بالعنعنة، ومنها ما أخرجه البيهقي في الخلافيات من طريق أبى العميس قال سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري يحدث عن أبيه عن جده أنه أرى الأذان مثنى مثنى والإقامة مثنى مثنى، قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال علمهن بلالا قال فتقدمت فأمرني أن أقيم قال الحافظ في الدراية إسناده صحيح.
قلت: ذكر تثنية الإقامة في هذا الحديث غير محفوظ فإنه قد تفرد به أبو أسامة عن(1/581)
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الأذَانُ مَثْنَى مَثْنَى، وَالإْقَامَةُ مَثْنَى مَثْنَى.
ـــــــ
أبي العميس ورواه عبد السلام بن حرب عنه فلم يذكر فيه تثنية الإقامة وعبد السلام بن حرب أعلم الكوفيين بحديث أبي العميس وأكثرهم عنه رواية، قال الزيلعي في نصب الراية نقلا عن البيهقي: وقد رواه عبد السلام بن حرب عن أبي العميس فلم يذكر فيه تثنية الإقامة وعبد السلام أعلم الكوفيين بحديث أبي العميس وأكثرهم عنه رواية انتهى، ومنها ما أخرجه أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ في صحيحه عن عمرو بن شبة عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي عن عبد الله بن زيد الأنصاري سمعت أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أذانه وإقامته مثنى مثنى.
قلت: في إسناده انقطاع لأن الشعبي لم يثبت سماعه من عبد الله بن زيد، وفيه المغيرة وهو ابن مقسم وهو مدلس وروى هذا الحديث عن الشعبي بالعنعنة.
وفي الباب عن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة أخرجه الترمذي في باب الترجيع في الأذان والنسائي والدارمي.
قوله : "قال بعض أهل العلم الأذان مثنى مثنى والإقامة مثنى مثنى وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأهل الكوفة" وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه قال الشوكاني في النيل: وقد اختلف الناس في ذلك فذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أن ألفاظ الإقامة إحدى عشرة كلمة كلها مفردة إلا التكبير في أولها وآخرها، ولفظ قد قامت الصلاة فإنها مثنى مثنى. واستدلوا بهذا الحديث يعني حديث أنس المذكور في الباب المتقدم، وحديث عبد الله بن زيد يعني الذي ذكرناه في الباب المتقدم وحديث ابن عمر يعني الذي أشار إليه الترمذي في الباب المتقدم، قال الخطابي مذهب جمهور العلماء والذي جرى به العمل في الحرمين والحجاز والشام واليمن ومصر والمغرب إلى أقصى بلاد الإسلام أن الإقامة فرادى، قال أيضاً مذهب كافة العلماء أنه يكرر قوله قد قامت الصلاة إلا مالكا فإن المشهور عنه أنه لا يكررها وذهب الشافعي في قديم قوليه إلى ذلك. قال النووي ولنا قول شاذ أنه يقول في التكبير الأول الله أكبر مرة وفي الأخيرة مرة، ويقول قد قامت الصلاة مرة قال ابن سيد الناس: وقد ذهب إلى القول بأن الإقامة إحدى عشرة كلمة. عمر بن الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ويحيى بن يحيى وداود وابن المنذر. قال البيهقي ممن قال بإفراد الإقامة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير(1/582)
قال أبو عيسى: ابْنُ أَبي لَيْلَى هُوَ "مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى" كَانَ قَاضِيَ الْكوفَةِ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ شَيْئاً، إِلاّ أَنّهُ يَرْوِي عن رَجُلٍ عن أَبِيهِ.
ـــــــ
وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز، قال البغوي هو قول أكثر العلماء وذهبت الحنفية والثوري وابن المبارك وأهل الكوفة إلى أن ألفاظ الإقامة مثل الأذان عندهم مع زيادة قد قامت الصلاة مرتين. واستدلوا بما في رواية من حديث عبد الله بن زيد عند الترمذي وأبي داود بلفظ: كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعا شفعا في الأذان والإقامة وأجيب عن ذلك بأنه منقطع كما قال الترمذي، وقال الحاكم والبيهقي الروايات عن عبد الله بن زيد في هذا الباب كلها منقطعة. وقد تقدم ما في سماع ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد. ويجاب عن هذا الانقطاع بأن الترمذي قال بعد إخراج هذا الحديث عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد ما لفظه: وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام قال الترمذي وهذا أصح انتهى. وقد روى ابن أبي ليلى عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وعثمان وسعد بن أبي وقاص وأبيّ بن كعب والمقداد وبلال وكعب بن عجرة وزيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان وصهيب وخلق يطول ذكرهم، وقال أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم من الأنصار، فلا علة للحديث لأنه على الرواية عن عبد الله بدون توسيط الصحابة مرسل عن الصحابة وهو في حكم المسند، وعلى روايته عن الصحابة عنه مسند ومحمد بن عبد الرحمن وإن كان بعض أهل الحديث يضعفه فمتابعة الأعمش إياه عن عمرو بن مرة ومتابعة شعبة كما ذكر ذلك الترمذي مما يصحح خبره وإن خالفاه في الإسناد وأرسلا فهي مخالفة غير قادحة.
واستدلوا أيضاً بما رواه الحاكم والبيهقي في الخلافيات والطحاوي من رواية سويد بن غفلة أن بلال كان يثني الأذان والإقامة وادعى الحاكم فيه الانقطاع. قال الحافظ: ولكن في رواية الطحاوي سمعت بلالا، ويؤيد ذلك ما رواه بن أبي شيبة عن جبر بن علي عن شيخ يقال له الحفص عن أبيه عن جده وهو سعد القرظ قال: أذن بلال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أذن لأبي بكر في حياته ولم يؤذن في زمان عمر، وسويد بن غفلة هاجر في زمن أبي بكر. وأما ما رواه أبو داود من أن بلالا ذهب إلى الشام في حياة أبي بكر(1/583)
وبه يقول سفيان "الثّوْريّ", وَابْنُ المْبَارَكِ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ.
ـــــــ
فكان بها حتى مات فهو مرسل، وفي إسناده عطاء الخراساني وهو مدلس، وروى الطبراني في مسند الشاميين من طريق جنادة بن أبي أمية عن بلال أنه كان يجعل الأذان والإقامة مثنى مثنى. وفي إسناده ضعف. قال الحافظ وحديث أبي محذورة في تثنية الإقامة مشهور عند النسائي وغيره انتهى، وحديث أبي محذورة حديث صحيح ساقه الحازمي في الناسخ والمنسوخ وذكر فيه الإقامة مرتين مرتين. وقال هذا حديث حسن على شرط أبي داود والترمذي والنسائي. وسيأتي ما خرجه عنه الخمسة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة وهو حديث صححه الترمذي وغيره وهو متأخر عن حديث بلال الذي فيه الأمر بإيتار الإقامة لأنه بعد فتح مكة لأن أبا محذورة من مسلمة الفتح وبلالا أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان فيكون ناسخاً، وقد روى أبو الشيخ أن بلالا أذن بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرتين مرتين وأقام مثل ذلك، إذا عرفت هذا تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها وأحاديث الإقامة وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين لكن أحاديث إفراد التثنية مشتملة على الزيادة فالمصير إليها لازم لاسيما مع تأخر تاريخ بعضها كما عرفناك وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفراد الإقامة وتثنيتها قال أبو عمر بن عبد البر ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير، وقالوا كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال الله أكبر أربعا في أول الأذان ومن شاء ثنى ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله قد قامت الصلاة فإن ذلك مرتان على كل حال انتهى.
قلت: ما ذهب إليه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما من جواز إفراد الإقامة وتثنيتها هو القول الراجح المعول عليه بل هو المتعين عندي، ولما كانت أحاديث إفراد الإقامة أصح وأثبت من أحاديث تثنيتها لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين كان الأخذ بها أولى. وأما قول الشوكاني لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة فالمصير إليها لازم ففيه نظر كما لا يخفى على المتأمل.
قوله : "وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأهل الكوفة" وهو قول أبي حنيفة قال الحازمي في كتاب الاعتبار في باب تثنية الإقامة بعد ذكر حديث أبي محذورة الذي(1/584)
................................................................................................
ـــــــ
فيه: وعلمني الإقامة مرتين ما لفظه: اختلف أهل العلم في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن الإقامة مثل الأذان مثنى مثنى وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأهل الكوفة، واحتجوا في الباب بهذا الحديث يعني حديث أبي محذورة ورأوه محكما ناسخا لحديث بلال ثم ذكر حديث بلال بإسناده عن أنس بلفظ إنهم ذكروا الصلاة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال نوروا نارا أو اضربوا قوساً فأمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وقال هذا حديث صحيح عليه، ثم قال قالوا وهذا ظاهر في النسخ لأن بلالا، بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان على ما دل عليه حديث أنس وأما حديث أبي محذورة كان عام حنين وبين الوقتين مدة مديدة، قال وخالفهم في ذلك أكثر أهل العلم فرأوا أن الإقامة فرادى وذهبوا في ذلك إلى حديث أنس وأجابوا عن حديث أبي محذورة بوجوه منها: أن من شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة في جميع جهات الترجيحا على ما قدرناه في مقدمة الكتاب، وغير مخفي على من الحديث صناعته أن حديث أبي محذورة لا يوازي حديث أنس في جهة واحدة في الترجيحات فضلاً عن الجهات كلها، ومنها أن جماعة من الحفاظ ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في ثثنية الإقامة غير محفوظة، بدليل ما أخبرنا به إبو إسحاق إبراهيم بن علي الفقيه فذكر بإسناده عن إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة أخبرني جدي عبد الملك بن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وقال عبيد الله بن الزبير الحميدي عن إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك قال أدركت جدي وأبي وأهلي يقيمون فيقولون الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمد رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر لا إله إلا الله، ونحو ذلك حكى الشافعي عن ولد أبي محذورة في بقاء أبي محذورة وولده على إفراد الإقامة دلالة ظاهرة على وهم وقع فيما روى في حديث أبي محذورة من تثنية الإقامة قال: ثم لو قدرنا أن هذه الزيادة محفوظة وأن الحديث ثابت ولكنه منسوخ وأذان بلال هو آخر الأذانين لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من حنين ورجع إلى المدينة أقر بلالا على أذانه وإقامة انتهى كلام الحازمي.
قلت: قد تكلم القاضي الشوكاني على هذه الوجوه التي ذكرها الحازمي في الجواب(1/585)
.........................................................................................................
ـــــــ
عن حديث أبي محذورة فقال: وقد أجاب القائلون بإفراد الإقامة عن حديث أبي محذورة بأجوبة: منها أن من شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة، وهذا ممنوع فإن المعتبر في الناسخ مجرد الصحة لا الأصحية. ومنها أن جماعة من الأئمة ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة ورووا من طريق أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة كما ذكر ذلك الحازمي في الناسخ والمنسوخ وأخرجه البخاري في تاريخه والدارقطني وابن خزيمة. وهذا الوجه غير نافع لأن القائلين بأنها غير محفوظة غاية ما اعتذروا به عدم الحفظ وقد حفظ غيرهم من الأئمة كما تقدم، ومن علم حجة على من لا يعلم. وأما رواية إيتار الإقامة عن أبي محذورة فليست كرواية التشفيع على أن الاعتماد على الرواية المشتملة على الزيادة. ومن الأجوبة أن تثنية الإقامة لو فرض أنها محفوظة وأن الحديث بها ثابت لكانت منسوخة، فإن أذان بلال هو آخر الأمرين لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من حنين ورجع إلى المدينة أقر بلالا على أذانه وإقامته، قالوا وقد قيل لأحمد بن حنبل أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة، قال أليس قد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقر بلالا على الأذان عبد الله بن زيد. وهذا أنهض ما أجابوا به ولكنه متوقف على نقل صحيح أن بلالاً أذن بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأفرد الإقامة ومجرد قول أحمد بن حنبل لا يكفي فإن ثبت ذلك كان دليلا لمذهب من قال بجواز الكل ويتعين المصير إليها لأن فعل كل واحد من الأمرين عقب الآخر مشعر بجواز الجميع لا بالنسخ انتهى كلام الشوكاني.
قلت: قد ثبت أن بلالا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإفراد الإقامة وقد ثبت أيضا أنه أذن حياته صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من حنين أمر بلالا بتثنية الإقامة ومنعه من إفرادها فالظاهر هو ما قال الإمام أحمد والله تعالى أعلم.(1/586)
143 ـ بابُ مَا جَاءَ فِي التّرَسّلِ فِي الأَذَان
ـــــــ
"باب ما جاء في الترسل في الأذان"
أي بقطع الكلمات بعضها عن بعض والتأني في التلفظ بها قال ابن قدامة: الترسل(1/586)
195 ـ حدثنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَن حدثنا المُعَلّي بْنُ أَسَدٍ حدثنا عَبْدُ المُنْعِم هُوَ صَاحِبُ السّقَاءِ، قَالَ: حدثنا يَحْيَى بْنُ مُسْلِمٍ عن الْحَسنِ وَعَطاءٍ عن جَابِرِ "بْنِ عَبْدِ الله" أَنّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبَلاَلٍ: "يَا بِلاَلُ، إِذَا أَذّنْتَ فَتَرَسّلْ فِي أَذَانِكَ، وَإذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ، وَاجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الاَكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلاَ تَقُومُوا حَتّى تَرَوْنِي" .
ـــــــ
التمهل والتأني من قولهم جاء فلان على رسله، والحدر ضد ذلك وهو الإسراع وقطع التطويل وهذا من آداب الأذان ومستحباتة، قال: الأذان إعلام الغائبين والتثبت فيه أبلغ في الإعلام، والإقامة إعلام الحاضرين فلا حاجة إلى التثبت فيها
قوله : "نا المعلي" بفتح ثانيه وتشديد اللام المفتوحة "بن أسد" العمي البصري أخو بهز ثقة ثبت لم يخطئ إلا في حديث واحد كذا في التقريب "نا عبد المنعم" بن نعيم الأسواري أبو سعيد البصري "هو صاحب السقاء" هو لقب عبد المنعم، ولعله كان يسقي الناس الماء قال الحافظ في التقريب متروك "نا يحيى بن مسلم" البصري، قال الحافظ مجهول "عن الحسن وعطاء" الحسن هو الحسن بن يسار البصري وعطاء وهو عطاء بن أبي رباح المكي.
قوله : "إذا أذنت فترسل" أي تأن ولا تعجل والرسل بكسر الراء وسكون السين التؤدة والترسل طلبه "وإذا أقمت فاحدر" أي أسرع وعجل في التلفظ بكلمات الإقامة كذا في المجمع، وقال الحافظ في التلخيص الحدر بالحاء والدال المهملتين الإسراع، ويجوز في قوله فاحدر ضم الدال وكسرها قال ابن قدامة وروى أبو عبيد بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمؤذن بيت المقدس إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحذم، قال الأصمعي وأصل الحذم في المشي إنما هو الإسراع وأن يكون مع هذا كأنه يهوي بيديه إلى خلفه انتهى "والمعتصر" هو من يؤذيه بول أو غائط أي يفرغ الذي يحتاج إلى الغائط ويعصر بطنه وفرجه كذا في المجمع والمرقاة "ولا تقوموا حتى تروني" أي خرجت وسيأتي توضيح هذا في باب الإمام أحق بالإقامة.(1/587)
196 ـ حدثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ حدثنا يُونُسُ بْن مُحَمّدٍ عن عَبْدِ الْمنْعِم نَحَوهُ.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا حَدِيثٌ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ المِنْعِمِ، وَهُوَ إِسْنَادٌ مَجْهُولٌ.
"وَعَبْدُ الْمنْعِمِ شَيْخٌ بَصْرِيّ".
ـــــــ
قوله : "وهو إسناد مجهول" فإن فيه يحيى بن مسلم البصري وهو مجهول، قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر هذا الحديث وذكر كلام الترمذي هذا ما لفظه: وعبد المنعم هذا ضعفه الدارقطني وقال أبو حاتم منكر الحديث جدا لا يجوز الاحتجاج به وأخرجه الحاكم في مستدركه عن عمرو بن فائد الأسواري ثنا يحيى بن مسلم به سواء ثم قال هذا حديث ليس في إسناده مطعون فيه غير عمر وبن فائد ولم يخرجاه انتهى، قال الذهبي في مختصره وعمرو بن فائد قال الدارقطني متروك انتهى، وقال الحافظ في التلخيص: وروى الدارقطني من حديث سويد بن غفلة عن علي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نرتل الأذان ونحدر الإقامة وفيه عمرو بن شمر وهو متروك وقال البيهقي روي بإسناد آخر عن الحسن وعطاء عن أبي هريرة ثم ساقه وقال الإسناد الأول أشهر يعني طريق جابر، وروى الدارقطني من حديث عمر موقوفا نحوه وليس في إسناده إلا أبو الزبير مؤذن بيت المقدس وهو تابعي قديم مشهور انتهى وحديث جابر المذكور في الباب أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وابن عدي وضعفوه إلا الحاكم فقال ليس في إسناده مطعون غير عمرو بن فائد، قال الحافظ لم يقع إلا في روايته هو ولم يقع في رواية الباقين لكن عندهم فيه عبد المنعم صاحب السقاء وهو كاف في تضعيف الحديث انتهى.
فائدة : حديث الباب يدل على أن المؤذن يقول كل كلمة من كلمات الأذان بنفس واحد فيقول التكبيرات الأربع في أول الأذان بأربعة، أنفس ثم يقول: الله أكبر بنفس آخر ثم يقول الله أكبر بنفس آخر ثم يقول: الله أكبر بنفس آخر وعلى هذا يقول كل كلمة بنفس واحد لكن قال النووي في شرح مسلم قال أصحابنا يستحب للمؤذن أن يقول كل تكبيرتين بنفس واحد، فيقول في أول الأذان الله أكبر الله أكبر بنفس واحد، ثم يقول الله أكبر الله أكبر بنفس آخر،(1/588)
.........................................................................................................
ـــــــ
انتهى. ووجهه بأن الإقامة إحدى عشرة كلمة منها الله أكبر الله أكبر أولا وآخرا وهذا وإن كان صورة تثنية فهو بالنسبة إلى الأذان إفراد. وتعقب عليه الحافظ في الفتح بأن هذا إنما يتأتى في أول الأذان لا في التكبير الذي في آخره، وعلى ما قال النووي ينبغي للمؤذن أن يفرد كل تكبيرة من اللتين في آخره بنفس انتهى. قلت: ما قال الحافظ حسن موجه لكن يستأنس لما قال النووي من أن المؤذن يقول كل تكبيرتين بنفس واحد في أول الأذان وفي آخره بما رواه مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال أشهد أن محمداً رسول الله قال أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله، من قلبه دخل الجنة" انتهى. فقوله صلى الله عليه وسلم إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر في أول الأذان وكذا في آخره يدل بظاهره على ما قال النووي والله تعالى أعلم.(1/589)
144 ـ بابُ مَا جَاءَ "فِي" إِدخالِ الإصَبْعِ "فِي" الأُذُنِ عِنْدَ الأَذَان
197 ـ حدثنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حدثنا عَبْدُ الرّزّاق أخبرنا سُفْيَانُ "الثّوْرِيّ" عن عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "رَأَيْتُ بِلاَلاً يُؤَذّنُ وَيدُورُ، ويُتْبِعُ فَاهُ هاهنا وَهَاهُنَا،
ـــــــ
"باب ما جاء في إدخال الإصبع الأذن عند الأذان"
قوله: "عن عون بن أبي جحيفة" بتقديم الجيم على الحاء مصغرا السوائي ثقة "عن أبيه" هو أبو جحيفة واسمه وهب بن عبد الله السوائي مشهور بكنيته، ويقال له وهب الخير صحابي معروف وصحب عليا مات سنة 74 أربع وسبعين.
قوله : "رأيت بلالا يؤذن ويدور" أي عند الحيعلتين "ويتبع" من الإتباع "فاه" أي فمه "ههنا وههنا" أي يمينا وشمالا، وفي رواية وكيع عند مسلم قال فجعلت أتتبع(1/589)
وَإصْبَعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي قُبّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ، أُرَاهُ قَالَ: مِن أَدَم، فَخَرجَ بِلاَلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ بالعَنَزَةِ فَرَكَزَهَا بِالْبَطْحَاءِ، فَصَلّى إِلَيْهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَمُرّ بَيْنَ يَدِيْهِ الكلْبُ وَالْحِمَارُ، وَعَلَيْهِ حُلّةُ حمْرَاءُ، كَأَنّي أَنْظُرُ إِلَى بَرِيقِ سَاقَيْةِ، قَالَ سُفْيَانُ: نُرَاهُ حِبَرَةً".
ـــــــ
فاه ههنا وههنا يمينا وشمالا يقول حي على الصلاة حي على الفلاح. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذه الرواية: فيه تقييد للالتفات في الأذان وأن محله عند الحيعلتين انتهى. وروى هذا الحديث قيس بن الربيع عن عون فقال فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدر، أخرجه أبو داود. قال الحافظ في الفتح ويمكن الجمع بأن من أثبت الاستدارة عنى استدارة الرأس ومن نفاها عنى استدارة الجسد كله انتهى "وأصبعاه في أذنيه" جملة حالية أي جاعلا أصبعيه في أذنيه والأصبع مثلثة الهمزة والباء "ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة" قال الجزري في النهاية القبة من الخيام بيت صغير مستدير وهو من بيوت العرب "أراه" بضم الهمزة أي أظنه والظاهر أن قائل أراه هو عون والضمير المنصوب يرجع إلى أبي جحيفة "قال من أدم" بفتحتين جمع أديم أي جلد "بالعنزة" بفتح العين والنون والزاي عصا أقصر من الرمح لها سنان، وقيل هي الحربة القصيرة، قاله الحافظ. وقال الجزري في النهاية العنزة مثل نصف الرمح أو أكبر شيئا. وفيها سنان مثل سنان الرمح والعكازة قريب منها انتهى "فركزها" أي غرزها "بالبطحاء" يعني بطحاء مكة وهو موضع خارج مكة، وهو الذي يقال له الأبطح قاله الحافظ. قلت ويقال له المحصب أيضا "يمر بين يديه الكلب والحمار", قال الحافظ أي بين العنزة والقبلة لا بينه وبين العنزة، ففي رواية عمرو بن أبي زائدة ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة "وعليه حلة حمراء" الحلة بضم الحاء إزار ورداء، قال الجزري في النهاية الحلة واحد الحلل وهي برود اليمن ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد "كأني أنظر إلى بريق ساقيه" أي لمعانهما والبريق اللمعان "قال سفيان" هو الثوري الراوي عن عون "نراه حبرة" بكسر المهملة وفتح الموحدة أي نظن أن الحلة الحمراء التي كانت عليه صلى الله عليه وسلم لم تكن حمراء بحتا بل كانت حبرة يعني كانت فيها خطوط حمر فإن الحبرة على ما في(1/590)
قال أبو عيسى: حدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَسْتَحِبّونَ أَنْ يُدْخِلَ الْمُوَذّنُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْه فِي الأَذَانِ.
وَقَالَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ: وَفِي الإْقَامَةِ أَيْضاً، يُدخِلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. وَهُوَ قوْلُ الأوْزَاعِيّ.
ـــــــ
القاموس والمجمع هي ضرب من برود من اليمن موشى. مخطط وقال ابن المقيم إن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود، وغلط من قال إنها كانت حمراء بحتا. قال وهي معروفة بهذا الاسم انتهى وتعقب الشوكاني عليه بأن الصحابي قد وصفها بأنها حمراء وهو من أهل اللسان والواجب الحمل على المعنى الحقيقي وهو الحمراء البحت والمصير إلى المجاز أعني كون بعضها أحمر دون بعض لا يحمل ذلك الوصف عليه إلا لموجب فإن أراد أن ذلك معنى الحلة الحمراء لغة فليس في كتب اللغة ما يشهد لذلك، وإن أراد أن ذلك حقيقة شرعية فيها فالحقائق الشرعية لا تثبت بمجرد الدعوى انتهى كلام الشوكاني. وقد عقد الإمام البخاري في صحيحه بابا بلفظ باب الصلاة في الثوب الأحمر وأورد فيه هذا الحديث. قال الحافظ في الفتح: يشير إلى الجواز والخلاف في ذلك مع الحنفية فإنهم قالوا يكره وتأولوا حديث الباب بأنها كانت حلة من برود فيها خطوط حمر انتهى. ويأتي الكلام في هذه المسألة في موضعها بالبسط إن شاء الله. قوله: "حديث أبي جحيفة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم إلا أنهما لم يذكرا فيه إدخال الأصبعين في الأذنين ولا الاستدارة. وفي الباب عن عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد مؤدن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يجعل أصبعيه في أذنيه قال إنه أرفع لصوتك أخرجه ابن ماجه وهو حديث ضعيف. وفي الباب روايات أخرى.
قوله : "وعليه العمل عند أهل العلم يستحبون أن يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان" قالوا في ذلك فائدتان : إحداهما أنه قد يكون أرفع لصوته وفيه حديث ضعيف أخرجه أبو الشيخ من طريق سعد القرظ عن بلال. وثانيتهما أنه علامة للمؤذن ليعرف من رآه على بعد أو كان به صمم أنه يؤذن قاله الحافظ وقال لم يرد تعيين الإصبع التي يستحب وضعها وجزم النووي أنها المسبحة وإطلاق الإصبع مجاز عن الأنملة انتهى قوله: "وقال بعض أهل العلم وفي الإقامة أيضا يدخل إصبعيه في أذنيه وهو قول الأوزاعي" لا دليل عليه(1/591)
......................................................................................................
ـــــــ
من السنة. وأما القياس على الأذان فقياس مع الفارق. قال القارئ في المرقاة في شرح حديث عبد الرحمن بن سعد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يجعل إصبعيه في أذنيه قال إنه أرفع لصوتك ما لفظه: قال الطيبي ولعل الحكمة أنه إذا سد صماخيه لا يسمع إلا الصوت الرفيع فيتحرى في استقصائه كالأطرش، قيل وبه يستدل الأصم على كونه أذانا فيكون أبلغ في الإعلام. قال ابن حجر ولا يسن ذلك في الإقامة لأنه لا يحتاج فيها إلى أبلغية الإعلام لحضور السامعين انتهى "وأبو جحيفة اسمه وهب السوائي" بمضمومة وخفة واو فألف فكسر همزة نسبة إلى سواءة بن عامر كذا في المغني.(1/592)
145 ـ بابُ مَا جَاءَ فِي التّثْوِيبِ فِي الْفَجْر
198 ـ حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حدثنا أَبُو أَحْمَدَ الزّبَيْرِيّ حدثنا أبُو إِسْرَئِيلَ عن الْحَكم عن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عن بِلاَلٍ قَالَ:
ـــــــ
"باب ما جاء في التثويب في الفجر"
التثويب هو العود إلى الإعلام بعد الإعلام، ويطلق على الإقامة كما في حديث "حتى إذا ثوب أدبر حتى إذا فرغ أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه" ، وعلى قول المؤذن في أذان الفجر الصلاة خير من النوم، وكل من هذين تثويب قديم ثابت من وقته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وقد أحدث الناس تثويبا ثالثا بين الأذان والإقامة. قاله في فتح الودود: قلت ومراد الترمذي بالتثويب ههنا هو قول المؤذن في أذان الفجر الصلاة خير من النوم
قوله : "أبو أحمد الزبيري" بضم الزاء الموحدة هو محمد بن عبد الله بن الزبير بن درهم الأسدي الكوفي ثقة ثبت إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري، وهو من رجال الكتب الستة "أبو إسرائيل" يجيء ترجمته "عن الحكم" هو ابن عتيبة "عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال" عبد الرحمن هذا لم يسمع من بلال كما صرح به الحافظ في التلخيص.(1/592)
قَالَ "لِي" رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُثَوّبَنّ فِي شَيْءٍ مِنَ الصّلَوَات إِلاّ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ" .
"قَالَ": وفي البابِ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ.
قال أبو عيسى: حدِيثُ بِلاَلٍ لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حدِيث أَبِي إِسْرَئِيلَ المُلاَئيّ.
ـــــــ
قوله : "لا تثوبن في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر" من التثويب قال الجزري في النهاية: هو قوله الصلاة خير من النوم، وقال والأصل في التثويب أن يجيء الرجل مستصرخاً فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر فسمى الدعاء تثويباً لذلك، وكل داع مثوب وقيل إنما سمي تثويبا من ثاب يثوب إذا رجع فهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة وأن المؤذن إذا قال حي على الصلاة فقد دعاهم إليها وإذا قال بعدها الصلاة خير من النوم فقد رجع إلى كلام معناه المبادرة إليها انتهى كلام الجزري وحديث الباب أخرجه ابن ماجه والبيهقي وقال عبد الرحمن لم يلق بلالا.
قوله : "وفي الباب عن أبي محذورة" أخرجه أبو داود قال: قلت يا رسول الله علمني سنة الأذان الحديث، وفي آخره " فإن كان صلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله" : ورواه ابن حبان في صحيحه، وفي الباب أيضاً عن أنس قال من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر حي على الصلاة حي على الفلاح قال: الصلاة خير من النوم أخرجه ابن خزيمة في صحيحه والدارقطني ثم البيهقي في سننهما وقال البيهقي إسناده صحيح كذا في نصب الراية، وفي الباب أحاديث أخرى مذكورة فيه.
واعلم أنه قد ثبت كون الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم في آذان الفجر بعد حي على الفلاح حي على الفلاح من حديث أبي محذورة وبلال المذكورين وكذا من حديث ابن عمر قال الأذان الأول بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين رواه السراج والطبراني والبيهقي وسنده حسن كما صرح به الحافظ، وهو مذهب الكافة وهو الحق وأما ما قال الإمام محمد في موطئه من أن الصلاة خير من النوم يكون ذلك في نداء الصبح بعد الفراغ من النداء ففيه نظر.
قوله : "حديث بلال لا نعرفه إلا من حديث أبي إسرائيل الملائي" بمضمومة وخفة لام(1/593)
وأَبُو إسرائيلَ لم يسمعْ هَذا الحديث من الحكمِ "بن عُتيْبَةَ" قال: إنما رواه عن الحسن بنِ عُمَارة عن الحكم "بن عُتَيْبَةَ".
وأَبو إِسرَئيلَ اسْمُهُ "إسْمَعِيلُ بْنُ أَبِي إسْحاقَ" وَلَيْسَ "هُوَ" بِذاكَ الْقَوِيّ عِنْدَ أَهْل الْحَدِيثِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ التّثوِيبِ:
فقَالَ بَعْضُهُمُ: التّثْوِيبُ أَنْ يَقُولَ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ: "الصّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النّوْمِ" وَهوَ قَولُ ابْنِ المبَارَكِ وَأَحْمَدَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ فِي التّثْوِيبِ غَيْرَ هَذَا، قَالَ: ""التّثْوِيبُ المَكْرُوهُ" هُوَ شَيءٌ أَحْدَثَهُ النّاسُ بَعْدَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَذّنَ الْمؤَذّنُ فَاسْتَبْطَأَ الْقَوْمَ قَالَ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ: "قَدْ قَامَتِ الصّلاَةُ، حَيّ عَلَى الصّلاَةِ، حَيّ عَلَى الْفَلاَحِ".
ـــــــ
وبمد بياء في آخره نسبة إلى بيع الملاء نوع من الثياب "إنما رواه عن الحسن بن عمارة" وهو متروك "وأبو إسرائيل اسمه إسماعيل بن أبي إسحاق وليس بذاك القوي" قال الذهبي في الميزان أبو إسرائيل الملائي الكوفي هو إسماعيل بن أبي إسحاق خليفة ضعفوه وقد كان شيعيا بغيضاً من الغلاة الذين يكرهون عثمان. قال ابن المبارك لقد من الله على المسلمين بسوء حفظ أبي إسرائيل وذكر أقوال الجرح وقال الحافظ في التقريب صدوق سيء الحفظ.
قوله : "قال إسحاق في التثويب" أي في تفسيره "غير هذا" أي غير هذا الذي فسره به ابن المبارك وأحمد "قال" أي إسحاق "هو شيء أحدثه الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أذن المؤذن فاستبطأ القوم قال بين الأذان والإقامة قد قامت الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح" وبهذا التفسير قال الحنفية، قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر حديث الباب: اختلفوا في التثويب فقال أصحابنا يعني الحنفية هو أن يقول بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح مرتين، وقال الباقون هو قوله في الأذان الصلاة خير من النوم انتهى كلام الزيلعي. قلت قول الباقين هو(1/594)
"قَالَ": وَهَذَا الّذِي قَالَ إِسْحَاقُ: هُوَ التّثْوِيبُ الّذِي "قَدْ" كَرِهَهُ أهْلُ الْعِلْمِ، وَالّذِي أَحْدَثُوهُ بَعْدَ النّبِي صلى الله عليه وسلم.
وَالْذِي فَسّرَ ابْنُ الْمبَارَكِ وَأَحْمَدُ: أَنّ التّثْويبَ أَنْ يَقُولَ المْؤَذّنُ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ: "الصّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النّوْمِ".
وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ، وَيُقَال لَهُ "التّثْويبُ أَيْضاً".
وَهُوَ الّذِي اخْتَارَه أَهْلُ الْعِلْمِ وَرَأَوْهُ.
وَرُوِي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ أَنّهُ كَانَ يقُولُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ "الصّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النّوْمِ".
وَرُوِيَ عن مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عَبْد الله "بْن عُمَرَ" مَسْجِداً وَقَدْ أُذّنَ "فِيهِ", وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُصلّىَ "فِيهِ", فَثَوّبَ المؤَذّنُ، فَخَرَجَ عبْدُ الله بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمسْجِد وَقَالَ: اخْرُجْ بِنَا منْ عِنْدِ هَذَا المُبْتَدِعِ وَلَمْ يُصَلّ فِيهِ.
"قَالَ" وَإِنّمَا كَرِهَ عَبْدُ الله التّثْوِيبَ الّذِي أحْدَثَهُ النّاسُ بَعْدُ.
ـــــــ
قوله في الأذان الصلاة خير من النوم انتهى كلام الزيلعي. قلت قول الباقين هو الصحيح كما صرح به الترمذي وهو المراد في حديث الباب: وأما ما قال به إسحاق ومن تبعه فهو محدث كما صرح به الترمذي فكيف يكون مراداً في الحديث النبوي "والذي أحدثوه" عطف على الذي كرهه. قال التوربشتي أما النداء بالصلاة الذي يعتاده الناس من بعد الأذان على أبواب المسجد فإنه بدعة يدخل في القسم المنهي عنه انتهى "وروى عن عبد الله بن عمر إنه كان يقول في صلاة الفجر" أي في أذان صلاة الفجر ولم أقف على من أخرج هذا الأثر "وروى عن مجاهد قال دخلت مع عبد الله بن عمر مسجداً إلخ" رواه أبو داود في سننه ولفظه قال: كنت مع ابن عمر فثوب رجل في الظهر أو العصر قال اخرج بنا فإن هذه بدعة انتهى. وإنما قال اخرج بنا لأنه كان حينئذ أعمى.(1/595)
باب ما جاء في أن من أذن فهو يقيم
...
146 ـ بابُ مَا جَاءَ أَنّ مَنْ أَذّنَ فَهُوَ يُقِيم
199 ـ حَدّثَنَا هَنّادٌ حَدّثَنَا عَبْدَةُ وَيَعْلَى "بْنُ عُبَيْدٍ" عَنْ عَبْد الرحّمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ الإفْرِيقيّ عَنْ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيّ عَنْ زِيَاد بْن الحَرِثِ الصّدَائِيّ قَالَ: "أمَرَني رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ أُؤَذّنَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ، فَأَذّنْتُ، فَأَرادَ بِلاَلٌ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ أخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذّنَ، وَمَنْ أَذّنَ فَهُوَ يُقيمُ" .
"قَالَ": وفي البابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
ـــــــ
"باب ما جاء أن من أذن فهو يقيم"
قوله: "نا عبدة ويعلي عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم" بفتح أوله وسكون النون وضم المهملة الإفريقي قاضيها ضعيف من جهة حفظه وكان رجلا صالحا قاله الحافظ "عن زياد بن نعيم" بضم النون مصغرا هو زياد بن ربيعة بن نعيم الحضرمي ثقة "عن زياد بن الحارث الصدائي" بضم الصاد وخفة الدال فألف فهمزة نسبة إلى صداء ممدود وهو حي من اليمن قاله صاحب مجمع البحار وغيره، وهو حليف لبني الحارث بن كعب بايع النبي صلى الله عليه وسلم وأذن بين يديه ويعد في البصريين قاله الطيبي، وقال الحافظ له صحبة ووفادة "أن أخا صداء" هو زياد بن الحارث الصدائي "ومن أذن فهو يقيم" قال ابن الملك فيكره أن يقيم غيره وبه قال الشافعي وعند أبي حنيفة لا يكره لما روى أن ابن أم مكتوم ربما كان يؤذن ويقيم بلال وربما كان عكسه، والحديث محمول على ما إذا لحقه الوحشة بإقامة غيره كذا في المرقاة.
قلت: لم أقف على هذه الرواية التي ذكرها ابن الملك ولأبي حنيفة حديث آخر وسيأتي ذكره وتحقيق هذه المسألة.
قوله : "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه أبو حفص عمر بن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ وأبو الشيخ الأصبهاني في كتاب الأذان والخطيب البغدادي عن سعيد(1/596)
قال أبو عيسى: وَحَدِيثُ زيَادٍ إِنّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ الإفْرِيقيّ.
"وَالإفْرِيقيّ" هُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، ضَعّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ القَطّانُ وَغَيْرُهُ، قَالَ أحْمَدُ: لاَ أَكْتُبُ حَدِيثَ الإفْريقيّ.
"قَالَ": وَرَأَيْتُ مُحَمّدَ بْنَ إسْمَعِيلَ يُقَوّي أمْرَهُ، وَيَقُولُ: هُوَ مُقَارَبُ الْحَدِيثِ.
وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ "أَكثَرِ" أهْلِ الْعِلْمِ: "أَنّ" مَنْ أَذّنَ فَهُوَ يُقِيمُ.
ـــــــ
بن أبي راشد المازني ثنا عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سير له فحضرت الصلاة فنزل القوم فطلبوا بلالا فلم يجدوه فقام رجل فأذن ثم جاء بلال فذكر له فأراد أن يقيم فقال له عليه السلام مهلا يا بلال فإنما يقيم من أذن، قال ابن أبي حاتم في العلل قال أبي هذا حديث منكر وسعيد هذا منكر الحديث ضعيف كذا في نصب الراية.
قوله : "إنما نعرفه من حديث الإفريقي" هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم "والإفريقي هو ضعيف" قال في البدر المنير ضعيف لكثرة روايته للمنكرات مع علمه وزهده ورواية المنكرات كثيرا ما يعتري الصالحين لقلة تفقدهم للرواة لذلك قيل لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث كذا في النيل. وقال ميرك ضعف الحديث الترمذي لأجل الإفريقي وحسنه الحازمي وقواه العقيلي وابن الجوزي انتهى، والحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه "يقوي أمره ويقول هو مقارب الحديث" هذا من ألفاظ التعديل وقد تقدم توضيحه في المقدمة.
قوله : "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أذن فهو يقيم" قال الحافظ الحازمي في كتاب الاعتبار: اتفق أهل العلم في الرجل يؤذن ويقيم غيره على أن ذلك جائز، واختلفوا في الأولوية فذهب أكثرهم إلى أنه لا فرق وأن الأمر متسع، وممن رأى ذلك مالك وأكثر أهل الحجاز وأبو حنيفة وأكثر أهل الكوفة وأبو ثور، وذهب بعضهم إلى أن الأولى أن من أذن فهو يقيم. وقال سفيان الثوري كان يقال من أذن فهو يقيم، وروينا عن أبي محذورة أنه جاء وقد أذن إنسان فأذن وأقام وإلى هذا ذهب أحمد وقال الشافعي في رواية الربيع عنه وإذا أذن الرجل أحببت أن يتولى الإقامة(1/597)
................................................................................................
ـــــــ
لشيء يروى فيه: أن من أذن فهو يقيم. وكان من حجة من ذهب إلى القول الثاني ما أخبرنا به أبو المحاسن فذكر بإسناده حديث زياد بن الحارث الصدائي بأطول مما رواه الترمذي، ثم قال قالوا فهذا الحديث أقوم إسنادا من الأول يعني من حديث عبد الله بن زيد ذكره قبل ذلك بلفظ رأى عبد الله الأذان في المنام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال ألقه على بلال فألقاه على بلال فأذن فقال عبد الله أنا رأيته وأنا كنت أريده، قال فأقم أنت قال ثم حديث عبد الله بن زيد كان في أول ما شرع الأذان وذلك في السنة الأولى وحديث الصدائي كان بعده بلا شك والأخذ بآخر الأمرين أولى، وطريق الإنصاف أن يقال الأمر في هذا الباب على التوسع وادعاء النسخ مع إمكان الجمع بين الحديثين على خلاف الأصل إذا لا عبرة لمجرد التراخي، ثم نقول في حديث عبد الله بن زيد إنما فوض الأذان إلى بلال لأنه كان أندى صوتا من عبد الله على ما ذكر في الحديث، والمقصود من الأذان الإعلام ومن شرطه الصوت وكلما كان الصوت أعلى كان أولى. وأما زيد بن الحارث فكان جهوري الصوت ومن صلح للأذان فهو للإقامة أصلح، وهذا المعنى يؤكد قول من قال من أذن فهو يقيم انتهى كلام الحازمي.
قلت: حديث عبد الله بن زيد وحديث الصدائي كلاهما ضعيفان والأخذ بحديث الصدائي أولى لما ذكر الحازمي ولأن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الصدائي من أذن فهو يقيم قانون كلي، وأما حديث عبد الله بن زيد ففيه بيان واقعة جزئية يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد بقوله لعبد الله بن زيد فأقم أنت تطييب قلبه لأنه رأى الأذان في المنام ويحتمل أن يكون لبيان الجواز ولأن لحديث الصدائي شاهداً ضعيفا من حديث ابن عمر وقد تقدم ذكره قال الحافظ في الدراية. وأخرج ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ له من حديث ابن عمر شاهدا انتهى، وقال صاحب سبل السلام والحديث دليل على أن الإقامة حق لمن أذن فلا تصح من غيره وعضد حديث الباب يعني حديث الصدائي حديث ابن عمر بلفظ مهلا يا بلال فإنما يقيم من أذن أخرجه الطبراني والعقيلي وأبو الشيخ وإن كان قد ضعفه أبو حاتم وابن حبان انتهى.(1/598)
147 ـ بابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيِة الأَذَان بِغَيْرِ وُضُوء
200 ـ حَدّثَنَا عليّ بْنُ حُجْرٍ حَدّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى "الصّدَفِيّ" عَنِ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يُؤذّنُ إِلاّ مُتَوضّيءٌ" .
201 ـ حَدّثَنَا يَحْيَى بْنِ مُوسَى حَدّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ: لاَ يُنَادِي بالصّلاَةِ إِلاّ مُتَوَضّيءٌ.
"قال أبو عيسى": وهذا أصحّ من الحديث الأوّل.
"قال أبو عيسى": وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَرْفَعْهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَهُوَ أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية الأذان بغير وضوء"
قوله: "عن معاوية بن يحيى" هو معاوية بن يحيى الصدفي أبو روح الدمشقي، روى عن مكحول وابن شهاب وعنه بقية بن الوليد بن مسلم ضعيف كذا في الخلاصة والتقريب.
وقوله : "لا يؤذن إلا متوضئ" الحديث دليل على أنه يكره الأذان بغير وضوء، لكن الحديث ضعيف من وجهين فإن في سنده معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف، كما عرفت فيه انقطاع بين الزهري وأبي هريرة فإنه لم يسمع منه كما صرح به الترمذي.
قوله : "نا عبد الله بن وهب" بن مسلم القرشي الفقيه ثقة حافظ "عن يونس" ابن يزيد بن أبي النجاد الأيلي ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلا، وفي غير الزهري خطأ من كبار السابعة كذا في التقريب وغيره.
قوله : "قال: قال أبو هريرة لا ينادى" أي يؤذن والحديث موقوف ومنقطع.
قوله : "وهذا أصح من الحديث الأول" أي هذا الحديث الموقوف الذي رواه عبد الله ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أبي هريرة أرجح وأقل ضعفا من الحديث الأول المرفوع الذي رواه معاوية بن يحيى عن الزهري عن أبي هريرة فإن هذا المرفوع(1/599)
وَالزّهْرِيّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبي هُرَيْرَةَ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الأَذانِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ:
فَكَرِهَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ يَقُولُ الشّافِعِيّ، وإِسْحَاقُ. وَرَخّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ "الثّوْرِيّ", وَابْنُ المبَارَكِ، وَأَحْمَدُ.
ـــــــ
ضعيف من وجهين كما عرفت. والموقوف ضعيف من وجه واحد وهو الانقطاع "والزهري لم يسمع من أبي هريرة" فصار الحديث من الطريقين منقطعا. لكن رواه أبوالشيخ عن ابن أبي عاصم حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم عن معاوية بن يحيى عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يؤذن إلا متوضئ. وقال البيهقي كذا رواه معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف. والصحيح رواية يونس وغيره عن الزهري مرسلا كذا في عمدة القاري.
قوله : "فكرهه بعض أهل العلم وبه يقول الشافعي وإسحاق" وهو قول عطاء. قال البخاري في صحيحه قال عطاء الوضوء حق وسنة انتهى. قال الحافظ وصله عبد الرزاق عن ابن جرير قال: قال لي عطاء حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن المؤذن إلا متوضئا هو من الصلاة هو فاتحة الصلاة، ولابن أبي شيبة من وجه آخر عن عطاء أنه كره أن يؤذن الرجل على غير وضوء انتهى. وهو قول أحمد. قال صاحب السبل: قد ذهب أحمد وآخرون إلى أن لا يصح أذان المحدث حدثا أصغر عملا بهذا الحديث انتهى. لكن ذكر الترمذي أحمد في المرخصين وذكر العيني في شرح البخاري الشافعي مع أحمد في المرخصين حيث قال: قال صاحب الهداية من أصحابنا: وينبغي أن يؤذن ويقيم على طهر لأن الأذان والإقامة ذكر شريف يستحب فيه الطهارة فإن أذن على غير وضوء جاز، وبه قال الشافعي وأحمد وعامة أهل العلم. وعن مالك أن الطهارة شرط في الإقامة دون الأذان. وقال عطاء والأوزاعي وبعض الشافعية تشترط فيهما انتهى كلام العيني "ورخص في ذلك بعض أهل العلم وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد" وهو قول إبراهيم النخعي كما في صحيح البخاري وهو قول مالك والكوفيين لأن الأذان ليس من جملة الأركان فلا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة من الطهارة، ولا من استقبال القبلة كما لا يستحب فيه الخشوع الذي ينافيه الالتفات وجعل الأصبع في الأذن كذا في فتح الباري.(1/600)
......................................................................................................
ـــــــ
قلت: العمل على حديث الباب هو الأولى، فإن الحديث وإن كان ضعيفا لكن له شاهداً من حديث وائل. قال الحافظ في التلخيص: روى البيهقي والدارقطني في الأفراد وأبو الشيخ في الأذان من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: حق وسنة أن لا يؤذن الرجل إلا وهو طاهر، ولا يؤذن إلا وهو قائم، إلا أن فيه انقطاعا لأن عبد الجبار ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال كنت غلاما لا أعقل صلاة أبي ونقل النووي اتفاق أئمة الحديث على أنه لم يسمع من أبيه انتهى ما في التلخيص. وله شاهد آخر من حديث ابن عباس ذكره الزيلعي في نصب الراية بلفظ: يا ابن عباس إن الأذان متصل بالصلاة فلا يؤذن أحدكم إلا وهو طاهر، أخرجه أبو الشيخ والله تعالى أعلم.(1/601)
148 ـ بابُ مَا جَاءَ: أَنّ الإمَامَ أَحقّ بِالإقَامَة
202 ـ حدثنا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حدثنا عَبْدُ الرّزّاقِ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ أَخْبَرَنِي سِمَاكُ بنُ حَرْب سَمِعَ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يقُولُ: "كَانَ مُؤَذّنُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُمْهِلُ فَلاَ يُقِيمُ، حَتّى إِذَا رَأَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ خَرَجَ أَقَامَ الصّلاَةَ حينَ يَرَاهُ".
ـــــــ
"باب ما جاء أن الإمام أحق بالإقامة"
قوله: "سمع جابر بن سمرة" بن جنادة بضم الجيم بعدها نون السوائي بضم المهملة والمد صحابي ابن صحابي نزل الكوفة ومات بها بعد سنة سبعين كذا في التقريب.
قوله : "يمهل فلا يقيم حتى إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج أقام الصلاة حين يراه" هذا الحديث يدل على أن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقيم إلا بعد أن يراه. وقد أخرج الشيخان عن أبي قتادة مرفوعا إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني، أي قد خرجت وهذا الحديث يدل على أن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم قبل أن يراه. ويجمع بينهما بأن بلالا كان يراقب وقت خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأوه قاموا ويشهد لذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن(1/601)
قال أبو عيسى: حَدِيثُ جَابِرِ بْن سَمُرَةَ "هُوَ" حَدِيثٌ حَسَنٌ "صَحِيحٌ".
وحَدِيثُ "إسْرَائِيلَ عَنْ" سِمَاكٍ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَهَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنّ المُؤَذّنَ أمْلَكُ بِالأذَانِ، وَالإمَامُ أَمْلَكُ بِالإقَامَةِ.
ـــــــ
شهاب أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مقامه حتى تعتدل الصفوف. وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود ومستخرج أبي عوانة أنهم كانوا يعدلون الصفوف قبل خروجه صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أبي قتادة أنهم كان يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم الانتظار كذا في الفتح والنيل والله تعالى أعلم.
قوله : "حديث جابر بن سمرة حديث حسن" وأخرجه مسلم بلفظ كان بلال يؤذن إذا دحضت الشمس فلا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا خرج أقام الصلاة.
قوله : "وهكذا قال بعض أهل العلم أن المؤذن أملك بالأذان والإمام أملك بالإقامة" وقد ورد مثله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذن أملك بالأذان والإمام أملك بالإقامة. رواه ابن عدي وضعفه كذا في بلوغ المرام. قال محمد بن إسماعيل الأمير في سبل السلام في شرح هذا الحديث: المؤذن أملك بالأذان أي وقته موكول إليه لأنه أمين عليه والإمام أملك بالإقامة فلا يقيم إلا بعد إشارته. قال الشوكاني ولعل تضعيفه له لأن في إسناده شريكا القاضي، وقد أخرج البيهقي نحوه عن علي رضي الله عنه من قوله وقال ليس بمحفوظ، ورواه أبو الشيخ من طريق أبي الجوزاء عن ابن عمه وفيه معارك وهو ضعيف انتهى.(1/602)
149 ـ بَابُ مَا جَاءَ فِي الأذانِ بِاللّيْل
203 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا الّليْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عن سَالِمٍ عن أَبِيهِ أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنّ بِلاَلاً يُؤَذّنُ بِلَيْلٍ، فَكلُوا وَاشْربُوا حَتّى تَسْمَعُوا تَأْذِينَ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ" .
ـــــــ
"باب ما جاء في الأذان بالليل"
قوله: "عن سالم" هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي المدني أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتا عابدا فاضلا كان يشبه بأبيه في الهدى والسمت قاله الحافظ "عن أبيه" هو عبد الله بن عمر.
قوله : "إن بلالا يؤذن بليل" كان تأذينه بالليل ليرجع القائم وينتبه النائم كما جاء في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو قال ينادي بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم. رواه الجماعة إلا الترمذي "فكلوا واشربوا" أي أيها المريدون الصيام "حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم" قد بينت رواية البخاري أنه لم يكن بين أذانيهما إلا مقدار أن يرقى ذا وينزل ذا. قال الحافظ في الفتح: قد أورده أي أورد البخاري هذا الحديث في الصيام وزاد في آخره فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر، قال القاسم لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا، وفي هذا تقييد لما أطلق في الروايات الأخرى من قوله إن بلالا يؤذن بليل، قال وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الوقت الذي يقع فيه الأذان قبل الفجر هو وقت السحور انتهى. قال في سبل السلام: وفيه شرعية الأذان قبل الفجر لا لما شرع له الأذان فإن الأذان شرع كما سلف للإعلام بدخول الوقت ولدعاء السامعين لحضور الصلاة وهذا الأذان الذي قبل الفجر قد أخبر صلى الله عليه وسلم بوجه شرعيته بقوله ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم والقائم هو الذي يصل صلاة الليل ورجوعه عودة إلى نومه أو قعوده عن صلاته إذا سمع الأذان فليس للإعلام بدخول وقت ولا لحضور الصلاة، فذكر الخلاف في المسألة والاستدلال للمانع والمجيز لا يلتفت إليه من همه العمل بما ثبت انتهى.(1/603)
قالَ "أَبُو عِيسَى": وفي البابِ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ، وعَائِشَةَ، وَأُنيْسةَ، وَأَنَسٍ، وَأَبي ذَرّ، وَسَمُرَةَ.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الأَذَانِ بِاللّيْلِ:
فَقَالَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ: إِذَا أَذّنَ الْمؤَذّنُ بِاللّيْلِ أَجْزَأَهُ وَلاَ يُعِيدُ وَهُوَ قَولُ مَالِكٍ، وَابْنِ المبَارَكِ، وَأحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ.
ـــــــ
قوله : "وفي الباب عن ابن مسعود وعائشة وأنيسة وأنس وأبي ذر وسمرة" أما حديث ابن مسعود فأخرجه الجماعة إلا الترمذي وتقدم لفظه. وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان، وأما حديث أنيسة بالتصغير وهي بنت حبيب فأخرجه ابن حبان وأحمد مرفوعا بلفظ إذا أذن ابن أم مكتوم فكلو واشربوا، وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا كذا في الدراية. وأما حديث أنس فأخرجه البزار عنه قال: أذن بلال قبل الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيقول ألا أن العبد نام فرقى بلال وهو يقول ليت بلالا ثكلته أمه وابتل من نضح دم جبينه. قال الحافظ الهيثمي: وفيه محمد بن القاسم ضعفه أحمد وأبو داود ووثقه ابن معين، وأما حديث أبي ذر فأخرجه الطحاوي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال إنك تؤذن إذا كان الفجر ساطعا وليس ذلك الصبح إنما الصبح هكذا معترضا، وفي سنده ابن لهيعة. وأما حديث سمرة وهو سمرة بن جندب فأخرجه مسلم.
قوله : "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله : "فقال بعض أهل العلم إذا أذن المؤذن بالليل أجزأه ولا يعيد وهو قول مالك إلخ" تمسك من قال بالإجزاء بحديث ابن مسعود وتقدم لفظه. وأجيب بأنه مسكوت عنه فلا يدل. وعلى التنزل فمحله فيما إذا لم يرد نطق بخلافه. وههنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة بما يشعر بعدم الإكتفاء، نعم حديثه زياد بن الحارث عند أبي داود يدل على الإكتفاء فإنه فيه أنه أذن قبل الفجر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام، لكن في إسناده ضعف، وأيضاً فهي(1/604)
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلمِ: إِذَا أَذّنَ بِلَيْلٍ أَعَادَ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ.
وَرَوَى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عن أَيّوبَ عن نَافِعٍ عن ابْنِ عُمَرَ: "أَنّ بلاَلاً أَذّنَ بِلَيْلٍ، فَأَمَرَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُنَادِيَ إنّ الْعَبْدَ نَامَ" .
قال أبو عيسى: هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ.
وَالصّحِيحُ مَا رَوَى عُبْيَدُ الله بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ عن نَافِعٍ عن ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ بِلاَلاً يُؤَذّنُ بَلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يُؤَذّنَ ابْن أُمّ مَكْتُومٍ" .
ـــــــ
واقعة عين وكانت في سفر قاله الحافظ في الفتح "وقال بعض أهل العلم إذا أذن بالليل أعاد وبه يقول سفيان الثوري" وهوقول أبي حنيفة ومحمد قال الخطابي وكان أبو يوسف يقول بقول أبي حنيفة ثم رجع فقال لا بأس أن يؤذن للفجر خاصة قبل طلوع الفجر اتباعا للأثر. وكان أبو حنيفة ومحمد لا يجيزان ذلك قياسا على سائر الصلوات، وإليه ذهب سفيان الثوري انتهى. قال الحافظ في الفتح وإلى الإكتفاء مطلقا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث وقال به الغزالي في الإحياء وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الإكتفاء انتهى.
قلت: لم أقف على حديث صحيح صريح يدل على الإكتفاء فالظاهر عندي قول من قال بعدم الإكتفاء والله تعالى أعلم.
قوله : "فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي إن العبد نام" يعني أن غلبة النوم على عينيه منعته من تبين الفجر قال الحافظ في الفتح: وقال الخطابي هو يتأول على وجهين أحدهما أن يكون أراد به أنه غفل عن الوقت كما يقال نام فلان عن حاجتي إذا غفل عنها ولم يقم بها. والوجه الآخر أن يكون معناه قد عاد لنومه إذا كان عليه بقية من الليل يعلم الناس ذلك لئلا ينزعجوا من نومهم وسكونهم انتهى. وهذا الحديث رواه الترمذي معلقا ووصله أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل وداود بن شبيب المعنى قالا ثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر فذكره. والحديث مما تمسك به من قال(1/605)
"قَالَ": وَرَوَى عَبْدُ الْعَزيزِ بْنُ أبي رَوّادٍ عن نَافِعٍ: أَنّ مُؤَذّناً لعُمَرَ أَذّنَ، بِلَيْل، فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يُعِيدَ الأَذَانَ.
وَهَذَا لاَ يِصحّ "أَيضاً", لأِنّهُ عن نَافِعٍ عَن عُمَرَ: مُنْقَطِعٌ.
وَلَعَلّ حَمّادَ بْنَ سَلَمَةَ أَرَادَ هَذَا الْحَدِيثَ.
وَالصّحِيحُ رِوَايَةُ عُبَيْدِ الله وَغَيْرِ وَاحِدٍ عن نَافِعٍ عن ابْن عُمَرَ، وَالزّهْرِيّ عن سَالِمٍ عن ابْنِ عُمَر أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ بِلاَلاً يُؤَذّن بِلَيْلٍ" .
قال أبو عيسى: وَلَوْ كَانَ حَدِيثُ حَمّادٍ صحيحاً لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَعْنًى، إِذْ قَالَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّ بِلاَلاً يُؤَذّنُ بِلَيْلٍ" فَإِنّمَا أَمَرَهُمْ فِيمَا يُسْتقْبَلُ، فَقالَ: "إِنّ بِلاَلاً يُؤَذّنُ بِلَيْلٍ" وَلَوْ أَنّهُ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الأَذَانِ حِينَ أَذّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. لَمْ يَقُلْ: "إِنّ بِلاَلاً يُؤَذّنُ بِلَيْلٍ" .
قَالَ عَليّ بْنُ المَدِيني: حَدِيثُ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عن أَيّوبَ عن نَافِعٍ عن ابْنِ عُمَرَ عن النّبِي صلى الله عليه وسلم: "هوَ" غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَأَخْطَأَ فِيهِ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ.
ـــــــ
إن المؤذن إذا أذن بالليل أعاد لكنه غير محفوظ كما بينه الترمذي "وروى عبد العزيز ابن أبي رواد" بفتح الراء وتشديد الواو صدوق عابد ربما وهم ورمى بالإرجاء "أن مؤذنا لعمر" اسم هذا المؤذن مسروح وقال بعضهم مسعود "أذن بليل فأمره عمر أن يعيد الأذان" هكذا ذكره الترمذي معلقا ورواه أبو داود في سننه يد موصولاً بعد حث حماد بن سلمة "ولعل حماد بن سلمة أراد هذا الحديث" أي أثر عمر فوهم في رفعه والمعنى أن حماد بن سلمة كان له أن يقول إن مؤذنا لعمر أذن بليل فأمره عمر أن يعيد الأذان فوهم فقال إن بلالا أذن بليل فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي إن العبد نام. قال الحافظ في الفتح: اتفق أئمة الحديث علي بن المدني وأحمد بن حنبل والبخاري والذهلي وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والأثرم والدارقطني على أن حماداً أخطأ في رفعه(1/606)
........................................................................................................
ـــــــ
وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه انتهى كلام الحافظ.(1/607)
150 ـ بابُ "مَا جَاءَ" فِي كَرَاهِيَةِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمسْجِدِ بَعْدَ الأَذَان
204 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَن إبْرَاهِيمَ بْنِ المُهَاجِرِ عن أَبِي الشّعْثَاءِ قَالَ: "خَرَجَ رَجلٌ مِنَ الْمسْجِدِ بَعْدَ مَا أُذّنَ فِيهِ بِالْعَصْرِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِم صلى الله عليه وسلم".
ـــــــ
باب ما جاء في كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان"
قوله: "عن سفيان" هو الثوري "عن إبراهيم بن مهاجر" بن جابر البجلي الكوفي. صدوق لين الحفظ من الخامسة "عن أبي الشعثاء" سليم بن أسود بن حنظلة الكوفي. ثقة باتفاق من كبار الثالثة. وروى هذا الحديث عنه ابنه أشعث أيضاً، وهو ثقة ولم ينفرد بروايته عنه إبراهيم بن مهاجر.
قوله : "أما هذا فقد عصا أبا القاسم" قال الطيبي: أما للتفصيل يقتضي شيئين فصاعدا، والمعنى أما من ثبت في المسجد وأقام الصلاة فيه فقد أطاع أبا القاسم، وأما هذا فقد عصى انتهى. وقال القاري رواه أحمد وزاد. ثم قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي، وإسناده صحيح انتهى. والحديث يدل على أنه لا يجوز الخروج من المسجد بعد ما أذن فيه، لكنه مخصوص بمن ليس له ضرورة، يدل عليه حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف، قال على مكانكم فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه ماء وقد اغتسل. رواه البخاري وغيره. فهذا الحديث يدل على أن حديث الباب مخصوص بمن ليس له ضرورة فيلتحق بالجنب المحدث والراعف والحاقن ونحوهم وكذا من يكون إماماً لمسجد آخر ومن في معناه، وقد أخرجه الطبراني في الأوسط من(1/607)
قَالَ "أَبُو عِيسَى": وفي البابِ عن عثْمَانَ.
"قال أبو عيسى": حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَن بَعْدَهُمْ: أَنْ لاَ يَخْرُجَ أَحدٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الأذَانِ إلاّ مِنْ عُذْر: أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ وضُوءٍ، أَوْ أَمْرٌ لاَ بُدّ مِنْهُ.
وَيُرْوَى عن إِبْرَاهِيم النّخَعِيّ أَنّهُ قَالَ: يَخْرُجُ مَا لَمْ يَأْخُذِ المُؤَذّنُ فِي الإقَامَةِ.
ـــــــ
طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه فصرح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالتخصيص ولفظه: لا يسمع النداء في مسجدي ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق كذا في الفتح.
قوله : "وفي الباب عن عثمان" أخرجه ابن ماجه مرفوعا بلفظ: من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق.
قوله : "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. قال ابن الهمام وأخرجه الجماعة إلا البخاري عن أبي الشعثاء قال: كنا مع أبي هريرة في المسجد فخرج رجل حين أذن المؤذن للعصر فقال أبو هريرة أما هذا فقد عصى أبا القاسم، ومثل هذا موقوف عند بعضهم وإن كان ابن عبد البر قال فيه وفي نظائره مسند لحديث أبي هريرة من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم، وقال لا يختلفون في ذلك انتهى.
قوله : "أو أمر لا بد منه" كأن يكون حاقناً أو راعفاً "ويروى عن إبراهيم النخعي أنه قال يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة قول إبراهيم النخعي هذا مخالف لظاهر أحاديث الباب فإنها صريحة في منع الخروج بعد الأذان مطلقا أخذ المؤذن في الإقامة أو لم يأخذ إلا أن يحمل قوله على ما إذا كان له حاجة وهو يريد الرجوع فيدل على جواز الخروج حينئذٍ ما أخرجه أبو داود في المراسيل عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء إلا منافق إلا أحد أخرجته حاجة(1/608)
"قال أبو عيسى": وَهَذَا عِنْدَنَا لِمَنْ لَهُ عُذْرٌ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ.
وَأَبُو الشّعْثَاء اسْمُهُ "سُلَيْمُ بْنُ أَسْوَدَ" وَهُوَ وَالِدُ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشّعْثَاءِ.
وَقَدْ رَوَى أَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَعْثَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ عن أَبِيهِ.
ـــــــ
وهو يريد الرجوع" " وهذا عندنا" أي عند أهل الحديث "لمن له عذر في الخروج منه" أي من المسجد. والمعنى أن جواز الخروج من المسجد بعد الأذان مخصوص بمن له عذر في الخروج، وأما من لا عذر له فلا يجوز له الخروج "وقد روى أشعث بن أبي الشعثاء هذا الحديث عن أبيه" رواه مسلم.
قد تم الجزء الثاني بعونه تعالى.(1/609)
151 ـ بابُ مَا جَاءَ فِي الأَذَان فِي السّفَر
205 ـ حدثنا مَحْمُودُ بْن غَيْلاَنَ حدثنا وَكِيعٌ عن سُفْيَانَ عن خَالِدٍ الْحَذّاءِ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عن مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ قَالَ: قَدِمْت عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنَا وَابنُ عَم لِي، فَقَالَ لَنَا: "إِذَا سَافَرْتمَا فَأَذِنَا
ـــــــ
"باب ما جاء في الأذان في السفر"
قوله: "عن سفيان" هو الثوري كما صرح به الحافظ في الفتح "عن أبى قلابة" الجرمي "عن مالك بن الحويرث" بالتصغير الليثي صحابي نزل البصرة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأقام عنده عشرين ليلة وسكن البصرة.
قوله : "قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وابن عم لي" بالرفع على العطف وبالنصب على أنه مفعول معه "فأذنا" أي من أحب منكما أن يؤذن فليؤذن، وذلك لاستوائهما في الفضل، ولا يعتبر في الأذان السن بخلاف الإمامة. قاله الحافظ قال وهو واضح من سياق حديث الباب حيث قال فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم، ومراده بحديث الباب حديث مالك بن الحويرث بلفظ: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من(1/609)
وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمّكُمَا أَكْبرُكمَا" .
قال أبو عيسى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح.
وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْم: اخْتَارُوا الأَذَانَ فِي السّفَرِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُجْزِيءُ الإقَامَةُ، إِنّمَا الأَذَان عَلَى مَنْ يُريدُ أَنْ يَجْمَعَ النّاسَ.
ـــــــ
قومي الحديث، وفي آخره فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم، وقال أبو الحسن بن القصار أراد بقوله فأذنا الفضل، وإلا فأذان الواحد يجزئ، وكأنه فهم منه أنه أمرهما أن يؤذنا جميعاً كما هو ظاهر اللفظ، وتعقب عليه الحافظ وذكر في ضمن تعقبه توجيهاً آخر لقوله فأذنا حيث قال: فإن أراد يعني أبا الحسن بن القصار أنهما يؤذنان معا فليس ذلك بمراد. وقد قدمنا النقل عن السلف بخلافه، وإن أراد أن كلا منهما يؤذن على حدة ففيه نظر، فإن أذان الواحد يكفي الجماعة، نعم يستحب لكل أحد إجابة المؤذن فالأولى حمل الأمر على أن أحدهما يؤذن والآخر يجيب، قال والحامل على صرفه عن ظاهره قوله فليؤذن لكم أحدكم، وللطبراني من طريق حماد ابن سلمة عن خالد الحذاء في هذا الحديث إذا كنت مع صاحبك فليؤذن وأقم وليؤمكما أكبركما انتهى "وأقيما" أي من أحب منكما أن يقيم فليقم، قال الحافظ فيه حجة لمن قال باستحباب إجابة المؤذن بالإقامة إن حمل الأمر على ما قضى وإلا فالذي يؤذن هو الذي يقيم انتهى "وليؤمكما أكبركما" أي سناً. قال القرطبي قوله وليؤمكما أكبركما يدل على تساويهما في شروط الإمامة ورجح أحدهما بالسن. قال العيني لأن هؤلاء كانوا مستوين في باقي الخصال لأنهم هاجروا جميعاً وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولازموه عشرين ليلة فاستووا في الأخذ عنه فلم يبق ما يقدم به إلا السن انتهى.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري. قال ميرك ورواه الجماعة والمعنى عندهم متقارب وبعضهم ذكر فيه قصة كذا قاله الشيخ الجزري كذا في المرقاة.
قوله : "والعمل عليه عند أكثر أهل العلم اختاروا الأذان في السفر" أي ولو كان المسافر منفرداً "وقال بعضهم تجزئ الإقامة إنما الأذان على من يريد أن يجمع الناس" روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يقول إنما التأذين لجيش أو ركب(1/610)
وَالْقَوْلُ الأوّل أَصَحّ. وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
ـــــــ
عليهم أمير فينادي بالصلاة ليجتمعوا فأما غيرهم فإنما هي الإقامة، وحكى نحو ذلك عن مالك وذهب الأئمة الثلاثة والثوري وغيرهم إلى مشروعية الأذان لكل أحد كذا في فتح الباري، قلت وكان ابن عمر يؤذن في السفر في صلاة الصبح ويقيم، روى مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يزيد على الإقامة في السفر إلا في الصبح فإنه كان ينادي فيها ويقيم. وكان يقول إنما الأذان للإمام الذي يجتمع إليه الناس، قال الزرقاني وذلك لإظهار شعار الإسلام لأنه وقت الإغارة على الكفار وكان صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت يغير إذا لم يسمع الأذان ويمسك إذا سمعه، ونقل عنه البوني أن ذلك لإعلام من معه من نائم وغيره بطلوع الفجر وسائر الصلوات لا تخفى عليهم "والقول الأول أصح" فإنه ثابت بحديث الباب، وهو حجة على من ذهب إلى القول الثاني. وروى البخاري وغيره أن أبا سعيد الخدري قال لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ وهذا الحديث يقتضي استحباب الأذان للمنفرد، وبالغ عطاء فقال إذا كنت في سفر فلم تؤذن ولم تقم فأعد الصلاة ولعله كان يرى ذلك شرطا في صحة الصلاة أو يرى استحباب الإعادة لا وجوبها انتهى كلام الحافظ.
فائدة : قال أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي لم يذكر أبو عيسى رفع الصوت بالأذان وذكر أبو داود فيه حديث أبي هريرة المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس والحديث في ذلك مشهور صحيح بيناه في شرح الصحيحين انتهى. قلت وفي ذلك حديث أبي سعيد الخدري الذي ذكرناه آنفاً.(1/611)
152 ـ باب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الأَذَان
206 ـ حدثنا مُحَمّدُ بْنِ حُمَيْدٍ الرّازِيّ حدثنا أَبُو تُمَيْلَةَ حدثنا
ـــــــ
"باب ما جاء في فضل الأذان"
قوله: "ثنا أبو تميلة" بمثناه مصغرا اسمه يحيى بن واضح الأنصاري مولاهم، ثقة من(1/611)
أَبُو حَمْزَةَ عن جَابِر عن مُجاهِدٍ عن ابْنِ عَبّاس أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَن أَذّنَ سَبْعَ سِنِينَ مُحْتَسِباً كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النّارِ".
قَالَ "أَبو عِيسَى": وفي البابِ "عَنْ عَبْدِ الله" بْنِ مَسْعُودٍ، وَثوْبَان، وَمعَاوِيَةَ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأبِي سَعِيدٍ.
"قال أبو عيسى": حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَأَبُو تمَيْلَةَ اسْمُهُ "يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ".
وأبُو حَمْزَةَ السّكّرِيّ اسمُهُ "مُحَمّدُ بن مَيْمُونٍ".
ـــــــ
كبار التاسعة مشهور بكنيته "نا أبو حمزة" اسمه محمد بن ميمون المروزي ثقة فاضل "عن جابر" هو ابن يزيد بن الحارث الجعفي أبو عبد الله الكوفي، ضعيف رافضي كذا في التقريب.
قوله : "من أذن سبع سنين محتسباً" أي طالبا للثواب لا للأجرة "كتبت له براءة" بالمدأى خلاص "من النار" قال المناوي لأن مداومته على النطق بالشهادتين والدعاء إلى الله تعالى هذه المدة من غير باعث دنيوي صير نفسه كأنها معجونة بالتوحيد والنار لا سلطان لها على من صار كذلك، وأخد منه أنه يندب للمؤذن أن لا يأخذ على أذانه أجراً انتهى.
قوله : "وفي الباب عن ابن مسعود وثوبان ومعاوية وأنس وأبي هريرة وأبي سعيد" أما حديث ابن مسعود وحديث ثوبان فلم أقف على من أخرجهما وأما حديث معاوية فأخرجه مسلم عنده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، وأما حديث أنس فأخرجه مسلم وله أحاديث في هذا الباب وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد عنه مرفوعاً بلفظ: المؤذن يغفر له مدى صوته ويصدقه كل رطب ويابس وأخرجه أبو داود وابن خزيمة وعندهما: ويشهد له كل رطب ويابس وأما حديث أبي سعيد فقد مر تخريجه ولفظه وفي الباب أحاديث كثيرة ذكرها المنذري في الترغيب والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد.
قوله : "حديث ابن عباس حديث غريب" وأخرجه بن ماجه وهو حديث ضعيف لأن في سنده جابراً الجعفي "وأبو حمزة السكري" ثم بذلك لحلاوة كلامه كذا في الخلاصة "وجابر بن يزيد الجعفي" بضم الجيم وسكون العين وبفاء منسوب إلى جعفي بن(1/612)
وجَابِرُ بنْ يَزِيدَ الجُعْفِيّ ضَعّفوهُ تَرَكَه يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ مَهْدِيّ.
قَالَ "أَبُو عِيسَى": سَمِعْتُ الْجَارُودَ يَقُولُ: سَمِعْتُ وَكِيعاً يَقُولُ: لَوْلاَ جَابِرٌ "الجُعْفِيّ" لَكَانَ أَهْلُ الْكوفَةِ بِغَيْرِ حَدِيثٍ، وَلَوْلاَ حَمّادٌ لَكَانَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِغَيْرِ فِقْهٍ.
ـــــــ
سعد كذا في المغني لصاحب مجمع البحار "ضعفوه تركه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي" وقال الإمام أبو حنيفة ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي ما أتيته بشيء من رأيي قط إلا جاءني فيه بحديث كذا في تخريج الزيلعي ص 248 "لولا جابر الجعفي لكان أهل الكوفة بغير حديث ولولا حماد لكان أهل الكوفة بغير فقه" حماد هذا هو ابن أبي سليمان أبو إسماعيل الكوفي الفقيه روى عن إبراهيم النخعي وخلق، وعنه ابنه إسماعيل ومغيرة وأبو حنيفة ومسعر وشعبة وتفقهوا به قال النسائي ثقة مرجئ.(1/613)
باب ما جاء في أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن
...
153 ـ بابُ مَا جَاءَ أَنّ الإِمَامَ ضَامنٌ وَالْمُؤَذّن مُؤْتَمَن
207 ـ حَدّثَنَا هَنّادٌ حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ وَ أَبُو مُعَاوِيةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبي صَالِحٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله
ـــــــ
"باب ما جاء أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن"
قوله: "الإمام ضامن" قال الجزري في النهاية أراد بالضمان ههنا الحفظ والرعاية لا ضمان الغرامة لأنه يحفظ على القوم صلاتهم وقيل إن صلاة المقتدين به في عهدته وصحتها(1/613)
عليه وسلم: "الإمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذّنُ مُؤْتَمَنٌ، الْلهُمّ أُرْشِدِ الأَئِمَةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذّنِينَ" .
"قال أبو عيسى": وفي البابِ عَنْ عَائِشَةَ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَعقْبَةَ بنِ عَامِرٍ.
ـــــــ
مقرونة بصحة صلاته فهو كالمتكفل لهم صحة صلاتهم انتهى "المؤذن مؤتمن" قيل المراد أنه أمين على مواقيت الصلاة وقيل أمين على حرم الناس لأنه يشرف على المواضع العالية، قلت ويؤيد الأول حديث أبي محذورة مرفوعاً المؤذنون أمناء الله على فطرهم وسحورهم، أخرجه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي في مجمع الزوائد إسناده حسن، والحديث استدل به على فضيلة الأذان وعلى أنه أفضل من الأمة لأن الأمين أرفع حالا من الضمين، ويؤيد قول من قال إن الإمامة أفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده أموا ولم يؤذنوا وكذا كبار العلماء بعدهم "اللهم أرشد الأئمة" أي أرشدهم للعلم بما تكفلوه والقيام به والخروج عن عهدته "واغفر للمؤذنين" أي ما عسى يكون لهم تفريط في الأمانة التي حملوها من جهة تقديم على الوقت أو تأخير عنه سهواً، قال الأشرف يستدل بقوله الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن على فضل الأذان على الإمامة لأن حال الأمين أفضل من حال الضمين تم كلامه. ورد بأن هذا الأمين يتكفل الوقت فحسب وهذا الضامن يتكفل أركان الصلاة ويتعهد للسفارة بينهم وبين ربهم في الدعاء فأين أحدهما من الآخر وكيف لا والإمام خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤذن خليفة بلال، وأيضا الإرشاد الدلالة الموصلة إلى البغية والغفران مسبوق بالذنب قاله الطيبي، قال القارى في المرقاة وهو مذهبنا في الحنفية وعليه جمع من الشافعية انتهى. قلت وهو القول الراجح وقد تقدم ما يؤيده والله تعالى أعلم.
قوله : "وفي الباب عن عائشة وسهل بن سعد وعقبة بن عامر" أما حديث عائشة فأخرجه ابن حبان في صحيحه عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن فأرشد الله الأئمة وعفى عن المؤذنين. وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه ابن ماجه والحاكم في المستدرك عنه مرفوعا بلفظ: الإمام ضامن فإن أحسن فله ولهم وإن أساء فعليه ولا عليهم. وأما حديث عقبة بن عامر فلم أقف عليه، وفي الباب أيضاً عن أبي أمامة ووائلة وأبي محذورة ذكر أحاديثهم الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد.(1/614)
"قال أبو عيسى": حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوى أسْبَاطُ بنُ مُحَمّدٍ عن الأَعْمَشِ قَالَ: حُدّثْتُ عن أَبِي صَالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوى نَافعُ بنُ سُليْمَانَ عَنْ محمدِ بْن أَبي صَالحٍ عنْ أَبيهِ عَنْ عَائِشةَ عَنِ النّبي صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَديثَ.
قَالَ "أبو عيسَى": وَسَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ: حَديثُ أَبي صالِحٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَصَحّ مِنْ حَديثِ أَبي صَالِحٍ عَنْ عائِشةَ.
"قال أبو عيسى": وَسَمِعْتُ محمداً يَقُولُ: حَدِيثُ أَبي صَالِحٍ عنْ عَائِشَةَ أَصَحّ. وَذَكرَ عنْ عَليّ بْن المَدِينِيّ أنّهُ لَمْ يُثْبِتْ حديثَ "أَبي صَالِحٍ عَن" أَبي هُرَيْرَةَ، وَلاَ حَديثَ أَبي صَالِحٍ عنْ عَائِشةَ في هَذَا.
ـــــــ
قوله : "وذكر عن علي بن المديني أنه لم يثبت حديث أبي صالح عن أبي هريرة ولا حديث أبي صالح عن عائشة في هذا" ورجح العقيلي والدارقطني طريق أبي صالح عن أبي هريرة على طريق أبي صالح عن عائشة كما نقل الترمذي عن أبي زرعة وصححهما ابن حبان جميعاً ثم قال: قد سمع أبو صالح هذين الخبرين من عائشة وأبي هريرة جميعاً كذا في التلخيص ص 77 وقال في النيل: قال اليعمري والكل صحيح والحديث متصل انتهى وحديث أبي هريرة المذكور أخرجه أيضاً أحمد وأبو داود(1/615)
باب ما جاء في ما يقول الرجل إذا أذن المؤذن
...
154 ـ بابُ "مَا جَاء" مَا يَقُولُ "الرّجُلُ" إذَا أذّنَ الْمُؤَذّن
208 ـ حدثنا "إِسْحَاقُ بنُ مُوسَى" الأنْصَارِيّ حَدثَنَا مَعْنٌ حدثَنا مَالِكٌ "قَالَ": وَحدثنَا قُتَيْبَة عَنْ مَالكٍ عنِ الزّهْرِيّ عَنْ عَطَاءِ بْن يَزِيدَ "الليْثِيّ" عَنْ أبي سَعيدٍ قَال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَمِعْتُمُ النّداءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ المُؤَذّنُ" .
ـــــــ
باب ما يقول إذا أذن المؤذن
قوله: "عن عطاء بن يزيد الليثي" المدني نزيل الشام ثقة من الثالثة.
قوله : "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" قال القاري في المرقاة إلا في الحيعلتين فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، وإلا في قوله الصلاة خير من النوم، فإنه يقول صدقت وبررت وبالحق نطقت. وبررت بكسر الراء الأولى وقيل بفتحها أي صرت ذابر وخير كثير انتهى كلام القاري.
قلت: أما قوله إلا في الحيعلتين فلحديث عمر مرفوعاً إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال أشهد أن محمداً رسول الله قال أشهد أن محمداً رسول الله ثم، قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر، ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله دخل الجنة، رواه مسلم، وأما قوله وإلا في قوله الصلاة خير من النوم، فإنه يقول صدقت وبررت فلم أقف على حديث يدل عليه، وقال محمد بن إسمعيل الأمير في سبل السلام ص 78 وقيل يقول في جواب التثويب صدقت وبررت. وهذا استحسان من قائله وإلا فليس فيه سنة تعتمد انتهى.
فائدة: أخرج أبو داود في سننه عن رجل من أهل الشام عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بلالاً أخذ في الإقامة فلما أن قال قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم أقامها الله وأدامها وقال في سائر(1/616)
قَال "أَبو عِيسى": وفي البابِ عَنْ أبي رَافِعٍ، وَأَبي هُرَيْرَةَ، وَأُمّ حَبِيبَةَ، وَعَبْدِ الله بْن عَمْرٍو، وَعَبْدِ الله بن رَبِيعَةَ، وَعَائِشةَ، وَمُعَاذِ بْن أَنَسٍ، وَمُعَاوِيَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أَبي سَعِيدٍ حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَهَكَذَا رَوَى مَعْمَرٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الزّهْرِيّ مِثْلَ حَديثِ مَالِكٍ.
وَرَوَى عَبْدُ الرّحْمَن بْنُ إسْحَاقَ عَنِ الزّهْريّ هَذَا الْحَديثَ عَنْ سَعِيدِ بْن الْمَسّيبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبي صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان انتهى، يريد بحديث عمر ما ذكرناه آنفاً عن صحيح مسلم وفيه دلالة على استحباب مجاوبة المقيم لقوله وقال في سائر الإقامة بنحو حديث عمر وفيه أيضاً أنه يستحب لسامع الإقامة أن يقول عند قول المقيم قد قامت الصلاة أقامها الله وأدامها، لكن الحديث في إسناده رجل مجهول وشهر بن حوشب تكلم فيه غير واحد ووثقة يحيى بن معين وأحمد بن حنبل.
قوله : "وفي الباب عن أبي رافع وأبي هريرة وأم حبيبة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن ربيعة وعائشة ومعاذ بن أنس ومعاوية" أما حديث أبي رافع فأخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف، إلا أن مالكاً روى عنه كذا في مجمع الزوائد. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم كذا في التلخيص. وأما حديث أم حبيبة فأخرجه ابن خزيمة والحاكم. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود والنسائي. وأما حديث عبد الله بن ربيعة فلم أقف عليه، وأما حديث عائشة فأخرجه أبو داود وأما حديث معاذ بن أنس فأخرجه أحمد والطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف كذا في مجمع الزوائد. وأما حديث معاوية فأخرجه البخاري والنسائي.
قوله : "حديث أبي سعيد حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله : "وهكذا روى معمر وغير واحد عن الزهري مثل حديث مالك إلخ" أي كما روى مالك هذا الحديث عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد كذلك رواه معمر وغير واحد عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد لكن عبد الرحمن بن إسحاق(1/617)
وَرِوَايَةُ مَالِكٍ أَصَحّ.
ـــــــ
أحد أصحاب الزهري خالف هؤلاء فرواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ورواية مالك أصح فإنه تابعه معمر وغير واحد من أصحاب الزهري بخلاف رواية عبد الرحمن بن إسحاق فإنه لم يتابعه أحد، قال الحافظ في الفتح: اختلف على الزهري في إسناد هذا الحديث وعلى مالك أيضاً لكنه اختلاف لا يقدح في صحته، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه وقال أحمد بن صالح وأبو حاتم وأبو داود والترمذي حديث مالك ومن تابعه أصح انتهى.(1/618)
155 ـ بابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ أَنْ يَأْخُذَ "الْمُؤّذّنُ" عَلَى الأَذَانِ أَجْرا
209 ـ حدثنا هَنّادٌ حدّثَنا أَبو زُبَيْدٍ وَهُوَ عَبْثَرُ بنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ عُثْمانَ بن أَبي العَاصِ قَال: "إِنّ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إلَيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنِ اتِخَدْ مُؤَذّناً لاَ يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْراً".
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على الأذان أجرا"
قوله: "نا أبو زبيد" بالتصغير اسمه عبثر بن القاسم الزبيدي بالضم الكوفي ثقة من الثامنة "عن أشعث" هو ابن سوار الكندي النجار الكوفي مولى ثقيف يقال له أشعث النجار، ويقال له أشعث التابوتي وأشعث الأفرق، روى عن الحسن البصري والشعبي وغيرهما وروى عنه شعبة والثوري وعبثر بن القاسم وغيرهم قاله الحافظ في تهذيب التهذيب، وقال في التقريب ضعيف، وقال الخزرجي حدثه في مسلم متابعة "عن الحسن" هو البصري "عن عثمان بن أبي العاص" صحابي شهير استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف ومات في خلافة معاوية بالبصرة.
قوله : "إن من آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي حين توديعه إلى الطائف للعمل "أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً" فيه دلالة ظاهرة على أن يكره(1/618)
قال أبو عيسى: حدِيثُ عُثْمانَ حَديثٌ حسَنٌ "صحيحٌ".
وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذَ الْمُؤَذّنُ عَلَى الأَذَانِ أَجْراً، وَاسْتَحَبّوا لِلْمؤَذّنِ أَنْ يَحْتَسِبَ فِي أَذَانِهِ.
ـــــــ
أخذ الأجرة وقد عقد ابن حبان ترجمة على الرخصة في ذلك، وأخرج عن أبي محذورة أنه قال فألقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان فأذنت ثم أعطاني حين قضيت التأذين صرة فيها من فضة، وأخرجه أيضاً النسائي قال اليعمري ولا دليل فيه لوجهين، الأول إن قصة أبي محذورة أول ما أسلم لأنه أعطاء حين علمه الأذان وذلك قبل إسلام عثمان بن أبي العاص الراوي لحديث النهي. فحديث عثمان متأخر. الثاني أنها واقعة عين يتطرق إليها الاحتمال وأقرب الاحتمالات فيها أن يكون من باب التأليف لحداثة عهده بالإسلام كما أعطى حينئذ غيره من المؤلفة قلوبهم ووقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال سلبها الاستدلال لما بيقي فيها من الإجمال، قال الشوكاني بعد نقل كلام ابن سيد الناس هذا: وأنت خبير بأن هذا الحديث لا يرد على من قال إن الأجرة إنما تحرم إذا كانت مشروطة لا إذا أعطيها بغير مسألة. والجمع بين الحديثين بمثل هذا حسن.
قلت: ما قال الشوكاني في وجه الجمع بين الحديثين لا شك في حسنة.
قوله : "حديث عثمان حديث حسن" قال في المنتقي بعد ذكره رواه الخمسة. وقال في النيل صححه الحاكم وقال ابن المنذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان ابن أبي العاص واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً وأخرج ابن حبان عن يحيى البكالى قال سمعت رجلاً قال لابن عمر إني لأحبك في الله فقال له ابن عمر إني لأبغضك في الله فقال سبحان الله أحبك في الله وتبغضني في الله قال نعم أنك تسأل على أذانك أجراً، وروى عن ابن مسعود أنه قال أربع لا يؤخذ عليهن أجر الأذان وقراءة القرآن والمقاسم والقضاء انتهى.
قوله : "والعمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يأخذ على الأذان أجراً واستحبوا للمؤذن أن يحتسب في أذانه" قال الخطابي أهذ المؤذن على أذانه مكروه بحسب مذاهب أكثر العلماء، قال الحسن أخشى أن لا تكون صلاته خالصة وكرهه الشافعي وقال يرزق من خمس الخمس من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه مرصد لمصالح المسلمين.(1/619)
.......................................................................................................
ـــــــ
وقال في النيل قد ذهب إلى تحريم الأجر شرطاً على الأذان والإقامة الهادي والقاسم والناصر وأبو حنيفة وغيرهم، وقال مالك لا بأس بأخذ الأجر على ذلك، وقال الأوزاعي يجاعل عليه ولا يؤاجر، وقال الشافعي في الأم أحب أن يكون المؤذنون متطوعين، قال وليس للإمام أن يرزقهم وهو يجد من يؤذن متطوعاً ممن له أمانة إلا أن يرزقهم من ماله، قال ولا أحسب أحداً ببلد كثير الأهل يعوزه أن يجد مؤذناً أميناً يؤذن متطوعاً، فإن لم يجده فلا بأس أن يرزق مؤذناً ولا يرزقه إلا من خمس الخمس الفضل، وقال ابن العربي الصحيح جواز أخذ الأجرة على الأذان والصلاة والقضاء وجميع الأعمال الدينية فإن الخليفة يأخذ أجرته على هذا كله وفي كل واحد منها يأخذ النائب أجرة كما يأخذ المستغيب والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ما تركت بعد نفقة، نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة انتهى، فقاس المؤذن على العامل وهو قياس في مصادمة النص وفتيا ابن عمر التي مرت لم يخالفها أحد من الصحابة كما صرح بذلك اليعمري كذا في النيل.
قلت: القول الراجح عندي هو قول الجمهور والله تعالى أعلم.(1/620)
156 ـ بابُ "مَا جَاءَ" مَا يَقُولُ "الرّجُلُ" إذَا أَذّنَ الْمُؤَذّنُ "منَ الدّعَاءِ"
210 ـ حدّثَنا قُتَيْبَةُ حَدّثَنا اللّيْثُ عنِ الْحُكَيْمِ بن عبْد الله بن قَيْسٍ عَنْ عَامِرِ بْن سعدٍ عنْ سَعْدِ بْن أَبي وَقّاصٍ عَنْ رسول الله صلى الله
ـــــــ
"باب ما يقول إذا أذن المؤذن من الدعاء"
قوله: من الدعاء بيان لما والمعنى أي دعاء يدعو به السامع إذا أذن المؤذن.
قوله : "عن الحكيم" بضم أوله مصغراً "بن عبد الله بن قيس" بن مخرمة بن المطلب المطلبي نزيل مصر صدوق من الرابعة "عن عامر بن سعد" بن أبي وقاص الزهري المدني، روى عن أبيه وغيره قال ابن سعد ثقة كثير الحديث مات سنة 104 أربع ومائة "عن سعد بن أبي وقاص" اسمه مالك صحابي جليل شهد بدراً والمشاهد وهو أحد العشرة وآخرهم موتاً، وأول من رمي في سبيل الله وفارس الإسلام وأحد ستة الشورى ومقدم(1/620)
عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَالَ حينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذّنَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَه إِلاّ الله وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنّ محمداً عبده ورسولهُ، رَضِيتُ بِالله رَبّا وَبمُحَمّدٍ رَسُولاً وَبالاْسْلاَم دِيناً ـ: غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ" .
قال أبو عيسى: و هَذَا حَدِيثٌ حسَنٌ صَحيحٌ غَرِيبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ إلاّ مِنْ حَدِيثِ اللّيْثِ بن سْعدٍ عَنْ حُكَيْمِ بن عبْدِ الله بن قَيْسٍ.
ـــــــ
جيوش الإسلام في فتح العراق ومناقبه كثيرة مات بالعقيق سنة خمس وخمسين على المشهور.
قوله : "من قال حين يسمع المؤذن" أي أذانه أو صوته أو قوله وهو الأظهر وهو يحتمل أن يكون المراد به حين يسمع تشهده الأول أو الأخير وهو قوله آخر الأذان لا إله إلا الله وهو أنسب ويمكن أن يكون معنى يسمع يجيب فيكون صريحاً في المقصود وأن الثواب المذكور مرتب على الإجابة بكمالها مع هذه الزيادة، ولأن قوله بهذه الشهادة في أثناء الأذان ربما يفوته الإجابة في بعض الكلمات الآتية كذا في المرقاة "وأنا أشهد أن لا إله إلا الله" وفي رواية لمسلم أنا أشهد بغير لفظ أنا وبغير الواو "رضيت بالله ربا" أي بربوبيته وبجميع قضائه وقدره فإن الرضا بالقضاء باب الله الأعظم، وقيل حال أي مربياً ومالكاً وسيداً ومصلحاً "وبمحمد رسولاً" أي بجميع ما أرسل به وبلغه إلينا من الأمور الاعتقادية وغيرها "وبالإسلام" أي بجميع أحكام الإسلام الأوامر والنواهي "دينا" أي اعتقاداً أو انقياداً قاله القاري "غفر الله له ذنوبه" أي من الصغائر جزاء لقوله من قال حين يسمع المؤذن.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. قال ميرك والعجب من الحاكم أنه أخرجه في المستدرك وأعجب من ذلك تقرير الذهبي له في استدراكه عليه وهو في صحيح مسلم بلفظه انتهى ذكره القاري في المرقاة، ثم قال لعل إخراج الحاكم له بغير السند الذي في مسلم فلينظر فيه ليعلم ما فيه والله أعلم انتهى.(1/621)
157 ـ بابُ مِنْهُ آخَر
211 ـ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ الْبَغْدَادِيّ وَ إِبْرَهِيمُ بنُ يَعْقُوبَ قَالاَ: حَدّثَنَا عَلِيّ بنُ عَيّاشٍ "الْحِمِصِيّ" حَدّثَنَا شُعَيْبُ بنُ أَبي حَمْزةَ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بنُ المُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النّدَاءَ: اللهُمّ ربّ هَذِهِ الدّعْوَةِ التّامّةِ وَالصّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمّداً الْوَسِيلَةَ وَالْفضِيلَةَ وَابْعَثهُ
ـــــــ
"باب منه" أيضا
قوله : "حدثنا محمد بن سهل بن عسكر البغدادي" التميمي مولاهم البخاري الحافظ الجوال، وثقه النسائي وابن عدي روى عنه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم "وإبراهيم ابن يعقوب" الحافظ الجوزجاني بضم الجيم الأولى مصنف الجرح والتعديل، نزيل دمشق روى عنه أبو داود والترمذي والنسائي ووثقه، وكان أحمد يكاتبه إلى دمشق ويكرمه إكراماً شديداً، وقال الدارقطني كان من الحفاظ المصنفين وقد رمي بالنصب توفي سنة 259 تسع وخمسين ومائتين، قال الحافظ في التقريب ثقة حافظ.
قوله : "علي بن عياش" بالياء الأخيرة والشين المعجمة، وهو الحمصي من كبار شيوخ البخاري ولم يلقه من الأئمة الستة غيره "حين يسمع النداء" أي الأذان واللام للعهد أو المراد من النداء تمامه أي حين يسمع النداء بتمامه، يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص عند مسلم بلفظ: قولوا مثل ما يقول ثم صلوا ثم سلوا الله لي الوسيلة، ففي هذا أن ذلك يقال عند فراغ الأذان "اللهم" أي يا الله والميم عوض عن يا فلذلك لا يجتمعان "رب" منصوب على النداء "هذه الدعوة التامة" بفتح الدال والمراد بالدعوة ههنا ألفاظ الأذان التي يدعي بها الشخص إلى عبادة الله تعالى قاله العيني. وقا ل الحافظ المراد بها دعوة التوحيد، كقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} وقيل لدعوة التوحيد تامة لأن الشرك نقص أو التامة التي لا يدخلها تغيير ولا تبديل بل هي باقية إلى يوم النشور أو لأنها هي التي تستحق صفة التمام وما سواها فمعرض للفساد "والصلاة" المراد بالصلاة المعهودة المدعو إليها حينئذ "القائمة" أي الدائمة التي لا تغيرها ملة ولا تنسخها شريعة، وأنها قائمة ما دامت السموات والأرض "آت" أمر من الإيتاء أي أعط "الوسيلة" قد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وقع ذلك في حديث عبد الله بن عمر عند مسلم "والفضيلة" المرتبة الزائدة على سائر(1/622)
مَقَاماً مَحمُوداً الّذِي وَعَدْتَهُ ـ: إِلاّ حَلّتْ لَهُ الشّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" .
ـــــــ
الخلائق ويحتمل أن تكون منزلة أخرى أو تفسيراً للوسيلة قاله الحافظ "مقاماً محموداً" أي يحمد القائم فيه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات ونصب على الظرفية أي ابعثه يوم القيامة فأقمه مقاماً محموداً أو ضمن ابعثه معنى أقمة أو على أنه مفعول به ومعنى ابعثه أعطه "الذي وعدته" قال الحافظ في الفتح زاد في رواية البيهقي إنك لا تخلف الميعاد، وقال الطيبي المراد قوله تعالى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} وأطلق عليه الوعد لأن عسى من الله واقع كما صح عن ابن عيينة وغيره. والموصول إما بدل أو عطف بيان أو خبر مبتدأ محذوف وليس صفة للنكرة، ووقع في رواية النسائي وابن خزيمة وغيرهما المقام المحمود بالألف واللام فيصح وصفة بالموصول قال ابن الجوزي: والأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة: وقيل إجلاسه على العرش وقيل على الكرسي. وحكى كلا من القولين عن جماعة وعلى تقدير الصحة لا ينافي الأول لاحتمال أن يكون الإجلاس علامة الأذن في الشفاعة، ويحتمل أن يكون المراد بالمقام المحمود الشفاعة كما هو المشهور، وأن يكون الإجلاس هي المنزلة المعبر عنها بالوسيلة أو الفضيلة ووقع في صحيح ابن حبان من حديث كعب بن مالك مرفوعاً يبعث الله الناس فيكسوني ربي حلة خضراء فأقول ما شاء الله أن أقول فذلك المقام المحمود، ويظهر أن المراد بالقول المذكور هو الثناء الذي يقذدمه بين يدي الشفاعة، ويظهر أن المقام المحمود هو مجموع ما يحصل له في تلك الحالة، ويشعر قوله في آخر الحديث حلت له شفاعتي بأن الأمر المطلوب له الشفاعة والله أعلم انتهى كلام الحافظ "إلا حلت له الشفاعة" أي استحقت ووجبت أو نزلت عليه، يقال حل يحل بالضم إذا نزل، واللام بمعنى على ويؤيده رواية مسلم: حلت عليه ووقع في الطحاوي من حديث ابن مسعود وجبت له، ولا يجوز أن يكون حلت من الحل لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة كذا في الفتح. وفي رواية البخاري حلت له شفاعتي بدون إلا وهو الظاهر. وأما مع إلا فيجعل من في من قال استفهامية للانكار قاله في فتح الودود. وقال السيوطي في حاشية النسائي ما لفظه: وقوله هنا وفي رواية الترمذي إلا يحتاج إلى تأويل. وتأويله أنه حمله على معنى لا يقول ذلك أحد إلا حلت انتهى.
فائدة : قد اشتهر على الألسنة في هذا الدعاء زيادتان، الأولى إنك لا تخلف الميعاد(1/623)
قال أبو عيسى: حَدِيثُ جَابِرٍ حَدِيثٌ "صَحِيحٌ" حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمّدِ بنِ الْمنْكَدِرِ، لاَ نَعْلَمُ أَحَداً رَوَاهُ غَيْر شُعْيْبِ بنِ أَبِي حَمْزَةَ "عَنْ مُحَمّدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ".
"وَأَبُو حَمْزَةَ اسْمُهُ "دِينَارٌ"".
ـــــــ
في آخره، والثانية والدرجة الرفيعة بعد قوله والفضيلة. أما الأولى فقد وقعت في رواية البيهقي كما عرفت، وأما الثانية فلم أجدها في رواية. قال القاري في المرقاة أما زيادة الدرجة الرفيعة المشهورة على الألسنة فقال البخاري لم أره في شيء من الروايات انتهى.
قوله : "حديث جابر حديث حسن غريب إلخ" بل هو حديث صحيح غريب فإنه أخرجه البخاري في صحيحه بسند الترمذي قال الحافظ فهو غريب مع صحته، وقد توبع ابن المنكدر عليه عن جابر أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبي الزبير عن جابر. كذا في قوت المغتذي.(1/624)
158 ـ بابُ مَا جَاءَ فِي "أَنّ" الدّعَاءَ "لاَ يُرَدّ" بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَة
212 ـ حدثنَا مَحْمُودُ "بنُ غَيْلاَنَ" حَدّثَنَا وَكِيعٌ وَ عَبْدُ الرزّاقِ وَ أَبُو أَحْمَدَ وَ أَبُو نُعَيْمٍ قَالُوا: حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدٍ العَمّيّ عَنْ أَبِي إيَاسٍ
ـــــــ
"باب ما جاء في أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة"
قوله: "وأبو أحمد" اسمه محمد بن عبد الله بن زبير الزبيري الكوفي ثقة ثبت إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري "وأبو نعيم" بالتصغير هو الفضل بن دكين الملائي، قال أحمد ثقة يقظان عارف بالحديث، وقال الفسوي أجمع أصحابنا على أن أبا نعيم كان غاية في الإتقان "قالوا نا سفيان" هو الثوري "عن زيد العمى" بفتح العين وشدة الميم، قال في المغني إنما سمي زيد بالعمي لأنه كلما سئل عن شيء يقول حتى أسأل عمي وزيد العمي هذا هو ابن الحواري البصري قاضي هراة، قال الحافظ في التقريب ضعيف، وقال الخزرجي في الخلاصة ضعفة أبو حاتم والنسائي وابن عدى قال أحمد والدارقطني صالح انتهى "عن أبي إياس" بكسر الهمزة ككتاب "معاوية بن قرة"(1/624)
مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرّةَ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الدّعَاءُ لاَ يُرَدّ بَيْنَ الأَذَان وَالاْقَامَةِ" .
قال أبو عيسى: حَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ "صَحِيحٌ".
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيّ عَنْ بُرَيْدِ بنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ هَذَا.
ـــــــ
بضم القاف وشدة المزني البصري ثقة عالم من رجال الكتب الستة.
قوله : "الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة" بل يقبل ويستجاب، وفي بعض روايات أنس الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب ذكره السيوطي في الجامع الصغير، ولفظ الدعاء بإطلاقه شامل لكل ولا بد من تقييده بما في الأحاديث الأخرى من أنه ما لم يكن دعاء بإثم أو قطيعة رحم. قال المناوي تحت قوله مستجاب أي بعد جمع شروط الدعاء وأركانه وآدابه فإن تخلف شيء منها فلا يلوم إلا نفسه انتهى.
قوله : "حديث أنس حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والضياء في المختارة كذا في المنتقي والنيل، وقال في بلوغ المرام وصححه ابن خزيمة "وقد رواه أبو إسحاق الهمداني" بسكون الميم وبالدال المهملة وهو السبيعي قاله في الخلاصة "عن بريد" بالموحدة مصغراً "بن أبي مريم" البصري ثقة من الرابعة "عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا" أي مثل حديث الباب، قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر حديث الباب رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان من حديث بريد بن أبي مريم عن أنس وأخرجه هو وأبو داود والترمذي من طريق معاوية ابن قرة عن أنس، قال وروى أبو داود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث سهل بن سعد قال: ما ترد على داع دعوته عند حضور النداء الحديث انتهى.(1/625)
159 ـ بابُ "مَا جَاءَكَمْ" فَرَضَ الله عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الصّلَوَات
213 ـ حدثنَا مّحَمّدُ بنُ يَحْيَى "النّيْسَابِورِيّ" حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ أَخْبَرنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزهْرِيّ عَنْ أَنَسٍ بن مَالِكٍ قَالَ: "فُرِضَتْ عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ الصَلوَاتُ خَمْسِينَ، ثُمّ نُقِصَتْ حَتّى جُعِلَتْ خَمْساً، ثُمّ نُودِيَ: يا محمدُ: إِنّهُ لاَ يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ وَإِنّ لَكِ بِهَذِهِ الْخَمْسِ خَمْسينَ" .
ـــــــ
"باب ما جاء كم فرض الله على عباده من الصلوات"
قوله: "فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به الصلاة خمسين" وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم "فرض الله على خمسين صلاة كل يوم وليلة" وفي رواية للبخاري "فرض الله على أمتي خمسين صلاة" قال الحافظ فيحتمل أن يقال في كل من رواية الباب اختصار، أو يقال ذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على الأمة وبالعكس إلا ما يستثنى من خصائصه "ثم نقصت حتى جعلت خمساً" قال الحافظ قد حققت رواية ثابت أن التخفيف كان خمساً خمساً وهي زيادة معتمدة يتعين حمل باقي الروايات عليها "ثم نودي يا محمد إنه" الضمير للشأن "لا يبدل القول" أي لا يغير "وإن لك بهذا الخمس خمسين" أي ثواب خمسين صلاة والحديث استدل به على فرضية الصلوات الخمس وعدم فرضية ما زاد عليها كالوتر، وعلى جواز النسخ قبل الفعل، قال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال وغيره ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلي ثم تفضل عليهم بأن أكمل لهم الثواب، وتعقبه ابن المنير فقال هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشراح وهو مشكل على من أثبت النسخ قيل الفعل كالأشاعرة أو منعه كالمعتزلة لكونهم اتفقوا جميعاً على أن لا يتصور قبل البلاغ، وحديث الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ فهو مشكل عليهم جميعاً. وقال وهذه نكتة مبتكرة. قال الحافظ إن أراد البلاغ لكل أحد فممنوع وإن أراد قيل البلاغ إلى أمته فمسلم. لكن قد يقال ليس هو بالنسبة إليهم نسخاً، لكن هو بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسخ لأنه كلف بذلك قطعاً ثم نسخ بعد أن بلغه، وقبل أن يفعل فالمسألة صحيحة التصوير في حقه صلى الله عليه وسلم انتهى.(1/626)
"قَالَ": وفي البابِ عَنْ عُبَادَةَ بن الصّامِتِ، وَطَلْحَةَ بْن عبَيْدِ الله، وَأَبي ذَرّ وَأَبي قَتادَةَ، وَمَالِكِ بْن صَعْصَعَةَ، وَأَبِي سعِيدٍ الْخُدْرِي.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ حسَنٌ صَحِيحٌ "غَرِيبٌ".
ـــــــ
قوله : "وفي الباب عن عبادة بن الصامت وطلحة بن عبيد الله وأبي قتادة وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي سعيد الخدري" أما حديث عبادة بن الصامت فأخرجه أحمد والنسائي عنه مرفوعاً: خمس صلوات افترضهن الله تعالى من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهداً أن يغفر له الحديث، وروى مالك والنسائي نحوه، وأما حديث طلحة بن عبيد الله فأخرجه الشيخان عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول الحديث، وفيه خمس صلوات في اليوم والليلة الحديث. وأما حديث أبي قتادة فلينظر من أخرجه، وأما حديث أبي ذر فأخرجه الشيخان، وأما حديث مالك بن صعصعة فأخرجه الشيخان أيضاً وأما حديث أبي سعيد الخدري فلينظر من أخرجه.
قوله : "حديث أنس حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه أحمد والنسائي والحديث طرف من حديث الإسراء الطويل وأخرجه الشيخان مطولاً.(1/627)
160 ـ بابُ "مَا جَاءَ" فِي فَضْلِ الصَلوَاتِ الْخَمْس
214 ـ حدّثَنا عَليّ بْنُ حُجْرٍ أخْبَرَنَا إسْمَاعيلُ بن جَعْفَرٍ عَن الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَن عَنْ أَبيهِ عنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "الصّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ" .
ـــــــ
"باب في فضل الصلوات الخمس"
قوله: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة" زاد مسلم في رواية ورمضان إلى رمضان "كفارات لما بينهن" أي من الذنوب وفي رواية لمسلم مكفرات لما بينهن "ما لم تغش الكبائر"(1/627)
"قَالَ": وفي البابِ عنْ جَابِرٍ، وَأنَسٍ، وَحَنْظَلَةَ الأُسَيّدِيّ.
قال أبو عيسى: حَديثُ أبي هُرَيْرَةَ حَديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وفي رواية لمسلم إذا اجتنب الكبائر. قال النووي في شرح مسلم: في شرح حديث ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة. معناه إن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فإنها لا تغفر وليس المراد أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة فإن كانت لا يغفر شيء من الصغائر، فإن هذا وإن كان محتملاً فسياق الحديث يأباه قال القاضي عياض هذا المذكور في الحديث من غفر الذنوب ما لم يؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة وأن الكبائر إنما يكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله، وقال القاري في المرقاة إن الكبيرة لا يكفرها الصلاة والصوم وكذا الحج وإنما يكفرها التوبة الصحيحة لا غيرها، نقل ابن عبد البر الإجماع عليه بعد ما حكى في تمهيده عن بعض معاصريه أن الكبائر لا يكفرها غير التوبة، ثم قال وهذا جهل وموافقة للمرجئة في قولهم إنه لا يضر مع الإيمان ذنب، وهو مذهب باطل بإجماع الأمة انتهى، قال العلامة الشيخ محمد طاهر في مجمع البحار ص 221 ج 2 ما لفظه في تعليقي: للترمذي لا بد في حقوق الناس من القصاص ولو صغيرة وفي الكبائر من التوبة، ثم ورد وعد المغفرة في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان فإذا تكرر يغفر بأولها الصغائر وبالبواقي يخفف عن الكبائر وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة يرفع بها الدرجات انتهى.
قوله : "وفي الباب عن جابر وأنس وحنظلة الأسيدي" أما حديث جابر فأخرجه مسلم، وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان، وأما حديث حنظلة الأسيدي ويقال له حنظلة الكاتب فأخرجه أحمد بإسناد جيد مرفوعاً بلفظ: من حافظ على الصلوات الخمس ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة، الحديث ورواته رواة الصحيح قاله المنذري في الترغيب.
قوله : "حديث أ بي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(1/628)
161 ـ بابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الجَمَاعَة
215 ـ حَدّثَنا هَنّادٌ حدّثنَا عبْدَةُ عَنْ عبَيْدِ الله بن عُمَرَ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "صَلاَةُ الجَماعةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلاَةِ الرّجُلِ وَحْدَهُ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجةً" .
"قالَ": وفي البابِ عنْ عبْدِ الله بن مَسْعُودٍ، وَأُبيّ "بن كَعْبٍ" وَمُعَاذِ بن جَبَلٍ، وَأَبي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيرَةَ وَأَنَسِ "بْن مَالِكٍ".
قال أبو عيسى: حدِيثُ ابن عُمَرَ حدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَهَكَذَا رَوَى نافعٌ عنْ ابْن عُمَرَ عَن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قالَ: "تَفْضُلُ صَلاَةُ الْجَميع عَلَى صلاَةِ الرّجُلِ وَحْدَهُ بِسَبْعٍ وَعشْرِينَ دَرَجَةً" .
"قال أبو عيسى": وَعامّةُ مَنْ رَوى عنْ
ـــــــ
"باب ما جاء في فضل الجماعة"
قوله: "صلاة الجماعة تفضل" أي تزيد في الثواب "على صلاة الرجل وحده" أي منفرداً "بسبع وعشرين درجة" المراد بالدرجة الصلاة فتكون صلاة الجماعة بمثابة سبع وعشرين صلاة. كذا دل عليه ألفاظ الأحاديث ورجحه ابن سيد الناس كذا في قوت المغتذي.
قوله : "وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبي سعيد وأبي هريرة وأنس بن مالك" أما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وأما حديث أبي بن كعب فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال الحافظ المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: قد جزم يحيى بن معين والذهلي بصحة هذا الحديث. وأما حديث معاذ بن جبل فأخرجه البزار والطبراني في الكبير مرفوعاً بلفظ: تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده خمسة وعشرين صلاة وفيه عبد الحكيم بن منصور وهو ضعيف كذا في مجمع الزوائد، وأما حديث أبي سعيد فأخرجه البخاري، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه. وأما حديث أنس فأخرجه الدارقطني.
قوله : "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم "وعامة من روى عن(1/629)
النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما قالُوا "خَمْسٍ وَعِشْرِينَ" إلاّ ابن عُمَرَ فَإِنّهُ قالَ "بِسَبْعٍ وَعَشْرِينَ".
216 ـ حدّثَنَا إِسْحَاقُ بنُ مُوسَى الأَنْصَارِيّ حدثَنا مَعْنٌ حدثنا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالَ "إِنّ صلاَةَ الرّجُلِ فِي الْجَماعَةِ تَزِيدُ عَلَى صلاَتِهِ وَحْدَهُ.
ـــــــ
النبي صلى الله عليه وسلم إنما قالوا خمس وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال بسبع وعشرين" قال الحافظ في الفتح بعد ذكر قول الترمذي هذا: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق عن عبد الله العمري عن نافع فقال فيه خمس وعشرون. لكن العمري ضعيف. ووقع عند أبي عوانة في مستخرجه من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع فإنه قال فيه بخمس وعشرين وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد الله وأصحاب نافع، وإن كان راويها ثقة وأما غير ابن عمر فصح عن أبي سعيد وأبي هريرة كما في هذا الباب، وعن ابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه والحاكم وعن عائشة وأنس عند السراج. وورد أيضاً من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد بن ثابت وكلها عند الطبراني، واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية لأبي هريرة عند أحمد قال فيها سبع وعشرون وفي إسنادها شريك القاضي وفي حفظه ضعف، قال واختلف في أن أيهما أرجح. فقيل رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ انتهى كلام الحافظ باختصار يسير. قال النووي والجمع بينهما يعني بين روايتي الخمس والسبع من ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا منافاة بينهما فذكر القليل لا ينفي الكثير، ومفهوم العدد باطل عند جمهور الأصوليين، والثاني أن يكون أخبر أولاً بالقليل ثم أعلمه الله تعالى بزيادة الفضل فأخبر بها. والثالث أنه يختلف باختلاف أحوال المصلين والصلاة فيكون لبعضهم خمس وعشرون ولبعضهم سبع وعشرون بحسب كمال الصلاة ومحافظته على هيأتها وخشوعها وكثرة جماعتها وفضلهم وشرف البقعة ونحو ذلك قال فهذه هي الأجوبة المعتمدة انتهى. وقد ذكر الحافظ في الفتح وجوها أخر للجمع بين الروايتين من شاء الاطلاع عليها فليرجع إليه.(1/630)
بِخَمسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءاً" .
قال أبو عيسى: هَذَا حديثٌ حَسَنٌ صحِيحٌ
ـــــــ
قوله : "بخمس وعشرين جزءاً" قال الحافظ في الفتح وقع الاختلاف في مميز العدد المذكور، ففي الروايات كلها التعبير بقوله درجة أو حذف المميز إلا طرق حديث أبي هريرة ففي بعضها ضعفاً وفي بعضها جزءاً وفي بعضها درجة وفي بعضها صلاة ووقع هذا الأخير في بعض طرق حديث أنس والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة، ويحتمل أن يكون ذلك من التفنن في العبارة.
قوله : "هذا حديث حسن صحيح" تقدم تخريجه آنفاً.(1/631)
162 ـ بابُ مَا جَاءَ فيمَنْ يَسْمَعُ النّداءَ فَلاَ يُجِيب
217 ـ حَدثنا هَنّادٌ حدثنا وَكِيعٌ عَنْ جَعْفَرِ بْن بُرْقَانَ عنْ يَزِيدَ بْن الأَصْمّ عَنْ أَبي هُرَيرَةَ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قالَ "لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ آمُرَ فِتْيَتِي أنْ يَجْمَعُوا حُزَمَ الْحَطَبِ، ثُمّ آمُرَ بِالصّلاَةِ فَتُقَامَ، ثُمّ أُحَرّقَ عَلَى أَقْوَامٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصّلاَةَ" .
ـــــــ
"باب ما جاء فيمن سمع النداء فلا يجيب"
قوله: "عن جعفر بن برقان" بضم الموحدة وسكون الراء بعدها قاف "لقد هممت" اللام جواب القسم والهم العزم وقيل دونه، وزاد مسلم في أوله أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناسا في بعض الصلوات فقال لقد هممت فأفاد ذكر سبب الحديث "فتيتي" الفتية جمع فتي أي جماعة من شبان أصحابي أو خدمي وغلماني "أن يجمعوا حزم الحطب" جمع حزمة بضم الحاء ما حزم كذا في القاموس، وقال في الصراح حزمه بالضم بند هيزم وكاغذ وعلف وجزآن "ثم أحرق" بالتشديد والمراد به التكثير، يقال حرقه إذا بالغ في التحريق "على أقوام لا يشهدون الصلاة" وفي رواية أبي داود ثم آتى قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم.(1/631)
"قال أبو عيسى": وفي البابِ عَنْ "عَبْدِ الله" بْنِ مَسْعُودٍ، وأبي الدّرْدَاءِ، وابْنِ عَبّاسٍ، وَمُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، وَجَابِرٍ.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُمْ قَالُوا: "مَنْ سَمِعَ النّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ" .
وَقالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَذَا عَلَى التّغْلِيظِ وَالتّشْدِيدِ، وَلاَ رُخْصَةَ لأِحَدٍ فِي تَرْك الْجَماعَةِ إلاّ مِنْ عُذْرٍ.
ـــــــ
قوله : "وفي الباب عن أبي مسعود" أخرجه مسلم قال لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض. الحديث "وأبي الدرداء" قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من ثلاثة في قرية ولا بد ولا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية. أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ورواه الحاكم وصححه وقال النووي إسناده صحيح "وابن عباس" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر قالوا وما العذر قال خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى أخرجه أبو داود قال المنذري وفي إسناده أبو خياب يحيى بن أبي حية الكلبي وهو ضعيف، والحديث أخرجه ابن ماجه بنحوه وإسناده أمثل وفيه نظر انتهى "ومعاذ بن أنس وجابر" أخرجه العقيلي في الضعفاء كما يأتي عن قريب.
قوله : "وقد روى عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا إلخ" أخرج ابن ماجه وبقي بن مخلد وابن حبان وغيرهم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر، قال الحافظ في التلخيص إسناده صحيح لكن قال الحاكم وقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة ثم أخرج له شواهد منها عن أبي موسى الأشعري بلفظ من سمع النداء فارغاً صحيحاً فلم يجب فلا صلاة له رواه البزار من طريق سِمَاك عن أبي بردة عن أبيه موقوف. وقال البيهقي الموقوف أصح ورواه العقيلي في الضعفاء من حديث جابر وضعفه ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة وضعفه انتهى.
قوله : "وقال بعض أهل العلم هذا على التغليظ والتشديد" يعني أن قول الصحابة من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له ليس على ظاهره، بل هو محمول على التغليظ والتشديد،(1/632)
218- قَالَ مُجَاهِدٌ: "وَسُئِلَ ابْنُ عبّاسٍ عن رَجُلٍ يَصُومُ النّهارَ وَيَقُومُ اللّيْلَ، لاَ يَشْهَدُ جُمْعَةً وَلاَ جَمَاعَةً؟ قالَ: هُوَ فِي النّارِ" "قالَ": حدثنا بِذَلِكَ هَنّادٌ حدثنا المُحَارِبِيّ عَنْ لَيْثٍ عن مُجَاهِدٍ.
"قال": ومعنى الحديث: أن لا يشهد الجماعة والجمعة رغبة عنها واستخفافاً: بحقّها وتهاوناً بها.
ـــــــ
"ومعنى الحديث" أي حديث أبي هريرة المذكور في الباب. "أن لا يشهد جماعة ولا جمعة رغبة عنها" أى إعراضا عنها. قال الحافظ في فتح الباري: والحديث ظاهر في كون الجماعة فرض عين لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه وإلى القول بأنها فرض عين ذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان، وبالغ داود ومن تبعه فجعلها شرطا في صحة الصلاة، وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه وقال به كثير من الحنفية والمالكية والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة، وقد أجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبة ثم ذكر الحافظ عشرة أجوبة وقال في آخر كلامه: واجتمع من الأجوبة لمن لم يقل بالوجوب عشرة أجوبة لا توجد مجموعة في غير هذا الشرح انتهى. ونحن نذكر بعضا منها فمنها: أنه يستنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه، وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب، ومنها أن الحديث ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة وإنما المراد المبالغة، ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك، وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار وكان قبل ذلك جائزا بدليل حديث أبي هريرة الذي رواه البخارى في الجهاد الدال على جواز التحريق بالنار ثم نسخه فحمل التهديد على حقيقته غير ممتنع، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم ترك تحريقهم بعد التهديد فلو كانت فرض عين لما تركهم، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله، وأما الترك فلا يدل على عدمالوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه قد جاء في بعض الطرق بين سبب الترك وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياتي يحرقون.." الحديث.(1/633)
المجلد الثاني
تابع أبواب الصلاة
باب: ما جاء في الرجل يصلى وحده ثم يدرك الجماعة
...
بسم اله الرحمن الرحيم
163 ـ باب مَا جَاءَ فِي الرّجُلِ يُصَلّي وَحْدَهُ ثمّ يُدْرِكُ الْجَمَاعَة
219 ـ حدثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ حَدّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاء حَدّثَنَا جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ بْن الأسْوَدِ الْعَامِرِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "شَهِدْتُ مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم حجّتَهُ ، فَصَلّيْتُ مَعَهُ صَلاَةَ الصّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ ، قال: فَلَمّا قَضَى صَلاَتَهُ وَانْحَرَفَ إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي أُخْرَى الْقَوْمِ لَمْ يُصَلّيَا مَعَهُ ، فَقَالَ: عَلَيّ بهِمَا ، فَجِيءَ بِهمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أنْ تُصَلّيَا مَعَنَا؟ فَقَالاَ: يَا رَسُولَ الله إنّا كُنّا قَدْ صَلّيْنَا فِي رِحَالِنَا ، قَالَ:
ـــــــ
"باب ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة"
قوله: "نا يعلى بن عطاء" العامري ويقال الليثي الطائفي ثقة من الرابعة "نا جابر ابن يزيد بن الأسود" السوائي ويقال الخزاعي صدوق من الثالثة ولأبيه صحبة كذا في التقريب.
قوله: "شهدت" أي حضرت "حجته" أي حجة الوداع "في مسجد الخيف" هو مسجد مشهور بمنى قال الطيبي الخيف ما انهدر من غليظ الجبل وارتفع عن المسيل، يعني هذا وجه تسميته به "فلما قضى صلاته" أي أداها وسلم منها "انحرف" قال القاري أي انصرف عنها. قلت والظاهر أن المعنى انحرف عن القبلة، وقال ابن حجر أي جعل يمينه للمأمومين ويساره للقبلة ما هو السنة "فإذا هو" أي النبي صلى الله عليه وسلم "على" اسم فعل "بهما" أي ائتوني بهما وأحضروهما عندي "ترعد" بالبناء للمجهول أي تحرك من أرعد الرجل إذا أخذته الرعدة وهي الفزع والاضطراب "فرائصهما" جمع الفريصة وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها وهي ترجف عند الخوف أي تتحرك وتضطرب، والمعنى يخافان من رسول الله صلى الله عليه وسلم "في رحالنا" أي(2/3)
فَلاَ تَفْعَلاَ. إذَا صَلّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلّيا مَعَهُمْ، فَإِنّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ".
ـــــــ
في منازلنا "فلا تفعلا" أي كذلك ثانياً "فصليا معهم" أي مع أهل المسجد "فإنها لكما نافلة" فيه تصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة نافلة وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الأولى جماعة أو فرادى لأن في ترك الاستفصال مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، قال ابن عبد البر قال جمهور الفقهاء إنما يعيد الصلاة مع الإمام في جماعة من صلى وحده في بيته أو في غير بيته، وأما من صلى في جماعة وإن قلت فلا يعيد في أخرى، قلت أو كثرت ولو أعاد في جماعة أخرى لأعاد في ثالثة ورابعة إلى ما لا نهاية له وهذا لا يخفى فساده، قال ومن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم. ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: لا تصلى صلاة في يوم مرتين انتهى، وذهب الأوزاعي وبعض أصحاب الشافعي وهو قول الشافعي القديم إلى أن الفريضة هي الثانية إذا كانت الأولى فرادى، واستدلوا بما أخرجه أبو داود عن يزيد بن عامر قال جئت والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة فانصرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه جالساً فقال ألم تسلم يا يزيد قال بلى يا رسول الله قد سلمت قال فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم قال إني كنت قد صليت في منزلي وأنا أحسب أن قد صليتم، فقال إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة، ولكنه قد ضعفه النووي وقال البيهقي إن حديث يزيد بن الأسود يعني حديث الباب أثبت منه وأولى، ورواه الدارقطني بلفظ ويجعل التي صلى في بيته نافلة، وقال هي رواية ضعيفة شاذة انتهى، وعلى فرض صلاحية حديث يزيد بن عامر للاحتجاج به فالجمع بينه وبين حديث الباب ممكن بحمل حديث الباب على من صلى الصلاة الأولى في جماعة وحمل هذا على من صلى منفرداً كما هو الظاهر من سياق الحديثين ويكونان مخصصين لحديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تصلوا صلاة في يوم مرتين على فرض شموله لإعادة الفريضة من غير فرق بين أن تكون الإعادة بنية الافتراض أو التطوع. وأما إذا كان النهي مختصاً بإعادة الفريضة بنية الافتراض فقط فلا يحتاج إلى الجمع بينه وبين حديث الباب كذا في النيل.(2/4)
قال وفي الباب عن مِحْجَنٍ الدّيلي ، ويزيدَ بن عَامِرٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ يَزِيدَ بنِ اْلأَسْوَدِ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وهو قولُ غير واحد من أهل العلم.
وبه يقولُ سفيانُ الثوريّ والشافعيّ وأَحمدُ وإسحَقُ.
قَالُوا: إِذَا صَلّى الرّجُلُ وَحْدَهُ ثُمّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ فَإِنّهُ يُعِيدُ الصلواتِ كلّهَا في الجَمَاعَةِ ، وَإِذَا صَلّى الرّجُلُ المَغْرِبَ وَحدَهُ ثمّ أدْرَكَ الجَمَاعَةَ، قَالُوا. فَإِنّهُ يُصلّيهَا
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن محجن" بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الجيم صحابي قليل الحديث. وأخرج حديثه مالك في الموطأ بلفظ أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ورجع ومحجن في مجلسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعك أن تصلي مع الناس ألست برجل مسلم فقال بلى يا رسول الله ولكن كنت قد صليت في أهلي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جئت المسجد وكنت قد صليت فأقيمت الصلاة فصل مع الناس وإن كنت قد صليت، ورواه أيضاً النسائي وابن حبان والحاكم "ويزيد بن عامر" أخرج حديثه أبو داود وتقدم لفظه.
قوله: "حديث يزيد بن الأسود حديث حسن صحيح" أخرجه الخمسة إلا ابن ماجه وأخرجه أيضاً الدارقطني وابن حبان والحاكم وصححه ابن السكن ، قال الحافظ في التلخيص: كلهم من طريق يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه وقال الشافعي في القديم إسناده مجهول. قال البيهقي لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه ولا لابنه جابر راو غير يعلى، قال الحافظ يعلى من رجال مسلم وجابر ثقة وثقه النسائي وغيره وقد وجدنا لجابر بن يزيد راو غير يعلى أخرجه ابن منده في المعرفة من طريق بقية عن إبراهيم بن ذي حماية عن عبد الملك بن عمير عن جابر انتهى.
قوله: "فإنه يعيد الصلوات كلها في الجماعة" أي الصلوات الخمس كلها في الجماعة، بعموم أحاديث الباب وللتصريح في حديث يزيد بن الأسود بأن قوله صلى الله عليه وسلم إذا صليتما في رحالكما إلخ كان في صلاة الصبح، وقال أبو حنيفة لا يعيد الصبح ولا العصر ولا المغرب لكراهية التطوع بعد صلاة الصبح والعصر ولعدم مشروعية(2/5)
معهم ويَشْفَعُ بِرَكعَةٍ ، والتي صَلّى وحدَه هي المكتوبة عندَهم.
ـــــــ
التطوع وتراً. قلت حديث الباب يدل على مشروعية الدخول مع الجماعة بنية التطوع لمن كان قد صلى تلك الصلاة ولو كان الوقت وقت كراهة للتصريح بأن ذلك كان في صلاة الصبح وإلى ذلك ذهب الشافعي فيكون هذا مخصصاً لعموم الأحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة الصبح ومن جوز التخصيص بالقياس ألحق ما ساواه من أوقات الكراهة ، وظاهر التقييد بقوله صلى الله عليه وسلم ثم أتيتما مسجد جماعة أن ذلك مختص بالجماعات التي تقام في المساجد لا التي تقام في غيرها فيحمل المطلق من ألفاظ الحديث على المقيد بمسجد الجماعة قاله الشوكاني.
قوله: "ويشفع بركعة" روى ابن أبي شيبة عن علي قال إذا أعاد المغرب شفع بركعة "والتي صلى وحده هي المكتوبة عندهم" واستدلوا عليه بحديث يزيد بن أسود المذكور في الباب ، وكذلك وقع في حديث أبي ذر وغيره في آخر الحديث حيث قال ولتجعلها نافلة كذا في التلخيص ، قلت وهذا القول هو الراجح وأما قول من قال بأن الفريضة هي الثانية فلم يقم عليه دليل صحيح كما قد عرفت.(2/6)
164 ـ باب ما جاء في الجماعة في مسجدٍ قد صُلّيَ فيه مَرّة
220 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا عَبْدَةُ عن سَعِيدِ بن أبي عَرُوبَةَ عن سليمان النّاجِيّ البصري عن أبي المُتَوَكّلِ عن أَبي سعيدٍ قال: جاء رجلٌ وقد صَلّى
ـــــــ
"باب ما جاء في الجماعة في مسجدٍ قد صُلّيَ فيه مَرّة"
قوله: "نا عبدة" بإسكان الباء هو ابن سليمان الكلابي أبو محمد الكوفي روى عن هشام بن عروة والأعمش وطائفة وعنه أحمد وإسحاق وهناد بن السري وأبو كريب وخلق ، وثقه أحمد بن سعد والعجلي ، قال أحمد: مات سنة سبع وثمانين ومائة "عن سعيد بن أبي عروبة" ثقة حافظ له تصانيف لكنه كثير التدليس واختلط وكان من أثبت الناس في قتادة كذا في التقريب ، قلت قد تابعه وهيب عن سليمان الناجي في رواية أبي داود فلا يضر تدليسه واختلاطه في هذا الحديث "عن سليمان الناجي" بالنون والجيم(2/6)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أَيّكُمْ يَتّجِرُ على هَذَا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَصَلّى مَعَهُ".
قال وفي الباب عَنْ أبي أُمَامَةَ ، وَأَبي مُوسَى ، والْحَكَمِ ابْنِ عُمَيْرٍ.
ـــــــ
ويقال له سليمان الأسود أيضاً وكذلك وقع في رواية أبي داود وثقه ابن معين "أيكم تيجر" بشدة التاء من أتجر يتجر إتجاراً من باب الإفتعال ، قال ابن الأثير في النهاية في باب التاء مع الجيم وفيه من يتجر على هذا فيصلي معه هكذا يرويه بعضهم ، وهو يفتعل من التجارة لأنه يشتري بعمله الثواب ولا يكون من الأجر على هذه الرواية لأن الهمزة لا تدغم في التاء فإنما يقال فيه يأتجر ، وقال في باب الهمزة مع الجيم في حديث الأضاحي كلوا وادخروا وأتجروا أي تصدقوا طالبين الأجر بذلك ، ولا يجوز فيه اتجروا بالإدغام لأن الهمزة لا تدغم في التاء وإنما هو من الأجر لا التجارة ، وقد أجازه الهروي في كتابه ، واستشهد عليه بقوله في الحديث الاَخر أن رجلاً دخل المسجد وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته فقال من يتجر فيقوم فيصلي معه ، والرواية إنما هي يأتجر وإن صح فيها يتجر فيكون من التجارة لا الأجر كأنه بصلاته معه قد حصل لنفسه تجارة أي مكسباً انتهى كلام ابن الأثير.
قلت: في قولهم الهمزة لا تدغم في التاء تأمل ، فقد قال الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} وقالت عائشة وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض ، رواه الشيخان ففي اتخذ واتزر قد أدغمت في التاء ، وأما إنكار النحاة الإدغام في قول عائشة فأتزر فلا وجه له مع صحة روايتها بالإدغام ـ قال القاري في المرقاة قال في المفصل: قول من قال فأتزر خطأ خطأ ، وقال الكرماني فأتزر في قول عائشة وهي من فصحاء العرب حجة فالمخطئ مخطئ انتهى ، وقد تقدم بعض ما يتعلق بهذا في باب مباشرة الحائض فتذكر . فمعنى قوله أيكم يتجر على هذا أيكم يتصدق على هذا طالبا الأجر بذلك ، وقد وقع في رواية أبي داود ألا رجل يتصدق على هذا ، قال المظهري سماه صدقة لأنه يتصدق عليه بثواب ست وعشرين درجة إذ لو صلى منفرداً لم يحصل له إلا ثواب صلاة واحدة انتهى "فقام رجل" هو أبو بكر الصديق قال الزيلعي في نصب الراية وفي رواية البيهقي أن الذي قام فصلى معه أبو بكر رضي الله عنه.
قوله: "وفي الباب عن أبي أمامة وأبي موسى والحكم بن عمير" أما حديث(2/7)
قال أبو عيسى: و حَدِيثُ أبي سَعيدٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ مِنْ التّابِعِينَ.
ـــــــ
أبي أمامة فأخرجه أحمد والطبراني بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وحده فقال ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل فصلى معه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذان جماعة، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: له طرق كلها ضعيفة انتهى وأما حديث أبي موسى وحديث الحكم بن عمير فلم أقف على من أخرجهما. وفي الباب عن أنس أن رجلاً جاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقام يصلي وحده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتجر على هذا فيصلي معه، أخرجه الدارقطني قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية إسناده جيد وكذا قال الحافظ بن حجر في الدراية. وفي الباب أيضاً عن سلمان أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم قد صلى فقال ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه، وفيه محمد بن عبد الملك أبو جابر قال أبو حاتم أدركته وليس بالقوي في الحديث، ورواه البزار وفيه الحسين بن الحسن الأشقر وهو ضعيف جداً وقد وثقه ابن حبان كذا في مجمع الزوائد، وفي الباب أيضاً عن عصمة ذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية والهيثمي وهو ضعيف.
قوله: "حديث أبي سعيد حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود وسكت عنه ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح.
قوله: "وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين" وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه قال ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا إسحاق الأزرق عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل أن ابن مسعود دخل المسجد وقد صلوا فجمع بعلقمة ومسروق والأسود وإسناده صحيح، وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه، قال البخاري في صحيحه وجاء أنس بن مالك إلى مسجد قد صلى فيه فأذن وأقام وصلى جماعة انتهى، قال الحافظ في الفتح وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان. قال مر بنا أنس بن مالك في مسجد بني ثعلبة فذكر نحوه، قال وذلك في صلاة الصبح(2/8)
قَالُوا: لاَ بَأْسَ أنْ يُصَلّيَ الْقَوْمُ جَمَاعَةً فِي مَسْجِدٍ قَدْ صُلّيَ فِيهِ جَمَاعة.
وَبهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَقُ.
وَقَال آخَرُونَ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ: يُصَلّونَ فُرَادَى.
وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ ، وَابْنُ المُبَارَكِ، وَمَالِكٌ ، وَالشّافِعِيّ: يَخْتَارُونَ الصّلاَةَ فُرَادَى.
"وَسُلَيْمانُ النّاجِيّ بَصْرِيّ ، وَيُقَالُ: "سُلَيْمانُ بْنُ الأَسْوَدِ" .
"وَأَبُو المُتَوَكّلِ اسْمُهُ "عَلِيّ بْنُ دَاوُدَ" .
ـــــــ
وفيه فأمر رجلاً فأذن وأقام ثم صلى بأصحابه وأخرجه ابن أبي شيبة من طرق عن الجعد وعند البيهقي من طريق أبي عبد الصمد العمي عن الجعد نحوه وقال في مسجد بني رفاعة وقال فجاء أنس في نحو عشرين من فتيانه انتهى.
قوله: "وبه يقول أحمد وإسحاق" قال العيني في شرح البخاري ص وهو قول عطاء والحسن في رواية وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأشهب عملا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ الحديث انتهى ، وهذا القول هو الحق ودليله أحاديث الباب.
قوله: "وقال آخرون من أهل العلم يصلون فرادى وبه يقول سفيان وابن المبارك ومالك والشافعي يختارون الصلاة فرادى" واستدل لهم بحديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم رواه الطبراني في الكبير والأوسط وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رجاله ثقات انتهى.
وأجيب عنه بوجوه منها: أن هذا الحديث لا يعلم حاله كيف هو صحيح قابل للاحتجاج أم لا ، وأما قول الهيثمي رجاله ثقات فلا يدل على صحته لاحتمال أن يكون فيهم مدلس ورواه بالعنعنة أو يكون فيهم مختلط ورواه عنه صاحبه بعد اختلاطه أو يكون فيهم من لم يدرك من رواه عنه أو يكون فيه علة أو شذوذ ، قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية في الكلام على بعض روايات الجهر بالبسملة لا يلزم من ثقة الرجال صحة الحديث(2/9)
ـــــــ
حتى ينتفي منه الشذوذ والعلة ، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص في الكلام على بعض روايات حديث بيع العينة لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات أن يكون صحيحاً انتهى ، هذا بعد تسليم أن رجال هذا الحديث ثقات على ما قال الحافظ الهيثمي ، لكن قال صاحب العرف الشذي: إن في سنده معاوية بن يحيى وهو متكلم فيه ولفظه هكذا ولقد صنف مولانا الكنكوهي رسالة في مسألة الباب وأتى فيه بحديث أنه عليه السلام دخل المسجد وقد صلى فيه فذهب إلى بيته وجمع أهله وصلى بالجماعة ، ولو كانت الجماعة الثانية جائزة بلا كراهة لما ترك فضل المسجد النبوي ، أخرجه في معجم الطبراني. في الأوسط والكبير ، وقال الحافظ نور الدين الهيثمي إن رجال السند ثقات محسنة ، وأقول إن في سنده معاوية بن يحيى من رجال التهذيب متكلم فيه انتهى كلامه بلفظه ، قلت الأمر كما قال صاحب العرف الشذي ، لا شك في إن في سنده معاوية بن يحيى أبا مطيع الأطرابلسي وهو متكلم فيه ، وذكر الحافظ الذهبي في الميزان أحاديثه المناكير وذكر فيها حديث أبي بكرة هذا أيضاً حيث قال فيه الوليد بن مسلم عن معاوية أبي مطيع عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من بعض نواحي المدينة يريد الصلاة فوجدهم قد صلوا فانصرف إلى منزله فجمع أهله ثم صلى بهم ، وأما رسالة الشيخ الكنكوهي فقد صنف علمائنا في الرد عليها رسالة حسنة جيدة وأجاب عن ما استدل به الشيخ الكنكوهي جواباً شافياً.
ومنها أن الحديث ليس بنص على أنه صلى الله عليه وسلم جمع أهله فصلى بهم في منزله بل يحتمل أن يكون صلى بهم في المسجد ، وكان ميله إلى منزله لجمع أهله لا للصلاة فيه ، وحينئذ يكون هذا الحديث دليلا لاستحباب الجماعة في مسجد قد صلى فيه مرة لا لكراهتها فما لم يدفع هذا الاحتمال كيف يصح الاستدلال . ومنها: أنه لو سلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأهله في منزله لا يثبت منه كراهة تكرار الجماعة في المسجد ، بل غاية ما يثبت منه أنه لو جاء رجل في مسجد قد صلى فيه فيجوز له أن لا يصلي فيه بل يخرج منه فيميل إلى منزله فيصلي بأهله فيه. وأما أنه لا يجوز له أن يصلي في ذلك المسجد بالجماعة أو يكره له ذلك فلا دلالة للحديث عليه البتة كما لا يدل الحديث على كراهة أن يصلي فيه منفرداً.(2/10)
ـــــــ
ومنها: أنه لو ثبت من هذا الحديث كراهة تكرار الجماعة لأجل أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في المسجد لثبت منه كراهة الصلاة فرادى أيضاً في مسجد قد صلى فيه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في المسجد لا منفرداً ولا بالجماعة . والحاصل: أن الاستدلال بحديث أبي بكرة المذكور على كراهة تكرار الجماعة في المسجد واستحباب الصلاة فرادى ليس بصحيح . ولم أجد حديثاً مرفوعاً صحيحاً يدل على هذا المطلوب. وأما قول الشيخ الكنكوهي لو كانت الجماعة الثانية جائزة بلا كراهة لما ترك فضل المسجد النبوي . ففيه أنه يلزم من هذا التقرير كراهة الصلاة فرادى أيضاً في مسجد قد صلى فيه بالجماعة ، فإنه يقال لو كانت الصلاة فرادى جائزة بلا كراهة في مسجد قد صلى فيه بالجماعة لما ترك فضل المسجد النبوي فتفكر .
تنبيه: إعلم أن الفقهاء الحنفية يذكرون في كتبهم أثراً عن أنس بن مالك يستدلون به أيضاً على كراهة تكرار الجماعة في المسجد ، قال الشامي في رد المختار وروى عن أنس بن مالك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا فاتتهم الجماعة صلوا فرادى انتهى . قلت: لم يثبت هذا عن أنس بن مالك في كتب الحديث البتة ، بل ثبت عنه خلافه، قال البخاري في صحيحه وجاء أنس بن مالك إلى مسجد قد صلى فيه فأذن وأقام وصلى جماعة وقد تقدم ذكر من أخرجه موصولاً ، نعم أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال كان أصحاب محمد إذا دخلوا في مسجد قد صلى فيه صلوا فرادى انتهى ، لكن قد صرح الحسن بأن صلاتهم فرادى إنما كانت لخوف السلطان . قال ابن أبي شيبة في مصنفه . حدثنا هشيم أنا منصور عن الحسن ، قال إنما كانوا يكرهون أن يجمعوا مخافة السلطان انتهى.
تنبيه: قال صاحب العرف الشذي ما لفظه: واقعة الباب ليس حجة علينا فإن المختلف فيه إذا كان الإمام والمقتدي مفترضين ، وفي حديث الباب كان المقتدي متنفلاً انتهى . قلت: إذا ثبت من حديث الباب حصول إثبات الجماعة بمفترض ومتنفل فحصول ثوابها بمفترضين بالأولى . ومن ادعى الفرق فعليه بيان الدليل الصحيح . على أنه لم يثبت عدم جواز تكرار الجماعة أصلاً لا بمفترضين ولا بمفترض ومتنفل. فللقول بجواز تكرارها بمفترض ومتنقل وعدم جواز تكرارها بمفترضين مما لا يصغي إليه . كيف وقد تقدم أن(2/11)
ـــــــ
أنساً جاء في نحو عشرين من فتيانه إلى مسجد قد صلى فيه فصلى بهم جماعة . وظاهر أنه وفتيانه كلهم كانوا مفترضين ، وكذلك جاء ابن مسعود إلى مسجد قد صلى فيه فجمع بعلقمة ومسروق والأسود . وظاهر أنه وهؤلاء الثلاثة كلهم كانوا مفترضين فتفكر(2/12)
165ـ باب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْعِشاءِ وَالْفَجْرِ فِي الجَمَاعَة
221ـ حدثنا محمودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدّثَنَا بِشْرُ بْنُ السريّ حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُثْمانَ بْنِ حَكيمٍ عَنْ عبدِ الرّحْمَنِ بْنِ أبي عَمْرَةَ عَنْ عُثْمانَ بنِ عَفّانَ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَهِدَ الْعِشَاء فِي جَمَاعةٍ كَانَ لَهُ قِيَامُ نِصْفِ لَيْلَةٍ ، وَمَنْ صَلّى العِشَاء والفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ".
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْعِشاءِ وَالْفَجْرِ فِي الجَمَاعَة"
قوله: "نا بشر بن السري" الأفوه . بصري سكن مكة وكان واعظاً ثقة متقناً طعن فيه برأى جهم ثم اعتذر وتاب، روى عن الثوري وغيره "حدثنا سفيان" هو الثوري "عن عثمان بن الحكيم" بن عباد بن حنيف الأنصاري الأوسي أبو سهل المدني ثم الكوفي ثقة "عن عبد عبد الرحمن بن أبي عمرة" الأنصاري النجاري المدني ثقة كثير الحديث.
قوله: "من شهد العشاء في جماعة" وفي رواية مسلم من صلى العشاء في جماعة "كان له قيام نصف ليلة" وفي رواية مسلم فكأنما قام نصف الليل "ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة" وكذلك في رواية أبي داود . وفي رواية مسلم ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله . قال الحافظ المنذري في الترغيب قال ابن خزيمة في صحيحه باب فضل صلاة العشاء والفجر وبيان أن صلاة الفجر في الجماعة أفضل من صلاة العشاء في الجماعة وأن فضلها في الجماعة ضعفا فضل العشاء في الجماعة ، ثم ذكر حديث عثمان بنحو لفظ مسلم ، قال المنذري ولفظ أبي داود والترمذي يدافع ما ذهب إليه انتهى ، قلت الأمر كما قال المنذري ، فإن قلت: فما التوفيق بين رواية مسلم التي تقتضي بظاهرها أن من صلى العشاء والفجر في جماعة كان له قيام ليلة ونصف وبين(2/12)
قال وفي الباب عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٍ ، وَعُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ ، وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيّ ، وَأُبَيّ بن كَعْبٍ وَأَبي مُوسَى ، وَبُرَيْدَةَ.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ عُثْمانَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بن أبي عَمْرَةَ عنْ عُثْمانَ مَوْقُوفاً وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عُثْمانَ مَرْفوعاً.
222ـ حدثنا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ حَدّثَنَا يَزِيدُ بنُ هَرُونَ أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبي هِنْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
رواية أبي داود والترمذي التي تدل على أن له قيام ليلة. قلت: المراد بقوله ومن صلى الصبح في جماعة في رواية مسلم أي منضماً لصلاة العشاء جماعة. قاله المناوي . وقال القاري في المرقاة في شرح قوله فكأنما صلى الليل كله أي بانضمام ذلك النصف فكأنه أحي نصف الليل الأخير انتهى. وهذا هو المتعين جمعاً بين الروايتين، والله تعالى أعلم . قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس وعمارة بن أبي رويبة وجندب وأبي بن كعب وأبي موسى وبريدة " أما حديث ابن عمر فأخرجه الطبراني في الأوسط مرفوعاً بلفظ: من صلى العشاء في جماعة وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر . قال الهيثمي في مجمع الزوائد في إسناده ضعيف غير متهم بالكذب انتهى ، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان وفيه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا وأما حديث أنس فأخرجه أحمد بمعنى حديث أبي هريرة. قال الهيثمي رجاله موثقون. وأما حديث عمارة بن رويبة فأخرجه مسلم في صحيحه . أما حديث جندب فأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم . وأما حديث أبي بن كعب فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم . وأما حديث أبي موسى فأخرجه الشيخان . وأما حديث بريدة فأخرجه أبو داود والترمذي.
قوله: "عن جندب" بضم الجيم وسكون النون وضم الدال وفتحها "بن سفيان"(2/13)
قَالَ: "مَنْ صَلّى الصّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمّةِ الله ، فَلاَ تُخْفِرُوا الله فِي ذِمّتِهِ".
"قال أبو عيسى: حَديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ" .
223ـ حدثنا عَبّاسٌ الْعَنْبَرِيّ حدثنا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ أبُو غَسّانَ الْعَنْبَرِيّ عَنْ إِسْماعِيلَ الكَحّال عَنْ عَبْدِ الله بْن أوْسٍ الْخُزَاعِيّ عَنْ بُرَيْدَةَ الأسْلَمِيّ عن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَشّرِ الْمَشّائِينَ فِي الظّلَم إلَى الْمَسَاجِدِ بِالنّورِ التّامّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَرْفُوعٌ ، هُوَ صَحِيحٌ مُسْنَدٌ وَمَوْقُوفٌ إلَى أصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، وَلَمْ يُسْنَدْ إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم" .
ـــــــ
هو اسم جد جندب واسم أبيه عبد الله ينسب تارة إلى أبيه وتارة إلى جده وله صحبة "من صلى الصبح فهو في ذمة الله" أي في عهده وأمانه في الدنيا والاَخرة . وهذا غير الأمان الذي ثبت بكلمة التوحيد "فلا تخفروا الله في ذمته" قال في النهاية: خفرت الرجل أجرته وحفظته وأخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه ، والهمزة فيه للازالة أي أزلت خفارته كأشكيته إذا أزلت وهو المراد في الحديث انتهى.
قوله: "حديث عثمان حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم ولم يحكم الترمذي على حديث جندب بن سفيان بشيء وهو حديث صحيح أخرجه مسلم.
قوله: "بشر المشائين" هذا من الخطاب العام ولم يرد به أمراً واحداً بعينه كذا في قوت المغتذي ، والمشائين جمع المشاء وهو كثير المشي "بالنور التام" الذي يحيط بهم من جميع جهاتهم ، أي على الصراط لما قاسوا مشقة المشي في ظلمة الليل جوزوا بنور يضيء لهم ويحيطهم قاله المناوي وقال الطيبي في وصف النور بالتام وتقييده بيوم القيامة تلميح إلى وجه المؤمنين يوم القيامة في قوله تعالى: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} إلى وجه المنافقين في قوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} انتهى قوله. "هذا حديث غريب" وأخرجه أبو داود قال المنذري في الترغيب رجال إسناده ثقات وقد ذكر في معنى هذا الحديث أحاديث أخرى بأسانيد حسان من شاء الاطلاع عليها فليرجع إلى الترغيب.(2/14)
166ـ باب مَا جَاءَ فِي فَضْل الصفّ الأَوّل
224ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ سُهَيْل بْنِ أبي صَالِحٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ صُفُوفِ الرّجَالِ أوّلُهَا ، وَشَرّها آخرُهَا ، وَخَيْرُ صفوفِ النساءِ آخرُها ، وشرّها أوّلُها".
قال وفي الباب عَنْ جَابِرٍ ، وَابْنِ عبّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَأبي سَعِيدٍ ، وَأُبيّ ، وَعَائِشَةَ ، وَالْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، وَأنَسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أنّهُ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلصّفّ الأوّلِ ثَلاَثاً، وَلِلثّانِي مَرّةً".
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ فِي فَضْل الصفّ الأَوّل"
قوله: "خير صفوف الرجال أولها" لقربهم من الإمام واستماعهم لقراءته وبعدهم من النساء "وشرها آخرها" لقربهم من النساء وبعدهم من الإمام "وخير صفوف النساء آخرها" لبعدهن من الرجال "وشرها أولها" لقربهن من الرجال . والحديث أخرجه مسلم أيضاً في صحيحه . قال النووي أما صفوف الرجال فهي على عمومها فخيرها أولها أبدا وشهرها آخرها أبدا . أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال . وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها وشرها آخرها . والمراد بشر الصفوف في الرجال والنساء أقلها ثواباً وفضلاً وأبعدها من مطلوب الشرع وخيرها بعكسه . وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك ، وذم أول صفوفهن بعكس ذلك انتهى . قوله: "وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستغفر للصف الأول ثلاثاً وللثاني مرة" رواه(2/15)
225- وَقَالَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أنّ النّاسَ يَعْلَمُونَ مَا فِي النّدَاءِ والصّفّ الأَوّلِ ثمّ لَمْ يَجِدُوا إلاّ أَنْ يَسْتَهِمُوا علَيْهِ لاَسْتَهَمُوا علَيْهِ".
قال: حدثنا بِذَلِكَ إسْحَقُ بن مُوسَى الأنْصَارِيّ حدثَنَا مَعْنٌ حَدّثَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمىّ عَنْ أبي صَالِحٍ عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: مِثْلَهُ.
226ـ وحدثنا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ نَحْوَهُ.
ـــــــ
النسائي وابن ماجه وأحمد عن العرباض بن سارية.
قوله: "ما في النداء والصف الأول" زاد أبو الشيخ في رواية من طريق الأعرج عن أبي هريرة من الخير والبركة كذا في الفتح "ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا" أي إلا أن يقترعوا. قال الخطابي قيل للاقتراع الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء فمن خرج سهمه غلب. قال الحافظ أي لم يجدوا شيئاً من وجوه الأولوية أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك من شرائط المؤذن وتكملاته. وأما في الصف الأول فبأن يصلوا دفعة واحدة ويستووا في الفضل فيقرع بينهم إذا لم يتراضوا بينهم في الحالين قاله الحافظ "عليه" أي على ما ذكر ليشمل الأمرين الأذان والصف الأول وقد رواه عبد الرزاق عن مالك بلفظ فاستهموا عليهما. قاله الحافظ.
قوله: "عن سمي" بضم أوله بلفظ التصغير مولى أبي بكر بن عبد الرحمن المخزومي المدني وثقه أحمد وغيره.(2/16)
167ـ باب مَا جَاءَ فِي إقَامَةِ الصّفُوف
227 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا أبو عَوَانَةَ عَنْ سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ عَنْ
ـــــــ
"باب ما جاء في إقامة الصفوف"
أي في تعديلها يقال أقام العود إذا عدله وسواه.(2/16)
النّعْمَانِ بن بَشِيرٍ قَالَ: "كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسَوّي صُفُوفَنَا ، فَخَرَجَ يَوْماً فَرَأَى رجلاً خَارِجاً صَدْرُهُ عَنِ الْقَوْمِ، فَقَالَ: لَتُسَوّنَ صفوفَكم أوْ لَيُخَالِفنّ الله بَيْنَ وُجُوهِكُمْ".
قال وفي الباب عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ ، وَالْبَرَاءِ ، وَجَابِرِ بنِ عَبْدِ الله ، وَأَنَسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَائِشَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "لتسون" بضم التاء المثناة وفتح السين وضم الواو المشددة وتشديد النون قال البيضاوي هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم والقسم هنا مقدر ولهذا أكده بالنون المشددة قوله: "أو ليخالفن الله وجوهكم" أي إن لم تسووا. قال النووي قيل معناه يمسخها ويحولها عن صورها لقوله صلى الله عليه وسلم: يجعل الله صورته صورة حمار . وقيل يغير صفاتها . والأظهر والله اعلم أن معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما يقال تغير وجه فلان على أي ظهر لي من وجهه كراهة لي وتغير قلبه علي لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن انتهى . قال الحافظ في الفتح ويؤيده رواية أبي داود وغيره بلفظ: أو ليخالفن بين قلوبكم انتهى. والحديث يدل بظاهره على وجوب تسوية الصفوف.
قوله: "وفي الباب عن جابر بن سمرة والبراء وجابر بن عبد الله وأنس وأبي هريرة وعائشة" أما حديث جابر بن سمرة فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه البراء فأخرجه أبو داود ، وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه أحمد وغيره وسيأتي لفظه ، وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان وغيرهما وله ألفاظ. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود بلفظ توسطوا الإمام وسدوا الخلل . وأما حديث عائشة فأخرجه أبو داود بلفظ: لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار.
قوله: "حديث النعمان بن بشير حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.(2/17)
وَقَدْ رُويَ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قَالَ: "مِنْ تَمَامِ الصّلاَةِ إقَامَةُ الصّفّ".
وَرُويَ عن عُمَرَ: أنه كَانَ يُوَكّلُ رِجَالا بِإِقَامَةِ الصّفُوفِ فَلاَ يُكَبّرُ حَتّى يُخْبَرَ أنّ الصّفُوفَ قد اسْتَوَتْ.
وَرُوِيَ عَنْ عَليّ وَعُثْمانَ: أنّهُمَا كَانَا يَتَعَاهَدَان ذَلِكَ ، وَيقُولانِ: اسْتَوُوا.
وَكَانَ عَلِيّ: يَقُولُ تَقَدّمْ يَا فُلاَنُ ، تَأَخّرْ يا فُلاَنُ.
ـــــــ
قوله: "وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تمام الصلاة إقامة الصف" في مجمع الزوائد عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من تمام الصلاة إقامة الصف ، رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط . وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل وقد اختلف في الاحتجاج به انتهى.
قوله: "وروى عن عمر أنه كان يوكل رجلاً بإقامة الصفوف ولا يكبر حتى يخبر أن الصفوف قد استوت" رواه مالك في الموطأ عن نافع أن عمر بن الخطاب كان يأمر بتسوية الصفوف فإذ جاءوه فأخبروه أن قد استوت كبر "وروى عن علي وعثمان أنهما كانا يتعاهدان ذلك ويقولان أستووا إلخ" في الموطأ عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال كنت مع عثمان ابن عفان فقامت الصلاة وأنا أكلمه في أن يفرض لي فلم أزل أكلمه وهو يستوي الحصباء بنعليه حتى جاءه رجال قد كان وكلهم بتسوية الصفوف فأخبروه أن الصفوف قد استوت فقال لي استو في الصف ثم كبر .(2/18)
168ـ باب مَا جَاءَ لِيَلِيَنّي مِنْكُمْ أُولُو اْلأَحْلاَمِ وَالنّهَى
228 ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عَليّ الْجَهْضَمِيّ حَدثَنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ لِيَلِيَنّي مِنْكُمْ أُولُو اْلأَحْلاَمِ وَالنّهَى"
قوله: "ليليني" بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون ويجوز إثبات(2/18)
حَدثَنَا خَالِدٌ الْحَذّاءُ عَنْ أبي مَعْشَر عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله عن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لِيَلِيَنّي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلاَمِ وَالنّهَى ، ثُمّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ ، وَلاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ ، وَإِيّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأسْوَاقِ".
ـــــــ
الياء مع تشديد النون على التوكيد. كذا قال النووي قلت قد وقع في بعض نسخ الترمذي ليلني بحذف الياء قبل النون وفي بعضها بإثباتها وقال الطيبي من حق هذا اللفظ أن يحذف منه الياء لأنه على صيغة الأمر وقد وجدنا بإثبات الياء وسكونها في سائر كتب الحديث ، والظاهر أنه غلط انتهى. والمعنى ليدن مني فإنه من الولي بمعنى الدنو والقرب "أولو الأحلام والنهى" ال ابن سيد الناس الأحلام والنهي بمعنى واحد ، وهي العقول ، وقال بعضهم المراد بأولى الأحلام البالغون ، وبأولى النهي العقلاه . فعلى الأول يكون العطف فيه من باب قوله: وألفي قولها كذباً وميناً ، وهو أن تغاير اللفظ قائم مقام تغاير المعنى وهو كثير في الكلام ، وعلى الثاني يكون لكل لفظ معنى مستقل انتهى "ثم الذين يلونهم" قال النووي معناه الذين يقربون منهم في هذا الوصف انتهى . وقال القاري في المرقاة كالمراهقين أو الذين يقربون الأولين في النهي والحلم "ثم الذين يلونهم" قال القاري كالصبيان المميزين والذين هم أنزل مرتبة من المتقدمين حلماً وعقلاً والمعنى هلم جراً فالتقدير ثم الذين يلونهم كالنساء فإن نوع الذكر أشرف على الإطلاق ، وقيل المراد بهم الخناثى ففيه إشارة إلى ترتيب الصفوف انتهى كلام القاري "ولا تختلفوا" أي بالأبدان "فتختلف قلوبكم" أي أهويتها وإرادتها. قال الطيبي فتختلف بالنصب أي على جواب النهي وفي الحديث أن القلب تابع للأعضاء فإذا اختلفت اختلف وإذا اختلف فسد ففسدت الأعضاء لأنه رئيسها "وإياكم وهيشات الأسواق" قال النووي بفتح الهاء وإسكان الياء وبالشين المعجمة . أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها انتهى ، وفي المرقاة جمع هيشة وهي رفع الأصوات نهاهم عنها لأن الصلاة حضور بين يدي الحضرة الإلهية فينبغي أن يكونوا فيها على السكوت وآداب العبودية ، وقيل هي الاختلاط والمعنى لا تكونوا مختلطين اختلاط أهل الأسواق فلا يتميز أصحاب الأحلام والعقول من غيرهم ولا يتميز الصبيان والإناث من غيرهم في التقدم والتأخر ،(2/19)
قال وفي الباب عَنْ أُبَيّ بنِ كَعْبٍ ، وأبي مَسْعُودٍ ، وأبِي سَعِيدِ ، وَالْبَرَاءِ ، وَأَنَسٍ.
قال أبو عيسى: حَدِيثُ ابنِ مَسْعُودٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ غَرِيبٌ.
وَ "قَدْ" رُوِيَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أنّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ أنْ يَلِيَهُ المُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ ، لِيَحْفَظُوا عَنْهُ".
قال: وَخَالدٌ الْحَذّاءُ هُوَ خَالِدُ بنُ مِهْرَانَ يُكْنَى أبَا المُنَازِلِ.
قال: و سَمِعْتُ محمدَ بن إسْمَاعِيلَ يَقُولُ "يُقَالُ" : إنّ خَالِداً الْحَذّاءَ مَا حَذَا نَعْلاً قَطّ ، إنّمَا كَانَ يَجْلِسُ إلَى حَذّاءٍ فَنُسِبَ إلَيْهِ.
قال: وَأَبُو مَعْشَرٍ اسْمُهُ زِيَادُ بنُ كُلَيْبٍ.
ـــــــ
وهذا المعنى هو الأنسب بالمقام، قال الطيبي ويجوز أن يكون المعنى قوا أنفسكم من الاشتغال بأمور الأسواق فإنه يمنعكم أن تلوني.
قوله: "وفي الباب عن أبي بن كعب وأبي مسعود وأبي سعيد والبراء وأنس" أما حديث أبي بن كعب فأخرجه أحمد والنسائي ، وأما حديث أبي مسعود فأخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه وأما حديث أبي سعيد والبراء فأخرجه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم وسعيد بن منصور: كذا في شرح سراج أحمد السرهندي ، وأما حديث أنس فأخرجه أحمد وابن ماجه بلفظ قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه "حديث ابن مسعود حديث حسن غريب" وأخرجه مسلم.
قوله: "وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعجبه إلخ" رواه ابن ماجه من حديث أنس كما تقدم آنفاً.
وله: "هو خالد بن مهران" بكسر الميم وسكون الهاء "ويكنى أبا المنازل" بفتح الميم وقيل بضمها وكسر الزاء "أن خالد الحذاء" بفتح المهملة وتشديد الذال المعجمة "ما حذا نعلاً" قال في القاموس حذا النعل حذوا وحذاء قدرها وقطعها.(2/20)
169ـ باب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الصّفّ بَيْنَ السّوَارِي
229ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عنْ يَحْيَى بنِ هَانِئ بن عُرْوَةَ المُرَادِيّ عنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بن محمود قال: "صلّينا خَلفَ أمِيرٍ مِنَ الأُمَرَاء فاضْطَرّنَا النّاسُ فَصَلّيْنَا بين السّارِيَتَيْنِ ، فلما صَلّيْنَا قال أَنَسُ بنُ مَالِكٍ: كُنّا نَتّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وفي البابِ عنْ قُرّةَ بن إيَاسٍ المُزَنِيّ.
قال أبو عيسى: حديثُ أنس حديثٌ حسَنٌ صحيح .
وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ أنْ يُصَفّ بَيْنَ السّوَارِي.
وَبِهِ يَقُولُ أحمَدُ ، وإسْحاقُ.
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية الصف بين السواري"
جمع سارية بمعنى الاسطوانة .
قوله :"كنا نتقي هذا" أي الصلاة بين الساريتين.
قوله:"وفي الباب عن قرة بن إياس المزني" قال كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطرد عنها طرداً أخرجه ابن ماجه وفي إسناده هارون بن مسلم البصري وهو مجهول كما قال أبو حاتم ، يشهد له ما أخرجه الحاكم وصححه من حديث أنس بلفظ كنا ننهي عن الصلاة بين السواري ونطرد عنها. وقال لا تصلوا بين الأساطين وأتموا الصفوف.
قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح" أخرجه الخمسة إلا ابن ماجه.
قوله: "وقد كره قوم من أهل العلم أن يصف بين السواري وبه يقول أحمد وإسحاق" وبه قال النخعي وروى سعيد بن منصور في سننه النهي عن ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة . قال ابن سيد الناس ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة . والعلة في الكراهة ما قاله أبو بكر بن العربي من أن ذلك إما لانقطاع الصف أو لأنه موضع جمع النعال ،(2/21)
وَقَدْ رَخّصَ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ.
ـــــــ
قال ابن سيد الناس والأول أشبه لأن الثاني محدث. قال القرطبي روى أن سبب كراهة ذلك أن مصلى جن المؤمنين.
قوله: "وقد رخص قوم من أهل العلم في ذلك" أي الصلاة بين السواري رخص فيه أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن المنذر قياساً على الإمام والمنفرد ، قالوا وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة بين الساريتين . قال ابن رسلان وأجازه الحسن وابن سيرين وكان سعيد بن جبير وإبراهيم التيمي وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين الأساطين وهو قول الكوفيين . قال الشوكاني حديث قرة ليس فيه إلا ذكر النهي عن الصف بين السواري ولم يقل كنا ننهي عن الصلاة بين السواري ففيه دليل على التفرقة بين الجماعة والمنفرد . ولكن حديث أنس الذي أخرجه الحاكم فيه النهي عن الصلاة مطلقاً فيحمل المعلق على المقيد ويدل على ذلك صلاته صلى الله عليه وسلم بين الساريتين فيكون النهي على هذا مختصاً بصلاة المؤتمين دون صلاة الإمام والمنفرد. وهذا أحسن ما يقال ، وأما قياس المؤتمين على الإمام والمنفرد ففاسد الاعتبار لمصادمته لأحاديث الباب انتهى.(2/22)
170ـ باب مَا جَاءَ فِي الصلاَةِ خَلْفَ الصّفّ وَحْدَه
230ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا أبو الأحْوَصِ عنْ حُصَيْنٍ عَنْ هِلاَلِ بنِ يَسَافٍ قَالَ: أخَذَ زيَادُ بْنُ أبي الجَعْدِ بَيِدي وَنَحْنُ بِالرّقّةِ فَقَامَ بي عَلَى شَيْخٍ يُقَالُ لَهُ وَابِصَةُ بنُ مَعْبَدٍ مِنْ بَنِي أسَدٍ فَقَالَ زيادٌ: حَدّثِني هَذَا الشّيْخُ " أنّ رَجُلاً صَلّى خَلْفَ الصّفّ وَحْدَهُ ـ والشّيْخُ يَسْمَعُ
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ فِي الصلاَةِ خَلْفَ الصّفّ وَحْدَه"
قوله: "عن هلال بن يساف" بكسر التحتانية ثم مهملة ثم فاء ويقال ابن أساف الأشجعي مولاهم الكوفي ثقة من أوساط التابعين "ونحن بالرقة" بفتح الراء وشدة القاف اسم موضع.
قوله: "فقال زياد حدثني هذا الشيخ" يعني وابصة بن معبد "والشيخ يسمع" هذا(2/22)
فأَمَرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُعِيدَ الصّلاَةَ".
قال أبو عيسى: وفي البابِ عنْ عَلِيّ بن شَيْبَانَ ، وابن عَبّاسٍ.
قال أبو عيسى: و حديثُ وابصَةَ حديثٌ حسنٌ.
وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ أنْ يُصَلّيَ الرّجُلُ خَلْفَ الصّفّ وَحْدَهُ ، وَقَالوا: يُعِيدُ إذَا صلّى خَلْفَ الصفّ وحْدَهُ .
وَبهِ يَقُولُ أحْمَدُ ، وَإِسْحَقُ.
ـــــــ
مقول هلال بن يساف وهو جملة حالية . أي فقال زياد حدثني هذا الشيخ أن رجلاً إلخ والحال أن الشيخ كان يسمع كلامه ولم ينكر عليه "فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة" فيه دلالة على أن الصلاة خلف الصف وحده لا تصح وأن من صلى خلف الصف وحده فعليه أن يعيد الصلاة .
قوله: "وفي الباب عن علي بن شيبان وابن عباس" أما حديث علي بن شيبان فأخرجه أحمد وابن ماجه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف فوقف حتى انصرف الرجل فقال له استقبل صلاتك فلا صلاة لمنفرد خلف الصف ، إسناده حسن ، روى الأثرم عن أحمد أنه قال حديث حسن ، قال ابن سيد الناس رواته ثقات معروفون وهو من رواية عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه وعبد الرحمن قال فيه ابن حزم وما نعلم أحداً عابه بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا عبد الرحمن بن بدر ، وهذا ليس جرحة انتهى . ويشهد لحديث علي بن شيبان ما أخرجه ابن حبان عن طلق مرفوعاً لا صلاة لمنفرد خلف الصف كذا في النيل . وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم من آخر الليل فصليت خلفه فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه .
قوله: "حديث وابصة حديث حسن" قال الحافظ في الفتح أخرجه أصحاب السنن وصححه أحمد وابن خزيمة وغيرهما .
قوله: "وبه يقول أحمد وإسحاق" وبه قال بعض محدثي الشافعية كابن خزيمة ، وممن قال بذلك النخعي والحسن بن صالح وبه قال قوم من أهل الكوفة كما بينه الترمذي ،(2/23)
وَقَدْ قَال قَوْمٌ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ يُجْزِئهُ إذَا صلّى خَلْفَ الصفّ وَحْدَهُ .
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثّورِيّ ، وَابْنُ المُبَارَكِ ، وَالشّافِعِيّ .
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ الْكُوفَةِ إلَى حَدِيثِ وَابِصَةَ بن مَعْبَدٍ أيْضاً ، قَالوا: مَنْ صلّى خَلْفَ الصف وَحْدهُ يُعِيدُ .
مِنْهُمْ حَمّادُ بن أبي سُلَيْمانَ وَابْنُ أبي لَيْلَى ، وَوَكِيعٌ.
وَروَى حديثَ حُصَيْنٍ عَنْ هِلاَلِ بن يَسَافٍ غَيْرُ وَاحِدٍ مِثْلَ رِوَايَةِ أبي الأحْوَصِ عَنْ زِيَادِ بن أبي الْجَعْدِ عَنْ وَابصَةَ بن مَعْبَدٍ .
ـــــــ
واستدلوا بأحاديث الباب "وقد قال قوم من أهل العلم تجزئه إذا صلى خلف الصف وحده وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي" وهو قول الحنفية واستدل لهم بحديث أنس قال صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمي أم سليم خلفنا. رواه البخاري ومسلم قال الزيلعي في نصب الراية: وأحكام الرجال والنساء في ذلك سواء انتهى. وقال ابن بطال لما ثبت ذلك للمرأة كان للرجل أولى انتهى.
ورد هذا الاستدلال بأنه إنما ساغ ذلك للمرأة لامتناع أن تصف مع الرجال بخلاف الرجل فإن له أن يصف معهم ، وأن يزاحمهم وأن يجذب رجلا من حاشية الصف فيقوم معه فافقترقا . قال الحافظ في الفتح قال ابن خزيمة لا يصح الاستدلال به لأن صلاة المرء خلف الصف وحده منهي عنها باتفاق ممن يقول تجزئه أو لا تجزئه ، وصلاة المرأة وحدها إذا لم يكن هناك امرأة أخرى مأمور بها باتفاق فكيف يقاس مأمور على منهى انتهى . واستدل لهم أيضاً بحديث ابن عباس بأنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه صلى الله عليه وسلم بيده وجعله حذاءه ولم يأمره بإعادة الصلاة .
وأجيب عنه بأن رواية ابن عباس هذه هي إحدى الروايات التي وردت في صفة دخوله مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل في الليلة التي بات فيها عند خالته ميمونة ، والذي في الصحيحين وغيرهما أنه قام عن يساره فجعله عن يمينه وهو الأصح الأرجح ، واستدل لهم أيضاً بحديث أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف ثم مشى إلى الصف فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم(2/24)
وفِي حَديثِ حُصَيْنٍ مَا يَدُلّ عَلَى أنّ هِلاَلاً قَدْ أدْرَكَ وَابصَةَ.
وَاخْتَلَفَ أهْلُ الْحَديثِ فِي هَذَا:
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَدِيثُ عَمْرِو بن مُرّةَ عَنْ هِلاَلِ بن يِسَافٍ عَنْ عَمْرِو بن رَاشِدٍ عَنْ وَابِصَةَ بْن مَعْبَدٍ: أصَحّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حدِيثُ حُصَيْنٍ عَنْ هِلاَلِ بْنِ يِسافٍ عَنْ زيَادِ بن أبي الْجَعْدِ عَنْ وَابِصَةَ بنْ مَعْبَدٍ أصَحّ.
قال أبو عيسى: وهَذَا عنْدي أصحّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بن مُرّةَ ، لأنّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ هِلاَلِ بن يِسافٍ عَنْ زِيَادِ بن أبي الْجَعْدِ عَنْ وَابِصَةَ.
ـــــــ
فقال زادك الله حرصاً ولا تعد ، رواه البخاري وأبو داود والنسائي ، قال التوربشتي ومحي السنة: فيه دلالة على أن الانفراد خلف الصف لا يبطل لأنه لم يأمره بالإعادة وأرشده في المستقبل بما هو أفضل بقوله ولا تعد فإنه نهي تنزيه لا تحريم إذا لو كان للتحريم لأمره بالإعادة انتهى ، وقال ابن الهمام من العلماء الحنفية: وحمل أئمتنا حديث وابصة على الندب وحديث علي بن شيبان على نفي الكمال ليوافقا حديث أبي بكرة إذ ظاهره عدم لزوم الإعادة لعدم أمره بها انتهى كلامه محصلاً.
قلت: قال الحافظ في الفتح جمع أحمد وغيره بين الحديثين يعني بين حديث وابصة وحديث أبي بكرة بأن حديث أبي بكرة مخصص لعموم حديث وابصة فمن ابتدأ الصلاة منفرداً خلف الصف ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه الإعادة كما في حديث أبي بكرة وإلا فيجب على عموم حديث وابصة وعلي بن شيبان انتهى ، وهذا الجمع حسن بل هو المتعين فإنه يحصل التوفيق بين الأحاديث بلا تكلف والله تعالى أعلم.
فائدة: قد اختلف في من لم يجد فرجة ولا سعة في الصف ما الذي يفعل ، فقيل إنه يقف منفرداً ولا يجذب إلى نفسه أحداً لأنه لو جذب إلى نفسه واحداً لفوت عليه فضيلة الصف الأول ولأوقع الخلل في الصف وبهذا قال أبو الطيب الطبري ، وحكاه عن مالك ، وقال أكثر أصحاب الشافعي إنه يجذب إلى نفسه واحداً ويستحب للمجذوب أن يساعده ولا فرق بين الداخل في أثناء الصلاة والحاضر في ابتدائها في ذلك ، وقد روى عن(2/25)
231ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ حَدّثَنَا محمدُ بنُ جَعْفَرٍ، حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بنِ مُرّةَ عَنْ هِلاَل بن يِسافٍ عَنْ عَمْرِو بن رَاشِدٍ عَنْ وَابِصَةَ بن مَعْبَدٍ: "أنّ رَجُلاً صلّى خَلْفَ الصفّ وحْدَهُ فَأَمَرَهُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُعِيدَ الصلاَة".
قال أبو عيسى: و سَمِعْتُ الْجَارُودَ يَقُولُ: سَمِعْتُ وَكِيعاً يَقُولُ: إذَا صَلّى الرّجُلُ خَلْفَ الصّفّ وَحْدَهُ فَإِنّهُ يُعِيدُ.
ـــــــ
عطاء وإبراهيم النخعي أن الداخل إلى الصلاة والصفوف قد استوت واتصلت يجوز له أن يجذب إلى نفسه واحداً ليقوم معه واستقبح ذلك أحمد وإسحاق وكرهه الأوزاعي ومالك واستدل القائلون بالجواز بما رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي من حديث وابصة أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل صلى خلف الصف: أيها المصلي هلا دخلت في الصف أو جررت رجلاً من الصف أعد صلاتك ، وفيه السري بن إسماعيل وهو متروك وله طريق أخرى في تاريخ أصبهان لأبي نعيم ، وفيها قيس بن الربيع وفيه ضعف ، لأبي داود في المراسل من رواية مقاتل بن حيان مرفوعاً: إن جاء فلم يجد أحداً فليختلج إليه رجلاً من الصف فليقم معه فما أعظم أجر المختلج وأخرج الطبراني عن ابن عباس بإسناد قال الحافظ واهٍ ، بلفظ إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الاَتي وقد تمت الصفوف أن يجتذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه كذا في النيل(2/26)
171ـ باب مَا جَاء فِي الرّجُلِ يُصَلّي وَمَعَهُ رَجُل
232ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا دَاوُدُ بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْعَطّارُ عن عَمْرِو ابْنِ دِينَارٍ عن كُرَيْب مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ عن ابْنِ عَبّاس قَالَ: "صَلّيْتُ مَعَ
ـــــــ
"باب مَا جَاء فِي الرّجُلِ يُصَلّي وَمَعَهُ رَجُل"
قوله: "ذات ليلة" أي في ليلة ولفظ ذات مقحم ، وقال جار الله وهو من إضافة المسمى(2/26)
النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَقُمْتُ عن يَسَارِهِ ، فأَخَذَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي فَجَعَلَنِي عن يَمِينِهِ": .
قال أبو عيسى: وفي الباب عنْ أنس:
قال أبو عيسى: و حديث ابن عبّاس حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ:
والْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدهُمْ ، قَالوا: إذَا كَانَ الرّجُلُ مَعَ الإمَامِ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإمَامِ.
ـــــــ
إلى اسمه "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي" كلا الجارين متعلقان بأخذ "فجعلني عن يمينه" فيه دلالة على أن المأموم الواحد يقف على يمين الإمام وهو مذهب جميع أهل العلم ونقل جماعة الإجماع فيه قاله النووي.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه أو خالته قال فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا أخرجه مسلم.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم(2/27)
172ـ باب مَا جَاء فِي الرّجُلِ يُصَلّي مع الرجلين
233 ـ حدثنا بُنْدَارٌ مُحَمّدُ بن بَشّارٍ ، حدثنا مُحَمّد بن أبي عَدِيّ قَال: أَنْبَأَنَا إسْماعِيل بن مُسْلِمِ عَنِ الْحَسَنِ عن سَمُرَةَ بن جُنْدَبٍ قَال: "أمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذَا كُنّا ثَلاَثَة أنْ يَتَقَدّمَنَا أحَدنَا". .
ـــــــ
"باب مَا جَاء فِي الرّجُلِ يُصَلّي مع الرجلين"
قوله: "أن يتقدمنا أحدنا" معمول لقوله أمرنا على حذف الباء أي بأن يتقدمنا أحدنا وإذا كنا ظرف يتقدمنا وجاز تقديمه على أن المصدرية للاتساع في الظروف قاله الطيبي.(2/27)
قال أبو عيسى: وفي البابِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَجَابِرٍ ، وَأنَسِ بْن مَالِكٍ .
قَالَ أبو عيسى: وَحَدِيثُ سَمُرَةَ حديثٌ حسن غَرِيبٌ.
وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أهْلِ الْعِلْمِ ، قَالُوا: إذَا كانُوا ثَلاَثَةً قَامَ رَجُلاَنِ خَلْفَ الإمِامِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أنّهُ صَلّى بِعَلْقَمَةَ وَاْلأسْوَدِ فَأَقَامَ أحَدَهُمَا عن يَمِينِهِ وَالاَخَرَ عَنْ يَسَارِهِ ، وَرَوَاهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وجابر" أما حديث ابن مسعود فأخرجه أحمد عن الأسود بن يزيد، قال دخلت أنا وعمي علقمة على ابن مسعود بالهاجرة قال فأقام الظهر ليصلي فقمنا خلفه فأخذ بيدي ويد عمي ثم جعل أحدنا عن يمينه والاَخر عن يساره فصففنا صفاً واحداً قال ثم قال هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع إذا كانوا ثلاثة، وأخرج أبو داود والنسائي معناه وأخرجه مسلم مطولاً ومختصراً وسيجيء لفظه المختصر ، وأما حديث جابر فأخرجه مسلم عنه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فجئت حتى قمت عن يساره فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه ثم جاء جبار بن صخر فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدينا جميعاً فدفعنا حتى أقامنا خلفه.
قوله: "وحديث سمرة حديث غريب" في إسناده إسماعيل بن مسلم وقد تكلم بعض الناس كما صرح به الترمذي وقد تكلم الناس في سماع الحسن عن سمرة لكنه مؤيد بحديث جابر المذكور وبحديث أنس قال صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأم سليم خلفنا رواه مسلم.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم إذا كانوا ثلاثة قام رجلان خلف الإمام" وهو الحق وقال ابن مسعود رضي الله عنه وصاحباه الأسود وعلقمة ونفر يسير من أهل الكوفة قام أحدهما عن يمين الإمام والاَخر عن شماله وخالفهم جميع العلماء من الصحابة فمن بعضهم كما ستقف عليه في كلام النووي.
قوله: "وروى عن ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود فأقام أحدهما عن يمينه والاَخر عن يساره إلخ" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وتقدم آنفاً لفظه وبه قال بعض الكوفيين ،(2/28)
وَقَدْ تَكَلّمَ بَعْضُ النّاسِ فِي إسْمَعِيلَ بْنِ مسْلِمٍ الْمكّيّ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ
ـــــــ
واحتجوا بحديث ابن مسعود هذا. وأجاب عنه ابن سيرين بأن ذلك كان لضيق المكان رواه الطحاوي كذا في فتح الباري، وفي صحيح مسلم عن إبراهيم عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله فقال أصلي من خلفكم قالا نعم فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والاَخر عن شماله ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه فلما صلى قال هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النووي هذا مذهب ابن مسعود وصاحبيه وخالفهم جميع العلماء من الصحابة إلى الاَن، فقالوا إذا كان مع الإمام رجلان وقفا وراءه صفا لحديث جابر وجبار بن صخر وقد ذكر مسلم في صحيحه في آخر الكتاب في الحديث الطويل عن جابر وأجمعوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة يقفون وراءه وأما الواحد فيقف عن يمين الإمام عند العلماء كافة ونقل جماعة الإجماع فيه انتهى كلام النووي(2/29)
باب: ما جاء في الرجل يصلى ومعه الرجال و النساء
...
173ـ باب مَا جَاءَ فِي الرّجُلِ يُصلّي وَمَعَهُ الرّجَالُ وَالنّسَاء
234ـ حدثنا إسْحَق الأنْصَارِيّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مَالِكُ بنُ أنَس عن إسْحَقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ عن أنَسِ بن مَالِكٍ: "أنّ جَدّتَهُ مُلَيْكَة دَعَتْ رَسول الله صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ ، فَأَكَلَ مِنْهُ ، ثُمّ قَالَ: قُومُوا فَلْنُصَلّ بِكُمْ ، قَالَ أنَسٌ . فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدّ مِنْ طُول مَا لُبِسَ ، فَنَضَحْتُهُ بِالْمَاءِ ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسول الله صلى الله عليه
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ فِي الرّجُلِ يُصلّي وَمَعَهُ الرّجَالُ وَالنّسَاء"
قوله: "قوله أن جدته" أي جدة أنس "مليكة" بضم الميم تصغير ملكة وقيل ضمير جدته يرجع إلى إسحاق بن عبد الله وقد بسط الحافظ في الفتح الكلام في هذا من شاء الوقوف عليه فليرجع إليه "من طول ما لبس" أي استعمل ، وفيه أن الافتراش يسمي لبساً "فنضحته بالماء" يحتمل أن يكون النضح لتليين الحصير أو لتنظيفه أو لتطهيره ولا يصح(2/29)
وسلم وَصَفَفْتُ عليهِ أنَا وَاليَتِيمُ وَرَاءَه ، والعجوزُ من ورائنا ، فصلى بنا ركعتين ثم انصرف".
قال أبو عيسى: حديثُ أنسٍ حديث حسن صحيح ، والعملُ عليه عندَ "أكثر" أهل العلمِ ، قالوا إذا كان مع الإمامِ رَجُلٌ وامرأةٌ ، قام الرجلُ عن يمين الإمامِ والمرأةُ خلفَهما ، وقد احتج بعضُ الناسِ بهذا الحديث في إجازة الصّلاَةِ إذا كان الرجلُ خلفَ الصفّ وحدَه ، و قالوا: إن الصّبيّ لم تكنْ لهُ صلاةٌ . وكأنّ أنساً كان خلفَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وحدَه ، "في الصفّ" وليسَ الأمرُ عَلَى ما ذَهبُوا إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقامَه مع اليتيمِ خَلْفَه ، فلولا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل لليتيم صلاة ، لَمَا أَقَامَ اليتيمَ معه وَلأَقامهُ عن يمينه". وقد رُوِي عن موسى بن أنسٍ عن أنسٍ "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فأقامَه عن يمينه" ، وفِي هذا الحديثِ دلالةٌ أنّهُ إنما صلى تَطَوعاً ، أراد ادخالَ البركةِ عليهم.
ـــــــ
الجزم بالأخير بل المتبادر غيره لأن الأصل الطهارة "والعجوز من ورائنا" هي مليكة المذكورة ثم انصرف أي إلى بيته أو من الصلاة وفي هذا الحديث من الفوائد صلاة النافلة جماعة في البيوت وقيام الصبي مع الرجل صفا وتأخير النساء عن صفوف الرجال وقيام المرأة صفاً وحدها إذا لم يكن معها امرأة غيرها وصحة صلاة الصبي المميز ووضوئه قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(2/30)
174ـ باب من أحقّ بالإمامة
235ـ حدثنا هنّاد حَدّثَنَا أبُو مُعَاوِيَةَ عن الأعمشِ قال: وحَدثنا محمودُ بنُ غَيْلانَ حَدّثَنَا أبُو معاويَة و عبدالله ابنُ نُمَيْرٍ عن الأعمشِ عن إسْمَاعِيلَ بنِ رجاءٍ
ـــــــ
"باب من أحقّ بالإمامة"
قوله: "وابن نمير" بالتصغير هو عبد الله نمير الهمداني الخارقي أبو هشام الكوفي ثقة صاحب حديث من أهل السنة روى عن الأعمش وغيره قال ابنه محمد مات سنة تسع وتسعين ومائة "عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي" بضم الزاي مصغراً أبي إسحاق(2/30)
الزبيديّ عَن أوسِ بنِ ضمعجٍ قال: سمعتُ أبا مسعودٍ الأنصَارِيّ يقولُ: قالَ
ـــــــ
الكوفي ثقة تكلم فيه الأزدي بلا حجة "عن أوس بن ضمعج" بفتح المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة مفتوحة ثم جيم بوزن جعفر الكوفي ثقة مخضرم من الثانية قاله الحافظ "سمعت أبا مسعود الأنصاري" اسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة البدري صحابي جليل "عن أوس بن ضمعج" بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم وفتح العين المهملة بعدها جيم.
قوله: "يؤم القوم" قال الطيبي بمعنى الأمر أي ليؤمهم "أقرؤهم لكتاب الله" قيل المراد به الأفقه ، وقيل هو على ظاهره وبحسب ذلك اختلف الفقهاء. قال النووي قال أصحابنا الأفقه مقدم على الأقرأ فإن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط ، فقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصلاة فيه إلا كامل الفقه ، ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة على الباقين مع أنه صلى الله عليه وسلم نص على أن غيره أقرأ منه كأنه عنى حديث أقرؤكم أبي قال وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه انتهى. قال الحافظ في الفتح. وهذا الجواب يلزم منه أن من نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر فيفسد الاحتجاج ، بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه انتهى. ثم قال النووي بعد ذلك إن قوله في حديث أبي مسعود فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم في الهجرة ، يدل على تقديم الأقرأ مطلقاً انتهى قال الحافظ: وهو واضح للمغايرة ، وهذه الرواية أخرجها مسلم من وجه آخر عن إسمعيل بن رجاء ، ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفاً بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة فأما إذا كان جاهلاً بذلك فلا يقدم اتفاقاً والسبب فيه أن أهل ذلك العصر كانوا يعرفون معاني القرآن لكونهم أهل اللسان فالأقرأ منهم بل القاري كان أفقه في الدين من كثير من الفقهاء الذين جاؤا بعدهم انتهى كلام الحافظ ، وقال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر حديث الباب: ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه إلا أن الحاكم قال عوض قوله فأعلمهم بالسنة فأفقههم فقهاً فإن كانوا في الفقه سواء فأكبرهم سناً انتهى ، قال وقد أخرج مسلم في صحيحه هذا الحديث ولم يذكر فيه فأفقههم فقهاً وهي لفظة عزيزة غريبة بهذا الإسناد الصحيح وسنده عن يحيى بن بكير ثنا الليث عن جرير بن حازم عن الأعمش عن إسمعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج عن أبي مسعود فذكره ، ثم أخرجه الحاكم عن الحجاج ابن أرطاة عن إسمعيل(2/31)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَؤُمّ الْقَوْمَ أقرؤُهُمْ لِكتَابِ الله فإنْ كَانُوا فِي الْقرَاءةِ سواءً ، فأعلمهُم بالسنّةِ ، فإن كَانُوا فِي السنة سواء فأَقدَمَهُم هجرَةً ، فإن كَانوا في الهجرَة سواء فأكبرُهم سِنّا ، ولا يُؤَمّ الرّجلُ فِي سُلْطَانِه
ـــــــ
بن رجاء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤم القوم أقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأفقهم في الدين فإن كانوا في الفقه سواء فأقرأهم للقرآن والحديث ، وسكت عنه ، والباقون من الأئمة يخالفوننا في هذه المسئلة ويقولون إن الأقرأ لكتاب الله يقدم على العالم ، كما هو لفظ الحديث حتى إذا اجتمع من يحفظ القرآن وهو غير عالم وفقيه يحفظ يسيراً من القرآن يقدم حافظ القرآن عندهم ، ونحن نقول يقدم الفقيه ، وأجاب صاحب الكتاب بأن الأقرأ في ذلك الزمان كان أعلمهم وهذا يرده لفظ الحاكم الأول ، ويؤيد مذهبنا لفظه الثاني إلا أنه معلول بالحجاج بن أرطأة ، قال ويشهد للخصم أيضاً حديث عمرو بن سلمة ثم ذكره عن البخاري وفيه وبدر أبي قومهم بإسلامهم فلما قدم قال جئتكم والله من عند النبي حقا فقالوا صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا ، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا منى لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين إلخ.
قلت: القول الظاهر الراجح عندي هو تقديم الأقرأ على الأفقه وقد عرفت في كلام الحافظ أن محل تقديم الأقرأ حيث يكون عارفاً بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة "فاعلمهم بالسنة" قال الطيبي أراد بها الأحاديث فالأعلم بها كان هو الأفقه في عهد الصحابة "فاقدمهم هجرة" أي انتقالاً من مكة إلى المدينة قبل الفتح فمن هاجر أولاً فشرفه أكثر ممن هاجر بعده . قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الاَية "ولا يؤم الرجل" بصيغة المجهول وفي رواية مسلم لا يؤمن الرجل الرجل "في سلطانه" أي في مظهر سلطنته ومحل ولايته أو فيما يملكه أو في محل يكون في حكمه ويعضد هذا التأويل الرواية الأخرى في أهله ورواية أبي داود في بيته ولا في سلطانه ، ولذا كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج وصح عن ابن عمر أن إمام المسجد مقدم على غير السلطان وتحريره أن الجماعة شرعت لاجتماع المؤمنين على الطاعة وتآلفهم وتوادهم ، فإذا أم الرجل الرجل في سلطانه أفضى ذلك إلى توهين أمر السلطنة وخلع ربقة الطاعة ،(2/32)
ولاَ يُجْلَسُ عَلَى تَكرمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إلاّ بِإِذْنِهِ" . قَال مَحْمُودُ بن غيلان : قالَ ابنُ نُمَيْرٍ في حديثه: أقدَمُهم سِنّا.
: وفي البابِ عَنْ أبي سَعِيدٍ وَأَنسِ بنِ مَالِكٍ ومالكِ بنِ الحُوَيرِثِ وَعمرو بنِ سَلَمَةَ.
قال أبو عيسى: و حديثُ أبي مسعود حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ ، والعَمَلُ عَلَى هذا عندَ أهلِ العلمِ ، قالوا: أحقّ النَاسِ بالإمَامَةِ أقرؤُهم لكتابِ الله ، وأعلمُهمْ بالسنةِ ، وقالوا صاحبُ المنزِل أحقّ بالإمامةِ . وقالَ بعضهمُ: إذَا أذِنَ صاحبُ المنزلِ لغَيْرِهِ فَلا بَأْسَ أنْ يُصَلّيَ بهِم ،
ـــــــ
وكذلك إذا أمه في قومه وأهله أدى ذلك إلى التباغض والتقاطع وظهور الخلاف الذي شرع لدفعه الاجتماع ، فلا يتقدم رجل على ذي السلطنة لا سيما في الأعياد والجماعة ، ولا على إمام الحي ورب البيت إلا بالإذن قاله الطيبي "ولا يجلس" بصيغة المجهول "على تكرمته" كسجادته أو سريره وهي وهي في الأصل مصدر كرم تكريماً أطلق مجازا على ما يعد للرجل إكراماً له في منزله "إلا بإذنه" قال ابن الملك متعلق بجميع ما تقدم ، قلت كل من قال إن صاحب المنزل إذا أذن لغيره فلا بأس أن يصلي بهم يقول: إن "إلا بإذنه" متعلق بجميع ما تقدم ، وكل من لم يقل به إنه متعلق بقوله ولا يجلس فقط.
قوله: "قال محمود" يعني ابن غيلان "قال ابن نمير في حديثه أقدمهم سناً" أي قال هذا اللفظ مكان لفظ أكبرهم سناً.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد وأنس بن مالك ومالك بن الحويرث وعمرو بن سلمة" أما حديث أبي سعيد فأخرجه مسلم والنسائي ، وأما حديث أنس فلم أقف عليه ، وأما حديث مالك بن الحويرث فأخرجه الجماعة ، وأما حديث عمرو بن سلمة فأخرجه البخاري.
قوله: "حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "وقال بعضهم إذا أذن صاحب المنزل لغيره فلا بأس أن يصلي بهم" قال في المنتقى وأكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود إلا بإذنه ويعضده عموم ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله(2/33)
وكَرهَهُ بعضُهم . وقالوا: السّنّةُ أن يُصَلّيَ صَاحبُ البيْتِ ، قال أحمدُ بنُ حَنبلٍ: وقولُ النّبي صلى الله عليه وسلم: و لاَ يُؤَمّ الرّجُلُ في سُلْطَانِه ، ولاَ يُجْلسُ على تكْرِمَتهِ في بيتِه إلاّ بإذْنِهِ ، فإذَا أذِنَ فأرجو أنّ الإذنَ في الكُلّ ،
ـــــــ
عليه وسلم قال ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة ، عبد أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل أم قوماً وهم به راضون ، ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كل ليلة ، رواه الترمذي ، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الاَخر أن يؤم قوماً إلا بإذنهم ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم رواه أبو داود "وكرهه بعضهم" أي وإن أذن صاحب المنزل وقالوا: السنة أن يصلي صاحب البيت أي يؤم صاحب البيت ولا يؤم الزائر لحديث مالك بن الحويرث قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من زار قوماً فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم . رواه الخمسة إلا ابن ماجه . وقال هؤلاء قوله: "إلا بإذنه" في حديث الباب متعلق بقوله لا يجلس على تكرمته وليس متعلقاً بقوله لا يؤم الرجل "فإذا أذن فأرجو أن الإذن في الكل" فقوله إلا بإذنه متعلق بكلا الفعلين عند أحمد. قال الشوكاني في النيل: ويعضده عموم قوله في حديث ابن عمرو هم به راضون ، وقوله في حديث أبي هريرة إلا بإذنه كما قال المصنف يعني صاحب المنتقى فإنه يقتضي جواز إمامة الزائر عند رضي المزور ، قال العراقي ويشترط أن يكون المزور أهلا للإمامة فإن لم يكن أهلا كالمرأة في صورة كون الزائر رجلا والأمي في صورة كون الزائر قارئاً ونحوهما فلا حق له في الإمامة.
واعلم أن الإمام البخاري قال في صحيحه: باب إذا زار الإمام قوماً فأمهم ، ثم ذكر فيه حديث عتبان بن مالك قد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت له فقال أين تحب أن أصلي من بيتك فأشرت إلى المكان الذي أحب فقام وصففنا خلفه ثم سلم وسلمنا . قال الحافظ في الفتح قيل أشار بهذه الترجمة إلى أن حديث مالك بن الحويرث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه مرفوعاً: من زار قوماً فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم ، محمول على من عدا الإمام الأعظم وقال الزين بن المنير مراده أن الإمام الأعظم ومن يجري مجراه إذا حضر بمكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار ، ولكن ينبغي للمالك أن يأذن له ليجمع بين الحقين حق الإمام في التقدم وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه انتهى ملخصا ، ويحتمل أنه أشار إلى ما في حديث أبي مسعود ولا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على(2/34)
ولَمْ يَرَ به بَأساً إذَا أذِنَ لَهُ أن يُصَلّيَ بِهِ".
ـــــــ
تكرمته إلا بإذنه فإن مالك الشيء سلطان عليه والإمام الأعظم سلطان على المالك وقوله إلا بإذنه يحتمل عوده على الأمرين الإمامة والجلوس، وبذلك جزم أحمد كما حكاه الترمذي فتحصل بالإذن مراعاة الجانبين انتهى.(2/35)
175ـ باب مَا جَاءَ إذا أمّ أحدُكُم الناسَ فَلْيُخَفّف
236ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا المغيرةُ بنُ عبدِ الرحمَنِ عن أبي الزّنَادِ عن الأعرج عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا أمّ أحدُكُمُ الناس فَلْيُخَفّفْ ، فإنّ فيهمُ الصغيرَ والكبيرَ والضعيفَ والمريضَ،
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ إذا أمّ أحدُكُم الناسَ فَلْيُخَفّف"
قوله: "حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن" بن عبد الله الخزامي المدني روى عن أبي الزناد فأكثر وعنه يحيى بن يحيى وقتيبة قال أبو داود رجل صالح وقال أحمد ما بحديثه بأس وقال الكسائي ليس بالقوي ، كذا في الخلاصة وقال الحافظ ثقة له غرائب "فليخفف" قال ابن دقيق العيد التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية فقد يكون الشيء خفيفاً بالنسبة إلى عادة قوم طويلاً بالنسبة لعادة آخرين ، قال وقول الفقهاء لا يزيد الإمام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات لا يخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على ذلك . لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلاً ، قال الحافظ وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أنت إمام قومك وأقدر القوم بأضعفهم ، إسناده حسن وأصله في مسلم أنتهى "فإن فيهم الصغير والكبير" أي في السن "والضعيف" أي ضعيف الخلقة "والمريض" وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص والحامل والمرضع ، وله من حديث عدي بن حاتم والعابر السبيل ، ووقع في حديث أبي مسعود وذا الحاجة ، وهو أشمل الأوصاف المذكورة ، قال الحافظ في الفتح: قوله فإن فيهم مقتضاه أنه متى لم يكن فيهم متصف بصفة من المذكورات لم يضر التطويل ، قال وقد قدمت ما يرد(2/35)
فإذَا صَلّى وَحدَه ، فليصلّ كَيفَ شَاءَ".
وفي البَاب عن عديّ بن حاتم ، وَأَنسٍ ، وَجَابِرِ بنِ سَمُرَةَ ، وَمالك بنِ عَبْدِ الله ، وأبي وَاقِدٍ ، وعثمانَ بنِ أبي العَاصِ وأبي مسعودٍ ، وَجَابِرِ بنِ عَبْدِ الله وابنِ عباسٍ.
قال أبو عيسى: حدِيثُ أبي هُرَيْرةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ،
ـــــــ
عليه من إمكان مجيء من يتصف بإحداها ، وقال اليعمري الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة فينبغي للأئمة التخفيف مطلقاً. قال وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر وعلل بالمشقة وهو مع ذلك يشرع ولو لم يشق ، عملاً بالغالب ، لأنه لا يدري ما يطرأ عليه وهناك كذلك انتهى ما في الفتح . وقال ابن عبد البر ينبغي لكل إمام أن يخفف لأمره صلى الله عليه وسلم وإن علم قوة من خلفه ، فإنه لا يدري ما يحدث عليهم من حادث وشغل وعارض وحاحة وحدث وغيره "فليصل كيف شاء" أو مخففاً أو مطولاً وفي رواية البخاري فليطول ما شاء ، قال القاري في المرقاة والحديث بظاهره ينافي قول بعض الشافعية إن تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين مبطل للصلاة انتهى ، قلت الأولى أن يقال إن الحديث ينفي قول بعض الشافعية ويرده.
قوله: "وفي الباب عن عدي بن حاتم وأنس وجابر بن سمرة ومالك بن عبد الله وأبي واقد وعثمان بن أبي العاص وأبي مسعود وجابر بن عبد الله وابن عباس" أما حديث عدي بن حاتم فأخرجه الطبراني وابن أبي شيبة . وأما حديث أنس فأخرجه البخاري ومسلم وأما حديث جابر بن سمرة فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود ، وأما حديث مالك بن عبد الله وهو الخزاعي. وحديث أبي واقد فأخرجهما الطبراني وأما حديث عثمان بن أبي العاص فأخرجه مسلم . وأما حديث أبي مسعود فأخرجه الشيخان وابن ماجه وأحمد . وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه الشيخان . وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن أبي شيبة . وفي الباب أيضاً عن حزم بن أبي كعب أخرجه أبو داود وعن ابن عمر أخرجه النسائي وعن بريدة أخرجه أحمد وعن رجل من بني سلمة يقال له سليم من الصحابة أخرجه أحمد.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه.(2/36)
وهُوَ قولُ أكْثَرِ أهْلِ العلمِ اخْتَارُوا أن لا يِطيلَ الإمامُ الصّلاَةَ مَخَافَةَ المشقةِ عَلَى الضعيفِ والكبير والمريض. قال أبو عيسى: وأبُو الزّنَادِ اسمُه عَبْدُ الله بنُ ذَكوَانَ والأعْرجُ هُوَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ هُرمُزٍ المدينِيّ و يُكْنَى أبا دَاودَ.
237ـ حدّثنَا قُتَيْبَةُ حدثنا أبو عَوانَةَ عن قَتَادَةَ عن أنس بن مالك قال: "كان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من أخف النّاسِ صَلاَةً في تَمَامٍ".
ـــــــ
قوله: "وهو قول أكثر أهل العلم اختاروا أن لا يطيل الإمام الصلاة إلخ" قال ابن عبد البر التخفيف لكل إمام مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه إلا أن ذلك إنما هو أقل الكمال ، وأما الحذف والنقصان فلا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن نقر الغراب ، ورأى رجلاً يصلي فلم يتم ركوعه فقال له أرجع فصل فإنك لم تصل ، وقال لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده ، ثم قال لا أعلم خلافاً بين أهل العلم في استحباب التخفيف لكل من أم قوماً على ما شرطنا من الإتمام وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال لا تبغضوا الله إلى عباده ، يطول أحدكم في صلاته حتى يشق على من خلفه انتهى.
قوله: "من أخف الناس صلاة في تمام" قال القاضي خفة الصلاة عبارة عن عدم تطويل قراءتها والاقتصار على قصار المفصل وعن ترك الدعوات الطويلة في الانتقالات وتمامها عبارة عن الإتيان بجميع الأركان والسنن واللبث راكعاً وساجداً بقدر ما يسبح ثلاثاً انتهى ، قال القاري في المرقاة بعد نقل كلام القاضي هذا وفيه إيهام إنه ما كان يقرأ أوساط المفصل وطوالها . وقد ثبت قراءته إياها فالمعنى بالخفة أنه ما كان يمططها ويمددها في غير مواضعها كما يفعله الأئمة المعظمة حتى في مكة المكرمة في زماننا فإنهم يمدون في المدات الطبيعية قدر ثلاث ألفات ويطولون السكتات في مواضع الوقوفات ويزيدون في عدد التسبيحات أنتظارا لفراغ المكبرين المطولين في النغمات ، بل كانت قراءته عليه السلام مجودة محسنة مرتلة مبينة ، من خاصية قراءته اللطيفة أنها كانت خفيفة على النفوس الشريفة ولو كانت طويلة لأن الأرواح لا تشبع منها والأشباح لا تقنع بها انتهى.
تنبيه: قال صاحب العرف الشذي الحنفي: ظهور التخفيف إنما يكون في القراءة لا في الركوع والسجود وتعديل الأركان ما هو معلوم من فعل صاحب الشريعة انتهى. قلت لكن أكثر الحنفية يخالفون فعل صاحب الشريعة هذا فيخففون في الركوع والسجود(2/37)
وهذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ
ـــــــ
غاية التخفيف حتى يكون سجودهم كنقر الديك وأما تعديل الأركان فلا يخففون فيه بل يتركونه رأساً فهداهم الله تعالى إلى فعل صاحب الشريعة الذي قال: صلوا كما رأيتموني أصلي .
قوله: "وهذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان(2/38)
176ـ باب مَا جَاءَ في تحريمِ الصلاةِ وتَحْلِيلهَا
238ـ حدثنا سُفْيَانُ بنُ وَكيعٍ حدثنا محمدُ بنُ الفُضَيلٍ عَن أبي سُفْيَانَ طريفِ السَعديّ عن أبي نضرة عن أبي سعيدٍ قَالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مفتَاحُ الصلاَةِ الطهورُ ، وتَحْرِيمُهَا التّكبيرُ ، وتحليلُهَا التسلِيمُ ، ولا صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرأْ بالحمدِ وسُورةٍ في فَرِيضَةٍ أو غَيرِهَا".
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في تحريمِ الصلاةِ وتَحْلِيلهَا"
قوله: "عن أبي سفيان طريف السعدي" هو طريف بن شهاب أو ابن سعد البصري الأشل ويقال له الأعصم ضعيف من السادسة كذا في التقريب وقال في الميزان ضعفه ابن معين ، وقال أحمد: ليس بشيء وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم وقال النسائي متروك "عن أبي نضرة" بنون مفتوحة ومعجمة ساكنة اسمه المنذر بن مالك بن قطعة بضم القاف وفتح المهملة العبدي العوفي البصري مشهور بكنيته ثقة من الثالثة.
قوله: "مفتاح الصلاة الطهور" تقدم هذا الحديث مع شرحه في أبواب الطهارة رواه الترمذي هناك من حديث علي ورواه ههنا من حديث أبي سعيد "ولا صلاة لمن لم يقرأ بالحمد وسورة في فريضة وغيرها" فيه دلالة على أن قراءة سورة بعد الفاتحة واجبة لكن الحديث ضعيف ويعارضه ما رواه الدارقطني عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أم القرآن عوض من غيرها وليس غيرها منها بعوض وقال الحافظ في التلخيص: وروى الحاكم من طريق أشهب عن ابن عيينة عن الزهري عن محمود(2/38)
وفي البابِ عَنْ عَلِي وَعائِشَة. قال وحَدِيثُ علي بنِ أبي طَالب ِفي هذا أجْودُ إسْنَاداً وأصحّ مِن حديثِ أبي سعيدٍ . وقد كَتَبْنَاهُ أوّل كِتَابِ الوضُوءِ والعَملُ عَلَيْهِ عندَ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُم ، وَبِهِ يقولُ سُفْيَانُ الثّورِيّ وابنُ المُبَارَكِ والشّافِعيّ وأحمدُ وإِسحَاقُ: إنّ تَحرِيمَ الصلاَةِ التّكبيرُ ، ولاَ يكون الرّجُلُ دَاخِلاً فِي الصلاَةِ إلا بالتّكبيرِ.
ـــــــ
بن الربيع عن عبادة مرفوعاً: أم القرآن عوض من غيرها وليس غيرها عوضاً منها ، وله شواهد فساقها انتهى ، وما في صحيح البخاري عن أبي هريرة يقول في كل صلاة يقرأ فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم ، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت ، وإن زدت فهو خير ، قال الحافظ في الفتح: وأخرجه أبو عوانة من طريق يحيى بن أبي الحجاج عن ابن جريج كرواية الجماعة لكن زاد في آخره وسمعته يقول لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وظاهر سياقه أن ضمير سمعته للنبي صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعاً بخلاف رواية الجماعة. نعم قوله ما أسمعنا وما أخفى عن يشعر بأن جميع ما ذكره متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون للجميع حكم الرفع انتهى وما رواه ابن خزيمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فصلى ركعتين لم يقرأ فيهما إلا بفاتحة الكتاب ذكره الحافظ في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن علي وعائشة" أما حديث علي فتقدم في أبواب الطهارة ، وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم بلفظ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين.
قوله: "وحديث علي بن أبي طالب أجود وأصح من حديث أبي سعيد" لأن في سند حديث أبي سعيد طريف السعدي وهو ضعيف كما عرفت "وقد كتبناه" أي حديث علي "أول" بالبناء على الضم أي في أول الكتاب "في كتاب الوضوء" أي في باب ما جاء مفتاح الصلاة الطهور "والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم ، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق: إن تحريم الصلاة التكبير ولا يكون الرجل داخلاً في الصلاة إلا بالتكبير" وهو قول الجمهور ووافقهم أبو يوسف، واستدلوا على ذلك بأحاديث الباب ومن حجتهم حديث رفاعة في قصة المسيء(2/39)
قال أبو عيسى:و سمعتُ أبا بكرٍ محمدَ بنَ أبانٍ "مستحلى وكيع" يقولُ: سمعتُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بنَ مهدِيّ يقولُ: لَوْ افتتح الرجُلُ الصلاةَ بِسبعِينَ اسماً مِنْ أسمَاءِ الله ، ولم يكبّرْ لَمْ يُجْزِهِ ، وإن أحدَثَ قبلَ أنْ يُسَلمَ أمرْتُهُ أنْ يَتَوَضّأ ثم يرجعَ إلى مَكَانِهِ فيُسَلّم إنمَا الأمرُ على وجْهِهِ.
ـــــــ
صلاته أخرجه أبو داود بلفظ لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر ، ورواه الطبراني بلفظ ثم يقول الله أكبر وحديث أبي حميد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً ورفع يديه ثم يقول الله أكبر . أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان وهذا فيه بيان المراد بالتكبير وهو قول الله أكبر ، وروى البزار بإسناد صحيح عن علي على شرط مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر كذا في فتح الباري "قال أبو عيسى سمعت أبا بكر محمد بن أبان" ابن الوزير البلخي يلقب بحمدويه وكان مستملي وكيع ثقة حافظ من العاشرة ، قال ابن حبان كان ممن جمع وصنف روى عن ابن عيينة وغندر وطبقتهما وعنه البخاري والأربعة وخلق "يقول سمعت عبد الرحمن بن مهدي" البصري ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث قال ابن المديني ما رأيت أعلم منه يقول: لو افتتح الرجل الصلاة بتسعين اسماً من أسماء الله ولم يكبر لم يجزه يعني لفظ الله أكبر متعين لافتتاح الصلاة لا يكون الافتتاح إلا به فلو قال أحد الله أجل أو أعظم أو قال الرحمن أكبر مثلا لم يجزه ولم يصح الافتتاح به خلافاً للحنفية ، والقول الراجح المنصور هو قول عبد الرحمن بن مهدي "وإن أحدث قبل أن يسلم أمرته أن يتوضأ ثم يرجع إلى مكانه ويسلم" لقوله صلى الله عليه وسلم تحليلها التسليم ، فكما أن التكبير متعين للتحريم ولافتتاح الصلاة كذلك التسليم متعين للتحليل والخروج عن الصلاة "إنما الأمر على وجهه" قال أبو الطيب السندي وفي شرحه يعني قوله تحليلها التسليم لا يأول بل يحمل على ظاهره من أن السلام فرض لأنه لا يحل له ما حرم عليه في الصلاة إلا به فيما لم يخرج من الصلاة إلا به يكون فرضاً كما أن ما يدخل به فيها يكون فرضاً ، وبه قال الإمام الشافعي وغيره ، وقال علماؤنا يعني الحنفية: إنه واجب دون فرض انتهى كلام السندي.
واعلم أن الإمام أبا حنيفة ومحمداً رحمهما الله قالا بجواز افتتاح الصلاة بكل ما دل على التعظيم الخالص غير المشوب بالدعاء ، لأن التكبير هو التعظيم ، قال الله تعالى {وَرَبَّكَ(2/40)
قال وأبو نضرة اسمه المنذرُ بنُ مَالِكِ بنِ قُطَعَةَ.
ـــــــ
فَكَبِّرْ} أي عظم وقال تعالى {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وذكر اسمه أعم من أن يكون باسم الله أو باسم الرحمن أو غير ذلك مما يدل على التعظيم ، غاية ما في الباب أن يكون اللفظ المنقول سنة مؤكدة لا أنه الشرط دون غيره كذا ذكره الحنفية ، وأجابوا عن حديث الباب بأن العبرة للمعاني لا للألفاظ فليس معنى الحديث تحريمها لفظ التكبير بل معناه تحريمها ما يدل على التعظيم.
قلت: الحق في هذا الباب هو ما ذهب إليه الجمهور من أن تحريم التكبير ولا يكن الرجل داخلاً في الصلاة إلا بالتكبير كما عرفت ، وأما قوله تعالى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} فلا نسلم أن المراد بالتكبير في هذه الاَية تكبير الافتتاح فإنها مكية نزلت قبل قصة الاسراء التي فرضت الصلاة فيها فكيف يكون المراد بالتكبير فيها تكبير الافتتاح. وأما القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعبد ويصلي تطوعاً في جبل حراء وغيره قبل أن تفرض عليه الصلاة فلا بأس بأن يراد بالتكبير في هذه الاَية تكبير الافتتاح ، ففيه أنه لا يتعين على هذا التقدير أيضاً أن يراد بالتكبير تكبير الإفتتاح كما لا يخفني على المتأمل ، ولو سلم أنه المتعين فالمراد به خصوص لفظ التكبير لأحاديث الباب ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم افتتاح الصلاة بغير لفظ التكبير البتة ، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وأما قوله تعالى {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} فلا نسلم فيه أيضاً أن المراد بذكر اسم ربه تكبير الافتتاح ، لم لا يجوز أن يكون المراد بالذكر تكبير التشريق وبالصلاة صلاة العيد ، وبقوله تزكى زكاة الفطر كما رواه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد الرزاق وابن مردويه والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنها وابن عمر وغيرهما ، وعلى هذا فلا تكون الاَية ما نحن فيه.
وأما جوابهم عن حديث الباب بأن العبرة للمعاني لا للألفاظ، ففيه أن الأصل في الأذكار والأدعية لا سيما أذكار الصلاة وأدعيتها هو التوقيف.
فالحاصل: أن مذهب الجمهور هو الحق والصواب ، وأما قول الحنفية فلا دليل عليه قال الحافظ بن القيم في إعلام الموقعين ص264 ج1 المثال الخامس عشر رد المحكم الصريح من تعيين التكبير للدخول في الصلاة بقوله إذا أقيمت الصلاة فكبر وقوله تحريمها التكبير وقوله لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل القبلة ويقول الله أكبر ، وهي نصوص في غاية الصحة فردت بالتشابه من قوله {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} انتهى.(2/41)
177ـ باب في نشر الأصابِع عندَ التكبير
239ـ حدثنا قُتَيْبَةُ و أبو سعِيدٍ الأشَجّ قَالاَ: حدثنا يَحْيَى بنُ اليَمَانٍ عن ابن أبي ذِئبٍ عن سعِيد بنِ سَمعَانَ عن أَبِي هُرَيْرَةَ قال: "كَان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا كبّرَ للصّلاَةِ نَشَرَ أصابِعَهُ".
قال أبو عيسى: حديثُ أَبِي هريرة حسن و قد روى غيرُ واحدٍ هذا الحديث عن ابنِ أبي ذِئبٍ عن سعِيدِ بنِ سمعَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا دَخَلَ فِي الصّلاَةِ رَفَعَ يدَيْهِ مَدّا".
ـــــــ
"باب في نشر الأصابِع "
قوله: "نا يحيى بن يمان" العجلي الكوفي صدوق عابد يخطئ كثيراً وقد تغير من كبار التاسعة كذا في التقريب ، وقال في الخلاصة قال أحمد ليس بحجة وقال ابن المديني صدوق تغير حفظه ، وقال يعقوب بن شيبة صدوق أنكروا عليه كثرة الغلط "عن ابن أبي ذئب" هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي العامري المدني ثقة فقيه فاضل من السابعة كذا في التقريب ، قال في الخلاصة قال أحمد يشبه بابن المسيب وهو أصلح وأروع وأقوم بالحق من مالك ، ولما حج المهدي دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال له المسيب بن زهير قم هذا أمير المؤمنين ، فقال ابن أبي ذئب إنما يقوم الناس لرب العالمين ، فقال المهدي دعه فلقد قامت كل شعرة في رأسي ، قال أبو نعيم مات سنة تسع وخمسين ومائة "عن سعيد بن سمعان" بكسر السين وفتحها وسكون الميم ، قال الحافظ ثقة ولم يصب الأزدي في تضعيفه من الثالثة.
قوله: "إذا كبر للصلاة نشر أصابعه" أي بسطها قاله السيوطي يعني أن المراد بالنشر ضد القبض وقال أبو الطيب السندي أو المراد خلاف الضم أي تركها على حالها ولم يضم بعضها إلى بعض انتهى ، وفي السعاية شرح شرح الوقاية لبعض العلماء الحنفية قوله غير مفرج أصابعه ولا ضام أي لا يتكلف في تفريج الأصابع عند رفع اليدين ولا في ضمها(2/42)
وهذا أصحّ من رواية يحيى بن اليمانِ ، وأخطأ ابنُ اليمان فِي هَذَا الحَديثِ.
240ـ حدثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ أخبرنا عبيدُ الله بنُ عَبدِ المَجِيدِ الحَنَفِيّ حدثنا ابن أبي ذئبٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ سَمْعَانَ قال سمعتُ أبَا هريرَةَ يقولُ: "كَان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاةِ رَفعَ يديْه مَدّا".
ـــــــ
بل يتركها عند الرفع كما كانت قبله واختار بعضهم استحباب التفريج مستدلين بما رواه ابن حبان من طريق يحيى بن يمان عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينشر أصابعه في الصلاة نشراً والجمهور على خلافه ولم يعتبروا بالرواية المذكورة لقول الترمذي في جامعه بعد رواية الحديث ثم ذكر قول الترمذي حديث أبي هريرة قد رواه غير واحد إلخ.
قلت: والظاهر الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور فإن حديث الباب باللفظ المذكور غير محفوظ قد أخطأ فيه ابن يمان كما صرح به الترمذي.
قوله: "وهو أصح من رواية يحيى بن اليمان وأخطأ ابن يمان في هذا الحديث" المراد بقوله أصح الصحيح يعني أن رواية من روى بلفظ كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مداً صحيحة ورواية يحيى بن اليمان المذكورة فإنها غير صحيحة بل هي خطأ.
قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن" بن الفضل بن بهرام السمرقندي أبو محمد الدارمي الحافظ صاحب المسند ثقة فاضل متقن روى عن يزيد بن هارون ويعلى بن عبيد وعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي وغيرهم وعنه مسلم وأبو داود والترمذي والبخاري في غير الصحيح "أنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي" أبو علي البصري صدوق لم يثبت أن يحيى بن سعيد ضعفه كذا في التقريب.
قوله: "رفع يديه مداً" قال ابن سيد عباس يجوز أن يكون مداً مصدراً مختصاً كقعد القرفصاء أو مصدراً من المعنى ، كقعدت جلوساً أو حالاً من رفع انتهى.
قلت: وإذا كان حالاً يكون بمعنى اسم الفاعل أو اسم المفعول أي رفع ماداً يديه أو رفع يديه ممدودتين ، وقال الشوكاني في النيل يجوز أن يكون منتصباً على المصدرية بفعل مقدر وهو يمدهما مداً ويجوز أن يكون منتصباً على الحالية ، أي رفع يديه في حال كونه مادا لهما إلى رأسه ، ويجوز أن يكون مصدراً منتصباً بقوله رفع لأن الرفع بمعنى(2/43)
قال أبو عيسى: قال عبدُ الله: وهذا أصحّ من حديثِ يحيى بنِ اليمان وحديثُ يحيى بنِ اليمان خطأٌ.
ـــــــ
المد وأصل المد في اللغة الجر قاله الراغب والارتفاع ومد النهار ارتفاعه وله معان أخر ذكره صاحب القاموس وغيره وقد فسر ابن عبد البر المد المذكور في الحديث بمد اليدين فوق الأذنين مع الرأس انتهى ما في النيل.
قلت: لم يبين في هذا الحديث غاية المد، فهو مجمل فيها ، فلا بد من أن يحمل على الأحاديث التي بينت فيها غايته هذا ما عندي والله تعالى أعلم.
قوله: "قال عبد الله" أي ابن عبد الرحمن الدارمي "وهذا أصح من حديث يحيى بن يمان" تقدم توضيحه. وهذا الحديث أخرجه الخمسة إلا ابن ماجه قاله في المنتقى وقال الشوكاني في النيل: لا مطعن في إسناده "وحديث يحيى بن يمان خطأ" قال ابن أبي حاتم قال أبي وهم يحيى ، إنما أراد: كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مداً كذا رواه الثقات من أصحاب ابن أبي ذئب انتهى.(2/44)
178ـ باب في فضل التكبيرة الأولى
241ـ حَدّثَنَا عُقْبَةُ بنُ مُكْرَمٍ. وَنَصْرُ بنُ عِلي الجهضميّ قالاَ: حَدّثَنَا أبو قتيبة سلمُ بن قُتَيْبَةَ عَنْ طُعْمَةَ بنِ عَمرٍو عن حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ عن أنسٍ بنِ مالكٍ قال:
ـــــــ
"باب في فضل التكبيرة الأولى"
قوله: "حدثنا عقبة بن مكرم" بضم الميم وسكون الكاف وفتح الراء العمي البصري الحافظ روى عن يحيى القطان وغندر وابن مهدي وخلق وعنه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه قال أبو داود: ثقة ثقة.
تنبيه: قد وقع في النسخة الأحمدية عتبة بن مكرم بالعين والمثناة الفوقانية وهو غلط والصحيح بالعين والقاف "قالا نا سلم بن قتيبة" بفتح السين وسكون اللام الشعيري الخراساني نزيل البصرة صدوق من التاسعة "عن طعمة بن عمرو" بضم الطاء المهملة وسكون العين الجعفري وثقه ابن معين.(2/44)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى لله أربعين يوماً في جماعةٍ يدرك التكبيرةَ الأُولى كتبت لهُ براءَتَان: بَراءَةٌ مِنْ النّارِ ، وبراءَةٌ مِنَ النّفَاقِ".
قال أبو عيسى: وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن أنسٍ موقوفاً ولا أعلمُ أحداً رفعَهُ إلاّ مَا رَوَى سَلمُ بنُ قُتَيْبَةَ عَنْ طُعْمَةَ بنِ عَمرٍو "عن حبيب بن أبي ثابت عن أنس وإنما يُرْوَى هذا الحديث عن حبيب بن أبي حبيبٍ البَجَلِيّ عَنْ أنسٍ بنِ مَالِكٍ قولهُ. حَدّثَنَا بذلك هَنّاد حدثنا وكيعٌ عَنْ خَالِد بن طَهْمَانَ عَنْ حبيبِ بنِ أبي حبيبٍ البَجَليّ عن أنسٍ نحوه ولم يرفعهُ
ـــــــ
قوله: "من صلى لله" أي خالصاً لله "أربعين يوماً" أي وليلة "في جماعة" متعلق يصلى "يدرك التكبيرة الأولى" جملة حالية وظاهرها التكبيرة التحريمية مع الإمام ويحتمل أن تشمل التكبيرة التحريمية للمقتدي عند لحوق الركوع فيكون المراد إدراك . الصلاة بكمالها مع الجماعة وهو يتم بإدراك الركعة الأولى كذا قال القارئ في المرقاة.
قلت: هذا الاحتمال بعيد ، والظاهر الراجح هو الأول كما يدل عليه رواية أبي الدرداء مرفوعاً "لكل شيء أنف ، وإن أنف الصلاة التكبيرة الأولى فحافظوا عليها" أخرجه ابن أبي شيبة "براءة من النار" أي خلاص ونجاة منها. يقال برأ من الدين والعيب خلص "وبراءة من النفاق" قال الطيبي أي يؤمنه في الدنيا أن يعمل عمل المنافق ويوفقه لعمل أهل الإخلاص وفي الاَخرة يؤمنه مما يعذبه المنافق ، ويشهد له بأنه غير منافق يعني بأن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى وحال هذا بخلافهم كذا في المرقاة.
قوله: "قد روى هذا الحديث عن أنس موقوفاً " قال القاري: ومثل هذا ما يقال من قبل الرأي فموقوفه في حكم المرفوع . قال ابن حجر: رواه الترمذي بسند منقطع ومع ذلك يعمل به في فضائل الأعمال. وروى البزار وأبو داود خبر: لكل شيء صفوة وصفوة الصلاة التكبيرة الأولى فحافظوا عليها. ومن ثم كان إدراكها سنة مؤكدة ، وكان السلف إذا فاتتهم عزوا أنفسهم ثلاثة أيام ، وإذا فاتتهم الجماعة عزوا أنفسهم سبعة أيام "وإنما يروى هذا عن حبيب بن أبي حبيب البجلي" بموحدة وجيم أبي عمرو والبصري نزيل الكوفة مقبول من الرابعة وقيل يكنى أبا كشوثا بفتح الكاف بعدها معجمة مضمومة ثم واو ساكنة ثم مثلثة كذا في التقريب. وقال في تهذيب: روى عن(2/45)
وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بنُ عَيّاشٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُمَارَةَ بنِ غَزِيّةَ عن أنسِ بن مالك عن عُمرَ بنِ الخطّابِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوَ هذا . وهذا حديثٌ غيرُ مَحْفوظٍ ، وهو حديثٌ مرسلٌ.
وعُمَارَةُ بنُ غَزِيّةَ لَمْ يُدْرِكْ أنسَ بنَ مَالِكٍ.
ـــــــ
أنس بن مالك وعنه خالد بن طهمان أبو العلاء الخفاف وطعمة بن عمرو الجعفري ، روى له الترمذي حديثاً واحداً في فضل من صلى أربعين يوماً في جماعة موقوفاً ذكره ابن حبان في الثقات انتهى.
قوله: "وروى إسماعيل بن عياش هذا الحديث عن عمارة" بضم العين المهملة "بن غزية" بفتح العين المعجمة وكسر الزاي بعدها تحتانية ثقيلة ابن الحارث الأنصاري المازني المدني لا بأس به ، وروايته عن أنس مرسلة كذا في التقريب. وقال في الخلاصة وثقه أحمد وأبو زرعة مات سنة أربعين ومائة "عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا" أخرجه ابن ماجه. ولفظه أنه كان يقول: "من صلى في مسجد جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله له بها عنقاً من النار".
قوله: "وهو حديث مرسل" أي منقطع. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر حديث أنس المذكور في الباب: رواه الترمذي من حديث أنس وضعفه ، ورواه البزار واستغربه وروى عن أنس عن عمر ، رواه ابن ماجه ، وأشار إليه الترمذي، وهو في سنن سعيد بن منصور عنه ، وهو ضعيف أيضاً مداره على إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في غير الشاميين ، وهذا من روايته عن مدني ، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل وضعفه وذكر أن قيس بن الربيع وغيره روياه عن أبي العلاء عن حبيب بن أبي ثابت قال وهو وهم ، وإنما هو حبيب الإسكاف ، وله طريق أخرى أوردها ابن الجوزي في العلل من حديث بكر بن أحمد بن محمى الواسطي عن يعقوب بن تحية عن يزيد بن هارون عن حميد عن أنس رفعه "من صلى أربعين يوماً في جماعة صلاة الفجر وصلاة العشاء كتب له براءة من النار وبراءة من النفاق" وقال: بكر ويعقوب مجهولان انتهى. قال الرافعي ووردت أخبار في إدراك التكبيرة الأولى مع الإمام نحو هذا. قال الحافظ: منها ما رواه الطبراني في الكبير ، والعقيلي في الضعفاء، والحاكم أبو أحمد في الكنى من حديث أبي كاهل بلفظ المصنف وزاد "يدرك التكبيرة الأولى" قال العقيلي: إسناده مجهول. وقال(2/46)
ـــــــ
أبو أحمد والحاكم ليس إسناده بالمعتمد عليه . وروى العقيلي في الضعفاء أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً "لكل شيء صفوة وصفوة الصلاة التكبيرة الأولى" وقد رواه البزار ولبس فيه إلا الحسن بن السكن ، لكن قال لم يكن الفلاس يرضاه ولأبي نعيم في الحلية من حديث عبد الله بن أوفى مثله ، وفيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف وروى ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث أبي الدرداء رفعه "لكل شيء أنف وإن أنف الصلاة التكبيرة الأولى فحافظوا عليها" وفي إسناده مجهول ، والمنقول عن السلف في فضل التكبيرة الأولى كثيرة . وفي الطبراني عن رجل من طيء عن أبيه أن ابن مسعود خرج إلى المسجد فجعل يهرول فقيل له: أتفعل هذا وأنت تنهي عنه؟ قال: إنما أردت حد الصلاة التكبيرة الألى انتهى ما في التلخيص(2/47)
179ـ باب ما يقول عند افتتاحِ الصلاة
242ـ حدثنا محمدُ بنُ مُوسى البَصْرِيّ حَدثنَا جعفرُ بنُ سلميانَ الضّبَعيّ عن عليّ بنِ عَلي الرفاعيّ ، عن أبي المُتوكّلِ عن أبي سعيدٍ الخدري قَالَ: " كَان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاةِ بالليل كَبّرَ ثم يقولُ: سُبحَانَكَ اللهُمّ وَبحمدِكَ ، وتَبَارَكَ اسمُكَ ،
ـــــــ
"باب ما يقول عند افتتاحِ الصلاة"
قوله: "حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي" بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة أبو سليمان البصري صدوق زاهد لكنه كان يتشيع "عن علي بن علي الرفاعي" بالفاء البصري يكنى أبا إسماعيل لا بأس به ، رمى بالقدر وكان عابداً ، ويقال كان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم كذا في التقريب.
قوله: "ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك" قال ابن الملك سبحان اسم أقيم مقام المصدر وهو التسبيح منصوب بفعل مضمر تقديره أسبحك تسبيحاً أي أنزهك تنزيها من كل السوء والنقائض وقيل تقديره أسبحك تسبيحا ملتبساً ومقترناً بحمدك فالباء للملابسة والواو زائدة ، وقيل الواو بمعنى مع أي أسبحك مع التلبس بحمدك وحاصله نفي الصفات السلبية وإثبات النعوت الثبوتية "وتبارك اسمك" أي كثرت بركة اسمك إذ وجد كل خير من ذكر(2/47)
وتَعَالَى جَدّكَ ، ولاَ إلَه غيْرُكَ ، ثم يقول: الله أَكبرُ كبيراً ، ثم يقولُ: أعوذُ بالله السميعِ العليم من الشيطانِ الرجيم ، مِنْ هَمْزِه ونَفْخِهِ وَنَفْثهِ".
وفي الباب عن علي ، وعَائِشَة وعَبْدِ الله بنِ مسعودٍ ، جَابِرٍ ، وجُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ ، وَابنِ عُمَرَ.
ـــــــ
اسمك وقيل تعاظم ذاتك ، أو هو على حقيقته ، لأن التعاظم إذا ثبت لأسمائه تعالى فأولى لذاته. ونظيره قوله تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} "وتعالى جدك" قال ميرك: تعالى تفاعل من العلو أي علا ورفع عظمتك على عظمة غيرك غاية العلو والرفع وقال ابن حجر: أي تعالى غناؤك عن أن ينقصه إنفاق أو يحتاج إلى معين ونصير "ثم يقول الله أكبر" بالسكون ويضم قاله القاري "كبيراً" حال مؤكدة ، وقيل منصوب على القطع من اسم الله ، وقيل بإضمار أكبر وقيل صفة لمحذوف أي تكبيراً كبيراً "من همزه" بدل اشتمال أي وسوسته "ونفخه" أي كبره المؤدى إلى كفره "ونفثه" أي سحره. قال الطيبي: النفخ كناية عن الكبر كأن الشيطان ينفخ فيه بالوسوسة فيعظمه في عينيه ويحقر الناس عنده. والنفث عبارة عن الشعر لأنه ينفثه الإنسان من فيه كالرقية إنتهى وقيل من نفخه أي تكبره يعني مما يأمر الناس به من التكبر ، ونفثه مما يأمر الناس بإنشاء الشعر المذموم مما فيه هجو مسلم أو كفر أو فسق ، وهمزه أي من جعله أحداً وغمزه مجنوناً ينخسه كذا في المرقاة قال السيوطي في قوت المغتذي: من همزه فسر في الحديث بالموتة وهي شبه الجنون ونخفه فسر بالكبر ونفثه فسر بالشعر . قال ابن سيد الناس: وتفسير الثلاثة بذلك من باب المجاز انتهى . قلت قد جاء هذا التفسير في حديث جبير بن مطعم عند أبي داود.
قوله: "وفي الباب عن علي وعبد الله بن مسعود وعائشة وجابر وجبير بن مطعم وابن عمر" أما حديث علي فأخرجه إسحاق بن راهويه وأعله أبو حاتم كذا في التلخيص ، وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه الطبراني وذكره الزيلعي في نصب الراية بإسناده ومتنه ، وأما حديث عائشة فأخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأما حديث جابر فأخرجه البيهقي وفيه محمد بن المنكدر قال البيهقي اختلف عليه فيه وليس له إسناد قوي وأما حديث جابر بن مطعم فأخرجه أبو داود وابن ماجه، وأما حديث ابن عمر فأخرجه الطبراني في معجمه وذكره الزيلعي في نصب الراية بإسناده ومتنه قال والحديث معلول بعبد الله بن عامر.(2/48)
قال أبو عيسى: وحَديثُ أبي سعيدٍ أشْهَرُ حَدِيثٍ فِي هَذَا البَاب . وقدْ أخَذَ قَوْمٌ مِن أهْلِ العِلمِ بهذَا الْحَدِيثِ . وأمّا أكْثَرُ أهْلِ العلمِ فقالوا: بما رْوَى عَن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كَانَ يَقولُ: "سُبحَانَكَ اللهُمّ وَبحمدكَ ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدّكَ ، وَلا إلَه غَيْرُكَ" و هكذَا رُوِيَ عنْ عمرَ بنِ الخطّاب وعَبْدِ الله بنِ مسْعودٍ.
ـــــــ
قوله: "وحديث أبي سعيد أشهر حديث في هذا الباب" أخرجه أصحاب السنن الأربعة.
قوله: "وقد أخذ قوم من أهل العلم بهذا الحديث" فاختاروا أن يقال عند افتتاح الصلاة بعد التكبير سبحانك اللهم إلى قوله ولا إله غيرك ثم يقال الله أكبر كبيرا ثم يقال أعوذ بالله السميع العليم الخ "وما أكثر أهل العلم فقالوا: إنما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك" فاختاروا هذا الدعاء دون ما في حديث أبي سعيد المذكور من الزيادة "وهكذا روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود" ، أما أثر عمر فأخرجه مسلم في صحيحه وغيره وأما أثر عبد الله بن مسعود فأخرجه ابن المنذر . قال الحافظ في التلخيص: قال الحاكم وقد صح ذلك عن عمر ثم ساقه وهو في صحيح ابن خزيمة وهو في صحيح مسلم أيضاً ذكره في موضع غير مظنته استطرادا وفي إسناده انقطاع ، إنتهى ما في التلخيص.
قلت: ذكره مسلم في باب عدم الجهر بالبسملة عن عبدة أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك وعبدة هذا هو ابن أبي لبابة وهو لم يسمع من عمر قاله النووي. ولذا قال الحافظ في إسناده انقطاع ورواه الدارقطني موصولاً كما في بلوغ المرام.
فإن قلت كيف روى مسلم في صحيحه أثر عمر رضي الله عنه. هذا ، وهو منقطع ، ومن شرط مسلم أن لا يخرج في صحيحه الحديث الضعيف ، والمنقطع من أقسام الضعيف.
قلت: أخرجه استطراداً ومقصوده الأصلي هو الحديث الذي أخرجه بعد هذا الأثر في عدم الجهر بالبسملة وهو صحيح متصل.
فإن قلت فلم أخرجه استطراداً ولم لم يقتصر على إخراج الحديث الصحيح المتصل
قلت: إنما فعل مسلم هذا لأنه سمعه هكذا فأداه كما سمع ولهذا نظائر كثيرة في صحيح مسلم وغيره ولا إنكار في هذا كله.(2/49)
والعَملُ على هذا عند أكثرِ أهلِ العلمِ من التابعين وَغَيرِهم.
وَقَدْ تُكُلّمَ فِي إسْنَادِ حَدِيثِ أبي سَعيدٍ ، كَان يَحْيَى بنُ سعيدٍ يَتَكلّمُ في عليّ بن علي. الرفاعي وَقَالَ أحمدُ: لا يصِحّ هذَا الحديثُ.
243ـ حدثنا الحسَنُ بنُ عَرَفَةَ وَ يَحْيَى بنُ موسى قالا: حدثنا أبو معاويَةَ عن حارثةَ ابنِ أبي الرجالِ عن عَمْرَةَ عن عائشةَ قالتْ: "كان النبيّ صلى الله عليه
ـــــــ
قوله: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من التابعين وغيرهم" وعليه عمل الحنفية. قال الحافظ ابن تيمية في المنتقى: وأخرج مسلم في صحيحه أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك تعالى جدك ولا إله غيرك. وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي بكر الصديق أنه كان يستفتح بذلك وكذلك رواه الدارقطني عن عثمان بن عفان وابن المنذر عن عبد الله بن مسعود. وقال الأسود كان عمر إذا أفتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك يسمعنا ذلك ويعلمنا. رواه الدارقطني ثم قال ابن تيمية: واختيار هؤلاء وجهر عمر به أحياناً بمحضر من الصحابة ليتعلمه الناس مع أن السنة إخفاؤه يدل على أنه الأفضل وأنه الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم عليه غالباً، وإن استفتح بما رواه علي وأبو هريرة فحسن لصحة الرواية انتهى كلام ابن تيمية ، قال الشوكاني في النيل: ولا يخفى أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالإيثار والاختيار وأصح ما روى في الاستفتاح حديث أبي هريرة المتقدم ثم حديث علي انتهى. قلت: أراد الشوكاني بحديث أبي هريرة الذي رواه الجماعة إلا الترمذي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل القراءة فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقرآن ما تقول؟ قال أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب الحديث وأراد بحديث علي الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض الحديث. ولا شك في أن أصح ما روى في الاستفتاح هو حديث أبي هريرة فهو أولى بالايثار والاختيار وهذا الحديث لم يروه الترمذي في هذا الباب ولم يشر إليه لكنه أشار إليه في باب السكتتين.
قوله: "حدثنا الحسن بن عرفة" وثقه ابن معين وأبو حاتم "عن حارثة بن أبي الرجال" قال النسائي متروك قاله في الخلاصة وقال في التقريب ضعيف.(2/50)
وسلم إذا افتتح الصلاةَ قَال: "سُبحَانَكَ اللهُمّ وَبحمدكَ ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدّكَ ، وَلا إلَه غَيْرُكَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ لا نَعْرِفُه من حديث عائشة إلاّ من هذا الوجهِ . وحَارثةُ قَدْ تُكُلّمَ فيهِ منْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه" روى أبو داود هذا الحديث في سننه من غير هذا الوجه ليس فيه حارثة وسنده هكذا: حدثنا حسين بن عيسى ناطلق بن غنام ناعبد السلام بن حرب الملائي عن بديل بن ميسرة عن أبي الجوزاء قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة قال سبحانك اللهم الخ" وهذا الحديث من هذا الطريق أيضاً ضعيف قال أبو داود بعد روايته: وهذا الحديث ليس بالمشهور عن عبد السلام بن حرب لم يروه إلا طلق بن غنام ، وقد روى قصة الصلاة عن بديل جماعة لم يذكروا فيه شيئاً من هذا انتهى. قال المنذري يعني دعاء الاستفتاح وقال الدارقطني قال أبو داود: ولم يروه عن عبد السلام غير طلق بن غنام وليس هذا الحديث بالقوي هذا آخر كلامه انتهى "وحارثة قد تكلم فيه من قبل حفظه" قال الذهبي في الميزان ضعفه أحمد وابن معين وقال النسائي متروك وقال خ منكر الحديث لم يعتد به أحمد قال ابن عدي عامة ما يرويه منكر انتهى.
فائدة: قال الحافظ في التلخيص: قال ابن خزيمة لا نعلم في الافتتاح بسبحانك اللهم خبراً ثابتاً عند أهل المعرفة بالحديث وأحسن أسانيده حديث أبي سعيد ثم قال لا نعلم أحداً ولا سمعنا به استعمل هذا الحديث على وجهه.
فائدة أخرى: أصح ما ورد في الاستفتاح حديث أبي هريرة الذي جاء فيه: دعاء الافتتاح بلفظ اللهم باعد بيني وبين خطاياي ألخ قال الشيخ ابن الهمام في فتح القدير بعد ذكر هذا الحديث وهو الأصح من الكل لأنه متفق عليه انتهى. قلت فهو الأولى بالاختيار ثم أصح ما ورد فيه حديث علي رضي الله عنه الذي جاء فيه دعاء الافتتاح بلفظ وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض الخ لأنه رواه مسلم فبعد حديث أبي هريرة هو أولى بالاختيار في جميع الصلوات مكتوبة كانت أو تطوعاً هذا ما عندي والله تعالى أعلم.(2/51)
"وأبو الرّجَالِ اسمهُ محمدُ بنُ عبدِ الرحمَنِ المدينيّ" .
ـــــــ
فإن قلت حديث علي هذا رواه مسلم في صلاة الليل فإيراده في هذا الباب يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله في التهجد وقال الحافظ في بلوغ المرام بعد ما ذكره عن مسلم ما لفظه: وفي رواية له أن ذلك في صلاة الليل انتهى. فيكون هذا الدعاء مخصوصاً بصلاة التطوع كما هو مذهب الحنفية ولا يكون مشروعاً في المكتوبة قلت: مجرد إيراد مسلم هذا الحديث في صلاة الليل لا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوله في التهجد كما لا يخفى. وأما قول الحافظ وفي رواية له أن ذلك في صلاة الليل ففيه نظر. فإن هذا الحديث مروي في صحيح مسلم في باب صلاة الليل من وجهين ليس في واحد منهما أن ذلك في صلاة الليل، وهذا الحديث رواه الترمذي في كتاب الدعوات من ثلاثة وجوه ليس في واحد منها أن ذلك في صلاة الليل بل وقع في واحد منها: إذا قام إلى الصلاة المكتوبة. ورواه أبو داود أيضاً في سننه في كتاب الصلاة من وجهين لم يقع في واحد منهما أن ذلك في صلاة الليل، بل واقع في واحد منهما: إذا قام إلى الصلاة المكتوبة، ووقع في رواية للدارقطني إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة قال وجهت وجهي الخ وقال الشوكاني في النيل وأخرجه أيضاً ابن حبان وزاد إذا قام إلى الصلاة المكتوبة وكذلك رواه الشافعي وقيده أيضاً بالمكتوبة وكذا غيرهما فالقول بأن هذا الدعاء مخصوص بصلاة التطوع ولا يكون مشروعاً في المكتوبة باطل جداً ومن ههنا ظهر بطلان قول صاحب آثار السنن أن القيد بالمكتوبة في هذا الحديث غير محفوظ فإن هذا القيد موجود في كثير من روايات هذا الحديث.
تنبيه: روى النسائي من حديث محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوعاً قال الله أكبر وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض الخ قال الشيخ عبد الحق في اللمعات في قوله: إذا قام يصلي تطوعاً دليل على المخصوصية بالتطوع كما هو مذهبنا انتهى قلت ليس فيه دليل على المخصوصية بالتطوع كيف وقد وقع في كثير من روايات حديث علي إذا قام إلى الصلاة المكتوبة على أنه لو كان في هذا دليل على مخصوصية هذا الدعاء بالتطوع لكان الدعاء الذي اختاره الحنفية للفرض أيضاً مخصوصاً بالتطوع فإن الترمذي وأبا داود قد رويا عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل كبر ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك الحديث فتفكر.(2/52)
ـــــــ
تنبيه آخر: قال الفاضل اللكنوي في عمدة الرعاية: اختار المتأخرون يعني من الحنفية أن يقرأ إني وجهت وجهي قبل التحريمة ليكون أبلغ في أحضار القلب وجمع العزيمة كما ذكره في النهاية والبناية وغيرهما لكن هذا مما لا أصل له في السنة وإنما الثابت في الأحاديث التوجيه في الصلاة لا قبلها انتهى كلامه قلت الأمر كما قال ففي حديث محمد بن مسلمة عند النسائي كان إذا قام يصلي تطوعاً قال الله أكبر وجهت وجهي الخ وفي حديث علي رضي الله عنه عند مسلم في رواية له إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال وجهت وجهي الخ.(2/53)
180ـ باب ما جاء في تركِ الجهرِ ببسم الله الرحمن الرحيم
244ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حَدّثَنَا إسْمَاعِيل بنُ إِبْرَاهِيمَ حَدثنا سَعيدُ الْجُرَيْرِيّ عن قيسِ بن عَبَايَةَ عن ابنِ عَبْدِ الله بنِ مُغَفّلٍ قال: "سَمِعَنِي أبي وأنَا فِي الصلاةِ أقولُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقالَ لي : أيْ بُنَيّ مُحْدَثٌ إيّاكَ
ـــــــ
"باب ما جاء في تركِ الجهرِ ببسم الله الرحمن الرحيم"
إعلم أن في قراءة البسملة في الصلاة ثلاثة أقوال أحدها أنها واجبة الفاتحة كمذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وطائفة من أهل الحديث بناء على أنها من الفاتحة والثاني أنها مكروهة سراً وجهراً وهو المشهور عن مالك والثالث أنها جائزة بل مستحبة وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور عن أحمد وأكثر أهل الحديث ثم مع قراءتها هل يسن الجهر بها أو لا ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها يسن الجهر وبه قال الشافعي ومن وافقه والثاني لا يسن الجهر وبه قال أبو حنيفة وجمهور أهل الحديث والرأي وفقهاء الأمصار وجماعة من أصحاب الشافعي وقيل مخير بينهما وهو قول إسحاق بن راهويه وابن حزم كذا في نصب الرواية قلت: قد ثبت قراءة البسملة في الصلاة بأحاديث صحيحة وهي حجة على الإمام مالك والإسرار بها عندي أحب من الجهر بها والله تعالى أعلم.
فائدة: قال الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة سفيان الثوري ما لفظه: اللالكائي في السنة نا المخلص نا أبو الفضل شعيب بن محمد نا علي بن حرب بن بسام سمعت شعيب بن جرير يقول قلت لسفيان الثوري حدث بحديث السنة ينفعني الله به فإذا وقفت بين يديه قلت(2/53)
والحَدَثَ ، قال: ولم أرَ أحداً من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كانَ أبْغَضَ إليهِ الحدثُ في الإسلاَم ، يَعْنِي مِنْهُ ، و قال: وقَدْ صلَيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعَ أبي بكرِ وعُمرَ و مع عُثْمانَ فَلَم أسمعْ أحداً منهم يقولُها ، فلاَ تَقلهَا ، إذَا أنتَ صَلّيتَ فَقُلْ {الحمدُ لله ربّ العالمِينَ}.
قال أبو عيسى: حديثُ عَبْدِ الله بنِ مُغَفّلٍ حديثٌ حسَنٌ، والعملُ عَلَيْه
ـــــــ
يا رب حدثني بهذا سفيان فأنجو أنا وتؤخذ قال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود من قال غير هذا فهو كافر والإيمان قول وعمل ونية يزيد وينقص إلى أن قال يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين وحتى ترى أن إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر به إلى أن قال إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن هذا فقل يا رب حدثني بهذا سفيان الثوري ثم خل بيني وبين الله عز وجل. قال الذهبي هذا ثابت عن سفيان وشيخ المخلص ثقة انتهى.
قوله: "حدثنا اسمعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي البصري" بن علية وهي أمه قال أحمد إليه المنتهى في التثبت قال ابن معين كان ثقة مأموناً "حدثنا سعيد الجريري" بضم الجيم مصغراً هو سعيد بن إياس أبو مسعود البصري ثقة اختلط قبل موته "عن قيس بن عباية" بفتح العين المهملة وتخفيف الموحدة ثم تحتانية ثقة من أوساط التابعين كنيته أبو نعامة قال ابن عبد البر هو ثقة عند جيمعهم "عن ابن عبد الله بن مغفل" اسمه يزيد كذا في التقريب.
قوله: "وأنا في الصلاة" جملة حالية "أي بنى محدث" أي قوله بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة محدث "إياك والحدث" تحذير أي حذر نفسك من الحدث واتق منه قال أي ابن عبد الله بن مغفل "يعني منه" أي من أبيه عبد الله بن مغفل وهذا قول بعض الرواة "وقال" أي عبد الله بن مغفل "وقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقولها" أي البسملة ولم يذكر علياً رضي الله عنه لأن علياً رضي الله عنه عاش في خلافته بالكوفة وما أقام بالمدينة إلا يسيراً فلعل عبد الله بن مغفل لم يدركه ولم يضبط صلاته كذا في إنجاح الحاجة "فلا تقلها" ظاهره أنه نهاه عن البسملة رساً يعني لا يقول سراً ولا جهراً لكنه يحمل على الجهر إذ السماع عادة يتعلق بالجهر وإليه أشار المصنف في الترجمة قاله أبو الطيب السندي.
قوله: "حديث عبد الله بن مغفل حديث حسن" وأخرجه النسائي وابن ماجه قال النووي(2/54)
عِنْدَ أكثر أهلِ العلمِ من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليّ وغيرُهُم وَمن بَعدَهم من التّابعين . وبه يقولُ سفيانُ الثوريّ وابنُ المباركِ وأحمدُ وإسحاقُ ، لا يَرَوْنَ أنْ يَجْهَرَ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قالوا: ويقولُها في نفسهِ
ـــــــ
في الخلاصة وقد ضعف الحفاظ هذا الحديث وأنكروا على الترمذي تحسينه كابن خزيمة وابن عبد البر والخطيب وقالوا إن مداره على ابن عبد الله بن مغفل وهو مجهول انتهى وقال الحافظ في الدراية: وقع في رواية للطبراني عن يزيد بن عبد الله بن مغفل وهو كذلك في مسند أبي حنيفة انتهى. وقال في تهذيب التهذيب ابن عبد الله بن مغفل عن أبيه في ترك الجهر بالبسملة وعنه أبو نعامة الحنفي قيل اسمه يزيد قلت ثبت كذلك في مسند أبي حنيفة للبخاري انتهى وقد أطال الحافظ الزيلعي الكلام على هذا الحديث في نصب الراية ثم قال وبالجملة فهذا حديث صريح في عدم الجهر بالتسمية وهو وإن لم يكن من أقسام الصحيح فلا ينزل عن درجة الحسن وقد حسنه الترمذي والحديث الحسن يحتج به لا سيما إذا تعددت شواهده وكثرت متابعاته انتهى كلامه ، قلت لم أجد ترجمة يزيد بن عبد الله بن مغفل فإن كان ثقة قابلاً للاحتجاج فالأمر كما قال الزيلعي من أن هذا الحديث لم يكن من أقسام الصحيح فلا ينزل عن درجة الحسن وإلا فهو ضعيف.
قوله: "والعمل عليه عند أكثر أهل العلم الخ" واستدلوا بحديث الباب وبحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانو يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين أخرجه البخاري ومسلم زاد مسلم لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها وفي رواية لأحمد والنسائي وابن خزيمة لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم وفي أخرى لابن خزيمة كانوا يسرون. قال الحافظ في بلوغ المرام وعلى هذا يحمل النفي في رواية مسلم خلافاً لمن أعلها انتهى وقال في فتح الباري فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه انتهى قلت والعلة التي أعلها بها من أعلها هي أن الأوزاعي روى هذه الزايادة عن قتادة مكاتبة وقد ردت هذه العلة بأن الأوزاعي لم ينفرد بها بل قد رواها غيره رواية صحيحة.
فإن قلت روى عن أنس إنكار ذلك فروى أحمد والدارقطني من حديث سعيد بن يزيد أبي سلمة قال: سألت أنساً أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم أو الحمد لله رب العالمين. وقال إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه أو ما سألني عنه أحد قبلك قال الدارقطني إسناده صحيح.(2/55)
ـــــــ
قلت: قال الزيلعي في نصب الراية وأما ما روى من إنكار أنس فلا يقاوم ما يثبت عن خلافه في الصحيح ويحتمل أن يكون أنس نسي في تلك الحال لكبره وقد وقع مثل ذلك كثيراً كما سئل يوماً عن مسألة فقال عليكم بالحسن فاسألوه فإنه حفظ ونسينا ، وكم ممن حدث ونسي ، ويحتمل أنه سأله عن ذكرها في الصلاة أصلا لا عن الجهر بها وإخفائها انتهى كلام الزيلعي. وقال وهذا الحديث مما يدل على أن ترك الجهر عندهم كان ميراثاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم يتوارثه خلفهم عن سلفهم ، وهذا وحده كاف في المسئلة لأن الصلوات الجهرية دائمة صباحاً ومساءً فلو كان عليه السلام يجهر بها دائماً لما وقع فيه اختلاف ولا اشتباه ولكان معلوماً بالاضطرار ولما قال أنس لم يجهر بها عليه السلام ولا خلفاؤه الراشدون ولا قال عبد الله بن مغفل ذلك أيضاً وسماه حدثاً ولما استمر عمل أهل المدينة في محراب النبي صلى الله عليه وسلم ومقامه على ترك الجهر ، يتوارثه آخرهم عن أولهم وذلك جار عندهم مجرى الصاع والمد بل أبلغ من ذلك لاشتراك جميع المسلمين في الصلاة ولأن الصلاة تتكرر كل يوم وليلة وكم من إنسان لا يحتاج إلى صاع ولا مد ومن يحتاجه يمكث مدة لا يحتاج إليه ولا يظن عاقل أن أكابر الصحابة والتابعين وأكثر أهل العلم كانوا يواظبون على خلاف ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله انتهى كلامه الزيلعي .(2/56)
181ـ باب مَن رأى الجهر ببسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ
245ـ حدثنا أحمدُ بنُ عَبْدَةَ حدثنا المُعْتَمِرُ بنُ سليمانَ قال: حدثني إسْمَاعِيلُ
ـــــــ
"باب مَن رأى الجهر ببسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ"
قوله: "حدثني اسمعيل بن حماد" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: اسمعيل بن حماد بن أبي سليمان الأشعري مولاهم الكوفي روى عن أبيه وأبي خالد الوالبي وعنه معتمر بن سليمان. قال ابن معين: ثقة ، وقال أبو حاتم شيخ يكتب حديثه وفرق ابن أبي حاتم بينه وبين اسمعيل بن حماد البصري الراوي عن أبي خالد الوالبي عن ابن عباس وعنه معتمر ولم يذكر البخاري في التاريخ غير ابن أبي سليمان وقال الأزدي في إسمعيل يتكلمون فيه. وقال العقيلي حديثه غير محفوظ ويحكيه عن مجهول يعني الحديث الذي رواه عن أبي خالد الوالبي عن ابن عباس في الاستفتاح بالبسملة وقال ابن عدي ليس إسناده بذاك(2/56)
بن حمّادٍ عن أبي خالدٍ عن ابن عباسٍ قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتحُ صَلاَتَهُ ببسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ".
قال أبو عيسى: وليس إسنادُه بذاكَ. وقد قال بهذا عِدّةٌ من أهل العلمِ من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو هريرَة وابن عمرَ وابن عباسٍ وابنُ الزبيرِ ومَن بعدَهم منَ التابِعينَ ، رَأَوْا الجهرَ بـ "بسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ" . وبهِ يَقُولُ
ـــــــ
وذكره ابن حبان في الثقات انتهى "عن أبي خالد" الوالبي يأتي ترجمته في آخر الباب "يفتتح صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم" ظاهره يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالبسملة لكن الحديث ضعيف.
قوله: "وليس إسناده بذاك" أي بذاك القوي: قال الطيبي المشار إليه بذاك ما في ذهن من يعتني بعلم الحديث ويعتد بالإسناد القوي. قال الحافظ في الدراية وأخرجه ابن عدي وقال لا يرويه وفيه أبو خالد وهو مجهول والحديث غير محفوظ وقال أبو زرعة لا أعرف أبا خالد وأخرجه العقيلي وقال هو مجهول وقيل إنه الوالبي وأسمه هرمز والله أعلم . والراوي عنه إسمعيل بن حماد قال العقيلي ضعيف إنتهى.
قوله: "وقد قال بهذا عدة من أهل العلم" أي قال بالجهر بالبسملة جماعة من أهل العلم واستدلوا بحديث الباب وبعدة أحاديث أخرى أكثرها ضعيفة وأجودها حديث نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال آمين وقال الناس آمين الحديث وفي آخره قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم . قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث وهو أصح حديث ورد في ذلك يعني في الجهر بالبسملة قال وقد تعقب الاستدلال بهذا الحديث باحتمال أن يكون أبو هريرة أراد بقوله أشبهكم أي في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها . وقد رواه جماعة غير نعيم عن أبي هريرة بدون ذكر البسملة.
والجواب أن نعيماً ثقة فتقبل زيادته. والخبر ظاهر في جميع الأجزاء فيحمل على عمومه حتى يثبت دليل يخصصه انتهى.(2/57)
الشافِعَيّ ، وإسْمَاعِيلُ بنُ حمادٍ هو ابن أبِي سُلَيْمانَ وأبو خالد الوالِبيّ واسمُهُ هُرْمُز وهو كوفيّ.
ـــــــ
وقال صاحب سبل السلام: قول أبي هريرة إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان محتملاً أنه يريد في أكثر أفعال الصلاة وأقوالها ، إلا أنه خلاف الظاهر ويبعد عن الصحابي أن يبتدع في صلاته شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ثم يقول والذي نفسي بيده إني لأشبهكم انتهى. قال والأقرب أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها تارة جهراً وتارة يخفيها انتهى.
قوله: "وإسمعيل بن حماد" قال الذهبي في الميزان: إسمعيل بن حماد بن أبي سليمان الكوفي وثقه ابن معين وقال الأزدي يتكلمون فيه. وقال العقيلي حديثه غير محفوظ ويحكيه عن مجهول ثم ذكر الذهبي حديث الباب من طريقه "هو أبو خالد الوالبي" قال في التقريب بموحدة قبلها كسرة. الكوفي أسمه هرمز ويقال هرم مقبول من كبار التابعين ، وفد على عمر وقيل حديثه عنه مرسل فيكون من أوساط التابعين انتهى. وقال الذهبي في الميزان أبو خالد عن ابن عباس لا يعرف(2/58)
باب: في افتتاح القراءة بالحمد لله رب العالمين
...
182ـ باب في افتتاح القراءةِ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
246ـ حَدّثَنَا قُتَيْبَةُ حدثنا أبو عَوانَةَ عن قتادَةَ عن أنسٍ قال: "كَان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمرُ وعثمانُ يَفْتَتِحُونَ القراءةَ ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
ـــــــ
"باب في افتتاح القراءةِ بـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "
قوله: "يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بضم الدال على الحكاية واختلف في المراد بذلك فقيل المعنى كانوا يفتتحون بالفاتحة ، وهذا قول من أثبت البسملة في أولها وتعقب بأنها إنما تسمى الحمد فقط وأجيب بمنع الحصر ومستنده ثبوت تسميتها بهذه الجملة وهي الحمد لله رب العالمين في صحيح البخاري ، أخرجه في فضائل القرآن من حديث أبي(2/58)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. والعملُ على هذا عند أهلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومَن بعدَهم ، كَانوا يَستفْتِحُونَ القراءَةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الشافعيّ: إنما مَعْنى هذا الحديثِ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ كَانوا يفتتحون القراءةَ "بالحمدِ لله ربّ العالمين" ، معناهُ أنهم كَانوا يبدأون بقراءَةِ فاتحةِ الكتاب قبلَ السورة ، وليسَ معناه أنهم كَانوا لا يقرأون "بسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ" .
وكان الشافعيّ يَرَى أنْ يُبْدأَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} و أنْ يُجْهَر بها "إذا جُهِرَ بالقراءَةِ" .
ـــــــ
سعيد بن المعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن فذكر الحديث وفيه قال الحمد لله رب العالمين هي سبع المثاني وقيل المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكاً بظاهر الحديث، وهذا قول من نفي قراءة البسملة لكن لا يلزم من قوله: كانوا يفتتحون بالحمد ، أنهم لم يقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم سرا وقد أطلق أبو هريرة السكوت على القراءة سراً كذا في فتح الباري.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(2/59)
باب: ما جاء أنه لاصلاة إلا بفاتحة الكتاب
...
183ـ باب ما جاء أنّه لا صلاَة إلا بفاتحةِ الكتاب
247ـ حدثنا ابن أبي عمرَ و عليّ بن حُجْرٍ قالا: حدثنا سفيانُ بن عينية عن الزّهْرِيّ عن محمودِ بن الرّبيع عن عُبَادَةَ بنِ الصامتِ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاَةَ لمن لم يقرأ بفاتحةِ الكتاب".
ـــــــ
"باب ما جاء أنّه لا صلاَة إلا بفاتحةِ الكتاب"
قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" هذا دليل على أن قراءة فاتحة الكتاب(2/59)
وفي الباب عن أبي هريرةَ وعائشةَ وأنسٍ وأبي قَتَادَةَ وعَبْدِ الله بن عمرٍو.
قال أبو عيسى: حديثُ عُبَادَةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. والعملُ عليه عند أكثر أهل العلمِ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، منهم عمرُ بن الخطاب وجابرُ بنُ عَبْدِ الله وعمْرانُ بنُ حُصَيْنٍ وغَيْرهم ، قالوا: لا تجزئ صلاةٌ إلا بقرَاءَةِ فاتحةِ الكتابِ.
"وقال علي بن أبي طالب: لكل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج غير تمام" .
وبِه يقُولُ ابنُ المُبَاركِ والشّافعِيّ وأحمدُ وإسْحَاقُ.
ـــــــ
فرض في جميع الصلوات ، فريضة كانت أو نافلة ، وركن من أركانها . قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة تحت قوله: الأمور التي لا بد منها في الصلاة وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الركنية كقوله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقوله صلى الله عليه وسلم: لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود ، وما سمى الشارع الصلاة به فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة انتهى كلامه. والحديث بعمومه شامل لكل مصل منفرداً كان أو إماماً أو مأموماً.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأبي قتادة وعبد الله بن عمرو" أما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم مرفوعاً بلفظ من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام الحديث. وأما حديث عائشة فأخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي والبيهقي في كتاب القراءة والبخاري في جزء القراءة بلفظ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج. وأما حديث أنس وأبي قتادة فلم أقف عليهما ، وأما حديثهما في القراءة خلف الإمام فسيجيء تخريجهما في باب القراءة خلف الإمام. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البيهقي في كتاب القراءة والبخاري في جزء القراءة مرفوعاً بلفظ: كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي مخدجة مخدجة مخدجة. وفي رواية فهي خداج.
قوله: "حديث عبادة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين وغيرهم" كعبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين "قالوا: لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق" فعند هؤلاء قراءة الفاتحة في الصلاة فرض من(2/60)
ـــــــ
فروضها وركن من أركانها ، واستدلوا عليه بأحاديث الباب فإن حديث عبادة بلفظ: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، تنبيه بليغ على ركنية الفاتحة كما تقدم ورواه الدارقطني وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم بإسناد صحيح بلفظ: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب كما ذكره الحافظ في الفتح. فهذه الرواية نص صريح في ركنية الفاتحة لا يحتمل تأويلاً وحديث أبي هريرة وغيره بلفظ: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج أيضاً يدل على ركنيه الفاتحة في الصلاة . فإن معنى قوله خداج أي ناقصة نقص فساد وبطلان. قال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاز خدج الرجل فهو خادج إذا نقص عضو منه وأخدجه الله فهو مخدج وكان ذو الثدية مخدج اليد، وأخدج صلاته نقص بعض أركانها وصلاتي مخدجة وخادجة وخداج وصف بالمصدر انتهى.
وقال الخطابي في معالم السنن: فهي خداج أي ناقصة نقص بطلان وفساد تقول العرب أخدجت الناقة إذا ألقت ولدها وهو دم لم يستبن خلقه فهي مخدج ، والخداج إسم مبني منه. وقال البخاري في جزء القراءة: قال أبو عبيد أخدجت الناقة إذا أسقطت والسقط ميت لا ينتفع به انتهى.
وقال الجزري في النهاية: الخداج النقصان يقال خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق ، وأخدجته إذا ولدته ناقص الخلق ، وإن كان لتمام الحمل انتهى.
وقال في المصباح المنير: قال أبو زيد خدجت الناقة وكل ذات خف وظلف وحافر إذا ألقت ولدها لغير تمام الحمل. وزاد ابن القوطية وإن تم خلقه وأخدجته بالألف ألقته ناقص الخلق انتهى.
قلت: والمراد من القاء الناقة ولدها لغير تمام الحمل وإن تم خلقه إسقاطها والسقط ميت لا ينتفع به كما عرفت ، فظهر من هذا كله أن قوله فهي خداج معناه ناقصة نقص فساد وبطلان ، ويدل عليه ما رواه البيهقي في كتاب القراءة بإسناده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. قلت فإن كنت خلف الإمام قال فأخذ بيدي وقال إقرأ في نفسك يا فارسي ، قال البيهقي رواه ابن خزيمة الإمام عن محمد بن يحيى محتجاً به على أن قوله في سائر الروايات فهي خداج المراد به النقصان الذي لا تجزئ معه انتهى.
فالحاصل أن استدلال أكثر أهل العلم وجمهورهم بأحاديث الباب على ركنية الفاتحة(2/61)
ـــــــ
في الصلاة صحيح لا غبار عليه وقولهم هو الراجح المنصور ، وقال الحنفية بأن قراءة الفاتحة في الصلاة ليست بفرض ، وأجابوا عن حديث عبادة بأن النفي في قوله: لا صلاة للكمال. ورد هذا الجواب بوجهين الأول أن رواية ابن خزيمة وغيره بلفظ: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب تبطل تأويلهم هذا إبطالا صريحاً وهذه الرواية صحيحة صرح بصحتها أئمة الفن قال الحافظ في التلخيص: ورواه يعني حديث عبادة الدارقطني بلفظ: لا تجزئ صلاة إلا أن يقرأ الرجل فيها بأم القرآن ، وصححه ابن القطان انتهى. وقال القاري في المرقاة نقلاً عن ابن حجر المكي. ومنها خبر ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في صحاحهم بإسناد صحيح: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ورواه الدارقطني بإسناد حسن وقال النووي: رواته كلهم ثقات انتهى والثاني أن النفي في قوله: لا صلاة إما أن يرد به نفي الحقيقة أو نفي الصحة أو نفي الكمال فالأول حقيقة والثاني والثالث مجاز والثاني أعني نفي الصحة أقرب المجازين إلى الحقيقة والثالث أعني نفي الكمال أبعدهما فحمل النفي على الحقيقة واجب إن أمكن وإلا فحمله على أقرب الماجزين واجب ومتعين ، ومع إمكان الحقيقة أو أقرب المجازين لا يجوز حمله على أبعد المجازين . قال الشوكاني في النيل والحديث يعني حديث عبادة يدل على تعين الفاتحة في الصلاة وأنه لا يجزئ غيرها وإليه ذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم لأن النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات إن أمكن انتفاؤها وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة لا إلى الكمال ، لأن الصحة أقرب المجازين والكمال أبعدهما والحمل على أقرب المجازين واجب. وتوجه النفي ههنا إلى الذات ممكن كما قال الحافظ في الفتح لأن المراد بالصلاة معناها الشرعي لا اللغوي لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، وإذا كان المنفى الصلاة الشرعية استقام نفي الذات لأن المركب كما ينتفي بانتفاء جميع أجزائه ينتفي بانتفاء بعضها فلا يحتاج إلى إضمار الصحة ولا الإجزاء ولا الكمال كما روى عن جماعة لأنه إمنا يحتاج إليه عند الضرورة وهي عدم إمكان انتفاء الذات. ولو سلم أن المراد ههنا الصلاة اللغوية فلا يمكن توجه النفي إلى الذات لأنها قد وجدت في الخارج كما قاله البعض، لكان المتعين توجيه النفي إلى الصحة أو الإجزاء لا إلى الكمال ما أولا فلما ذكرنا من أن ذلك أقرب المجازين وأما ثانيا فلرواية الدارقطني المذكورة في الحديث فإنها مصرحة بالإجزاء فتعين تقديره انتهى كلام الشوكاني(2/62)
ـــــــ
وقال الحافظ في الفتح إن سلمنا تعذر على الحقيقة ، فالحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة أولى من الحمل على أبعدهما ، ونفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس فيكون أولى، ويؤيده رواية الاسماعيلي من طريق العباس بن الوليد النرسي أحد شيوخ البخاري عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ، وتابعه على ذلك زياد بن أيوب أحد الأثبات أخرجه الدارقطني وله شاهد من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً بهذا اللفظ أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما ولأحمد من طريق عبد الله بن سوادة القشيري عن رجل عن أبيه مرفوعاً: لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن انتهى كلام الحافظ وأجاب الحنفية عن حديث أبي هريرة المذكور بأن لفظ الخداج يدل على النقصان لا على البطلان لأنه وقع مثل هذا في ترك الدعاء بعد الصلاة في حديث فضل بن عباس ورد بأنه يدل على أن من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فصلاته ناقصة نقص بطلان وفساد وقد عرفت بيانه ولم يقع لفظ الخداج في حديث فضل بن عباس على ترك الدعاء بعد الصلاة فقط بل على ترك مجموع ما ذكر في هذا الحديث ولفظه هكذا: الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن ثم تقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربك مستقبلاً.
تنبيه: إعلم أن مذهب الحنفية ، أن قراءة الفاتحة ليست بفرض بل هي واجبة قالوا الفرض عندنا مطلق القراءة لقوله تعالى: فاقرأوا ما تيسر من القرآن وتقييده بالحديث زيادة على الكتاب وذا لا يجوز فعملنا بالكتاب والحديث. فقلنا إن مطلق القرآن فرض وقراءة الفاتحة واجب.
قلت: إثبات فرضية مطلق القرآن بهذه الاَية مبني على أن المراد من قوله تعالى: فاقرأوا قراءة القرآن بعينها وهو ليس بمتفق عليه بل فيه قولان قال الرازي في تفسيره فيه قولان الأول أن المراد من هذه القراءة الصلاة أي فصلوا ما تيسر عليكم . القول الثاني: أن المراد من قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} قراءة القرآن بعينها انتهى. وهكذا في عامة كتب التفسير والقول الثاني فيه بعد عن مقتضى السياق قال الشيخ الألوسي البغدادي في تفسيره المسمى بروح المعاني: أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل. عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر(2/63)
ـــــــ
عنها بسائر أركانها. وقيل الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن بعينها. وفيه بعد عن مقتضى السياق انتهى كلامه. فلما ظهر أن في قوله تعالى {فَاقْرَأُوا} القولين المذكورين وأن القول الثاني فيه بعد لاح لك أن الاستدلال به على فرضية مطلق القراءة غير صحيح ولو سلمنا أن المراد هو القول الثاني: أعني قراءة القرآن بعينها فحديث الباب مشهور بل متواتر قال الإمام البخاري في جزء القراءة تواتر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بقراءة أم القرآن" انتهى والزيادة بالحديث المشهور جائز عند الحنفية على أن قوله تعالى {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} عام مخصوص منه البعض فهو ظني فلا يدل على فرضية مطلق القراءة ويجوز تخصيصه ولو بالاحاديث قال الملاجيون في تفسيره ثم أقل القراءة فرضا عندنا آية واحدة طويلة كآية الكرسي وغيرها ، أو ثلاث آيات قصيرة كمدهامتان، وهذا هو الأصح وقيل إنه واحدة طويلة كانت أو قصيرة، وذلك مما لا يعتد به ينادي عليه كتب الفقه وعلى كل تقدير يكون ما دون الاَية مخصوصاً من هذا العام، فيكون العام ظنياً فينبغي أن لا يدل على فرضية القراءة وأن يعارضه الحديث حجة للشافعي انتهى كلامه. وأما ما قيل من أن الاَية لا يسمى قراءة القرآن عرفا والعرف قاض على الحقيقة اللغوية فهذه دعوى لا دليل عليها ويلزم منهالا أن يكون {مُدْهَامَّتَانِ} التي هي كلمة واحدة قراءة القرآن ولا يكون أكثر آية المداينة التي هي كلمات كثيرة قراءة القرآن وهذا كما ترى، وأيضاً يلزم منه أنه لو قرأ أحد نصف آية المداينة في الصلاة لا تجوز. وعامة الحنفية على جوازها. قال في فتح القدير. ولو قرأ نصف آية المداينة قيل لا يجوز لعدم تمام الاَية وعامتهم على الجواز انتهى.
فإن قلت قوله صلى الله عليه وسلم حين تعليم المسيء صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" رواه البخاري يدل على عدم فرضية الفاتحة إذ لو كانت فرضا لأمره لأن المقام مقام التعليم فلا يجوز تأخير البيان عنه.
قلت: قد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة الفاتحة فأخرج أبو داود في سننه من حديث رفاعة بن رافع مرفوعاً "وإذا قمت فتوجهت فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ" وأجاب الخطابي عن هذا بأن قوله "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" ظاهر الإطلاق التخيير لكن المراد به فاتحة الكتاب بدليل حديث عبادة وهو كقوله تعالى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ثم عينت السنة المراد. والحاصل أن قراءة الفاتحة في الصلوات فرض من فروضها ولم يقم دليل صحيح على ما ذهب إليه الحنفية. هذا ما عندي والله تعالى أعلم(2/64)
184ـ باب ما جاء في التأْمين
248ـ حدثنا بُنْدَارٌ حدثنا يَحْيى بنُ سعِيدٍ و عبدُ الرحمنِ بنُ مَهدِي قالا: حدثنا سفيانُ عن سَلَمَةَ بن كُهَيْلٍ عن حُجْرِ بنِ عَنْبَسٍ عن وائل بنِ حُجْرٍ قال: "سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ {غَيْرِ المغضوبِ عليهِمْ ولاَ الضالين}.
ـــــــ
"باب ما جاء في التأْمين"
التأمين مصدر أمن أي قال آمين وهي بالمد والتخفيف في جميع الروايات وعن جميع القراء وحكى الواحدي عن حمزة والكسائي الإمالة ، وفيها ثلاث لغات أخرى شاذة: القصر أي أمين ، والتشديد مع المد والقصر أي آمين وأمّين وخطأ الأخريين جماعة وأما الأولى منها فحكاها ثعلب وأنشد لها شاهداً. وأنكرها ابن درستويه وطعن في الشاهد بأنه لضرورة الشعر ومعنى آمين: اللهم استجب ، عند الجمهور وقيل غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى ، وقيل هو اسم من أسماء الله تعالى رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة بإسناد ضعيف وعند أبي داود من حديث أبي زهير النميري الصحابي أنّ آمين مثل الطابع على الصحيفة ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ختم بآمين فقد أوجب". قوله: "حدثنا بندار" بضم الموحدة وسكون النون لقب محمد بن بشار بن عثمان العبدي أحد أوعية السنة قال الذهبي انعقد الإجماع على الاحتجاج ببندار نا "يحيى بن سعيد" القطان أحد أئمة الجرح والتعديل "قالا نا سفيان" هو الثوري "عن سلمة بن كهيل" الحضرمي الكوفي ، قال الحافظ ثقة ، وقال الخزرجي وثقه أحمد والعجلي. واعلم أن سلمة هذا وكله بفتح اللام ، إلا عمرو بن سلمة إمام قومه وبني سلمة القبيلة من الأنصار فبكسرها وفي عبد الخالق بن سلمة الوجهان "عن حجر" بضم الحاء المهملة وسكون الجيم "بن عنبس" بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الموحدة ، الحضرمي صدوق من كبار التابعين قاله الحافظ وقال الخزرجي وثقه ابن معين "عن وائل بن حجر" بضم الحاء المهملة وسكون الجيم ، ابن سعد بن مسروق الحضرمي صحابي جليل وكان من ملوك اليمن ثم سكن الكوفة ومات في ولاية معاوية رضي الله عنه.(2/65)
وقال آمين ، ومَدّ بها صَوْتَه".
ـــــــ
قوله: "وقال آمين" فيه دليل على أن الإمام يقول آمين وهذا موضع اختلف فيه العلماء فروى ابن القاسم عن مالك أن الإمام لا يقول آمين وإنما يقول ذلك من خلفه وهو قول المصريين من أصحاب مالك وقال جمهور أهل العلم يقولها الإمام كما يقول المنفرد وهو قول مالك في رواية المدنيين ، وحجتهم أن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ووائل بن حجر وحديث بلال: لا تسبقني بآمين. كذا في الاستذكار قلت عن أبي حنيفة أيضاً في ذلك قولان: أحدهما أنه يؤمن من خلف الإمام ولا يؤمن الامام ذكره محمد في الموطأ والثاني كقول الجمهور ذكره محمد في الآثار ولا شك في أن قول الجمهور هو الحق. "ومد بها صوته" أي رفع بها صوته وجهر . ورواه أبو داود بإسناد صحيح بلفظ فجهر بآمين ورواه أيضاً بإسناد صحيح بلفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته فظهر أن المراد من قوله ومد بها صوته وجهر بها ورفع صوته بها فإن الروايات يفسر بعضها بعضاً . قال الحافظ في التلخيص: احتج الرافعي بحديث وائل الذي بلفظ مد بها صوته على استحباب الجهر بآمين وقال في أماليه: يجوز حمله على أنه تكلم على لغة المد ، دون القصر من جهة اللفظ ولكن رواية من قال رفع بها صوته تبعد هذا الاحتمال ، ولهذا قال الترمذي عقبه: وبه يقول غير واحد يرون أنه يرفع صوته انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات قوله "مد بها صوته أي بكلمة آمين يحتمل الجهر بها ويحتمل مد الألف على اللغة الفصيحة والظاهر هو الأول بقرينة الروايات الأخر ، ففي بعضها بها يرفع صوته وهذا صريح في معنى الجهر وفي رواية ابن ماجه حتى يسمعها الصف الأول فيرتج بها المسجد وفي بعضها يسمعها من كان في الصف الأول ، رواه أبو داود وابن ماجه. انتهى كلام الشيخ.
قلت: قول من قال أن قوله مد بها صوته يجوز حمله على أنه تكلم على لغة المد دون القصر غير صحيح ولا يجوز حمله على هذا البتة لما عرفت ، ولأن هذا اللفظ لا يطلق إلا على رفع الصوت والجهر كما لا يخفى على من تتبع مظان استعمال هذا اللفظ ونحن نذكر ههنا بعضها روى البخاري في صحيحه عن البراء قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ، وفيه يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدنا. ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ، وثبت الأقدام إن لاقينا. إن الألى قد بغوا علينا. وإن أرادوا فتنة أبينا. قال يمد صوته بآخرها انتهى وروى الترمذي عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أسلم وغفار ومزينة خير من تميم وأسد وغطفان(2/66)
قال وفي الباب عن علي وأبي هريرة.
ـــــــ
وبنى عامر بن صعصعة يمد بها صوته فقال القوم قد خابوا وخسروا قال فهم خير منهم. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى أبو داود وغيره حديث أبي محذورة في الترجيع بلفظ "ثم ارجع فمد من صوتك" فلفظ يمد صوته بآخرها في الأول ويمد بها صوته في الثاني "وفمد من صوتك" في الثالث لم يطلق إلا على رفع الصوت وكذلك إذا تتبعت هذا اللفظ أعني لفظ المد مع الصوت في مظان استعماله لا تجد إلا في معنى رفع الصوت، فقول من قال إن قوله مد بها صوته في حديث الباب يجوز حمله على أنه تكلم على لغة المد ليس مما يلتفت إليه والحديث حجة قوية لمن قال بسنية الجهر بالتأمين ورفع الصوت به وهو القول الراجح المعول عليه.
قوله: "وفي الباب عن علي وأبي هريرة" وفي الباب أيضاً عن أم الحصين. أما حديث علي فأخرجه الحاكم بلفظ قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين إذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين" وأخرج أيضاً عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ولا الضالين رفع صوته بآمين. كذا في إعلام الموقعين. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الدارقطني والحاكم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال آمين. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث، قال الدارقطني إسناده حسن والحاكم صحيح على شرطهما والبيهقي حسن صحيح انتهى. وذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية وسكت عنه وقال الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين رواه الحاكم بإسناد صحيح انتهى. ولأبي هريرة حديث آخر في الجهر بالتأمين رواه النسائي عن نعيم المجمر، قال صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال آمين، فقال الناس آمين. الحديث وفي آخره قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده صحيح وأما حديث أم الحصين فأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده قال: أخبرنا النضر بن شميل ثنا هارون بن الأعور عن إسماعيل بن مسلم عن أبي إسحاق عن ابن أم الحصين عن أمه أنها صلت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال ولا الضالين قال آمين، فسمعته وهي في صف النساء ذكره الحافظ ابن حجر والحافظ الزيلعي في تخريجهما للهداية وسكتا عنه وذكر هذا الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد وقال بعد ذكره رواه الطبراني في الكبير وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف انتهى.(2/67)
قال أبو عيسى: حديثُ وائِلِ بن حُجْرٍ حديثٌ حسَنٌ ، وبه يقولُ غيرُ واحدٍ مِنْ أهلِ العلم مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم والتابعين ومَن بعدَهم: يَرَوْنَ أن يَرْفعَ الرّجل صوتَه بالتأْمين ولاَ يُخْفِيهَا.
ـــــــ
قوله: "حديث وائل بن حجر حديث حسن" وأخرجه أبو داود وابن ماجه قال الحافظ في التلخيص سنده صحيح وصححه الدارقطني وأعله ابن القطان بحجر بن عنبس وأنه لا يعرف وأخطأ في ذلك بل هو ثقة معروف قيل له صحبة ووثقه يحيى بن معين وغيره انتهى قلت وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره وقد اعترف غير واحد من العلماء الحنفية بأن حديث وائل بن حجر هذا صحيح كالشيخ عبد الحق الدهلوي في ترجمة المشكاة وأبي الطيب المدني في شرح الترمذي وابن التركماني في الجوهر النقي وغيرهم.
وقال الفاضل اللكنوي في السعاية لقد طفنا كما طفتم سنينا بهذا البيت طرا جميعنا فوجدنا بعد التأمل والإمعان أن القول بالجهر بآمين هو الأصح لكونه مطابقاً لما روي عن سيد بني عدنان ورواية الخفض عنه صلى الله عليه وسلم ضعيفة لا توازي روايات الجهر وأي ضرورة داعية إلى حمل روايات الجهر على بعض الأحيان أو الجهر للتعليم مع عدم ورود شيء من ذلك في رواية ، والقول بأنه كان في ابتداء الأمر أضعف لأن الحاكم قد صححه من رواية وائل بن حجر وهو إنما أسلم في أواخر الأمر كما ذكره ابن حجر في فتح الباري وقال في التعليق الممجد: الإنصاف أن الجهر قوي من حيث الدليل انتهى.
قوله: "وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين ولا يخفيها" وقال البخاري في صحيحه: أمّن ابن الزبير ومن معه حتى إن للمسجد للجة انتهى. قال العيني وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قلت له أكان ابن الزبير يؤمن على أثر أم القرآن قال نعم ويؤمن من وراءه حتى أن للمسجد للجة، ثم قال إنما آمين دعاء ، ورواه الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عطاء قال: كنت أسمع الأئمة ابن الزبير ومن بعدهم يقولون آمين ويقول من خلفه آمين حتى إن للمسجد للجة. وفي المصنف حدثنا ابن عيينة قال لعله ابن جريج عن عطاء بن الزبير قال كان للمسجد رجة أو قال لجة إذا قال الإمام ولا الضالين وروى البيهقي عن خالد بن أيوب عن عطاء قال: أدركت مائتين من(2/68)
وبه يقول الشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين سمعت لهم رجة بآمين انتهى. وكذلك ذكر الحافظ في الفتح رواية عبد الرزاق ورواية البيهقي.
قلت: وكذلك قد ثبت جهر الصحابة والتابعين بالتأمين خلف أبي هريرة تقدم ولم يثبت من أحد من الصحابة الإسرار بالتأمين بالسند الصحيح ، ولم يثبت عن أحد منهم الإنكار على من جهر بالتأمين فقد ثبت إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الجهر بالتأمين على طريق الحنفية ، فإنهم قالوا إن ابن الزبير أفتى في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح مائها وذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً فكذلك يقال إن ابن الزبير أمن بالجهر في المسجد بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد ، بل وافقوه وجهروا معه بآمين حتى كان للمسجد للجة ، فكان إجماع الصحابة على الجهر بالتأمين "وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق" قال الحافظ بن القيم: سئل الشافعي عن الإمام هل يرفع صوته بآمين قال نعم ويرفع بها من خلفه أصواتهم إلى أن قال: ولم يزل أهل العلم عليه انتهى وهذا القول أعني الجهر بالتأمين للإمام ولمن خلفه هو الراجح القوي يدل عليه أحاديث الباب.
وقال الحنفية بالإسرار بالتأمين والإخفاء به، واستدلوا على ذلك بحديث وائل الذي ذكره الترمذي بعد هذا بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال آمين وخفض بها صوته. وهو حديث لا يصلح للاحتجاج كما ستعرف واستدل بعضهم بحديث سمرة ابن جندب أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال الأظهر أن السكتة الثانية كانت للتأمين سراً.
والجواب: أن السكتة الثانية لم تكن للتأمين سراً لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر صوته بالتأمين، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم الإسرار بالتأمين فكيف يقال إنها كان للتأمين سرا ، بل السكتة الثانية كانت لأن يتراد إليه نفسه كما صرح به قتادة في بعض رواياته.
واستدلوا أيضاً بأثر عمر وعلي رضي الله عنهما: روى الطحاوي عن أبي وائل قال كان عمر وعلي لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم ولا بالتعوذ ولا بآمين.(2/69)
وَرَوَى شعبةُ هذا الحديثَ عن سلمةَ بن كُهَيْلٍ عن حُجْرٍ أبِي العَنْبَسِ عن عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ عن أبيه "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقال: آمين، وَخَفَضَ بها صَوْتَهُ".
قال أبو عيسى: سمعت محمداً يقول: حديثُ سفيانَ أصحّ من حديثِ شعبةَ في هذا ، وأخطأ شعبةُ في مواضعَ مِنْ هذا الحديثِ فقال عن حُجْرِ أبي العَنْبَسِ وَإنما هو حُجْرُ بنُ عَنْبَس ويُكَنّى أبَا السّكنِ . وَزَادَ فيه عن عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ ،
ـــــــ
والجواب: أن هذا الأثر ضعيف جداً فإن في سنده سعيد بن المرذبان البقال قال الذهبي في الميزان: تركه الفلاس وقال ابن معين لا يكتب حديثه وقال البخاري منكر الحديث انتهى وقال الذهبي في ترجمة أبان بن جبلة الكوفي: نقل ابن القطان أن البخاري قال كل من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه انتهى.
واستدلوا أيضاً بقول ابراهيم النخعي: خمس يخفيهن الإمام سبحانك اللهم وبحمدك والتعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وآمين، واللهم ربنا لك الحمد رواه عبد الرزاق.
والجواب: أن قول ابراهيم النخعي هذا مخالف للأحاديث المرفوعة الصحيحة فلا يلتفت إليه. قال الفاضل اللكنوي في السعاية: أما أثر النخعي ونحوه فلا يوازي الروايات المرفوعة انتهى.
قوله: "وروى شعبة هذا الحديث عن سلمة بن كهيل عن حجر أبي العنبس عن علقمة ابن وائل عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال آمين وخفض بها صوته" فخالف شعبة سفيان الثوري في رواية هذا الحديث في ثلاثة مواضع كما بينه الترمذي بعد بقوله: وأخطأ شعبة في مواضع الخ "سمعت محمداً يقول حديث سفيان أصح من حديث شعبة في هذا" أراد بقوله أصح الصحيح، والمعنى أن حديث سفيان صحيح وحديث شعبة ليس بصحيح، فإنه أخطأ فيه في مواضع "وأخطأ شعبة في مواضع من هذا الحديث" أي في ثلاثة مواضع منه "فقال" أي شعبة "عن حجر أبي العنبس وإنما هو حجر بن العنبس" كما في رواية سفيان "ويكنى" أي حجر بن العنبس "أبا السكن" أي ليس كنيته أبا العنبس بل كنيته أبو السكن وهذا هو الموضع الأول من خطأ شعبة "وزاد فيه عن علقمة بن وائل" أي زاد بين حجر ووائل علقمة بن وائل "وليس فيه(2/70)
وليس فيه عن علقمةَ.
ـــــــ
عن علقمة" كما في رواية سفيان، وهذا هو الموضع الثاني من خطأ شعبة.
فإن قيل: سفيان وشعبة كلاهما ثقتان حافظان، فلم نسب الخطأ في هذين الموضعين إلى شعبة ولم ينسب إلى سفيان؟
قلنا: نسب الخطأ إلى شعبة دون سفيان لأربعة وجوه الأول: أن شعبة كان يخطئ في الرجال كثيراً، وأما سفيان فلم يكن يخطئ قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة شعبة: ثقة ثبت في الحديث، وكان يخطئ في أسماء الرجال قليلاً، وكذلك نقل الحافظ عن أبي داود ثم قال بعد عدة أسطر: وأما ما تقدم من أنه كان يخطئ في الأسماء فقد قال الدارقطني في العلل: كان شعبة يخطئ في أسماء الرجال كثيرا لتشاغله بحفظ المتون انتهى كلام الحافظ. وقد ذكر الترمذي خطأ شعبة في مواضع من جامعه فمنها في باب وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان. قال الترمذي: وروى شعبة هذا الحديث يعني حديث علي عن خالد بن علقمة فأخطأ في اسمه واسم أبيه فقال مالك بن عرفطة قال والصحيح خالد بن علقمة. ومنها في باب ما جاء في التخشع في الصلاة، قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: روى شعبة هذا الحديث يعني حديث الفضل بن عباس عن عبد ربه بن سعيد فأخطأ في مواضع، فقال عن أنس بن أبي أنيس وهو عمران بن أبي أنس، وقال عن عبد الله بن الحارث وإنما هو عبد الله بن نافع بن العميا عن ربيعة بن الحارث، وقال شعبة عن عبد الله بن الحارث عن المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو عن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحمد: وحديث الليث بن سعد أصح من حديث شعبة انتهى. ومنها في باب كراهية الطواف عريانا حدثنا ابن عمر ونصر بن علي قالا نا سفيان عن أبي إسحاق نحوه يعني نحو الحديث المذكور وقالا زيد بن يثيع وهذا أصح وشعبة وهم فيه فقال زيد بن أثيل انتهى.
والوجه الثاني: أن شعبة كان شاكا يشك كثيراً في الأسانيد والمتون، وأما شعبة فلم يكن شاكا،(2/71)
ـــــــ
والوجه الثالث: أن شعبة وسفيان في أنهما ثقتان حافظان، لكن سفيان أحفظ من شعبة كما ستقف على هذا.
والوجه الرابع: أن شعبة قد تفرد بما قال في روايته في هذين الموضعين، ولم يتابعه على ذلك أحد، وأما سفيان فلم يتفرد بما قال في روايته فيهما، بل تابعه على ذلك العلاء بن صالح، وعلي بن صالح، ومحمد بن سلمة فبهذه الوجوه قد نسب الخطأ إلى شعبة ولم ينسب إلى سفيان.
فإن قيل: قد أجاب العيني في شرح البخاري عما نسب إليه الترمذي من الخطأ الأول حيث قال قوله هو حجر بن العنبس وليس بأبي العنبس، ليس كما قاله، بل هو أبو العنبس حجر بن العنبس وجزم به ابن حبان في الثقات فقال كنيته كاسم أبيه، وقول محمد: يكنى أبا السكن لا ينافي أن تكون كنيته أيضاً أبا العنبس لأنه لا مانع أن يكون لشخص كنيتان انتهى.
قلنا لم يثبت من كتب الرجال والتراجم أن كنية حجر بن العنبس أبو العنبس أيضاً وأن له كنيتان، ولم يصرح به أحد من أئمة الفن غير ابن حبان مع أنه يحتمل أن يكون مبنى قوله هو رواية شعبة فالظاهر أنه خطأ شعبة كما نص عليه الإمام البخاري والحافظ أبو زرعة والله أعلم.
فإن قيل: قد تابع سفيان شعبة في أبي العنبس. أخرج أبو داود حدثنا محمد بن كثير نا سفيان عن سلمة بن كهيل عن حجر أبي العنبس الحضرمي الحديث وأخرج الدارقطني في سننه حدثنا عبد الله بن أبي داود السجستاني حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي حدثنا وكيع والمحاربي قالا حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن حجر أبي العنبس وهو ابن العنبس الحديث فثبت أن شعبة ليس متفرداً بأبي العنبس، بل ذكره محمد بن كثير ووكيع والمحاربي عن سفيان الثوري أيضاً.
قلنا: كل من قال في روايته عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن الحجر أبي العنبس فروايته غير محفوظة أما رواية محمد بن كثير فإنه قد خالف في ذكر حجر أبي العنبس يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي فإنهما قالا في روايتهما حجر بن العنبس كما في رواية الترمذي المذكورة، وهما أحفظ وأتقن من محمد بن كثير وأما رواية وكيع والمحاربي فقد تفرد بها عبد الله بن سعيد الكندي. وقد خالف في ذكر حجر أبي العنبس(2/72)
وإنّما هُوَ حُجْر بنُ عَنْبَسٍ عَنَ وَائِلِ بنِ حُجْرٍ وَقَالَ: وَخَفَضَ بِهَا صَوْتَه وَإِنما هُوَ مَدّ بِهَا صَوْتَهُ.
ـــــــ
أحمد بن حنبل وأحمد بن سنان ويعقوب الدورقي ، فإن هؤلاء الثقات الحفاظ قالوا في رواياتهم: حجر بن العنبس قال أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا وكيع ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {وَلا الضَّالِّينَ} فقال آمين يمد بها صوته. وقال الدارقطني في سننه حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر ثنا أحمد بن سنان ح وحدثنا أبو محمد بن صاعد ثنا يعقوب الدورقي قالا: نا عبد الرحمن عن سفيان عن سلمة عن حجر بن عنبس قال سمعت وائل بن حجر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال آمين ، ومد بها صوته . قلت: الظاهر أن عبد الرحمن هذا هو المحاربي ففي كون لفظ أبي العنبس في رواية سفيان محفوظاً كلام.
فإن قيل: قد أجاب العيني أيضاً عما نسب الترمذي إلى شعبة من خطئه الثاني حيث قال: وقوله وزاد فيه علقمة لا يضر ، لأن زيادة الثقة مقبولة لا سيما من مثل شعبة انتهى.
قلنا: قد عرفت آنفاً أن شعبة كان يخطئ كثيراً في الرجال وأنه قد تفرد بهذه الزيادة ولم يتابعه عليها أحد لا ثقة ولا ضعيف وقد خالف في ذكر هذه الزيادة سفيان والعلاء بن صالح وعلي بن الصالح ومحمد بن مسلمة ، فإن هؤلاء لم يذكروا في رواياتهم هذه الزيادة وستعرف أن سفيان أحفظ من شعبة وأنه قد تقرر أن شعبة إذا خالف سفيان فالقول قول سفيان ومع هذا كله قد نص الإمام البخاري رحمه الله تعالى على أن شعبة أخطأ في هذه الزيادة فالظاهر أن شعبة أخطأ في هذه الزيادة والله تعالى أعلم "وقال خفض بها صوته وإنما هو مد بها صوته" هذا هو الموضع الثالث من المواضع التي أخطأ فيها شعبة فقول شعبة فيه: وخفض بها صوته خطأ والصواب مد بها صوته كما رواه سفيان.
فإن قيل إن سفيان وشعبة كليهما ثقتان ثبتان أمير المؤمنين في الحديث وليس أحد منهما أحق بالخطأ من الاَخر ، فلقائل أن يقول إن سفيان هو الذي أخطأ في قوله: "ومد بها صوته" فأي دليل على أن المخطئ هو شعبة.
قلنا: إن هنا أدلة عديدة على أن المخطئ هو شعبة فمنها أن سفيان وشعبة وإن كانا ثقتين حافظين لكنهما ليس بمتساويين في الحفظ، بل سفيان أحفظ من شعبة وقد نص(2/73)
ـــــــ
على هذه شعبة نفسه. قال الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ كان شعبة يقول سفيان أحفظ مني انتهى. وقال الترمذي في باب ما جاء ص في تعليم القرآن قال علي بن عبد الله قال يحيى بن سعيد: ما أحد يعدل عندي شعبة وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان سمعت أبا عمار يذكر عن وكيع قال شعبة: سفيان أحفظ مني وما حدثني سفيان عن أحد بشيء فسألته إلا وجدته كما حدثني إنتهي وبطل بهذا قول من قال إن شعبة جعل سفيان أحفظ من نفسه هضما لنفسه وقد صرح أئمة الحديث بأن سفيان أحفظ من شعبة قال الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ: قال صالح جزرة سفيان أحفظ من شعبة يبلغ حديثه ثلاثين ألف وحديث شعبة نحو عشرة آلاف إنتهى. وقال الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة سفيان: قال أبو حاتم وأبو زرعة وابن معين هو أحفظ من شعبة انتهى.
ومنها أنه قد تقرر أن شعبة إذا خالف سفيان فالقول قول سفيان. قال الزيلعي في نصب الراية نقلاً عن البهيقي: قال يحيى القطان ويحيى بن معين: إذا خالف شعبة سفيان فالقول قول سفيان انتهى. ولذلك رجح الترمذي حديث سفيان على حديث شعبة لما اختلفا في سند حديث: خيركم من تعلم القرآن وعلمه. حيث زاد شعبة فيه رجلاً ولم يزده سفيان قال الترمذي في جامعه: كان حديث سفيان أشبه. قال علي بن عبد الله قال يحيى بن سعيد: ما عندي أحد يعدل شعبة وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان إلى آخر ما نقلت عن الترمذي آنفاً ولذلك رجح أبو داود حديث سفيان على حديث شعبة لما اختلفا في حديث اشتراء سراويل حيث قال سفيان فيه وثم رجل يزن بالأجر ولم يقل شعبة يزن بالأجر قال أبو داود في سننه رواه قيس كما قال سفيان والقول قول سفيان حدثنا أحمد بن حنبل ثنا وكيع عن شعبة قال كان سفيان أحفظ مني انتهى كلام أبي داود.
تنبيه: كلام الترمذي وكلام أبي داود هذان يدلان على أن المراد بالمخالفة في قول يحيى القطان ويحيى بن معين إذا خالف شعبة سفيان فالقول قول سفيان المخالفة في الرواية، فبطل قول من قال إن المراد بالمخالفة في الفقه والدراية.
ومنها أن شعبة لم يتابعه أحد في قوله: وخفض بها صوته لا ثقة ولا ضعيف. وأما سفيان فقد تابعه في قوله مد بها صوته ثلاثة: أحدهم العلاء بن صالح، فإنه قد روى هذا الحديث عن سلمة بن كهيل نحو حديث سفيان كما ذكره الترمذي في هذا الباب والعلاء(2/74)
ـــــــ
بن صالح ثقة والثاني علي بن صالح قال أبو داود في سننه حدثنا مخلد بن خالد الشعيري حدثنا ابن نميرنا علي بن صالح عن سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجهر بآمين الحديث ، وعلي بن صالح أيضاً ثقة. والثالث محمد بن سلمة قال الدارقطني بعد رواية حديث شعبة ما لفظه: هكذا قال شعبة وأخفى بها صوته ويقال إنه وهم لأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة وغيرهما رووه عن سلمة بن كهيل فقالوا ورفع بها صوته انتهى. ومحمد بن سلمة ضعيف فتابع سفيان ثقتان وضعيف ولم يتابع شعبة أحد لا ثقة ولا ضعيف.
ومنها أن سفيان لم يرو عند خلاف المد بالصوت والرفع والجهر لا بسند صحيح ولا بسند ضعيف وأما شعبة فروى عنه خلاف الخفض والإخفاء، فروى عنه موافقاً لحديث سفيان في السند والمتن قال الزيلعي في نصب الراية: وطعن صاحب التنقيح في حديث شعبة هذا بأنه قد روى عنه خلافه كما أخرجه البيهقي في سننه عن ابن الوليد الطيالسي ثنا شعبة عن سلمة بن كهيل سمعت حجراً أبا عنبس يحدث عن وائل الحضرمي أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلما قال ولا الضالين قال آمين رافعاً بها صوته قال فهذه الدراية توافق رواية سفيان وقال البيهقي في المعرفة: إسناد هذه الرواية صحيح انتهى. قلت: وقال البيهقي فيحتمل أن يكون تنبه لذلك فعاد إلى الصواب في متنه وترك ذكر علقمة في إسناده: انتهى كلام البيهقي فهذه الأدلة بمجموعها تدل على أن المخطئ هو شعبة ، ولذلك جزم الإمام البخاري والحافظ أبو زرعة الرازي بخطأ شعبة وقال البيهقي قد أجمع البخاري وغيره من الحفاظ على أن شعبة أخطأ في هذا الحديث ، فقد روى من أوجه فجهر بها انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: وقد رجحت رواية سفيان بمتابعة اثنين له بخلاف شعبة ، ولذلك جزم النقاد بأن حديث سفيان أصح وأرجح من حديث شعبة انتهى.
قلت: فإذا ثبت أن حديث سفيان بلفظ: مد بها صوته هو الصواب وأن حديث شعبة بلفظ: وخفض بها صوته خطأ. ظهر لك أن القول برفع الصوت بالتأمين والجهر به هو الراجح القوي المعول عليه.
وأجاب الحنفية عن أحاديث الجهر بالتأمين واعتذروا عن العمل بها، بما لا ينبغي الالتفات إليها.(2/75)
ـــــــ
فقال بعضهم قال عطاء آمين دعاء، وقد قال الله تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} انتهى.
قلت: تقرير استدلال هذا البعض على الشكل الأول هكذا آمين دعاء، وكل دعاء لا بد أن يخفي به لقوله تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فآمين لا بد أن يخفي بها ولا شك في أنه لو ثبت صحة الصغرى وكلية الكبرى صحت هذه النتيجة ، لكن في صحة الصغرى نظرا فإنا لا نسلم أن آمين دعاء بل نقول إنها كالطابع والخاتم للدعاء كما عند أبي داود من حديث أبي زهير النميري الصحابي أن آمين مثل الطابع على الصحيفة ، ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم إن ختم بآمين فقد أوجب. ولو سلمنا أن آمين دعاء فنقول إنها ليست بدعاء مستقل بالاصالة بل هي من توابع الدعاء ، ولذلك لا يدعي بآمين وحدها ، بل يدعي بدعاء أولا ثم تقال هي عقيبة فالظاهر أن يكون الجهر بها والاخفاء بها تابعاً لأصل الدعاء إن جهرا فجهراً ، وإن سراً فسراً ولو سلمنا أن آمين دعاء بالأصالة فلا نسلم كلية الكبرى ، ألا ترى أن اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم الخ دعاء ويقرأ في الصلاة الجهرية بالجهر ، وكذلك كثير من الأدعية قد ثبت الجهر بها فهذا الاستدلال مما لا يصغي إليه.
وقال بعضهم: إن الجهر كان أحياناً للتعليم ، كما جهر عمر بن الخطاب بالثناء على الافتتاح كذلك كان الجهر بالتأمين تعليماً.
قلت: القول بأن جهره صلى الله عليه وسلم بالتأمين كان للتعليم ، سخيف جداً فإنه ادعاء محض لا دليل عليه ، ويدل على سخافته أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجهرون خلف الإمام حتى كان للمسجد رجة ، فلو كان جهره صلى الله عليه وسلم بالتأمين للتعليم لم يجهروا بالتأمين خلف إمامهم وأيضاً لو كان جهره به للتعليم كان أحياناً لا على الدوام وقد روى أبو داود وغيره بلفظ "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ {وَلا الضَّالِّينَ} قال آمين ورفع بها صوته فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يداوم على الجهر.
فإن قلت أخرج الدولابي في كتاب الأسماء والكنى: حدثنا الحسن بن علي بن عفان قال حدثنا الحسن بن عطية قال أنبأنا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي سكن حجر بن عنبس الثقفي قال سمعت وائل بن حجر الحضرمي يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه "وقرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقال آمين يمد بها(2/76)
قال أبو عيسى: وَسَأَلْتُ أبَا زُرْعَةَ عن هذا الحديثِ فَقَالَ: حَدِيثُ سُفْيَانَ فِي هَذَا أصَحّ.قال رَوَى العَلاَءُ بنُ صَالحٍ الأسَدِيّ عَنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ نَحوَ رِوَايَةِ سُفْيَانَ.
ـــــــ
صوته ما أراد إلا يعلمنا" فقوله ما أراد إلا يعلمنا في هذه الرواية يدل على أن جهره صلى الله عليه وسلم بالتأمين كان للتعليم.
قلت: قد تفرد بزيادة قوله ما أراد إلا يعلمنا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه وهو متروك، قال الحافظ في التقريب في ترجمته متروك وكان شيعياً انتهى. وقد روى حديث وائل ابن حجر هذا من طرق كثيرة وليس في واحد منها هذه الزيادة فهذه الزيادة منكرة مردوده فالاستدلال بهذه الزيادة المنكرة على أن الجهر بالتأمين كان أحياناً للتعليم باطل جداً.
قوله: "وسألت أبا زرعة" الرازي اسمه عبيد الله بن عبد الكريم بن زيد بن فروخ المخزومي أحد ثقة الحفاظ تقدم ترجمته في المقدمة قال ابن وارة سمعت إسحاق بن راهويه يقول كل حديث لا يعرفه أبو زرعة ليس له أصل كذا في تهذيب التهذيب قال أي أبو زرعة "روى العلاء بن صالح الأسدي" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: العلاء بن صالح التيمي ويقال الأسدي الكوفي وسماه أبو داود في روايته علي بن صالح وهو وهم روى عن المنهال بن عمرو، وعدي بن ثابت، وسلمة بن كهيل وروى عنه أبو أحمد الزبيري ، وعبد الله بن نمير. قال بن معين وأبو داود ثقة وقال ابن معين أيضاً: وأبو حاتم لا بأس به قال الحافظ: له عند الترمذي حديث وائل في الصلاة انتهى. قلت: روى أبو داود في سننه حديث وائل من طريق ابن نمير عن علي بن صالح عن سلمة بن كهيل وذكر الحافظ في هذا الكتاب في ترجمة علي بن صالح: روى عن أبيه وأبي إسحاق السبيعي وسلمة بن كهيل وعنه أخوه وابن عيينة ووكيع وأبو أحمد الزبيري وابن نمير انتهى فإذا ثبت أن العلاء بن صالح الأسدي وعلي بن صالح رجلان وكلاهما يرويان عن سلمة بن كهيل ويروي عن كليهما ابن نمير فالظاهر أن العلاء بن صالح وعلي بن صالح كليهما يرويان حديث وائل عن سلمة بن كهيل ، ويروي عن كليهما ابن نمير فلا أدري لم جزم الحافظ بأنه سماه أبو داود في روايته علي بن صالح وهو وهم فتفكر.(2/77)
قال أبو عيسى: حَدّثَنَا أبُو بكرٍ مُحَمّدُ بنُ أبَانَ حَدّثَنَا عَبْدُ الله بنُ نُمَيْرٍ عن العَلاَء بن صَالِحٍ الأسديّ عن سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ عَن حُجْرِ بنِ عَنْبَسٍ عن وَائِلِ بن حُجْرٍ عَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ.
ـــــــ
قوله: "ثنا أبو بكر محمد بن أبان" بن وزير البلغي المستملي يلقب حمدويه وكان مستملي وكيع ثقة حافظ، قاله الحافظ روى عن ابن عيينة وغندر وطبقتهما وعنه البخاري وأصحاب السنن الأربع مات سنة أربع وأربعين ومائة "ناعبد الله بن نمير" بضم النون مصغراً الهمداني أبو هشام الكوفي ثقة صاحب حديث من أهل السنة من رجال الكتب الستة(2/78)
185ـ باب ما جاءَ في فَضلِ التأْمِين
250ـ حدثنا أبو كرَيْبٍ مُحَمّدُ بنُ العلاَءِ حَدّثَنَا زَيْدُ بنُ حُبَابٍ قالَ: حَدّثَنَي مالكُ ابنُ أنَسٍ حَدّثَنَا الزّهْرِيّ عَنْ سَعيدِ بنِ المسيّبِ و أبي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا أمّنَ الإمَامُ فَأَمّنُوا ، فَإِنّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تأْمِينَ المَلاَئِكَةِ ، غُفِرَ لَهُ ما تقدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فَضلِ التأْمِين"
قوله: "إذا أمن الإمام فأمنوا" أي إذا قال الإمام آمين فقولوا آمين وهذا يدل على أن الإمام يجهر بالتأمين وجه الدلالة أنه لو لم يكن تأمين الإمام مسموعاً للمأموم لم يعلم به وقد علق تأمينه بتأمينه وأجيب بأن موضعه معلوم فلا يستلزم الجهر به وفيه نظر لاحتمال أن يخل به فلا يستلزم علم المأموم به وقد روى روح بن عبادة عن مالك في هذا الحديث قال ابن شهاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ولا الضالين جهر بآمين. أخرجه السراج. ولابن حبان من رواية الزبيدي في هذا الحديث عن ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال آمين كذا في الفتح "فإنه من وافق تأمينه(2/78)
قال أبو عيسى: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
تأمين الملائكة" زاد يونس عن ابن شهاب عند مسلم فإن الملائكة تؤمن قبل قوله، فمن وافق وهو دال على أن المراد الموافقة في القول والزمان خلافاً لمن قال المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع كابن حبان ثم ظاهره أن المراد بالملائكة جميعهم واختاره بن بزيزة، وقيل الحفظة منهم وقيل الذين يتعاقبون منهم إذا قلنا أنهم غير الحفظة. والذي يظهر أن المراد بهم من يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو في السماء ففي رواية للبخاري: إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين. وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد، ومثله لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى قاله الحافظ "غفر له ما تقدم من ذنبه" ظاهره غفران جميع الذنوب الماضية وهو محمول عند العلماءر على الصغائر لورود الاستثناء في غير هذه الرواية.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما .(2/79)
186ـ باب ما جاءَ في السّكْتَتَيْنِ
251ـ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بنُ المُثَنّى حدثنا عَبدُ الأعْلى عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عن الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: "سَكْتَتَانِ حَفِظْتُهُمَا عن رسول الله صلى الله
ـــــــ
"باب ما جاءَ في السّكْتَتَيْنِ"
قوله: "عن الحسن" البصري ثقة فقيه فاضل مشهور وكان يرسل كثيراً ويدلس وقال البزار: كان يروى عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول حدثنا وخطبنا ، يعني قومه الذين حدثوا وخطبوا بالبصرة من أوساط التابعين قوله: "عن سمرة" بفتح أوله وضم ثانيه ابن جندب بن هلال الفزاري حليف الأنصار صحابي مشهور "سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية لأبي داود حفظت سكتتين في الصلاة سكتة إذا(2/79)
عليه وسلم ، فأَنكَرَ ذَلِكَ عمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ وقالَ: حفِظْنَا سَكْتَةً ، فَكَتبْنَا إلى أُبيّ بنِ كَعْبٍ بالمدِينَةِ ، فكَتَبَ أُبَي أنْ: "حَفِظَ سَمُرَةُ". قَال سَعِيدٌ: فَقُلْنَا لِقَتَادَةَ: مَا هَاتَانَ السّكْتَتَان؟ قال: إذَا دَخَلَ فِي صَلاَتِهِ . وإذَا فَرَغَ من القراءةِ ، ثُمّ قالَ بعدَ ذلك: وإذا قرأ: {وَلا الضَّالِّينَ} قال: وكان يُعْجِبُهُ إذا فرغَ من القراءة أن يَسْكُتَ حتى يَتَرَادّ إلَيْهِ نَفَسُهُ.
ـــــــ
كبر الإمام حتى يقرأ وسكتة إذا فرغ من فاتحة الكتاب وسورة عند الركوع وفي رواية أخرى له سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين فأنكر ذلك أي ما حفظه سمرة من السكتتين "عمران بن حصين" بالتصغير كان من علماء الصحابة وكانت الملائكة تسلم عليه وهو ممن اعتزل الفتنة قال أي عمران "حفظنا سكتة" أي واحدة "فكتبنا" قائلة سمرة "إلى أبي بن كعب" الأنصاري الخزرجي سيد القراء كتب الوحي وشهد بدراً وما بعدها وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه رضي الله عنه وكان ممن جمع القرآن "فكتب أبي" بن كعب "أن" بفتح الهمزة وسكون النون "حفظ سمرة" وفي رواية أبي داود فصدق سمرة "إذا دخل في صلاة" هذا السكتة لدعاء الاستفتاح وقد وقع بيانها في حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يسكت بين التكبير والقراءة يقول: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" الحديث "إذا فرغ من القراءة" أي كلها كما في رواية لأبي داود وهذه السكتة ليتراد إليه نفسه كما يأتي بيانها في قول قتادة "ثم قال" أي قتادة "بعد ذلك وإذا قرأ {وَلا الضَّالِّينَ} قال النووي عن أصحاب الشافعي يسكت قدر قراءة المأمومين الفاتحة قال ويختار الذكر والدعاء والقراءة سراً لأن الصلاة ليس فيها سكوت في حق الإمام انتهى.
قلت: تعيين هذه السكتة بهذا المقدار واختيار الذكر والدعاء والقراءة سراً في هذه السكتة للامام محتاج إلى الدليل قال الشوكاني حصل: من مجموع الروايات ثلاث سكتات الأولى بعد تكبير الإحرام ، والثانية إذا قرأ ولا الضالين والثالثة إذا فرغ من القراءة كلها. قيل وهي أخف من الأولى والثانية وذلك بقدر ما تنفصل القراءة عن التكبير ، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصل فيه انتهى.(2/80)
قال وفي الباب عن أبي هريرة.
قال أبو عيسى:حديثُ سَمُرَةَ حديثٌ حسَنٌ.
وهو قولُ غيرِ واحدٍ من أهلِ العلمِ ، يَسْتَحِبّونَ للإمام أن يسكتَ بعدَما يَفتَتِحُ الصلاَةَ وبعدَ الفراغ من القراءةِ.
وبه يقولُ أحمدُ وإسحاقُ وأصحابُنا
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة" أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وفيه بيان سكوته صلى الله عليه وسلم بين التكبير والقراءة وقوله في هذا السكوت اللهم باعد بيني وبين خطاياي إلخ.
قوله: "حديث سمرة حديث حسن" قال الشوكاني قد صحح الترمذي حديث الحسن عن سمرة في مواضع من سننه منها حديث: نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وحديث جار الدار أحق بدار الجار وحديث: لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار ، وحديث صلاة الوسطى صلاة العصر فكان هذا الحديث على مقتضى تصرفه جديراً بالتصحيح وقد قال الدارقطني رواه الحديث كلهم ثقات انتهى(2/81)
باب: ما جاء في وضع اليمين على الشمال في الصلاة
...
187ـ باب ما جاء في وضْعِ اليمين عَلَى الشمالِ
252ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا أبو الأحْوَصِ عن سِماكِ بن حربٍ عن قَبِيصَةَ بن هُلْبٍ عن أبيهِ قال: " كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يؤمّنَا فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِه ".
ـــــــ
"باب ما جاء في وضْعِ اليمين عَلَى الشمالِ"
قوله: "عن قبيصة بن هلب" بضم الهاء وسكون اللام بعدها موحدة الطائي الكوفي(2/81)
قال وفي الباب عن وائلِ بن حُجْرٍ ، وغُطَيْفِ بن الحارث ، وابن عباس ، وابن مسعودٍ ، وسهلِ بن سهل.
قال أبو عيسى: حديثُ هُلْبٍ حديثٌ حسَنٌ.
والعملُ على هذا عند أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
مقبول من الثالثة. قاله الحافظ في التقريب . وفي الخلاصة وثقه العجلي "عن أبيه هلب الطائي" صحابي نزل الكوفة وقيل اسمه يزيد وهلب لقب "فيأخذ شماله بيمينه" أي ويضعهما على صدره ففي رواية أحمد ورأيته يضع هذه على صدره ، وصف يحيى اليمني على اليسرى فوق المفصل وستأتي هذه الرواية بتمامها.
قوله: "وفي الباب عن وائل بن حجر وغطيف بن الحارث وابن عباس وابن مسعود وسهل بن سهل كذا وقع في النسخة الأحمدية سهل بن سهل،" ووقع في غيرها من النسخ سهل بن سعد وهو الصحيح والأول غلط. أما حديث وائل بن حجر فأخرجه مسلم في صحيحه عنه "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة ثم كبر التحف ثم وضع يده اليمنى على اليسرى فلما أراد أن يركع" الحديث ورواه ابن خزيمة بلفظ "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" وأما حديث غطيف وهو بضم الغين مصغراً فأخرجه الحافظ ابن عبد البر في التمهيد والاستذكار بلفظ "قال مهما رأيت شيئاً نسيته فإن لم أنس أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً يده اليمنى على اليسرى في الصلاة" كذا في اعلام الموقعين. وأما حديث ابن عباس وابن مسعود فلينظر من أخرجه. وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه البخاري في صحيحه بلفظ قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة.
قوله: "حديث هلب حديث حسن" وأخرجه ابن ماجه.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة" وقال المالكية بإرسال اليدين في الصلاة. قال الحافظ بن القيم في الأعلام بعد ذكر أحاديث وضع اليدين في الصلاة(2/82)
والتابعينَ وَمَن بعدهم: يروْنَ أنْ يَضع الرّجُلُ يمينَهُ على شِماله في الصلاةِ . ورَأى بعضُهُم أن يَضَعَهُمَا فوق السّرّةِ ، ورَأى بعضُهُم أن يضعهما تحتَ السّرّة.
ـــــــ
ما لفظه: فهذه الآثار قد وردت برواية القاسم عن مالك قال: تركه أحب إليّ ولا أعلم شيئاً قد ردت به سواه انتهى. والعجب من المالكية أنهم كيف آثروا رواية القاسم عن مالك مع أنه ليس في إرسال اليدين حديث صحيح وتركوا أحاديث وضع اليدين في الصلاة وقد أخرج مالك حديث سهل بن سعد المذكور وقد عقد له باباً بلفظ: وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة ، فذكر أولا أثر عبد الكريم بن أبي المخارق أنه قال: من كلام النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة ، يضع اليمنى على اليسرى وتعجيل الفطر والاستيناس بالسحور. ثم ذكر حديث سهل بن سعد المذكور "ورأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة ورأى بعضهم أن يضع تحت السرة" قد أجمل الترمذي الكلام في هذا المقام ، فلنا أن نفصله.
فاعلم أن مذهب الإمام أبي حنيفة: أن الرجل يضع اليدين في الصلاة تحت السرة والمرأة تضعهما على الصدر، ولم يرو عنه ولا عن أصحابه شيء خلاف ذلك وأما الإمام مالك فعنه ثلاث روايات: إحداها وهي المشهورة عنه أنه يرسل يديه كما نقله صاحب الهداية والسرخسي في محيطه وغيرهما عن مالك. وقد ذكر العلامة أبو محمد عبد الله الشاسي المالكي في كتابة المسمى بعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، والزرقاني في شرح الموطأ أن إرسال اليد رواية ابن القاسم عن مالك وزاد الزرقاني أن هذا هو الذي صار إليه أكثر أصحابه. الثانية: أن يضع يديه تحت الصدر فوق السرة كذا ذكره العيني في شرح الهداية عن مالك ، وفي عقد الجواهر أن هذه رواية مطرف والماجشون عن مالك. الثالثة أنه تخير بين الموضع والإرسال وذكر في عقد الجواهر وشرح الموطأ أنه قول أصحاب مالك المدنيين.
وأما الإمام الشافعي فعنه أيضاً ثلاث روايات: إحداها أنه يضعهما تحت الصدر فوق السرة وهي التي ذكرها الشافعي في الأم وهي المختارة المشهورة عند أصحابه المذكروة في أكثر متونهم وشروحهم. الثانية وضعهما على الصدر وهي الرواية التي نقلها صاحب الهداية من الشافعي وقال العيني إنها المذكورة في الحاوي من كتبهم. الثالثة وضعهما تحت السرة. وقد ذكر هذه الرواية في شرح المنهاج بلفظ: قيل وقال في المواهب اللدنية إنها رواية عن بعض أصحاب الشافعي.(2/83)
وكلّ ذلكَ واسِعٌ عندهم.
ـــــــ
وأما الإمام أحمد رحمه الله فعنه أيضاً ثلاث روايات: إحداها: وضعهما تحت السرة والثانية: وضعهما تحت الصدر ، والثالثة: التخيير بينهما وأشهر الروايات عنه الرواية الأولى وعليه جماهير الحنابلة هذا كله مأخوذ من فوز الكرام للشيخ محمد قائم السندي ودراهم الصرة لمحمد هاشم السندي.
وكل ذلك واسع عندهم أن الاختلاف بينهم في الوضع فوق السرة وتحت السرة إنما هو في الاختيار والأفضلية.
واعلم أن الأحاديث والآثار قد وردت مختلفة في هذا الباب ولأجل ذكل وقع الاختلاف بين الأئمة رحمهم الله تعالى وها أنا أذكر متمسكاتهم في ثلاثة فصول مع بيان ومالها وما عليها.
الفصل الأول: في بيان من ذهب إلى وضع اليدين تحت السرة وقد تمسك هؤلاء على مذهبهم هذا بأحاديث.
الأول حديث وائل بن حجر رضي الله عنه روى ابن أبي شيبة في مصنفه ، قال حدثنا وكيع عن موسى بن عمير عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع يمينه على شماله تحت السرة . قال الحافظ القاسم بن قطلوبغا في تخريج أحاديث الاختيار شرح المختار: هذا سند جيد. وقال الشيخ أبو الطيب المدني في شرح الترمذي: هذا حديث قوي من حيث السند. وقال الشيخ عابد السندي في طوالع الأنوار: رجاله ثقات.
قلت إسناد هذا الحديث وإن كان جيداً لكن في ثبوت لفظ "تحت السرة" في هذا الحديث نظراً قوياً. قال الشيخ محمد حياة السندي في رسالته فتح الغفور: في زيادة تحت السرة نظر بل هي غلط منشؤه السهو فإني راجعت نسخة صحيحة من المصنف فرأيت فيها هذا الحديث بهذا السند وبهذه الألفاظ إلا أنه ليس فيها "تحت السرة" وذكر فيها بعد هذا الحديث أثر النخعي ولفظه قريب من لفظ هذا الحديث أو في آخره في الصلاة تحت السرة ، فلعل بصر الكاتب زاغ من محل إلى محل آخر فأدرج لفظ الموقوف في المرفوع. انتهى كلام الشيخ محمد حياة السندي.
وقال صاحب الرسالة المسماة بالدرة في إظهار غش نقد الصرة: وأما ما استدل به من حديث وائل الذي رواه ابن أبي شيبة فهذا حديث فيه كلام كثير. قال: وروى هذا الحديث ابن أبي شيبة وروى بعده أثر النخعي ولفظهما قريب. وفي آخر الأثر لفظ "تحت السرة" واختلف نسخه ففي بعضها ذكر الحديث من غير تعيين محل الوضع مع وجود الأثر(2/84)
ـــــــ
المذكور ، وفي البعض وقع الحديث المرفوع بزيادة لفظ تحت السرة بدون أثر النخعي فيحمل أن هذه الزيادة منشؤها ترك الكاتب سهوا نحو سطر في الوسط وأدراج لفظ الأثر في المرفوع ، كما يحتمل سقوط لفظ "تحت السرة" في النسخة المتقدمة ، لكن اختلاف النسختين على هذا الوجه يؤذن بإدخال الأثر في المرفوع. انتهى كلام صاحب الدرة.
وقال الشيخ محمد فاخر المحدث الإله آبادي في منظومته المسماة بنور السنة:
وأنكه ازجمع حلقة أعلام
...
ابن قطلوابغاست قاسم نام
از كتاب مصنف آرد نقل
...
نكند هيج بأور آنرا عقل
دركتا بيكه من دران ديدم
...
غير مقصود أو عيان ديدم
حاصله أن ما نقله القاسم ابن قطعوبغا عن المصنف لا اعتماد عليه ولا عبرة به ، فإن الكتاب الذي رأيته أنا وجدت فيه خلاف مقصوده.
قلت: ما قاله هؤلاء الأعلام يؤيده أن هذا الحديث رواه أحمد في مسنده بعين سند ابن أبي شيبة، وليست فيه هذه الزيادة ففي مسند أحمد: حدثنا وكيع حدثنا موسى بن عمير العنبري عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً يمينه على شماله في الصلاة" انتهى. ورواه الدارقطني أيضاً بعين سند ابن أبي شيبة وليس فيه أيضاً هذه الزيادة قال في سننه: حدثنا الحسين بن إسمعيل وعثمان بن جعفر بن محمد الأحول قالا نا يوسف بن موسى نا وكيع نا موسى بن عمير العنبري عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً يمينه على شماله في الصلاة" انتهى.
ويؤيده أيضاً أن ابن التركماني شيخ الحافظ الزيلعي ذكر في الجوهر النقي لتأييد مذهبه حديثين ضعيفين حيث قال: قال ابن حزم: وروينا عن أبي هريرة قال: وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة ، وعن أنس قال: ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة تحت السرة. انتهى. ونقل قبل هذين الحديثين أثر أبي مجلز عن مصنف ابن أبي شيبة حيث قال: قال ابن أبي شيبة في مصنفه: ثنا يزيد بن هارون نا الحجاج بن حسان سمعت أبا مجلز أو سألته قلت: كيف أضع؟ قال: يضع باطن كف يمينه على ظاهر كف شماله ويجعلهما أسفل من السرة. انتهى. ولم ينقل ابن التركماني عن مصنف ابن أبي شيبة غير هذا(2/85)
ـــــــ
الأثر فالظاهر أنه لم يكن في حديث وائل الذي أخرجه ابن أبي شيبة زيادة تحت السرة ، فإنه لو كان هذا الحديث فيه مع هذه الزيادة لنقله ابن التركماني ، إذ بعيد كل البعد أن يذكر ابن التركماني لتأييد مذهبه حديثين ضعيفين ، وينقل عن مصنف ابن أبي شيبة أثر أبي مجلز التابعي ، ولا ينقل عنه حديث وائل المرفوع مع وجوده فيه بهذه الزيادة ومع صحة إسناده.
ويؤيده أيضاً ما قال الشيخ محمد حياة السندي في رسالته فتح الغفور من أن غير واحد من أهل الحديث روى هذا الحديث ولم يذكر تحت السرة ، بل ما رأيت ولا سمعت أحداً من أهل العلم ذكر هذا الحديث بهذه الزيادة إلا القاسم.
هذا ابن عبد البر حافظ دهره قال في التمهيد: وقال الثوري أبو حنيفة: أسفل السرة. وروى ذلك عن علي وإبراهيم النخعي ولا يثبت ذلك عنهم ، فلو كان هذا الحديث الصحيح بهذه اللفظة في مصنف ابن أبي شيبة لذكره مع أنه قد أكثر في هذا الباب وغيره الرواية عن ابن أبي شيبة.
وهذا ابن حجر حافظ عصره يقول في فتحه: وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل أنه وضعهما على صدره، وللبزار عند صدره ، وعند أحمد في حديث هلب نحوه. ويقول في تخريج الهداية وإسناد أثر علي ضعيف ، ويعارضه حديث وائل بن حجر قال "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" : وأشار إلى ذلك في تخريج أحاديث الرافعي ، فلو كانت هذه الزيادة موجودة في المصنف لذكرها، وكتبه مملوءة من أحاديثه وآثاره. وقد اختصره كما قال السيوطي في شرح ألفيته ، والظاهر أن الزيلعي الذي شمر ذيله بجمع أدلة المذهب لم يظفر بها وإلا لذكرها وهو من أوسع الناس اطلاعاً.
وهذا السيوطي الذي هو حافظ وقته يقول في وظائف اليوم والليلة: وكان يضع يده اليمنى على اليسرى ثم يشدهما على صدره ، وقد ذكر في جامعه الكبير في مسند وائل نحو تسعة أحاديث عن المصنف ، ولفظ بعضها: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يمينه على شماله في الصلاة" وهذا اللفظ هو الذي ذكره صاحب نقد الصرة إلا أنه زاد لفظ "تحت السرة" فلو كانت هذه الزيادة موجودة في المصنف لذكرها السيوطي.
وهذا العيني الذي يجمع بين الغث والسمين في تصانيفه يقول في شرحه(2/86)
ـــــــ
على البخاري: احتج الشافعي بحديث وائل بن حجر ، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ، قال "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره. ويستدل علماؤنا الحنيفة بدلائل غير وثيقة، فلو كانت هذه الزيادة موجودة في المصنف لذكرها ، وقد ملأ تصانيفه بالنقل عنه.
وهذا ابن أمير الحاج الذي بلغ شيخه ابن الهمام في التحقيق وسعة الاطلاع يقول في شرح المنية: إن الثابت من السنة وضع اليمين على الشمال ، ولم يثبت يوجب تعيين المحل الذي يكون الوضع فيه من البدن إلا حديث وائل المذكور ، وهكذا قال صاحب البحر الرائق فلو كان الحديث في المصنف بهذه الزيادة، لذكره ابن أمير الحاج مع أن شرحه محشو من النقل عنه ، فهذه أمور قادحة في صحة هذه الزيادة في هذه الحديث. انتهى كلام الشيخ محمد حياة السندي.
قلت: فحديث وائل بن حجر المذكور وإن كان إسناده جيداً لكن في ثبوت زيادة "تحت السرة" فيه نظر قوياً كما عرفت ، فكيف يصح الاستدلال بهذا الحديث على وضع اليدين تحت السرة. . ؟
والحديث الثاني: حديث علي رضي الله عنه. روى أبو داود وأحمد وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن أبي جحيفة أن علياً قال: السنة وضع الكف على الكف تحت السرة.
قلت: في إسناد هذا الحديث عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي ، وعليه مدار هذا الحديث ، وهو ضعيف لا يصلح للاحتجاج قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر هذا الحديث: قال ابن القطان: عبد الرحمن بن إسحاق هو ابن الحرب أبو شيبة الواسطي قال فيه ابن حنبل وأبو حاتم: منكر الحديث ، وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: فيه نظر. وقال البيهقي في المعرفة: لا يثبت إسناده. تفرد به عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو متروك. وقال النووي في الخلاصة وشرح مسلم: هو حديث متفق على تضعيفه فإن عبد الرحمن بن إسحاق ضعيف بالاتفاق. انتهى ما في نصب الراية. وقال الشيخ بن الهمام في التحرير إذا قال البخاري للرجل فيه نظر فحديثه لا يحتج به ولا يستشهد به ولا يصلح للاعتبار انتهى.
فإذا عرفت هذا كله ظهر لك أن حديث على هذا لا يصلح للاحتجاج ولا للاستشهاد(2/87)
ـــــــ
ولا للاعتبار. ثم حديث علي هذا يخالف لتفسيره قوله تعالى {وَانْحَرْ} أنه وضع يده على وسط ساعده اليسرى ثم وضعهما على صدره في الصلاة. رواه البيهقي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه. كذا في الدر المنثور. قال الفاضل ملا الهداد في حاشية الهداية: إذا كان حديث وضع اليدين تحت السرة ضعيفاً ومعارضاً بأثر علي بأنه فسر قوله تعالى {وَانْحَرْ} بوضع اليمين على الشمال على الصدر يجب أن يعمل بحديث وائل الذي ذكره النووي. ثم حديث علي هذا منسوخ على طريق الحنفية ، قال صاحب الدرة في إظهار غش نقد الصرة وهو حنفي المذهب: روى أبو داود عن جرير الضبي أنه قال: رأيت عليا يمسك شماله بيمينه على الرسخ فوق السرة وأصل علمائنا إذا خالف الصحابي في مرويه فهو يدل على نسخه ، وهذا الفعل وإن لم يكن أقوى من القول فلا أقل أن يكون مثله انتهى.
قلت: إسناد أثر على هذا الذي رواه أبو داود عن جرير الضبي صحيح كما ستعرف.
والحديث الثالث حديث أبي هريرة رواه أبو داود في سننه عن أبي وائل قال قال أبو هريرة: أخذ الأكف على الأكف في الصلاة تحت السرة.
قلت: في إسناد حديث أبي هريرة أيضاً عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي ، فهذا الحديث أيضاً لا يصلح للاحتجاج ولا للاستشهاد ولا للاعتبار كما عرفت آنفاً.
والحديث الرابع حديث أنس ذكره ابن حزم في المحلى تعليقاً بلفظ ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة تحت السرة.
قلت: لم أقف على سند هذا الحديث ، والعلماء الحنفية يذكرونه في كتبهم ويحتجون به ولكنهم لا يذكرون إسناده ، فما لم يعلم إسناده لا يصلح للاحتجاج ولا للاستشهاد ولا للاعتبار.
قال صاحب الدرة: وأما حديث أنس "من أخلاق النبوة وضع اليمين والشمال تحت السرة الذي قال فيه العيني إنه رواه ابن حزم ، فسنده غير معلوم لينظر فيه هل رجاله مقبولون أم لا ، وقد روى هذا الحديث غير واحد من المحدثين من غير زيادة تحت السرة" والزيادة إنما تقبل من الثقة المعلوم. انتهى كلام صاحب الدرة وقال الشيخ هاشم السندي في رسالته دراهم الصرة: ومنها ما ذكره الزاهدي في شرح القدوري وابن(2/88)
ـــــــ
أمير الحاج وابن نجيم في البحر الرائق: أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من سنن المرسلين تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمين على الشمال تحت السرة في الصلاة" قال: لم أقف على سند هذا الحديث غير أن الزاهدي زاد أنه رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن قال ابن أمير الحاج وابن نجيم: إن المخرجين لم يعرفوا فيه موقوفاً ومرفوعاً لفظ "تحت السرة" انتهى كلام هاشم السندي. فهذه الأحاديث هي التي استدل بها على وضع اليدين تحت السرة في الصلاة وقد عرفت أنه لا يصلح واحد منها للاستدلال.
"الفصل الثاني" في ذكر ما تمسك به من ذهب إلى وضع اليدين فوق السرة. لم أقف على حديث مرفوع يدل على هذا المطلوب نعم أثر علي رضي الله عنه يدل على هذا روى أبو داود في سننه عن جرير الضبي قال رأيت علياً يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة. قلت إسناده صحيح أو حسن لكنه فعل علي رضي الله عنه ليس بمرفوع ثم الظاهر أن المراد من قوله فوق السرة على مكان مرتفع من السرة أي على الصدر أو عند الصدر ، كما جاء في حديث وائل بن حجر. وفي حديث هلب الطائي ومرسل طاؤس وستأتي هذه الأحاديث الثلاثة ويؤيده تفسيره رضي الله عنه قوله تعالى {وَانْحَرْ} بوضع اليدين على الصدر في الصلاة كما تقدم.
الفصل الثالث في ذكر متمسكات من ذهب إلى وضع اليدين على الصدر . أحتج هؤلاء بأحاديث: منها حديث وائل بن حجر قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" أخرجه ابن خزيمة وهذا حديث صحيح صححه ابن خزيمة كما صرح به ابن سيد الناس في شرح الترمذي ، وقد اعترف الشيخ محمد قائم قال فيها: الذي أعتقده أن هذا الحديث على شرط ابن خزيمة، وهو المتبادر من صنيع الحافظ في الإتحاف ، والظاهر من قول ابن سيد الناس بعد ذكر حديث وائل في شرح جامع الترمذي وصححه ابن خزيمة انتهى. وقال ابن أمير الحاج الذي بلغ شيخه ابن همام في التحقيق وسعة الإطلاع في شرح المنية: إن الثابت من السنة وضع اليمين على الشمال ، ولم يثبت حديث يوجب تعيين المحل الذي يكون الوضع فيه من البدن إلا حديث وائل المذكور. وهكذا قال صاحب البحر الرائق ، كذا في فتح الغفور للشيخ حياة السندي وقال الشوكاني في النيل: أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وصححه انتهى.(2/89)
ـــــــ
وقال الحافظ في فتح الباري: ولم يذكر أي سهل بن سعد محلهما من الجسد ، وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل أنه وضعهما على صدره ، والبزار عنه صدره وعند أحمد في حديث هلب الطائي نحوه في زيادات المسند من حديث علي أنه وضعهما تحت السرة ، وإسناده ضعيف انتهى. فالظاهر من كلام الحافظ هذا ، أن حديث وائل عنده صحيح أو حسن ، لأنه ذكر ههنا لغرض تعيين محل وضع اليدين ثلاثة أحاديث: حديث وائل ، وحديث هلب ، وحديث علي ، وضعف حديث علي ، وقال إسناده ضعيف ، وسكت عن حديث وائل هلب ، فلو كانا هما أيضاً ضعيفين عنده لبين ضعفهما ، ولأنه قال في أوائل مقدمة الفتح ما لفظه: فإذا تحررت هذا الفصول وتقررت هذه الأصول أفتتحت شرح الكتاب ، فأسوق الباب وحديثه أولا ثم أذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية ، ثم أستخرج ثانياً ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية ، من تتمات وزيادات ، وكشف غامض ، وتصريح مدلس بسماع ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك ، منتزعاً كل ذلك من أمهات المسانيد والجامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد ، بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك انتهى كلام الحافظ. فقوله: بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك ، يدل على أن حديث وائل وكذا حديث هلب الطائي عنده صحيح أو حسن فتفكر . وأيضاً قد صرح الحافظ في الدراية بعد ذكر حديث وائل أخرجه ابن خزيمة وهو في مسلم دون قوله على صدره ، انتهى ، فالظاهر من كلامه هذا أن حديث ابن خزيمة هذا هو الذي في صحيح مسلم في وضع اليمنى على اليسرى سنداً ومتنا ، بدون ذكر المحل. فالحاصل أن حديث وائل بن حجر صحيح قابل للاحتجاج والاستدلال به على وضع اليدين على الصدر في الصلاة تام صحيح.
ومنها حديث هلب الطائي رواه الإمام أحمد في مسنده قال حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان ، ثنا سِمَاك عن قبيصة بن هلب ، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه وعن يساره ورأيته يضع هذه على صدره ، ووصف يحيى اليمنى على اليسرى فوق المفصل" ورواة هذا الحديث كلهم ثقات ، وإسناده متصل، أما يحيى بن سعيد فهو أبو سعيد القطان البصري الحافظ الحجة أحد أئمة الجرح والتعديل. قال الحافظ في التقريب: ثقة متقن حافظ إمام قدوة ، وأما سفيان فهو الثوري ، قال في التقريب ، ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة ، وربما كان دلس إنتهى. قلت: قد صرح(2/90)
ـــــــ
ههنا بالتحديث فانتفت تهمة التدليس. وأما سِمَاك فهو ابن حرب أوس بن خالد الذهلي البكري الكوفي أبو المغيرة صدوق ، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وكان قد تغير بآخره ، فكان ربما يلقن. كذا في التقريب. وقال الذهبي قال أحمد سِمَاك مضطرب ، وضعفه شيبة. وقال ابن عمار: كان يغلط وقال العجلي: ربما وصل الشيء وكان الثوري يضعفه ، وقال روايته مضطربة وليس من المثبتين. وقال صالح: يضعف. وقال ابن خداش فيه لين ووثقه ابن معين وأبو حاتم. انتهى. وكون السِمَاك مضطرب الحديث لا يقدح في حديثه المذكور، لأنه رواه عن قبيصة وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة ، وكذا تغيره في آخره لا يقدح أيضاً ، لأن الحديث المذكور رواه عنه سفيان وهو ممن سمع قديماً من سِمَاك. قال في تهذيب الكمال. قال يعقوب: وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة وهو في غير عكرمة صالح وليس من المثبتين ومن سمع قديماً من سِمَاك مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه مستقيم. انتهى. وأما قبيصة فهو أيضاً ثقة كما عرفت فيما تقدم وأما أبوه فهو صحابي. فحديث هلب الطائي هذا حسن ، وقد أعترف صاحب آثار السنن بأن إسناده حسن ، فالاستدلال به على وضع اليدين على الصدر في الصلاة صحيح.
ومنها: حديث طاوس رواه أبو داود في المراسيل: قال حدثنا أبو توبة حدثنا الهيثم يعني ابن حميد ، عن ثور عن سليمان بن موسى ، عن طاوس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة" وهذا الحديث قد وجد في بعض نسخ أبي داود. قال الحافظ المزي في الأطرف في حرف الطاء من كتاب المراسيل: الحديث أخرجه أبو داود في كتاب المراسيل وكذا قال البيهقي في المعرفة فحديث طاوس هذا مرسل ، لأن طاوساً تابعي وإسناده حسن والحديث المرسل حجة عند الإمام أبي حنيفة ومالك وأحمد مطلقاً ، وعند الشافعي إذا إعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى مسنداً كان أو مرسلاً. وقد اعتضد هذا المرسل بحديث وائل وبحديث هلب الطائي المذكورين ، فالاستدلال به على وضع اليدين على الصدر في الصلاة صحيح.
تنبيه: قال بعض الحنفية: حديث وائل فيه اضطراب ، فأخرج ابن خزيمة في هذا الحديث "على صدره" والبزار "عند صدره" وابن أبي شيبة تحت السرة.
قلت: قد تقرر في أصول الحديث أن مجرد الاختلاف لا يوجب الاضطراب ، بل(2/91)
ـــــــ
من شرطه استواء وجوه الاختلاف فمتى رجح أحد الأقوال قدم "ولا يعل الصحيح" بالمرجوح ومع الاستواء يتعذر الجمع على قواعد المحدثين. وههنا وجوه الاختلاف ليست بمستوية ، فإن في ثبوت لفظ "تحت السرة" في رواية ابن أبي شيبة نظرا قوياً كما تقدم بيانه. وأما رواية ابن خزيمة بلفظ على صدره ورواية البزار بلفظ: عد صدره ، فالأولى راجحة فتقدم على الأخرى. ووجه الرجحان أن لها شاهداً حسناً من حديث هلب وأيضاً يشهدها مرسل طاوس بخلاف الأخرى فليس لها شاهد ، ولو سلم أنهما متساويتان فالجمع بينهما ليس بمتعذر. قال الشيخ أبو المحاسن محمد الملقب بالقائم السندي في رسالته فوز الكرام: قال العلامة الشيخ أبو الحسن في رسالة جواز التقليد والعمل بالحديث بعد ذكر حديث وائل وهلب ومرسل طاوس وتفسير علي وأنس وابن عباس: هذه الأحاديث قد أخذ بها الشافعي، لكن قال بوضع اليد على الصدر بحيث تكون آخر اليد تحت الصدر جمعاً بين هذه الأحاديث وبين ما في بعض الروايات "عند الصدر" إنتهى . وقد جمع بعض أهل العلم بينهما بالحمل على صلاتين مختلفتين ونظير هذا الاختلاف اختلاف رفع اليدين حذو المنكبين وحذو الأذنين في الصلاة فقول ، بعض الحنفية بالاضطراب في حديث وائل مما لا يصغي إليه.
تنبيه آخر: قال النيموي في آثار السنن بعد ذكر حديث هلب الطائي: رواه أحمد وإسناده حسن لكن قوله "على صدره" غير محفوظ ، يعني أنه شاذ ، وبين وجه كونه شاذاً غير محفوظ أن يحيى بن سعيد القطان خالف في زيادة قوله على صدره غير واحد من أصحاب سفيان وسِمَاك فإنهم لم يذكروا هذه الزيادات. وعرف الشاذ بأنه ما رواه الثقة مخالفاً في نوع من الصفات لما رواه جماعة من الثقات ، أو من هو أوثق منه وأحفظ وأعم من أن تكون المخالفة منافية للرواية الأخرى أم لا. وأدعى أن هذا هو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وابن معين والبخاري وغيرهم من المحدثين المتقدمين واستدل عليه بأن هذا يفهم من صنيعهم في زيادة "ثم لا يعود" في حديث ابن مسعود و "فصاعداً" في حديث عبادة "وإذا قرأ فانصتوا" في حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري ، وكذلك في كثير من المواضع حيث جعلوا الزيادات شاذة بزعمهم أن راويها قد تفرد بها مع أن هذه الزيادات غير منافية لأصل الحديث.
قلت: تعريف الشاذ هذا الذي ذكره صاحب آثار السنن ليس بصحيح وليس هو(2/92)
ـــــــ
مذهب المحدثين المتقدمين البتة، وجه عدم صحته، أنه يلزم منه أن يكون كل زيادة زادها ثقة ولم يزدها جماعة من الثقات ، أو لم يزدها من هو أوثق منه وليست منافية لأصل الحديث ، شاذة غير مقبولة. واللازم باطل فالملزوم مثله . والدليل على بطلان اللازم أن كل زيادة هذا شأنها قبلها المحدثون المتقدمون كالشافعي والبخاري وغيرهما وكذا قبلها المتأخرون ، إلا أن ظهرت لهم قرينة تدل على أنها وهم من بعض الرواة فحينئذ لا يقبلونها.
ألا ترى أن الإمام البخاري رحمه الله قد أدخل في صحيحه من الأحاديث ما تفرد به بعض الرواة بزيادة فيه غير منافية ولم يزدها جماعة من الثقات ، أو من هو أوثق منه وأحفظ ، وقد طعن بعض المحدثين بإدخال مثل هذه الأحاديث في صحيحه ظناً منهم أن مثل هذه الزيادات ليست بصحيحة . وقد أجاب المحققون عن هذا الطعن: بأن مثل هذه الزيادات صحيحة. قال الحافظ في مقدمة ص الفتح: فالأحاديث التي انتقدت عليهما أي البخاري ومسلم ، تنقسم أقساماً ثم بين الحافظ والقسم الأول والثاني ثم قال القسم الثالث منها ما تفرد به بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عدداً أو أضبط ممن لم يذكرها. فهذا لا يؤثر التعليل به إلا إن كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع. أما إذا كانت الزيادة لا منافاة فيها بحيث يكون كالحديث المستقل. فلا، اللهم إلا إن وضح بالدلائل القوية أن تلك الزيادة مدرجة في المتن من كلام بعض رواته ، فما كان من هذا القسم فهو مؤثر كما في الحديث الرابع والثلاثين انتهى. وأيضاً قال الحافظ فيها: قال الدارقطني أخرج البخاري حديث أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل يقاتل المشركين فقال هو من أهل النار الحديث. وفيه أن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار. ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم" قال وقد رواه ابن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن وسعيد الجمحي عن أبي حازم، فلم يقولوا في آخره "وإنما الأعمال بالخواتيم" قال الحافظ زادها أبو غسان وهو ثقة حافظ فاعتمده البخاري انتهى. وقد صرح بقبول مثل هذه الزيادة ابن التركماني في الجوهر النقي والحافظ الزيلعي في نصب الراية في مواضع عديدة، بل أشار النيموي نفسه في كتابه آثار السنن أيضاً بقبول مثل هذه الزيادة في موضع منه ص حيث قال فزيادته ، أي زيادة الحميدي تقبل جداً لأنها ليست منافية لمن هو أوثق منه انتهى. فلما ظهر بطلان اللازم ثبت بطلان(2/93)
ـــــــ
الملزوم أعني بطلان تعريف الشاذ الذي ذكره صاحب آثار السنن من عند نفسه.
فإن قلت فما تعريف الشاذ الذي عليه المحققون.
قلت ، قال الحافظ بن حجر في مقدمة فتح الباري ص: وأما المخالفة وينشأ عنها الشذوذ والنكارة ، فإذا روى الضابط أو الصدوق شيئاً فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً بخلاف ما روى ، بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ انتهى. فهذا التعريف هو الذي عليه المحققون ، وهو المعتمد قال الحافظ في شرح النخبة ص فإن خولف بأرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات ، فالراجح يقال له المحفوظ ومقابله وهو المرجوح يقال له الشاذ . "إلى أن قال" وعرف من هذا التقرير أن الشاذ ما رواه المقبول مخالفاً لمن هو أولى منه وهو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح انتهى. والمراد من المخالفة في قوله مخالفاً: المنافاة دون مطلق المخالفة ، يدل عليه قول الحافظ في هذا الكتاب ص وزيادة روايهما ، أي الصحيح والحسن مقبولة ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة لأن الزيادة إما أن تكون مقبولة لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها. فهذه تقبل مطلقاً ، لأنها في حكم الحديث المستقل الذي يتفرد به الثقة ولا يرويه عن شيخه غيره ، وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى ، فهذه هي التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها ، فيقبل الراجح ويرد المرجوح انتهى.
وقال الشيخ ابن حجر الهيثمي في رسالته المتعلقة بالبسملة: الشاذ اصطلاحا فيه اختلاف كثير ، والذي عليه الشافعي والمحققون أن ما خالف فيه راو ثقة بزيادة أو نقص في سند أو متن ثقات ، لا يمكن الجمع بينهما مع اتحاد المروي عنه انتهى. وقال الشيخ عمر البيقوني في منظومته في مصطلح أهل الحديث وما يخالف ثقة فيه الملا. فالشاذ والمقلوب قسمان تلا.
قال الشارح الشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني وما يخالف ثقة فيه بزيادة أو نقص في السند أو المتن الملا أي الجماعة الثقات فيما رووه وتعذر الجمع بينهما فالشاذ كما قاله الشافعي وجماعة من أهل الحجاز وهو المعتمد كما صرح به في شرح النخبة لأن العدد أولى بالحفظ من الواحد ، وعليه فما خالف الثقة فيه الواحد الأحفظ شاذ . وفي كلام ابن الصلاح وغيره ما يفهمه انتهى . وقال العلامة المجد صاحب القاموس في منظومته في أصول(2/94)
واسم هُلْبٍ: يَزيدُ بنُ قُنَافَةَ "الطّائِيّ"
ـــــــ
الحديث ثم الذي ينعت بالشذوذ. كل حديث مفرد مجذوذ. خالف فيه الناس ما رواه لأن روى ما لا يروى سواه.
قال الشيخ سليمان بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل في شرحه المسمى بالمنهل الروى: الشاذ لغة المنفرد، يقال شذيشذ شذوذا إذا انفرد وأما إصطلاحا. ففيه اختلاف كثير ، ومقتضى ما ذكره الناظم الإشارة إلى قولين الأول: ما ذهب إليه الشافعي وجماعة من أهل الحجاز. أنه ما رواه الثقة مخالفاً لرواية الناس أي الثقات، وإن كانوا دونه في الحفظ والإتقان وذلك لأن العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد. وألحق ابن الصلاح بالثقات الثقة الأحفظ، وسواء كانت المخالفة بزيادة أو نقص في سند أو متن إن كانت لا يمكن الجمع بين الطرفين فيهما مع إتحاد المروي انتهى.
فإن قلت: فلم لم يقبل المحدثون المتقدمون كالشافعي وأحمد بن حنبل وابن معين والبخاري وأبي داود وأبي حاتم وأبي علي النيسابوري والحاكم والدارقطني وغيرهم زيادة "ثم لا يعود" في حديث ابن مسعود، وزيادة "فصاعداً" في حديث عبادة وزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" في حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري، ولم يجعلوها غير محفوظة مع أن هذه الزيادات غير منافية لأصل الحديث.
قلت: إنما لم يقبلوا هذه الزيادات لأنه قد وضح لهم دلائل على أنها وهم من بعض الرواة كما بينوه وأوضحوه ، لا لمجرد أن راويها قد تفرد بها كما زعم النيموي . وإنما أطنبنا الكلام في هذا المقام لئلا يغتر القاصرون بما حقق النيموي في زعمه الفاسد.
قوله: "واسم هلب يزيد بن قنافة الطائي" بضم القاف وخفة النون وبفاء كذا في المغنى لصاحب مجمع البحار(2/95)
188ـ باب ما جاء في التكبير عند الركوع والسجودِ
253ـ حدثنا قُتَيْبَةُ: حدثنا أبو الأحْوَصِ ، عن أبي إسحاقَ ، عن عَبْدِ الرحْمَنِ بنِ الأسْوَدِ عن عَلْقَمَةَ ، و الأسْوَدِ عن عَبْدِ الله بن مسعودٍ قال: "كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكَبّرُ في كلّ خَفْضٍ ورَفعٍ وقيامٍ وقعودٍ ، وأبو بكرٍ وعمرُ".
ـــــــ
"باب ما جاء في التكبير عند الركوع والسجودِ"
قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض ورفع الخ" هذا دليل على مشروعية التكبير في كل خفض ورفع وقيام وقعود إلا في الرفع من الركوع ، فإنه يقول سمع الله لمن حمده قال النووي: وهذا مجمع عليه اليوم ومن الأعصار المتقدمة ، وقد كان فيه خلاف ، زمن أبي هريرة وكان بعضهم لا يرى التكبير إلا للإحرام انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وابن عمر وأبي مالك الأشعري وأبي موسى وعمران بن حصين ووائل بن حجر وابن عباس" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان نحو حديث الباب وأما حديث أنس فأخرجه النسائي. وأما حديث بن عمر فأخرجه أحمد والنسائي وأما حديث أبي مالك الأشعري فأخرجه ابن أبي شيبة وأما حديث أبي موسى فأخرجه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود . وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه الشيخان . وأما حديث وائل بن حجر فأخرجه أبو داود وأحمد والنسائي وابن ماجه . وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد والبخاري عن عكرمة عنه قال: قلت لابن عباس: صليت الظهر بالبطحاء خلف شيخ أحمق فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة يكبر إذا سجد وإذا رفع رأسه . فقال ابن عباس تلك صلاة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
قوله: "حديث عبد الله بن مسعود حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي.
قوله: "والعمل عليه عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم ومن بعدهم من التابعين وعليه عامة الفقهاء والعلماء" قال البغوي: اتفقت الأمه على هذه التكبيرات قال ابن سيد الناس: وقال آخرون لا يشرع إلا تكبير الإحرام فقط يحكى(2/96)
وفي الباب عن أبي هريرةَ وأنسٍ وابنِ عمرَ وأبي مالكٍ الأشْعَرِيّ وأبي موسى وعِمْرانَ بن حُصَيْنٍ ووائِلِ بن حُجْرٍ وابن عباسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ عَبْدِ الله بن مسعودٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ عليه عندَ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعمرُ وعُثْمانُ وعليّ وغيرُهم ، ومَن بَعدهم من التّابعينَ ، وعليه عامّةُ الفقهاءِ والعلماء.
ـــــــ
ذلك عن عمر بن الخطاب وقتادة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري ونقله ابن المنذر عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر ونقله ابن بطال عن جماعة أيضاً منهم معاوية بن أبي سفيان وابن سيرين قال أبو عمر قال قوم من أهل العلم إن التكبير ليس بسنة إلا في الجماعة وأما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر ، وقال أحمد: أبح إلي أن يكبر إذا صلى وحده في الفرض وأما التطوع فلا. وروى عن ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده.
واستدل من قال بعدم مشروعية التكبير كذلك بما أخرجه أحمد وأبو داود عن ابن أبزي عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يتم التكبير وفي لفظ لأحمد إذا خفض ورفع وفي رواية فكان لا يكبر إذا خفض يعني بين السجدتين وفي إسناده الحسن بن عمران، قال أبو زرعة: شيخ ووثقه ابن حبان وحكى عن أبي داود الطيالسي أنه قال هذا عندي باطل ، وهذا لا يقوى على معارضة أحاديث الباب لكثرتها وصحتها وكونها مثبتة ومشتملة على الزيادة. والأحاديث الواردة في هذا الباب أقل أحوالها الدلالة على سنية التكبير في كل خفض ورفع وقد روى أحمد عن عمران بن حصين أن أول من ترك التكبير عثمان حين كبر وضعف صوته وهذا يحتمل أنه ترك الجهر . وروى الطبري عن أبي هريرة أن أول من ترك التكبير معاوية. وروى أبو عبيد أن أول من تكره زياد وهذه الروايات غير متنافية لأن زياداً تركه بترك معاوية وكان معاوية تركه بترك عثمان وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء وحكى الطحاوي أن بني أمية كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع، وما هذه بأول سنة تركوها . وقد اختلف القائلون بمشروعية التكبير فذهب جمهورهم إلى أنه مندوب فيما عدا تكبيرة الإحرام وقال أحمد في رواية عنه وبعض أهل الظاهر: أنه يجب كله. واحتج الجمهور على الندبية بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه المسيء صلاته. ولو كان واجباً لعلمه وأيضاً حديث ابن أبزي(2/97)
254ـ حدثنا عبدُ الله بنُ مُنيرٍ ، قال: سمعتُ عليّ بنَ الْحَسنِ ، قال: أخبرنا عبدُ الله بنُ المباركِ ، عن ابن جُرَيْجٍ عن الزّهْرِيّ ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة: "أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُكبّرُ وهو يَهْوِي".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
يدل على عدم الوجوب لأن تركه صلى الله عليه وسلم له في بعض الحالات لبيان الجواز والإشعار بعدم الوجوب.
واحتج القائلون بالوجوب بأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه المسيء صلاته أخرج أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء بلفظ: ثم يقول الله أكبر ثم يركع حتى تطمئن مفاصله ثم يقول سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائماً ، ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يقول الله أكبر ويرعف رأسه حتى يستوي قاعداً ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يرفع رأسه فيكبر. فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته.
قلت: وفي هذا الحديث رد على من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه المسيء صلاته التكبير.
قوله: "حدثنا عبد الله بن منير" بضم الميم وكسر النون آخره راء ، أبو عبد الرحمن المروزي الزاهد ثقة عابد روى عنه البخاري وقال لم أر مثله وروى عنه أيضاً الترمذي والنسائي ووثقه "قال سمعت علي بن الحسن" ابن شقيق أبا عبد الرحمن المروزي ثقة ثبت روى عن إبراهيم بن طهمان وابن المبارك وغيرهما وعنه البخاري وأحمد وابن معين وأبو بكر بن أبي شيبة مات سنة خمس عشرة ومائتين.
قوله: "كان يكبر وهو يهوى" أي يهبط إلى السجود الأول من هوى يهوى هويا كضرب يضرب إذا سقط وأما هوى بمعنى مال وأحب فهو من باب سمع يسمع والحديث رواه البخاي مطولاً وفيه" "ثم يقول الله أكبر حين يهوى ساجداً" قال الحافظ في الفتح فيه أن التكبير ذكر الهوى فيبتدي به من حين يشرع في الهوى بعد الاعتدال إلى حين يتمكن ساجداً انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري من طريق الزهري عن أبي(2/98)
وهو قولُ أهل العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَن بَعدهم ، "من التابعين" قالوا يكبّرُ الرجلُ وهو يَهْوِي ، للركوعِ والسجودِ
ـــــــ
بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضان وغيره فيكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع الحديث. وفي آخره ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده إني لأقربكم شبهاً بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت هذه الصلاة حتى فارق الدنيا(2/99)
189ـ باب رفع اليدينِ عندَ الركوع
255ـ حدثنا قُتَيْبَةُ و ابنُ أبي عمرَ قالا: حدثنا ، سفيانُ بنُ عَيَيْنَةَ عن الزّهْرِيّ عن سالمٍ عن أبيه قال: "رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إذا افتَتَح الصلاةَ يرفعُ يديْهِ حتى يُحاذِيَ مَنكِبَيْهِ ، وإذا ركعَ ، وإذا رَفع رأسه من الركوعِ" وزاد ابنُ أبي عمرَ في حديثهِ "وكان لا يرفعُ بين السجدتيْن".
ـــــــ
" باب رفع اليدينِ عندَ الركوع"
قوله: "وابن أبي عمر" هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة. ويقال إن أبا عمر كنية يحيى صدوق صنف المسند وكان لازم ابن عيينة ، لكن قال أبو حاتم كانت فيه غفلة "عن سالم" وهو ابن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قوله: "إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع" هذا دليل صريح على أن رفع اليدين في هذه المواضع سنة وهو الحق والصواب ونقل البخاري في صحيحه عقب حديث ابن عمر هذا عن شيخه علي بن المديني قال: حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه لحديث ابن عمر هذا وهذا في رواية ابن عساكر وقد ذكره البخاري في جزء رفع اليدين وزاد وكان أعلم أهل زمانه انتهى "وكان لا يرفع بين السجدتين" وفي رواية للبخاري ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود .(2/99)
256- قال أبو عيسى: حدثنا الفضلُ بنُ الصّبّاح البَغْدَادِيّ ، حدثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ ، حدثنا الزهريّ بهذا الإسنادِ نحوَ حديثِ ابنِ أبِي عمرَ.
قال وفي الباب عن عمرَ ، وعلي ، ووائلِ بن حُجْرٍ ، ومالكِ بنِ الحُوَيْرِثِ ، وأنسٍ ، وأبي هريرةَ ، وأبي حُمَيْدٍ ، وأبي أُسَيْدٍ ، وسَهْلِ بن سعدٍ ، ومحمدِ بن مسلمةَ ، وأبي قَتَادَةَ ، وأبي موسى "الأشعريّ" ، وجابرِ ، وعُمَيْرٍ اللّيْثيّ.
ـــــــ
قوله: "حدثنا الفضل بن الصباح البغدادي" السمسار روى عن ابن عيينة وهشيم وعنه الترمذي وابن ماجه: وثقه ابن معين ، قال الحافظ أصله من نها وند ثقة عابد.
قوله: "وفي الباب عن عمر وعلي ووائل بن حجر ومالك بن الحويرث وأنس وأبي هريرة وأبي حميد وأبي أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة وأبي قتادة وأبي موسى الأشعري وجابر وعمير الليثي" أما حديث عمر فأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وصححه الترمذي وصححه أيضاً أحمد بن حنبل فيما حكاه الخلال ، وأما حديث وائل بن حجر فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، وأما حديث مالك بن الحويرث فأخرجه البخاري ومسلم ، وأما حديث أنس فأخرجه ابن ماجه . وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود وابن ماجه . وأما حديث أبي حميد فأخرجه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي وأخرجه البخاري مختصراً . وأما حديث أبي أسيد وسهل بن سعد فأخرجه أبو داود . وأما حديث محمد بن مسلمة فأخرجه ابن ماجه وأما حديث أبي قتادة فأخرجه أبو داود . وأما حديث أبي موسى الأشعري ، فأخرجه الدارقطني . وأما حديث جابر فأخرجه ابن ماجه . وأما حديث عمير الليثي فأخرجه ابن ماجه . قال السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة: إن حديث الرفع متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه الشيخان عن ابن عمر ومالك بن الحويرث ومسلم عن وائل ابن حجر ، والأربعة عن علي ، وأبو داود عن سهل بن سعد ، وابن الزبير وابن عباس ومحمد بن مسلمة وأبي أسيد وأبي قتادة وأبي هريرة وابن ماجه عن أنس وجابر وعمير الليثي ، وأحمد عن الحكم بن عمير والبيهقي عن أبي بكر والبراء . والدارقطني عن عمر وأبي موسى . والطبراني عن عقبة بن عامر ومعاذ(2/100)
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عمرَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وبهذا يقولُ بعضُ أهل العلم من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، منهم ابنُ عمرَ ، وجابرُ بن عبد الله ، وأبو هريرةَ، وأنسٌ ، وابنُ عباسٍ ، وعبدُ الله بنُ الزبيرِ ، وغيرُهم . ومِن التابعينَ: الحسنُ البَصْريّ ، وعطاءٌ ، وطاوسٌ ، ومجاهدٌ ، ونافعٌ ،
ـــــــ
بن جبل انتهى ، قال الحافظ في الفتح وذكر البخاري أن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه ، رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة . وذكر الحاكم وأبو القاسم بن مندة ممن رواه العشرة المبشرة وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلاً انتهى . وقال الشوكاني في النيل: وسرد البيهقي في السنن وفي الخلافيات أسماء من روى الرفع نحواً من ثلاثين صحابياً . وقال: سمعت الحاكم يقول: اتفق على رواية هذه السنة العشرة المشهود لهم بالجنة فمن بعدهم من أكابر الصحابة قال البيهقي: وهو كما قال. قال الحاكم والبيهقي أيضاً: ولا يعلم سنة اتفق على روايتها العشرة فمن بعدهم من أكابر الصحابة على تفرقهم في الأقطار الشاسعة غير هذه السنة انتهى.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وبهذا يقول بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن عمر وجابر بن عبد الله إلخ" قال الحافظ في الفتح: قال محمد بن نصر المروزي . أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة . وقد صنف البخاري في هذه المسألة جزءاً مفرداً ، وحكى فيه عن الحسن وحميد بن هلال أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك قال البخاري: ولم يستثن الحسن أحداً انتهى.
قلت: قال البخاري في جزء رفع اليدين: قال الحسن وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم لم يستثن أحداً منهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دون أحد ولم يثبت عند أهل العلم عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يرفع يديه ، ويروى أيضاً عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما وصفنا وكذلك روايته عن عدة من علماء أهل مكة وأهل الحجاز وأهل العراق والشام(2/101)
وسالمُ بنُ عبد الله ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ ، وغيرُهم.
وبه يقولُ عبدُ الله بنُ المباركِ ، والشافعيّ ، وأحمدُ وإسحاقُ.
وقال عبدُ الله بنُ المباركِ: قد ثبتَ حديثُ مَن يَرْفَعُ يديه ، وذكر حديث الزهريّ عن سالمٍ عن أبيه ، ولم يَثْبُتْ حديثُ ابنِ مسعودٍ: "أن النبي صلى الله
ـــــــ
والبصرة واليمن وعدة من أهل خراسان منهم سعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز ، والنعمان بن أبي عياش ، والحسن ، وابن سيرين وطاؤس ، ومكحول ، وعبد الله بن دينار ، ونافع مولى عبد الله بن عمر والحسن بن مسلم ، وقيس بن سعد ، وعدة كثيرة وكذلك يروى عن أم الدرداء أنها كانت ترفع يديها . وقد كان عبد الله بن المبارك يرفع يديه ، وكذلك عامة أصحاب ابن المبارك ، منهم علي بن الحسين ، وعبد بن عمر ، ويحيى بن يحيى ، ومحدثي أهل بخاري ، منهم عيسى بن موسى وكعب بن سعيد ، ومحمد بن سلام ، وعبد الله بن محمد ، والمسندي ، وعدة ممن لا يحصى ، لا اختلاف بين ما وصفنا من أهل العلم وكان عبد الله بن الزبير وعلي بن عبد الله ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم يثبتون عامة هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرونها حقاً . وهؤلاء أهل العلم من أهل زمانهم انتهى كلام البخاري . "وبه يقول عبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق" وبه يقول مالك ، وهو آخر قوليه وأصحهما ، قال الحافظ في الفتح: قال ابن عبد البر: لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم ، والذي نأخذ به الرفع حديث ابن عمر وهو الذي رواه ابن وهب وغيره من مالك ولم يحك الترمذي عن مالك غيره ، ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم أنه آخر قولي مالك وأصحهما ، ولم أر للمالكية دليلاً على تركه ولا متمسكاً إلا بقول ابن القاسم انتهى.
لطيفة: قال الزيلعي في نصب الراية نقلاً عن جزء رفع اليدين للبخاري: وكان ابن المبارك يرفع يديه وهو أعلم أهل زمانه فما يعرف ، ولقد قال ابن المبارك: صليت يوماً إلى جنب النعمان فرفعت يدي فقال لي أنا خشيت أن تطير قال فقلت له إذ لم أطر في(2/102)
عليه وسلم لم يرفعْ إلا في أولِ مرّةٍ" حدثنا بذلك أحمدُ بن عَبْدَةَ الاَمُلِيّ ، حدثنا وهبُ بنُ زَمْعَةَ ، عن سُفيَانَ بنِ عبدِ الملكِ ، عن عبد الله بن المباركِ.
حدثنا هناد حدثنا وكيع،عن سفيان ، عن عاصم بن كليب ، عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة قال: قال عبد الله بن مسعود: "ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى ، فلم يرفع يديه إلا في أول مرة".
قال وفي الباب عن البراء بن عازب.
ـــــــ
الأولى لم أطر في الثانية. قال وكيع: رحم الله ابن المبارك كان حاضر الجواب انتهى.
قوله: "حدثنا بذلك" أي بحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا أول مرة "عن سفيان بن عبد الملك" المروزي من كبار أصحاب ابن المبارك ، ثقة ، مات قبل المائتين قاله الحافظ.
قوله: "حدثنا وكيع" هو ابن الجراح "عن سفيان" هو الثوري "عن عاصم بن كليب" قال الحافظ في مقدمة فتح الباري: عاصم بن كليب الجرمي وثقه النسائي وقال ابن المديني: لا يحتج بما ينفرد به.
قوله: "فصلى فلم يرفع يديه إلا في أول مرة" استدل به من قال بنسخ مشروعية رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه ، لكن هذا حديث ضعيف كما ستعرف وليس في هذا الباب حديث صحيح.
قوله: "وفي الباب عن البراء بن عازب " قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لم يعد" . أخرجه أبو داود والدارقطني ، وهو من رواية يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه. واتفق الحفاظ على أن قوله: "ثم لم يعد" مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد ، ورواه عنه بدونها شعبة والثوري وخالد الطحان وزهير وغيرهم من الحفاظ . وقال الحميدي: إما روى هذه الزيادة يزيد ، ويزيد يزيد . وقال عثمان الدارمي عن أحمد بن حنبل: لا يصح ،(2/103)
قال أبو عيسى: حديث ابن مسعود حديث حسن.
ـــــــ
وكذا ضعفه البخاري وأحمد ويحيى الدارمي والحميدي وغير واحد وقال يحيى بن محمد بن يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: هذا حديث واهي ، قد كان يزيد يحدث به برهة من دهره لا يقول فيه "ثم لا يعود" فما لقنوه تلقن فكان يذكرها أذا قال الحافظ في التلخيص ص ، وذكر فيه أن الدارقطني روى من طريق علي بن عاصم عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن يزيد بن أبي زياد هذا الحديث . قال علي بن عاصم: فقدمت الكوفة فلقيت يزيد بن أبي زياد فحدثني به وليس فيه "ثم لا يعود" فقلت له إن ابن أبي ليلى حدثني عنك وفيه "ثم لا يعود" قال لا أحفظ هذا انتهى.
قوله: "حديث ابن مسعود حديث حسن" وأخرجه أحمد وأبو داود ، وقد حسن الترمذي كما ذكره الترمذي وقال أبو داود في سننه ص بعد رواية هذا الحديث: هذا حديث مختصر من حديث طويل ، وليس هو بصحيح على هذا اللفظ انتهى . وقال البخاري في جزء رفع اليدين بعد ذكر هذا الحديث: قال أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم قال نظرت في حديث عبد الله بن إدريس عن عاصم بن كليب ، ليس فيه "ثم لم يعد" فهذا أصح لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم ، لأن الرجل يحدث بشيء ثم يرجع إلى الكتاب فيكون كما في الكتاب . حدثنا الحسن بن الربيع ، ثنا ابن إدريس عن عاصم بن كليب ، عن عبد الرحمن بن الأسود، ثنا علقمة أن عبد الله قال "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فقام فكبر ورفع يديه ، ثم ركع وطبق يديه فجعلهما بين ركبتيه" فبلغ ذلك سعداً فقال: صدق أخي ألا بل قد نفعل ذلك في أول سلام ثم أمرنا بهذا . قال البخاري: وهذا هو المحفوظ عند أهل النظر من حديث عبد الله بن مسعود انتهى كلام البخاري.
وقال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد: وأما حديث ابن مسعود "ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة " فإن أبا داود قال: هذا حديث مختصر من حديث طويل وليس بصحيح على هذا المعنى . وقال البزار فيه أيضاً إنه لا يثبت ولا يحتج بمثله . وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه المذكور في هذا(2/104)
ـــــــ
الباب فحديث مدني صحيح لا مطعن لأحد فيه . وقد روى نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أزيد من أثنى عشرة صحابياً انتهى كلام ابن عبد البر.
وقال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: قال ابن أبي حاتم في كتاب العلل: سألت أبي عن حديث رواه سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فكبر فرفع يديه ثم لم يعد" فقال أبي هذا خطأ يقال وهم فيه الثوري ، فقد رواه جماعة عن عاصم وقالوا كلهم "إن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح فرفع يديه ثم ركع فطبق وجعلهما بين ركبتيه" ولم يقل أحد ما روى الثوري إنتهى ما في نصب الراية.
وقال الحافظ في التلخيص: وهذا الحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حزم وقال ابن المبارك: لم يثبت عندي. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه هذا حديث خطأ. وقال أحمد بن حنبل وشيخه يحيى بن آدم: هو ضعيف. نقله البخاري عنهما وتابعهما على ذلك. وقال أبو أبو داود: ليس هو بصحيح. وقال الدارقطني: لم يثبت ، وقال ابن حبان في الصلاة هذا أحسن خبر روى لأهل الكوفة في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه ، وهو في الحقيقة أضعف شيء يعول عليه ، لأن له عللا تبطله انتهى.
فثبت بهذا كله أن حديث ابن مسعود ليس بصحيح ولا يحسن ، بل هو ضعيف لا يقوم بمثله حجة. وأما تحسين الترمذي فلا اعتماد عليه لما فيه من التساهل. وأما تصحيح ابن حزم فالظاهر أنه من جهة السند ومن المعلوم أن صحة السند لا تستلزم صحة المتن على أن تصحيح ابن حزم لا اعتماد عليه أيضاً في جنب تضعيف هؤلاء الحفاظ النقاد فالاستدلال بهذا الحديث الضعيف على ترك رفع اليدين ونسخه في غير الإفتتاح ليس بصحيح ولو تنزلنا وسلمنا أن حديث ابن مسعود هذا صحيح وأحسن فالظاهر أن ابن مسعود قد نسيه كما قد نسي أموراً كثيرة . قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية نقلاً عن صاحب التنقيح ليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يستغرب ، قد نسي ابن مسعود من القرآن ما لم يختلف المسلمون فيه بعد، وهي المعوذتان ، ونسي ما اتففق العلماء على نسخه كالتطبيق ونسي كيف قيام الاثنين خلف الإمام . ونسي ما لم يختلف العلماء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم النحر في وقتها ونسي كيفية جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض(2/105)
وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ، وهو قةل سفيان وأهل الكوفة.
ـــــــ
في السجود ونسي كيف كان يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة كيف لا يجوز مثله في رفع اليدين انتهى.
ولو سلم أن ابن مسعود لم ينس في ذلك فأحاديث رفع اليدين في المواضع الثلاثة مقدمة على حديث ابن مسعود ، لأنها قد جاءت عن عدد كثير من الصحابة رضي الله عنهم حتى قال السيوطي: إن حديث الرفع متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم كما عرفت فما قبل وقال العيني في شرح البخاري: إن من جملة أسباب الترجيح كثرة عدد الرواة وشهرة المروي ، حتى إذا كان أحد الخبرين يرويه واحد والأخر يرويه أثنان فالذي يرويه اثنان أولى بالعمل به انتهى . وقال الحافظ الحازمي في كتاب الاعتبار: ومما يرجح به أحد الحديثين على الاَخر كثرة العدد في أحد الجانبين ، وهي مؤثرة في باب الرواية لأنها تقرب مما يوجب العلم وهو التواتر انتهى.
ثم حديث ابن مسعود لا يدل على نسخ رفع اليدين في غير الافتتاح ، بل إنما يدل على عدم وجوبه ، قال ابن حزم في الكلام على حديث البراء بن عازب المذكور فيما تقدم ما لفظه: إن صح دل على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز ، فلا تعارض بينه وبين حديث ابن عمر وغيره انتهى.
قلت: هذا كله على تقدير التنزل ، وإلا فحديث ابن مسعود ضعيف لا يقوم به حجة كما عرفت.
قوله: "وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" روى ذلك عن عمر وعلي وابن عمر ويأتي الكلام على آثار هؤلاء رضي الله عنهم "وهو قول سفيان وأهل الكوفة" وهو قول أبي حنيفة ، قال الحنفية: إنه منسوخ بحديث ابن مسعود والبراء وقد عرفنا أنهما ضعيفان لا يقوم بهما الحجة ، استدلوا أيضاً بأثر عمر رضي الله عنه رواه الطحاوي وأبو بكر بن أبي شيبة عن الأسود قال: رأيت عمر بن الخطاب يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود:(2/106)
ـــــــ
قلت: فيه إن هذا الأثر بهذا اللفظ غير محفوظ ، قال الحافظ ابن حجر في الدراية: قال البيهقي عن الحاكم: رواه ابن الحسن بن عياش عن عبد الملك بن أبجر الزبير بن عدي بلفظ "كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود" وقد رواه الثوري عن الزبير بن عدي بلفظ "كان يرفع يديه في التكبير" ليس فيه "ثم لا يعود" وقد رواه الثوري وهو المحفوظ انتهى .
ثم هذا الأثر يعارضه رواية طاؤس عن ابن عمر: أن عمر كان يرفع يديه في الركوع وعند الرفع منه. قال الزيلعي في نصب الراية: واعترضه الحاكم بأن هذه الرواية شاذة لا يقوم بها الحجة فلا تعارض بها الأخبار الصحيحة عن طاؤس بن كيسان عن ابن عمر أن عمر كان يرفع يديه في الركوع وعند الرفع منه انتهى وقال الحافظ في الدراية ويعارضه رواية طاؤس عن ابن عمر كان يرفع يديه في التكبير وعند الرفع منه انتهى:
قلت: ولرواية طاؤس شاهد ضعيف قال الزيلعي في نصب الراية: أخرج البيهقي عن رشدين بن سعد عن محمد بن سهم عن سعيد بن المسيب قال رأيت عمر بن الخطاب يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا رفع رأسه من الركوع انتهى .
تنبيه: زعم النيموي أن زيادة قوله: إن عمر بعد قوله عن ابن عمر في نصب الراية هي سهو غير صحيحة ، قال والصواب هكذا عن طاؤس بن كيسان عن ابن عمر كان يرفع يديه الخ. وقد قال الحافظ ابن حجر في الدراية وهو مختصر من نصب الراية ، ويعارضه رواية طاؤس عن ابن عمر كان يرفع يديه في الركوع وعند الرفع منه وقال ابن الهمام في فتح القدير وعارضه الحاكم برواية طاؤس بن كيسان عن ابن كيسان عن ابن عمر رضي الله عنه كان يرفع يديه الخ قال . فثبت بهذه الأقوال أن الحاكم عارضه به رواية ابن عمر لا برواية عمر بن الخطاب انتهى كلام النيموي .
قلت: دعوى السهو في زيادة قوله: "إن عمر" باطلة جداً كيف وقد حكم الحاكم بشذوذ أثر عمر من طريق الأسود قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود برواية طاؤس عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه كان يرفع يديه في الركوع وعند الرفع منه فهذا دليل واضح على أن قوله إن عمر في رواية طاؤس صحيح ثابت ، فإنه لا يحكم بشذوذ أثر صحابي بأثر صحابي آخر . وأما قول الحافظ في الدراية ويعارض رواية طاؤس عن ابن عمر ، كان يرفع يديه الخ فحذف الحافظ لفظ "أن عمر"(2/107)
ـــــــ
اختصاراً. والضمير في كان يرجع إلى عمر وكذلك فعل ابن الهمام في فتح القدير ومثل هذا الحذف شائع اختصارً واعتماد على الرواية السابقة.
واستدلوا أيضاً بأثر علي رضي الله عنه رواه الطحاوي وابن أبي شيبة والبيهقي عن عاصم بن كليب عن أبيه أن علياً يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة ثم لا يرفع بعد. قال الزيلعي: هو أثر صحيح. وقال العيني في عمدة القاريء: إسناد عاصم بن كليب صحيح على شرط مسلم.
قلت: أثر على هذا ليس بصحيح وإن قال الزيلعي هو أثر صحيح وقال العيني إسناده صحيح على شرط مسلم. قال الإمام البخاري في جزء رفع اليدين: قال عبد الرحمن بن مهدي: ذكرت للثوري حديث النهشلي عن عاصم بن كليب فأنكره انتهى. قلت: وانفرد بهذا الأثر عاصم بن كليب قال الذهبي في الميزان كان من العباد الأولياء لكنه مرجيء وثقه يحيى بن معين وغيره ، وقال ابن المديني لا يحتج بما انفرد به انتهى ولو سلم أن أثر على هذا صحيح فهو لا يدل على النسخ كما زعم الطحاوي وغيره. قال صاحب التعليق الممجد الحنفية: ذكر الطحاوي بعد روايته عن علي لم يكن علي ليرى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يترك إلا وقد ثبت عنده نسخه انتهى . وفيه نظر فقد يجوز أن يكون ترك علي وكذا ترك ابن مسعود وترك غيرهما من الصحابة إن ثبت عنهم لأنهم لم يروا الرفع سنة مؤكدة يلزم الأخذ بها ولا ينحصر ذلك في النسخ بل لا يجترء بنسخ أمر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد حسن الظن بالصحابي مع إمكان الجمع بين فعل الرسول وفعله انتهى كلام صاحب التعليق الممجد.
واستدلوا أيضاً بأثر ابن عمر رواه الطحاوي وأبو بكر ابن أبي شيبة والبيهقي في المعرفة عن مجاهد قال: صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة.
قلت: أثر ابن عمر هذا ضعيف من وجوه: الأول أن في سنده أبا بكر بن عياش وكان تغير حفظه بآخره ، والثاني أنه شاذ فإن مجاهداً خالف جميع أصحاب ابن عمر وهم ثقات حفاظ والثالث أن إمام هذا الشأن يحيى بن معين قال حديث أبي بكر عن حصين إنما هو توهم منه لا أصل له. قال الإمام البخاري في جزء رفع اليدين ويروى عن أبي بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد أنه لم ير ابن عمر رفع يديه إلا مرة في أول التكبير وروى عنه أهل العلم أنه لم يحفظ من ابن عمر إلا أن يكون سها ، ألا ترى أن ابن عمر كان يرمي(2/108)
ـــــــ
من لا يرفع يديه بالحصى فكيف يترك ابن عمر شيئاً يأمر به غيره وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعله. قال البخاري: قال يحيى بن معين: حديث أبي بكر عن حصين إنما هو توهم منه لا أصل له انتهى مختصراً.
وقال البيهقي في كتاب المعرفة: حديث أبي بكر بن عياش هذا أخبرناه أبو عبد الله الحافظ فذكره بسنده ثم أسند عن البخاري أنه قال: أبو بكر بن عياش أختلط بآخره ، وقد رواه الربيع والليث وطاؤس وسالم ونافع وأبو الزبير ومحارب بن دثار وغيرهم قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبر وإذا رفع وكان يرويه أبو بكر قديماً عن حصين عن ابراهيم عن ابن مسعود مرسلاً موقوفاً: أن ابن مسعود كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يرفعهما بعد. وهذا هو المحفوظ عن أبي بكر بن عياش ، والأول خطأ فاحش لمخالفته الثقات من أصحاب ابن عمر. قال الحاكم كان أبو بكر بن عياش من الحفاظ المتقين ثم اختلط حين ساء حفظه فروى ما خولف فيه ، فكيف يجوز دعوى نسخ حديث ابن عمر بمثل هذا الحديث الضعيف أو نقول إنه ترك للجواز إذا لا يقول بوجوبه ، ففعله يدل على أنه سنة وتركه على أنه غير واجب انتهى كذا في نصب الراية للزيلعي.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وأما الحنفية فعولوا على رواية مجاهد أنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك وأجيبوا بالطعن في إسناده لأن أبا بكر بن عياش رواية ساء حفظه بآخره وعلى تقدير صحته فقد أثبت ذلك سالم ونافع وغيرهما ، والعدد الكثير أولى من واحد ، لا سيما وهم مثبتون وهو ناف مع أن الجمع بين الروايتين ممكن وهو أنه لم يره واجباً ، ففعله تارة تركه أخرى انتهى كلام الحافظ.
وقال الفاضل اللكنوي في تعليقه على موطأ محمد المشهور في كتب أصول أصحابنا: إن مجاهداً قال صحبت ابن عمر عشر سنين فلم أره يرفع يديه إلا مرة وقالوا: قد روى ابن عمر حديث الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه. والصحابي الراوي إذا ترك مروياً ظاهراً في معناه غير محتمل للتأويل يسقط الاحتجاج بالمروي وقد روى الطحاوي من حديث أبي بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد أنه قال: صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة ثم قال فهذا ابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع ثم قد ترك الرفع بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخه وههنا أبحاث:(2/109)
ـــــــ
الأول: مطالبة إسناد ما نقلوه عن مجاهد من أنه صحب عشر سنين ولم ير ابن عمر فيها يرفع يديه إلا في التكبير الأول.
الثاني: المعارضة بخبر طاؤس وغيره من الثقات أنهم رأوا ابن عمر يرفع.
والثالث: إن في طريق الطحاوي أبو بكر بن عياش وهو متكلم فيه لا توازي روايته رواية غيره من الثقات. قال البيهقي في كتاب المعرفة بعد ما أخرج حديث مجاهد من طريق ابن عياش قال البخاري: أبو بكر بن عياش اختلط بآخره ، وقد رواه الربيع وليث وطاؤس وسالم ونافع وأبو الزبير ومحارب بن دثار وغيرهم ، قالوا رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبر وإذا رفع ثم ذكر كلام البيهقي إلى آخر ما نقلته فيما تقدم ثم قال: فإن قلت: آخذاً من شرح معاني الآثار أنه يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رآه طاؤس قبل أن تقوم الحجة بنسخه ثم لما ثبت بنسخه عنده تركه وفعل ما ذكره مجاهد. قلت: هذا مما لا يقوم به الحجة ، فإن لقائل أن يعارض ويقول: يجوز أن يكون فعل على أن احتمال النسخ من غير دليل فلا يسمع ، فإن قال قائل: الدليل هو خلاف الراوي مرويه قلنا لا يوجب ذلك النسخ كما مر.
والرابع: وهو أحسنها أنا سلمنا ثبوت الترك عن ابن عمر لكن يجوز أن يكون تركه لبيان الجواز أو لعدم رواية الرفع سنة لازمة ، فلا يقدح ذلك في ثبوت الرفع عنه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والخامس: أن ترك الراوي مرويه إنما يكون مسقطاً للاحتجاج عند الحنفيه إذا كان خلافه بيقين كما هو مصرح في كتبهم وههنا ليس كذلك ، لجواز أن يكون الرفع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله ابن عمر على العزيمة وترك أحياناً بياناً للرخصة ، فليس تركه خلافاً لروايته بيقين انتهى ما في التعليق الممجد.
تنبيه: قال صاحب العرف الشذي: ولنا ما في الطحاوي بسند قوي عن ابن أبي زياد عن أحمد بن يونس عن أبي بكر بن عياش قال: ما رأيت فقيها قط يرفع يديه في غير تكبير التحريمة انتهى.(2/110)
ـــــــ
قلت: لعل قول أبي بكر بن عياش هذا إنما هو ما ساء حفظه واختلط كيف وقد اعترف صاحب العرف الشذي بأنه قد ثبت الرفع تواتراً عملاً لا يمكن لأحد إنكاره . وقال الإمام محمد بن نصر: أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة كما عرفت.
وقال: ولنا حديث آخر مرفوع عن ابن عمر أنه عليه السلام لا يرفع يديه إلا في أول مرة في خلافيات البيهقي ، ونقله الزيلعي في التخريج وقال الحاكم إنه موضوع ولم أطلع على أول إسناده "إلى قوله" فلعل إسناده قوي انتهى.
قلت: حديث ابن عمر هذا باطل موضوع ، قال الزيلعي في نصب الراية بعد نقل هذا الحديث من خلافيات البيهقي ما لفظه: قال البيهقي: قال الحاكم هذا باطل موضوع وهو كما قال ، انتهى كلام الحافظ. فهدى الله سبحانه وتعالى هؤلاء المقلدين الذي يتركون حديث ابن عمر الصحيح المتفق عليه ويتمسكون بحديثه الذي حكم الحاكم عليه بأنه موضوع ولا سيما هذا المقلد الذي مع عدم اطلاعه على أول إسناد هذا الحديث ، ومع علمه بأن الحاكم حكم عليه بأنه موضوع يرجو أن إسناده قوي ويتمسك به.
وقال: ولنا حديث آخر مرسل عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، وعباد تابعي ، قال لم يرفع النبي صلى الله عليه وسلم إلا في أول مرة . ومر عليه الحافظ في الدراية وقال ولينظر في إسناده ، وإني رأيت السند وبدا لي في نصب الراية سهو الكاتب ، فإنه كتب محمد أبي يحيى وهو غير مشهور ، والحق أنه محمد بن أبي يحيى وهو ثقة: فصار السند صحيحاً انتهى.
قلت: لم يقل الحافظ في الدراية ولينظر في إسناده ، بل قال: وهذا مرسل. وفي إسناده أيضاً من ينظر فيه ، فتكلم الحافظ على هذا الحديث بوجهين: الأول أنه مرسل والمرسل على القول الراجح ليس بحجة ، والثاني أن في إسناده من ينظر فيه فكل من يدعي صحة إسناد هذا الحديث فعليه أن يثبت كون كل واحد من رجال سنده ثقة قابلاً للاحتجاج واتصاله ودونه خرط القتاد . وأما دعوى سهو الكاتب في محمد أبي يحيى فبعد تسليم صحتها لا تستلزم صحة سند هذا الحديث ، فإن فيه من لا يعرف حاله من كتب الرجال.(2/111)
ـــــــ
واستدلوا أيضاً بحديث جابر بن سمرة قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس ، أسكنوا في الصلاة" رواه مسلم.
والجواب: أنه لا دليل فيه على منع الرفع على الهيئة المخصوصة في المواضع المخصوصة وهو الركوع والرفع منه ، لأنه مختصر من حديث طويل . وبيان ذلك أن مسلماً رواه أيضاً من حديث جابر بن سمرة قال: "كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم قلنا السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله ، وأشار بيديه إلى الجانبين ، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم على ما تؤمنون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس ، إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله" وفي رواية "إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومي بيديه" وقال ابن حبان: ذكر الخبر المتقصي للقصة المختصرة المقتدمة ، بأن القوم إنما أمروا بالسكون في الصلاة عند الإشارة بالتسليم دون الرفع الثابت عند الركوع ثم رواه كنحو مسلم. قال البخاري: من احتج بحديث جابر بن سمرة منع الرفع عند الركوع فليس له خط من العلم هذا مشهور لا خلاف فيه أنه إنما كان في حال التشهد كذا في التلخيص الحبير.
وقال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر حديث جابر بن سمرة المختصر المذكور ملخصه: واعترضه البخاري في كتابه الذي وضعه في رفع اليدين فقال: وأما احتجاج بعض من لا يعلم بحديث تميم بن طرفة بن جابر بن سمرة ، فذكر حديثه المختصر وقال: وهذا إنما كان في التشهد لا في القيام ، ففسره رواية عبد الله بن القبطية ، قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: كما إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر حديثه الطويل المذكور ثم قال البخاري: ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الرفع في تكبيرات العيد أيضاً منهياً عنه لأنه لم يستثن رفعاً دون رفع بل اطلق انتهى.
قال الزيلعي: ولقائل أن يقول: إنهما حديثان لا يفسر أحدهما الاَخر كما جاء في لفظ الحديث الأول: اسكنوا في الصلاة . والذي يرفع يديه حال التسليم لا يقال له اسكن في الصلاة إنما يقال ذلك لمن رفع يديه في أثناء الصلاة هو حالة الركوع والسجود ونحو ذلك ، هذا هو الظاهر والراوي روى هذا في وقت كما شاهده وروى الاَخر في وقت آخر كما شاهده ، وليس في ذلك بعد انتهى.(2/112)
قلت: لم يجب الزيلعي عن قول البخاري: ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الرفع في تكبيرات العيد أيضاً منهياً عنه. فما هو جوابه عنه فهو جوابنا عن الرفع عند الركوع والرفع منه وأما قوله والذي يرفع يديه حال التسليم لا يقال له اسكن في الصلاة فهو ممنوع بل الذي يرفع يديه قبل الفراغ والانصراف من الصلاة وإن كان حال التسليم الأول والثاني ، فما لم يفرغ من التسليم الثاني هو في الصلاة ألا ترى أن عبد الله بن الزبير رأى رجلاً رافعاً يديه يدعو قبل أن يفرغ من صلاته فلما فرغ منها قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من صلاته رواه الطبراني ورجاله ثقات فتفكر.(2/113)
190ـ باب ما جاءَ في وضع اليدين على الركبَتَيْنِ في الركوع
257ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا أبو بكرِ بنُ عيّاشٍ حدثنا أبو حَصِينٍ عن أبي عبدِ الرحمن السّلَمِيّ قال: قال لنا عمرُ بنُ الخطّابِ "إنّ الرّكَبَ سُنّتْ لكم فَخُذُوا بالرّكَبِ".
ـــــــ
"باب ما جاء في وضع اليدين على الركبتين في الركوع"
قوله: "نا أبو حصين" بفتح الحاء وكسر الصاد المهملة اسمه عثمان بن عاصم الكوفي الأسدي أحد الأئمة الأثبات. قال الحافظ في التقريب: ثقة ثبت سني وربما دلس من الرابعة انتهى. وقال في الخلاصة: قال أبو شهاب الخياط: سمعت أبا حصين يقول: إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر ، مات سنة ثمان وعشرين ومائة "عن أبي عبد الرحمن السلمي" بفتح السين واللام كذا في المغنى ، اسمه عبد الله بن حبيب الكوفي مشهور بكنيته ثقة ثبت ولأبيه صحبة.
قوله: "إن الركب" جمع ركبة "سنت لكم" بصيغة المجهول والضمير يرجع إلى(2/113)
قال وفي الباب عن سعدٍ وأنسٍ وأبي حُمَيْدٍ وأبي أسَيْدٍ وسَهْلِ بنِ سَعدٍ ومحمدِ بن مَسْلَمَةَ وأبي مسعود.
قال أبو عيسى: حديثُ عمرَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ عَلَى هذا عند أهلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم والتابعينَ ومَن بَعدهم ، لا اختلافَ بينَهم في ذلك ، إلا ما رُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ وبعضِ أصحابِه: أنّهُم كانوا يُطَبّقُونَ.
ـــــــ
الركب أي سن أخذها لكم ففيه مجاز الحذف . وفي رواية النسائي: قال عمر: إنما السنة الأخذ بالركب "فخذوا بالركب" أي في الركوع . وروى البيهقي هذا الحديث بلفظ: كنا إذا ركعنا جعلنا أيدينا بين أفخاذنا ، فقال عمر إن من السنة الأخذ بالركب . قال الحافظ في فتح الباري بعد ذكر هذه الرواية: هذا حكمة حكم الرفع لأن الصحابي إذا قال: ألسنة كذا أو سن كذا ، كان الظاهر انصراف ذلك إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا سيما إذا قاله مثل عمر رضي الله عنه انتهى.
قوله: وفي الباب عن سعد وأنس وأبي حميد وأبي أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة وأبي مسعود "أما حديث سعد وهو ابن أبي وقاص فأخرجه الجماعة" . وأما حديث أنس وهو ابن مالك فأخرجه أبو يعلى والطبراني في الصغير كذا في شرح سراج أحمد السرهندي. وأما حديث أبي حميد فأخرجه الخمسة إلا النسائي عنه أنه قال وهو في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث ، وفيه في بيان هيئة الركوع: ووضع يديه على ركبتيه وأخرجه البخاري مختصراً وقد سمي من العشرة أبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة في رواية أحمد كما ذكره الحافظ في الفتح. وأما حديث أبي مسعود فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي.
قوله: "حديث عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي.
قوله: "إلا ما روى عن ابن مسعود وبعض أصحابهم أنهم كانوا يطبقون" رواه عنه مسلم(2/114)
والتطبيقُ منسوخٌ عند أهل العلم.
258ـ قال سعدُ بنُ أبي وقاصٍ "كُنّا نفعلُ ذلك فَنُهينا عنه وأُمِرنا أن نضعَ الأكُفّ على الرّكَب".
ـــــــ
وغيره من طرق ابراهيم عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله فذكر الحديث وفيه فوضعنا أيدينا على ركبنا فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه ، فلما صلى قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحمل هذا على أن ابن مسعود لم يبلغه النسخ.
قوله: "والتطبيق منسوخ عند أهل العلم" التطبيق هو إلصاق بين باطني الكفين وجعلهما بين الفخذين. ويدل على نسخ التطبيق حديث سعد بن أبي وقاص كما ذكره الترمذي بقوله: قال سعد بن أبي وقاص إلخ: وروى ابن خزيمة عن علقمة عن عبد الله قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أراد أن يركع طبق يديه بين ركبتيه فركع فبلغ ذلك سعداً فقال: صدق أخي ، كنا نفعل هذا ثم أمرنا بهذا يعني الإمساك بالركب. قال الحافظ: فهذا شاهد قوي لطريق مصعب بن سعد قال: وروى عبد الرزاق عن معمر ما يوافق قول سعد. أخرجه من وجه أخر عن علقمة والأسود ، قال: صلينا مع عبد الله فطبق ثم لقينا عمر فصلينا معه فطبقنا ، فلما انصرف قال: ذلك الشيء كنا نفعله ثم ترك انتهى.
وقال الحازمي في كتاب الإعتبار بعد رواية حديث التطبيق من طريقين ما لفظه: قد اختلف أهل العلم في هذا الباب ، ذهب نفر إلى العمل بهذا الحديث ، منهم عبد الله بن مسعود والأسود بن يزيد وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن الأسود ، وخالفهم في ذلك كافة أهل العلم من الصحابة والتابعين فيمن بعدهم ، ورأوا أن الحديث الذي رواه ابن مسعود كان محكماً في ابتداء الإسلام ثم نسخ ولم يبلغ ابن مسعود نسخه ، وعرف ذلك أهل المدينة فرووه وعملوا به ، ثم ذكر الحازمي بإسناده عن مصعب بن سعد قال: صليت إلى جنب أبي فلما ركعت جعلت يدي بين ركبتي فنحاهما ، فعدت فنحاهما ، وقال: إنما كنا نفعل هذا فنهينا عنه وأمرنا أن نضع الأيدي على الركب قال هذا حديث(2/115)
حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا أبو عَوَانَةَ عن أبي يَعْفُورٍ عن مُصْعَبِ بنِ سَعدٍ عن أبيه سعد بهذا.
ـــــــ
صحيح ثابت أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي الوليد عن شعبة ، وأخرجه مسلم من حديث أبي عوانة عن أبي يعفور ، وله طرق في كتب الأئمة ثم روى بإسناده عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبد الله قال: "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فرفع يديه ثم ركع فطبق ووضع يديه بين ركبتيه ، فبلغ ذلك سعداً فقال: صدق أخي كنا نفعل هذا ثم أمرنا بهذا ووضع يديه على ركبتيه" قال: ففي إنكار سعد حكم التطبيق بعد إقراره بثبوته دلالة على أنه عرف الأول والثاني وفيهم الناسخ والمنسوخ انتهى كلام الحازمي.
"قال سعد بن أبي وقاص: كنا نفعل ذلك إلخ" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما كما عرفت في كلام الحازمي.(2/116)
191ـ باب ما جاء أنّهُ يُجافِي يديْه عن جَنْبَيهِ في الركوع
259ـ حدثنا محمد بشار بُنْدَارٌ حدثنا أبو عامِرٍ العَقَدِيّ حدثنا فُلَيْحُ بنُ سليمانَ حدثنا عبّاسُ بنُ سَهْل بن سعد قال: "اجتمع أبو حُمَيْدٍ وأبو أُسَيْدٍ وسهلُ بنُ سعدٍ ومحمدُ
ـــــــ
"باب ما جاء أنّهُ يُجافِي يديْه عن جَنْبَيهِ في الركوع"
قوله: "حدثنا أبو عامر العقدي" بفتح العين المهملة والقاف اسمه عبد الملك بن عمر ثقة "حدثنا فليح" بضم الفاء مصغراً "بن سليمان" بن أبي المغيرة الخزاعي أو الأسلمي أو يحيى المدني ، ويقال فليح لقب واسمه عبد الملك صدوق كثير الخطأ من السابعة مات سنة ثمان وستين ومائة "حدثنا عباس بن سهل" بن سعد السعدي ثقة من الرابعة "قال اجتمع أبو حميد" بالتصغير "وأبو أسيد" بالتصغير أيضاً "وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة" كذا(2/116)
ابن مَسْلَمَةَ فذكروا صلاةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو حُمَيْدٍ: أنَا أعْلَمُكُمْ بصلاَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ركعَ فَوضَعَ يَدْيهِ عَلَى ركبتَيْهِ كأَنّهُ قَابضٌ عليهِما ، ووتّرَ يديْهِ فَنَحّاهُما عن جَنْبَيْهِ".
قال وفي الباب عن أنسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي حُميدٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. . وهو الذي اختارهُ أهلُ العلمِ: أن يُجَافِيَ الرجلُ يديْهِ عن جَنْبَيْهِ في الركوعِ والسجودِ.
ـــــــ
ذكر عباس بن سهل في روايته اجتماع أبي حميد مع هؤلاء الثلاثة: وقال محمد بن عمرو بن عطاء في روايته عن أبي حميد الساعدي: قال سمعته وهو في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدهم أبو قتادة بن ربعي يقول: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ ، وتأتي هذه الرواية في باب وصف الصلاة.
قوله: "ووتر يديه" من التوتير وهو جعل الوتر على القوس . قال في النهاية: أي جعلهما كالوتر من قولك: وترت القاموس ـ وأوترته شبه يد الراكع إذا مدّها قابضاً على ركبتيه بالقوس إذا أوترت انتهى.
"فنحاهما عن جنبيه" من نحى ينحى تنحية إذا أبعد يعني أبعد يديه عن جنبيه حتى كانت يده كالوتر وجنبه كالقوس.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه الأزرقي في كتاب مكة من طريق إسماعيل ابن رافع عن أنس كذا في شرح الترمذي لسراج أحمد السرهندي.
قوله: "وحديث أبي حميد حديث حسن صحيح" ، وأخرجه أبو داود بلفظ الترمذي.(2/117)
192ـ باب ما جاءَ في التّسبيحِ في الركوعِ والسجود
260ـ حدثنا عليّ بن حُجْرٍ أخبرنَا عيسى بنُ يونسَ عن ابنِ أبي ذئبٍ عن إسحاقَ بنِ يَزيدَ الهُذَليّ عن عَوْنِ بنِ عَبْدِ الله بن عُتْبَةَ عن ابنِ مسعودٍ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رَكعَ أحدُكُم فقَالَ في ركوعِه: سبحانَ رَبّيَ العظيم ثلاث مراتٍ فقد تمّ ركُوعُهُ ، وذلك أدناهُ . وإذا سجدَ فقالَ في سجودهِ: سبحانَ رَبّيَ الأعْلَى ثلاثَ مرّاتٍ ، فقد تمّ سجودُهُ ، وذلك أدناه ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في التّسبيحِ في الركوعِ والسجود"
قوله: "عن ابن أبي ذئب" هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب ثقة فقيه فاضل "عن إسحقا بن يزيد الهذلي" قال في التقريب مجهول "عن عون بن عبد الله بن عتبة" بن مسعود الهذلي الكوفي ثقة عابد من الرابعة.
قوله: "وذلك أدناه" أي أدنى تمام ركوعه ، قال ابن الملك: أي أدنى الكمال في العدد ، وأكمله سبع مرات ، فالأوسط خمس مرات ، كذا في المرقاة:
قال الماوردي: إن الكمال إحدى عشرة أو تسع ، وأوسطه خمس ، ولو سبح مرة مرة حصل التسبيح . انتهى.
وقيل: إن الكمال عشر تسبيحات ، ويدل عليه ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن سعيد بن جبير عن أنس قال: "ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى ، يعني عمر بن عبد العزيز ، قال فحذرنا في ركوعه عشر تسبيحات ، وفي سجوده عشر تسبيحات".
قال الشوكاني: فيه حجة لمن قال إن كمال التسبيح عشر تسبيحات ، والأصح أن(2/118)
قال وفي الباب عن حُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بنِ عَامرٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ مسعودٍ ليس إسنادُهُ بمتصلٍ ، عَوْنُ بنُ عبدِ الله بنُ عُتبَة لم يَلْقَ ابن مسعودٍ.
ـــــــ
المنفرد يزيد في التسبيح ما أراد وكلما زاد كان أولى والأحاديث الصحيحة في تطويله صلى الله عليه وسلم ناطقة بهذا.
وكذلك الإمام إذا كان المؤتمون لا يتأذون بالتطويل انتهى كلامه.
قلت: الأولى للمنفرد أن يقتصر في التسبيح على قدر ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلواته الطويلة منفرداً ، وأما الإمام فالأولى له بل المتعين له التخفيف في تمام.
وأما إذا كان المؤتمون لا يتأذون بالتطويل فهل يزيد الإمام في التسبيح ما أراد ويطول في الركوع والسجود ما شاء كما قال الشوكاني أو يخفف في هذه الصورة ، أيضاً ، فقال ابن عبد البر: ينبغي لكل إمام أن يخفف لأمره صلى الله عليه وسلم وإن علم قوة من خلفه فإنه لايدري ما يحدث عليهم من حادث وشغل وعارض وحاجة وحدث وغيره ، انتهى.
وقد تقدم الكلام في هذا في باب إذا أم أحدكم الناس فليخفف.
قوله: "وفي الباب عن حذيفة وعقبة بن عامر" أما حديث حذيفة فأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه وأخرجه الترمذي أيضاً في هذا الباب.
وأما حديث عقبة بن عامر فأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه ولفظه. قال: لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم" فلما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "اجعلوها في سجودكم".
قوله: "ليس إسناده بمتصل" ومع عدم اتصال السند فيه إسحاق بن يزيد الهذلي وهو مجهول كما عرفت.
وقال الشوكاني: قال ابن سيد الناس لا نعلمه وثق ولا عرف إلا برواية ابن أبي ذئب عنه خاصة ، فلم ترتفع عنه الجهالة العينية ولا الحالية. انتهى.(2/119)
والعَملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ: يَستَحبون ألاّ يَنْقُصَ الرجلُ في الركوعِ والسجودِ مِنْ ثلاثِ تسبيحاتٍ.
ورُوِيَ عن ابن المُبَارَكِ أنّه قال أستَحِبّ للإمامِ أن يُسّبحَ خَمسَ تَسبيحاتٍ لِكَيْ يُدرِكَ مَنْ خَلفَه ثَلاَث تَسْبيحاتٍ.
وهكذا قال إسحاقُ بنُ إبراهيم. "
ـــــــ
وحديث ابن مسعود هذا أخرجه أيضاً الشافعي وأبو داود وابن ماجه.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم يستحبون أن لا ينقص الرجل في الركوع والسجود من ثلاث تسبيحات" واستدل على ذلك بحديث ابن مسعود المذكور ، وقد عرفت أنه منقطع ومع انقطاعه في سنده مجهول، وبحديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثاً. وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثاً رواه البزار والطبراني في الكبير.
وقال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي بكرة إلا بهذا الإسناد ، وعبد الرحمن بن أبي بكرة صالح الحديث ، كذا في مجمع الزوائد ، وبحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثا ً، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً . وراه البزار والطبراني في الكبير.
قال البزار لا يروى عن جبير إلا بهذا الإسناد: وعبد العزيز بن عبيد الله صالح ليس بالقوي ، كذا في مجمع الزوائد ، وبحديث أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فلما ركع قال: سبحان الله وبحمده ثلاث مرات ثم رفع رأسه . رواه الطبراني في الكبير ، وفيه شهر بن حوشب وفيه بعض كلام وقد وثقه غير واحد ، كذا في مجمع الزوائد.
والظاهر أن هذه الأحاديث بمجموعها تصلح بأن يستدل بها على استحباب أن لا ينقص الرجل في الركوع والسجود من ثلاث تسبيحات والله تعالى أعلم.
قوله: "وروى عن ابن المبارك أنه قال: أستحب أن يسبح خمس تسبيحات(2/120)
261ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلانَ حدثنا أبو داودَ قال أنبأنَا شُعْبَةُ عن الأعْمشِ قال: سَمِعتُ سعدَ بنَ عبيدَةَ يحدّثُ عن المسْتَوْرِد عن صِلَةَ بنِ زُفَرَ عن حُذَيْفَةَ "أنّه صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكان يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ رَبّيَ العَظِيمُ ، وفي سُجُودِهِ: سبحانَ رَبّيَ الأعْلَى ، ومَا أتَى على آيةِ رْحمَة إلاّ وَقَفَ وَسَأَلَ ، ومَا أتى عَلَى آيةِ عَذَابٍ إلاّ وقَف وتعوّذَ".
ـــــــ
إلخ" قال القاضي الشوكاني في النيل بعد نقل قول ابن المبارك هذا عن الترمذي ونقل قول الماوردي الذي تقدم ما لفظه: لا دليل على تقييد الكمال بعدد معلوم ، بل ينبغي الاستكثار من التسبيح على مقدار تطويل الصلاة من غير تقييد بعدد.
وأما إيجاب سجود السهو فيما زاد على التسع واستحباب أن يكون عدد التسبيح وتراً لا شفعاً فيما زاد على الثلاث فمما لا دليل عليه ، انتهى.
"وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم" بن مخلد الحنظلي أبو محمد بن راهويه المروزي ثقة حافظ مجتهد قرين أحمد بن حنبل قاله الحافظ.
قوله: "حدثنا أبو داود" هو الطيالسي إسمه سليمان بن داود "عن الأعمش" هو سليمان بن مهران "قال سمعت سعد بن عبيدة" بضم العين السلمي أبو حمزة الكوفي وثقة النسائي "يحدث عن المستورد" بضم أوله وإسكان المهملة وفتح المثناة وكسر الراء ابن الأحنف الكوفي وثقه ابن المديني "عن صلة" بكسر أوله وفتح اللام الخفيفة "ابن زفر" بضم الزاي وفتح الفاء العبسي بالموحدة الكوفي تابعي كبير ثقة جليل قاله الحافظ.
قوله: "إنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية مسلم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلي بها ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء الخ ، فظهر بهذه الرواية أن هذه الصلاة التي صلى حذيفة معه صلى الله عليه وسلم كان صلاة الليل "إلا وقف وسأل" أي الرحمة "إلا وقف وتعوذ" أي من عذاب الله.(2/121)
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
262ـ وحدثنا محمد بن بَشّارٍ حدثنا عبدُ الرحمن بن مهدي عن شُعْبَةَ نحوَه.
ـــــــ
قال الشيخ عبد الحق في اللمعات: الظاهر أنه كان في الصلاة وهو محمول عندنا على النوافل.
قلت: قد وقع في رواية مسلم: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة كما عرفت ، وهذا نص صريح في أن وقوفه صلى الله عليه وسلم وسؤاله عند الإتيان على آية الرحمة وكذا وقوفه وتعوذه عند الإتيان على آية العذاب كان في صلاة الليل.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم(2/122)
باب: ماجاء في النهي عن القراءة في الركوع والسجود
...
193ـ باب ما جاء في النهي عن القراءة في الركوعِ والسجودِ
263ـ حدثنا إسْحَاقُ بن موسى الأنصاريّ حدثنا مَعْنٌ حدثنا مالكٌ ح وحدثنا قُتَيْبَةُ عن مالِكٍ عن نافِعٍ عن إِبْرَاهِيمَ بنِ عبدِ الله بنِ حُنَيْنٍ عن أبيهِ عن عليّ بن أبي طالب "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن لُبْسِ القَسّيّ،
ـــــــ
"باب ما جاء في النهي عن القراءة في الركوعِ والسجودِ"
قوله: "عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين" بضم الحاء المهملة مصغراً الهاشمي مولاهم المدني ثقة "عن أبيه" ثقة.
قوله: "نهى عن لبس القسي" قال الباجي بفتح القاف وتشديد السين قال: فسره(2/122)
والمُعَصْفَرِ وعن تَخَتّمِ الذّهَبِ ، وعَن قِرَاءَةِ القُرآنِ فِي الركوع".
قال وفي الباب عن ابن عباسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ علي حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ ، وهو قولُ أهل العلمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ بَعدهُم . كَرِهوا القراءةَ في الركوع والسجود
ـــــــ
ابن وهب بأنها ثياب مضلعة يريد مخططه بالحرير ، وكانت تعمل بالقس وهو موضع بمصر يلي الفرما.
وفي النهاية هي: ثياب من كتان مخلوط بالحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريباً من تنيس يقال لها القس بفتح القاف وبعض أهل الحديث يكسرها وقيل أصل القسي القزي منسوب إلى القز وهو ضرب من الإبريسم أبدل الزاء سيناً كذا في تنوير الحوالك "والمعصفر" أي ما صبغ بالعصفر "وعن تختم الذهب" النهي عنهما للرجال دون النساء "وعن قراءة القرآن في الركوع" قال الخطابي: لما كان الركوع والسجود وهما في غاية الذل والخضوع مخصوصين بالذكر والتسبيح نهي عن القراءة فيهما.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
وفيه: ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً وساجداً ، فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم.
قوله: "وحديث علي حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه(2/123)
194ـ بابُ ما جاء في مَنْ لا يُقيم صُلْبه في الركوعِ والسجود
264ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنيعٍ حدثنا أبو مُعَاوِيَةَ عن الأعمشِ عن عُمَارةَ بنِ عُمَيْرٍ عن أبي مَعْمَرٍ عن أبِي مَسْعُودٍ الأنصاريّ البدريّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجزئ صَلاةٌ لا يُقيمُ فيها الرجلُ يعني صُلْبَه في الركوع السجودِ ".
قال وفي الباب عن عليّ بن شَيْبَانَ وأنسٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ ورِفَاعَةَ الزّرَقِيّ.
ـــــــ
"بابُ ما جاء في مَنْ لا يُقيم صُلْبه في الركوعِ والسجود"
قوله: "عن عمارة بن عمير" التيمي الكوفي ثقة ثبت "عن أبي معمر" إسمه عبد الله بن سخبرة بفتح السين المهملة وسكون الخاء المعجمة وفتح الموحدة الإزدي الكوفي ثقة "عن أبي مسعود الأنصاري" البدري اسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة صحابي جليل مات قبل الأربعين وقيل بعدها.
قوله: "لا تجزيء صلاة لا يقيم الرجل فيها يعني صلبه" أي أظهره أي لا يجوز صلاة من لا يسوي ظهره في الركوع والسجود والمراد الطمأنينة قاله في مجمع البحار . واستدل بهذا الحديث على وجوب الطمأنينة في الأركان ، واعتذر بعض من لم يقل به بأنه زيادة على النص لأن المأمور به في القرآن مطلق السجود فيصدق بغير طمأنينة ، فالطمأنينة زيادة والزيادة على المتواتر بالاَحاد لا تعتبر وعورض بأنها ليست زيادة ، لكن لبيان المراد بالسجود ، وأنه خالف السجود اللغوي لأنه مجدد وضع الجبهة ، فبينت السنة أن السجود الشرعي ما كان بالطمأنينة . ويؤيده أن الاَية نزلت تأكيداً لوجوب السجود وكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه قبل ذلك ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بغير طمأنينة . قاله الحافظ في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن علي بن شيبان وأنس وأبي هريرة ورفاعة الزرقي" أما حديث(2/124)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي مسعودٍ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومن بعدهم: يَرَوْنَ أن يُقِيمَ الرجُلُ صُلْبَهُ في الركوع والسجودِ.
و قال الشافعِيّ ، وأحمدُ وإسحاقُ: مَنْ لا يُقم صُلْبهُ في الركوعِ والسجودِ فَصَلاتُهُ فَاسِدَةٌ ، لحديثِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تجزئ صَلاَةٌ لا يُقِيمُ الرجُلُ فيها صُلْبَهُ في الركوع والسّجودِ" وأبو معْمَرٍ اسمُهُ عبدُ الله بنُ سَخْبَرَةَ. وأبو مسعودٍ الأنصارِيّ البَدْرِيّ اسْمُهُ عُقْبَةُ ابنُ عمرٍو.
ـــــــ
علي بن شيبان فأخرجه أحمد وابن ماجه ولفظه لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود . وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان ولفظه: أقيموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعدي ، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان من حديث المسيء صلاته ، وأما حديث رفاعة فأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث المسيء صلاته أيضاً.
قوله: "حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح" أخرجه الخمسة كذا في المنتقى . قال الشوكاني إسناده صحيح.
قوله: "وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة الخ" فعند هؤلاء الأئمة الطمأنينة في الأركان فرض ، وبه قال الجمهور وهو الحق قال الحافظ: فعند هؤلاء الأئمة الطمأنينة في الأركان فرض ، وبه قال الجمهور وهو الحق قال الحافظ: واشتهر عن الحنفية أن الطمأنينة سنة ، وصرح بذلك كثير من مصنفيهم ، لكن كلام الطحاوي كالصريح في الوجوب عندهم فإنه ترجم مقدار الركوع والسجود ثم ذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره في قوله سبحان ربي العظيم ثلاثاً في الركوع وذلك أدناه ، قال فذهب قوم من أن هذا مقدار الركوع والسجود ولا يجزئ أدنى منه. قال: وخالفهم آخرون فقالوا: إذا استوى راكعاً واطمأن ساجداً أجزأ ، ثم قال: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد انتهى كلام الحافظ.
قلت: تعديل الأركان والطمأنينة فيها فرض عند أبي يوسف أيضاً ، وأما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ، فقيل واجب وقيل سنة ، قال صاحب السعاية ص142ج بعد ذكر عبارات كتب الحنفية في هذا الباب ما لفظه: وجملة المرام في هذا(2/125)
ـــــــ
المقام أن الركوع والسجود ركنان اتفاقاً ، وإنما الخلاف في اطمئنانها فعند الشافعي وأبي يوسف فرض ، وعند محمد وأبي حنيفة فرض ما نقله الطحاوي ، وسنة على تخريج الجرجاني ، واجب على تخريج الكرخي ، وهو الذي نقله جمع عظيم عنهما وعليه المتون والقومة والجلسة ، والاطمئنان فيهما كل منها فرض أيضاً عند أبي يوسف والشافعي سنة ، عند أبي حنيفة ومحمد على ما ذكره القدماء واجب على ما حققه المتأخرون ، ومقتضى القاعدة المشهورة أن تقوم القومة والجلسة واجبتين والاطمئنان فيهما سنة لكن لا عبرة بها بعد تحقيق الحق انتهى كلامه.
واحتج من قال بالفرضية بحديث الباب فإنه نص صريح في أن من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود لا تجوز صلاته وهو المراد بفرضية الطمأنينة في الركوع والسجود ، وبحديث المسيء صلاته أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلم عليه فرد وقال ارجع فصل فإنك لم تصل الحديث ، وفيه: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً وافعل ذلك في صلاتك كلها. ورواه أبو داود نحوه وفيه ، فإذا فعلت هذه فقد تمت صلاتك ، وما انتفضت من هذا شيئاً فإنما انتقصته من صلاتك . ورواه ابن أبي شيبة وفيه: دخل رجل فصلى صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها ، واسم هذا الرجل خلاد بن رافع كما وقع في بعض طرق هذا الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم: صل فإنك لم تصل ، صريح في أن التعديل من الأركان بحيث أن فوته يفوت أصل الصلاة وإلا لم يقل لم تصل ، فإن من المعلوم أن خلاد بن رافع لم يكن ترك ركنا من الأركان المشهورة إنما ترك التعديل والاطمئنان فعلم أن تركه مبطل للصلاة.
وأجاب الحنفية عن هذا الاستدلال بوجوه كلها مخدوشة منها ما قالوا إن آخر حديث المسيء صلاته يدل على عدم فرضية التعديل ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: وما نقصت من ذلك فإنما نقصته من صلاتك ، فلو كان ترك التعديل مفسداً لما سماه صلاة كما لو ترك الركوع والسجود.
ورده العيني في البناية بأن للخصم أن يقول إنما سماه صلاة بحسب زعم المصلي كما(2/126)
ـــــــ
تدل عليه الإضافة على أنه ورد في بعض الروايات: وما نقصت شيئاً من هذا أي مما ذكر سابقاً ، ومنه الركوع والسجود ، أيضاً فيلزم أن تسمى مالا ركوع فيه أو لا سجود فيه أيضاً صلاة بعين التقرير المذكور وإذ ليس فليس انتهى.
ومنها ما قالوا إن هذا الحديث لا يدل على فرضية التعديل بل على عدم فرضيته ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأعرابي حين فرغ عن صلاته ، ولو كان ما تركه ركنا لفسدت صلاته فكان المضي بعد ذلك من الأعرابي عبثاً ولا يحل له صلى الله عليه وسلم أن يتركه ، فكان تركه دلالة منه أن صلاته جائزة إلا أنه ترك الإكمال فأمره بالإعادة زجراً له عن هذه العادة.
ورده العيني في البناية بأن للخصم أن يقول كانت صلاته فاسدة ، ولذا أمر بالإعادة وقال له لم تصل وإنما عليه لأنه ربما يهتدي إلى الصلاة الصحيحة ولم ينكر عليه لأنه كان من أهل البادية كما شهدت به رواية الترمذي "يعني بها التي رواها الترمذي في باب ما جاء في وصف الصلاة وفيها إذا جاءه رجل كالبدوي" ومن المعلوم أن أهل البادية لهم جفاء وغلظ فلو أمره ابتداء لكان يقع في خاطره شيء وكان المقام مقام التعليم وبالجملة لا دلالة لعدم إنكاره عليه الصلاة والسلام على صلاته ابتداء وأمره بالإعادة على ما ادعوه انتهى.
ومنها: ما قالوا من الله تعالى أمرنا بالركوع والسجود بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} والركوع والسجود لفظ خاص معناه معلوم ، فالركوع هو الانحناء والسجود هو الانخفاض ، فمطلق الميلان عن الاستواء ووضع الجبهة على الأرض فرض بالاَية المذكورة ، وفرضية التعديل الثابتة بقوله عليه الصلاة والسلام: فإنك لم تصل ، وكذا فرضية القومة والجلسة بحديث لا تجزيء صلاة المقيم الرجل فيها ظهره في الركوع والسجود وأمثاله أن لحقت بالقرآن على سبيل البيان فهو ليس بصحيح ، لأن البيان إنما يكون للمجمل ولا إجمال في الركوع والسجود وإن لحقت على سبيل التغيير لإطلاق القرآن فهو ليس بجائز أيضاً ، لأن نسخ إطلاق القرآن بأخبار الاَحاد لا يجوز كما حققه الأصوليون ، ولما لم يجز إلحاق ما ثبت بهذه الأخبار بالثابت بالقرآن ولم يمكن ترك أخبار الاَحاد بالكلية أيضاً فقلنا ما ثبت بالقطعي وهو الركوع والسجود فرض ، وما ثبت بهذه الأخبار الظنية الثبوت واجب.(2/127)
باب: ما جاء ما يقول الرجل إذا رفع رأسه من الركوع
...
195ـ باب ما يقولُ الرجلُ إذا رفعَ رأسَهُ من الركوع
265ـ حدثنا محمُودُ بنُ غَيْلاَنَ ، حدثنا أبو داودَ الطيالسيّ حدّثنا عبْدُ العزيزِ بنُ عبد الله بن أبي سَلَمَةَ الماجِشُونُ ، حدثنا عَمّي عن عبدِ الرحمَنِ الأعْرَجِ عن
ـــــــ
"باب ما يقولُ الرجلُ إذا رفعَ رأسَهُ من الركوع"
قوله: "الماجشون" بكسر الجيم بعدها معجمة مضمومة هو لقب عبد العزيز بن عبد الله(2/128)
196ـ باب منه آخر
266ـ حدثنا اسحَق بن موسى الأنصاريّ حدثنا معْنٌ حدثنا مالكٌ عن سُمَي عن أبِي صالحٍ عن أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذا قالَ الإمامُ: سَمِعَ الله لمن حَمدَهُ ، فقولُوا: رَبّنَا ولكَ الحمدُ ، فإنّه مَن وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الملائكَةِ غُفِرَ لهُ ما تَقَدّمَ من ذَنْبِهِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب منهُ آخَر"
قوله: "الأنصاري" هو أسحاق بن موسى الأنصاري "عن سمي" بضم السين المهملة وبفتح الميم وشدة الياء مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي ثقة "عن أبي صالح" اسمه ذكوان السمان الزيات ثقة ثبت من أوساط التابعين.
قوله: "فقولوا ربنا ولك الحمد" بالواو بعد ربنا وفي رواية للبخاري فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد ، وبوب عليه البخاري: باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد . قال الحافظ في الفتح: وفيه رد على ابن القيم حيث جزم بأنه لم يرد الجمع بين اللهم والواو في ذلك انتهى.
قوله: "فإنه من وافق قوله قول الملائكة" أي في الزمان ، والظاهر أن المراد بالملائكة جميعهم واختاره ابن بزيزة ، وقيل الحفظة منهم وقيل الذين يتعلمون منهم إذا قلنا إنهم غير الحفظه . والذي يظهر أن المراد بهم من يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو في السماء ، قاله الحافظ في الفتح "غفر له ما تقدم من ذنبه" ظاهره غفران جميع الذنوب الماضية ، وهو محمول عند العلماء على الصغائر.(2/131)
والعملُ عليه عند بعضِ أهلِ العلمِ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم: أن يقولَ الإمامُ "سَمِعَ الله لمن حَمدَهُ. ويقولُ مَنْ خلْفَ الإمامِ "رَبّنَا ولكَ الحمدُ".
ـــــــ
قوله: "وبه يقول أحمد" أي قول الإمام أحمد بأن الإمام يقول: سمع الله لمن حمده فقط ، والمؤتم يقول: ربنا ولك الحمد فقط ، وهو قول مالك وأبي حنيفة ، واستدل هؤلاء بحديث الباب قال الحافظ في الفتح: استدل به "أي بحديث أبي هريرة إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد" على أن الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد ، وعلى أن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده ، لكون ذلك لم يذكر في هذه الرواية كما حكاه الطحاوي ، وهو قول مالك وأبي حنيفة ، وفيه نظر ، لأنه ليس فيه ما يدل على النفي ، بل فيه أن قول المأموم: ربنا ولك الحمد يكون عقب قول الإمام: سمع الله لمن حمده ، والواقع في التصوير ذلك ، لأن الإمام يقول التسميع في حال انتقاله ، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله ، فقوله يقع عقب قول الإمام ما في الخبر. وهذا الموضع يقرب من مسألة التأمين ، فإنه لا يلزم من قوله: إذا قال ولا الضالين فقولوا آمين أن الإمام لا يؤمن بعد قوله ولا الضالين ، وليس فيه أن الإمام يؤمن كما أنه ليس في هذا أنه يقول ربنا ولك الحمد ، لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة. قال: وأما ما احتجوا به من حيث المعنى من أن المعنى سمع الله لمن حمده طلب التحميد فيناسب حال الإمام وأما المأموم فتناسبه الإجابة بقوله: "ربنا ولك الحمد" . ويقويه حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم وغيره ففيه وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد يسمع ما ذكرتم ، فجوابه أن يقال: لا يدل ما ذكرتم على أن الإمام لا يقول: ربنا ولك الحمد إنما يمتنع أن يكون طالباً ومجيباً ، وهو نظير ما تقدم في مسألة التأمين من أنه لا يلزم من كون الإمام داعياً والمأموم مؤمناً أن لا يكون الإمام مؤمناً . وقضية ذلك أن الإمام يجمعهما ، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي موسى ومحمد والجمهور . والأحاديث الصحيحة تشهد له ، وزاد الشافعي أن المأموم يجمعهما بينهما أيضاً لكن لم يصح في ذلك شيء ، وأما المنفرد فحكى الطحاوي وابن عبد البر الإجماع على أنه يجمع بينهما وجعله الطحاوي(2/132)
وبه يقولُ أحمدُ وقال ابنُ سيِرينَ وغيرُه: يقولُ مَن خَلْفَ الإمامِ "سَمِعَ الله لمن حَمدَهُ ، رَبّنَا ولكَ الحمدُ" مثلَ ما يقولُ الإمامُ . وبه يقولُ الشافعيّ وإسحاقُ
ـــــــ
حجة لكون الإمام يجمع بينهما للاتفاق على اتحاد حكم الإمام والمنفرد ، لكن أشار صاحب الهداية إلى خلاف عندهم في المنفرد انتهى كلام الحافظ باختصار.
قوله: "وقال ابن سيرين وغيره: يقول من خلف الإمام: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد الخ" احتج هؤلاء بحديث أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة ، وفيه ثم يقول: "سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة ، ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد الخ" بانضمام قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ، واستدلوا أيضاً بما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة قال . كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمع الله لمن حمده قال من وراءه سمع الله لمن حمده . لكن قد صرح الدارقطني بأن المحفوظ لفظ: إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فليقل من وراءه: اللهم ربنا ولك الحمد ، واستدلوا أيضاً بما أخرجه الدارقطني عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بريدة إذا رفعت رأسك من الركوع فقل: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ، وظاهره عدم الفرق بين كونه منفرداً أو إماماً أو مأموماً ولكن سنده ضعيف . وليس في جمع المأموم بين التسميع والتحميد حديث صحيح صريح كما قال الحافظ والله تعالى أعلم.(2/133)
197ـ باب ما جاءَ في وضعِ اليدين قبل الركبتين في السجود
ـــــــ
"باب ما جاء في وضع اليدين قبل الركبتين في السجود"
وفي بعض النسخ: باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين ، وهذا هو يطابقه حديث الباب.(2/133)
267ـ حدثنا سَلَمَةُ بن شَبِيبٍ و عبدُ الله بنُ مُنِيرٍ وأحمدُ بنُ إبراهيمَ الدّوْرَقِيّ و الحسنُ بن عليَ الحُلْوَانِيّ وغيرُ واحدٍ ، قالوا: حدثنا يزيدُ بنُ هارونَ حدثنا شَرِيكٌ عن عاصمِ بن كُلَيْبٍ عن أبيه عن وائل بن حُجْرٍ قال: "رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يدِيهِ ، وإذا نَهَضَ رفعَ يديه قبلَ رُكْبَتَيْهِ".
ـــــــ
قوله: "حدثنا سلمة بن شبيب النيسابوري أبو عبد الله الحافظ نزيل مكة ، روى عنه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، قال أبو حاتم: صدوق ، وقال أبو نعيم: أحد الثقات وعبد الله بن منير" بضم الميم وكسر النون آخره راء مهملة أبو عبد الرحمن المروزي الزاهد ثقة عابد ، روى عنه البخاري وقال لم أر مثله والترمذي والنسائي ووثقه "وأحمد بن إبراهيم الدورقي" النكري بضم النون البغدادي ثقة حافظ "حدثنا يزيد بن هارون" ابن زاذان السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي ثقة متقن عابد.
قوله: "إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه" استدل به من قال بوضع الركبتين قبل اليدين لكن الحديث ضعيف كما ستعرف.
قوله: "هذا حديث غريب حسن لا نعرف أحداً رواه غير شريك" في كون هذا الحديث حسناً نظر ، فإنه قد تفرد به شريك وهو ابن عبد الله النخعي الكوفي صدوق يخطيء كثير ، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة. وقال الدارقطني في سننه بعد رواية هذا الحديث: تفرد به يزيد عن شريك ولم يحدث به عن عاصم بن كليب غير شريك ، وشريك ليس بالقوي فيما ينفرد به انتهى. وقال المنذري في تلخيص السنن: قال أبو بكر البيهقي: هذا حديث يعد في أفراد شريك القاضي وإنما تابعه همام مرسلاً هكذا ذكره البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين ، هذا آخر كلامه. وشريك هذا هو ابن عبد الله النخعي القاضي وفيه مقال ، وقد أخرج له مسلم متابعة انتهى كلام المنذري. وقال الحافظ الحازمي في كتاب الاعتبار بعد رواية هذا الحديث من طريق شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل ما لفظه: ورواه همام بن يحيى عن محمد بن جحادة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال همام: وثنا شقيق يعني أبا الليث عن عاصم بن كليب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً وهو(2/134)
و زادَ الحسنُ بنُ علي في حديثه: قال يزيدُ بن هارونَ: ولم يَرْوِ شَرِيكٌ عن عاصمِ ابن كُلَيْبٍ إلاّ هذا الحديثَ.
قال: هذا حديثٌ غريبٌ حَسنٌ ، لا نعرف أحداً رواهُ غير شَرِيكٍ. والعملُ عليه عند أكثرَ أهلِ العلمِ: يَرَوْنَ أن يَضَعَ الرجلُ رُكْبَتَيْهِ قبل يديهِ.
وإذا نَهَضَ رفعَ يَدَيهِ قبلَ ركُبَتَيْهِ.
ورَوَى هَمّامٌ عن عاصمٍ هذا مُرْسَلاً ، ولم يذْكُرْ فيه وائلَ بنَ حُجْرٍ.
ـــــــ
المحفوظ انتهى كملا الحازمي. قلت: طريق همام بن يحيى عن محمد بن جحادة منقطع ، فإن عبد الجبار لم يسمع عن أبيه ، وطريق همام عن شقيق أيضاً ضعيف ، فإن شقيقاً أبا الليث مجهول . قال في التقريب. شقيق أبو الليث عن عاصم بن كليب مجهول انتهى . وقال في الميزان: شقيق عن عاصم بن كليب وعنه همام لا يعرف انتهى.
قوله: "والعمل عليه عند أكثر أهل العلم يرون أن يضع الرجل ركبتيه قبل يديه إلخ" قال الحازمي في كتاب الاعتبار: قال ابن المنذر: وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب ، فممن رأى أن يضع ركبتيه قبل يديه عمر بن الخطاب ، وبه قال النخعي ومسلم ابن يسار وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة . وقالت طائفة: يضع يديه إلى الأرض إذا سجد قبل ركبتيه ، كذلك قال مالك. وقال الأوزاعي: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم انتهى . وقال البخاري في صحيحه: قال نافع: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه انتهى . وقال الشوكاني في النيل: وذهبت العترة والأوزاعي ومالك وابن حزم إلى استحباب وضع اليدين قبل الركبتين ، وهي رواية عن أحمد، وروى الحازمي عن الأوزاعي أنه قال: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم . قال ابن أبي داود: وهو قول أصحاب الحديث انتهى.
قوله: "وروى همام عن عاصم هذا مرسلاً ولم يذكر فيه وائل ابن حجر" قال الحافظ في التلخيص بعد نقل قول الترمذي هذا ما لفظه: وقد تعقب قول الترمذي أن هماماً إنما رواه عن شقيق عن عاصم عن أبيه مرسلاً انتهى. قلت: الأمر كما قال الحافظ كما عرفت فيما تقدم في كلام الحازمي(2/135)
198ـ باب آخرُ منه
268ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عبدُ الله بنُ نافعٍ عن محمد بن عبد الله بن حسَنٍ عن أبي الزّنَاد عن الأعرج عن أَبِي هُرَيْرَةَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يَعْمِدُ أحَدُكُمْ فَيَبرُكُ في صلاتِهِ بَرْكَ الْجَمَلِ؟".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ غريبٌ لا نعرفه من حديثِ أبي الزّنّادِ إلاّ من هذا الوجهِ.
ـــــــ
"باب آخر منه"
قوله: "يعمد أحدكم فيبرك في صلاته برك الجمل" بتقدير همزة الاستفهام الإنكاري ، أي أيعمد أحدكم فيضع ركبتيه قبل يديه في الصلاة كما يضع البعير ركبتيه قبل يديه ، أي لا يفعل هكذا بل يضع يديه قبل ركبتيه . وفي رواية أحمد وأبي داود والنسائي: إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه انتهى. قال القاري في شرح المشكاة في شرح هذا الحديث "إذا سجد أحدكم فلا يبرك" نهي وقيل نفي "كما يبرك البعير" أي لا يضع ركبتيه قبل يديه كما يبرك البعير ، شبه ذلك ببروك البعير مع أنه يضع يديه قبل رجليه لأن ركبة الإنسان في الرجل وركبة الدواب في اليد ، إذا وضع ركبتيه أولا فقد شابه الإبل في البروك "وليضع" بسكون اللام وتكسر "يديه قبل ركبتيه" قال التوربشتي: كيف نهى عن بروك البعير ثم أمر بوضع اليدين قبل الركبتين والبعير يضع اليدين قبل الرجلين؟ والجواب: أن الركبة من الإنسان في الرجلين ، ومن ذوات الأربع في اليدين انتهى كلام القاري. والحديث استدل به من قال باستحباب وضع اليدين قبل الركبتين ، وهو قول مالك ، وهو قول أصحاب الحديث وقال الأوزاعي: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم ، وهي رواية عن أحمد كما عرفت هذا كله في الباب المتقدم . قال الحافظ في الفتح: قال مالك: هذه الصفة أحسن في خشوع الصلاة وبه قال: وعن مالك وأحمد رواية بالتخيير انتهى.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه" حديث أبي هريرة هذا أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وسكت عنه أبو داود.(2/136)
ـــــــ
قال الحازمي في كتاب الاعتبار بعد روايته: وهو على شرط أبي داود والترمذي والنسائي أخرجوه في كتبهم انتهى. وقال القاري في المرقاة: قال ابن حجر: سنده جيد انتهى. قلت: حديث أبي هريرة هذا صحيح أو حسن لذاته رجاله كلهم ثقات ، فأما قتيبة فهو ابن سعيد بن جميل الثقفي أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت كذا في التقريب ، وأما عبد الله بن نافع فهو الصائغ أبو محمد المدني وثقه ابن معين والنسائي كذا في الخلاصة وأما محمد بن عبد الله بن الحسن فوثقه النسائي قاله الخزرجي. وقال الحافظ: يلقب بالنفس الزكية ثقة من السابعة. وأما أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة فقال البخاري: أصح الأسانيد أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قاله الخزرجي.
فإن قلت: قال الحافظ في التقريب في ترجمة عبد الله بن نافع الصائغ ثقة صحيح الكتاب في حفظة لين انتهى ، فإذا كان في حفظه لين فكيف يكون حديثه صحيحاً.
قلت: قد عرفت أنه قد وثقه إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين ، ووثقه أيضاً النسائي، ثم هو ليس متفرداً برواية هذا الحديث ، بل تابعه عبد العزيز بن محمد الدراوردي عند الدارقطني: قال في سننه: حدثنا أبو بكر بن أبي داود ثنا محمود بن خالد ثنا مروان بن محمد حدثنا عبد العزيز بن محمد ثنا محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل رجليه ولا يبرك بروك البعير" . حدثنا أبو سهل بن زياد ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا أبو ثابت محمد بن عبد الله ثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عبد الله بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل ركبتيه ولا يبرك بروك الجمل" انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: وهو أقوى من حديث وائل ابن حجر ، فإن للأول شاهداً من حديث ابن عمر صححه ابن خزيمة وذكره البخاري معلقاً موقوفاً انتهى كلام الحافظ . وقال الحافظ ابن سيد الناس: أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح وقال: ينبغي أن يكون حديث أبي هريرة داخلاً في الحسن على رسم الترمذي لسلامة رواته عن الجرح انتهى . وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: والحديث المذكور أولا يعني وليضع يديه ثم ركبتيه دلالة قولية ، وقد تأيد بحديث ابن عمر فيمكن ترجيحه على حديث وائل لأن دلالته فعلية على ما هو الأرجح عند الأصوليين انتهى ورجح القاضي أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي حديث أبي هريرة على حديث(2/137)
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن عبدِ الله بن سعيدٍ المقْبُرِيّ عن أبيهِ عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . وعبدُ الله بن سعيدٍ المقبُرِيّ ضعّفَهُ يحيى بنُ سعيدٍ القَطّانُ وغيرُه.
ـــــــ
وائل من وجه آخر فقال: الهيئة التي رأى مالك "وهي الهيئة التي هي مروية في حديث أبي هريرة" منقولة في صلاة أهل المدينة فترجحت بذلك على غيره انتهى.
قوله: "وقد روي هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" رواه ابن أبي شيبة في مصنفه والطحاوي في شرح الآثار بلفظ: إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل. "وعبد الله بن سيعد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره" قال ابن معين: ليس بشيء ، وقال مرة: ليس بثقة ، وقال الفلاس: منكر الحديث متروك ، وقال يحيى بن سعيد: استبان كذبه في مجلس ، وقال الدارقطني: متروك ذاهب ، وقال أحمد مرة ليس بذاك ، ومرة قال: متروك ، وقال فيه البخاري: تركوه كذا في الميزان.
اعلم أن الحنفية والشافعية وغيرهم الذين ذهبوا إلى استحباب وضع الركبتين قبل اليدين أجابوا عن حديث أبي هريرة المذكور في الباب بوجوه عديدة كلها مخدوشة.
الأول: أن حديث أبي هريرة هذا منسوخ بما رواه ابن خزيمة عن مصعب بن سعد سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين وفيه أن دعوى النسخ بحديث سعد بن أبي وقاص باطلة ، فإن هذا الحديث ضعيف: قال الحازمي في كتاب الاعتبار: أما حديث سعد ففيه إسناده مقال ، ولو كان محفوظاً لدل على النسخ غير أن المحفوظ عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق انتهى قلت: وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل وهو يرويه عن أبيه وقد تفرد به عنه وهما ضعيفان لا يصلحان للاحتجاج . قال في الخلاصة في ترجمة إبراهيم ابن إسماعيل: اتهمه أبو زرعة. وقال في التقريب في ترجمة إسماعيل والد إبراهيم متروك.
الثاني: أن في حديث أبي هريرة قلباً من الراوي وكان أصله: وليضع ركبتيه قبل يديه ، ويدل عليه أول حديث وهو قوله: فلا يبرك كما يبرك البعير ، فإن المعروف من(2/138)
ـــــــ
بروك البعير هو تقديم اليدين على الرجلين قاله ابن القيم في زاد المعاد وقال: ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا ركبتا البعير في يديه لا في رجليه ، فهو إذا برك وضع ركبتيه أو فهذا هو المنهي عنه ، قال وهو فاسد وحاصلها أن البعير إذا برك يضع يديه ، ورجلاه قائمتان وهذا هو المنهي عنه ، وأن القول بأن ركبتي البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة وأنه لو كان الأمر كما قالوا لقال النبي صلى الله عليه وسلم فليبرك كما يبرك البعير ، لأن أول ما يمس الأرض من البعير يداه انتهى.
وفيه أن قوله: في حديث أبي هريرة قلب من الراوي فيه نظر ، إذ لو فتح هذا الباب لم يبق اعتماد على رواية راو مع صحته. وأما قوله: كون ركبتين البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة ، ففيه أنه قد وقع في حديث هجرة النبي صلى الله عليه وسلم قول سراقة ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغنا الركبتين ، رواه البخاري في صحيحه ، فهذا دليل واضح على أن ركبتين البعير تكونان في يديه . وأما قوله: لو كان الأمر كما قالوا لقال النبي صلى الله عليه وسلم فليبرك كما يبرك البعير ففيه أنه لما ثبت أن ركبتي البعير تكونان في يديه ، ومعلوم أن ركبتين الإنسان تكونان في رجليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث وليضع يديه قبل ركبتيه ، فكيف يقول في أوله فليبرك كما يبرك البعير أي فليضع ركبتيه قبل يديه.
والثالث: أن حديث أبي هريرة ضعيف ، فإن الدارقطني قال: تفرد به الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن حسن انتهى ، والدراوردي وإن وثقه يحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهما لكن قال أحمد بن حنبل: إذا حدث من حفظه يهم ، وقال أبو زرعة: سيء الحفظ فتفرد الدراوردي عن محمد بن عبد الله مورث للضعف . وقال البخاري: محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه ، وقال لا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا أنتهي.
وفيه: أن حديث أبي هريرة صحيح صالح للاحتجاج كما عرفت: وأما قول الدارقطني: تفرد به الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن الحسن فليس بصحيح ، بل قد تابعه عبد الله بن نافع عند أبي داود والنسائي . قال المنذري: وفي ما قال الدارقطني نظر ، فقد روى نحوه عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله وأخرجه أبو داود والنسائي من حديثه ثم تفرد الدراوردي ليس مورثاً للضعف لأنه قد احتج به مسلم وأصحاب(2/139)
ـــــــ
السنن ووثقه إمام هذا الشأن يحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهما. وأما قول البخاري: محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه فليس بمضر فإنه ثقة ولحديثه شاهد من حديث ابن عمر وصححه ابن خزيمة. قال ابن التركماني في الجوهر النقي: محمد بن عبد الله وثقه النسائي وقول البخاري لا يتابع على حديثه ليس بصريح في الجرح فلا يعارض توثيق النسائي انتهى ، وكذا لا يضر قوله لا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا ، فإن محمد بن عبد الله ليس بمدلس وسماعه من أبي الزناد ممكن فإنه قتل سنة خمس وأربعين ومائة وهو ابن خمس وأربعين وأبو الزناد مات سنة ثلاثين ومائة ، فيحمل عنعنته على السماع عند جهود المحدثين.
والرابع: أن حديث أبي هريرة مضطرب فإنه رواه ابن أبي شيبة في مصنفه والطحاوي في شرح الآثار عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل" ، فهذه الرواية تخالف الرواية التي رواها الترمذي وغيره بحيث لا يمكن الجمع بينهما والاضطراب مورث للضعف.
وفيه أن رواية ابن أبي شيبة والطحاوي هذه ضعيفة جداً فإن مدارها على عبد الله بن سعيد وقد عرفت حاله في هذا الباب فلا اضطراب في حديث أبي هريرة ، فإن من شرط الإضطراب استواء وجوه الاختلاف ، ولا تعل الرواية الصحيحة بالرواية الضعيفة الواهية كما تقرر في مقره.
والخامس: أن حديث وائل بن حجر أقوى وأثبت من حديث أبي هريرة: قال ابن تيمية في المنتقى: قال الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا انتهى. فحديث وائل هو الأولى بالعمل: وفيه أن في كون حديث وائل أثبت من حديث أبي هريرة نظراً ، فإن حديث وائل ضعيف كما عرفت ، ولو سلم أنه حسن كما قال الترمذي فلا يكون هو حسناً لذاته بل لغيره لتعدد طرقه الضعاف: وأما حديث أبي هريرة فهو صحيح أو حسن لذاته ، ومع هذا فله شاهد من حديث ابن عمر صححه ابن خزيمة ، وقد عرفت قول الحافظ ابن حجر وابن سيد الناس وابن التركماني والقاضي أبي بكر ابن العربي في ترجيح حديث أبي هريرة على حديث وائل بن حجر ، فالقول الراجح أن حديث أبي هريرة أثبت وأقوى من حديث وائل.(2/140)
فإن قيل: إن كان لحديث أبي هريرة شاهد فلحديث وائل شاهدان: أحدهما ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي عن عاصم الأحول عن أنس قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه" ، قال الحاكم: هو على شرطهما ولا أعلم له علة ، وثانيهما . ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن مصعب ابن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال . كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن الركبتين قبل اليدين.
يقال: هذان الحديثان لا يصلحان أن يكونا شاهدين لحديث وائل أما حديث أنس فلأنه قد تفرد به العلاء بن إسماعيل العطار وهو مجهول قاله البيهقي ، وقال الدارقطني: تفرد به العلاء بن إسماعيل عن حفص بن غياث وهو مجهول انتهى. وحفص بن غياث ساء حفظة في الاَخر: صرح به الحافظ في مقدمة الفتح: وقال الذهبي في الميزان: قال أبو زرعة: ساء حفظة بعد ما استقضى فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح انتهى وأما حديث سعد بن أبي وقاص فقد عرفت فيما سبق أنه قد تفرد به إبراهيم بن إسماعيل ، وإبراهيم هذا أتهمه أبو زرعة وأبوه اسمعيل متروك وأن المحفوظ عن مصعب عن أبيه نسخ التطبيق.
فالحاصل: أن حديث أبي هريرة صحيح أو حسن لذاته وهو أقوى وأثبت وأرجح من حديث وائل هذا عندي والله تعالى أعلم.(2/141)
باب: ما جاء في السجود على الجبهة و الأنف
...
199ـ باب ما جاءَ فِي السّجودِ عَلَى الْجَبْهَةِ والأنْف
269ـ حَدّثَنَا محمد بن بشار بُنْدَارُ حدثنا أبو عَامِرٍ حدثنا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمانَ حدثني عَبّاسُ بنُ سَهْلٍ عن أبِي حُمَيدٍ السّاعِدِيّ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذَا سَجَدَ أمْكَنَ أنْفَهُ وجَبْهَتَهُ الأرْضَ ، ونحّى يَدَيْهِ عن جَنْبَيْهِ ، وَوَضَعَ كَفّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ".
ـــــــ
"باب ما جاء في السجود على الجبهة والأنف"
قوله: "ثنا أبو عامر" العقدي.
قوله: "كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته الأرض" قال في القاموس: مكنته من(2/141)
قال وفي الباب عن ابنِ عباسٍ ، ووائلِ بنِ حُجْرٍ وأبِي سعيد.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي حُمَيْدٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ عَلَيه عندَ أهلِ العلمِ: أن يسجد الرّجُلُ عَلَى جَبْهَتِهِ وأنْفِهِ . فإنْ سَجَدَ عَلَى جبْهَتِهِ دُونَ أنْفِهِ: فَقد قَالَ قَومٌ مِنْ أهلِ العلمِ: يُجْزِئُهُ ، وَقَالَ غيرُهُم: لا يُجْزِئُهُ حتى يَسْجُدَ عَلَى الْجَبْهَةِ والأنفِ.
ـــــــ
الشيء أو أمكنته منه فتمكن وأستمكن وقال في الصراح تمكين بأي برجا كردن ، وكذا الإمكان ، يقال مكنة الله من الشيء وأمكنه منه بمعنى انتهى ، وفيه أن يضع المصلى جبهته وأنفه في السجود على الأرض "ونحى يديه" أي أبعدهما ، من نحى ينحى تنحية "ووضع كفيه حذو منكبيه" فيه مشروعية وضع اليدين في السجود حذو المنكبين.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس ووائل بن حجر وأبي سعيد" أما حديث ابن عباس فأخرجه الشيخان ولفظه: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعراً ولا ثوباً: الجبهة واليدين والركبتين والرجلين. وفي لفظ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة ، وأشار بيده على أنفه ، واليدين والركبتين والقدمين". وفي رواية "أمرت أن أسجد على سبع ولا أكفت الشعر ولا الثياب: الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين" رواه مسلم والنسائي كذا في المنتقى: وأما حديث وائل بن حجر فأخرجه أحمد ولفظه: قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على الأرض واضعاً جبهته وأنفه في سجوده. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه الشيخان وفيه فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته.
قوله: "حديث أبي حميد حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود ، وأخرجه بهذا اللفظ أيضاً ابن خزيمة في صحيحه كذا في النيل.
قوله: "والعمل عليه عند أهل العلم أن يسجد على جبهته وأنفه ، فإن سجد على جبهته دون أنفه فقال قوم من أهل العلم بجزئه الخ" قال النووي في شرح مسلم:(2/142)
ـــــــ
في هذه الأحاديث فوائد: منها أن أعضاء السجود وأنه ينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعاً ، فأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض ، ويكفي بعضها ، والأنف مستحب ، فلو تركه جاز ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز ، هذا مذهب الشافعي ومالك والأكثرين ، وقال أبو حنيفة وابن القاسم من أصحاب مالك: له أن يقتصر على أيهما شاء. وقال أحمد رحمه الله وابن حبيب من أصحاب مالك: يجب أن يسجد على الجهة والأنف جميعاً لظاهر الحديث: قال الأكثرون: بل ظاهر الحديث أنهما في حكم عضو واحد ، لأنه قال في الحديث سبعة ، فإن جعلا عضوين صارت ثمانية ، وذكر الأنف استحباباً انتهى.
قلت: ذهب الجمهور إلى وجوب السجدة على الجبهة دون الأنف. وقال أبو حنيفة إنه يجزيء السجود على الأنف وحدها. وذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم إلى أنه يجب أن يجمعهما وهو قول الشافعي. واستدل الجمهور برواية ابن عباس التي رواها الشيخان وغيرهما بلفظ: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعراً ولا ثوباً: الجبهة واليدين والركبتين والرجلين. واستدل أبو حنيفة برواية ابن عباس التي رواها الشيخان بلفظ: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة وأشار على أنفه الخ ، وجه الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الجبهة وأشار إلى الأنف فدل على أنه المراد ، ورده ابن دقيق العيد فقال: إن الإشارة لا تعارض التصريح بالجبهة لأنها قد تعين المشار إليه بخلاف العبارة فإنها معينة. وأستدل القائلون بوجوب الجمع بينهما برواية ابن عباس التي رواها مسلم والنسائي بلفظ: أمرت أن أسجد على سبع ولا أكفت الشعر ولا الثياب: الجبهة والأنف واليدين والركعتين والقدمين ، لأن جعلهما كعضو واحد ولو كان كل واحد منهما عضواً مستقلاً للزم أن تكون الأعضاء ثمانية. وتعقب بأنه يلزم منه أن يكتفي بالسجود على الأنف وحدها والجبهة وحدها فيكون دليلاً لأبي حنيفة ، لأن كل واحد منهما بعض العضو وهو يكفي كما في غيره من الأعضاء ، وأنت خبير بأن المشي على الحقيقة هو المتحتم ، والمناقشة بالمجاز بدون موجب للمصير إليه غير ضائرة ، ولا شك أن الجبهة والأنف حقيقة في المجموع ، ولا خلاف أن السجود على مجموع الجبهة والأنف مستحب ، وقد أخرج أحمد من حديث وائل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على(2/143)
الأرض واضعاً جبهته وأنفه في سجوده. وأخرج الدارقطني من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين" . قال الدارقطني. الصواب عن عكرمة مرسلاً. وروى اسماعيل بن عبد الله المعروف بسمويه في فوائده عن عكرمة عن ابن عباس قال: إذا سجد أحدكم فليضع أنفه على الأرض فإنكم قد أمرتم بذلك. هذا تلخيص ما في النيل.
قلت: الراجح عندي هو وجوب السجود على مجموع الجبهة والأنف والله تعالى أعلم.(2/144)
200ـ باب مَا جَاءَ أيْنَ يَضَعُ الرّجُلَ وَجْهَهُ إذَا سَجَد
270ـ حَدّثَنَا قُتَيْبَةُ حدثنا حَفصُ بنُ غِيَاثٍ عن الْحَجّاجِ عَنْ أبي إسْحَاقَ قال: "قلْتُ للبَراءِ بنِ عازبٍ: أيْنَ كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَضَعُ وجْهَهُ إذَا سَجَدَ؟ فقَال: بين كَفَيْهِ".
وفي الباب عنْ وَائِلِ بنِ حُجْرٍ وأبي حُمَيْدٍ.
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ أيْنَ يَضَعُ الرّجُلَ وَجْهَهُ إذَا سَجَد"
قوله: "عن الحجاج" بن أرطأة الكوفي أحد الفقهاء صدوق كثير الخطأ والتدليس "عن أبي إسحاق" السبيعي اسمه عمرو بن عبد الله ثقة عابد من الثالثة اختلط بآخره.
قوله: "فقال بين كفيه " أي كان يضع وجهه بين كفيه. وفي حديث أبي حميد الذي تقدم في الباب المتقدم: وضع كفيه حذو منكبيه. ولهذين الحديثين المختلفين وما في معناهما اختلف عمل أهل العلم ، فبعضهم عملوا على حديث البراء هذا وما في معناه وبعضهم على حديث أبي حميد وما في معناه ، والكل جائز وثابت.
قوله: "وفي الباب عن وائل بن حجر وأبي حميد" أما حديث وائل فأخرجه مسلم في صحيحه وفيه: فلما سجد سجد بين كفيه. وروى إسحاق بن راهويه في سنده: أخبرنا الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فلما سجد وضع يديه حذاء أذنيه انتهى وكذلك رواه الطحاوي في شرح الآثار ، ورواه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا الثوري به ولفظه: كانت يداه(2/144)
حديثُ البَرَاءِ حديثٌ حسَنٌ غَرِيبٌ.
هُوَ الّذي اختَارَهُ بعض أهلِ العلمِ: أن تكُونَ يَدَاهُ قرِيباً مِنْ أذنَيْهِ.
ـــــــ
حذو أذنيه، كذا في نصب الراية. وأما حديث أبي حميد فأخرجه البخاري وفيه أنه عليه السلام لما سجد وضع كفيه حذو منكبيه. أخرجه عن فليح عن عباس بن سهيل عن أبي حميد، ورواه أبو داود والترمذي ولفظهما: كان إذا سجد مكن أنفه وجبهته ، ونحى يديه عن جنبه ، ووضع كفيه حذو منكبيه انتهى . كذا في نصب الراية.
قوله: "حديث البراء حديث حسن" وأخرجه الطحاوي في شرح الآثار.
قوله: "وهو الذي اختاره بعض أهل العلم أن يكون يداه قريباً من أذنيه" قال الطحاوي في شرح الآثار بعد ذكر حديث أبي حميد الساعدي ووائل بن حجر والبراء ما لفظه: فكان كل من ذهب في الرفع في افتتاح الصلاة إلى المنكبين يجعل وضع اليدين في السجود حيال المنكبين أيضاً ، وكل من ذهب في الرفع في افتتاح الصلاة إلى الأذنين يجعل وضع اليدين في السجود حيال الأذنين أيضاً. وقد ثبت فيما تقدم من هذا الكتاب تصحيح قول من ذهب في الرفع في افتتاح الصلاة إلى حيال الأذنين ، فثبت بذلك أيضاً قول من ذهب في وضع اليدين في السجود حيال الأذنين أيضاً، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى انتهى. قال الزيلعي بعد ذكر كلام الطحاوي هذا: ولم يجب الطحاوي عن حديث أبي حميد بشيء ، قلت: قد ذكرنا ما هو الأولى في الرفع في افتتاح الصلاة في موضعه(2/145)
201ـ باب مَا جَاءَ في السّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أعْضَاء
271ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا بكرُ بنُ مُضَرٍ عَنْ ابنِ الهَادِي عنْ مُحَمدِ بنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِر بنِ سَعْد بنِ أبي وَقّاصٍ عن العبّاسِ بنِ عبدِ المطّلِبِ أنّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إذا سَجَدَ العبدُ سجدَ معَهُ سَبْعَةُ آرابٍ: وجهُهُ وكفّاهُ ورُكْبَتَاهُ وَقَدَمَاهُ".
قال وفي الباب عن ابنِ عبّاسٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ وجابِرٍ وأبي سعيدٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في السجود على سبعة أعضاء"
قوله: "حدثنا بكر بن مضر" بن محمد بن حكيم مولى شرحبيل بن حسنة المصري أبو محمد أو أبو عبد الملك ثقة ثبت من الثامنة. روي عن جعفر بن ربيعة ويزيد بن حبيب وغيرهما وعنه ابن وهب وابن القاسم وقتيبة ، مات سنة أربع وسبعين ومائة "عن ابن الهادي" هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي أبو عبد الله المدني ثقة مكثر من الخامسة "عن محمد بن إبراهيم" بن الحارث بن خالد بن صخر التيمي المدني أبو عبد الله ، قال الخزرجي: أحد العلماء المشاهير عن أنس وجابر وعائشة في ت س فما أدري سمع منه أم لا فأرسل عن أسامة. وعنه يزيد بن الهاد ويحيى بن أبي كثير ويحيى بن سعيد الأنصاري وعدة. قال ابن سعد: كان فقيهاً محدثاً. وقال أحمد يروى أحاديث منكرة ، ووثقه ابن معين والناس توفي سنة عشرين ومائة "عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص" الزهري المدين ثقة من الثالثة مات سنة أربع ومائة "عن ابن العباس ابن عبد المطلب" عم النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "سجد معه سبعة آراب" بالمد جمع إرب بكسر أوله وإسكان ثانيه وهو العضو "وجهه وكفاه" إلخ بدل من سبعة آراب.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وجابر وأبي سعيد" أما حديث ابن(2/146)
قال أبو عيسى: حديثُ العبّاسِ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. وعليه العملُ عندَ أهلِ العلمِ.
272 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا حَمّادُ بنُ زيدٍ عن عمرِو بن دينارٍ عن طاوُسٍ عنْ ابنِ عباسٍ قال: "أُمِرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَسْجُدَ على سبعةِ أعظم ولا يَكُفّ شَعْرَهُ وَلاَ ثِيَابَهُ".
ـــــــ
عباس فأخرجه الشيخان عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة واليدين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب ولا الشعر" : وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السجود على سبعة أعضاء. قال الهيثمي: فيه أبو أمية بن يعلى وهو ضعيف. وأما حديث جابر وحديث أبي سعيد فلينظر من أخرجهما. وفي الباب أيضاً عن عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص ذكر حديثهما الهيثمي في مجمع الزوائد.
قوله: "حديث العباس حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري.
قوله: "أمر" قال الحافظ: هو بضم الهمزة في جميع الروايات على البناء لما لم يسم فاعله وهو الله جل جلاله. قال البيضاوي: وعرف ذلك بالعرف ، وذلك يقتضي الوجوب ونظره الحافظ قال: لأنه ليس فيه صيغة أفعل وهو ساقط لأن لفظ أمر أدل على المطلوب من صيغة أفعل كما تقرر في الأصول ، ولكن الذي يتوجه على القول باقتضائه الوجوب على الأمة أنه لا يتم إلا على القول بأن خطابه صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته وفيه خلاف معروف. ولا شك أن عموم أدلة التأسي تقتضي ذلك ، وقد أخرجه البخاري في صحيحه من رواية شعبة عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس بلفظ: أمرنا وهو دال على العموم كذا في النيل قوله: "ولا يكف" أي لا يضم ولا يجمع قوله: "شعره" أي شعر رأسه ، وظاهره يقتضي أن النهي عنه في حال الصلاة، وإليه جنح الداؤدي ورده القاضي عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور ، فإنهم كرهوا ذلك للمصلي ، سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخلها. قال الحافظ: واتفقوا على أنه لا يفسد الصلاة ، لكن(2/147)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ
ـــــــ
حكى ابن المنذر عن الحسن وجوب الإعادة. قيل: والحكمة في ذلك أنه إذا رفع ثوبه وشعره عن مباشرة الأرض أشبه المتكبرين.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(2/148)
202ـ باب مَا جَاءَ في التّجَافِي فِي السّجُود
273ـ حدثَنَا أبو كُرَيْبٍ حدثنا أبو خالدٍ الأحمَرُ عن داودَ بنِ قَيْسٍ عن عُبْيدِ الله بنِ عبد الله بن الأقْرَمَ الخُزَاعِيّ عن أبيه قال: "كنتُ مع أبي بالقاع من نَمِرَةَ فَمَرّتْ رَكْبةٌ ، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي قال فكنتُ أنظرُ إلى عُفْرَتَيْ إبْطَيْهِ إذا سَجَدَ أي بياضَه".
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في التّجَافِي فِي السّجُود أي التفرج"
قوله: "عن داود بن قيس" الفراء الدباغ المدني ثقة فاضل قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله بن أقرم" بتقديم القاف على الراء حجازي ثقة من الثالثة "عن أبيه" أي عبد الله بن أقرم وهو صحابي مقل.
قوله: "بالقاع" قال في القاموس: القاع أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والاَكام ج قيع وقيعة وقيعان بكسرهن وأقواع وأقوع انتهى "من نمره" بفتح ثم كسر قال في القاموس: نمرة كفرحة موضع بعرفات أو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمينك خارجاً من المأزمين انتهى "إلى عفرتي إبطيه" العفرة بالضم: هو بياض غير خالص بل كلون عفر الأرض وهو وجهها ، أراد منبت الشعر من الإبطين بمخالطة بياض الجلد سواد الشعر ، كذا في ألمجمع "ورأى بياضه" عطف على قوله: وأنظر إلى عفرتي إبطيه عطف تفسير. والحديث يدل على أن السنة في السجود أن ينحي يديه عن جنبيه ولا خلاف في ذلك.(2/148)
قال وفي الباب عن ابنِ عباسٍ وابن بُحَيْنَةَ وجابرِ وأحمرَ بن جزء وميمونةَ وأبي حُمَيدٍ و ابن مسعود وابن اسيد ، وسهلِ بنِ سعد ومحمد بن مَسْلَمَةَ والبراءِ بن عازبٍ وعديّ بن عَمِيرَةَ وعائشة.
قال أبو عيسى: حديثُ عبدِ الله بن أقرمَ حديثٌ حسَنٌ لا نعرفهُ إلاّ من حديثِ داودَ بنِ قَيسٍ ولا نعْرفُ لعبدِ الله بنِ أقْرَمَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غيرُ هذا الحديث.
والعملُ عليه عند أهلِ العلمِ
وأحمر بن جزءٍ هذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له حديث واحد" .
وعبد الله بن أرقم الزهري كاتب أبي بكر الصديق
وعبد الله بن أرقم الخزاعيّ إنما له هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم"
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وابن بحينة وجابر بن جزء وميمونة وأبي حميد وأبي أسيد وأبي مسعود وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة والبراء بن عازب وعدي بن عميرة وعائشة" أما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد ولفظه: قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه فرأيت بياض إبطيه وهو مجنح قد فرج يديه. وأما حديث ابن بحينة فأخرجه الشيخان ولفظه: إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه ، واسم ابن بجينة عبد الله اسم أمه. وأما حديث جابر فأخرجه أحمد وأبو عوانة في صحيحه ولفظه: إذا سجد جافى حتى يرى بياض إبطيه. وأما حديث بن جزء فأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن دقيق العيد على شرط البخاري ولفظه: قال إن كنا لنأوى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجافي مرفقيه عن جنبيه إذا سجد. وأما حديث ميمونة وأبي حميد فأخرجه مسلم ولفظها: كان إذا سجد خوى بيديه حتى يرى وضح إبطيه. وأما حديث أبي أسيد وأبي مسعود وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة فلينظر من أخرجه. وأما حديث البراء فأخرجه أحمد وفيه: كان إذا سجد بسط كفيه ورفع عجيزته وخوى ورواه ابن خزيمة والنسائي وغيرهما بلفظ: كان إذا جنح يقال جنح الرجل في صلاته(2/149)
ـــــــ
إذا مد ضبعيه. وقال الهروي: أي فتح عضديه وخوى يعني جنح. وأما حديث عدي بن عميرة فأخرجه الطبراني بمثل حديث جابر المذكور. وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم بلفظ: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع.(2/150)
203ـ باب مَا جَاءَ فِي الاعتدالِ في السجود
274ـ حدثنا هنادٌ أبو معاوِيَةَ عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سجدَ أحدُكم فلْيعتدلْ ، ولا يفترشْ ذراعيه إفتراشَ الكلبِ".
قال وفي الباب عن عبدِ الرحمَنِ بن شبلٍ وأنسٍ والبَرَاءِ وأبي حُمَيدٍ وعائشةَ.
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ فِي الاعتدالِ في السجود"
قوله: "عن أبي سفيان" اسمه طلحة بن نافع الواسطي الإسكاف نزل مكة صدوق قاله في التقريب، وقال في الخلاصة: روى عن أبي أيوب وابن عباس وجابر وعنه الأعمش فأكثر. قال أحمد والنسائي: ليس به بأس. وقال ابن معين: لا شيء.
قوله: "إذا سجد أحدكم فليعتدل" أي فليتوسط بين الإفتراش والقبض ويوضع الكفين على الأرض ورفع المرفقين عنها وعن الجنبين والبطن عن الفخذ ، إذ هو أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة وأبعد من الكسالة كذا في المجمع "ولا يفترش ذراعيه" أي لا يجعل ذراعيه على الأرض كالفراش "افتراش الكلب" بالنصب أي مثل افتراش الكلب. قال القرطبي: لا شك في كراهة هذه الهيئة ولا في استحباب نقيضها.
قوله: "وفي الباب عن عبد الرحمن بن شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة الأنصاري الأوسي أحد النقباء المدني نزيل حمص مات في أيام معاوية والبراء وأنس وأبي حميد وعائشة" أما حديث عبد الرحمن بن شبل فأخرجه أبو داود والنسائي والدارمي ولفظه(2/150)
قال أبو عيسى: حديثُ جابرٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ عليه عندَ أهلِ العلمِ: يختارونَ الاعتدالَ في السجود ويكرهونَ الإفتراشَ كافتراش السّبُعِ.
275ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيلاَن حدثنا أبو داودَ أخبرنا شُعبةُ عن قتادةَ. قال: سمعتُ أنساً يقولُ : إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "اعتدلوا في السجودِ ولا يَبْسُطَنّ أحَدُكُم ذراعَيه في الصلاةِ بَسْطَ الكلبِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن صحيحٌ.
ـــــــ
قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير. وأما حديث البراء فأخرجه مسلم ولفظه: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذ سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك" . وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعتدلوا في السجود ولا ينبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب . وأما حديث أبي حميد فأخرجه البخاري وفيه إذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما وأخرجه مسلم وتقدم لفظه في الباب المتقدم وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم بلفظ . نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع.
قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والترمذي وابن خزيمة كذا في فتح الباري.
قوله: "اعتدلوا في السجود" أي كونوا متوسطين بين الافتراش والقبض.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.(2/151)
204ـ باب ما جاء في وضع اليدين ونصب القدمين في السجود
276ـ حدثنا عبدُ الله بنُ عبدِ الرحمَنِ أخبرنا معَلّى بنُ أسيدٍ حدثنا وُهَيْبٌ عن محمد بن عَجْلاَنَ عن محمدِ بنِ إِبْرَاهِيمَ عن عامِر بن سعدٍ بن أبي وقاص عن أبيه: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ بوضعِ اليدين ونَصْبِ القدمينِ".
277ـ قال عبدُ الله: و قال مُعَلّى حدثنا حمادُ بن مَسْعَدَةَ عن محمدِ بن عَجْلاَنَ عن محمدِ بن إِبْرَاهِيمَ عن عامر بن سعدٍ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم "أمَرَ بوضعِ اليَدَيْنِ" فذكر نحوه ، ولم يذكر فيه "عن أبيه".
ـــــــ
"باب ما جاء في وضع اليدين ونصب القدمين في السجود"
قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن" هو الدارمي الحافظ صاحب السند "أخبرنا وهيب" بالتصغير هو ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم أبو بكر البصري ثقة ثبت لكنه تغير قليلاً بآخره قاله الحافظ "عن محمد بن عجلان" المدني صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة كذا في التقريب "عن محمد بن إبراهيم" بن الحارث بن خالد التيمي المدين ثقة له أفراد "عن عامر بن سعد" بن أبي وقاص ثقة كثير الحديث "عن أبيه" سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة وأول من رمى بسهم في سبيل الله ومناقبه كثيرة.
قوله: "أمر بوضع اليدين" المراد بهما الكفان المنهي عن افتراش الذراعين كافتراش الكلب والمراد وضعهما حذاء المنكبين أو حذاء الوجهين ويستقبل بهما القبلة لما روى مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان يقول: إذا سجد أحدكم فليستقبل القبلة بيديه فإنهما يسجدان مع الوجه انتهى. قلت: ومن ثم ندب ضم الأصابع في السجود لأنها لو انفرجت انحرفت رؤوس بعضها عن القبلة "ونصب القدمين" والمراد أن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما ويستقبل بأطرافهما القبلة كما في حديث أبي حميد في صحيح البخاري.
وله: "وقال المعلى أخبرنا حماد بن مسعدة عن محمد بن عجلان الخ" حاصله أن المعلى بن(2/152)
قال أبو عيسى: ورَوَى يحيى بنُ سعيدٍ القَطّانُ وغيرُ واحدٍ عن محمدِ بن عَجْلاَنَ عن محمدِ بنِ إِبْرَاهِيمَ عن عامِر بن سعدٍ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ بوضع اليدين ونصب القدمين" : مُرْسَلٌ.
وهذا أصحّ من حديثِ وُهَيْبٍ.
وهو الذي أجمعَ عليهِ أهلُ العلمِ واختاروهُ.
ـــــــ
أسد روي هذا الحديث عن وهيب وعن حماد بن مسعدة كلاهما عن محمد بن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد ، فأما وهيب فأسند الحديث فقال عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم الخ ، وأما حماد بن مسعدة فأرسله ولم يذكر عن أبيه. وحديث حماد ابن مسعدة المرسل هو أصح من حديث وهيب المسند ، فإن غير واحد رووه مرسلاً كرواية حماد بن مسعدة.(2/153)
باب: ما جاء في إقامة الصلب إذا رفع رأسه من السجود و الركوع
...
205ـ باب ما جاءَ في إقامة الصّلْبِ إذا رَفَعَ رأسَه من الركوع والسجود
278ـ حدثنا أحمدُ بن محمدِ بنِ موسى أخبرنا عبدالله بن المبارَكِ أخبرنا شُعْبَةُ عن الحكمِ عن عبدِ الرحمَنِ بن أبي لَيْلَى عن البَرَاءِ بن عازب قال: "كانت صلاةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذا ركعَ وإذا رفعَ رأسَهُ من الركوعِ ، وإذا سَجَدَ وإذا رفعَ رأسَهُ من السجود قريباً من السّوَاءِ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في إقامة الصّلْبِ إذا رَفَعَ رأسَه من الركوع والسجود"
قوله: "كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع الخ" ولفظ البخاري: كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع من الركوع ماخلاً القيام والقعود قريباً من السواء قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يدل على أن الاعتدال(2/153)
قال وفي الباب عن أنسٍ.
279 ـ حدثنا محمدُ بن بَشّار حدثنا محمدُ بن جعفرٍ حدثنا شعبة عن الحكَمِ نحوَهُ.
قال أبو عيسى: حديثُ البَرَاءِ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ركن طويل وحديث أنس صريح في الدلالة على ذلك بل هو نص فيه فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف وهو قولهم لم يسن فيه تكرير التسبيحات كالركوع والسجود . ووجه ضعفه أنه قياس في مقابلة النص فهو فاسد. وأيضاً فالذكر المشروع في الاعتدال أطول من الذكر المشروع في الركوع ، فتكرير سبحان ربي العظيم ثلاثاً يجيء قدر قوله: اللهم ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، وقد شرع في الاعتدال ذكر أطول كما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس بعد قوله: حمداً كثيراً طيباً ملء السماوات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد. زاد في حديث ابن أبي أوفى: اللهم طهرني بالثلج إلخ ، وزاد في حديث الاَخرين: أهل الثناء والمجد إلخ. كذا في فتح الباري ص435ج ا ، والمراد بحديث أنس ما رواه مسلم عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى تقول قد أوهم ، ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم".
قوله: "قريباً من السواء" فيه إشعار بأن فيها تفاوتاً لكنه لم يعينه ، وهو دال على الطمأنينة في الاعتدال وبين السجدتين لما علم من عادته من تطويل الركوع والسجود.
تنبيه: قال بعض الحنفية في تعليقه على الترمذي: في حديث الباب مبالغة الراوي انتهى.
قلت: كلا ثم كلا ، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يبالغون من عند أنفسم في وصف صلاته وحكاية أفعاله في الصلاة وغيرها ولا يقصرون ، بل يحكون على حسب ما يرون فقوله: في حديث الباب مبالغة الراوي ، باطل ومردود عليه.
قوله: "وفي الباب عن أنس" أخرجه مسلم وتقدم لفظه آنفاً.
قوله: "حديث البراء حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(2/154)
باب: ما جاء في كراهية أن يبادر الإمام في الركوع السجود
...
206ـ بابُ مَا جَاءَ فَي كَراهية أن يبادِرَ الإمامُ بالركوعِ والسجود
280ـ حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبدُ الرحمَنِ بن مَهْدِي ، حدثنا سُفيَانُ عن أبي إسحاقَ عن عبدِ الله يَزِيدَ قال: حدثنا البَرَاء ـ وهو غيرُ كَذُوبٍ ـ قال: "كُنّا إذا صَلّيْنا خلفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ رأسَهُ من الركوعِ
ـــــــ
"بابُ مَا جَاءَ فَي كَراهية أن يبادِرَ الإمامُ بالركوعِ والسجود"
قوله: "أخبرنا سفيان" وهو الثوري "عن أبي إسحاق" هو السبيعي "عن عبد الله بن يزيد" الخطمي صحابي صغير كان أميراً على الكوفة في زمن ابن الزبير "وهو غير كذوب" أي غير كاذب. قال الحافظ: الظاهر أنه من كلام عبد الله بن يزيد ، وعلى ذلك جرى الحميدي في جمعه وصاحب العمدة ، لكن روى الدوري في تاريخه عن يحيى بن معين أنه قال: قوله وهو غير كذوب إنما يريد عبد الله بن يزيد الراوي عن البراء لا البراء ، ولا يقال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كذوب يعني أن هذه العبارة إنما تحسن في مشكوك في عدالته ، والصحابة كلهم عدول لا يحتاجون إلى تزكية.
وقد تعقبه الخطابي فقال: هذا القول لا يوجب تهمة في الراوي إنما يوجب حقيقة الصدق له ، قال: وهذه عادتهم إذا أرادوا تأكيد العلم بالراوي والعمل بما روى ، كان أبو هريرة يقول: سمعت خليلي الصادق المصدوق ، وقال ابن مسعود: حدثني الصادق المصدوق ، وقال عياض وتبعه النووي: لا وصم في هذا على الصحابة لأنه لم يرد به التعديل وإنما أراد به تقوية الحديث إذا حدث البراء وهو غير متهم. ومثل هذا قول أبي مسلم الخولاني: حدثني الحبيب الأمين وقد قال ابن مسعود وأبو هريرة فذكرهما قال: وهذا قالوه تنبيهاً على صحة الحديث لا أن قائله قصد به تعديل رواية وأيضاً فتنزيه ابن معين للبراء عن التعديل لأجل صحبته ولم ينزه عن ذلك عبد الله بن يزيد لا وجه له(2/155)
لم يَحْنِ رجلٌ منّا ظَهْرَهُ حتى يَسْجُدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَنَسْجُدَ".
قال وفي الباب عن أنسٍ ومعاويةَ وابن مَسْعَدَةَ صاحبِ الجيوش وأبي هريرةَ.
ـــــــ
فإن عبد الله بن يزيد معدود في الصحابة انتهى كلامه. قال الحافظ: وقد علمت أنه أخذ كلام الخطابي فبسطه واستدرك عليه الإلزام الأخير وليس بوارد ، لأن يحيى بن معين لا يثبت صحبة عبد الله بن يزيد وقد نفاها أيضاً مصعب الزبيري وتوقف فيها أحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو داود وأثبتها ابن البرقي والدارقطني وأخرون انتهى.
قوله: "لم يحن" بفتح التحتانية وسكون المهملة أي لم يثن ، يقال: حنيت العود إذا ثنيته ، وفي رواية لمسلم: لا يحنو وهي لغة صحيحة يقال حنيت وحنوت بمعنى قاله الحافظ "حتى يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية للبخاري: حتى يضع جبهته على الأرض "فنسجد" ولأحمد عن غندر عن شعبة حتى يسجد ثم يسجدون. واستدل به ابن الجوزي على أن المأموم لا يشرع في الركن حتى يتمه الإمام: وتعقب المأموم بعد شروعه وقبل الفراغ منه. ووقع في حديث عمرو بن حريث عند مسلم: فكان لا يحنى أحد منا ظهره حتى يستتم ساجداً ، ولأبي يعلى من حديث أنس: حتى يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من السجود وهو أوضح في انتفاء المقارنة قاله الحافظ.
قوله: "وفي الباب عن أنس ومعاوية وابن مسعدة صاحب الجيوش وأبي هريرة" أما حديث أنس فأخرجه مسلم وفيه: يا أيها الناس إني إمامكم لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف فإني أراكم أمامي ومن خلفي. وأما حديث معاوية فأخرجه الطبراني في الكبير قال العراقي: ورجاله رجال الصحيح. وأما حديث ابن مسعدة فأخرجه أحمد قال الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات إلا أن الذي رواه عن ابن مسعدة عثمان بن أبي سليمان وأكثر روايته عن التابعين انتهى. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان.
قوله: "حديث البراء حديث صحيح" وأخرجه الشيخان.(2/156)
قال أبو عيسى: حديثُ البراء حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وبه يقولُ أهلُ العلم: إنّ مَن خلفَ الإمام إنما يَتْبَعُونَ الإمام فيما يصنعُ و لا يركعونَ إلا بعدَ ركُوعهِ ، ولا يرفعونَ إلاّ بعدَ رَفْعِهِ . ولا نعلمُ بينهم في ذلك اختلافاً.
ـــــــ
قوله"حديث البراء حديث صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "ربه يقول أهل العلم أن من خلف الإمام إنما يتبعون الإمام فبما يصنع ولا يركعون إلا بعد ركوعه ولا يرفعون إلا بعد رفعه إلخ" فلا يجوز لهم التقدم ولا المقاربة.(2/157)
207ـ باب ما جَاءَ في كرَاهِيةِ الإقْعَاءِ بين السجدتين
281ـ حدثنا عبدُ الله بن عبدِ الرحمَنِ ، أخبرنا عُبَيْدُ الله بن موسى ، حدثنا إسرائِيلُ عن أبي إسحاقَ عن الحارثِ عن عليَ قال: قال لِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا عليّ ، أُحِبّ لَكَ ما أُحب لنفسي ، وأكرَهُ لكَ ما أكرهُ لنفسي ،
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في كرَاهِيةِ الإقْعَاءِ بين السجدتين"
قد اختلف في تفسير الإقعاء اختلافاً كثيراً. قال النووي: والصواب الذي لا يعدل عنه أن الإقعاء نوعان: أحدهما أن يلصق إليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب ، هكذا فسره أبو عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه أبو عبيد القاسم ابن سلام وآخرون من أهل اللغة ، وهذا النوع هو المكروه الذي ورد النهي عنه. والنوع الثاني أن يجعل إليتيه على العقبين بين السجدتين انتهى. وذكر الجزري في النهاية التفسير الأول ثم ذكر التفسير الثاني بلفظ قيل ، ثم قال والقول الأول أصح.
قوله: "حدثنا عبد الله بن دينار" هو الدارمي الحافظ صاحب المسند ثقة متقن.
قوله: "يا علي أحب لك ما أحب لنفسي وأكره لك ما أكره لنفسي" المقصود إظهار(2/157)
لا تُقْع بينَ السجدتين".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ لا نعرفهُ من حديثِ عليّ ، إلاّ من حديثِ أبي إسحاقَ عن الحارث عن عليّ.
وقد ضَعّفَ بعض أهلِ العلمِ الحارثَ الأعْوَرَ.
والعمل على هذا الحديث عند أكثرِ أهلِ العلمِ: يكرهونَ الإقعاء.
وفي الباب عن عائشةَ وأنسٍ وأبي هريرةَ.
ـــــــ
المحبة لوقوع النصحية وإلا فهو مع كل مؤمن كذلك "لا تقع بين السجدتين" من الإقعاء ، والحديث فيه النهي عن الإقعاء بين السجدتين ، وحديث ابن عباس المذكور في الباب الاَتي يدل على أنه سنة ، ونذكر وجه الجمع بينهما في الباب الاَتي.
قوله: "وقد ضعف بعض أهل العلم الحارث الأعور" هو الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني بسكون الميم أبو زهير صاحب على ، كذبه الشعبي في رواية ورمى بالرفض وفي حديثه ضعف ، وليس له عند النسائي سوى حديثين ، مات في خلافة ابن الزبير كذا في التقريب. وروى مسلم في مقدمة صحيحه بإسناده عن الشعبي: حدثني الحارث الأعور كان كذاباً انتهى . قال النووي في شرحه: هو متفق على ضعفه انتهى. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قرأت بخط الذهبي في الميزان والنسائي مع تعنته في الرجال قد احتج به والجمهور على توهينه مع روايتهم لحديثه في الأبواب وهذا الشعبي يكذبه ثم يروى عنه ، الظاهر أنه يكذب في حكاياته لا في الحديث . قال الحافظ: لم يحتج به النسائي وإنما خرج له في السنن حديثاً واحداً مقروناً بابن ميسرة وآخر في اليوم والليلة متابعة ، وهذا جميع ماله عنده انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وأنس وأبي هريرة" أما حديث عائشة فأخرجه مسلم وفيه: وكان يقول في كل ركعتين التحيات ، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى ، وكان ينهى عن عقب الشيطان. وأما حديث أنس فأخرجه ابن ماجه بلفظ:(2/158)
ـــــــ
إذا رفعت رأس من السجود فلا تقع كما يقعي الكلب. الحديث ، وفي إسناده العلاء أبو محمد وقد ضعفه بعض الأئمة. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد بلفظ: قال نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك ، وإقعاء كإقعاء الكلب ، والتفات كالتفات الثعلب. وأخرجه البيهقي أيضاً وهو من رواية ليث بن أبي سليم ، وأخرجه أيضاً أبو يعلى والطبراني في الأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وإسناد أحمد حسن.(2/159)
208ـ باب في الرّخْصَةِ في الإقعَاء
282ـ حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبدُ الرزاق أخبرنا ابن جُرَيْجٍ أخبرني أبو الزّبَيْرِ أنه سمعَ طاوُساً يقولُ: "قلنا لابن عباس في الإقعاءِ على القدمين ؟ قال: هي السّنّةُ ، فقلنا: إنّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بالرّجُلِ ؟ قال بل هي سُنّةُ نبيّكم صلى الله عليه وسلم".
ـــــــ
"باب في الرّخْصَةِ في الإقعَاء"
تقدم في الباب أن الإقعاء على نوعين، وسيطهر لك أن الرخصة في الإقعاء بالمعنى الثاني "إنا لنراه جفاء بالرجل" قال الحافظ في التلخيص: ضبط ابن عبد البر بالرجل بكسر الراء وإسكان الجيم ، وغلط من ضبطه بفتح الراء وضم الجيم وخالفه الأكثرون. وقال النووي: رد الجمهور على ابن عبد البر وقالوا: الصواب الضم وهو الذي يليق به إضافة الجفاء إليه انتهى. ويؤيد ما ذهب إليه أبو عمر ما روى أحمد في مسنده في هذا الحديث بلفظ: جفاء بالقدم ، ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور ما رواه ابن أبي خيثمة بلفظ: لنراه جفاء المرء ، فالله أعلم بالصواب انتهى كلام الحافظ. والجفاء غلط الطبع وترك الصلة والبر "بل هي سنة نبيكم" هذا الحديث نص صريح في أن الإقعاء سنة. واختلف العلماء في الجمع بين هذا الحديث وبين الحديثين الواردة في النهي عن الإقعاء ، فجنح الخطابي والماوردي إلى أن الإقعاء منسوخ ، ولعل ابن عباس لم يبلغه(2/159)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيح .
وقد ذهبَ بعضُ أهلِ العِلم إلى هذا الحديثِ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يَرَوْنَ بالإقعاءِ بأساً.
ـــــــ
النسخ وجنح البيهقي إلى الجمع بينهما بأن الإقعاء ضربان: أحدهما أن يضع إليتيه على عقبيه وتكون ركبتاه في الأرض ، وهذا هخو الذي رواه ابن عباس وفعلته العبادلة ونص الشافعي في البويطي على استحبابه بين السجدتين ، لكن الصحيح أن الافتراش أفضل منه لكثرة الرواة له ولأنه أعون للمصلى وأحسن في هيئة الصلاة. والثاني أن يضع إليتيه ويديه على الأرض وينصب ساقيه ، وهذا هو الذي وردت الأحاديث بكراهته ، وتبع البيهقي على هذا الجمع ابن الصلاح والنووي وأنكرا على من ادعى فيهما النسخ وقالا كيف ثبت النسخ مع عدم تعذر الجمع وعدم العلم بالتاريخ كذا في التلخيص الحبير. وقال في النيل: وهذا الجمع لا بد منه وأحاديث النهي والمعارض لها يرشد لما فيها من التصريح بإقعاء الكلب ، ولما في أحاديث العبادلة من التصريح بالإقعاء على القدمين وعلى أطراف الأصابع. وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: من السنة أن تمس عقبيك إليتيك، وهو مفسر للمراد ، فالقول بالنسخ غفلة عن ذلك وعما صرح به الحفاظ من جهل تاريخ هذه الأحاديث وعن المنع من المصير إلى النسخ مع إمكان الجمع ، وقد روى عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم فعله كما قال النووي ، ونص الشافعي في البويطي والإملاء على استحبابه انتهى ما في النيل.
قلت: الأمر كما قال الشوكاني وقد اختار هذا الجمع بعض الأئمة الحنفية كابن الهمام وغيره.
فائدة: قال ابن حجر المكي الافتراش بين السجدتين أفضل من الإقعاء المسنون بينهما ، لأن ذلك هو الأكثر من أحواله عليه السلام انتهى. قال القاري في المرقاة بعد نقل كلام بن حجر هذا ما لفظه: وفيه أن الأولى أن يحمل الأكثر على أنه هو المسنون وغيره إما لعذر أو لبيان الجواز انتهى.
قلت: لو كان لعذر لم يقل ابن عباس رضي الله عنهما هي سنة نبيكم ، والظاهر هو ما قال ابن حجر والله تعالى أعلم.
قوله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون بالإقعاء بأساً " قال الحافظ في التلخيص وللبيهقي عن ابن عمر أنه كان إذا(2/160)
وهو قولُ بعض أهلِ مكةَ من أهلِ الفقهِ والعلمِ. قال وأكثرُ أهلِ العلم يَكرهون الإقعاءَ بينَ السجدتينِ.
ـــــــ
رفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه ويقول إنه السنة ، وفيه عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يقعيان ، وعن طاووس قال: رأيت العبادلة يقعون ، أسانيدها صحيحة انتهى.
قلت: لكن إقعاء هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم كان بالمعنى الثاني ولم يكن كإقعاء الكلب كما تقدم "وهو قول أهل مكة من أهل الفقة والعلم" وهو قول عطاء وطاووس وابن أبي مليككة ونافع والعبادلة كذا نقل العيني عن ابن تيمية "وأكثر أهل العلم يكرهون الإقعاء بين السجدتين" وهو قول أبي حنيفة ومالك الشافعي وأحمد ، كذا قيل: وقد عفرت أن الشافعي نص في البويطي وغيره على استحبابه. وقال بعض الحنفية: لنا ما في موطأ مالك عن ابن عمر تصريح أنه ليس بسنته ، ومن المعلوم عند المحدثين أن زيادة الاعتماد في نقل السنة على ابن عمر ، فإن ابن عباس ربما يقول باجتهاده ورأيه ويعبره بالسنة انتهى.
قلت: هذا مجرد ادعاء ، ولو سلم فإنما يكون تعبيره بالسنة لا بسنة نبيكم ، وقد قال في الإقعاء: هي سنة نبيكم على أنه صرح ابن عمر أيضاً بأنه سنة كما روى البيه قي عنه أنه كان إذا رفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه ويقول إنه السنة وإسناده صحيح كما عرفت(2/161)
209ـ باب ما يقولُ بينَ السجْدتيْن
283ـ حدثنا سَلَمَةُ بن شَبِيبٍ حدثنا زَيدُ بن حُبَابٍ عن كاملٍ أبي العلاءِ
ـــــــ
"باب ما يقولُ بينَ السجْدتيْن"
قوله: "حدثنا سلمة بن شبيب" المسمعي النيسابوري نزيل مكة ثقة من شيوخ التمرمذي ومسلم وغيرهما "عن كامل أبي العلاء" هو كامل بن العلاء التميمي الكوفي صدوق يخطيء من السابعة كذا في التقريب.(2/161)
عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيدِ بن جُبَيْرٍ عن ابن عباسِ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ بين السجدتين: اللهُمّ اغْفِرْ لِي وارحَمْني واجْبُرْنِي واهْدِني وارْزُقْنِي".
284 ـ حدثنا الحسنُ بنُ عليَ الخلاَلُ "الحلواني"حدثنا يزيدُ بن هارونَ عن زيدِ ابن حُبَاب عن كامل أبي العلاء: نحوَهُ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ. و هكذا رُوِيَ عن عليّ.
وبه يقولُ الشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ: يَرَوْنَ هذا جائزاً في المكتوبةِ والتّطوّعِ. ورَوى بعضُهم هذا الحديثَ عن كاملٍ أبي العَلاءِ مُرْسَلاً.
ـــــــ
قوله: "كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني" وعند أبي داود: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني وعند ابن ماجه: رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارزقني وارفعني: قال الحافظ في التلخيص: وجمع بينهما الحاكم كلها إلا أنه لم يقل وعافني انتهى. قال الجزري في النهاية: واجبرني أي اغنني من جبر الله مصيبته أي رد عليه ما ذهب عنه أو عوضه عنه وأصله من جبر الكسر ، والحديث يدل على مشروعية الدعاء بهذه الكلمات في القعدة بين السجدتين . وفي الباب عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين. رب اغفر لي رب اغفر لي ، رواه النسائي وابن ماجه ورواه مسلم في صحيحه مطولاً.
قوله: "هذا حديث غريب" تفرد به كامل أبو العلاء ، ولم يحكم عليه الترمذي بشيء من الصحة والضعف ، ورواه الحاكم وصححه ، وسكت عنه أبو داود وقال المنذري في(2/162)
ـــــــ
تلخيص السنن: وأخرجه الترمذي وابن ماجه ونق قول الترمذي: هذا حديث غريب إلخ ، ثم قال: وكامل هو أبو العلاء ويقال أبو عبيد الله كامل بن العلاء التميمي السعدي الكوفي وثقه يحيى بن معين وتكلم فيه غيره انتهى كلام المنذري.
قلت: وقال بن عدي: لم أر للمتقدمين فيه كلاماً ، وفي بعض رواياته أشياء أنكرتها ومع هذا أرجو أنه لا بأس بت وقال النسائي: ليس بالقوي ، وقال مرة: ليس بت بأس. وقال ابن حبان كان ممن يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل كذا في الميزان وغيره من كتب الرجال. فقول النسائي: ليس بالقوي جرح مبهم ثم هو معارض بقوله: ليس بت بأس. وأما قول ابن حبان: كان ممن يقلب الأسانيد إلخ غير قادح فإنه متعنت ومسرف كما تقرر في مقره ، فحديثه هذا إن لم يكن صحيحاً فلا ينزل عن درجة الحسن والله تعالى أعلم.(2/163)
210ـ باب ما جاء في الاعتماد في السجود
285ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا الليثُ عن ابن عَجْلاَنَ عن سُمَي عن أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ قال: "اشْتَكى بعض أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم الى النبي صلى الله عليه وسلم مَشَقّةَ السجودِ عليهم إذا تَفَرّجُوا فقال: اسْتَعِينُوا بالرّكَبِ".
ـــــــ
"باب ما جاء في الاعتماد في السجود"
قوله: "عن سمي" بضم السين وفتح الميم وشدة الياء مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي المدني ، روى عن مولاه وأبي صالح ذكوان وابن المسيب وغيرهم: قال أحد وأبو حاتم ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: قتلته الحرورية سنة خمس وثلاثين: وقال النسائي في الجرح والتعديل: ثقة كذا في تهذيب التهذيب "عن أبي صالح" هو ذكوان.
قوله: "إذا تفرجوا" إذا باعدوا اليدين عن الجنبين ورفعوا البطن عن الفخذين في السجود "استعينوا بالركب" قال ابن عجلان أحد رواة الحديث: وذلك أن يضع مرفقيه(2/163)
قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرِفهُ من حديث أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلا مِنْ هَذا الوجه ، من حديثِ اللّيْثِ عن ابن عَجْلاَنَ. وقد رَوَى هذا الحديث سُفيَانُ بن عُيَيْنَةَ وغيرُ واحدِ عن سُمَيّ عن النّعْمَانِ بن أبي عَيّاشٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحو هذا. وكأنّ روايةَ هؤلاء أصحّ من روايةِ اللّيْثِ.
ـــــــ
على ركبتيه إذا طال السجود وأعيا ، ذكره الحافظ في الفتح. والحديث يدل على مشروعية الاستعانة بالركب في السجود عند المشقة في التفريج. قال الحافظ بعد ذكر أحاديث التفريج في السجود ما لفظه: ظاهر هذه الأحاديث وجوب التفريج المذكور لكن أخرج أبو داود ما يدل على أنه للاستحباب وهو حديث أبي هريرة شكا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا فقال استعينوا بالركب ، وترجم له الرخصة في ذلك أي في ترك التفريج انتهى.
قلت: الظاهر أن التفريج في السجود واجب عند عدم المشقة فيه ، وأما عند وجود المشقة فيه فيجوز ترك التفريج والاستعانة بالركب والله تعالى أعلم. وحديث الباب أخرجه أبو داود.
تنبيه: قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري بعد نقل حديث الباب عن سنن أبي داود ما لفظه: وقد أخرج الترمذي الحديث المذكور ولم يقع في روايته يعني في رواية الترمذي إذا انفرجوا ، فترجم له: باب ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود ، فجعل محل الاستعانة بالركب لمن يرفع من السجود طالباً للقيام واللفظ يحتمل ما قال ، لكن الزيادة التي أخرجها أبو داود تعين المراد انتهى كلام الحافظ. وقال العيني في عمدة القاري ما لفظه: وفي التلويح وزعم أبو داود أن هذا كان رخصة ، وأما أبو عيسى الترمذي فإنه فهم منه غير ما قاله ابن عجلان ، فذكره في باب ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود انتهى.
قلت: قد وقع في جميع نسخ جامع الترمذي الموجودة عندنا: باب ما جاء في الاعتماد في السجود ، وليس في واحد منها إذا قام من السجود ، وقد وقع في جميعها(2/164)
ـــــــ
لفظ: إذا تفرجوا ، كما وقع في رواية أبي داود ، فلعله وقع في بضع النسخ كما قال الحافظ وصاحب التوشيح والله تعالى أعلم.(2/165)
211ـ باب كيفَ النهوضُ من السّجود
286ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْر أخبرنا هُشَيْمٌ عن خالدٍ الحَذّاءِ عن أبي قِلاَبَةَ عن مالك بن الْحُوَيرِثِ اللّيثيّ: " أنّهُ رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يُصَلي ، فكانَ إذَا كَانَ في وِتْر مِن صَلاَتِهِ لم يَنْهَضْ حتّى يَسْتَوِيَ جالساً ".
قال أبو عيسى: حديثُ مالكِ بن الْحُوَيْرِثِ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب كيفَ النهوضُ من السّجود"
قوله: "إذا كان في وتر من صلاته" أي في الركعة الأولى والثالثة "لم ينهض" أي لم يقم "حتى يستوى جالساً " وهذه الجلسة تسمى بجلسة الاستراحة: قال الحافظ في الفتح: وفيه مشروعية جلسة الاستراحة ، وأخذ بها الشافعي وطائفة من أهل الحديث وعن أحمد روايتان ، وذكر الخلال بن أحمد رجع إلى القول بها ، ولم يستحبها الأكثر ، انتهى كلامه.
وأستدل من قال بسنيه جلسة الاستراحة بحديث الباب وهو حديث صحيح وبأحاديث أخرى ، فمنها حديث أبي حميد الساعدي أنه قال في عشرة إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا فاعرض ، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه الحديث ، وفيه: ثم يهوي إلى الأرض ساجداً فيجافي يديه عن جنبيه ويفتح أصابع رجليه ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ، ثم يعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلاً ، ثم يسجد ، ثم يقول: الله أكبر ويرفع ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ، ثم يعتدل حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ، ثم ينهض ، ثم يصنع في الركعة الثانية مثل ذلك إلخ ، رواه أبو داود.(2/165)
ـــــــ
والدارمي ، وروى الترمذي وابن ماجه معناه ، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ، كذا في مشكاة المصابيح . ولفظ الترمذي هكذا: ثم هوى إلى الأرض ساجداً ثم قال الله أكبر ثم جافى عن إبطيه وفتح أصابع رجليه ، ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها ، ثم اعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ، ثم ينهض ، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك إلخ.
ومنها حديث ابن عباس في صلاة التسبيح رواه أبو داود وآخرون وفيه: ثم تهوى ساجداً فتقولها وأنت ساجداً عشراً ، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً ثم تسجد فتقولها عشراً ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً ، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة. تفعل ذلك في أربع ركعات الحديث. قال الفاضل اللكفوي في كتابه الآثار المرفوعة بعد كلام طويل في إثبات صلاة الصبح ما لفظه: إعلم أن أكثر أصحابنا الحنفية وكثيراً من المشايخ الصوفية قد ذكروا في كيفية صلاة التسبيح الكيفية التي حكاها الترمذي والحاكم عن عبد الله بن المبارك الخالية عن جلسة الاستراحة ، والشافعية والمحدثون أكثرهم اختاروا الكيفية المشتملة على جلسة الاستراحة ، وقد علم مما أسلفنا أن الأصح ثبوتاً هو هذه الكيفية ، فليأخذ بها من يصليها حنفياً كان أو شافعياً انتهى. قلت: الأمر كما قال.
تنبيه: قد اعتذر الحنفيه وغيرهم ممن لم يقل بجلسة الاستراحة عن العمل بحديث مالك بن الحويرث المذكور في الباب بأعذار كلها باردة ، فمنها ما قال صاحب الهداية من الحنفية إنه محمول على حال الكبر ورده صاحب بحر الرائق حيث قال: يرد عليه بأن هذا الحمل يحتاج إلى دليل ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في الدراية: هذا تأويل يحتاج إلى دليل ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث لما أراد أن يفارقه: صلوا كما رأيتموني أصلي ، ولم يفصل له فالحديث حجة في الإقتداء به في ذلك انتهى.
ومنها ما قال الطحاوي من أن حديث أبي حميد الساعدي خال عنها أي عن جلسة(2/166)
والعملُ عليه عند بعضِ أهلِ العلمِ. وبه يقولُ أصحابِنَا.
ـــــــ
الاستراحة ، فإنه ساقه بلفظ: قام ولم يتورك ، قال: فلما تخالفا احتمل أن يكون ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلة كانت به فقعد لأجلها لا أن ذلك من سنة الصلاة انتهى. وفيه أن الأصل عدم العلة ، وأن مالك بن الحويرث هو راوي حديث: صلوا كما رأيتموني أصلي ، فحكاياته لصفات صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلة تحت هذا الأمر ، ولم تتفق الروايات عن أبي حميد على نفي هذه الجلسة ، بل أخرجه أبو داود من وجه آخر بإثباتها كذا في فتح الباري. قلت: وكذلك أخرجه الترمذي بإثباتها كما تقدم.
ومنها أنها لو كانت لشرع لها ذكر مخصوص . وفيه أنها جلسة خفيفة جداً استغنى فيها بالتكبير المشروع للقيام ، فإنها من جملة النهوض إلى القيام.
ومنها أنها لو كانت سنة لذكرها كل من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم: وفيه أن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف صلاته صلى الله عليه وسلم إنما أخذ مجموعها من مجموعهم.
والحاصل أن حديث مالك بن الحويرث حجة قوية لمن قال بسنيه جلسة الاستراحة وهو الحق ، والاعذار التي ذكرها الحنفية وغيرهم لا يليق أن يلتفت إليها.
قوله: "حديث مالك بن الحويرث حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا مسلماً وابن ماجه.
قوله: "والعمل عليه عند بعض أهل العلم" وبه قال الشافعي وطائفة من أهل الحديث ، وإلى القول بها رجع أحمد كما تقدم.
تنبيه: إعلم أنه قد ثبت أن الإمام أحمد رجع عن القول بترك جلسة الاستراحة إلى القول بها. قال ابن قدامة في المغنى: واختلفت الرواية عن أحمد هل يجلس للاستراحة ، فروى عنه لا يجلس وهو اختيار الخرقى ، والرواية الثانية أنه يجلس واختارها الخلال قال الخلال: رجع أبو عبد الله إلى هذا يعني ترك قوله بترك الجلوس لما روى مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن(2/167)
ـــــــ
ينهض متفق عليه ، وذكره أيضاً أبو حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حديث حسن صحيح فيتعين العمل به والضمير إليه انتهى. وكذلك في الشرح الكبير على متن المقنع لشمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن المقدسي وفيه: والثانية أنه يجلس. اختارها الخلال ، قال الخلال: رجع أبو عبد الله عن قوله بترك الجلوس. وقال الحافظ بن القيم في زاد المعاد: قال الخلال رجع أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة انتهى. وكذلك في كثير من كتب الحنابلة وغيرهم. ففي رجوع الإمام أحمد عن القول بترك جلسة الاستراحة إلى القول بها لا شك فيه ، وقد نقل بعض الحنفية في تعليقاته على الترمذي رجوعه عن الحافظ ابن حجر وعن ابن القيم ثم قال: وظني أن أحمد لم يرجع انتهى. قلت: مبني ظنه هذا ومنشؤوه ليس إلا التقليد ، فإنه إذا تمكن في قلب ورسخ فيه ينشأ منه كذلك ظنون فاسدة "وبه يقول أصحابنا" يعني أصحاب الحديث وقد تقدم في المقدمة أن الترمذي رحمه الله إذا قال: أصحابنا ، يريد بهم أصحاب الحديث.(2/168)
212ـ باب منه أيضاً
287ـ حدثنا يحيى بنُ موسى حدثنا أبو معاوية ، حدثنا خالدُ بنُ إلياسٍ عَنْ صالح مَوْلَى التّوْأَمَةِ ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قال: "كانَ
ـــــــ
" باب منه أيضاً "
قوله: "عن خالد بن إياس" بكسر الهمزة وخفة التحتية "ويقال خالد بن إلياس" قال الحافظ في التقريب: خالد بن إلياس بن صخر بن أبي الجهم بن حذيفة أبو الهيثم العدوي المدني إمام المسجد النبوي متروك الحديث من السابعة. وقال الذهبي في الميزان: قال البخاري ليس بشيء. وقال أحمد والنسائي متروك "عن صالح مولى التوأمة" بفتح(2/168)
النبيّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَضُ في الصلاةِ على صُدُورِ قَدَمَيْهِ".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرَةَ عليه العملُ عندَ أهلِ العلمِ: يختارونَ أن ينهضَ الرجلُ في الصلاةِ على صُدورِ قدميهِ.
وخالدُ بنُ إلياسٍ هو ضعيفٌ عند أهلِ الحديثِ. "قال ويقالُ خالدُ بن إياسَ ايضاً" . وصالح مَولى التّوْأَمَةِ هو صالحُ بنُ أبي صالحٍ. وأبو صالح اسمهُ نَبْهانُ "وهو" مَدَنيّ.
ـــــــ
المثناة وسكون الواو بعدها همزة مفتوحة ، قال الحافظ: صدوق اختلط بآخره. قال ابن عدي: لا بأس به برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج من الرابعة.
قوله :"ينهض في الصلاة على صدور قدميه" أي بدون الجلوس . والحديث قد استدل به من لم يقل بسنية جلسة الاستراحة ، لكن الحديث ضعيف لا يقوم بمثله الحجة ، فإن في سنده خالد بن إياس وهو متروك كما عرفت ، وأيضاً فيه صالح مولى التوأمة وكان قد اختلط بآخره كما عرفت.
قوله: "حديث أبي هريرة عليه العمل عند أهل العلم يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قدميه" لو قال الترمذي: عليه العمل عند بعض أهل العلم أو عند أكثر أهل العلم لكان أولى ، فإنه قد قال في الباب المتقدم بعد رواية حديث مالك بن الحويرث والعمل عليه عند بعض أهل العلم وبه يقول أصحابنا.
واستدل من اختار النهوض في الصلاة على صدور القدمين بحديث الباب ، وقد عرفت أنه حديث ضعيف لا يصلح للاستدلال ، واستدلوا بأحاديث أخرى وآثار ، فعلينا أن نذكرها مع الكلام عليها.
فمنها: حديث عكرمة قال: صليت خلف شيخ بمكة فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس: إنه أحمق ، فقال: ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ، رواه البخاري. قيل يستفاد منه ترك الجلسة الاستراحة وإلا لكانت التكبيرات(2/169)
ـــــــ
أربعاً وعشرين مرة لأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلما كان يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود.
وأجيب عنه بأن جلسة الاستراحة جلسة خفيفة جداً ولذلك لم يشرع فيها ذكر ، فهي ليست بجلسة مستقلة بل هي من جملة النهوض إلى القيام ، فكيف يستفاد من هذا الحديث ترك جلسة الاستراحة ، ولو سلم فدلالته على الترك ليس إلا بالإشارة ، وحديث مالك بن الحويرث يدل على ثبوتها بالعبارة. ومن المعلوم أن العبارة مقدمة على الأشارة.
ومنها:حديث أبي مالك الأشعري أنه جمع قومه فقال: يا معشر الأشعريين اجتمعوا واجمعوا نساءكم وأبناءكم أعلمكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الحديث ، وفيه: ثم كبر وخر ساجداً ثم كبر فرفع رأسه ثم كبر فانتهض قائماً رواه أحمد. قيل: قوله ثم كبر فسجد ثم كبر فانتهض قائماً ، يدل على نفي جلسة الاستراحة.
وأجيب عنه بأن في إسناده شهر بن حوشب ، قال الحافظ في التقريب: كثير الإرسال والأوهام انتهى. ثم هذا الحديث ليس بصريح ينفي جلسة الاستراحة ولو سلم فهو إنما يدل على نفي وجوبها لا على نفي سنيتها ثم حديث مالك بن الحويرث أقوى وأصح وأثبت من هذا الحديث.
ومنها: حديث أبي حميد الساعدي وفيه: ثم كبر فسجد ثم كبر فقام ولم يتورك رواه أبو داود. وأجيب عنه بأن أبا داود رواه بإسناد آخر صحيح. والترمذي بإثبات جلسة الاستراحة ، وقال الترمذي حسن صحيح ، وقد تقدم لفظهما ، والمثبت مقدم على النافي.
وأما الآثار فمنها أثر النعمان بن أبي عياش قال: أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة والثالثة قام كما هو ولم يجلس ، رواه أبو بكر بن أبي شيبة. والجواب عنه: أن في إسناده محمد بن عجلان وهو مدلس ورواه عن النعمان بن عياش بالعنعنة: على أن محمد بن عجلان سيء الحفظ وقد تفرد هو به ، وروى عنه أبو خالد الأحمر وهو أيضاً سيئ الحفظ.
ومنها أثر ابن مسعود رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في السنن الكبرى عن عبد الرحمن بن يزيد قال: رمقت عبد الله بن مسعود في الصلاة فرأيته ينهض ولا يجلس ،(2/170)
ـــــــ
قال ينهض على صدور قدميه في الركعة الأولى والثالثة.
والجواب عنه أن البيهقي قال في السنن الكبرى بعد ذكر هذا الأثر: وهو عن ابن مسعود صحيح ومتابعة السنة أولى انتهى. كذا في الجوهر النقي ص ج. قلت: وترك ابن مسعود رضي الله عنه جلسة الاستراحة إنما يدل على عدم وجوبها لا على نفي سنيتها. ومنها ما أخرج البيهقي عن عطية العوفي قال: رأيت ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبا سعيد الخدري يقومون على صدور أقدامهم في الصلاة.
والجواب أن البيهقي قال بعد إخراج هذا الأثر: وعطية لا يحتج به انتهى. وقال الذهبي في الميزان: عيطة بن سعد العوفي الكوفي تابعي شهير ضعيف انتهى.(2/171)
213ـ باب ما جَاء في التّشهّد
288ـ حدثنا يعقوبُ بن إبراهيم الدّوْرَقِيّ، حدثنا عُبَيْدُ الله الأشْجَعِيّ عن سفيانَ الثوْرِيّ عن أبي إسحاقَ عن الأسْوَدِ بن يزيدَ عن عبد الله بن مسعودٍ قال: "علّمنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا قَعَدْنَا في الركْعَتَيْنِ أن نقولَ: التّحِيّاتُ لله ، والصّلَوَاتُ والطّيّبَاتُ ، السّلاَمُ عليكَ أيّهَا النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورحمةُ
ـــــــ
"باب ما جَاء في التّشهّد"
قوله: "التحيات" جمع تحية ومعناها السلام ، وقيل البقاء ، وقيل العظمة ، وقيل السلامة من الاَفات والنقص ، وقيل الملك. قال المحب الطبري يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركاً بين هذه المعاني. وقال الخطابي والبغوي: المراد بالتحيات لله أنواع التعظيم له "والصلوات" قيل المراد الخمس أو ما هو أعم من ذلك من الفرائض والنوافل في كل شريعة ، وقيل العبادات كلها ، وقيل المراد الرحمة ، وقيل التحيات العبادات القولية ، والصلوات العبادة الفعلية ، والطيبات الصدقات المالية "والطيبات" أي ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله تعالى دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك(2/171)
الله وبركاته ، السلامُ علينا وعلى عبادِ الله الصّالِحينَ ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ
ـــــــ
يحيون به ، وقيل الطيبات ذكر الله ، وقيل الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء ، وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم. قال ابن دقيق العيد: إذا حملت التحية على السلام فيكون التقدير التحيات التي تعظم بها الملوك مستمرة لله تعالى ، وإذا حمل على البقاء فلا شك في اختصاص الله به وكذلك الملك الحقيقي والعظمة التامة ، وإذا حملت الصلاة على العهد أو الجنس كان التقدير أنها لله واجبة لا يجوز أن يقصد بها غيره ، وإذا حملت على الرحمة فيكون معنى قوله لله أنه المتفضل بها لأن الرحمة التامة لله يؤتيها من يشاء ، وإذا حملت على الدعاء فظاهر ، وأما الطيبات فقد فسرت بالأقوال ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى فتشمل الأفعال والأقوال والأوصاف ، وطيبها كونها كاملة خالصة عن الشوائب "السلام عليك أيها النبي" فإن قيل: كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع كونه منهياً عنه في الصلاة. فالجواب أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله عليك أيها النبي مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق كأن يقول السلام على النبي فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى تحية الصالحين أجاب الطيبي بما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علمه الصحابة. قاله الحافظ في الفتح قال: وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب وأما بعده فيقال بلفظ الغيبة ففي الاستيذان من صحيح البخاري من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهد قال وهو بين أظهرنا فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي كذا وقع في البخاري وأخرجه أبو عوانة في صحيحه والسارج والجوزقي وأبو نعيم الأصبحاني والبيهقي من طرق متعددة إلى أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ فلما قبض قلنا السلام على النبي بحذف لفظ يعني وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم قال وقد وجدت له متابعاً قوياً قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي السلام عليك أيها النبي فلما مات قالوا السلام على النبي وهذا إسناد صحيح انتهى "ورحمة الله" أي إحسانه "وبركاته" أي زيادته من كل خير "السلام علينا" استدل به على استحباب البداءة بالنفس في الدعاء ، وفي الترمذي مصححاً عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ(2/172)
إلا الله ، وأشْهَدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُهُ".
قال وفي الباب عن ابنِ عُمَرَ وجابرٍ وأبي موسى وعائشةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ مسعودٍ قد رُوِيَ عنهُ مِن غيرِ وجْهٍ وهو أصحّ حديثٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهدِ.
والعملُ عليه عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ بعدهم من التابعينَ.
ـــــــ
بنفسه ، وأصله ومنه قول نوح وإبراهيم عليها السلام كما في التنزيل "وعلى عباد الله الصالحين" الأشهر في تفسير الصالح أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده وتتفاوت درجاته. قال الحكيم الترمذي من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة فليكن عبداً صالحاً والإحرام هذا الفضل العظيم كذا في الفتح.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وجابر وأبي موسى وعائشة أما حديث ابن عمر فأخرجه أبو داود والدارقطني" . والطبراني ، وأما حديث جابر فأخرجه النسائي وابن ماجه والحاكم ورجاله ثقات كذا في النيل ، وأما حديث أبي موسى فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأما حديث عائشة فأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده والبيهقي ورجح الدارقطني وقفه قاله في النيل.
قوله: "حديث ابن مسعود قد روى عنه من غير وجه هو أصح حديث الخ" قال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد قال: هو عندي حديث ابن مسعود وروى من نيف وعشرين طريقاً ثم سرد أكثرها وقال لا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالاً ذكره الحافظ وقال: لا اختلاف بين أهل الحديث في ذلك ، ومن رجحانه أنه متفق عليه دون غيره وأن الرواة عنه الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره. وأنه تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقينا ، ففي رواية للطحاوي: أخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقنيه كلمة كلمة ثم ذكر الحافظ وجوهاً أخر لرجحانه.(2/173)
وهو قولُ سفيانَ الثوريّ وابنِ المباركِ وأحمدَ وإسحاقَ.
ـــــــ
قوله: "وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق" وهو قول أبي حنيفة واختار مالك وأصحابه تشهد عمر لكونه علمه للناس وهو على المنبر ولم ينكروه فيكون إجماعاً ولفظه نحو حديث ابن عباس إلا أنه قال الزاكيات بدل المباركات وكأنه بالمعنى واختار الشافعي تشهد ابن عباس وقال بعد أن أخرج حديث ابن عباس: رويت أحاديث في التشهد مختلفة وكان هذا أحب إلى أنه أكملها ، وقال في موضع آخر: وقد سئل عن اختياره تشهد ابن عباس لما رأيته واسعاً وسمعته عن ابن عباس صحيحاً كان عندي أجمع وأكثر لفظاً من غيره وأخذت بت غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح ، ذكره الحافظ وقال ثم إن هذا الاختلاف إنما هو الأفضل وكلام الشافعي المتقدم على ذلك انتهى.
قلت: لا شك في أن حديث ابن مسعود أرجح من جميع الأحاديث المروية في التشهد فالأخذ بت هو الأولى والله تعالى أعلم.(2/174)
214ـ باب منه أيضاً
289ـ حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا اللّيْثُ عن أبي الزّبَيْرِ عن سعيد بن جُبَيْرٍ وطاوُسٍ عن ابنِ عباسٍ قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعَلّمُنَا التّشَهُدَ كما يُعَلّمُنَا القُرْآنَ ، فكانَ يقولُ: التّحِيّاتُ المُبَارَكَاتُ الصّلَوَاتُ الطّيّبَاتُ لله ، سَلاَمٌ عليكَ أيّهَا النّبيّ ورحَمةُ الله وبركاتُهُ ، سَلاَمٌ علينا وعلى عبادِ الله الصّالحِينَ ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلاّ الله ، وأشْهَدُ أنّ محمداً رسولُ الله".
ـــــــ
"باب منه أيضاً"
قوله: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله" المباركات جمع مباركة معناها كثيرة الخير ، وقيل النماء. قال النووي: تقديره والمباركات والصلوات والطيبات كما في حديث ابن مسعود وغيره ولكن حذفت الواو اختصاراً وهو جائز معروف في اللغة "سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا" كذا وقع في هذا الكتاب سلام عليك(2/174)
قال أبو عيسى: حديثُ ابن عباس حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ غريب.
وقد روى عبدُ الرحمَنِ بنُ حُمَيْدٍ الرّؤاسِيّ هذا الحديثَ عن أبي الزّبَيْرِ نَحْوَ حديثِ اللّيْثِ بن سعدِ.
وَرَوَى أيْمَنُ بنُ نَابِلٍ المَكّيّ هذا الحديثَ عن أبي الزّبَيْرِ عن جابرٍ ، وهو غيرُ مَحْفوظٍ.
وذهب الشافعيّ إلى حديثِ ابن عباسٍ في التشهدِ.
ـــــــ
وسلام علينا بغير الألف واللام ، والحديث رواه مسلم في صحيحه السلام عليك السلام علينا بالألف واللام قال: النووي: يجوز فيه وفيما بعدها حذف اللام وإثباتها والإثبات أفضل وهو الموجود في روايات الصحيحين. قال الحافظ في الفتح لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام وإنما اختلف ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم.
قوله: "الرؤاسي" بضم راء فهمزة وسين مهملة منسوب إلى رؤاس بن كلاب كذا في المغنى.
قوله: "وروى أيمن بن نابل" بنون وموحدة "عن أبي الزبير عن جابر" وأما الليث وعبد الرحمن بن حميد فرويا عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير وطاووس عن ابن عباس "وهو غير محفوظ" قال الحافظ في التلخيص: أيمن بن نابل رواية عن أبي الزبير أخطأ في إسناده وخالفه الليث وهو من أوثق الناس في أبي الزبير فقال عن أبي الزبير عن طاووس وسعيد بن جبير عن ابن عباس: قال حمزة الكناني: قوله عن جابر خطأ ولا أعلم أحداً قال في التشهد بسم الله وبالله إلا أيمن. وقال الدارقطني: ليس بالقوي خالف الناس ولو لم يكن إلا حديث التشهد. وقال الترمذي سألت البخاري عنه فقال خطأ وقال النسائي لانعلم أحداً تابعه وهو لا بأس به لكن الحديث خطأ انتهى باختصار(2/175)
215ـ باب ما جاء أنّهُ يُخْفى التّشَهّد
290ـ حدثنا أبو سعيد الأشَجّ حدثنا يونسُ بنُ بُكَيْرٍ عن محمد بن إسحاقَ عن عبدِ الرحمَنِ بن الأسْوَدِ عن أبيهِ عن عبدالله بن مسعودٍ قال: "من السّنّةِ أن يُخْفِيَ التشَهّدَ".
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ مسعودٍ حديثٌ حسَنٌ غريبٌ. والعملُ عليه عندَ أهلِ العلمِ.
ـــــــ
"باب ما جاء أنّهُ يُخْفى التّشَهّد"
قوله: "يونس بن بكير" بن واصل الشيباني أبو بكر الجمال الكوفي صدوق يخطيء قاله الحافظ ، وقال الخزرجي قال ابن معين ثقة وضعفه النسائي ، وقال أبو داود ليس بحجة يأخذ كلام ابن إسحاق فيوصله ، روى له مسلم متابعة.
قوله: "من السنة" قال الطيبي: إذا قال الصحابي من السنة كذا فهو في الحكم كقوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا مذهب الجمهور من المحدثين والفقهاء وجعل بعضهم موقوفاً وليس بشيء انتهى.
قوله: "حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح" والحديث رواه أبو داود والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم. قلت: في سنده يونس بن بكير وقد عرفت حاله ، وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس(2/176)
216ـ باب كيف الجلوس في التّشَهد
291ـ حدثنا أبو كُرَيْبٍ ، أخبرنا عبدُ الله بن إدريسَ عن عاصم بن كُلَيْبٍ عن أبيهِ عن وائِل بن حُجْرٍ قال: " قَدِمْتُ المدِينَة ، قلت: لأنْظُرَنّ إلى صَلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فلما جلس ـ يَعْني ـ للتشَهد افْتَرَشَ رِجْلَهُ اليُسْرَى ، ووضع يَدَهُ اليُسْرَى ـ يَعْني على فَخِذِهِ اليُسْرَى ، ونَصَبَ رِجلَه اليُمْنَى".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعمل عليه عندَ أكثر أهل العلمِ.
وهو قولُ سفيانَ الثوريّ وابن المبارك وأهل الكوفة.
ـــــــ
"باب كيف الجلوس في التّشَهد"
قوله: "أخبرنا عبد الله بن إدريس" بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي أبو محمد الكوفي ثقة فقيه عابد.
قوله: "افترش رجله اليسرى" وفي رواته الطحاوي وسعيد بن منصور: فرش قدمه اليسرى على الأرض وجلس عليها. والحديث قد احتج به القائلون باستحباب الإفتراش في التشهدين ، وأجيب بأن هذا الحديث مطلق وحديث أبي حميد الآتي مقيد فيحمل المطلق على المقيد.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "والعمل عليه عند أكثر أهل العلم ، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأهل الكوفة" قال النووي: اختلف العلماء في أن الأفضل في الجلوس في التشهدين(2/177)
ـــــــ
التورك أم الافتراش ، فمذهب مالك وطائفة تفضيل التورك فيهما ، ومذهب أبي حنيفة وطائفة تفضيل الافتراش فيهما ، ومذهب الشافعي وطائفة يفترش في الأول ويتورك في الأخير الحديث أبي حميد الساعدي ورفقته في صحيح البخاري وهو صريح في الفرق بين التشهدين. قال الشافعي والأحاديث الواردة بتورك أو افتراش مطلقة لم يبين فيها أنه في التشهدين أو في أحدهما ، وقد بينه أبو حميد ورفقته ووصفوا الإفتراش في الأول والتورك في الأخير وهذا مبين ، فوجب حمل ذلك المجمل عليه والله أعلم ، انتهى كلام النووي.
وقال الحافظ في الفتح: واختلف فيه قول أحمد ، والمشهور عنه اختصاص التورك بالصلاة التي فيها التشهدان انتهى.
قلت: استدل لما ذهب إليه مالك ومن معه بما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه ثم قال أراني هذا عبيد الله بن عبد الله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك.
والجواب: أن هذا معارض بما رواه النسائي من طريق عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد أن القاسم حدثه عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: من سنة الصلاة أن ينصب اليمنى ويجلس على اليسرى، فيحمل ما رواه مالك على التشهد الأخير وما رواه النسائي على التشهد الأول دفعاً للتعارض.
واستدل للشافعي ومن معه بحديث أبي حميد الساعدي قال: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى فإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته رواه البخاري. قال الحافظ في الفتح: في رواية عبد الحميد حتى إذا كانت السجدة التي يكون فيها التسليم، وفي رواية عند ابن حبان التي تكون خاتمة الصلاة أخرج رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر قال: وفي هذا الحديث حجة قوية للشافعي ومن قال بقوله في أن هيئة الجلوس في التشهد الأول مغايرة.(2/178)
ـــــــ
لهيئة الجلوس في الأخير. وقد قيل في حكمة المغايرة بينهما إنه أقرب إلى عدم اشتباه عدد الركعات ولأن الأول تعقبه حركة بخلاف الثاني ، ولأن المسبوق إذا رآه علم قدر ما سبق به واستدل به الشافعي أيضاً على أن تشهد الصبح كالتشهد الأخير من غيره لعموم قوله في الركعة الأخيرة انتهى كلام الحافظ.
واستدل لما ذهب إليه أبو حنيفة ومن معه من تفضيل الافتراش في التشهدين بحديث وائل بن حجر المذكور في هذا الباب.
والجواب: أنه محمول على التشهد الأول بحديث أبي حميد الساعدي المذكور لما رواه النسائي في باب موضع اليدين عند الجلوس للتشهد الأول عن وائل بن حجر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يرفع يديه إذا افتتح الصلاة الحديث ، وفيه وإذا جلس في الركعتين أضجع اليسرى ونصب اليمنى إلخ وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة الحديث وفيه: وكان يقول في كل ركعتين التحيات وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة الشيطان رواه مسلم.
والجواب: أن هذا الحديث محمول على التشهد الأول جمعاً بين الأحاديث. وأما قول ابن التركماني بأن اطلاقه يدل على أن ذلك كان في التشهدين بل هو في قوة قولها: وكان يفعل ذلك في التشهدين إذ قولها أولاً: وكان يقول في كل ركعتين التحيات يدل على هذا التقرير ففيه وإن إطلاقه وإن كان يدل على ما قال لكن حمله على التشهد الأول متعين جمعاً بين الأحاديث.
على أن حديث أبي حميد الساعدي المذكور نص صريح في ثبوت التورك في التشهد الثاني ، وحديث عائشة ليس بنص في نفيه بل غاية ما يقال إنه يدل بظاهره على نفي التورك ، وقد تقرر في مقره أن النص يقدم على الظاهر عند التعارض ، وبحديث ابن عمر قال: من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعه القبلة والجلوس على اليسرى رواه النسائي.
قلت: تقدم الجواب عن هذا الحديث آنفاً فتذكر.(2/179)
ـــــــ
والحاصل: أنه ليس نص صريح فيما ذهب إليه مالك ومن معه ولا فيما ذهب إليه أبو حنيفة ومن معه وأما ما ذهب إليه الشافعي ومن معه ففيه نص صريح فهو المذهب الراجح: تنبيه: اعلم أن صاحب الهداية من الحنفية أجاب عن حديث أبي حميد الساعدي بأنه ضعفه الطحاوي أو يحمل على الكبر.
قلت: جوابه هذا ليس مما يصغى إليه. قال الحافظ في الدراية: قوله والحديث يعني حديث أبي حميد ضعفه الطحاوي أو يحمل على حالة الكبر ، أما تضعيف الطحاوي فمذكور في شرحه بمالا يلتفت إليه ، وأما الحمل فلا يصح لأن أبا حميد وصف صلاته التي واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووافقه عشرة من الصحابة ولم يخصوا ذلك بحال الكبر ، والعبرة بعموم اللفظ ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي انتهى كلام الحافظ: وقد أنصف صاحب التعليق الممجد من الحنفية حيث قال في تلعيقه على موطأ محمد المسمى بالتعليق الممجد: وحمل أصحابنا هذا يعني حديث أبي حميد الساعدي على العذر وعلى بيان الجواز وهو حمل يحتاج إلى دليل ، ومال الطحاوي إلى تضعيفه ، وتعقبه البيهقي وغيره في ذلك بما لا مزيد عليه. وذكر قاسم بن قطلوبغا في رسالته الأسوس في كيفية الجلوس: في إثبات مذهب الحنفية أحاديث كحديث عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى ، وحديث وائل: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قعد وتشهد فرش رجله اليسرى أخرجه سعيد بن منصور ، وحديث المسيء صلاته أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا جلست فاجلس على فخذك اليسرى أخرجه أحمد وأبو داود، وحديث ابن عمر: من سنة الصلاة إلخ. ولا يخفى على الفطن أن هذه الأخبار وأمثالها لا تدل على مذهبنا صريحاً بل يحتمله وغيره، وما كان منها دالاً صريحاً لا يدل على كونه في جميع القعدات على ما هو المدعى ، والإنصاف أنه لم يوجد حديث يدل صريحاً على استنان الجلوس على الرجل اليسرى في القعدة الأخيرة، وحديث أبي حميد مفصل فليحمل المبهم على المفصل انتهى.(2/180)
217ـ باب منه أيضاً
292ـ حدثنا بُنْدَارٌ محمد بن بشار حدثنا أبو عامرٍ العَقَدِيّ حدثنا فُلَيْحُ بن سليمانَ المدنيّ حدثني عباسُ بن سهلٍ السّاعِديّ قال: "اجتَمَعَ أبو حُمَيْدٍ وأبو أُسَيْدٍ وسهلُ ابن سعدٍ ومحمدُ بنِ مَسْلَمَةَ ، فذَكرُوا صلاةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالَ أبو حُمَيْدٍ: أنا أعْلَمُكُم بِصلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جَلَسَ ـ يَعْني للتشهد ـ فافترشَ رجلَه اليُسرَى ، وأقْبَلَ بصَدْر اليُمْنَى على قِبْلَتِهِ ، ووضَعَ كفّهُ اليُمْنَى على رُكبتِه اليُمْنَى ، وكَفّهُ اليُسْرَى على رُكبتِه اليُسْرَى ، وأشَارَ بِأُصْبَعِهِ ، يَعنِي السّبّابَةَ".
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب منه أيضاً"
قوله: "أخبرنا فليح بن سليمان" بن أبي المغيرة المدني ويقال فليح لقب واسمه عبد الملك صدوق كثير الخطأ "أخبرنا عباس بن سهل الساعدي" ثقة.
قوله: "فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته" هذه الجلسة هي جلسة التشهد الأول بديل حديث أبي حميد الذي رواه البخاري فإنه وصف فيه هيئة الجلوس الأول بهذه الصفة ، ثم وصف بعدها هيئة الجلوس الاَخر فذكر التورك ، وقد تقدم لفظه. ورواه الترمذي في هذا الباب مختصراً ورواه في باب وصف الصلاة مطولاً وفي آخره. حتى كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته ، أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركاً ثم سلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا مسلماً.(2/181)
وبه يقولُ بعضُ أهلِ العلمِ.
وهو قولُ الشافعيّ وأحمدَ وإسحَاقَ ، قالوا: يَقْعُدُ في التشهد الاَخر على وَركِهِ واحتجوا بحديث أبي حُمَيْدٍ ، وقالوا: يَقْعدُ في التشهدِ الأوّلِ عَلَى رِجلهِ اليُسْرَى وينصِبُ اليُمْنَى.
ـــــــ
قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا: يقعد في التشهد الاَخر على وركه" قال في القاموس: الورك بالفتح والكسر وككيف ما فوق الفخذ مؤنثة ج أوراك وورك يرك وركا وتورك وتوارك اعتمد على وركه انتهى. وقد تقدم أن المشهور عن أحمد اختصاص التورك بالصلاة التي فيها تشهدان "واحتجوا بحديث أبي حميد" أي بحديثه المطول الاَتي في باب وصف الصلاة وهو احتجاج قوي لمن قال بسنية التورك في الجلسة الأخيرة وهو القول الراجح وأما قول من قال الحنفية كصاحب الهداية إنه ضعيف أو إنه محمول على حالة الكبر أو على حالة الكبر أو على حالة العذر فهو مما لا يلتفت إليه كما عرفت في الباب المتقدم(2/182)
218ـ باب ما جاءَ في الإشارةِ
293ـ حدثنا محمودُ بن غَيلاَنَ ويحيى بن موسى وغير واحد قالوا حدثنا عبدُ الرّزّاقِ عن مَعْمَرٍ عن عُبَيْدِ الله بنِ عمرَ عن نافعٍ عن ابن عمرَ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا جلسَ في الصلاةِ وضعَ يَدَهُ اليمنى على ركبتهِ ورفعَ أُصْبَعَهُ التي تلي
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الإشارةِ"
قوله: "كان إذا جلس في الصلاة وضع يده اليمنى على ركبته ورفع إصبعه" ظاهره(2/182)
الإبهامَ يَدْعُو بِهَا ، ويدُه اليسرَى على ركبتهِ باسِطها عليه".
قال وفي الباب عن عَبْدِ الله بن الزّبَيْرِ وَنُمَيْر الخُزَاعِيّ وأبي هُرَيرَةَ وأبي حُمَيْدٍ ووائِل بن حُجْرٍ.
ـــــــ
أن رفع الإصبع كان في ابتداء الجلوس "التي تلي الإبهام" وهي المسبحة "يدعو بها" أي يشير بها "باسطها عليه" بالنصب أي حال كونه باسطايده على ركبته اليسرى من غير رفع إصبع ، وفي رواية مسلم باسطها عليها وهو الظاهر.
واعلم أنه قد ورد في وضع اليد اليمنى على الفخذ حال التشهد هيئات هذه إحداها وليس في هذا الحديث ذكر قبض الأصابع وكذلك أخرج مسلم من حديث ابن الزبير وكذلك أخرج أبو داود والترمذي من حديث أبي حميد بدون ذكر القبض ، والظاهر أن تحمل هذه الأحاديث على الأحاديث التي فيها ذكر القبض.
والثانية: أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى ويرسل المسبحة ويضم الإبهام إلى أصل المسبحة هو عقد ثلاثة وخمسين كما أخرج مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى وعقد ثلاثاً وخمسين وأشار بالسبابة قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: وصورتها أن يجعل الإبهام معترضة تحت المسبحة انتهى.
والثالثة: أن يعقد الخنصر والبنصر ويرسل السبابة ويحلق الإبهام والوسطى كما أخرج أبو داود والنسائي من حديث وائل بن حجر في وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضع يده ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وحد مرفقه الأيمن على فخذه الأيمن على فخذه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة وأشار بالسبابة.
والرابعة: قبض الأصابع كلها والإشارة بالسبابة ما روي مسلم من حديث ابن عمر مرفوعاً كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام. قال الزيلعي: الأخبار وردت بها جميعاً ، وكان رسول الله(2/183)
قال أبو عيسى: حديثُ ابن عُمَرَ حديثٌ حسَنٌ غريبٌ ، لا نعرِفهُ مِنْ حديثِ عُبَيدِ الله بن عمرَ إلا مِن هذا الوجهِ.
والعملُ عليه عندَ بعضِ أهلِ العلمِ مِن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم والتابعينَ: يختارُونَ الإشارةَ في التشهدِ. وهو قولُ أصحابِنا.
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم يصنع مرة هكذا مرة هكذا. وقال محمد بن إسماعيل الأمير في سبل السلام: الظاهر أنه مخير بين هذه الهيئات انتهى. فجعل الحافظ ابن القيم في زاد المعاد هذه الروايات كلها واحدة وتكلف في بيان توحيدها. والحق ما قال الرافعي ومحمد بن إسماعيل الأمير.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن غريب الخ" وأخرجه مسلم.
قوله: "والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين يختارون الإشارة في التشهد هو قول أصحابنا" المراد بقوله أصحابنا أهل الحديث رحمهم الله تعالى كما حققناه في المقدمة ، وكان الترمذي أن يقول: والعمل عليه عند أهل العلم أو عند عامة أهل العلم ، فإنه لا يعرف في هذا خلاف السلف. قال محمد في موطأه بعد ذكر حديث ابن عمر في الإشارة: وبصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ. وهو قول أبي حنيفة انتهى. قال علي القاري: وكذا قول مالك والشافعي وأحمد ولا يعرف في المسألة خلاف السلف من العلماء وإنما خالف فيها بعض الخلف في مذهبنا من الفقهاء انتهى. وقال صاحب التعليق الممجد من العلماء الحنفية ، أصحابنا الثلاثة يعني أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمداً اتفقوا على تجويز الإشارة لثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بروايات متعددة وقد قال به غير واحد من العلماء حتى قال ابن عبد البر إنه لا خلاف في ذلك ، وإلى الله المشتكى من صنيع كثير من أصحابنا من أصحاب الفتاوى كصاحب الخلاصة وغيره حيث ذكروا أن المختار عدم الأشارة بل ذكر بعضهم أنها مكروهة ، فالحذر الحذر من الاعتماد على قولهم في هذه المسألة انتهى.
تنبيه: قال النووي: في شرح مسلم: قال أصحابنا: يشير عند قوله: إلا الله من(2/184)
ـــــــ
الشهادة انتهى. وقال صاحب سبل السلام: موضع الإشارة عند قوله: لا إله إلا الله ، لما رواه البيهقي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. وقال الطيبي في شرح قوله وأشار بالسبابة في حديث ابن عمر أي رفعها عند قوله إلا الله ليطابق القول الفعل على التوحيد انتهى. وقال علي القاري في المرقاة بعد ذكر قول الطيبي هذا: وعندنا يعني الحنفية يرفعها عند لا إله ويضعها عند إلا الله لمناسبة الرفع للنفي وملاءمة الوضع للإثبات ومطابقة بين القول والفعل حقيقة انتهى.
قلت: ظاهر الأحاديث يدل على الإشارة من ابتداء الجلوس ولم أر حديثاً صحيحاً يدل على ما قال الشافعية والحنفية. وأما ما رواه البيهقي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فلم أقف عليه ولم يذكر صاحب السبل سنده ولا لفظه فالله تعالى أعلم كيف حاله.
تنبيه آخر: قد جاء في تحريك السبابة حين الإشارة حديثان مختلفان ، فروى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن الزبير قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير بأصبعه إذا دعا ولا يحركها. قال النووي إسناده صحيح. فهذا الحديث يدل صراحة على عدم التحريك وهو قول أبي حنيفة. وحديث وائل بن حجر يدل على التحريك وهو مذهب مالك. قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد بالتحريك الإشارة بها لا تكرير تحريكها حتى يعارض حديث ابن الزبير عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه بلفظ: كان يشير بالسبابة ولا يحركها ولا يجاوز بصره إشارته. قال الشوكاني في النيل: ومما يرشد إلى ما ذكره البيهقي ، رواية أبي داود لحديث وائل فإنها بلفظ: وأشار بالسبابة انتهى.
فائدة: السنة أن لا يجاوز بصره إشارته كما في حديث ابن الزبير المذكور آنفاً ويشير بها موجهة إلى القبلة وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص. وقال ابن رسلان: والحكمة في الإشارة بها أن المعبود سبحانه وتعالى واحد ليجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد(2/185)
219ـ باب ما جاء في التّسليمِ في الصلاة
294ـ حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيَ ، حدثنا سُفيانُ عن أبي إسحاقَ عن أبي الأحْوَصِ عن عبدِ الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنّهُ كانَ يُسَلّم عن يمينِهِ وعن يسَارِهِ: السلامُ عليكُمْ ورحمة الله ، السلامُ عليكم ورحمةُ الله".
قال وفي الباب عن سعدِ بنِ أبي وقّاصٍ وابنِ عمرَ وجابرِ بن سَمُرَةَ والبَرَاءِ وَعمّارٍ ووائِلِ بنِ حُجْرٍ و عَدِيّ بن عَمِيرَةَ وجابرِ بن عبدِ الله.
ـــــــ
"باب ما جاء في التسليم في الصلاة"
قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود رضي الله عنه "كان يسلم عن يمينه" قال الطيبي: أي مجاوزاً نظره عن يمينه كما يسلم أحد على من في يمينه "وعن يساره" فيه مشروعية أن يكون التسليم إلى جهة اليمين ثم إلى جهة اليسار ، وزاد أبو داود حتى يرى بياض خده. وفيه دليل على مبالغة في الإلتفات إلى جهة اليمين وإلى جهة اليسار "السلام عليكم الخ" إما حال مؤكدة أي يسلم قائلاً السلام عليكم أو جملة استئنافية على تقدير ماذا كان يقول.
قوله: "وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وجابر بن سمرة والبراء وعمار ووائل بن حجر وعدي بن عميرة وجابر بن عبد الله" أما حديث سعد بن أبي وقاص فأخرجه مسلم بلفظ قال: كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده. وأما حديث ابن عمر فأخرجه البيهقي مرفوعاً بلفظ: كان يسلم عن يمينه وعن يساره. وأما حديث جابر بن سمرة فأخرجه مسلم. وأما حديث البراء(2/186)
قال أبو عيسى: حديثُ ابنُ مسعودٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ عليه عند أكثرِ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم.
وهو قولُ سفيانَ الثّوْرِيّ وابنِ المباركِ وأحمدَ وإسحاقَ.
ـــــــ
فأخرجه الدار قطني في سننه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين ، وفيه حريث بن أبي عطر تكلم فيه البخاري وغيره. وأما حديث عمار فأخرجه الدارقطني وابن ماجه. وأما حديث وائل بن حجر فأخرجه أبو داود قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله. قال النووي: في الخلاصة: إسناده صحيح. وأما حديث عدي بن عميرة فأخرجه ابن ماجه. قال الحافظ في التلخيص: إسناده حسن. وأما حديث جابر بن عبد الله فلينظر من أخرجه. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الحافظ في التلخيص والزيلعي في نصب الراية من شاء الوقوف عليها فليرجع إليهما.
قوله: "حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح" قال في التلخيص: أخرجه الأربعة والدارقطني وابن حبان وله ألفاظ وأصله في صحيح مسلم من طريق أبي معمر أن أميراً كان بمكة يسلم تسليمتين فقال عبد الله يعني ابن مسعود أني علقها ، من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله . وقال العقيلي: والأسانيد صحاح ثابتة في حديث ابن مسعود في تسليمتين ولا يصح في تسلمية واحدة.
قوله: "والعمل عليه" أي على ما يدل عليه حديث ابن مسعود من أن المسنون في الصلاة تلسيمتان "عن أكثر أهل العلم الخ" وهو القول الراجح المنصور المعول عليه(2/187)
220ـ باب منه أيضاً
295ـ حدثنا محمد بن يحيى النّيْسَابُورِيّ ، أخبرنا عَمْرُو بن أبي سَلَمَةَ عن زُهَيْر بن محمدٍ عن هشامِ بن عُرْوَةَ عن أبِيهِ عن عائشةَ: " أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُسَلّمُ في الصلاةِ تَسْلِيمَةً واحدةً تِلْقَاءَ وجههِ ، يَمِيلُ إلى الشّقّ الأيْمَنِ شَيْئاً ".
قال وفي الباب عن سهلِ بن سعدٍ.
ـــــــ
"باب منه أيضاً"
قوله: "عن زهير بن محمد" قال الحافظ في التقريب: زهير بن محمد التيمي أبو المنذر سكن الشام ثم الحجاز ورواية أهل الشام عنه غير مستقيمة فضعف بسببها. قال البخاري عن أحمد: كان زهيراً الذي يروى عنه الشاميون آخر. وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه فكثر غلطله انتهى.
قوله: "كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه" فيه دلالة على مشروعية التسليمة الواحدة في الصلاة لكن الحديث ضعيف فإنه رواه عن زهير بن محمد عمرو بن أبي سلمة وهو شامي ورواية أهل الشام عنه ضعيفة. وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح. أما رواية عمرو بن أبي سلمة التنيسي يعين عن زهير بن محمد فبواطيل انتهى. وقال في الفتح ذكر العقيلي وابن عبد البر كن حديث التسليمة الواحدة معلول ، وبسط بن عبد البر الكلام على ذلك انتهى.
قوله: "وفي الباب عن سهل بن سعد" أخرجه ابن ماجه بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ، وفي إسناده عبد المهيمن بن عباس بن سهل(2/188)
قال أبو عيسى: وحديثُ عائشةَ لا نعرفُهُ مرفوعاً إلا من هذا الوجه.
قال محمدُ بنُ إسماعيل: زُهَيْرُ بنُ محمدٍ أهْلُ الشّأْم يَرْوُونَ عنه مَنَاكِيرَ ، وَرِوَايَةُ أهلِ العراقِ أشْبَهُ".
قال محمدٌ: وقال أحمدُ بنُ حَنبل: كَأَنّ زُهَيْرَ بنَ محمدٍ الذي كان وقعَ عندَهُم ليسَ هو هذا الذي يُرْوَى عنه بالعراقِ ، كأنّهُ رجلٌ آخرُ ، قَلَبُوا اسْمُهُ.
قال أبو عيسى: وقد قالَ به بعضُ أهلِ العلمِ في التّسْلِيمِ في الصلاة: وأصَحّ الرّوَايَاتِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمَتَينِ. وعليه أكْثَرُ أهلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم والتابعينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
ـــــــ
بن سعد ، وقد قال البخاري إنه منكر الحديث ، وقال النسائي متروك كذا في النيل.
وفي الباب أحاديث أخرى كلها ضعيفة ذكرها الزيلعي في نصب الراية مع بيان ضعفها.
قوله: "وحديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه" والحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم في المستدرك وقال على شرط الشيخين. قال صاحب التنقيح: وزهير بن محمد وإن كان من رجال الصحيحين لكن له مناكير. وهذا الحديث منها. قال أبو حاتم: هو حديث منكر والحديث أصله الوقف على عائشة هكذا رواه الحفاظ انتهى. وقال النووي في الخلاصة: هو حديث ضعيف ولا يقبل تصحيح الحاكم له وليس في الاقتصار على تسليمة واحدة شيء ثابت انتهى ، كذا في نصب الراية.
قوله: "ورواية أهل العراق أشبه" أي رواية أهل العراق عن زهير بن محمد أشبه بالصواب والصحة "كأن" من الحروف المشبهة بالفعل "والذي كان وقع عندهم" أي عند أهل الشام "ليس هو هذا الذي يروى عنه بالعراق" أي يروى الناس عنه في العراق ، فقوله يروى بصيغة المجهول.
قوله: "وقد قال به بعض أهل العلم في التسليم في الصلاة" يعني قال بالتسليم الواحد(2/189)
وَرَأَى قومٌ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم تَسْلِيمَةً واحدةً في المكتوبة.
قال الشافِعيّ: إنْ شَاءَ سَلّمَ تسليمَةً واحدةً ، وإنْ شَاءَ سَلّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ.
ـــــــ
في الصلاة. قال الشوكاني في النيل: وذهب إلى أن المشروع تسليمة واحدة ابن عمر وأنس وسلمة بن الأكرع وعائشة من الصحابة ، والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز من التابعين ، ومالك والأوزاعي والإمامية وأحد قولي الشافعي وغيرهم ، قال والحق ما ذهب إليه الأولون يعني القائلين بالتسلمتين لكثرة الأحاديث الواردة بالتسليمتين وصحة بعضها وحسن بعضها واشتمالها على الزيادة ، وكونها مثبتة بخلاف الأحاديث الواردة في التسليمة الواحدة ، فإنها مع قلتها ضعيفة لا تنتهض للاحتجاج ، ولو سلم أنتهاضها لم تصللح لمعارضته أحاديث التسليمتين لما عرفت من اشتمالها على الزيادة انتهى كلام الشوكاني.
قوله: "قال الشافعي إن شاء سلم تسليمة واحدة وإن شاء تسليمتين" كذا قال الترمذي، وقال النووي في شرح مسلم تحت حديث سعد رضي الله عنه ، قال: كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره إلخ فيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف أنه يسن تسليمتان انتهى فكلام النووي ، هذا خلاف ما حكاه الترمذي عن الشافعي. فالظاهر أن للشافعي في هذه المسألة قولين.(2/190)
221ـ باب ما جاء أنّ حذف السلام سنة
296ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ ـ أخبرنا عبدُ الله بنُ المباركِ و هِقْلُ بنُ زِيَادٍ
ـــــــ
"باب ما جاء أنّ حذف السلام سنة"
قال ابن الأثين: حذف السلام هو تخفيفه وترك الإطالة فيه ، يدل عليه حديث النخعي التكبير جزم والسلام جزم فإنه إذا جزم السلام وقطعه فقد خففه وحذفه انتهى.
قوله: "والهقل بن زياد" بكسر أوله وسكون القاف ثم لام قيل هو لقب واسمه(2/190)
عن الأوْزَاعِيّ عن قُرّةَ بن عبدِ الرحمَنِ عن الزّهْرِيّ عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيرةَ قال: " حَذْفُ السّلاَمِ سُنّةٌ ".
قال عليّ بنُ حُجْرٍ: و قال عبدالله بن المُبَارَكِ: يَعْنِي أنْ لاَ يَمُدّهُ مَدّا.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. وهو الذي يَسْتَحِبّهُ أهلُ العلمِ.
وَرُوِيَ عن إبراهيمَ النّخَعِيّ أنه قال: التكبيرُ جَزْمٌ ، والسلامُ جَزْمٌ . وهِقْلٌ "يُقَالُ: كانَ" كاتبَ الأوْزَاعِيّ.
ـــــــ
محمد أو عبد الله وكان كاتب الأوزاعي ثقة كذا في التقريب.
قوله: "حذف السلام" بفتح الماء المهملة وسكون الذال المعجمة بعدها فاء هو ما نقل الترمذي عن ابن المبارك" أي تمده مداً يعني يترك الإطالة في لفظه ويسرع فيه. وقال ابن سيد الناس: قال العلماء يستحب أن يدرج لفظ السلام ولا يمده مداً ، لا أعلم في ذلك خلافاً بين العلماء انتهى "سنة" قال ابن سيد الناس: وهذا مما يدخل في المسند عند أهل الحديث أو أكثرهم وفيه خلاف عند الأصوليين معروف انتهى. "وقال ابن المبارك يعني أن تمده مداً" وقد أسند الحاكم عن أبي عبد الله أنه سئل عن حذف السلام فقال لا يمد ، كذا في المقاصد الحسنة للسخاوي.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وابن خزيمة والحاكم. قال الحافظ في التلخيص: وقال الدارقطني في العلل: الصواب موقوف وهو من رواية قرة بن عبد الرحمن وهو ضعيف اختلف فيه انتهى.
قوله: "التكبير جزم والسلام جزم" أي لا يمدان ولا يعرب أواخر حروفهما بل يسكن فيقال الله أكبر السلام عليكم ورحمة الله والجزم القطع منه سمى جزم الإعراب وهو السكون كذا في النهاية لأبن الأثير الجزري وقال الحافظ في التلخيص ، صفحة : حذف السلام الإسراع به وهو المراد بقوله جزم ، وأما ابن الأثير في النهاية فقال:(2/191)
ـــــــ
معناه أن التكبير والسلام لا يمدان ولا يعرب التكبير بل يسكن آخره ، وتبعه المحب الطبري وهو مقتضى كلام الرافعي في الاستدلال به على أن التكبير جزم لا يمد. قال الحافظ: وفيه نظر لأن استعمال لفظ الجزم في مقابل الإعراب اصطلاح حادث لأهل العربية ، فكيف يحمل عليه الألفاظ النبوية انتهى ما في التلخيص.
تنبيه: قال الرافعي في شرح الوجيز: روى أنه روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: التكبير جزم والسلام جزم. قال الحافظ في التلخيص: لا أصل له بهذا اللفظ ، وإنما هو قول إبراهيم النخعي حكاه الترمذي عنه انتهى. وقال السخاوي في المقاصد الحسنة: حديث التكبير جزم لا أصل له في المرفوع مع وقوعه في كتبا الرافعي وإنما هو حق من قول إبراهيم النخعي حكاه الترمذي في جامعه ، ومن جهته رواه سعيد بن منصور في سننه بزيادة: والقراةء جزم والأذان جزم ، وفي لفظ عنه كانوا يحزمون التكبير انتهى.(2/192)
222ـ باب ما يقولُ إذا سلّمَ
297ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ ، حدثنا أبو معاوِيَةَ عن عاصِمٍ الأحْوَلِ عن عبد الله بنِ الحارِث عن عائشةَ قالت: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا سَلّمَ لاَ يَقْعُدُ إلاّ مِقدارَ ما يقُولُ اللّهُمّ أنْتَ السّلاَمُ ، ومِنْكَ السّلاَمُ ، تَبَارَكْتَ
ـــــــ
"باب ما يقولُ إذا سلّمَ"
قوله: "عن عبد الله بن الحارث" البصري تابعي روى عن عائشة وأبي هريرة وعنه عاصم الأحول وغيره وثقه أبو زرعة والنسائي.
قوله: "إذا سلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول الخ" أي في بعض الأحيان ، فإنه قد ثبت قعوده صلى الله عليه وسلم بعد السلام أزيد من هذا المقدار "اللهم أنت السلام" هو من أسماء الله تعالى أي أنت السليم من المعائب والاَفات ومن كل نقص "ومنك السلام"(2/192)
ذَا الجَلاَلِ والإكْرَام".
298ـ حدثنا هَنّاد بن السّرى حدثنا مروانُ بنُ معاويةَ "الفزاريّ و أبو معاويةَ عن عاصمٍ الأحْوَلِ بهذا الإسنادِ نحْوَهُ ، وقال: "تَبَارَكْتَ يَا ذا الجلالِ والإكْرَامِ".
قال وفي الباب عن ثَوْبَانَ وابنِ عُمَرَ وابنِ عباسٍ وأبي سعيدٍ وأبي هريرةَ والمغيرةِ ابنِ شعبةَ.
ـــــــ
هذا بمعنى السلامة أي أنت تعطي السلامة وتمنعها. قال الشيخ الجزري في تصحيح المصابيح: وأما ما يزداد بعد قوله ومنك السلام وإليك يرجع السلام فحينا ربنا بالسلام وأدخلنا دارك السلام فلا أصل له بل مختلق بعض القصاص ، كذا في المرقاة "تباركت" من البركة وهي الكثرة والنماء أي تعاظمت إذا كيرت صفات الملك جلالك وكمالك "ذا الجلال والإكرام" أي يا ذا الجلال بحذف حرف النداء: والجلال العظمة ، والإكرام الإحسان "وقال تباركت يا ذا الجلال والإكرام" أي قال هناد في روايته يا ذا الجلال والإكرام بزيادة لفظ يا.
قوله: "وفي الباب عن ثوبان وابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة والمغيرة ابن شعبة" أما حديث ثوبان فأخرجه الجماعة إلا البخاري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال اللهم أنت السلام منك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، وأما حديث ابن عمر فأخرجه الخمسة وصححه الترمذي كذا في المنتقى. قلت أخرجه الترمذي في الدعوات. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الشيخان قال: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير.
وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أبو يعلى عن أبي هريرة قال: قلنا لأبي سعيد هل حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كان يقوله بعد ما سلم: قال نعم كان يقول: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(2/193)
قال أبو عيسى: حديثُ عائشَة حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقد روى خالد الحذّاء هذا الحديث من حديث عاشئة عن عبدالله بن الحارث: نحو حديث عاصم.
وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقولُ بعد التسليمِ: " لا إلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحمدُ يُحْيي ويمِيتُ وهوَ على كُلّ شَيءِ قديرٌ ، اللّهُمّ لا مانعَ لِمَا أعْطَيْتَ ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلا يَنْفَعُ ذا الجَدّ مِنْكَ الجَدّ".
ـــــــ
قال الهيثمي في مجمع الزوائد رجاله ثقات انتهى. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان قال: إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العى الحديث. وأما حديث المغيرة بن شعبة فأخرجه الشيخان بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحديث.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.
قوله: "وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يقول بعد التسليم لا إله إلا الله إلخ" أخرجه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة بدون لفظ يحيى ويميت قال الحافظ في الفتح: زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة: يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير إلى قدير ، ورواته موثقون ، وثبت مثه عند البزار من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند صحيح لكن في القول إذا أصبح وإداء أمسى انتهى "لا ينفع ذا الجد منك الجد" بفتح الجيم في اللفظين أي لا ينفع صاحب الغنى منك غناه وإنما ينفعه العمل الصالح. قال الحافظ في الفتح: قال الخطابي الجد الغنى ويقال الحظ قال: ومن في قوله منك بمعنى البدل قال الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة
...
مبردة باتت على الظمآن
بريد ليت لنا بدل ما زمزم انتهى. وفي الصحاح معنى منك هنا ، عندك أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه ، إنما ينفعه العمل الصالح. وقال ابن التين: الصحيح عندي أنها ليست بمعنى البدل ولا عند بل هو كما تقول ولا ينفعك مني شيء إن أنا أردتك بسوء ، ولم يظهر من كلامه معنى ، ومقتضاه أنها بمعنى عند أوفيه حذف تقديره من قضائي أو سطوتي أو عذابي. واختار الشيخ جمال الدين في المغنى الأول ، قال. والجد مضبوط في جميع الروايات بفتح الجيم(2/194)
ورُوِيَ أنه كان يقولُ: "سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ العِزّةِ عَمّا يَصِفُونَ، وسلامٌ على المرسَلِينَ، والحمدُ لله رَبّ العالَمِينَ".
299ـ حدثنا أحمدُ بن محمد بن موسى ، قال عبدالله بن المبارك أخبرنا الأوْزاعِيّ حدثني شَدّادٌ أبو عَمّارٍ حدثني أبو أسمَاء الرّحَبِيّ قال حدثني ثَوْبَانُ مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أرادَ أنْ يَنْصَرِفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ "الله" ثَلاَثَ مَرّاتٍ ثُمّ قالَ: أنْتَ السّلاَمُ.
ـــــــ
ومعناه الغنى أو الحظ. وقال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه بالفتح وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد أو العظمة أو السلطان ، والمعنى لا ينجيه حظه منك وإنما ينجيه فضلك ورحمتك انتهى كلام الحافظ ملخصاً.
قلت: فالجد بفتح الجيم الراجح المعول عليه ، وأما الجد بكسر الجيم فقد حكى عن أبي عمر والشيباني أنه رواه بالكسر قال القرطبي ولا يستقيم معناه هنا إلا بتكليف ، قيل معناه لا ينفع ذا الاجتهاد وأنكره الطبري. وقال القزاز في توجيه إنكاره الاجتهاد في العمل نافع لأن الله تعالى قد دعا الخلق إلى ذلك فكيف لا ينفع عنده قال: فيحتمل أن يكون المراد أنه لا ينفع الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع أمر الاَخرة ، وقيل لعل المراد أنه لا ينفع بمجرده مالم يقارنه القبول ، وذلك لا يكون إلا بفضل ورحمته.
قوله: "وروى أنه كان يقول سبحان ربك إلخ" أخرجه أبو يعلى كما عرفت "رب العزة" أي الغلبة بدل من ربك "عما يصفون" بأن له ولداً "وسلام على المرسلين" أي المبلغين عن الله التوحيد والشرائع "والحمد لله رب العالمين" على نصرهم وهلاك الكافرين.
قوله: "أخبرنا شداد أبو عمار" هو شداد بن عبد الله القرشي الدمشقي ثقة "قال حدثني أبو أسماء الرحبي" اسمه عمر بن مرثد ويقال اسمه عبد الله من الثالثة مات في خلافه عبد الملك كذا في التقريب.
قوله: "إذا أراد أن ينصرف من صلاته" وفي رواية مسلم إذا انصرف من(2/195)
ومِنْكَ السّلاَمُ تَبَارَكْتَ يا ذا الجْلاَلِ الإكْرَامِ".
قال: أبو عيسى هذا حديثٌ حسن صحيحٌ. وأبو عَمّارٍ اسْمُهُ شَدّادُ بنُ عبدِ الله.
ـــــــ
صلاته. قال النووي: المراد بالانصراف السلام "استغفر ثلاث مرات" قال مسلم في صحيحه بعد رواية هذا الحديث: قال الوليد فقلت للأوزاعي كيف الاستغفار؟ قال يقول: أستغفر الله أستغفر الله ، وقد استشكل استغفاره صلى الله عليه وسلم مع أنه مغفور له. قال ابن سيد الناس: هو وفا ء بحق العبودية وقيام بوظيفة الشكر ، كما قال: أفلا أكون عبداً شكوراً ، وليبين للمؤمنين سنته فعلاً كما بينها قولاً في الدعاء والضراعة ، ليقتدي به في ذلك انتهى "أنت السلام" وفي رواية غير التمرمذي اللهم أنت السلام.
قوله: "هذا حديث صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري.
فائدة: قال الحافظ بن القيم في زاد المعاد: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقل القبلة أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلاً ، ولا روى عنه بإسناد صحيح ولا حسن. وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه ولا أرشد إليه أمته ، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضاً من السنة بعدهما والله أعلم. وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها ، وهذا هو اللائق بحال المصلي فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة فإذا سلم منها انقطعت تلك المناجاة ، وزاد ذلك الموقف بين يديه والقرب منه ، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه ثم يسأل إذا انصرف عنه ، ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلى ، إلا أن ههنا نكتة لطيفة وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته وذكر الله وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة استحب له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ويدعو ما شاء يكون دعاءه عقيب هذه العبادة الثانية لا لكونه دبر الصلاة ، فإن كل من ذكر الله وحمده وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم استجيب له الدعاء عقيب ذلك ، كما في حديث فضالة بن عبيد: إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء. قال الترمذي: حديث صحيح، انتهى كلام ابن القيم وتعقبه الحافظ بن حجر(2/196)
ـــــــ
كما نقله القسطلاني في المواهب بقوله: ما ادعاه من النفي مطلقاً مردود فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " يا معاذ والله إني لأحبك فلا تدع دبر كل صلاة أن نقول اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " . أخرجه أبو داود النسائي ، وحديث زيد بن أرقم: "سمعته صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر الصلاة اللهم ربنا ورب كل شيء " . أخرجه أبو داود والنسائي ، وحديث صهيب رفعه. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة يقول: "اللهم أصلح لي ديني" الحديث. أخرجه النسائي وصححه ابن حبان وغير ذلك.
فإن قيل: المراد بدبر الصلاة قرب آخرها وهو التشهد.
قلت: قد ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة والمراد به بعد السلام إجماعاً ، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه. وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة قيل: أي الدعاء أسمع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جوف الليل الأخير ، ودبر الصلوات المكتوبات. وأخرج الطبراني من رواية جعفر بن محمد الصادق قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة.
وفهم كثير من الحنابلة أن مراد القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقاً ، وليس كذلك ، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار المصلى القبلة وإيراده عقب السلام ، وأما إذا نفل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ انتهى كلامه.
قلت: لا ريب في ثبوت الدعاء بعد الانصراف من الصلاة المكتوبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، وقد ذكره الحافظ بن القيم أيضاً في زاد المعاد حيث قال في فصل: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد انصرافه من الصلاة ما لفظه: وقد ذكر أبو حاتم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند إنصرافه من صلاته اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري ، واصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي ، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من نقمتك ، وأعوذ بك منك لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. وذكر الحاكم في مستدركه عن أبي أيوب أنه اللهم اغفر خطاياي وذنوبي كلها ، اللهم ابعثني واحيني وارزقني(2/197)
ـــــــ
واهدني لصالح الأعمال والأخلاق إنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف إلا أنت. وذكر ابن حبان في صحيحه عن الحارث بن مسلم التميمي قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا صليت الصبح فقل قبل أن تتكلم اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك من مت من يومك كتب الله لك جواراً من النار، وإذ صليت المغرب قبل أن تتكلم: اللهم أجرني من النار سبع مرات، فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جواراً من النار". انتهى كلام ابن القيم.
فقوله: أما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم لا أدري ما معناه وما مراده بهذا إلا أن يقال: نفاه بقيد استمرار المصلى القبلة وإيراده عقب السلام كما قال الحافظ والله تعالى أعلم.
فائدة: اعلم أن علماء أهل الحديث قد اختلفوا في هذا الزمان في أن الإمام إذا انصرف من الصلاة المكتوبة هل يجوز له أن يدعو رافعاً يديه ويؤمن من خلفه من المأمومين رافعي أيديهم فقال بعضهم بالجواز ، وقال بعضهم بعدم طناً منهم أنه بدعة ، قالوا إن ذلك لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صحيح بل هو أمر محدث وكل محدث بدعة وأما القائلون بالجواز فاستدلوا بخمسة أحاديث.
الأول: حديث أبي هريرة. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره ص172ج : قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو معمر المقري حدثني عبد الوارث حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه بعدما سلم وهو مستقبل القبلة فقال: اللهم خلص الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً من أيدي الكفار. وقال ابن جرير: حدثنا المثنى حدثنا حجاج حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر: "اللهم خلص الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وضعفه المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً". ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم انتهى ما في تفسير ابن كثير.
قلت: وفي سند هذا الحديث علي بن زيد بن جدعان وهو متكلم فيه.
الحديث الثاني: حديث عبد الله بن الزبير ، ذكر السيوطي في رسالته فض الوعاء(2/198)
ـــــــ
عن محمد بن يحيى الأسلمي قال: رأيت عبد الله بن الزبير ورأى رجلاً رافعاً يديه قبل أن يفرغ من صلاته فلما فرغ منها قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من صلاته. قال رجاله ثقات.
قلت: وذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رواه الطبراني وترجم له فقال محمد بن يحيى الأسلمي عن عبد الله بن الزبير ورجاله ثقات انتهى.
الحديث الثالث: حديث أنس أخرجه الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني في كتابه عمل اليوم والليلة قال: حدثني أحمد بن الحسن حدثنا أبو إسحاق يعقوب بن خالد بن يزيد البالسي حدثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي عن خصيف عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من عبد بسط كفيه في دبر كل صلاة ثم يقول اللهم إلهي وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإله جبريل وميكائيل وإسرافيل أسألك أن تستجيب دعوتي فإني مضطر وتعصمني في ديني فإني مبتلي وتنالني برحمتك فإني مذنب وتنفي عني الفقر فإني متمسكن" إلا كان حقاً على الله عز وجل أن لا يرد يديه خائبتين.
"قلت: في سنده عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي. قال في الميزان: اتهمه أحمد ، وقال بن حبان: كتبنا عن عمر بن سنان عن إسحاق بن خالد عنه نسخة ثبتها بمائة حديث مقلوبة منها ما لا أصل له ومنها ما هو ملزق بإنسان لا يحل الاحتجاج به بحال. وقال النسائي وغيره: ليس بثقة ، وضرب أحمد بن حنبل على حديثه انتهى.
الحديث الرابع: حديث الأسود العامري عن أبيه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر فما سلم انحرف ورفع يديه ودعا" الحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه كذا ذكر بعض الأعلام هذا الحديث بغير سند وعزاه إلى المصنف ولم أقف على سنده فالله تعالى أعلم كيف هو صحيح أو ضعيف.
الحديث الخامس: حديث الفضل بن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة مثنى مثنى ، تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن ثن تقنع يديك ، يقول ترفعهما إلى ربك مستقبلاً ببطونهما وجهك وتقول يا رب يا رب ، ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا ، وفي رواية: فهو خداج" . رواه الترمذي:
واستدلوا: أيضاً بعموم أحاديث رفع اليدين في الدعاء قالوا: إن الدعاء بعد الصلاة المكتوبة مستحب مرغب فيه ، وأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء(2/199)
ـــــــ
بعد الصلاة المكتوبة وأن رفع اليدين من آداب الدعاء ، وأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع اليدين في كثير من الدعاء. وأنه لم يثبت المنع عن رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة المكتوبة ، بل جاء في ثبوته الأحاديث الضعاف ، قالوا فبعد ثبوت هذه الأمور الأربعة وعدم ثبوت المنع لا يكون رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة المكتوبة بدعة سيئة بل هو جائز لا بأس على من يفعله.
أما الأول والثاني فقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة قيل: "يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير ، ودبر الصلوات المكتوبات" . وقال هذا حديث حسن. وأخرج النسائي في سننه عن عطاء بن مروان عن أبيه أن كعباً حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى إنا لنجد في التوراة أن داود نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته قال اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة ، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي ، الحديث وفي آخره قال وحدثين كعب أن صهيباً حدثه أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يقولهن عند إنصرافه من صلاته والحديث صححه ابن حبان كما في فتح الباري وقد تقدم في كلام ابن القيم حديث أبي أيوب وحديث الحارث بن مسلم في الدعاء بعد الصلاة المكتوبة. وأما الثالث والرابع فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه من حديث سلمان رفعه " إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً " بكسر المهملة وسكون الفاء أي خالية. قال الحافظ سنده جيد. وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" الحديث وفيه "ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطمعه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، فأني بستجاب، لذلك". وقال الحافظ في الفتح: فيه أحاديث كثيرة أفردها المنذري في جزء سرد منها النووي في الأذكار وفي شرح المهذب جملة وعقد لها البخاري أيضاً في الأدب المفرد باباً ذكر فيه حديث أبي هريرة :"قدم الطفيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن دوساً عصت فادع الله عليها ، فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم اهد دوساً " : وهو في الصحيحين دون قوله: ورفع يديه. وحديث جابر أن الطفيل بن عمر وهاجر فذكر قصة الرجل الذي هاجر معه وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"اللهم ولينيه فاغفر ، ورفع يديه،(2/200)
ـــــــ
وسنده صحيح ، وأخرجه مسلم. وحديث عائشة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو رافعاً يديه يقول: اللهم إنما بشر الحديث ، وهو صحيح الإسناد ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك ما أخرجه المصنف يعني البخاري في جزء رفع اليدين: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه يدعو لعثمان. ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة في قصة الكسوف: فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه يدعو. وعنده في حديث عائشة في الكسوف أيضاً: ثم رفع يديه وفي حديثها عنده في دعائه لأهل البقيع فرفع يديه ثلاث مرات الحديث. ومن حديث أبي هريرة الطويل في فتح مكة: فرفع يديه وجعل يدعو. وفي الصحيحين من حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية: ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه يقول: اللهم هل بلغت. ومن حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قول إبراهيم وعيسى فرفع يديه وقال اللهم أمتى. وفي حديث عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل الله عليه يوماً ثم سرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه فدعا ، الحديث. أخرجه الترمذي واللفظ له والنسائي والحاكم. وفي حديث أسامة: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فرفع يديه يدعو فمات به ناقته فسقط خطامها فتناوله بيده وهو رافع اليد الأخرى ، أخرجه النسائي بسند جيد. وفي حديث قيس بن سعد عند أبي داود: ثم رفع رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول: اللهم صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة ، الحديث ، وسنده جيد. والأحاديث في ذلك كثيرة انتهى كلام الحافظ.
قلت: وفي رفع اليدين في الدعاء رسالة للسيوطي سماها فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء.
واستدلوا أيضاً بحديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: "أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال: يا رسول الله هكلت الماشية ، هلك العيال ، هلك الناس ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو ، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون" ، الحديث، رواه البخاري. قالوا هذا الرفع هكذا وإن كان في دعاء الاستسقاء ، لكنه ليس مختصاً به ، ولذلك(2/201)
ـــــــ
استدل البخاري في كتاب الدعوات بهذا الحديث على جواز رفع اليدين في مطلبق الدعاء.
قلت: القول الراجح عندي أن رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة جائز لو فعله أحد لا بأس عليه إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
تنبيه: إعلم أن الحنفية في هذا الزمان يواظبون على رفع اليدين في الدعاء بعد كل مكتوبة مواظبة الواجب ، فكأنهم يرونه واجباً ، ولذلك ينكرون على من سلم من الصلاة المكتوبة وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، ثم قالم ولم يدع يرفع يديه. وصنيعهم هذا مخالف لقول إمامهم الإمام أبي حنيفة ، وأيضاً مخالف لما في كتبهم المعتبرة ، قال العيني في عمدة القاري: قال أبو حنيفة: كل صلاة يتنفل بعدها يقوم ، ما لا يتنفل بعدها كالعصر والصبح فهو مخير ، وهو قول أبي مجلز لا حق ابن حميد انتهى ، وقال في البحر الرائق: ولم يذكر المصنف ما يفعله بعد السلام ، وقد قالوا إن كان إماماً وكانت صلاة يتنفل بعدها بإنه يقوم ويتحول عن مكانه إما يمنة أو يسرة أو خلفه والجلوس مستقبلاً بدعة ، وإن كان لا يتنفل بعدها يقعد مكانه وإن شاء انحرف يميناً أو شمالاً وإن شاء استقبلهم بوجهه انتهى. وقال في العالم كيرية. وإذا سلم الإمام من الظهر والمغرب كره له المكث قاعداً ، لكنه يقوم إلى التطوع ولا يتطوع في مكان الفريضة، ولكن ينحرف يمنة أو يسرة أو يتأخر ، وإن شاء رجع إلى بيته ، يتطوع فيه وإن كان مقتدياً ، أو يصلي وحده إن لبث في مصلاه يدعو جاز ، وكذا إن قام إلى التطوع في مكانه أو تأخر أو انحرف يمنة أو يسرة جاز والكل سواء. وفي صلاة لا تطوع بعدها كالفجر والعصر يكره المكث قاعداً في مكانه مستقبل القبلة ، والنبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا بدعة ، ثم هو بالخيار إن شاء ذهب وإن شاء جلس في محرابه إلى طلوع الشمس وهو أفضل، ويستقبل القوم بوجهه إذا لم يكن بحذائه مسبوق ، فإن كان ، ينحرف يمنة أو يسرة ، والصيف والشتاء سواء هو الصحيح كذا في الخلاصة انتهى.(2/202)
باب: ما جاء فى الانصراف عن يمينه وعن يساره
...
223ـ باب ما جاءَ في الانصراف عن يَمِينهِ وعن شماله
300ـ حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا أبو الأحْوَصِ عن سِمَاكِ بن حربٍ عن قَبِيصَةَ بنِ هُلْب عن أبيهِ قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَؤمّنَا فَيَنْصَرِفُ على جانِبَيْهِ جميعاً عَلَى يَمِينِهِ وعَلَى شِمالِهِ".
وفي الباب: عن عبد الله بن مسعود وأنسٍ وعبدِ الله بن عَمْرٍو وأَبِي هُرَيْرَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ هُلْبٍ حديثٌ حسَنٌ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الانصراف عن يَمِينهِ وعن شماله"
قوله: "فينصرف على جانبيه جميعاً " وفي رواية أبي داود: فكان ينصرف عن شقيه "على يمينه وعلى شماله" بيان لقوله على جانبيه أي حيناً على يمينه وحيناً على شماله.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وأنس وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة" أما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه الجماعة إلا الترمذي قال: لا يجعلن أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته يرى أن حقاً عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن يساره ، وفي لفظ: أكثر إنصرافه عن يساره. وأما حديث أنس فأخرجه مسلم والنسائي قال: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه ابن ماجه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة. وأما حديث أبي هريرة فلم أقف على من أخرجه.
قوله: "حديث هلب حديث حسن" وصححه ابن عبد البر في الاستيعاب وذكره عبد الباقي بن قانع في معجمه من طرق متعددة وفي إسناده قبيصة بن هلب وقد رماه(2/203)
والعمل عليه عندَ أهلِ العلمِ: أنه يَنْصَرِفُ على أيّ جَانِبَيْهِ شاءَ ، إنْ شاءَ عن يمِينِهِ ، وإن شاءَ عن يسارِهِ.
وقد صَحّ الأمْرَانِ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
ويُرْوَى عن عليّ بنِ أبي طالِبٍ أنه قال: إنْ كانت حاجتُهُ عن يمِينِهِ أخَذَ عن يمينِهِ، وإنْ كانتْ حاجتُهُ عن يسارِهِ أخَذَ عن يسارِهِ.
ـــــــ
بعضهم بالجهالة ، ولكنه وثقه العجلي وابن حبان ، ومن عرفه حجة على من لم يعرف ، كذا في النيل. والحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه.
قوله: "وقد صح الأمران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ففي حديث عبد الله بن مسعود المذكور: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن يساره. وفي حديث أنس المذكور أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه.
فإن قلت: قد استعمل كل واحد منهما صيغة أفعل التفضيل فظاهر قول أحدهما ينافي ظاهر قول الاَخر ، فما وجه التوفيق؟
قلت: قال النووي: يجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كل منهما بما اعتقد أنه الأكثر. وقال الحافظ: ويمكن الجمع بينهما بوجه آخر وهو أن يحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد ، لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت من جهة يساره ، ويحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر ، ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود لأنه أعلم وأسن وأجل وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى مواقفه في الصلاة من أنس ، وبأن في إسناد أنس من تكلم فيه وهو السدى ، وبأن حديث ابن مسعود متفق عليه ، وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال ، لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كان على جهة يساره انتهى كلام الحافظ.
قلت: الظاهر عندي هو الجمع الأول والله تعالى أعلم.(2/204)
ـــــــ
قوله: "ويروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: إن كانت حاجته عن يمينه أخذ عن يمينه إلخ." أخرجه ابن أبي شيبة ولفظه: قال إذا قضيت الصلاة وأنت تريد حاجة فكانت حاجتك عن يمينك أو عن يسارك فخذ نحو حاجتك انتهى. قال في النيل: قال العلماء: يستحب الإنصراف إلى جهة حاجته ، لكن قالوا إذا استوت الجهتان في حقه فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل التيامن انتهى.(2/205)
224ـ باب ما جاء في وصْفِ الصّلاة
301ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ ، أخبرنا إسْمَاعِيلُ بن جعفَرٍ عن يحيى بنِ عليّ بنِ يحيى بنِ خَلاّدِ بنِ رافعٍ الزّرَقِيّ عن جَدّهِ عن رِفَاعَةَ بنِ رافعٍ "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هو جالسٌ في المسجِدِ يوماً ، قال رفاعةُ: ونحنُ معه. إذْ جاءَهُ رجلٌ كَالْبَدَوِيّ ، فصلى ، فَأَخَفّ
ـــــــ
"باب ما جاء في وصْفِ الصّلاة"
قوله: "حدثنا اسماعيل بن جعفر" بن أبي كثير الأنصاري الزرقي أبو إسحاق القاري ثقة ثبت توفي سنة ثمانين ومائة "عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي" بضم الزاء وفتح الراء وبعدها قاف المدني مقبول من السادسة قاله في التقريب "عن جده" وفي رواية النسائي عن أبيه عن جده وأبو علي بن يحيى بن خلاد ثقة وجده يحيى بن خلاد بن رافع له رواية وذكره بن حبان في ثقات التابعين "عن رفاعة بن رافع" بن مالك بن العجلان أبي معاذ الأنصاري صحابي بدري جليل.
قوله: "بينما هو جالس في المسجد" أي في ناحيته كما في حديث أبي هريرة عند الشيخين إذا جاءه رجل كالبدوي هذا الرجل هو خلاد بن رافع جد علي بن يحيى راوي الخبر بينه ابن أبي شيبة عن عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن علي بن يحيى عن رفاعة أن خلاداً دخل المسجد ، قاله الحافظ. وقال وأما ما وقع عند الترمذي: إذ جاء رجل كالبدوي فصلى فأخف صلاته فهذا لا يمنع تفسيره بخلاد لأن رفاعة شبهه بالبدوي لكونه أخف الصلاة أو لغير ذلك انتهى "فصلى" زاد النسائي من رواية داود بن قيس ركعتين.(2/205)
صلاتَه ، ثم انصرَف فَسَلم عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: وعَلَيْكَ ، فَارْجِعْ فَصَلّى فإِنّكَ لم تُصَلّ فَرَجَعَ فصلّى ، ثم جاء فسلمَ عليه ، فقال: وعليك ، فارجعْ فصلّ فإنك لم تُصَلّ مرتينِ أو ثلاثاً ، كُلّ ذلك يأْتِي النبيّ صلى الله عليه وسلم فَيُسَلّمُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيقولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
قال الحافظ: وفيه إشعار بأنه صلى نفلا والأقرب أنها تحية المسجد "فأخف صلاته" وفي رواية ابن أبي شيبة فصلى صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها "ثم انصرف" أي من صلاته "فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم" قال القاري في المرقاة: قدم حق الله على حق رسوله كما هو أدب الزيارة لأمره عليه السلام بذلك لمن سلم عليه قبل صلاة التحية فقال له أرجع فصل ثم ائت فسلم علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم وعليك وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة: فقال وعليك السلام "فارجع فصل فإنك لم تصل" قال عياض: فيه أن أفعال الجاهل في العبادة على غير علم لا تجزئ ، وهو مبني على أن المراد بالنفي نفي الإجزاء وهو الظاهر ، ومن حمله على نفي الكمال تمسك بأنه بأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بعد التعليم بالإعادة ، فدل على إجزائها وإلالزم تأخير البيان ، كذا قاله بعض المالكية وفيه نظر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمره في المرة الأخيرة بالإعادة فسأله التعليم فعلمه ، فكأنه قال له: أعد صلاتك على هذه الكيفية ، أشار إلى ذلك بن المنير كذا في الفتح "مرتين أو ثلاثاً" وفي رواية للبخاري ثلاثاً بغير الشك "كل ذلك يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم" فيه استحباب تكرار السلام ورده وإن لم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال "فعاف الناس" أي كرهوا "وكبر عليهم" بضم الباء وفاعله قوله: "أن يكون من أخف صلاته لم يصل" أي عظم ذلك عليهم وخافوا منه "فقال الرجل في آخر ذلك فأرني" صيغة أمر من الإراءة "وعلمني" قال ابن الملك في شرح المشارك: فإن قيل: لم سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن تعليمه أولاً حتى افتقر إلى المراجعة كرة بعد أخرى؟ قلنا ، لأن الرجل لما لم يستكشف الحال(2/206)
وعليكَ، فارجعْ فصلّ فإنك لم تُصَلّ ، فخافَ الناسُ وكَبُرَ عليهم أن يكونَ مَنْ أخَفّ صَلاَتَهُ لم يُصَلّ ، فقال الرجلُ في آخرِ ذلكَ: فأرِنِي وعَلّمْنِي ، فإنّمَا أنَا بَشَرٌ أُصِيبُ وأُخْطِئ ، فقالَ: أجَلْ ، إذا قُمْتَ إلى الصلاة فَتَوَضّأْ كما أَمَرَكَ الله ، ثُمّ تَشَهّد فأَقِمْ ، فإنْ كان معكَ قُرْآنٌ فَاقْرأْ ، وإلاّ فَاحْمَدْ الله وَكَبّرْهُ وَهَلّلْهُ ، ثُمّ ارْكَع فاطْمَئنّ
ـــــــ
مغتراً بما عنده سكت عن تعليمه زجراً له وإرشاداً إلى أنه ينبغي أن يستكشف ما استبهم عليه ، فلما طلب كشف الحال بينه بحسن المقال انتهى. واستشكل تقريره عليه السلام على صلاته وهي فاسدة ثلاث مرات على القول بأن النفي للصحة ، وأجيب بأنه أراد استدراجه بفعل ما جهله مرات لاحتمال أن يكون فعله ناسياً أو غافلاً فيتذكر فيفعله من غير تعليم ، فليس من باب التقرير على الخطأ بل من باب تحقق الخطأ أو بأنه لم يعلمه أولاً ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره ولتفخيم الأمر وتعظيمه عليه.
وقال ابن دقيق العيد. ليس التقرير بدليل على الجواز مطلقاً بل لا بد من انتفاء الموانع ، ولا شك أن في زيادة قبول المتعلم لما يلقى عليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة معانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم ، لا سيما مع عدم خوف الفوات إما بناء على ظاهر الحكم أو بوحي خاص انتهى "فقال أجل" أي نعم. قال في القاموس: أجل جواب كنعم إلا أنه أحسن منه في التصديق ، ونعم أحسن منه في الاستفهام "ثم تشهد" أي أذن "فأقم أيضاً" وفي رواية أبي داود ثم: تشهد فأقم وليس فيها لفظه أيضاً ، قال في المرقاة: ثم تشهد أي قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بعد الوضوء فأقم أي الصلاة. وقيل معنى تشهد أذن لأنه مشتمل على كلمتي الشهادة فأقم على هذا يراد به الإقامة للصلاة ، كذا نقله ميرك عن الأزهار انتهى ما في المرقاة. والظاهر أن المراد بقوله ثم تشهد فأقم: الأذان والإقامة ، يدل عليه لفظ أيضاً بعد قوله فأقم فإن كان معك قرآن فافرأ وفي رواية لأبي داود ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ. قال الحافظ بعد ذكر هذه الرواية: ولأحمد وابن حبان من هذا الوجه: ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت. ترجم له ابن حبان بباب فرض المصلى قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة "ثم اعتدل قائماً" وفي لفظ لأحمد فأقم:(2/207)
راكعاً ، ثم اعْتَدِلْ قَائِماً ، ثم اسجدْ فاعْتَدِلْ ساجداً ، ثم اجْلِسْ فاطْمَئِنّ جالساً ، ثم قُمْ ، فإذا فَعَلْتَ ذلك فقد تَمّتْ صَلاَتَكَ ، وإنْ انْتَقَصْتَ مِنْهُ شيئاً انْتَقَصْتَ مِنْ صلاَتك ، قال: وكان هذا أهْوَنَ عليهم من الأوّل أنّهُ مَن انْتَقصَ مِن ذَلكَ شيئاً انْتَقَصَ مِنْ صلاتِهِ وَلَمْ تَذْهَبْ كُلّها".
قال وفي الباب عن أبي هريرةَ وعَمّارِ بنِ ياسرٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ رِفَاعَةَ بنِ رافعٍ حديثٌ حسَنٌ.
وقد روي عن رفاعة هذا الحديث من غير وجهٍ.
ـــــــ
صلبك حتى يرجع العظام إلى مفاصلها "ثم اسجد فاعتدل ساجداً ثم اجلس فاطمئن جالساً " وفي رواية لأبي داود ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يقول الله أكبر ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً ثم يقول: الله أكبر ، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ، ثم يرفع رأسه فيكبر "فإذا فعلت ذلك" أي ما ذكر "فقد تمت صلاتك" أي صارت تماماً غيرنا قصة "وإن انتقصت" أي نقصت قال في القاموس: انقصة ونقصه وانتقصه نقصه "وكان هذا أهون" أي أسهل "عليهم" أي على الصحابة رضي الله عنه "من الأولى" أي من المقالة الأولى وهي فارجع فصل فإنك لم تصل "أنه من انتقص من ذلك شيئاً إلخ" بدل من قوله هذا.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وعمار بن ياسر" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان وأخرجه الترمذي أيضاً في هذا الباب وأما حديث عمار فلينظر من أخرجه.
قوله: "حديث رفاعة بن رافع حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي. وقال ابن عبد البر: هذا حديث ثابت نقله ميرك عن المنذري كذا في المرقاة.
قوله: "وقد روى عن رفاعة هذا الحديث من غير وجه" قال الحافظ في الفتح: أخرجه أبو داود والنسائي من رواية إسحاق بن أبي طلحة ومحمد بن إسحاق ومحمد بن(2/208)
302ـ حدثنا محمدُ بن بشارٍ حدثنا يحيى بن سعيدٍ القَطانُ حدثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ" : أخبرني سعيدُ بنُ أبي سيعدٍ عن أبيه عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المسجدَ ، فدخلَ رجلٌ فَصَلّى ، ثم جاء فَسَلم على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فَرَدّ عليهِ السلامَ ، فقال: ارْجعْ فَصَلّ فإنّكَ لَمْ تُصَلّ ، فرجعَ الرجلُ فصلّى كما صلى ، ثم جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسلّمَ عَلَيْهِ ، فَردّ عليه ، السّلام فقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم" ارْجعْ فَصَلّ فإنّكَ لَمْ تُصَلّ ، حتى فعل ذلك ثلاثَ مرات ، فقال له الرجلُ: والذي بعَثَكَ بالحقّ ما أُحْسِنُ غَيْرَ هذا ، فَعَلّمْنِي ، فقال: إذا قُمْتَ إلى الصّلاَةِ فَكَبّرْ ، ثم اقْرأْ بما تَيَسّر مَعَكَ مِنَ القرآنِ ، ثم ارْكَعْ حتى تَطْمَئِنّ راكِعاً ، ثم ارفَعْ حتى تَعْتَدِلَ قائِماً ، ثم اسْجُدْ حتى تَطْمَئِنّ ساجداً ، ثم ارْفَعْ حَتّى تَطْمَئِنّ جَالساً ، وافْعَلْ ذَلِكَ في صَلاَتِكَ كُلّهَا".
ـــــــ
عمرو ومحمد بن عجلان وداود بن قيس كلهم عن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرفي عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع ، فمنهم من لم يسم رفاعة قال عن عم له بدرى ، ومنهم من لم يقل عن أبيه ، ورواه النسائي والترمذي من طريق يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن جده عن رفاعة ، لكن لم يقل الترمذي عن أبيه وفيه اختلاف آخر ذكره الحافظ في الفتح.
قوله: "حدثنا عبيد الله بن عمر" هو العمري.
قوله: "فدخل رجل" هو خلاد بن رافع كما تقدم "ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً وافعل ذلك" إلخ لم يذكر في هذه الرواية السجدة الثانية ، وفي رواية البخاري ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ، ثم(2/209)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
قال وقد رَوَى ابنُ نُمَيْرٍ هذا الحديثَ عن عُبَيْدِ الله بن عُمَرَ عن سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ عن أبي هريرَةَ ، ولم يَذْكُرْ فيه عن أبيه عن أبي هريرة.
"وروايةُ يحيى بن سعيدٍ عن عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ أصَحّ" .
"وسعيد المَقْبُرِيّ قد سمَع من أبي هريرةَ ، وَرَوَى عن أبيه عن أبي هريرةَ" .
وأبو سعيدٍ المقبُرِيّ اسْمُهُ كَيْسَانُ. وسعيد المقبُرِيّ يُكْنَى أبا سَعْدٍ.
ـــــــ
اسجد حتى تطمئن ساجداً. ثم افعل ذلك في صلاتك كلها. قال الحافظ: وقع في رواية ابن نمير في الاستيذان يعني في باب الاستيذان من صحيح البخاري بعد ذكر السجود الثاني ثم ارفع حتى تطمئن جالساً. وقد قال بعضهم هذا يدل على إيجاب جلسة الاستراحة ولم يقل به أحد ، وأشار البخاري إلى أن هذه اللفظة وهو فإنه عقبه بأن قال قال أبو أسامة في الأخير: حتى تستوي قائماً ، ويمكن أن يحمل إن كان محفوظاً على الجلوس للتشهد وكلام البخاري ظاهر في أن أبا أسامة خالف ابن نمير ، لكن رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة كما قال ابن نمير بلفظ: ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم اقعد حتى تطمئن قاعداً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم اقعد حتى تطمئن قاعداً ، ثم افعل ذلك في كل ركعة. وأخرجه البيهقي من طريقه وقال كذا إسحاق بن راهويه عن أبي أسامة والصحيح رواية عبيد الله بن سعيد بن أبي قدامة ويوسف بن موسى عن أبي أسامة بلفظ ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تستوي قائماً ثم ساقه من طريق يوسف بن موسى كذلك انتهى كلام الحافظ.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "ورواية يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر أصح" أي من رواية ابن نمير(2/210)
303ـ حدثنا محمدُ بن بَشّارٍ و محمدُ بن المُثَنّى قالا: حدثنا يحيى بن سعيد "القَطّانُ" ، حدثنا عبد الحميد بن جعفرٍ ، حدثنا محمد بن عَمْرو بن عطاء عن أبي حُمَيْدٍ السّاعِدِيّ قال: "سَمِعْتُهُ وَهُوَ في عَشْرَةٍ من أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أحَدُهم أبو قَتَادَةَ بن رِبْعِي يقولُ: أنا أعْلَمُكُمْ بصلاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا: ما كُنْتَ أقْدَمَنَا له صُحْبَةً ولا أكْثَرَنا له إتْيَاناً ، قال: بَلَى ، قالوا: فَاعْرِضْ ، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامَ إلى الصلاةِ اعْتَدَلَ قَائِماً وَرَفَعَ يَدَيْهِ حتى يُحَاذِيَ بهما مَنْكِبَيْهِ ، فإذا أراد أنْ يركعَ رفعَ يَدَيْهِ حتى يُحَاذِيَ بهما مَنْكِبَيْهِ ، ثم قال: الله أكْبَر ، وركعَ ، ثم اعْتَدَلُ ، فلم يُصَوّبْ رَأْسَهُ ولم يُقْنِعْ ، ووضع يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، ثم قال: سَمِعَ الله لمن
ـــــــ
عن عبيد الله بن عمر قال الدارقطني خالف يحيى القطان أصحاب عبيد الله كلهم في هذا الإسناد ، فإنهم لم يقولوا عن أبيه ويحيى حافظ قال فيشبه أن يكون عبيد الله حدث به على الوجهين. وقال البزار لم يتابع يحيى عليه ، ورجح الترمذي رواية يحيى. قال الحافظ: لكل من الروايتين وجه مرجح ، أما رواية يحيى فللزيادة من الحافظ وأما الرواية الأخرى فللكثرة ولأن سعيداً لم يوصف بالتدليس وقد ثبت سماعه من أبي هريرة ومن ثم أخرج الشيخان الطريقين انتهى كلام الحافظ.
قوله: "قال سمعته" أي قال محمد بن عمرو وسمعت أبا حميد "وهو في عشرة" أي والحال أنه كان جالساً في عشرة "أحدهم أبو قتادة بن ربعي" بكسر الراء بعد مهملة اسمه الحارث ويقال عمرو أو النعمان شهد أحداً وما بعدها ولم يصح شهوده بدراً مات لسنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وثلاثين ، والأول أصح وأشهر كذا في التقريب "فأعرض" بهمزة وصل أي إذا كنت أعلم فاعرض وبين. قال في النهاية يقال عرضت عليه أمر كذا أو عرضت له الشيء أظهرته وأبرزته إليه إعرض بالكسر لا غير أي بين علمك بصلاته صلى الله عليه وسلم من كنت صادقاً لنوافقك إن حفظناه وإلا استفدناه(2/211)
حَمِدَهُ ، ورفع يديه واعتدلَ ، حتى يَرْجِعَ كُلّ عَظْمٍ في مَوضِعِهِ مُعْتَدِلاً ، ثم أهَوَى إلى الأرْضِ ساجداً ، ثم قال: الله أكْبَر ، ثم جَافَى عَضُدَيْهِ عن إبْطَيْهِ ، وَفَتَحَ أصابِعَ رِجْلَيْهِ ، ثم ثَنَى رِجْلَه اليسرى وَقَعَدَ عليها ثم اعْتَدَلَ حتى يَرْجِعَ كُلّ عَظْمٍ في مَوضِعِهِ مُعْتَدِلا ثم أهْوَى ساجداً ، ثم قال: الله أكْبَرُ ، ثم ثَنَى رِجْلَهُ وَقَعَدَ واعْتَدَلَ حتّى يَرْجِعَ كلّ عَظْمٍ في مَوْضِعِهِ ، ثم نَهَضَ ، ثم صَنَعَ في الركعةِ الثانية مِثْلَ ذلك ، حتى إذا قامَ من السجدتينِ كَبّرَ ورفَع يديهِ حتى يُحَاذِيَ بهما مَنْكِبَيْهِ كما صنعَ حينَ افْتَتَحَ الصلاةَ ، ثم صَنَعَ كذلكَ حتى كانتِ الركعة التي تَنْقَضِي فيها صلاتُهُ أخّرَ رِجْلَهُ اليُسْرَى وَقَعَدَ عَلَى شِقّهِ مُتَوَرّكاً ، ثم سَلّمَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"وركع ثم أعتدل " أي في الركوع بأن سوى رأسه وظهره حتى صار كالصفحة "فلم يصوب رأسه" من التصويب أي لم يحطه بلغاً بل يعتدل ، وهذا تفسير لقوله اعتدل "ولم يقنع" من أقنع رأسه إذا رفع أي لا يرفع رأسه حتى يكون أعلى من ظهره "ثم هوى" أي نزل وانحط ، والهوى السقوط من علو إلى أسفل "جافى" أي باعد ونحى "وفتح أصابع رجليه" بالخاء المعجمة أي ثناها ولينها فوجهها إلى القبلة "ثم ثنى رجله" أي عطفها "وقعد واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ثم نهض" فيه سنية جلسة الاستراحة في كل ركعة لا تشهد فيها وقد تقد بيانها في موضعها "حتى إذا قام من السجدتين" أي الركعتين الأوليين "حتى كان الركعة التي تنقضي فيها صلاته أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركاً" فيه سنيه التورك في القعدة الأخيرة. قال الحافظ في الفتح: في هذا الحديث حجة قوية للشافعي ومن قال بقوله في أن هيئة الجلوس في التشهد الأول مغايرة لهيئة الجلوس في الأخير انتهى.(2/212)
قال: ومعنى قوله: "ورفع يديه إذا قام من السجدتين" يعني قامَ من الركعتين.
304ـ حدثنا محمدُ بنُ بَشّارٍ و الحسنُ بنُ عليَ الْحُلْوَانِيّ و سلمة بن شيب غيرُ واحدٍ قالوا: حدثنا أبو عاصمٍ عبدُ الحميد بن جعفرٍ حدثنا محمدُ بن عَمْرو بن عطاءِ قال: سمعتُ أبا حُمَيْدٍ السّاعِدِي في عشرةٍ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم أبو قتادةَ بنُ رِبْعي ، فَذَكَرَ نحوَ حديثِ يحيى بن سعيد بمعناه وزادَ فيه بو عاصمٍ عن عبدِ الحميد بن جعفرٍ هذا الحرف: قالوا: "صدقتَ هكذا صَلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم".
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والدارمي وابن ماجه.
قوله: "والحسن بن علي الحلواني" بضم المهملة أبو علي الخلاد نزيل مكة ثقة حافظ له تصانيف من شيوخ الترمذي مات سنة إثنين وأربعين ومائتين(2/213)
225 ـ باب ما جاء في القراءةِ في الصبح
305- حدثنا هناد أخبرنا وكيع عن مسعر وسفيان عن زياد بن علاقة عن عمير قطبة بن مالك قال :"سمعت رسول الله صلى الله
ـــــــ
"باب ما جاء في القراءةِ في الصبح"
قوله: "عن مسعر" بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح المهملة هو ابن كدام بكسر أوله وتخفيف ثانيه ابن ظهير الهلالي الكوفي ثقة ثبت فاضل قال القطان: ما رأيت مثله كان من أثبت الناس وقال شعبة: كان يسمى المصحف لإتقانه ، وقال وكيع: شكه كيقين(2/213)
عليه وسلم يَقْرأُ في الفجر {والنّخْلَ بَاسِقَاتٍ} في الرّكْعَةِ الأُولَى".
قال وفي الباب عن عَمْرو بنِ حُريْثٍ وجابرِ بن سَمُرَةَ وعبدِ الله بن السّائِبِ وأبي بَرْزَةَ وأُمّ سَلَمَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ قُطْبَةَ بنِ مالك حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
غيره مات سنة ثلاث وخمسين ومائة "وسفيان" هو الثوري "عن زياد بن علاقة" بكسر المهملة وبالقاف الثعلبي بالمثلثة الكوفي ثقة مات سنة خمس وعشرين ومائة "عن عمه قطبة بن مالك" بضم القاف وسكون الطاء صحابي سكن الكوفة رضي الله عنه "يقرأ في الفجر والنخل باسقات" أي يقرأ في صلاة الفجر السورة التي فيها والنخل باسقات وهي ق ، وفي رواية لمسلم: فقرأ ق والقرآن المجيد ، وفي رواية أخرى له: فقرأ في أول ركعة: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}.
قوله:"وفي الباب عن عمرو بن حريث وجابر بن سمرة وعبد الله بن السائب وأبي برزة وأم سلمة" أما حديث عمرو بن حريث فأخرجه مسلم بلفظ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر والليل إذا عسعس. وأما حديث جابر بن سمرة فأخرجه أحمد ومسلم ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ (ق والقرآن المجيد) ونحوها وكان صلاته بمد إلى تخفيف ، وفي رواية: كان يقرأ في الظهر والليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك وفي الصبح أطول من ذلك ، ورواه أبو داود بلفظ: كان إذا دحضت الشمس صلى الظهر وقرأ بنحومن: والليل إذا يغشى والعصر كذلك والصلوات كلها كذلك إلا الصبح فإنه كان يطيل. وأما حديث عبد الله بن السائب فأخرجه مسلم بلفظ: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع. فأما حديث أبي برزة فأخرجه الشيخان بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية ، وفي لفظ ابن حبان: كان يقرأ بالستين إلى المائة ، كذا في نصب الراية وأما حديث أم سلمة فذكره البخاري في صحيحه في باب القراءة في الفجر تعليقاً بلفظ(2/214)
وَرُوِيَ عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنه قرأ في الصبح بِالوَاقِعَةِ".
ورُوِيَ عنه "أنه كان يقرأ في الفجرِ مِن سِتّينَ آيَةً إلى مِائَةٍ".
ورُوِيَ عنه "أنه قرأَ {إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ} ".
ورُوِيَ عن عمرَ أنه كتبَ إلى أبي موسى أنِ اقرْأْ في الصبحِ بِطِوَالِ المُفَصّلِ.
قال أبو عيسى: : وعلى هذا العملُ عندَ أهْلِ العلمِ.
ـــــــ
قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالطور ، ووصله في موضع آخر من صحيحه.
قوله: "حديث قطبة ابن مالك حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم وغيره.
قوله: "وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في الصبح بالواقعة" أخرجه عبد الرزاق من حديث جابر بن سمرة "وروى عنه أنه كان يقرأ في الفجر من ستين آية إلى مائة" أخرجه الشيخان من حديث أبي برزة "وروى عنه أنه قرأ {إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ} أخرجه النسائي من حديث عمرو بن حريث "وروى عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في الصبح بطوال المفصل" قال الزيلعي في نصب الراية ص روى عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا سفيان الثوري عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن وغيره قال كتب عمر إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل وفي العشاء بوسط المفصل وفي الصبح بطوال المفصل وفي الصبح بطوال المفصل إنتهى. وروى البيهقي في المعرفة من طريق مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري أن اقرأ في ركعتي الفجر بسورتين طويلتين من المفصل انتهى ما في نصب الراية. وفي معنى أثر عمر ما رواه النسائي مرفوعاً من حديث سليمان بن يسار رضي الله عنه قال: كان فلان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل وفي العشاء بوسطه وفي الصبح بطواله ، فقال أبو هريرة ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا. ذكره الحافظ في بلوغ المرام(2/215)
وبه قال سفيانُ الثّوْرِيّ وابنُ المباركِ والشافعيّ
ـــــــ
وقال: أخرجه النسائي بإسناد صحيح. والمفصل من الحجرات إلى آخر القرآن، وطواله من الحجرات إلى آخر سورة البروج، ووسطه إلى آخر سورة لم يكن ، وقصاره إلى آخر القرآن.
قوله: "وعلى هذا العمل عند أهل العلم ، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي" قال في النووي في شرح مسلم: وأما اختلاف قدر القراءة في الصلوات فهو عند العلماء على ظاهره ، قالوا فالسنة أن يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل وتكون الصبح أطول ، وفي العشاء والعصر بأوساطه وفي المغرب بقصاره. قالوا والحكمة في إطالة الصبح والظهر أنهما في وقت غفلة بالنون آخر الليل ، وفي القائلة فيطولهما ليدركهما المتأخر بغفلة ونحوها ، والعصر ليست كذلك بل تفعل في وقت تعب أهل الأعمال فخففت عن ذلك ، والمغرب ضيقة الوقت فاحتيج إلى زيادة التخفيف لذلك ولحاجة الناس إلى عشاء صائمهم وضيفهم ، والعشاء في وقت غلبة النوم والنعاس ولكن وقتها واسع فأشبهت العصر انتهى كلام النووي.
قلت: قد عرفت وستعرف اختلاف أحوال صلاته صلى الله عليه وسلم في قدر القراءة في الصلوات بما لا يتم به هذا التفصيل.(2/216)
باب: ما جاء في القراءة فى الظهر و العصر
...
226ـ باب ما جاءَ في القراءةِ في الظّهرِ والعَصْر
306ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ ، حدثنا يزيدُ بن هارونَ أخبرنا حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن سِمَاكِ بن حَرْبٍ عن جابر بن سَمُرَةَ: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ في الظهرِ والعصرِ بِالسّمَاءِ ذَاتِ البروج ،
ـــــــ
"باب ما جاءَ في القراءةِ في الظّهرِ والعَصْر"
قوله: "كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء ذات البروج والسماء والطاررق وشبههما(2/216)
والسّمَاءِ والطّارِقِ وشِبْهِهِمَا ".
قال: وفي الباب عن خَبّابٍ وأبي سعيدٍ وأبي قتادةَ وزيد بن ثابتٍ والبَرَاءِ بن عازب.
قال أبو عيسى: حَديثُ جابرِ بن سَمُرَةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنّهُ قَرَأَ في الظّهْرِ قَدْرَ تَنْزِيلُ السّجْدَةِ".
ورُوِيَ عنه: "أنّهُ كانَ يقرأُ في الرّكْعَةِ الأُولَى مِن الظّهْرِ قَدْرَ ثلاثينَ آيَةً ، وفي الركعةِ الثانيةِ قَدْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ آيَةً".
ورُوِيَ عن عمرَ: أنه كَتَبَ إلى أبي موسى: أنِ اقْرَأْ في الظهرِ بِأَوْسَاطِ المُفَصّلِ.
ـــــــ
قد وردت أحاديث مختلفة في قدر القراءة في الظهر والعصر كما ستعرف. قال الحافظ في الفتح: وجمع بينها بوقوع ذلك في أحوال متغايرة إما لبيان الجواز أو لغير ذلك من الأسباب واستدل ابن العربي باختلافها على عدم مشروعية سورة معينة في صلاة معينة ، وهو واضح فيما اختلف لا فيما لم يختلف كتنزيل وهل أتى في صبح يوم الجمعة انتهى كلام الحافظ.
قوله: "وفي الباب عن خباب أبي سعيد وأبي قتادة وزيد بن ثابت والبراء" أما حديث خباب فأخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه مسلم بلفظ قال: كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر ، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة الم تنزيل السجدة ، وفي رواية في كل ركعة قدر ثلثين آية ، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك ، وحزرنا في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر ، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك. وأما حديث أبي قتادة فأخرجه الشيخان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين ، وفي الركعتين(2/217)
ورأَى بعضُ أهلِ العلمِ: أنّ القراءةَ في صلاةِ العصرِ كَنَحْوِ القراءَةِ في صلاةِ المغربِ: يَقْرَأُ بِقِصَارِ المُفَصّلِ.
ورُوِيَ عن إبراهيمَ النّخْعِيّ أنّه قال: تَعْدِلُ صلاةُ العصرِ بصلاةِ المغربِ في القراءةِ.
وقال إبراهيمُ: تضاعفُ صلاةُ الظهرِ على صلاةِ العصرِ في القراءةِ أرْبَعَ مِرَارٍ.
ـــــــ
الأخريين بأم الكتاب ، ويسمعنا الاَية أحياناً ، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطيل في الركعة الثانية ، وهكذا في صلاة العصر ، وهكذا في الصبح. وأما حديث زيد بن ثابت فلم أقف عليه. وأما حديث البراء فأخرجه النسائي قال: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فنسمع منه الاَية بعد الاَيات من سورة لقمان والذاريات.
قوله: "حديث جابر بن سمرة حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود والنسائي "وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في الظهر قدر تنزيل السجدة إلخ" تقدم تخريجه آنفاً ، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى من الظهر يسبح اسم ربك الأعلى ، وفي الثانية هل أتاك حديث الغاشية ، رواه النسائي من حديث أنس "وروى عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في الظهر بأوساط المفصل" تقدم تخريجه في باب ما جاء في القراءة في الصبح "وروى عن إبراهيم النخعي أنه قال: تعدل صلاة العصر بصلاة المغرب في القراءة" أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن إبراهيم كانوا يعدلون الظهر بالعشاء ، والعصر بالمغرب ، كذا في الرحمة المهداة "وقال إبراهيم: تضعف صلاة الظهر على صلاة العصر في القراءة أربع مرار" يخدشه حديث أبي سعيد الذي تقدم(2/218)
227ـ باب في القراءة في المغرب
307ـ حدثنا هَنّادٌ ، حدثنا عَبْدَةُ "بن سليمان" عن محمدِ بنِ إسحاقَ عن الزّهْرِيّ عن عُبَيْدِ الله بنِ عَبدِ الله عن ابن عباسٍ عن أمّهِ أُمّ الفَضْلِ قالت: "خَرَجَ إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصبٌ رَأْسَهُ في مرضِهِ فصلّى المغرِبَ ، فَقَرَأَ بالمُرْسَلاَتِ ، "قالت" فما صلاّها بَعْدُ حتى لَقِيَ الله".
ـــــــ
"باب في القراءة في المغرب"
قوله عن أمه أم الفضل أسمها لبابة بنت الحارث الهلالية ويقال إنها: أول امرأة أسلمت بعد خديجة ، قاله الحافظ.
قوله: "وهو عاصب رأسه" أي شاد رأسه بعصابة "فصلى المغرب فقرأ بالمرسلات" قال الحافظ في الفتح: وفي حديث أم الفضل إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات ، لكونه كان في حال شدة مرضه وهو مظنة التخفيف ، وهو يرد على أبي داود ادعاءه نسخ التطويل ، لأنه روى عقب حديث زيد بن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار ، قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد ولم يبين وجه الدلالة ، وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر عمل بخلافه ، حمله على أنه اطلع على ناسخه ، ولا يخفى بعد هذا الحمل ، وكيف تصح دعوى النسخ وأم المفصل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات. انتهى كلام الحاف عبد الرحمن "فما صلاها بعد حتى لقي الله عز وجل" وقد ثبت من حديث عائشة أي آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته الظهر ، رواه البخاري في باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به ، جمع الحافظ في الفتح بين هذين الحديثين بأن عائشة حكت آخر صلاة صلاها في المسجد(2/219)
وفي الباب عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ وابن عُمَرَ وأبي أيّوبَ وزيدِ بنِ ثابتٍ.
قال: أبو عيسى: حديثُ أُمّ الفضلِ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
و "قد" رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنّهُ قرأ في المغربِ بالأعْرَافِ في الركعتينِ كِلْتَيْهِمَا".
ورُوَيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنّهُ قَرَأَ في المغرب بالطّورِ".
ـــــــ
لقرينة قولها بأصحابه. والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته، كما روى ذلك النسائي ولكنه يشكل على ذلك ما أخرجه الترمذي عن أم الفضل بلفظ: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب. ويمكن حمل قولها: خرج إليها ، أنه خرج من مكانه الذي كان فيه راقداً إلى من في البيت انتهى ملخصاً.
قوله: "وفي الباب عن جير بن مطعم وابن عمر وأبي أيوب وزيد بن ثابت" أما حديث جبير بن مطعم فأخرجه الشيخان بلفظ: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور. وأما حديث ابن عمر فأخرجه ابن ماجه بلفظ: قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ،" وأما حديث أبي أيوب فأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين جميعاً. وأما حديث زيد بن ثابت فأخرجه البخاري بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بطولي الطوليين ، زاد أبو داود: قلت: وما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف.
قوله: "حديث أم الفضل حديث حسن صحيح أخرجه الأئمة الستة "وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين كلتيهما" روى النسائي عن عائشة قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بسورة الأعراف ، فرقها في الركعتين. قال ميرك: إسناده حسن ، وروى هذا عن أبي أيوب أيضاً وقد تقدم لفظه "وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالطور" رواه الشيخان(2/220)
ورُوِيَ عن عُمَرَ أنه كَتَبَ إلى أبِي موسى أنْ اقْرَأْ في المغربِ بِقصَارِ المُفَصّلِ.
ورُوِيَ عن أبي بَكْرٍ أنه قرأ فِي المغرب بِقصَارِ المُفَصّلِ.
قال: وعلى هذا العملُ عندَ أهلِ العلمِ.
وبه يقولُ ابنُ المُبَاركِ وأحمدُ وإسحاقُ.
وقال الشافعيّ: وذُكِرَ عن مالكٍ أنه كَرِهُ أنْ يُقْرَأَ في صلاةِ المغربِ بالسّوَر الطّوَالِ ، نحو الطّورِ والمُرْسَلاَتِ.
قال الشافعيّ: لاَ أكْرَه ذلكَ بل أسْتَحِبّ أنْ يُقْرأَ بهذِه السّوَرِ في صلاة للمغرب.
ـــــــ
وغيرهما عن جبير بن مطعم وتقدم لفظه "وروى عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن أقرأ في المغرب بقصار المفصل" تقدم تخريجه "وروى عن أبي بكر أنه قرأ في المغرب بقصار المفصل" لم أقف على من أخرجه.
قوله: "وعلى هذا العمل عند أهل العلم" يعني على القراءة بقصار المفصل في المغرب ، وبه يقول الحنفية ، واستدلوا على ذلك بما روى الطحاوي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بقصار المفصل ، وبما روى ابن ماجه عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وبما روى الطحاوي وغيره عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل ، وبما روى أبو داود عن هشام بن عروة أن أباه كان يقرأ في صلاة المغرب بنحو ما تقرأون والعاديات ونحوه من السور. وروى عن أبي عثمان النهدي أنه صلى خلف ابن مسعود المغرب فقرأ بقل هو الله أحد ، وربما رواه الشيخان عن رافع بن خديج قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وأنه ليبصر مواقع نبله "وقال الشافعي" مقولة قوله الاَتي: لا أكره ذلك إلخ "وذكر(2/221)
ـــــــ
عن مالك أنه يكره إلخ" بالواو للحال والجملة حالية "قال الشافعي لا أكره ذلك بل أستحب أن يقرأ بهذه السور في صلاة المغرب" أعاد قوله قال الشافعي لطول الفصل بينه وبين مقوله لا أكره ذلك إلخ. قال الحافظ في الفتح: قال الترمذي: ذكر عن مالك أنه كره أن يقرأ في المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات ، وقال الشافعي: لا أكره ذلك بل أستحب ، وكذا نقله البغوي نقله البغوي في شرح السنة عن الشافعي. والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهة في ذلك ولا استحباب. وأما مالك فاعتمد العمل بالمدينة بل وبغيرها. قال ابن دقيق العيد: استمر العمل على تطويل القراءة في الصبح وتقصيرها في المغرب. والحق عندنا أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وثبت مواظبته عليه فهو مستحب ، وما لا يثبت مواظبته عليه فلا كراهة فيه.
قال الحافظ: ولم أر حديثاً مرفوعاً فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار المفصل إلا حديثاً في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون والإخلاص ، ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة: فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناد الصحة إلا أنه معلول. قال الدارقطني أخطأ فيه بعض رواته. وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعيد بن سماك وهو متروك ، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب. واعتمد بعض مشائخنا وغيرهم حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال: ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان ، قال سليمان: فكان يقرأ في الصبح بطوال المفصل وفي المغرب بقصار المفصل الحديث. أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وغيره. وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك ، ولكن في الاستدلال به نظر. نغم حديث رافع أنهم كانوا ينتضلون بعد صلاة المغرب يدل على تخفيف القراءة فيها. وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يدل على تخفيف القراءة فيها. وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يطيل القراءة في المغرب ، إما لبيان الجواز وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين: وليس في حديث جبير بن مطعم "أي الذي أخرجه البخاري بلفظ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور" دليل على أن ذلك تكرر منه. وأما حديث زيد بن ثابت يعني ما روى البخاري وغيره عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين ، ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل ، ولو كان مروان يعلم أن النبي(2/222)
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك ليحتج به على زيد ، لكن لم يرد زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال ، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أم الفضل إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات لكونه كان في حال شدة مرضه وهو مظنة التخفيف انتهى كلامه.
قال ابن خزيمة في صحيحه: هذا من الإختلاف المباح ، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب إلا أنه إذا كان إماماً استحب له أن يخفف في القراءة كما تقدم انتهى. قال الحافظ: وهذا أولى من قول القرطبي: ما ورد في مسلم وغيره من تطويل القراءة فيما استقر عليه التقصير أو عكسه فهو متروك.
وادعى الطحاوي أنه لا دلالة في شيء من الأحاديث الثلاثة على تطويل القراءة لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة ثم استدل لذلك بما رواه من طريق هشيم عن الزهري في حديث جبير بلفظ: فسمعته يقول {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} قال: فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هي هذه الاَية خاصة انتهى.
وليس في السياق ما يقتضي قوله خاصة مع كون رواية هشيم عن الزهري بخصوصها مضعفة، بل جاء في روايات أخرى ما يدل على أنه قرأ السورة كلها، فعند البخاري في التفسير سمعته يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الاَية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} الاَيات إلى قوله: {الْمُصَيْطِرُونَ} كاد قلبي يطير. ونحوه لقاسم بن اصبع وفي رواية أسامة ومحمد بن عمرو المتقدمين سمعته يقرأ {وَالطُّورِ}،{وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ } ومثله لا بن سعد ، وزاد في أخرى فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد.
ثم ادعى الطحاوي أن الاحتمال المذكور يأتي في حديث زيد بن ثابت وكذا أبداه الخطابي احتمالاً ، وفيه نظر ، لأنه لو كان قرأ بشيء منها يكون قدر سورة من قصار المفصل لما كان لإنكار زيد معنى ، وقد روى حديث زيد عن هشام عن أبيه عنه أنه قال لمروان: إنك لتخف القراءة في الركعتين من المغرب ، فوالله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بسورة الأعراف في الركعتين جميعاً ، أخرجه ابن خزيمة ، واختلف على هشام في صحابية ، والمحفوظ عن عروة أنه زيد بن ثابت ، وقال أكثر الرواة عن هشام عن زيد بن ثابت أو أبي أيوب ، وقيل عن عائشة أخرجه(2/223)
ـــــــ
النسائي مقتصراً على المتن دون القصة، انتهى كلام الحافظ.(2/224)
228ـ باب ما جاءَ في القراءةِ في صلاةِ العِشَاء
308ـ حدثنا عَبْدَةُ بنُ عبدِ الله الخُزَاعِيّ ، حدثنا زيدُ بنُ الحُبَابِ حدثنا ابنُ واقدٍ عن عبدِ الله بن بُرَيْدَةَ عن أبيهِ قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرأُ في العِشَاءِ الاَخِرَةِ بالشّمْسِ وضُحَاهَا ونحوِها من السّورِ".
قال وفي الباب عن البراءِ بن عازبٍ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في القراءةِ في صلاةِ العِشَاء"
قوله: "أخبرنا ابن واقد" هو الحسين بن واقد مولى عبد الله بن عامر المروزي قاضيها ، وثقه ابن معين مات سنة تسع وخمسين ومائة "عن عبد الله بن بريدة" بن الحصيب الأسلمي المروزي قاضيها ثقة "عن أبيه" بريدة بن الحصيب بمهملتين مصغراً صحابي أسلم قبل بدر مات سنة ثلاث وستين.
قوله: "يقرأ في العشاء الاَخرة بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوها من السور" هذا فعله صلى الله عليه وسلم. وقال لمعاذ رضي الله عنه: أتريد أن تكون يا معاذ فتانا ، إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}. قاله له حين أخبر أنه صلى بأصحابه العشاء فطول عليهم ورواه الشيخان. وهذان الحديثان يدلان على أنه يقرأ في العشاء الاَخرة هذه السور ونحوها.
قوله: "وفي الباب عن البراء بن عازب" قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} الحديث أخرجه الأئمة الستة. وفي رواية للبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين والزيتون(2/224)
قال أبو عيسى: حديثُ بُرَيْدَةَ حديثٌ حسَنٌ.
وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنه قرأ في العِشاءِ الاَخِرَةِ بالتّينِ والزّيْتُونِ".
ورُوِيَ عن عثمانَ بنِ عَفّانَ : أنه كان يَقْرَأُ في العِشاء بِسُوَرٍ من أوْسَاطِ المُفَصّلِ نحوِ سُورَةِ المُنَافِقِينَ وأشْبَاهها.
ورُوِيَ عن أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم والتابعينَ: أنّهم قَرَأُوا بأَكْثَرَ مِن هذا وأقلّ: فكان الأمر عندهم واسع في هذا.
وأحسن شيء في ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قرأ بـ {والشّمْسِ وضُحَاهَا} ، {والتّين والزّيْتُونِ} ".
ـــــــ
وفي الباب عن أبي هريرة رواه البخاري وغيره عن أبي رافع قال :"صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت فيها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه".
واعلم أن سورة " {والتّين والزّيْتُونِ} من قصار المفصل ، وسورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} من أوساط المفصل. قال الجاحظ في الفتح: وإنما قرأ في العشاء بقصار المفصل لكونه كان مسافراً والسفر يطلب فيه التخفيف ، وحديث أبي هريرة محمول على الحضر فلذلك قرأ فيها بأوساط المفصل انتهى.
قوله: "حديث بريدة حديث حسن" وأخرجه أحمد والنسائي "وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في العشاء الاَخر بسورة {والتّين والزّيْتُونِ} أخرجه الترمذي في هذا الباب وأخرجه أيضاً غيره من الأئمة الستة كما عرفت "وروى عن عثمان بن عفان أنه كان يقرأ في العشاء بسور من أوساط المفصل نحو سورة المنافقين وأشباهها" وقد تقدم حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة وفيه: ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل "كأن الأمر عندهم واسع" كأن بشدة النون من الحروف(2/225)
309ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا أبو معاويَة عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريّ عن عَدِيّ بنِ ثابتٍ عن البراء بن عازب: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأَ في العِشاءِ الاَخِرَةِ بالتّينِ والزّيْتُونِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
الشبهة بالفعل يعني كأن أمر القراء في صلاة العشاء فيه وسعة عندهم لا تضييق فيه ، ولأجل ذلك قرأوا فيها بأكثر من المذكور وأقل "وأحسن شيء في ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالشمس وضحاها والتين والزيتون" بل أحسن شيء في ذلك ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه بقراءته من السور وأمثالها والله تعالى أعلم.(2/226)
229ـ باب ما جاءَ في القراءة خلفَ الإمام
310ـ حدثنا هَنّادٌ ، حدثنا عَبْدَةُ بن سليمانَ عن محمد بن إسحاقَ
ـــــــ
"باب ما جاءَ في القراءة خلفَ الإمام"
قوله: "عن محمد بن إسحاق" هو محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر المطلبي مولاهم المدني نزيل العراق إمام المغازي وهو ثقة قابل للاحتجاج على ما هو الحق. قال بدر الدين العيني في شرح البخاري: ابن إسحاق من الثقات الكبار عند الجمهور انتهى. وقال ابن الهمام في فتح القدير: وأما ابن إسحاق فثقة ثقة لا شبهة عندنا في ذلك ولا عند محققي المحدثين انتهى. وقال أيضاً وهو يعني توثيق ابن إسحاق الحق الأبلج وما نقل عن مالك فيه لا يثبت ولو صح لم يقبله أهل العلم. كيف وقد قال شعبة هو أمير المؤمنين في الحديث ، وروى عنه مثل الثوري وابن أدريس وحماد بن زيد ويزيد بن زريع وابن علية وعبد الوارث وابن المبارك واحتمله أحمد وابن معين وعامة أهل الحديث غفر الله لهم. وقد(2/226)
عن مَكْحُولٍ عن محمود بن الرّبيعِ عن عُبَادَةَ بن الصّامِتِ قال: "صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ، فَثَقُلَتْ عليه القراءةُ ، فلمّا انصرف قال: إنّي أراكم تَقْرأُونَ وراء إمَامِكُمْ؟ قال: قلنا:يَا رسولَ الله إي وَالله ، قال: فلا تفَعَلُوا إلاّ بِأُمّ القُرآنِ ، فإِنّهُ لا صلاةَ لِمَنْ لَمْ يقرأْ بها".
ـــــــ
أطال البخاري في توثيثقه في كتاب القراءة خلف الإمام ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وإن مالكا رجع عن الكلام في ابن إسحاق واصطلح معه وبعث إليه هدية انتهى كلام ابن الهمام.
وقال الحافظ بن حجر في القول المسدد: وأما حمله يعني ابن الجوزي على محمد بن إسحاق فلا طائل فيه فإن الأئمة قبلوا حديثه وأكثر ما عيب فيه التدليس والرواية عن المجهولين ، وأما هو في نفسه فصدوق وهو حجة في المغازي عند الجمهور انتهى كلام الحافظ "عن مكحول" وفي رواية الدارقطني وأحمد والبيهقي حدثني مكحول. وقال الزيلعي في نصب الراية: ورواهن إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق فذكر فيه سماع ابن إسحاق عن مكحول فصار الحديث موصولاً صحيحاً انتهى. ومكحول هذا هو مكحول الشامي وأبو عبد الله ثقة فقيه كثير الإرسال مشهور من الخامسة مات سنة بضع عشرة ومائة كذا في التقريب.
قوله: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة" أي شق عليه التلفظ والجهر بالقراءة ، وفي رواية أبي داود: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة "فلما أنصرف" أي فرغ من الصلاة "إي والله" بكسر الهمزة وسكون التحتية أي نعم والله نحن نقرأ "قال لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" قال الخطابي هذا الحديث صريح بأن قراءة الفاتحة واجبة على من خلف الإمام سواء جهر الإمام بالقراءة أو خافت بها ، وإسناده جيد لا طعن فيه انتهى. قلت الأمر كما قال الخطابي لا شك في أن هذا الحديث نص(2/227)
قال: وفي الباب عن أبي هريرةَ وعائشةَ وأنَسٍ وأبي قتادةَ وعبدِ الله بنِ عَمْرٍو.
ـــــــ
صريح في أن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على من خلف الإمام في جميع الصلوات سرية كانت أو جهرية وهو القول الراجح المنصور عندي.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأبي قتادة وعبد الله بن عمرو" أما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج. ثلاثاً غير تمام ، فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام قال اقرأ بها في نفسك الحديث. وأما حديث عائشة فأخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ، وإسناده حسن. وجاء في رواية الطحاوي تصريح سماع ابن إسحاق من يحيى بن عباد فزالت شبهة التدليس. وهذان الحديثان بعمومها شاملان للمأمومين أيضاً: وأما حديث أنس فأخرجه البخاري في جزء القراءة ، والبيهقي في كتاب القراءة ، وابن حبان والطبراني في الأوسط ، ولفظ البخاري: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه فقال أتقرأون في صلاتكم والإمام يقرأ؟ فسكتوا ، فقالها ثلاث مرات ، فقال قائل أو قائلون: إنا لنفعل: قال: فلا تفعلوا وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه قاله صاحب الجوهر النقي من العلماء الحنفية: أخرجه بن حبان في صحيحه من حديث أبي قلابة عن أنس ثم قال سمعه من أنس وسمعه من ابن أبي عائشة ، فالطريقان محفوظان انتهى. وقال البيقهي في كتاب القراءة بعد روايته من طريق ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس. احتج به البخاري في كتاب القراءة خلف الإمام وأما حديث أبي قتادة فأخرجه البيهقي في كتاب القراءة عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتقرأون خلفي؟ قلنا نعم ، قال فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البيهقي في كتاب القراءة عنه من طريق عبد العظيم عن النضر بن محمد عن عكرمة بن عمار عن عمرو بن سعد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتقرأون(2/228)
قال أبو عيسى: حديثُ عُبَادَةَ حديثٌ حسَنٌ.
وَرَوَى هذا الحديثَ الزّهرِيّ عن محمود بن الرّبيع عن عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاَةَ لِمَنْ لم يقرأْ بفاتحةِ الكتابِ".
قال: وهذا أصَحّ.
ـــــــ
خلفي؟ قالوا نعم يا رسول الله إنا لنهزه هزاً ، قال فلا تفعلوا إلا بأم القرآن. قال البيهقي: رواه في كتاب القراءة خلف الإمام عن شجاع ابن الوليد عن النضر.
وفي باب أحاديث أخرى ذكرناها في كتابنا تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام ، وفي كتابنا أبكار المنن في نقد آثار السنن ، وذكرها البيهقي في كتاب القراءة ، فمنها حديث محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي لفظه ، قال الحافظ في التلخيص إسناده حسن ، وقال البيهقي في معرفة السنن بعد روايته هذا إسناد صحيح ، وقال في كتاب القراءة: هذا حديث صحيح احتج به محمد بن إسحاق بن خزيمة في جملة ما احتج به في هذا الباب.
قوله: "حديث عبادة حديث حسن" قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: أخرجه أحمد والبخاري في جزء القراءة وصححه أبو داود والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي من طريق ابن إسحاق حدثني مكحول عن محمود بن ربيعة عن بادة وتابعه زيد بن واقد وغايره عن مكحول ، ومن شواهده ما رواه أحمد من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلكم تقرأون والإمام يقرأ ؟ قالوا إنا لنفعل ، قال لا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب. إسناده حسن انتهى كلام الحافظ. وقال في الدراية: أخرجه أبو داود بإسناد رجاله ثقات انتهى. وقال في نتائج الأفكار لتخريج أحاديث الأذكار: هذا حديث حسن انتهى. وسكت عنه أبو داود. وذكر الحافظ المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال القاري في المرقاة شرح المشكاة(2/229)
والعملُ على هذا الحديثِ في القراءةِ خلفَ الإمامِ عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ مِن أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم والتابعينَ.
وهو قولُ مالِك بن أنسٍ وابنِ المبارَكِ والشافعيّ وأحمدَ وإسحاقَ: يرَوْنَ القراءةَ خَلْفَ الإمامِ.
ـــــــ
قال ميرك نقلاً عن الملقن: حديث عبادة بن الصامت رواه أبو داود والترمذي والدارقطني وابن حبان والبيهقي والحاكم وقال الترمذي حسن ، وقال الدارقطني إسناده حسن ورجاله ثقات ، وقال الخطابي إسناده جيد لا مطعن فيه، وقال الحاكم إسناده مستقيم ، وقال البيهقي صحيح انتهى ما في المرقاة.
قوله: "وهذا أصح" أي من حديث عبادة المذكور في الباب من طريق ابن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عنه وحديث عبادة من طريق الزهري عن محمود أخرجه الأئمة السته.
قوله: "والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ، وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق يرون القراءة خلف الإمام" وهو قول بعض العلماء الحنفية أيضاً. قال العيني في عمدة القاري: بعض أصحابنا يستحسنون ذلك على سبيل الاحتياط في جميع الصلوات ، وبعضهم في السرية فقط وعليه فقهاء الحجاز والشام انتهى. وقال الملاجيون من العلماء الحنفية في التفسير الأحمدي: فإن رأيت الطائفة الصوفية والمشائخين الحنفية ، تراهم يستحسنون قراءة الفاتحة للمؤتم كما استحسنه محمد رحمه الله أيضاً احتياطا فما روى عنه انتهى. وقال صاحب عمدة الرعاية حاشية شرح الوقاية من العلماء الحنفية وروى عن محمد أنه استحسن قراءة الفاتحة للمؤتم في السرية ، وروى مثله عن أبي حنيفة صرح به في الهداية المجتبى شرح مختصر القدوري وغيرهما، وهذا هو مختار كثير من مشائخنا انتهى.
تنبيه: إعلم أن قول الترمذي وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد(2/230)
ـــــــ
وإسحاق يرون القراءة خلف الإمام فيه إجمال ، ومقصوده أن هؤلاء الأئمة كلهم يروا القراءة خلف الإمام إما في جميع الصلوات أو في السرية فقط ، وإما على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب والاستحسان. فأما من قال بوجوب القراءة خلف الإمام في جميع الصلوات سرية كما كانت أو جهرية فاستدل بأحاديث الباب ، وهو القول الراجح المنصور. وسيأتي تفصيل الأقوال في هذه المسألة.(2/231)
230ـ باب ما جاءَ فِي تركِ القراءة خَلفَ الإمامِ إذا جَهَرَ الإمامُ بِالقِرَاءة
311ـ حدثنا الأنصاريّ ، أخبرنا مَعْنٌ أخبرنا مالكٌ عن ابنِ شهابٍ عن ابنِ أْكَيْمَةَ اللّيْثِيّ عن أبي هريرةَ: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِن صلاةٍ جَهَرَ فيها بالقراءَةِ ، فقال: هل قَرَأَ معِي أحَدٌ مِنكم آنِفاً؟ فقال رجلٌ: نعم يا رسولَ الله ، قال: إنّي أقولُ مَا لِي أُنَازَعُ القرآنَ؟ قال: فَانْتَهَى الناسُ عن القراءةِ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيما يجهَر فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الصّلَوَاتِ بالقراءَةِ حين سمعوا ذلك من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم".
ـــــــ
"باب ما جاءَ فِي تركِ القراءة خَلفَ الإمامِ إذا جَهَرَ الإمامُ بِالقِرَاءة"
قوله:"حدثنا الأنصاري" وهو إسحاق بن موسى الأنصاري "عن ابن أكيمة" بالتصغير اسمه عمارة بضم أوله والتخفيف الليثي المدني يكنى أبا الوليد وقيل اسمه عمار أو عمر أو عامر يأتي غير مسمى ثقة من أوساط التابعين.
قوله: "انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة" وفي رواية لأبي داود صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة نظن أنها الصبح "إني أقول مالي أنازع القرآن" بفتح الزاي(2/231)
وفي الباب: عنِ ابنِ مسعودٍ وعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وجابرِ بن عبدِ الله .
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ.
وابنُ أُكَيْمَةَ اللّيْثِيّ اسمُه عُمَارَةُ ويُقَال عَمْرُو بن أُكَيْمَةَ.
وَرَوَى بعضُ أصحابِ الزهريّ هذا الحديثَ وذَكَرُوا هذَا الحرفَ: "قال: قال الزّهرِيّ: فَانْتَهَى الناسُ عن القراءةِ حينَ سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ـــــــ
ونصب القرآن على أنه مفعول ثان أي فيه كذا ، قال صاحب الأزهار: وقال الخطابي معناه أداخل في القراءة وأغالب عليها و قال الجزري في النهاية أجاذب في قراءته كأنهم جهروا بالقراءة خلفه فشغلوه فالتبست عليه القراءة. وأصل النزع الجذب ومنه نزع الميت بروحه انتهى "قال فانتهى الناس إلخ" أي قال الزهري فانتهى الناس كما روى بعض أصحاب الزهري فقوله فانتهى الناس مدرج من قول الزهري وسيجيء تصريح الحفاظ بكونه مدرجاً. والحديث قد استدل به على ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة ، وفي الاستدلال به على هذا المطلوب نظر كما ستقف عليه.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وعمران بن حصين وجابر بن عبد الله" أما حديث بن مسعود فأخرجه الطحاوي وغيره عنه قال: كانوا يقرأون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خلطتم على القرآن. وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه مسلم وغيره عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر أو العصر فقال: أيكم قرأ خلفي بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ؟ فقال رجل: أنا ولم أرد بها إلا الخير ، قال: قد علمت أن بعضكم خالجنيها. وأما حديث جابر فأخرجه ابن ماجه وغيره مرفوعاً: من كان له إمام فقراءه الإمام له قراءة: وهذا حديث ضعيف كما ستعرف.
قوله: "هذا حديث حسن" وأخرجه مالك في الموطأ وأبو داود والنسائي وابن ماجه.(2/232)
وليس في هذا الحديث ما يَدْخُلُ على مَنْ رأى القراءَةَ خلفَ الإمامِ لأنّ أبا هريرةَ هو الذي رَوَى "عن النبي صلى الله عليه وسلم" هذا الحديثَ.
ـــــــ
قوله: "وروى بعض أصحاب الزهري هذا الحديث وذكروا هذا الحرف قال: قال الزهري: فانتهى الناس عن القراءة إلخ" يعني أن بعض أصحاب الزهري فصل قوله: فانتهى الناس الخ عن الحديث وجعله من قول الزهري. قال الإمام البخاري في جزء القراءة: قوله: فانتهى الناس من كلام الزهري وقد بينه لي الحسن بن الصباح قال: حدثنا مبشر عن الأوزاعي قال الزهري: فاتعظ المسلمون بذلك فلم يكونوا يقرأون فيما جهر. وقال مالك: قال ربيعة: إذا حدثت فبين كلامك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم انتهى وقال البيهقي في معرفة السنن: قوله: فانتهى الناس في القراءة من قول الزهري ، قاله محمد بن يحيى الذهلي صاحب الزهريات ومحمد بن إسماعيل البخاري وأبو داود ، واستدلوا على ذلك برواية الأوزاعي حين ميزه من الحديث وجعله من قول الزهري ، وكيف يصح ذلك عن أبي هريرة وأبو هريرة يأمر بالقراءة خلف الإمام فيما جهر به وفيما خافت انتهى. وقال في كتاب القراءة: رواية ابن عيينة عن معمر دالة على كونه من قول الزهري ، وكذلك انتهاء الليث بن سعد وهو من الحفاظ الأثبات الفقهاء مع ابن جريج برواية الحديث من الزهري إلى قوله: ما لي أنازع القرآن ، الدال على أن ما بعده ليس في الحديث وأنه من قول الزهري ، ففصل كلام الزهري من الحديث بفصل ظاهر انتهى. وقال الحافظ في التلخيص الحبير: وقوله: فانتهى الناس إلى آخره مدرج في الخبر من كلام الزهري بينه الخطيب واتفق عليه البخاري في التاريخ وأبو داود ويعقوب بن سفيان والذهلي والخطابي وغيرهم انتهى.
قوله: "وليس في هذا الحديث ما يدخل على من رأى القراءة خلف الإمام إلخ" حاصل كلامه أن حديث أبي هريرة المروي في هذا الباب لا يدل على منع القراءة خلف الإمام حتى يكون حجة على القائلين بها ، فإن أبا هريرة الذي روى هذا الحديث قد روى هو حديث الخداج الذي يدل على وجوب قراءة الفاتحة على كل مصلي إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً. وقد أفتى أبو هريرة بعد رواية هذا الحديث بقراءة فاتحة(2/233)
وَرَوَى أبو هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :"مَنْ صَلّى صلاةً لَمْ يَقْرَأْ فيها بِأُمّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِداجٌ غَيْرُ تمَامٍ" فقال له حاملُ الحديثِ إنّي أكُونُ أحياناً وراء الإمامِ؟ قال: اقْرَأْ بها في نَفْسِكَ.
وَرَوَى أبو عثمانَ النّهْدِيّ عن أبي هريرةَ قال: "أمَرَني النبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ أنادِي أن لا صلاةَ إلا بقراءَةِ فاتحةِ الكتابِ".
ـــــــ
الكتاب خلف الإمام حيث قال: اقرأ بها في نفسك ، فعلم أن حديث أبي هريرة المروي في هذا الباب ليس فيه ما يدخل على من رأى القراءة خلف الإمام ، أي ليس فيه ما يضر القائلين بالقراءة خلف الإمام. قال في القاموس: الدخل محركة ما داخلك من فساد في عقل أو جسم وقد دخل كفرح وعني دخلاً ودخلاً والمكر والخديعة والعيب في الحسب انتهى "وروى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة قال: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنادي أن لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب" رواه البيهقي في كتاب القراءة بأسانيد وألفاظ من شاء الوقوف عليها فليرجع إليه.
تنبيه: إعلم أن الإمام مالك والزهري وغيرهما ممن قالوا بالقراءة خلف الإمام في الصلوات السرية دون الجهرية قد استدلوا بأحاديث الباب ، لكن في الاستدلال بهذه الأحاديث على مطلوبهم نظر. أما حديث المنازعة الذي روى الترمذي في هذا الباب فإنه لا يدل على منع القراءة خلف الإمام المتنازع فيها وهي القراءة بالسر وفي النفس بحيث لا يفضي الى المنازعة بقراءة الإمام ، نعم يدل على منع القراءة بالجهر خلفه وهي ممنوعة بالإتفاق. قال الشوكاني في النيل ، استدل به القائلون بأنه لا يقرأ المؤتم خلف الإمام في الجهرية ، وهو خارج عن محل النزاع. لأن محل النزاع هو القراءة خلف الإمام سراً والمنازعة إنما تكون مع جهر المؤتم لا مع إسراره. وقال الفاضل اللكنوي: غاية ما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما لي أنازع القرآن ، فهو إن دل على النهي فإنما يدل على نهي القراءة المفضية إلى المنازعة في الجهر به انتهى. وأما حديث ابن مسعود فإنه إنما يدل على منع التخليط على الإمام ، والتخليط لا يكون(2/234)
واخْتَارَ أصحابُ الحديثِ أن لاَ يقرأ الرجلُ إذا جَهَرَ الإمامُ بالقراءَةِ ، وقالُوا: يَتبعُ سَكتَاتِ الإمامِ.
ـــــــ
إلا إذا قريء خلف الإمام بالجهر ، وأما إذا قريء خلفه بالسر وفي النفس فلا يكون التخليط البتة. وقد روى البيهقي في كتاب القراءة والبخاري في جزء القراءة حديث ابن مسعود هذا من طريق أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم كانوا يقرأون القرآن فيجهرون به خلطتم علي القرآن فهذه الرواية صريحة أن تخليطهم القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كان لقراءتهم خلفه بالجهر ، وعلى ذلك أنكر صلى الله عليه وسلم بقوله: خلطتم علي القرآن ، فهذا الحديث أيضاً خارج عن محل النزاع. وأما حديث عمران بن حصين فهو أيضاً خارج عن محل النزاع. قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد: معنى قوله: خالجنيها أي نازعني ، والمخالجة هنا عندهم كالمنازعة ، فحديث عمران هذا الحديث ابن أكيمة عن أبي هريرة، ولا تكون المنازعة إلا فيما جهر فيه المأموم وراء الإمام ، ويدل على ذلك قول أبي هريرة وهو راوي الحديث في ذلك: اقرأ بها في نفسك يا فارسي انتهى. وقال البيهقي في كتاب القراءة: ثم إن كان كره النبي صلى الله عليه وسلم من قراءته شيئاً فإنما كره جهره بالقراءة خلف الإمام ، ألا تراه قال: أيكم قرأ بسبح اسم ربك الأعلى ، فلولا أنه رفع صوته بقراءة هذه السورة وإلا لم يسم له ما قرأ ، ونحن نكره للمأموم رفع الصوت بالقراءة خلف الإمام ، فأما أن يترك أصل القراءة فلا ، وقد روينا عن عمران بن حصين رضي الله عنه في هذا الكتاب ما روى عنه في القراءة خلف الإمام ، وذلك يؤكد ما قلنا انتهى. وأما حديث جابر بن عبد الله فهو بجميع طرقه ضعيف كما ستعرف. وقد استدل القائلون بالقراءة خلف الإمام في السرية دون الجهرية بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وبحديث أبي موسى: وإذا قرأ فانصتوا ، وسيأتي الجواب عن ذلك فانتظر.
قوله: "واختار أصحاب الحديث أن لا يقرأ الرجل إذا جهر الإمام بالقراءة وقالوا يتبع سكتات الإمام" جاء فيه حديث مرفوع رواه الحاكم عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعاً من صلى صلاة مكتوبة مع الإمام فليقرأ بفاتحة الكتاب في سكتاته ، ورواه(2/235)
ـــــــ
البيهقي في كتاب القراءة من طريق محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً وفيه: من صلى صلاة مع إمام يجهر فليقرأ بفاتحة الكتاب في بعض سكتاته ، فإن لم يفعل فصلاته خداج غير تمام. وقال بعد روايته ما لفظه: ومحمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير وإن كان غير محتج به ، وكذلك بعض من تقدم ممن رواه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فلقراءة المأموم فاتحة الكتاب في سكتة الإمام شواهد صحيحة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده خبراً عن فعلهم ، وعن أبي هريرة وغيره من فتواهم ونحن نذكرها إن شاء الله تعالى في ذكر أقاويل الصحابة انتهى كلامه.
قلت: قد ذكر البيهقي في هذا الكتاب في أقاويل الصحابة بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنهم كانوا يقرأون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنصت ، فإذا قرأ لم يقرأوا وإذا أنصت قرأوا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج. ثم ذكر بإسناده عن سعيد بن جبير قال: كانوا إذا كبروا لا يفتتحون القراءة حتى يعلم أن من خلفه قد قرأوا فاتحة الكتاب. قال البيهقي: وقرأت في كتاب القراءة خلف الإمام تصنيف البخاري قال: قال ابن خثيم: قلت لسعيد بن جبير: أقرأ خلف الإمام قال نعم وإن سمعت قراءته فإنهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه ، إن السلف كان إذا أم أحدهم الناس كبر ثم أنصت حتى يظن أن من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب ثم قرأ وأنصت انتهى ما في كتاب القراءة.
قلت: قال الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار: هذا موقوف صحيح ، فقد أدرك سعيد بن جبير جماعة من علماء الصحابة ومن كبار التابعين انتهى.
ثم ذكر البيهقي بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه قال: يا بني اقرأوا في سكتة الإمام فإنه لا تتم صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، ثم ذكر بإسناده عن عبد الملك بن المغيرة عن أبي هريرة قال: كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج ثم هي خداج ، فقال بعض القوم: فكيف إذا كان الإمام يقرأ ، قال أبو سلمة: للإمام سكتتان فاغتنموهما: سكتة حين يكبر وسكتة حين يقول غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال(2/236)
وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في القراءَةِ خلفَ الإمام فرأى أكثرُ أهلِ العلمِ مِن أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم والتابعينَ ومَنْ بَعدهم القراءةَ خلفَ الإمامِ.
ـــــــ
فهذا الجواب من أبي سلمة بن عبد الرحمن كان بين يدي أبي هريرة ولم ينكر عليه ذلك فهو كما قاله أبو هريرة ، ورواية العلاء بن عبد الرحمن تشهد لذلك بالصحة انتهى.
قلت: رواية العلاء ليست مقيدة بقراءة المأموم في سكتات الإمام ، ففي صحيح مسلم: فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام ، فقال: اقرأ بها في نفسك الحديث. وعند البيهقي في هذا الكتاب ص قال: قلت يا أبا هريرة إني أسمع قراءة الإمام ، فقال يا فارسي ، أو يا ابن الفارسي اقرأ في نفسك . وعنده أيضاً في هذا الكتاب ص 21 قلت يا أبا هريرة فكيف أصنع إذا جهر الإمام قال: إقرأ بها في نفسك: ثم ذكر البيهقي بإسناده: قال مكحول: إقرأ بها ، يعني بالفاتحة فيما جهر به الإمام إذا قرأ بفاتحة الكتاب وسكت سراو إن لم يسكت اقر اقرأ بها قبله ومعه وبعده لا تتركها على حال انتهى.
قوله: "وقد اختلف أهل العلم في القراءة خلف الإمام فرأى أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم القراءة خلف الإمام" وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. أخرج الدارقطني في سننه بإسناده عن يزيد بن شريك أنه سأل عمر عن القراءة خلف الإمام فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب ، قلت: وإن كنت. قال: وإن كنت أنا قلت: وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت. قال الدارقطني: رواية كلهم ثقات وأخرجه بإسناد آخر وقال هذا إسناد صحيح. وأخرج بإسناده عن عبيد الله بن أبي رافع قال: كان علي يقول اقرأوا في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر خلف الإمام بفاتحة الكتاب وسورة ، قال الدارقطني بعد إخراجه هذا إسناد صحيح. خرجه بإسناد آخر بلفظ: كان يأمر أو يقول: إقرأوا خلف الإمام في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ، وفي الأخريين أو بفاتحة الكتاب. وقال الحاكم في المستدرك: قد صحت الرواية عن عمر وعلي أنهما كانا يأمران بالقراءة خلف الإمام انتهى. وإن شئت أن تقف على آثار الصحابة في(2/237)
وبه يقولُ مالكٌ وابن المبارك والشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
وَرُوِيَ عن عَبْدِ الله بن المباركِ أنه قال: أنا أَقْرَأُ خلفَ الإمامِ والناس يَقْرأُونَ ، إلاّ قَوْماً من الكُوفِيّينَ. وَأرَى أنّ مَن لم يقرأْ صَلاَتهُ جائزةٌ.
وشدّدَ قومٌ مِن أهلِ العلم في تركِ قراءةِ فاتحةِ الكتاب ، وإنْ كان خلفَ الإمام ، فقالوا: لا تجزئ صلاةٌ إلا بقراءَةِ فاتحةِ الكتابِ ، وَحْدَهُ كانَ أوْ خلفَ الإمامِ وَذَهَبُوا إلى ما رَوَى عبادةُ بن الصامتِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
القراءة خلف الإمام فارجع إلى كتابنا تحقيق الكلام، وإلى كتاب القراءة خلف الإمام للبيهقي.
"وبه يقول مالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق" قال البخاري في جزء القراءة: وكان سعيد بن المسيب وعروة والشعبي وعبيد الله بن عبد الله ونافع بن جبير وأبو المليح والقاسم بن محمد وأبو مجلز ومكحول ومالك بن عون وسعيد بن عروبة يرون القراءة ، وقال فيه: وقال الحسن وسعيد بن جبير وميمون بن مهران ومالا أحصي من التابعين وأهل العلم أنه يقرأ خلف الإمام وإن جهر انتهى "وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: أنا أقرأ خلف الإمام والناس يقرأون إلا قوم من الكوفيين" يعني أبا حنيفة وأصحابه فهم لا يرون القراءة خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية ، وظهر من كلام ابن المبارك هذا أن كل من كان في عهد ابن المبارك من التابعين وأتباعهم كانوا يقرأون خلف الإمام غير قوم من أهل الكوفة "وأرى أن من لم يقرأ" أي خلف الإمام "صلاته جائزة" فابن المبارك كان يقرأ خلف الإمام ولكن لم يكن من القائلين بوجوب القراءة خلف الإمام "وشدد قوم من أهل العلم في ترك قراءة فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام" فقالوا: لا تجزيء صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وحده كان أو خلفه الإمام قولهم هذا هو القول الراجح المنصور وذهبوا إلى ما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". فإن لفظ: من في هذا الحديث من ألفاظ العموم ، فهو شامل للمأموم قطعاً كما هو شامل للإمام والمنفرد ، وكذلك لفظ: صلاة في قوله: لا صلاة عام يشمل كل صلاة فرضاً كانت أو نفلاً ، صلاة الإمام(2/238)
وقرأ عبادةُ بن الصامت بعدَ النبي صلى الله عليه وسلم خلفَ الإمامِ، وتَأَوّلَ قولَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ إلاّ بقراءةِ فاتحةِ الكتاب".
وبه يقولُ الشافعيّ وإسحاقُ وغيرُهما.
ـــــــ
كانت أو صلاة المأموم أو صلاة المنفرد ، سرية كانت أو جهرية.
قال الحافظ ابن عبد البر: وقال آخرون لا يترك أحد من المأمومين قراءة فاتحة الكتاب فيما جهر الإمام بالقراءة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخص بقوله ذلك مصلياً من مصل انتهى. وقال الحافظ في الفتح: واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم سواء أسر الإمام أو جهر لأن صلاته صلاة حقيقة فتنتفي عند انتفاء القراءة انتهى.
"وقرأ عباده بن الصامت بعد النبي صلى الله عليه وسلم خلف الإمام وتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب" روى الدارقطني عن زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول عن نافع بن محمود بن الربيع كذا قال " أنه سمع عبادة بن الصامت يقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر بالقراءة فقلت: رأيتك صنعت في صلاتك شيئاً قال وما ذاك قلت: سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر بالقراءة قال: نعم صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فلما انصرف قال: منكم من أحد يقرأ شيئاً من القرآن إذا جهرت بالقراءة قلنا نعم يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أقول ما لي أنازع القرآن فلا يقرأن أحد منكم شيئاً من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن". رواه الدارقطني وقال هذا إسناد حسن ورجاله ثقات كلهم "وبه يقول الشافعي وإسحاق وغيرهما" قال الخطابي في معالم السنن: قد اختلف العلماء في هذه المسألة نروي عن جماعة من الصحابة أنهم أوجبوا القراءة خلف الإمام وقد روي عن آخرين أنهم كانوا لا يقرأون، وافترق الفقهاء فيه على ثلاثة أقاويل،(2/239)
وأما أحمدُ بن حنبلٍ فقال: معنى قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ لِمَن لم يَقْرأْ بفاتحةِ الكتابِ" : إذا كان وَحْدَهُ. واحتَجّ بحديث جابر بن عبد الله حيثُ قالَ: "مَن صلّى رَكْعَةً لم يقرأْ فيها بِأُمّ القرآنِ فلم يُصَلّ، إلاّ أن يكونَ وراء الإمام" ِ. قال أحمدُ: فهذا رجلٌ مِن أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم تَأَوّلَ قولَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بفاتحةِ الكتابِ" : أنّ هذا إذا كان وحدَه. واختارَ أحمدُ مع هذا القراءَةَ خلفَ الإمامِ وأن لا يَتْرُكَ الرجلُ فاتحة الكتابِ وإنْ كان خلف الإمامِ.
ـــــــ
فكان مكحول والأوزاعي والشافعي وأبو ثور يقولون لا بد من أن يقرأ خلف الإمام فيها بجهر من الصلاة ، وقال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق: يقرأ فيما أسر الإمام فيه ولا يقرأ فيما جهر به ، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي لا يقرأ خلف الإمام جهر أو أسر انتهى كلام الخطابي.
تنبيه: قال العيني في شرح البخاري تحت حديث عبادة المذكور ما لفظه: استدل بهذا الحديث عبد الله بن المبارك والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات. انتهى.
قلت: هذا وهم من العيني ، فإن عبد الله بن المبارك لم يكن من القائلين بوجوب القراءة خلف الإمام كما عرفت ، وكذلك الإمام مالك والإمام أحمد لم يكونوا قائلين بوجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات.
"وأما أحمد بن حنبل فقال معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" إذا كان وحده وكذا قال سفيان كما ذكرناه أبو داود في سننه قلت: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخص إلا بدليل من الكتاب والسنة ولا يجوز تخصيصه بقول أحمد ولا بقول سفيان واحتج بحديث جابر بن عبد الله حيث قال من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا أن يكون وراء الإمام هذا قول جابر رضي الله عنه(2/240)
ـــــــ
وليس بحديث مرفوع "قال أحمد فهذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" أن هذا إذا كان وحده" حمل جابر هذا الحديث على غير المأموم مخالف لظاهره ، فإنه بعمومه شامل للمأموم أيضاً ، وقد عرفت أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو راوي الحديث قد حمله على ظاهره وعمومه ، وقد تقرر أن راوي الحديث أدرى بمراد الحديث من غيره. وحديث عبادة الذي أخرجه الترمذي في باب القراءة خلف الإمام من طريق ابن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع ، عن دليل واضح على أن حديث عبادة هذا محمول على ظاهره وعمومه. قال البيهقي في كتاب القراءة ص151 : فأما قراءة فاتحة الكتاب فجملة حديث عبادة ابن الصامت وأبي هريرة تدل على وجوبها على كل أحد سواء كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً مع ثبوت الدلالة فيه عن من حمل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك على العموم وأن وجوبها على المنفرد والإمام والمأموم وهو بالآثار التي رويناها عن عبادة بن الصامت وأبي هريرة في ذلك ، فمن ترك تفسيرهما وأخذ بتفسير سفيان ابن عيينة الذي ولد بعدهما بسنين ولم يشاهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاهدا ، حيث قال لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: هذا لمن يصلي وحده أو أخذ بتأويل من تأوله على غير ما تأولا من الفقهاء كان تاركاً لسبيل أهل العلم في قبول الأخبار وردها ، فنحن إنما صرنا إلى تفسير الصحابي الذي حمل الحديث لفضل علمه بسماع المقال ومشاهده الحال على غيره ، قال: ولو صار تأويل سفيان حجة لم يجب على الإمام قراءة القرآن في صلاته لأنه لا يصلي وحده إنما يصلي بالجماعة انتهى.
"وأختار أحمد مع هذا القراءة خلف الإمام وأن لا يترك الرجل فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام" وكذلك جابر رضي الله عنه حمل حديث عبادة المذكور على الذي يكون وحده ، ومع هذا كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر خلف الإمام.
تنبيه: عقد الترمذي للقراءة خلف الإمام ما بين وذكر فيهما مذاهب أهل العلم ولم يذكر في واحد منهما مذهب أهل الكوفة من الإمام أبي حنيفة ومن تبعه ، فلنا أن نذكر مذهبهم ودلائلهم مع بيان ما لها وما عليها بالإختصار ، ولنا كتاب مبسوط في تحقيق هذه المسألة سميناه تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام وفيه(2/241)
ـــــــ
بابان: الباب الأول في إثبات وجوب القراءة خلف الإمام ، والباب الثاني في الجواب عن أدلة المانعين، وقد أشبعنا الكلام في كل من البابين وبسطناه. وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة في كتابنا أبكار المنن.
فاعلم أن مذهب الإمام أبي حنيفة أن لا يقرأ خلف الإمام فيما جهر فيه ولا فيما لم يجهر ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله انتهى. هذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، وأما أكثر الحنفية فيقولون إن القراءة خلف الإمام مكروهة كراهة تحريم ، ويستدلون على مذهبهم كالشيخ ابن الهمام وغيره هو قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فكانوا يحتجون بقوله {فَاسْتَمِعُوا} على منع القراءة خلف الإمام في الصلوات الجهرية وبقوله {وَأَنْصِتُوا} على المنع في الصلوات السرية.
والاَن قد حصحص الحق لهم فاعترفوا بما في هذا الاستدلال من الإختلال.
فقال قائل منهم في رسالته إمام الكلام: الإنصاف الذي يقبله من لا يميل إلا الإعتساف أن الاَية التي أستدل بها أصحابنا على مذهبهم لا تدل على عدم جواز القراءة في السرية ولا عدم جواز القراءة في الجهرية حال السكتة انتهى.
وقال قائل منهم في رسالته الفرقان: أن كثيراً من العلماء الحنفية قد أدعوا الحنفية قد أدعوا أن قراءة المقتدي منسوخة بقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ، وأجتهدوا في إنبات النسخ به ، والحق أن هذا أدعاء محض لا يساعده الدليل. والعجب من أكابر العلماء يعني الحنفية الذي في العلوم الدينية كالبحر الذخار كيف تصدوا لإثبات النسخ بهذه الاَية انتهى كلامه مترجماً.
وقال قائل منهم. بعد ذكر وجوه عديدة تخدش الاستدلال بهذه الاَية ما لفظه: غاية ما في الباب أن الاَية لما أحتملت هذه الوجوه كان الاستدلال بقوله عليه السلام: من كان له إمام فقراء القرآن له قراءة كما تمسك به صاحب الهداية ، أوضح من الاستدلال بهذه الاَية انتهى.(2/242)
ـــــــ
قلت: قد ذكرنا في تحقيق الكلام وجوها كثيرة كلها تدل على أن أستدلال الحنفية بهذه الاَية على مطلوبهم المذكور ليس بصحيح المذكور ليس بصحيح ولا يثبت بها مدعاهم ونذكر ههنا خمسة وجوه منها.
فالأول منها: أن هذه ساقطة عن الاستدلال عند الفقهاء الحنفية لا يجوز الاستدلال بها وقد صرح بذلك في كتب أصولهم قال في التلويح في باب المعارضة والترجيح: مثال المصير إلى السنة عند تعارض الاَيتين قوله تعالى {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} تعارضنا فصرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة ، انتهى. وكذا في نور الأنوار وزاد فيه: فالأول بعمومه يوجب القراءة على المقتدي ، والثاني بخصوصه ينفيه ، وقد وردا في جميعاً فتساقطا فيصار إلى حديث بعده إلى حديث بعده وهو قوله عليه السلام: من كانت له إمام إلخ.
فالعجب من العلماء أنهم مع وجود هذا التصريح في كتب أصولهم كيف استدلوا بهذه الاَية.
والثاني: أن قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} إنما ينفي القراءة خلف الإمام جهراً وبرفع الصوت ، فإنها تشغل عن أستماع القرآن وأما القراءة خلفه في النفس وبالسر فلا ينفيها ، فإنها لا تشغل عن الاستماع ، فنحن نقرأ الفاتحة خلف الإمام عملاً بأحاديث القراءة خلف الإمام في النفس وسراً ، ونستمع القرآن عملاً بقوله "وإذا قريء القرآن" ولاشتغال بأحدهما لا يفوت الاَخر.
ألا ترى أن الفقهاء الحنفية يقولون إن أستماع الخطبة يوم الجمعة واجب لقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} ومع هذا يقولون إذا خطب الخطيب { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فيصلي السامع سراً وفي النفس قال في الهداية: إلا أن يقرأ الخطيب قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا} الاَية فيصلي السامع في نفسه انتهى. وقال في الكفاية: قوله: فيصلي السامع في نفسه أي فيصلي بلسانه خفياً انتهى. وقال العيني في رمز الحقائق: لكن إذا قرأ الخطيب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(2/243)
ـــــــ
يصلي السامع ويسلم في نفسه سراً إئتماراً للأمر انتهى. وقال في البناية. فإن قلت: توجه عليه أمران أحدهما صلوا عليه وسلموا ، والأمر الاَخر قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ، قال مجاهد: نزلت في الخطبة والإشتغال بأحدهما يفوت الاَخر ، قلت: إذا صلى في نفسه ونصت وسكت يكون آتياً بموجب الأمرين انتهى. وقال الشيخ ابن الهمام في فتح القدير: وعن أبي يوسف ينبغي أن يصلي في نفسه لأن ذلك مما لا يشغله عن سماع الخطبة فكان إحرازاً للفضلين انتهى.
والثالث: قال الرازي في تفسيره. السؤال الثالث وهو المعتد أن نقول الفقهاء أجمعوا على أنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد فهب أن عموم قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} بوجب سكوت المأموم عند قراءة الإمام إلا أن قوله عليه السلام: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، وقوله: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، أخص من ذلك العموم ، وثبت أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لازم فوجب المصير إلى تخصيص هذه الاَية بهذا الخبر وهذا السؤال حسن انتهى. وفي تفسير النيسابوري وقد سلم كثير من الفقهاء عموم اللفظ إلا أنهم جوزوا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ههنا قوله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب انتهى. وقال صاحب غيث الغمام حاشية إمام الكلام: ذكر ابن الحاجب في مختصر الأصول والعضد في شرحه أن تخصيص عام القرآن بالمتواتر جائز أتفاقاً وأما بخبر الواحد فقال بجوازه الأئمة الأربعة، وقال ابن أبان من الحنفية: إنما يجوز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل قطعي منفصلاً كان أو متصلاً. وقال الكرخي: إنما يجوز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل ، منفصلاً قطيعاً كان أو ظنيا انتهى.
والرابع: أنه لو سلم أن هذه الاَية تدل على منع القراءة خلف الإمام فإنما تدل على المنع إذا جهر الإمام ، فإن الاستماع والإنصات لا يمكن إلا إذا جهر وقد أعترف به العلماء الحنفية أيضاً ، فقال قائل في تعليقاته على الترمذي ما لفظه: ولا تعلق لها يعني هذه الاَية بالسرية والإنصات معناه في اللغة كان لكانا أورسننا ويكون في الجهرية سيما إذا اجتمع الاستماع والإنصات وما من كلام فصيح يكون الإنصات فيه في السر انتهى. فنحن نقرأ خلف الإمام في الصلوات السرية وفي الجهرية أيضاً عند سكتات الإمام ، فإن الاَية(2/244)
ـــــــ
لاتدل على المنع إذا جهر ، قال الإمام البخاري في جزء القراءة: قيل له احتجاجك بقول الله تعالى {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} أرأيت إذا لم يجهر الإمام يقرأ خلفه؟ فإن قال: لا بطل دعواه ، لأن الله تعالى قال {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وإنما يستمع لما يجهر ، مع أنا نستعمل قول الله تعالى {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} نقول يقرأ خلف الإمام عند السكتات انتهى. وقد أعترف بهذا كله بعض الفاضل الكنوي العلماء الحنفية حيث قال هذه الاَية لا تدل على عدم جواز القراءة في السرية ولا على عدم الجواز القراءة في الجهرية حال السكتة.
الخامس: أن هذه الاَية لا تعلق لها بالقراءة خلف الإمام، فإنه ليس فيها خطاب مع المسلمين بل فيها خطاب مع الكفار في ابتداء التبليغ. قال الرازي في تفسيره: وللناس فيه أقوال: الأول هو قول الحسن وهو قول أهل الظاهر أنا نجري هذه الاَية على عمومها ، ففي أي موضع قرأ الإنسان وجب على كل أحد استماعه. والقول الثاني أنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة. والقول الثالث نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام ، وهو قول أب حنيفة وأصحابه. والرابع أنها نزلت في السكوت عند الخطبة وفي الاَية قول الخامس وهو أنه خطاب مع الكفار في ابتداء التبلغ وليس خطاباً مع المسلمين ، وهذا قول حسن مناسب وتقريره أن الله تعالى حكى قبل هذه الاَية أن أقواماً من الكفار يطلبون آيات مخصوصة ومعجزات مخصوصة ، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يأتيهم بها قالوا لولا اجتبيتها ، فأمر الله رسوله أن يقول جواباً عن كلامهم: إنه ليس لي أن أقترح على ربي ، وليس إلى إلا أن أنتظر الوحي ، ثم بين أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها في صحة النبوة لأن القرآن معجزة تامة كافية في إثبات النبوة ، وعبر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فلو قلنا إن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} المراد منه قراءة المأموم خلف الإمام لم يحصل بين هذه الاَية وبين ما قبلها تعلق بوجه من الوجوه وانقطع النظم وحصل فساد التركيب ، وذلك لا يليق بكلام الله تعالى ، فوجب أن يكون المراد منه شيئاً آخر سوى هذا الوجه ، وتقريره أنا لما أدعى كون القرآن بصائر وهدى ورحمة من حيث أنه معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام ، وكونه كذلك لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن على أولئك الكفار استمعوا له وأنصتوا حتى يقفوا على(2/245)
ـــــــ
فصاحته ويحيطوا بما فيه من العلوم الكثيرة ، فحينئذ يظهر لهم كونه معجزاً دالاً على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، فيستغنوا بهذا القرآن عن طلب سائر المعجزات ، ويظهر لهم صدق قوله في صفة القرآن بصائر وهدى ورحمة. فثبت أنا إذا حملنا الاَية على هذا الوجه استقام النظم وحصل الترتيب ، فثبت أن حمله على ما ذكرناه أولى. وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا} ، خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في معرض الاحتجاج وبكونه معجزاً على صدق نبوته ، وعند هذا يسقط استدلال الخصوم بهذه الاَية من كل الوجوه.
ومما يقوى أن حمل الاَية على ما ذكرناه أولى وجوه.
الأول: أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم قالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . فلما حكى عنهم ذلك ناسب أن يأمرهم بالاستماع والسكوت حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن من الوجوه الكثيرة البالغة إلى حد الإعجاز.
والوجه الثاني: أنه قال قبل هذه الاَية هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون فحكم بكون هذا القرآن رحمة للمؤمنين على سبيل القطع والجزم ثم قال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} إلخ ولو كان المخاطبون بقوله فاستمعوا وأنصتوا هم المؤمنون لما قال: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لأنه جزم قبل هذه الاَية يكون القرآن رحمة للمؤمنين قطعاً فكيف يقول بعده من غير فصل لعله يكون القرآن رحمة للمؤمنين أما إذا قلنا إن المخاطبين به هم الكافرون صح حينئذ قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} انتهى كلام الرازي ملخصاً.
فإن قلت: قد أخرج البيهقي عن الإمام أحمد قال: أجمع الناس على أن هذه الاَية في الصلاة انتهى. فمع إجماع الناس على أن هذه الاَية في الصلاة كيف يصح قول من قال إن فيها خطاباً مع الكفار وليس فيها خطاب مع المسلمين.
قلت: لم يذكر الزيلعي إنساد قول أحمد هذا ولم يبين أن البيهقي في أي كتاب أخرجه ، وقد طالعت كتاب القراءة له من أوله إلى آخره ولم أجد فيه قول أحمد هذا ، وكذا طالعت باب القراءة خلف الإمام في كتابه معرفة السنن له ولم أجد فيه قول أيضاً هذا القول ، فالله اعلم أن البيهقي في أي كتاب أخرجه وكيف حال إسناده. ثم هذا القول(2/246)
ـــــــ
ليس بصحيح في نفسه. فإن في شأن نزول هذه الاَية أقوالاً: منها أنها نزلت في السكوت عند الخطبة ، وأيضاً يدل على عدم صحته قول ابن المبارك. أنا أقرأ خلف الإمام والناس يقرأون إلا قوم من الكوفيين وأيضاً يدل على عدم صحته أن الإمام أحمد أختار القراءة خلف الإمام وأن لا يترك الرجل فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام كما ذكره الترمذي فتفكر. وأيضاً يدل على عدم صحة أن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا في القراءة خلف الإمام وقد قال بها أكثر أهل العلم كما صرح به الترمذي فتفكر.
فإن قلت: الخطاب في هذا الاَية وإن كان مع الكفار لكن قد تقرر في مقرة أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
قلت: لا شك في أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، لكن قد تقرر أيضاً في مقره أن اللفظ لو يحمل على عمومه يلزم التعارض والتناقض ، ولو يحمل على خصوص السبب يندفع التعارض ، فحينذ يحمل على خصوص السبب. قال الشيخ ابن الهمام في فتح القدير: وما روى في الصحيحين أن عليه الصلاة والسلام كان في سفر فرأى زحاماً ورجل قد ظلل عليه فقال ما هذا؟ فقالوا: صائم فقال ليس من البر الصيام في السفر ، محمول على أنهم استضروا به بدليل ما ورد في صحيح مسلم في لفظ: أن الناس قد شق عليهم الصوم. والعبرة وإن كان لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن يحمل عليه دفعاً للمعارضة بين الأحاديث الخ. فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لو يحمل قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} على عمومه لزم التعارض والتناقض والتناقض بينه وبين قوله تعالى {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وأحاديث القراءة خلف الإمام. ولو يحمل على خصوص السبب يندفع التعارض فحينئذ يحمل على خصوص السبب هذا وإن شئت الوقوف على الوجوه الأخرى فارجع إلى كتابنا تحقيق الكلام.
والدليل الثاني للحنفية: حديث أبي موسى قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قمتم إلى الصلاة فليؤمكم أحدكم ، وإذا قرأ الإمام فأنصتوا" أخرجه أحمد ومسلم. وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا" أخرجه الخمسة إلا الترمذي.
قلت محل الاستدلال من هذين الحديثين هو قوله: وإذا قبرأ الإمام فأنصتوا ، وهو غير(2/247)
ـــــــ
محفوظ عند أكثر الحفاظ، قال الزيلعي في نصب الراية: قال البيهقي في المعرفة بعد أن روى حديث أبي هريرة وأبي موسى: وقد أجمع الحافظ على خطأ هذه اللفظة في الحديث أبو داود وأبو حاتم وابن معين والحاكم والدارقطني وقالوا إنها ليست بمحفوظة انتهى. ولو سلم أن لفظ: وإذا قرأ فأنصتوا في هذين الحديثين محفوظ فالاستدلال به على منع القراءة خلف الإمام ليس بصحيح ، كما أن الاستدلال على هذا المطلوب بقوله تعالى: وإذا قريء القرآن ليس بصحيح كما عرفت. وعلى عدم صحة الاستدلال به على المنع وجوه أخرى ذكرناها في كتابنا تحقيق الكلام منها أن قوله: وإذا قرئ فأنصتوا ، محمول على ما عدا الفاتحة ، جمعاً بين الأحاديث: قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: واستدل من أسقطها عنه في الجهرية كالمالكية بحديث: وإذا قرأ فأنصتوا ، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري ، ولا دلالة في لامكان الجمع بين الأمرين فينصت فيما عدا الفاتحة أو ينصت إذا قرأ الإمام إذا سكت. وقال الإمام البخاري في جزء القراءة: ولو صح لكان يحتمل سوى الفاتحة وإن قرأ فيما سكت الإمام.
ويؤيد هذا أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يفتي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام في جميع الصلوات جهرية كانت أو سرية وهو راوي حديث: وإذا قرأ فأنصتوا أيضاً.
والدليل الثالث للحنفية: حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ، أخرجه الدارقطني والطحاوي وغيرهما.
قلت الاستدلال بهذا الحديث على منع القراءة خلف الإمام ليس بصحيح ، فإن هذا الحديث بجميع طرقه ضعيف كما بيناه في كتابنا تحقيق الكلام: قال الحافظ في فتح الباري: واستدل من أسقطها عن المأموم مطلقاً كالحنفية بحديث من صلى خلف الإمام فقراءة الإمام له قراءة لكنه ضعيف عند الحافظ ، وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني وغيره انتهى. وقال في التلخيص: حديث من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة مشهورة من حديث جابر وله طرق عن جماعة من الصحابة وكلها معلولة انتهى.
ولو سلمنا أن هذا الحديث صحيح فلنا عنه أجوبة عديدة ذكرناها في تحقيق الكلام فمنها ما قال الفاضل اللكنوي في كتابه إمام الكلام إن هذا الحديث يعني حديث من(2/248)
ـــــــ
كان له إمام الخ لس بنص على ترك قراءة بل يحتملها ويحتمل قراءة ما عداها ، وتلك الروايات يعني روايات عبادة وغيره في القراءة خلف الإمام تدل على وجوب قراءة الفاتحة أو استحسانها نصاً فينبغي تقديمها عليه قطعاً انتهى. وقال في أيضاً: حديث عبادة نص في قراءة الفاتحة خلف الإمام ، وأحاديث الترك والنهي لا تدل على تركها نصاً بل ظاهراً، وتقديم النص على الظاهر منصوص في كتب الأعلام انتهى. وقال الحازمي في كتاب الإعتبار: الوجه الثالث أن يكون الحاكم الذي تضمنه أحد الحديثين منطوقاً وما تضمنه الحديث الاَخر يكون محتملاً يعني فيتقدم الأول على الثاني انتهى.
ومنها: ما قال الإمام البخاري في جزء القراءة: فلو ثبت الخبر أن كلاهما لكان هذا مستثنى من الأول لقوله لا يقرأن إلا بأم الكتاب ، وقوله: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة جملة وقوله إلا بأم القرآن مستثنى من الجملة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً. ثم قال في أحاديث آخر إلا المقبرة وما استثناه من الأرض والمستثنى خارج من الجملة: وكذلك فاتحة الكتاب خارج من قوله: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة مع انقطاعه انتهى.
ومنها: أن هذا الحديث وارد فيما عدا الفاتحة: قال صاحب إمام الكلام: قد يقال إن مورد هذا الحديث هو قراءة رجل خلف النبي صلى الله عليه وسلم فهو شاهد لكونه وارداً فيما عدا الفاتحة انتهى. وقال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: وحمل البيهقي هذه الأحاديث على ما عدا الفاتحة ، واستدل بحديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ثم قال لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم ، قال: فالا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب وأخرجه أبو داود بإسناد رجاله ثقات ، وبهذا يجمع الأدلة المثبتة للقراءة والنافية انتهى.
ومنها: أن هذا الحديث منسوخ عند الحنفية فلا يصح الاستدلال به على منع القراءة خلف الإمام ، وتقرير النسخ عندهم أن جابراً راوي هذا الحديث رضي الله عنه كان يقرأ خلف الإمام ، وكذلك روى هذا الحديث أبو هريرة وأنس وأبو سعيد وابن عباس وعلي وعمران بن حصين رضي الله عنهم ، وكل هؤلاء كانوا يقرأون خلف الإمام ويفتون بها. وعمل الراوي وفتواه خلاف حديثه يدل على نسخه عندهم ، أما قراءة جابر فقد رواه ابن ماجه بسند صحيح عنه قال: كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين.(2/249)
ـــــــ
الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب: قال الشيخ أبو الحسن السندي في حاشية ابن ماجه قوله: كنا نقرأ قال المزي موقوف ثم قال: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات انتهى.
وأما فتوى أبي هريرة مسلم في صحيحه في حديث الخداج بفظ: فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام ، فقال اقرأ بها في نفسك انتهى وأخرجه الحافظ أبو عوانة في صحيحه في هذا الحديث بلفظ فقلت لأبي هريرة فإني أسمع قراءة القرآن فغمزني بيده قال يا فارسي أو ابن الفارسي اقرأ بها في نفسك انتهى. وقال البيهقي في معرفة السنن: وفي رواية عن سفيان عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة في هذا الحديث: قلت يا أيا هريرة إني أسمع قراءة الإمام ، فقال يا فارسي أبو ابن الفارسي اقرأ بها في نفسك انتهى. وأسانيد هذا الفتوى صحيحة.
وأما فتوى أنس رضي الله عنه فأخرجه البيهقي في كتاب القراءة بإسناده عن ثابت عنه قال: كان يأمرنا بالقراءة خلف الإمام ، قال وكنت أقوم إلى جنب أنس فيقرأ بفاتحة الكتاب وسورة من المفصل ويسمعنا قراءته لنأخذ عنه.
وأما فتوى أبي سعيد الخدري فأخرجه البيهقي أيضاً بإسناده عن أبي نضرة قال: سألت أبا سعيد الخدري عن القراءة خلف الإمام فقال بفاتحة الكتاب ، وإسناده حسن وقد اعترف به صاحب آثار السنن.
وأما فتوى ابن عباس رضي الله عنه فأخرجه البيهقي أيضاً بإسناده عن عطاء عنه قال: اقرأ خلف الإمام جهراً ولم يجهر ، وفي رواية له: قال لا تدع فاتحة الكتاب ، جهر الإمام أو لم يجهر ، وأخرجه بإسناده عن إسماعيل بن أبي خالد حدثنا العيزار ابن حريث قال: سمعت ابن عباس يقول: اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب ، قال البيهقي: وهذا سند صحيح لا غبار عليه.
وأما فتوى علي رضي الله عنه فأخرجه البيهقي أيضاً في كتاب القراءة بإسناده عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي رضي الله عنه قال: اقرأ في صلاة الظهر والعصر خلف الإمام بفاتحة الكتاب وسورة. قال البيهقي: هذا الإسناد من أصحح الأسانيد في الدنيا انتهى.(2/250)
ـــــــ
وأما فتوى عمران بن حصين رضي الله عنه فأخرجه البيهقي أيضاً في كتاب القراءة عنه قال لا تزكوا صلاة مسلم إلا بطهور وركوع وسجود وفاتحة الكتاب وراء الإمام وغير الإمام.
ومنها: أن هذا الحديث معارض ومخالف لقوله تعالى {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فإنه بعمومه نص صريح في أن المقتدي لا بد له من قراءة حقيقية خلف الإمام.
وهذا الحديث يدل على منع القراءة الحقيقية خلف الإمام على قول أكثرهم أو يدل على أن المقتدي لا حاجة له إلى القراءة الحقيقية خلف الإمام ، بل قراءة إمامه تكفيه على قول بعضهم ، وعلى كلا القولين يسقط هذا الحديث عن الاستدلال. وقد استدل الحنفية بحديث ابن أكيمة عن أبي هريرة الذي أخرجه الترمذي في هذا الباب بلفظ: أني أقول مالي أنازع القرآن ، وبحديث ابن مسعود ، وبحديث عمران بن حصين الذين أشار إليهما الترمذي وقد عرفت أن هذه الأحاديث الثلاثة لا تدل على منع القراءة خلف الإمام المتنازع فيها ، وهي قراءة خلف الإمام في النفس وبالسر ، بحيث لا تقضي إلا المنازعة بقراءة الإمام ، نعم تدل على منع القراءة بالجهر خلفه وهي ممنوعة بالإتفاق.
تنبيه: إعلم أن الحنفية قد استدلوا على منع القراءة خلف الإمام ببعض آثار الصحابة رضي الله عنه كأثر زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لا قراءة مع الإمام في شيء رواه مسلم. وأخرجه الطحاوي رحمه الله عن زيد وجابر وابن عمر أنهم قالوا لا يقرأ خلف الإمام في شيء من الصلوات.
قلت: احتجاجهم بهذه الآثار ليس بشيء ، فإن الأئمة الحنفية كالشيخ ابن الهمام وغيره قد صرحوا بأن قول الصحابي حجة ما لم ينفه شيء من السنة ، وقد عرفت أن الأحادييث المرفوعة الصحيحة دالة على وجوب القراءة خلف الإمام فهي تنفي هذه الآثار فكيف يصح الاحتجاج بها. قال صاحب إمام الكلام: صحر ابن الهمام وغيره أن قول الصحابي حجة ما لم ينفيه شيء من السنة. ومن المعلوم أن الأحاديث المرفوعة دالة على إجازة قراءة الفاتحة خلف الأئمة ، فكيف يؤخذ بالآثار وتترك السنة انتهى.
وأيضاً قد صرحوا بأن حجية الصحابة إنما تكون مفيدة إذا لم يكن الأمر مختلفاً فيه بينهم كما في التوضيح ونور الأنوار ، والأمر فيما نحن فيه ليس كذلك ، بل فيه(2/251)
312 ـ حدثَنَا إسحاقُ بن موسى الأنْصَارِيّ أخبرنا مَعْنٌ أخبرنا مالِكٌ عن أبي نُعَيْمٍ وهْبِ بن كَيْسَانَ: "أنّهُ سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله يقولُ: مَنْ صَلّى رَكْعَةً لم يَقْرأْ فيها بِأُمّ القُرْآنِ فَلَمْ يُصَلّ إلاّ أنْ يكونَ وراءَ الإمامِ".
هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
اختلاف الصحابة رضي الله عنه كما عرفت فكيف يصح احتجاجهم بهذه الآثار ، لا بد أن تحمل على قراءة السورة التي بعد الفاتحة أو على الجهر بالقراءة مع الإمام لئلا تخالف الأحاديث المرفوعة الصحيحة. قال النووي في شرح مسلم: والثاني أنه أي قول زيد بن ثابت محمول على قراءة السورة التي بعد الفاتحة في الصلاة الجهرية ، فإن المأموم لا يشرع له قراءتها ، وهذا التأويل متعين ليحمل قوله على موافقة الأحاديث الصحيحة انتهى. وقال البيهقي في كتاب القراءة: وهو قول زيد رضي الله عنه محمول عندنا على الجهر بالقراءة مع الإمام ، وما من أحد من الصحابة وغيرهم من التابعين قال في هذه المسألة قولاً لا يحتج به من لم ير القراءة خلف الإمام إلا وهو يحتمل أن يكون المراد به ترك الجهر بالقراءة انتهى.
قوله: "من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصح إلخ" قال البيهقي في كتاب القراءة ص بعد ما أخرج هذا الأثر ما لفظه: فيه حجة على تعين القراءة في الصلاة بأم القرآن ووجوب قراءتها في كل ركعة من ركعات الصلاة خلاف قول من قال لا يتعين ولا يجب قراءتها في الركعتين الأخريين. فأما قوله إلا وراء الإمام فيحتمل أن يكون من مذهبه جواز ترك القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة ، فقد روينا عنه فيما تقدم: كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب. ويحتمل أن يكون المراد به الركعة التي يدرك المأموم إمامه راكعاً فيجزي عنه بلا قراءة. وإلى هذا التأويل ذهب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي فيما حكاه محمد بن إسحاق بن خزيمة عنه ، فقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو غانم أزهر بن أحمد بن حمدون المنادي ببغداد أخبرنا أبو قلابة الرقاشي أخبرنا بكير بن بكار(2/252)
ـــــــ
أخبرنا مسعر بن يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله قال: كان يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في الأخريين بفاتحة الكتاب قال: وكنا نتحدث أنه لا يجوز صلاة إلا بفاتحة الكتاب وشيء معها. وفي رواية ابن بشر أن فما فوق ذاك أو قال فما أكثر من ذاك وهذا لفظ عام يجمع المنفرد والمأموم والإمام ، ورواه عبيد الله بن مقسم عن جابر بن عبد الله أنه قال: سنة القراءة في الصلاة أن يقرأ في الأولين بأم القرآن وسورة وفي الأخريين بأم القرآن والصحابي إذا قال سنة وكنا نتحدث فإن جماعة من أصحاب الحديث يخرجونه في المسانيد انتهى ما في كتاب القراءة.(2/253)
باب: ما جاء ما يقول عند دخوله المسجد
...
231ـ باب ما جاء ما يقولُ عندَ دُخُول المَسْجِد
313ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ حدثنا إسْمَاعِيلُ بنُ إبراهيمَ عن لَيْثٍ عن عَبْدِ الله بنِ الحَسَنِ عن أُمّهِ فاطِمَةَ بنتِ الحُسَيْنِ عن جَدّتِهَا فاطمَة الكُبْرَى قالت : "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلَ المَسجدَ صلّى على محمدٍ وسلّمَ ، وَقالَ رَبّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وافْتَحْ لِي أبْوَابَ رْحمَتِكَ ،
ـــــــ
"باب ما جاء ما يقولُ عندَ دُخُول المَسْجِد"
قوله: "عن ليث" هو ليث بن أبي سليم صدوق اختلط أخيراً فلم يتميز حديثه فترك كذا في التقريب "عن عبد الله بن الحسن" هو عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب الهاشمي المدني أبو محمد ثقة جليل القدر "عن أمه فاطمة بنت الحسين" هي فاطمة بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمية المدينة زوج الحسن بن الحسن بن علي بن طالب ثقة عن "جدتها فاطمة الكبرى" هي فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم الحسنين سيدة نساء هذه الأمة تزوجها علي في السنة الثانية من الهجرة وماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر وقد جاوزت العشرين بقليل.(2/253)
وإذا خرجَ صلّى على محمدٍ وسلّمَ ، وقالَ: ربّ اغفر لي ذُنوبي وافْتَحْ لي أبْوابَ فَضْلِكَ".
314ـ و قال عليّ بن حُجْرٍ: قال إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ: فَلَقيتُ عبدَ الله بنَ الحسنِ بمَكّةَ فَسَأَلْتُهُ عن هذا الحديثِ فَحَدّثَنِي به. قال: "كانَ إذا دخلَ قالَ: رَبّ افْتَحْ لي بَابَ رَحْمَتِكَ ، وإذا خرجَ قال: رَبّ افْتَحْ لِي بابَ فَضْلِكَ".
قال أبو عيسى: وفي البابِ أبي حُمَيدِ وأبي أُسَيْدٍ وأبي هُرَيرَةَ.
ـــــــ
قوله:"إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال "رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك" قال القاري في المرقاة: يحتمل قبل الدخول وبعده والأول أولى ، ثم حكمته بعد تعلمي أمته أنه صلى الله عليه وسلم كان يجب عليه الإيمان بنفسه كما كان يجب على غيره فكذا طلب منه تعظيمها بالصلاة منه عليها كما طلب ذلك من غيره انتهى. وفي رواية ابن ماجه: إذا دخل المسجد يقول: "بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك" ، وإذا خرج قال: بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" ، وكذلك في رواية أحمد "وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال: "رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" قال الطيبي: لعل السر في تخصيص الرحمة بالدخول والفضل بالخروج أن من دخل اشتغل بما يزلفه إلى ثوابه وجنته فيناسب ذكر الرحمة، وإذا خرج اشتغل بابتغاء الرزق الحلال فناسب ذكر الفضل كما قال الله تعالى {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي حميد وأبي أسيد وأبي هريرة" أما حديث أبي حميد فأخرجه ابن ماجه بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك". وأما حديث أسيد فأخرجه مسلم بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا(2/254)
قال أبو عيسى: حديثُ فاطمةَ حديثٌ حسنٌ ، وليس إسنادُهُ بِمُتّصِلٍ وفاطِمَةُ بنت الحُسَيْنِ لم تُدْرِكْ فاطمَةَ الكُبْرَى ، إنّمَا عاشَتْ فاطِمَةُ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أشْهُراً.
ـــــــ
خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك" . وأما حديث أبي هريرة فأخرجه ابن ماجه بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي ثم ليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليسلم على النبي وليقل اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم" .
قوله: "حديث فاطمة حديث حسن وليس إسناده بمتصل إلخ" فإن قلت: قد اعترف الترمذي بعدم اتصال إسناد حديث فاطمة فكيف قال حديث فاطمة حديث حسن؟ قلت: الظاهر أنه حسنه لشواهده وقد بينا في المقدمة أن الترمذي قد يحسن الحديث مع ضعف الترمذي في هذا الباب حديث فاطمة وليس إسناده بمتصل ولم يورد فيه حديث أبي أسيد وهو صحيح بل أشار إليه؟ قلت: ليبين وما فيه من الإنقطاع وليستشهد بحديث أبي أسيد وغيره ، وقد بينا ذلك في المقدمة.(2/255)
232ـ باب ما جاء إذا دخلَ أحَدُكم المسجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْن
315ـ حدثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعيدٍ حدثنا مالكُ بنُ أنَسٍ عن عَامر بنِ عَبْدِ الله بن الزّبَيْرِ عن عَمْرِو بنِ سُلَيْمٍ الزّرَقِيّ عن أبي قَتادَة قال:
ـــــــ
"باب ما جاء إذا دخلَ أحَدُكم المسجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْن"
قوله: "عن عامر بن عبد الله بن الزبير" ابن العوام الأسدي المدني ثقة عابد "عن(2/255)
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءَ أحَدُكُمْ المسجدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يَجْلِسَ".
ـــــــ
عمرو بن سليم الزرقي بضم الزاي وفتح الراء بعده قاف ثقة من كبار التابعين مات سنة أربع ومائة يقال له رواية" .
قوله: "فليركع ركعتين" أي فليصل ركعتين من إطلاق الجزء على الكل. قال الحافظ في الفتح: واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب. ونقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب. والذي صرح به ابن حزم عدمه.
ومن أدلة عدم الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره وفيه نظر انتهى. قلت: لعل وجه النظر أنه لا مانع له من أن يكون قد فعلها في جانب من المسجد قبل وقوع التخطي منه أو أنه كان ذلك الأمر بها والنهي عن تركها.
قلت: ومن أدلة عدم الوجوب ما أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون.
وأجيب عن ذلك بأن التحية إنما تشرع لمن أراد الجلوس ، وليس في الرواية أن الصحابة كانوا يدخلون ويجلسون ويخرجون بغير صلاة تحية ، وليس فيها إلا مجرد الدخول والخروج ، فلا يتم الاستدلال ، إلا بعد تبيين أنهم كانوا يجلسون.
ومن أدلة عدم الوجوب ضمام بن ثعلبة عند الشيخين وغيرهما لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما فرض الله عليه من الصلاة فقال: الصلوات الخمس فقال هل على غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع.
وأجيب عن ذلك بأن التعاليم الواقعة في مبادئ الشريعة لا تصلح الصرف وجوب ما تجدد من الأوامر وإلا لزم قصر واجبات الشريعة على الصلاة والصوم والحج والزكاة والشهادتين ، واللازم باطل فكذا الملزوم.
وأجيب أيضاً بأن قوله: إلا أن تطوع ينفي وجوب الواجبات ابتداء لا الواجبات بأسباب يختار المكلف فعلها كدخول المسجد مثلاً ، لأن الداخل ألزم نفسه الصلاة بالدخول فكأنه أوجبها على نفسه ، فلا يصح شمول ذلك الصارف لمثلها. وذكر الشوكاني(2/256)
ـــــــ
جواباً ثالثاً ، وذكر الجواب الأول مفصلاً ، وقال في آخر كلامه: إذا عرفت هذا لاح لك أن الظاهر ما قاله أهل الظاهر انتهى.
وقال الطحاوي أيضاً: الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها. قال الحافظ: هما عمومان تعارضا: الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل ، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة ، فلا بد من تخصيص أحد العمومين ، فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية ، وذهب جمع إلى عكسه وهو قول الحنفية والمالكية. وقال الشوكاني في النيل بعد ذكر هذين العمومين ما لفظه فتخصيص أحد العمومين بالاَخر تحكم وكذلك ترجيح أحدهما على الاَخر مع كون كل واحد منهما في الصحيحين بطرق متعددة ، ومع اشتمال كل واحد منهما على النهي أو النفي الذي في معناه ، ولكنه إذا ورد ما يقضي بتخصيص أحد العمومين عمل عليه ، وصلاته صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر مختص به ، بل ثبت عند أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له أم سلمة أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا. ولو سلم عدم الإختصاص لما كان في ذلك إلا جواز قضاء سنة الظهر لا جواز جمبع ذوات الأسباب نعم حديث يزيد بن الأسود الذي سيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: قد صلينا في رحالنا فقال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة. وكانت تلك الصلاة صلاة الصبح كما سيأتي يصلح لأن يكون من جملة المخصصات لعموم الأحاديث القاضية بالكراهة ، وكذلك ركعتا الطواف. وبهذا التقرير يعلم أن فعل تحية المسجد في الأوقات المكروهة وتركها لا يخلوا عند القائل بوجوبها من إشكال والمقام عندي من المضائق والأولى للمتورع ترك دخول المساجد في أوقات الكراهة انتهى كلام الشوكاني.
قوله: "قبل أن يجلس" قال الحافظ: صرح جماعة بأنه إذا خالف وجلس لا يشرع التدارك ، وفيه نظر لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذرأنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين؟ قال لا ، قال قم فاركعهما. ترجم عليه ابن حبان تحية المسجد لا تفوت بالجلوس قال الحافظ: ومثله قصة سليك كما سيأتي في الجمعة انتهى. قال القاري في المرقاة: وما يفعله بعض العوام من الجلوس أولا ثم القيام للصلاة ثانياً باطل لا أصل له انتهى. قلت: ويبطله حديث الباب.(2/257)
قال: وفي الباب عن جَابرٍ وأبِي أُمَامَةَ وأبي هريرةَ وأبي ذَر وكعبِ بنِ مالكٍ.
قال أبو عيسى: و حديثُ أبي قَتَادَةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقد رَوَى هذا الحديثَ محمدُ بنُ عَجْلاَنَ وغيرُ واحدٍ عن عامرٍ بنِ عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ نحوَ روايةِ مالك بن أنس.
ورَوَى سُهَيْلُ بنُ أبي صالحٍ هذَا الحديثَ عن عامِر بنِ عَبْدِ الله بنِ الزّبَيْرِ عن عَمْرِو ابن سُلَيْمٍ عن جابِر بنِ عَبْدِ الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وهذا حديث غيرُ محفوظٍ ، والصحيحُ حديثُ أبي قَتَادَةَ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن جابر وأبي أمامة وأبي هريرة وأبي ذر وكعب بن مالك" أما حديث جابر فأخرجه البخاري ومسلم بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سليكا الغطفاني لما أتى يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقعد قبل أن يصلي الركعتين: أن يصليهما. وأخرج مسلم عن جابر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره لما أتى المسجد بثمن جمله الذي أشتراه منه صلى الله عليه وسلم أن يصلي الركعتين. أما حديث أبي أمامة فلم أقف عليه. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه ابن عدي كما في التلخيص. وأما حديث أبي ذر فأخرجه ابن حبان في صحيحه وتقدم لفظه. وأما حديث كعب بن مالك فأخرجه الشيخان بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس فيه.
قوله: "حديث أبي قتادة حديث حسن صحيح" أخرجه الأئمة الستة في كتبهم "وروى سهيل بن أبي صالح هذا الحديث عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو بن سليم عن جابر بن عبد الله" فذكر سهيل بن أبي صالح عن جابر بن عبد الله بدل أبي قتادة وخالف غير واحد من أصحاب عامر بن عبد الله(2/258)
والعملُ على هذا الحديثِ عندَ أصحابنا: اسْتَحَبّوا إذا دخلَ الرّجُلُ المسجدَ أن لا يَجْلِسَ حَتّى يُصَلّيَ الرّكْعَتَيْنِ، إلاّ أنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ.
قال عليّ بنُ المَدِيني: و حديثُ سهيل بن أبي صالحٍ خَطَأٌ ، أخْبَرَنِي بذلك إسحاقُ ابنُ إبراهيمَ عن عليّ بن المَدِينِي.(2/259)
233ـ باب مَا جَاء أنّ الأرْضَ كُلّهَا مَسْجِدٌ إلاّ الْمَقْبَرَةَ والحَمّام
316ـ حدثنا ابن أبي عُمَرَ و أبو عَمّارٍ الحُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ قالا: حدثنا عبدُ العزيزِ بن محمد عن عَمْرِو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيدٍ الخُدْريّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الأرْضُ كُلهَا مَسْجِدٌ إلا المَقْبَرَةَ والحَمّامَ".
ـــــــ
"باب مَا جَاء أنّ الأرْضَ كُلّهَا مَسْجِدٌ إلاّ الْمَقْبَرَةَ والحَمّام"
قوله: "وأبو عمار الحسين بن حريث" بضم الحاء المهملة وفتح الراء وسكون التحتية وبالمثلثة الخزاعي مولاهم المروزي ثقة من العاشرة روى عن الفضل بن موسى والنضر بن شميل وفضل بن عياض وخلق وعنه خ م د ت س و د بالإجازة مات راجعاً من الحج سنة أربع وأربعين ومائتين.
قوله: "الأرض كلها مسجد "أي يجوز الصلاة فيها "إلا المقبرة" قال في القاموس المقبرة مثلثة الباء وكمكنسة موضع القبور "والحمام" بتشديد الميم الأولى هو الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم وهو في الأصل الماء الحار ، ثم قيل لموضع الإغتسال بأي ماء كان. والحديث يدل على منع الصلاة في المقبرة والحمام وقد أختلف الناس في ذلك. وأما المقبرة فذهب أحمد إلى تحريم الصلاة في المقبرة ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها ،(2/259)
وفي الباب عن علي وعبد الله بن عَمْرٍو وأبي هريرةَ وجابرٍ وابنِ عباسٍ وحُذَيْفَةَ وأنَسٍ وأبي أُمَامَةَ وأبي ذَر قالوا: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "جُعِلَتْ لِيَ الأرْض مسجداً وطهوراً".
ـــــــ
ولا بين أن يفرش عليها شيئاً يقيه من النجاسة أم لا ، ولا بين أن يكون في القبور أو في مكان منفرد منها كالبيت. وإلى ذلك ذهبت الظاهرية ولم يفرقوا بين مقابر المسلمين والكفار. وذهب الشافعي إلى الفرق بين المقبرة المنبوشة وغيرها فقال: إذا كانت مختلطة بلحم الموتى وصديدهم وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة ، فإن صلى رجل في مكان طاهر منها أجزأته. وذهب الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة ، ولم يفرقوا كما فرق الشافعي ومن معه بين المنبوشة وغيرها. وذهب مالك إلى جواز الصلاة في المقبرة وعدم الكراهة ، وحديث الباب يرد عليه. والظاهر ما ذهب إليه الظاهرية والله تعالى أعلم. وأما الحمام فذهب أحمد إلى عدم صحة الصلاة فيه ، وذهب الجمهور إلى صحة الصلاة في الحمام مع الطهارة وتكون مكروهة ، وظاهر الحديث هو المنع والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن علي وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة وجابر وابن عباس وحذيفة وأنس وأبي أمامة وأبي ذر قالوا. إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً" يعني أن هؤلاء الصحابة رضي الله عنه لم يذكروا الاستثناء. أما حديث علي فأخرجه البزار. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أحمد. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم والترمذي. وأما حديث جابر فأخرجه الشيخان والنسائي. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد. وأما حديث حذيفة فأخرجه مسلم والنسائي. وأما حديث أنس فأخرجه السراج في مسنده بإسناد قال العراقي صحيح. وأما حديث أبي أمامة فأخرجه أحمد والترمذي في كتاب السير وقال حسن صحيح. وأما حديث أبي ذر فأخرجه أبو داود.
قلت: وفي الباب أيضاً عن أبي موسى أخرجه أحمد والطبراني بإسناده جيد ، وعن ابن عمر أخرجه البزار والطبراني ، وعن السائب بن يزيد فأخرجه أيضاً الطبراني.(2/260)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي سعيدٍ قد رُوِيَ عن عبدِ العزيزِ بن محمدٍ روايتينِ:
منهم مَن ذَكَرَه عن أبي سعيدٍ، ومِنهم مَن لم يَذْكُرْه.
وهذا حديثٌ فيه إضطرابٌ.
رَوَى سفيانُ الثّوْرِيّ عن عَمْرو بن يَحْيَى عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: مُرْسلا.
وَرَوَاهُ حَمّادُ بنُ سَلَمَةَ عن عَمْرِو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوَاهُ محمدُ بنُ إسحاقَ عن عَمْرِو بن يحيى عن أبيه قال: وكان عَامّةُ روَايَتِه عن أبي سيعدٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولَمْ يَذْكُرْ فيهِ عن أبي سعيدٍ "عن النبي صلى الله عليه وسلم" .
وكأنّ رِوَايَةَ الثّوْرِيّ عن عَمْرِو بن يحيى عن أبيهِ
ـــــــ
قوله: "حديث أبي سعيد قد روى عن عبد العزيز بن محمد روايتين" أي روى عنه على نحوين فبعض أصحابه رواه عنه موصولاً بذكر أبي سعيد ، وبعضهم رواه عنه مرسلاً وبينه الترمذي بقوله منهم من ذكر عن أبي سعيد ومنهم من لم يذكره قوله: "ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه" يعني لم يذكر أبا سعيد قال أي أبو عيسى الترمذي "وكان عامة روايته" أي رواية محمد بن إسحاق "عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي كان عامة رواية محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه بذكر أبي سعيد موصولاً "ولم يذكر فيه عن أبي سعيد" أي لكن أبا إسحاق لم يذكر في حديث الباب أبا سعيد بل رواه مرسلاً "وكأن رواية الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله(2/261)
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أثْبَتُ وأَصَحّ.
ـــــــ
عليه وسلم أثبت وأصح" قال الحافظ في التلخيص: وقال البزار: رواه عبد الواحد بن زياد وعبد الله بن عبد الرحمن ومحمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى موصولاً: وقال الدارقطني في العلل المرسل المحفوظ، وقال فيها حدثنا جعفر بن محمد المؤذن ثقة حدثنا السري بن يحيى حدثنا أبو نعيم وقبيصة حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد به موصولاً وقال المرسل المحفوظ. وقال الشافعي وجدته عندي عن ابن عيينة موصولاً ومرسلاً. ورجح البيهقي المرسل أيضاً. وقال النووي في الخلاصة: هو ضعيف. وقال صاحب الإمام: حاصل ما علل به الإرسال وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول وأفحش ابن دحية فقال في كتاب التنوير له: هذا لا يصح من طريق من الطرق كذا قال فلم يصب. قلت: وله شواهد منها حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: نهى عن الصلاة في المقبرة أخرجه ابن حبان ومنها حديث علي: أن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة. أخرجه أبو داود انتهى.(2/262)
234ـ باب ما جاء في فَضْلِ بُنْيَانِ المَسْجِد
317ـ حدثنا بُنْدَارٌ ، حدثنا أبو بكرٍ الحَنَفِيّ حدثنا ، عبدُ الحميد بن جعفر عن أبيهِ عن محمود بنِ لَبِيدٍ عن عثمانَ بن عَفّانَ قال: سمعتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَنْ بَنَى لله مَسْجِداً بَنَى الله لَهُ مِثْلَهُ في الجَنّةِ".
ـــــــ
"باب ما جاء في فَضْلِ بُنْيَانِ المَسْجِد"
قوله: "أخبرنا أبو بكر الحنفي" اسمه عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد الله البصري وهو أبو بكر الحنفي الصغير، روى عنه بندار وأحمد وعلي بن المديني وغيرهم. قال في التقريب(2/262)
وفي الباب عن أبي بكرٍ وعُمَرَ وعلي وعَبْدِ الله بنِ عمرٍو وأنَس وابنِ عباسٍ وعَائِشَةَ وأُم حَبِيبَةَ وأبي ذَر وعَمْرِو بنِ عبَسَةَ وواثِلَةَ بنِ الأسْقَعِ وأبي هريرةَ وجابرِ بنِ عَبْدِ الله.
ـــــــ
ثقة من التاسعة مات سنة أربع ومائتين انتهى قلت: هو من رجال الكتب الستة.
قوله: "من بنى لله مسجداً" التنكير فيه للشيوع فيدخل فيه الكبير والصغير كما في الرواية الاَتية صغيراً كان أو كبيراً، وقوله: لله، يعني يبتغي به وجه الله. قال ابن الجوزي: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيداً من الإخلاص انتهى. ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد المخصوص لعدم الإخلاص وإن كان يؤجر في الجملة كذا في التفح "بنى الله له مثله" صفة لصدر محذوف أي بنى بناء مثله. قال النووي يحتمل قوله مثله أمرين: أن يكون معناه بنى الله تعالى مثله في مسمى البيت وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها وأنها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. الثاني: أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا انتهى كلام النووي. وقيل أي مثل المسجد في القدر والمساحة لكنه أنفس منه بزيادات كثيرة. وقال الحافظ في الفتح المثل له استعمالان أحدهما الإفراد مطلقاً كقوله تعالى {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} والاَخر المطابقة كقوله تعالى { إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فعلى الأول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة فيحصل جواب من أستشكل التقيد بقوله مثله مع أن الحسنة بعشر أمثالها لاحتمالها أن يكون المراد بنى الله له عشرة أبنية مثله. والأصل أن ثواب الحسنة الواحدة واحد بحكم العدل والزيادة بحكم الفضل. ومن الأجوبة المرضية أن المثلية ههنا بحسب الكمية والزيادة حاصلة بحسب الكيفية، فكم من بيت خير من عشرة بل من مائة أو أن المقصود من المثلية أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء لا من غيره من قطع النظر عن غير ذلك، مع أن التفاوت حاصل قطعاً بالنسبة إلى ضيق الدنيا وسعة الجنة، إذ موضع شبر فيها خير من الدنيا وما فيها. كما ثبت في الصحيح. وقد روى من حديث واثلة بلفظ بنى الله في الجنة أفضل منه، والطبراني من حديث أبي أمامة بلفظ أوسع منه وهذا يشعر بأن المثلية لم يقصد بها المساواة من كل وجه انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي بكر وعمرو وعلي وعبد الله بن عمرو وأنس وابن عباس وعائشة" .(2/263)
ـــــــ
أما حديث أبي بكر فأخرجه الطبراني في الأوسط مرفوعاً بلفظ: من بنى الله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وهب بن حفص وهو ضعيف انتهى.
قوله: "وأبي ذر وعمرو بن عبسة ووائلة بن الأسقع وأبي هريرة وجابر بن عبد الله" وأما حديث عمر فأخرجه ابن حبان بلفظ: من بنى لله مسجداً يذكر فيه اسم الله بنى الله بيتاً في الجنة. وأما حديث علي فأخرجه ابن ماجه مرفوعاً بلفظ: من بنى مسجداً لله بنى الله له بيتاً في الجنة، وإسناده ضعيف. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو نعيم من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحو حديث علي وزاد أوسع منه وروى أحمد أيضاً نحوه وأما حديث أنس فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو مسلم الكجي مثل حديث أنس وزاد: ولو كمفحص قطاة. وأما حديث عائشة فأخرجه مسدد في مسنده الكبير عنهنا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة قلت يا رسول الله وهذه المساجد التي في طريق مكة قال وتلك. وأما حديث أم حبيبة فأخرجه الطبراني في الأوسط. وأما حديث أبي ذر فأخرجه البزار وأما حديث عمرو بن عبسة فأخرجه النسائي. وأما حديث واثلة بن الأسقع فأخرجه الطبراني في معجمه الكبير بلفظ: من بنى مسجداً يصلي فيه بنى الله له بيتاً في الجنة أفضل منه. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان: من بنى لله بيتاً يعبد الله فيه حلالاً، بنى الله له بيتاً في الجنة من الدر والياقوت. وأما حديث جابر فأخرجه ابن خزيمة بلفظ: من حفر ماء لم يشرب كبد حي من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة ومن بنى مسجداً كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتاً في الجنة.
قلت: وفي الباب عن أبي قرصافة ونبيط بن شريط وعمر بن مالك وأسماء بنت يزيد ومعاذ وأبي أمامة وعبد الله بن أبي أوفى وأبي موسى وعبد الله بن عمرو بن الخطاب رضي الله عنهم. فأما حديث أبي قرصافة واسمه جندرة بن خيشنة فأخرجه الطبراني في الكبير أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها فمن بنى فذكره وزاد: قال رجل يا رسول الله وهذه المساجد التي تبنى في الطريق قال نعم وإخراج القمامة منها مهور حور العين، وفي إسناده جهالة: وأما حديث نبيط فأخرجه الطبراني أيضاً في الصغير. وأما حديث عمر بن مالك فأخرجه أبو موسى(2/264)
قال أبو عيسى: حديثُ عثمانَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
318ـ وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "مَنْ بَنَى لله مَسْجِداً صَغِيراً كَانَ أوْ كَبِيراً بَنَى الله لَهُ بَيْتاً في الجنة".
ـــــــ
المديني في كتاب الصحابة ولفظه: من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة وأما حديث أسماء بنت يزيد فأخرجه الطبراني نحوه وأما حديث معاذ فأخرجه أبو الفرج في كتاب العلل: من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة، ومن علق فيه قنديلاً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يطفيء ذلك القنديل ومن بسط فيه حصيراً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى ينقطع ذلك الحصير، ومن أخرج منه قذاة كان له كفلان من الأجر. وفيه كلام كثير. وأما حديث أبي أمامة فأخرجه أبو نعيم: وأما حديث عبد الله بن أبي أوفى فأخرجه الحافظ عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في جزء جمعه. وحديث أبي موسى كذلك: وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه البزار والطبراني في الأوسط من رواية الحاكم بن ظهير وهو متروك عن ابن أبي ليلى عن نافع عن بن عمر فذكره وزاد فيه الطبراني: ولو كمفحص قطاة. كذا في عمدة القاري.
قوله: "حديث عثمان حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً" وفي رواية ابن أبي شيبة من حديث عثمان: من بنى مسجداً ولو كمفحص قطاة، وهذه الزيادة أيضاً عند ابن حبان والبزار من حديث أبي ذر، وعند أبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس، وعند الطبراني في الأوسط من حديث أنس وابن عمر، وعند أبي نعيم في الحلية من حديث أبي بكر الصديق.
وحمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه لتضع فيها بيضها وترقد عليها لا يكفي مقداره للصلاة فيه كذا في الفتح.
قلت: للعلماء في توجيه قوله: ولو كمفحص قطاة، قولان: الأول أنه محمول على المبالغة وهو قول الأكثر، وقال آخرون هو على ظاهر، فالمعنى على هذا أن يزيد في مسجد قدراً يحتاج إليه وتكون هذه الزيادة على هذا القدر أو يشترك جماعة في بناء المسجد فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر.(2/265)
بذلك قُتَيْبَةُ بنُ سعيدٍ حدثنا نُوحُ بنُ قيسٍ عن عبدِ الرحمنِ مولَى قيسٍ عن زيادٍ النُمَيْرِيّ عن أنسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا.
ومحمودُ بنُ لَبِيدٍ قد أدْرَكَ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ومحمودُ بنُ الرّبيعِ قد رَأَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهما غُلاَمانِ صَغِيرَانِ مَدَنِيّانِ.
ـــــــ
قيل: هذا كله بناء على أن المراد بالمسجد ما يتبادر إليه الذهن وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد موضع السجود وهو ما يسع الجبهة فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر.
قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: من بنى يقتضي وجود بناء على الحقيقة فيحمل على المسجد المعهود بين الناس، ويؤيد ذلك حديث أم حبيبة: من بنى لله بيتاً وقد تقدم، وحديث عمر رضي الله عنه أيضاً من بنى لله مسجداً يذكر فيه اسم الله، وقد تقدم أيضاً "حدثنا نوح بن قيس" بن رباح الأزدي أبو روح البصري أخو خالد صدوق رمى بالتشيخ "عن عبد الرحمن مولى قيس" مجهول كذا في التقريب والخلاصة "عن زيادة النميري" بضم النون وفتح الميم مصغراً وزياد هذا هو زياد بن عبد الله النميري البصري، قال الحافظ في التقريب ضعيف، وقال الذهبي في الميزان ضعفه ابن معين، وقال أبو حاتم لا يحتج به، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكره في الضعفاء أيضاً فقال لا يجوز الاحتجاج به: قال الذهبي: فهذا تناقض قال له في بناء المساجد انتهى "عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا" أي بهذا الحديث المذكور وهو حديث ضعيف لأن في سنده راوياً مجهولاً وراوياً ضعيفاً. ولكن الأحاديث التي فيها زيادة: ولو كمفحص قطاة تعضده.
قوله: "وهما غلامان صغيران" قال في التقريب في ترجمة محمود بن لبيد: صحابي صغير وجل روايته عن الصحابة وكذلك قال في ترجمة محمود بن الربيع(2/266)
235ـ باب ما جاء في كراهيَةِ أنْ يَتّخِذَ عَلَى الْقَبْرِ مَسْجِداً
319ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا عبدُ الوارث بن سعيدٍ عن محمدِ بنِ جُحَادَةَ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عباس قال: "لَعَنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم زَائِرَاتِ الْقُبورِ والمتّخِذِينَ عليها المسَاجِدَ والسّرجَ".
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهيَةِ أنْ يَتّخِذَ عَلَى الْقَبْرِ مَسْجِداً"
قوله: "أخبرنا عبد الوارث بن سعيد" بن ذكوان العنبري مولاهم البصري ثقة ثبت "عن محمد بن جحادة" بضم الجيم وتخفيف المهملة ثقة.
قوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" قال الترمذي في كتاب الجنائز قد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور ، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء ، وقال بعضهم إنما كره زيارة القبور في النساء لقلة صبرهم وكثرة جزعهن انتهى. ونذكر هناك ما هو الراجح في هذه المسألة "والمتخذين عليها المساجد" قال ابن الملك: إنما حرم اتخاذ المساجد عليها لأن في الصلاة فيها استنانا بسنة اليهود انتهى. قال القاري في المرقاة: وقيد "عليها" يفيد أن اتخاذ المساجد بجنبها لا بأس به ، ويدل عليه قوله عبد السلام: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد انتهى.
قلت: إن كان اتخاذ المساجد بجنب القبور لتعظيمها أو لنية أخرى فاسدة فليس بجائز كما ستقف عليه "والسرج" جمع سراج ، قال في مجمع البحار: نهى عن الإسراج لأنه تضييع مال بلا نفع أو احترازا عن تعظيم القبور كاتخاذها مساجد.
تنبيه: قال في مجمع البحاري: وحديث لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد كانوا يجعلونها قبلة يسجدون إليها في الصلاة كالوثن ، وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح أو صلى في مقبرة قاصداً به الاستظهار بروحه أو وصول أثر من(2/267)
ـــــــ
آثار عبادته إليه لا التوجه نحوه والتعظيم له فلا حرج فيه ، ألا يرى أن مرقد إسماعيل في الحجر في المسجد الحرام والصلاة فيه أفضل انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات في شرح هذا الحديث: لما أعلمه بقرب أجله فخشى أن يفعل بعض أمته بقبره الشريف ما فعلته اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم فنهي عن ذلك. قال التوربشتي هو مخرج على الوجهين: أحدهما كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لهم وقصد العبادة في ذلك وثانيهما أنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إلى قبورهم في حالة الصلاة والعبادة لله نظراً منهم أن ذلك الصنيع أعظم موقعاً عند الله لاشتماله على الأمرين: عبادة والمبالغة في تعظيم الأنبياء ، وكلا الطريقين غير مرضية ، وأما الأول فشرك جلي ، وأما الثانية فلما فيها من معنى الإشراك بالله عز وجل وإن كان خفياً. والدليل على ذم الوجهين قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تجعل قبري وثناً ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والوجه الأول أظهر وأشبه ، كذا قال التوربشتي وفي شرح الشيخ: فعلم منه أنه يحرم الصلاة إلى قر نبي أو صالح تبركاً وإعظاماً ، قال وبذلك صرح النووي وقال التوربشتي وأما إذا وجد بقربها موضع بنى للصلاة أو مكان يسلم فيه المصلى عن التوجه إلى القبور فإنه في ندحة من الأمر ، وكذلك إذا صلى في موضع قد اشتهر بأن فيه مدفن بنى لم ير للقبر فيه علماً ولم يكن تهده ما ذكرناه من العمل الملتبس بالشرك الخفي. وفي شرح الشيخ مثله حيث قال: وخرج بذلك اتخاذ مسجد بجوار نبي أو صالح والصلاة عند قبره لا لتعظيمه والتوجه نحوه بل لحصول مدد منه حتى يكمل عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح الطاهرة فلا حرج في ذلك لما ورد أن قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب ، وأن في الحطم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبياً ، ولم ينه أحد عن الصلاة فيه انتهى. وكلام الشارحين مطابق في ذلك انتهى ما في اللمعات.
قلت: ذكر صاحب الدين الخالص عبارة اللمعات هذه كلها ثم قال رداً عليها ما لفظه: ما أبرد هذه التحرير والاستدلال عليه بذلك التقرير ، لأن كون قبر إسماعيل عليه السلام وغيره من الأنبياء سواء كانوا سبعين أو أقل أو أكثر ليس من فعل هذه الأمة المحمدية ولا هو وهم دفنوا الغرض هناك ، ولا نبه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا علامات لقبورهم منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا تحري نبينا عليه(2/268)
قال وفي الباب عن أبي هرَيرَة وعائشةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عباس حديثٌ حسنٌ.
ـــــــ
الصلاة والسلام قبراً من تلك القبور على قصد المجاورة بهذه الأرواح المباركة ، ولا أمر به أحداً ولا تلبس بذلك أحد من سلف هذه الأمة وأئمتها ، بل الذي أرشدنا إليه وحثنا عليه أن لا نتخذ قبور الأنبياء مساجد كما اتخذت اليهود والنصارى ، وقد لعنهم على هذا الاتخاذ فالحديث برهان قاطع لمواد النزاع وحجة نيرة على كون هذه الأفعال جالبة للعن ، واللعن أمارة الكبيرة المحرمة أشد التحريم. فمن اتخذ مسجداً بجوار نبي أو صالح رجاء بركته في العبادة ومجاورة روح ذلك الميت فقد شمله الحديث شمولاً واضحاً كشمس النهار، ومن توجه إليه واستمد منه فلا شك أنه أشرك بالله وخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث وما ورد في معناه. ولم يشرع الزيارة في ملة الإسلام إلا للعبرة والزهد في الدنيا والدعاء بالمغفرة للموتى. وأما هذه الأغراض التي ذكرها بعض من يعزى إلى الفقه والرأي والقياس فإنها ليست عليها أثارة من علم ولم يقل بها فيما علمت أحد من السلف، بل السلف أكثر الناس إنكاراً على مثل هذه البدع الشركية انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة" أما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وفي رواية لمسلم: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان أيضاً بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي الباب أيضاً عن جندب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك. أخرجه مسلم.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي.(2/269)
236ـ باب ما جاء في النّوْمِ في المَسْجِد
320ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ ، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهرِيّ عن سالمٍ عن ابنِ عُمَرَ قال: "كُنّا نَنَامُ على عهْدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المسجدِ وَنَحْنُ شَبَابٌ".
قال أبو عيسى: حديثُ ابن عُمَرَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رخّصَ قَوْمٌ مِنْ أهلِ العلمِ في النّوْمِ في المسجدِ.
قال ابنُ عباسٍ: لا يَتّخِذُهُ مَبِيتاً ولا مَقِيلاً.
وقومٌ مِن أهلِ العلمِ ذهبوا إلى قولِ ابن عباسٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في النّوْمِ في المَسْجِد"
قوله: "ونحن شباب" على وزن سحاب جمع شاب ولا يجمع فاعل على فعال غيره.
قوله: "حديث ابن عمر حديث صحيح" وأخرجه البخاري مختصراً ومطولاً وأخرجه ابن ماجه مختصراً.
قوله: "وقد رخص قوم من أهل العلم الخ" قال الحافظ في الفتح: ذهب الجمهور إلى جواز النوم في المسجد وروى عن ابن عباس كراهيته إلا لمن يريد الصلاة ، وعن ابن مسعود مطلقاً ، وعن مالك بين من له مسكن فيكره وبين من لا مسكن له فيباح انتهى. وقال العيني في عمدة القاري: وقد اختلف العلماء في ذلك فمن رخص في النوم فيه ابن عمرو قال: كنا نبيت فيه ونقيل عن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء ومحمد بن سيرين مثله ، وهو أحد قولي(2/270)
ـــــــ
الشافعي. واختلف عن ابن عباس فروى عنه أنه قال: لا تتخذ المسجد مرقداً. وروى عنه أنه قال: إن كنت تنام فيه لصلاة لا بأس. وقال مالك: لا أحب لمن له منزل أن يبيت في المسجد ويقيل فيه ، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالك. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبيتون في المسجد. وكره النوم فيه ابن مسعود وطاووس ومجاهد وهو قول الأوزاعي. وقد سئل سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن النوم فيه فقالا: كيف تسألون عنها وقد كان أهل الصفة ينامون فيه وهم قوم كان مسكنهم المسجد. وذكر الطبري عن الحسن قال: رأيت عثمان بن عفان نائماً فيه وليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين قال: وقد نام في المسجد جماعة من السلف بغير محذور للانتفاع به فيما يحل كالأكل والشرب والجلوس وشبه النوم من الأعمال والله أعلم.(2/271)
باب: ما جاء فى كراهية البيع و الشراء وإنشاد الضالة و الشعر فى المسجد
...
237 ـ باب ما جاء في كراهِيَة الْبَيْعِ وَالشّراءِ وإنشادِ الضّالّةِ والَشعْرِ فِي المَسْجِد
321ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا ، الليثُ عن ابن عَجْلاَنَ عن عَمْرِو بن
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية البيع والشراء وإنشاد الضالة والشعر في المسجد"
قال الجزري في النهاية: الضالة هي الضائعة من كل ما يقتني من الحيوان وغيره ، ضل الشيء إذا ضاع، وضل عن الطريق إذا حار ، وهي في الأصل فاعلة ثم اتسع فيها فصارت من الصفات الغالبة ، وتقع على الذكر والأنثى والإثنين والجمع وتجمع على الضوال انتهى. وقال: يقال نشدت الضالة فأنا ناشد إذا طلبتها وأنشدتها فأنا منشد إذا عرفتها انتهى. وفي القاموس: أنشد الضالة عرفها واسترشد عنها ضد انتهى. وفي الصراح: تعريف كردن كم شده وشعر خواندن.(2/271)
شُعَيْبٍ عن أبِيهِ عن جَدّهِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنّهُ نَهى عَن تَناشُدِ الأشْعَارِ في المسجدِ ، وعن البيع والإشتراء فيه ، وأنْ يَتَحَلقَ الناسُ فيهِ يومَ الجُمُعَةِ قَبْلَ الصّلاَةِ".
ـــــــ
قوله: "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" يأتي تراجم هؤلاء في هذا الباب.
قوله: "أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد" قال في القاموس: أنشد الشعر قرأه وبهم هجاهم ، وتناشدوا أنشد بعضهم بعضاً ، والنشدة بالكسر الصوت ، والنشيد رفع الصوت ، والشعر المتناشد كالأنشودة انتهى. وقال في المجمع هو أن ينشد كل واحد صاحبه نشيداً لنفسه أو لغيره افتخاراً أو مباهاة وعلى وجه التفكه بما يستطاب منه. وأما ما كان في مدح حق وأهله وذم باطل أو تمهيد قواعد دينه أو إرغاماً للمخالفين فهو حق خارج عن الذم وإن خالطه نشيب انتهى. "وعن البيع والشراء فيه" أي في المسجد بفتح الشين والمد. قال الشوكاني في النيل: ذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة. قال العراقي: وقد أجمع العلماء على أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه. وهكذا قال الماوردي ، وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين بأن النهي حقيقة في التحريم وهو الحق ، وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة ، وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا يكره البيع والشراء في المسجد والأحاديث ترد عليه انتهى "وأن يتحلق الناس في يوم الجمعة قبل الصلاة" أي أن يجلسوا متحلقين حلقه واحدة أو أكثر وإن كان لمذاكرة علم ، وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف ، الأول فالأول ، ولأنه يخالف هيئة أجتماع المصلين ، ولأن للجمعة خطب عظيم لا يسع من حضرها أن يهتم بما سواها حتى يفرغ منها ، والتحلق قبل الصلاة يوهم غفلتهم عن الأمر الذي ندبوا إليه ، ولأن الوقت وقت الاشتغال بالإنصات للخطبة. والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه بعدها للعلم والذكر. والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه(2/272)
وفي الباب عن بُرَيْدَةَ وجابرٍ وأنَسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ عبد الله بن عمرو بن العاص حديثٌ حسَنٌ.
وعَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ هو ابنُ محمد بن عبد الله بن عَمْرِو بن العاصِ.
قال محمدُ بن إسماعيلَ: رَأَيْتُ أحمدَ وإسحاقَ ، وَذَكَرَ غَيْرَهُمَا ، يَحْتَجّونَ بحديث عَمْرِو بن شعيبٍ.
ـــــــ
في غيره. والحديث رواه أبو داود وزاد: وأن تنشد فيه ضالة.
قوله: "وفي الباب عن بريدة وجابر وأنس" أما حديث بريدة فأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه. وأما حديث جابر فأخرجه النسائي ، وأما حديث أنس فأخرجه الطبراني ، قال العراقي: ورجاله ثقات.
قوله: "حديث عبد الله بن عمرو بن العاص حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، والحديث صححه ابن خزيمة وقال الحافظ في الفتح ص273: وإسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب فمن يصح نسخته يصححه ، قال: وفي المعنى عدة أحاديث لكن في أسانيدها مقال انتهى. وقال الحافظ في موضع آخر من الفتح ص51 : ترجمة عمرو بن قوية على المختار لكن حيث لا تعارض انتهى.
قوله: "عمرو بن شعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص" مرجع هو شعيب فمحمد بن عبد الله هو شعيب وجد عمرو ، وعبد الله بن عمرو جد شعيب والد جد عمرو "قال محمد بن إسماعيل" هو الإمام البخاري "رأيت أحمد وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب" في شرح ألفية العراقي للمصنف قد اختلف في الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأصح الأقوال أنها واجبة مطلقاً إذا صح السند إليه. قال ابن الصلاح: وهو قول أكثر أهل الحديث حملاً للجد عند الإطلاق على الصحابي عبد الله بن عمرو دون ابنه محمد والد شعيب لماظهر لهم من(2/273)
قال محمدٌ: وقد سَمِعَ شعيبُ بن محمدٍ من عَبْدِ الله بن عَمْرٍو.
قال أبو عيسى: ومَن تكلّمَ في حديثِ عَمْرِو بن شعيبٍ إنّمَا ضَعّفَهُ لأنّهُ يُحَدّثُ عن صَحِيفَةِ جَدّهِ كَأَنّهُمْ رَأَوْا أنّهُ لَمْ يَسْمَع هَذِهِ الأحاديثَ مِن جَدّهِ.
ـــــــ
إطلاقه ذلك ، فقد قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد خيثمة وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ما تركه أحد منهم وثبتوه فمن الناس بعدهم. وقول ابن حبان هي منقطعة لأن شعيباً لم يلق عبد الله مردود فقد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو كما صرح به البخاري في التاريخ وأحمد وكما رواه الدارقطني والبيهقي في السنن بإسناد صحيح ، وذكر بعضهم أن محمدا مات في حياة أبيه وأن أباه كفل شعيباً ورباه ، وقيل لا يحتج به مطلقاً انتهى كلامه بتلخيص.
قال "محمد" يعني البخاري "وقد سمع شعيب بن محمد من عبد الله بن عمرو" وكذلك قد صرح غير واحد بسماعه منه. قال أبو بكر بن زياد: صح سماع عمرو من أبيه وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو كذا في الخلاصة. وقال الجوزجاني: قلت لأحمد: سمع عمرو من أبيه شيئاً ؟ قال: يقول حدثني أبي قلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال نعم أراه قد سمع منه ، كذا في هامش الخلاصة نقلاً عن التهذيب. وقال الحافظ في التقريب: ثبت سماعه من جده انتهى. قلت: ويدل على سماعه منه ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي عنه في إفساد الحجج فقالوا عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن رجلاً أتى عبيد الله بن عمرو ويسأله عن المحرم وقع ما بامرأته ، فأشار إلى عبد الله بن عمر فقال اذهب إلى ذلك فاسأله ، قال شعيب فلم يعرفه الرجل ، فذهبت معه فسأل ابن عمر وإسناده صحيح كما عرفت في كلام العراقي "ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لأنه يحدث عن صحيفة جده كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث من جده" قد أطال الحافظ الذهبي الكلام في ترجمة عمرو بن شعيب وقال في آخره: قد أجبنا عن روايته عن أبيه عن جده بأنها ليست بمرسلة ولا منقطعة ،(2/274)
قال عليّ بن عبد الله: وَذُكِرَ عن يحيى بن سعيدٍ أنه قال: حديثُ عَمْرِو بن شعيب عِنْدَنَا وَاهٍ.
وقد كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أهل العلمِ البيعَ والشراءَ في المسجدِ.
وبه يقولُ أحمدُ وإسحاقُ.
وقد رُوِيَ عن بعضِ أهلِ العلمِ مِنَ التابعينَ رُخْصَةٌ في البيع والشراء في المسجد.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث رخصة في إنْشَادِ الشّعْرِ في المسجدِ.
ـــــــ
أما كونها وجادة أو بعضها سماع وبعضها وجادة فهذا محل نظر ، ولسنا نقول إن حديثه من أعلى أقسام الصحيح بل هو من قبيل الحسن انتهى كلامه "قال علي بن عبد الله وذكر عن يحيى بن سعيد أنه قال حديث عمرو بن شعيب عندنا واه" أي ضعيف ، وعلي بن عبد الله هو ابن المديني ويحيى بن سعيد هو القطان وقد عرفت أن عند أكثر أهل الحديث حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حجة مطلقاً إذا صح السند إليه وهو أصح الأقوال والله تعالى أعلم.
قوله: "وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد، وبه يقول أحمد وإسحاق" وهو قول الجمهور وهو الحق "وقد روى عن بعض أهل العلم من التابعين رخصة في البيع والشراء في المسجد" لم يقم على قول هذا البعض دليل صحيح بل ترده أحاديث الباب وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث "رخصة في إنشاد الشعر في المسجد" كحديث جابر بن سمرة قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم. رواه أحمد ورواه الترمذي في كتاب الاَداب من جامعه ص بلفظ: جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويذكرون(2/275)
ـــــــ
أشياء من أمر الجاهلية ، فربما يتبسم معهم. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وكحديث سعيد بن المسيب قال: عمر في المسجد وحسان فيه ينشد ، فلحظ إليه ، فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أجب عني ، اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم. أخرجه الشيخان.
وقد جمع بين الأحاديث بوجهين: الأول حمل النهي على التنزيه والرخصة على بيان الجواز: والثاني حمل أحاديث الرخصة على الشعر الحسن المأذون فيه ، كهجاء حسان للمشركين ومدحه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. ويحمل النهي على التفاخر والهجاء ونحو ذلك. ذكر هذين الوجهين العراقي في شرح الترمذي. وقال الحافظ في الفتح: والجمع بين الأحاديث أن يحمل النهي على تناشد الأشعار الجاهلية والمبطين ، المأذون فيه ما سلم من ذلك ، وقيل المنهى عنه ما إذا كان التناشد غالباً على المسجد حتى يتشاغل به من فيه انتهى. وقال ابن العربي: لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في المدح الدين وإقامة الشرع ، وإن كان فيه الخمر ممدوحة بصفاتها الخبيثة من طيب رائحة وحسن لون وغير ذلك مما يذكره من يعرفها ، وقد مدح فيه كعب بن زهير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال.
بانت سعاد وقلبي اليوم متبول.
إلى قوله في صفة ريقها.
كأنه منهل بالراح معلول.
قال العراقي: وهذه قصيدة قد رويناها من طرق لا يصح منها شيء ، وذكرها ابن إسحاق بسند منقطع وعلى تقدير ثبوت هذه القصيدة عن كعب وإنشاده بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فليس فيها مدح الخمر وإنما فيه مدح ريقها وتشبيهه بالراح انتهى.(2/276)
238ـ باب ما جاء في المسجد الذي أُسّسَ على التّقْوى
322ـ حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا حاتمُ بنُ إسْمَاعِيلَ عن أُنَيْسِ بن أبي يحيى عن أبيه عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيّ قال: "امْتَرَى رَجُلٌ مِن بَنِي خُدْرَةَ وَرَجُلٌ مِن بَني عَمْرِو بنِ عَوْفٍ في المسجدِ الذي أُسّسَ على التّقْوَى فقالَ الخُدْرِيّ: هو مسجدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الاَخر هُوَ مسجد قباءٍ ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلكَ ، فقال: هو هَذَا يَعْنِي مَسْجِدَهُ ، وفي ذلكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ".
ـــــــ
"باب ما جاء في المسجد الذي أُسّسَ على التّقْوى"
قوله: "عن أنيس بن أبي يحيى" بضم الهمزة مصغراً الأسلمي واسم أبي يحيى سمعان ثقة "عن أبيه" سمعان المدني لا بأس به.
قوله: "وأمترى رجل" وفي رواية النسائي تمارى ، قال في مجمع البحار: الإمتراء والمماراة المجادلة ، والمعنى أنهما تنازعا واختلفا "فقال هو" أي المسجد الذي أسس على التقوى المذكور في قوله تعالى {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} "هذا" أي هذا المسجد ، وفي رواية لأحمد هو مسجدي "يعني مسجده" هذا قول الراوي يفسر قوله صلى الله عليه وسلم هذا "وفي ذلك" أي مسجد قبا "خير كثير" زاد في رواية لأحمد يعني مسجد قبا ، وهذا قول الراوي يفسر قوله صلى الله عليه وسلم ذلك ، أي يريد صلى الله عليه وسلم بقوله ذلك مسجد قبا. والحديث دليل على أن المسجد الذي أسس على التقوى هو المسجد النبوي. قال الحافظ في الفتح: قد أختلف في المراد بقوله تعالى {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} فالجمهور على أن المراد به مسجد قباء وهو ظاهر الاَية. وروى مسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن(2/277)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال حدثنا أبو بكرٍ عن عليّ بنِ عبد الله قال: سَأَلْتُ يَحْيَى بنَ سعيدٍ عن محمد بن أبي يَحْيَى الأسْلَمِيّ، فقال: لَمْ يَكُنْ بِه بَأْسٌ، وأخُوهُ أُنَيْسُ بنُ أبي يَحْيَى أثْبَتُ مِنْهُ.
ـــــــ
المسجد الذي أسس على التقوى فقال: هو مسجدكم هذا. ولأحمد والترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الاَخر: هو مسجد قباء ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: هو هذا ، وفي ذلك يعني مسجد قباء خير كثير ، ولأحمد عن سهل بن سعد نحوه. وأخرجه من وجه آخر عن سهل بن سعد عن أبي كعب مرفوعاً. قال السيوطي: هذا السؤال صدره ممن ظهرت له المساواة بين السجدين في أشتراكهما في أن كلا منهما بناه النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب بأن المراد مسجده. وكأن المزية التي أقتضت تعيينه دون مسجد قباء لم يكن بناؤه بأمر جزم من الله لنبيه ، أو كان رأياً بخلاف مسجده ، أو كان حصل له أو لأصحابه فيه من الأحوال القلبية ما لم يصل لغيره انتهى. قال الحافظ: يحتمل أن تكون المزية لما أتفق من طول إقامته صلى الله عليه وسلم بمسجد المدينة بخلاف مسجد قباء فما أقام به إلا أيام قلائل ، وكفى بقهذا مزية من غير حاجة إلى ما تكلفه القرطبي. والحق أن كلا منهما أسس على التقوى. وقوله تعالى في بقية الاَية {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} ، يؤيد كون المراد مسجد قباء. وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت "فيه رجال يحبون أن يتطهروا" في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء والله أعلم. قال الداوردي وغيره: ليس هذا أختلافاً لأن كلا منهما أسس على التقوى، وكذا قال السيهل ، وزاد غيره أن قوله تعالى {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} يقتضي أنه مسجد قباء ، لأن تأسيسه كان في يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد والنسائي.(2/278)
239 ـ باب ما جاء في الصلاة في مسْجِدِ قُبَاء
323ـ حدثنا محمدُ بنُ العَلاَءِ أبو كُرَيْبٍ و سفيانُ بنُ وكيعٍ قالا: حدثنا أبو أُسَامَةَ عن عبدِ الحميدِ بن جعفرٍ قال حدثنا أبو الأبْرَدِ مَوْلَى بَنِي خَطْمَةَ أنه سَمِعَ أُسَيْدَ بنَ ظُهَيْرٍ الأنْصَارِيّ وكان مِن أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحَدّثُ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الصّلاَةُ في مسجدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ".
وفي الباب عن سْهلِ بنِ حُنَيْفٍ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء"
بضم القاف ثم موحدة ممدودة عند أكثر أهل اللغة قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه ، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه ، وفي الطالع على ثلاثة أميال من المدينة. وقال ياقوت: على يسار قاصد مكة ، وهو من عوالي المدينة ، وسمي باسم بئر هناك ، كذا في الفتح. ومسجد قبا هو مسجد بنى عمرو بن عوف وهو أول مسجد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "أخبرنا أبو الأبرد مولى بني خطمة" بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء المهملة اسمه زياد المدني مقبول كذا في التقريب "أنه سمع أسيد بن حضير" كلاهما بالتصغير ولهما صحبة.
قوله: "الصلاة في مسجد قبا كعمرة" أي الصلاة الواحدة فيما يعدل ثوابها عمرة.
قوله: "وفي الباب عن سهل بن حنيف" أخرجه النسائي وابن ماجه مرفوعاً بلفظ:(2/279)
قال أبو عيسى: حديثُ أُسَيْدٍ حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
ولا نَعْرِفُ لأسَيْدِ بنِ ظُهَيْرٍ شَيْئاً يَصِحّ غَيْرَ هذا الحديثِ ، ولا نَعْرِفُه إلاّ مِن حديث أبي أُسَامَةَ عن عبدِ الحميدِ بنِ جَعْفَرٍ. وأبُو الابْردِ إسْمُهُ "زِيَادٌ" مَدِينِيّ.
ـــــــ
من خرج حتى يأتي هذا المسجد قباء فيصلي فيه كان له كعدل عمرة. وفي الباب أيضاً ما أخرجه الطبراني من طريق يزيد بن عبد الملك النوفل عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده مرفوعاً: من توضأ فأسغ الوضوء ثم عمد إلى مسجد قباء لا يريد غيره ولا يحمله على الغدو إلا الصلاة في مسجد قباء فصلى فيه أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بأم القرآن كان له كأجر المعتمر إلى الله. ويزيد بن عبد الملك ضعيف كذا في عمدة القاري. وفي الباب أيضاً ما رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلى من آتى بيت المقدس مرتين ، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل. كذا في فتح الباري. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزوره راكباً وماشياً ، رواه البخاري وغيره عن ابن عمر، وفي رواية: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً.
قوله: قال أي أبو عيسى "حديث أسيد حديث حسن غريب" وأخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم. قال الذهبي في الميزان في ترجمة زياد كبي الأبرد: روى عن أسيد ابن ظهير صحح له الترمذي حديثه وهو: صلاة في مسجد قباء كعمرة ، وهذا حديث منكر ، روى عنه عبد الحميد بن جعفر فقط انتهى. قلت: لا أدري ما وجه كونه منكراً ، ويشهد له حديث سهل بن حنيف حديث كعب بن عجرة.
قوله: "وأبو الأبرد اسمه زياد مديني" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: أبو الأبرد المدني مولى بني خطبة. روى عن أسيد بن ظهير وعنه عبد الحميد بن جعفر روى له الترمذي وابن ماجه حديثاً واحداً: صلاة في مسجد قباء كعمرة ، قال: تبع المصنف في ذلك كلام الترمذي وهو وهم وكأنه أشتبه عليه بأبي الأبرد الحارثي ، فإن اسمه زياد(2/280)
ـــــــ
كما قال ابن معين وأبو أحمد الحاكم وأبو بشر الدولابي وغيرهم. والمعروف أن أبا الأبرد لا يعرف اسمه وقد ذكره في من لا يعرف اسمه أبو أحمد الحاكم في الكنى وابن أبي حاتم وابن حبان ، وأما الحاكم أبو عبد الله فقال في المستدرك: اسمه موسى بن سليم انتهى.(2/281)
240ـ باب ما جاء فِي أيّ الْمَساجِدِ أفْضَل
324ـ حدثنا الأنْصَارِيّ ، حدثنا مَعْنٌ حدثنا مالِكٌ "ح" وحدثنا قُتَيْبَةُ عن مالكٍ عن زيدِ بن رَبَاحٍ وَ عُبْيدِ الله بن أبي عَبْدِ الله الأغرّ عن أبي هريرةَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "صَلاَةٌ في مَسْجِدي هذا خيرٌ مِنْ ألفِ صلاَةٍ فيما سِوَاهُ إلاّ المسجدَ الحرامَ".
ـــــــ
"باب ما جاء فِي أيّ الْمَساجِدِ أفْضَل"
قوله"عن زيد بن رباح" المدني ثقة. "وعبيد الله بن أبي عبد الله الأغر" ثقة اسم أبي عبد الله سلمان كما صرح به الترمذي "عن أبي عبد الله الأغر" المدني ثقة.
قوله: "صلاة في مسجدي هذا" قال النووي: ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمانه صلى الله عليه وسلم دون ما زيد فيه بعده ، لأن التضعيف إنما ورد في مسجده ، وقد أكده بقوله "هذا" بخلاف مسجد مكة فإنه يشمل جميع مكة بل صح أنه يعم جميع الحرم كذا ذكره الحافظ في الفتح وسكت عنه ، قلت: قال القاري في المرقاة: قد وافق النووي السبكي وغيره ، وأعترضه ابن تيمية وأطال فيه والمحب الطبري وأورد آثاراً استدلا بها وبأنه سلم في مسجد مكة أن المضاعفة لا تختص بما كان موجوداً في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وبأن الإشارة في الحديث إنما هي لإخراج غيره من المساجد المنسوبة إليه عليه السلام ، وبأن الإمام مالكاً سئل عن ذلك فأجاب بعدم الخصوصية وقال لأنه عليه السلام أخبر بما يكون بعده وزويت له الأرض فعلم بما يحدث(2/281)
قال أبو عيسى: ولم يَذْكُرْ قُتَيْبَةُ في حديثِهِ عن عبيدِ الله إنما ذَكَرَ عن زَيْدِ بنِ رباحٍ عن أبي عَبْدِ الله الأغَرّ عن أبي هريرة.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وأبو عبد الله الأغَرّ اسمهُ "سَلْمَانُ".
و قد رُوِيَ عن أبي هريرة من غير وجه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
بعده ، ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون أن يتسزيدوا فيه بحضرة الصحابة لم ينكر ذلك عليهم ، وبما في تاريخ المدينة عن عمر رضي الله عنه أنه لما فرغ من الزيادة قال: لو انتهى إلى الجبانة وفي رواية إلى ذي الحليفة لكان الكل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو زيد في هذا المسجد ما زيد كان الكل مسجدي ، وفي رواية: لو بنى هذا الى صنعاء كما مسجدي ، هذا خلاصة ما ذكره ابن حجر في الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم انتهى ما في المرقاة.
قلت: لو كان حديث أبي هريرة: لو زيد في هذا المسجد إلخ لكان قاطعاً للنزاع ولا أدري ما حاله ، قابل للاحتجاج أم لا ولم أقف على سنده "خير من ألف صلاة فيما سواه" من المساجد "إلا المسجد الحرام" قبل الاستثناء يحتمل أن الصلاة في مسجدي لا تفضل الصلاة في المسجد الحرام بألف بل بدونهما ، ويحتمل أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل ، ويحتمل أن السماواة أيضاً.
قلت: كأن هذا القائل لم يقف على الأحاديث التي تدل على أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في المسجد النبوي ، فمنها حديث عبد الله بن الزبير أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان من طريق عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا. وفي رواية ابن حبان: وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة قال ابن عبد البر: اختلف على(2/282)
وفي الباب عن علي وَمَيْمونَةَ وأبي سعيدٍ وجُبَيْرٍ بنِ مُطْعِمٍ وعَبْدِ الله بن الزّبَيْرِ وابن عمر وأبي ذَر.
ـــــــ
ابن الزبير في رفعه ووقفه ، ومن رفعه أحفظ وأثبت، ومثله لا يقال بالرأي انتهى.
ومنها حديث جابر رضي الله عنه أخرجه ابن ماجه مرفوعاً: صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه. قال الحافظ في الفتح: وفي بعض النسخ: من مائة صلاة فيما سواه. فعلى الأول معناه فيما سواه إلا مسجد المدينة ، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة. ورجال إسناده ثقات ، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه. قال ابن عبد البر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما وعلى ذلك يحمله أهل الحديث ، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الدراية معروف بالرواية عن جابر وابن الزبير.
ومنها حديث أبي الدرداء أخرجه البزار والطبراني مرفوعاً: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي بألف صلاة ، والصلاة في بيت المقدس بخمس مائة صلاة قال الحافظ في الفتح: قال البزار إسناده حسن.
قوله: "وفي الباب عن علي وميمونة وأبي سعيد وجبير بن مطعم وعبد الله بن الزبير وابن عمر وأبي ذر" أما حديث علي رضي الله عنه فلينظر من أخرجه ، وأما حديث ميمونة فأخرجه ابن ماجه عنها قالت: قلت يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ، قال أرض المحشر والمنشر إيتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره ، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه ، قال تهدي إليه زيتاً يسرج فيه ، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه.
وأما حديث أبي سعيد فأخرجه البخاري ومسلم وأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث جبير بن مطعم فلينظر من أخرجه.
وأما حديث عبد الله بن الزبير فأخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه بلفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا. وزاد ابن حبان: يعني مسجد المدينة وأخرجه البزار بلفظ: أن رسول(2/283)
325ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَرَ حدثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن عبد الملك بن عُمَيْرٍ عن قَزَعَةَ عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُشَدّ الرّحالُ إلاّ إلى ثَلاَثَة مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الحَرَامِ ،
ـــــــ
الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عليه مائة صلاة: قال المنذري في الترغيب: وإسناده صحيح.
وأما حديث ابن عمر فأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام.
وأما حديث أبي ذر فأخرجه البيهقي عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في بيت المقدس أفضل أو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو أرض المحشر والمنشر ، وليأتين على الناس زمان ولقيد سوط أو قال قوس الرجل حيث يرى عنه بيت المقدس خير له أحب إليه من الدنيا جميعاً. قال المنذري رواه البيهقي بإسناده لا بأس به ، وفي متنه غرابة انتهى.
قوله: "لا تشد" على البناء للمفعول بلفظ النفي والمراد النهي. قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي كأنه قال: لا يستقيم أن يقصده بالزيادة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما أختصت به "الرحال" جمع رحل وهو كور البعير كنى بشد الرحال عن السفر لأنه لازمه وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر ، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور ، ويدل عليه قوله في بعض طرقه: إنما يسافر أخرجه مسلم "إلا إلى ثلاثة مساجد" الاستثناء مفرغ ، والتقدير: لا تشد الرحال إلى موضع ، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها لأن المستثنى منه في الفراغ مقدر بأعم العام ، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد قاله الحافظ "مسجد الحرام" أي المحرم وهو كقولهم الكتاب بمعنى المكتوب ، والمسجد بالخفض على البدلية ويجوز الرفع على الاستئناف ، والمراد جميع الحرم، وقيل يختص(2/284)
وَمَسْجِدِي هذا ، ومَسْجِدِ الأقْصَى".
ـــــــ
بالموضع الذي يصلي فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم "ومسجدي هذا" أي مسجد المدينة "ومسجد الأقصى" أي بيت المقدس وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وقد جوز الكوفيون واستشهدوا بقوله تعالى :{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} ، والبصريون يأولونه بإضمار المكان ، أي الذي بجانب المكان الغربي ومسجد المكان الأقصى ونحو ذلك، وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة. وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء ، ولأن الأول قبلة الناس وإليه حجهم ، والثاني أسس على التقوى ، والثالث كان قبلة الأمم السالفة.
واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياءً وأمواتاً وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك لها والصلاة فيها ، فقال الشيخ أبو محمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملاً بظاهر هذا الحديث ، وأشار القاضي حسين إلى أختياره ، وبه قال عياض وطائفة ، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكاره نضرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور وقال له: لو أردكتك قبل أن تخرج ما خرجت وأستدل بهذا الحديث فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه ووافقه أبو هريرة.
والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم.
وأجابوا عن الحدث بأجوبة.
منها: أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز وقع في رواية لأحمد بلفظ: لا ينبغي للمطي أن تعمل ، وهو لفظ ظاهر في غير التحريم.
ومنها: أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المسجاد غير الثلاثة فإنه لا يجب الوفاء به.
ومنها: أن المراد حكم المساجد فقط وأنه حكم المساجد فقط وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة ، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي ، ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب(2/285)
قال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قال: سمعت أبا سعيد بن وذكرت عنده الصلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي. وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف.
ومنها: أن المراد قصدها بالإعتكاف فيما حكاه الخطابي عن بعض السلف أنه قال: لا يعتكف في غيرها وهو أخص من الذي قبله كذا في فتح الباري.
قلت: في هذه الأجوبة أنظار وخدشات.
أما الجواب الأول منها ففيه أن قولهم المراد قولهم المراد الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد الخ ، خلاف ظاهر الحديث ولا دليل عليه. وأما لفظ "لا ينبغي" في رواية لأحمد فهو خلاف أكثر الروايات ، فقد وقع في عامة الروايات لفظ "لا تشد" وهو ظاهر في التحريم ، وأما قولهم لفظ "لا ينبغي" ظاهر في غير التحريم فهو ممنوع قال الحافظ ابن القيم في أعلام الموقعين: قد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال "لا ينبغي" في المحظور شرعاً أو قدراً ، وفي المستحيل الممتنع كقوله تعالى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} وقوله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وقوله: تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وقوله على لسان نبيه، كذنبي ابن آدم وما ينبغي له وشتمني ابن آدم وما ينبغي له وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينام ولا ينبغي له . وقوله صلى الله عليه وسلم في لباس الحرير: لا ينبغي هذا للمتقين انتهى.
وأما الجواب الثاني ففيه أن قولهم النهى مخصوص بمن نذر على نفسه الخ ، ففيه أنه تخصيص بلا دليل ، وكذا في الجواب الرابع تخصيص بلا دليل.
وأما الجواب الثالث ففيه أن قولهم المراد حكم المساجد فقط ، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلخ ، غير مسلم بل ظاهر الحديث العموم، وأن المراد لا تشد الرحال(2/286)
ـــــــ
إلى موضع إلا إلى ثلاثة مساجد ، فإن الاستثناء مفرغ والمثنى منه في المفرغ يقدر بأعم العام نعم لو صح رواية أحمد بلفظ: لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد إلخ ، لاستقام هذا الجواب ، لكنه قد تفرد بهذا اللفظ شهر بن حوشب ولم يزد لفظ "مسجد" أحد غيره فما أعلم وهو كثير الأوهام كما صرح به الحافظ بن حجر في التقريب. في ثبوت لفظ "مسجد" في هذا الحديث كلام ، فظاهر الحديث هو العموم ، وأن المراد لا يجوز السفر إلى موضع للتبرك به والصلاة فيه إلا إلى ثلاثة مساجد. وأما السفر إلى موضع للتجارة أو لطلب العلم أو لغرض آخر صحيح مما ثبت جوازه بأدلة أخرى فهو مستثنى من حكم هذا الحديث. هذا ماعندي والله تعالى أعلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.(2/287)
241ـ باب ما جاء في المَشْيِ إلى المَسْجِد
326ـ حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الملكِ بن أبي الشّوَارِب ، أخبرنا يزيدُ بن زُرَيْعٍ أخبرنا مَعْمَرٌ عن الزّهرِي عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أُقِيمَتِ الصّلاَةُ فلا تَأْتُوهَا
ـــــــ
"باب ما جاء في المشي إلى المسجد"
قوله: "وإذا أقيمت الصلاة" وفي رواية للبخاري. إذا سمعتمم الإقامة. قال الحافظ: هو أخص من قوله في حديث أبي قتادة إذا أتيتم الصلاة لكن الظاهر أنه من مفهوم الموافقة ، لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحو ذلك، ومع ذلك فقد نهي عن الإسراع فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينهى عن الإسراع من باب الأولى انتهى. " فلا "(2/287)
وأنتم تَسْعَوْنَ ، ولكنِ ائْتُوهَا وأنتم تَمْشُونَ ، وعَلَيْكم السّكِينَةُ ، فما أدْرَكْتُمْ فَصَلوا ، وما فاتَكم فَأَتِمّوا".
وفي البابِ عن أبي قَتَادَةَ وأُبَيّ بنِ كَعْبٍ وأبي سعيدٍ وزيدِ بن ثابتٍ وجابر وأنسٍ.
ـــــــ
تأتوها وأنتم تسعون" قال في الصراح سعى دويدن وشتاب كردن وجملة وأنتم تسعون حالية "وعليكم السكينة" زاد في رواية للبخاري. والوقار. قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة وذكر على سبيل التأكيد. وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقاً وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث ، والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الإلتفات "فما أدركتم فصلوا" قال الكرماني: الفاء جواب شرط محذوف أي إذا بينت لكم ما هو أولى بكم فما أردكتم فصلوا انتهى. قال الحافظ أو التقدير إذا فعلتم فما أدركتم أي فعتلم الذي أمرتكم به من السكينة وترك الإسراع "وما فاتكم فأتموا" أي أكملوا. وحديث أبي هريرة هذا أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما وله طرق وألفاظ.
قوله: "وفي الباب عن أبي قتادة وأبي بن كعب وأبي سعيد وزيد بن ثابت وجابر وأنس" أما حديث أبي قتادة فأخرجه البخاري ومسلم قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع جلبة رجال فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا استعجلنا إلى الصلاة قال: فلا تفعلوا إذا أتيتم إلى الصلاة فعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. وأما حديث أبي بن كعب فأخرجه مسلم. وأما حديث أبي حديث أبي سعيد فأخرجه ابن ماجه. وأما حديث زيد بن ثابت فأخرجه الطبراني في الكبير قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نريد الصلاة فكان يقارب الخَطَى ، فقال: أتدرون لم أقارب الخَطَى؟ قلت: الله ورسوله أعلم ، قال: لا يزال العبد في الصلاة ما دام في طلب الصلاة. وفيه الضحاك بن نبراس وهو ضعيف ورواه موقوفاً على زيد بن ثابت ورجاله رجال الصحيح ، كذا في مجمع الزوائد ، وأما حديث جابر فأخرجه ابن حبان: وأما حديث أنس وهو ابن مالك فأخرجه الطبراني في الأوسط مرفوعاً إذا أتيتم الصلاة فأتوا وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقتم. قال في مجمع الزوائد: رجاله موثقون ، وكذا في التلخيص.(2/288)
قال أبو عيسى: اختلفَ أهلُ العلمِ في المشي إلى المسجدِ ، فمنهم مَنْ رأى الإسراعَ إذا خافَ فَوْتَ التكبيرةِ الأُولَى ، حَتّى ذُكِرَ عن بعضِهم أنه كانَ يُهَرْوِلُ إلى الصلاةِ ، ومنهم مَنْ كَرِهَ الإسْرَاعَ ، واخْتَارَ أنْ يَمْشِيَ على تُؤَدَةٍ وَوَقَارٍ.
وبه يقولُ أحمدُ وإسحاقُ ، وقالا: العملُ على حديثِ أبي هريرةَ. وقال إسحاقُ: إنْ خافَ فَوْتَ التكبيرة الأولَى فلا بأْسَ أن يُسْرِعَ في المَشْيِ.
ـــــــ
قوله: "اختلف أهل العلم في المشي إلى المسجد فمنهم من رأى الإسراع إذا خاف فوت تكبيرة الأولى" هذا رأى مخالف لحديث الباب، وقد وقع في رواية البخاري: إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا. قال الحافظ: قوله: ولا تسرعوا فيه ، زيادة تأكيد ، ويستفاد منه الرد على من أول قوله في حديث أبي قتادة لا تفعلوا أي الاستعجال المفضي إلى عدم الوقار. وأما الإسراع الذي لا ينافي الوقار كمن خاف فوت التكبيرة الأولى فلا ، وهذا محكي عن إسحاق بن راهويه ، قال: وقد تقدمت رواية العلاء التي فيها فهو في صلاة: قال النووي: نبه بذلك على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئاً لكان محصلاً لمقصوده لكونه في صلاة وعدم الإسراع أيضاً يستلزم كثرة الخطى وهو معنى مقصود لذاته وردت فيه أحاديث انتهى "حتى ذكر عن بضعهم أنه كان يهرول إلى الصلاة" قال في الصراح هرولة نوعي ازرفتار ودويدن ، وقال في النهاية: هي بين المشي والعدو "ومنهم من كره الإسراع واختار أن يمشي على تؤده ووقار" أي وإن خاف فوت التكبيرة الأولى. والتؤدة بضم التاء وفتح الهمزة التأني، وأصل التاء فيها واو "وبه يقول أحمد وإسحاق وقالا العلم على حديث أبي هريرة" وهذا القول هو الصواب الموافق لأحاديث الباب "وقال إسحاق إن خاف فوت تكبيرة الأولى فلا بأس أن يسرع في المشي" لا دليل على هذا بل هو مخالف لحديث الباب كما عرفت ، وأيضاً قد وقع في آخر حديث الباب في رواية المسلم: فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو(2/289)
327ـ حدثنا الحسنُ بنُ علي الخلاّلُ أخبرنا عبدُ الرزاقِ أخبرنا معمَرٌ عن الزّهرِيّ عن سعيدِ بنِ المُسَيّبِ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديثِ أبي سَلَمَةَ عن أبي هريرة بمعناهُ هكذا قال عبدُ الرّزّاقِ عن سعيدِ بنِ المسيبِ عن أبي هريرة "عن النبي صلى الله عليه وسلم" . وهذا أصحّ مِن حديثِ يَزِيد ابن زُرَيْعٍ.
328ـ حدثنا ابنُ أبي عُمَر أخبرنا سفيانُ عن الزّهرِيّ عن سعيدِ بنِ المسَيّبِ عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
ـــــــ
في صلاة أي أنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه وإذا ثبت أن العامد إلى الصلاة في الصلاة فكيف يقال إنه لا بأس في الإسراع إن خاف فوت تكبيرة الأولى.
قوله: "وهذا أصح من حديث يزيد بن زريع" يعني قول عبد الرزاق في روايته عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أصح من قول يزيد بن زريع في روايته عن أبي سلمة عن أبي هريرة وذلك لأن سفيان قد تابع عبد الرزاق فقال هو أيضاً في روايته عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وقد أخرج الترمذي رواية سفيان بعد هذا. قال الحافظ في الفتح بعد نقل كلام الترمذي هذا ما لفظه: وهذا عمل صحيح لو لم يثبت أن الزهري حدث به عنهما قال: وقد جمعهما المصنف يعني البخاري في باب المشي إلى الجمعة عن آدم فقال فيه عن سعيد وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة ، وكذلك أخرجه مسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عنهما ، وذكر الدارقطني الإختلاف فيه عن الزهري وجزم بأنه عنده عنهما جميعاً ، وقال وكان ربما اقتصر على أحدها انتهى.
قوله: "أخبرنا سفيان" هو ابن عيينة كما صرح به الحافظ في الفتح.(2/290)
باب: ما جاء فى القعود فى المسجد و إنتظار الصلاة من الفضل
...
242ـ باب مَا جَاء في القُعُودِ في المسْجِدِ وانتظار الصلاةِ من الفَضْل
329ـ حدثنا محمودُ بن غَيْلاَنَ ، حدثنا عبدُ الرّزّاقِ أخبرنا مَعْمَرٌ عن هَمّامِ بنِ مُنَبّهٍ عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ يَزَالُ أحَدُكُمْ في صلاةٍ ما دامَ يَنْتَظِرُهَا ، ولا تَزَالُ المَلاَئِكَةُ تُصَلّي على أحَدكم ما دامَ في المسجدِ: اللّهُمّ اغْفِرْ لَهُ ، اللّهُمّ ارْحَمْهُ ، مَا لَمْ يُحْدِثْ. فقالَ رَجُلٌ مِن حَضْرَمَوْتَ: وما الحَدَثُ يا أبَا هريرةَ؟ قال: فُسَاءٌ أوْ ضُرَاطٌ".
ـــــــ
"باب مَا جَاء في القُعُودِ في المسْجِدِ وانتظار الصلاةِ من الفَضْل"
قوله: "عن همام بن منبه" بضم الميم وفتح النون وكسر الموحدة المشددة ابن كامل الصنعاني وهو أخو وهب بن منبه ثقة من الرابعة.
قوله: "لا يزال أحدكم في صلاة" أي في ثواب صلاة لا في حكمها لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة "ولا تزال الملائكة تصلي" أي تستغفر ، والمراد بالملائكة الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك "ما دام في المسجد" وفي رواية للبخاري ما دام في مصلاه الذي صلى فيه. ومفهومه أنه إذا انصرف عنه انقضى ذلك ، ويمكن أن يحمل قوله في مصلاه على المكان المعد للصلاة لا الموضع الخاص بالسجود فلا يكون بين هذه الرواية وبين حديث الباب تخالف "اللهم اغفر له اللهم أرحمه" بيان لقوله تصلي أي تقول اللهم أغفر له إلخ والفرق بين المغفرة والرحمة أن المغفرة ستر الذنوب والرحمة إفاضة الإحسان إليه "ما لم يحدث" من الإحداث أي ما لم يبطل وضوءه "وما الحدث يا أبا هريرة" لعل سبب الاستفسار إطلاق الحديث عندهم على غير ما ذكر أو ظنوا أن الإحداث بمعنى الإبتداع "فقال فساء أو ضراط" الصوت الخارج من الدبر إن كان(2/291)
وفي الباب عن علي وأبي سعيدٍ وأنَسٍ وعبدِ الله بنِ مسعودٍ وسهل بن سعدٍ.
ـــــــ
بلا صوت فهو الفساء بضم الفاء والمد وإن كان بالصوت فهو الضراط بضم الضاد. قال السفاقسي: الحدث في المسجد خطيئة يحرم به المحدث استغفار الملائكة: ولما لم يكن للحدث فيه كفارة ترفع أذاه كما يرفع الدفن أذى النخامة فيه عوقب بحرمان الاستغفار من الملائكة لما آذاهم به من الرائحة الخبيثة وقال ابن بطال: من أراد أن تحط عنه ذنوبه من غير تعب فليغتنم ملازمة مصلاه بعد الصلاة ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له فهو مرجو إجابته لقوله تعالى: {و َلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وفي الحديث بيان فضيلة من انتظر الصلاة مطلقاً سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد أو تحول إلى غيره، كذا في عمدة القاري.
قوله: "وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأنس وعبد الله بن مسعود وسهل بن سعد" أما حديث علي فأخرجه أبو يعلى والبزار. قال المنذري بإسناد صحيح: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إسباغ الوضوء في المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلا وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.
وما حديث أبي سعيد فأخرجه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه والدارمي في مسنده وفيه: وما من أحد يخرج من بيته متطهراً حتى يأتي المسجد فيصلي فيه مع المسلمين أو مع الإمام ثم ينتظر الصلاة التي بعدها إلا قالت الملائكة اللهم أغفر له اللهم أرحمه الحديث.
وأما حديث أنس فأخرجه البخاري بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل ثم أقبل بوجهه بعد ما صلى فقال: صلى الناس ورقدوا ولم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها.
وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه الطبراني وفيه: وإن المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة ما لم يحدث. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: في عبد بن إسحاق العطار(2/292)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرة حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وهو متروك ورضيه أبو حاتم ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال يغرب انتهى.
وأما حديث سهل بن سعد فلينظر من أخرجه
قوله" حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيحان وغيرهما بألفاظ.(2/293)
243ـ باب ما جاء في الصلاةِ عَلَى الْخُمْرَة
330ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا أبو الأحْوَصِ عن سِمَاكِ بنِ حرْب
ـــــــ
"باب ما جاء في الصلاة على الخمرة"
بضم الخاء المعجمة وسكون الميم، قال الطبري: هو مصلى صغير يعمل من سعف النخل سميت بذلك لسترها الوجه والكفين من حر الأرض وبردها ، فإن كانت كبيرة سميت حصيراً وكذا قال الأزهري في تهذيبه وصاحبه أبو عبيد الهروي وجماعة بعدهم ، وزاد في النهاية: ولا تكون خمرة إلا هذا المقدار. وقال الخطابي: هي السجدة يسجد عليها المصلي ، ثم ذكر حديث ابن عباس في الفأرة التي جرت الفتيلة حتى ألقتها على الخمرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً عليها الحديث. قال: ففي هذا تصريح بإطلاق الخمرة على ما زاد على قدر الوجه كذا في فتح الباري ص314ج1.
قلت: حديث ابن عباس الذي ذكره الخطابي أخرجه أبو داود ولفظه هكذا: قال: جاءت فأرة تجر الفتيلة فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً فأحرقت منها مثل موضع الدرهم ، فقال إذا تمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل على هذا فيحرقكم. والحديث سكت عنه أبو داود ، وقال المنذري: في إسناده عمرو بن طلحة ولم نجد له ذكراً فيما رأيناه من كتبهم وإن كان هو عمرو بن طلحة وقع فيه تصحيف كذا في الأصل ، وفي طبقة لا تختج بحديثه انتهى كلام المنذري.(2/293)
عن عكْرِمَةَ عن ابن عباس قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلّي عَلَى الخُمْرَةِ".
وفي الباب عن أُمّ حَبِيبَةَ وابنِ عُمَرَ وأُمّ سليم ، وعائشة ، وميمونة وأم كلثوم بنت أبي سلمة "بن عبد الأسَدِ" . وَلَمْ تَسْمَعْ مِن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
قلت: عمرو بن طلحة هذا هو عمرو بن حماد بن طلحة الكوفي أبو محمد القناد روى عن أسباط بن نصر ومندل ابن علي ، وروى عنه مسلم فرد حديثه وإبراهيم الجوزاني قال مطين ثقة وقال أبو داود رافضي كذا في الخلاصة ، والحديث أخرجه الحاكم وقال إسناده صحيح.
قوله: "كان يصلي على الخمرة" قال ابن بطال: لا خلاف بين فقهاء الأمصار في جواز الصلاة على الخمرة إلا ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يؤتى بتراب فيوضع على الخمرة فيسجد عليه، ولعله كان يفعله على جهة المبالغة في التواضع والخشوع فلا يكون فيه مخالفة للجماعة. وقد روى ابن أبي شيبة عن عروة بن الزبير أنه كان يكره الصلاة على شيء دون الأرض ، وكذا روي عن غير عروة ، ويحتمل أن يحمل على كراهة التنزيه كذا في الفتح ص243ج1 وقال الشوكاني في النيل: والحديث يدل على أنه لا بأس بالصلاة على السجادة سواء كان من الخرق و الخوص أو غير ذلك ، سواء كانت صغيرة أو كانت كبيرة كالحصير والبساط لما ثبت من صلاته صلى الله عليه وسلم على الحصير والبساط والفروة. وقد أخرج أحمد في مسنده من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأفلح: يا أفلح ترب وجهك أي في سجوده. قال العراقي: والجواب عنه أنه لم يأمره أن يصلي على التراب وإنما أراد به تمكين الجبهة من الأرض وكأنه رآه يصلي ولا يمكن جبهته من الأرض فأمره بذلك لا أنه رآه يصلي على شيء يستره من الأرض فأمره بنزعه انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أم حبيبة وابن عمر وأم سلمة وعائشة وميمونة وأم كلثوم(2/294)
قال أبو عيسى: حديثُ ابن عباسٍ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وبه يقولُ بعضُ أهلِ العلمِ.
وقال أحمدُ وإسحاقُ: قد ثَبَتَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلاةُ عَلَى الخُمْرَةِ.
قال أبو عيسى: والخمرة: هو حَصِيرٌ قصير" .
ـــــــ
بنت أبي سلمة بن عبد الأسد ولم تسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم" أما حديث أم حبيبة فأخرجه الطبراني. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط وأحمد والبزار. وأما حديث أم سلمة فأخرجه الطبراني. وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم وأبو داود. وأما حديث ميمونة فأخرجه الجماعة إلا الترمذي. وأما حديث أم كلثوم فأخرجه ابن أبي شيبة كذا في النيل.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث ميمونة "وبه يقول بضع أهل العلم" قال الشوكاني في النيل: قد ذهب إلى أنه لا بأس بالصلاة على الخمرة الجمهور: قال الترمذي: وبه يقول بعض أهل العلم، وقد نسبه العراقي إلى الجمهور انتهى.
قوله: "والخمرة هو حصير صغير يدل عليه حديث ابن عباس الذي أخرجه أبو داود وقد ذكرنا لفظه(2/295)
244ـ باب ما جاء في الصلاةِ عَلَى الحصير
331ـ حدثنا نَصْرُ بنُ عليّ حدثنا عيسى بن يونسَ عن الأعْمَشِ
ـــــــ
"باب ما جاء في الصلاة على الحصير"
قال ابن بطال إن كان يصلي عليه كبيرا قدر الرجل وأكثر فإنه يقال له(2/295)
عن أبي سفيانَ عن جابرٍ عن أبي سعيدٍ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صَلّى عَلَى حَصِيرٍ".
وفي الباب عن أنسٍ والمغيرةِ بن شُعْبَةَ.
قال أبو عيسى: و حديثُ أبي سعيدٍ حديثٌ حسنٌ.
والعملُ عَلَى هذا عندَ أكثر أهلِ العلمِ ، إلا أن قوماً من أهل العلم اختاروا الصلاةَ عَلَى الأرضِ استحباباً.
ـــــــ
حصير ولا يقال له خمرة. وكل ذلك يصنع من سعف النخل وما أشبهه.
قوله: "صلى على الحصير" فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى على الحصير. وأما ما رواه ابن أبي شيبة وغيره من طريق شريح بن هانئ. أنه سأل عائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والله يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} فقالت: لم يكن يصلي على الحصير فهو شاذ مردود لمعارضته ما هو أقوى منه كحديث الباب وغيره ، بل روى البخاري في صحيحه من طريق أبي سلمة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حصير يبسطه ويصلي عليه.
قوله: "وفي الباب عن أنس والمغيرة بن شعبة" أما حديث أنس فأخرجه الجماعة وأما حديث المغيرة فأخرجه أحمد وأبو داود.
قوله: "وحديث أبي سعيد حديث حسن" وأخرجه مسلم.
قوله: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم الخ" قال في النيل: وقد روي عن زيد بن ثابت وأبي ذبر وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب ومكحول وغيرهما من التابعين أستحباب الصلاة على الحصير ، وصرح ابن المسيب بأنها سنة. وممن أختار مباشرة المصلى للأرض من غير وقاية عبد الله بن مسعود فروى الطبراني عنه أنه كان لا يصلي ولا يسجد إلا على الأرض وعن إبراهيم النخعي أنه كان يصلي على الحصير ويسجد على الأرض.(2/296)
245ـ باب ما جاء في الصلاةِ عَلَى الْبُسُط
332ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا وكيعٌ عن شُعْبَةَ عن أبي التّيّاحِ الضّبَعِيّ قال: سمعت أنسَ بن مالكٍ يقولُ: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُخَالِطُنَا حتى كان يقولُ لأخٍ لي صغير: يا أبا عُمَيْرٍ ما فَعَلَ النّغَيْر؟ قال: ونُضِحَ بِسَاطٌ لنا فَصَلّى عليه".
ـــــــ
"باب ما جاء في الصلاة على البسط"
بضم الباء والسين بساط بكسر الباء وهو ما يبسط أي يفرش ، وأما البساط بفتح الباء فهي الأرض الواسعة المستوية كذا في القاموس وغيره.
قوله: "عن أبي التياح" بفتح المثناة الفوقانية وتشديد التحتانية وآخره مهملة اسمه يزيد بن حميد مشهور بكنيته ثقة ثبت "الضبعي" بضم الضاء المعجمة وفتح الموحدة.
قوله: "حتى كان يقول" غاية يخالط أي انتهى مخالطته لأهلنا حتى الصبي يلاعبه "ما فعل النغير" بضم النون وفتح الغين المعجمة مصغر نغر بضم ثم فتح طير كالعصفور محمر المنقار أهل المدينة يسمونه البلبل أي ما شأنه وحاله قاله القسطلاني. وقال في القاموس. النغر كصرد البلبل جمعه نغران كصردان انتهى. وقال في النهاية: النغير هو تصغير النغر وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار انتهى "ونضح" أي رش قال في القاموس نضح البيت ينضحه رشه "بساط لنا قال السيوطي: فسر في سنن أبي داود بالحصير انتهى.
قلت: روى أبو داود في سننه عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور أم سليم فتدركه الصلاة أحياناً فيصلي على بساط لنا وهو حصير تنضحه بالماء. وقال العراقي في شرح الترمذي: فرق المصنف يعني الترمذي بين حديث أنس في الصلاة(2/297)
وفي الباب عن ابن عباسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أنسٍ حديثٌ حسنٌ صحيح .
والعملُ عَلَى هذا عند أكثر أهلِ العلمِ مِن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ بَعدهم. لم يَرَوْا بالصلاةِ عَلَى البساطِ والطنُفَسَةِ بأْساً.
وبه يقولُ أحمدُ وإسحاقُ.
واسمُ أبي التّيّاح: يزيدُ بن حُمَيدٍ.
ـــــــ
على البساط وبين حديث أنس في الصلاة على الحصير وعقد لكل منهما باباً. وقد روى ابن أبي شيبة في سننه ما يدل على أن المراد بالبساط الحصير بلفظ فيصلي أحياناً على بساط لنا وهو حصير فننضحه بالماء. قال العراقي: فتبين أن مراد أنس بالبساط الحصير ولا شك أنه صادق على الحصير لكونه يبسط على الأرض أي يفرش انتهى.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس" أخرجه أحمد وابن ماجه عنه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على بساط ، وفي إسناده زمعة بن صالح الحيدي ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي وقد أخرج له مسلم فرد حديث مقروناً بآخر.
قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه.
قوله: "لم يروا بالبساط والطنفسة بأساً" قال في المجمع: الطنفسة بكسر طاء وفاء وضمهما وبكسر ففتح بساط له خمل رقيق طنافس، وقال فيه أيضاً: هو كساء ذو خمل يجلس عليه انتهى.
قوله: "وبه يقول أحمد وإسحاق" وهو قول الأوزاعي والشافعي وجمهور الفقهاء وقد كره جماعة من التابعين فروى ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهما قالا: الصلاة على الطنفسة وهي البساط الذي تحته خمل محدثة. وعن جابر بن زيد كان يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان. ويستحب الصلاة على(2/298)
ـــــــ
كل شيء من بنات الأرض، وعن عروة بن الزبير أنه كان يكره أن يسجد على شيء دون الأرض كذا في النيل. والحق ما ذهب إليه الجمهور.(2/299)
246ـ باب ما جاء في الصلاةِ في الحيطان
333ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ ، حدثنا أبو داوُد ، حدثنا الحسنُ بن أبي جَعْفَرٍ عن أبي الزّبَيرِ عن أبي الطّفَيل عن مُعَاذِ بن جَبَل: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَسْتَحِبّ الصلاةَ في الحِيطَانِ".
قال أبو داود: يعني البَسَاتِينَ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الصلاة في الحيطان"
جمع حائط قال في القاموس: الحائط الجدار جمعه حيطان والبستان.
قوله: "حدثنا الحسن بن أبي جعفر" ليس له عند المصنف إلا هذا الحديث واشتهر بالنسبة إلى كنية واسم أبيه عجلان وقيل عمرو الجفري بضم الجيم وسكون الفاء وراء النسبة إلى جفرة خالد مكان بالبصرة كذا في قوت المغتذي.
قوله: "كان يستحب الصلاة في الحيطان" قال صاحب النهاية: الحائط البستان من النخل إذا كان عليه حائط وهو الجدار. قال العراقي: استحبابه صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحيطان يحتمل معاني أحدها قصد الخلوة عن الناس فيها ، وبه جزم القاضي أبو بكر بن العربي الثاني قصد حلول البركة في ثمارها ببركة الصلاة فإنها جالبة للرزق ، الثالث أن هذا من كرامة المزور أن يصلي في مكانه ، الرابع إنها تحية كل منزل نزله أو توديعه كذا في قوت المغتذي.(2/299)
قال أبو عيسى: حديثُ مُعاذٍ حديثٌ غريبٌ لا نعرفهُ إلا من حديثِ الحسنِ بنِ أبي جعفرٍ. والحسن بن أبي جعفرٍ قد ضَعّفَهُ يحيى بن سعيدٍ وغيرهُ. وأبو الزّبَيْرِ اسْمُهُ محمد ابن مُسْلم بن تَدْرُسَ: وأبو الطّفَيْلِ اسمُهُ "عامرُ بن وَاثِلَةَ".
ـــــــ
قوله: "قال أبو داود" هو الطيالسي الراوي عن الحسن بن أبي جعفر "يعني البساتين" جمع بستان.
قوله: "والحسن بن أبي جعفر قد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره" قال الفلاس: صدوق منكر الحديث ، وقال ابن المديني: ضعيف وضعفه أحمد والنسائي ، وقال البخاري: منكر الحديث، كذا في الميزان.
قوله: "أبو الزبير اسمه محمد بن مسلم بن تدرس" بفتح المثناة وسكون الدال المهملة وضم الراء وهو صدوق إلا أنه كان مدلساً .(2/300)
247 ـ باب ما جاءَ في سُتْرَةِ المُصَلّي
334ـ حدثنا قُتَيْبَةُ و هَنّادٌ قالا: حدثنا أبو الأحْوَصِ عن سِمَاكِ بن حربٍ عن موسى بن طَلْحَةَ عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا وَضَعَ أحَدُكم بين يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤَخّرَةِ الرّحْلِ فَلْيُصَلّ ولا يُبَالِي مَنْ مَرّ مِنْ وراءِ ذلك".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في سُتْرَةِ المُصَلّي"
قوله: "مثل مؤخرة الرحل" هو العود الذي يستند إليه راكب الرحل وفي المؤخرة(2/300)
وفي البابِ عن أبي هريرةَ وسَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ وابنِ عُمَرَ وَسَبْرَةَ بن مَعبدٍ وأبي حُجَيْفَةَ وعائِشَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ طلحة حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والعملُ علَى هَذَا عند أهل العلم. وقالوا: سترة الإمام سترة لمن خلفه.
ـــــــ
لغات ضم الميم وسكون الهمزة وكسر الخاء حكاها أبو عبيد وأنكرها يعقوب ، وفتح الهمزة والخاء معاً مع تشديد الخاء حكاها صاحب المشارق وقال ابن العربي: المحدثون يروونه مشدداً وأنكرها صاحب النهاية فقال ولا تشدد ، وسكون الهمزة وفتح الخاء المخففة حكاها صاحب السرقسطي في غريبة وأنكرها ابن قتيبة ، وفتح الميم وسكون الواو من غير همزة وكسر الخاء حكاها صاحب المشارق. واللغة المشهورة فيها آخره الحل بالمد وكسر الخاء ، وكذا ورد في حديث أبي ذر الاَتي. وقال ابن العربي إنه الصواب قاله السيوطي. قال الحافظ في الفتح اعتبر الفقهاء مؤخرة الرحل في مقدار أقل السترة ، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك ، فقيل ذراع ، وقيل ثلثاً وهو أشهر ، لكن في مصنف عبد الرزاق عن نافع أن مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع انتهى.
وقال النووي: في شرح مسلم: في هذا الحديث بيان أقل السترة مؤخرة الرحل وهي قدر عظم الذراع هو نحو ثلثي ذراع ويحصل بأي شيء أقامه بين يديه هكذا ، وشرط مالك أن يكون في غلط الرمح انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وسهل بن أبي حثمة وابن عمر وسبرة بن معبد وأبي جحيفة وعائشة" أما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم.
وأما حديث سهل بن أبي حثمة فأخرجه أبو داود وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري. وأما حديث سبرة فأخرجه البخاري أيضاً. وأما حديث أبي جحيفة فأخرجه الشيخان. وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان أيضاً.
قوله: "حديث طلحة حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه "وقالوا(2/301)
ـــــــ
سترة الإمام لمن خلفه" أي من المأمومين فلا حاجة لهم إلى اتخاذ سترة لهم على حدة بل يكفيهم سترة الإمام وتعتبر تلك السترة لهم أيضاً ، ولهذا يكون المرور المضر بين يدي المصلي في حق المأموم هو المرور بين يدي المصلى في حق الإمام. قال ابن عبد البر: حديث ابن عباس هذا أي الذي رواه البخاري وفيه: فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر على أحد يخص حديث أبي سعيد: إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه ، فإن ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد ، فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه لحديث ابن عباس هذا قال: وهذا كله لا خلاف بين العملاء. وكذا نقل عياض الاتفاق على أن المأمومين يصلون إلى سترة ، لكن اختلفوا أهل سترتهم سترة الإمام أم سترتهم الإمام نفسه انتهى.
وفيه نظر لما رواه عبد الرزاق عن الحكم بن عمرو والغفاري الصحابي أنه صلى بأصحابه في سفر وبين يديه سترة فمرت حمير بين يدي أصحابه فأعاد بهم الصلاة وفي رواية له إنه قال لهم: إنها لم تقطع صلاتي لكن قطعت صلاتكم. فهذا يعكر على ما نقل من الإتفاق وروى الطبراني في الأوسط من طريق سويد بن عبد العزيز عن عاصم عن أنس مرفوعاً: سترة الإمام سترة لمن خلفه ، وقال: تفرد به سويد عن عاصم انتهى. وسويد ضعيف عندهم. ووردت أيضاً في حديث موقوف على ابن عمر أخرجه عبد الرزاق. ويظهر أثر الخلاف الذي نقله عياض فيما لو مر بين الإمام أحد ، فعلى قول من يقول إن سترة الإمام من خلفه يضلا صلاته وصلاتهم معاً وعلى قول من يقول إن الإمام نفسه سترة من خلفه يضر صلاته ولا يضر صلاتهم ، كذا في فتح الباري.(2/302)
248ـ باب ما جاء في كراهيةِ المرور بين يَدَيْ المُصَلّي
335ـ حدثنا اسحَق بن موسى الأنْصَارِيّ ، حدثنا مَعْنٌ ، حدثنا مالكُ بن أنَسٍ عن
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهيةِ المرور بين يَدَيْ المُصَلّي"
قوله: "حدثنا الأنصاري" وهو إسحاق بن موسى بن عبيد الله بن موسى الخطمي(2/302)
أبي النّضْرِ عن بُسْرِ بن سعيد أنّ زَيْدَ بن خالد الجُهَنِي أرسلَه إلى أبي جُهَيْمٍ يَسْأَله ماذا سَمِعَ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المَارّ بَيْنَ يَدَيْ المُصَلي؟ فقال أبو جُهَيْمٍ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لو يَعْلَمُ المَارّ بَيْنَ يَدَيْ المُصَلى ماذا عليه لكانَ أنْ يَقِفَ أربعينَ خَيْرٌ له مِن أن يَمُرّ بَيْنَ يَدَيْهِ" قال أبو النّضرِ: لا أدري قال أربعينَ يوماً أو شهراً أو سنَةً.
ـــــــ
أبو موسى المدني ثم الكوفي أحد أئمة السنة ثقة متقن من العاشرة قوله: "أرسل إلى أبي جهيم" بضم الجيم بالتصغير أي أرسل زيد بن خالد بسر بن سعيد ، ففي رواية البخاري أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم.
قوله: "بين يدي المصلي" أي أمامه بالقرب منه ، وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما ، واختلف في تحديد ذلك فقيل إذا مر بينه وبين مقدار سجوده ، وقيل بينه قدر ثلاثة أذرع وقيل بينه وبينه قدر رميه بحجر قاله الحافظ. وقال الحافظ السيوطي: المراد بالمرور أن يمر بين يديه معترضاً أما إذا مشى بين يديه ذاهباً لجهة القبلة فليس داخلاً في الوعيد انتهى. وقال الحافظ في الفتح. ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر لا يمكن وقف عامداً مثلاً بين يدي المصلي أو قعد أو رقد ، لكن إن كانت العلة فيها التشويش على المصلي فهو في معنى المار انتهى.
قوله: "ماذا عليه" أي من الإثم.
قوله: "لكان أن يقف أربعين" يعني أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي ليختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم.
قوله: "خير له" بالرفع كذا وقع في رواية الترمذي. قال السيوطي في قوت المغتذي: وقع هنا بالرفع على أنه اسم كان ، وفي البخاري بالنصب على الخبرية ، وقال أبو الطيب المدني في شرحه متعقباً عليه: وفيه أن قوله: أن يقف اسم معرفة تقدير أي وقوفه وخير نكرة ، فلا يصلح أن يكون اسماً لكان وأن يقف خبراً له على أن المعنى يأبى ذلك انتهى قلت: يحتمل أن يكون اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها.(2/303)
وفي البابِ عن أبي سعيدِ الخُدْرِيّ وأبي هريرةَ وابن عُمَرَ وعَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو.
قال أبو عيسى: و حديثُ أبي جُهَيْمٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأنْ يَقِفَ أحَدُكُم مِائَةَ عام خَيْرٌ له مِن أنْ يَمُرّ بَيْنَ يَدَيْ أخِيه وهوَ يُصَلّي".
والعملُ عليه عند أهل العلم. كَرِهُوا المُرُورَ بَيْنَ يَدَيْ المُصَلّي ، ولَمْ يَرَوْا أنّ ذلكَ يَقْطَعُ صلاةَ الرجلِ.
ـــــــ
قوله: "قال أبو النضر" هو قول مالك قوله الحافظ "لا أدري قال أربعين شهراً أو أربعين سنة" فيه إبهام ما على المار من الإثم زجراً له ، وفي رواية البزار أربعين خريفاً. قال الهيثمي في مجمع الزوائد بعد ذكر حديث البزار بلفظ أربعين خريفاً ، رجاله رجال الصحيح انتهى. والحديث يدل على أن المرور بين يدي المصلي من الكبائر الموجبة للنار وظاهره عدم الفرق بين صلاة الفريضة والنافلة. قال النووي: في الحديث دليل على تحريم المرور فإن في معنى الحديث النهي الأكيد والوعيد الشديد على ذلك انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد الخدري" أخرجه الشيخان "وأبي هريرة" أخرجه ابن ماجه "وابن عمر" أخرجه البخاري "وعبد الله بن عمرو" وأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي يمر بين يدي الرجل وهو يصلي عمداً يتمنى يوم القيامة أنه شجرة يابسة. قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه من أجد من مترجمه.
قوله: "حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لأن يقف مائة عام" أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة قاله السيوطي. وقال الحافظ في الفتح وفي ابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة لكان أن يقف مائة عام خير له من الخطوة التي خطاها. قال: وهذا يشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لخصوص عدد معين. وجنح الطحاوي إلى أن التقيد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الأمر على المار لأنهما لم يقعا معاً إذ المائة أكثر من الأربعين والمقام مقام زجر وتخويف(2/304)
ـــــــ
فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين ، بل المناسب أن يتأخر ومميز الأربعين إن كان هو السنة ثبت المدعي أو ما دونها فمن باب الأولى انتهى.
قوله: "والعمل عليه عند أهل العلم كرهوا المرور إلخ" المراد من الكراهة التحريم ، وقد تقدم في المقدمة معنى الكراهة عند السلف.(2/305)
باب: ما جاء لا يقطع الصلاة شئ
...
249ـ باب ما جاء لا يقطعُ الصلاةَ شيء
336ـ حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الملك بن أبي الشّوَارِبِ، حدثنا يزيدُ بنُ زُرَيْعٍ حدثنا مَعْمر عن الزّهرِيّ عن عُبَيْدِ الله بن عبد الله بن عُتْبَةَ عن ابن عباسٍ قال: "كُنْتُ رَدِيفَ الفَضْلِ على أتَانٍ فَجِئْنَا والنبيّ صلى الله عليه وسلم يُصَلّي بأصحابه بمنًى ، قال: فَنَزَلْنَا عنها ، فَوَصَلْنَا الصّف فَمَرّتْ بينَ أيديهم فلم تَقْطَعْ صَلاَتَهُمْ".
ـــــــ
"باب ما جاء لا يقطع الصلاة شيء"
وقال البخاري في صحيحه: باب من قال لا يقطع الصلاة شيء. قال الحافظ في الفتح أي من فعل غير المصلي ، والجملة المترجم بها أوردها في الباب صريحاً من قول الزهري ، ورواها مالك في الموطأ عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه من قوله ، وأخرجها الدارقطني مرفوعة من وجه آخر عن سالم لكن إسنادها ضعيف ، ووردت أيضاً مرفوعة من حديث أبي سعيد عند أبي داود ، ومن حديث أنس وأبي أمامة عند الدارقطني ومن حديث جابر عند الطبراني في الأوسط ، وفي إسناد كل منهما ضعف. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن علي وعثمان وغيرهما نحو ذلك موقوفاً انتهى ما في الفتح.
قوله: "كنت رديف الفضل" هو الفضل بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي هو أكبر أولاد عباس رضي الله عنه استشهد في خلافة عمر "على أتان" بفتح الهمزة(2/305)
وفي الباب عن عائشةَ والفضل بن عباسٍ وابن عُمَرَ.
ـــــــ
وشذ كسرها كما حكاه الصغاني هي الأنثى من الحمير ، وربما قالوا للأنثى أتانة حكاه يونس وأنكره غيره "فجئنا والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه بمنى" زاد في رواية الشيخين إلى غير جدار. قال القاري في المرقاة: قد نقل البيهقي عن الشافعي أن المراد بقول ابن عباس إلى غير جدار إلى غير سترة ، ويؤيده رواية البزار بلفظ: والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة ليس شيء يستره لكن البخاري أورد هذا الحديث في باب الإمام سترة لمن خلفه وهذا مصير منه إلى أن الحديث محمول على أنه كان هناك سترة. قال الشيخ ابن حجر يعني العسقلاني: كأن البخاري حمل الأمر في ذلك على المألوف المعروف من عادته عليه السلام أن لا يصلي في الفضاء إلا والعنزة أمامه ، كذا ذكره ميرك. وفي شرح الطيبي قال المظهر: قوله إلى غير جدار أي إلى غير سترة ، والغرض من الحديث أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة انتهى كلامه. فإن قلت: قوله إلى غير جدار لا ينفي شيئاً غيره فكيف فسره بالسترة؟ قلت: إخبار ابن عباس عن مروره بالقوم وعن عدم جدار مع أنهم لم ينكروا عليه وأنه مظنة إنكار يدل على حدوث أمر لم يعهد قيل ذلك من كون المرور مع عدم السترة غير منكر ، فلو فرض سترة أخرى لم يكن لهذا الإخبار فائدة انتهى. قال القاري: يمكن إفادته أن سترة الإمام سترة القوم كما فهم البخاري "فنزلنا عنها" أي عن الأتان "فوصلنا الصف فمرت بين أيديهم فلم تقطع صلاتهم" أستدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة فيكون ناسخاً لحديث أبي ذر الذي رواه مسلم في كون الحمار يقطع الصلاة وكذا مرور المرأة والكلب الأسود. قلت: في هذا الاستدلال نظر فتفكر وقد أوضحه الشوكاني.
قوله: "وفي الباب عن عائشة والفضل بن عباس وابن عمر" أما حديث عائشة فأخرجه الشيخان عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة.
وأما حديث الفضل بن عباس فأخرجه أبو داود عنه قال. أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية لنا ومعه عباس فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة وحماره لنا وكلبة تعيشان بين يديه فما بالي بذلك ، وأخرجه النسائي نحوه ، وفي إسناده(2/306)
قال أبو عيسى: و حديثُ ابن عبّاسٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ عليه عندَ أكثر أهلِ العلمِ مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين. قالوا: لا يقطع الصلاة شيء.
وبه يقولُ سُفْيَانُ الثوري والشافعي.
ـــــــ
مجالد بن سعيد بن عمرو الهمداني الكوفي وقد تكلم فيه غر واحد وأخرج له مسلم حديثاً مقروناً بجماعة من أصحاب الشعبي.
وأما حديث ابن عمر فأخرجه الدارقطني بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر قالوا: لا يقطع صلاة المسلم شيء وادرأ ما أستطعت ، وفيه إبراهيم بن يزيد الخوذي وهو ضعيف: قال العراقي: والصحيح عن ابن عمر ما رواه مالك في الموطأ من قوله إنه كان يقول لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلى.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان بنحوه ليس في روايتهما: فمرت بين أيديهم فلم تقطع صلاتهم.
قوله: "قالوا لا يقطع الصلاة شيء ، وبه يقول سفيان والشافعي" وبه يقول الحنفية وأستدلوا بحديث الباب وبحديث لا يقطع الصلاة شيء ، روى عن ابن عمر وأبي سعيد وأنس وأبي أمامة وجابر وبما روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن علي وعثمان وغيرهما نحو ذلك موقوفاً كما عرفت في كلام الحافظ.(2/307)
باب: ما جاء أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب و الحمار و المرأة
...
250ـ بابُ ما جاءَ أنه لا يَقْطَعُ الصّلاَةَ إلاّ الكلبُ والحمارُ والمرأة
337ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ حدثنا هُشَيْمٌ أخبرنا يونسُ و منصورُ
ـــــــ
"بابُ ما جاءَ أنه لا يَقْطَعُ الصّلاَةَ إلاّ الكلبُ والحمارُ والمرأة"
قوله: "أخبرنا هشيم" بالتصغير هو ابن بشيء بوزن عظيم بن القاسم بن دينار(2/307)
ابن زَاذَانَ عن حُمَيْد بن هِلاَلٍ عن عَبْدِ الله بن الصّامِتِ قال: "سمعت أبا ذرّ يقولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صَلّى الرجلُ وليس بَيْنَ يَدَيْهِ كآخِرَةِ الرّحْلِ أو كَواسِطَةِ الرّحْلِ قَطَعَ صلاتَه الكَلْبُ الأسْوَدُ والمرأةُ والحِمارُ فقلتُ لأبي ذرَ: مَا بالُ الأسْوَدِ مِنَ الأحْمَرِ مِن الأبْيَضِ؟ فقال: يا ابنَ أخِي سأَلْتَنِي كما سأَلْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: الكلبُ الأسْوَدُ شيطان" .
ـــــــ
السلمي أبو معاوية بن أبي حازم الواسطي ثقة ثبت كثير التدليس أخبرنا "يونس ومنصور بن زاذان" يونس هذا هو ابن عبيد بن دينار العبدي مولاهم البصري روي عن حميد بن هلال وخلق ثقة ثبت فاضل ورع ، ومنصور بن زاذان بالزاي والذال المعجمة الواسطي أبو المغيرة الثقفي ثقة ثبت عابد "عن حميد بن هلال" العدوي البصري ثقة عالم توقف فيه ابن سيرين لدخوله عمل السلطان من الثالثة "عن عبد الله بن الصامت" الغفاري البصري ثقة من الثالثة "قال سمعت أبا ذر" الغفاري الصحابي المشهور اسمه جندب بن جنادة على الأصح تقدم إسلامه وتأخر هجرته فلم يشهد بدراً ومناقبة كثيرة جداً.
قوله: "وليس بين يديه كآخره الرحل" بالمد وكسر الخاء المعجمة الخشبة التي يستند إليها الراكب من كور البعير "أو كواسطة الرجل" قال في القاموس: واسطة الكور وواسطة مقدمه ، وقال في الصراح: واسط الكور بيش بالان. قال العراقي: يحتمل أن يراد بها وسطه ، ويحتمل أن يراد بها مقدمه ، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك جميعاً ، ويحتمل أن شك من بعض رواة إسناد المصنف ، فإن ذكر واسطة الرحل أنفرد به المصنف انتهى "قطع صلاته الكلب الأسود والمرأة والحمار" قال النووي: أختلف العلماء في هذا فقال بعضهم يقطع هؤلاء الصلاة. وقال أحمد بن حنبل: يقطعها الكلب الأسود وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء ، ووجه قوله: إن الكلب لم يجيء في الترخيص فيه شيء يعارض هذا الحديث ، وأما المرأة ففيها حديث عائشة رضي الله عنها يعني الذي أشار إليه الترمذي في الباب المتقدم وذكرنا لفظه: وفي الحمار(2/308)
وفي الباب عن أبي سيعدٍ والحكم بن عمروٍ الغِفَارِيّ وأبي هريرةَ وأنَسٍ.
ـــــــ
حديث ابن عباس يعني الذي رواه الترمذي في الباب المتقدم. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهم وجمهور من السلف والخلف: لا تبطل الصلاة بمرور شيء من هؤلاء ولا من غيرهم، وتأول هؤلاء هذا الحديث على أن المراد بالقطع نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء وليس المراد إبطالها، ومنهم من يدعي نسخه بالحديث الاَخر: لا يقطع صلاة المرء شيء وادرأوا ما أستطعتم، وهذا غير مرضي لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث وتأويلها وعلمنا التاريخ، وليس هنا تاريخ. ولا تعذر الجمع والتأويل بل يتأول على ما ذكرناه مع أن حديث: لا يقطع صلاة المرء شيء ضعيف انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعيد والحكم الغفاري وأبي هريرة وأنس" أما حديث أبي سعيد فأخرجه أبو داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع الصلاة وأدرأوا ما أستطعتم فإنما هو شيطان: وأما حديث الحكم الغفاري فأخرجه الطبراني في معجمه الكبير. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل. وأما حديث أنس فأخرجه البزار بلفظ: يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة. قال العراقي: رجال ثقات. وفي الباب أيضاً عن عبد الله بن المغفل أخرجه أحمد وابن ماجه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار. قال الشوكاني: رواه ابن ماجه من طريق جميل بن الحسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات. وعن ابن عباس أخرجه أبو داود وابن ماجه بلفظ: يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض. ولم يقل أبو داود الأسود، وقد روى موقوفاً عن ابن عباس. وعن ابن عباس حديث آخر مرفوع عند أبي داود وزاد فيه الخنزير واليهودي والمجوسي. وقد صرح أبو داود أن ذكر الخنزير والمجوسي فيه نكارة، قال ولم أسمع هذا الحديث إلا من محمد بن إسماعيل وأحسبه وهم، لأنه كان حدثنا من حفظه انتهى. وعن عبد الله بن عمر وأخرجه أحمد قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض أعلى الوادي يريد أن يصلي قد قام وقمنا إذ خرج علينا حمار من شعب. فأمسك النبي(2/309)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي ذَر حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد ذهب بعضُ أهلِ العلمِ إليه قالوا: يَقْطَعُ الصلاةَ الحِمَارُ والمرأةُ والكَلْبُ الأسْوَدُ. قال أحمدُ: الذي لا أشُكّ فيه أنّ الكَلْبَ الأسْوَدَ يَقطع الصلاةَ ، وفي نفسي من الحمارِ والمرأةِ شيءٌ.
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم فلم يكبر وأجرى إليه يعقوب بن زمعة حتى رده. قال العراقي وإسناده صحيح وعن عائشة أخرجه أحمد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار والكافر والكلب والمرأة لقد قرنا بدواب سوء. قال العراقي ورجاله ثقات.
قوله: "حديث أبي ذر حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا البخاري.
قوله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إليه قالوا يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود قال أحمد الذي لا أشك فيه أن الكلب الأسود يقطع الصلاة وفي نفس من الحمار والمرأة شيء" قال الشوكاني: أحاديث الباب تدل على أن الكلب والمرأة والحمار تقطع الصلاة. والمراد بقطع الصلاة إبطالها وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وأنس وابن عباس في رواية عنه. وحكى أيضاً عن أبي ذر وابن عمر ، وجاء عن ابن عمر أنه قال به الحكم بن عمرو الغفاري في الحمار ، وممن قال من التابعين بقطع الثلاثة المذكورة الحسن البصري وأبو الأحوص صاحب ابن مسعود ومن الأئمة أحمد بن حنبل في ما حكاه عنه ابن حزم الظاهري وحكى الترمذي عنه أنه يخصصه بالكلب الأسود ويتوقف في الحمار والمرأة.
قال ابن دقيق العيد وهو أجود مما دل عليه كلام الأثرم من جزم القول عن أحمد بأنه لا يقطع المرأة والحمار. وذهب أهل الظاهر أيضاً إلى قطع الصلاة بالثلاثة المذكورة إذا كان الكلب والحمار بين يديه ، سواء كان الكلب والحمار ماراً أم غير مار وصغيراً أم كبيراً حياً أم ميتاً وكون المرأة بين يدي الرجل مارة أم غير مارة صغيرة أم كبيرة ، إلا أن تكون مضطجعة معترضة ، وذهب إلى أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض ابن عباس وعطاء بن أبي رباح وأستدلا بالحديث السابق عند أبي داود وابن(2/310)
قال إسحاقُ: لا يقطعها شيءٌ إلاّ الكلبُ الأسْوَدُ.
ـــــــ
ماجه ، يعني الذي ذكرناه في ما تقدم ولا عذر لمن يقول بحمل المطلق على المقيد من ذلك، وهم الجمهور وأما من يعمل بالمطلق وهم الحنفية وأهل الظاهر فلا يلزمهم ذلك وقال ابن العربي. إنه لا حجة لمن قيد بالحائض لأن الحديث ضعيف قال: وليست حيضة المرأة في يدها ولا بطنها ولا رجلها قال العراقي إن أراد بضعفه ضعف رواته فليس كذلك فإن جميعهم ثقات. وإن أراد به كون الأكثرين وقفوه على ابن عباس فقد رفعه شعبة ورفع الثقة مقدم على وقف من وقفه. وإن كانوا أكثر على القول الصحيح في الأصول وعلوم الحديث انتهى.
قوله: "وقال إسحاق لا يقطعها شيء إلا الكلب الأسود" وحكاه ابن المنذر عن عائشة ، ودليل على هذا القول أن حديث ابن عباس المذكور في الباب المتقدم أخرج الحمار وحديث أم سلمة أخرج المرأة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في حجرتها فمر بين يديه عبد الله أو عمر فقال بيده هكذا فرجع فمر ابنة أم سلمة فقال بيده هكذا فمضت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هن أغلب. رواه أحمد وابن ماجه وفي إسناده مجهول وهو قيس المدني وبقية رجاله ثقات. وكذلك أخرجه المرأة حديث عائشة الذي أشار إليه الترمذي في الباب المتقدم وذكرنا لفظه ، والتقييد بالأسود أخرج ما عداه من الكلاب.
قلت في الاستدلال بحديث ابن عباس المذكور على إخراج الحمار وبحديث أم سلمة وعائشة على إخراج المرأة كلام فتفكر. وقد ذكره الشوكاني في النيل.(2/311)
251ـ باب ما جاء في الصلاةِ في الثّوبِ الواحد
338 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد حدثنا اللّيْثُ عن هشامٍ ابن عُرْوَةَ عن
ـــــــ
"باب ما جاء في الصلاةِ في الثّوبِ الواحد"
قوله: "مشتملاً في ثوب واحد" زاد الشيخان واضعاً طرفيه على عاتقيه والعاتق(2/311)
أبيه عن عمر بن أبي سَلَمَةَ "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلي في بَيْتِ أُمّ سَلَمَةَ مُشْتَمِلاً في ثوبٍ واحدٍ".
قال وفي الباب عن أبي هريرةَ وجابرٍ وسَلَمَةَ بن الأكْوَعِ وأنسٍ وعَمْرِو بن أبي أسِيْدٍ وعبادة بن الصامت وأبي سعيدٍ وكَيْسَانَ وابن عباس وعائشةَ وأُمّ هانئ وعَمّارِ "بن ياسرٍ" وطَلْق بن علي وصامتٍ الأنصاريّ .
ـــــــ
ما بين المنكب إلى أصل العنق ، وقال الطيبي الإشتمال التوشح والمخالفة بين طرفي الثوب بأن يأخذ الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى ويأخذ طرفه الذي ألقاه على منكبه الأيسر من تحت يده اليمنى ثم يعقدهما على صدره ، يعني لئلا يكون سدلاً وكذا قال ابن السكتي وقال ابن بطال.
فائدة: الإلتحاف المذكور أن لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع ولئلا يسقط الثوب عند الركوع والسجود.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وجابر وسلمة بن الأكوع وأنس وعمرو بن أبي أسيد وأبي سعيد الخدري وكيسان وابن عباس وعائشة وأم هانئ وعمار بن ياسر وطلق بن علي وعبادة بن الصامت الأنصاري" .
أما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري بلفظ: "من صلى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه". وأخرج الشيخان عنه بلفظ: لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء.
وأما حديث جابر فأخرجه الشيخان وأبو داود بلفظ: "يا جابر إذا كان واسعاً فخالف بين طرفيه وإذا كان ضيقاً فاشدده على حقويك".
وأما حديث سلمة بن الأكوع فأخرجه أبو داود والنسائي وأما حديث أنس فأخرجه البخاري وأما حديث عمرو بن أبي أسيد الخدري فأخرجه أحمد وأما حديث كيسان بفتح الكاف وسكون التحتانية فأخرجه ابن أبي شيبة عنه: قال: رأيت(2/312)
قال أبو عيسى: حديثُ عُمَر بن أبي سَلَمَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
والعملُ عَلَى هذا عند أكْثَر أهلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعدهم من التابعين وغيرهم. قالوا: لا بَأْسَ بالصلاة في الثّوْبِ الواحدِ.
وقد قال بعضُ أهلِ العلمِ: يُصَلّي الرجل في ثَوْبَيْن.
ـــــــ
النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظره والعصر في ثوب واحد متلببابه.
وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد يتقي فضوله حر الأرض وبردها.
وأما حديث عائشة فأخرجه الخطيب في المتفق.
وأما حديث أم هانئ عمار بن ياسر فأخرجه ابن عساكر بلفظ: قال أمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد متوشحاً به.
وأما حديث طلق بن علي فأخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة بلفظ: قال جاء رجل فقال يا نبي الله ما ترى في الصلاة في ثوب واحد فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم إزاراه فطارت به رداءه ثم أشتمل بهما فلما قضى الصلاة قال: أكلكم يجد ثوبين.
وأما حديث عبادة بن الصامت الأنصاري أخرجه ابن عساكر بلفظ قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قطيفة رومية قد عقدها على عنقه ثم صلى بنا ما عليه غيرها.
قوله: "حديث عمر بن أبي سلمة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان "وقد قال بعض أهل العلم: يصلي الرجل في ثوبين" قال الحافظ في الفتح: كان الخلاف في منع جواز الصلاة في الثوب الواحد قديماً. روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: لا تصلين في ثوب واحد وإن كان واسع ما بين السماء والأرض. ونسب ابن بطال ذلك لابن عمر ثم قال: لا يتابع عليه ثم استقر الأمر على الجواز انتهى.
فائدة: اعلم أنه لا شك في أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة لكنها في الثوبين(2/313)
ـــــــ
أفضل عند وجودهما. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد فقال أو كلكم يجد ثوبين: ثم سأل رجل عمر فقال: إذا وسع الله فأوسعوا ، جمع رجل عليه ثيابه ، صلى رجل في إزار وقميص ، في إزار وقباء ، في سراويل ورداء ، في سراويل وقميص ، في سراويل وقباء الحديث. قال الحافظ: جمع رجل هو بقية قول عمر وأورده بصيغة الخبر ومراده الأمر قال ابن بطال: يعني ليجمع ويصلي انتهى. قال وفيه أن الصلاة في الثوبين أفضل من الثوب الواحد انتهى: قال العيني في شرح البخاري: واختلف أصحاب مالك في من صلى في سروايل وهو قادر على الثياب ، ففي المدونة لا يعيد في الوقت ولا في غيره وعن ابن القاسم مثله. وعن أشهب عليه الإعادة في الوقت ، وعنه أن صلاته تامة إن كان ضيقاً. وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي في لحاف ولا يوشح به والاَخر: أن تصلبي في سراويل ليس عليك رداء. وبظاهره أخذ بعض أصحابنا وقال: تكره الصلاة في السروايل وحدها. والصحيح أنه إذا ستر عورته لا تكره الصلاة فيه انتهى الكلام العيني.(2/314)
252ـ باب مَا جَاءَ في إبتداءِ القبلة
339ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا وكيعٌ عن إسْرائيلَ عن أبي إسحاقَ عن البَرَاءِ بن عَازِبٍ قال: "لمّا قدمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ صلّى نَحْوَ بيتِ المَقْدِسِ ستةَ أوْ سبعةَ عَشَرَ شَهْراً. وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يُوَجّهَ إلى الكعبة ، فأنزل الله تعالى: {قَدْ
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في إبتداءِ القبلة"
قوله: "يجب أن يوجه" بضم أوله وفتح الجيم مبنياً للمفعول أي يجب أن يؤمر بالتوجه إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم.(2/314)
نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاها فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} فوجّه إلى الكعبة ، وكان يحب ذلكَ. فصلّى رجل معه العصر ثمّ مَرّ عَلَى قوم من الأنصار وهم ركوعٌ في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأنه قد وجه إلى الكعبة. قال: فانحرفوا وهم ركوع".
ـــــــ
قوله : {قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ} أي تردد وجهك في جهة السماء متطلعاً للوحي.
قوله: "فصلى رجل معه العصر" هو عباد بن بشر قويل عباد بن نهيك.
قوله: "وهم ركوع" جمع راكع "في صلاة العصر نحو بيت المقدس" وفي رواية البخاري في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس قال الحافظ في الفتح: وقع في تفسير ابن أبي حاتم من طريق تويله بنت أسلم صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين أي ركعتين ثم جاءنا من يخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام "فقال" أي الرجل "هو يشهد" يعني بذلك نفسه وهو على سبيل التجريد وفي رواية البخاري أشهد بالله "فانحرفوا وفي ركوع" بأن تحول الإمام من مقدم المسجد إلى مؤخره ثم تحولت الرجال حتى صاروا خلفه وتحولت النساء حتى صرن خلف الرجال ، وقد وقع بيان كيفية الإنحراف والتحول في خبر تويله قالت: فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء قال الحافظ: وتصويره أن الإمام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد لأن من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس وهو لودار في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف ولما تحول الإمام تحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحولت النساء حتى صرن خلف الرجال وهذا يستدعي عملاً كثيراً في الصلاة ، فيحتمل أن ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير ، كما كان قبل تحريم الكلام ويحتمل أن يكون اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة أو وقعت الخطوات غير متوالية عند التحول بل مفرقة انتهى.(2/315)
وفي البابِ عن ابن عمرَ وابن عباسٍ وعمَارَةَ بن أوْس وعمرو بن عوفٍ المزنيّ وأنسٍ.
قال أبو عيسى: و حديثُ البراءِ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رواهُ سفيانُ الثوريّ عن أبي إسحاقَ.
340 ـ حدثنا هَنّادٌ حدثنا وكيعٌ عن سفيانَ عن عَبْدِ الله بن دينارٍ عن ابن عمرَ قال: "كانوا ركوعاً في صلاةِ الصبحِ".
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وعمارة بن أوس وعمرو بن عوف المزني وأنس" .
أما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان وأما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري وأحمد وأما حديث عمارة بن أوس فأخرجه ابن أبي شيبة وأما حديث عمرو بن عوف المزني وأنس فأخرجه ابن أبي شيبة.
قوله: "حديث البراء حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا أبا داود.
قوله: "عن ابن عمر قال كانوا ركوعاً في صلاة الصبح" أخرج الشيخان عن ابن عمر قال بينما الناس بقبا في صلاة الصبح إذا جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. قال القاضي أبو بكر بن العربي في العارضة: وجه الجمع بين اختلاف الرواية في الصبح والعصر أن الأمر بلغ إلى قوم في العصر وبلغ إلى أهل قبا في الصبح انتهى. وقال الحافظ هذا لا يخالف حديث البراء في الصحيحين أنهم كانوا في صلاة الصبح لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة ، وذلك في حديث البراء ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء وذلك في حديث ابن عمر انتهى.(2/316)
ـــــــ
قلت ههنا اختلاف آخر وهو أنه وقع في رواية الترمذي فصلى رجل معه العصر وفي حديث عمارة بن أوس أّ التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة إحدى صلاتي العشيء وهكذا في حديث عمارة بن روبية وحديث تويلة وفي حديث أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر والجمع بين هذه الروايات أن من قال إحدى صلاتي العشى شك هل هي الظهر أو العصر: وليس من شك حجة على من جزم، فنظرنا من جزم فوجدنا بعضهم قال الظهر وبعضهم قال العصر، ووجدنا رواية العصر أصح لثقة رجالها وإخراج البخاري لها في صحيحه. وأما حديث كونها الظهر ففي إسنادها مروان بن عثمان وهو مختلف فيه. وأما رواية أن أهل قبا كانوا في صلاة الصبح فيمكن أن أبطأ الخبر عنهم إلى صلاة الصبح كذا في النيل.(2/317)
باب: ما جاء أن ما بين المشرق و المغرب قبلة
...
253ـ باب ما جاء أن ما بَيْنَ المشرقِ والمغربِ قِبْلَة
341ـ حدثنا محمدُ بنُ أبي معشرٍ حدثنا أبي عن محمد بن عمرٍو عن أبي سلمةَ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرقِ والمغربِ قبلَةٌ".
ـــــــ
"باب ما جاء أن ما بَيْنَ المشرقِ والمغربِ قِبْلَة"
قوله: "حدثنا محمد بن أبي معشر" السندي الكبير بكسر السين وسكون النون واسم أبي معشر نجيح صدوق قاله في التقريب. وقال في الخلاصة روى عن أبيه وعنه الترمذي وثقه أبو يعلى الموصلي. قال ابن قانع: مات سنة أربع وأربعين ومائتين. وقال ابنه داود سنة سبع "أخبرنا أبي" أي نجيح أبو معشر وهو ضعيف كما ستقف عليه "عن محمد بن عمرو" ابن علقمة بن وقاص الليثي المدني صدوق له أوهام "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني ، قيل اسمه عبد الله وقيل إسماعيل ثقة مكثر عن الثالثة.
قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بين المشرق والمغرب قبلة" قال السيوطي:(2/317)
342ـ حدثنا يحيى بن موسى حدثنا محمد بن أبي معشرٍ: مثلَهُ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرة قد روي عنه من غير هذا الوجه.
وقد تكلم بعضُ أهلِ العلمِ في أبي معشرٍ من قبل حفظِه، واسمُه
ـــــــ
ليس هذا عاماً في سائر البلاد إنما هو بالنسبة إلى المدينة الشريفة ونحوها. قال البيهقي في الخلافيات: المراد والله أعلم أهل المدينة ومن كانت قبلته على سمت أهل المدينة انتهى. وقال الشوكاني: وقد اختلف في معنى هذا الحديث فقال العراقي: ليس هذا عاماً في سائر البلاد وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المشرفة وما وافق قبلتها ، وهكذا قال البيهقي في الخلافيات وهكذا قال أحمد بن خالويه الرهبي قال ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك قال ابن عبد البر: وهذا صحيح لا مدفع له ولا خلاف بين أهل العلم فيه. وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث فقال: هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إن زال عنه شيئاً وإن قل فقد ترك القبلة ثم قال: هذا المشرق وأشار بيده وهذا المغرب وأشار بيده وما بينهما قبلة قلت له فصلاة من صلى بينهما جائزة قال نعم وينبغي أن يتحرى الوسط. قال ابن عبد البر: تفسير قول أحمد هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لأهلها في قبلتهم مثل ما كانت قبلتهم بالمدينة الجنوب التي يقع لهم فيها الكعبة فيستقبلون جهتها ويتسعون يميناً وشمالاً فيها مابين المشرق والمغرب يجعلون المغرب عن إيمانهم والمشرق عن يسارهم ، وكذلك لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما لأهل المدينة. ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضاً قبل القبلة إلا أنهم يجعلون المشرق عن إيمانهم والمغرب عن يسارهم ، وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة فيما بين المشرق والمغرب ، وكذلك ضد العراق على ضد ذلك أيضاً، وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام وهي لأهل مكة أوسع قليلاً ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلاً ثم هي لأهل الاَفاق من السعة على حسب ما ذكرنا انتهى.
قوله: "حديث أبي هريرة قد روي عنه من غير وجه" يعني من أسانيد متعددة. والحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم والدارقطني "وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي(2/318)
نجيحٌ مولَى بَني هاشمٍ قَالَ محمدٌ: لا أرْوِي عنه شَيْئاً وقد رَوَى عَنْهُ النّاسُ قال محمد: وحديث عَبْدِ الله ابن جعفر المخرميّ عن عثمانَ بن محمدٍ الأخنسيّ عن سعيدٍ المقبريّ عن أبي هريرةَ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما بينَ المشرقِ والمغربِ قبلَةٌ" . وإنّما قِيلَ عبد الله بن جعفرٍ المخْرَميّ لأنه من ولد المسورِ بن مخرمة.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ،
وقد رُوِيَ عن غيرِ واحدٍ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. "ما بينَ المَشرقِ والمغرب قبلَةٌ" منهم عُمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وابن عباس.
ـــــــ
معشر من قبل حفظه واسمه نجيح" قال في التقريب: نجيح بن عبد الرحمن السندي بكسر السين المهملة وسكون النون المدني أبو معشر وهو مولى بني هاشم مشهور بكنيته ضعيف من السادسة أسن وأختلط "قال محمد: لا أروي عنه شيئاً" محمد هذا هو محمد بن إسماعيل البخاري. قال الذهبي في الميزان في ترجمة أبي معشر نجيح قال البخاري وغيره منكر الحديث.
قوله: "أخبرنا عبد الله بن جعفر المخرمي" بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء الخفيفة هو عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة أبو محمد المدني ، قال الحافظ: ليس به بأس "عن عثمان بن محمد الأخنسي" قال في التقريب صدوق له أوهام وقال في الخلاصة: وثقه ابن معين، وقال ابن المديني: روى ابن المسيب مناكير "هذا حديث حسن صحيح" كذا قال الترمذي وخالفه البيهقي فقال بعد إخراجه من طريق الترمذي: هذا إسناد ضعيف قال الشوكاني في النيل فنظرنا في الإسناد فوجدنا عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تفرد به عن المقبري وقد اختلف فيه فقال ابن المديني إنه روى أحاديث مناكير ، ووثقه ابن معين وابن حبان فكان الصواب ما قاله الترمذي وقال ابن تيمية في المنتقى بعد ذكر حديث أبي هريرة هذا: وتصحيح الترمذي ما لفظه: وقوله عليه السلام في حديث أبي أيوب ولكن شرقوا أو غربوا يعضد ذلك انتهى.(2/319)
وقال ابن عمر: إذا جعلتَ المغربَ عن يمينكَ والمشرقَ عن يساركَ فما بينهما قبلَةٌ إذا استقبلتَ القبلَةَ.
وقال ابنُ المبارك: ما بَيْنَ المشرقِ والمغربِ قبلَةٌ.
هذا لأهلِ المشرقِ.
واختارَ عبدُ الله بن المباركِ التياسُر لأهلِ مروٍ.
ـــــــ
قوله: "منهم عمر بن الخطاب" روى الإمام مالك في الموطأ عن نافع أن عمر بن الخطاب قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت "وعلي بن أبي طالب" أخرج قوله ابن أبي شيبة "وقال ابن عمر إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة" فإن مكة على جهة الجنوب من المدينة وهذا لأهل المدينة وقول ابن عمر هذا أخرجه البيهقي "وقال ابن المبارك ما بين المشرق والمغرب قبلة هذا لأهل المشرق" قال الشوكاني في النيل: وقد يستشكل قول ابن المبارك من حيث أن من كل المشرق وإنما يكون قبلته المغرب فإن مكة بينه وبين المغرب ، والجواب عنه أنه أراد بالمشرق البلاد التي يطلق عليها اسم المشرق كالعراق مثلاً فمن قبلتهم أيضاً بين المشرق والمغرب ، وقد ورد مقيداً بذلك في بعض طرق حديث أبي هريرة: ما بين المغرب والمشرق قبلة لأهل العراق ، رواه البيهقي في الخلافيات وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لأهل المشرق انتهى. وقال الطيبي: يريد ما بين مشرق الشمس في الشتاء وهو مطلع قلب العقرب ومغرب الصيف وهو مغرب السماك الرامح، والظاهر أنها قبلة أهل المدينة فإنها واقعة بين الشرق والغرب وهي إلى الطرف الغربي أميل انتهى، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا "واختار عبد الله بن المبارك التياسر لأهل مرو" قال في القاموس: المرو بلد بفارس انتهى. وقال العلامة محمد طاهر في المغنى: مدينة بخراسان انتهى. وقال في الصراح مرو شهرى ست ازخراسان سروزي منسوب إليه على غير قياس وهم مراوزة انتهى. والتياسر ضد التيامن والأخذ في جهة اليسار قاله في القاموس(2/320)
ـــــــ
قال المظهر في شرح حديث الباب: يعني من جعل من أهل المشرق أول المغارب وهو مغرب الصيف عن يمينه وآخر المشارق وهو مشرق الشتاء عن يساره كان مستقبلاً للقبلة والمراد بأهل المشرق أهل الكوفة وبغداد وخورستان وفارس وعراق وخراسان وما يتعلق بهذه البلاد انتهى كذا في المرقاة .(2/321)
254ـ باب مَا جَاءَ في الرجل يصلّي لِغَيْرِ القِبْلَةِ فِي الغيْم
343ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيلانَ ، حدثنا وكيعٌ ، حدثنا أشعثُ بنُ سعيدٍ السمانُ عن عاصمِ بن عبيدِ الله عن عبدِ الله بن عامِر بنِ ربيعَة عنْ أبيه قال: "كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في ليلة مظلمةٍ فلم نَدْرِ أين القبلةُ ، فصلى كلّ رجل منا عَلَى حيالِه ، فلما أصبحْنَا ذكرنا ذلكَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلَ {فأيْنَمَا تُولّوا فَثَمّ وجهُ الله}.
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ في الرجل يصلّي لِغَيْرِ القِبْلَةِ فِي الغيْم"
قوله: "أخبرنا أشعث بن سعيد السمان" قال في التقريب: متروك ، وقال السيوطي: ليس له عند المصنف يعني الترمذي إلا هذا الحديث "عن عاصم بن عبيد الله" بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي المدني ، روي عن أبيه وعم أبيه عبد الله بن عمرو وابن عمه سالم بن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عامر بن ربيعة وغيرهم ، وروى عنه مالك حديثاً واحداً وشعبة والسفيانان وأشعث بن سعيد السمان وغيرهم ضعيف "عن عبد الله بن عامر بن ربيعة" العنزي حليف بني عدي أبي محمد المدني ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال العجلي: مدني تابعي ثقة من كبار التابعين "عن أبيه" عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي كان من المهاجرين الأولين أسلم قبل عمر وهاجر الهجرتين وشهد بدراً والمشاهد كلها.(2/321)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ ليسَ إسناده بذاك ، لا نعرِفُهُ إلاّ من حديثِ أشعثَ السمانِ ، وأشعثُ بنُ سعيد أبو الربيع السمانُ يضعفُ في الحديثِ.
وقد ذهبَ أكثرُ أهلِ العلمِ إلى هذا. قالوا: إذا صلّى في الغيمِ لغيرِ القبلةِ ، ثم استبانَ له بعدَ مَا صلى أنه صلى لغير القبلةِ فإنّ صلاتَه جائِزةٌ .
وبهِ يقول سفيانُ الثوري وابن المباركِ وأحمدُ وإسحاقُ .
ـــــــ
قوله: "على حياله" أي في جهته وتلقاء وجهه والحيال بكسر الحاء وفتح الياء الخفيفة قبالة الشيء، وقعد حياله وبحياله أي بإزائه.
وقوله: "ليس إسناده بذاك" أي ليس بالقوي "لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان" قال العراقي: تابعه عليه عمر بن قيس بن الملقب بسندل عن عاصم أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والبيهقي في سننه قال: إلا عمر بن قيس مشارك لأشعث في الضعف بل ربما يكون أسوأ حالاً منه فلا عبرة حينئذ بمتابعته وإنما ذكرته ليستفاد انتهى. كذا في قوت المغتذي. قلت: يؤيد حديث الباب ما رواه الطبراني من حديث معاذ بن جبل قال: "صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم في سفر إلى غير القبلة فلما قضى صلاته تجلت الشمس فقلنا يا رسول الله صلينا إلى غير القبلة قال: قد رفعت صلاتكم بحقها إلى الله" . قال محمد بن إسماعيل الأمير في سبل السلام بعد ذكره: وفيه أبو عيلة وقد وثقه ابن حبان انتهى.
قوله: "وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يضعف في الحديث" قال أحمد مضطرب الحديث ليس بذالك، وقال ابن معين ليس بشيء وقال س لا يكتب حديثه ، وقال الدارقطني متروك، وقال هشام كان يكذب ، وقال خ ليس بالحافظ عندهم سمع منه وكيع وليس بمتروك كذا في الميزان.
قوله: "وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق" قال أبو الطيب المدني وبه قال علماؤنا يعني الحنفية فقالوا: ومن اشتبهت عليه القبلة تحرى وإن أخطأ لم يعد(2/322)
ـــــــ
لأنه أتى بالوجوب في حقه. وهو الصلاة إلى جهة تحريه انتهى. وقال الشافعي: تجب الإعادة عليه في الوقت وبعده لأن الاستقبال واجب قطعاً وحديث السرية فيه ضعف. قال صاحب سبل السلام بعد ذكر قول الشافعي ما لفظه: الأظهر العمل بخبر السرية لتقويه بحديث معاذ بل هو حجة وحده انتهى.(2/323)
باب: ما جاء فى كراهية ما يصلي إليه و فيه
...
255 ـ باب ما جاءَ في كراهية ما يُصَلّى إليهِ وفيه
344ـ حدثنا محمودُ بنُ غيلاَن ، حدثنا المقرئ حدثنا يحيى بن أيوب عن زيدِ بن جَبيرة عن داود بن الحُصَين عن نافعٍ عن ابن عمرانَ "أنّ رسوا الله نَهَى أن يُصَلي في سبعةِ مواطن: في المزبلةِ والمجزرةِ والمقْبرةِ وقَارعةِ الطريقِ وفِي الحمامِ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كراهية ما يُصَلّى إليهِ وفيه"
قوله: "حدثنا المقرئ" هو عبد الله بن يزيد المكي أبو عبد الرحمن أصله من البصرة أو الأهواز ثقة فاضل أقرأ القرآن نيفاً وسبعين سنة وهو من كبار شيوخ البخاري "أخبرنا يحيى بن أيوب" الغافقي المصري أبو العباس عالم أهل مصر ومفتيهم روى عن أبي نبيل ويزيد بن أبي حبيب وعنه المقرئ وخلف كذا في الميزان. وقال الحافظ في التقريب: صدوق ربما أخطأ "عن زيد بن جبيرة" بفتح الجيم وكسر الموحد. قال الحافظ متروك ، وقال السيوطي ليس له عند المصنف يعني الترمذي إلا هذا الحديث.
قوله: "نهى أن يصلي" على بناء المفعول "في المزبلة" بفتح الميم وتثبيت الموحدة المكان الذي يلتقي فيه الزبل ، قال في القاموس الزبل بكسر الزاي وكأمير السرقين والمزبلة وتضم الباء ملقاه وموضعه "والمجزرة" بفتح الميم والزاي وبكسرها وهي الوضع الذي ينحر فيها الإبل ويذبح البقر والشاة ، نهى عنها لأجل النجاسة فيها من الدماء والأرواث "والمقبرة" قال في القاموس: القبر مدفن الإنسان والمقبرة مثلثة الباء وكمكنسة موضعها(2/323)
و معاطن الإبل، وفوقَ ظهرِ بيتِ الله".
345 ـ حدثنا عليّ بن حُجْرٍ ، حدثنا سويدُ بنُ عبدِ العزيز عنْ زيدِ بن جَبِيرَةَ عنْ داود بنِ حُصَيْنِ عنْ نَافع عنْ ابنِ عمرَ عنْ النبي صلى الله عليه وسلم نحوه بمعنَاهُ.
وفي الباب عن أبي مرثد وجابر وأنس.
أبو مرتد اسمه كنّاز بن حُصين.
قال أبو عيسى: و حديثُ ابنِ عمرَ إسنادُه ليسَ بذَاكَ القوي.
وقد تُكُلّمَ في زيدِ بن جبيرَةَ مِنْ قِبَل حِفْظِهِ.
قال أبو عيسى: "وزيد بن جبير الكوفي أثبت من هذا وأقدم وثد سمع من ابن عمر" .
وقد روَى الليثُ بنُ سعدٍ هذا الحديثَ عن عبد الله بن عمرَ العُمَري عن نافع عن ابنِ عمرَ عنْ عمرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: مثله.
ـــــــ
انتهى "وقارعة الطريق" الإضافة بيانية أي الطريق التي يقرعها الناس بأرجلهم أي يدقونها ويمرون عليها. وقيل هي وسطها أو أعلاها. والمراد ههنا نفس الطريق ، وكأن القارعة بمعنى المقروعة أو الصيغة للنسبة. وإنما يكره الصلاة فيها لاشتغال القلب بمرور الناس وتضييق المكان عليهم "وفي الحمام" تقدم الكلام في الصلاة في الحمام وفي المقبرة في باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام "ومعاطن الإبل" جمع معطن بفتح الميم وكسر الطاء وهو مبرك الإبل حول الماء ، ويجيء الكلام عليه في الباب الاَني "وفوق ظهر بيت الله" لأنه إذا لم يكن بين يديه سترة ثابتة تستره لم تصبح صلاته لأنه مصلى على البيت لا إلى البيت. وذهب الشافعي إلى الصحة بشرط أن يستقبل من بناءها قدر ثلثي ذراع. وعند أبي حنيفة لا يشترط ذلك ، وكذا قال ابن السريج قال لأنه كمستقبل العرصة لو هدم البيت عياذاً بالله كذا في النيل.
قوله: "وفي الباب عن أبي مرثد وجابر وأنس" أما حديث أبي مرثد فأخرجه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه ولفظه: لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها. وأما حديث(2/324)
وحديثُ داود عن نافع عن ابنِ عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشبهُ وأصحّ من حديث الليثِ بن سعدٍ. وعبدُ الله بنُ عمرَ العمريّ ضعفَه بعضُ أهلِ الحديثِ منْ قِبلِ حِفظهِ ، منهم يَحيَى بنُ سعيدٍ القطانُ.
ـــــــ
جابر وأنس فعند ابن عدي في الكامل كما في النيل.
قوله: "حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي إلخ" وأخرجه ابن ماجه وعبد بن حميد في مسنده "وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه" قال الزيلعي في نصب الراية: اتفق الناس على ضعف زيد بن جبيرة فقال البخاري منكر الحديث ، وقال النسائي ليس بثقة ، وقال أبو حاتم والأزدي منكر الحديث جداً لا يكتب حديثه ، وقال الدارقطني ضعيف الحديث ، وقال ابن عدي عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد انتهى مختصراً.
قوله: "وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر إلخ" أخرجه بان ماجه عن أبي صالح حدثنا الليث بن سعد إلخ ، وهذه الرواية من مسند عمر ، والرواية المذكورة في الباب من مسند ابن عمر ، والروايتان ضعيفتان. قال الحافظ في التلخيص: في سند الترمذي زيد بن جبير وهو ضعيف جداً ، وفي سند ابن ماجه عبد الله بن صالح وعبد الله بن عمر العمري المذكور في سنده ضعيف أيضاً انتهى.
قوله: "وحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أشبه وأصح من حيث الليث بن سعد" قيل إنه قوله من حديث الليث صفة لحديث ابن عمر بأنه من حديث الليث الذي هو أصح من حديث ابن جبيرة كذا في النيل ، قلت: هذا خلاف الظاهر ، والظاهر أن كلمة من تفضيلية ، والمعنى أن حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي من طريق زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن نافع أصح وأحسن من حديث الليث بن سعد عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني أن حديث ابن عمر أحسن حالاً وأقل ضعفاً من حديث الليث لأنك قد عرفت أن الحديثين كليهما ضعيفان ، وهذا المعنى هو الظاهر المتبادر لكن في كون حديث ابن عمر أصح وأحسن من حديث الليث نظراً ظاهراً بل الأمر بالعكس ولعله(2/325)
ـــــــ
لأجل ذلك قيل إن قوله من حديث الليث صفة لحديث ابن عمر والله تعالى أعلم "وعبد الله بن عمر العمر ضعفه بعض أهل الحديث من قبل حفظه منهم يحيى بن سعيد القطان" قال الحافظ في التقريب ضعيف عابد ، وقال الذهبي في الميزان صدوق في حفظه شيء ، روى عن نافع وجماعة ، روى أحمد بن أبي مريم عن ابن معين ليس به بأس يكتب حديثه ، وقال الدارمي قلت لابن معين كيف حاله في نافع قال صالح ثقة ، وقال الفلاس كان يحيى القطان لا يحدث عنه ، وقال أحمد بن حنبل صالح لا بأس به ، وقال النسائي وغيره ليس بالقوي ، وقال ابن عدي في نفسه صدوق ، وقال أحمد كان عبيد الله رجلاً صالحاً كان يسأل عن الحديث في حياة أخيه عبيد الله فيقول أما وأبو عثمان حي فلا ، وقال ابن المديني عبد الله ضعيف ، وقال ابن حبان كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الأخبار وجوده الحفظ للاَثار فما فحش خطؤه استحق الترك ومات سنة ثلث وسبعين ومائة انتهى ما في الميزان.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: والمواضع التي لا يصلي فيها ثلاثة عشر فذكر السبعة المذكورة في حديث الباب وزاد (8)- " الصلاة إلى المقبرة و(9) " إلى جدار مرحاض عليه نجاسة و(10)" الكنيسة و(11) " البيعة و "(12) إلى التماثيل و(13) " في دار العذاب، وزاد العراقي و(14) " الصلاة في الدار المغصوبة و(15) " الصلاة إلى النائم والمتحدث و(16) " الصلاة في بطن الوادي و(17) " الصلاة في الأرض المغصوبة و(18) " الصلاة في مسجد الضرار و(19) " الصلاة إلى التنور فصارت تسعة عشر موضعاً. ودليل المنع من الصلاة في هذه المواطن أما السبعة الأول فلما تقدم ، وأما الصلاة إلى المقبرة فلحديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد ، وأما الصلاة إلى جدار مرحاض فلحديث ابن عباس في سبعة من الصحابة بلفظ نهى عن الصلاة في المسجد تجاهه حش ، أخرجه ابن عدي ، قال العراقي: ولم يصح إسناده ، وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يصلي في الحش ، وعن علي قال لا يصلي تجاه حش ، وفي كراهة استقباله خلاف بين الفقهاء. وأما الكنيسة والبيعة فروى ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس أنه كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تصاوير. وقد رويت الكراهة عن الحسن ، ولم ير الشعبي وعطاء بن أبي رباح بالصلاة في الكنيسة والبيعة بأساً ، ولم ير ابن سيرين بالصلاة في الكنيسة بأساً ، وصلى أبو موسى الأشعري وعمر بن عبد العزيز في كنيسة. ولعل وجه الكراهة اتخاذهم(2/326)
ـــــــ
لقبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، لأنها تصير جميع البيع والمساجد مظنة لذلك. وأما الصلاة إلى التماثيل فلحديث عائشة الصحيح أنه قال لها صلى الله عليه وسلم: أزيلي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي، وكان لها ستر فيه تماثيل. وأما الصلاة في دار العذاب فلما عند أبي داود من حديث علي قال: نهاني حبي أن أصلي في أرض بابل لأنها ملعونة ، وفي إسناده ضعف. وأما إلى النائم والمتحدث فهو في حديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه وفي إسناده من لم يسم. وأما الصلاة في الأرض المغصوبة فلما فيها من استعمال مال الغير بغير إذنه. وأما الصلاة في مسجد الضرار فقال ابن حزم إنه لا يجزي أحداً الصلاة فيه لقصة مسجد الضرار وقوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} فصح أنه ليس موضع صلاة. وأما الصلاة إلى التنور فكرهها محمد بن سيرين وقال بيت نار. رواه ابن أبي شيبة في المصنف وزاد بعضهم مواطن أخرى ذكرها الشوكاني في النيل. قال: واعلم أن القائلين بصحة الصلاة في هذه المواطن أو في أكثرها تمسكوا في المواطن التي صحت أحاديثها بأحاديث: أينما أدركتك الصلاة فصل ونحوها، وجعلوها قرينة قاضية بصحة تأويل القاضية بعدم الصحة، وقد عرفناك أن أحاديث النهي عن المقبرة والحمام ونحوهما خاصة فتبنى العامة عليها. وتمسكوا في المواطن التي لم تصح أحاديثها بالقدح فيها لعدم التعبد بما لم يصح وكفاية البراءة الأصلية حتى يقوم دليل صحيح ينقل عنها لا سيما بعد ورود عمومات قاضية بأن كل موطن من مواطن الأرض مسجد تصح الصلاة فيه ، وهذا متمسك صحيح لا بد انتهى كلام الشوكاني.(2/327)
256ـ باب ما جاءَ في الصّلاَةِ في مرابِضِ الغنمِ ومعاطن الإبِل
346 ـ حدثنا أبو كُرَيبٍ ، أخبرنا يحيى بنُ آدمُ عن أبي بكر بن عِيّاشٍ عن هِشامٍ عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "صَلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الصّلاَةِ في مرابِضِ الغنمِ ومعاطن الإبِل"
قوله: "صلوا في مرابض الغنم" جمع مربض بفتح الميم وكسر الباء الموحدة وآخره(2/327)
247 ـ حدثنا أبو كُرَيبٍ أخبرنا يحيى بنُ آدم عن أبي بَكرٍ بنِ عياش عن أبي حصينٍ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله أو بنحوه.
وفي البابِ عن جابر بن سَمُرَةَ والبراءِ وسبرةَ بن معبدٍ الجهنيّ وعبدِ الله بن مغفلٍ وابن عمرَ وأنس.
ـــــــ
ضاد معجمة وهو مأوى الغنم. قال الجوهري: المرابض للغنم كالمعاطن للإبل ، وأحدها مربض مثال مجلس ، قال: وربوض الغنم والبقر والفرس مثل بروك الإبل وجثوم الطير انتهى. والأمر للإباحة قال العراقي اتفاقاً وإنما نبه صلى الله عليه وسلم لئلا يظن أن حكمها حكم الإبل ، أو إنه أخرج على جواب السائل حين سأله عن الأمرين فأجاب في الإبل بالمنع وفي الغنم بالإذن.
قوله: "ولا تصلوا في أعطان الإبل" جمع عطن بفتح العين والطاء المهملتين ، وفي بعض الطرق معاطن وهي جمع معطن بفتح الميم وكسر الطاء ، قال في النهاية العطن مبرك الإبل حول الماء. قال السيوطي قال ابن حزم: كل عطن مبرك وليس كل مبرك عطناً. لأن العطن هو الموضع الذي تناخ فيه عند ورودها الماء فقط ، والمبرك أعم لأنه الموضع المتخذ له في كل حال انتهى. قلت: المراد بأعطان الإبل في هذا الحديث مباركها ففي حديث البراء عند أبي داود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين.
قوله: "وفي الباب عن جابر بن سمرة والبراء وسبرة بن معبد الجهني وعبد الله بن مغفل وابن عمر وأنس" أما حديث جابر بن سمرة فأخرجه مسلم. وأما حديث البراء فأخرجه أبو داود. وأما حديث سبرة بن معبد فأخرجه ابن ماجه. وأما حديث عبد الله بن مغفل فأخرجه ابن ماجة أيضاً والنسائي. وأما حديث ابن عمر فأخرجه ابن ماجه أيضاً. وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان. وفي الباب أيضاً عن أسيد بن حضير عند الطبراني ، وعن سليك الغطفاني عند الطبراني أيضاً وفي إسناده جابر الجعفي ضعفه الجمهور ووثقه شعبة وسفيان ، وعن طلحة بن عبد الله عند أبي يعلى في مسنده وعن عبد الله بن عمرو(2/328)
قال أبو عيسى: وحديثُ أبي هريرة حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وعليه العملُ عند أصحابنا.
وبه يقول أحمدُ وإسحاق.
وحديث أبي حَصِين عنْ أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث غريبٌ.
ورواه اسرائيلُ عن أبي حَصِينٍ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ موقوفاً ولمْ يرْفَعهُ.
ـــــــ
ابن العاص عند أحمد وفي إسناده ابن لهيعة ، وعن عقبة بن عامر عند الطبراني ورجال إسناده ثقات ، وعن يعيش الجهني المعروف بذي الغرة عند أحمد والطبراني ورجال إسناده ثقات.
فائدة: ذكر ابن حزم أن أحاديث النهي عن الصلاة في أعطان الإبل متواترة بنقل تواتر يوجب العلم.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجه.
قوله: "وعليه العمل" أي على ما يدل عليه حديث أبي هريرة من جواز الصلاة في مرابض الغنم وتحريمها في معاطن الإبل "عند أصحابنا" يعني أصحاب الحديث "وبه يقول أحمد وإسحاق" قال الشوكاني في النيل: والحديث يدل على جواز الصلاة في مرابض الغنم وعلى تحريمها في معاطن الإبل ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل فقال لا تصح بحال ، وقال من صلى في عطن إبل أعاد أبداً. وسئل مالك عمن لا يجد إلا عطن إبل قال لا يصلي فيه ، قيل فإن بسط عليه ثوباً قال لا: وقال ابن حزم: لا تحل في عطن إبل ، وذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة وعلى التحريم مع وجودها ، وهذا إنما يتم على القول بأن علة النهي هي النجاسة وذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها ، وقد عرفت ما قدمنا فيه. ولو سلمنا النجاسة فيه لم يصح جعلها(2/329)
واسمُ أبي حصينٍ عثمانُ بنُ عاصمٍ الأسدي.
348 ـ حدثنا محمدُ بن بشارٍ أخبرنا يحيَى بن سعيد عن شُعْبَةَ عن أبي التياحِ الضّبعيّ عنْ أنس بن مالكٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلّي في مرابض الغنم".
قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وأبو التيّاحِ اسمُهُ يزيدُ بن حميدٍ.
ـــــــ
علة لأن العلة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها وبين مرابض الغنم إذ لا قائل بالفرق بين أرواث كل من الجنسين وأبوالها كما قال العراقي. وأيضاً قد قيل إن حكمة النهي ، ما فيها من النفور فربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطعها ، أو أذى يحصل له منها أو تشوش الخاطر الملهي عن الخشوع في الصلاة. وبهذا علل النهي أصحاب الشافعي وأصحاب مالك وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها وبين غيبتها عنها إذ يؤمن نفورها حينئذٍ: ويرشد إلى صحة هذا حديث ابن مغفل عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ: لا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الجن ألا ترون إلى عيونها وهيئتها إذا نفرت. وقد يحتمل أن علة النهي أن يجاء بها إلى معاطنها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها أو يستمر فيها مع شغل خاطره: وقيل لأن الراعي يبول بينها. وقيل الحكمة في النهي كونها خلقت من الشياطين ، ويدل على هذا أيضاً حديث ابن مغفل السابق وكذا عند النسائي من حديثه وعند أبي داود من حديث البراء وعند ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة إذا عرفت هذا الإختلاف في العلة تبين لك أن الحق الوقوف على مقتضى النهي وهو التحريم كما ذهب إليه أحمد والظاهرية. وأما الأمر بالصلاة في مرابض الغنم فأمر إباحة ليس للوجوب. قال العراقي اتفاقاً وإنما نبه صلى الله عليه وسلم على ذلك لئلا يظن أن حكمها حكم الإبل أو أنه أخرج على جواب السائل حين سأله عن الأمرين فأجاب في الإبل بالمنع وفي الغنم بالإذن. وأما الترغيب المذكور في(2/330)
ـــــــ
الأحاديث بلفظ فإنها بركة فهو إنما ذكر لقصد تبعيدها عن حكم الإبل كما وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة ووصف أصحاب الغنم بالسكنية انتهى.(2/331)
257 ـ باب ما جاءَ في الصّلاةِ عَلَى الدّابّةِ حَيْثُ مَا تَوَجّهَتْ بِه
349ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ ، حدثنا وكيعٌ و يَحْيى بنُ آدمَ قالا: حدثنا سُفْيَانُ عنْ أبي الزّبَيْرِ عن جابرٍ قال: "بَعَثَنِي النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حَاجَةٍ فجئت وهو يُصَلّي على راحلته نحوَ المشرِقِ والسجودُ أخفضُ منَ الركوعِ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الصّلاةِ عَلَى الدّابّةِ حَيْثُ مَا تَوَجّهَتْ بِه"
قوله: "ويحيى بن آدم" بن سليمان الكوفي مولى بني أمية ثقة حافظ من كبار التاسعة مات سنة ثلاث ومائتين "قالا أخبرنا سفيان هو الثوري" .
قوله: "يصلي على راحلته نحو المشرق" ليس فيه قيد السفر وقد وقع في حديث أنس عند أبي داود قيد السفر وكذا في حديث ابن عمر عند الشيخين ، وفيه دليل على جواز التطوع على الراحلة للمسافر قبل جهة مقصده ، وهو إجماع كما قال النووي والحافظ والعراقي وغيرهم ، وإنما الخلاف في جواز ذلك في الخضر ، فجوزه أبو يوسف وأبو يوسف وأبو سعيد الأصطخري من أصحاب الشافعي وأهل الظاهر. قال ابن حزم: وقد روينا عن وكيع عن سفيان عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يصلون على رحالهم ودوابهم حيث ما توجهت، قال وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم عموماً في الحضر والسفر. قال النووي: وهو محكي عن أنس بن مالك انتهى. قال العراقي: استدل من ذهب إلى ذلك بعموم الأحاديث التي يصرح فيها بذكر السفر وهو ماش على قاعدتهم في أنه لا يحمل المطلق على المقيد بل يعمل بكل منهما ، فأما من يحمل(2/331)
وفي البابِ عن أنَسٍ وابنِ عمرَ وأبي سعيدٍ وعامرِ بنِ ربيعَة.
قال أبو عيسى: حديثُ جَابر حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد رُوِي من غير وجهٍ عن جابرٍ.
والعَمَلُ على هذا عندَ عَامّةِ أهلِ العلمِ ، لا نعلمُ بَيْنَهم اختلافاً. لا يرون بأساً أنْ يصلي الرجلُ عَلَى راحِلَتِهِ تَطَوّعاً حَيْثُمَا كَانَ وجهه إلى القبلةِ أو غيرها.
ـــــــ
المطلق على المقيد وهم جمهور العلماء فحمل الروايات فحمل الروايات المطلقة على المقيدة بالسفر انتهى قلت: وهو الظاهر والله تعالى أعلم. وظاهر الأحاديث المقيدة بالسفر عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير وإليه ذهب الشافعي وجمهور العلماء.
قوله: "وفي الباب عن أنس وابن عمر وأبي سعيد وعامر بن ربيعة" أما حديث أنس فأخرجه أبو داود بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر وأراد أن يتطوع أستقبل القبلة بناقته فكبر ثم حيث وجهه ركابه. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يوميء إيماء صلاة الليل إلا الفرائض ويوتر على راحلته: وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أحمد. وأحمد حديث عامر بن ربيعة فأخرجه الشيخان.
قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري وأبو داود.(2/332)
258ـ باب ما جاء في الصّلاَةِ إلَى الراحِلَة
350ـ حدثنا سُفْيَانُ بنُ وكيعٍ ، حدثنا أبو خالدٍ الأحمرُ عنْ عبيدِ الله
ـــــــ
"باب في الصلاة إلى الراحلة"
قال الجوهري: الراحلة الناقة التي تصلح لأن يوضع الرحل عليها. وقال الأزهري:(2/332)
ابن عُمَرَ عنْ نافِعٍ عنْ ابنِ عُمَرَ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى إلى بعيرِهِ أو راحِلته وكانَ يصلي على راحلته حيثُما توَجّهَتْ بِه".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وهو قولُ بعضِ أهلِ العِلْمِ لا يَرَوْنَ بالصلاةِ إلى البعيرِ بأساً أن يَسْتَتر بهِ.
ـــــــ
الراحلة المركوب النجيب ذكراً كان أو أنثى والهاء فيها للمبالغة. والبعير يقال لما دخل في الخامسة.
قوله: "صلى إلى بعيره أو راحلته" وفي رواية البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجعلها عرضاً ، قال الحافظ في الفتح: قال القرطبي: في هذا الحديث دليل على جواز التستر بما يستقر من الحيوان ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطن الإبل ، لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء وكراهة الصلاة حينئذ عندها إما لشدة نتنها وإما لأنهم كانوا يتخلون بينها مستترين بها انتهى. وقال غيره: علة النهي عن ذلك كون الإبل خلقت من الشياطين ، فيحمل ما وقع منه في السفر من الصلاة إليها على حالة الضرورة ، ونظيره صلاته إلى السرير الذي عليه المرأة لكون البيت كان ضيقاً. وعلى هذا فقول الشافعي في البويطي: لا يستتر بامرأة ولا دابة في حال الإختيار. وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عبد الله بن دينار أن ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى البعير إلا وعليه رحل وكأن حكمه في ذلك أنها في حال شد الرحل عليها أقرب إلى السكون من حال تجريدها انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "وهو قول بعض أهل العلم لا يرون بالصلاة إلى البعير بأساً أن يستتر به" وهو الحق ولا يستلزم من النهي عن الصلاة في معاطن الإبل ، النهي على الصلاة إلى البعير الواحد في غير المعاطن.(2/333)
259ـ باب مَا جَاءَ إذَا حَضَرَ العَشَاءُ وأُقِيمَتْ الصّلاَةُ فابْدَأُوا بالعَشَاء
351ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا ، سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنِ الزّهرِي عن أنسٍ يبلُغ بهِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حَضَرَ العَشاء وأُقيمَتْ الصلاةُ فابْدَأُوا بالعشَاءِ".
ـــــــ
"باب مَا جَاءَ إذَا حَضَرَ العَشَاءُ وأُقِيمَتْ الصّلاَةُ فابْدَأُوا بالعَشَاء"
قوله: "عن أنس يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم" أي يرفعه إليه صلى الله عليه وسلم.
قوله: "إذا حضر العشاء" بفتح العين وهو طعام يؤكل عند العشاء قال. العراقي: المراد بحضوره وضعه بين يدي الاَكل لا استواؤه ولا غرفه في الأوعية لحديث ابن عمر المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه. وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ منه وإنه ليسمع قراءة الإمام انتهى. وقد أشار إلى هذه الرواية المصنف أيضاً حيث قال وروي عن ابن عمر إلخ. ويؤيد ما قال العراقي من أن المراد بحضوره وضعه بين يدي الاَكل حديث أنس عند البخاري بلفظ: إذا قدم العشاء ، ولمسلم: إذا قرب العشاء وعلى هذا فلا يناط الحكم بما إذا حضر العشاء لكنه لم يقرب للاَكل كما لو لم يقرب.
قوله: "وأقيمت الصلاة" قال ابن دقيق العيد: الألف واللام في الصلاة لا ينبغي أن تحمل على الاستغراق ولا على تعريف الماهية ، بل ينبغي أن تحمل على المغرب لقوله فابدأوا بالعشاء ، ويترجح حمله على المغرب لقوله في الرواية الأخرى فابدأوا(2/334)
وفي البابِ عن عَائِشَةَ وابنِ عُمَر وسلمةَ بنِ الأكوعِ وأمّ سلمةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أنسٍ حديثٌ حسن صحيحٌ.
وعليه العملُ عندَ بعضِ أهلِ العلمِ من أصْحابِ النبي صلى الله عليه وسلم منهْم أبو بكرٍ وعمرُ وابن عمرَ.
وبهِ يقولُ أحمدُ وإسحاقُ ، يقولان: يَبْدَأُ بالعشاءِ وإن فاتَتْهُ الصلاةُ في الجماعةِ ، سمعتُ الجارُودَ يقول:ُ سمعت وكيعاً يقول في هذا الحديثِ : يبدأ بالعشاءِ إذا كانَ طعاماً يخافُ فسَادَهُ.
ـــــــ
به قبل أن تصلوا المغرب ، والحديث يفسر بعضه بضعاً ، وفي رواية صحيحة إذا وضع العشاء وأحدكم صائم انتهى. وقال الفاكهاني: ينبغي حمله على العموم نظراً إلى العلة وهي التشويش المفضي إلى ترك الخشوع ، وذكر المغرب لا يقتضي حصراً فيها لأن الجائع غير الصائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصائم انتهى. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذين القولين: وحمله على العموم نظراً إلى العلة إلحافاً للجائع بالصائم وللغذاء بالعشاء لا بالنظر إلى اللفظ الوارد انتهى.
قوله: "فابدأوا بالعشاء" بفتح العين أي بطعام العشاء.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وابن عمر وسلمة بن الأكوع وأم سلمة" أما حديث عائشة فأخرجه مسلم بلفظ: لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان وأبو داود وأحمد وابن ماجه. وأما حديث سلمة بن الأكوع فأخرجه أحمد والطبراني. وأما حديث أم سلمة فلينظر من أخرجه.
قوله: "وبه يقول أحمد وإسحاق يقولان يبدأ بالعشاء وإن فاتته الصلاة بالجماعة" قال الحافظ في الفتح: أختلفوا فمنهم من قيده بمن إذا كان محتاجاً إلى الأكل وهو(2/335)
والذي ذَهَبَ إليه بعض أهلِ العلمِ منْ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أشْبَهُ بالاتباعِ ، وإنما أرادُوا ألاّ يقومَ الرّجلُ إلى الصلاةِ وقلبهُ مشغولُ بسببِ شيء.
وقد رُوِيَ عنِ ابن عباسٍ أنّه قال: لا نَقُومُ إلى الصلاةِ وفِي أنْفسنَا شيءٌ.
وَرُوِيَ عن ابن عُمَرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء".
قال: وتعشى ابن عمر وهُوَ يسْمَعُ قراءةَ الإمامِ.
قال حدّثنا بذلك هنادٌ حدثنا عَبْدَةُ عن عُبيدِ الله عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ.
ـــــــ
المشهور عند الشافعية ، وزاد الغزالي ما إذا خشي فساد المأكول ، ومنهم من لم يقيد وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق ، وعليه يدل فعل ابن عمر أي الاَتي ، ومنهم من أختار البداء بالصلاة إلا إن كان الطعام خفيفاً ، نقله ابن المنذر عن مالك انتهى. قلت: والظاهر ما قاله الثوري وأحمد وإسحاق "سمعت الجارود يقول سمعت وكيعاً يقول في هذا الحديث يبدأ بالعشاء إذا كان الطعام يخاف فساده" هذا مقول الترمذي، والجارود هو ابن معاذ السلمي الترمذي شيخ المؤلف المتوفي سنة أربع وأربعين ومائتين، ووكيع هو وكيع بن الجراح ، وقول وكيع هذا لا دليل عليه بل يخالف إطلاق الحديث ، ولذا قال الترمذي "والذي ذهب إليه بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أشبه بالاتباع" أي أولى والعمل مما قال وكيع "وإنما أرادوا" أي بعض أهل العلم المذكورون "أن لا يقوم الرجل إلى الصلاة وقلبه مشغول بسبب شيء" أي حال كون قلبه مشغول بسبب شيء "وقد روى عن ابن عباس أنه قال لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيء" روى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس أنهما كان يأكلان طعاماً وفي التنور شواء فأراد المؤذن أن يقيم فقال له ابن عباس: لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء. كذا في فتح الباري.(2/336)
260ـ باب مَا جَاءَ في الصّلاَةِ عنْدَ النّعَاس
352ـ حدثنا هارونُ بنُ إسحاق الهَمَدَانِيّ ، حدثنا عَبدَةُ بنُ سُلَيمانَ الكلابيّ عن هشامِ بن عروةَ عنْ أبِيهِ عن عائشةَ قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نعَسَ أحدُكمُ وهوَ يُصَلّي فَلْيرقُدْ حتى يَذهبَ عنهُ النومُ فإنّ أحدَكُمْ إذا صلّى وهُوَ يَنعَسُ لَعَلّهُ يَذْهَبُ ليَسْتَغْفِرُ فيسبّ نفسَهُ".
ـــــــ
"باب ما جاء في الصلاة عند النعاس"
النعاس: أو النوم ومقدمته.
قوله: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي" الواو للحال والجملة الحالية "فليرقد" وفي رواية النسائي فلينصرف ، والمراد به التسليم من الصلاة قاله الحافظ: وفي حديث أنس عند محمد بن نصر في قيام الليل فلينصرف فليرقد. وقد حمله طائفة على صلاة الليل ، وقال النووي: مذهبنا ومذهب الجمهور أنه عام في صلاة النفل والفرض في الليل والنهار انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قال المهلب: إنما هذا في صلاة الليل لأن الفريضة ليست في أوقات النوم ولا فيها من التطويل ما يوجب ذلك. قال الحافظ: وقد قدمنا أنه جاء على سبب لكن العبرة بعموم اللفظ فيعمل به أيضاً في الفرائض إن وقع ما أمكن بقاء الوقت انتهى كلام الحافظ. قلت: وقع في حديث عائشة في رواية لمحمد بن نصر في قيام الليل قالت مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم الحولاء بنت تويت فقيل له يا رسول الله إنها تصلي بالليل صلاة كثيرة فإذا غلبها النوم أرتبطت بحبل فتعلقت به الحديث ، فهذا هو السبب الذي أشار إليه الحافظ بقوله وقدمنا أنه جاء على سبب "فلعله يذهب ليستغفر فليسب نفسه" قال الحافظ: معنى يسب يدعو على نفسه ، وصرح به النسائي في روايته(2/337)
وفي الباب عن أنس وأَبِي هُرَيْرَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عائشةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ
ـــــــ
أي يريد ويقصد أن يستغفر فيسب نفسه من حيث لا يدري ، مثلاً يريد أن يقول اللهم أغفر لي فيقول اللهم أعفر لي ، والعفر هو التراب فيكون دعاء عليه بالذل والهوان وهو تمثيل وإلا فلا يشترط والتصحيف. وقوله فيسب منصوب عطفاً على يستغفر وهو منصوب بلام كي ويجوز رفعه على الاستئناف.
قوله: "وفي الباب عن أنس وأبي هريرة" أما حديث أنس فأخرجه البخاري ومسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليصل أحدكم نشاطه وإذا فتر فليقعد ، كذا في المشكاة. وفي صحيح البخاري في باب الوضوء من النوم إذا نعس في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل مرفوعاً. إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.(2/338)
261ـ باب ما جاء فيمن زار قوماً لا يُصَلّ بهم
353ـ حدثنا محمودُ بنُ غيلانَ و هنادٌ وقالا: حدثنا وكيعٌ عن أبانَ بنِ يزِيدَ العطار عن بُدَيْلِ بن مَيْسَرَةَ العُقَيْلِيّ عن أبي عَطِيةَ ، رجلٌ منهم
ـــــــ
"باب ما جاء فيمن زار قوماً لا يُصَلّ بهم"
قوله: "عن بديل بن ميسرة" بضم الموحدة بالتصغير "العقيلي" بضم العين. قال في التقريب ثقة من الخامسة.
قوله: "عن أبي عطية" قال الذهبي في الميزان أبو عطية عن مالك بن الحويرث لا يدري من هو، روى عنه بديل بن ميسرة وقال الحافظ في التقريب: أو عطية مولى بن عقيل(2/338)
قالَ: كانَ مالكُ بنُ الحُوَيْرثِ يأتينَا في مُصلاّنَا يَتَحَدّثُ فَحَضَرَتْ الصلاَةُ يوماً فقُلْنا له تقدّمْ فقال: ليتقدّمْ بعضكُمْ. حَتى أُحَدّثَكُمْ لمَ لا أتَقدّمُ ، سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ زَارَ قَوماً فَلاَ يَؤمهُمْ وليؤمهم رَجُلٌ مِنْهُمْ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح .
والعملُ على هذا عند أكثر أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهِم. قالوا: صاحبُ المنْزِلِ أحقّ بالإمامَةِ مِن الزّائِرِ.
وقَالَ بَعضُ أهلِ العلمِ: إذَا أذِنَ لَهُ فَلاَ بَأَسَ أنْ يُصَلّيَ بِهِ.
ـــــــ
مقبول من الثالثة "رجل" بالجر بدل من عطية "منهم" أي من بني عقيل.
قوله: "في مصلانا" أي في مسجدنا "تقدم" أي وصل بنا وأمنا "حتى أحدثكم" وفي رواية أبي داود وسأحدثكم "من زار قوماً فلا يؤمهم" في أن المزور أحق بالإمامة من الزائر وإن كان أعلم أو أقرأ من المزور.
قوله: "وقال بعض أهل العلم إذا أذن فلا بأس أن يصلي به" كذا قال الترمذي. وقال الحافظ ابن تيمية في المنتقى: وأكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود: "إلا بإذنه" ، ويعضده عموم ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة: عبد أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل أم قوماً وهم به راضون ، ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كل ليلة. رواه الترمذي ، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الاَخر أن يؤم قوماً إلا بإذنهم ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم". رواه أبو داود انتهى ما في المنتقى.
قلت: وحديث أبي مسعود الذي أشار إليه صاحب المنتقى رواه أحمد ومسلم بلفظ:(2/339)
وَقالَ إسْحَاقُ بِحديثِ مالكِ بنِ الحويرثِ وشدّدَ في أن لا يُصلّيَ أحدٌ بِصَاحِبِ المنزِل وإنْ أذِنَ لَهُ صاحبُ المنزل. قالَ: وَكَذَلِكَ في المسجد لا يصلي بهم في المسجد إذا زَارَهُمْ يَقُولُ ليُصَلّ بِهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ.
ـــــــ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله الحديث. وفيه: ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه. ورواه سعيد بن منصور ، لكن قال فيه. لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه ، ولا يقعد على تكرمته في بيته إلا بإذنه وعند أبي داود بلفظ: لا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه.
فائدة: قال ابن العربي في عارضة الأحوذي: إذا كان الرجل من أهل العلم والفضل فالأفضل لصاحب المنزل أن يقدمه ، وأن استويا فمن حسن الأدب أن يعرض عليه انتهى.
فائدة أخرى: قال العراقي في شرح الترمذي: يشترط أن يكن المزور أهلاً للإمامة فإن لم يكن أهلاً كالمرأة في صورة كون الزائر رجلاً ، والأمي في صورة كون الزائر قارئاً ونحوهما فلا حق له في الإمامة انتهى.(2/340)
262 ـ باب ما جاءَ في كَرَاهِيَة أنَ يَخُصّ الإمَامُ نَفْسَهُ بالدّعَاء
354 - حدثنا عليّ بنُ حجرٍ حدثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عيّاشٍ: حَدّثَنِي
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كَرَاهِيَة أنَ يَخُصّ الإمَامُ نَفْسَهُ بالدّعَاء"
قوله: "أخبرنا إسماعيل بن عياش" بن سليم العنسي أبو عتبة الحمصي صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في غيرهم كذا في التقريب. وقال في الخلاصة: وثقه أحمد وابن معين ودحيم والبخاري وابن عدي في أهل الشام وضعفه في الحجازيين انتهى. قلت: روى(2/340)
حبيبُ بنُ صالحٍ عنْ يزيدَ بنِ شُرَيْحٍ عنْ أبي حيَ المؤذنِ الحِمْصِيّ عنْ ثَوْبَانَ عنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلّ لامرئ أنْ ينظرَ في جوفِ بيتِ امرئ حتى يستَأذنَ ، فإن نظَرَ فقدْ دخلَ ، وَلاَ يَؤُمّ قوماً فيخصّ نفْسَه بِدَعْوَةٍ دونَهُمْ ، فإنِ فَعَلَ فقد خانهمْ ولاَ يَقُومُ إلى الصلاة وهو حقنٌ".
ـــــــ
إسماعيل بن عياش هذا الحديث عن حبيب بن أبي صالح وهو من أهل بلده فإنه حمصي "حدثني حبيب بن صالح" قال في التقريب: حبيب بن صالح أو ابن أبي موسى الطائي أبو موسى الحمصي ثقة من السابعة "عن يزيد بن شريح الحضرمي الحمصي مقبول من الثالثة" كذا في التقريب وقال في الخلاصة ووثقه ابن حبان "عن أبي حي المؤذن" اسمه شداد بن حي صدوق من الثالثة كذا في التقريب. قال السيوطي في قوت المغتذي: ليس للثلاثة يعني لحبيب بن صالح ويزيد بن شريح وأبي حي عند المؤلف إلا هذا الحديث انتهى "عن ثوبان" الهاشمي مولى النبي صلى الله عليه وسلم صحبه ولازمه ونزل بعده الشام ومات بحمص سنة أربع وخمسين.
قوله: "لا يحل" أي لا يجوز "لامريء" وكذا لمرأة "أن ينظر في جوف بيت امريء" أي داخله وفي رواية أبي داود في قعر بيت "حتى يستأذن" أي أهل البيت "فإن نظر فقد دخل" أي إن نظر قبل الاستئذان من حجر أو غيره فقد ارتكب إثم من دخل البيت بلا استئذان قال ابن العربي: الاطلاع على الناس حرام بالإجماع ، فمن نظر داره فهو بمنزلة من دخل داره "ولا يؤم" بالرفع نفي بمعنى النهي "قوماً فيخص" بالنصب بأن المقدرة لوروده بعد النفي على حد "لا يقضي عليهم فيموتوا" قاله المناوي ، قلت: ويمكن أن يكون بالرفع عطفاً علي لا يؤم "نفسه بدعوة دونهم" أي دون مشاركتهم في دعائه "فإن فعل فقد خانهم" قال الطيبي: نسب الخيانة إلى الإمام شرعية الجماعة ليفيد كل من الإمام والمأموم الخير على صاحبه ببركة قربه من الله تعالى ، فمن خص نفسه فقد خان صاحبه ، وإنما خص الإمام بالخيانة فإنه صاحب الدعاء ، وإلا فقد تكون الخيانة من جانب المأموم "وهو حقن" بفتح الحاء وكسر القاف وهو الذي به بول شديد يحبسه(2/341)
وفي البابِ عن أبي هريرة وأبي أمامةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ثوبانَ حديثٌ حسنٌ.
وقد رُويَ هذا الحديثُ عن مُعاوِيةَ بنِ صالحٍ عن السّفْرِ بنِ نُسَيْرٍ ، عن يزيدَ بنِ شُرْيحٍ عن أبي أمامةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ورُوِيَ هذَا الحديثُ عن يَزِيدَ بن شُرَيحٍ عن أبي هُريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
والجملة حال قال ابن العبري: اختلف في تعليله فقيل لأنه يشتغل ولا يوفي الصلاة حقها من الخشوع ، وقيل لأنه حامل نجاسة لأنها متدافعة للخروج فإذا أمسكها قصداً فهو كالحامل لها انتهى. والمعتمد هو الأول. وفي رواية أبي داود: ولا يصل وهو حقن حتى يتخفف نفسه بخروج الفضلة.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وأبي أمامة" أما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود من طريق ثور عن يزيد بن شريح عن كبي حي المؤذن عنه. وأما حديث أبي أمامة فلينظر من أخرجه.
قوله: "حديث ثوبان حديث حسن" وأخرجه أبو داود وابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري
قوله: "وقد روى هذا الحديث عن معاوية بن صالح عن السفر" بفتح السين المهملة وسكون الفاء "بن نسير" بضم النون وفتح السين المهملة مصغراً وآخره راء الأزدي الحمصي أرسل عن أبي الدرداء وهو ضعيف من السادسة ، وروى هذا الحديث بهذا الطريق ابن ماجه بلفظ: نهي أن يصلي الرجل وهو حاقن. وحديث ثوبان رضي الله عنه هذا يدل على كراهة أن يخص الإمام نفسه بالدعاء ولا يشارك المأمومين فيه ، ولذلك قال العلماء الشافعية والحنبلية يستحب للإمام أن يقول في دعاء القنوت المروي عن الحسن(2/342)
وكأنّ حديثَ يزيدَ بنِ شُرَيح عن أبي حيّ المؤذنِ عنْ ثوبانَ في هذا أجودُ إسناداً وأشهرُ.
ـــــــ
بن علي رضي الله عنه: اللهم اهدنا فيمن هديت بجمع الضمير مع أن الرواية اللهم اهدني فيمن هديت بإفراد الضمير. قال الشيخ منصور بن إدريس الحنبلي في كشاف القناع في شرح الإقناع: والرواية إفراد الضمير وجمع المؤلف لأن الإمام يستحب له أن يشارك المأموم في الدعاء انتهى. وكذلك قال الشيخ منصور بن يونس البهوتي الحنبلي في شرح المنتهى.
فإن قلت: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو في صلاته وهو إمام بالإفراد فكيف التوفيق بين ذلك وبين حديث ثوبان؟
قلت: ذكروا في التوفيق بينهما وجوهاً ، قال الحافظ بن القيم في زاد المعاد: والمحفوظ في أدعيته صلى الله عليه وسلم في الصلاة كلها بلفظ الإفراد كقوله رب اغفر لي وارحمني واهدني وسائر الأدعية المحفوظة عنه ، ومنها قوله في دعاء الاستفتاح: اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد ، اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب الحديث. وروى أحمد وأهل السنن من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يؤم عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة فإن فعل فقد خانهم. قال ابن خزيمة في صحيحه وقد ذكر الحديث اللهم باعد بيني وبين خطاياي الحديث ، قال في هذا دليل على رد الحديث الموضع: لا يؤم عبدا قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم. وسمعت شيخ الاسلام ابن تيميه يقول هذا الحديث عندي في الدعاء الذي يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين ويشتركون فيه كدعاء القنوت ونحوه انتهى كلام ابن القيم.
قلت: الحكم على حديث ثوبان المذكور بأنه موضع ليس بصحيح، بل هو حسن كما صرح به الترمذي ، وقال العزيزي: هذا في دعاء القنوت خاصة بخلاف دعاء الافتتاح والركوع والسجود والجلوس بين السجدتين والتشهد ، وقال في التوسط معناه تخصيص نفسه بالدعاء في الصلاة والسكوت عن المقتدين، وقيل نفيه عنهم كارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً وكلاهما حرام أو الثاني حرام فقط لما روى أنه كان يقول بعد التكبير: اللهم نقني من خطاياي الحديث انتهى. قلت: قول الشافعية وغيرهم أنه يستحب للإمام أن(2/343)
ـــــــ
يقول اللهم اهدنا بجمع الضمير فيه أنه خلاف المأثور ، والمأثور إنما هو بإفراد الضمير ، فالظاهر أن يقول الإمام بإفراد الضمير كما ثبت لكن لا ينوي به خاصة نفسه بل ينوي به العموم والشمول لنفسه ولمن خلفه من المأمومين هذا ما عندي والله تعالى أعلم.(2/344)
263ـ باب مَا جَاء من أَمّ قَوْماً وِهُمْ لَهُ كارهون
355ـ حدثنا عبدُ الأعلى بنُ واصل بن عبد الأعلى الكوفيّ حدثنا محمدُ بنُ القاسمٍ الأسديّ عن الفضلِ بنِ دَلْهَمٍ عن الحسنِ قال: سمعتُ أنسَ بنَ مالك يقول: "لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةً: رجلٌ أمّ قوماً وهُم لهُ كارهُون ، وامرأةٌ باتَتْ وزوجُها عليها ساخطٌ ، ورجلٌ سمعَ حيّ عَلَى الفلاَحِ ثُمّ لم يُجِب".
ـــــــ
"باب مَا جَاء فيمَنْ أَمّ قَوْماً وِهُمْ لَهُ كارهون"
قوله: "أخبرنا محمد بن القاسم الأسدي" قال العراقي: لم أر له عند المصنف يعني الترمذي إلا هذا الحديث وليس له في بقية الكتب شيء وهو ضعيف جداً كذبه أحمد والدارقطني ، وقال أحمد أحاديثه موضوعة "عن الفضل بن دلهم" بفتح الدال وسكون اللام بوزن جعفر هو لين رمي بالاعتزال من السابعة "عن الحسن" هو الحسن البصري.
قوله: "رجل أم قوماً وهم له كارهون" لأمر مذموم في الشرع ، وإن كرهوا لخلاف ذلك فلا كراهة: قال ابن الملك: كارهون لبدعته أو فسقه أو جهله، أما إذا كان بينه وبينهم كراهة عداوة بسبب أمر دنيوي فلا يكون له هذا الحكم "وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط" هذا إذا كان السخط لسوء خلقها أو سوء أدبها أو قلة طاعتها: أما إن كان سخط زوجها من غير جرم فلا إثم عليها ، قاله ابن الملك. وقال المظهر: هذا إذا كان السخط لسوء خلقها وإلا فالأمر بالعكس انتهى. قال في القاموس(2/344)
وفي البابِ عن ابن عباسٍ وطلحَةَ وعبدِ الله بن عمرٍو وأبي أمامة.
قال أبو عيسى: حديثُ أنسٍ لا يصحّ لأنّهُ قد رُوِي هذا الحديث عن الحسنِ عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
قال أبو عيسى: ومحمدُ بنُ القاسِمِ تَكَلّم فيه أحمدُ بنُ حنبلٍ وضَعّفهُ وليسَ بالحافظِ.
ـــــــ
السخط بالضم وكعنق وجبل ومقعد ضد الرضا ، وقد سخط كفرح وتسخط وأسخطه أغضبه "ورجل سمع حي على الفلاح ثم لم يجب" أي لم يذهب إلى المسجد للصلاة مع الجماعة من غير عذر.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وطلحة" أي طلحة بن عبيد الله "وعبد الله بن عمرو وأبي أسامة" أما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجه بلفظ قال: ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: رجل أم قوماً وهم له كارهون ، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ، وأخوان متصارمان قال العراقي: وإسناد حسن. وأما حديث طلحة فأخرجه الطبراني في الكبير بلفظ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما رجل أم قوماً وهم له كارهون ، لم تجر صلاته أذنيه. وفي إسناده سليمان بن أيوب الطلحي قال فيه أبو زرعة: عامة أحاديثه لا يتابع عليها. وقال الذهبي في الميزان: صاحب مناكير وقد وثق وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قوماً وهم له كارهون ، ورجل أتى الصلاة دباراً والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته ، ورجل اعتيد محرره، وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ضعفه الجمهور. وأما حديث أبي أمامة فأخرجه المصنف في هذا الباب. وفي الباب أيضاً عن أبي سعيد عند البيهقي وعن سلمان عند أبي شيبة.
قوله: "حديث أنس لا يصح إلخ" حاصله أن الثابت هو المرسل وأما الموصول فهي ضعيف فإنه قد تفرد بوصله محمد بن القاسم الأسدي وهو ضعيف: قال الشوكاني(2/345)
وقد كرِه قومٌ من أهلِ العلمِ أن يؤُمّ الرّجُلُ قوماً وهم له كارهُون. فإذا كان الإمامُ غيرَ ظالمٍ ، فإنما الإثمُ على من كرِهَهُ.
وقال أحمدُ وإسحاقُ في هذا: إذا كرِهَ واحدٌ أو إثنانِ أو ثلاثةٌ فلا بأسَ أن يصلّيَ بهم حتى يكرَههُ أكثرُ القومِ.
356ـ حدثنا هنادٌ حدثنا جريرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ هلالِ بنِ يِسَافٍ عنْ زِيادِ بنِ أبي الجعد عنْ عمرِو بنِ الحارِثِ بنِ المصطلقِ قالَ: "كانَ
ـــــــ
في النيل وأحاديث الباب يقوي بعضها بعضاً فينتهض للاستدلال بها على تحريم أن يكون الرجل إماماً لقوم يكرهونه. ويدل على التحريم نفي قبول الصلاة وأنها لا تجاوز آذان المصلين ولعن الفاعل لذلك انتهى.
قوله: "فإذا كان الإمام غير ظالم فإنما الإثم على من كرهه" يريد أن محمل الحديث ما إذا كان سبب الكراهة من الإمام وإلا فلا إثم عليه بل الإثم على القوم "قال أحمد وإسحاق في هذا إذا كره واحد أو اثنان أو ثلاثة فلا بأس أن يصلي بهم حتى يكرهه أكثر القوم" قال الشوكاني: وقيدوه بأن يكون الكارهون أكثر المأمومين ولا اعتبار بكراهة الواحد والاثنين والثلاثة إذا كان المؤتمون جمعاً كثير إلا إذا كانوا اثنين أو ثلاثة فإن كراهتهم أو كراهة أكثرهم مقبرة ، قال والاعتبار وبكراهة أهل الدين دون غيرهم حتى قال الغزالي في الإحياء: لو كان الأقل من أهل الدين يكرهونه فالنظر إليهم، قال: وحمل الشافعي الحديث على إمام غير الوالي لأن الغالب كراهة ولاة الأمر ، قال: وظاهر الحديث عدم الفرق انتهى.
قوله: "عن هلال بن يساف" بكسر التحتانية ثم مهملة ثم فاء ثقة من الثالثة "عن زياد بن أبي الجعد" الأشجعي أخو سالم الكوفي عن وابصة بن معبد وعنه هلال بن يساف وثقه ابن حبان قاله الخزرجي، وقال الحافظ مقبول من الرابعة "عن عمرو بن الحارث بن المصطق" أخو جويرية أم المؤمنين صحابي قليل الحديث.(2/346)
يقالُ أشدُ الناسِ عذَاباً يوم القيامة اثنانِ: امرأةٌ عصتْ زوجَها وإمامُ قومٍ وهُمْ لَهُ كارِهُونَ".
قال هنّاء قال جريرٌ: قالَ منصورٌ: فسألنَا عن أمرِ الإمامِ. فقِيلَ لَنَا: إنما عنَى بهذَا أَئِمّةً ظَلَمَةً ، فأمّا من أقامَ السنةَ فإنمَا الإثمُ عَلَى منْ كرِهَهُ.
357ـ حدثنا محمدُ بنُ إسْمَاعِيلَ حدثنا عليّ بنُ الحسنِ حدثنا الحسينُ بنُ واقدٍ حدثنا أبُو غالبٍ قال: سمعتُ أبا أُمامَةَ يقولُ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثةٌ لاَ تُجاوِزُ صلاتُهمْ آذانَهُمْ: العبدُ الاَبقُ حتّى يَرْجِعَ وامرأةٌ باتتْ وزوجُهَا عليها ساخِطٌ ، وإمامُ قومٍ وهُمْ له كارهُونَ".
ـــــــ
قوله: "قال كان يقال أشد الناس عذاباً اثنان الخ" قال العراقي: هذا كقول الصحابي: كنا نقول وكنا نفعل ، فإن عمرو بن الحارث له صحبة وهو أخو جويرية بنت الحارث إحدى أمهات المؤمنين ، وإذا حمل على الرفع فكأنه قال: قيل لنا والقائل هو النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
قوله: "أخبرنا الحسين بن واقد" المروزي أبو عبد الله القاضي ثقة له أوهام من السابعة قوله: "لا تجاوز صلاتهم آذانهم" جمع الأذن الجارحة ، أي لا تقبل قبولاً كاملاً أو ترفع إلى الله رفع العمل الصالح. قال التوربشتي: بل أدنى شيء من الرفع ، وخص الاَذان بالذكر لما يقع فيها من التلاوة والدعاء ولا تصل إلى الله تعالى قبولاً وإجابة ، وهذا مثل قوله عليه السلام في المارقة يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، عبر عن عدم القبول بعدم مجاوزة الاَذان. قال الطيبي: ويحتمل أن يراد لا يرفع عن آذانهم فيظلهم كما يظل العمل الصالح صاحبه يوم القيامة ، كذا في المرقاة. وقال السيوطي في قوت المغتذي: أي ترفع إلى السماء كما في حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لا نرفع صلاتهم(2/347)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ منْ هذا الوجهِ. وأبو غالبٍ اسمه حَزَوّرٌ.
ـــــــ
فوق رؤوسهم شبراً ، وهو كناية عن عدم القبول كما في حديث ابن عباس عند الطبراني: لا يقبل الله لهم صلاة انتهى "حتى يرجع" أي إلى أمر سيده ، وفي معناه الجارية الاَبقة.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" وصفه البيهقي ، قال النووي في الخلاصة: والأرجح هنا قول الترمذي ، وذكر المنذري هذا الحديث وذكر تحسين الترمذي وأفره.
قوله: "وأبو غالب اسمه حزور" بفتح الحاء المهملة والزاي المعجمة وشدة الواو المفتوحة وآخره راء مهملة ، قال الحافظ في التقريب: أوب غالب صاحب أبي أمامة البصري نزل أصبهان قيل اسمه حزور ، وقيل سعيد بن الحزور ، وقيل نافع صدوق يخطئ من الخامسة.(2/348)
264ـ باب ماَ جَاءَ إذا صَلّى الإمَامُ قَاعداً فصلّوا قُعودا
358ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا ، الليثُ عن ابنِ شهابٍ عن أنسِ بن مالك أنه قال "خَرّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن فرسٍ فجُحشَ فصلى بنَا قاعداً فصَلّينا معهُ قعوداً ، ثم انصرفَ فقالَ إنما الإمامُ أو: إنما جُعلَ الإمامُ ليؤتمّ به ، فإذا كبّر فكبّروا ، وإذا ركعَ فاركَعُوا ، وإذا رفعَ فارفعَوا ، وإذا قال سمعَ الله لمنْ حمدَهُ فقولوا: ربنَا ولك الحمدُ وإذا سجدَ فاسجدوا ، وإذا صلّى قاعِداً فصلوا قعوداً أجمعونَ".
ـــــــ
"باب ماَ جَاءَ إذا صَلّى الإمَامُ قَاعداً فصلّوا قُعودا"
قوله: "خر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس" من الخرور أي سقط "فجحش" بضم الجيم وكسر الحاء أي خدش شقه الأيمن يعني قشر جلده فتأثر تأثراً منعه استطاعة(2/348)
وفي البابِ عن عَائِشَةَ وأبي هريرة وجابرٍ وابنِ عمرَ ومعاويةَ.
قال أبو عيسى: و حديثُ أنسٍ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرّ عنْ فرسٍ "فجُحِشَ" ، حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
القيام ، كذا قال أبو الطيب المدني في شرحه ، قلت: في رواية البخاري من طريق حميد عن أنس: سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه ، وفي رواية الشيخين من طريق الزهري عن أنس فجحش شقه الأيمن ، وروى أبو داود وابن خزيمة بإسناد صحيح من حديث جابر: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً في المدينة فصرعه على جذع نخلة فانفكت قدمه الحديث ، قال الحافظ في الفتح: لا منافاة بينهما لاحتمال وقوع الأمرين انتهى "وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون" قد استدل به القائلون أن المأموم يتابع الإمام في الصلاة قاعداً وإن لم يكن المأموم معذوراً.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وجابر وابن عمر ومعاوية" أما حديث عائشة فأخرجه الشيخان عنها أنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً فأشار إليهم أن يجلسوا فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا ، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبر كبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون". وأما حديث جابر فأخرجه مسلم وابن ماجه والنسائي عنه بلفظ: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره ، فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً ، فلما سلم قال إن كنتم آنفاً تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائماً فصلوا قياماً وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً. وأما حديث ابن عمر فأخرجه أحمد والطبراني. وأما حديث معاوية فأخرجه الطبراني في الكبير قال العراقي ورجاله رجال الصحيح. وفي الباب أيضاً عن أسيد بن حضير عند أبي داود(2/349)
وقدْ ذهبَ بعضُ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هَذا الحديثِ ، منهمْ جابرُ بن عَبْدِ الله وأسَيْدُ بن حضيرٍ وأبو هريرةَ وغيرهُمْ ، وبهذا الحديثِ يقولُ أحمدُ وإسحاقُ.
و قالَ بَعْضُ أهلِ العلمِ: إذَا صَلّى الإمامُ جالِساً ، لَمْ يصلّ منْ خلفهُ إلاّ قياماً ، فإنْ صَلّوا قعوداً لم تُجْزِهِمْ.
وهو قولُ سفيانَ الثوْرِيّ ومالكِ بن أنَسٍ وابن المبارِك والشافعيّ.
ـــــــ
وعبد الرزاق وعن قيس بن فهد عند عبد الرزاق أيضاً ، وعن أبي أمامة عند ابن حبان في صحيحه.
قوله: "حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خر عن فرس فجحش حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "وقد ذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحديث إلخ" قد استدل بأحاديث الباب القائلون إن المأموم يتابع الإمام في الصلاة قاعداً وإن لم يكن المأموم معذوراً. وممن قال ابن حزم: وبهذا نأخذ إلا فيمن يصلي إلى جنب الإمام يذكر الناس ويعلمهم تكبير الإمام فإنه يتخير بين أن يصلي قاعداً وبين أن يصلي قائماً. قال ابن حزم وبمثل قولنا يقول جمهور السلف ، ثم رواه عن جابر وأبي هريرة وأسيد بن حضير ، قال: ولا مخالف لهم يعرف في الصحابة ، ورواه عن عطاء ، وروى عن عبد الرزاق أنه قال: ما رأيت الناس إلا على أن الإمام إذا صلى قاعداً صلى من خلفه قعوداً، قال وهي السنة عن غير واحد ، وقد حكاه ابن حبان أيضاً عن الصحابة الثلاثة المذكورين ، وعن قيس بن فهد أيضاً من الصحابة ، وعن أبي الشعشاء وجابر بن زيد من التابعين ، وحكاه أيضاً عن مالك بن أنس وأبي أيوب سليمان بن داود الهاشمي وأبي خيثمة وابن أبي شيبة ومحمد بن إسماعيل ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل محمد بن نصر ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، ثم قال بعد ذلك: وهو عندي ضرب من الإجماع الذي أجمعوا على إجازته ،(2/350)
ـــــــ
لأن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أفتوا به ، والإجماع عندنا إجماع الصحابة ولم يرووا عن أحد من الصحابة خلافاً لهؤلاء الأربعة لا بإسناد متصل ولا منقطع ، فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعداً كان على المأمومين أن يصلوا قعوداً وقد أفتى به من التابعين جابر بن زيد وأبو الشعثاء: ولم يرو عن أحد من التابعين أصلاً خلافه لا بإسناد صحيح ولا واه ، فكأن التابعين أجمعوا على إجازته. قال: وأول من أبطل في هذه الأمة صلاة المأموم قاعداً إذا صلى إمامه جالساً المغيرة بن مقسم صاحب النخعي ، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة وتبعه عليه من كان بعده من أصحابه انتهى كلام ابن حبان.
وحكى الخطابي في المعالم والقاضي عياض عن أكثر الفقهاء خلاف ذلك ، وحكى النووي عن جمهور السلف خلاف ما حكى ابن حزم عنهم ، وحكاه ابن دقيق العيد عن أكثر الفقهاء المشهورين. وقال الحازمي في كتاب الاعتبار ما لفظه: وقال أكثر أهل العلم يصلون قياماً ولا يتابعون الإمام في الجلوس.
وقد أجاب المخالفون لأحاديث الباب بأجوبة:
أحدها: دعوى النسخ ، قاله الشافعي والحميدي وغير واحد. وجعلوا الناسخ ما ورد من صلاته صلى الله عليه وسلم في مرض موته بالناس قاعداً وهم قائلون خلفه ولم يأمرهم بالقعود.
وأنكر أحمد نسخ الأمر بذلك وجمع بين الحديثين بتنزيلهم على حالتين: إحداهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب قائماً لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً ، سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعداً أم لا كما في الأحاديث التي في مرض موته صلى الله عليه وسلم فإن تقريره لهم على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة ، لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة قائماً وصلوا معه قياماً بخلاف الحالة الأولى فإنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ الصلاة جالساً فلما صلوا خلفه قياماً أنكر عليهم. ويقوي هذا الجمع أن الأصل عدم النسخ لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم النسخ مرتين ، لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعداً ، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعداً ، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النسخ مرتين وهو بعيد.(2/351)
ـــــــ
والجواب الثاني: من الأجوبة التي أجاب بها المخالفون لأحاديث الباب دعوى التخصيص بالنبي صلى الله عليه وسلم في كونه يؤم جالساً ، حكى ذلك القاضي عياض قال ولا يصح لأحد أن يؤم جالساً بعده صلى الله عليه وسلم ، قال وهو مشهور قول مالك وجماعة أصحابه ، قال وهذا أولى الأقاويل لأنه صلى الله عليه وسلم لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا في غيرها ولا لعذر ولا لغيره. ورد بصلاته صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف وخلف أبي بكر.
وقد استدل على دعوى التخصيص بحديث الشعبي عن جابر مرفوعاً. لا يؤمن أحد بعدي جالساً، وأجيب عن ذلك بأن الحديث لا يصح من وجه من الوجوه كما قال العراقي ، وهو أيضاً عند الدارقطني من رواية جابر الجعفي عن الشعبي مرسلاً وجابر متروك ، وروى أيضاً من رواية مجالد عن الشعبي ومجالد ضعفه الجمهور: وقال ابن دقيق العيد: وقد عرف أن الأصل عدم التخيصي حتى يدل عليه دليل انتهى. على أنه يقدح في التخصيص ما أخرجه أبو داود أن أسيد بن حضير كان يؤم قومه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده ، فقيل يا رسول الله إن إمامنا مريض ، فقال إذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً. قال أبو داود: وهذا الحديث ليس بمتصل ، وما أخرجه عبد الرزاق عن قيس ابن فهد الأنصاري أن إماماً لهم اشتكى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فكان يؤمنا جالساً ونحن جلوس ، قال العراقي وإسناده صحيح.
والجواب الثالث: من الأجوبة التي أجاب بها المخالفون لأحاديث الباب أنه يجمع بين الأحاديث بما تقدم عن أحمد بن حنبل.
وأجيب عنه بأن الأحاديث ترده لما في بعض الطرق أنه أشار إليهم بعد الدخول في الصلاة.
وقد أجاب المتمسكون بأحاديث الباب عن الأحاديث المخالفة لها بأجوبة، منها: قول ابن خزيمة: إن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلي قاعداً لم يختلف في صحتها ولا في سباقها. وأما صلاته صلى الله عليه وسلم في مرض موته فاختلف فيها هل كان إماماً أو مأموماً. ومنها أن بعضهم جمع بين القصتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز. ومنها أنه أستمر عمل الصحابة على القعود(2/352)
ـــــــ
خلف الإمام القاعد في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته كما تقدم من أسيد بن حضير وقيس بن قهد، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر أنه أشتكى فحضرت الصلاة فصلى بهم جالساً وصلوا معه جلوساً: وعن أبي هريرة أيضاً أنه أفتى بذلك وإسناده كما قال الحافظ صحيح. ومنها ما روى عن ابن شعبان أنه نازع في ثبوت كون الصحابة صلوا خلفه صلى الله عليه وسلم قياماً غير أبي بكر لأن ذلك لم يرد صريحاً ، قال الحافظ: والذي أدعى نفيه قد أثبته الشافعي وقال إنه في رواية إبراهيم عن الأسود عن عائشة ، قال الحافظ ثم وجدت مصرحاً به في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عطاء فذكر الحديث ولفظه: فصلى النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً وجعل أبا بكر ورواءه بينه وبين الناس وصلى الناس وراءه قياماً ، قال: وهذا مرسل يعتضد بالرواية التي علقها الشافعي عن النخعي ، قال: وهذا الذي يقتضيه النظر لأنهم ابتدأوا الصلاة مع أبي بكر قياماً. فمن أدعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان.(2/353)
264 ـ باب منه
360ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ ، حدثنا شبَابةُ عن شعبة عَنْ نعيم بنِ أبِي هنْدٍ عنْ أبي وائِلٍ عنْ مَسروقٍ عنْ عائشةَ
ـــــــ
"باب منه"
قوله: "أخبرنا شبابة" بن سوار المدائني أصله من خراسان، يقال كان اسمه مروان مولى بني فزارة ثقة حافظ رمى بالإرجاء من التاسعة مات سنة أربع أو خمسين أو ست ومائتين "عن نعيم" بالتصغير "بن أبي هند" النعمان بن اشيم الأشجعي ثقة رمى بالنصب من الرابعة ما ت سنة عشر ومائة "عن أبي وائل" اسمه شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي ثقة مخضرم ، مات في خلافه عمر بن عبد العزيز وله مائة سنة.(2/353)
قالَتْ: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلْفَ أبي بكر في مرضه الذي ماتَ فيهِ قاعداً ".
قال أبو عيسى: حديثُ عائشةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ غريبٌ.
وقد رُوِيَ عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: " إذا صلى الإمامُ جالساً فصَلّوا جلوساً ".
ـــــــ
قوله: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعداً" فيه دليل على جواز صلاة القاعد لعذر خلف القائم. قال الشوكاني لا أعلم فيه خلافاً.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح غريب" وأخرجه النسائي.
قوله: "وقد روى عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا صلى الإمام جالساً فصلوا جلوساً" رواه الشيخان ، وقد ذكرنا لفظه بتمامه في الباب المتقدم "وروي عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه وأبو بكر يصلي بالناس فصلى إلى جنب أبي بكر والناس يأتمون بأبي بكر ، وأبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم" رواه الشيخان عنها قال مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس ، فخرج أبو بكر يصلي فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه فخرج يهادي بين رجلين ، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك ، ثم أتيابه حتى جلس إلى جنبه عن يسار أبي بكر ، وكان أبو بكر يصلي قائماً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعداً ، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بصلاة أبي بكر. وللبخاري في رواية: فخرج يهادي بين رجلين في صلاة الظهر. ولمسلم: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير. فقوله: عن يسار أبو بكر فيه رد على القرطبي حيث قال لم يقع في الصحيح بيان جلوسه صلى الله عليه وسلم هل كان عن يمين أبي بكر أو عن يساره، وقوله يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماماً وأبو بكر مؤتماً به. وقد اختلف في ذلك أختلافاً شديداً كما قال الحافظ، ففي رواية لأبي داود(2/354)
ورُوِيَ عنها: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرجَ في مرضه وأبو بكر يُصلّي بالنّاسِ فصلّى إلى جنبِ أبي بكرٍ ، و الناسُ يأتمونَ بأبي بكرٍ وأبو بكر يأتمّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم".
ورُوِيَ عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلفَ أبي بكرٍ قاعداً".
ورُوِيَ عن أنس بن مالك "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر وهو قاعدٌ".
ـــــــ
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المقدم بين يدي أبي بكر ، وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه عن عائشة أنها قالت: من الناس من يقول كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم المقدم. وأخرج ابن المنذر من رواية مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر. وأخرج ابن حبان عنها بلفظ: كان أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وأخرج الترمذي والنسائي وابن خزيمة عنها بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر. قال في الفتح: تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام في تلك الصلاة ، ثم قال بعد أن ذكر الاختلاف: فمن العلماء من سلك الترجيح فقدم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأموماً للجزم بها في رواية أبي معاوية وهو أحفظ في حديث الأعمش من غيره ، ومنهم من عكس ذلك فقدم الرواية التي فيها أنه كان إماماً، ومنهم من سلك الجمع فحمل القصة على التعدد. والظاهر من رواية حديث الباب المتفق عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماماً وأبو بكر مؤتماً، لأن الاقتداء المذكور المراد به الائتمام ، ويؤيد ذلك رواية لمسلم بلفظ: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير.
قوله: "وروى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر قاعداً" أخرج الترمذي هذه الرواية في هذا الباب "وروى عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر وهو قاعد" ذكر الترمذي إسناد هذا الحديث بعده فقال(2/355)
361ـ حدثنا عبدُ الله بنُ أبي زياد حدثنا شبابةُ بنُ سوار حدثنا محمدُ بنُ طلحةَ عن حميدٍ عن ثابتٍ عن أنسٍ قالَ: "صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مَرضهِ خلفَ أبي بكرٍ قاعداً في ثوبٍ متوشّحا بهِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"حدثنا بذلك" أي بالحديث المذكور بغير السند "عبد الله بن أبي زياد" هو عبد الله بن الحكم بن أبي زياد القطواني بفتح القاف والمهملة أبو عبد الرحمن الكوفي الدهقان صدوق قاله الحافظ، روى عن ابن عيينة ووكيع وزيد بن الحباب وعنه د ت ق. قال أبو حاتم: صدوق قاله الخزرجي أخبرنا "شبابة بن سوار" بفتح السين المهملة وشدة الواو تقدم ترجمته "أخبرنا محمد بن طلحة" بن مصرف اليامي الكوفي عن أبيه والحكم بن عتيبة وطائفة وعنه شبابة بن سوار وخلق. قال أحمد: لا بأس به إلا أنه لا يكاد يقول حدثنا. وقال النسائي ليس بالقوي. وقال ابن حبان ثقة يخطئ وأختلف فيه كلام ابن معين مات سنة سبع وستون ومائة كذا في الخلاصة. وقال الحافظ: صدوق له أوهام وأنكروا سماعه من أبيه لصغره "عن حميد" بالتصغير هو حميد بن أبي حميد مولى طلحة الطلحات أبو عبيدة الطويل مختلف في اسم أبيه البصري عن أنس والحسن وعكرمة وعنه شعبة ومالك والسفيانان والحمادان وخلق. قال القطان: مات حميد وهو قائم يصلي. قال شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثاً مات سنة ثنتين وأربعين ومائة كذا في الخلاصة: وقال في التقريب: ثقة مدلس وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الأمراء "عن ثابت" بن أسلم البناني بضم الموحدة وبنونين مولاهم البصري عن ابن عمر وعبد الله بن مغفل وأنس وخلق من التابعين وعنه شعبة والحمادان ومعمر قال الحافظ ثقة عابد.
قوله: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكر قاعداً" أستدل به من قال إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن في تلك الصلاة إماماً بل كان الإمام أبا بكر وقد تقدم الكلام في هذا "في ثوب متوشحاً به" أي متغشياً به. قال في النهاية إنه كان يتوشح أي يتغشى به.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه النسائي والبيهقي.(2/356)
وهكذا رَواه يحيى بنُ أيوبَ عن حميدٍ عن ثابت عن أنسٍ وقد روَاه غيرُ واحدٍ عن حميدٍ عن أنسٍ ولم يذكروا فيه عن ثابتٍ ومن ذكرَ فيه عن ثابتِ فهو أصحّ.(2/357)
265 ـ باب ما جاءَ في الإمامِ ينهضُ في الركْعَتَيْنِ ناسيا
362ـ حدثنا أحمد بنُ منيعٍ ، حدثنا هُشَيْمٌ أخبرنا ابنُ أبي ليلَى عن الشعبيّ قال: "صلى بنا المغيرةُ بن شعبةَ فنهضَ في الركعَتَيْنِ فسبّحَ بهِ القومُ وسبّحَ بهم فلما صلّى بقيّة صلاته سلم ثم سجدَ سجدتَيْ السهوِ وهوَ جالسٌ ثم حدثهمُ: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فعل بهمْ مثلَ الذي فعلَ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الإمامِ ينهضُ في الركْعَتَيْنِ ناسيا"
قوله: "أخبرنا ابن أبي ليلى" هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي. القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جداً قاله الحافظ في التقريب ، أخذ عن أخيه عيسى والشعبي وعطاء وغيرهم "عن الشعبي" بفتح الشين المعجمة هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة مشهور فقيه فاضل. قال مكحول: ما رأيت أفقه منه ، ولد لست سنين خلف من خلافه عمر وروى عنه وعن علي وابن مسعود ولم يسمع منهم ، وعن أبي هريرة وعائشة وجرير وابن عباس وخلق ، قال أدركت خمسمائة من الصحابة ، وعنه ابن سيرين والأعمش وشعبة وخلق.
قوله: "فنهض في الركعتين" يعني أنه قام إلى الركعة الثالثة ولم يتشهد بعد الركعتين "فسبح به القوم" أي قالوا سبحان الله ليرجع عن القيام ويجلس على الركعتين "وسبح بهم" أي قال سبحان الله مشيراً إليهم أن يقوموا. فالباء بمعنى اللام كما في قوله تعالى: "فكلا أخذنا بذنبه" "فلما قضى صلاته سلم ثم سجد سجدتي السهو" أستدل به من قال(2/357)
وفي الباب عن عُقبَة بنِ عامرٍ وسَعدٍ وعبدِ الله بنِ بُحَيْنَةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ المغيرةِ بنِ شعبةَ قد رُوِيَ من غيرِ وجهٍ عن المغيرةِ بنِ شعبة، قال وقد تكلم بعضُ أهلِ العلمِ في ابن أبي ليلى مِن قِبَلِ حفظِهِ قال أحمد: لا يُحتجّ بحديث ابن أبي ليلى. وقال محمدُ بنُ إسمعيل ابنُ أبي ليلى هوَ صدوقٌ ولا أروِي عنه لأنه لا يَدْرِى صحيحُ حديثهِ من سقيمهِ وكلّ منْ كانَ مثلَ هذا فلا أرْوِي عنهُ شيئاً.
ـــــــ
إن سجود السهو بعد التسليم وسيجيء الكلام فيه.
قوله: "وفي الباب عقبة بن عامر وسعد وعبد الله بن بحينة" أما حديث عقبة بن عامر فأخرجه الطبراني في الكبير عنه أنه قالم في صلاته وعليه جلوس ، فقال الناس سبحان الله سبحان الله فعرف الذي يريدون ، فلما أتم صلاته سجد سجدتين وهو جالس ثم قال: سمعتكم تقولون سبحان الله لكي أجلس وأن ليس تلك السنة إنما السنة التي صنعت. قال المنذري: رواه الطبراني في الكبير من رواية الزهري عن عقبة ولم يسمع منه ، وفيه عبد الله بن صالح وهو مختلف في الاحتجاج به. وأما حديث سعد وهو سعد بن أبي وقاص ففي مجمع الزوائد عن قيس بن أبي حازم قال: صلى بنا سعد بن أبي وقاص فنهض في الركعتين فسبحنا له فاستتم قائماً قال فمضى في قيامه حتى فرغ قال: أكنتم ترون أن أجلس؟ إنما صنعت كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. قال أبو عثمان عمرو بن محمد الناقد: لم نسمع أحداً يرفع هذا الحديث غير أبي معاوية ، رواه أبو يعلى والبزار ورجاله رجال الصحيح. وأما حديث عبد الله بن بحينة فأخرجه الجماعة.
قوله: "وقد تكلم بعض أهل العلم في ابن أبي ليلى من قبل حفظه ، قال أحمد: لا يحتج بحديث ابن أبي ليلى" قال الذهبي في الميزان: صدوق إمام سيء الحفظ وقد وثق قال أحمد بن عبد الله العجلي كان فقهياً صدوقاً صاحب سنة جائز الحديث. وقال أبو زرعة ليس بأقوى ما يكون. وقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال شعبة: ما رأيت أسوأ من حفظه. وقال يحيى القطان: سيء الحفظ جداً. وقال يحيى بن معين: ليس بذلك. وقال النسائي ليس بالقوي. وقال الدارقطني: رديء الحفظ كثير الوهم.(2/358)
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ من غيرِ وجهٍ عن المغيرةِ بنِ شعبةَ رواه سفيانُ عن جابرٍ عن المغيرةِ بن شُبَيلٍ عن قيسِ بنِ أبي حازمٍ عن المغيرةِ بنِ شعبةَ. وجابرُ الجعفيّ قد ضعّفهُ بعضُ أهل العلم ، تركه يحيى بنُ سعيد وعبدُ الرحمنِ بنُ مهدي وغيرهما. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ أن الرجلَ إذا قامَ في الركعَتَيْنِ مضى في صلاتِه وسجدَ سجدتين منهُمْ من رأى قبلَ التسليمِ ومنهمْ من رأى بعدَ التسليمِ ومنْ رأى قبلَ التسليمِ فحديثهُ أصحّ لما رَوَى الزهريّ ويحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريّ عن عبدِ الرحمن الأعرجِ عن عَبْدِ الله بنِ بُحينةَ.
ـــــــ
وقال أبو أحمد الحاكم: عامة أحاديثه مقلوبة انتهى ما في الميزان مختصراً.
قوله: "وروى سفيان عن جابر" هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي "عن المغيرة ابن شبيل" بضم الشين مصغراً وفي بعض النسخ شبل. قال الحافظ: المغيرة بن شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة ويقال: بالتصغير البجلي الأحمصي أبو الطفيل الكوفي ثقة من الرابعة "عن قيس بن أبي حازم عن المغيرة بن شعبة أخرجه أبو داود وابن ماجه من هذا الطريق" بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس فإن أستوى قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو وجابر الجعفي قد ضعفه بعض أهل العلم تركه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن المهدي وغيرهما جابر الجعفي هذا أحد علماء الشيعة يؤمن برجعة علي بن أبي طالب قال الثوري كان جابر ورعا في الحديث.
وقال شعبة صدوق. وإذا قال حدثنا وسمعت فهو من أوثق الناس. وقال وكيع إن جابراً ثقة ، هذه أقوال المعدلين فيه. وأما أقوال الجارحين فقال أيوب كذاب ، وقال إسماعيل بن أبي خالد إتهم بالكذب وتركه يحيى القطان وقال أبو حنيفة النعمان(2/359)
363ـ حدثنا عبدُ الله بنُ عبدِ الرحمنِ أخبرنا يزيدُ بنُ هارونَ عن المسعودي عن زيادِ بنِ علاقةَ قال: "صلى بنا المغيرةُ بنُ شعبةَ فلماَ صلى ركعتينِ قامَ ولمَ يجلسْ ، فسبّح به من خلفَهُ فأشارَ إليهم أن قوموا ، فلمَا فرغَ من صلاته سلمَ وسجدَ سجدتيْ السهوِ وسلم ، وقالَ هكذا صنعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ وقد رُوِي هذا الحديثُ من غيرِ وجهٍ عن المغيرةِ بنِ شعبةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم" .
ـــــــ
الكوفي ما رأيت أكذب من جابر الجعفي. وقال ليث بن أبي سليم كذا ، وقال النسائي وغيره متروك وتركه سفيان بن عيينة ، وقال الجونجاني كذاب.
وقال ابن عدي عامة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة وليس لجابر الجعفي في النسائي وأبي داود سوى حديث وأحد في سجود السهو.
وقال ابن حبان كان يقول إن علياً يرجع إلى الدنيا.
وقال زائدة: جابر الجعفي رافضي يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والحاصل أن جابراً ضعيف رافضي لا يحتج به ، كذا في غاية المقصود.
قلت: وقال في التلخيص: وهو ضعيف جداً انتهى.
وقال في التقريب ضعيف رافضي.
قوله: "منهم من رأى قبل التسليم ومنهم من رأى بعد التسليم إلخ" يجيء الكلام في هذه المسألة في أبواب السجود.
قوله: "عن المسعودي" هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود استشهد به البخاري وتكلم فيه غير واحد قاله المنذري في تلخيص السنن.(2/360)
ـــــــ
وقال الحافظ في التقريب في ترجمته صدوق أختلط قبل موته وضابطه أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط انتهى.(2/361)
266ـ باب ما جاءَ في مقدارِ القُعودِ في الركعَتَيْنِ الأولَيَيْن
364ـ حدثنا محمودُ بن غيلانَ حدثنا أبو داودَ الطيالسيُ حدثنا شعبةُ حدثنا سعدُ بنُ إبراهيمَ قال سمعتُ أبا عبيدةَ بن عَبْدِ الله بن مسعودٍ يحدثُ عن أبيهِ قال: "كانَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم "إذا جلسَ في الركعتَيْنِ الأوليين كأنه على الرّضْفِ".
قال شعبة ثم حرّكَ سعدٌ شَفتيْهِ بشيء فأقولُ حتى يقومَ فيقول حتى يقومَ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في مقدارِ القُعودِ في الركعَتَيْنِ الأولَيَيْن"
قوله أخبرنا سعيد أبي إبراهيم. ابن عبد الرحمن بن عوف ولي قضاء المدينة وكان ثقة فاضلاً عابداً من الخامسة "سمعت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود" قال المنذري: أبو عبيدة هذا اسمه عامر ويقال اسمه كنيته وقد أحتج البخاري ومسلم بحديثه في صحيحيهما غير أنه لم يسمع من أبيه كما قال الترمذي وغيره وقال عمرو بن مرة سألت أبا عبيدة هل تذكر عن عبد الله شيئاً قال ما أذكر شيئاً انتهى كلام المنذري.
قوله: "كأنه على الرضف " بسكون المعجمة وبفتح وبعدها فاء جمع رضفه وهي الحجارة المحماة على النار وهو كناية عن التخفيف في الجلوس وقال شعبة ثم حرك سعد أي ابن إبراهيم شيخ شعبة "شفتيه بشيء" أي تكلم سعد بشيء بالسر لم يسمعه شعبة ، إلا أنه رأى(2/361)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ. إلا أنّ أبا عبيدةَ لم يسمع من أبيه.
والعملُ على هذا عند أهلِ العلمِ يختارون أنْ لا يطيل الرجل القعودَ في الركعتين الأوليين ولا يزيدَ على التشهد شيئاً ، وقالوا إنْ زاد عَلَى التشهدِ فعليهِ سجدَتا السهوِ. هكذا رُوي عن الشعبي وغيره.
ـــــــ
تحريك شفتيه "فأقول حتى يقوم" أي قال شعبة فقلت لسعد الذي حركت به شفتيه هو متى يقوم "فيقول حتى يقوم" أي فقال سعد حتى يقوم ، والضمير في يقوم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقوله أقول ويقول مضارعان بمعنى الماضي إشعاراً لإحضار تلك الحالة لضبط الحديث ، وفي رواية النسائي عن ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين كأنه على الرضف ، قلت حتى يقوم قال ذلك يريد.
قوله: "هذا حديث حسن إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه" فالحديث منقطع. قال الحافظ في التلخيص: وروى ابن أبي شيبة من طريق تميم بن سلمة: كان أبو بكر إذ جلس في الركعتين كأنه على الرضف ، إسناده صحيح. وعن ابن عمر نحوه. وروى أحمد وابن خزيمة من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه التشهد فكان يقول: إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى التحيات إلى قوله عبده ورسوله ، قال: ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده وإن كان في آخرها دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو ثم يسلم انتهى ما في التلخيص.
قوله: "وقالوا إن زاد على التشهد فعليه سجدتا السهو، هكذا روي عن الشعبي وغيره" قال أبو الطيب المدني: وهو الذي اختاره الإمام أبو حنيفة رحمه الله. قلت ولي فيه تأمل.(2/362)
267ـ باب ما جاءَ في الإشارةِ في الصلاة
365ـ حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا الليثُ بنُ سعدٍ عن بُكَيْرٍ بنِ عَبْدِ الله بن الأشجّ عن نابل صاحبِ العَبَاء عن ابن عمر عن صُهَيْبٍ قال: "مررتُ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمتُ عليهِ فرَدّ إليّ إشارةً وقال: لا أعلم إلا أنه قال إشارةً بإصبعه".
قال وفي الباب عن بلال وأبي هريرة وأنسٍ وعائشةَ.
ـــــــ
"باب ما جاء في الإشارة في الصلاة"
أي لرد السلام أو لحاجة تعرض:
قوله: "عن نابل صاحب العباء" أوله نون وبعد الألف باء موحدة وليس له في الكتب سوى هذا الحديث عند الضعف وأبي داود والنسائي ، كذا في قوت المغتذي. وقال الحافظ في التقريب: نابل صاحب العباء والأكسية والشمال بكسر المعجمة مقبول من الثالثة "عن صهيب" هو صهيب بن سنان أبو يحيى الرومي أصله من النمر. يقال كان اسمه عبد الملك وصهيب لقب صحابي شهير مات بالمدينة سنة ثمان وثلاثين في خلافه علي وقيل قبل ذلك ، كذا في التقريب ، وكان منزله بأرض الموصل بين دجلة والفرات فأعارت الروم على تلك الناحية فسبته وهو غلام فنشأ بالروم فابتاعه منهم كلب ، ثم قدمت به مكة فاشتراه عبد الله بن جدعان فأعتقه معه إلى أن هلك. ويقال إنه لما كبر في الروم وعقل هرب منهم وقدم مكة فخالف عبد الله بن جدعان وأسلم قديماً بمكة وكان من المستضعفين المعذبين في الله بمكة ثم هاجر إلى المدينة وفيه نزل {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} كذا في أسماء الرجال لصاحب المشكاة.
قوله: "فرد إلى إشارة" أي بالإشارة "وقال" أي نابل "لا أعلم إلا أنه" أي ابن عمر.(2/363)
ـــــــ
"وفي الباب عن بلال وأبي هريرة وأنس وعائشة" أما حديث بلال فأخرجه المصنف في هذا الباب وأخرجه أبو داود أيضاً. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود وابن خزيمة وابن حبان بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير في الصلاة. وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه في صلاته صلى الله عليه وسلم شاكياً وفيه: فأشار إليهم أن أجلسوا الحديث. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الشوكاني في النيل. وأحاديث الباب تدل على جواز رد السلام بالإشارة في الصلاة وهو مذهب الجمهور وهو الحق، واختلف الحنفية فمنهم من كرهه ومنهم الطحاوي ومنهم من قال لا بأس به وأستدل المانعون بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التسبيح للرجال يعني الصلاة ، والتصفيق للنساء ، من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعدها يعني الصلاة رواه أبو داود. والجواب أن هذا الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج ، فإن في سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس ، ورواه عن يعقوب بن عتبة بالعنعنة. وقال أبو داود بعد روايته هذا الحديث: وهم. وقال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: سئل أحمد عن حديث من أشار في صلاته إشارة يفهم عنه فليعد الصلاة فقال لا يثبت إسناده ليس بشيء. وقال الشوكاني في النيل: قال ابن أبي داود: وفي إسناده أبو غطفان قال ابن أبي داود: هو رجل مجهول ، قال: وآخر الحديث زيادة والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير في الصلاة ، قال العراقي: قلت: وليس بمجهول فقد روى عنه جماعة ووثقه النسائي وابن حبان انتهى.
وأستدلوا أيضاً بأن الرد بالإشارة منسوخ لأنه كلام معنى وقد نسخ الكلام في الصلاة.
والجواب عنه أن كون الإشارة في معنى الكلام باطل قد أبطله الطحاوي في شرح الآثار رواية ودراية من شاء الإطلاع عليه فليرجع إليه. وأجابوا عن أحاديث الباب بأنها كان قبل نسخ الكلام في الصلاة وهو مردود ، إذ لو كانت قبل نسخ الكلام لرد باللفظ لا بالإشارة. قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: وقد يجاب عن هذه الأحاديث بأنه كان قبل نسخ الكلام في الصلاة يؤيده حديث ابن مسعود: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم(2/364)
366ـ حدثنا محمودُ بنُ غيلانَ حدثنا وكيعٌ حدثنا هشامُ بنُ سعدٍ عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ قال: "قلتُ لبلالٍ كيفَ كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يردّ عليهم حينَ كانوا يسلّمون عليهِ وهُو في الصلاةِ قال: كان يشيرُ بِيدهِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ وحديث صهيبٍ حسنٌ لا نعرفُهُ إلا من حديثِ الليثِ عن بُكَيرٍ.وقدرُوِيَ عن زيد بنِ أسلمَ عن ابنِ عمرَ قالَ: "قلت لبلالٍ كيف كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع حيث كانوا يسلّمون عليهِ في مسجدِ بني عمرِو بنِ عوفٍ؟ قال: كان يردّ إشارةً ". وكِلا الحدِيثَيْنِ عندِي صحيحٌ. لأن قصةَ حديثِ صهيبٍ غيرُ قصةِ حديثِ بلالٍ ، وإن كان ابنُ عمرَ روَى عنهما فاحتمل أنْ يكونَ سمعَ منهما جميعاً.
ـــــــ
يرد علينا ولم يقل فأشار إلينا وكذا حديث جابر أنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي. فلو كان الرد بالإشارة جائزاً الفعله. وأجيب عن هذا بأن أحاديث الإشارة لو لم تكن بعد نسخه لودعه باللفظ إذ الرد باللفظ واجب إلا لمانع كالصلاة ، فلما رد بالإشارة علم أنه ممنوع من الكلام. قالوا وأما حديث ابن مسعود وجابر فالمراد بنفي الرد فيه بالكلام بدليل لفظ ابن حبان في حديث ابن مسعود. وقد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة انتهى كملا الزيلعي. وأجابروا أيضاً عن أحاديث الباب بأنها محمولة على أن إشارته صلى الله عليه وسلم كان للنهي عن السلام لا لرده. والجواب عنه أن هذا الحمل يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه بل أحاديث الباب ترده وتبطله.
قوله: "قال كان يشير بيده" وفي حديث صهيب المتقدم بأصبعه ولا اختلاف بينهما فيجوز أن يكون أشار مرة بأصبعه ومرة بيده ، ويحتمل أن يكون المراد باليد الأصبع حملاً للمطلق على المقيد قاله الشوكاني.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود "وحديث صهيب حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي.(2/365)
268ـ باب ما جَاء أن التسبيحَ للرّجالِ والتصفيقَ للنّسَاء
367ـ حدثنا هنادٌ ، أبو معَاوِيةَ عن الأعمشِ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "التسبيحُ للرجالِ والتصفيقُ للنساءِ".
وفي الباب عن عليّ وسهلِ بنِ سعدٍ وجابرٍ وأبي سعيدٍ وابنِ عمرَ و قالَ: عَلِيّ كنتُ إذا استأذنتُ عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهوَ يصلي سَبّحَ.
ـــــــ
"باب ما جَاء أن التسبيحَ للرّجالِ والتصفيقَ للنّسَاء"
قوله: "التسبيح للرجال" أي قول سبحان الله إذا ناب شيء في الصلاة "والتصفيق للنساء" وقع في بعض الروايات التصفيح للنساء. قال الحافظ زين الدين العراقي المشهور: إن معناهما واحد قال عقبة: والتصفيح التصفيق ، وكذا قال أبو علي البغدادي والخطابي والجوهري. وقال ابن حزم لا خلاف في أن التصفيح التصفيق معنى واحد وهو الضرب بإحدى صفحتي الكف على الأخرى. قال العراقي: وما ادعاه من نفي الخلاف ليس بجيد بل فيه قولان آخران أنهما مختلفا المعنى أحدهما أن التصفيح الضرب بظاهر إحداهما على الأخرى والتصفيق الضرب بباطن إحداهما على باطن الأخرى. حكاه صاحب الأكمال وصاحب المفهم ، والقول الثاني أن التصفيح الضرب بأصبعين للانذار والتنبيه وبالقاف بالجميع للهو واللعب وروى أبو داود في سننه عن عيسى بن أيوب أن التصفيح الضرب بأصبعين من اليمين على باطن الكف اليسرى كذا في النيل. والحديث دليل على جواز التسبيح للرجال والتصفيق للنساء إذا ناب أمر من الأمور.
قوله: "وفي الباب عن علي وسهل بن سعد وجابر وأبي سعيد وابن عمر" أما حديث(2/366)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ ، والعملُ عليه عندَ أهلِ العلم ، وبه يقولُ أحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
علي فأخرجه أحمد. وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود بلفظ: من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنما التصفيق للنساء ، وحديثه طويل وهذا طرف منه. وأما حديث جابر فأخرجه ابن أبي شيبة وأماحديث أبي سعيد فأخرجه ابن عدي في الكامل. وأما حديث ابن عمر فأخرجه ابن ماجه.
قوله: "قال علي كنت إذا استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي سبح" أخرجه أحمد وابن ماجه والنسائي وصححه ابن السكن. وقال البيهقي هذا مختلف في إسناده ومتنه وقيل سبحه وقيل تنحنح ومداره على عبد الله بن نجي ، قال الحافظ واختلالف عليه فيه فقيل عن علي وقيل عن أبيه عن علي ، قال البخاري فيه نظر ، وضعفه غيره ووثقه النسائي وابن حبان، وقال يحيى بن معين: لم يسمعه عبد الله بن علي بينه وبين علي أبوه.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.(2/367)
269ـ باب ما جَاءَ في كراهيةِ التثاؤبِ في الصلاة
368ـ حدثنا عليّ بنُ حُجْرٍ ، أخبرنا إسْمَاعِيلُ بنُ جعفرٍ عن العلاءِ بنِ عبدِ الرحمَنِ عنْ أبيهِ عنْ أبي هريرةَ: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال التثَاؤبُ فِي الصّلاةِ من الشيطانِ ، فإذا تَثَاءَبَ أحدُكُمْ فليكظمْ ما استطاع".
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية التثاؤب في الصلاة"
التثاؤب تنفس ينفتح منه الفم من الإمتلاء وكدورة الحواس.
قوله: "التثاؤب في الصلاة من الشيطان" جعله من الشيطان كراهية له لأنه يكون مع نقل البدن وامتلائه واسترخائه وميله إلى الكسل والنوم فأضيف إليه لأنه الداعي إلى(2/367)
وفي البابِ عنْ أبي سعيد الخدريّ وجدّ عدِيّ بن ثابت.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. وقدْ كرهَ قومٌ مِنْ أهلِ العلم التثاؤبَ في الصلاةِ.
قال إبراهيمُ: إنّي لأردّ التثاؤبَ بالتّنَحنُحِ.
ـــــــ
إعطاء النفس شهوتها وأراد به التحذير من سببه وهو التوسع في المطعم والشبع كذا في المجمع "فإذا تثاؤب أحدكم" أي فتح فاه للكسل وكدروة الحواس "فيكظم" بفتح ياء المضارعة وكسر الظاء المعجمة أي ليحبسه وليمسكه بوضع اليد على الفم أو تطبيق السن وضم الشفتين "ما استطاع" أي ما أمكنه وفي رواية ابن ماجه إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه.
قوله: "وفي الباب عن أبي سعد الخدري وجد عدي بن ثابت" أما حديث أبي سعيد فأخرجه مسلم. وأما حديث جد عدي بن ثابت فأخرجه ابن ماجه.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري عنه بلفظ إذا تثاءبت أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع ولا يقل ها فإنما ذلكم من الشيطان يضحك منه.
قوله: "وقد كره قوم من أهل العلم التثاؤب في الصلاة" وهو الظاهر الموافق لأحاديث الباب.
قوله: قال إبراهيم هو النخعي إني لأردأي من الرد أي إني لأدفع.(2/368)
270 ـ باب ما جَاءَ أنّ صلاةَ القاعدِ على النّصْفِ من صلاةِ القائِم
369ـ حدثنا علي بن حجرٍ ، حدثنا عيسى بنُ يُونُسَ حدثنا حُسَيْنُ المعلم
ـــــــ
"باب ما جَاءَ أنّ صلاةَ القاعدِ على النّصْفِ من صلاةِ القائِم"
قوله: "عن عمران بن حصين" وفي رواية البخاري: حدثني عمران بن حصين وكان ميسوراً أي كانت به بواسير.(2/368)
عن عبدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ عنْ عمرانَ بن حصينٍ قال: "سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن صلاةِ الرجلِ وهو قاعدٌ فقالَ: من صلّى قائماً فهوَ أفضلُ ومن صَلّى قاعداً فلهُ نصفُ أجرِ القائم ، ومنْ صَلّى نائما فلهُ نصفُ أجرِ القاعدِ".
ـــــــ
قوله: "ومن صلاها نائماً" أي مضطجعاً قال الخطابي في المعالم: لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائماً كما رخصوا فيها قاعداً ، فإن صحت هذه اللفظة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو تكن من بعض الرواة مدرجة في الحديث قياساً على صلاة القاعدة أو اعتبار بصلاة المريض نائماً إذا لم يقدر على القعود دلت على جواز تطوع القادر على القعود مضطجعاً قال: ولا اعلم أني سمعت نائماً إلا في هذا الحديث وقال ابن بطال: وأمال قوله: من صلى نائماً فله نصف أجر القاعد فلا يصح معناه عند العلماء لأنهم مجمعون على أن النافلة لا يصليها القادر على القيام إيماء ، قال وإنما دخل الوهم على ناقل الحديث.
وتعقب ذلك العراقي فقال. أما نفي الخطابي وابن بطال للخلاف في صحة التطوع مضطجعاً للقادر فمردود ، فإن في مذهب الشافعية وجهين الأصح منهما الصحة ، وعند المالكية ثلاثاً أوجه حكاها القاضي عياض في الإكمال ، أحدها الجواز مطلقاً في الاضطرار واختيار للصحيح والمريض ، وقد روى الترمذي بإسناده عن الحسن البصري جوازه فكيف يدعى مع هذا الخلاف القديم والحديث الاتفاق انتهى.
وقد أختلف شراح الحديث في هذا هل هو محمول على التطوع أو على الفرائض في حق غير القادر فحمله الخطابي على الثاني وهو محمل ضعيف لأن المريض المفترض الذي أتى بما يجب عليه من القعود والإضطجاع يكتب له جميع الأجر لا نصفه. وحمله سفيان الثوري وابن الماجشون على التطوع ، وحكاه النووي عن الجمهور وقال: إنه يتعين حمل الحديث عليه كذا في النيل.
قلت: قال الخطابي: المراد بحديث عمر أن المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم ترغيباً له القيام مع جواز القعود انتهى.(2/369)
وفي البابِ عنْ عبدِ الله بنِ عمرٍو وأنسٍ والسائبِ.
قال أبو عيسى: حديثُ عمرانَ بن حصينٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن إبراهيمَ بن طهمانَ بهذا الإسنادِ ، إلا أنهُ يقولُ عن
ـــــــ
قال الحافظ في الفتح بعد ذكر قول الخطابي هذا وهو حمل متجه قال فمن صلى فرضاً قاعداً وكان يشق عليه القيام أجزأه وكان هو ومن صلى قائماً سواء ، فلو تحامل هذا المعذور وتكلف القيام ولو شق عليه كان أفضل لمزيد أجر تكلف القيام فلا يمتنع أن يكون أجره على ذلك نظير أجره على أصل الصلاة فيصح أن أجر القاعد على النصف من أجر القائم ، ومن صلى النفل قاعداً مع القدرة على القيام أجزأه وكان أجره على النصف من أجر القائم بغير إشكال. قال ولا يلزم من اقتصار العلماء في حمل الحديث المذكور على صلاة النافلة أن لا تراد الصورة التي ذكرها الخطابي وقد ورد في الحديث ما يشهد لها ، فعند أحمد عن أنس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي محمة فحمى الناس فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد والناس يصلون من قعود فقال صلاة القاعدة مثل صلاة القائم ، رجاله ثقات. وعند النسائي متابع له من وجه آخر وهو وارد في المعذور فيحمل عن من تكلف القيام مع مشقته عليه كما بحثه الخطابي انتهى كلام الحافظ مختصراً.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمر وأنس ويزيد بن السائب" أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي بلفظ: صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة ولكن لست كأحد منكم. وأما حديث أنس فأخرجه أبو يعلى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على الأرض في المكتوبة قاعداً وقعد في التسبيح في الأرض فأومى إيماء قال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه حفص بن عمر قاضي حلب وهو ضعيف انتهى. وأما حديث يزيد بن السائب فلم أقف. وفي الباب أحاديث أخرى مذكورة في مجمع الزوائد والنيل.
قوله: "حديث عمران بن حصين حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري "وقد روى هذا الحديث عن إبراهيم بن طهمان" رواه البخاري.
قوله: "بهذا الإسناد" أي عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن(2/370)
عمران بنِ حصينٍ قالَ: "سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن صلاةِ المريضِ فقَالَ: صلّ قائماً فإنْ لَم تستطعْ فقاعِداً ، فإنْ لم تستطعْ فعلى جَنْبٍ".
370- حدثنا بذلك هنادٌ حدثنا وكيعٌ عن إبراهيمَ بنِ طهمانَ عن حسينِ المعلّم بهذا الحديث.
قال أبو عيسى: و لا نعلمُ أحداً روى عن حسينِ المعلّمِ نحو روايةِ إبراهيمَ بنِ طهمانَ ، وقد رَوَى أبو أسامةَ وغيرُ واحدٍ عنْ حسينِ المعلّمِ نحوَ رِوَايةِ عيسى بنِ يونسَ ومعنَى هذا الحديثِ عندَ بعضِ أهلِ العلمِ في
ـــــــ
حصين "إلا أنه يقول" أي إبراهيم بن طهمان "فإن لم تستطع فقاعداً" قال الحافظ: لم يبين كيفية القعود فيؤخذ من إطلاقه جوازه على أي صفة شاء المصلي وهو قضية كلام الشافعي في البويطي. وقد اختلف في الأفضل فعن الأئمة الثلاثة يصلي متربعاً ، وقيل يجلس مفترشاً وهو موافق لقول الشافعي في مختصر المزني، وصححه الرافعي ومن تبعه وقيل متوركاً وفي كل منها أحاديث انتهى "فعلى جنب" في حديث علي عند الدارقطني على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه وهو حجة للجمهور في الإنتقال من القعود إلى الصلاة على الجنب، وعن الحنفية وبعض الشافعية يستلقي على ظهره ويجعل على رجليه إلى القبلة، ووقع في حديث علي أن حالة الاستلقاء تكون عند العجز عن حالة الاضطجاع، واستدل به من قال لا ينتقل المريض بعد عجزه. عن الاستلقاء إلى حالة أخرى كالإشارة بالرأس ثم الإيماء بالطرف ثم إجراء القرآن والذكر على اللسان ثم القلب لكون جميع ذلك لم يذكر في الحديث وهو قول الحنفية والمالكية وبعض الشافعية عن إبراهيم بن طهمان الخراساني أبي سعيد سكن نيسابور ثم مكة ثقة يغرب وتكلم فيه الإرجاء ويقال رجع عنه من السابعة "لا نعلم أحداً روى عن حسين المعلم نحو رواية إبراهيم بن طهمان، وقد روى أبو أسامة وغير واحد عن حسين المعلم نحو رواية عيسى بن يونس" قال الحافظ في الفتح بعد ذكر كلام الترمذي هذا ما لفظه: ولا يؤخذ من ذلك تضعيف رواية إبراهيم كما فهمه ابن العربي تبعاً لابن بطال، ورد على الترمذي(2/371)
صلاةِ التطوعِ.
حدثنا محمدُ بنُ بشارٍ أخبرنا ابن أبِي عدِيَ عن أشعثَ بنِ عبدِ الملك عن الحسنِ قال: "إن شاءَ الرجلُ صلى صلاةَ التطوعِ قائماً وجالساً ومُضطجِعاً".
واختلفَ أهلُ العلمِ في صلاةِ المريضِ إذا لم يستطعْ أن يصلّيَ جالساً فقال بعضُ أهلِ العلمِ: يصلّي على جنبهِ الأيمنِ ، وقال بعضهم يصَلي مستلقياً على قفاهُ ورجلاهُ إلى القبلةِ ، وقال سفيانُ الثوريّ في هذا الحديث: "منْ صلّى جالساً فلهُ نصفُ أجرِ القائمِ" قال: هذا للصحيح ولمنْ ليسَ لَهُ عذرٌ "يعني في النوافل" فأما منْ كانَ لهُ عذرٌ منْ مرضٍ أو غيرهِ فصلى جالساً فلهُ مثلُ أجرِ القائمِ ، وقد رُوِيَ في بعضِ هذا الحديثِ مثلُ قول سفيانَ الثوريّ.
ـــــــ
بأن رواية إبراهيم توافق الأصول ورواية غيره تخالفها فتكون رواية إبراهيم أرجح، لأن ذلك راجع إلى الترجح من حيث المعنى لا من حيث الإسناد ، وإلا فاتفاق الأكثر على شيء يقتضي أن رواية من خالفهم تكون شاذة، والحق أن الروايتين صحيحتان كما صنع البخاري وكل منهما مشتملة على حكم غير الحكم الذي اشتملت عليه الأخرى انتهى قوله: "ومعنى هذا الحديث" أي المذكور أولاً من طريق عيسى بن يونس عن الحسين المعلم "عند بعض أهل العلم في صلاة التطوع" وحكاه النووي عن الجمهور كما تقدم "عن الحسن" هو الحسن البصري "قال إن شاء الرجل صلى صلاة التطوع قائماً وجالساً ومضطجعاً" قال الطيبي: وهل يجوز أن يصلي التطوع قائماً مع القدرة على القيام أو القعود فذهب بعض إلى أنه لا يجوز وذهب قوم إلى جوازه فأجره نصف القاعد ، وهو قول الحسن وهو الأصح والأولى لثبوته في السنة انتهى. قلت: الظاهر الراجح عندي هو ما قال الطيبي. وقال القاري: ومذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز ، فقيل هذا الحديث في حق المفترض المريض الذي أمكنه القيام أو القعود مع شدة وزيادة في المرض انتهى. قلت: هذا عندي خلاف الظاهر والله تعالى أعلم.
قوله: "فله مثل أجر القائم ، وقد روى في بعض الحديث مثل قول سفيان الثوري"(2/372)
ـــــــ
وهو ما أخرجه البخاري في الجهاد من حديث أبي موسى رفعه: إذا مرض العبد أو سافر كتب له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم. قال الحافظ في الفتح وله شواهد كثيرة.(2/373)
باب: فى من يتطوع جالساً
...
271ـ باب ما جاء في الرجل يتطوعُ جالسا
371ـ حدثنا الأنصاري، حدثنا معن حدثنا مالكُ بنُ أنس عن ابنِ شهابٍ عن السائبِ بنِ يزيدَ عن المطلبِ بنِ أبي وَداعةَ السّهميّ عن حَفْصَةَ زوجِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها قالَتْ: "ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صلّى في سُبْحتِهِ قاعداً حتى كان قبل وفاتِه صلى الله
ـــــــ
"باب ما جاء في الرجل يتطوعُ جالسا"
قوله: "عن المطلب بن أبي وداعة السهمي" صحابي مسلم يوم الفتح ونزل المدينة ومات بها وأمه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم كذا، في التقريب.
قوله: "صلى في سبحته" السين المهملة وسكون الباء الموحدة أي نافلته. قال في مجمع البحار: ويقال للذكر وصلاة النافلة سبحة أيضاً ، وهي من التسبيح كالسخرة من التسخير وخصت النافلة بها وإن شاركتها الفريضة في معناها لأن التسبيحات في الفرائض نوافل فالنافلة شاركتها في عدم الوجوب انتهى.
قوله: "حتى تكون أطول من أطول منها" يعني أن مدة قراءته لها أطول من قراءة سورة أخرى أطول منها إذا قرئت غير مرتلة وإلا فلا يمكن أن تكون السورة نفسها أطول من أطول منها من غير تقيد بالترتيل والإسراع والحديث يدل على جواز صلاة التطوع من قعود وهو مجمع عليه وفيه استحباب ترتيل القراءة.(2/373)
عليه وسلم بعامٍ ، فإنّه كَانَ يصلّي في سُبْحَتِهِ قاعداً ويقرأ بالسورةِ ويرتّلها حتّى تكونَ أطولَ من أطولَ منها".
وفي الباب عنْ أمّ سلمةَ وأنسِ بنِ مالكِ.
قال أبو عيسى: حديثُ حفصةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقدْ رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصلّي منَ الليلِ جالساً فإذا بقِيَ من قراءتِه قدرُ ثلاثينَ أو أربعينَ آيةً قامَ فقرأ ثم ركعَ ثم صنع في الركعةِ الثانيةَ مثلَ ذلكَ".
ورُوي عنه "أنه كانَ يصلّي قاعداً فإذا قرأ "وهو قائمٌ ركعَ وَسجدَ وهوَ قائمٌ ، وإذا قرأ" وهوَ قاعدٌ ركَعَ وسَجدَ وهو قاعدٌ".
قال أحمدُ وإسحاقُ: والعملُ على كِلاَ الحديثَيْنِ كأنهمَا رأيا كِلاَ الحديثيْنِ صحيحاً معمولاً بهما.
372ـ حدثنا الأنصاريّ حدثنا معن، حدثنا مالكٌ عن أبي النّضْرِ عن أبي سَلَمَةَ عن عَائِشَةَ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يصلي جَالساً فيقرأُ وهو جالسٌ ، فإذا بَقِيَ من قراءتِهِ قدرُ ما يكونُ ثلاثينَ أو أربعينَ آيةً قامَ فقرأ وهُو قائمٌ ثم ركعَ وسجَدَ ثم صنَعَ في الركعةِ الثانيةِ مثلَ ذلك".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن أم سلمة وأنس بن مالك" أما حديث أم سلمة فأخرجه عبد الرزاق وأما حديث أنس فلعله أشار إلى حديثه الذي أشار إليه في الباب المتقدم.
قوله: "حديث حفصة حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي.
قوله: "وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي من الليل جالساً فإذا(2/374)
373ـ حدثنا أحمدُ بنُ منيعٍ حدثنا هُشَيْمٌ أخبرنا خالدٌ وهُو الحذّاءُ عنْ عَبْدِ الله بنِ شقِيقٍ عنْ عائشةَ قال: سألتُها عن صلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، عن تطوعِه قالت: "كانَ يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلا قاعداً فإذا قرأ وهو قائمٌ ركعَ وسَجَد وهو قائمٌ وإذا قرأ وهُو جَالِسٌ ركعَ وسجدَ وهو جالسٌ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
بقي من قراءته ألخ" أخرجه المؤلف في هذا الباب عن أبي سلمة عن عائشة.
قوله: "وروي عنه أنه كان يصلي قاعداً فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم الخ" أخرجه المؤلف في هذا الباب عن عبد الله بن شقيق عن عائشة: قال أبو الطيب المدني لا شك أن الركوع والسجود ينافيان القيام ، فالمراد إذا أراد أن يركع ويسجد وهو نائم فيخر من قيامه إلى ركوعه ، ومن قومته التي هي القيام أيضاً إلى سجوده.
قوله: "قال أحمد وإسحاق" : والعمل على كلا الحديثين الخ قال العراقي يحمل على أنه كان يفعل مرة كذا ومرة كذا.(2/375)
272ـ باب ما جَاءَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ إني لأسْمَعُ بُكاءَ الصَبيّ في الصلاةِ فأُخَفّف
374ـ حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا مروانُ بنُ معاوِيةَ الفزاريّ عن حميدٍ
ـــــــ
"باب ما جَاءَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ إني لأسْمَعُ بُكاءَ الصَبيّ في الصلاةِ فأُخَفّف"
قوله: "فأخفف" بين مسلم في رواية ثابت عن أنس محل التخفيف ولفظه:(2/375)
عن أنسِ بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والله إني لأسمعُ بُكاءَ الصبيّ وأنا في الصلاةِ فأخففُ مخافَة أنْ تُفْتَتَنَ أمهُ".
وفي الباب عنْ أبي قتادَة وأبي سعيدٍ وأبي هريرةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أنس حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
فيقرأ السورة القصيرة ، وبين ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن سابط مقدارها ولفظه: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بسورة طويلة فسمع بكاء صبي فقرأ بالثانية ثلاث آيات: وهذا مرسل كذا في فتح الباري.
قوله "مخافة أن تفتن أمه" من الافتتان ، وفي رواية البخاري أن تفتن من الفتنة: قال الحافظ: أي تلتهي عن صلاتها لاشتغال قلبها ببكائه: زاد عبد الرزاق من مرسل عطاء: أو تتركه فيضيع انتهى وقوله: مخافة بفتح الميم أي خوفاً من افتتان أمه: قال ابن بطال احتج به من قال يجوز للإمام إطالة الركوع إذا سمع بحس داخل ليدركه: وتعقبه ابن المنير بأن التخفيف نقيض التطويل فكيف يقاس عليه ، قال ثم أن فيه مغايرة للمطلوب لأن فيه إدخال مشقة على جماعة لأجل واحد انتهى: ويمكن أن يقال محل ذلك ما لم يشق على الجماعة وبذلك قيده أحمد وإسحاق وأبو ثور: وما ذكره ابن بطال سبق إليه الخطابي ووجهه بأنه إذا جاز التخفيف لحاجة من حاجات الدنيا كان التطويل لحاجة من حاجات الدين أجوز ، وتعقبه القرطبي بأن في التطويل ههنا زيادة عمل في الصلاة غير مطلوب بخلاف التخفيف فإنه مطلوب انتهى: وفي هذه المسألة خلاف عند الشافعية وتفصيل. وأطلق النووي عن المذهب استحباب ذلك ، وفي التجريد للحاملي نقل كراهيته عن الجديد ، وبه قال الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف وقال محمد أخشى أن يكون شركاً ، كذا في فتح الباري.
قوله: "وفي الباب عن أبي قتادة وأبي سعيد وأبي هريرة" أما حديث أبي قتادة فأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي: وأما حديث أبي سعيد فلينظر من أخرجه. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري ومسلم.
قوله: "حديث أنس حديث صحيح" أخرجه الجماعة إلا أبا داود والنسائي.(2/376)
باب: ما جاء لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمار
...
273 ـ باب ما جاءَ لاَ تُقْبَلُ صلاةُ المرأة إلاّ بخمار
275 ـ حدثنا هنادٌ ، حدثنا قَبِيصَةُ عن حمادِ بنِ سَلَمَةَ عن قتادةَ عن ابنِ سيرينَ عن صفيةَ ابْنةِ الحارِث عن عائشةَ قالتْ: "قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا تُقْبَلُ صلاةُ الحائضِ إلا بخمارٍ".
وفي الباب عنْ عبدِ الله بنِ عمرٍو.
وقوله الحائض يعني المرأة البالغ إذا حاضت.
قال أبو عيسى: حديثُ عائشةَ حديثٌ حسَنٌ. والعملُ عليه عندَ أهلِ
ـــــــ
"باب ما جاءَ لاَ تُقْبَلُ صلاةُ المرأة إلاّ بخمار"
قوله: "لا تقبل صلاة الحائض" المراد من الحائض من بلغ سن المحيض لا من هي ملابسة المحيض فإنها ممنوعة من الصلاة "إلا بخمار" بكسر الخاء هو ما يغطى به رأس المرأة قال في القاموس: الخمار بالكسر النصيف كالخمر: كطمر وكل ما ستر شيئاً فهو خمارة جمعه أخمرة وخمر وخمر ، وقال نصيف كأسير الخمار والعمامة وكل ما غطى الرأس انتهى والحديث استدل به على وجوب ستر المرأة رأسها حال الصلاة. قال محمد بن إسماعيل الأمير في سبل السلام: ونفي القبول المراد به هنا نفي الصحة والإجزاء ، وقد يطلق القبول ويراد به كون العبادة بحيث يترتب عليها الثواب ، فإذا نفى كان نفياً لما يترتب عليها من الثواب ، لا نفياً للصحة كما ورد أن الله لا يقبل صلاة الاَبق ولا من في جوفه خمر ، كذا قيل قال وقد بينا في رسالة الإسبال وحواشي شرح العمدة أن نفي القبول يلازم نفي الصحة.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" لم أقف عليه وفي الباب أيضاً عن أبي قتادة أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط بلفظ: لا يقبل الله من امرأه صلاة حتى توارى زينتها. ولا من جارية بلغت الحيض حتى تختمر. ذكره الزيلعي في نصب الراية بإسناده.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن" وأخرجه أبو داود وابن ماجه.(2/377)
العلمِ: أنّ المرأةَ إذا أدرَكتْ فصلّتْ وشيءٌ من شعرهَا مكشوفٌ لا تجوزُ صلاتُها. وهو قول الشافعيّ قال: لا تجوزُ صلاةُ المرأةِ وشيءٌ من جسدِهَا مكشوفٌ قالَ الشافعيّ: وقد قيلَ إنْ كانَ ظهرُ قدمَيْها مكشوفاً فصلاَتُها جائزةٌ.
ـــــــ
قوله: "إذا أدركت" أي بلغت وصارت مكلفة.
قول "قال الشافعي وقد قيل إن كان ظهر قدميها مكشوفاً فصلاتها جائزة" لكن حديث أم سلمة يدل على أنه لا بد للمرأة من تغطية ظهور قدميها ولفظه: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار بغير إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها. أخرجه أبو داود وصححه الأئمة. وقفه كذا في بلوغ المرام. قال في سبل السلام: وله حكم الرفع وإن كان موقوفاً وإذا الأقرب أنه لا مسرح للاجتهاد في ذلك وقد أخرجه مالك وأبو داود موقوفاً ولفظه عن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه: أنها سألت أم سلمة ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب قالت تصلي في الخمار والدرع السابغ إذا غيب ظهور قدميها انتهى ما في السبل.
واعلم أن حديث الباب قد استدل به على وجوب ستر المرأة رأسها حال الصلاة. واستدل بن من سوى بين الحرة والأمة في العورة لعموم ذكر الحائض ولم يفرق بين الحرة والأمة وهو قول أهل الظاهر ، وفرق الشافعي وأبو حنيفة والجمهور بين عورة الحرة والأمة فجعلوا عورة الأمة ما بين السرة والركبة كالرجل ، والحجة لهم ما رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في حديث: وإذا زوج أحدكم خادمه أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة وما رواه أبو داود أيضاً بلفظ: إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظر إلى عورتها. قالوا: والمراد بالعورة في هذا الحديث ما صرح ببيانه في الحديث. وقال مالك: الأمة عورتها كالحرة حاشا شعرها فليس بعورة ، وكأنه رأى العمل في الحجاز على كشف الإماء لرؤوسهن ، هكذا حكاه عنه ابن عبد البر في الاستذكار: قال العراقي في شرح الترمذي: والمشهور عنه أن عورة الأمة كالرجل. وقد اختلف في مقدار عورة الحرة فقيل بدنها ما عدا الوجه والكفين ، وإلى ذلك ذهب الشافعي في أحد أقواله وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه ومالك ، وقيل والقدمين وموضعا الخلخال ، وإلى ذلك ذهب القاسم في قول وأبو حنيفة في رواية عنه والثوري وأبو العباس ، وقيل بل جميعها إلا الوجه ، وإليه ذهب أحمد بن(2/378)
ـــــــ
حنبل وداود ، وقيل جميعها بدون استثناء ، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي ، وروى عن أحمد. وسبب اختلاف هذه الأقوال ما وقع من المفسرين من الاختلاف في تفسير قوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: وقد استدل بحديث الباب على أن يستر العورة شرط في صحة الصلاة لأن قوله لا يقبل صالح للاستدلال به على الشرطية كما قيل وقد اختلف في ذلك فقال الحافظ في الفتح ذهب الجمهور إلى أن ستر العورة من شروط الصلاة انتهى.(2/379)
274ـ باب مَا جاءَ في كَرَاهِيةِ السَدْلِ في الصّلاة
376ـ حدثنا هنادٌ ، أخبرنا قَبِيصَةُ عن حمادِ بن سلمةَ عن عِسْلِ بنِ سُفيانَ عن عطاء عنْ أبي هُرَيْرةَ قالَ: "نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن السدلِ في الصلاةِ ". وفي البابِ عنْ أبي جُحَيفَة.
ـــــــ
"باب مَا جاءَ في كَرَاهِيةِ السَدْلِ في الصّلاة"
قوله: "أخبرنا قبيصة" بن عقبة بن محمد بن سفيان السوائي بضم المهملة وتخفيف الواو والمد أبو عامر الكوفي صدوق ربما خالف "عن عسل بن سفيان" قال في التقريب بكسر أوله وسكون المهملة وقيل بفتحتين التميمي أبو قرة البصري ضعيف انتهى. قلت: ذكره ابن حبان في الثقات كما في التهذيب "عن عطاء" هو ابن أبي رباح.
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السدل في الصلاة" قال في النيل: قال قال أبو عبيد في غريبه: السدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه فإن ضمه فليس بسدل. وقال صاحب النهاية هو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك. قال وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب. قال: وقيل هو أن يضع وسط الإزار على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه. وقال الجوهري: سدل ثوبه يسدله بالضم سدلاً أي أرخاه. وقال(2/379)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ لا نعرفهُ منْ حديثِ عطاء عنْ
ـــــــ
الخطابي: السدل إرسال الثوب حتى يصيب الأرض انتهى فعلى هذا السدل والإسبال واحد. قال العراقي: ويحتمل أن يراد بالسدل سدل الشعر ومنه حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سدل ناصيته. وفي حديث عائشة أنها سدلت قناعها وهي محرمة أي أسبلته انتهى. قال الشوكاني ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني إن كان السدل مشتركاً بينها ، وحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوي انتهى كلامه.
قوله: "وفي الباب عن أبي جحيفة" أخرجه الطبراني وسيأتي لفظه:
قوله: "حديث أبي هريرة لا نعرفه إلخ" قال الحافظ في الدراية بعد ذكر حديث أبي هريرة هذا أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم والطبراني في الأوسط ، وزاد أبو داود وابن حبان: وأن يغطي الرجل فاه انتهى. وقال الشوكاني في النيل: وقد اختلف الأئمة في الاحتجاج بحديث الباب يعني حديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب فمنهم من لم يحتج به لتفرد عسل بن سفيان وقد ضعفه أحمد. قال الخلال سئل أحمد عن حديث السدل في الصلاة من حديث أبي هريرة فقال: ليس هو بصحيح الإسناد وقال عسل بن سفيان غير محكم الحديث وقد ضعفه الجمهور: يحيى بن معين وأبو حاتم والبخاري وآخرون وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف على قلة روايته انتهى. قال الشوكاني: وعسل بن سفيان لم ينفرد به فقد شاركه في الرواية عن عطاء الحسن بن ذكوان وترك يحيى له لم يكن إلا لقوله إنه كان قدرياً ، وقد قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به انتهى كلام الشوكاني.
قلت: في قوله فقد شاركه في الرواية عن عطاء عن الحسن بن ذكوان نظر ، فروى أبو داود حديث الباب في سننه بإسناده عن ابن المبارك عن الحسن بن ذكوان عن سليمان الأحول عن عطاء عن أبي هريرة ، فالمشارك لعسل بن سفيان في الرواية عن عطاء هو سليمان الأحول لا الحسن بن ذكوان.
واعلم أن أبا داود أخرج حديث الباب من الطريق المذكور وأشار إلى طريق عسل بن سفيان ثم ذكر بإسناده عن ابن جريج قال: أكثر ما رأيت عطاء يصلي سادلاً قال أبو داود: وهذا يضعف ذلك الحديث انتهى. فحديث الباب عند أبي داود ضعيف.(2/380)
أبي هريرةَ مرفوعاً إلاّ منْ حديثِ عِسْل بنِ سُفْيَانَ ، وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في السّدْلِ في الصلاةِ. فكرهَ بعضُهم السّدلَ فِي الصلاةِ وقالوا هكذا تصنعُ اليهودُ وقال بعضهمْ: إنما كُرِهَ السدلُ في الصلاة إذا لم يكنْ عليه إلا ثوبٌ واحدٌ ، فأما إذا سدلَ عَلَى القميصِ فلاَ بأسَ وهوَ قولُ أحمدَ. وكرهَ ابنُ المبارَكِ السدْلَ في الصلاةِ
ـــــــ
قلت: حديث الباب عندي لا ينحط عن درجة الحسن فرجال إسناده كلهم ثقات إلا عسل بن سفيان وهو لم يتفرد به بل تابعه سليمان الأحول عند أبي داود كما عرفت وتابعه أيضاً عامر الأحول. قال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر متابعة سليمان الأحول ما لفظه: وتابعه أيضاً عامر الأحول كما أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط عن أبي بحر البكراوي واسمه عبد الرحمن بن عثمان حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن عامر الأحول عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعاً فذكره ورجاله كلهم ثقات إلا البكراوي فإنه ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما وكأن يحيى بن سعيد حسن الرأي فيه وروى عنه. قال ابن عدي: وهو ممكن يكتب حديثه انتهى كلام الزيلعي قال الحافظ في الدراية: وفي الباب عن أبي جحيفة مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل سدل ثوبه في الصلاة فضمه وفي رواية فقطعه وفي رواية فعطفه. رواه الطبراني انتهى. وهو حديث ضعيف كما صرح به الشوكاني في النيل.
قوله فكره بعضهم السدل في الصلاة وقالوا هكذا تصنع اليهود وأخرج الخلال في العلل وأبي عبيد في الغريب من رواية عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه عن علي عليه السلام أنه خرج فرأى قوماً يصلون قد سدلوا ثبابهم فقال كأنهم اليهود خرجوا من قهرههم قال أبو عبيد هو موضع مدارسهم الذي يجتمعون فيه. قال صاحب الإمام: والقهر بضم القاف وسكون الهاء موضع مدارسهم الذي يجتمعون ، وذكره في القاموس والنهاية في الفاء لا في القاف كذا في النيل "قال بعضهم إنما كره السدل في الصلاة إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد فأما إذا سدل على القميص فلا بأس" لم أقف على دليل هذا التقييد والحديث مطلق "وكره ابن المبارك السدل في الصلاة" أي مطلقاً. قال الشوكاني في النيل: والحديث يدل على تحريم السدل في الصلاة لأنه معنى النهي الحقيقي ، وكرهه ابن عمر(2/381)
ـــــــ
ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري والشافعي في الصلاة وغيرها. وقال أحمد: يكره في الصلاة ، وقال جابر بن عبد الله وعطاء والحسن وابن سيرين ومكحول والزهري: لا بأس به. وروى ذلك عن مالك ، وأنت خبير بأنه لا موجب للعدول عن التحريم إن صح الحديث لعدم وجدان صارف له عن ذلك انتهى.
قلت: الأمر كان كما قال الشوكاني والله تعالى أعلم.(2/382)
275 ـ باب ما جَاءَ في كرَاهِيةِ مَسْحِ الحَصَى فِي الصّلاةِ
377 ـ حدثنا سَعِيدُ بنُ عبدِ الرحمنِ المخزُوميّ حدثنا سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنْ الزهريّ عن أبي الأحوصِ عن أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا قامَ أحدُكُمْ إلى الصلاةِ فلاَ يَمْسَح الحصَى فإنّ الرحمةَ تواجههُ".
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في كرَاهِيةِ مَسْحِ الحَصَى فِي الصّلاةِ"
قوله: "عن أبي الأحوص" قال النسائي لم نقف على اسمه ولا نعرفه وقد انفرد الزهري بالرواية عنه وليس له عند المصنف وعند ابن ماجه إلا هذا الحديث كذا في قوت المغتذي وقال المنذري في تلخيص السنن: أبو الأحوص هذا لا يعرف اسمه وقد تكلم فيه يحيى بن معين وغيره انتهى. وقال الحافظ في التقريب: أبو الأحوص مولى بني ليث وغفار مقبول لم يرو عنه غير الزهري.
قوله: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة" أي إذا دخل فيها "فلا يمسح الحصى" هي الحجارة الصغيرة ، والتقييد بالحصى خرج مخرج الغالب لكونه كان الغالب على فرش مساجدهم ، ولا فرق بينه وبين التراب والرمل على قول الجمهور ، ويدل على ذلك قوله في حديث معيقيب عند البخاري وغيره في الرجل يسوي التراب والمراد بقوله: إذا قام أحدكم إلى الصلاة ، الدخول فيها فلا يكون منهياً عن مسح الحصى إلا بعد دخوله ويحتمل أن المراد قبل الدخول حتى لا يشتغل عند إرادة الصلاة إلا بالدخول فيها قال العراقي: والأول أظهر(2/382)
378ـ حدثنا الحسينُ بنُ حُريثٍ حدثنا الوليدُ بنُ مُسلمٍ عن الأوزاعيّ عن يَحيى بن أبي كثيرٍ قال: حدثني أبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرحمَنِ عن مُعَيْقِيبٍ قال: "سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن مسحِ الحصَى في الصلاةِ فقال إن كنتَ لا بُدّ فاعلاً فمرةً واحدةً ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ صحيحٌ. وفي الباب عن عليّ بنِ أبي طالبٍ وحذيفة وجابرِ بنِ عبد الله ومُعَيْقِيبٍ.
ـــــــ
ويرجحه حديث معيقيب فإنه سأل عن مسح الحصى في الصلاة دون مسحه عند القيام كما في رواية الترمذي قال الشوكاني. وقال الخطابي في المعالم: يريد مسح الحصى تسويته ليسجد عليه، وكان كثير من العلماء يكرهون ذلك وكان مالك بن أنس لا يرى به بأساً ويسوي في صلاته غير مرة انتهى "فإن الرحمة تواجهه" أي تنزل عليه وتقبل إليه. هذا التعليل يدل على أن الحكمة في النهي عن المسح أن لا يشغل خاطره بشيء يلهيه عن الرحمة المواجهة له فيفوته حظه منها: وقد روى أن حكمة ذلك أن لا يغطي شيئاً من الحصى بمسحه فيفوته السجود عليه. رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي صالح قال: إذا سجدت فلا تمسح الحصى فإن كل حصاة تحب أن يسجد عليها. قال ابن العربي: معناه الإقبال على الرحمة وترك الاشتغال عنها بالحصباء وسواه إلا أن يكون لحاجة كتعديل موضح السجود أو إزالة مضر ، وقد كان مالك يفعله وغيره يكرهه انتهى.
قوله: "حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن" بن عوف الزهري المدني، قيل اسمه عبد الله وقيل إسماعيل ثقة مكثر من أوساط التابعين "عن معيقيب" بقاف وآخره موحدة مصغراً ابن فاطمة الدوسي حليف بني بعد شمس من السابقين والأوليين هاجر الهجرتين وشهد المشاهد وولى بيت المال لعمر ومات في خلافة عثمان أو علي.
قوله: "فقال إن كنت لا بد فاعلاً فمرة واحدة" بالنصب أي فافعل مرة واحدة وفيه الإذن بمسح الحصى مرة واحدة عند الحاجة.
قوله: "هذا حديث صحيح" أخرجه الجماعة.(2/383)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي ذر حديثٌ حسَنٌ وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهُ كرهَ المسحَ في الصّلاةِ وقالَ: " إن كنتَ لا بدّ فاعِلاً فمرةً واحدةً " كأنهُ رُوِيَ عنه رخصة في المرةِ الواحدةِ. والعملُ عَلَى هذَا عندَ أهلِ العلمِ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن علي بن أبي طالب وحذيفة وجابر بن عبد الله ومعيقيب" أما حديث علي بن أبي طالب فأخرجه أحمد وابن أبي شيبة وأما حديث حذيفة فأخرجه أيضاً أحمد وابن أبي شيبة وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه أيضاً أحمد وابن أبي شيبة وأما حديث معيقيب فقد تقدم تخرجه ، ولعل الترمذي ، أشار إلى حديث آخر له في هذا الباب وفي الباب أحاديث أخرى أشار إليها الشوكاني في النيل.
قوله: "حديث أبي ذر حديث حسن" وأخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم" وحكى النووي اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصى وغيره في الصلاة وفيه نظر ، فقد حكى الخطابي في المعالم عن مالك أنه لم ير به بأساً وكان يفعله فكأنه لم يبلغه الخبر انتهى.(2/384)
276 ـ باب ما جاءَ في كَرَاهيَةِ النّفْخِ في الصّلاة
379ـ حدثنا أحمدُ بنُ منيعٍ حدثنا عبادُ بنُ العوامِ أخبرنا ميمونُ أبو حَمْزَةَ عن أبي صالحٍ مولى طلحةَ عنْ أمّ سلمَةَ قالَتْ : "رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية النفخ في الصلاة"
النفخ إخراج الريح من الفم.
قوله: "أخبرنا ميمون أبو حمزة" الأعور القصاب مشهور بكنيته ضعيف من السادسة(2/384)
غُلاَماً لنَا يُقالُ لَه أفلحُ إذا سجدَ نفخَ فقالَ يا أفلحُ تَرِبَ وجهُكَ".
قال أحمدُ بن منيع و كرهَ عباد النفخَ في الصلاةِ وقالَ: إن نفخَ لَمْ يقطعَ صلاتهُ قال أحمدُ بنُ منيعٍ: وبهِ نأخُذُ.
قال أبو عيسى: ورَوَى بعضُهم عن أبي حمزةَ هذا الحديثَ وقال مولَى لنا يقال رَباحُ.
380ـ حدثنا أحمدُ بنُ عبدةَ الضّبّيّ حدثنا حمادُ بنُ زيدٍ عن ميمونٍ أبي حمزةَ بهذا الإسنادِ نحوَه. وقال غلامٌ لنا يقالُ لَه رَباحٌ.
قال أبو عيسى: وحديثُ أمّ سلمةَ إسنادُه ليسَ بذاكَ وميمون أبو حمزةَ قد ضعّفهُ بعضُ أهلِ العلمِ ، واختلفَ أهلُ العلم في النفخِ في الصلاةِ فقَالَ بعضهم: إن نفخَ في الصلاةِ استقبلَ الصلاة وهوَ قولُ سفيانَ الثوريّ وأهل الكوفة. وقال بعضهم يُكرهُ النفخُ في الصلاةِ وإنْ نَفَخَ في صلاتِهِ
ـــــــ
كذا في التقريب "عن أبي صالح مولى طلحة عن أم سلمة" قال الذهبي في الميزان هو مولاها واسمه ذكوان لا يعرف. وقال المزي في التهذيب: اسمه زاذن وليس له في الكتاب إلا هذا الحديث عند المصنف كذا في قوت المغتذى. وقال الحافظ أبو صالح مولى طلحة أو أم سلمة مقبول من الثالثة يقال اسمه زاذان انتهى.
قوله: "إذا سجد نفخ" أي في الأرض ليزول عنها التراب فيسجد "ترب وجهك" من التتريب أي أوصله إلى التراب وضعه عليه ولا تبعده عن موضع وجهك بالنفخ فإنه أقرب إلى التواضع، فإن إلصاق التراب بالوجه الذي هو أفضل الأعضاء غاية التواضع.
قوله: "قال أحمد بن منيع وبه نأخذ" وهو القول الراجح كما ستعرف.
قوله: "وحديث أم سلمة إسناده ليس بذاك ، وميمون أبو حمزة قد ضعفه بعض أهل العلم" قال أحمد: متروك الحديث ، وقال الدارقطني: ضعيف ، وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم ، وقال النسائي ليس بثقة. كذا في الميزان.(2/385)
لَم تفسدْ صلاتهُ وهو قولُ أحمدَ وإسحاقَ
ـــــــ
قوله:"فقال بعضهم إن نفخ في الصلاة استقبل الصلاة" أي استأنف "وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة" واستدلوا بحديث الباب هو حديث ضعيف ، قال الحافظ في الفتح: ولو صح لم يكن فيه حجة على إبطال الصلاة بالنفخ لأنه لم يأمره بإعادة الصلاة وإنما استفاد من قوله ترب وجهك استحباب السجود على الأرض فهو نحو النهي عن مسح الحصى. وفي الباب عن أبي هريرة في الأوسط للطبراني وعن زيد بن أبي ثابت عند البيهقي وعن أنس وبريدة عند البزار وأسانيد الجميع ضعيفة جداً. وثبت كراهة النفخ عن ابن عباس كما رواه ابن أبي شيبة ، والرخصة فيه عن قدامة بن عبد الله أخرجه البيهقي انتهى. واستدلوا أيضاً بأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة وقالوا: إن النفخ كلام واحتجوا على كون النفخ كلاماً بأثر ابن عباس رضي الله عنه قال: النفخ في الصلاة كلام ، رواه بن منصور في سننه ، وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عباس أنه كان يخشى أن يكون النفخ كلاماً. واستدلوا أيضاً بأحاديث تدل على كراهة النفخ في السجود ، فمنها ما رواه الطبراني في الكبير عن زيد بن ثابت قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفخ في السجود وعن النفخ في الشراب ، ولا تقوم به حجة لأن في إسناده خالد بن إلياس وهو متروك: ومنها ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعاً أنه كره أن ينفخ بين يديه في الصلاة أو في شرابه. قال العراقي: وفي إسناده غير واحد متكلم فيه. ومنها ما رواه البزار في مسنده عن أنس بن مالك رفعه قال ثلاثة من الجفاء: أن ينفخ الرجل في سجوده الحديث ، وفي إسناده خالد بن أيوب وهو ضعيف. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الشوكاني في النيل مع بيان ما فيها من الكلام "وقال بعضهم يكره النفخ في الصلاة وإن نفخ في صلاته لم تفسد صلاته وهو قول أحمد وإسحاق" واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم نفخ في صلاة الكسوف ، وذكره البخاري تعليقاً ، وأجابوا بمنع كون النفخ من الكلام لأن الكلام متركب من الحروف المعتمدة على المخارج ولا اعتماد في النفخ ، وأيضاً الكلام المنهي عنه في الصلاة هو المكالمة ، قالوا: ولو سلم صدق اسم الكلام على النفخ كما قال ابن عباس لكان فعله صلى الله عليه وسلم لذلك في الصلاة مخصصاً لعموم النهي عن الكلام كذا في النيل.(2/386)
277ـ باب ما جَاءَ في النّهيِ عَن الاختصار في الصّلاَة
381ـ حدثنا أبو كُريبٍ حدثنا أبو أسامةَ عن هشامِ بنِ حسّانٍ عن محمدِ بنِ سيرين عن أبي هُرَيْرَةَ " أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يصليَ الرجلُ مختصِراً ".
قال وفي الباب عن ابنِ عُمَرَ.
ـــــــ
"باب ما جاء في النهي عن الإختصار في الصلاة"
المراد من الإختصار وضع اليد على الخاصرة.
قوله: "نهى أن يصلي الرجل مختصراً" قال الحافظ في الفتح: قد فسره ابن أبي شيبة في روايته فقال: قال ابن سيرين: هو أن يضع يده على خاصرته وهو يصلي ، وبذلك جزم أبو داود ونقله الترمذي عن بعض أهل العلم ، وهذا هو المشهور من تفسيره ، وحكى الهروي في الغربيين أن المراد بالاختصار قراءة آية أو آيتين من آخر السورة ، وقيل إن بحذف الطمأنينة ، وهذان القولان وإن كان أخذهما من الإختصار ممكنا لكن رواية الخصر والخصر تأباهما. وقيل الإختصار أن يحذف الاَية التي فيها السجدة إذا أمر بها في قراءته حتى لا يسجد في الصلاة لتلاوتها ، حكاه الغزالي ، وحكى الخطابي أن معناه أن يمسك بيده مخصرة أي عصا يتوكأ عليها في الصلاة ، وأنكر هذا ابن العربي في شرح الترمذي فأبلغ ، ويؤيد الأول ما روى أبو داود والنسائي من طريق سعيد بن زياد قال: صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي فلما صلى قال هذا الصلب في الصلاة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" تقدم تخريجه ولفظه آنفاً.(2/387)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقد كرِهَ بعضُ أهلِ العلمِ الاختصارَ في الصّلاةِ وكرهَ بعضُهمْ أن يمشيَ الرجلُ مختصراً. والاختصَارُ: أن يضعَ الرجلُ يدَهُ عَلَى خاصِرتِهِ في الصلاة أو يضع يديه جميعاً على خاصرتيه. ويروَى أنّ إبليسَ إذا مشَى مشى مُخْتصراً.
ـــــــ
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه.
قوله: "وقد كره قوم من أهل العلم الاختصار في الصلاة" قال العيني في شرح البخاري ص ج أختلفوا في حكم الخصر في الصلاة فكرهه ابن عمر وابن عباس وعائشة وإبراهيم النخعي ومجاهد وأبو مجلز وآخرون ، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي ، وذهب أهل الظاهر إلى تحريم الاختصار في الصلاة عملاً بظاهر الحديث انتهى كلامه.
قلت: الظاهر ما قاله أهل الظاهر لعدم قيام قرينة تصرف النهي عن التحريم الذي هو معناه الحقيقي كما هو الحق "والإختصار هو أن يضع الرجل يده على خاصرته في الصلاة" وهذا التفسير هو المشهور وهو الحق.
فائدة: أختلف في حكمه النهي عن ذلك ، فقيل لأن إبليس أهبط متخصراً. أخرجه ابن أبي شيبة من طريق حميد بن هلال موقوفاً ، وقيل لأن اليهود تكثر من فعله فنهى عنه كراهة للتشبه بهم. أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل عن عائشة ، زاد ابن أبي شيبة فيه في الصلاة ، وفي رواية: لا تشبهوا باليهود. وقيل لأنه راحلة أهل النار ، أخرجه ابن أبي شيبة أيضاً عن مجاهد قال: وضع اليد على الحقو أستراحة أهل النار ، وقيل إونه صفة الراجز حين ينشد ، رواه سعيد بن منصور من طريق قيس بن عباد بإسناد حسن ، وقيل لأنه فعل المتكبرين حكاه المهلب ، وقيل لأنه فعل أهل المصائب حكاه الخطابي. قال الحافظ بعد ذكر هذه الأقوال: وقول عائشة أعلى ما ورد في ذلك ولا منافاة بين الجميع انتهى.
قوله: "وكره بعضهم أن يمشي الرجل مختصراً ويروى أن إبليس إذا مشى يمشي متخصراً" لم أقف على من أخرجه(2/388)
278 ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهيةِ كفّ الشّعْرِ في الصّلاة
382ـ حدثنا يحيى بنُ موسى حدثنا عبدُ الرزاقِ أخبرنا ابنُ جُرَيجٍ عن عمرانَ بن مُوسَى عن سعيدِ بنِ أبي سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ عنْ أبيهِ عنْ أبي رَافعٍ "أنه مرّ بالحسنِ بنِ علي وَهو يصلّي وقد عَقص ضَفْرَتَهُ في قفاهُ فحلّها فالتفتَ إليهِ الحسنُ مُغْضَباً فقالَ أقبلْ عَلَى صلاتِكَ ولا تغضبْ فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك كِفْلُ الشّيْطانِ".
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهة كف الشعر في الصلاة"
الكف الضم والجمع.
قوله: "عن عمران بن موسى" بن عمرو بن سعيد بن العاص هو أخو أيوب مقبول كذا في التقريب ، وقال في الخلاصة: وثقه ابن حبان "عن سعيد بن أبي سعيد المقبري" ثقة تغير قبل موته بأربع سنين "عن أبيه" وهو أبو سعيد واسمه كيسان ثقة ثبت من الثانية "عن أبي رافع" مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه ابراهيم وقيل أسلم أو ثابت أو هرمز مات في أول خلافة علي على الصحيح.
قوله: "وقد عقص ضفرته" قال في المجمع: العقص جمع الشعر وسط رأسه أو لف ذوائبه حول رأسه كفعل النساء ، وقال فيه أصل العقص اللي وإدخال أطراف الشعر في أصوله انتهى. وفي رواية أبي داود: وقد غرز ضفره أي لو ى شعره وأدخل أطرافه في أصوله والمراد من الضفر المضفور من الشعر ، وأصل الضفر الفتل والضفير والضفائر هي العقائص المضفورة قاله الخطابي "في قفاه" القفا بالفارسية يس سر يذكر ويؤنث "فحلها" أي أطلق ضفائره المغروزة في قفاه "مغضباً" بفتح الضاد "ذلك" أي الظفر المغروز "كفل الشيطان" بكسر الكاف وسكون الفاء أي موضع قعود الشيطان ،(2/389)
وفي الباب عن أمّ سلمةَ وعبدِ الله بنِ عباسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي رافعٍ حديثٌ حسنٌ. والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ كرِهُوا أن يصليَ الرجلُ وهو معقوصٌ شعرُهُ.
قال أبو عيسى وعمرانُ بنُ موسُى هو القُرَشيّ المكيّ وَهو أخو أيوبَ بنِ مُوسى.
ـــــــ
وفي رواية أبي داود: ذلك كفل الشيطان ، يعني مقعد الشيطان ، يعني مغرز ضفره ، فقال الخطابي: وأما الكفل فأصله أن يجمع الكساء على سنام البعير ثم يركب ، قال الشاعر.
وراكب على البعير مكتفل يحفى على آثارها وينتعل.
وإنما أمره بإرسال الشعر ليسقط على الموضع الذي يصلي فيه صاحبه من الأرض فيسجد معه ، وقد روى عنه أيضاً عليه السلام: أمرت أن أسجد على سبعة آراب وأن لا أكف شعراً ولا ثوباً انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أم سلمة وعبد الله بن عباس" أما حديث أم سلمة فأخرجه ابن أبي حاتم في العلل. وأما حديث عبد الله بن عباس فأخرجه الشيخان باللفظ الذي ذكره الخطابي وقد تقدم آنفاً. وفي الباب أيضاً عن ابن مسعود أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح ، وعن أبي موسى أخرجه أبو علي الطوسي في الأحكام ، وعن جابر أخرجه ابن عدي في الكامل وفيه علي بن عاصم وهو ضعيف ذكره الشوكاني في النيل.
قوله: "حديث أبي رافع حديث حسن" وأخرجه أبو داود وابن ماجه وسكت عنه أبو داود ، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره.
قوله: "والعمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يصلي الرجل وهو معقوص شعره" قال العراقي: وهو مختص بالرجال دون النساء لأن شعرهن عورة يجب ستره في الصلاة فإذا نقضته ربما استرسل وتعذر ستره فتبطل صلاتها ، وأيضاً فيه مشقة عليها في نقضه للصلاة ، وقد رخص لهن صلى الله عليه وسلم في أن لا ينقضن ضفائرهن في الغسل مع الحاجة إلى بل جميع الشعر(2/390)
279ـ باب مَا جَاءَ في التَخَشّعِ في الصّلاة
383 ـ حدثنا سُوَيْدُ بنُ نصرٍ ، حدثنا عبدُ الله بنُ المباركِ أخبرنا الليثُ بنُ سعدٍ أخبرنا عبدُ ربّه بنُ سعيدٍ عن عمرانَ بن أنسٍ عنْ عبدِ الله بن نافعِ بن العَمْيَاءِ عن ربيعةَ بن الحارِثِ عن الفضلِ بنِ عباسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاةُ مثْنَى مثْنَى تشهّدُ في كل ركعتينِ ، وَتَخَشّعُ
ـــــــ
"باب ما جاء في التخشع في الصلاة"
التخشع هو السكون والتذلل ، قيل والخشوع قريب المعنى من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن والخشوع في البصر والبدن والصوت ، وقيل الخضوع في الظاهر والخشوع في الباطن.
قوله: "أخبرنا عبد ربه بن سعيد" بن قيس الأنصاري أخو يحيى المدني ثقة من الخامسة "عن عمران بن أبي أنس" عن عبد الله بن نافع "العمياء" مجهول من الثالثة كذا في التقريب. وقال الذهبي في الميزان: عبد الله بن نافع بن أبي العمياء وربما قيل ابن النافع بن العمياء عن ربيعة بن الحارث ، قال البخاري: لا يصح حديثه ، وقال العقيلي: روى عنه عمران بن أبي أنس حديثه الصلاة مثنى مثنى وتضرع وتخشع الحديث.
قوله: "الصلاة مثنى مثنى" قيل الصلاة مبتدأ ومثنى مثنى خبره ، والأول تكرير والثاني توكيد "تشهد في كل ركعة" خبر بعد خبر كالبيان لمثنى مثنى أي ذات تشهد وكذا المعطوفات ، ولو جعلت أوامر أختل النظم وذهب الطراوة والطلاوة قاله الطيبي. وقال التوربشتي: وجدنا الرواية فيهن بالتنوين لا غير وكثير ممن لا علم له بالرواية يسردونها على الأمر ونراها تصحيفاً كذا في المرقاة شرح المشكاة. وقال السيوطي في قوت المغتذى: قال العراقي: المشهور في هذه الرواية أنها أفعال مضارعة حذف منها إحدى التاءين ويدل عليه(2/391)
وَتَضرّعُ وتَمسْكَنُ وتُقْنِعُ يديكَ. يقول تَرْفَعُهمَا إلى رَبّكَ مستقبِلا ببطونِهما وجْهَكَ وتقولُ يا ربّ يا ربّ ومن لم يَفْعَلْ ذلك فهُو كذا وكذا".
ـــــــ
قوله في رواية أبي داود وأن تشهد ، ووقع في بعض الروايات بالتنوين فيها على الإسمية وهو تصحيف من بعض الرواة انتهى "وتخشع" التخشع السكون والتذلل وقيل الخشوع قريب المعنى من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن والخشوع في البصر والبدن والصوت ، وقيل الخضوع في الظاهر والخشوع في الباطن ، والأظهر أنهما بمعنى لقوله عليه السلام: لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ، كذا في المرقاة. والخشوع من كمال الصلاة قال الله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، قال القاري: وفي قوله تخشع إشارة إلى أنه إن لم يكن له خشوع فيتكلف ويطلب من نفسه الخشوع ويتشبه بالخاشعين "وتضرع" في النهاية: التضرع التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة ، يقال ضرع يضرع بالكسر والفتح إذا خضع وذل "وتمسكن" قال ابن الملك: التمسكن إظهار الرجل المسكنة من نفسه. وقال الجزري في النهاية: وفي أنه قال للمصلي تبأس أن تذل وتخضع وهو تمفعل من السكون ، والقيام أن يقال تسكن وهو الأكثر الأفصح ، وقد جاء على الأول أحرف قليلة قالوا تمدرع وتمنطق وتمندل انتهى "وتقنع يديك" من إقناع اليدين رفعهما في الدعاء ومنه قوله تعالى {مقنعي رؤوسهم} أي ترفع بعد الصلاة يديك للدعاء فعطف على محذوف أي إذا فرغت منها فسلم ثم أرفع يديك سائلاً حاجتك ، فوضع الخبر موضع الطلب. قال المظهر: فإن قلت لو جعلتها أوامر وعطفت أمراً على أمر وقطعت تشهد عن الجملة الأولى لاختلاف الخبر والطلب لكان لك مندوحة عن هذا التقرير. قلت: حينئذ خرج الكلام الفصيح إلى التعاظل في التركيب وهو مذموم. وذكر ابن الأثير أن توارد الأفعال تعاظل ونقلنا عنه في التبيان شواهد نقله الطيبي ، وقوله تعاظل المشالة ففي القاموس تعظلوا عليه اجتمعوا ويوم العظالى كحبارى معروف لأن الناس ركب بعضهم بعضاً أو لأنه ركب الاثنان والثلاثة دابة كذا في المرقاة "يقول" أي الراوي معناه "ترفعهما" أي لطلب الحاجة "إلى ربك" متعلق بقوله تقنع وقيل يقول فاعله النبي صلى الله عليه وسلم وترفعهما ويكون تفسيراً لقوله وتقنع يديك "مستقبلاً ببطونهما(2/392)
قال أبو عيسى: وقال غيرُ ابنِ المبارِك في هذا الحديث: من لَمْ يفعلْ ذلك فهو خداجٌ.
قال أبو عيسى: سمعتُ محمدَ بنَ إسْمَاعِيلَ يقولُ: رَوَى شعبةُ هذا الحديثَ عنْ عبدِ ربّه بنِ سعيدٍ فأخْطأَ في مَوَاضِعَ فقال عن أنس بن أبي أنس: وهو عمرانُ بنُ أبي أنسٍ. وقالَ عن عَبْدِ الله بن الحارثِ: وإنما هو عبدُ الله بنُ نافعِ بن العمياء، عن ربيعة بن الحارث وقال شعبة عنْ عبد الله بنِ الحارث عن المطلبِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: وإنما هو عن ربيعة بنِ الحارث بن عبدِ المطلبِ عن الفضلِ بن عباسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال محمدٌ: وحديثُ الليثِ بن سعدٍ "هو حديث صحيح يعنى" أصح من حديثِ شعبةَ.
ـــــــ
وجهك" أي ولو كان الدعاء أستعاذة "وتقول يا رب يا رب" الظاهر أن المراد بالتكرار التكثير "ومن لم يفعل ذلك" أي ما ذكر من الأشياء في الصلاة "فهو" أي فعل صلاته "كذا وكذا قال الطيبي كناية عن أن صلاته ناقصة غير تامة يبين ذلك الرواية الأخرى" أعني قوله فهو خداج "وقال غير ابن المبارك في هذا الحديث" أي مكان من لم يفعل كذا وكذا "ومن لم يفعل ذلك فهو خداج" بكسر الخاء المعجمة أي ناقص قيل تقديره فهو ذات خداج أي صلاته ذات خداج أو وصفها بالمصدر نفسه للمبالغة، والمعنى أنها ناقصة، وفي الفائق الخداج مصدر خدجت الحامل إذا ألقت ولدها قبل وقت النتاج فاستعير والمعنى ذات نقصان فحذف المضاف، وفي النهاية وصفها بالمصدر مبالغة كقوله فإنما هي إقبال وإدبار، كذا في المرقاة، وتقدم تفسير الخداج بالبسط فتذكر. وقال المنذري في الترغيب: والخداج معناه ههنا الناقص في الأجر والفضيلة انتهى فتفكر.
قوله: "فأخطأ في مواضع" أي من الإسناد "فقال عن أنس بن أنيس" بضم الهمزة مصغراً "قال محمد وحديث الليث بن سعد أصح من حديث شعبة" قال المنذري في الترغيب:(2/393)
ـــــــ
قال الخطابي: أصحاب الحديث يغلطون شعبة في هذا الحديث ثم حكى قول البخاري المتقدم وقال: قال يعقوب بن سفيان في هذا الحديث مثل قول البخاري وخطأ شعبة وصوب ليث بن سعد وكذلك قال محمد بن إسحاق بن خزيمة انتهى. وقال المنذري بعد ذكر حديث الباب ما لفظه: رواه الترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه وتردد في ثبوته ، رووه كلهم عن ليث بن سعد بإسناد الترمذي ، قال ورواه أبو داود وابن ماجه من طريق شعبة عن عبد ربه عن ابن أبي أنس عن عبد الله بن نافع بن العمياء عن عبد الله بن الحارث عن المطلب بن أبي وداعة انتهى. وقال ابن حجر المكي: إسناده حسن. قلت: مدار هذا الحديث على عبد الله بن نافع بن العمياء وهو مجهول على ما قال الحافظ. وقال البخاري: لم يصح حديثه وذكره ابن حبان في الثقات(2/394)
284ـ باب مَا جَاءَ في كَرَاهيَةِ التشبيك بينَ الأصابِعِ في الصلاة
384ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا الليثُ بن سعدٍ عن ابنِ عجلانَ عن سعيدٍ المَقْبُريّ عن رجُلٍ عن كعبِ بنِ عجرةَ: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا توضّأ أحدُكم فأحسنَ وضوءَهُ ثم خرجَ عامداً إلى المسجد فلا يشبّكنّ "بين" أصابعِه فإنهُ في صلاةٍ ".
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية التشبيك بين الأصابع في الصلاة"
التشبيك إدخال الأصابع بعضها في بعض.
قوله: "إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه" بمراعاة السنن وحضور القلب وتصحيح النية "ثم خرج" أي من بيته " عامداً إلى المسجد" أي قاصداً إليه "فلا يشبكن بين أصابعه" أي لا يدخلن بعضها في بعض "فإنه في صلاة" أي حكماً. والحديث فيه كراهة التشبيك من وقت الخروج إلى المسجد للصلاة ، وفيه أنه يكتب الصلاة أجر(2/394)
قال أبو عيسى: حديثُ كعبِ بنِ عُجرةَ رواه غيرُ واحدٍ عنْ ابنِ عجْلانَ مثلَ حدِيثِ الليثِ، ورَوَى شريكٌ عنِ محمدِ بنِ عجْلانَ عن أبيهِ عن أبي هريرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوَ هذا الحديثِ. وحديثُ شُرَيكٍ غيرُ محفوظٍ.
ـــــــ
المصلى من حين يخرج من بيته إلى أن يعود إليه. قال صاحب المنتقى بعد أن ساق هذا الحديث: وقد ثبت في خبر ذي اليدين أنه عليه الصلاة والسلام شك أصابعه في المسجد ، وذلك يفيد عدم التحريم ولا يمنع الكراهة لكونه فعله نادر انتهى. قال الشوكاني: قد عارض حديث الباب يعني حديث كعب بن عجرة المذكور في هذا الباب مع ما فيه هذا الحديث الصحيح في تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه في المسجد وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين بلفظ: ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان وشبك بين أصابعه. وفيهما من حديث أبي موسى: المؤمن للمؤمن كالبنيان وشبك بين أصابعه. وهذه الأحاديث أصح من حديث الباب ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث بأن تشبيكه صلى الله عليه وسلم في حديث السهو كان لاشتباه الحال عليه في السهو الذي وقع منه ولذلك وقف كأنه غضبان. وتشبيكه في حديث أبي موسى وقع لقصد التشبيه لتعاضد المؤمنين بعضهم ببعض. كما أن البيان المشبك بعضه بعض يشد بعضه بعضاً. وأما حديث الباب فهو محمول على التشبيك للعبث وهو منهي عنه في الصلاة ومقدماتها ولواحقها من الجلوس في المسجد والمشي إليه أو يجمع بما ذكره المصنف يعني صاحب المنتقى من أن فعله صلى الله عليه وسلم نادراً يرفع التحريم ولا يرفع الكراهة ولكن يبعد أن يفعل صلى الله عليه وسلم ما كان مكروهاً. والأولى أن يقال إن النهي عن التشبيك ورد بألفاظ خاصة بالأمة وفعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض قوله الخاص بهم كما تقرر في الأصول انتهى كلام الشوكاني.
قوله: "حديث كعب بن عجرة رواه غير واحد عن ابن عجلان مثل حديث الليث" والحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والدارمي كذا في المشكاة. قال ميرك: كلهم من حديث سعيد المقبري عن رجل غير مسمى عن كعب بن عجرة لم يذكر الرجل(2/395)
ـــــــ
لكن له شاهداً عند أحمد من حديث أبي سعيد ذكره القاري في المرقاة، وقد ذكر قبل هذا حديث أبي سعيد فقال: وقد أخرج أحمد بإسناد جيد من حديث أبي سعيد يرفعه: إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان فإن أحدكم لا يزال في الصلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه انتهى. وقال الشوكاني في النيل: وحديث كعب بن عجرة أخرجه أيضاً ابن ماجه وفي إسناده عند الترمذي رجل مجهول وهو الراوي له عن كعب بن عجرة وقد كنى أبو داود هذا الرجل المجهول فرواه من طريق سعد بن إسحاق قال حدثني أبو ثمامة الخياط عن كعب، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له في صحيحه هذا الحديث انتهى "وحديث شريك غير محفوظ" لأن شريكاً قد خالف الليث بن سعد وغير واحد في روايته عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة وكان قد تغير حفظه وكان كثير الخطأ. وأما الليث بن سعد فقد كالن ثقة ثبتاً.(2/396)
281ـ باب ما جَاءَ في طولِ القيامِ في الصّلاة
385ـ حدثنا ابنُ أبي عمرَ، حدثنا سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ عن أبي الزبير عن جابرٍ قال: " قيلَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم أيّ الصلاةِ أفضلُ؟ قال طولُ القُنُوتِ".
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في طولِ القيامِ في الصّلاة"
قوله: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل قال طول القنوت" هو يطلق بازاء معان ، والمراد هنا طول القيام ، قال النووي باتفاق العلماء ويدل على ذلك تصريح أبي داود في حديث عبد الله بن حبشي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل قال طول القيام. والحديث يدل على أن القيام أفضل من السجود والركوع وغيرهما ، وإلى ذلك ذهب جماعة منهم الشافعي.(2/396)
وفي الباب عنْ عبدِ الله بن حُبْشِيّ وأنسِ بن مالك "عن النبي صلى الله عليه وسلم" .
قال أبو عيسى: حديثُ جابر حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. وقد رُوِيَ من غيرِ وجهٍ عن جابرِ بنِ عَبْدِ الله.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن حبشي" بضم الحاء المهملة وسكون الموحدة وكسر الشين المعجمة وشدة الياء "وأنس بن مالك" أما حديث عبد الله بن حبشي فأخرجه أبو داود والنسائي بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه. الحديث ، وفيه: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. وأما حديث أنس وأخرجه أحمد وابن حبان والحاكم في المستدرك عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال فيه: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت.
قوله: "حديث جابر حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه.(2/397)
باب: ما جاء فى كثرة الركوع و السجود
...
282ـ باب ما جاءَ في كثرةِ الركُوعِ والسّجودِ
386ـ حدثنا أبو عمارٍ حدثنا الوليد قال: وحدثنا أبو محمد وجابر ، قال" حدثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ عن الأوزاعيّ قال: حدثَني الوليدُ بنُ هشامٍ المُعَيْطِيّ قال: حدثني مَعدانُ بنُ طلحةَ اليَعْمَرِي
ـــــــ
"باب ما جاءَ في كثرةِ الركُوعِ والسّجودِ"
قوله: "حدثنا أبو عمار" أسمه الحسين بن حريث بن الحسن بن ثابت مولى عمران بن حصين الخزاعي المروزي عن الفضل بن موسى والنضر بن شميل وفضيل بن عياض والوليد بن مسلم وعنه خ م د ت س د بالإجازة وثقه النسائي مات راجعاً من الحج سنة أربع وأربعين ومائتين "حدثني معدان بن طلحة اليعمري" قال: الحافظ في التقريب: معدان بن(2/397)
قال: "لقيتُ ثَوْبانَ مولَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ له: دُلّني على عمل يَنْفَعُنِي الله به ويُدْخِلُنِي الجنّة؟ فسكتَ عَنّي مَلِيّا ثم التفتَ إليّ فقال: عليكَ بالسجود فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ما مِنْ عبدٍ يسجد لله سجدةً إلا رفعهُ الله بها درجةً وحَطّ عنه بها خَطيئة".
قال معدان فلقيتُ أبا الدّرْداءِ فسألته عما سألتُ عنه ثَوبانَ فقالَ: عليكَ بالسّجودِ فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبدٍ يسجدُ لله سجدةً إلا رفعهُ الله بها درجةً وحط عنهُ بها خطيئةً ".
وفي الباب عن أبي هريرةَ وأبي فاطمةَ.
ـــــــ
أبي طلحة ويقال بن طلحة اليعمري بفتح التحتانية والميم بينهما مهملة شامي ثقة من الثانية "قال لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الحافظ ثوبان الهاشمي مولى النبي صلى الله عليه وسلم صحبه ولازمه ونزل بعده الشام ومات بحمص سنة أربع وخمسين "فسكت عني ملياً" قال في النهاية: الملي الطائفة من الزمان لا حد لها ، يقال مضى ملى من النهار وملى من الدهر أي طائفة منه ثم التفت إلي "وفي رواية مسلم" قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني به الله الجنة أو قال بأحب الأعمال إلى الله فسكت ثم سألته ، فسكت ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"فقال عليك بالسجود فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد إلخ" وفي رواية أحمد ومسلم وأبي داود عن ثوبان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة إلخ: قال الشوكاني في النيل: وهو يدل على أن كثرة السجود مرغب فيها والمراد به السجود في الصلاة وسبب الحث عليه ما ورد في حديث أبي هريرة من أن أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد ، وهو موافق لقوله تعالى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} ، كذا قال النووي ، وفيه دليل لمن يقول إن السجود أفضل من القيام وسائر أركان الصلاة: وفي هذه المسألة مذاهب قد ذكرها المصنف.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وأبي فاطمة" أما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد(2/398)
قال أبو عيسى: حديثُ ثوبانَ وأبي الدرداءِ في كثرةِ الركوعِ والسّجودِ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في هذا الباب، فقالَ بعضُهُم: طولُ القيامِ في الصلاةِ أفضلُ مِنْ كثرةِ الركوعِ والسجودِ. وقال بعضُهُم: كثرةُ الركوعِ والسجودِ أفضلُ من طولِ القيامِ.
وقال أحمدُ بنُ حنبل: قد رُويَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا حَدِيثانِ ، ولم يَقضِ فيهِ بِشَيءٍ.
ـــــــ
ومسلم وأبو داود والنسائي بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء. وأما حديث أبي فاطمة فلينظر من أخرجه.
قوله: "حديث ثوبان وأبي الدرداء في كثرة الركوع والسجود حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود.
قوله: "وقد اختلف أهل العلم في هذا فقال بعضهم طول القيام في الصلاة أفضل من كثرة الركوع والسجود" لحديث جابر المذكور في الباب المتقدم: وإلى ذلك ذهب الشافعي وجماعة. قال الشوكاني في النيل: وهو الحق: قال: ولا يعارض حديث جابر وما في معناه الأحاديث: الواردة في فضل السجود لأن صيغة أفعل الدالة على التفضيل إنما وردت في فضل طول القيام ، ولا يلزم من فضل الركوع والسجود أفضليتهما على طول القيام وأما حديث: ما تقرب العبد إلى الله بأفضل من سجود خفي ، فإنه لا يصح لإرساله كما قال العراقي ، ولأن في إسناده أبا بكر بن أبي مريم وهو ضعيف: وكذلك أيضاً لا يلزم من كون العبد أقرب إلى ربه حال سجوده أفضليته على القيام لأن ذلك إنما هو باعتبار إجابة الدعاء: قال العراقي: الظاهر أن أحاديث أفضلية طول القيام محمولة على صلاة النفل التي لا نشرع فيها الجماعة وعلى صلاة المنفرد فأما الإمام في الفرائض والنوافل فهو مأمور بالتخفيف المشروع إلا إذا علم من حال المأمومين المحصورين إيثار التطويل ولم يحدث ما يقتضي التخفيف من بكاء الصبي ونحوه فلا بأس بالتطويل وعليه يحمل(2/399)
وقال إسحاقُ: أمّا في النّهار فكثرةُ الركوعِ والسجودِ، وأمّا بالليلِ فطولُ القيامِ، إلاّ أن يكونَ رجلٌ له جُزْءٌ بالليلِ يأتي عَليهِ، فكثرةُ الركوعِ والسجودِ في هذا أحبّ إليّ لأنه يأتي على جُزْئِه وقد ربِحَ كثرةَ الركوعِ والسّجودِ.
قال أبو عيسى: وإنما قالَ إسحاقُ هذا لأنّه كذا وُصِفَ صلاةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليل، ووصفَ طولُ القيام. وأمّا بالنهارِ فلم يُوصفْ منْ صلاتِهِ من طولِ القيامِ ما وصفَ بالليلِ.
ـــــــ
صلاته في المغرب بالأعراف "وقال بعضهم كثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام وممن قال بذلك بن عمر. وقال أحمد بن حنبل قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديثان ولم يقض فيه بشيء" بل توقف فيه "وقال إسحاق أما بالنهار فكثرة الركوع والسجود" أي أفضل من طول القيام "وأما الليل فطول القيام" أي أفضل من كثرة الركوع والسجود إلا أن يكون رجل له جزء بالليل يأتي عليه أي جزء من القرآن يقوم به في الليل "فكثرة الركوع والسجود في هذا أحب إلي لأنه يأتي على جزئه وقد ربح كثرة الركوع والسجود" والمعنى أن من كان له جزء من القرآن يقوم به كل ليلة فتكثير الركوع والسجود أفضل له لأنه يقرأ جزأه ويربح كثرة الركوع والسجود "قال أبو عيسى: وإنما قال إسحاق هذا لأنه كذا وصف" بصيغة المجهول "صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ووصف طول القيام إلخ" وكذا وجه ابن عدي قول إسحاق ولفظه على ما نقل الشوكاني في النيل: إنما قال إسحاق هذا لأنهم وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل بطول القيام ولم يوصف من تطويله بالنهار ما وصف من تطويله بالليل انتهى.(2/400)
283ـ باب ما جاءَ في قَتْل الحيّة والعقرب في الصلاة
388ـ حدثنا عليّ بن حُجْرٍ ، حدثنا إسماعيلُ بنُ علَيّةَ عن عليّ ابنِ المباركِ عن يحيَى بنِ أبي كَثيرٍ عن ضمضمِ بنِ جَوْسٍ عن أبي هُرَيرةَ قال: "أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتلِ الأسْوَدَيْنِ في الصّلاةِ ، الحَيّةِ والعقْربِ".
وفي الباب عن ابن عباسٍ وأبي رافع.
ـــــــ
"باب ما جاء في قتل الأسودين في الصلاة"
المراد بالأسودين الحية والعقرب.
قوله: "عن علي بن المبارك" الهنائي بضم الهاء وتخفيف النون ممدوداً ثقة كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان أحدهما سماع والاَخر إرسال فحديث الكوفيين عنه شيء من كبار السابعة كذا في التقريب. وقال النسائي: ليس به بأس وقال ابن حبان: كان متقناً ظابطاً كذا في التهذيب "عن ضمضم بن جوس" بفتح الجيم وسكون الواو ثم سين مهملة ويقال ابن الحارث بن جوس اليمامي ثقة من الثالثة.
قوله: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسودين في الصلاة" فيجوز قتلهما في الصلاة من غير كراهة "الحية والعقرب" بيان للأسودين وتسمية العقرب والحية بالأسودين من باب التغليب ولا يسمى بالأسود في الأصل إلا الحية.
قوله: "وفي الباب عن ابن عباس وأبي رافع" أما حديث ابن عباس فأخرجه الحاكم بإسناد ضعيف ، وأما حديث أبي رافع فأخرجه ابن ماجه وفي إسناده مندل وهو ضعيف وكذلك شيخه محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ، وفي الباب عن ابن عمر عن إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عنه البخاري ومسلم ، وعن عائشة عند أبي يعلى الموصلي وفي إسناده معاوية بن يحيى الصد في ضعفه ، وعن رجل من بني عدي بن كعب عند أبي داود بإسناد منقطع.(2/401)
قال أبو عيسى: حديثُ أبِي هرَيْرَةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ عَلَى هذا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم وبه يقولُ أحمدُ وإسحاقُ. وكرِهَ بعضُ أهلِ العلمِ قتلَ الحيّةِ والعَقربِ في الصّلاةِ و قالَ إبراهيمُ: إنّ في الصلاةِ لشُغلاً. والقولُ الأول أصحّ.
ـــــــ
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" كذا في النسخ الموجودة عندنا، وذكر صاحب المنتقى هذا الحديث وقال رواه الخمسة وصححه الترمذي إنتهى ، قال الشوكاني في النيل: والذي في النسخ أنه قال: حديث حسن ولم يرتفع إلى الصحة وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم وصححه انتهى فظهر من كلام الشوكاني أن نسخ الترمذي مختلفة ففي بعضها حديث حسن وفي بعضها حديث حسن صحيح.
قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وبه يقول أحمد وإسحاق" وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء كما قال العراقي وقال وأما من قتلها في الصلاة أوهم بقتلها فعلي بن أبي طالب وابن عمر. روى بن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح أنه رأى ريشة وهو يصلي فحسب أنها عقرب فضربها بنعله. ورواه البيهقي أيضاً وقال فضربها برجله وقال حسبت أنها عقرب ، ومن التابعين الحسن البصري وأبو العالية وعطاء ومورق العجلي وغيرهم إنتهى. "وكره بعض أهل العلم قتل الحية والعقرب في الصلاة قال إبراهيم" هو النخعي "إن في الصلاة لشغلا" كذا روى ذلك عن إبراهيم بن أبي شيبة في المصنف: وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن قتادة أنه قال: إذا لم تتعرض لك فلا تقتلها. واستدل المانعون من ذلك إذا بلغ إلى حد الفعل الكثير كالهادويه والكارهون له كالنخعي بحديث: إن في الصلاة لشغلاً. وبحديث: اسكنوا في الصلاة. عند أبي داود، ويجاب عن ذلك بأن حديث الباب خاص فلا يعارضه ما ذكروه وهكذا يقال في كل فعل كثير ورد الإذن به كحديث: حمله صلى الله عليه وسلم لأمامة. وحديث: خلعه للنعل ، وحديث: صلاته صلى الله عليه وسلم على المنبرو نزوله للسجود ورجوعه بعد ذلك ، وحديث أمره صلى الله عليه وسلم بدرء المار وإن أفضى إلى المقاتلة ، وحديث(2/402)
ـــــــ
مشيه لفتح الباب ، وكل ما كان كذلك ينبغي أن يكون مخصصاً لعموم أدلة المنع.
واعلم أن الأمر بقتل الحية والعقرب مطلق غير مقيد بضربة أو ضربتين ، وقد أخرج البيهقي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفاك للحية ضربة أصبتها أم أخطأتها: وهذا يوم التقييد بالضربة ، قال البيهقي: وهذا إن صح فإنما أراد والله أعلم وقوع الكفاية بها في الإتيان بالمأمور. فقد أمر صلى الله عليه وسلم بقتلها وأراد والله أعلم إذا امتنعت بنفسها عند الخطأ ولم يرد به المنع من الزيادة على ضربة واحدة ، ثم استدل البيهقي على ذلك بحديث أبي هريرة عند مسلم: من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة ، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة أدنى من الأولى، ومن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة أدنى من الثانية ، قال في شرح السنة: وفي معنى الحية والعقرب كل ضرار مباح القتل كالزنانير ونحوها كذا في النيل.(2/403)
284ـ باب ما جاء في سَجدَتي السّهْوِ قبل السلام
389 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا الليثُ عن ابنِ شِهابٍ عن الأعرجِ عن عبدِ الله بنِ بُحَيْنَةَ الأسْديّ حَلِيفِ بني عبدِ المطلبِ: "أن النبيّ
ـــــــ
"باب ما جاء في سجدتي السهو قبل السلام"
قال الحافظ في الفتح: السهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب إلى غيره. وفرق بعضهم بين السهو والنسيان وليس بشيء انتهى: وقال العيني: بينهما فرق دقيق وهو أن السهو: أن ينعدم له شعور والنسيان له فيه شعور.
قوله: "عن عبد الله بن بحينة" هو عبد الله بن مالك وأما بحينة فهي أمه فاسم أبيه مالك وإسم أمه بحينة "الأسدي" بسكون السين ، والأسد والأزد واحد. وبحينة(2/403)
صلى الله عليه وسلم قامَ في صلاةِ الظهرِ وعليه جلوسٌ فلّما أتَمّ صلاتَه سجدَ سَجدَتَيْنِ يكبّرُ في كُلّ سَجْدَةٍ وهو جالسٌ قَبْلَ أنْ يسلّمَ ، وسجدَهُما الناسُ معهُ مكانَ ما نَسِيَ من الجُلوسِ".
وفي الباب عن عبدِ الرحمَنِ بن عوفٍ.
حدثنا محمدُ بنُ بشارٍ أخبرنا عبدُ الأعْلَى و أبو داودَ قالا: حدثنا هشامٌ
ـــــــ
بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة وبعدها ياء التصغير ونون وهي أمه ، وأبوه مالك ابن القشب وليس له عند المنصف وأبي داود إلا هذا الحديث. كذا في قوت المغتذي.
قوله: "قام في صلاة الظهر وعليه جلوس أي والحال أن عليه أن يجلس،" وفي رواية البخاري قام من اثنتين من الظهر "فلما أتم صلاته" قد استدل به لمن زعم أن السلام ليس من الصلاة حتى لو أحدث بعد أن جلس وقبل أن يسلم تمت صلاته وهو قول بعض الصحابة والتابعين وبه قال أبو حنيفة ، وتعقب بأنه لما كان السلام لتحليل من الصلاة كان المصلى إذا انتهى إليه كمن فرغ من صلاته: ويدل على ذلك قوله في رواية ابن ماجه من طريق جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد عن الأعرض: حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم ، فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه والزيادة من الحافظ مقبولة كذا في فتح الباري "سجد سجدتين يكبر في كل سجدة" وفي رواية ابن ماجه فكبر ثم سجد ثن كبر فرفع رأسه ثم كبر فسجد ثم كبر فرفع رأسه ثم سلم "وهو جالس" جملة حالية متعلقة بقوله سجد أي أنشأ السجود جالساً "قبل أن يسلم" استدل به على أن سجود السهو قبل السلام ولا حجة فيه في كون جميعه كذلك: نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية وسيأتي ذكر مستندهم "وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس" استدل به على أن السجود خاص بالسهو، فلو تعمد ترك شيء مما يخبر بسجود السهو، لا يسجد وهو قول الجمهور، ورجحه الغزالي وناس من الشافعية.
قوله: "وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف" أخرجه أحمد وابن ماجه وأخرجه الترمذي أيضاً.(2/404)
عن يحيَى بن أبي كَثيرٍ عن محمد بنِ إبراهيمَ: أنّ أبا هريرةَ والسائبَ القارئ كانا يسجُدانِ سجدتَي السّهْوِ قبلَ التسليم.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ بُحَيْنَةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ، والعملُ على هذا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ. وهوَ قولُ الشافعيّ يرى سجدتي السَهوِ كُلّه قبلَ السلام ويقولُ: هذا الناسخُ لغيرِهِ من الأحاديثِ ، ويذْكُرُ أنّ آخِرَ فِعْلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ على هذا.
ـــــــ
قوله: "أخبرنا عبد الأعلى أبو داود وأبو داود هذا هو أبو داود الطيالسي واسمه سلمان بن داود" ، وأما عبد الأعلى بن محمد البصري الشامي روي عن هشام الدستوائي وخلق وعنه بندار وغيره قال ابن معين وأبو زرعة ثقة وقال النسائي: لا بأس به ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان متقناً في الحديث قدرياً غير واعية إليه "قال أخبرنا هشام" هو هشام بن أبي عبد سنبر الدستوائي ثقة ثبت روى عنه أبو داود الطيالسي وقال: كان أمير المؤمنين في الحديث "عن محمد بن إبراهيم" التيمي المدني ثقة.
قوله: "أن أبا هريرة والسائب القاري كانا يسجدان سجدتي السهو قبل التسليم" وذكر الحافظ العراقي أبا هريرة فيمن ذهب إلى أن سجود السهو كله بعد التسليم ، قال وروى الترمذي عنه خلاف ذلك.
قوله: "حديث ابن بحينة حديث حسن" بل هو صحيح أخرجه الشيخان.
قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وهو قول الشافعي يرى سجود السهو كله قبل التسليم" قال الحازمي في كتاب الاعتبار: وممن رأى السجود كله قبل التسليم أبو هريرة ومكحول والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن والأوزاعي وأهل الشام والليث بن سعد وهو مذهب الشافعي انتهى "ويقول" أي الشافعي "هذا الناسخ لغيره من الأحاديث ويذكر أن آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان على هذا" قال الشافعي أخبرنا مطرف بن مازن عن معمّر عن الزهري قال: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتي السهو قبل السلام وبعده وآخر الأمرين قبل(2/405)
وقال أحمدُ وإسحاق: إذا قام الرجلُ في الركْعَتَيْنِ فإنهُ يسجُدُ سجدَتَيْ السّهوِ قبلَ السّلامِ على حديث ابن بُحَينَةَ" .
وعبدُ الله بنُ بُحَيْنَةَ هوَ عبدُ الله بنُ مالكٍ بنُ بحينَةَ ، مالكٌ أبوه وبحينةُ أمّهُ. هكذا أخبرني إسحاقُ بنُ منصورٍ عن عليّ بن عبد الله بنِ المدِينِيّ.
قال أبو عيسى: واختلفَ أهلُ العلمِ في سَجْدَتَيِ السّهو متى يسجدُهُما الرجلُ قبلَ السلامِ أو بعدَه ، فرأى بعضُهم أن يسجُدَهُما بعدَ السلامِ. وهو قولُ سفيانَ الثوريّ وأهلِ الكوفةِ. وقال بَعضُهُم: يسجدُهُما قبلَ السلام
ـــــــ
السلامِ ، ثم أكده الشافعي برواية معاوية بن أبي سفيان: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجدهما قبل السلام. قال وصحبة معاوية متأخرة ذكره الحازمي في كتاب الاعتبار ، ثم قال وطريق الإنصاف أن نقول: أما حديث الزهري الذي فيه دلالة على النسخ ففيه انقطاع فلا يقع معارضاً للأحاديث الثابتة ، وأما بقية الأحاديث في السجود قبل السلام وبعده قولاً وفعلاً فهي وإن كانت صحيحة ثابتة ففيها نوع تعارض غير أن تقديم بعضها على بعض غير معلوم برواية موصولة صحيحة ، والأشبه حمل الأحاديث على التوسع وجواز الأمرين انتهى كلام الحازمي. ورواية معاوية التي أشار إليها الحازمي أخرجها هو بلفظ: إن معاوية بن أبي سفيان صلى بهم فنسى وقام وعليه جلوس فلم يجلس فلما كان آخر صلاته سجد سجدتين قبل التسليم ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع "وقال أحمد وإسحاق: إذا قام الرجل في الركعتين فإنه سجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث ابن بحينة" يأتي تحرير مذهبهما في هذا الكتاب "وعبد الله بن بحينة" هو وعبد الله بن مالك بالتنوين "ابن بحينة" بالألف "مالك أبوه وبحينة أمه" فيجب أن يكتب ألف ابن وينون مالك ليندفع الوهم ويعرف أن ابن بحينة نعت لعبد الله لا لمالك: قال الحافظ في الفتح: بحينة اسم أمه أو أم أبيه ، وعلى هذا فينبغي أن يكتب ابن بحينة بألف انتهى.
"فرأى بعضهم أن يسجدهما بعد السلام وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة" قال الحازمي في كتاب الاعتبار: طائفة رأت السجود كله بعد السلام ، وممن روينا ذلك(2/406)
وهو قولُ أكثر الفقهاءِ من أهلِ المدينةِ ، مثلِ يحيى بنِ سعيدٍ ورَبِيعةَ وغيرِهِما ، وبهِ يقولُ الشافعيّ.
وقالَ بعضُهم: إذا كانت زيادةً في الصّلاَةِ فَبعدَ السلامِ ، وإذا كان نُقْصاناً فقْبلَ السلامِ ، وهو قولُ مالِك بن أنَسٍ.
ـــــــ
عنه من الصحابة علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، ومن التابعين الحسن وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأهل الكوفة انتهى.
واستدلوا بالأحاديث التي ذكر فيها السجود بعد السلام وأنت تعلم أنه لا حجة فيها في كون جميعه كذلك "وقال بعضهم يسجدهما قبل السلام وهو قول أكثر الفقهاء إلخ" قال الحازمي في كتاب الاعتبار: وممن رأى السجود كله قبل السلام أبو هريرة ومكحول والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن والأوزاعي وأهل الشام والليث بن سعد وهو مذهب الشافعي "وقال بعضهم: إذا كانت زيادة في الصلاة فبعد السلام وإذا كان نقصاناً فقبل السلام. وهو قول مالك بن أنس" وهو قول المزني وأبي ثور من الشافعية ، وزعم ابن عبد البر أنه أولى من قول غيره للجمع بين الخبرين قال: هو موافق للنظر لأنه في النقص جبر فينبغي أن يكون من أصل الصلاة وفي الزيادة ترغيم للشيطان فيكون خارجها. وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة ، وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وقفها كانت علة فيعم الحكم جميع محالها فلا تخصص إلا بنص.
وتعقب بأن كون السجود في الزيادة ترغيماً للشيطان فقط ممنوع بل هو جبر أيضاً لما وقع من الخلل ، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص في المعنى ، وإنما سمي النبي صلى الله عليه وسلم سجود السهو ترغيماً للشيطان في حالة الشك كما في حديث أبي سعيد عند مسلم ، وقال الخطابي لم يرجح من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح. وأيضاً فقصة(2/407)
وقال أحمدُ: ما رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في سَجْدَتَيْ السّهوِ فيسْتَعْملُ كلّ على جهتِه ، يرى إذا قامَ في الركْعَتَيْنِ على حديثِ ابن بُحَيْنَة فإنهُ يسجدُهُما قبلَ السلامِ ، وإذا صلّى الظهرَ خمساً فإنّهُ يسجدُهُما بعدَ السلامِ وإذا سلّم في الركْعَتَيْنِ من الظهرِ والعصرِ فإنّهُ يسجدُهما بعدَ السلامِ ، وكلّ يستعملُ على جهتِهِ وكُلّ سَهْوٍ ليسَ فيه عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكرٌ فإن سجدتَيْ السهوِ قبلَ السّلامِ.
ـــــــ
ذي اليدين وقع السجود فيها بعد السلام وهي عن نقصان كذا في فتح الباري "وقال أحمد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيستعمل" على البناء للمفعول "كل" أي كل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم "على جهته" أي على جهة ما روى "يرى إذا قام في الركعتين على حديث ابن بحينة فإنه يسجدها قبل السلام" هذا تفصيل لقوله فيستعمل كل على جهته ويرى بمعنى يعتقد أن يرى الإمام أحمد أنه إذا قام الرجل في الرباعية أو الثلاثية في الركعتين سهواً ولم يجلس فإنه يسجد سجدتي السهو قبل السلام كما في حديث عبد الله بن بحينة "وإذا صلى الظهر خمساً فإنه يسجدهما بعد السلام كما في حديث عبد الله بن مسعود الاَتي وإذا سلم في الركعتين من الظهر والعصر فإنه يسجدهما بعد السلام" كما في حديث ذي اليدين والمواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمسة أحدها قام من ثنتين على ما جاء في حديث ابن بحينة ، والثاني سلم في ثنتين كما جاء في حديث ذي اليدين والثالث سلم من ثلاث كما جاء في حديث عمران بن حصين ، والرابع أنه صلى خمساً كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود ، والخامس السجود على الشك كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري ، كذا ذكره العيني في شرح البخاري.
قلت: هذا إذا كانت واقعة حديث ذي اليدين غير واقعة حديث عمران بن حصين ، وأما إذا كانتا واحدة فالمواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة "وكل سهو ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فإن سجدتي السهو فيه قبل السلام" هذا آخر قول الإمام أحمد، وحاصل قوله أنه يستعمل كل حديث فيما ورد فيه وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام ، وقال لولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لرأيته كله(2/408)
وقال إسحاقُ نحوَ قولِ أحمدَ في هذا كله إلا أنه قال: كُلّ سهوٍ ليس فيهِ عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكرٌ فإن كانت زيادةً في الصّلاةِ يسجدُهُما بعدَ السّلامِ وإن كانَ نقصانا يسْجُدُهُما قبلَ السّلامِ
ـــــــ
قبل السلام لأنه من شأن الصلاة فيفعله قبل السلام كذا في فتح الباري "وقال إسحاق نحو قول أحمد في هذا كله إلا أنه قال: كل سهو ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر إلخ" حرر إسحاق مذهبه من قولي أحمد ومالك. قال الحافظ: وهو أعدل المذاهب فيما يظهر انتهى. وقال الشوكاني في النيل بعد ذكر ثمانية أقوال في هذه المسألة ما لفظه: وأحسن ما يقال في المقام أنه يعمل على ماتقتضيه أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم من السجود قبل السلام وبعده ، فما كان من أسباب السجود مقيداً بقبل السلام سجد له قبله ، وما كان مقيداً ببعد السلام سجد له بعده ، وما لم يرده تقييده بأحدهما كان مخيراً بين السجود قبل السلام وبعده من غير فرق بين الزيادة والنقص ، لما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين. وجميع أسباب السجود لا تكون إلا زيادة أو نقصاً أو مجموعهما ، قال: وهذا ينبغي أن يعد مذهباً تاسعاً انتهى كلام الشوكاني قلت: هذا هو أحسن الأقوال عندي والله تعالى أعلم.(2/409)
باب: ما جاء فى سجدتى السهو بعد السلام و الكلام
...
285ـ باب ما جَاءَ في سجْدتَيْ السّهْوِ بعْدَ السّلامِ والكَلام
390ـ حدثنا إسحاقُ بنُ منصورٍ أخبرنا عبْدُ الرحمنِ بنُ مهدي حدثنا شعبةُ عنَ الحَكَم عن إبراهيمَ عن علْقمَةَ عن عَبْدِ الله بنِ مسعودٍ : "أن النبيّ صلى الله
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في سجْدتَيْ السّهْوِ بعْدَ السّلامِ والكَلام"
قوله: "عن الحكم" بفتحتين هو ابن عتيبة الفقيه الكوفي "عن إبراهيم" هو ابن يزيد النخعي.(2/409)
عليه وسلم صلّى الظهر خمساً فقيلَ له: أزيدَ في الصّلاةِ؟ فسجدَ سجدتَينِ بعدَ مَا سَلَم".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
391ـ حدثنا هنادٌ ومحمودُ بنُ غَيْلاَنَ قالا: حدثنا أبو معاوِيَة عن الأعمشِ عن إبراهيمَ عن علقمَةَ عن عَبْدِ الله: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سجَدَ سجْدتَي السهوِ بعدَ الكلامِ".
وفي الباب عن مُعاويةَ وعَبْدِ الله بنِ جعفرٍ وأبي هريرةَ.
ـــــــ
قوله: "صلى الظهر خمساً" أي خمس ركعات "أزيد في الصلاة" بهمزة الاستفهام للاستخبار "فسجد سجدتين بعد ما سلم" أي فسجد سجدتين للسهو بعد السلام الصلاة ، وفي رواية للبخاري فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً فسجد سجدتين بعد ما سلم. وفي رواية لمسلم: فلما انفتل توشوش القوم فقال ما شأنكم؟ قالوا يا رسول الله هل زيد في الصلاة ؟ قال: لا ، قالوا: فإنك قد صليت خمساً ، فانفتل فسجد سجدتين والحديث ظاهر فيما ترجم به الترمذي ، واستدل به على أن من صلى خمساً ساهياً ولم يجلس في الرابعة أن صلاته لا تفسد خلافاً للكوفيين ، وقولهم يحمل على أنه قعد في الرابعة يحتاج إلى دليل بل السياق يرشد إلى خلافه وعلى أن الزيادة في الصلاة على سبيل السهو لا تبطلها وعلى أن من لم يعلم بسهوه إلا بعد السلام للسهو ، وعلى أن الكلام العمد فيها يصلح به الصلاة لا يفسد كذا في فتح الباري.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد الكلام" كذا رواه الأعمش عن إبراهيم هذا الحديث مختصراً ، وأخرجه مسلم وغيره أيضاً هكذا مختصراً من هذا الطريق ولفظ مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام.
قوله: "وفي الباب عن معاوية وعبد الله بن جعفر وأبي هريرة" أما حديث معاوية(2/410)
392ـ حدثنا أحمدُ بن منيعٍ حدثنا هُشَيْمٌ عن هشامِ بنِ حسان عن محمدِ بنِ سيرينَ عن أبي هريرةَ " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سجَدَهُما بعدَ السلامِ ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ. وقد رواه أيوب وغير واحدٍ عن بنِ سيرينَ.
وحديثُ ابنِ مسعودٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ والعملُ عَلَى هذا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ قالوا: إذا صلّى الرجل الظهرَ خمساً فصَلاتُه جائزةٌ وسجدَ سجْدتَيْ السهوِ ، وإن لم يجلسْ في الرابعةِ ، وهوَ قولُ الشافعيّ وأحمدَ وإسحاقَ.
وقال بعضُهم: إذا صلّى الظهرَ خمساً ولم يقعدْ في الرابعةِ مقدارَ التشهّدِ فَسَدتْ صلاتُه وهو قولُ سفيانَ الثوري وبعضِ أهلِ الكوفةِ
ـــــــ
وهو ابن خديج فأخرجه أبو داود وابن خزيمة وغيرهما كذا في فتح الباري. وأما حديث عبد الله بن جعفر فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وفي إسناده مصعب بن شيبة وهو مختلف فيه. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان.
قوله: "وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق" ونسبه النووي إلى الجمهور حيث قال فيه أي في حديث عبد الله بن مسعود: دليل لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور من السلف والخلف أن من زاد في صلاته ركعة ناسياً لم تبطل صلاته بل إن علم بعد السلام فقد مضت صلاته صحيحة ويسجد للسهود إن ذكر بعد السلام بقريب ، وإن طال فالأصح عندنا أنه لا يسجد. قال: وقال أبو حنيفة وأهل الكوفة رضي الله عنه: إذا زاد ركعة ساهياً بطلت صلاته ولزمه إعادتها. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إن كان تشهد في الرابعة ثم زاد خامسة ، أضاف إليها سادسة شفعاً وكان نفلاً بناء على أصله في أن السلام ليس بواجب ويخرج من الصلاة بكل ما ينافيها ، وأن الركعة المفردة لا تكون صلاة قال: وإن لم يتشهد بطلت صلاته ، لأن الجلوس بقدر التشهد واجب ولم يأت به حتى أتى بالخامسة وهذا الحديث أي حديث عبد الله بن مسعود يرد كل ما قالوه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم(2/411)
ـــــــ
لم يرجع من الخامسة ولم يشفعها وإنما تذكر بعد السلام ، ففيه رد عليهم وحجة الجمهور انتهى كلام النووي.
قوله: "وهو قول سفيان الثوري وبعض أهل الكوفة" وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وحديث الباب حجة عليهم(2/412)
286ـ باب ما جَاءَ في التشَهّدِ في سَجْدَتَيْ السهو
393ـ حدثنا محمدُ بنُ يحيى ، حدثنا محمدُ بنُ عبدِ الله الأنصارِيّ قال أخبرني أشْعثُ عن ابنِ سيرينَ عن خالدٍ الحذاءِ عن أبي قِلاَبةَ عن أبي المهلّبِ عن عِمْرَانَ بن حصينٍ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بهِم فَسَهَا فسجدَ سجْدَتَيْنِ ثم تشهدَ ثم سلمَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ غريبٌ صحيح .
ـــــــ
"باب ما جَاءَ في التشَهّدِ في سَجْدَتَيْ السهو"
قوله: "أخبرني أشعث" هو أشعث بن عبد الملك ثقة فقيه "عن ابن سيرين" هو محمد بن سيرين البصري ثقة ثبت عابد كبير القدر كان لا يرى الرواية بالمعنى.
قوله: "فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم" فيه دليل لمن قال بالتشهد بعد سجدتي السهو وهم الحنفية وغيرهم.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وسكت عنه أبو داود وذكر المنذري تحسين الترمذي وأقره: قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث ، وقول الترمذي حسن غريب ما لفظه: وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما ووهموا أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ(2/412)
ورَوَى بنُ سيرينَ عن أبي المهلّبِ وهو عمّ أبي قِلاَبَةَ غَيْرَ هذا الحديث.
ورَوَى محمدٌ هذا الحديثَ عن خالد الحذاءِ عن أبي قِلاَبةَ عن أبي المَهلّبِ. وأبو المَهلّبِ اسمُه عبدُ الرحمنِ بنُ عمروٍ ويقالُ أيضاً معاويةُ بنُ عمرٍو.
وقد رَوَى عبدُ الوهابِ الثّقفيّ وهُشْيمٌ وغيرُ واحدٍ هذا الحديثَ عن خالدٍ الحذّاءِ عن أبي قِلابةَ بطولِهِ ، وهو حديثُ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ : أنّ
ـــــــ
عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد: وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضاً في هذه القصة: قلت لابن سيرين فالتشهد؟ قال: لم أسمع في التشهد شيئاً ، وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد كما أخرجه مسلم فصارت زيادة أشعث شاذة: ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت ، لكن قد ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عن أبي داود والنسائي وعن المغيرة عند البيهقي وفي إسنادهما ضعف ، فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها يرتقى إلى درجة الحسن ، قال العلائي: وليس ذلك ببعيد ، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله: أخرجه ابن أبي شيبة انتهى.
قوله: "وروى ابن سيرين عن أبي المهلب وهو عم أبي قلابة غير هذا الحديث" يعني أن ابن سيرين روى غير هذا الحديث المذكور في الباب عن أبي المهلب من غير واسطة خالد الحذاء: وأما حديث الباب فرواه بواسطة خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب "وروى محمد" أي ابن سيرين "هذا الحديث" أي المذكور "عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب" قال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث ، ذكره الحافظ في الفتح وقال: هو من رواية الأكابر عن الأصاغر انتهى.
قلت: محمد بن سيرين من الطبقة الثالثة وخالد الحذاء من الطبقة الخامسة ولذلك قال الحافظ هو من رواية الأصاغر "وهو حديث عمران بن حصين" أخرجه مسلم ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر وسلم في ثلاث ركعات ثم دخل منزله فقام(2/413)
النبيّ صلى الله عليه وسلم سَلّمَ في ثلاثِ ركعاتٍ من العصرِ فقامَ رجلٌ يقالُ له الخرباق.
واختَلفَ أهلُ العلمِ في التَشهّدِ في سَجدتَيْ السهوِ فقال بعضُهم: يَتَشَهدُ فيهما ويُسلّمُ ، وقال بعضُهم: ليسَ فيهِما تشهّدٌ وتسليمٌ وإذا سجدَهُما قبلَ التّسليم لم يتَشهدْ. وهو قولُ أحمدَ وإسحاقَ قالا: إذا سجدَ سجدتَيْ السهوِ قبلَ السَلامِ لم يتشهدْ.
ـــــــ
إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول فقال يا رسول الله فذكر له صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى إنتهى إلى الناس فقال: أصدق هذا؟ قالوا نعم ، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم.
قوله: "واختلف أهل العلم في التشهد في سجدتي السهو" أي إذا سجدهما بعد السلام من الصلاة أما قبل السلام فالجمهور على أنه لا يعيد التشهد. وحكى ابن عبد البر عن الليث أنه يعيده، وعن البويطي عن الشافعي مثله ، وخطؤه في هذا النقل فإنه لا يعرف ، وعن عطاء يتخير ، واختلف فيه عند المالكية: وأما من سجد بعد السلام فحكى الترمذي عن أحمد وإسحاق أنه يتشهد، وهو قول بعض المالكية والشافعية ونقله أبو حامد الاسفرائني عن القديم ، لكن وقع في مختصر المزني سمعت الشافعي يقول: إذا سجد بعد السلام تشهد أو قبل السلام أجزأه التشهد الأول ، وتأول بعضهم هذا النص على أنه تفريع على القول القديم وفيه ما لا يخفي كذا في فتح الباري "فقال بعضهم يتشهد فيهما ويسلم" لحديث الباب "وقال بعضهم ليس فيها تشهد وتسليم" أما عدم التشهد فلعدم ذكره في الأحاديث الصحيحة وأما عدم التسليم فليس له وجه فقد ثبت في حديث عمران بن حصين عند مسلم وغيره التسليم في سجدتي السهو ، ففيه: فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم ، قال الشوكاني: فيه دليل على مشروعية التسليم في سجود السهو ، وقد نقل بعض المتأخرين عن النووي أن الشافعية لا يثبتون التسليم ، وهو خلاف المشهور عن الشافعية والمعروف في كتبهم وخلاف ما صرح به النووي في شرح مسلم فإنه قال: والصحيح في مذهبنا أنه يسلم ولا يتشهد إنتهى.(2/414)
287ـ باب ما جاء في الرجل يصلي فَيَشُكّ في الزيادةِ والنّقْصان
394ـ حدثنا أحمدُ بنُ مَنيعِ ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بنُ إِبْرَاهِيمَ ، حدثنا هِشامٌ الدّسَتَوَائِيّ عن يحيى بنِ أبي كثيرٍ عن عِياض بن هِلالٍ قال: قلتُ لأبي سعيدٍ: أحدُنَا يصلّي فلا يدرِي كيفَ صلّى فقال: "قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلّى أحدُكمُ فلم يَدرِ كيفَ صلّى فليسْجُدْ سجدَتَينِ وهو جَالسٌ".
وفي الباب عن عثمانَ وابنِ مسعودٍ وعائشةَ وأبي هريرةَ.
ـــــــ
"باب في من يشك بالزيادة والنقصان"
قوله: "إذا صلى أحدكم فلم يدر كم صلى فليسجد سجدتين" أي فليطرح الشك فليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل التسليم كما في رواية مسلم غيره فأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم" الحديث.
قوله: "وفي الباب عن عثمان وابن مسعود وعائشة وأبي هريرة" أما حديث عثمان فأخرجه أحمد وفيه من صلى فلم يرد أشفع أم أوتر فليسجد سجدتين فإنهما إتمام صلاته. قال العراقي: ورجاله ثقات ، إلا أن يزيد بن أبي كبشة لم يسمع من عثمان وقد رواه أحمد أيضاً عن يزيد بن أبي كبشة عن مروان عن عثمان: وأما حديث ابن مسعود فأخرجه الجماعة إلا الترمذي عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود: قال صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم زاد أو نقص فلما سلم قيل له يا رسول الله الله حدث في الصلاة شيء الحديث. وفيه(2/415)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي سعيدٍ حديثٌ حسَنٌ.
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن أبي سعيدٍ من غير هذا الوجْهِ.
رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: "إذا شكّ أحدُكُم في الواحدةِ والثنتَيْنِ فليجْعَلْهما واحدةً وإذا شكّ في الثّنْتَيْنِ والثّلاَثِ فليجعلهما ثنتين يسجدْ في ذلك سجدَتَيْنِ قبل أنْ يسلّم".
والعملُ عَلَى هذا عندَ أصحابِنا.
ـــــــ
وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ليسلّم ثم ليسجد سجدتين "قبل أن يسلم" وفي لفظه ابن ماجه ومسلم في رواية فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب: وأما حديث عائشة فأخرجه الطبراني في الأوسط. كذا في النيل وأخرجه أبو يعلى في مسنده والبيهقي على ما قال الشيخ سراج أحمد السرهندي في شرحه: وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود وابن ماجه بلفظ: إن الشيطان يدخل بين ابن آدم وبين نفسه فلا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم وهو لبقية الجماعة إلا قوله قبل أن يسلم.
قوله: "حديث أبي سعيد حديث حسن" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود: قال ابن المنذر: حديث أبي سعيد أصح حديث في الباب "وقد روى هذا الحديث عن أبي سعيد من غير هذا الوجه" رواه مسلم في صحيحه بإسناد غير إسناد الترمذي.
قوله: "وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا شك أحدكم في الواحدة والثنيتين فليجعلهما واحدة إلخ" أخرجه أحمد وابن ماجه عن عبد الرحمن بن عوف وأخرجه المصنف أيضاً في هذا الباب وهو حديث معلول كما ستعرف.
قوله: "والعمل على هذا عند أصحابنا" أي العمل عند أصحابنا على ما يدل عليه حديث: إذا شك أحدكم في الواحدة والثنتين إلخ من البناء على الأقل: قال النووي في شرح مسلم: ذهب الشافعي والجمهور إلى أنه إذا شك: هل صلى ثلاثاً أم أربعاً مثلاً لزمه البناء على اليقين وهو الأقل فيأتي عمله بما بقي ويسجد للسهو. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد: فليطرح الشك ليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين(2/416)
وقال بعضُ أهلِ العلمِ إذا شكّ في صلاتِهِ فلم يَدرِ كَم صلّى فليُعِدْ.
ـــــــ
قبل أن يسلم الخ: وهذا صرح في وجوب البناء على اليقين ، وحملوا التحري في حديث ابن مسعود على الأخذ باليقين، قالوا: والتحري هو القصد ومنه قول الله تعالى، {تَحَرَّوْا رَشَداً} فمعنى الحديث فليقصد الصواب فليعمل به، وقصد الصواب هو ما بينه في حديث أبي سعيد وغيره إنتهى.
قوله: "وقال بعض أهل العلم إذا شك في صلاته فلم يدر كم صلى فليعد" واستدلوا على ذلك بما أخرجه الطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل سها في صلاته ، فلم يدر كم صلى فقال: ليعد صلاته وليسجد سجدتين قاعداً ، وهو من رواية إسحاق بن يحيى بن عبادة بن الصامت: قال العراقي لم يسمع إسحاق من جده عبادة إنتهى ، فلا ينتهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة المصرحة بوجوب البناء على الأقل.
واحتجوا أيضاً بما أخرجه الطبراني عن ميمونة بنت سعد أنها قالت: أفتنا يا رسول الله في رجل سها في صلاته فلا يدري كم صلى ، قال: ينصرف ثم يقوم في صلاته حتى يعلم كم صلى فإنما ذلك الوسواس يعرض فيسهيه عن صلاته ، وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي الجزري مختلف فيه ، وهو كبقية في الشاميين يروى عن المجاهيل وفي إسناده أيضاً عبد الحميد بن يزيد وهو مجهول كما في العراقي كذا في النيل.
ومذهب الحنفية في هذا الباب أنه إن شك أول مرة أنه كم صلى استأنف وإن كثر تحرى وأخذ ما غلب على ظنه وإن لم يغلب أخذ الأقل.
ووجه الإختلاف في هذه المسألة أنه ورد في هذا الباب أحاديث مختلفة ، فبعضها يدل على أن من شك ولم يدر أنه كم صلى فإنه يبني على ما استيقن ، وفي بعضها يبني على الأقل ، وبعضها يدل على أنه يتحرى الصواب ، وبعضها يدل على أنه يعيد الصلاة. فالحنفية حملوا ما يدل على الإعادة على من عرض له الشك أول مرة وما يدل على أنه يتحرى الصواب على ما إذا كثر الشك ، وما يدل على أنه يبني على الأقل على ما لم يتبين له شيء بعد التحري ، ومن قال بالإعادة أخذ بالأحاديث التي تدل على الإعادة ، وقد عرفت أنها لا تصلح للاحتجاج لضعفها: والجمهور أخذوا بالأحاديث التي تدل على البناء(2/417)
395ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا الليثُ عن ابنِ شهابٍ عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الشيطانَ يأتي أحدَكُم في صلاتِه فَيَلْبسُ عليه حتى لا يدرِي كم صلى فإذا وجد ذلك أحدُكُم فليسجد سجدَتَينِ وهو جالسٌ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
396 ـ حدثنا محمدُ بن بشارٍ حدثنا محمدُ بنُ خالدٍ بنِ عَثْمَةَ حدثنا
ـــــــ
على ما استيقن وحملوا التحري في حديث ابن مسعود على الأخذ باليقين كما مر في كلام النووي ، وأقوى المذاهب هو مذهب الجمهور ، قال الشوكاني في النيل: والذي يلوح لي أنه لا معارضة بين أحاديث البناء على الأقل والبناء على اليقين وتحري الصواب ، وذلك لأن التحري في اللغة هو طلب ما هو أحرى إلى الصواب ، وقد أمر به صلى الله عليه وسلم وأمر بالبناء على اليقين والبناء على الأقل عند عروض الشك ، فإن أمكن الخروج بالتحري عن ثائرة الشك لغة ولا يكون إلا بالاستيقان بأنه قد فعل من الصلاة كذا ركعات فلا شك أنه مقدم على البناء على الأقل لأن الشارع قد شرط في جواز البناء على الأقل عدم الدارية كما في حديث عبد الرحمن بن عوف ، وهذا التحري قد حصلت له الدارية وأمر الشاك بالبناء على ما استيقن كما في حديث أبي سعيد ، ومن بلغ به تحريه إلى اليقين قد بنى على ما استيقن ، وبهذا تعلم أنه لا معارضة بين هذه الأحاديث ، وأن التحري المذكور مقدم على البناء على الأقل وقد أوقع الناس ظن التعارض بين هذه الأحاديث في مضائق ليس عليها أثارة من علم كالفرق بين المبتدأ والمبتلي والركن والركعة انتهى كلام الشوكاني.
قوله "فيلبس عليه" بفتح الياء المضارعة وكسر الموحدة أي يخلط عليه ويشوش خاطره قال في النهاية لبست الأمر بالفتح ألبسه إذا خلطت بعضه ببعض ، ومنه قوله تعالى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} وربما شدد للتكثير "فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين" زاد في رواية أبي داود وابن ماجه قبل أن يسلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "أخبرنا محمد بن خالد بن عثمة" بفتح العين المهملة وسكون المثلثة يقال إنها أمه وهو بصري صدوق يخطئ من العاشرة.(2/418)
إِبْرَاهِيمُ بنُ سعدٍ قال: حدثني محمدُ بن إسحاقَ عن مكحولٍ عن كُرَيْبٍ عن ابن عباسٍ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ عوفٍ قال: سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إذا سها أحدُكم في صلاتِه فلم يدر واحدةً صلّى أو ثنتَيْنِ فليَبْنِ على واحدةٍ ، فإنْ لم يدرِ ثِنْتَيْنِ صلّى أو ثلاثاً فليَبنِ على ثِنْتَيْنِ ، فإن لم يدْر ثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاثٍ وليَسْجدُ سجْدَتَيْنِ قبلَ أنْ يسلّمَ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ عوفٍ مِن غيرِ هذا الوجهِ. رواه الزهريّ عن عبيدِ الله بن عبدِ الله بن عتْبَةَ عن ابن عباسٍ عن عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
قوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة إلخ" قال أبو الطيب المدني في شرح الترمذي: هذا الحديث مفصل للاجمال الوارد في الأحاديث السابقة فعليه التعويل ويجب إرجاع الإجمال إليه. والحق أنه لا تفصيل في الشك من كونه أول ما سها وثانياً لأن الحديث مطلق وهو أرفق بالناس والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل رحمه ورأفة لهم انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" قال الحافظ في التلخيص: الحديث معلول لأنه من رواية ابن إسحاق عن مكحول عن كريب عن ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف وقد رواه أحمد في المسند عن ابن علية عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلاً ، قال ابن إسحاق: فلقيت حسين بن عبد الله فقال لي هل أسنده لك؟ قلت: لا فقال لكنه حدثني أن كريباً حدثه به وحسين ضعيف جداً انتهى.
قوله: "وقد روي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عوف من غير هذا الوجه ، رواه الزهري عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف إلخ" قال الحافظ في التلخيص: ورواه إسحاق بن راهويه والهيثم بن كليب في مسنديهما من(2/419)
ـــــــ
طريق الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس مختصراً: إذا كان أحدكم في شك من النقصان في صلاته فليصل حتى يكون في شك من الزيادة ، وفي إسنادهما إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف انتهى.(2/420)
288ـ باب ما جاء في الرجُل يُسلّمُ في الركْعَتَينِ من الظهْرِ والعصْر
397ـ حدثنا الأنصاريّ حدثنا عن معنٌ حدثتا مالك عن أيوبَ بنِ أبي تَمِيمَةَ السختيانِيّ عن محمدِ بنِ سيرينَ عن أبي هريرةَ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ من اثْنَتَيْنِ فقال له ذو اليديْنِ: أَقُصِرَتْ الصلاةُ أمْ نسيتَ يَا رَسولَ الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أصدَق ذو اليديْنِ؟ فقال الناسُ: نعم ، فقامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فصلّى اثْنَتَيْنِ أخرَيَيْنِ ثم سلّمَ ثم كبرَ فسجدَ مثلَ سجودهِ أو أطوَلَ ثم كبّر فرفعَ ثم سجد مثل سجودهِ أو أطولَ".
ـــــــ
"باب ما جاء في الرجُل يُسلّمُ في الركْعَتَينِ من الظهْرِ والعصْر"
قوله: "حدثنا الأنصاري" هو إسحاق بن موسى الأنصاري "انصرف من اثنتين" أي ركعتين اثنتين من الصلاة الرباعية وكان إحدى صلاتي العشى على ما جاء في لفظ البخاي: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ، قال ابن سيرين سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا وفي رواية أيوب عن محمد: أكبر ظني أنها الظهر ، وكذا ذكره البخاري في الأدب ، وفي الموطأ: العصر قاله العيني ، قلت: قد وقع في شرحه المطبوع وكانت إحدى صلاتي العشاء وهو وهم ، والصواب العشى لا العشاء "فقال له ذو اليدين" ، قال الحافظ: ذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق بكسر المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة وآخره قاف اعتماداً على ما وقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم ولفظه: فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول ، وهذا صنيع من يوجد(2/420)
ـــــــ
حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد ، والحامل لهم على ذلك الإختلاف الواقع في السياقين ، ففي حديث أبي هريرة أن السلام وقع من انثنتين وأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في المسجد. وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة ، فأما الأول فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة واستبعده ولكن طريق الجمع يكتفي فيها بأدنى مناسبة وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك واستفهم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن صحة قوله. وأما الثاني فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهلة الخشبة ظن دخل منزله لكون الخشبة كانت في جهة منزله فإن كان كذلك ، وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة ، ولموافقة ذي اليدين نفسه له على سياقه كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وأبي بكر بن حثمة وغيرهم ، وقد تقدم في باب تشبيك الأصابع ما يدل على أن محمد بن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة كان يرى التوحيد بينهما ، وذلك أنه قال في آخر حديث أبي هريرة: نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم انتهى كلام الحافظ.
"أقصرت الصلاة" بهمزة الاستفهام وقصرت بضم القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول أي أن الله قصرها وبفتح ثم ضم على البناء للفاعل أي صارت قصيرة قال النووي هذا أكثر وأرجح "أم نسيت يا رسول الله" حصر في الأمرين لأن السبب إما من الله وهو القصر أو من النبي صلى الله عليه وسلم وهو النسيان "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق ذو اليدين" الهمزة للاستفهام أي أصدق في النقص الذي هو سبب السؤال المأخوذ من مفهوم الاستفهام "فقال الناس نعم" أي صدق "فصلى اثنتين" أي ركعتين "أخريين" بضم الهمزة وسكون الخاء المعجمة ومثناة مفتوحة وأخرى ساكنة تحتيتين " ثم كبر فسجد " أي للسهو "مثل سجوده" السابق في صلاته "أو أطول من سجوده السابق" "ثم كبر فرفع" أي رأسه "ثم سجد" أي مرة ثانية "مثل سجوده أو أطول" فسجد للسهو سجدتين بعد السلام ، وفي رواية للبخاري من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين فقيل صليت ركعتين فصلى ركعتين ثم سلم(2/421)
وفي الباب عن عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ وابنِ عمر ، و ذي اليَدَيْنِ.
قال أبو عيسى: وحديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ثم سجد سجدتين. والحديث دليل لمن قال إن من يسلم في الركعتين من الظهر والعصر ناسياً يصلي ركعتين أخريين ثم يسلم ثم يسجد سجدتين للسهو ولا حاجة إلى إعادة الصلاة.
قوله: "وفي الباب عن عمران بن حصين وابن عمر وذي اليدين" أما حديث عمران بن حصين فأخرجه الجماعة إلا البخاري والترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم في ثلاثة ركعات ثم دخل منزله ، وفي لفظ فدخل الحجرة فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول فقال يا رسول الله فذكر له صنيعه فخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال أصدق هذا؟ قالوا: نعم ، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم. وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو داود عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم في الركعتين فذكر نحو حديث ابن سيرين عن أبي هريرة قال: ثم سلم سجدتي السهو سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه ابن ماجه بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سها فسلم في الركعتين فقال هل رجل يقال له ذو اليدين: يا رسول الله أقصرت أم نسيت؟ قال: ما قصرت ما نسيت ، قال إذا فصليت ركعتين قال أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا نعم ، فتقدم فصلى ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو وأما حديث ذي اليدين فأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند ص والبيهقي وفي الباب أيضاً عن ابن عباس عند البزارفي مسنده والطبراني ، وعن عبد الله بن مسعدة عند الطبراني في الأوسط ، وعن معاوية بن خديج عند أبي داود والنسائي وعن أبي العريان عند الطبراني في الكبير ، قال ابن عبد البر في التمهيد: وقد قيل إن أبا العريان المذكور هو أبو هريرة: وقال النووي في الخلاصة: إن ذا اليدين يكنى بالعريان. قال العراقي: كلا القولين غير صحيح وأبو العريان صحابي آخر لا يعرف اسمه ذكره الطبراني فيهم في الكنى وكذلك أورده أبو موسى المديني في ذيله على ابن مندة في الصحابة.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان وغيرهما قال في(2/422)
واختلفَ أهلُ العلمِ في هذا الحديثِ. فقالَ بعضُ أهلِ الكوفَة: إذا تكلّمَ في الصّلاةِ ناسياً أو جاهلاً أو ما كانَ ، فإنُه يُعِيدُ الصّلاَةَ والمثلّوا بأنّ هذا الحديث كان قبلَ تحريمِ الكلامِ في الصّلاةِ.
ـــــــ
التلخيص: لهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ وقد جمع جميع طرقه الحافظ صلاح الدين العلائي وتكلم عليه كلاماً شافياً انتهى.
قوله: "واختلف أهل العلم في هذا الحديث فقال بعض أهل الكوفة: إذا تكلم في الصلاة ناسياً أو جاهلاً أو ما كان فإنه يعيد الصلاة ، واعتلوا بأن هذا الحديث كان قبل التحريم الكلام في الصلاة" قال صاحب آثار السنن ما محصله: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان حاضراً في حادثة ذي اليدين فقد وقع في رواية الشيخين وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه إلخ ، فحضوره في تلك الحادثة يدل على أنها كانت حين كان الكلام مباحاً في الصلاة لأن عمر بن الخطاب قد حدث به تلك الحادثة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته ، وفعل فيها بخلاف ما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذي اليدين. أخرج الطحاوي في معاني الآثار بإسناده عن عطاء قال: صفلى عمر بن الخطاب بأصحابه فسلم في الركعتين ثم انصرف فقيل له في ذلك فقال: إني جهزت عيرا من العراق بأحمالها وأقتابها حتى وردت المدينة فصلى بهم أربع ركعات قاله: هذا مرسل جيد.
قلت: ليس هذا مرسلاً جيداً بل هو من أضعف المراسيل. قال الحافظ الذهبي في الميزان في ترجمة عطاء: قال أحمد: ليس في المرسل أضعف من مرسل الحسن والعطاء يأخذان عن كل أحد انتهى. فمرسل عطاء هذا لا يصح للأستدلال على أن قصة ذي اليدين كانت حين كان الكلام مباحاً ، على أنه يحتمل أن عمر رضي الله عنه كان إذ ذاك قد ذهل عن قصة ذي اليدين كما كان قد ذهل عن قصة التميم ولم يتذكر بتذكير عمار مع أنه حضر معه تلك القصة: وأيضاً يحتمل أن عمر رضي الله عنه كان يرى أن من حدث به هذه الحادثة فله أن يستأنف الصلاة وله أن يبني ولم ير ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم واجباً فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. ثم الظاهر أن عمر ، إنما أعاد الصلاة لأنه تكلم بعد الإنصراف من الركعتين بكلام لم يكن مثل كلام النبي صلى الله عليه(2/423)
ـــــــ
وسلم في قصة ذي اليدين حيث قال: إني جهزت عيرا من العراق بأحمالها وأقتابها حتى وردت المدينة فتفكر.
قال النيموي: أحاديث أبي هريرة من مراسيل الصحابة فإنه لم يحضر قصة ذي اليدين لأن ذا اليدين قتل ببدر وكان إسلام أبي هريرة بعده عام خيبر سنة سبع من الهجرة.
قلت: القول بأن أبا هريرة لم يحضر قصته ذي اليدين باطل قطعاً فإنه قد ثبت حضوره قصة ذي اليدين بأحاديث صحيحة صريحة ، ففي رواية الشيخين وغيرهما: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية لمسلم وغيره: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية لمسلم وأحمد وغيرهما: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الاستدلال على عدم حضور أبي هريرة قصة ذي اليدين بأن ذا اليدين قتل ببدر وكان إسلام أبي هريرة بعده ففاسد ، فإن المقتول ببدر هو ذو الشمالين لا ذو اليدين: قال الحافظ بن عبد البر في الاستذكار: وهو "أي ذو اليدين" غير ذي الشماين المقتول ببدر بدليل ما في حديث أبي هريرة ومن ذكرها معه من حضورهم تلك الصلاة ممن كان إسلامه بعد بدر وقول أبي هريرة في حديث ذي اليدين: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بنا ، وبينا نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، محفوظ من نقل الحافظ: وأما قول ابن شهاب الزهري إنه ذو الشمالين فلم يتابع عليه أحد ، وحمله الزهري على أنه المقتول يوم بدر وغلط فيه والغلط لا يسلم منه أحد إنتهى.
وقال صاحب التعليق الممجد: قال بعضهم: إن أبا هريرة لم يحضرها وإنما رواها مرسلاً بدليل أن ذا الشمالين قتل يوم بدر وهو صاحب القصة ورده بأن رواية مسلم وغيره صريحة في حضور أبي هريرة تلك القصة والمقتول ببدر هو ذو الشمالين وصاحب القصة هو ذو اليدين وهو غيره انتهى.
وقال الحافظ بن حجر في فتح الباري: قوله صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في أنا أبا هريرة حضر القصة وحمله الطحاوي على المجاز فقال إن المراد به صلى بالمسلمين ، ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطحاوي ما رواه أحمد ومسلم وغيرهما من طريق يحيى بن كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
وقال البيهقي في المعرفة بأن هذا ترك الظاهر على أنه رواه يحيى بن كثير عن أبي(2/424)
ـــــــ
سلمة عن أبي هريرة قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجز في هذا القول معناه صلى بالمسلمين إنتهى.
قلت: رواية مسلم وأحمد بلفظ: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نص صريح في حضور أبي هريرة قصة ذي اليدين، وليس عند من ادعى عدم حضوره عن هذه القصة الرواية الصحيحة الصريحة جواب شاف وقد اعترف به صاحب البحر من الحنفية وقد اعترف به صاحب العرف الشذي أيضاً حيث قال: ولكن الطحاوي لم يجب عما في طريق في مسلم عن أبي هريرة بينا أنا أصلي إلخ. وقال صاحب البحر: لم أجد جواباً شافياً عن هذه: وقال ابن عابدين ما قال وتعجب من عدم جواب البحر أقول إن ابن عابدين غفل عما في مسلم فإن الرواية ههنا أنا أصلي رواها مسلم ص214 وأما أنا فلم أجد شافياً أيضاً إنتهى كلام صاحب العرف الشذي بلفظه.
تنبيه: إعلم أن الحنفية لما عجزوا عن جواب رواية مسلم بلفظ: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترف بعضهم بعدم وجدان الجواب الشافي عنها وسعى بعضهم في إثبات الوهم فيها من الراوي ، فقال صاحب العرف الشذي بعد قوله: وأما أنا فلم أجد جواباً شافياً أيضاً ما لفظه: إلا أن يحكم بأنه وهم الراوي ، فإنه لما رأى بينا نحن نصلي زعم كون أبي هريرة في الواقعة ، وأما وجه الوهم فلعله وهم من شيبان فإنه اختلط عليه حديثان فإنه روى حديث معاوية بن الحكم السلمي كما في مسلم ص حديث العطاس وفيه: بينا أنا أصلي إذ عطس رجل وأخذ هذا اللفظ من هذا الحديث ووضعه بسبب الإختلاط في حديث ذي اليدين عن أبي هريرة في مسلم ص214 إنتهى كلامه.
قلت: قوله: "فإنه روى حديث معاوية بن الحكم السلمي كما في مسلم" حديث العطاس وهم صريح فإن شيبان لم يرو حديث معاوية بن الحكم السلمي حديث العطاس فإن سنده في مسلم ص213 هكذا حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح وأبو بكر بن أبي شيبة وتقاربا في لفظ الحديث قالا أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم عن حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمون عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل الخ فقوله "وأخذ هذا اللفظ من هذا الحديث إلخ" بناء الباطل على الباطل.(2/425)
ـــــــ
والعجب من صاحب العرف الشذي كيف ارتكب الأمر القبيح لإثبات وهم الراوي في رواية مسلم الصحيحة.
تنبيه آخر: قال النيموي: قوله: بينما أنا أصلي ليس بمحفوظ ولعل بعض رواة الحديث فهم من قول أبي هريرة صلى بنا أنه كان حاضرا فروى هذا الحديث بالمعنى على ما زعمه وقد أخرجه مسلم من خمس طرق فلفظه في طريقين: صلى بنا ، وفي طريق: صلى لنا وفي طريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين ، وفي طريق: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفرد به يحيى بن أبي كثير وخالفه غير واحد من أصحاب أبي سلمة وأبي هريرة ، فكيف يقبل أن أبا هريرة قال في هذا الخبر: بينما أنا أصلي إنتهى.
قلت: يحيى بن أبي كثير ثقة ثبت متقن: قال الحافظ في مقدمة الفتح: أحد الأئمة الثقات الأثبات: قال شعبة حديثه أحسن من حديث الزهري: وقال في تهذيب التهذيب: وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه يحيى من أثبت الناس إنما يعد مع الزهري ويحيى بن سعيد وإذا خالفه الزهري فالقول قول يحيى انتهى. فكيف لا يقبل ما تفرد به مثل هذا الثقة الثبت الذي هو من أثبت الناس وإذا خالفه الزهري فالقول قوله ، فقول النيموي قوله بينما أنا أصلي غير محفوظ مردود عليه.
والحاصل أن رواية مسلم وأحمد بلفظ: بينما أنا أصلي صحيحة محفوظة وهي نص صريح في شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين وليس لمن أنكر ذلك جواب شاف عن هذه الرواية.
واعلم أن الحنفية قد استدلوا على عدم شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين بثلاثة وجوه ذكرها النيموي في آثار السنن وكلها مخدوشة واهية فلنا أن نذكرها ههنا مع بيان ما فيها من الخدشة.
فقال النيموي واستدل على ذلك بثلاثة وجوه: أحدها: أن ابن عمر نص بأن إسلام أبي هريرة كان بعد ما قتل ذو اليدين. أخرجه الطحاوي في معاني الآثار فذكر بإسناده عن عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر أنه ذكر له حديث ذي اليدين فقال: كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين انتهى.(2/426)
ـــــــ
قلت: هذه الرواية ضعيفة منكرة مخالفة لروايات الصحيحين وغيرهما تفرد بها عبد الله العمري وهو ضعيف قال الحافظ في التقريب: ضعيف عابد ، وقال في تهذيب التهذيب: قال الترمذي في العلل الكبير عن البخاري ذاهب لا أروي عنه شيئاً وقال البخاري في التاريخ: كان يحيى بن سعيد يضعفه انتهى. وقال الذهبي في الميزان: صدوق في حفظه شيء. وقال ابن المديني عبد الله ضعيف: وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الأخبار وجودة الحفظ للاَثار ، فلما فحش استحق الترك انتهى. فالاستدلال بهذه الرواية الضعيفة المنكرة على عدم شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين ليس بشيء.
قال النيموي في تصحيح هذه الرواية الضعيفة المنكرة ما لفظه: رجاله كلهم ثقات إلا العمري فاختلف فيه. قواه غير واحد من الأئمة وضعفه النسائي وابن حبان وغيرها من المتشددين، وتبعهم الحافظ في التقريب وقال ضعيف وأعرض عن أعدل ما وصف به خلافاً لما وعده في ديباجته وأحسن شيء ما قاله الذهبي في الميزان صدوق في حفظه شيء انتهى.
قلت: لو سلم أن أحسن شيء هو ما قاله الذهبي فلا شك أن العمري في حفظه شيء وحديثه هذا مخالف لأحاديث الصحيحين التي تدل على شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين فهو منكر غير مقبول.
وليعلم أن النيموي جعل ابن حبان ههنا من المتشددين فإنه ضعف العمري وجعله في بحث القراءة خلف الإمام من المتساهلين ، فإنه وثق نافع بن محمود أحد رواة حديث القراءة خلف الإمام حيث قال: وأما ابن حبان فهو من المتساهلين انتهى.
ثم ليعلم أن من عادة النيموي أنه إذا اختلف أقول أئمة الحديث في راو ويكون القول الذي ذكره الحافظ في التقريب مفيداً له يذكره ثم يقول هذا أعدل الأقوال فيه لما وعد الحافظ في ديباجة التقريب من أنه يحكم على كل راو بأعدل ما وصف به ، وأما إذا لا يكون قوله مفيداً له فيذكره ثم يقول أعرض الحافظ عن أعدل ما وصف به خلافاً لما وعد في ديباجته ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ثم ذكر النيموي الوجه الثاني من(2/427)
ـــــــ
الوجوه الثلاثة فقال: وثانيهما أن ذا اليدين هو ذو الشمالين ، واستدل على ذلك بوجوه منها ما رواه الزهري في حديث أبي هريرة ذا الشمالين مكان ذا اليدين أخرجه النسائي وغيره. ومنها ما رواه البزار والطبراني في الكبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثم سلم فقال له ذو الشمالين: أنقصت الصلاة يا رسول الله؟ قال كذلك يا ذا اليدين؟ قال نعم ، فركع ركعة وسجد سجدتين. ثم ذكر النيموي أقوال بعض أهل العلم كابن سعد وغيره ثم قال: فثبت بهذه الأقوال أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد: وقد اتفق أهل الحديث والسير أن ذا الشمالين استشهد ببدر انتهى كلام النيموي.
قلت:استشهاد ذي الشمالين ببدر مسلم، وأما أن ذا اليدين هو ذو اليدين هو ذو الشمالين الذي قتل ببدر فهو غير مسلم، بل الحق والصواب أن ذا اليدين غير ذي الشمالين. قال الحافظ بن حجر في الفتح: وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين ، ونص على ذلك الشافعي في اختلاف الحديث انتهى. وقال الحافظ بعد ورقة: وقد تقدم أن الصواب التفرقة بين ذي اليدين وذي الشمالين انتهى وأما رواية الزهري بلفظ ذي الشمالين مكان ذي اليدين وكذا بعض الروايات الأخرى التي وقع فيها لفظ ذي الشمالين مكان ذي اليدين فهي مخالفة لعامة الروايات الصحيحة فلا اعتداد بها.
قال البيهقي في المعرفة:وهم الزهري في قوله ذو الشمالين وإنما هو ذو اليدين، وذو الشمالين تقدم موته في من قتل ببدر ، وذو اليدين بقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقال انتهى. وقال في موضع آخر: وذو الشمالين استشهد يوم بدر هكذا ذكره عروة بن الزبير وسائر أهل العلم بالمغازي انتهى وقال إن أبا هريرة شهد قصة ذي اليدين في الصلاة وحضرها كما ورد في الصحيحين عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي لفظ بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشى. قال: وقد أجمعوا على أن إسلام أبي هريرة كان عام خيبر سنة سبع بعد بدر بخمس سنين انتهى. وقال السهيلي في الروض الأنف روى الزهري حديث التسليم من الركعتين وقال فيه: فقام ذو الشمالين رجل من بني زهرة لم يروه أحد هكذا ، إلا الزهري وهو غلط عند أهل الحديث وإنما هو ذو اليدين السلمي واسمه خرباق ، وذو الشمالين قتل ببدر والحديث شهده أبو هريرة وكان إسلامه بعد بدر بسنين ومات ذو اليدين السلمي في(2/428)
وأما الشافعيّ فَرأى هذا حديثاً صحيحاً فقال به ، وقال: هذا أصحّ من الحديثِ الذي رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّائِمِ إذا أكلَ ناسياً فإنه لا يقضِي وإنّما هو رزقٌ رزقهُ الله: قال الشافعيّ وفرقُوا "هؤلاء" بين العمدِ والنسيانِ في أكلِ الصائمِ بحديثِ أبي هريرةَ.
وقال أحمدُ في حديثِ أبي هريرةَ: إنْ تكلمَ الإمامُ في شيءٍ من صلاتِهِ وهو يَرى أنه قد أكملهَا ثمّ عَلِمَ أنه لم يكملْهَا يتمّ صلاتَه ، ومن تكلَمَ خلف الإمام وهو يعلَمُ أن عليهِ بقيةً من الصلاةِ فعليهِ أن يستقبِلهَا. واحتج بأن الفرائضَ كانتْ تُزادُ وتنقصُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فإنما تكلّمَ ذُو اليدينِ وهو على يقينٍ من صلاتِه أنها تمت ، وليس هكذا اليومَ ليسَ لأحدٍ أن يتكلّم عَلَى معنَى ما تكلّم ذُو اليديْنِ لأن الفرائِضَ اليومَ لا يُزَادُ فيها ولا يُنقصُ. قال أحمدُ نحواً من هذا الكلامِ وقال إسحقُ نحوَ قولِ أحمدَ ، في هذا الباب.
ـــــــ
خلافة معاوية انتهى ، كذا نقل الزيلعي ، وقول البيهقي والسهيلي في نصب الراية ونقل عن خلاصة النووي ما لفظه: وذو اليدين اسمه خرباق وكنيته أبو العريان ، وعاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما ذو الشمالين فهو عمير بن عمرو الخزاعي قتل يوم بدر شهيداً وهو غير المتكلم في حديث السهو ، هذا قول جميع الحفاظ إلا الزهري ، وقد اتفقوا على تغليط الزهري في ذلك انتهى. وقد بسطنا الكلام في هذا الباب في كتابنا أبكار المنن فعليك أن تطالعه.(2/429)
289ـ باب ما جاءَ في الصّلاةِ في النّعال
398ـ حدثنا علي بن حُجْر ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بن إِبْرَاهِيمَ عن سعيدِ بنِ يزيدَ أبي مسلمَة قال: قلتُ لأنس بن مالكٍ "أكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلّي في نعليه؟ قال: نعم".
ـــــــ
"باب ما جاء في الصلاة في النعال"
بكسر النون جمع نعل وهي معروفة.
قوله: "عن سعيد بن يزيد أبي سلمة الأزدي ثم الطالحي البصري القصير ثقة روى عن أنس وأبي نضرة والحسن البصري وغيرهم وعنه شعبة وابن علية وغيرهما" .
قوله: "يصلي في نعليه" قال ابن بطال هو محمول على ما إذا لم يكن فيهما نجاسة ، ثم هي من الرخص كما قال ابن دقيق العيد لا من المستحبات لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة ، وهو وإن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسته الأرض التي تكثر فيها النجاسات قد تقصر عن هذه الرتبة ، وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين ومراعاة إزالة النجاسة قدمت الثانية لأنها من باب دفع المفاسد والأخرى من باب جلب المصالح ، قال: إلا أن يرد دليل بالحاقه بما يتجمل به فيرجع إليه ويترك هذا النظر انتهى. قال الحافظ ابن حجر قد روى أبو داود والحاكم من حديث شداد ابن أوس مرفوعاً: خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم ، فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة. قال وورد في كون الصلاة في النعال من الزينة المأمور بأخذها في الاَية حديث ضعيف جداً وردها ابن عدي في الكامل وابن مردويه في تفسيره والعقيلي من حديث أنس انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن أبي حبيبة وعبد الله بن عمرو وعمرو بن حريث وشداد بن أوس وأوس الثقفي وأبي هريرة وعطاء رجل(2/430)
وفي الباب عن عبدِ الله بن مسعودٍ وعَبْدِ الله بنِ أبي حَبيبَةَ وعَبْدِ الله بن عَمْرٍو وعَمْرو بن حريثٍ وشدّادِ ابن أوسٍ وأوسٍ الثّقَفِيّ وأبي هريرةَ ، وعطاء رجلٍ من بَنِي شيبة.
قال أبو عيسى: حديثُ أنسٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ.
ـــــــ
من بني شيبة" أما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه ابن ماجه وله حديث آخر عند الطبراني في إسناده علي بن عاصم تكلم فيه ، وله حديث ثالث عند البزار وفي إسناده أبو حمزة الأعور وهو غير محتج به. وأما حديث عبد الله بن أبي حبيبة فأخرجه أحمد والبزار والطبراني. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود وابن ماجه. وأما حديث عمرو بن حريث فأخرجه المؤلف في الشمائل والنسائي. وأما حديث شداد بن أوس فأخرجه أبو داود وابن حبان في صحيحه وتقدم لفظه قال الشوكاني: لا مطعن في إسناده ، وأما حديث أوس الثقفي فأخرجه ابن ماجه. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود وله حديث آخر عند أحمد والبيهقي. وأما حديث عطاء فأخرجه ابن مندة في معرفة الصحابة والطبراني وابن نافع.
قوله: "حديث أنس حديث حسن صحيح" أخرجه البخاري ومسلم والعمل على هذا عند أهل العلم يعني يجوزون الصلاة في النعال إذا كانت طاهرة سواء كانت النعال جديدة أولاً سواء كانت الصلاة في المسجد أو في غيره: وقد استدل الطحاوي في شرح الآثار بجواز دخول المسجد بالنعال ويجوز الصلاة فيها على جواز المشي بها بين القبور حيث قال: قد جاءت الآثار متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قد ذكرنا عنه من صلاته في نعليه ومن إباحته الناس في النعال ثم ذكر أحاديث الصلاة في النعال ثم قال: فلما كان دخول المساجد بالنعال غير مكروه وكانت الصلاة بها أيضاً غير مكروهة كان المشي بها بين القبور أحرى أن لا يكون مكروهاً. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد انتهى مختصر(2/431)
290ـ باب مَا جَاءَ فِي الْقُنوتِ فِي صَلاَةِ الْفَجْر
399ـ حدثنا قُتَيْبَةُ و محمد بن المثنّى قالا: حدثنا "غندر" محمدُ بنُ جعفرٍ عن شعبةَ
ـــــــ
"باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر"
قال الحازمي في كتاب الإعتبار: اتفق أهل العلم على ترك القنوت من غير سبب في أربع صلوات وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال: واختلف الناس في القنوت في صلاة الصبح فذهب أكثر الناس من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من علماء الأمصار على إثبات القنوت فيها ، قال: فممن روينا ذلك عنه من الصحابة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ومن الصحابة عمار بن ياسر وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عباس وأبو هريرة والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو حليمة معاذ بن الحارث الأنصاري وخفاف بن إيماء بن رحضة وأهبان بن صيفي وسهل بن سعد الساعدي وعرفجة بن شريح الأشجعي ومعاوية بن أبي سفيان وعائشة الصديقة، ومن المخضرمين أبو رجاء العطاردي وسويد بن غفلة وأبو عثمان النهدي وأبو رافع الصائغ ، ومن التابعين سعيد بن المسيب والحسن بن الحسن ومحمد بن سيرين وأبان بن عثمان وقتادة وطاووس وعبيد بن عمير والربيع بن خيثم وأيوب السختياني وعبيدة السلماني وعروة بن الزبير وزياد بن عثمان وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعمر بن عبد العزيز وحميد الطويل ومن الأئمة والفقهاء أبو إسحاق وأبو بكر بن محمد والحكم بن عتيبة وحماد ومالك بن أنس وأهل الحجاز والأوزاعي وأكثر أهل الشام والشافعي وأصحابه ، وعن الثوري روايتان وغير هؤلاء خلق كثير.
وخالفهم في ذلك نفر من أهل العلم ومنعوا من شرعية القنوت في الصبح ، وزعم نفر منهم أنه كان مشروعاً ثم نسخ انتهى كلام الحازمي.(2/432)
عنْ عمرِو بن مُرّةَ عنْ عبد الرحمن بن أبي لَيلَى عنْ البراءِ بنِ عازِبٍ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقنُتُ في صَلاةِ الصبْحِ والمغربِ".
ـــــــ
قوله: "كان يقنت في صلاة الصبح والمغرب" قال الحافظ ابن حجر وغيره: أي في أول الأمر انتهى. قال الشوكاني في النيل: واحتج بهذا الحديث من أثبت القنوت في الصبح، ويجاب بأنه لا نزاع في وقع القنوت في الصبح ، ويجاب بأنه لا نزاع في وقوع القنوت منه صلى الله عليه وسلم إنما النزاع في استمرار مشروعيته: فإن قالوا لفظ: كان يفعل يدل على استمرار المشروعية ، قلنا: إن النووي قد حكى عن جمهور المحققين أنها لا تدل على ذلك سلمنا فغاية مجرد الاستمرار وهو لا ينافي الترك آخراً كما صرحت به الأدلة الأخرى على أن هذا الحديث فيه: أنه كان يفعل ذلك في الفجر والمغرب: فما هو جوابكم عن المغرب ، فهو جوابنا عن الفجر وأيضاً في حديث أبي هريرة المتفق عليه: أنه كان يقنت في الركعة الاَخرة من صلاة الظهر والعشاء الاَخرة وصلاة الصبح. فما هو جوابكم عن مدلول لفظ كان ههنا فهو جوابنا ، قالوا: أخرج الدارقطني وعبد الرزاق وأبو نعيم وأحمد والبيهقي والحاكم وصححه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على قاتلي أصحابه ببئر معونة ثم ترك ، فأما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارقنا الدنيا. وأول الحديث في الصحيحين ، ولو صح هذا لكان قاطعاً للبراع ولكنه من طريق أبي جعفر الرازي قال فيه عبد الله بن أحمد: ليس بالقوي: وقال علي بن المديني: يخلط ، وقال أبو زرعة: يهم كثيراً ، وقال عمرو بن علي الفارسي: صدوق سيء الحفظ ، وقال ابن معين: ثقة لكنه يخطيء ، وقال الدوري: ثقة لكنه يغلط وحكى الساجي أنه قال: صدوق ليس بالمتقن ، وقد وثقه غير واحد ، ولحديثه هذا شاهد ولكن في إسناده عمرو بن عبيد وليس بحجة. قال الحافظ: ويعكر على هذا مارواه الخطيب من طريق قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان: قلنا لأنس إن قوماً يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت فيها الفجر ، قال: كذبوا إنما قنت شهراً واحداً يدعو على حي من أحياء المشركين ، وقيس وإن كان ضعيفاً لكنه لم يتهم بكذب. وروى ابن خزيمة في صحيحه من طريق سعيد عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم فاختلفت الأحاديث عن أنس واضطربت فلا يقوم إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم فاختلفت الأحاديث عن أنس واضطربت فلا يقوم لمثل هذا حجة انتهى.(2/433)
وفي الباب عن علي وأنسٍ وأبي هُرَيْرةَ وابنِ عبّاس وخُفافِ بن أيْماء بنِ رَحَضَةَ الغفارِيّ.
قال أبو عيسى: حديثُ البراءِ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
واخْتلفَ أهلُ العلمِ في القنوتِ في صلاةِ الفجرِ، فرأى بعضُ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم القنوتَ في صلاةِ الفجرِ.
وهُوَ قوْلُ "مالك و" الشافعيّ ، وقالَ أحمدُ ، وإسحاقُ: لا يَقْنُتُ في الفجرِ إلا عندَ نازِلةٍ تَنْزلُ بالمسلمينَ ، فإذَا نزلَتْ نازلةٌ فللإمامِ أنْ يَدْعُوَ لجُيوشِ المسلمين.
ـــــــ
إذا تقرر لك هذا علمت أن الحق ما ذهب إليه من قال إن القنوت مختص بالنوازل وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به صلاة دون صلاة: وقد ورد ما يدل على هذا الاختصاص من حديث أنس عند ابن خزيمة وقد تقدم، ومن حديث أبي هريرة عند ابن حبان بلفظ: كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد ، وأصله في البخاري انتهى كلام الشوكاني.
قوله: "وفي الباب عن علي وأنس وأبي هريرة وابن عباس وخفاف" بضم الخاء المعجمة وفاءين "ابن إيماء" بكسر الهمزة ومثناة من تحت ممدود مصروف وفيه أيضاً فتح الهمزة مع القصر "بن رحضة" بفتح الراء والحاء المهملة والضاد المعجمة له ولأبيه صحبة كذا في قوت الغتذي. أماحديث علي فلينظر من أخرجه. وأما حديث أنس فأخرجه البخاري بلفظ قال: كان القنوط في المغرب والفجر وله أحاديث أخرى في القنوت في الصحيحين وغيرهما. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الشيخان بلفظ: لأقربن بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الاَخرة من صلاة الظهر والعشاء الاَخرة وصلاة الصبح بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده فيدعو للمؤمنين يلعن الكفار. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو داود بلفظ: قنت رسول الله(2/434)
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كلا صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الاَخرة يدعو على حي من بني سليم على رعل وذكوان وعصية ويؤمن من خلفه. وأما حديث خفاف فأخرجه مسلم.
قوله: "فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم القنوت في صلاة الفجر وهو قول الشافعي" وحكاه الحازمي عن أكثر الناس من الصحابة والتابعين كما تقدم: وقال النووي في شرح المهذب: القنوت في الصبح مذهبنا وبه قال أكثر السلف ومن بعدهم وقد عرفت متمسكاتهم وما فيها.(2/435)
باب: فى ترك القنوت
...
291ـ باب ما جاء في تركِ القنوت
400ـ حدثنا أحمدُ بنِ منيعٍ أخبرنا يزيدُ بن هارونَ عنْ أبي مَالكٍ الأشجعِيّ قال: "قلتُ لأبي: يا أبَت إنّكَ قدْ صلّيْتَ خَلفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليّ بن أبي طالبٍ "ها هُنا" بالكوفةِ ، نحواً مِنْ خَمْسِ سنينَ ، أكانوا يَقْنُتُون ؟ قال: أيْ بُنيّ محْدَثٌ".
ـــــــ
"باب ما جاء في تركِ القنوت"
قوله: "عن أبي مالك الأشجعي" اسمه سعد بن طارق بن أشيم على وزن الأحمر قال أي أبو مالك الأشجعي "قلت لأبي" أي طارق بن أشيم بن مسعود الأشجعي ، قال مسلم: لم يرو عنه غير ابنه "وأبي بكر وعمر وعثمان" أي بالمدينة "وعلي بن أبي طالب ههنا بالكوفة" أي صليت خلف علي ههنا بالكوفة فهما ظرفان متعلقان بصليت خلف على المحذوف. كذا في شرح أبي الطيب المدني "نحواً من خمس سنين" هذا أيضاً متعلق بصليت خلف على المحذوف "أكانوا يقنتون" وفي رواية ابن ماجه: أكانوا(2/435)
401 ـ حدثنا صالحُ بنُ عَبْدِ الله حدثنا أبو عَوَانَةَ عن أبي مالكٍ الأشجَعيّ بهذا الإسنادِ نحَوهُ بمعناهُ.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ عليهِ عندَ أكثر أهلِ العلمِ.
وقال سفيانُ الثورِيّ إنْ قَنَتَ في الفجر فحسنٌ ، وإنْ لم يقنُتْ فحسنٌ واختارَ أنْ لا يَقْنُت. ولَمْ يَرَ ابنُ المبَاركِ القنُوتَ في الفجرِ.
قال أبو عيسى: و أبو مالكٍ الأشجعيّ إسمُهُ سعْدُ بنُ طَارقِ بنِ أشْيَم
ـــــــ
يقنتون في الفجر "أي بنى محدث" وفي رواية النسائي: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقنت، وصليت، خلف أبي بكر فلم يقنت ، وصليت خلف عمر. فلم يقنت ، وصليت خلف عثمان فلم يقنت ، وصليت خلف علي فلم يقنت ، ثم قال يا بني إنها بدعة. والحديث يدل على عدم مشروعية القنوت ، وقد ذهب إلى ذلك أكثر أهل العلم كما حكاه المصنف: واختلف النافون لمشروعيته هل يشرع في النوازل أم لا ، وقد تقدم أن القول الراجح هو أن القنوت مختص بالنوازل وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به صلاة دون صلاة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وابن ماجه. قال الحافظ في التلخيص: إسناده حسن. وفي الباب أحاديث أخرى مذكورة في النيل وكلها ضعاف.
قوله: "والعمل عليه عند أكثر أهل العلم إلخ" وحكاه العراقي عن أبي بكر وعمر وعلي وابن عباس وقال: قد صح عنهم القنوت: وإذا تعارض الإثبات والنفي قدم المثبت ، وحكاه عن أربعة من التابعين وعن أبي حنيفة وابن المبارك وأحمد وإسحاق "وأبو مالك الأشجعي اسمه سعد بن طارق بن أشيم" بفتح الهمزة وسكون المعجمة وفتح التحتانية الأشجعي الكوفي ثقة من الرابعة(2/436)
292ـ باب مَا جَاءَ في الرجل يعطسُ في الصّلاة
402ـ حدثنا قُتَيْبَةُ أخبرنا رِفَاعَةُ بنُ يحيى بنُ عَبْدِ الله بن رِفاعَةَ بن رافع الزّرقِيّ عن عمّ أبيهِ معاذِ بن رِفاعةَ عن أبيهِ قال: "صليتُ خَلْفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَعَطَسْتُ فقلتُ الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحبّ ربنَا ويرضى ، فلمَا صلّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم انصرفَ فقال منِ المتكلّمُ في الصلاةِ فلّم يتكلمْ أحدٌ ثم قالها الثانية من المتكلّمُ في الصّلاَةِ فلم يتكلمْ أحدٌ ثم قالها الثالثةَ من المتكلّمُ في الصلاةِ فقال رِفاعةُ بنُ رافعٍ بنُ عفراء: أنا يا رسولَ الله قال: كَيْفَ قلتَ؟ قال قلتُ الحَمْدُ لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يُحِبّ ربّنا ويرضَى فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيدِهِ لقد ابْتَدَرَهَا بِضْعَةٌ
ـــــــ
"باب ما جاء في الرجل يعطس في الصلاة"
قوله: "أخبرنا رفاعة بن يحيى بن عبد الله بن رفاعة بن رافع الزرقي" الأنصاري إمام مسجد بني زريق صدوق من الثامنة "عن عم أبيه معاذ بن رفاعة بن رافع الأنصاري الزرقي المدني صدوق من الرابعة عن أبيه" أي رفاعة بن را فع الأنصاري هو من أهل بدر مات في أول خلافه معاوية "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال السيوطي: زاد الطبراني في المغرب انتهى. وهذه الزيادة إن ثبتت ترد على التأويل الذي نقله المصنف عن بعض أهل العلم أنه في التطوع ، على أن المعتاد في الصلاة جماعة هو الفرض لا النفل "مباركاً فيه مباركاً عليه" قال الحافظ يحتمل أن يكون قوله مباركاً عليه تأكيداً هو الظاهر ، وقيل الأول بمعنى الزيادة والثاني بمعنى البقاء "كما(2/437)
وثلاثونَ ملَكاً أيّهم يَصْعَدُ بها".
وفي الباب عن أنسٍ ووائلِ بنِ حُجْرٍ وعامِر بنِ ربيعةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ رفاعةَ حديثٌ حسَنٌ وكان هذا الحديث عند بعضِ أهلِ العلمِ أنّهُ في التطوّعِ لأنّ غيرَ واحدٍ من التابعينَ قالوا: إذا عَطَسَ الرجلُ في الصلاةِ المكتوبةِ إنما يَحْمَدُ الله في نفسِهِ ، ولم يُوَسّعُوا بأكثرَ من ذلك.
ـــــــ
يحب ربنا ويرضى" فيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد "بضع وثلاثون" البضع ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى الخمس أو مابين الواحد إلى الأربعة أو من أربع إلى تسع أو سبع كذا في القاموس ، وفيه رد على من زعم أن البضع يختص بما دون العشرين "أيهم يصعد بها" أيهم مبتدأ ويصعد خبره وفي رواية البخاري أيهم يكتبها أول. والحديث استدل به على أن العاطس في الصلاة يحمد الله بغير كراهة وعلى جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور وعلى جواز رفع الصوت بالذكر ما لم يشوش على من معه قاله الحافظ.
قوله: "وفي الباب عن أنس ووائل ابن حجر وعامر بن ربيعة" أما حديث أنس فأخرجه مسلم. وأما حديث وائل بن حجر فلينظر من أخرجه. وأما حديث عامر بن ربيعة فأخرجه أبو داود.
قوله: "حديث رفاعة حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه البخاري أيضاً ولفظه عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي يوماً وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده فقال رجل من ورائه: ربنا ولك الحمد حمدا كثيراً طيباً مباركاً فيه ، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا، قال: رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يتكبها أول ، ولم يذكر العطاس ولا زاد: كما يحب ربنا ويرضى ، وزاد أن ذلك عند الرفع من الركوع فيجمع بين الروايتين بأن الرجل المبهم في رواية البخاري هو رفاعة كما في حديث الباب ،(2/438)
ـــــــ
ولا مانع أن يكني عن نفسه إما لقصد إخفاء عمله أو لنحو ذلك ، ويجمع بأن عطاسه وقع عند رفع رأسه.
قوله:"وكان هذا الحديث عند بعض أهل العلم أنه في التطوع" قال الحافظ في الفتح: وأفاد بشر بن عمر الزاهراني في روايته عن رفاعة بن يحيى أن تلك الصلاة كانت المغرب انتهى. فهذه الرواية ترد على من حمل هذا الحديث على التطوع "قالوا إذا عطس الرجل في الصلاة المكتوبة إنما يحمد الله في نفسه ولم يوسعوا بأكثر من ذلك" قال القاري في المرقاة: قال ابن الملك: يدل الحديث على جواز الحمد للعاطس في الصلاة. يعني على الصحيح المعتمد بخلاف رواية البطلان فإنها شاذة لكن الأولى أن يحمد في نفسه أو يسكت خروجاً من الخلاف على ما في شرح المنية انتهى.
قلت: لو كان سكت القاري عن قوله أو يسكت لكان خيراً له ، فإن حديث الباب يدل على جواز الحمد للعاطس بلا مرية.(2/439)
باب: فى نسخ الكلام فى الصلاة
...
293ـ باب ما جاء في نسخِ الكلامِ في الصّلاة
403ـ حدثنا أحمدُ بنُ منيع حدثنا هُشَيْمٌ أخبرنا إسماعيل بن أبي خالدٍ عن الحارث بن شبيلٍ عن أبي عمرٍو الشيبانيّ عن زيدِ بنِ أرقمَ قال: "كُنّا نتكلّمُ خلفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الصلاةِ ، يكلّم الرجلُ مِنّا صاحبَه إلى جنبِهِ حتى نزلتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأُمْرنا بالسكوتِ ونُهينا
ـــــــ
"باب ما جاء في نسخِ الكلامِ في الصّلاة"
قوله: "عن الحارث بن شبيل" بالمعجمة والموحدة مصغر العجلي أبي الطفيل ثقة من الخامسة.
قوله: "يكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه" تفسير لقوله كنا نتكلم زاد البخاري بحاجته ، قال الحافظ: والذي يظهر أنهم كانوا لا يتكلمون فيها بكل شيء وإنما(2/439)
عن الكلام. وفي الباب عن ابنِ مسعودٍ ومعاويةَ بنِ الحكَمِ.
قال أبو عيسى: حديثُ زيدِ بن أرقمَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ عليه عندَ أكثرَ أهل العلمِ قالوا: إذا تكلّمَ الرجُلُ عامداً في الصلاةِ أو ناسياً أعادَ الصلاةَ وهو قَولُ الثوريّ وابنِ المباركِ.
وقال بعضُهم: إذا تكلم عامداً في الصلاة أعادَ الصلاةَ، وإن كان ناسياً أو جاهلاً أجْزأهُ.
وبه يقولُ الشافِعيّ.
ـــــــ
يقتصرون على الحاجة من رد السلام ونحوه "حتى زلت وقوموا لله قانتين" أي ساكتين.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود ومعاوية بن الحكم" أما حديث ابن مسعود فأخرجه الشيخان بلفظ قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال إن في الصلاة لشغلاً. وأما حديث معاوية بن الحكم فأخرجه مسلم بلفظ قال: بينا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني لكن سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني ، قال إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن الحديث.
قوله: "حديث زيد بن أرقم حديث حسن صحيح" أخرجه الترمذي من وجه آخر.(2/440)
ـــــــ
قوله: "وهو قول الثوري وابن المبارك" وهو قول الحنفية "وقال بعضهم إذا تكلم عامداً في الصلاة أعاد الصلاة وإن كان ناسياً أو جاهلاً أجزأه وبه يقول الشافعي" وهو مذهب الجمهور ، قال الحافظ في الفتح: أجمعوا على أن الكلام في الصلاة من عالم بالتحريم عامداً لغير مصلحتها أو إنقاذ مسلم مبطل لها ، وأختلفوا في الساهي والجاهل فلا يبطلها القليل منه عند الجمهور وأبطلها الحنفية انتهى. وقال العيني في عمدة القاري: أجمع العلماء على أن الكلام في الصلاة عامداً عالماً بتحريمه لغير مصلحتها أو لغير والشافعي ومالك وأحمد: تبطل الصلاة ، وجوزه الأوزاعي وبعض أصحاب مالك وطائفة قليلة ، وأما الناسي فلا تبطل صلاته بالكلام عند الشافعي ، وبه قال مالك وأحمد والجمهور ، وعند أصحابنا تبطل ، وقال النووي: دليلنا حديث ذي اليدين ، وأجاب بعض أصحابنا إن حديث قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم لأن ذا اليدين قتل يوم بدر كذا روي عن الزهري ، وأن قصته في الصلاة كانت قبل بدر ، ولا يمنع من هذا كون أبي هريرة رواه وهو متأخر الإسلام عن بدر لأن الصحابي قد يروي ما لا يحضره بأن يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي أخر انتهى كلام العيني.
قلت: هذا الجواب الذي نقله العيني عن بعض أصحابه قد رده صاحب البحر الرائق حيث قال: هذا غير صحيح لما في صحيح مسلم عنه أي عن أبي هريرة: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الواقعة وهو صريح في حضوره ، فحديث أبي هريرة حجة للجمهور ، فإن كلام الناس ومن يظن أنه ليس فيها لا يفسدها ولم أر عنه جواباً شافياً انتهى.
قلت: الأمر كما قال صاحب البحر الرائق لا شك في حضور أبي هريرة في واقعة ذي اليدين ، فإنه قد ثبت ذلك بأحاديث صحيحة صريحة ، ففي رواية الشيخين: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية لمسلم وأحمد وغيرهما: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم الكلام في هذا مبسوطاً في باب ما جاء يسلم الرجل في الركعتين من الظهر والعصر فتذكر.(2/441)
294ـ باب مَا جَاء فِي الصّلاةِ عندَ التوبَة
404 ـ حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا أبو عَوانَةَ عن عثمانَ بن المغيرةِ عن عليّ بن ربيعةَ عن أسماءَ بنِ الحكمِ الفزاريّ قال: سمعتُ عليّا يقولُ: إني كنتُ رجلاً إذا سمعتُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله منه بما شاءَ أنْ ينفعَنِي به ، وإذا حدّثَنِي رجلٌ من أصحابهِ استحلفتهُ ، فإذا حلَفَ لي صدّقتهُ ، وإنه حدثنِي أبو بكرٍ ، وصدقَ أبو بكرٍ.
ـــــــ
"باب مَا جَاء فِي الصّلاةِ عندَ التوبَة"
قوله: "عن عثمان بن المغيرة" الثقفي مولاهم الكوفي الأعشى وهو عثمان بن أبي زرعة ثقة من السادسة روي عن زيد بن وهب وأبي عبد الرحمن السلمي وعلي بن ربيعة وعنه مسعر وشعبة والثوري وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي "عن علي بن ربيعة" بن نضلة الوالبي بكسر اللام وموحدة الكوفي أبي المغيرة ثقة من كبار الثلاثة "عن أسماء بن الحكم الفزاري" الكوفي عن علي فرد حديث وعنه علي بن ربيعة وثقه العجلي ذكره الخزرجي ، وقال الحافظ في التقريب: صدوق من الثالثة ، قال العراقي: ليس له في الكتاب إلا هذا الحديث ولا أعلم روى عنه إلا علي بن ربيعة ، قال البخاري: لم يرو عنه إلا هذا الحديث وحديث آخر لم يتابع عليه انتهى.
قوله: "فإذا حلف لي صدقته" ظاهره أنه كان لا يصدقه بلا حلف ، وهذا مخالف لما علم من قبول خبر الواحد العدل بلا حلف فالظاهر أن مراده بذلك زيادة التوثيق بالخبر والاطمئنان به إذا الحاصل بخبر الواحد الظن وهو مما يقبل الضعف والشدة ، ومعنى صدقته أي على وجه الكمال وإن كان القبول الموجب للعمل حاصلاً بدونه كذا في شرح أبي الطيب المدني "وصدق أبو بكر" أي علمت صدقه في ذلك على وجه(2/442)
قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجلٍ يذنبُ ذنباً ثم يقومُ فيتطَهّرُ ثم يصلّي ثم يستغفرُ الله ، إلاّ غفرَ الله له ثمّ قرأَ هذه الاَية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إلى آخر الاَية".
ـــــــ
الكلام بلا حلف وقال ابن حجر: بين بها علي رضي الله عنه جلالة أبي بكر رضي الله عنه ومبالغته في الصدق حتى سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقاً. وقال القاري في المرقاة: وفيه وجه آخر وهو أن الصديق رضي الله عنه كان ملتزماً أن لا يروى إلا إذا كان محفوظه بالمبنى دون المروي بالمعنى بخلاف أكثر الصحابة ، ولذا قلت روايته كأبي حنيفة تبعاً له في هذه الخصوصية فهذا وجه لقوله وصدق أبو بكر انتهى كلام القاري.
قلت: قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال محمد بن سعد العوفي سمعت ابن معين يقول: كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه ولا يحدث بما لا يحفظ انتهى "يقول ما من رجل" أي أو امرأة ومن زائدة لزيادة إفادة الاستغراق "يذنب ذنباً" أي ذنب كان "ثم يقوم" قال الطيبي: ثم المتراخي في الرتبة وإلا ظهر أنه للتراخي الزماني يعني ولو تأخر القيام بالتوبة عن مباشرة المعصية لأن التعقيب ليس بشرط فالإتيان بثم للرجاء ، والمعنى ثم يستيقظ من نوم الغفلة كقوله تعالى {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} "فيتطهر" أي فيتوضأ كما في رواية ابن السني "ثم يصلي" أي ركعتين كما في رواية ابن السني وابن حبان والبيهقي "ثم يستغفر الله" أي لذلك الذنب كما في رواية ابن السني ، والمراد بالاستغفار التوبة بالندامة والإقلاع والعزم على أن لا يعود إليه أبداً وأن يتدارك الحقوق إن كانت هناك وثم في الموضعين لمجرد العطف التعقبي "ثم قرأ" : أي النبي صلى الله عليه وسلم استشهاد واعتضاداً أو قرأ أبو بكر تصديقاً وتوفيقاً {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } أي ذنباً قبيحاً كالزنا {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أي بما دونه كالقبلة قال الطيبي: أي أي ذنب كنا مما يؤاخذون به انتهى ، فيكون تعميماً بعد تخصيص { ذَكَرُوا اللَّهَ} أي ذكروا عقابه قاله الطيبي "إلى آخر الاَية" تمام الاَية
{فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ(2/443)
وفي الباب عن ابنِ مسعودٍ وأبي الدرداءِ وأنسٍ وأبي أمامةَ ومعاذٍ وواثلةَ وأبي اليَسَر واسمه كعبُ بنُ عمرٍو.
قال أبو عيسى: حديثُ علي حديثٌ حسَنٌ لا نعرفهُ إلا من هذا الوجهِ من حديثِ عثمانَ بن المغيرةِ و روى عنه شعبة وغيرُ واحدٍ فرفعوه مثلَ حديثِ أبي عوانَة.
ورواهُ سفيانُ الثوريّ ومسعرٌ فأوقفاهُ ولم يرفعاه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد رُوِيَ عن مسعرٍ هذا الحديثُ مرفُوعاً أيضاً.
ـــــــ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وأبي الدرداء وأنس وأبي أمامة ومعاذ وواثلة وأبي اليسر" بفتح التحتانية والسين المهملة "اسمه كعب بن عمرو" أما حديث ابن مسعود فأخرجه الطبراني ، وأما حديث أبي الدرداء فأخرجه أيضاً الطبراني، وأما حديث أنس فأخرجه البيهقي في شعب الإيمان ، وأما حديث أبي أمامة فأخرجه الطبراني ، وأما حديث معاذ وواثلة وأبي اليسر فلم أقف عليه. وفي الباب أيضاً عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فدعا بلالاً فقال يا بلال بم سبقتني إلى الجنة إني دخلت البارحة فسمعت خشخشتك أمامي ، فقال يا رسول الله ما أذنبت قط إلا صليت ركعتين وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها وصليت ركعتين ، رواه ابن خزيمة في صحيحه ، وفي رواية ما أذنبت ، كذا في الترغيب للمنذري ، وعن الحسن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أذنب عبد ذنباً ثم توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى فيه ركعتين واستغفر الله من ذلك الذنب إلا غفره الله له ، رواه البيهقي مرسلاً. البراز بكسر الباء بعدها راء ثم ألف ثم زاي هو الأرض الفضاء كذا في الترغيب للمنذري.
قوله: "حديث على حديث حسن" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن(2/444)
ـــــــ
حبان في صحيحه والبيهقي وقالا: ثم يصلي ركعتين ، وذكره ابن خزيمة في صحيحه بغير إسناد ، وذكر فيهم الركعتين ، كذا في الترغيب للمنذري.(2/445)
295ـ باب ما جاء متى يؤمرُ الصبيّ بالصّلاة
405ـ حدثنا عليّ بنُ حجرٍ ، أخبرنا حرملةُ بنُ عبدِ العزيز بنِ الرّبيعِ بن سبرةَ الجهنيّ عن عمهِ عبد الملك بن الرّبيع بنِ سبرةَ عن أبيهِ عن جدّه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "علّموا الصّبيّ الصلاةَ ابنَ سبعِ سنينَ ، واضرِبُوهُ عليها ابنَ عشر".
ـــــــ
"باب ما جاء متى يؤمرُ الصبيّ بالصّلاة"
قوله: "أخبرنا حرملة بن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة" بفتح السين المهملة وسكون الموحدة "الجهني" أبو معبد لا بأس به ، قاله الحافظ روى عن أبيه وعنه الحميدي وثقه ابن حبان "عن عمه عبد الملك بن الربيع بن سبرة" وثقه العجلي ، قال الحافظ في التقريب ، وقال الذهبي: ضعفه ابن معين ، وقال ابن القطان: وإن أخرج له مسلم فغير محتج به انتهى "عن أبيه" الضمير يركع إلى عبد الملك وأبوه هو البيع بن سبرة وهو ثقة كما في التقريب. وقال في الخلاصة: روى عن أبيه وعنه ابنا عبد العزيز وعبد الملك وثقه النسائي والعجلي "عن جده" أي جد عبد الملك وهو سبرة ، قال في التقريب: سبرة بن معبد الجهني والد الربيع له صحبة ، وأول مشاهده الخندق ، وكان ينزل المروة ومات بها في خلافة معاوية.
قوله: "علموا الصبي الصلاة" وفي رواية أبي داود: مروا الصبي بالصلاة قال العلقي في شرح الجامع الصغير: بأن يعلموهم ما تحتاج إليه الصلاة من شروط وأركان ، وأن يأمرهم بفعلها بعد التعليم ، وأجرة التعليم في مال الصبي إن كان له مال وإلا فعلى الولي(2/445)
وفي الباب عن عبدِ الله بنِ عمرٍو.
قال أبو عيسى: حديثُ سبرةَ بنِ معبدٍ الجهنيّ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ .
وعليه العملُ عند بعضِ أهلِ العلمِ.
وبه يقولُ أحمدُ وإسحاقُ: وقالا: ما تركَ الغلامُ بعدَ العشر من الصلاةِ فإنه يُعيدُ.
"قال أبو عيسى: وسبرةُ هو ابنُ معبدٍ الجهنيّ ويقالُ هو ابن عوسجةَ" .
ـــــــ
انتهى "ابن سبع سنين" حال من الصبي وهكذا ابن عشرة وفي رواية أبي داود: إذا بلغ سبع سنين "واضربوه عليها" أي على تركها والضمير يرجع إلى الصلاة "ابن عشرة" قال العلقي: إنما أمر بالضرب لعشر لأنه حد يتحمل فيه الضرب غالباً ، والمراد بالضرب ضرباً غير مبرح وأن يتقي الوجه في الضرب انتهى.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو" أي ابن العاص ، وأخرج حديثه أبو داود مرفوعاً بلفظ: مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين وأضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري.
قوله: "حديث سبرة بن معبد الجهني حديث حسن صحيح" وأخرجه أبو داود وسكت عنه ، وذكر المنذري تصحيح الترمذي وأقره ، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
قوله: "وعليه العمل عند بعض أهل العلم وبه يقول أحمد وإسحاق وقالا: ما ترك الغلام بعد عشر من الصلاة فإنه يعيد" قال الخطابي: قوله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها ، يدل على إغلاظ العقوبة له إذا تركها مدركاً. وكان بعض فقهاء أصحاب الشافعي يحتج به في وجوب قتله إذا تركها متعمداً بعد البلوغ ، ويقول:(2/446)
ـــــــ
إذا استحق الصبي الضرب وهو غير بالغ فقد عقل أنه بعد البلوغ يستحق من العقوبة ما هو أشد من الضرب ، وليس بعد الضرب شيء مما قاله العلماء أشد من القتل.
وقد أختلف الناس في حكم تارك الصلاة فقال مالك والشافعي: يقتل تارك الصلاة ، وقال مكحول: يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، وإليه ذهب حماد بن يزيد ووكيع ابن الجراح ، وقال أبو حنيفة: لا يقتل ولكن يضرب ويحبس ، وعن الزهري أنه قال: فاسق يضرب ضرباً مبرحاً ويسجن. وقال جماعة من العلماء: تارك الصلاة حتى يخرج وقتها لغير عذر كافر ، وهذا قول إبراهيم النخعي وأيوب السختياني وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ، وقال أحمد: لا يكفر أحد بذنب إلا تارك الصلاة عمداً. واحتجوا بحديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة انتهى.(2/447)
296ـ باب ما جاءَ في الرجُلِ يُحْدِثُ بعد التشَهّد
406ـ حدثنا أحمدُ بنُ محمد بن موسى الملقب مردويه ، قال: أخبرنا ابنُ المباركِ أخبرنا عبدُ الرحمن بنُ زيادِ بن أنعم أن عبدَ الرحمَنِ بنَ رافعٍ و بكرَ بنَ سوادَةَ أخبراهُ عن
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الرجُلِ يُحْدِثُ بعد التشَهّد"
قوله: "حدثنا أحمد بن محمد" هو ابن موسى أبو العباس السمسار المروزي الملقب بمردويه كذا في قوت المغتذي ، قال الحافظ ثقة حافظ "أنبأنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم" بفتح أوله وسكون النون وضم المهملة الإفريقي قاضيها. قال الحافظ ضعيف في حفظه من السابعة "أن عبد الرحمن بن رافع" التنوخي المصري قاضي أفريقية ضعيف قاله الحافظ في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب: روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وغزية ويقال عقبة بن الحارث وعنه ابنه إبراهيم وعبد الرحمن بن زياد(2/447)
عبدِ الله بن عمرٍو ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "إذا أحدث يعني الرجُلُ وقد جلسَ في آخر صلاتِه قبل أن يسلّم فقد جازت صلاتُه".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ إسنادُه ليس بذاك القوىّ وقد اضطربُوا فِي إسنادِهِ.
ـــــــ
بن أنعم وغيرهما ، قال البخاري في حديثه مناكير ، وقال أبو حاتم شيخ مغربي حديثه منكر، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: لا يحتج بخبره إذا كان من رواية ابن أنعم وإنما وقع المناكير في حديثه من أجله انتهى "وبكر بن سوادة" بن ثمامة الجذامي المصري ثقة فقيه من الثالثة قاله الحافظ في التقريب ، وقال في تهذييب التهذيب: وقال النووي: لم يسمع من عبد الله بن عمرو بن العاص "عن عبد الله بن عمرو" بن العاص السهمي أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العباد له الفقهاء مات في ذي الحجة ليالي الحرة.
قوله: "إذا أحدث يعني الرجل" ضمير يعني يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا تفسير الضمير المستتر في أحدث من بعض الرواه. قال القاري أي عمداً عند أبي حنيفة ومطلقاً عند صاحبيه بناء على أن الخروج من الصلاة بصنعه فرض عنده خلافاً لهما انتهى.
"قلت: ليس في الحديث تقييد بالعمد ، فالظاهر ما قال صاحبا أبي حنيفة رحمه الله "وقد جلس في آخر صلاته" قال القاري أي قدر التشهد انتهى.
قلت: ليس في الحديث بيان مقدار الجلوس "قبل أن يسلم فقد جازت صلاته" أستدل به أبو حنيفة وأصحابه على أن المصلي إذا أحدث في آخر صلاته بعد ما جلس قدر التشهد فقد جازت صلاته.
وفيه أن هذا الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج.
قوله: "هذا حديث ليس إسناده بالقوي وقد اضطربوا في أسناده" قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما.
قال الدارقطني وعبد الرحمن بن زياد ضعيف لا يحتج به.(2/448)
وقد ذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى هذا ، قالوا إذا جلسَ مقدارَ التشهدِ وأحدثَ قبلَ أن يسلّمَ فقد تمتْ صلاتُه.
وقال بعضُ أهلِ العلمِ: إذا أحدثَ قبلَ أن يتشهدَ و قبلَ أن يسلّمَ أعادَ الصلاةَ وهو قولُ الشافعيّ.
وقالَ أحمدُ إذا لم يتشهدْ وسلّم أجْزَأَهُ لقولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
وقال البيهقي: وهذا الحديث إنما يعرف بعبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وقد ضعفه يحيى بن معين ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي ، قال وإن صح فإنما كان قبل أن يفرض التسليم ، ثم روى بأسناده عن عطاء بن أبي رباح قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في آخر صلاته قدر التشهد أقبل على الناس بوجهه وذلك قبل أن ينزل التسليم أنتهى.
قال القاريء في المرقاة تحت هذا الحديث: قال ابن الصلاح المضطرب هو الذي يروى على أوجه مختلفة متفاوتة ، والإضطراب قد يقع في السند أو المتن أو من راو أو من رواة والمضطرب ضعيف لإشعاره بأنه لم يضبط ذكره الطيبي.
قال القاري: لهذا الحديث طرق ذكرها الطحاوي ، وتعدد الطرق يبلغ الحديث الضعيف إلى حد الحسن انتهى كلام القاري.
قلت: فيه إن تعدد طرق الحديث إنما يبلغه إلى حد الحسن إذا كانت تلك الطرق متباينة ولم يكن مدار كلها على ضعيف لا يحتج به ، وطرق هذا الحديث التي ذكرها الطحاوي ليست متباينة بل مدار كلها على عبد الرحمن بن زياد الإفريقي.
قوله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا قالوا: إذا جلس مقدار التشهد وأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته" وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه لكن عند أبي حنيفة إذا أحدث عمداً صوتاً وعند صاحبيه مطلقاً بنا على أن الخروج من الصلاة بصنعه فرض عنده لا عندهما.
واستدلوا بحديث الباب وقد عرفت أنه لا يصلح للاستدلال "وقال بعض أهل العلم إذا أحدث قبل أن يتشهد أو قبل أن يسلم أعاد الصلاة وهو قول الشافعي" بناء على أن التشهد والسلام كليهما فرضان عنده "وقال أحمد إذا لم يتشهد وسلم أجزأه لقول النبي(2/449)
وتحليلُها التسليم و التشهدُ أهْوَنُ. قامَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم في اثْنَتَيْنِ فمضى في صلاتِه ولم يتشهدْ.
وقال إسحاقُ بن إِبْرَاهِيمَ: إذا تشهدَ ولم يسلّمْ أجزأه واحتجّ بحديثِ ابن مسعودٍ حين عَلّمَهُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم التشهدَ فقال: "إذا فرغتَ مِن هذا فقدْ قضيتَ ما عليك".
قال أبو عيسى: و عبدُ الرحمن بنُ زيادٍ هو الإفريقيّ وقد ضعفَه بعضُ أهلِ الحديثِ، منهم يحيى بنُ سعيدٍ القطانُ وأحمدُ بنُ حنبلٍ.
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم وتحليلها التسليم والتشهد أهون" أي ليس بفرض قام النبي صلى الله عليه وسلم في اثنتين فمضى في صلاته ولم يتشهد هذا دليل الأهوينة فعند الإمام أحمد التسليم فرض والتشهد ليس بفرض "وقال إسحاق بن إبراهيم إذا تشهد ولم يسلم أجزأه وأحتج بحديث ابن مسعود حين علمه النبي صلى الله عليه وسلم التشهد فقال إذا فرغت من هذا فقد قضيت ما عليك" أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني.
وقال الصحيح أن قوله إذا قضيت هذا فقد قضيت صلاتك، من كلام ابن مسعود فصله شبابة عن زهير وجعله من كلام ابن مسعود ، وقوله أشبه بالصواب ممن أدرجه، وقد اتفق من روى تشهد ابن مسعود على حذفه ، كذا في المنتقى.
وقال البيهقي في المعرفة ذهب الحافظ إلى أن هذا وهم من زهير بن معاوية.
وقال النووي في الخلاصة اتفق الحفاظ على أنها مدرجة.
وقد روى البيهقي من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود ما يخالف هذه الزيادة بلفظ مفتاح الصلاة التكبير وانقضاؤها التسليم إذا سلم الإمام فقم إن شئت.
قال وهذا الأثر صحيح عن ابن مسعود.
وقال ابن حزم قد صح عن ابن مسعود إيجاب السلام فرضاً وذكر رواية أبي الأحوص هذه عنه كذا في النيل.(2/450)
ـــــــ
وقال ابن العربي في شرح الترمذي وإنما يعني به فقد قضيت صلاتك فأخرج عنها بتحليل كما دخلتها بإحرام انتهى.(2/451)
297 ـ باب ما جاء إذا كانَ المطرُ فالصلاة في الرّحَال
407ـ حدثنا أبو حفصٍ عمرُو بن علي البصري حدثنا أبو داودَ الطيالسيّ حدثنا زهيرُ بن معاويةَ عن أبي الزبيْرِ عن جابرٍ قال: "كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأصابَنا مطرٌ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "من شاءَ فليصلّ في رحْلِهِ".
وفي الباب عن ابن عمرَ وسَمُرَةَ وأبي المليحِ عن أبيهِ وعبدِ الرحمن بن سَمُرَةَ.
ـــــــ
"باب ما جاء إذا كان المطر فالصلاة في الرحال"
قال النووي وغيره الرحال المنازل ، سواء كان من حجر أو مدر أو خشب أو شعر أو صوف أو وبر أو غير ذلك، واحده رحل.
قوله: "أخبرنا زهير بن معاوية" بن خديج بن خيثمة الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة ثقة ثبت إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بآخره "من شاء فليصل في رحله" فيه دليل على أن الصلاة في الرحال لعذر المطر ونحوه رخصة وليست بعزيمة.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وسمرة وأبي المليح عن أبيه وعبد الرحمن بن سمرة." أما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: ألا صلوا في الرحال.
وأما حديث سمرة فأخرجه أحمد من طريق الحسن عنه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين في يوم مطير: الصلاة في الرحال ، زاد البزار كراهة أن يشق علينا رحاله ثقات كذا في التلخيص.(2/451)
قال أبو عيسى حديثُ جابرٍ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقد رخّصَ أهلُ العلمِ في القعُودِ عن الجماعةِ والجمعةِ في المطَرِ والطينِ وبه يقولُ أحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
وأما حديث أبي المليح عن أبيه فأخرجه أبو داود بلفظ: أن يوم حنين كان يوم مطر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن الصلاة في الرحال قال المنذري وأبو المليح أسمه عامر بن أسامة. وقيل زيد بن أسامة ، وقيل أسامة بن عامر ، وقيل عمير بن أسامة ، هذلي بصري أتفق الشيخان على الاحتجاج بحديثه ، وأبوه له صحبة أنتهى.
وأما حديث عبد الرحمن بن سمرة فأخرجه الحاكم وعبد الله بن أحمد في زيادات السند بلفظ: إذا كان مطر وابل فصلوا في رحالكم ، وفي إسناده ناصح بن العلاء وهو منكر الحديث قاله البخاري.
وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به ووثقه أبو داود. كذا في التلخيص.
"قوله حديث جابر حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود.
قوله: "وقد رخص أهل العلم في القعود عن الجماعة والجمعة الخ" لأحاديث الباب ولحديث بن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل حي على الصلاة ، قل صلوا في بيوتكم فكأن الناس استنكروا فقال: فعله من هو خير مني ، إن الجمعة عزمة وإني كرهت أن أحرجكم فتمشون في الطين والدحض ، رواه البخاري في صحيحه وبوب عليه الرصخة إن لم يحضر الجمعة في المطر.
قال: الحافظ في الفتح: أورد المصنف يعني البخاري هنا حديث ابن عباس وهو مناسب لما ترجم له، وبه قال الجمهور ، ومنهم من فرق بين قليل المطر وكثيره ، وعن مالك لا يرخص في تركها بالمطر ، وحديث ابن عباس هذا حجة في الجواز أنتهى.
واعلم أنه وقع في حديث ابن عمر المذكور في رواية للبخاري في الليلة الباردة أو المطيرة ، وفي صحيح أبي عوانة ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح.(2/452)
قال سمعتُ أبا زُرْعَةَ يقولُ: روى عفانُ بن مسلمٍ عن عمرِو بن عَلي
ـــــــ
قال الشوكاني: وفيه أن كلا من الثلاثة عذر في التأخر عن الجماعة. ونقل ابن بطال فيه الإجماع لكن المعروف عند الشافعية أن الريح عذر في الليل فقط وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل.
وفي السنن من طريق أبي أسحاق عن نافع في هذا الحديث في الليلة المطيرة والغداة القرة وفيها بأسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه أنهم مطروا يوماً فرخص لهم ، وكذلك في حديث ابن عباس في يوم مطير قال الحافظ. ولم أر في شيء من الأحاديث الترخيص لعذر الريح في النهار صريحاً أنتهى كلام الشوكاني.
وقال الكرماني: هل يكفي المطر فقط أو الريح أو البرد في رخصة ترك الجماعة أم احتجاج إلى ضم أحد الأمرين بالمطر. فأجاب بأن كل واحد منها عذر مستقل في ترك الحضور إلى الجماعة نظراً إلى العلة وهي المشقة. انتهى كلام الكرماني.
قلت رواية أبي عوانة المذكورة نص صريح في أن لك واحد منها عذر مستقل في التأخر عن الجماعة ، فإن كلمة أو فيها للتنويع لا للشك والله تعالى أعلم.
وقال القاري في المرقاة. قال ابن الهمام عن أبي يوسف سألت أبا حنيفة عن الجماعة في طين وردغة أي وحل كثير ، فقال: لا أحب تركها ، وقال محمد في الموطأ الحديث رخصة يعني قوله عليه السلام إذا أبتلت النعال فالصلاة في الرحال أنتهى كلام القاري.
قلت: قال محمد في الموطأ بعد رواية حديث ابن عمر المذكور ما لفظه: هذا رخصة والصلاة في الجماعة أفضل انتهى.
فقول القارئ يعني قوله عليه السلام: إذا أبتلت الخ نظر ظاهر وأما الحديث بلفظ إذا أبتلت النعال فالصلاة في الرحال ، فقال الحافظ في التلخيص لم أره في كتب الحديث.
وقال الشيخ تاج الدين الفزاري في الإقليد: لم أجده في الأصول وإنما ذكره أهل العربية انتهى كلام الحافظ.
قوله: "قال سمعت أبا زرعة" أي قال أبو عيسى سمعت أبا زرعة وأبو زرعة هذا هو أبو زرعة الرازي واسمه عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ إمام حافظ ثقة(2/453)
حديثاً وقال أبو زُرْعَةَ: لم نَر بالبصرةِ أحفظَ من هؤلاء الثلاثةِ: عليّ بن المدينيّ وابنِ الشاذكونِي وعمرو بن علي وأبو المليحِ بنِ أسامةَ اسمه عامر ويقال زيدُ بن أسامةَ بنِ عميرٍ الهذليّ.
ـــــــ
مشهور وقد تقدم ترجمته في المقدمة "روى عفان بن مسلم عن عمرو بن علي حديثاً" يعني أن عفان بن مسلم من شيوخ عمرو بن علي وهو من تلاميذه ومع هذا فقد روى عفان ابن مسلم عنه حديثاً كما أن الإمام البخاري من شيوخ الترمذي وقد روى عنه حديثاً كما تقدم في المقدمة.
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة عمرو ابن علي: حدث عنه الستة والنسائي أيضاً بواسطة وعفان وهو من شيوخه وأبو زرعة الخ "وقال أبن زرعة لم أر بالبصرة أحفظ من هؤلاء الثلاثة علي بن المديني وابن الشاذكوني وعمرو بن علي" كذا وقع في نسخ جامع الترمذي وابن الشاذكوني، ووقع في تذكرة الحفاظ والشاذكوني بحذف لفظ ابن ، وعبادة تذكرة الحفاظ هكذا: قال أبو زرعة ذلك "يعني عمرو بن علي" من فرسان الحديث لم ير بالبصرة أحفظ منه ومن ابن المديني والشاذكوني. انتهى عبارة تذكرة الحافظ.
الشاذكوني هذا هو سليمان بن داود المنقري البصري أبو أيوب الحافظ ، ذكر ترجمته الذهبي في تذكرة الحفاظ والميزان ، وعمرو بن علي هذا هو أبو حفص المذكور في أسناد حديث الباب ثقة حافظ.(2/454)
298ـ باب ما جاء في التسبيحِ في أدْبارِ الصّلاة
408 ـ حدثنا إسحاقُ بن إبراهيمَ بن حبيبِ بن الشهيدِ وعليّ بن
ـــــــ
"باب ما جاء في التسبيح في أدبار الصلاة"
واحد الأدبار الدبر ، قال في القاموس: الدبر بالضم وبضمتين نقيض القبل ومن(2/454)
حُجْرٍ قالا: حدثنا عتّابُ بنُ بشيرٍ عن خُصَيْفٍ عن مجاهدٍ وعِكْرِمةَ عن ابن عباس قال: "جاء الفقراء إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسولَ الله إنّ الأغنياءَ يصلونَ كما نصلّي ويصومونَ كما نصومُ ولهم أموالٌ يُعْتِقون ويتصدقونَ قال: فإذا صلّيتُم فقولوا سبحانَ الله ثلاثاً وثلاثينَ مرةً والحمدُ لله ثلاثاً وثلاثينَ مرةً والله أكْبرُ أربعاً وثلاثينَ مرةً ولا إلهَ إلا الله عشرَ مراتٍ" ،
ـــــــ
كل شيء عقبه ومؤخره انتهى
قوله: "جاء الفقراء" وفي حديث أبو هريرة المتفق عليه أن فقراء المهاجرين أتوا "ولهم أموال يعتقون ويتصدقون" أي ونحن لا نعتق ولا نتصدق "قال فإذا صليتم" أي المكتوبة كما في حديث كعب بن عجرة ، ووقع في حديث أبي هريرة تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة.
قال الحافظ في الفتح ظاهره يشمل الفرض والنفل ، لكن حلمه أكثر العلماء على الفرض ، وقد وقع في حديث كعب بن عجرة عند مسلم التقييد بالمكتوبة وكأنهم حملوا المطلقات عليها "فقولوا سبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرة والحمد لله ثلاثاً وثلاثين مرة والله أكبر أربعاً وثلاثين مرة ولا إلَه إلا الله عشرة مرات" وفي حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعاً: من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين فتلك تسعة وتسعون وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر. وفي حديث كعب بن عجرة عند مسلم مرفوعاً: معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة ثلاث وثلاثون تسبيحة وثلاث وثلاثون تحميدة وأربع وعشرون تكبيرة. قال الحافظ في الفتح: قال النووي: ينبغي أن يجمع بين الروايتين بأن يكبر أربعاً وثلاثين ويقول معها لا إله إلا الله وحده إلى آخره وقال غيره بل يجمع بأن يختم مرة بزيادة تكبيرة ومرة بلا إله إلا الله على وفق ما وردت به الأحاديث انتهى.(2/455)
ـــــــ
قلت: وهذا هو الأولى عندي وعلى هذا فيقول مرة كما في حديث الباب والله تعالى أعلم.
واعلم أن في كل من تلك الكلمات الثلاث روايات مختلفة قال ابن حجر المكي: ورد التسبيح ثلاثاً وخمساً وعشرين وإحدى عشرة وعشرة وثلاثاً ومرة واحدة وسبعين ومائة، وورد التحميد ثلاثاً وثلاثين وخمساً وعشرين وإحدى عشرة وعشرة ومائة، وورد التهليل عشرة وخمساً وعشرين ومائة: قال الحافظ الزين العراقي: وكل ذلك حسن وما زاد فهو أحب إلى الله تعالى: وجمع البغوي بأنه يحتمل صدور ذلك في أوقات متعددة وأن يكون على سبيل التخيير أو يفترق بافتراق الأحوال.
فائدة: قال الحافظ في الفتح: قد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة كالذكر عقب الصلاة إذا رتب عليها ثواب مخصوص فزاد الاَتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة ذلك العدد. قال شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي وفيه نظر لأنه أتى بالمقدار الذي رتب الثواب على الإتيان بعد حصوله انتهى. ويمكن أن يفترق الحال فيه بالنية ، فإن نوى عند الإنتهاء إليه امتثال الأمر الوارد ثم أتى بالزيادة فالأمر كما قال شيخنا لا محالة ، وإن زاد بغير نية بأن يكون الثواب رتب على عشرة مثلاً فرتبه هو على مائة فيتجه القول الماضي. وقد بالغ القرافي في القواعد فقال: من البدع المكروهة الزيادة في المندوبات المحددة شرعاً لأن شأن العظماء إذا حدوا شيئاً أن يوقف عنده ويعد الخارج عنه مسيئاً للأدب انتهى. وقد مثله بعض العلماء بالدواء يكون مثلاً فيه أوقية سكر فلو زيد فيه أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به ، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء ثم استعمل من السكر بعد ذلك ما شاء لم يتخلف الانتفاع ، ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص مع طلب الإتيان بجميعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة خاصة تفوت بفواتها ولله أعلم انتهى كلام الحافظ.(2/456)
فإنكم تدركونَ به منَ سبقكمْ ولا يسبِقُكُم منْ بعدَكمْ".
وفي الباب عن كعبِ بنِ عجرةَ وأنس وعبدِ الله بن عمرٍو وزيدِ بن ثابتٍ وأبي الدرداءِ وابن عمرَ وأبي ذرّ.
قال أبو عيسى:حديثُ ابنِ عباسٍ حديثٌ حسَنٌ غريبٌ.
وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: "خصلتانِ لا يحصيهما رجلٌ مسلمٌ إلا دخل الجنة: يسبحُ الله في دبرِ كلّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين ويحمدهُ ثلاثاً وثلاثين ويكبرهُ أربعاً وثلاثين ويسبحُ الله عند مَنامِه عشراً ويحمدُه عشراً ويكبرهُ عشراً
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن كعب بن عجرة وأنس وعبد الله بن عمرو وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وابن عمر وأبي ذر" أما حديث كعب بن عجرة فأخرجه مسلم وتقدم لفظه. وأما حديث أنس فأخرجه الترمذي والنسائي. وأما حديث أبي الدرداء فأخرجه النسائي. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الخمسة وأما حديث أبي ذر فأخرجه ابن ماجة. وفي الباب أحاديث أخرى.
قوله: "حديث ابن عباس حديث حسن" وأخرجه النسائي "وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خصلتان لا يحصيهما رجل مسلم الخ" أخرجه الترمذي في الدعوات(2/457)
299ـ باب ما جاءَ في الصّلاةِ على الدّابةِ في الطينِ والمطر
409ـ حدثنا يحيى بن موسى حدثنا شبابة بن سوّار حدثنا عمرُ بن الرماحِ عن كثير بن زيادٍ عن عمرَ بنِ عثمانَ بن يعلَى بن مرةَ عن أبيهِ عن جدّه "أنهم كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر فانتهوْا إلى مضيق وحضرتِ الصلاةُ فمُطروا ، السماء من فوقهم والبِلةُ من أسفلَ منهم فأذّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته وأقامَ فتقدمَ على راحلتهِ فصلّى بهم يومئُ إيماء يجعلُ السجودَ أخفضَ من الركوع".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الصّلاةِ على الدّابةِ في الطينِ والمطر"
قوله: "أخبرنا عمر بن الرماح" بفتح الراء وتشديد الميم هو عمر بن ميمون ، قال في التقريب: عمر بن ميمون بن بحر بن سعد الرماح البلخي أو علي القاضي وسعد هو الرماح ثقة عمى في آخره "عن عمر بن عثمان بن يعلى بن مرة" قال الحافظ في التقريب: مستور ، وقال الخزرجي في الخلاصة: وثقه ابن حبان "عن أبيه" أي عثمان بن يعلى ، قال الحافظ في التقريب: مجهول "عن جده" أي يعلى بن مرة وهو صحابي شهد الحديبية وما بعدها.
قوله: "إلى مضيق" أي إلى موضع ضيق "فمطروا" بصيغة المجهول "السماء من فوقهم" السماء مبتدأ ، ومن فوقهم خبره ، والجملة حلا بلا واو ، والمراد من السماء ههنا المطر ، قال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قومرعيناه وإن كانوا غضابا
قال الجوهري: يقال ما زلنا نطأ في السماء حتى أتيناكم "والبلة" بكسر الموحدة وتشديد اللام أي النداوة "فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم" من التأذين ، قال(2/458)
ـــــــ
السيوطي في قوت المغتذي: استدل بهذا الحديث النووي وغيره على أنه صلى الله عليه وسلم باشر الأذان بنفسه وعلى استحباب الجمع بين الأذان والإمامة ذكره في شرح المهذب مبسوطاً وفي الروضة مختصراً ، ووردت رواية أخرى مريحة ذلك في سنن سعيد بن منصور. ومن قال إنه صلى الله عليه وسلم لم يباشر هذه العبادة بنفسه وألغز في ذلك بقوله ماسنة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها فقد غفل ، وقد بسطت المسألة في شرح الموطأ وفي حواشي الروضة انتهى كلام السيوطي في قوت المغتذي.
وقال القاري في المرقاة: جزم النووي بأنه صلى الله عليه وسلم أذن مرة في السفر واستدل له بخبر الترمذي ، ورد بأن أحمد أخرجه في مسنده من طريق الترمذي فأمر بلالا فأذن ، وبه يعلم اختصار رواية الترمذي وأن معنى أذن فيها أمر بلالاً بالأذان كبنى الأمير المدينة ، ورواه الدارقطني أيضاً بلفظ: فأمر بلالاً فأذن ، قال السهيلي: والمفصل يقضي على المجمل انتهى.
وقال الحافظ بن حجر في فتح الباري: ومما كثر السؤال عنه: هل باشر النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه وقد وقع عند السهيلي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في السفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم ، السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم ، أخرجه الترمذي من طريق تدور على عمر بن الرماح يرفعه إلى أبي هريرة اهـ. وليس هو من حديث أبي هريرة وإنما هو من حديث يعلى بن مرة. وكذا جزم النووي بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن مرة في السفر وعزاه للترمذي وقواه ولكن وجدناه في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه الترمذي ولفظه: فأمر بلالاً فأذن ، فعرف أن في رواية الترمذي اختصاراً وأن معنى قوله أذن أمر بلالاً به كما يقال أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفاً وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه آمراً به انتهى كلام الحافظ. "فصلى بهم" قال أبو الطيب المدني الحنفي في شرح الترمذي: يعني أمهم في تلك الصلاة ، والظاهر أنه كان فرضاً لأن المتبادر من صلاة الجماعة الفرض ، وكذلك يدل عليه هذا الاهتمام والأذان ، لأن النوافل لم يشرع لها الأذان فدل الحديث على جواز الفرض على الدابة عند العذر ، وبه قال علماؤنا وأهل العلم كما جزم به المصنف انتهى.(2/459)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريبٌ تفرد به عمرُ بنُ الرماحِ البلخي لا يعرفُ إلا من حديثِهِ.
وقد روى عنه غيرُ واحدٍ من أهلِ العلم وكذا رُوِيَ عن أنسِ بن مالك أنه صلى في ماء وطينٍ على دابتهِ والعملُ على هذا عند أهل العلم وبه يقول أحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث غريب إلخ" وأخرجه النسائي والدارقطني وثبت ذلك عن أنس من فعله وصححه وحسنه التوزي وضعفه البيهقي كذا في النيل "والعمل على هذا عند أهل العلم وبه يقول أحمد وإسحاق" ويجوز الفريضة عندهم على الدابة إذا لم يجد موضعاً يؤدي فيه الفريضة نازلاً ، ورواه العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي ، وقال القاضي أبو بكر بن العربي في العارضة: حديث يعلى ضعيف السند صحيح المعنى ، قال الصلاة بالإيماء على الدابة صحيحة إذا خاف من خروج الوقت ولم يقدر على النزول لضيق الموضع أو لأنه غلبه الطين والماء انتهى.(2/460)
300ـ باب ما جاءَ في الاجتهادِ في الصلاة
410ـ حدثنا قُتَيْبَةُ وبِشرُ بن معاذ العقدي قالا: حدثنا أبو عَوانة عن زياد بن علاقَةَ عن المغيرةِ بن شُعبَة قال: "صلّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
"باب ما جاء في الاجتهاد في الصلاة"
قال في القاموس: الجهد الطاقة والمشقة ، واجهد جهدك أبلغ غايتك وجهد كمنع جد كاجتهد.
"حتى انتفخت قدماه" وفي رواية للبخاري: حتى تورمت ، وفي رواية له: حتى(2/460)
حتى انتفخَتْ قدماهُ فقيلَ لهُ: أتَتَكلفُ هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدمَ من ذنبكَ وما تأخر قال: أفلا أكون عبداً شكوراً".
وفي الباب عن أبي هريرةَ وعائشة.
ـــــــ
ترم من الورم ، وللنسائي من حديث أبي هريرة: حتى تزلع قدماه بزاي وعين مهملة، وقال البخاري في صحيحه: قالت عائشة: حتى تفطر قدماه ، والفطور الشقوق. قال الحافظ في الفتح: لا اختلاف بين هذه الروايات فإنه إذا حصل الانتفاخ أو الورم حصل الزلع والتشقق انتهى "أتتكلف هذا" أي تلزم نفسك بهذه الكلفة والمشقة ، وفي رواية الشيخين: لم تصنع هذا "وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر" قال ابن حجر المكي: قد ظن من سأل عن سبب تحمله المشقة في العبادة أن سببها إما خوف الذنب أو رجاء المغفرة، فأقادهم أن لها سبباً آخر أتم وأكمل وهو الشكر على التأهل لها مع المغفرة وإجزال النعمة انتهى "أفلا أكون عبداً شكوراً" أي بنعمة الله علي بغفران ذنوبي وسائر ما أنعم الله علي. قال ابن حجر المكي في شرح الشمائل: أي أترك تلك الكلفة نظرا إلى المغفرة فلا أكون عبداً شكوراً ، لا بل ألزمها وإن غفر لي لأكون عبداً شكوراً. ، وقال الطيبي: الفاء مسبب عن محذوف أي أأترك قيامي وتهجدي لما غفر لي فلا أكون عبداً شكوراً ، يعني أن غفران الله إياي سبب لأن أقوم وأتهجد شكراً له فكيف أتركه.
قول ابن بطال: في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه ، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له فكيف بمن لم يعلم بذلك ، فضلاً عمن لم يأمن من أنه استحق النار انتهى. قال الحافظ: ومحل ذلك ما إذا لم يفض إلى الملال ، لأن حال النبي صلى الله عليه وسلم كانت أكمل الأحوال فكان لا يمل من عبادة ربه وإن أضر ذلك ببدنه ، بل صح أنه قال: وجعلت قرة عيني في الصلاة. فأما غيره صلى الله عليه وسلم فإذا خشي الملال لا ينبغي له أن يكره نفسه ، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا انتهى.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة" أما حديث أبي هريرة فأخرجه النسائي.(2/461)
قال أبو عيسى: حديثُ المغيرةِ بن شعبةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
وأما حديث عائشة فأخرجه البخاري.
قوله: "حديث المغيرة بن شعبة حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه.(2/462)
301ـ باب مَا جَاء أن أولَ ما يحاسَبُ به العَبْدُ يومَ القيامةِ الصّلاة
411ـ حدثنا عليّ بن نصر بن علي الجهضَمِيّ حدثنا سهلُ بن حمادٍ حدثنا همامٌ قال حدثَني قتادةُ عنِ الحسن عن حريثِ بن قَبيصَةَ قال: قدِمتُ المدينةَ فقلتُ اللهمّ يسر لي جليساً صالحاً قال فجلستُ إلى أبي هُريرَةَ
ـــــــ
"باب مَا جَاء أن أولَ ما يحاسَبُ به العَبْدُ يومَ القيامةِ الصّلاة"
قوله: "عن الحسن" هو الحسن البصري "عن حريث بن قبيصة" قال في التقريب: قبيصة بن حريث ويقال حريث بن قبيصة والأول أشهر الأنصاري البصري صدوق من الثالثة.
قوله: "إن أول ما يحاسب به العبد" بالرفع على نيابة الفاعل "يوم القيامة من عمله صلاته" أي المفروضة. قال العراقي في شرح الترمذي: لا تعارض بينه وبين الحديث الصحيح: إن أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء. فحديث الباب محمول على حق الله تعالى ، وحديث الصحيح محمول على حقوق الاَدميين فيما بينهم. فإن قيل: فأيهما يقدم محاسبة العباد على حق الله أو محاسبتهم على حقوقهم ، فالجواب أن هذا أمر توقيفي وظواهر الأحاديث دالة على أن الذي يقع أولاً المحاسبة على حقوق الله تعالى قبل حقوق العباد انتهى. وقيل الأول من ترك العبادات والثاني من فعل السيئات "فإن صلحت"(2/462)
فَقلت: إني سأَلتُ الله أن يرزقني جليساً صالحاً فحدثني بحديثٍ سمعتهُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لعلّ الله أن ينفعَنِي به ، فقال سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنّ أولَ ما يُحَاسَبُ به العبد يومَ القيامةِ من عملهِ صَلاتُه ، فإن صَلُحَتْ فقد أفلحَ وأنجحَ ، وإن فَسَدَتْ فقد خابَ وخسرَ ، فإن انتقصَ من فريضته شيءٌ قال الرب عز وجل: أنظروا هل لَعْبْدِيَ منْ تطوعٍ ؟ فيُكْمِلُ بها ما انتقصَ من الفريضةِ ، ثم يكونُ سائرُ عملِهِ على ذلك" . وفي الباب عن تميمٍ الداريّ.
ـــــــ
بضم اللام وفتحها ، قال ابن الملك: صلاحها بأدائها صحيحة "فقد أفلح وأنجح" الفلاح الفوز والظفر ، والإنجاح بتقديم الجيم على الحاء يقال أنجح فلان إذا أصاب مطلوبة. قال القاري في المرقاة: فقد أفلح أي فاز بمقصوده ، وأنجح أي ظفر بمطلوبه فيكون فيه تأكيد ، وفاز بمعنى خلص من العقاب ، وأنجح أي حصل له الثواب "وإن فسدت" بأن لم تؤد أو أديت غير صحيحة أو غير مقبولة "فقد خاب" بحرمان المثوبة "وخسر" بوقوع العقوبة ، وقيل معنى خاب ندم وخسر أي صار محروماً من الفوز والخلاص قبل العذاب "فإن انتقص" بمعنى نقص المتعدي "شيئاً" أي من الفرائض "هل لعبدي من تطوع" أي في صحيفته سنة أو نافلة من صلاة على ما هو ظاهر من السياق قبل الفرض أو بعده أو مطلقاً "فيكمل" بالتشديد ويخفف على بناء الفاعل أو المفعول وهو الأظهر وبالنصب ويرفع قاله القاري "بها" قال ابن الملك: أي بالتطوع وتأنيث الضمير باعتبار النافلة. وقال الطيبي: الظاهر نصب فيكمل على أنه من كلام الله تعالى جواباً للاستفهام ، ويؤيده رواية أحمد فكلموا بها فريضته ، وإنما أنث ضمير التطوع في بها نظر إلى الصلاة "ما انتقص من الفريضة" فهو متعد قال العراقي في شرح الترمذي: يحتمل أن يراد به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعة فيها من الخشوع والأذكار والأدعية وأنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة وإن لم يفعله فيها وإنما فعله في التطوع ، ويحتمل أن يراد به ما انتقص أيضاً من فروضها وشروطها ، ويحتمل أن يراد ما ترك من الفرائض رأساً فلم يصله فيعوض عنه من التطوع. والله سبحانه وتعالى يقبل من التطوعات(2/463)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسَنٌ غريبٌ منْ هذا الوجْه. وقد رُوِيَ هذا الحديثُ من غيرِ هذا الوجْهِ عَنْ أبي هُريرةَ.
وقد رَوَى بعضُ أصحابِ الحسنِ عن الحسنِ عن قَبِيصَةَ بن حريث غيرَ هذا الحديثِ. والمشهورُ هو قَبِيصةُ بنُ حُريثٍ.
ـــــــ
الصحيحة عوضاً عن الصلوات المفروضة انتهى. وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون يكمل له ما نقص من فرض الصلاة وإعدادها بفضل التطوع ، ويحتمل ما نقصه من الخشوع عندي أظهر لقوله ثم الزكاة كذلك وسائر الأعمال ، وليس في الزكاة إلا فرض أو فضل فكما يكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك الصلاة وفضل الله أوسع ووعده أنفذ وعزمه أعم انتهى "ثم يكون سائر عمله على ذلك" أي إن انتقص فريضة من سائر الأعمال تكمل من التطوع.
قوله: "وفي الباب عن تميم الداري" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه بلفظ. أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال الله تعالى لملائكته: أنظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فيكمل بها فريضة ثم الزكاة كذلك ، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن غريب إلخ" وأخرجه أبو داود ورواه أحمد عن رجل كذا في المشكاة قال ميرك: ورواه الترمذي بهذا اللفظ وابن ماجه. قال: ابن حجر: ورواه النسائي وآخرون ، ورواه أبو داود أيضاً من رواية تميم الداري معناه بإسناد صحيح: وأما خبر لا تقبل نافلة المصلى حتى يؤدي الفريضة فضعيف كذا في المرقاة.
قوله: "وقد روى بعض أصحاب الحسن عن الحسن عن قبيصة بن حريث غير هذا الحديث والمشهور هو قبيصة بن حريث" قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قبيصة بن حريث ، ويقال حريث بن قبيصة الأنصاري البصري روى عن سلمة بن المحبق وعنه الحسن البصري. قال البخاري: في حديثه نظر. وقال الترمذي: في حديث حريث(2/464)
ورُوِيَ عن أنسِ بن حكيمٍ عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوُ هذا.
ـــــــ
بن قبيصة عن أبي هريرة: رواه بعض أصحاب الحسن عنه عن قبيصة بن حريث والمشهور هو قبيصة بن حريث ، وذكر ابن حبان في الثقات وقال مات في طاعون الجارف سنة سبع وستين ومائة. قال الحافظ: وجهله ابن القطان ، وقال النسائي لا يصح حديثه ، وذكر أبو العرب التميمي أن أبا الحسن العجلي قال: قبيصة بن حريث تابعي ثقة ، وأفرط ابن حزم فقال ضعيف مطروح انتهى.
قوله: "وروى عن أنس بن حكيم" الضبي البصري مستود من الثالثة "عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا" رواه أبو داود ، عن الحسن عن أنس بن حكيم الضبي قال: خاف من زياد أو ابن زياد فأتى المدينة فلقي أبا هريرة قال فنسبني فانتسبت له فقال يا فتى ألا أحدثك حديثاً قال: قلت: بلى رحمك الله ، قال: إن أول ما يحاسب الناس الحديث.(2/465)
302ـ باب ما جاءَ فيمن صلّى في يومٍ وليلةٍ ثنتَيْ عشرةَ ركعةً من السّنِة و مالهُ من الفضْل
412ـ حدثنا محمدُ بنُ رافعٍ حدثنا إسحاقُ بن سليمانَ الرازيّ حدثنا
ـــــــ
"باب ما جاءَ فيمن صلّى في يومٍ وليلةٍ ثنتَيْ عشرةَ ركعةً من السّنِة و مالهُ من الفضْل"
قوله: " حدثنا محمد بن رافع" القشيري النيسابوري ثقة عابد من الحادية عشرة "أخبرنا إسحاق بن سليمان الرازي" أبو يحيى كوفي الأصل ثقة فاضل من التاسعة "أخبرنا المغيرة بن زياد" البجلي الموصلي وثقه وكيع وابن معين وابن عدي وغيرهم ، وقال أبو حاتم: شيخ لا يحتج به كذا في الخلاصة ، وقال في التقريب: صدوق له أوهام(2/465)
المغيرةُ بنُ زيادٍ عن عطاء عن عائشةَ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ثابرَ على ثنتَيْ عشرةَ ركعةً من السّنةِ بنى الله له بيتاً في الجنة: أربعَ ركعاتٍ قبلَ الظهر ، وركعتين بعدها وركعَتَيْنِ بعدَ المغربِ ، وركعتَيْنِ بعدَ العشاء ، وركعتَيْنِ قبلَ الفجرِ".
وفي الباب عن أُمّ حبيبةَ وأبي هريرةَ وأبي موسى وابنِ عمرَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عائشةَ حديثٌ غريب
ـــــــ
"عن عطاء" هو عطاء بن أبي رباح كما في رواية للنسائي وهو ثقة فقيه فاضل لكنه كثير الإرسال. قال ابن سعد: كان ثقة عالماً كثير الحديث انتهت إليه الفتوى بمكة ، وقال أبو حنيفة: ما لقيت أفضل من عطاء. وقال ابن عباس وقد سئل عن شيء: يا أهل مكة تجتمعون علي وعندكم عطاء مات سنة أربع عشرة ومائة.
قوله: "من ثابر" أي دام قال في النهاية المثابرة الحرص على الفعل والقول وملازمتهما "أربع ركعات إلخ" بالجر بدل من ثنتي عشرة ركعة.
قوله: "وفي الباب عن أم حبيبة وأبي هريرة وأبي موسى وابن عمر" أما حديث أم حبيبة فأخرجه مسلم وغيره بلفظ: قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة ، وفي رواية تطوعاً ، وأخرجه الترمذي في هذا الباب وفي زيادة التفسير. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه النسائي وابن ماجه مرفوعاً بلفظ: من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة: ركعتين قبل الفجر وركعتين بعد الظهر قبل الظهر وركعتين أظنه قال قبل العصر وركعتين بعد المغرب أظنه قال وركعتين بعد العشاء الاَخرة ، وفي إسناده محمد بن سليمان الأصبهاني وهو ضعيف. وأما حديث أبي موسى فأخرجه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط بنحو حديث أم حبيبة بدون التفسير. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب بعد العشاء وركعتين قبل الغداة الحديث.(2/466)
من هذا الوجهِ. ومغيرةُ بن زيادٍ قد تَكَلّمَ فيه بعضُ أهلِ العلمِ من قِبَلِ حِفظهِ.
413ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا مؤملٌ حدثنا سفيانُ الثوريّ عن أبي إسحاق عن المسيّبِ بن رافعٍ عن عنبسة بن أبي سُفيانَ عن أُمّ حبيبةَ قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "من صلّى في يومٍ وليلةٍ ثنتَيْ عشرةَ ركعةً بُنيَ له بيتٌ في الجنّةِ: أربعاً قبلَ الظهر ، وركعتينِ بعدَها وركعتين بَعدَ المغربِ وركعتينِ بعدَ العِشاءِ ، وركعتين قبلَ الفجر صلاة الغداة ".
ـــــــ
قوله: "حديث عائشة حديث غريب من هذا الوجه" وأخرجه النسائي وابن ماجه "ومغيرة بن زياد قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه" قد عرفت أنه قد وثقه وكيع وابن معين في رواية وابن عدي وغيرهم ، فالظاهر أن إسناد هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن والله تعالى أعلم.
قوله: "أخبرنا مؤمل" بن إسماعيل العدوي مولاهم أبو عبد الرحمن البصري عن شعبة والثوري وجماعة وعنه أحمد وإسحاق وابن المديني وطائفة ، وثقه ابن معين وقال البخاري ومنكر الحديث مات سنة ست ومائتين كذا في الخلاصة: وقال في الميزان: وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: صدوق شديد في السنة كثير الخطأ. وقال البخاري: منكر الحديث ، وقال أبو زرعة: في حديثه خطأ كثير ، وذكره أبو داود فعظمه ورفع من شأنه ، مات بمكة في رمضان سنة ست ومائتين "عن أبي إسحاق" هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ثقة عابد اختلط بآخره "عن المسيب بن رافع" الأسدي الكاهلي الكوفي ثقة من الرابعة "عن عنبسة بن أبي سفيان" بن حرب بن أمية القرشي الأموي أخي معاوية يقال له روية. وقال أبو نعيم: اتفق الأئمة على أنه تابعي ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين.
قوله: "أربعاً قبل الظهر إلخ" فيه وفي حديث عائشة المتقدم دلالة على أن السنة قبل(2/467)
قال أبو عيسى: وحديثُ عَنْبَسَةَ عن أُمّ حَبِيبَةَ في هذا البابِ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقد رُوِيَ عن عَنْبَسَةَ من غيرِ وجهٍ.
ـــــــ
الظهر أربع ركعات: وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة. وفي حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر رضي الله عنهما اللذين أشار إليهما الترمذي وذكرنا لفظهما دلالة على أن السنة قبل الظهر ركعتان. قال الحافظ في الفتح: قال الداودي: وقع في حديث ابن عمران قبل الظهر ركعتين وفي حديث عائشة أربعاً وهو محمول على أن كل واحد منهما وصف ما رأى ، قال ويحتمل أن يكون نسي ابن عمر ركعتين من الأربع. وقال الحافظ: هذا الاحتمال بعيد والأولى أن يحمل على حالين فكان تارة يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعاً ، وقيل هو محمول على أنه كان يقتصر في المسجد على ركعتين وفي بيته يصلي أربعاً ، ويحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فصلى ركعتين فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين ، ويقوي الأول ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة. كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعاً ثم يخرج. قال أبو جعفر الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها انتهى كلام الحافظ.
قوله: "وحديث عنسبة عن أم حبيبة في هذا الباب حسن صحيح" وأخرجه النسائي.(2/468)
303ـ باب ما جاءَ في ركعَتَيْ الفجرِ من الفضْل
414 ـ حدثنا صالحُ بن عبدِ الله حدثنا أبو عَوَانَةَ عن قتادةَ عن
ـــــــ
"باب ما جاءَ في ركعَتَيْ الفجرِ من الفضْل"
قوله: "حدثنا صالح بن عبد الله" بن ذكوان الباهلي أبو عبد الله الترمذي نزيل بغداد(2/468)
زُرَارَةَ بن أوفَى عن سعدِ بنِ هشامٍ عن عائشةَ قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ركعتا الفجرِ خيرٌ منَ الدنيا وما فيهَا".
قال وفي الباب عن علي وابنِ عمرَ وابنِ عباسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ عائشةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ثقة من العاشرة "عن زرارة" بضم الزاي المعجمة "بن أوفى" العامري الحرشي بمهملة وراء مفتوحتين ثم معجمة البصري قاضيها ثقة عابد من الثالثة مات فجأة في الصلاة "عن سعد بن هشام" بن عامر الأنصاري المدين ثقة من الثالثة استشهد بأرض الهند.
قوله: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" أي من متاع الدنيا قاله النووي: وقال الطيبي: إن حمل الدنيا على أعراضها وزهرتها فالخير إما مجرى على زعم من يرى فيها خيراً أو يكون من باب أي الفريقين خير مقاماً. وإن حمل على الإنفاق في سبيل الله فتكون هاتان الركعتان أكثر ثواباً منها. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة: إنما كانتا خيراً منها لأن الدنيا فانية ونعيهما لا يخلو عن كدر النصب والتعب ، وثوابهما باق غير كدر انتهى.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم من طريق محمد بن عبيد الغبري عن أبي عوانة بعين سند الترمذي ، وفي رواية له عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر: لهما أحب إلي من الدنيا جمعياً.
قوله: "وفي الباب عن علي وابن عمر وابن عباس" أما حديث علي فلينظر من أخرجه. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الطبراني في الكبير عنه قال: قال رجل يا رسول الله دلني على عمل ينفعني الله به. قال عليك بركعتي الفجر فمن فيهما فضيلة ، وفي رواية له أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تدعوا الركعتين قبل صلاة الفجر فإن فيهما الرغائب. وروى أحمد عنه: ركعتي الفجر حافظوا عليهما فإن فيهما الرغائب ، كذا في الترغيب للمنذري. وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن عدي في الكامل.
قوله: "حديث عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد ومسلم وفي رواية له عنها(2/469)
وقد رَوَى أحمدُ بنُ حنبلٍ عن صالحِ بنِ عبدِ الله الترمذيّ حديثا.
ـــــــ
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر: "لهما أحب إلي من الدنيا جميعاً".(2/470)
باب: ما جاء فى تخفيف ركعتى الفجر و القراءة فيها
...
304ـ باب ما جاء في تخْفيفِ ركعَتَيْ الفجر والقراءة فيها
415ـ حدثنا محمودُ بنُ غَيْلاَنَ وأبو عمارٍ قالا: حدثنا أبو أحمدَ الزبيريّ ، حدثنا سفيانُ عن أبي إسحاقَ عنِ مُجاهدٍ عن ابنِ عمرَ قال "رَمَقْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم شهراً فكانَ يقرأُ في الركعَتَيْنِ قبلَ الفجرِ بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " .
وفي الباب عن ابنِ مسعودٍ وأنس وأبي هريرةَ وابن عباسٍ وحفصةَ وعائشةَ.
ـــــــ
"باب ما جاء في تخْفيفِ ركعَتَيْ الفجر والقراءة فيها"
قوله: "وأبو عمار" اسمه حسين بن حريث الخزاعي مولاهم المروزي ثقة من العاشرة روى عن الجماعة سوى ابن ماجه وسوى أبو داود فكتابة "أخبرنا أبو أحمد الزبيري" بضم الزاي وفتح الموحدة اسمه محمد بن عبد الله بن الزبير ثقة ثبت إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري "أخبرنا سفيان" هو الثوري.
قوله: "رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً " أي نظرت إليه صلى الله عليه وسلم "فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " فيه دلالة على استحباب قراءة سورتي الإخلاص في ركعتي الفجر.
قوله: "وفي الباب عن ابن مسعود وأنس وأبي هريرة وابن عباس وحفصة وعائشة"(2/470)
ـــــــ
أما حديث ابن مسعود فأخرجه الترمذي في باب ما جاء في الركعتين بعد المغرب والقراءة فيهما. وأما حديث أنس فأخرجه البزار ورجال إسناده ثقات قاله الشوكاني. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وأما حديث ابن عباس فأخرجه الجماعة بلفظ: فصلى ركعتين خفيفتين ، وله حديث آخر عند مسلم وأبو داود والنسائي ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} ، والتي في آل عمران؟ {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ، وفي رواية لمسلم: وفي الاَخرة بـ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.
وأما حديث حفصة فأخرجه الجماعة إلا أبا داود بلفظ: ركعتين خفيفتين. وأما حديث عائشة فأخرجه الشيخان بلفظ: قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول هل قرأ فيهما بأم القرآن.
وأما حديث الباب تدل على مشروعية التخفيف: وقد ذهب إلى ذلك الجمهور ، وخالف في ذلك الحنفية ، فذهبت إلى استحباب إطالة القراءة وهو مخالف لصرائح الأدلة ، وبحديث عائشة الذي أشار إليه الترمذي وذكرنا لفظه ، تمسك مالك وقال بالاقتصار على قراءة فاتحة الكتاب في هاتين الركعتين ، وليس فيه إلا أن عائشة رضي الله عنها شكت هل كان يقرأ بالفاتحة أم لا لشدة تخفيفه لهما ، وهذا لا يصلح التمسك به لرد الأحاديث الصريحة الصحيحة الواردة من طرق متعددة. وقد أخرج ابن ماجه عن عائشة نفسها أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر فكان يقول نعم السورتان هما يقرأ بهما في ركعتين الفجر ، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ولا ملازمة بين مطلق التخفيف والإقتصار على الفاتحة لأنه من الأمور النسبية.
وقد اختلف في الحكمة في التخفيف لهما فقيل ليبادر إلى صلاة الفجر في أول الوقت ، وبه جزم القرطبي. وقيل ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض أو ما يشابهه بنشاط واستعداد تام ، ذكره الحافظ في الفتح والعراقي في شرح الترمذي.(2/471)
قال أبو عيسى: حديث ابنِ عمرَ حديثٌ حسنٌ. ولا نعرفُه من حديثِ الثوريّ عن أبي إسحاقَ إلا من حديث أبي أحمد والمعروف عند الناس حديث إسرائيل عن أبي إسحاق.
وقد رُوِيَ عن أبي أحمدَ عن إسرائيلَ هذا الحديثُ أيضاً.
وأبو أحمدَ الزبيريّ ثقةٌ حافظٌ قال: سمعتُ بنداراً يقولُ: ما رأيتُ أحداً أحسنَ حفظاً من أبي أحمدَ الزبيريّ. و أبو أحمد اسمهُ محمدُ بن عبدِ الله بنِ الزبير الأسدّى الكوفيّ.
ـــــــ
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن" أخرجه الخمسة إلا النسائي كذا في المنتقى ، وقال الشوكاني في النيل: وأخرجه أيضاً مسلم "وأبو أحمد الزبيري ثقة حافظ وكذا وثقه غير واحد من أئمة الحديث كأبن معين والعجلي والنسائي وغيرهم: وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل: كان كثير الخطأ في حديث سفيان كذا في تهذيب التهذيب "واسمه محمد بن عبد الله بن الزبيري" كذا في النسخ الموجودة ولا شك في أنه غلط والصحيح محمد بن عبد الله بن الزبيري أو محمد بن عبد الله الزبيري. قال الحافظ في التقريب: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمرو بن درهم الأسدي أبو أحمد الزبيري الكوفي ثقة ثبت إلا أنه قد يخطيء في حديث الثوري انتهى.(2/472)
305ـ باب ما جاء في الكلامِ بعد ركْعَتَيْ الفجْر
416ـ حدثنا يوسفُ بنُ عيسى حدثنا عبدُ الله بنُ إدريسَ قال سمعتُ
ـــــــ
"باب ما جاء في الكلامِ بعد ركْعَتَيْ الفجْر"
قوله: "أخبرنا عبد الله بن أدريس" بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي بسكون(2/472)
مالكَ بنَ أنسٍ عن أبي النضر عن أبي سَلَمَةَ عن عَائِشَةَ قالت: "كانَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلّى ركعَتَيْ الفجْرِ فإن كانت له إليّ حاجةٌ كلمني وإلا خرجَ إلى الصلاة".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقد كرهَ بعضُ أهلِ العلم مِنْ أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهِم الكلامَ بعدَ طُلوع الفجرِ حتى يصلّيَ صلاةَ الفجرِ إلاّ ما كانَ من ذكرِ الله أو مما لا بدّ منه ، وهو قولُ أحمدَ وإسحاقَ.
ـــــــ
الواو أبو محمد الكوفي ثقة فقيه عابد من الثامنة "عن أبي النضر" اسمه سالم بن أمية المدني ثقة ثبت "عن أبي سلمة" هو ابن عبد الرحمن.
قوله: "فمن كانت له إلي حاجة كلمني وإلا خرج إلى الصلاة" وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا أضطجع واللفظ لمسلم.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الجماعة.
قوله: "وقد كره بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم الكلام بعد طلوع الفجر إلخ" .
قال الشوكاني في النيل: وفي تحديثه صلى الله عليه وسلم لعائشة بعد ركعتي الفجر دليل على جواز الكلام بعدهما ، وإليه ذهب الجمهور ، وقد روى عن ابن مسعود أنه كرهه ، روى ذلك عن سعيد بن المسيب ، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الكلام بعد الركعتين ، وعن عثمان بن أبي سليمان قال: إذا طلع الفجر فليسكتوا وإن كانوا ركباناً وإن لم يركعوها فليسكتوا انتهى "وهو قول أحمد وإسحاق" قال النووي في شرح مسلم: فيه دليل على إباحة الكلام بعد سنة الفجر وهو مذهبنا ومذهب مالك والجمهور ، وقال القاضي: وكرهه الكوفيون ، وروى عن ابن مسعود وبعض(2/473)
ـــــــ
السلف أنه وقت الاستغفار ، والصواب الإباحة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وكونه وقت استحباب الاستغفار لا يمنع من الكلام انتهى.
وقال القسطلاني في إرشاد الساري: وفيه أنه لا بأس بالكلام المباح بعد ركعتي الفجر قال ابن العربي: ليس في السكوت في ذلك الوقت فضل مأثور إنما ذلك بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس انتهى. قلت: أما أثر ابن مسعود رضي الله عنه في الكراهة ، فروى الطبراني في الكبير عن عطاء قال: خرج ابن مسعود على قوم يتحدثون بعد الفجر فنهاهم عن الحديث وقال إنما أجبتم للصلاة فإما أن تصلوا وإما أن تسكتوا ، وكذا رواه فيه عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وليس هذا الأثر بمتصل ، عطاء لم يسمع من ابن مسعود ، وكذا أبو عبيدة لم يسمع من أبيه وإن صح فيحمل على أن القوم المتحدثين لعلهم كانوا يتكلمون بما لا يجدي فنهاهم عن ذلك. والسكوت عن مثل هذا ليس بمختص في هذا بوقت ، وإن لم يحمل على هذا فالتحديث بالكلام المباح ثابت من الشارع ، وكلام الصحابة لا يوازن كلام الشارع. وأما قول ابن العربي: إنما ذلك بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس فأشار إلى ما ورد في ذلك من الأحاديث فمنها حديث أنس مرفوعاً: من صلى الصبح في جماعة ثم قعد بذكر الله حتى كانت له تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كأجر حجة وعمرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تامة تامة تامة ، أخرجه الترمذي وغيره.(2/474)
306ـ باب ما جاءَ لا صلاةَ إلا بعدَ طُلوعِ الفجرِ إلاّ ركعَتَيْن
417ـ حدثنا أحمدُ بنُ عَبدَةَ الضبيّ ، أخبرنا عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ عن قُدَامَةَ بنِ موسى عن محمدِ بنِ الحُصَيْنِ عن أبي عَلقمَةَ عن يسارٍ مولى ابنِ عمرَ عن ابن عمرَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاةَ بعد
ـــــــ
"باب ما جاءَ لا صلاةَ إلا بعدَ طُلوعِ الفجرِ إلاّ ركعَتَيْن"
قوله: "لا صلاة بعد الفجر" أي بعد طلوع كما فسر به الترمذي في آخر الباب الفجر(2/474)
الفجرِ إلا سجدَتَيْنِ".
وفي البابِ عن عبدِ الله بن عمرٍو وحفصةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عمرَ حديثٌ غريبٌ لا نعرِفِهُ إلا من حديثِ قُدامَةَ بن موسى. ورَوَى عنه غيرُ واحدٍ. وهو ما أجمعَ عليهِ أهلُ العلم ، كَرِهوا أنْ يُصَليَ الرجلُ بعدَ طلوع الفجرِ إلا رَكعتَي الفجر.
ـــــــ
"إلا سجدتين" يعني ركعتي الفجر السنة.
قوله: "وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وحفصة" أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الدارقطني بلفظ: لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين ، وأخرجه أيضاً محمد بن نصر في قيام الليل بهذا اللفظ ، وفي إسنادهما عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي. وأما حديث حفصة فأخرجه الشيخان عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين واللفظ لمسلم.
قوله: "حديث ابن عمر حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث قدامة بن موسى وروى عنه غير واحد" قال الحافظ في التلخيص: قد اختلف في اسم شيخه يعني شيخ قدامة بن موسى فقيل أيوب بن حصين وقيل محمد بن حصين وهو مجهول انتهى. وقال الذهبي في الميزان: لا يعرف ، وقال الدارقطني: مجهول انتهى. فحديث ابن عمر هذا ضعيف. وقد اعترض الحافظ الزيلعي على قول الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث قدامة بن موسى ، بأن الطبراني قد رواه من طريقين آخرين ليس فيهما قدامة ، قلت: لا اعتراض على الترمذي فإنه إنما نفى علمه ومعرفته "وهو ما أجمع عليه أهل العلم، قال الحافظ في التلخيص: دعوى الترمذي الإجماع على الكراهة لذلك عجيب ، فإن الخلاف فيه مشهور حكاه ابن المنذر وغيره" . وقال الحسن البصري لا بأس به وكان مالك يرى أن يفعله من فاتته صلاة بالليل. وقد أطنب في ذلك محمد بن نصر في قيام الليل انتهى. وقد استدل من أجاز التنفل بأكثر من ركعتي الفجر بما أخرجه أبو داود في حديث(2/475)
ومعنى هذا الحديث إنما يقول لا صلاة بعد طلوع الفجر إلاّ ركعتي الفجر.
ـــــــ
عمرو بن عنبسة قال: يا رسول الله أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير، فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مقبولة حتى تصلي الصبح ، وفي لفظ: فصل ما بدا لك حتى تصلي الصبح الحديث.
قلت: الراجح عندي هو قول من قال بالكراهة لدلالة أحاديث الباب عليه صراحة وأما حديث أبي داود فليس بصريح في عدم الكراهة والله تعالى أعلم.(2/476)
317ـ باب ما جاء في الاضطجاعِ بعدَ رَكعَتَيْ الفجْر
418ـ حدثنا بِشرُ بنُ معاذٍ العقَديّ أخبرنا عبدُ الواحدِ بنُ زيادٍ حدثنا الأعمشُ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلّى أحدُكم ركعتيْ الفجرِ فليضطجِعْ على يمينِه".
ـــــــ
"باب ما جاء في الاضطجاعِ بعدَ رَكعَتَيْ الفجْر"
قوله: "حدثنا بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة "بن معاذ العقدي" بفتح العين المهملة والقاف أبو سهل البصري الغرير صدوق من العاشرة " أخبرنا عبد الواحد بن زياد" العبدي البصري قال الحافظ في مقدمة فتح الباري: قال ابن معين: أثبت أصحاب الأعمش شعبة وسفيان ثم أبو معاوية ثم عبد الواحد بن زياد وعبد الواحد ثقة وأبو معاوية أحب إلي منه ، ووثقه أبو زرعة وأبو حاتم وابن سعد والنسائي وأبو داود والعجلي والدارقطني حتى قال ابن عبد البر: لا خلاف بينهم أنه ثقة ثبت كذا قال. وقد أشار يحيى القطان إلى لينه فروى ابن المديني عنه أنه قال ما رأيته طلب حديثاً قط وكنت أذاكره لحديث الأعمش فلا يعرف منه حرفاً ، قال الحافظ: وهذا غير قادح لأنه كان صاحب كتاب وقد احتج به الجماعة انتهى "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر" يعني سنة(2/476)
وفي الباب عنْ عائشةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه .
ـــــــ
الفجر كما يشهد له حديث عائشة قاله الطيبي يعني بحديث عائشة الذي، أخرج الشيخان بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة الحديث ، وفي آخره فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة فيخرج "فليضطجع على شقه الأيمن" هذا نص صريح في مشروعية الاضطجاع بعد سنة الفجر لكل أحد المتهجد وغيره وهو الحق.
قوله: "وفي الباب عن عائشة" أخرجه الشيخان وتقدم لفظه آنفاً وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن ، وفي رواية: كان إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع ، وفي الباب أحاديث أخرى.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، قال في النيل: رجاله رجال الصحيح ، وقال النووي في شرح مسلم: إسناده على شرط الشيخين ، وكذلك قال الشيخ أبو يحيى زكريا الأنصاري في فتح العلام أن إسناده على شرط الشيخين.
فإن قلت: كيف يكون حديث أبي هريرة هذا حسناً صحيحاً وكيف يكون إسناده إلى الأعمش على شرط الشيخين وفيه الأعمش وهو مدلس وقد رواه عن أبي صالح بالعنعنة.
قلت: نعم هو مدلس لكن عنعنته عن أبي صالح محمولة على الاتصال. قال الحافظ الذهبي في الميزان هو يدلس وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به فمتى قال أخبرنا فلان فلا كلام ومتى قال: عن ، تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وابن وائل وأبي صالح السمان فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال انتهى.(2/477)
وقد رُويَ عن عائشةَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى ركعتَيْ الفجرِ في بيتِه اضطجعَ على يمينه.
وقد رأى بعضُ أهلِ العلمِ أنْ يُفعلَ هذا استحباباً.
ـــــــ
فإن قلت: قال ابن القيم في زاد المعاد بعد ذكر حديث أبي هريرة: سمعت ابن تيمية يقول هذا باطل وليس بصحيح ، وإنما الصحيح عنه الفعل والأمر تفرد به عبد الواحد ابن زياد وغلط فيه.
قلت: تفرد عبد الواحد بن زياد به غير قادح في صحته فإنه ثقة ثبت قد احتج به الأئمة الستة وهو من أثبت أصحاب الأعمش كما عرفت من عبارة مقدمة الفتح ، فقول الإمام ابن تيمية هذا باطل وليس بصحيح إلخ ليس بصحيح ، كيف وقد صححه الترمذي وهو من أئمة الشان ، وقال النووي وغيره: إسناده على شرط الشيخين: وأما قول يحيى القطان: ما رأيته طلب حديثاً قط وكنت أذاكره لحديث فلا يعرف منه حرفاً فغير قادح أيضاً فإنه كان صاحب كتاب وقد احتج به ما عرفت فيما سبق ، والحاصل أن حديث أبي هريرة صحيح وكل ما ضعفوه به فهو مدفوع.
قوله: "وقد روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى ركعتي الفجر في بيته اضطجع على يمينه" قد تقدم تخريجه واستدل بهذه الرواية على استحباب الاضطجاع في البيت دون المسجد ، وهو محكي عن ابن عمر وقواه بعض شيوخنا بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله في المسجد ، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد في هذا الباب مطلق فبإطلاقه يثبت استحباب الاضطجاع في البيت وفي المسجد، وإنما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله في المسجد لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الفجر في البيت فكان يضطجع في البيت.
قوله: "وقد رأى بعض أهل العلم أن يفعل هذا" أي الاضطجاع بعد سنة الفجر "استحباباً" أي على طريق الاستحباب دون الوجوب ، وإن كان ظاهر الأمر في(2/478)
ـــــــ
حديث أبي هريرة المذكور الوجوب لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على هذا الاضطجاع كما يدل عليه رواية عائشة: كان إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع. قال الحافظ في الفتح: وبذلك احتج الأئمة على عدم الوجوب ، وحملوا الأمر الوارد بذلك في حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره على الاستحباب ، قال: وأفرط بن حزم فقال: يجب على أحد وجعله شرطاً لصلاة الصبح ، ورده عليه العلماء بعده حتى طعن ابن تيمية ومن تبعه في صحة الحديث لتفرد عبد الواحد بن زياد به ، وفي حفظه مقال ، والحق أنه تقوم به الحجة انتهى كلام الحافظ. وللعلماء في هذا الاضطجاع أقوال.
الأول: أنه مشروع على سبيل الاستحباب كما حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم وهو قول أبي موسى الأشعري ورافع بن خديج وأنس بن مالك وأبي هريرة. قال الحافظ ابن القيم في زاد المعاد: قد ذكر عبد الرزاق. في المصنف عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن أبا موسى ورافع بن خديج وأنس بن مالك رضي الله عنهم كانوا يضطجعون بعد ركعتي الفجر ويأمرون بذلك: وقال العراقي: ممن كان يفعل ذلك أو يفتي به عن الصحابة أبو موسى الأشعري ورافع بن خديج وأنس بن مالك وأبو هريرة انتهى. ومن قال به من التابعين محمد بن سيرين وعروة بن الزبير كما في شرح المنتقى. وقال أبو محمد علي بن حزم في المحلى: وذكر عبد الرحمن بن زيد في كتاب السبعة أنهم يعني: سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير وأبا بكر هو ابن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عتبة بن سليمان بن يسار كانوا يضطجعون على أيمانهم بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح انتهى. وممن قال به من الأئمة الشافعي وأصحابه. قال العيني في عمدة القاري: ذهب الشافعي وأصحابه إلى أنه سنة انتهى.
والقول الثاني: أن هذا الاضطجاع واجب لا بد من الإتيان به وهو قول أبي محمد علي بن حزم الظاهري كما قال في المحلى: كل من ركع ركعتي الفجر لم يجز له صلاة الصبح إلا بأن يضطجع على جنبه الأيمن بين سلامة من ركعتي الفجر وبين تكبيره لصلاة الصبح ، فإن لم يصل ركعتي الفجر لم يلزمه أن يضطجع ، فإن عجز عن الضجعة على اليمن لخوف أو مرض أو غير ذلك أشار إلى ذلك حسب طاقته ، ثم قال بعيد هذا.(2/479)
ـــــــ
قال علي: قد أوصحنا أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كله على الفرض حتى يأتي نصس آخر أو إجماع متيقن على أنه ندب فنقف عنده ، وإذا تنازع الصحابة رضي الله عنهم فالرد إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم انتهى.
قلت: قد عرفت أن الأمر الوارد في حديث أبي هريرة محمول على الاستحباب ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على الاضطجاع فلا يكون واجباً فضلاً عن أن يكون شرطاً لصحة صلاة الصبح وقد مال العلامة الشوكاني إلى الوجوب حيث قال في آخر بحث الاضطجاع: وعلمت بما أسلفنا لك من أن تركه صلى الله عليه وسلم لا يعارض الأمر للامة الخاص بهم ولاح لك قوة القول بالوجوب.
والقول الثالث: أن هذا الاضطجاع بدعة ومكروه: وممن قال به من الصحابة ابن مسعود وابن عمر على اختلاف عنه.
والقول الرابع أنه خلاف الأولى. روى ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع بعد ركعتي الفجر.
والقول الخامس: التفرقة بين من يقوم الليل فيستحب له ذلك للاستراحة وبين غيره فلا يشرع له واختاره ابن العربي وقال لا يضطجع بعد ركعتي الفجر لانتظار الصلاة إلا أن يكون قام الليل فيسنطجع استجماماً لصلاة الصبح فلا بأس ، ويشهد لهذا ما رواه الطبراني وعبد الرزاق عن عائشة أنها كانت تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يضطجع لسنة ولكنه كان يدأب ليلة فيستريح ، وهذا لا تقوم به حجة ، أما أولاً فلان في إسناده رواياً لم يسم كما قال الحافظ ، وأما ثانياً فلأن ذلك منها ظن وتخمين وليس بحجة ، وقد روت أنه كان يفعله والحجة في فعله ، وقد ثبت أمره به فتأكدت بذلك مشروعيته.
وقد أجاب من لم ير مشروعية الاضطجاع عن أحاديث الباب بأجوبة كلها مخدوشة فإن شئت الوقوف عليها وعلى ما فيها من الخدشات فعليك أن تطالع فتح الباري والنيل وغيرهما.
والقول الراجح المعول عليه هو أن الاضطجاع بعد سنة الفجر مشروع على طريق الاستحباب والله تعالى أعلم.(2/480)
308ـ باب ما جاءَ إذا أُقيمتْ الصّلاةُ فلاَ صلاةَ إلا المكتُوبة
419ـ حدثنا أحمدُ بن منيعٍ، حدثنا روحُ بن عبادةَ حدثنا زكريا بن إسحاقَ حدثنا عمرُو بن دينارٍ قال: سمعتُ عطاء بن يسارٍ عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذ أُقيمت الصلاة فلا صلاةَ إلاّ المكتوبةُ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ إذا أُقيمتْ الصّلاةُ فلاَ صلاةَ إلا المكتُوبة"
قوله: "أخبرنا روح" بفتح الراء وسكون الواو وبالحاء المهملة "بن عبادة" بن العلاء بن حسان القيسي أبو محمد البصري الحافظ أحد الرؤساء الأشراف عن حسين المعلم وابن عون وهشام بن حسان وخلق ، وعنه أحمد وإسحاق وعبد بن حميد وخلق ، وثقه الخطيب وغيره ، وله مصنفات منها التفسير والسنن. قال خليفة: مات سنة خمس ومائتين وقيل سنة سبع قوله: "أخبرنا زكريا بن إسحاق" المكي عن عمرو بن دينار ، وعنه وكيع وأبو عاصم وروح بن عبادة وجماعة. قال ابن معين: يرى القدر ، وثقه البخاري ومسلم.
قوله: "إذا أقيمت الصلاة" أي إذا شرع في الإقامة ، وصرح بذلك محمد بن جحادة عن عمرو بن دينار فيما أخرجه ابن حبان بلفظ: إذا أخذ المؤذن في الإقامة ، كذا في الفتح "فلا صلاة إلا المكتوبة" وفي رواية لأحمد إلا التي أقيمت: قال الحافظ في الفتح فيه منع التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة سواء كانت راتبة أم لا لأن المراد بالمكتوبة المفروضة ، وزاد مسلم بن خالد عن عمرو بن دينار في هذا الحديث: قيل يا رسول الله ولا ركعتي الفجر؟ قال: ولا ركعتين الفجر ، أخرجه ابن عدي في ترجمة يحيى بن نصر بن حاجب وإسناده حسن انتهى. والحديث يدل على أنه لا يجوز الشروع في النافلة عند إقامة الصلاة من غير فرق بين ركعتي الفجر وغيرهما.(2/481)
وفي الباب عن ابن بُحَيْنَةَ وعبدِ الله بنِ عمرو وعبدِ الله بنِ سرجس وابن عباسٍ وأنسٍ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن ابن بحينة وعبد الله بن عمرو بن سرجس وابن عباس وأنس" أما حديث ابن بحينة وهو عبد الله بن مالك بن بحينة فأخرجه البخاري ومسلم بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاث به الناس ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصبح أربعاً الصبح أربعاً. وأما حديث عبد الله بن عمرو فلم أقف عليه وأما حديث عبد الله بن سرجس فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح فصلى ركعتين قبل أن يدخل في الصلاة فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا فلان بأي صلاتيك اعتددت بالتي صليت وحدك أو بالتي صليت معنا. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو داود الطيالسي قال كنت: أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة فجذبني نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال أتصلي الصبح أربعاً؟ وأخرجه أيضاً البيهقي والبزار وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال إنه على شرط الشيخين والطبراني. وأما حديث أنس فأخرجه البزار قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقيمت الصلاة فرأى ناساً يصلون ركعتي الفجر فقال: صلاتان معاً؟ ونهى أن تصليا إذا أقيمت الصلاة وأخرجه مالك في الموطأ.
وفي الباب أيضاً عن زيد بن ثابت عند الطبراني في الأوسط قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي ركعتي الفجر وبلال يقيم الصلاة فقال: أصلاتان معاً وفي إسناده عبد المنعم بن بشير الأنصاري وقد ضعفه ابن معين وابن حبان. وعن أبي موسى عند الطبراني في الكبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي ركعتي الغداة حين أخذ المؤذن يقيم فغمزه النبي صلى الله عليه وسلم في منكبيه وقال: ألا كان هذا قبل هذا؟ قال العراقي: إسناده جيد. وعن عائشة عند ابن عبد البر في التمهيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين أقيمت صلاة الصبح فرأى ناساً يصلون فقال: أصلاتان معاً وفي إسناده شريك بن عبد الله وقد أختلف عليه في وصله وإرساله.(2/482)
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسَنٌ.
وهكذا روى أيوبُ وورقاءُ بنُ عمرَ وزيادُ بن سعدٍ وإسماعيلُ بنُ مسلمٍ ومحمدُ بن جُحَادَةَ عن عمرِو بن دينارٍ عن عطاء بن يسارٍ عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وروى حمادُ بن زيدٍ وسفيانُ بن عُيَيْنَةَ عن عمرِو بن دينارٍ فلم يرفعاهُ.
والحديثُ المرفوعُ أصحّ عندنا.
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن أبي هُرَيرَةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجهِ رواهُ عياشُ ابن عباسٍ القِتْبَانيّ المصريّ عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن" أخرجه الجماعة إلا البخاري كذا في المنتقى.
قوله: "وهكذا روى أيوب وورقاء بن عمر وزياد بن سعد وإسماعيل بن مسلم ومحمد بن جحادة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي هؤلاء الخمسة من أصحاب عمرو بن دينار رووا هذا الحديث مرفوعاً "وروى حماد بن زيد وسفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ولم يرفعاه" بل روياه موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه. وروى مسلم في صحيحه من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عمرو بن دينار مرفوعاً وفي آخره: قال حماد: ثم لقيت عمراً فحدثني به ولم يرفعه. قال النووي في شرح مسلم: هذا الكلام لا يقدح في صحه الحديث ورفعه لأن أكثر الرواة رفعوه "والحديث المرفوع أصح عندنا" لكثرة عدد الرافعين فانهم خمسة، وقد روى مرفوعاً من غير هذا الوجه أيضاً كما ذكره الترمذي. قال النووي في شرح مسلم: الرفع مقدم على الوقف على المذهب الصحيح. وإن كان عدد الرفع أقل فكيف إذا كان أكثر انتهى "رواه عياش" بتشديد التحتانية وآخره معجمة "بن عباس" بموحدة وآخره(2/483)
والعملُ على هذا عندَ بعض أهلِ العلمِ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم: إذا أُقِيمَتْ الصلاةُ أن لا يصلّيَ الرجلُ إلاّ المكتوبةَ. وبه يقولُ سفيانُ الثوري وابنُ المباركِ والشافعيّ وأحمدُ وإسحاقُ.
ـــــــ
مهملة "القتباني" بكسر القاف وسكون المثناة "المصري" ثقة من السادسة.
قوله وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق قال النووي: في هذه الأحاديث النهي الصريح عن افتتاح نافلة بعد إقامة الصلاة سواء كانت راتبة كسنة الصبح والظهر والعصر وغيرها ، وهذا مذهب الشافعي والجمهور. وقال أبو حنيفة إذا لم يكن صلى ركعتي سنة الصبح صلاهما بعد الإقامة في المسجد ما لم يخش فوت الركعة الثانية وقال الثوري: ما لم يخش فوت الركعة الأولى. وقال طائفة يصليهما خارج المسجد ولا يصليهما بعد الإقامة في المسجد انتهى.
قلت: في هذه المسألة تسعة أقوال ، قال الشوكاني رحمه الله تعالى في النيل. قد اختلف الصحابة والتابعون ومن بعدهم في ذلك على تسعة أقوال:
أحدها: الكراهة وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر على خلاف عنه في ذلك وأبو هريرة ، ومن التابعين عروة بن الزبير ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رياح وطاووس ومسلم بن عقيل وسعيد بن جبير ، ومن الأئمة سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ومحمد بن جرير ، هكذا أطلق الترمذي الرواية عن الثوري ، وروى عنه ابن عبد البر والنووي تفصيلاً ، وهو أنه إذا خشي فوت ركعة من صلاه الفجر دخل معهم وترك سنة الفجر وإلا صلاها وسيأتي.
القول الثاني: أنه لا يجوز صلاة شيء من النوافل إذا كانت المكتوبة قد قامت من غير فرق بين ركعتي الفجر وغيرهما ، قاله ابن عبد البر في التمهيد.
القول الثالث: أنه لا بأس بصلاة سنة الصبح والإمام في الفريضة، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود ومسروق والحسن البصري ومجاهد ومكحول وحماد بن أبي سليمان، وهو قول الحسن بن حي ، ففرق هؤلاء بين سنة الفجر وغيرها ، واستدلوا بما رواه(2/484)
ـــــــ
البيهقي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الصبح.
وأجيب عن ذلك أن البيهقي قال: هذه الزيادة لا أصل لها وفي إسنادها حجاج بن نصر وعباد بن كثير وهما ضعيفان ، على أنه قد روى البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة قيل يا رسول الله ولا ركعتي الفجر؟ قال ولا ركعتي الفجر ، وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وهو متكلم فيه وقد وثقه ابن حبان واحتج به في صحيحه.
القول الرابع: التفرقة بين أن يكون في المسجد أو خارج وبين أن يخاف فوت الركعة الأولى مع الإمام أولاً ، وهو قول مالك فقال: إذا كان قد دخل المسجد فليدخل مع الإمام ولا يركعها يعني ركعتي الفجر وإن لم يدخل المسجد، فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركع خارج المسجد وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى مع الإمام فليدخل وليصل معه.
القول الخامس: أنه إن خشي فوت الركعتين معا وأنه لا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه وإلا فيركعهما يعني ركعتي الفجر خارج المسجد ثم يدخل مع الإمام ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه كما حكاه ابن عبد البر ، وحكى عنه أيضاً نحو قول مالك وهو الذي حكاه الخطابي وهو موافق لما حكاه عنه أصحابه ، وحكى النووي عنه مثل قول الأوزاعي الاَتي ذكره.
القول السادس: أنه يركعهما في المسجد إلا أن يخاف فوت الركعة الأخيرة، فأما الركعة الأولى فليركع وإن فاتته ، وهو قول الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وحكاه النووي عن أبي حنيفة وأصحابه.
القول السابع: يركعهما في المسجد وغيره إلا إذا خاف فوت الركعة الأولى وهو قول سفيان الثوري. حكى ذلك عنه ابن عبد البر وهو قول مخالف لما رواه الترمذي عنه.
القول الثامن: أنه يصليهما وإن فاتته صلاة الإمام إذا كان الوقت واسعاً قاله ابن الجلاب من المالكية.(2/485)
ـــــــ
القول التاسع: أنه إذا سمع الإقامة لم يحل له الدخول في ركعتي الفجر ولا في غيرهما من النوافل سواء كان في المسجد أو خارجه ، فإن فعل فقد عصى وهو قول أهل الظاهر ونقله ابن حزم عن الشافعي وعن جمهور السلف، وكذا قال الخطابي. وحكى الكراهة عن الشافعي وأحمد ، وحكى القرطبي في المفهم عن أبي هريرة وأهل الظاهر إن كان المراد بإقامة الصلاة الإقامة التي يقولها المؤذن عند إرادة الصلاة ، وهو المعنى المتعارف ، قال العراقي: وهو المتبادر إلى الأذهان من هذا الحديث ، إلا إذا كان كان المراد بإقامة الصلاة فعلها ، كما هو المعنى الحقيقي ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} فإنه لا كراهة في فعل النافلة عند إقامة المؤذن قبل الشروع في الصلاة وإذا كان المراد المعنى الأول فهل المراد به الفراغ من الإقامة لأنه حينئذ يشرع في فعل الصلاة؟ والمراد شروع المؤذن في الإقامة قال العراقي يحتمل أن يراد كل من الأمرين. والظاهر أن المراد شروعه في الإقامة ليتهيأ المأمون لإدراك التحريم مع الإمام: ومما يدل على ذلك حديث أبي موسى عند الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً صلى ركعتي الفجر حين أخذ المؤذن يقيم ، قال العراقي وإسناده جيد. انتهى ما في النيل.
قلت: المراد بإقامة الصلاة في قوله: إذا أقيمت الصلاة الإقامة التي يقولها المؤذن عند إرادة الصلاة ، وهذا هو المتعين لرواية ابن حبان بلفظ: إذا أخذ المؤذن في الإقامة والروايات بعضها يفسر بعضاً ثم المراد بالإقامة شروع المؤذن فيها لا الفراغ منها ، يدل على ذلك رواية ابن حبان هذه ، وحديث ابن عباس بلفظ: قال كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة فجذبني نبي الله صلى الله عليه وسلم الخ ، وحديث أبي موسى عند الطبراني المذكور آنفاً وقد تقدم بتمامه.
والقول الراجح: المعول عليه هو القول التاسع ، وعليه يدل أحاديث الباب والله تعالى أعلم.(2/486)
309ـ باب ما جاء فيمنْ تَفوتُه الركعتانِ قبلَ الفجْرِ يُصليهِمَا بعدَ صَلاَةِ الصبح
420ـ حدثنا محمدُ بن عمرٍو السواقُ البلْخىّ قال ، حدثنا عبدُ العزيزِ بنُ محمدٍ عن سعدِ بن سعيدٍ عن محمدِ بنِ إبراهيمَ عن جدِه قيسٍ قال: "خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأُقيمَت الصلاةُ فصليتُ معهُ الصبحَ ثم انصرفَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
"باب ما جاء فيمنْ تَفوتُه الركعتانِ قبلَ الفجْرِ يُصليهِمَا بعدَ صَلاَةِ الصبح"
قوله: "حدثنا محمد بن عمرو السواق" بفتح السين وتشديد الواو البلخي صدوق روى عن الدراوردي وهشيم ووكيع وغيرهم وعنه البخاري والترمذي وأبو زرعة وغيرهم توفي سنة ست وثلاثين ومائتين "أخبرنا عبد العزيز بن محمد" بن أبي عبيد الدراوردي أبو محمد المدني. قال الحافظ في مقدمة فتح الباري: أحد مشاهير المحدثين وثقه يحيى بن معين وعلي بن المديني ، وقال أحمد كان معروفاً بالطلب وإذا حدث من كتابه فهو صحيح وإذا حدث من كتب الناس وهم وقال أبو زرعة: سيء الحفظ وربما حدث من حفظ السيء فيخطئ وقال النسائي: ليس به بأس وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر. وقال أبو حاتم: لا يحتج به ، قال: روى له البخاري حديثين قرنه قيهما بعبد العزيز بن أبي حازم وغيره وأحاديث يسيرة أفرده لكنه أوردها بصيغة التعليق في المتابعات واحتج به الباقون انتهى كلام الحافظ مختصراً "عن سعد بن سعيد" بن قيس بن عمر والأنصاري وهو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري ، قال الحافظ صدوق سيء الحفظ ، وقال الخزرجي في الخلاصة ضعفه أحمد وابن معين ، وقال مرة صالح ، وقال النسائي ليس بالقوي وقال ابن عدي لا أرى بحديثه بأساً ، وقال ابن سعد ثقة "عن محمد بن إبراهيم" بن الحارث بن خالد التيمي المدني ثقة "عن جده" أي جد سعد بن سعيد "قيس" بن عمرو بن سهل الأنصاري صحابي من أهل المدينة.(2/487)
فوجدنِي أصلّي فقال مهلاً يا قيسُ أصَلاَتَانِ معاً؟ قلت: يَا رَسُولَ الله إني لمْ أكنْ ركعتُ ركعتَي الفجر ، قال: فَلاَ إذنْ".
قال أبوعيسى: حديثُ محمدِ بن إبراهيمَ لا نعرفه "مثلَ هذا" إلاّ مِنْ حديثِ سعدِ بنِ سعيدٍ.
ـــــــ
قوله: "فقال مهلاً يا قيس" قال في القاموس: يقال مهلاً يا رجل وكذا للأنثى ، والجمع بمعنى أمهل "أصلاتان معاً؟" الاستفهام للانكار. أي أفرضان في وقت فرض واحد؟ إذ لا نقل بعد صلاة الفجر ، قاله أبو الطيب السندي "إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر" وفي رواية أبي داود: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما الاَن "فلا إذن" أي إذا كان كذلك فلا بأس عليك أن تصليهما حينئذ. وفي رواية أبي داود: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن الملك: سكوته يدل على قضاء سنة الصبح بعد فرضه لمن لم يصلها قبله ، وبه قال الشافعي. قال القاري في المرقاة: هذا الحديث لم يثبت فلا يكون حجة على أبي حنيفة انتهى. قلت: قد ثبت هذا الحديث كما ستقف عليه.
تنبيه : إعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: فلا إذن ، معناه فلا بأس عليك أن تصليهما حينئذ كما ذكرته ، ويدل عليه رواية أبي داود بلفظ: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورواية عطاء بن أبي رباح عن رجل من الأنصار بلفظ: فلم يقل له شيئاً. قال الشوكاني في النيل: قال العراقي إسناده حسن ، ورواية ابن أبي شيبة بلفظ: فلم يأمره ولم ينهه ، ورواية ابن حبان بلفظ: فلم ينكر عليه ، والروايات بعضها يفسر بعضاً. وبهذا فسر العلماء الشافعية والحنفية ، قال أبو الطيب السندي الحنفي في شرح الترمذي في شرح قوله "فلان إذن" : أي فلا بأس عليك حينئذ ولا شيء عليك ولا لوم عليك انتهى. وقال الشيخ سراج أحمد السرهندي الحنفي في شرح الترمذي في ترجمة فلا إذن بس نداين وقت منع ميكتم ترا اذكزاردن سنت انتهى. فإذا عرفت هذا كله ظهر لك بطلان قول صاحب العرف الشذي في تفسير قوله فلا إذن معناه فلا تصل مع هذا العذر أيضاً فلا إذن للانكار انتهى. وأما إطالته الكلام في إثبات هذا المعنى فمبني على قصور فهمه كما لا يخفى على المتأمل بالمتأمل الصادق.(2/488)
و قال سفيانُ بن عُيَيْنَةَ: سمعَ عطاءُ بن أبي رباحٍ من سعدِ بن سعيدٍ هذا الحديثَ. "وإنّما يُرْوَى هذا الحديثُ مرسلاً" .
و قد قال قومٌ من أهلِ مكةَ بهذا الحديثِ: لمْ يروْا بأساً أن يصلّيَ الرجلُ الركعتَيْنِ بعدَ المكتوبةِ قبلَ أن تَطلُعَ الشمسُ.
قال أبو عيسى: وسعدُ بن سعيدٍ هو أخو يحيى بنِ سعيدٍ الأنصاريّ. قال وقيسٌ هو جدّ يحيى بن سعيدٍ. ويقالُ هو قيسُ بن عمرٍو. ويقالُ هو قيسُ بن قهدٍ وإسنادُ هذا الحديثِ ليسَ بمتصلٍ، محمدُ بنُ إبراهيمَ التيميّ لمْ يسمَعْ
ـــــــ
قوله: "حديث محمد بن إبراهيم لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث سعد بن سعيد" والحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد في مسنده وابن شيبة والدارقطني والحاكم "وقال سفيان بن عيينة سمع عطاء بن أبي أبي رباح من سعد بن سعيد" هذا الحديث وإنما يروى هذا الحديث مرسلاً وقال أبو داود في سننه بعد ذكر حديث الباب ما لفظه: حدثنا حامد بن يحيى البلخي قال قال سفيان: كان عطاء بن أبي رباح يحدث بهذا الحديث عن سعد بن سعيد ، قال أبو داود: وروى عبد ربه ويحيى ابنا سعيد هذا الحديث مرسلاً أن جدهم زيداً صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القصة.
قوله: "وقد قال قوم من أهل مكة بهذا الحديث لم يروا بأساً أن يصلي الركعتين بعد المكتوبة قبل أن تطلع الشمس" وهذا هو مذهب عطاء وطاووس وابن جريج والشافعي. قال الخطابي في المعالم قد اختلف الناس في وقت قضاء ركعتي الفجر ، فروى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال يقضيهما بعد صلاة الصبح وبه قال عطاء وطاووس وابن جريج ، وقالت طائفة يقضيها إذا طلعت الشمس ، وبه قال القاسم بن محمد وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أحب قضاهما إذا ارتفعت الشمس فإن لم يفعل فلا شيء عليه لأنه تطوع ، وقال مالك يقضيهما ضحى إلى وقت زوال الشمس ولا يقضيهما بعد الزوال انتهى. وقال الشوكاني في النيل قال العراقي والصحيح من(2/489)
من قيسٍ.
ـــــــ
مذهب الشافعي أنهما يفعلان بعد الصبح ويكونان أداء انتهى.
قوله: "وقيس هو جد يحيى بن سعيد ويقال هو قيس بن عمرو ويقال هو قيس بن قهد" بفتح القاف وسكون الهاء وبالدال "وإسناد هذا الحديث ليس بمتصل ، محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس" قال الشوكاني في النيل: قول الترمذي إنه مرسل ومنقطع ليس بجيد فقد جاء متصلاً من رواية يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس ، رواه ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان من طريقه وطريق غيره والبيهقي في سننه عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس المذكور ، وقد قيل إن سعيد بن قيس لم يسمع من أبيه فيصح ما قاله الترمذي من الانقطاع ، وأجيب عن ذلك بأنه لم يعرف القائل بذلك انتهى.
قلت: الأمر كما قال الشوكاني فقد أخرج ابن حبان في صحيحه قال حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ووصيف بن عبد الله الحافظ قالا حدثنا الربيع بن سليمان قال حدثنا أسد بن موسى قال حدثنا الليث بن سعد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس بن قهد أنه صلى الله عليه وسلم الصبح ولم يكن ركع ركعتي الفجر فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فركع ركعتي الفجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فلم ينكر عليه ورجاله ورجاله كلهم ثقات ، أما ابن أبي شيبة وشيخه محمد بن إسحاق بن خزيمة فهما إمامان جليلان حافظان ثقتان ثبتان ، وأما الربيع بن سليمان وهو أبو محمد المرادي المصري المؤذن صاحب الشافعي فقال الحافظ في التقريب ثقة ، وقال في التهذيب: قال النسائي لا بأس به ، وقال ابن يونس كان ثقة وكذا قال الخطيب ، وقال ابن أبي حاتم: سمعنا منه هو صدوق ثقة سئل أبي عنه فقال صدوق ، وقال الخليلي ثقة متفق عليه انتهى. وأما أسد بن موسى ويقال له أسد السنة فقال البخاري مشهور الحديث. وقال النسائي ثقة ، وقال ابن يونس: حدث بأحاديث منكرة وأحسب الاَفة من غيره ، وقال أيضاً هو وابن قانع والعجلي والبزار ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات كذا في الخلاصة. وأما الليث بن سعد فقال الحافظ في التقريب ثقة ثبت فقيه إمام مشهور. وأما يحيى بن سعيد بن قيس فقال الحافظ في التقريب ثقة ثبت. وأما سعيد بن قيس فثقة أورده ابن حبان في كتاب ثقات التابعين. وأما قيس جد يحيى بن سعيد الخطابي من أهل المدينة ، وأخرج الحاكم هذا الحديث هذا في المستدرك قال: حدثنا(2/490)
وروىَ بعضُهم هذا الحديثَ عن سعِد بن سعيدٍ عن محمدِ بنِ إبراهيمَ "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرجَ فرأى قيساً".
ـــــــ
أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الفجر فصلى معه ، فلما سلم قام فصلى ركعتي الفجر فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ما هاتان الركعتان؟ فقال لم أكن صليتهما قبل الفجر ، فسكت ولم يقل شيئاً" . قيس بن قهد الأنصاري صحابي والطريق إليه صحيح انتهى. وأخرجه الدارقطني في سننه قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا الربيع بن سليمان ونصر بن مرزوق قالا أخبرنا أسد بن قيس الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمثل لفظ الحاكم: وأما ما قيل من أن سعيد بن قيس لم يسمع من أبيه فقد ذكر الشوكاني جوابه وهو أنه لم يعرف القائل بذلك. وقد عرفت آنفاً أن الحاكم قد قال بعد إخراجه قيس بن قهد الأنصاري صحابي والطريق إليه صحيح.
فإن قلت: قال الحافظ في الإصابة في تمييز الصحابة: وأخرجه ابن مندة من طريق أسد بن موسى عن الليث عن يحيى عن أبيه عن جده وقال غريب تفرد به أسد موصولاً ، وقال غيره عن الليث عن يحيى أنه حديثه مرسل.
قلت: تفرده لا يقدح في صحة الحديث لأنه ثقة ، قال النووي في مقدمة المنهاج: إذا رواه بعض الثقات الضابطين متصلاً وبعضهم مرسلاً أو بعضهم موقوفاً وبعضهم مرفوعاً أو وصله هو أو رفعه في وقت وأرسله أو وقفه في وقت فالصحيح الذي قاله المحققون من المحدثين ، وقاله الفقهاء وأصحاب الأصول وصححه الخطيب البغدادي: أن الحكم لمن وصله أو رفعه سواء كان المخالف له مثله أو أكثر أو أحفظ لأنه زيادة ثقة وهي مقبولة. وقال في شرح مسلم في باب صلاة الليل: إن الصحيح بل الصواب الذي عليه الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين: أنه إذا روى الحديث مرفوعاً وموقوفاً أو موصولاً ومرسلاً حكم بالرفع والوصل لأنها زيادة ثقة ، وسواء كان الرافع والواصل أكثر أو أقل في الحفظ والعدد انتهى.(2/491)
ـــــــ
فإن قلت: قال الشيخ يوسف بن موسى في المعتصر من المحتصر: وما روى الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس بن قهد ثم سافه ثم قال فهو من الأحاديث التي لا يحتج بمثلها لعلة في رواته ذكرت مفصلة في المطول انتهى كلامه ، فكيف يكون هذا الحديث صحيحاً قابلاً للاحتجاج؟
قلت: الشيخ يوسف بن موسى صاحب المعتصر ليس من أئمة الحديث ، وقوله هذا ليس مما يعول عليه ، فإنه ليس في رواته علة توجب القدح في صحة الحديث. وأما ما قيل من أن سعيد بن قيس لم يسمع من أبيه فقد عرفت الجواب عن ذلك وكذا عرفت الجواب عن تفرد أسد بن موسى به، فالحديث صحيح قابل للاحتجاج وله شواهد، منها ما أخرجه الترمذي في هذا الباب ، ومنها ما أخرج ابن حزم في المحلى عن الحسن بن ذكوان عن عطاء بن أبي رباح عن رجل من الأنصار "قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي بعد الغداة فقال: يا رسول الله لم أكن صليت ركعتي الفجر فصليتهما الاَن ، فلم يقل شيئاً" . قال العراقي: إسناده حسن. ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه مرسلاً قال: حدثنا هشيم عن عبد الملك عن: عطاء أن رجلاً صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح الحديث. وفي الباب روايات أخرى.(2/492)
310ـ بابُ ما جاءَ في إعادتِهِما بعدَ طُلوعِ الشمس
421 ـ حدثنا عقبةُ بنُ مُكْرَمٍ العميّ البصريّ حدثنا عمرُو بن عاصمٍ
ـــــــ
"بابُ ما جاءَ في إعادتِهِما بعدَ طُلوعِ الشمس"
قوله: "حدثنا عقبة" بضم العين وسكون القاف "بن مكرم" بضم الميم وسكون الكاف وفتحا الراء "العمى" بفتح العين المهملة وتشديد الميم أبو عبد الملك البصري ثقة كذا في التقريب ، وقال في الخلاصة: روى يحيى القطان وغندر بن مهدي وخلق وعنه م د ت ق ، قال أبو داود ثقة ثقة "أخبرنا عمرو بن عاصم" بن عبيد الله الكلابي(2/492)
حدثنا همامٌ عن قتادةَ عن النضْرِ بنِ أنسٍ عن بَشِيرِ بنِ نَهِيكٍ عن أبي هريرةَ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يصلّ ركعتَيْ الفجرِ فليصلهمَا بعد ما تطلعُ الشمسُ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ لا نعرفهُ إلا من هذا الوجهِ. وقد رُوِيَ عن ابن عمرَ أنه فعلهُ والعملُ على هذا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ.
ـــــــ
القيسي أبو عثمان البصري صدوق في حفظه شيء كذا قال الحافظ في التقريب. وقال في مقدمة الفتح وثقه ابن معين والنسائي ، وقال أبو داود: لا أنشط لحديثه وقدم عليه الحوضي قال الحافظ. قد احتج به أبو داود في السنن والباقون انتهى "عن بشير بن نهيك" بفتح النون وكسر الهاء وآخره كاف السدوسي البصري ثقة.
قوله: "من لم يصل ركعتي الفجر فليصليهما بعد ما تطلع الشمس" وفي رواية الدارقطني والحاكم: من لم يصل ركعتي الفجر حتى تطلع الشمس فليصلهما ، وفي رواية للحاكم: من نسي ركعتي الفجر فليصلهما إذا طلعت الشمس.
قوله: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه" يعني من طريق عمرو بن عاصم أخبرنا همام عن قتادة إلخ ، وأخرجه أيضاً الدارقطني في سننه من هذا الطريق ، وأخرجه أيضاً الحاكم من هذا الطريق وتقدم لفظهما آنفاً ، وقال الحاكم هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين انتهى. ولم يحكم الترمذي عليه بشيء من الصحة والضعف.
قلت: في إسناد هذا الحديث قتادة وهو مدلس ورواه عن النضر بن أنس بالعنعنة قال الحافظ بن حجر في طبقات المدلسين: قتادة بن دعامة السدوسي البصري صاحب أنس بن مالك رضي الله عنه كان حافظ عصره ، ومشهور بالتدليس وصفه به النسائي وغيره ، ثم هذا الحديث بهذا اللفظ غير محفوظ تفرد به عمرو بن عاصم عن همام وخالف جميع أصحاب همام فإنهم رووه بغير هذا اللفظ.
قوله: "وقد روى عن أبي عمر أنه فعله" أخرجه مالك في الموطأ قال إنه بلغه أن(2/493)
وبه يقول سفيانُ الثوريّ وابن المبارك والشافعي وأحمدُ وإسحاقُ قال: ولا نعلمُ أحداً رَوَىَ هذا الحديثَ عن همامٍ بهذا الإسنادِ نحو هذا إلاّ عمرو بن عاصمٍ الكلابيّ.
والمعروفُ من حديثِ قتادةَ عن النضرِ بن أنسٍ عن بشيرِ بنِ نَهِيكٍ عن أبي هريرةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعةً من صلاةِ الصبحِ قبل أن تطلُعَ الشمسُ فقد أدركَ الصبحَ".
ـــــــ
عبد الله بن عمر فاتته ركعتا الفجر فقضاهما بعد أن طلعت الشمس ، ورواه ابن أبي شيبة أيضاً.
قوله: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم ، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المبارك" قال الشوكاني في النيل بعد ذكر كلام الترمذي هذا ما لفظه: وحكاه الخطابي عن الأوزاعي ، قال العراقي: والصحيح من مذهب الشافعي أنهما يفعلان بعد الصبح ويكونان أداء. قال: والحديث لا يدل صريحاً على أن من تركهما قبل صلاة الصبح لا يفعلهما إلا بعد طلوع الشمس وليس فيه إلا الأمر لمن لم يصلهما مطلقاً أن يصليهما بعد طلوع الشمس ، ولا شك أنهما إذا تركا في وقت الأداء فعلا في وقت القضاء ، وليس في الحديث ما يدل على المنع من فعلهما بعد صلاة الصبح ، ويدل على ذلك رواية الدارقطني والحاكم والبيهقي فإنهما بلفظ: من لم يصل ركعتي الفجر حتى تطلع الشمس فليصلهما انتهى كلام الشوكاني.
قوله: "والمعروف من حديث قتادة إلخ" الظاهر أن مقصود الترمذي أن حديث الباب باللفظ المذكور شاذ والمحفوظ ما هو المعروف من حديث قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح. والله تعالى أعلم.(2/494)
311ـ باب ما جاءَ في الأربع قَبلَ الظهر
422ـ حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو عامرٍ العقديّ أخبرنا سفيانُ عن أبي إسحاقَ عن عاصمِ بن ضَمْرَةَ عن علي قال: "كانَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي قبلَ الظهرِ أربعاً وبعدها ركعتَيْنِ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الأربع قَبلَ الظهر"
قوله: "حدثنا بندار" بضم الموحدة وسكون النون هو محمد بن بشار "أخبرنا أبو عامر" اسمه عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي بفتح المهملة والقاف ثقة من التاسعة "عن عاصم بن ضمرة" السلولي الكوفي صدوق من الثالثة ، وقال في الخلاصة: وثقه ابن المديني وابن معين وتكلم فيه غيرهما.
قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين" على هذا العمل عند أكثر أهل العلم كما صرح به الترمذي وتمسكوا بهذا الحديث وبحديث عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة أخرجه البخاري ، وبحديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة ، أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر صلاة الغداة ، أخرجه الترمذي في باب من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة من السنة ماله من الفضل وقال حسن صحيح. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ركعتان أيضاً قبل الظهر. روى الشيخان عن ابن عمر قال: حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب في بيته ، بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الصبح. قال الحافظ في الداودي: وقع في حديث ابن عمر أن قبل الظهر ركعتين وفي حديث عائشة أربعاً ، وهو محمول على أن كل واحد منهما(2/495)
وفي الباب عن عائشةَ وأمّ حبيبةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ علي حديث حسنٌ.
قال أبو بكرٍ العطارُ: قال عليّ بن عبدِ الله عن يحيى بن سعيدٍ عن سفيانَ قال: كنّا نعرفُ فضلَ حديثِ عاصمِ بنِ ضَمْرَةَ على حديثِ الحارثِ.
ـــــــ
وصف ما رأى ، قال ويحتمل أن يكون ابن عمر نسي ركعتين من الأربع. قال الحافظ هذا الاحتمال بعيد والأولى أن يحمل على حالين فكان يصلي تارة ثنتين وتارة يصلي أربعاً ، وقيل هو محمول على أنه كان يقتصر في المسجد على ركعتين وفي بيته يصلي أربعاً ، ويحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين ، ويقوي الأول ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعاً ثم يخرج ، قال أبو جعفر الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله وركعتان في قليلها انتهى كلام الحافظ.
قلت: والأولى أن يحمل على الحالين فكان تارة يصلي أربعاً وتارة ركعتين كما قال الحافظ: والله تعالى أعلم.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وأم حبيبة" تقدم تخريج حديثهما آنفاً.
قوله: "حديث علي حديث حسن" في إسناده أبو إسحاق السبيعي وهو مدلس ورواه عن عاصم بن ضمرة بالعنعنة.
قوله: "حدثنا أبو بكر العطار" اسمه أحمد بن محمد بن إبراهيم الأبلي صدوق "قال قال علي بن عبد الله" بن جعفر الحسن بن المديني أعلم أهل عصره بالحديث وعلله حتى قال البخاري ما استصغرت نفسي إلا عنده "عن يحيى بن سعيد" بن فروخ القطان أحد أئمة الجرح والتعديل "عن سفيان" هو الثوري كما في الميزان "كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث" أي الأعور وقال أحمد هو أعلى من(2/496)
والعملُ على هذا عندَ أكثرَ أهلِ العلمِ من أصحابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن بعدَهُم: يختارونَ أن يُصلّيَ الرجلُ قبلَ الظهرِ أربعَ ركعاتٍ وهو قولُ سفيانَ الثوريّ وابنِ المباركِ وإسحاقَ.
وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: صلاةُ الليلِ والنهارِ مثنَى مثنَى ، يرونَ الفصلَ بين كل ركعتَيْنِ وبه يقولُ الشافعيّ وأحمدُ.
ـــــــ
الحارث الأعول وهو عندي حجة ، وقال ابن حبان: روى عنه ، أبو إسحاق والحكم ، كان رديء الحفظ ، فاحش الخطأ ، يرفع عن علي قوله كثيراً فاستحق الترك على أنه أحسن حالاً من الحارث كذا في الميزان.
قوله: "وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق" وهو قول الحنفية "وقال بعض أهل العلم: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى يرون الفصل بين كل ركعتين وبه يقول الشافعي وأحمد" واستدل لهم بحديث ابن عمر مرفوعاً صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ، رواه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان من طريق علي بن عبد الله البارقي الأزدي عنه وأصله في الصحيحين بدون ذكر النهار.
وفيه أن في صحة زيادة: والنهار ، في هذا الحديث كلاماً قال الحافظ في الفتح: إن أكثر أئمة الحديث أعلوا هذه الزيادة وهي قوله: والنهار بأن الحافظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه ، وحكم النسائي على راويها بأنه أخطأ فيها ، وقال يحيى بن معين: من علي الأزدي حتى أقبل منه؟ وادعى يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع أن ابن عمر كان يتطوع بالنهار أربعاً يفصل بينهن بتسليم وهو الحنفية وغيرهم لمفهوم حديث ابن عمر: صلاة الليل مثنى مثنى ، أخرجه الشيخان.
وتعقب بأنه مفهوم لقب وليس بحجه على الراجح وبأنه خرج جواباً للسؤال عن صلاة الليل الجواب بذلك مطابقة للسؤال وبحديث أبي أيوب مرفوعاً قال: أربع قبل الظهر ليس فيهن بتسليم تفتح لهن أبواب السماء. أخرجه أبو داود والترمذي في الشمائل ، ورواه ابن ماجه في سننه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل(2/497)
ـــــــ
الظهر أربعاً إذا زالت الشمس لا يفصل بينهن بتسليم ، وضعفه أبو داود. وقال أبو عبيدة بن معتب الضبي انتهى ، ورواه محمد بن الحسن في موطأه حدثنا بكير بن عامر البجلي عن إبراهيم والشعبي عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر أربعاً إذا زالت الشمس ، فسأله أبو أيوب الأنصاري عن ذلك فقال: إن أبواب السماء تفتح في هذه الساعة فأحب أن يصعد لي في تلك الساعة خير ، قلت أفي كلهن قراءة؟ا قال نعم ، قتل أتفصل بينهن بسلام؟ فقال لا.
قلت: حديث أبي أيوب هذا ضعيف بكلتا الطريقين أما طريق أبي داود وغيره ففيها أبو عبيدة بن معتب الضبي وهو ضعيف ومع ضعفه قد اختلط بآخره كما صرح به الحافظ. وقال الزيلعي في نصب الراية: قال صاحب التنقيح وروى: ابن خزيمة هذا الحديث في مختصر المختصر وضعفه فقال: وعبيدة بن معتب ليس ممن يجوز الاحتجاج بخبره انتهى. وأما طريق محمد بن الحسن ففيها بكير بن عامر البجلي وهو ضعيف كما في التقريب. وقال في الميزان ضعفه ابن معين والنسائي. وقال أبو زرعة ليس بقوي. وقال أحمد ليس بذاك ، وقال مرة ليس به بأس انتهى. ولم أجد حديثاً مرفوعاً صحيحاً صريحاً في الفصل بين الأربع قبل الظهر بالتسليم ولا في الوصل بينهن ، فإن شاء صلاهن بسلام واحد ، وإن شاء صلاهن بسلامين. هذا ما عندي والله تعالى أعلم.(2/498)
312ـ باب ما جَاء في الركعتَيْنِ بعدَ الظّهر
423ـ حدثنا أحمدُ بن منيعٍ ، حدثنا إسماعيلُ بنُ إِبْرَاهِيمَ عنَ أيوبَ عن
ـــــــ
"باب ما جَاء في الركعتَيْنِ بعدَ الظّهر"
قوله: "وركعتين بعدها" فيه أن السنة بعد الظهر ركعتان وقد جاء أربع ركعات أيضاً كما رواه الترمذي في الباب الاَتي.(2/498)
نافعٍ عن ابنِ عمرَ قال: "صليتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتَين قبل الظهرِ وركعتينِ بعدَها".
قال وفي الباب عن عليّ وعائشةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عمرَ حديثٌ صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن علي وعائشة" أما حديث علي فأخرجه الترمذي في الباب المتقدم ، وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم.
قول "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان مطولاً وتقدم في الباب المتقدم.(2/499)
313ـ باب آخر
424ـ حدثنا عبدُ الوارثِ بنُ عبيدِ الله العَتَكيّ المروَزِيّ أخبرنا عبدُ الله بنُ المباركِ عن خالدٍ الحذاءِ عن عبدِ الله بنِ شقيقٍ عن عائشةَ "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يُصَلّ أربعاً قبلَ الظهرِ صلاهنّ بعده".
ـــــــ
"باب آخر"
قوله: "حدثنا عبد الوارث بن عبيد الله العتكي" بفتح العين المهملة والمثناة الفوقية صدوق.
قوله: "كان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعدها" أي بعد الظهر بعد الركعتين ، ففي رواية ابن ماجه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر صلاهن بعد الركعتين بعد الظهر ، ورواه رواية ابن ماجه كلهم ثقات إلا قيس بن الربيع ففيه مقال وقد(2/499)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن غريبٌ إنما نعرفهُ مِن حديثِ ابنِ المباركِ من هذا الوجهِ : وقد ورواه قيسُ بن الربيعِ عن شعبةَ عن خالدٍ الحذاء نَحو هذا. ولا نعلمُ أحداً رواهُ عن شعبةَ غيرَ قيسِ بنِ الربيعِ.
وقد رُوِيَ عن عبدِ الرحمَنِ بنِ أبي ليلى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوُ هذا.
425ـ حدثنا عليّ بن حُجْرٍ ، أخبرنا يزيدُ بن هارونَ عن محمدِ بنِ عَبْدِ الله
ـــــــ
وثق قاله الشوكاني. قلت: قال الحافظ في التقريب في ترجمته: صدوق تغير لما كبر وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به انتهى. والحديث يدل على مشروعية المحافظة على السنن التي قبل الفرائض وعلى امتداد وقتها إلى آخر وقت الفريضة وذلك لأنها لو كانت أوقاتها تخرج بفعل الفرائض لكان فعلها بعدها قضاء وكانت مقدمة على فعل سنة الظهر ، وقد ثبت في حديث الباب أنها تفعل بعد ركعتي الظهر ، ذكر معنى ذلك العراقي قال: وهو الصحيح عند الشافعية قال: وقد يعكس هذا فيقال لو كان وقت الأداء باقياً لقدمت على ركعتي الظهر ، وذكر أن الأول أولى كذا في النيل.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" قال الشوكاني في النيل: رجال إسناده ثقات إلا عبد الوارث بن عبيد الله العتكي وقد ذكره ابن حبان في الثقات انتهى. قلت: وقد قال الحافظ إنه صدوق "ورواه قيس بن الربيع عن شعبة عن خالد الحذاء نحو هذا" أخرجه ابن ماجه وتقدم لفظه "وقد روى عن الرحمن بن أبي ليلى عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا" أخرجه ابن أبي شيبة عنه مرسلاً بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاتته أربع قبل الظهر صلاها بعدها.
قوله أخبرنا "يزيد بن هارون" ثقة متقن "عن محمد بن عبد الله الشعيثي" بضم الشين المعجمة وفتح العين المهملة وبعدها تحتانية ساكنة ثم مثلثة قال الحافظ صدوق، وقال في النيل وثقه دحيم والمفضل بن غسان العلائي وابن حبان انتهى "عن(2/500)
الشّعَيْثِيّ عن أبيهِ عن عنبسةَ بن أبي سُفيانَ عن أمّ حبيبةَ قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى قبلَ الظهرِ أربعاً وبعدها أربعاً حرّمَهُ الله على النارِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ غريبٌ وقد رُوِيَ من غير هذا الوجهِ.
ـــــــ
أبيه" أي عبد الله بن المهاجر الشعثي النصري الدمشقي ، قال الحافظ مقبول وذكره ابن حبان في الثقات "عن عنبسة بن أبي سفيان" قال في التقريب: عنبسة بن أبي سفيان بن حرب بن أمية القرشي الأموي أخو معاوية يكنى أبا الوليد وقيل غير ذلك ، يقال له رواية وقال أبو نعيم اتفق الأئمة على أنه تابعي وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. مات قبل أخيه.
قوله: "من صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً حرمه الله على النار" وفي رواية لم تمسه النار ، وفي رواية حرم على النار ، وفي رواية حرم الله لحمه على النار. وقد اختلف في معنى ذلك هل المراد أنه لا يدخل النار أصلاً أو أنه إن قدر عليه دخولها لا تأكله النار أو أنه يحرم على النار أن تستوعب أجزاءه وإن مست بعضه كما في بعض طرق الحديث عند النسائي بلفظ: فتمس وجهه النار أبداً. وهو موافق لقوله في الحديث الصحيح وحرم على النار أن تأكل مواضع السجود فيكون قد أطلق الكل وأريد البعض مجازاً والحمل على الحقيقة أولى وأن الله تعالى يحرم جميعه على النار ، وفضل الله أوسع ورحمته أعم ، وظاهر قوله من صلى أن التحريم يحصل بمرة واحدة لكن الرواية الاَتية بلفظ من حافظ تدل على أن التحريم لا يحصل إلا للمحافظ.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه الخمسة كذا في المنتقى.
قوله: "حديث أبو بكر بن إسحاق البغدادي" المغاني بفتح المهملة ثم المعجمة ثقة ثبت "حديث عبد الله بن يوسف التنيسي" بكسر مثناة فوق وقيل بفتحها وكسر نون مشددة فمثناة تحت وسين مهملة ، لذا في المغنى. قال الحافظ في الفتح ثقة متقن "عن القاسم أبي عبد الرحمن" قد بين ترجمته الترمذي في آخر هذا الباب.(2/501)
426ـ حدثنا أبو بكرٍ محمدُ بن إسحاقَ البغداديّ حدثنا عبدُ الله بنُ يوسفَ التنيسيّ الشاميّ حدثنا الهيثمُ بنُ حُميدٍ أخبرني العلاءُ بن الحارثِ عن القاسمِ أبي عبدِ الرحمَنِ عن عنبسةَ بنِ أبي سفيانَ قال: سمعتُ أختي أمّ حبيبةَ زوجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم تقولُ سمعتُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: " من حافظ على أربعِ ركعاتٍ قبلَ الظهرِ وأربعٍ بعدَها حرّمهُ الله على النارِ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجهِ.
والقاسمُ هو ابنُ عبدِ الرحمَنِ يُكنَى أبا عبدِ الرحمَنِ وهو مولى عبدِ الرحمنِ بنِ خالدِ بن يزيدَ بنِ معاويةَ وهو ثقةٌ شاميٌ وهو صاحبُ أبي أمامةَ.
ـــــــ
قوله: "من حافظ" أي داوم واظب قال القاري في المرقاة ركعتان منها مؤكدة وركعتان مستحبة فالأولى بتسليمتين بخلاف الأولى انتهى ، قلت فيه ما فيه كما لا يخفى على المتأمل وقال الشوكاني في النيل: والحديث يدل على تأكد استحباب أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعده وكفى بهذا الترغيب باعثاً على ذلك انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
قوله: "وهو ثقة شامي" قال المنذري في تلخيص السنن: القاسم هذا اختلف فيه فمنهم من يضعف روايته ومنهم من يوثقه انتهى. قلت قال الحافظ في التقريب إنه صدوق ، وقال الذهبي في الميزان: وثقه ابن معين من وجوه عنه. وقال الجوزجاني كان خياراً فاضلاً أدرك أربعين من المهاجرين والأنصار. وقال الترمذي ثقة. وقال يعقوب بن شيبة منهم من يضعفه انتهى ، وقال الذهبي قبل هذا: قال الإمام أحمد: روى عنه علي بن يزيد أعاجيب وما أراها إلا من قبل القاسم. وقال ابن حبان كان القاسم أبو عبد الرحمن يزعم أنه لقي أربعين بدرياً. كان ممن يروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعضلات وأتى عن الثقات بالمقلوبات حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها انتهى.(2/502)
314ـ باب ما جاءَ في الأربعِ قبلَ العصْر
427ـ حدثنا بُندارٌ محمدُ بنُ بشارٍ، حدثنا أبو عامرٍ حدثنا سفيانُ عن أبي إسحاقَ عن عاصمِ بنِ ضَمْرَةَ عن علِيّ قال: "كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي قبلَ العصرِ أربَع ركعاتٍ يفصلُ بينهنّ بالتسليمِ على الملائكةِ المقربينَ ومن تَبِعهمْ من المسلمينَ والمؤمنينَ".
وفي الباب عن ابنِ عمرَ وعبدِ الله بن عمرٍو.
ـــــــ
"باب ما جاءَ في الأربعِ قبلَ العصْر"
قوله: "أخبرنا أبو عامر" العقدي اسمه عبد الملك بن عمرو القيسي ثقة "أخبرنا سفيان" الظاهر أنه هو الثوري "عن أبي إسحاق" اسمه عمرو بن عبد الله السبيعي ثقة مدلس "عن عاصم بن ضمرة" السلولي صدوق.
قوله: "يصلي قبل العصر أربع ركعات" فيه استحباب أربع ركعات قبل العصر ، وروى أبو داود من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر ركعتين ، فالمراد أنه صلى الله عليه وسلم أحياناً يصلي أربع ركعات وأحياناً ركعتين جمعاً بين الروايتين ، فالرجل مخير بين أن يصلي أربعاً أو ركعتين والأربع أفضل "يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين" المراد بالتسليم التشهد دون تسليم التحلل كما ستقف عليه.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو" وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط مرفوعاً بلفظ. من صلى أربع ركعات قبل العصر لم تمسه النار. وفي الباب أيضاً عن أبي هريرة عند أبي نعيم قال: قال رسول الله(2/503)
وقال أبو عيسى: حديثُ علي حديثٌ حسَنٌ.
واختارَ إسحاقُ بنُ إِبْرَاهِيمَ أن لاَ يُفصَل في الأربعِ قبلَ العصرِ ، واحتجّ بهذا الحديثِ ، و وقال اسحَق: معنى أنّه يفصلُ بينهنّ بالتسليم يَعْنِي التشهدَ.
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم: من صلى ركعات قبل العصر غفر الله له: وهو من رواية الحسن عن أبي هريرة وهو لم يسمع منه. وعن أم سلمة عند الطبراني في الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى أربع ركعات قبل العصر حرم الله بدنه على النار. كذا في النيل.
قوله: "حديث علي حديث حسن" قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه: رواه أحمد الترمذي والبزار والنسائي من حديث عاصم بن ضمرة عنه يعني عن علي. قال البزار لا تعرفه إلا من حديث عاصم. وقال الترمذي: كان ابن المبارك يضعف هذا الحديث انتهى كلام الحافظ.
قلت: قد أعاد الترمذي حديث علي هذا في الباب كيف يتطوع النبي صلى الله عليه وسلم بالنهار ، وذكر هناك أنه روى عن ابن المبارك أنه كان يضعف هذا الحديث ، ونذكر هناك ما في هذا الحديث من الكلام.
قوله: "واختار إسحاق بن إبراهيم أن لا يفصل في الأربع قبل العصر" ألا يصلي الأربع بتسليمتين بل بتسليمة واحدة "واحتج بهذا الحديث وقال معنى قوله إنه يفصل بينهن بالتسليم يعني التشهد" قال البغوي: المراد بالتسليم التشهد دون السلام أي وسمى تسليماً على من ذكر لاشتماله عليه ، وكذا قاله ابن الملك. قال الطيبي: ويؤيده حديث عبد الله بن مسعود: كنا إذا صلينا قلنا السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل وكان ذلك في التشهد انتهى.
قلت: وقيل المراد بالتسليم التحلل من الصلاة والراجح عندي هو ما اختاره(2/504)
ورأى الشافعيّ وأحمدُ: صلاةَ الليلِ والنهارِ مثنَى مثنَى. يختاران الفصلَ "في الأربع قبل العصر" .
428ـ حدثنا يحيى بنُ موسى و محمودُ بن غَيْلانَ و أحمدُ بن إبراهيمَ وغيرُ واحدٍ قالوا حدثنا أبو داودَ الطيالِسيّ حدثنا محمدُ بن مسلمِ بن مهرانَ سَمعَ جدّه عن ابنِ عمرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "رحِمَ الله أمرأً صلى قبلَ العصرِ أربعاً".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ غريب حسن.
ـــــــ
إسحاق ويأتي تحقيقه حيث أعاد الترمذي هذا الحديث "ورأى الشافعي وأحمد صلاة الليل والنهار مثنى مثنى أن الفصل أي بتسليمتين وهو مذهب الجمهور وقال أبو حنيفة صلاة الليل والنهار رباع رباع وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد صلاة الليل مثنى مثنى وصلاة النهار رباع رباع" . والاختلاف في الأولوية ، ونذكر دلائل كل من هؤلاء مع بيان مالها وما عليها وما هو الأولى عندي في هذه المسألة في باب كيف يتطوع النبي صلى الله عليه وسلم بالنهار.
قوله: "وأحمد بن إبراهيم" بن كثير الدورقي النكري البغدادي روى عنه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم. قال أبو حاتم صدوق ، وقال صالح جزرة كان أحمد أكثرهما حديثاً وأعلمهما بالحديث ، وكان يعقوب يعني أخاه أسندهما ، وكانا جميعاً ثقتين ، وكان مولد أحمد سنة (168) ومات في شعبان سنة (246) قاله الحافظ "أخبرنا محمد بن مسلم بن مهران" هو محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران بن المثنى ، قال الدارقطني بصري يحدث عن جده لا بأس بهما ، وقال ابن حبان في الثقات كان يخطيء "سمع جده" هو مسلم بن مهران أبو المثنى. قال الحافظ: مسلم بن المثنى ، ويقال بن مهران بن المثنى أبو المثنى الكوفي روى عن ابن عمر وعنه حفيده محمد بن إبراهيم بن مسلم قال أبو زرعة ثقة وذكره ابن حبان في الثقات.
قوله: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً" قال العراقي: يحتمل أن يكون دعاء وأن يكون خبراً.
قوله: "هذا حديث حسن غريب" كذا في النسخ الموجودة بتقديم لفظ حسن على(2/505)
ـــــــ
لفظ غريب. وقال العراقي: جرت عادة المصنف على أن يقدم الوصف بالحسن على الغرابة وقدم هنا غريب على حسن والظاهر أنه يقدم الوصف الغالب على الحديث فإن غلب عليه الحسن قدمه وإن غلبت عليه الغرابة قدمها، وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يعرف إلا من هذا الوجه وانتفت فيه وجوه المتابعات والشواهد فغلب عليه وصف الغرابة انتهى كذا في قوت المغتذي. فيظهر من كلام العراقي هذا أنه كان في النسخة الموجودة انتهى كلام في قوت المغتذي. فيظهر من كلام العراقي هذا أنه كان في النسخة الموجودة عنده هذا غريب حسن بتقديم لفظ غريب على لفظ حسن. وحديث ابن عمر هذا قال الحافظ في التلخيص بعد ذكره. رواه أبو داود والترمذي وحسنه ابن حبان وصححه وكذا شيخه ابن خزيمة من حديث ابن عمر وفيه محمد بن مهران وفيه مقال لكن وثقه ابن حبان انتهى.(2/506)
315 ـ باب ما جاء في الركعتَيْنِ بعدَ المغربِ والقراءةِ فيهما
429ـ حدثنا محمدُ بن المثنّى حدثنا بَدَلُ بن المحبّرِ أخبرنا عبدُ الملكِ بن معدانَ عن عاصمِ بن بَهدلَةَ عن أبي وائلٍ عن عبدِ الله بنِ مسعودٍأنه قال:
ـــــــ
"باب ما جاء في الركعتَيْنِ بعدَ المغربِ والقراءةِ فيهما"
قوله: "أخبرنا بدل" بفتحتين "بن المحبر" على وزن محمد وهو بالمهملة بعد الميم وبالموحدة ثقة ثبت إلا في حديثه عن زائدة "أخبرنا بعد الملك بن معدان" هو عبد الملك بن الوليد بن المعدان. قال الذهبي في الميزان: قال ابن معين: صالح ، وقال أبو حاتم ضعيف ، وقال ابن حبان يقلب الأسانيد لا يحل الاحتجاج به. وقال البخاري فيه نظر سمع منه بدل وعبد الصمد انتهى. وقال الحافظ في التقريب ضعيف "عن عاصم بن بهدلة" بفتح الموحدة وسكون الهاء وفتح الدال المهملة هو ابن أبي النجود الكوفي أحد السبعة القراء ثبت في القراءة وهو في الحديث دون الثبت صدوق بهم. وقال النسائي ليس(2/506)
"ما أُحصى ما سمعتُ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: يقرأُ في الركعتينِ بعدَ المغربِ وفي الركعتَيْنِ. قبلَ صلاةِ الفجْرِ بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " وفي الباب عن ابن عمرَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ مسعودٍ حديثٌ غريبٌ من حديثِ ابن مسعودٍ لا نعرفه إلا من حديثِ عبدِ الملكِ بن معدانَ عن عاصمٍ.
ـــــــ
بحافظ. وقال الدارقطني في حفظه شيء. وقال أبو حاتم محله الصدق. وقال ابن خراش في حديثه نكرة. قال الذهبي هو حسن الحديث وقال أحمد وأبو زرعة ثقة خرج له الشيخان لكن مقروناً بغيره لا أصلاً وانفراداً. انتهى كلام الذهبي. وقال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون انتهى.
قوله: "قال ما أحصى" أي لا أستطيع أن أعد "ما سمعت" ما مصدرية أو موصولة "يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل صلاة الفجر بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد" أي يقرأ في الركعة الأولى منهما "قل يا أيها الكافرون وفي الثانية قل هو الله أحد" على استحباب قراءة هاتين السورتين في الركعتين بعد المغرب.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر" أخرجه الخمسة إلا النسائي كذا في المنتقى. وقال في النيل وأخرجه أيضاً مسلم.
قوله: "حديث ابن مسعود حديث غريب" هو حديث ضعيف لضعف عبد الملك بن معدان لكن له شواهد تعضده.(2/507)
316 ـ باب ما جاءَ أنهُ يصليهِما في البيت
430ـ حدثنا أحمدُ بن منيعٍ ، حدثنا إسماعيلُ بن إبراهيمَ عن أيوبَ عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ قال: "صليتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتَيْنِ بعدَ المغربِ في بيتِهِ".
وفي الباب عن رافعِ بنِ خَديجٍ وكعبِ بن عُجرةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عمرَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"باب ما جاءَ أنهُ يصليهِما في البيت"
قوله: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد المغرب في بيته" المراد من المعية هذه مجرد المتابعة في العدد وهو أن ابن عمر صلى ركعتين وحده كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين لا أنه اقتدى به عليه الصلاة والسلام فيهما ، قاله العيني. وقال الحافظ بنحو ذلك ثم قال. فلا حجة فيه لمن قال يجمع في رواتب الفرائض انتهى. وأحاديث الباب تدل على أن الأفضل أن يصلي سنة المغرب في البيت.
قوله: "وفي الباب عن رافع بن خديج وكعب بن عجرة" بضم العين المهملة وسكون الجيم والراء المهملة ، أما حديث رافع فأخرجه ابن ماجه بلفظ: إركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم السبحة بعد المغرب. وأما حديث كعب بن عجرة فأخرجه أبو داود بفلظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني الأشهل فصلى فيه المغرب فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال هذه صلاة البيوت.
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري.(2/508)
431ـ حدثنا الحسنُ بنُ علي الحلْوانِيّ حدثنا عبدُ الرزاقِ أخبرنا معمرٌ عن أيوبَ عن نافعٍ عن ابن عمر قال: "حفِظتُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ ركعاتٍ كان يصليها بالليلِ والنهارِ: ركعتينِ قبلَ الظهرِ ، وركعتينِ بعدَها ، وركعتين بعد المغربِ ، وركعتينِ بعد العشاءِ الاَخرةِ قال وحدثتنِي حفصةُ أنه كانَ يصلّي قبلَ الفجرِ ركعتَيْنِ".
هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ .
ـــــــ
قوله: "وركعتين قبل الظهر" وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر أربعاً ، قال الحافظ: الأولى أن يحمل على حالين فكان يصلي تارة ثنتين وتارة يصلي أربعاً "وركعتين بعد المغرب" زاد البخاري في بيته "وركعتين بعد العشاء الاَخرة" زاد البخاري في بيته. وفي رواية له أما المغرب والعشاء ففي بيته. قال الحافظ في الفتح استدل به على أن فعل النوافل الليلية في البيوت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار ، وحكى ذلك عن مالك والثوري ، وفي الاستدلال به لذلك نظر ، والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالباً وبالليل يكون في بيته غالباً ، قال وأغرب ابن أبي ليلى فقال لا تجزئ سنة المغرب في المسجد حكاه عبد الله بن أحمد عنه عقب روايته الحديث محمود بن لبيد رفعه: أن الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت ، وقال إنه حكى ذلك لأبيه عن ابن أبي ليلى فاستحسنه انتهى.
قلت: في مسند الإمام أحمد حدثنا عبد الله حدثني أبي وحدثنا ابن أبي عدي عن محمد بن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بعد الأشهل فصلى بهم المغرب فلما سلم قال اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم ، قال أبو عبد الرحمن قلت لأبن إن رجلاً قال من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد لم تجزه إلا أن يصليهما في بيته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه من صلوات البيوت. قال من قال هذا قلت محمد بن عبد الرحمن قال ما أحسن ما قال أو ما أحسن ما انتزع انتهى ما في المسند. وفيه أيضاً حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا(2/509)
432ـ حدثنا الحسنُ بنُ علي حدثنا عبدُ الرزاقِ أخبرنا معمر عن الزهريّ عن سالمٍ عن ابن عمرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: مثلَه.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني عصام بن عمر بن قتادة بنحوه. وهذا الحديث حسن وهو دليل على أن فعل الركعتين اللتين بعد المغرب في البيت أفضل وأن ذلك وقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمد.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(2/510)
317ـ بابُ ما جاء في فضلِ التطوعِ وست ركعاتٍ بعدَ المغرب
433 ـ حدثنا أبو كريبٍ يعني محمدُ بن العلاءِ الهمداني الكوفيّ حدثنا زيدُ بن الحُبابِ حدثنا عمرُ بن أبي خثعمٍ عن يحيى بن أبي كثيرٍ عن أبي سَلَمَةَ
ـــــــ
"بابُ ما جاء في فضلِ التطوعِ وست ركعاتٍ بعدَ المغرب"
قوله: "أخبرنا عمر بن أبي خثعم" هو عمر بن عبد الله بن أبي خثعم وقد ينسب إلى جده ضعيف قاله الحافظ.
قوله: "من صلى بعد المغرب" أي بعد فرضه "ست ركعات" المفهوم أن الركعتين الراتبتين داخلتان في الست وكذا في العشرين المذكورة في الحديث الاَتي قاله الطيبي ، قال القاري فيصلي المؤكدتين بتسليمة وفي الباقي بالخيار "لم يتكلم فيما بينهن" أي في أثناء أدائهن ، وقال ابن حجر إذا سلم من كل ركعتين "بسوء" أي بكلام سيء أو بكلام يوجب سوءاً "عدلن" بصيغة للمجهول وقيل بالمعلوم ، وقال الطيبي يقال عدلت فلانا بفلان(2/510)
عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "من صلّى بعدَ المغربِ ستّ ركعاتٍ لم يتكلمْ فيما بينهنّ بسوءٍ عُدِلْنَ له بعبادةِ ثِنْتَيْ عشرةَ سنةً ".
قال أبو عيسى: وقد روي عن عائشةَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من صلّى بعد المغربِ عشرينَ ركعةً بَنَى الله له بَيْتاً في الجنّة ".
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ غريبٌ.
لا نعرِفه إلا من حديث زيدِ بن الحُبابِ عن عمرَ بنِ أبي خثعم.
قال: وسمعتُ محمدَ بنَ إسماعيلَ يقولُ: عمرُ بنُ عبدِ الله بن أبي خثعمِ منكرُ الحديثُ وضعّفَهُ جداً.
ـــــــ
إذا سويت بينهما "له" أي لم صلى "بعبادة ثنتي عشرة سنة" قال الطيبي هذا من باب الحث والتحريض فيجوز أن يفضل ما لا يعرف على ما لا يعرف وإن كان أفضل حثاً وتحريضاً. وقال القاضي لعل القليل في هذا الوقت والحال يضاعف على الكثير في غيره.
قوله: "وقد روى عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى بعد المغرب عشرين ركعة إلخ" أخرجه ابن ماجه من رواية يعقوب بن الوليد المدائني عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. قال المنذري في الترغيب ويعقوب كذبه أحمد وغيره انتهى. قلت: قال الذهبي في الميزان قال أحمد خرقتا حديثه وكذبه أبو حاتم ويحيى ، وقال أحمد أيضاً كان من الكذابين الكبار يضع الحديث.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث غريب" قال المنذري في الترغيب: رواه ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والترمذي كلهم من حديث عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه "وضعفه جداً" أي تضعيفاً قوياً. قال الذهبي في الميزان له حديث منكر: أن من صلى بعد المغرب ست ركعات ومن قرأ الدخان في ليلة حدث(2/511)
ـــــــ
عنه زيد بن الحباب وعمر بن يونس اليمامي وغيرهما. وهاه أبو زرعة ، وقال البخاري منكر الحديث ذاهب انتهى.
وفي الباب عن محمد بن عمار بن ياسر قال: رأيت عمار بن ياسر يصلي بعد المغرب ست ركعات وقال: من صلى بعد المغرب ست ركعات غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر. قال المنذري في الترغيب: حديث غريب رواه الطبراني في الثلاثة وقال تفرد به صالح بن قطن البخاري. قال الحافظ المنذري: صالح هذا لا يحضرني الاَن فيه جرح ولا تعديل انتهى. قلت: لم أجد أنا أيضاً ترجمته فالله سبحانه وتعالى أعلم بحاله. وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصليت معه المغرب فصلى إلى العشاء. قال المنذري رواه النسائي بإسناد جيد ، وقد ورد في فضيلة الصلاة بين العشائين غير هذه الأحاديث ذكرها الشوكاني في النيل وقال بعد ذكرها: الأحاديث المذكورة وإن كان أكثرها ضعيفة فهي منتهضة بمجموعها لا سيما في فضائل الأعمال انتهى.(2/512)
318ـ باب ما جاء في الركعتَيْنِ بعدَ العشاء
434ـ حدثنا أبو سَلَمَةَ يحيىَ بنُ خلفٍ ، حدثنا بشرُ بنُ المفضلِ عن خالدٍ الحذاءِ عن عَبْدِ الله بن شقيقٍ قال: "سألتُ عائشةَ عن صلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يصلّي قبلَ الظهر ركعتَينِ وبعدَها ركعتَينِ ـــــــ
"باب ما جاء في الركعتَيْنِ بعدَ العشاء"
قوله: "فقالت كان يصلي قبل الظهر ركعتين" وفي رواية مسلم فقالت: كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً ثم يخرج فيصلي بالناس ، قال القاري في المرقاة: هذا دليل المختار مذهب أن المؤكدة قبلها أربع انتهى. قلت: والمختار عند الشافعية ركعتان والكل ثابت بالأحاديث الصحيحة "وبعدها ركعتين وبعد المغرب ثنتين وبعد العشاء(2/512)
وبعدَ المغربِ ثِنْتَينِ ، وبعدَ العشاءِ ركعتَينِ، وقبلَ الفجرِ ثِنْتينِ".
وفي الباب عن علي وابن عُمَرَ.
قال أبو عيسى: حديثُ عبدِ الله بنِ شقيقٍ عنْ عائشةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
ركعتين إلخ" وفي رواية مسلم ثم يدخل فيصلي ركعتين وكان يصلي بالناس بالمغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين ، ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين إلخ قال ابن الملك: فيه دليل على استحباب أداء السنة في البيت، قيل في زماننا إظهار السنة الراتبة أولى ليعملها الناس انتهى. قال القاري: أي ليعلموا عملها أو لئلا ينسبوه إلى البدعة ، ولا شك أن متابعة السنة أولى مع عدم الإلتفات إلى غير المولى.
قوله: "وفي الباب عن علي وابن عمر" أما حديث علي فلينظر من أخرجه. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان وأخرجه الترمذي أيضاً وقد تقدم.
قوله: "حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم.(2/513)
319ـ باب ما جاءَ أن صلاةَ الليلِ مثْنى مثنَى
435ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا الليثُ عن نافعٍ عنْ ابنِ عمرَ عنْ
ـــــــ
"باب ما جاءَ أن صلاةَ الليلِ مثْنى مثنَى"
قوله: "قال صلاة الليل مثنى مثنى" أي اثنين اثنين وهو غير منصرف لتكرار العدل قاله صاحب الكشاف ، وقال آخرون العدل والوصف. وأما إعادة مثنى فللمبالغة(2/513)
النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: "صلاةُ الليلِ مثْنَى مثْنَى فإذا خفت الصبحَ فأوْتر بواحدةٍ واجعلْ آخرَ صلاتِكَ وتراً ".
ـــــــ
في التأكيد ، وقد فسره ابن عمر راوي الحديث فعند مسلم من طريق عقبة بن حريث قلت لابن عمر ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين. وفيه رد على من زعم من الحنفية أن معنى مثنى أن يتشهد بين كل ركعتين لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به. قال الحافظ: وما فسره به وهو المتبادر إلى الفهم لأنه لا يقال في الرباعية مثلاً إنها مثنى.
واستدل بهذا على تعيين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل ، قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق لحصر المبتدأ في الخبر.
وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل لما صح من فعله صلى الله عليه وسلم بخلافه ، ولم يتعين أيضاً كونه كذلك بل يحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها لما فيه من الراحة غالباً وقضاء ما يعرض من أمرهم.
وقد اختلف السلف في الفصل والوصل أيهما أفضل. وقال الأثرم عن أحمد: الذي ، اختاره في صلاة الليل مثنى مثنى فإن صلى بالنهار أربعاً فلا بأس. وقال محمد بن نصر نحوه في صلاة الليل ، قال وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرها إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على الوصل إلا أنا نختار أن يسلم من كل ركعتين لكونه أجاب به السائل ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقاً كذا في الفتح.
وقال الحنفية إن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعاً ، واستدلوا بمفهوم حديث الباب.
وتعقب بأنه مفهوم لقب وليس بحجة على الراجح ، وعلى تقدير الأخذ به فليس بمنحصر في أربع وبأنه خرج جواباً للسؤال عن صلاة الليل فقيد الجواب بذلك مطابقة للسؤال ، وبأنه قد تبين من رواية أخرى أنه حكم المسكوت عنه المنطوق به ، ففي السنن(2/514)
وفي الباب عن عمرِو بنِ عَبَسةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ ابنِ عُمَر حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ: أنّ صلاةَ الليلِ مثْنى مثْنى.
وهوَ قولُ سُفيانَ الثوري ، وابنِ المباركِ ، والشافعيّ ، وأحمدَ ، وإسحاقَ.
ـــــــ
وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق على الأزدي عن ابن عمر مرفوعاً: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى.
وقد تعقب هذا الأخير بأن أكثر أئمة الحديث أعلوا هذه الزيادة وهي قوله والنهار بأن الحفاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه ، وحكم النسائي على راويها بأنه أخطأ فيها. وقال يحيى بن معين: من علي الأزدي حتى أقبل منه؟ وأدعى يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع أن ابن عمر كان يتطوع بالنهار أربعاً لا يفصل بينهن. ولو كان حديث الأزدي صحيحاً لما خالفه ابن عمر يعني مع شدة اتباعه ، رواه عنه محمد بن نصر في سؤالاته لكن روى ابن وهب بإسناد قوى عن ابن عمر قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ، موقوف أخرجه ابن عبد البر من طريقه فلعل الأزدي اختلط عليه الموقوف بالمرفوع ، فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذ. وقد روى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن عمر أنه كان يصلي بالنهار أربعاً أربعاً ، وهذا موافق لما نقله ابن معين كذا في فتح الباري .
قوله: "وفي الباب عن عمرو بن عنبسة" بالعين المهملة والموحدة والسين المهملة مفتوحات صحابي مشهور أسلم قديماً وهاجر بعد أحد ثم نزل الشام وأخرج حديثه ابن نصر والطبراني بلفظ: صلاة الليل مثنى مثنى وجوف الليل أحق به. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: وفيه أبو بكر بن مريم ضعيف.(2/515)
ـــــــ
قوله: "حديث ابن عمر حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.(2/516)
320ـ باب ما جاءَ في فضْل صلاةِ الليل
436ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا ، أبو عَوَانَةَ عنْ أبي بِشرٍ عن حميدِ بن عبدِ الرحمَنِ الحِمْيَرِيّ عنْ أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الصيامِ بعدَ شهر رمضانَ شهرُ الله المحرّمُ وأفضلُ الصلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ الليلِ".
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فضْل صلاةِ الليل"
قوله: "عن أبي بشر" اسمه جعفر بن إياس اليشكري ثقة "عن حميد بن عبد الرحمن" ثقة فقيه.
قوله: "شهر الله" صيام شهر الله والإضافة للتعظيم "المحرم" بالرفع صفة المضاف قال الطيبي أراد بصيام شهر الله صيام يوم عاشوراء ، قال القاري: الظاهر أن المراد جميع شهر المحرم ، وفي خبر أبي داود وغيره: صم من المحرم واترك ، صم من المحرم وأترك. صم من المحرم واترك انتهى. قلت: الأمر كما قال القاري "وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" قال النووي: الحديث حجة أبي إسحاق المروزي عن أصحابنا ومن وافقه على أن صلاة الليل أفضل من السنن الرواتب لأنها تشبه الفرائض: وقال أكثر العلماء: الرواتب أفضل ، والأول أقوى وأوفق لنص هذا الحديث. قال الطيبي: ولعمري إن صلاة التهجد لو لم يكن فيها فضل سوى قوله تعالى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} وقوله تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} إلى قوله تعالى :{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وغيرهما من الاَيات لكفاه زية انتهى.(2/516)
وفي الباب عن جابرٍ ، وبلالٍ ، وأبي أُمامةَ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسَنٌ صحيح .
قال أبو عيسى: أبو بشرٍ اسمهُ جعفرُ بنُ أبي وحشية واسم ابن وحشية إياسٍ.
ـــــــ
قوله: "وفي الباب عن جابر وبلال وأبي أمامة" أما حديث جابر فأخرجه مسلم بلفظ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من الدنيا والاَخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة: وأما حديث بلال فلينظر من أخرجه: وأما حديث أبي أمامة فأخرجه الترمذي في كتاب الدعاء من هذا الكتاب. وفي الباب أحاديث كثيرة ذكرها الحافظ المنذري في كتاب الترغيب.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن" وأخرجه وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه.
قوله: "وهو جعفر بن أبي وحشية" بفتح الواو وسكون المهملة وكسر المعجمة وتثقيل التحتانية كذا ضبطه الحافظ في التقريب.(2/517)
321ـ باب ما جاءَ في وصفِ صلاةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليل
437ـ حدثنا إسحاقُ بنُ موسى الأنصاريّ حدثنا معنٌ حدثنا
ـــــــ
"باب ما جاءَ في وصفِ صلاةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليل"
قوله: "يصلي أربعاً" يحتمل أنها متصلات وهو الظاهر ، ويحتمل أنها مفصلات وهو بعيد إلا أنه يوافق حديث صلاة الليل مثنى مثنى ، قاله صاحب السبل قلت الأمر كما(2/517)
مالكٌ عن سعيدِ بنِ أبي سعيدٍ المقْبُريّ عنْ أبي سَلَمَةَ أنهُ أخبرهُ أنهُ سألَ عائشةَ: كيفَ كانتْ صلاةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في رمضانَ فقالتْ :" ما كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يزيدُ في رمضانَ ولا في غيرهِ على إحدَى عشرةَ ركعةً يصلي أربعاً فَلاَ تسألْ عنْ حسنِهنّ وطولِهنّ ثمّ يصلي أربعاً فلا تسألْ عنْ حسنهنّ وطولهنّ ثمّ يصلي ثلاثاً. فقالت عائشةُ: فقلتُ يَا رَسُولَ الله أتنامُ قبلَ أنْ توترَ؟ فقال: يا عائشةُ إنّ عينيّ تَنامان ولا ينام قَلبي".
ـــــــ
قال فلا تسأل عن حسنهن وطولهن نهت عن سؤال ذلك ، إما لأنه لا يقدر المخاطب على مثله فأي حاجة له في السؤال أو لأنه قد علم حسنهن وطولهن لشهرته فلا يسأل عنه أو لأنها لا تقدر تصف ذلك "ثم يصلي ثلاثا" الظاهر أنها مفصلات "أتنام قبل أن توتر" كأنه كان ينام بعد الأربع ثم يقوم فيصلي الثلاث ، وكأنه كان قد تقرر عند عائشة أن النوم ناقص "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي " قال النووي في شرح مسلم هذا من خصائص الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: لا ينتقص وضوؤه صلى الله عليه وسلم بالنوم ، يدل عليه ما في الصحيحين عن عائشة: أن عيني تنامان ولا ينام قلبي ، وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم نام حتى نفخ ثم قام فصلى ولم يتوضأ. وفي البخاري في حديث الإسراء من طريق شريك عن أنس: وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم انتهى. قال النووي: فإن قيل كيف نام النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس يعني ليلة التعريس مع قوله إن عيني تنامان ولا ينام قلبي؟ فجوابه من وجهين أصحهما وأشهرهما أنه لا منافاة بينهما لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما ، ولا يدرك طلوع الفجر وغيره مما يتعلق بالعين وإنما يدرك ذلك بالعين والعين نائمة وإن كان القلب يقظان. والثاني أنه كان هو الغالب من أحواله ، وهذا التأويل ضعيف والصحيح المعتمد هو الأول انتهى.(2/518)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
438ـ حدثنا إسحاقُ بن موسى الأنصاريّ ، حدثنا معنُ بن عيسى حدثنا مالكٌ عنْ ابن شهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائشةَ: "أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يصلي منَ الليل إحدَى عشرةَ ركعةً يوتُر منها بواحدةٍ ، فإذا فرغ منها اضطجعَ على شِقّهِ الأيمنِ".
439ـ حدثنا قُتَيْبَةُ عنْ مالكٍ عنْ ابن شهابٍ نحوَه.
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن صحيحٌ.
ـــــــ
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الشيخان.
قوله: "يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر بها منها بواحدة" قال محمد بن نصر في قيام الليل بعد رواية هذا الحديث ما لفظه: وفي رواية كان يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء وهي التي يدعون الناس العتمة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل اثنتين ويوتر بواحدة ، وفي رواية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بعد العشاء الاَخرة إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل اثنتين ويوتر بواحدة ، وكان يمكث في سجوده بقدر ما يقرأ الرجل منكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ويركع ركعتين قبل الفجر ويضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن وفي أخرى كان يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر انتهى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أصل هذا الحديث متفق عليه.(2/519)
322ـ بابٌ منْه
440ـ حدثنا أبو كُرَيْب قال: حدثنا وكيعٌ عن شعبةَ عن أبي جَمْرَةَ الضبعيّ عنِ ابن عباسٍ قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليلِ ثلاثَ عشرةَ ركعةً ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
"بابٌ منْه"
قوله: "عن أبي جمرة" بالجيم والراء اسمه نصر بن عمران بن عصام الضبعي نزيل خراسان مشهور بكنيته ثقة ثبت من الثالثة.
قوله: "يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة" وروى محمد بن نصر في قيام الليل قال حدثنا يحيى عن مالك عن مخرمة عن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات ليلة عند ميمونة فذكر الحديث وفيه: ثم قام فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم ذكر حديث زيد بن خالد الجهني بإسناده وفيه: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة، ثم ذكر حديث جابر بن عبد الله بإسناده وفيه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجابر رضي الله عنه إلى جنبه فصلى العتمة ثم صلى ثلاث عشرة سجدة.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة ليلة الحديث. وفيه فقام فصلى فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة الخ(2/520)
323ـ باب منْه
441ـ حدثنا هنادٌ حدثنا، أبو الأحوصِ عن الأعمشِ عن إبراهيمَ عن الأسودِ بن يزيد عن عائشةَ قالت: "كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي منَ الليلِ تسعَ ركعاتٍ ".
وفي البابِ عنْ أبي هُرَيرَةَ، وزيدِ بن خالدٍ، والفضل بن عباسٍ.
ـــــــ
"باب منْه"
قوله: "يصلي من الليل تسع ركعات" روى محمد بن نصر في قيام الليل ومسلم في صحيحه من طريق سعد بن هشام عن عائشة في حديث طويل قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله وحده ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليمة يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم أوتر بسبع وصنع الركعتين مثل صنيعه الأول فتلك تسع يا بني.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وزيد بن خالد والفضل بن عباس" أما حديث أبي هريرة فأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين. وأما حديث زيد بن خالد فأخرجه مسلم قال: لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فصلى ركعتين خفيفتين الحديث وفي آخره: ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة. وأما حديث الفضل بن عباس فأخرجه الترمذي في باب ما جاء في التخشع في الصلاة.(2/521)
قال أبو عيسى: حديثُ عائشةَ حديثٌ صحيح غريبٌ منْ هذا الوجهِ.
ورواه سفيانُ الثوريّ عنْ الأعْمَشِ نحوَ هذاَ حدثنا بذلك محمودُ بنُ غَيْلاَنَ حدثنا يحيى بنُ آدمَ عن سُفيانَ عنْ الأعمشِ.
قال أبو عيسى: وأكثرُ ما رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاةِ الليلِ ثلاث عشرةَ ركعةً مع الوترِ ، وأقلّ ما وُصفَ منْ صلاتهِ بالليلِ تسعُ ركعاتٍ.
ـــــــ
قوله: "حديث عائشة حديث حسن غريب" أخرجه مسلم في صحيحه عن سعد بن هشام حديثاً طويلاً وفيه قال: قلت يا أم المؤمنين يعني عائشة رضي الله عنها أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ، ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول فتلك تسع يا بني الحديث.
قوله: "وأكثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل ثلاث عشر ركعة مع الوتر" كما عرفت في حديث ابن عباس وحديث زيد بن خالد الجهني "وأقل ما وصف من صلته من الليل تسع ركعات بل سبع ركعات كما في حديث عائشة" . فلما أسن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم أوتر بسبع. وروى البخاري في صحيحه عن مسروق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر.
قوله: "إذا لم يصل من الليل منعه نوم أو غلبته عيناه" وفي رواية مسلم وكان إذا(2/522)
443ـ حدثنا قُتَيْبَةُ حدثنا ، أبو عوانةَ عنْ قتادةَ عن زرارةَ بن أوْفى عنْ سعدِ بن هشامٍ عنْ عائشةَ قالتْ: " كانَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا لم يُصلّ منَ الليلِ منعهُ منْ ذلكَ النوم أوْ غلبتهُ عيناهُ صلى منْ النهارِ ثنتي عشرةَ ركعةً ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
444- حدثنا عباسٌ هو ابن عبدِ العظيم العنبريّ حدثنا عتّابُ بن المَثنّى عن بهزِ بن حكيم قالَ كانَ زُرَارةُ بن أوْفى قاضي البصرةِ وكان يؤمّ في بني قشيرٍ فقرأ يوماً في صلاةِ الصبح {فَإذَا نُقرَ فِي النّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} خرّ ميتاً فكنتُ فيمنْ احتملَهُ إلى دارِه.
قال أبو عيسى: وسعد بن هشام هو ابن عامر الأنصاري وهشام ابن عامر هو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ـــــــ
غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل "صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" أي فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كما في حديث عمر رضي الله عنه مرفوعاً: من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل رواه مسلم.
والحديث دليل على استحباب على الأورد وأنها إدا فاتت تقصى.
قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه مسلم في ضمن حديث طويل.
قوله: "كان زرارة بن أوفى قاضي البصرة" هو من أوساط التابعين ثقة عابد "فكان يوم بنى قشير" وفي رواية محمد بن نصر في قيام الليل وهو يؤم في المسجد الأعظم "فقرأ يوماً" في صلاة الصبح {فَإذَا نُقرَ فِي النّاقُورِ} أي نفخ في الصور وبعده. {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} "خرميتا" وكذلك وقع الاَخرين أنهم ماتوا لسماع(2/523)
ـــــــ
بعض آيات القرآن. ففي قيام الليل وصلى خليد رحمه الله فقرأ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فرددها مراراً فناداه من ناحية البيت كم تردد هذه الاَية ، فلقد قتلت بها أربعة نفر من الجن لم يرفعوا رؤوسهم إلى السماء حتى ماتوا من تردادك هذه الاَية فوله خليد بعد ذلك ولها شديداً حتى أنكره أهله كأنه ليس الذي كان.
وسمع آخر قارئاً يقرأ {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} الاَية فصرخ واضطرب حتى مات. وسمع آخر قارئاً يقرأ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فمات لأن مرارته تفطرت. وقيل لفضيل بن عياض: ما سبب موت ابنك؟ قال بات يتلو القرآن في محرابه فأصبح ميتاً(2/524)
324ـ باب ما جاء في نزولِ الربّ عزّ وجلّ إلى السماء الدنيا كلّ ليلة
445ـ حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا يَعقوبُ بن عبدِ الرحمَنِ الإسكندرانيّ عنْ سهيلِ بنِ أبي صالحٍ عنْ أبيهِ عنْ أبي هريرةَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزلُ الله إلى السماءِ الدّنيا كلّ ليلةٍ حينَ يمضي ثلثُ الليلِ الأوّلُ ، فيقولُ: أنا الملكُ منْ ذا الذي يدعوني فأستجيبُ لهُ منْ ذا الذي يسألني فأعطيهُ ، منْ ذا الذي يستغفرُنِي فأغفرُ لهُ ، فلا يزالُ كذلكَ حتى يضيءَ الفجرُ".
ـــــــ
"باب ما جاء في نزولِ الربّ عزّ وجلّ إلى السماء الدنيا كلّ ليلة"
قوله: "ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة" قد اختلف في معنى النزول على أقوال ، فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم ، ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة وهم الخوارج والمعتزلة وهو مكابرة ومنهم من أوله(2/524)
وفي الباب عنْ عليّ بن أبي طالبٍ وأبي سعيدٍ ورفاعةَ الجُهنيّ وجبيرِ بن مطعمٍ وابن مسعودٍ وأبي الدرداءِ وعثمانَ بنِ أبي العاصِ.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وقدْ رُوِيَ هذا الحديثُ منْ أوْجهٍ كثيرةٍ عنْ أبي هريرةَ عنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم وروى عنه أنهُ قالَ: "ينزل الله عزّ وجلّ حينَ يبقى ثلثُ الليلِ الاَخرُ". .
هو أصحّ الرواياتِ.
ـــــــ
ومنهم من أجرأه على ما ورد مؤمناً به على طريق الإجمال منزهاً الله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم ، وهذا القول هو الحق فعليك أتباع جمهور السلف وإياك أن تكون من أصحاب التأويل والله تعالى أعلم "حين يمضي ثلث الليل الأول" بالرفع صفة ثلث "من الذي يدعوني فأستجيب" بالنصب على جواب الاستفهام والرفع على الاستئناف ، وكذا قوله فأعطيه وفأغفر له ، وقد قرئ بهما في قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} الاَية ، وليست السين في أستجيب للطلب بل أستجيب بمعنى أجيب "حتى يضيء الفجر" وفي رواية مسلم حتى ينفجر الفجر ، والمعنى حتى يطلع ويظهر الفجر.
قوله: "وفي الباب عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد ورفاعة الجهني وجبير بن مطعم وابن مسعود وأبي الدرداء وعثمان بن أبي العاص" أما حديث علي وابن مسعود وعثمان ابن أبي العاص فأخرجه أحمد. وأما حديث جبير بن مطعم ورفاعة الجهني فأخرجه النسائي. وأما حديث أبي الدرداء فأخرجه الطبراني كذا في فتح الباري. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه النسائي.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" أخرجه الأئمة الستة "وقد روى(2/525)
ـــــــ
هذا الحديث من أوجه كثيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينزل الله تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الاَخر وهذا أصح الروايات" برفع الاَخر لأنه صفة الثلث. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر قول الترمذي: وهذا أصح الروايات ما لفظه: ويقوي ذلك أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على رواتها وسلك بعضهم طريق الجمع ، وذلك أن الروايات انحصرت في ستة أشياء: أولها هذه يعني حين يبقى ثلث الليل الاَخر ، ثانيها إذا مضى الثلث الأول أو النصف ، رابعها النصف خامسها النصف أو الثلث الأخير سادسها الإطلاق. فأما الروايات المطلقة فهي محمولة على المقيدة: وأما التي بأو فإن كانت أو للشك فالمجزوم به مقدم على الشكوك فيه ، وإن كانت للتردد بين حالين فيجمع بذلك بين الروايات بأن ذلك يعق بحسب اختلاف الأحوال لكون أوقات الليل تختلف في الزمان وفي الاَفاق باختلاف تقدم دخول الليل عند قوم ، وتأخره عند قوم ، وقال بعضهم يحتمل أن يكون النزول يقع في ثلث الأول والقول يقع في النصف والثلث الثاني ، وقيل يحمل على ذلك يقع في جميع الأوقات التي وردت بها الأخبار ، ويحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه والله أعلم انتهى كلام الحافظ.(2/526)
باب: ما جاء فى القراءة بالليل
...
325ـ باب ما جاء في قراءة الليل
446ـ حدثنا محمودُ بن غَيلانَ ، حدثنا يحيى بنُ إسحاقَ حدثنا حمادُ بنُ سلمةَ عن ثابتِ البُنانيّ عن عبدِ الله بن رباحِ الأنصاريّ عن أبي قتادةَ
ـــــــ
"باب ما جاء في قراءة الليل"
قوله:"أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق" البجلي أبو زكريا السيلحيني البغدادي. قال ابن سعد: كان ثقة حافظاً كذا في الخلاصة.(2/526)
أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكرٍ: "مررتُ بكَ وأنتَ تقرأُ وأنتَ تخفضُ من صوْتِكَ فقال: إني أسْمَعْتُ من ناجيتُ ، قال: ارفعْ قليلاً. وقال لعمرَ مررتُ بكَ وأنت تقرأُ وأنت ترفع صوتَك ، فقال: إني أُوقظ الوسنَانَ وأطردُ الشيطانَ ، قال: اخفضْ قليلاً".
وفي الباب عن عائشةَ وأمّ هانئ وأنسٍ وأُمّ سلمةَ وابنِ عباسٍ.
ـــــــ
وقال الحافظ: صدوق "عن عبد الله بن رباح الأنصاري المدني أبي خالد مسكن البصرة ثقة من الثالثة قتله الأزارقة" .
قوله: "قال لأبي بكر مررت بك" وفي رواية أبي داود رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر يخفض من صوته ، ومر بعمر وهو يصلي رافعاً صوته قال فلما اجتمعا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أبا بكر مررت بك إلخ "وأنت تقرأ" جملة حالية "وأنت تخفض" ضد الرفع "فقال إني أسمعت من ناجيت" جواب متضمن لعلة الخفض ، أي أنا أناجي ربي وهو يسمع لا يحتاج إلى رفع الصوت "فقال إني أوقظ" أي أنبه "الوسنان" أي النائم الذي ليس بمستغرق في نومه "وأطرد الشيطان" أي أبعده "قال ارفع قليلاً" وفي رواية أبي داود ارفع من صوتك شيئاً "قال اخفض قليلاً" أي اخفض من صوتك شيئاً كما في رواية أبي داود.
قوله: "وفي الباب عن عائشة وأم هانيء وأنس وأم سلمة وابن عباس" أما حديث عائشة فأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث أم هانيء فأخرجه الحافظ محمد بن نصر في قيام الليل بلفظ. قالت كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل وأنا على عريش أهلي. وأما حديث أنس فلينظر من أخرجه. وأما حديثث أم سلمة فأخرجه أبو داود ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو داود بلفظ: قال كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على قدر ما يسمعه من في الحجرة وهو في البيت. وفي قيام الليل لمحمد بن بصر: سئل ابن عباس عن جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة بالليل فقال كان يقرأ(2/527)
447ـ حدثنا قتيبةَ أخبرنا الليثُ عن معاويةَ بن صالحٍ عن عبدِ الله بن أبي قيسِ قال: "سألتُ عائشةَ كيفَ كانَ قِراءةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليلِ؟ "أكان يسر بالقراءة أم يجهر؟" فقالت: كلّ ذلك قد كان يفعلُ رُبما اسرّ بالقراءةِ ورُبما جهرَ فقلت: الحمدِ الله الذي جعلَ في الأمرِ سعةً ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ صحيحٌ غريبٌ.
قال أبو عيسى: هذا حديث أبي قتادة حديث غريبٌ. وإنما أسندَه يحيى بنُ إسحاقَ عن حمادِ بنِ سَلَمَةَ. وأكثرُ الناسِ إنما رَوَوْا هذا الحديثَ عن ثابتٍ عن عَبْدِ الله بن رباحٍ مرسلاً.
448ـ حدثنا أبو بكرٍ محمدُ بنُ نافعٍ البصريّ ، حدثنا عبدُ الصّمدِ
ـــــــ
في حجرته قراءة لو أراد حافظ أن يحفظها فعل.
قوله: "عن عبد الله بن أبي قيس" النصري بالنون هو أبو الأسود الحمصي وثقه النسائي قال الحافظ ثقة مخضرم من كبار التابعين.
قوله: "كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل" أي في قيام الليل بالسر أو بالجهر "ربما أسر بالقراءة وربما جهر" بيان لما قبله: والحديث يدل على أن الجهر والإسرار جائزان في قراءة صلاة الليل. وحديث أبي قتادة المذكور وما في معناه يدل على أن المستحب في القراءة في صلاة الليل التوسط بين الجهر والإسرار.
قوله: "هذا حديث صحيح غريب" قال في المنتقى رواه الخمسة وصححه الترمذي. وقال في النيل رجاله رجال الصحيح "حديث أبي قتادة حديث غريب" أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري "وإنما أسنده يحيى بن إسحاق عن حماد بن سلمة إلخ" قال المنذري ويحيى بن إسحاق هذا هو البجلي السيلحيني وقد احتج به مسلم في صحيحه انتهى.
قوله: "حدثنا أبو بكر محمد بن نافع البصري" لم أقف على ترجمته "عن إسماعيل(2/528)
بنِ عبدِ الوارثِ عنْ إسماعيلَ بن مسلمٍ العبديّ عن أبي المتوكل الناجيّ عنْ عائشةَ قالتْ: " قامَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بآيةٍ منَ القرآنِ ليلةً ".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه.
ـــــــ
بن مسلم العبدي" البصري القاضي ثقة "قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة" والظاهر أن تلك الاَية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فروى النسائي وابن ماجه عن أبي ذر قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح بآية والاَية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، ورواه محمد بن نصر في قيام الليل مطولاً وفيه: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح يتلو آية واحدة من كتاب الله بها يركع وبها يسجد وبها يدعو {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الحديث وفي آخره فقال عبد الله بأبي وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية واحدة بها تركع وبها تسجد وبها تدعو ، وقد علمك الله القرآن كله قال: إني دعوت لأمتي.
قوله: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" في إسناده أبو بكر محمد بن نافع البصري لم أقف على حاله.(2/529)
326ـ باب ما جاءَ في فضلِ صلاةِ التطوّعِ في البيت
449ـ حدثنا محمدُ بن بشارٍ ، حدثنا محمدُ بنُ جعفرٍ حدثنا عبدُ الله
ـــــــ
"باب ما جاءَ في فضلِ صلاةِ التطوّعِ في البيت"
قوله: "أخبرنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند" الفزاري مولاهم أبو بكر المدني صدوق(2/529)
ابن سعيدٍ بن أبي هندٍ عن سالمٍ أبي النضرِ عن بسْر بن سعيدٍ عن زيدِ بن ثابتٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أفضلُ صلاتِكم في بيوتِكم إلاّ المكتوبةَ".
وفي الباب عنْ عُمرَ بن الخطابِ وجابرِ بن عبدِ الله وأبي سعيدٍ وأبي هريرةَ وبن عُمرَ وعائشةَ وعبدِ الله بن سعدٍ وزيدِ بن خالدِ الجهنيّ.
ـــــــ
ربما وهم كذا في التقريب. قلت: هو من رجال الكتب الستة وثقه ابن معين وأحمد وغيرهما "عن سالم أبي النضر" هو سالم بن أبي أمية التيمي المدين ثقة ثبت وكان يرسل وهو من رجال الستة "عن يسر بن سعيد" بضم الموحدة وسكون السين المدني العابد مولى ابن الحضرمي ثقة جليل من الثانية مات سنة مائة قال مالك مات ولم يخلف كفنا.
"أفضل صلاتكم" مبتدأ وخبره في بيوتك ، وهذا عام الجميع النوافل والسنن إلا النوافل التي من شعار الإسلام كالعيد والكسوف والاستسقاء "إلا المكتوبة" أي المفروضة فإنها في المسجد أفضل لأن الجماعة تشرع لها فهي بمحلها أفضل.
قوله: "وفي الباب عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وأبي سعيد وأبي هريرة وابن عمر وعائشة وعبد الله بن سعد وزيد بن خالد الجهني" أما حديث عمر رضي الله عنه فأخرجه مسلم بلفظ: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجد فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإن الله عز وجل جاعل في بيته من صلاته خيراً. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه ابن ماجه مثل حديث جابر. قال العراقي وإسناده صحيح. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم والنسائي مرفوعاً: لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الشيخان وغيرهما وأخرجه الترمذي أيضاً من هذا الباب. وأما حديث عائشة فأخرجه(2/530)
قال أبو عيسى: حديثُ زيدِ بن ثابتٍ حديثٌ حسن.
وقد اختلف الناس في رواية هذا الحديث فروى موسى بن عقبةَ وإبراهيمُ بن أبي النضر عن أن النّضْر مرفوعاً ورواهُ مالكٌ عن أبي النضرِ ولَمْ يَرفعْهُ ، والحديثُ المرفوعُ أصحّ.
450ـ حدثنا إسحاقُ بن منصورٍ أخبرنا عبدُ الله بن نميرٍ عنْ عبيدِ الله بن عُمرَ عنْ نافعٍ عن ابن عُمرَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "صلوا في بُيوتِكمْ ولاَ تّتخذوها قُبوراً ".
ـــــــ
أحمد بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها عليكم قبوراً. وأما حديث عبد الله بن سعد فأخرجه ابن ماجه والترمذي في الشمائل ولفظه: قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد ، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة. وأما حديث زيد بن خالد فأخرجه أحمد والبزار والطبراني مرفوعاً: صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً. قال العراقي إسناده صحيح.
قوله: "حديث زيد بن ثابت حديث حسن" قال ابن تيمية في المنتقى بعد ذكر حديثه بلفظ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ، رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
قوله: "صلوا في بيوتكم" أي النوافل وفي رواية الصحيحين: اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم "ولا تتخذوها قبوراً" أي لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيتوتهم وهي القبور: وقيل المراد أن من لم يصل في بيته جعل نفسه كالميت وبيته كالقبر ، ويؤيده ما رواه مسلم: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت ، وقيل معناه لا تدفنوا فيها موتاكم ، قال الخطابي هذا ليس بشيء فقد دفن(2/531)
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
ـــــــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته. وقال الكرماني متعقباً عليه: لعل ذلك من خصائصه. وقد روى أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون.
قول "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري ومسلم.(2/532)
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب الوتر
327ـ باب ما جاء في فضْلِ الوِتْر
451ـ حدثنا قتيبةُ ، حدثنا الليثُ بن سعد عن يزِيدَ بن أبي حبيبٍ عنْ عبدِ الله بن راشدٍ الزوْفيّ عن عبدِ الله بن أبي مرّةَ الزوْفيّ عن خارجةَ بن حُذافةَ أنهُ قالَ: "خرجَ علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ـــــــ
"أبواب الوتر"
"باب ما جاء في فضْلِ الوِتْر"
قوله: "عن يزيد أبي حبيب" المضري أبي رجاء واسم أبيه سويد ثقة فقيه من رجال الكتب الستة "عن عبد الله بن راشد الزوفي" بفتح الزاي وسكون الواو وبفاء الحافظ مستور وقال الخزرجي وثقه ابن حبان ، وقال الذهبي في الميزان في ترجمته: روي عن عبد الله بن أبي مرة الزوفي عن خارجة بحث الوتر ، رواه عنه يزيد بن أبي حبيب وخالد بن يزيد لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة. قلت: ولا هو بالمعروف وذكره ابن حبان في الثقات انتهى "عن عبد الله بن أبي مرة الزوفي" صدوق أشار البخاري إلى أن روايته عن خارجة منقطعة ، قاله الحافظ. وقال الخزرجي في الخلاصة: قال ابن حبان خبره باطل والإسناد منقطع انتهى ، والمراد بخبره حديث الوتر كما صرح به الحافظ في التهذيب "عن خارجة بن حذافة" هو صحابي سكن مصر كان أحد فرسان قريش يقال(2/533)
إنّ الله أمدّكُمْ بصلاةٍ هي خيرٌ لكُمْ منْ حُمْرِ النّعَمِ ، الوِتْر جعلهُ الله لكُمْ فيما بَينَ صلاةِ العشاءِ إلى أنْ يطلُعَ الفجر".
ـــــــ
إنه كان يعدل بألف فارس وعداده في أهل مصر ، وهو الذي قتله الخارجي ظناً منه أنه عمرو بن العاص ، والخارجي هو أحد الثلاثة الذين اتفقوا على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص وتوجه كل واحد منهم إلى واحد من الثلاثة فنفذ قضاء الله في علي دونهما ، وكان قتل خارجة في سنة أربعين.
قوله: "إن الله أمدكم بصلاة" قال الطيبي أي زادكم كما في بعض الروايات انتهى. وقال صاحب مجمع البحار: هو من أمد الجيش إذا ألحق به ما يقويه أي فرض عليكم الفرائض ليؤجركم بها ولم يكتف به فشرع صلاة التهجد والوتر ليزيدكم إحساناً على إحسان انتهى وقال القاري وغيره: أي جعلها زيادة لكم في أعمالكم من مد الجيش وأمده أي زاد ، والأصل في المزيد أن يكون من جنس المزيد عليه فمقتضاه أن يكون الوتر واجباً انتهى.
قلت: "استدل به الحنفية على وجوب الوتر بهذا التقرير" ، وقد رد عليهم القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي حيث قال فيه: به احتج علماء وأبي حنيفة فقالوا إن الزيادة لا تكون إلا من جنس المزيد وهذه دعوى بل الزيادة تكون من غير جنس المزيد كما لو ابتاع بدرهم فلما قضاه زاده ثمناً أو ربعاً إحساناً ، كزيادة النبي صلى الله عليه وسلم لجابر في ثمن الجمل فإنها زيادة وليست بواجبة ، وليس في هذا الباب حديث صحيح يتعللون به انتهى. قلت الأمر كما قال ابن العربي لا شك في أن قولهم إن الزيادة لا تكون إلا من جنس المزيد مجرد دعوى لا دليل عليها ، بل يردها ما ذكره هو بقوله كما لو ابتاع بدرهم إلخ وقال الحافظ في الدارية ليس في قوله زادكم دلالة على وجوب الوتر لأنه لا يلزم أن يكون المزاد من جنس المزيد ، فقد روى محمد بن نصر المروزي في الصلاة من حديث أبي سعيد رفعه: إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الركعتان قبل الفجر. وأخرجه البيهقي ونقل عن ابن خزيمة أنه قال: لو أمكني لرحلت في هذا الحديث انتهى. ويأتي الكلام في هذه المسألة في الباب الاَتي "هي خير لكم من حمر النعم" بضم الحاء وسكون الميم جمع أحمر ، والنعم الإبل ، فهو من قبيل(2/534)
وفي الباب عن أبي هريرةَ وعبدِ الله بن عَمرٍو وبُريدةَ وأبي بصرةَ صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
قال أبو عيسى: حديثُ خارجةَ بن حذافةَ حديثٌ غريبٌ لا نعرفهُ إلاّ منْ حديثِ يزيدَ بن أبي حبيبٍ.
ـــــــ
إضافة الصفة إلى الموصوف ، وإنما قال ذلك ترغيباً للعرب فيها لأن حمر النعم أعز الأموال عندهم فكانت كناية عن أنها خير من الدنيا كلها لأنها ذخيرة الاَخرة التي هي خير وأبقى "الوتر" بالجر بدل من صلاة بدل المعرفة من النكرة ، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هي الوتر.
قوله: "وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وبريدة وأبي بصرة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم" أما حديث أبي هريرة فأخرجه البيهقي في الخلافيات بلفظ: إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن. وله حديث آخر عند أحمد وابن أبي شيبة بلفظ: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يوتر فليس منا ، وفي إسناده الخليل بن مرة ، قال فيه أبو زرعة شيخ صالح وضعفه أبو حاتم والبخاري. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله زادكم صلاة فحافظوا عليها وهي الوتر. وأما حديث بريدة فأخرجه أبو داود بلفظ: الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا ، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا ، قال المنذري في إسناده عبيد الله بن عبد الله أبو المنيب العتكي المروزي ، وقد وثقه ابن معين وقال أبو حاتم الرازي صالح الحديث ، وتكلم فيه البخاري والنسائي وغيرهما. وأما حديث أبي بصرة فأخرجه أحمد ولفظه إن الله زادكم صلاة وهي الوتر فصلوها في ما بين العشاء إلى الفجر ورواه الطبراني بلفظ فحافظوا عليها.
قوله: "حديث خارجة بن حذافة حديث غريب" وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه لتفرد التابعي عن الصحابي ، ورواه ابن عدي في الكامل ونقل عن البخاري أنه قال: لا يعرف سماع بعض هؤلاء عن بعض كذا في نصب الراية. وقد عرفت. أن البخاري أشار إلى أن رواية عبد الله بن أبي مرة الزوفي عن خارجة(2/535)
وقد وهم بعض المحدثين في هذا الحديث فقال: عبدالله بن راشد الزّرقيّ وهو وهم.
ـــــــ
منقطعة ، وقال ابن حبان: خبره باطل والإسناد منقطع ، وقال السيوطي ليس لعبد الله الزوفي ولا لشيخه عبد الله بن أبي مرة ولشيخه خارجة بن حذافة عند المؤلف يعني أبا داود والترمذي وابن ماجه إلا هذا الحديث الواحد وليس لهم رواية في بقية الكتب الستة انتهى.(2/536)
328ـ باب ما جاء أنّ الوِترَ ليسَ بحتْم
452ـ حدثنا أبو كُريبٍ حدثنا أبو بكرٍ بن عياشٍ أخبرنا أبو إسحاقَ عن عاصمٍ بن ضَمْرَةَ عن علي قال: "الوترُ ليس بحَتْمٍ كصلاتِكم المكتوبةِ ، ولكنْ سنّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله وِترٌ
ـــــــ
"باب ما جاء أن الوتر ليس بختم"
أي ليس بواجب.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الوتر غير واجب بل سنة وخالفهم أبو حنيفة فقال إنه واجب ، وروى عنه أنه فرض. قال الحافظ بن حجر. وقد بالغ أبو حامد فادعى أن أبا حنيفة انفرد بوجوب الوتر ولم يوافقه صاحباه. مع أن ابن أبي شيبة أخرج عن سعيد بن المسيب وأبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود والضحاك ، يدل على وجوبه عندهم وعنده عن مجاهد: الوتر واجب ، ولم يثبت ، ونقله ابن العربي عن أصبغ عن المالكية ووافقه سحنون وكأنه أخذه من قول مالك من تركه أدب وكان جرحة في شهادته انتهى.
قوله: "الوتر ليس بختم" قال في النهاية: الختم اللازم الواجب الذي لا بد من فعله انتهى "ولكن سن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي جعله مسنوناً غير حتم "إن الله وتر" قال في النهاية: الوتر الفرد وتكسر واوه وتفتح ، فالله واحد في ذاته لا يقبل(2/536)
يحبّ الوترَ فأوترُوا يا أهل القرآنِ".
وفي الباب عن ابنِ عُمرَ وابن مسعودٍ وابن عباسٍ.
قال أبو عيسى: حديثُ علي حديثٌ حسَنٌ.
ـــــــ
الانقسام والتجزية ، واحد في صفاته فلا شبه له ولا مثل ، واحد في أفعاله فلا شريك له ولا معين "يحب الوتر" أي يثيب عليه ويقبله من عامله. قال القاضي: كل ما يناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه مما لم يكن له تلك المناسبة "فأوتروا" أمر بصلاة الوتر وهو أن يصلي مثنى مثنى ثم يصلي في آخرها ركعة مفردة أو يضيفها إلى ما قبلها من الركعات كذا في النهاية. قال ابن الملك: الفاء تؤذن بشرط مقدر كأنه قال: إذا أهتديتم إلى أن الله يحب الوتر فأوتروا انتهى "يا أهل القرآن" أي أيها المؤمنون به ، فإن الأهلية عامة لمن آمن به سواء قرأ أم لم يقرأ ، وإن كان الأكمل منهم من قرأ وحفظ وعلم وعمل شاملة ممن تولى قيام تلاوته ومراعاة حدوده وأحكامه.
قوله: "وفي الباب عن ابن عمر وابن مسعود وابن عباس" أما حديث ابن عمر فأخرجه مالك في الموطأ بلاغاً أن رجلاً سأل ابن عمر من الوتر أواجب هو؟ فقال عبد الله: قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوتر المسلمون ، فجعل الجرل يردد عليه وعبد الله يقول أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوتر المسلمون: وأما حديث ابن مسعود فأخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل من طريق أبي عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن ، فقال أعرابي ما يقول النبي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليست لك ولا لأحد من أصحابك. وفي رواية ما يقول رسول الله؟ قال لست من أهله. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي مرفوعاً: ثلاث هن على فرائض ولكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الضحى. هذا لفظ أحمد ، وهو حديث ضعيف كما بينه الحافظ في التلخيص: وفي الباب عن عبادة ابن الصامت أخرجه الحاكم بلفظ قال: الوتر حسن جميل عمل به النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده وليس بواجب ، ورواته ثقات قاله البيهقي كذا في التلخيص.(2/537)
وروى سفيانُ الثوريّ وغيره عن أبي إسحاقَ عن عاصمِ بن ضمرةَ عن علي قال: "الوترُ ليس بحَتْمٍ كهيئة الصلاةِ المكتوبةِ ، ولكن سنّة سَنّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم".
ـــــــ
قوله: "حديث علي حديث حسن" وأخرجه النسائي وصححه الحاكم.
اعلم أن الجمهور قد استدلوا على عدم وجوب الوتر بأحاديث الباب وبحديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر على بعيره رواه الجماعة ، وهو ظاهر في عدم الوجوب لأنه الفريضة لا تصلي على الراحلة. وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ، وبما روى عبد الله بن محيريز أن رجلاً من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلاً بالشام يدعى أبا محمد يقول إن الوتر واجب ، قال فرحت إلى عبادة بن الصامت فأخبرته فقال عبادة كذب أبو محمد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة الحديث ، أخرجه أبو داود وأحمد وقد عقد الحافظ محمد بن نصر المروزي في كتابه قيام الليل بابا بلفظ: باب الأخبار الدالة على أن الوتر سنة وليس بفرض ، وذكر فيها أحاديث ، وأثاراً كثيرة من شاء الوقوف عليها فليرجع إليه.
واستدل من قال بوجوب الوتر بحديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ، رواه الشيخان ، وتعقب بأن صلاة الليل ليست بواجبة فكذا آخره وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليل كذا في فتح الباري.
قلت: هذا الحديث إنما يدل على وجوب جعل آخر صلاة بالليل وتراً على وجوب نفس الوتر والمطلوب هذا لاذا: فالاستدلال به على وجوب الوتر غير صحيح ، وكذا الاستدلال بحديث جابر رضي الله عنه: أوتروا قبل أن تصبحوا ، رواه الجماعة إلا البخاري ليس بصحيح فإنه إنما يدل على وجوب الإيتار قبل الإصباح لا على وجوب نفس الإيتار.(2/538)
453- حدثنا بذلِكَ محمد بن بشّارٍ حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهدِيّ عن سفيانَ عن ابن اسحاق.
وهذا أصحّ من حديثِ أبي بكر بن عَيّاشٍ.
وقد روى منصورُ بنُ المُعْتَمِرِ عن أبي إسحاقَ نحوَ رواية أبي بكرٍ بن عياشٍ.
ـــــــ
واستدلوا أيضاً بحديث بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا ، الحديث رواه أبو داود. قال الحافظ في الفتح: في سنده أبو المنيب وفيه ضعف ، وعلى تقدير قبوله فيحتاج من احتج به إلى أن يثبت أن لفظ حق بمعنى واجب في عرف الشارع ، وأن لفظ واجب بمعنى ما ثبت من طريق الاَحاد انتهى.
واستدلوا أيضاً بحديث: إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم الوتر. الحديث وقد تقدم في باب فضل الوتر ، وقد عرفت هناك الجواب عنه.
قال ابن قدامة في المغنى بعد ذكر أحاديث القائلين بوجوب الوتر ما لفظه: وأحاديثهم قد تكلم فيها ثم إن المراد بها تأكيده وفضيلته وأنه سنة مؤكدة وذلك حق وزيادة الصلاة يجوز أن تكون سنة والتوعد على تركه للمبالغة في تأكيده كقوله: من أكل هاتين الشجرتين فلا يقربن مسجدنا انتهى. وقال الشوكاني في النيل بعد ذكر الأحاديث التي تدل بظاهرها على الوجوب والأحاديث التي تدل على عدمه ما لفظه: واعلم أن هذه الأحاديث فيها ما يدل على الوجوب كقوله: فليس منا ، وقوله الوتر حق وقوله: أوتروا وحافظوا ، وقوله الوتر واجب ، وفيها ما يدل على عدم الوجوب وهو بقية أحاديث الباب فتكون صارفة لما يشعر بالوجوب. وأما حديث الوتر واجب ، فلو كان صحيحاً لكان مشكلاً لأن التصريح بالوجوب لا يصح أن يقال إنه مصروف إلى غيره بخلاف بقية الألفاظ المشعرة بالوجوب انتهى.(2/539)
ـــــــ
قلت: حديث: الوتر واجب على كل مسلم ، أخرجه البزار عن ابن مسعود وفي إسناده جابر الجعفي فهو ضعيف. ثم التصريح بالوجوب لا يمنع أن يقال إنه مصروف إلى غيره إذا قامت قرينة صارفة. ثم قال الشوكاني: ومن الأدلة الدالة على عدم وجوب الوتر ما اتفق عليه الشيخان من حديث طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد الحديث ، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات في اليوم والليلة ، قال هل على غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع ، وروى الشيخان أيضاً من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمين: الحديث وفيه فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة. قال الشوكاني: وهذا من أحسن ما يستدل به لأن بعث معاذ كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بيسير انتهى.
قوله: "حديث علي حديث حسن" وأخرجه النسائي وصححه الحاكم كذا في التلخيص.(2/540)
329 ـ باب ما جاء في كراهِيَةِ النومِ قبلَ الوِتْر
454ـ حدثنا أبو كُريبٍ ، حدثنا عن زكريّا بنُ أبي زائدةَ عن إسرائيلَ عن عيسى بنِ أبي غَرّةَ عن الشعبيّ عن أبي ثورٍ الأزديّ عن أبي هريرةَ قال: "أمرَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أوتِرَ قبلَ أن أنامَ".
ـــــــ
"باب ما جاء في كراهية النوم قبل الوتر"
أي لمن يخشى أن لا يستيقظ من آخر الليل.
قوله: "عن عيسى بن أبي غرة" بمهملة ثم معجمة مشددة واسمه مساك الكوفي مولى(2/540)
قال عيسى بنُ أبي عزّةَ ، وكان الشعبيّ يوترُ أولَ الليلِ ثم ينامُ.
وفي الباب عن أبي ذر.
قال أبو عيسى: حديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حسن غريبٌ منْ هذا الوجهِ.
وأبو ثورٍ الأزدِيّ اسمهُ حبيبُ بنُ أبي مُلَيْكَةَ.
ـــــــ
عبد الله بن الحارث الشعبي روى عن ابن عمر مولاه عامر الشعبي وشريح القاضي وعنه إسرائيل وغيره صدوق ربما وهم كذا في تهذيب التهذيب والتقريب "عن أبي ثور الإزدي الحداني الكوفي قيل هو حبيب بن أبي مليكة مقبول من الثانية كذا في التقريب وذكره بن حبان في الثقات" .
قوله: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوتر قبل أن أنام" وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام. قال الحافظ في الفتح: وفيه استحباب تقدم الوتر على النوم ، وذلك في حق من لم يثق بالاستيقاظ. وهذه الوصية لأبي هريرة ورد مثلها لأبي الدرداء فيما رواه مسلم ولأبي ذر فيما رواه النسائي.
قوله: "وفي الباب عن أبي ذر" أخرجه النسائي بلفظ: قال أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن إن شاء الله تعالى أبداً: أوصاني بصلاة الضحى وبالوتر قبل النوم وبصيام ثلاثة أيام في كل شهر. وفي الباب عن أبي الدرداء أيضاً أخرجه مسلم بمعنى حديث أبي ذر.
قوله: "حديث أبي هريرة حديث غريب من هذا الوجه" وأخرجه الشيخان من وجه آخر عنه باللفظ الذي ذكرنا "وأبو ثور الأزدي اسمه حبيب بن أبي مليكة" كذا جزم الترمذي بأنهما واحد ، وفرق الحاكم أبو أحمد وغيره بينهما ، كذا في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب في ترجمة حبيب بن أبي مليكة النهدي: إنه أبو ثور الكوفي مقبول من الثالثة وقيل إنه أبو ثور الأزدي ولا يصح إنتهى "وقد اختار قوم من أهل(2/541)