ثالثاً : يؤخذ من قوله ولكن جهاد ونية أن الجهاد والنية مشروعة ومأمور بهما إلى أن يخرج الدجال وينزل عيسى بن مريم وتقوم الساعة فالجهاد ينقسم إلى قسمين جهاد باللسان والقلم أي بالكلمة والكتابة والرد على من ينالون من الدين ويدخلون فيه ما ليس منه وجهاد بالسيف وما يقوم مقامه من آلات الحرب الحديثة فالأول جهاد المنافقين والثاني جهاد الكفار فقد أمر الله بهما في قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التوبة : 73]
رابعاً : يؤخذ من قوله ونية أمر بالإخلاص لله عز وجل في جهاد الكفار والمنافقين والأعمال من عبادات ومعاملات تمشياً بالأوامر الربانية والسنن النبوية أخذاً بها وتعاملاً على ضوئها مع الله أولاً ثم مع خلقه ثانياً .
خامساً :يؤخذ من قوله ( وإذا استنفرتم فانفروا ) أمر بالنفير إذا طلب ممن يكون من أهله والذي يعين هو وليّ الأمر فإذا عين شخصاً ولم يكن لديه ما يمنع وجب عليه أن ينفر لهذا الأمر النبوي الشريف ( وإذا استنفرتم فانفروا ) وهو إحدى الحالات الثلاث التي يتعين فيها الجهاد .
سادساً : يؤخذ من قوله إن هذا البلد حرمه الله ... .إلخ حرمة مكة وقد تقدم الكلام عليها في الحديث السابق .
سابعاً : يؤخذ من قوله وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة يؤخذ منه أن الله خص رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالأذن له بالقتال في الحرم المكي لإرساء دعائم العقيدة فيها وإزالة الشرك ومظاهره منها
ثامناً : يؤخذ من قوله لا يعضد شوكه العضد معناه القطع وفيه النهي عن قطع شوكه وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وقال الشافعي بجوازه لأن الشوك مؤذٍ وكل مؤذٍ يجوز(3/281)
إبعاده من الحرم كما يرى ذلك الشافعي رحمه الله وقول الجمهور هو الحق إن شاء الله لموافقته الدليل فلا يحل قطع شوكه ولا يعضد سائر شجره إلا ما استنبته الإنسان كما تقدم
تاسعاً :يؤخذ من قوله ولا ينفر صيده تحريم تنفير صيد الحرم من حمام وغيره إلا إذا دخل بيتك ففي هذه الحالة يرى بعض أهل العلم جواز ذلك .
عاشراً :يؤخذ من قوله ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها أن لقطة الحرم محرم التقاطها إلا لمن نوى تعريفها في جميع الزمن بمعنى أنه لا يتملكها ولا يكون للتعريف وقت محدد
الحادي عشر : يؤخذ من قوله ولا يختلى خلاه أنه يمنع أخذ الحشيش منه ما دام أخضر ونابت في مكانه إلا أنه يجوز إرسال المواشي فيه لتأكل منه بأفواهها أما قطعه وأخذه للبيع أو لمواشي يعلفها إياه فإن هذا لا يجوز
الثاني عشر : يؤخذ من قول العباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال إلا الإذخر يؤخذ من هذا استثناء الإذخر والإذخر نوع من الحشيش له رائحة طيبة
الثالث عشر: يؤخذ من قوله فإنه لقينهم ولبيوتهم إن هذا الاستثناء له علة وهو جعله لقينهم وهو الحداد والصواغ يضرم عليه النار ولبيوتهم وفي رواية ولقبورهم أما البيوت فقد سبق في المفردات أنهم يجعلونه على الخشب وتحت الطين وأما القبور فلكونهم يجعلونه في اللحد لسد الفراغات بين اللّبن
الرابع عشر :أخذ من هذا الاستثناء قاعدة فقهية وهو أن الاستثناء يجوز ما لم يحصل بين المستثنى والمستثنى منه فارق والكلام على هذه القاعدة موجود في أصول الفقه .
باب ما يجوز قتله
[219] الحديث الأول :عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والعقرب والفارة والكلب العقور ) ولمسلم ( يقتل خمس فواسق في الحل والحرم ) .
موضوع الحديث : بيان ما يجوز قتله في الحل والحرم وفي حالة الإحرام من الدواب والطير
المفردات(3/282)
قوله خمس من الدواب : جمع دابة والدابة هو ما يدب على الأرض قد تأتي في لسان الشرع عامة للطير وما سواه ومن ذلك قوله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَْرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [هود : 6] وقد يفرد أحياناً فيجعل نوعاً آخر مع الدواب كقوله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) [الأنعام : 38] ففي الآية الأولى أدخل الطير في عموم الدواب لأنه إذا سقط على الأرض دبّ عليها .
قوله كلهن فاسق : الفسق لغة هو الخروج يقال فسقت الحبة إذا خرجت من قشرتها وشرعاً الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قوله يقتلن في الحرم وفي رواية في الحل والحرم :أي يجوز قتلهن ولا يمنع قتلهن في الحرم ولا في الإحرام .
قوله الغراب ... إلخ:تفصيل من العدد الأول والغراب نوع من الطيور معروف والحدأة : طير يختطف بعض الأشياء قد يكون من اليد
العقرب : معروفة تلدغ بمؤخرها
الفأرة : نوع من الجرذان
والكلب العقور: أي المتصف بالعقر
قوله ولمسلم يقتلن خمس فواسق في الحل والحرم : يجوز على رواية الإضافة فتح فواسق وعلى رواية التنوين ضمها وإعراب الضم خمسُ مبتدأ وهي نكرة سوغها للابتداء الوصف بفواسق وفواسق خبر
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - خبراً يتضمن الأمر أن خمساً من الدواب كلهن يتصف بالفسق لذلك فإنه يباح قتلهن في الحل والحرم والإحرام ثم بين تلك الخمس بقوله الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور فقوله الغراب وما بعده هو تفصيل للعدد الأول ويعرب إعرابه
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث أن هذه الخمس يجوز قتلهن في الحل والحرم والإحرام لما اتصفنّ به من الإيذاء وإن كان الإيذاء فيهن مختلف قد يكون بعضهن أشد من بعض(3/283)
ثانياً : يؤخذ من قوله خمس ثم أتى بهذه الأجناس الخمسة مع أنه قد ورد في بعض الروايات إضافة الحية والحية أذيتها أشد فهل يقال أن جواز القتل مقصور على هذه الخمس أو أنه يتعدى كل واحدة منها إلى كل ما اتصف بالإيذاء مما يشبه نوع إيذائها فمن أهل العلم من قصرها على هذه الخمس فقط ومنهم من توسع فعدّا هذا الحكم إلى ما أشبهها في الإيذاء
ثالثاً : قال هؤلاء إنما خصت بالذكر لينبه بها على ما في معناها وأنواع الأذى مختلف فيها فيكون ذكر كل نوع منها على جواز قتل ما فيه ذلك النوع (يعني من الأذى) فنبه بالحية والعقرب على ما يشاركهما في الأذى باللّسع كالبرغوث مثلاً عند بعضهم ونبه بالفأرة على ما أذاه بالنقب والتقريض كابن عرس ونبه بالغراب والحدأة على ما أذاه بالاختطاف كالصقر والباز ونبه بالكلب العقور على كل عاد بالعقر والافتراس بطبعه كالأسد والفهد والنمر .
رابعاً :العلة في جواز قتل هذه الأشياء في الحل والحرم والتي وصف كل واحد منها بأنه فاسق اختلف فيها قول الأئمة فقال بعضهم العلة في ذلك الإيذاء وهذا القول محكي عن الإمام مالك ويذكر عن الشافعي أنه قال إنما أبيح قتلها لأنه لا يجوز أكلها وكأنه والله أعلم أخذ ذلك من حكم الصيد حيث منع قتله في الحرم وفي حالة الإحرام في غير الحرم ولكن الوصف بالفسق يدل على صحة ما ذهب إليه الإمام مالك رحم الله تعالى الجميع لأن تقديم الوصف بالفسق دال على إباحة قتلها إنما هو لذلك .(3/284)
خامساً : اختلف في الكلب العقور هل المراد به الكلب الإنسي المعروف إذا اتصف بالعقر وعلى هذا فيكون قتله مبني على وصف بعد وصف فوصف الكلبية لا يبيح القتل بمجرده حتى يتصف بالعقر وذهب آخرون إلى أنه نبه بهذا الوصف على كل ما اتصف بالعقر طبيعة كالسبع والنمر والفهد واستدل أهل هذا القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دعا على عتبة بن أبي لهب بأن يسلط الله عليه كلباً من كلابه(1)فافترسه السبع فدل على تسميته بذلك .
سادساً : أخذ من قوله الكلب العقور أن من قتل ثم لجا إلى الحرم فإنه يقتل فيه ذلك لأنه ارتكب القتل عدواناً فاتصف بالفسق بعدوانه ثم هو أولى بذلك من الحيوان غير المكلف فإذا كان الحيوان غير المكلف أبيح قتله لاتصافه بالعقر فالإنسان المكلف إذا ارتكب الفسق هتك حرمة نفسه فكان أولى بهذا الحكم من الحيوان غير المكلف وهذا فقه دقيق كما قال ابن دقيق العيد وهذا ليس عندي بالهين وفيه غور فلينتبه له أهـ ومعنى فيه غور أي فيه غوص على العلل والمعاني التي توجب إلحاق شيء بشيء
باب دخول مكة وغيره
[220] الحديث الأول : عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه .
موضوع الحديث:جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة
المفردات
__________
(1) الحديث هو قوله صلى الله عليه وسلم ( اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلابك ) فَقَتَلَهُ الأَسَد ، وَهُوَ حَدِيث حَسَن أَخْرَجَهُ الْحَاكِم مِنْ طَرِيق أَبِي نَوْفَل بْن أَبِي عَقْرَب عَنْ أَبِيهِ ذكره ابن حجر في شرح حديث خمس من الدواب كلهن فاسق رقم الحديث 1829 .(3/285)
قوله وعلى رأسه المغفر :المغفر هو نوع من لأمة الحرب يزرد زرداً كزرد الدروع إلا أنه يوضع على الرأس والظاهر أنه هو غير الخوذة فلما نزعه أي رفعه جاءه رجل فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه
ابن خطل : قيل اسمه عبد العزى وقيل اسمه عبدالله وهو ممن أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه وذلك أنه أسلم وهاجر ثم أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - جابياً للصدقة وكان معه رجل من الأنصار وكان أخو ابن خطل قد قتل قتله رجل من الأنصار فكأنه ورّى بإسلامه خدعة وكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أرسله جابياً نام وقال للأنصاري الذي معه اصنع طعاماً فلم يصنع الأنصاري شيئاً فقتله وفرّ إلى مكة وكان يقول الشعر في هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأباح النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه وكان قتله في الساعة التي أباح الله عز وجل القتال في الحرم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها
المعنى الإجمالي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة يوم الفتح مقاتلاً ولم يقصد أداء النسك فدخل والمغفر على رأسه فبلغه أن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فأمر بقتله
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث جواز دخول مكة بدون إحرام لمن له حاجة غير النسك
ثانياً : يؤخذ من الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل ابن خطل وكان متعلقاً بأستار الكعبة لارتداده وعظيم جرمه لكونه هجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذب عليه بعد أن ارتد عن الإسلام
ثالثاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الله أباح القتال في مكة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وكان قتل ابن خطل مع كونه متعلقاً بأستار الكعبة في تلك الساعة وبالله التوفيق .
[221] الحديث الثاني : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى .(3/286)
موضوع الحديث: استحباب الدخول من كداء وهي ثنية الحجون
المفردات
كداء : كداء بفتح الكاف والدال وألف بعدها همزة هي ثنية الحجون المعروفة الآن التي ينزل منها السائر على مقابر مكة وكُدى عقبة أخرى بضم الكاف وفتح الدال بعدها ألف مطوية تكتب بياء وهي التي في أسفل الحرم والسنة الخروج منها وهناك موضع آخر يقال له كدي بضم الكاف وفتح الدال بعدها ياء مشددة
المعنى الإجمالي
في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل من الثنية العليا وهي ثنية الحجون التي بالفتح ولهذا قالوا افتح وادخل وضم واخرج .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث استحباب الدخول من ثنية الحجون عند من يرى أن ذلك من باب التشريع والتعبد وذهب قوم إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل من ثنية الحجون لأنها كانت أسمح لدخوله وأقرب لطريقه وعلى هذا فلا يسن الدخول منها إلا لمن جاء من طريقها أما من جاء من طريق آخر فإنه يدخل إلى الحرم من طريقه ولا يكلف بالذهاب إلى عقبة الحجون وأقول هذا هو الراجح فيما أرى وبالأخص أن خطة المرور في أيام الحج قد يكون أنها تجعل الذهاب إلى هذه العقبة صعباً فينبغي للحاج والمعتمر أن لا يكلف نفسه ذلك بل يدخل من أي طريق تيسر له الدخول منه وكان أسمح لاتجاهه وبالله التوفيق .
[222] الحديث الثالث : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالاً فسألته : هل صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال نعم بين العمودين اليمانيين .
موضوع الحديث : الصلاة في الكعبة
المفردات
قوله وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة : هذه الأسماء مرفوعة على الفاعلية عطفاً على قوله دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3/287)
قوله فأغلقوا عليهم الباب : الفاء هنا عاطفة فلما فتحوا أي فتحوا الكعبة كنت أول من دخل ومن هنا موصولة فلقيت بلالاً فسألته هل صلى فيه : الضمير يعود إلى البيت أي الكعبة ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال نعم بين العمودين اليمانيين .
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة وأغلق عليهم الباب أي خشية أن يتتابع الناس في الدخول فلما فتحوا يقول عبدالله بن عمر كنت أول من دخل فلقيت بلالاً ... إلخ يعني أن بلالاً أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في بطن الكعبة بين العمودين اليمانيين .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث عدة مسائل
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث قبول خبر الواحد وهذا فرد من أفراد لا تحصى كما قال ابن دقيق العيد أي كلها أدلة على قبول خبر الواحد وفي ذلك رد على من رد الآحاد من الحديث ولم يقبل إلا المتواتر وقد حشد الشافعي رحمه الله الأدلة على قبول خبر الواحد في كتابه اختلاف الحديث(3/288)
ثانياً : يؤخذ من هذا الحديث جواز الصلاة في جوف الكعبة وقد اختلف في ذلك الأئمة فذهب مالك وأحمد بن حنبل إلى عدم جواز صلاة الفريضة في جوف الكعبة وفوقها وأجازوا ذلك في النافلة وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى جواز الفرض والنافلة في جوف الكعبة أو فوقها واستدلوا على ذلك بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جوف الكعبة أما النفل فقال ابن قدامة في المغني وتصح النافلة في الكعبة وعلى ظهرها لا نعلم في ذلك خلافاً وأقول إن قول الشافعي وأبي حنيفة هنا أي في هذه المسألة هو الراجح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في جوف الكعبة والتفريق بين الفريضة والنافلة لا دليل عليه أما قول المانعين بأنه لا يكون مستقبلاً لها فهذا القول فيه نظر بل إن من استقبل جزءاً منها ولو كان في جوفها أو على ظهرها فإن صلاته صحيحة ومن كان في جوفها أو على ظهرها فإنه يعد قد استقبل جزءاً منها
ثالثاً :أخبر بلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بين العمودين اليمانيين وجعل بينه وبين الجدر الذي استقبله حوالي ثلاثة أذرع والكعبة كانت في ذلك الوقت على ستة أعمدة وهما سطران يعني ثلاثة بعد ثلاثة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما دخل من الباب تقدم إلى العمودين اليمانيين من الثلاثة الأعمدة التي تقرب إلى الجدر الغربي المقابل للجدر الذي فيه الباب وصلى بين عمودين منها فجعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة خلفه ثم صلى . انظر التفصيل في البداية والنهاية وفي فتح الباري إن شئت(3/289)
رابعاً : أخذ من هذا الحديث دليل على جواز الصلاة بين السواري وليس في ذلك دليل إلا للمنفرد أما صلاة الجماعة التي ورد فيها النهي أو الكراهة فإن هذه القصة لا تتناولها ذلك لأن الكراهة إنما قيل بها من أجل أن الصلاة بين السواري تقطع الصف فلذلك كره والدليل على ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وهو حديث صحيح صححه الحاكم وكذا الحافظ في الفتح وحكى تصحيحه الصنعاني في العدة وعلى هذا فينبغي أن يقال بكراهة الصلاة بين السواري في الجماعة أما الفرادى فيجوز والأولى للمنفرد أن يصلي إلى السارية وليس بين السواري والظاهر أن ذلك يجوز بدون كراهة عند الضرورة ومع الكراهة عند عدم الضرورة أي في صلاة الجماعة وهو ما يفهم من كلام الصنعاني وابن حجر والله أعلم
[223] الحديث الرابع :عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله وقال :إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك .
موضوع الحديث: وجوب المتابعة لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -
المفردات
قوله إني لأعلم أنك حجر : تأكيد للعلم بذلك
لا تضر ولا تنفع : أي ليس عندك ضرر ولا نفع وإنما أقبلك تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قوله ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك : لولا حرف امتناع لوجود أي أنه امتنع عدم تقبيله لك لوجود تقبيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحجر
المعنى الإجمالي
يقرر عمر رضي الله عنه مبدءاً دينياً أن الأصل في الأعمال الدينية الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس تقبيل الحجر لسر في حجريته
فقه الحديث(3/290)
يؤخذ من هذا الحديث أن الأفعال التعبدية تقوم على أمرين الأمر الأول الإخلاص لله تعالى امتثالاً لأمر الله تعالى كما في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) [ آل عمران : 51 ] وفي قوله (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) )[ البينة : 5] الأمر الثاني المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحن إذا قبلنا الحجر الأسود أو تطوفنا بالكعبة أو وقفنا بعرفات أو رمينا الجمرات فإنما نفعل ذلك إخلاصاً لله تعالى ومتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - لا لغرض آخر كما تزعمه الديانة الوثنية إذ أن ديننا يقوم على الإخلاص والمتابعة والله الموفق
[224] الحديث الخامس :عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة فقال المشركون إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم (1)
موضوع الحديث :الرمل المشروع في طواف القدوم
المفردات
قوله لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة فقال المشركون : الذي يظهر أن الفاء هنا فاء السببية أي بسبب ذلك قال المشركون .
قوله إنه يقدم عليكم : فعل مضارع من قدم يقدم من باب فرح يفرح ومصدره قدوماً
__________
(1) بمراجعة الحديث في صحيح البخاري وجد أنه خرجه في موضعين الأول : في الحج الباب 55 باب كيف كان بدء الرمل ولفظه كما هنا إلى قوله ( ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم رقم الحديث 1602 وأخرجه في المغازي باب عمرة القضاء برقم 4256 بلفظ ( ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم ) وبمراجعة صحيح مسلم لم يوجد فيه إلا كرواية البخاري ( النجمي)(3/291)
قوله وهنتهم حمى يثرب : أي أنهكتهم وأضعفتهم وقد كانت المدينة كثيرة الحمى فلما قدم المهاجرون من قريش وتأثروا بحمى يثرب دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه بأن ينقل حمى المدينة إلى الجحفة (فَقَالَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ ) (1) وجاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (قَالَ رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا ) (2)
فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة : الرمل شدة الحركة في المشي هكذا نقل عن القاضي عياض وقال الجوهري هو الوثب الخفيف وهو ضرب من السير بين المشي السريع والسعي .
__________
(1) البخاري في كتاب الحج باب كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى المدينة رقم 1889 وفي كتاب المرضى باب عيادة النساء الرجال رقم 5654 وفي باب من دعا برفع الوباء والحمى رقم 5677 وفي كتاب المناقب باب مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة رقم 3926 وفي كتاب الدعوات باب الدعاء برفع الوباء والوجع رقم 6372 ومسلم في كتاب الحج باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها رقم 1376 وأحمد في باقي مسند الأنصار ومالك في كتاب الجامع باب ما جاء في وباء المدينة رقم 1648 .
(2) البخاري في كتاب التعبير باب أنه إذا خرج الشيء من كورة فأسكنه رقم 7038 وفي باب المرأة السوداء رقم 7039 وفي باب المرأة الثائرة الرأس رقم 7040 والترمذي في كتاب الرؤيا باب ما جاء في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - الميزان رقم 2290 وابن ماجة في كتاب تعبير الرؤيا باب تعبير الرؤيا رقم 3904 .(3/292)
أن يرملوا الأشواط الثلاثة : الذي يظهر أن التخصيص بالأشواط الثلاثة إنما كان في حجة الوداع أما الأمر الأول الذي في عمرة القضاء فقد أمرهم بالرمل ما بين ركن الحجر إلى الركن اليماني لكن في حجة الوداع أمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة الأول فقط.
قوله إلا الإبقاء عليهم : أي عدم التكليف أو التحريج عليهم
المعنى الإجمالي
لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في عمرة القضاء قال المشركون هذه المقالة فيما بينهم وأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فأمرهم أن يرملوا فلما رأتهم قريش قالوا ما هؤلاء إلا كالغزلان فصارت سنة.
فقه الحديث(3/293)
يؤخذ من هذا الحديث مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأول فإن قيل فما فائدة بقاء الرمل وقد نصر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وذهب العدو الذي كان يريد لهم الضعف والجواب أن الله عز وجل أبقى هذه السنة لحكمة كما أبقى سنناً وأحكاماً ذهب سبب شرعيتها وبقيت تلك الأحكام ليتذكر كل من طبق هذه الشرعية أو هذا الحكم ليتذكروا السبب الذي وجد به ويتذكروا من وقع السبب على يديه من الأنبياء وأتباعهم فمناسك الحج أبقاها الله من آثار نبيه وصفيه وخليله إبراهيم وأهل بيته فالسعي مثلاً شرع ليكون فيه ذكرى لأم إسماعيل وإسماعيل ورمي الجمار شرع ليتذكر به الناس ذلك الإمام الموحد الذي أمره الله عز وجل أمراً بواسطة الرؤيا أن يذبح ابنه الوحيد بعد ما شاخ وهو في بلد الغربة بالمهاجر بحاجة إلى الأنصار والأعوان ولكن ذلك لم يصده عن امتثال أمر ربه أولاً بتركه وأمه في ذلك الوادي وبين تلك الجبال الموحشة ففعل ذلك ثقة بربه وإيماناً بوعده وتوكلاً عليه ولما تركهما وتبعته هاجر تقول يا إبراهيم إلى من تتركنا هاهنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شئ وهو لا يجيبها ولا يلتفت إليها حتى قالت آلله أمرك بهذا قال نعم ولم يكن قلب إبراهيم من تلك القلوب الحجرية التي لا ترأف ولا ترحم ولكنه صبر منقطع النضير فلما قال لها ذلك قالت إذا لا يضيعنا وهذا غاية التوكل الذي قد يعجز عنه فحول الرجال وأراد الله أن يجعل من تلك الأسرة العظيمة الإيمان الكبيرة المعنى القوية التوكل ذكرى لعباده وكذلك لما أراد ذبح ابنه أيضاً اعترضه الشيطان وفي كل مرة يرميه بالحجر حتى يسيخ وفي المرة الثالثة لم يتحول عن مكانه بل حاول التنفيذ فصرع ابنه عازماً على التنفيذ أن يفعل ما أمره الله به من الذبح له فناداه جبريل من ورائه يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين وفديناه بذبح عظيم فما بقاء الرمل في طواف كل قدوم إلا ذكرى من هذه الذكريات التي جعلها الله(3/294)
عنواناً على ما قدمه الخُلَص من عباده من التضحيات في سبيله حتى كانوا مضرب المثل في التوكل والإيمان وبالله التوفيق .
[225] الحديث السادس : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يخب ثلاثة أشواط .
موضوع الحديث : الرمل في الأشواط الثلاثة من طواف القدوم
المفردات
قوله استلم الركن الأسود : يعني به ركن الحجر
أول ما يطوف : يعني عند ابتداءه
يخب : الخبب هو والرمل متقاربان وهو سير سريع فوق المشي السريع ودون السعي الذي هو الجري
ثلاثة أشواط : الأشواط جمع شوط والشوط هو الدورة من ركن الحجر إلى أن يعود مرة أخرى إليه أو إلى حذاءه .
المعنى الإجمالي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ باستلام الحجر في طواف القدوم ثم خب في ثلاثة أشواط منه
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث مشروعية استلام الحجر الأسود عند البدأ بالطواف
ثانياً : يؤخذ منه أن الركن الأسود هو محل البدأ بالطواف فلا بد أن يبدأ منه وينتهى إليه
ثالثاً: أنه لو قصر عنه في النهاية ولو بخطوة أو ببعض خطوة لم يصح الطواف
رابعاً :يؤخذ منه مشروعية الرمل أو الخبب في الأشواط الثلاثة الأول
خامساً : ومما يسن في طواف القدوم الاضطباع وهو أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن ويخالف بين طرفيه على منكبه الأيسر وبالله التوفيق .
[226] الحديث السابع :عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن .
موضوع الحديث:مشروعية الطواف راكباً على البعير
المفردات(3/295)
حجة الوداع : هي الحجة التي حجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة ثم توفى بعدها وسميت حجة الوداع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودّع فيها الناس بقوله (لِتَأْخُذْ أُمَّتِي نُسُكَهَا فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاهُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا)(1)
على بعير : أي راكباً على بعير
يستلم الركن : المراد بالركن هنا ركن الحجر
بمحجن : المحجن فسره مؤلف العمدة بأنه عصاً محنية الرأس وأقول المعروف أن المحجن عصاً محنية الرأس خلقةً وهو ما يسمى بالمشعاب لا بمحاولة ومعالجة كما يفعل بالخيزران .
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على بعير وكان إذا حاذ الركن وضع محجنه على الحجر ثم استلمه
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث مسائل
المسألة الأولى: جواز الطواف راكباً وهذا يعني أنه فضّل الطواف راكباً لمصالح دعت إلى ذلك وإلا فالأصل أن طواف الماشي أفضل إذا عُري من تلك المصالح
أولاً :أن جميع الحاضرين يرون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيثبت لهم حكم الصحبة لكونهم رأوه
ثانياً: ليقتدوا به في أفعاله ثالثاً : ليسن الركوب في الطواف فلا يكون هناك حرج على من احتاج إليه .
المسألة الثانية :إدخال البعير في المسجد يؤخذ منه طهارة فضلات الإبل كالبول والروث وذلك يؤخذ بطريق التأويل فيقال إدخال البعير في المسجد مع كونه لا يؤمن أن يبول فيه أويروث دال على طهارة بول البعير وروثه ولو لم يكن كذلك ما أدخل المسجد .
__________
(1) النسائي في كتاب مناسك الحج باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم رقم 3062 وابن ماجة في كتاب المناسك باب الوقوف بجمع رقم 3023 والترمذي كتاب الحج باب ما جاء في الإفاضة من عرفات رقم 886 بنحوه ( قال الألباني صحيح )(3/296)
المسألة الثالثة :لا يجوز أن نستدل بالركوب فندخل الحمار ليركبه الطائف لأن روث الحمار وبوله نجس قطعاً فقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (خرج إلى الخلاء ومعه أبو هريرة فقال له أبغني أحجاراً استنفض بها فأتاه بحجرين وروثة) (1) وفي صحيح ابن خزيمة أن الروثة روثة حمار (2) فرمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الروثة وقال إنها ركس أو رجس فدل أن فضلات الحمار رجس أي نجسة إذاً فمن أراد أن يطوف على مركب فليكن مما يؤكل لحمه كالإبل والخيل علماً بأن طهارة أبوال الإبل وأرواثها متقررة بأدلة أخرى غير هذا وهو أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للعرنيين في الشرب من أبوالها .
المسألة الرابعة :ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى نجاسة أبوال وأرواث ما يؤكل لحمه من بهيمة الأنعام وهما محجوجان بالأدلة الواردة على ذلك منها ما سبق ذكره ومنها صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكان الغنم أي محل مبيته الذي فيه بول الغنم وروثه
المسألة الخامسة :يؤخذ من هذا الحديث جواز استلام الركن باليد أو بالعصا ويقبل الطائف ما مس الحجر من اليد أو العصا
المسألة السادسة :لا يجوز تقبيل شيء من الكعبة أو غيرها غير الحجر الأسود ويشرع لمس الركن اليماني بدون تقبيل وبدون تكبير وبدون إشارة .
المسألة السابعة : إنما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - استلام الركنيين الشماليين لأنهما قد غيرا عن قواعد إبراهيم فلذلك لم يشرع لهما لمس ولا تقبيل
__________
(1) الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في الاستنجاء بالحجرين رقم 17 وابن ماجة في كتاب الطهارة وسننها باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة رقم 314 والنسائي في كتاب الطهارة باب الرخصة في الاستطابة بحجرين رقم 42 ( قال الألباني صحيح )
(2) صحيح ابن خزيمة الباب رقم 53 الحديث رقم 70 (( النجمي)) .(3/297)
المسألة الثامنة : لعل بعض من يريدون القدح في الدين ويقولون أن تقبيل الحجر والطواف بالكعبة من عبادة الحجارة فلم تنكرون على الذين يتطوفون بالقبور أو يتطوفون بالأصنام وأنتم واقعون في ذلك ويقال لهم كذبتم نحن لم نقبل الحجر لذاته وإنما قبلناه لأمر الله عز وجل وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه(إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) والطواف بالكعبة أمرنا الله به فقال تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) [الحج : 2] فنحن ممتثلون لأمر الله عز وجل ولأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومتابعته فلذلك فإن انتقادكم هذا في غير محله فنحن إنما نعبد الله ونؤدي هذه العبادات طاعة وتعبدا له لا لهذه الأحجار وبالله التوفيق.
[227] الحديث الثامن :عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال لم أرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت إلا الركنيين اليمانيين .
موضوع الحديث: الإشارة إلى علة استلام الركنيين اليمانيين يعني ركن الحجر والذي يقابله.
المفردات
قوله اليمانيين: وصف للركنيين لأنهما يقابلان اليمن
المعنى الإجمالي
صلوات الله وسلامه على خليله إبراهيم فلقد كان قدوة للموحدين ومن أجل ذلك فقد جعل الله مآثره مناسك حتى أن الله عز وجل لم يشرع على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - استلام الركنيين الشماليين لأنهما قد غيرا عن قواعد إبراهيم وشرع استلام الركنيين اليمانيين لكونهما لم يغيرا
فقه الحديث
قد تقدم في الباب قبله وبالله التوفيق .
باب التمتع
التمتع في اللغة : هو التلذذ والمقصود هنا التلذذ بالحل بعد التحلل من إحرام العمرة بالطواف والسعي وبالحلق أو التقصير ويقع أيضاً على ما يسمى تمتعاً بسقوط أحد السفرين وكلاهما حاصل للمتمتع .(3/298)
والتمتع شرعاً : هو الإحرام بعمرة في أشهر الحج والتحلل منها والبقاء في مكة بعد التحلل ثم الإحرام بالحج في اليوم الثامن وهو يوم التروية وقد جعل الله عز وجل بدلاً عن السفر الذي كان مفروضاً للحج بأن يعود إلى الميقات ويحرم بالحج منه جعل الله عز وجل بدلاً عن ذلك بما شرعه من الهدي وهو أن يشتري الهدي من داخل الحرم ويذبحه في يوم العيد أو أيام التشريق وأقله شاة أو سبع بدنة وأكثره بدنة فإن لم يجد الحاج الدم ولا قيمة يشتري بها شرع له أن يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله وقد حصل للحاج التمتع الذي هو التلذذ بالحل من حين يحل في أشهر الحج إلى أن يحرم بالحج وقد اختلف أهل العلم فيمن خرج عن الحرم أو عن المواقيت أو رجع إلى أهله هل يعتبر قد أُلغىَ التمتع في حقه أم لا ؟ فمن أهل العلم من قال إذا خرج مسافة قصر ألغي تمتعه ومنهم من قال إذا خرج خارج المواقيت ألغي تمتعه ومنهم من قال أنه لا يلغى تمتعه إلا إذا عاد إلى أهله والذي يترجح لي : أن تمتع المتمتع باق ما لم يخرج عن المواقيت أو أحدها ذلك لأن الإحرام بالحج والعمرة يكون من المواقيت فمن خرج عن المواقيت فإن تمتعه الأول قد ألغى وعليه أن يختار له نسكاً إذا مرّ بالميقات الذي يمر عليه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ) هذا ما ظهر لي في هذه المسألة وأرجو أن ذلك هو الصواب . وبالله التوفيق
[228] الحديث الأول: عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال سألت ابن عباس عن المتعة ؟ فأمرني بها وسألته عن الهدي فقال فيه جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم قال وكان ناس كرهوها فنمت فرأيت في المنام كأن إنساناً ينادي حج مبرور ومتعة متقبلة فأتيت ابن عباس فحدثته فقال الله أكبر سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - .
موضوع الحديث: تفضيل المتعة
المفردات
التمتع : قد سبق شرحه في المقدمة وكذلك المتعة(3/299)
الهدي : هو ما يهديه الحاج إلى الكعبة وينقسم إلى قسمين هدي واجب وهو ما شرع جبراناً لنقص كهدي التمتع والقران وهدي تطوع وهو ما يتطوع به الإنسان ولم يكن واجباً عليه
قوله وكان ناس كرهوها :أي كرهوا التمتع بالعمرة إلى الحج لم استقر في أذهانهم من نهي عمر رضي الله عنه عن التمتع وأمره بالإفراد
قوله فرأيت في المنام .. إلخ :أي أنه رأى تلك الرؤيا التي دلت على أن التمتع سنة ولهذا فإنها قد سرّت عبدالله بن عباس رضي الله عنهما
المعنى الإجمالي
يخبر نصر بن عمران الضبعي أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن المتعة فأمره بها ثم إنه بعد ذلك حج متمتعاً فقال أصحابه في ذلك وانتقدوه حتى وقع في نفسه شك مما صنع فتحلل من العمرة ثم نام فرأى في النوم أن إنساناً يقول له حج مبرور ومتعة متقبلة فذهب إلى ابن عباس فأخبره فسرّ ابن عباس بهذه الرؤيا وقال الله أكبر سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - ثم أمره أن يقيم عنده حتى يقاسمه ماله سروراً بهذه الرؤيا وإعجاباً بها
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث مشروعية التمتع وأنه أفضل الأنساك
ثانياً : يؤخذ منه الاستئناس بالرؤيا إذا وافقت الحق
ثالثاً: يؤخذ من قوله جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم أن الهدي أدناه شاة أو شرك في دم بأن يشترك سبعة في بدنة أو بقرة وأكمله أو وأعلاه جزور أي ناقة ويشترط في الجزور والبقرة والواحدة من المعز أن تكون مسنة بمعنى أنها تكون قد طلعت لها الثنتين الأوليين من الأسنان بعد الجذع أما الضأن فيجزيء منه الجذع والجذع هو الذي يجذع أسنانه التي ولد بها ثم يطلع بدلها الثني وهو في المعز يكون ما تمت له سنة ودخل في الثانية ومن البقر ما تم له سنتان ودخل في الثالثة ومن الإبل ما تم له أربع سنين ودخل في الخامسة أما عيوب الهدي فهي عيوب الأضحية فما أجزأ في الأضحية أجزأ في الهدي . وبالله التوفيق
[(3/300)
229] الحديث الثاني:عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي من ذي الحليفة ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله فطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة وركع حين قطع طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم ثم انصرف فأتى الصفا وطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهدي وساق الهدي من الناس .
موضوع الحديث : بيان النسك الذي حج به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكيف صنع - صلى الله عليه وسلم - لكونه ساق الهدي
المفردات
قوله تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : المراد به التمتع اللغوي وهو كونه - صلى الله عليه وسلم - أدخل العمرة على الحج فكان تمتعه بتداخل النسكين وإسقاط الإحرام من الميقات لأحدهما .
قوله في حجة الوداع : سميت حجة الوداع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا وسمي هذا وداعاً .
قوله فساق معه الهدي من ذي الحليفة :يعني أنه ساقه من الميقات وكان هديه ثلاث وستون بدنة(3/301)
قوله وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بالعمرة ثم أهل بالحج : لعله أهل بالعمرة قبل أن يعلم أن سوقه الهدي يمنع التحلل .
قوله ثم أهل بالحج : أي أدخل الحج على العمرة فصار قارناً
فكان من الناس من أهدى فساق الهدي من ذي الحليفة : الحليفة تصغير حلفه وهو نوع من الشجر يقال له حلفاء
قوله ومنهم من لم يهد : أي لم يسق الهدي فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للناس من كان منكم أهدى أي ساق الهدي فلا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل . التقصير هو تقصير الشعر وهو معروف
قوله وليحلل :أي ليتحلل بما ذكر
ومن لم يكن أهدى : أي من لم يكن ساق الهدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة أي للعمرة ثم ليهل بالحج يعني في اليوم الثامن
وليهد : أي ليذبح هدياً إن تيسر له .
قوله واستلم الركن : المراد به ركن الحجر
قوله ثم خب ثلاثة أطواف : أي رمل ومشى أربعة
قوله ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه : يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ساق الهدي من خارج الحرم
وأفاض : الإفاضة هي الطواف بالبيت بعد النزول من عرفات والمبيت بمزدلفة ورمي جمرة العقبة .
المعنى الإجمالي
بين عبدالله بن عمر في هذا الحديث كثيراً من مناسك الحج وركز على ما يفعله من ساق الهدي وما يفعله من لم يسقه
فقه الحديث(3/302)
أولاً: قوله تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع استدل بهذه الرواية من قال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حج متمتعاً وهذا القول ضعيف يخالف الأدلة والأدلة الصحيحة دالة على أنه حج قارناً وأن المراد بالتمتع هنا القران وهو يسمى تمتع لأن صاحبه تمتع بشيئين الأول منهما تداخل النسكين في حقه بحيث يكفي لهما عمل واحد والشيء الثاني أنه سقط عنه الإحرام من الميقات للحج فتعين حمل التمتع هنا أن المقصود به القران والله أعلم . وقد أوضح ابن القيم رحمه الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً من عدة وجوه .
ثانياً : اختلف أهل العلم في أفضل الأنساك فكان الأفضل هو ما تمناه - صلى الله عليه وسلم - في قوله (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) (1)
ثالثاً : يؤخذ من قوله فساق معه الهدي من ذي الحليفة أن من ساق الهدي من الميقات أو دخل به حدود الحرم فإنه يحرم عليه التحلل بالعمرة .
رابعاً : وقوله وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بالعمرة ثم أهل بالحج يؤخذ من هذه الجملة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ فأهل بالعمرة ولعله كان قاصداً هدم ما جرى عليه الناس في الجاهلية أن العمرة لا تجوز في أشهر الحج ولكن روى مسلم في صحيحه أنهم أهلوا أولاً بالحج ثم أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلوها عمرة (2)
خامساً : يؤخذ من قوله ثم أهل بالحج أن الإهلال بالحج كان متأخراً عن الإهلال بالعمرة إلا أن رواية مسلم السابقة ترد ذلك .
__________
(1) أخرجه مسلم (باب 17 ) حج بلفظ (ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما أحلوا ) رقم 1211(( النجمي)) .
(2) مسلم في كتاب الحج باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج رقم 1216 وابن ماجة في كتاب المناسك باب فسخ الحج رقم 2980(3/303)
سادساً :قوله فتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي أن الناس كانوا قسمين قسم ساقوا الهدي وتأسوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فعله وقسم لم يسوقوا الهدي وأطاعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله يوضح ذلك قوله فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد .
سابعاً :يؤخذ من قوله فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للناس ... ..ألخ الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كرر الأمر عليهم مرة بعد مرة وآخرها عند المروة يعني بالتحلل بالعمرة
ثامناً :يؤخذ من قوله ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل يؤخذ من هذا أن التقصير نسك .
تاسعاً :أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتقصير في العمرة من أجل أن يبقى الحلق للحج
عاشراً :يؤخذ من قوله وليقصر وليحلل يؤخذ من هذا الأمر وجوب التحلل بالعمرة لمن لم يسق الهدي ولأهل العلم في هذه المسألة خلاف كبير والجمهور على الاستحباب وقال بالوجوب بعض السلف حتى أنه أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن من طاف بالبيت فقد حل شاء أم أبى
الحادي عشر : يؤخذ منه على الأقل فضيلة التمتع لمن لم يسق الهدي .
الثاني عشر : أن من تحلل بالعمرة فعليه هدي ويشترط في الهدي ما يشترط في الأضحية من الإجزاء وعدمه وقد تقدم .
الثالث عشر : سن الهدي وقد سبق ذكر السن المشترطة في الهدي
الرابع عشر : أن من لم يجد هدياً فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله
الخامس عشر : قوله في الحج فيه احتمالات هل المراد به من بعد التحلل بالعمرة ولو كان التحلل قبل هلال ذي الحجة أو أنه لا بد أن يكون الصوم بعد هلال ذي الحجة أو أنه لا بد أن يكون بعد الإحرام بالحج هذه آراء للفقهاء ولعل عدم التحديد في ذلك يدل على التوسعة والأحوط ألا يصومها إلا بعد هلال ذي الحجة .(3/304)
السادس عشر : أنه إن لم يتمكن من صوم الثلاثة الأيام قبل عرفة فعليه أن يصومها في أيام التشريق وقد ورد الإذن من الشارع بذلك
السابع عشر : أنه إن لم يتمكن من صومها في الحج فليضمها إلى السبعة عند رجوعه إلى أهله وهل يفرق بينها وبين السبعة محل نظر وخلاف بين أهل العلم
الثامن عشر :قد تقدم مشروعية الخبب والاضطباع في طواف القدوم
التاسع عشر : أن من لم يتمكن من أداء ركعتي الطواف عند المقام فله أن يصليها في المسجد أو في مكة أو في الحرم كله وبقية ما ذكر في الحديث فقد سبق شرحه في أحاديث متقدمة وبالله التوفيق
[230] الحديث الثالث :عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك فقال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر
موضوع الحديث : أن من ساق الهدي لا يتحلل من نسكه إلا بعد أن يبلغ الهدي محله زماناً ومكاناً
المفردات
ما شأن الناس حلوا : هذه جملة استفهامية
قولها ولم تحل أنت من عمرتك : يصح هكذا ويصح ولم تحلل أنت من عمرتك
قال إني لبدت رأسي : التلبيد هو أن يجعل في شعر الرأس شيئاً يمنعه التجعد والانتفاش كالصمغ أو الصبر أو العسل
هديي : الهدي هو ما سيق إلى الكعبة إهداءً إليها لينحر في حرم الله وهذا من أفضل القرب
قوله فلا أحل : هذا تكملة الجواب أي فلا يتسنى لي ولا يمكنني التحلل حتى أنحر هديي
المعنى الإجمالي
سألت حفصة رضي الله عنها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قائلة ما شأن الناس حلوا من العمرة أي بالطواف والسعي والتقصير ولم تحل أنت من عمرتك كما أمرت الناس بذلك فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بقوله إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر وكان هذا الجواب أن عنده - صلى الله عليه وسلم - ما يمنعه من التحلل وهو تلبيد الرأس وتقليد الهدي وأنه لا يمكنه التحلل إلا بعد نحر الهدي إذا بلغ محله الزماني والمكاني وحلق الرأس .(3/305)
فقه الحديث
أولاً :يؤخذ من هذا الحديث مشروعية السؤال عما اشتبه حتى يتبين الحكم
ثانياً : يؤخذ من هذا الحديث أنه إذا تعارض القول والفعل فإنه ينبغي السؤال لعل هناك شيء لا يفهمه هذا المستشكل
ثالثاً : أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يزيل اللبس ويرفع الإشكال ويبين الحقيقة ظاهرة لمن أرادها وهو أن من ساق الهدي وجاء به من خارج الحرم فإنه يحرم عليه التحلل حتى ينحر الهدي وهذا هو الذي منع النبي - صلى الله عليه وسلم - .(3/306)
رابعاً :استدل بقول حفصة رضي الله عنها ولم تحل أنت من عمرتك على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً ويكون المراد من قولها ولم تحل من عمرتك أي من عمرتك التي أهللت بها مع حجتك وهذا هو الصواب أما قول ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متمتعاً فالمراد به القران لأن القران يسمى تمتعاً وكذلك ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه في صحيح مسلم بأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (لبيك حجاً ) (1) فالمراد به إهلاله أول الأمر ويعارضه حديث أنس رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ( لبيك عمرة وحجاً ) (2) فهذا محمول على آخر الأمر والجمع بينهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ فأحرم بحجة ثم بعد ذلك أدخل عليها العمرة فصار بذلك قارناً والأدلة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً أدلة كثيرة لا تقبل التأويل وما عارضها فهو قليل ومتأول .
[
__________
(1) صحيح مسلم رقم 1232 ص 475 باب في الإفراد والقران وفي رقم 1231 وفي رواية ابن عون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفرد . طبع دار الحديث القاهرة وانظر الهدي النبوي ج2 ص115 وص117 حديث بكر بن عبدا0لله المزني عن أنس سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة جميعاً قال بكر فحدثت بذلك ابن عمر فقال لبى بالحج وحده .. الحديث .(( النجمي)) .
(2) مسلم في كتاب الحج باب إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه رقم 1251 وفي باب الإفراد والقران بالحج والعمرة رقم 1232 والترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في الجمع بين الحج والعمرة رقم 821 والنسائي في كتاب مناسك الحج في القران رقم 2729 وأبو داود في كتاب المناسك باب في القران رقم 1795 وابن ماجة في كتاب المناسك باب الإحرام رقم 2917 وفي باب من قرن الحج والعمرة رقم 2968.(3/307)
231] الحديث الرابع :عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال أنزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ففعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات . قال رجل برأيه ما شاء .
قال البخاري يقال إنه عمر . ولمسلم نزلت آية المتعة – يعني متعة الحج – وأمرنا بها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات . ولهما بمعناه
موضوع الحديث : تقرير مشروعية التمتع في الحج
المفردات
قوله أنزلت آية المتعة : المراد به متعة الحج لا متعة النساء لأن متعة الحج هي التي ذكرت في القرآن الكريم في قوله تعالى ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ... ) [البقرة : 196] الآية
قوله ففعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقرر بهذا أنهم فعلوها زمنه لينفي ما يتطرق إلى الوهم أنه كان بعد زمنه
قوله ولم ينزل قرآن يحرمها : مقصوده بقاء الحكم بها حتى انقطع الوحي وكذلك قوله ولم ينه عنها حتى مات
قوله فقال رجل برأيه : المقصود به عمر بن الخطاب رضي الله عنه
المعنى الإجمالي
يقرر عمران بن حصين رضي الله عنه أن آية المتعة في الحج نزل بها القرآن وعمل بها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تنسخ حتى مات وفي هذا رد على من نهى عنها .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث مشروعية التمتع وأنه هو السنة وأن الذي ينبغي متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواز مثل ذلك ومشروعيته لأنه هو المشرع ولهذا قال ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء
ثانياً : فيه إشارة إلى أن قول المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وأمره لا يعارض به قول من ليس بمعصوم ولو كان جليل القدر وعظيم المنزلة في الإسلام كعمر بن الخطاب رضي الله عنه . وبالله التوفيق
باب الهدي(3/308)
قوله باب الهدي أي باب أحكام الهدي ، والهدي هو ما يهدى إلى بيت الله الحرام قال عز وجل ( هدياً بالغ الكعبة ) ثم إن الهدي ينقسم إلى أربعة أقسام 1- هدي نذر
2- هدي واجب وجب بحكم النسك كهدي التمتع 3- هدي من أفسد حجه بالجماع يوم عرفه أو قبله 4- وهدي يعمله المهدي تطوعاً فإذا فعله وعينه بالتقليد والإشعار وجب تنفيذه ولا يجوز الرجوع عنه
[232] الحديث الأول :عن عائشة رضي الله عنها قالت فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أشعرتها وقلدها أو قلدتها ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حلاً .
موضوع الحديث :أن من أرسل هدياً لا يجب عليه ولا يشرع له أن يجتنب ما يجتنبه المحرم
المفردات
فتلت : الفتل هو الحبك
قلائد : جمع قلادة وهو ما يقلد به الهدي من جلد أو غيره كقطعة نعل متروكة ثم أشعرتها وقلدها أو قلدتها : الإشعار هو أن يضرب بالسكين في صفحة سنام البدنة أو دربة البقرة فتقطع الجلد بحيث يجرح في السنام جرحاً ثم يسلت الدم على جنب البدنة هذا هو الإشعار وهو خاص بالبدن دون غيرها فالغنم يقلد لكن لا يشعر
قول عائشة وقلدها أو قلدتها : هذا الشك لا يضر لأنه لا يترتب عليه حكم بل إن التوكيل في تقليد الهدي وإشعاره جائز
ثم بعث بها إلى البيت : أي بعث بهذه المواشي إلى البيت هدياً
وأقام بالمدينة : أي استقرّ بها فما حرم عليه شيء كان حلاً له
المعنى الإجمالي
تخبر عائشة رضي الله عنها أنها فتلت بيدها قلائد هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلدتها ثم بعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البيت فلم يحرم عليه شيء كان حلاً له
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث عدة مسائل
أولاً: جواز الاستنابة في تقليد الهدي وإشعاره وأنه لا يتحتم أن المهدي هو الذي يفعل ذلك(3/309)
ثانياً : تقليد الهدي بأن يوضع في عنقه قلادة حبل أو ما أشبه ذلك توضع فيه قطعة نعل متروكة أو قطعة جلد وتعلق في عنق الهدي ليعلم أنه هدي هذا هو التقليد
ثالثاً : يؤخذ منه مشروعية إشعار الهدي والإشعار بأن يقطع بالسكين جلد الدابة حتى يسيل الدم على صفحة جنبها الأيمن ثم يسلته بيده أي يمسحه بيده على جنب الدابة وهو خاص بالبدن دون الغنم
رابعاً : يؤخذ منه أن الإشعار سنة وإلى ذلك ذهب الجمهور وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال بعدم استحباب الإشعار وزعم أنه مثله وقد أنكر أهل العلم على أبي حنيفة مخالفته للسنة وأثر قوله هذا عن إبراهيم النخعي
خامساً :يؤخذ منه جواز بعث الهدي إلى الحرم لينحر هناك والمهدي في بلده
سادساً : أن من أرسل هدياً من مكان بعيد يجوز له أن يشعره ويقلده من مكانه بخلاف ما لو كان الهدي معه فإنه ينبغي أن يكون الإشعار والتقليد في الميقات عندما يحرم المهدي كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -(3/310)
سابعاً :أن من أرسل هدياً وجلس في بيته فإنه لا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم وقد كان في زمن الصحابة منهم من رأى أن من أرسل هدياً وجب عليه أن يجتنب ما يجتنبه المحرم وممن قال بهذا القول ابن عباس وابن عمر وعلي وقيس بن سعد ولكن هؤلاء كلهم رجعوا إلى رواية عائشة رضي الله عنها كما رجعوا إلى روايتها في حق الجنب يصبح صائماً (1)
__________
(1) البخاري في كتاب الصوم باب الصائم يصبح جنباً رقم 1926 وفي باب اغتسال الصائم رقم 1932 ومسلم في كتاب الصوم باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب رقم 1109 والترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في الجنب يدركه الفجر وهو يريد الصيام رقم 779 وأبو داود في كتاب الصيام باب فيمن أصبح جنباً في شهر رمضان رقم 2388 ومالك في كتاب الصوم باب ما جاء في صيام الذي يصبح جنباً في رمضان رقم 642 والدارمي في كتاب الصيام باب فيمن يصبح جنباً وهو يريد الصيام رقم 1725 ..(3/311)
فرضي الله عنها وأرضاها فكم من سنة خفيت على غيرها فبينتها ورجع الناس عن أقوالهم إلى روايتها كما حصل ذلك أيضاً في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أن تكون بوضع الحمل كما في قصة سبيعة الأسلمية (1) .
[233] الحديث الثاني : عن عائشة رضي الله عنها قالت أهدى رسول - صلى الله عليه وسلم - مرة غنماً
موضوع الحديث: مشروعية إهداء الغنم
فقه الحديث
أولاً : مشروعية إهداء الغنم وقد اتفق أهل العلم أن الغنم المهدى يقلد ولا يشعر لضعفه وسائر الأحكام قد تقدمت في الحديث السابق
[234] الحديث الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة فقال أركبها قال إنها بدنة قال اركبها فرأيته راكبها يساير النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ قال في الثانية أو الثالثة اركبها ويلك أو يحك .
موضوع الحديث : حكم ركوب البدنة
المفردات
بدنة : المراد بها الناقة المهداة إلى بيت الله الحرام
__________
(1) البخاري في كتاب المغازي باب فضل من شهد بدراً رقم 3991 وفي كتاب تفسير القرآن باب وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن رقم 4910 وفي كتاب الطلاق باب وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن رقم 5318 ورقم 5319 ورقم 5320 ومسلم في كتاب الطلاق باب انقضاء عدة المتوفي عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل رقم 1484 ورقم 1485 والنسائي في كتاب الطلاق باب عدة الحامل المتوفي عنها زوجها رقم 3506 -3521 وأبي داود في كتاب الطلاق باب في عدة الحامل رقم 2306 والترمذي في كتاب الطلاق باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع رقم 1193 ورقم 1194 وابن ماجة في كتاب الطلاق باب الحامل المتوفى عنها زوجها إذا وضعت حلت رقم 2027 ورقم 2029 ومالك في كتاب الطلاق باب عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً رقم 1250ورقم 1252 ورقم 1253 والدارمي في كتاب الطلاق باب في عدة المتوفى عنها زوجها والمطلقة رقم 2279 ورقم 2280 ورقم 2281 .(3/312)
فقال اركبها : أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بركوبها
قوله قال إنها بدنة : كأنه ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف كونها بدنة
قال اركبها ويحك أو يلك : كلمة ويح أو ويل كلمة تقال وفرق أهل اللغة بينهما بأن ويح كلمة ترحم لمن وقع في هلكة لا يستحقها أما ويل فإنها كلمة تقال لمن وقع في هلكة يستحقها
المعنى الإجمالي
يخبر أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة فأمره بركوبها ولما راجعه قال له اركبها ويلك أو يحك
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث
أولاً: جواز ركوب البدنة عند الحاجة وبشرط عدم الإضرار بالبدنة
ثانياً : يدل على جواز ركوبها هذا الحديث ويدل على تقييد ذلك بالحاجة ما رواه مسلم عن جابر(سُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا) (1) فإن مفهومه أنه إذا وجد غيرها تركها
ثالثاً : هل يجوز الانتفاع بما يحصل من البدنة من لبن ؟ الظاهر أنه يجوز التصدق به وإن شرب من اللبن لحاجته إليه جاز له ذلك ولا يغرم قيمته على الأصح وقال مالك لا يشرب من لبنها وإن شرب منه لم يغرم والمهم أن المسألة فيها خلاف وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس وبالله التوفيق
[235] الحديث الرابع: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطي الجزار منها شيئاً وقال نحن نعطيه من عندنا
موضوع الحديث: التصدق بجميع الهدي وكل ما يتصل به حتى أجلة الهدي
المفردات
__________
(1) مسلم في كتاب الحج باب جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها رقم 1324 والنسائي في كتاب مناسك الحج باب ركوب البدنة بالمعروف رقم 2802 وأبو داود في كتاب المناسك باب في ركوب البدن رقم 1761وأحمد في باقي مسند المكثرين .(3/313)
قوله أن أقوم على بدنه : أي بأن أتوكل له في القيام على البدن والإشراف عليها على ذبحها وسلخها وتوزيع لحمها وجلودها
قوله بدنه : البدن جمع بدنة وهي الناقة المهداة إلى بيت الله الحرام
قوله وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها: الأجلة جمع جل أو جل والظاهر أن
الضم أشهر والجل هو ما يوضع على رحل البعير والفرس والدابة من الكساء الذي يقيها الرحل كالبرذعة وقد يوضع الكساء على الهدي ليعرف أنه هدي
قوله وأن لا أعطي الجزار منها شيئاً : أي بقصد الأجرة
المعنى الإجمالي
يخبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل إليه القيام على بدنه ولعل المراد بالقيام أي الإشراف على علفها وسقيها إلى يوم النحر وعلى نحرها وتوزيع لحمها وجلودها في يوم النحر ونهاه أن يعطي الجزار منها شيئاً بنية الأجرة
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث جواز النيابة في ذبح الهدي والتصدق بلحمه وجلوده وكل ما يتصل به(3/314)
ثانياً :فيه دليل على أن لحم الهدي يتصدق به جميعاً لكن يعارضه ما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن يؤخذ يوم النحر من كل بدنة بضعة وأن توضع في قدر وتطبخ وأنها بعد ذلك طبخت فشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب من مرقها وأكلا من لحمها (1) وعلى هذا فيحمل ما حصل في هذا الحديث على الجواز وما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - على التصدق بالأكثر والخلاصة أن الأمر في قوله تعالى (فكلوا منها ) هل هو أمر إرشاد أو أمر إيجاب وهو في الإرشاد أوضح ليشكروا الله عز وجل على ما أنعم عليهم بهذه البدن وأباح لهم ذبحها والأكل منها
ثالثاً : ما ذكر سابقاً هو في هدي التطوع وهدي التمتع ويمنع الأكل من بعض الهدي في جزاء الصيد أو دم الجزاء عموماً الذي يكون على ترك واجب أو فعل محظور وهدي الجماع والنذر هذه يمنع الأكل منها قال البيهقي في المعرفه جـ7 ص556 لا يؤكل من فدية العراس ولا جزاء الصيد ولا النذر
رابعاً :وجوب التصدق بالجلود والأجلة الخاصة بالمهدى
خامساً : تحريم إعطاء الجزار أجرته من لحمها أو جلودها وكذلك رأى بعض أهل العلم من الفقهاء أن لا يعطيه شيئاً منها فيؤدي إلى التسامح بالأجرة ومن جهة أخرى يؤدي إلى المعاوضة ببعض لحم الهدي ولو كان بغير شرط ولكن الخروج من ذلك أن يسمي للجزار أجرته قبل الذبح فإذا سمى له أجرته قبل الذبح ورضي بها فحينئذ لا محظور في التصدق عليه منها
سادساً : وجوب التصدق بالأجلة وهو ما يوضع على ظهر البعير من الكساء.
[
__________
(1) مسلم في كتاب الحج باب حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقم 1218 وأبو داود في كتاب المناسك باب صفة حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقم 1905 وابن ماجة في كتاب المناسك باب حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقم 3074 والدارمي في كتاب المناسك باب في سنة الحج رقم 1850 .(3/315)
236] الحديث الخامس :عن زياد بن جبير قال رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنته فنحرها فقال ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
موضوع الحديث : كيفية نحر الإبل وأنها تكون في حالة قيام
المفردات
ابعثها : أي قومها قياماً أي حال كونها قائمة قياماً معقولة اليد اليسرى قائمة على ثلاث وهو معنى قوله صواف .
مقيدة: القيد يكون في اليدين ولعل السنة أن تكون إما معقولة أو مقيدة .
قوله سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - : أي تلك سنته - صلى الله عليه وسلم - .
المعنى الإجمالي
لقد ربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على النصح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا ابن عمر يرى رجلاً خالف السنة في نحر بدنته حيث نحرها وهي باركة فأخبره بالسنة تعليماً له ولسائر المسلمين
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث أن السنة في نحر الإبل أن ينحرها وهي قائمة مقيدة اليدين أو معقولة اليد اليسرى واقفة على ثلاث وفسرت كلمة صواف جمع صافة أنها تكون قائمة على ثلاث على اليد اليمنى والرجلين ولعل المراد بمقيدة هو عقل اليد اليسرى أو أن المراد به مقيدة اليدين أما الحكمة في ذلك فهي أن لا ترفسه برجلها إذا كانت مطلقة وقد ذهبت الحنفية إلى أن نحرها وهي باركة جائز وليس في كونها قائمة فضل على كونها باركة إلا أن قولهم هذا مردود بالأدلة فلو كان نحرها باركة مساوِ لنحرها قائمة لما أنكر ابن عمر رضي الله عنه على ذلك الرجل .
باب الغسل للمحرم
[(3/316)
237] الحديث الأول:عن عبدالله بن حنين أن عبدالله بن عباس والمسور بن مخرمة (1) اختلفا بالأبواء فقال ابن عباس يغسل المحرم رأسه وقال المسور لا يغسل رأسه قال فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوب فسلمت عليه فقال من هذا فقلت أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك ابن عباس يسألك كيف كان رسول الله يغسل رأسه وهو محرم فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء اصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيته يغتسل . وفي رواية فقال المسور لابن عباس لا أماريك بعدها أبدا .
موضوع الحديث :حكم غسل المحرم
تراجم الرواة : عبدالله بن عباس هو ابن عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد دعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) (2) وكان يلقب بالبحر والحبر لكثرة علمه هاجر به أبوه في السنة السابعة وهو غلام توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة كما روى ذلك عن نفسه أخرجه البخاري في الأدب المفرد سكن في آخر عمره مكة ثم تحول إلى الطائف وتوفي عام 68هـ
المفردات
الأبواء :قرية بين مكة والمدينة وهي التي توفيت بها أم النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) المسور ابن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري أبو عبد الرحمن له ولأبيه صحبة مات سنة 64 هـ روى له الجماعة .
(2) رواه الإمام أحمد في مسند بني هاشم وأصله في البخاري في كتاب الوضوء باب وضع الماء عند الخلاء رقم 143 بدون ذكر ( وعلمه التأويل ) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما رقم 2477 بدون ذكر ( في الدين وعلمه التأويل ) .(3/317)
قوله بين القرنين : فسر المؤلف هذه الكلمة والمراد بها الخشبتين اللتين يشد عليهما العمود المعترض وهو الذي يسمى العرش تشد فيه البكرة لمن أراد أن يبرح بالدلو
قوله وهو يستتر بثوب : يعني أنه كان يغتسل وعليه إزار وله ثوب يستره ومعه من يصب عليه الماء
قوله فطأطأه : أي نزل الثوب الذي يستره حتى بدا لعبدالله بن حنين رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء أصبب فصب على رأسه
قوله ثم حرك رأسه : أي حركه بيديه ليدخل الماء فيه
لا أماريك : أي لا أجادلك
المعنى الإجمالي
تحاور عبدالله بن عباس والمسور بن مخرمة في الغسل للمحرم هل يغسل المحرم رأسه أم لا وموضع الشبهة فيه أنه لو حرك شعر رأسه لأمكن أن يكون متسبباً في سقوط بعض الشعر فجاء عبدالله بن حنين إلى أبي أيوب فوجده يغتسل فقال له أرسلني إليك ابن عباس يسألك كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل فقال للذي يصب عليه الماء أصبب بعد أن طأطأ الثوب الذي يستره حتى بدا رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - أي يفعل
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث جواز التماري والتحاور في حال الإحرام وهو الجدال الخفيف الذي لا يثير ضغائن ولا يؤدي إلى تشاحن ويحمل ما ورد في الآية على الجدال الذي يؤدي إلى تشاحن أو سباب أو ما أشبه ذلك والآية هي قول الله تعالى { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة : 197]
ثانياً : أن رأي الصحابي لا يكون ملزماً لصحابي آخر إلا إذا أيد أحد الرأيين بالدليل كما حصل هنا فقد تأيد رأي ابن عباس بالدليل ودل على فقهه
ثالثاً :رأي الصحابي يكون حجة بثلاثة شروط الأول : أن لا يعارضه نص مرفوع
الثاني:أن لا يعارضه رأي صحابي آخر الثالث:أن لا يكون مخالفاً لما علم من عمومات الشرع(3/318)
رابعاً :إذا تعارض رأي صحابي مع رأي صحابي آخر فإذا كان الصحابي الآخر قد دل دليل عام أو خاص على تقدمه في أمر ما قدمه النص ولذلك فقد قدم أهل العلم رأي زيد بن ثابت في الفرائض لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ) (1) وربما قدم رأي معاذ وإن كان لم يطل عمره وقد توفي قديماً في عام ثماني عشرة فإن وجد رأيه مخالفاً لرأي غيره في الحلال والحرام قدم رأيه لما جاء في الحديث (وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ (2) كما أنه يقدم تفسير ابن عباس على غيره لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له أن يعلمه الله التأويل أما النص العام في تخصيص بعض الصحابة كقوله - صلى الله عليه وسلم - ( فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) (3)
__________
(1) ابن ماجة في المقدمة بَاب فِي الْقَدَرِ رقم 154 والترمذي في كِتَاب الْمَنَاقِبِ بَاب مَنَاقِبِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رقم 3790 ورقم 3791 وأحمد (صححه الألباني ) .
(2) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم رقم 3790 ورقم 3791 وابن ماجة في المقدمة بَاب فِي الْقَدَرِ رقم 15 ( قال الألباني صحيح ) .
(3) الترمذي في كتاب العلم باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع رقم 2676 وأبو داود في كتاب السنة باب لزوم السنة رقم 4607 وابن ماجة في المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين رقم 42 ورقم 44 وأحمد مسند الشاميين والدارمي في كتاب المقدمة باب اتباع السنة رقم 95 (قال الألباني صحيح ) ..(3/319)
فإذا اختلف رأي صحابي مع صحابي آخر وكان أحدهما من الخلفاء ولم يكن في المسألة نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يقدم رأي أحد الخلفاء فإن كان هناك نص أخذ بالنص كما حصل في مسألة التمتع بالحج ونهي أبي بكر وعمر عنه فلما كان رأيهما مخالفاً لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عباس يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون قال أبو بكر وعمر .
خامساً :جواز الاغتسال للمحرم وغسل رأسه وقد حكى الإجماع على جواز ذلك إن كان الغسل واجباً كغسل الجنابة أو الاغتسال من الحيض فإن كان الغسل للتبرد والترفه ففيه خلاف بين أهل العلم ذهب الشافعي إلى جوازه وزاد أصحابه ولو غسل رأسه بالسدر والخطمي وقال مالك وأبو حنيفة عليه الفدية إن غسل رأسه بالخطمي وما في معناه ولعل القول الأول هو الأصح
سادساً :جواز الاغتسال أمام الناس إذا كان مستور العورة لأن قول أبي أيوب لمن يصب عليه أصبب دال على أن هذا الذي يصب عليه ينظر إلى جسمه وهذا يدل على أنه مستور العورة إذ يستحيل أن أبا أيوب يقول له أصبب وهو مكشوف العورة
سابعاً :جواز السلام على المتطهر بخلاف من يكون على قضاء الحاجة(3/320)
ثامناً :جواز الاستعانة في الطهارة والاستعانة إما أن تكون في الطهارة بالصب والدلك وإما أن تكون في تحصيل ماء الطهارة فأما الأول ففيه خلاف والصحيح جوازه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صب عليه المغيرة بن شعبة وصب عليه أسامة بن زيد في حجة الوداع إلى غير ذلك أما القول بكراهته فليس عليه دليل صحيح بل الأدلة فيه ضعيفة أو موضوعة منها حديث ( أنا لا أستعين على وضوئي بأحد ) فهذا حديث ضعيف لأنه من رواية النضر بن منصور عن أبي الجنوب قال النووي حديث باطل وقال الدارمي قلت لابن معين النضر بن منصور عن أبي الجنوب وعن ابن أبي معشر قال هؤلاء حمالة الحطب ومنها حديث( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَكِلُ طُهُورَهُ إِلَى أَحَدٍ) (1) أخرجه ابن ماجه والدارقطني وفيه مطهر بن الهيثم وهو ضعيف أما الاستعانة في تحصيل ماء الطهارة فهو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه كما في حديث عثمان بن عفان (فدعا بوضوء) (2) وفي حديث علي بن أبي طالب حين كان برحبة الكوفة وهناك أدلة أخرى تدل على جوازه ولا أعرف من خلالها خلافاً .
باب فسخ الحج إلى عمرة
[
__________
(1) ابن ماجة في كِتَاب الطَّهَارَةِ وَسُنَنِهَا بَاب تَغْطِيَةِ الإِنَاءِ رقم 362 وقد ضعفه الألباني في الضعيفة برقم 4250 .
(2) مسلم في كتاب الطهارة باب فضل الوضوء والصلاة عقبه رقم 227 وابن ماجة في كتاب الطهارة وسنتها باب ثواب الطهور رقم 285 والإمام أحمد .(3/321)
238] الحديث الأول :عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة وقدم علي رضي الله عنه من اليمن فقال أهللت بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يجعلوها عمرة فيطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت وحاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت فلما طهرت وطافت بالبيت قالت يا رسول الله ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج ؟ فأمر عبد الرحمن ابن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج .
موضوع الحديث :فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي
المفردات
أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أصل الإهلال رفع الصوت قالوا استهل الصبي إذا رفع صوته بالبكاء عند ولادته واستعمل في التلبية استعمالاً شائعاً فيعبر به عن الإحرام كذا قال ابن دقيق العيد رحمه الله
قوله في الحج :قال ظاهره يدل على الإفراد وهي رواية جابر
قوله وليس مع أحدهم هدي :أي لم يكن مع أحد من الصحابة هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة
قوله أهللت بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي أحرمت بما أحرم به النبي - صلى الله عليه وسلم -
قوله فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يجعلوها عمرة: أي يحولوا نيتهم من حج إلى عمرة تمتع فيطوفوا أي بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يقصروا ويحلوا(3/322)
فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر: يقصدون بذلك أنه يقطر منياً لقرب الإحرام من وقت الجماع فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أنه لم يسمعه منهم فقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت :أي لو عرفت من أمري المستقبل ما عرفت من أمري الماضي لما أهديت يعني ولجعلتها عمرة
ولولا أن معي الهدي لأحللت :لولا حرف امتناع لوجود أي امتنع أخذي بالعمرة وتحللي بها لوجود الهدي معي
قوله فنسكت المناسك كلها :أي عملتها جميعاً غير أنها لم تطف بالبيت
التنعيم :هو نهاية الحرم في جهة شمال الكعبة
المعنى الإجمالي
هذا الحديث يدل على أن إبتداء إحرام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كان بالحج مفرداً ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة ويطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم يتحلل فلما لمس منهم المعارضة لما قد درجوا عليه من تحريم العمرة في أشهر الحج تمنى أنه لو عرف من أمره سابقاً ما عرفه الآن لما ساق الهدي ولجعلها عمرة وكان في هذا تمنٍّ لما فيه المصلحة حسب ظن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن كان الذي فيه المصلحة هو ما اختاره الله عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وما اختاره لأصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - الذين لم يسوقوا الهدي
فقه الحديث
أولاً :يؤخذ من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كان إهلالهم بالحج أولاً ثم تحولوا إلى العمرة .
ثانياً :يؤخذ منه أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم أن يحولوا نسكهم إلى تمتع كان بعد دخولهم في النسك ويستفاد منه جواز تحويل الحج إلى عمرة تمتع وإليه ذهب أحمد بن حنبل رحمه الله والظاهرية وقرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كما قال الصنعاني في العدة
ثالثاً : أقول هذا هو الحق لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك وتأكيده عليهم المرة بعد المرة حتى كان آخر ذلك عند المروة(3/323)
رابعاً : أن هذا الفسخ حصل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر منه المبني على أمر ربه تعالى وذلك لمصلحة نقض ما كان يعتقده أهل الجاهلية أن العمرة في أشهر الحج لا تجوز وقولهم بأن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور
خامساً:لقد إنهدم هذا المعتقد بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الذين لم يسوقوا الهدي بأن يجعلوها عمرة ويتحللوا ويتمتعوا بالحل إلى يوم التروية ثم يدخلوا في الإحرام من جديد بالحج ولكن اختلف أهل العلم هل هذه العمرة وفسخ الحج لها وتحويله إليها خاص بذلك الركب أو عام في الأزمنة مستقبلاً ، فذهب بعض الصحابة وكثير من التابعين والإمام أحمد بن حنبل وداود الظاهري وكثير من المحدثين إلى أن فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي شرع مستمر إلى يوم القيامة مستدلين بما رواه سراقة بن مالك المدلجي رضي الله عنه حين سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ( أَرَأَيْتَ عُمْرَتَنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلأَبَدِ فَقَالَ لا بَلْ لِلأَبَدِ)(1) وفي رواية (بل لأبد الأبد) (2)
__________
(1) البخاري في كتاب الحج باب عمرة التنعيم رقم 1785 وفي كتاب الشركة باب الاشتراك في الهدي والبدن رقم 2506 والنسائي في كتاب مناسك الحج باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي رقم 2805 ورقم 2806 .
(2) ابن ماجة في كتاب المناسك باب فسخ الحج رقم 2980 (قال الألباني صحيح ) ..(3/324)
وهذا حديث صحيح وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن فسخ الحج إلى العمرة كان فرضاً على الصحابة لمحو ما كان يعتقده أهل الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج ويرون ذلك من أفجر الفجور أما من بعد الصحابة ففسخ الحج إلى العمرة في حقهم مستحب وليس بواجب ذكر ذلك عنه تلميذه ابن القيم في الهدي وقال أجدني إلى رأي ابن عباس أميل ورأي ابن عباس وجوب الفسخ على من لم يسق الهدي في كل زمان إلى يوم القيامة ويرى أن من طاف وسعى ولم يكن معه هدي فقد حلّ شاء أم أبى ، الرأي الثالث أن جواز فسخ الحج إلى العمرة خاص بالصحابة ولا يجوز لأحد بعدهم واستدلوا على ذلك بأحاديث ضعيفة فمنهم من قال هو خاص بالصحابة ومنهم من قال منسوخ وكلا القولين ضعيف لضعف أدلته قال في الهدي ج 2 ص 178 وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أربعة عشر من الصحابة وأحاديثهم كلها صحاح ثم عدّهم وساق أحاديثهم ثم قال في صفحة 182 بعد أن ذكر حديث عائشة رضي الله عنها حين غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ رددوا عليه القول فقالت من أغضبك أغضبه الله فقال وما لي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا يتبع ونحن نشهد الله علينا أنّا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضاً علينا فسخه إلى عمرة تفادياً من غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباعاً لأمره فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة أن يسأله هل ذلك مختص بهم فأجاب بأن ذلك كائن لأبد الآباد أهـ .(3/325)
قلت : وفي حديث البراء هذا عند أحمد وابن ماجة وأبي يعلى ورجاله رجال الصحيح كما قال في مجمع الزوائد حين أمر أصحابه بالفسخ فردوا عليه القول فغضب ودخل على عائشة وهو غضبان فقالت من أغضبك أغضبه الله أقول : في هذا ردّ لما ذهب إليه ابن عباس (أن من طاف بالبيت فقد حل) إذ لو كان الأمر كذلك لقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه أنتم قد حللتم شئتم أم أبيتم ولكن الصحيح أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه أمر لجميع الأمة من أطاعه نال الثواب وأصاب الأفضل من النسك ومن لم يطعه أثم بعصيانه ونسكه صحيح . أخيراً يا طالب العلم عليك بقراءة هذا البحث في الهدي النبوي فإن فيه ما يكفي ويشفي في هذه المسألة .(3/326)
سادساً: يؤخذ منه جواز استعمال لو في الأمور الماضية ويعارضه النهي الذي جاء في الحديث وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فإن لو تفتح عمل الشيطان) بعد قوله ( فإن أصابك شيء فلا تقولنّ لو ) (1) ولأهل العلم في هذه المسألة خلاف حاصله أن لو قد استعملت في كلام الله عز وجل في مواضع منه حيث قال تعالى في نفي علم الغيب عن البشر وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كسائر البشر لا يعلم الغيب ومنه قوله تعالى (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) [الأعراف : 188] وقوله لمن قالوا ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) [آل عمران : 154 ] وعلى هذا فإن المكروه من استعمال لو ما كان فيه معارضة للقدر أما ما لم يكن كذلك بل كان التمني فيه للمصلحة كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) فإنه جائز
سابعاً :يؤخذ من قوله ولولا أن معي الهدي لأحللت أن الذي منعه من التحلل هو كونه ساق الهدي والله تعالى يقول ( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) [البقرة : 196]
ثامناً :يؤخذ من قوله وحاضت عائشة فنسكت المناسك كلها دليل على أن الحائض لا تجتنب من المناسك إلا الطواف بالبيت وما عدا ذلك فإنه مباح لها كالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار وما أشبه ذلك
__________
(1) مسلم في كتاب القدر باب الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله رقم 2664 وابن ماجة في المقدمة باب القدر رقم 79 وفي كتاب الزهد باب التوكل واليقين رقم 4168 .(3/327)
تاسعاً :يؤخذ من قوله غير أنها لم تطف بالبيت أن الحائض لا يجوز لها أن تطوف بالبيت وهذا هو قول الجمهور وخالفهم أبو حنيفة فلم يشترط الطهارة في الطواف بالبيت وقوله مرجوح والراجح هو ما ذهب إليه الجمهور لهذا الحديث وغيره منها قوله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر صفية وأنه يريد منها ما يريد الرجل من امرأته فقيل أنها حاضت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (عقرى حلقى أحابستنا هي فقيل أنها قد طافت طواف الإفاضة فقال فلا إذاً )
عاشراً :قد أفتى بعض الفضلاء المشهورين بجواز طواف الحائض بعد أن تستثفر للضرورة القصوى وذلك لما كان في زمنه من تعرض قطاع الطرق للحجاج وأن من انفرد عن الركب اقتطع فأفتى بأن الحائض تستثفر وتطوف لأن انفرادها عن الركب يعرضها ومحرمها لأمر خطير وهل يصح أن يفتى بهذا في هذا الزمن أي بجواز طواف الحائض عند الضرورة كما أفتى بذلك ابن تيمية هذا محل نظر .
الحادي عشر :قوله فلما طهرت طافت بالبيت يدل على صحة ما سبق أن الحائض لا تطوف بالبيت
الثاني عشر: أن عائشة غارت من صواحبها لأنهن قد جمعن بين حج وعمرة وهي لم يكن معها إلا حج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - (طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ ) (1) لكنها أصرت أن تعمل عمرة مفردة ولحكمة أرادها الله فقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - معها أخاها عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم فكانت سنة لمن أراد أن يعمل عمرة من مكة أن يخرج إلى الحل ليجمع بين الحل والحرم وبالله التوفيق
الثالث عشر :يؤخذ من قوله (فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم ) جواز خلوة المحرم بمحرمه وهو أمر مجمع عليه
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب المناسك باب طواف القارن رقم 1897 وأصله في صحيح مسلم في كتاب الحج باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج برقم 1211 .(3/328)
الرابع عشر :أن الله عز وجل إذا أراد أن يشرع شرعاً جعل له سبباً وقضية عائشة كانت سبباً في مشروعية الاعتمار من مكة وأن المكي إذا أراد أن يعتمر فإنه يخرج إلى الحل فيحرم بعمرة من الحل ليجمع بين الحل والحرم في العمرة كما يجمع بين الحل والحرم في الحج فلا يصح حج الحاج إلا بأن يقف بعرفة وعرفة من الحل
الخامس عشر:ذهب قوم إلى أن التنعيم ميقات العمرة لمن أراد الاعتمار من مكة ولا يجزئ غيرها من الحل وذهب الجمهور إلى أنه يجوز الاعتمار من الحل في أي جهة كان من مكة وكل أصحاب ناحية يخرجون إلى الحل في ناحيتهم ومما يدل على ذلك أي على ترجيح مذهب الجمهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أهل بالعمرة بعد الفتح وبعد حصار الطائف أحرم من الجعرانة لأنها أسمح لجهته وهكذا كل من كان في جهته فهو يذهب للحل من جهته وهذا هو القول الصحيح
السادس عشر: يكون في هذه القصة تخصيص لما ورد في حديث المواقيت حيث قال - صلى الله عليه وسلم - بعد ذكر المواقيت ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ) فقصة عائشة تدل على أن ميقات العمرة الحل وأن مكة أو منزل الإنسان في مكة لا يكون ميقاتاً للعمرة بل يكون ميقاتاً في الحج وإن كان قد قيل بأن المعتمر من أهل مكة يحرم من بيته ويذهب إلى المسجد فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر وتلك عمرته وأن هذا الحديث الذي في المواقيت بالنسبة لأهل مكة تكون منازلهم مكاناً لبدأ إحرامهم ولكن في هذا الحديث تخصيص لعموم حديث المواقيت والخاص مقدم على العام(3/329)
السابع عشر :يعتقد كثير من الحجاج أن الحاج ولو كان متمتعاً فإن عليه أن يعتمر من التنعيم وهذا الاعتقاد خطأ فإن عائشة هي الوحيدة التي اعتمرت من التنعيم من بين من حضروا حجة الوداع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نؤمن أن الله ما شرع هذا بعد أن جعل له سبباً إلا لحكمة أرادها وهو أن يشرع ميقاتاً لعمرة المكي فيجب أن يوعى الحجاج بأن هذا الفهم خاطئ
الثامن عشر : رأينا كثيراً من الحجاج إذا تحلل من العمرة ليتمتع بالحل ما دام مقيماً بمكة فإنه يذهب إلى التنعيم فيحرم بعمرة لأبيه مثلاً ويحلق بعض رأسه ويذهب مرة أخرى فيحرم بعمرة مثلاً لأمه الميتة وهكذا فيضل في أيام انتظاره بين الحج والعمرة يأتي بعدة عمر وهذا فيه أخطاء : الخطأ الأول:أن إتيانه بعمرة أجنبية بين نسكين مترابطين أمر محدث لم يعرف عن الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم من أهل العلم ، الخطأ الثاني : أن تكرير العمرة في زمن يسير مختلف فيه والصحيح أنه لا بد أن يكون بين العمرتين زمناً ينمو فيه رأس المعتمر حتى يتمكن من حلقه مرة أخرى ، الخطأ الثالث :أنه يُجزِئُ رأسه فيحلق بعضه اليوم ويحلق بعضه غداً وبعضه بعد غد وهذا سبب في ارتكاب النهي عن القزع وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه ، الخطأ الرابع :أن في هذا العمل تكثير للزحام وأذية للحجاج والمعتمرين الذين جاءوا لأول مرة . ومن هذه الحيثيات فإنه ينبغي أن يمنع هؤلاء من تكرير العمر بين عمرة التمتع وحجه وبالله التوفيق .
[239] الحديث الثاني :عن جابر رضي الله عنه قال قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقول لبيك بالحج فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلناها عمرة
موضوع الحديث :تحويل الحج إلى عمرة
المفردات
قد تقدم مفردات هذا الحديث وفقهه في الحديث قبله فلا يحتاج منا إلى إعادة
[(3/330)
240] الحديث الثالث :عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قدم رسول الله وأصحابه صبيحة رابعة فأمرهم أن يجعلوها عمرة فقالوا يا رسول الله أي الحل قال الحل كله .
موضوع الحديث :تحويل الحج إلى عمرة
المفردات
صبيحة رابعة: أي صبيحة الليلة الرابعة من شهر ذي الحجة
فأمرهم أن يجعلوها عمرة: أي بأن يجعلوا نسكهم ذلك الذي كانوا قد بدأوه بالحج أن يجعلوه عمرة
أي الحل يقصدون هل الحل جزئي أو كلي لأنه لمّا أمرهم أن يتحللوا ويحرموا بالحج في اليوم الثامن ظنوا أن هذا التحلل تحلل جزئي وليس بكلي .
فقه الحديث
أولاً: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت نيتهم عند دخولهم في النسك الحج وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يحولوا ذلك النسك إلى عمرة تمتع وهذا يشهد لحديثي جابر الأول والثاني إلا أنه يشهد لهما بمفهومه وهما منطوقان
ثانياً:يؤخذ منه جواز تحويل الحج إذا كان قد نواه الحاج حجاً مفرداً أن يحوله إلى عمرة تمتع وقد تقدم الكلام على ذلك بما فيه كفاية .
ثالثاً :أن الصحابة فهموا أن الحل جزئي وليس بكلي لأنهم يستبعدون إباحة الجماع قبل الذهاب إلى منى حتى قال بعضهم أننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر منياً فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه الحل كله .
[241] الحديث الرابع :عن عروة بن الزبير قال سئل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حين دفع قال كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص .
قال العنق انبساط السير والنص فوق ذلك
موضوع الحديث: كيفية سير النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دفع من عرفات إلى مزدلفة وكان أسامة بن زيد رديفه
المفردات
العنق : نوع من السير والنص فوق ذلك وللسير ضروب عند العرب لها أسماء تعرف بها
المعنى الإجمالي(3/331)
واضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسير سيراً معتدلاً حين يرى أمامه الزحام وكان يسير سيراً خفيفاً أي فوق السير الأول وأخف منه حين يرى ما أمامه منفسحاً عن الزحام
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث استعمال السيرين اللذين هما العنق والنص بحسب الظروف من ازدحام الطريق وعدم ازدحامه وبالله التوفيق
ثانياً: أن هذا لا يتنافى مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عليكم السكينة فإن البر ليس بالايضاع فما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج عن كونه سكينة وبالله التوفيق
[242] الحديث الخامس:عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه فقال رجل لم أشعر فحلقت قبل أن اذبح قال اذبح ولا حرج وجاء آخر فقال لم اشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج .
موضوع الحديث :السؤال عما وقع فيه الحجاج يوم النحر من التقديم والتأخير في أعمال ذلك اليوم الأربعة
المفردات
قوله لم اشعر : أي لم اعلم
قوله في كل ما سأل عنه افعل ولا حرج : نفي للحرج الذي هو الإثم أو الوقوع فيما يجلب المشقة على الإنسان
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف للسائلين في يوم النحر فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج
فقه الحديث(3/332)
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث وما في معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى الحرج عمّن قدّم أو أخر بعض أعمال يوم النحر الأربعة التي هي الرمي والذبح والحلق أو التقصير والطواف وقد اختلف أهل العلم في تقديم وتأخير هذه الأعمال هل هو مكروه أو محرم لمن لا يجهل وذلك أنهم اتفقوا على مشروعية الترتيب الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث رمى جمرة العقبة ثم نحر هديه ثم حلق رأسه ثم أفاض بعد ذلك ولكن هذا الترتيب هل هو واجب لا يجوز العدول عنه إلا لمن أوقعه الجهل فيه أو أنه مستحب فذهب الشافعي إلى الاستحباب أي استحباب الترتيب وجعل ترك الترتيب بمنزلة المكروه وذهب أبو حنيفة ومالك إلى عدم جواز تقديم الحلق على الرمي وهذا هو قول الجمهور أن الحلق لا يقدم على الرمي إلا في حالة الجهل ولم يخالف فيما قالوه من طلبية هذا الترتيب والإتيان به على هذا الوجه إلا ابن الجهم من المالكية فإنه يرى أن القارن لا يجوز له الحلق قبل الطواف واعتذر عنه بأنه يرى أن القارن قد تداخلت عمرته وحجته فلا يحلق إلا بعد الطواف الذي يعتبر إتماماً للحج والعمرة ولكن صاحب هذا القول شذّ بقوله عن جمهرة أهل العلم وخالف عن عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله فالنبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً ولم يكن مفرداً وقد بدأ برمي جمرة العقبة ثم نحر هديه ثم حلق رأسه ولبس ثيابه قبل أن يطوف بالبيت . أما قول ابن دقيق العيد بأن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً قال هذا إنما ثبت بأمر استدلالي لا نصي عند الجمهور قلت: قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد إنما قلنا أنه أحرم قارناً لبضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك أهـ ثم ساقها بعد ذلك والمهم أن قول ابن الجهم هذا قول باطل لشذوذه ومخالفته عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الفعلي وما أمر به وإجماع أهل العلم على ذلك(3/333)
ثانياً:إذا قلنا أن هذه الوظائف الأربع قد أفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواز تقديمها على بعض في حالة الجهل وعدم الشعور فإنه لا يتمشى لنا الاستدلال على جواز ذلك في حالة العلم بهذا الترتيب وبالأخص الحلق قبل الرمي
ثالثاً:قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا حرج إنما هو نفى للحرج عمّن فعل ذلك جاهلاً فهل من فعل ذلك عامداً يلحقه إثم ويلزمه دم على المخالفة هذا محل نظر ومحل خلاف بين أهل العلم
رابعاً:ذكر ابن دقيق العيد أن إيجاب الدم على من خالف الترتيب عامداً أنه مبني على غير دليل حيث قال اعلم أن إيجاب الدم في هذه الأفعال والتروك في الحج لم يأت به نص نبوي إنما روي عن ابن عباس ولم يثبت عنه أن من قدم شيئاً على شيء فعليه دم وأقول إن قول ابن عباس هذا يحتمل أنه أخذه من كتاب الله فإن الله سبحانه وتعالى أوجب الفدية على من احتاج إلى حلق رأسه لقوله تعالى( فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) فلعل ابن عباس رضي الله عنه أخذ من هذه الآية وجوب الدم على من فعل محظوراً أو ترك واجباً وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى قوله في هذه المسألة وأوجبوا الدم في بعضها وإن اختلفوا في البعض الآخر ولا شك أن ترتيب الفدية على من ارتكب محظوراً أن في ذلك مصلحة للحاج بجبر نسكه ومصلحة للمساكين بما يحصل لهم من الصدقة في الطعام والذبائح التي تذبح وبالله التوفيق .
[243] الحديث السادس :عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي أنه حج مع ابن مسعود فرآه رمى الجمرة الكبرى بسبع حصيات فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال هذا مقام الذي أنزلت عليه سور البقرة - صلى الله عليه وسلم - .
موضوع الحديث :كيفية رمي جمرة العقبة ومن أين ترمى
المفردات(3/334)
قوله فرآه رمى الجمرة الكبرى :الجمرة الكبرى هذا وصف يطلق على جمرة العقبة وهي الجمرة الأخيرة التي تلي مكة وقد كانت هذه الجمرة في جانب عقبة لحقتها في أول حج حججته ثم بعد ذلك أزيلت وأظن إزالتها كان في آخر عهد الملك عبد العزيز رحمه الله وقصد بإزالتها التوسعة على الناس في حالة الرمي كما عملوا الدور الثاني للتخفيف من الزحام وهذا من محاسن ومفاخر دولة آل سعود وفقهم الله
قوله فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه : وأقول وقف في بطن الوادي واستقبل الجمرة إلى جهة الشمال فجعل منى عن يمينه ومكة عن يساره
قوله ثم قال هذا مقام الذي أنزلت عليه سور البقرة - صلى الله عليه وسلم - :المقصود بهذا الكلام الحث على التأسي به في كيفية رمي هذه الجمرة وغيرها
المعنى الإجمالي
يخبر عبد الرحمن بن يزيد النخعي أنه حج مع عبد الله بن مسعود فرآه رمى الجمرة الكبرى بسبع حصيات من بطن الوادي حيث جعل منى عن يمينه ومكة عن يساره
فقه الحديث
أولاً:يؤخذ من هذا الحديث مشروعية الرمي على العموم ورمي جمرة العقبة على الخصوص والجمهور على أن الرمي واجب من واجبات الحج
ثانياً: يؤخذ منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها بسبع حصيات وكل الجمرات ترمى كل واحدة منها بسبع حصيات
ثالثاً: أن هذه السبع الحصيات ترمى واحدة بعد أخرى وقد ذهب الجمهور إلى ذلك وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لو رماها بسبع حصيات مرة واحدة جاز ذلك وهذا قول شاذ والصحيح أنها ترمى بسبع حصيات كل واحدة تلوى الأخرى
رابعاً:يؤخذ من عموم أحاديث الرمي استحباب التكبير عند رمي كل حصاة حيث يقول الرامي الله أكبر وهذا الذكر سنة باتفاق فلو تركه أو نسيه لم يؤثر ذلك في حجه
خامساً: اتفق الجمهور من أهل العلم على أنه يشترط في صحة الرمي أن تقع الحصاة في بطن الحوض وتستقر فيه فلو وقعت فيه ثم طارت فخرجت عنه لم يصح رمي تلك الحصاة ووجب عليه أن يعيدها(3/335)
سادساً: ذهب الجمهور أيضاً إلى أن الرمي لجمرة العقبة بالأخص لا بد أن يكون من الوادي مستقبل الجمرة إلى جهة الشمال أو يقف في الوادي مستدبراً منى مستقبلاً مكة أو العكس فيرمي ليقع الرمي في الحوض
سابعاً : أن من رمى من محل العقبة أي من الجهة الشمالية ووقع رميه في الجدر حيث أنهم حين عملوا المرمى جعلوا الجانب الذي يلي العقبة جدراً متصلاً بسقف المرمى إشارة إلى أنه لا رمي من هنالك فمن رمى من ذلك الجانب فإن رميه غير صحيح وعليه أن يعيد رميه
ثامناً :يشترط لصحة الرمي ثلاثة شروط هي 1- الوقت الزمني 2- والرمي بسبع حصيات 3- والترتيب
تاسعاً: أن من رمى بسبع حصيات وغلب على ظنه وقوعها في الحوض فقد أدى ومن رمى أقل من ذلك فإن كان النقص واحدة لم يضر لأنه قد ورد في حديث عند النسائي بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص أنه قال رجعنا في الحجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضنا يقول رميت بسبع حصيات وبعضنا يقول رميت بست فلم يعب بعضهم على بعض) (1) فهذا يدل مع كون الراوي لم يذكر قضاءً لمن رمى بأقل من السبع يدل ذلك على جواز الاكتفاء بست أما إن كان غلب على ظنه أنه رمى بأقل من ذلك فإن كان في المكان فعليه أن يعود إلى المرمى ويرمي الباقي بنية القضاء حتى ولو كان في اليوم الثاني بشرط أن يقدمه على رمي اليوم الذي بعده
عاشراً:يشترط في الرمي الترتيب بأن يبدأ في رمي اليوم الثاني بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف فيرميها ثم الوسطى ثم الكبرى
__________
(1) صحيح النسائي للألباني رقم 2882 وقال صحيح الإسناد وعن أبي مجلز يقول سألت ابن عباس عن شيء من أمر الجمار فقال: ما أدري رماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بست أو بسبع ) صحيح النسائي للألباني رقم 2883 وصحيح أبي داود في كتاب المناسك باب في رمي الجمار رقم 1740 .(3/336)
الحادي عشر :فإن رمى عاكساً لهذا الترتيب بأن بدأ بالكبرى ثم الوسطى ثم الصغرى صح رمي الصغرى وعليه أن يقضي الوسطى والكبرى وإن تبين له عدم صحة رمي اليوم الأول وجب عليه أن يبدأ بجمرة العقبة فيرميها بنية القضاء ليوم النحر ثم يذهب إلى الأولى فيرميها بنية اليوم الحادي عشر ثم الوسطى ثم الكبرى
الثاني عشر : يشترط الوقت في رمي يوم النحر وهو في حق الضعفة ومن في حكمهم ممن يرافقهم من الرجال ويشق عليه أن يتأخر إلى طلوع الشمس يصح رميه معهم من بعد منتصف ليلة النحر
الثالث عشر:أن من رمى قبل منتصف الليل فرميه باطل وعليه القضاء ما دام في منى وفي أيام التشريق وعليه دم في الإخلال بهذا الواجب
الرابع عشر :أن وقت الرمي بالنسبة للرجال يبدأ من طلوع الفجر الثاني في يوم النحر عند بعض أهل العلم ومن طلوع الشمس يوم النحر عند البعض الآخر وهو الأحوط في حق الرجال
الخامس عشر : أنه يبقى الوقت الاختياري إلى زوال الشمس من يوم النحر أما الوقت الاضطراري فيوم النحر كله رمي للمضطر وكذا مساء يومه لما قد ورد أن رجلاً سأل رسول الله ( فَقَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ اذْبَحْ وَلا حَرَجَ وَقَالَ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ فَقَالَ لا حَرَجَ) (1)
السادس عشر: أما وقت الرمي في أيام التشريق فيبدأ من زوال اليوم الحادي عشر أي من وقت أذان صلاة الظهر والوقت الاختياري إلى غروب الشمس من ذلك اليوم ويبقى الوقت الاضطراري إلى طلوع الفجر من اليوم الذي بعده كما أفتى بذلك هيئة كبار العلماء
__________
(1) البخاري في كتاب الحج باب إذا رمى بعد ما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسياً أو جاهلاً رقم 1735 وفي باب الذبح قبل الحق رقم 1723 والنسائي في كتاب مناسك الحج باب الرمي بعد المساء رقم 3067 وابن ماجة في كتاب المناسك باب من قدم نسكاً قبل نسك رقم 3050 وأبو داود في كتاب المناسك باب الحلق والتقصير رقم 1983 .(3/337)
السابع عشر: أن من ترك الرمي أو بعضه حتى انتهى الوقت وخرج من منى فعليه في ذلك دم إلا أن تكون حصيات ففيها صدقة كما يرى بعض أهل العلم
الثامن عشر: أن الحصيات التي يرمى بها مثل حصى الخذف أو حبة الباقلاء وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما التقطت له حصيات متوسطة بين الصغر والكبر فقال بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو .
التاسع عشر :أنه يجوز أخذ الحصى من مزدلفة أو منى حتى من أرض المرمى بعيداً عن الحوض على القول الأصح ولا يسن غسل الحصى على القول الأصح فالأصل فيه الطهارة ولم يؤثر غسل الحصيات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه
العشرون : يسن بعد رمي الجمرة الأولى والثانية في أيام التشريق أن يبتعد عن المرمى بعد الرمي ثم يستقبل القبلة فيدعو إلا أنه لا يقف عند جمرة العقبة فهذه جميع أحكام الرمي سبرناها للحاجة إلى ذلك ونسأل الله أن ينفع بها ويجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم وبالله التوفيق .
[244] الحديث السابع :عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (اللهم ارحم المحلقين . قالوا والمقصرين يا رسول الله . قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله قال : والمقصرين ) .
موضوع الحديث :تفضيل الحلق على التقصير وأنهما نسكان
المفردات
اللهم ارحم المحلقين : دعاء لهم بالرحمة ، قالوا والمقصرين يا رسول الله : أي أدع لهم بالرحمة أيضاً قال اللهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله أي أدع لهم بالرحمة أيضاً قال والمقصرين(3/338)
قال الصنعاني أبدى الكرماني هنا سؤالاً فقال علام عطف والمقصرين ومن شرط العطف أن يكون المتعاطفان من كلام متكلم واحد وأجاب بأنه تقديره قل والمقصرين قال الصنعاني ومثله يسمى العطف التلقيني مثل قوله تعالى ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) [البقرة : 124] وأقول لو كان التمثيل بقول العباس للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر حرمة الحرم المكي وقال لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه فقال العباس للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الإذخر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الإذخر من ناحية التلقين والتمثيل بهذه الآية لا ينبغي لأن الله لا يلقن
المعنى الإجمالي
دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين بالرحمة مرتين وللمقصرين مرة واحدة وورد في غير هذه الرواية الدعوة للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة وذلك ظاهر في تفضيل الحلق على التقصير
فقه الحديث
أولاً :يؤخذ من هذا الحديث دليل على مشروعية الحلق والتقصير
ثانياً: يؤخذ منه تفضيل المحلقين على المقصرين لكونه دعا لهم مرتين أو ثلاثاً وللمقصرين مرة وأن هذا الدعاء لم يشرع إلا في الحلق والتقصير في الحج والعمرة لكونه عبادة أما في غيرهما فالحلق والتقصير يعتبر من الأمور الإباحية
ثالثاً: يؤخذ منه أن الحلق والتقصير نسك من أنساك الحج وفيه رد على من زعم أنه إطلاق يعني أنه إطلاق من المنع الذي كان بالإحرام .
رابعاً : إذا علمنا بأنه نسك فإن من تركه إما عمداً أو نسياناً فإن عليه دم لأن من تركه ترك واجباً ومن ترك واجباً فعليه دم كما قال ابن عباس
خامساً :إن نسي الحاج أو المعتمر الحلق أو التقصير ثم تداركه وهو بمكة لم يخرج من حدود الحرم لزمه أن يلبس الإحرام وأن يقصر وهو لابس للإحرام .أما إذا خرج من حدود الحرم فإنه يلزمه دم ولا يصح القضاء(3/339)
سادساً :الحلق هو استئصال الشعر بالموسى وفاعله في الحج والعمرة مثاب ومحمود أما التقصير فهو أن يبقى شيئاً من أصول الشعر فالحلق بالمكينة يعد تقصيراً ولو كان على الصفر
سابعاً :يجب أن يكون الحلق والتقصير مستوعباً للرأس كله لقوله تعالى(مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ) [الفتح الآية 27] فقال محلقين رؤوسكم ولم يقل من رؤوسكم فدل على أن الحلق للرأس جميعاً والتقصير كذلك
ثامناً : ظهر في هذا الزمن أناس يأتي أحدهم بعمرة من التنعيم ويحلق شيئاً من رأسه ثم يأتي بعمرة أخرى ويحلق شيئاً من رأسه وهكذا قد يكون أنه يحلق الرأس في أربع عمر وهذا جهل ومخالفة للشرع لم يعهد أن أحداً من المسلمين السابقين صنعه لذلك فإن الذين يفعلون ذلك يجب عليهم أن يتوبوا وبالله التوفيق
[245] الحديث الثامن :عن عائشة رضي الله عنها قالت (حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر. فحاضت صفية فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما يريد الرجل من أهله فقلت : يا رسول الله إنها حائض قال : أحابستنا هي ؟ قالوا : يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر قال اخرجوا ) وفي لفظ: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عقرى حلقى . أطافت يوم النحر؟ قيل :نعم قال : فانفري ) .
موضوع الحديث :تحريم الطواف على الحائض ومنع من لم تطف طواف الإفاضة من السفر حتى تطوف
المفردات
أحابستنا هي : استفهام إنكاري
عقرى : ذكر ابن دقيق العيد له ثلاثة معان بعد أن ذكر اتفاقهم على أن عقرى حلقى تكتب بألف التأنيث المقصورة ومعنى عقرى دعاء عليها أي عقرها الله أو عقر قومها أو جعلها عاقراً لا تلد
قوله حلقى : بمعنى حلق شعرها أو بمعنى أصابها بوجع في حلقها أو جعلها تحلق قومها بشؤمها
المعنى الإجمالي(3/340)
أخبرت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر صفية وأنه يريد منها ما يريد الرجل من زوجته فقيل له أنها حائض فقال أحابستنا بمعنى أن الحائض والنفساء لا يجوز لها أن تطوف بالبيت .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث أن الحائض والنفساء لا يجوز لواحدة منهن أن تطوف بالبيت حتى تطهر وتتطهر
ثانياً : يؤخذ منه أن الحائض إن كانت قد طافت طواف الإفاضة فإنها يجوز لها أن تنفر لأنه قد عفي عنها في طواف الوداع
ثالثاً: يؤخذ منه إن كانت الحائض أو النفساء لم تطف طواف الإفاضة فإنه يجب عليها أن تبقى حتى تطهر وتطوف لقوله أحابستنا هي وقد سبق أن ذكرت عن بعض الفضلاء من علماء السنة وهو ابن تيمية رحمه الله أنه أفتى بأن الحائض تستثفر وتطوف وأخذ بمذهب أبي حنيفة وإن كان هو مخالف للنص نظراً لأن الزمن الذي كان فيه كان الرجل إذا انفرد عن الحملة اجتاحه قطاع الطرق فقتلوه وأخذوا ماله واستعبدوا امرأته فأفتى بهذه الفتوى نظراً للحاجة التي كانت سائدة في زمنه أما الآن فليس هناك من هذا الخطر والحمد لله شيئاً لذلك فإنه ينبغي أن من جاء في حملة وحاضت امرأته قبل طواف الإفاضة يجب عليه أن يتريث حتى تطهر وتطوف ولا يقال فيه ما قيل في الفتوى التي سبقت لأن الخطورة الآن غير موجودة والحمد لله ومعظم الناس من أهل البقاع البعيدين إما أن يكون قادماً في طائرة أو في مركب وسيعود في مثل ذلك هذا رأي وأرجو أنه الصواب والواجب على المطوف أن يتعاون معه في تعديل ميقات سفره لهذه الضرورة والله الموفق
[246] الحديث التاسع :عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ) .
موضوع الحديث :وجوب طواف الوداع على كل حاج ما عدا المرأة الحائض
المفردات
أمر الناس : بالبناء للمجهول والآمر هو النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لا آمر في عهده غيره(3/341)
قوله آخر عهدهم : أي عند الخروج بالبيت المراد به الكعبة
إلا أنه : استثناء خفف عن المرأة الحائض أي أبيح لها الخروج ولم يجب عليها أن تبقى من أجل طواف الوداع
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عباس أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - أمر كل حاج أن لا يخرج حتى يطوف بالبيت إلا أنه عفي عن المرأة الحائض والنفساء أن تبقى واحدة منهن من أجل طواف الوداع إذا كانت قد طافت للإفاضة
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث وجوب طواف الوداع للأمر به والأمر يقتضي الوجوب والنهي من الشارع - صلى الله عليه وسلم - لكل حاج أن يخرج قبل أن يطوف بالبيت وقد ذهب إلى وجوب طواف الوداع الجمهور ومنهم الشافعي وأحمد ومن تبعهم وأهل الحديث كافة لهذا الأمر وخالف في ذلك مالك فقال بعدم وجوبه وكذلك قال داود الظاهري وابن المنذر ذهبوا إلى أنه سنة لا يلزم بتركه دم إلا أنه قال الحافظ ابن حجر إن الذي رآه في الأوسط لابن المنذر أنه واجب للأمر به وهذا هو الحق
ثانياً : إذا قلنا بأن طواف الوداع واجب لهذا الأمر فمتى خرج أحد بدونه لزمه دم وإن نسيه فذكره قبل أن يخرج من حدود الحرم فرجع وعمله ثم خرج اعتبر قد أدّى ما عليه لكن إن تجاوز الحرم لم يرجع ووجب عليه دم
ثالثاً: إذا طاف الحاج طواف الوداع ثم انحبس عن السفر يوماً أو بعض يوم فإن جمهور أهل العلم يرون عليه وجوب الإعادة
رابعاً: أن من طاف طواف الوداع ثم ذهب إلى أطراف مكة كالعزيزية والرصيفا وما إلى ذلك من الأطراف البعيدة كالشرائع أيضاً فإنه اذا انحبس شيئاً من الوقت لا تلزمه الإعادة والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الوداع ثم رجع إلى مكانه ونام نومة حتى جاءت عائشة وعبد الرحمن فأذّن بالرحيل(3/342)
خامساً :أن الله عز وجل خفف عن المرأة الحائض فعفا عنها من الانحباس للطواف وأذن لها أن تخرج إذا كانت قد أفاضت قبل ذلك وهذا مذهب الجمهور وقد خالف في ذلك من السلف ابن عمر وزيد بن ثابت وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم ولعلهم حين خالفوا في ذلك لم يبلغهم عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحائض ومما يدل على ذلك أن زيد بن ثابت وابن عمر رجعا عن قولهما ولعله حين بلغهما إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولعل عمر بن الخطاب لم يبلغه ذلك حتى توفي فهو معذور في ذلك ثم انعقد الإجماع فيما بعد على أن المرأة الحائض والنفساء ليس عليها أن تبقى من أجل طواف الوداع
سادساً: اختلف أهل العلم في العمرة هل لها طواف وداع أم لا فمنهم من رأى طواف الوداع على المعتمر أخذاً بالنص وإجراءً له في عموم النسكين ومنهم من قال بأن هذا النص في الحج فهو لا يتناول العمرة فلم يوجبوه على المعتمر وهو الذي يظهر لي أنه الحق ويتبين ذلك من بعض روايات حديث ابن عباس وهي الرواية التي أخرجها مسلم بلفظ (كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ ) (1) ومما يدل على صحة هذا المأخذ أن المعتمر لم يخرج عن البيت فلم يتناوله النهي ذلك لأن المعتمر هو بالبيت يطوف به ويصلي فيه وإنما تناول الحديث من كان بعيداً وهو الحاج الذي ينصرف من منى قبل أن يوادع وبالله التوفيق .
[
__________
(1) البخاري في كتاب الحج باب طواف الوداع رقم 1755 ومسلم في كتاب الحج باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض رقم 1327 وأبو داود في كتاب المناسك باب الوداع رقم 2002 وابن ماجة في كتاب المناسك باب طواف الوداع رقم 3070 ورقم 3071 والدارمي في كتاب المناسك باب طواف الوداع رقم 1932 والترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في المرأة تحيض بعد الإفاضة رقم 944 .(3/343)
247] الحديث العاشر:عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال (استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منىً من أجل سقايته. فأذن له ) .
موضوع الحديث : الإذن لمن له حاجة تتعلق بالحج والحجاج في المبيت بمكة وإعفائه من المبيت بمنى
المفردات
استأذن العباس : أي طلب الإذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة لسقي الحجاج فأذن له
المعنى الإجمالي
لمّا كان السقي بزمزم حاجة من حاجات الحجاج بل هو أهم حاجاتهم طلب العباس من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن له في ترك المبيت بمنى ليالي أيام التشريق لكي يقوم بسقاية الحجاج فأذن له في ذلك
فقه الحديث
أولاً :يؤخذ من هذا الحديث أن المبيت بمنى واجب ولو لم يكن واجباً ما استأذن العباس في المبيت بمكة فاستئذانه يدل على الوجوب
ثانياً: أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للعباس أن يبيت بمكة لمصلحة الحجاج هل هو إذن عام لمن له حاجة كحاجة العباس أو أنه للعباس فقط قولان لأهل العلم والمرجح أن ذلك عام في كل من له حاجة تتعلق بالحجاج ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن للرعاة أيضاً فمن له حاجة في هذا الزمن أو غيره تتعلق بمصلحة الحج أو الحجاج كالعاملين في المستشفيات وأصحاب الأوتوبيسات الذين لو توقفوا لأضر ذلك بمصلحة الحجاج والحج وما إلى ذلك من هذه الأمور كل ذلك يبيح التخلف عن المبيت بمنى ما دام يقوم بمصلحة للحج والحجاج
ثالثاً: أن من تخلف عن المبيت بمنى من غير حاجة من هذه الحاجات فإنه قد ترك واجباً ويجب عليه بتركه دم
رابعاً: يشتكي أقوام أنهم بحثوا فلم يجدوا مكاناً بمنى وعلى هذا فقد أفتى هيئة كبار العلماء بأن الحاج الذي لم يجد مكاناً بعد البحث فإنه يلصق الخيمة بالخيمة وإن كان خارج حدود منى ويسكن وهذا ما يستطيع والله سبحانه وتعالى لا يكلف عبداً ما هو فوق استطاعته(3/344)
خامساً: من ترك المبيت ليلة واحدة فهل يلزم بدم الأحوط ذلك ولكونه قد ترك واجباً من واجبات الحج وإلا فيلزمه نصف دم ( يعني ينظر للقيمة ويدفع نصفها ) والله الموفق
[248] الحديث الحادي عشر: وعنه- أي عن ابن عمر- قال ( جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجمع لكل واحدة منهما إقامة ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما).
موضوع الحديث : الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة
المفردات
قوله بجمع :المراد به مزدلفة وسميت جمعاً إما لأن الناس يجتمعون بها وإما لأن آدم وحواء اجتمعا بها أو لغير ذلك فهذا اسم لمزدلفة أقرّه الشرع كالأسماء التي أقرها وهي عرفة ومنى وغير ذلك
قوله لكل واحدة منهما إقامة : أي لكل واحدة من المغرب والعشاء إقامة أما الأذان فلم يتعرض له في هذا الحديث والصواب أنه أذّن لهما أذاناً واحداً وأقام لكل واحدة منهما
قوله ولم يسبح بينهما : أي لم يصل صلاة نافلة بين المغرب والعشاء ولا على إثر واحدة منهما أي لم يتبع واحدة منهما بصلاة نافلة
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير كما أنه جمع بين الظهر والعصر جمع تقديم وأنه أقام لكل واحدة منهما إقامة مستقلة وأنه لم يتنفل بينهما ولا بعدهما .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث مشروعية الجمع بين المغرب والعشاء في مزدلفة جمع تأخير(3/345)
ثانياً : هل هذا الجمع من أجل النسك أو من أجل السفر ذهب الجمهور إلى أنه من أجل السفر وذهب أبو حنيفة إلى أنه من أجل النسك وذلك لأنه لم يقل بالجمع في السفر مطلقاً وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أهل مكة بالإتمام وبصلاة كل فريضة في وقتها هذا يدل على أن الجمع في عرفة ومزدلفة لمصلحة النسك وإذا تأملنا نجد الحكمة فيما شرعه الله في صلاة هذا اليوم توفيراً لوقت العبادة وهي الذكر في عشية عرفة فكان الجمع بعرفة جمع تقديم ليتفرغ الحاج للذكر في هذه العشية وثانياً جمعه في مزدلفة تأخيراً لئلا يشتغل الحاج بأداء صلاة المغرب ليتوفر له الوقت ولتكون صلاته بالمزدلفة جمع تأخير إذا وصل إليها ولم يصلِّ بعدها ولا بينهما حتى لا يشتغل الحاج بنوافل العبادة وهو متعب وهو أيضاً ما زال في عبادة وقد تبين من هذا أن علة مصلحة النسك ظاهرة في الجمعين .
ثالثاً :يؤخذ من هذا الحديث أيضاً أنه يشرع للجمع أذان للأولى وإقامة لكل واحدة من الصلاتين وهذا هو الأرجح وهو مذهب الجمهور
رابعاً: يؤخذ من قوله ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما أن صلاة النافلة لا تشرع هذه الليلة ولا يشرع لها قيام .
خامساً :قال ابن دقيق العيد وأجروا في الأذان للأولى الخلاف في الأذان للفائتة وأقول القول الصحيح أنه يؤذن للفائتة بنوم أو نسيان لقصة نومهم حتى طلعت الشمس ثم أمر بلالاً فأذن لكن إذا كان الأذان يشوش على الناس فليؤذن بصوت منخفض
سادساً: من حبسه السير فلم يتمكن من الوصول إلى مزدلفة قبل منتصف الليل فإنه يلزمه إذا قرب منتصف الليل أنه ينزل ويصلي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً سواء كان ذلك بعرفة أو بأطراف مزدلفة أو في أي مكان كان وإن لم يجد ماءً فليتيمم لأن صلاة العشاء ينتهي وقتها الاختياري بنصف الليل وبقية الليل يكون وقتاً لها وقتاً اضطرارياً وبالله التوفيق .
باب المحرم يأكل من صيد الحلال
[(3/346)
249] الحديث الأول :عن أبي قتادة الأنصاري ( أن رسول الله خرج حاجاً فخرجوا معه فصرف طائفة منهم – فيهم أبو قتادة – وقال : خذوا ساحل البحر حتى نلتقي فأخذوا ساحل البحر فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فلم يحرم فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتاناً فنزلنا فأكلنا من لحمها ثم قلنا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ؟ فحملنا ما بقي من لحمها فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عن ذلك ؟ فقال منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا :لا قال : فكلوا ما بقي من لحمها ) وفي رواية ( قال هل معكم منه شيء ؟ فقلت نعم فناولته العضد فأكل منها ) .
موضوع الحديث : أن المحرم يحرم عليه ما صاده بنفسه أو صاده محرم غيره أو صاده حلالٌ لأجله
المفردات
قوله خرج حاجاً : حكموا على هذا بالوهم إذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج إلا في السنة العاشرة بعد الفتح بسنتين وبعض الثالثة وعلى هذا فيحمل قوله حاجاً على أنه أراد الاسم اللغوي إذ أن الحج قصد بيت الله الحرام لأداء النسك سواء كان حجاً أو عمرة وعلى هذا فالاعتمار يسمى حجاً لغة هذا توجيه هذه الكلمة وإلا فيحكم على قائلها بالوهم
قوله فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة وقال خذوا ساحل البحر حتى نلتقي : قوله فصرف أي حوّل طائفة منهم إلى طريق الساحل وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن طائفة من المشركين قد اجتمعوا في مكان ما يريدون صده
قوله فلما انصرفوا أحرموا كلهم : أي جميع الرفقة التي كانت مع أبي قتادة إلا أبا قتادة فلم يحرم
قوله إذ رأوا حُمُرَ وحش : الحُمُر الوحشية حُمُر مستوحشة بطبيعتها وهي حلالٌ دون الحُمُر الأهلية
فعقر أتاناً : وهي الأنثى من الحُمُر
قوله منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقي من لحمها وفي هذا إشارة إلى أن ما سأل عنه هو الذي يمنع الإباحة(3/347)
العضد :هو الكتف أي ما فوق المفصل الذي في وسط يد الدابة
المعنى الإجمالي
حينما سافر النبي - صلى الله عليه وسلم - سفره للحديبية وكان يقصد العمرة فخرج معتمراً ومعه الهدي فبلغه أن قوماً بساحل البحر يترصدون له فأرسل جماعة من الصحابة لاكتشاف الخبر وصد العدو إن كان فأحرموا وبقي أبو قتادة وفي أثناء طريقهم وجدوا حُمُر وحش فحمل أبو قتادة على واحد منها فقتله فأكلوا منه ثم حصل عندهم شك فأخذوا بقيته وساروا حتى وجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث عدة مسائل
أولاً:أنه لا يجب الإحرام إلا على من قصد النسك أما من لم يقصد النسك فلا يجب عليه ولذلك كان أبو قتادة غير محرم
ثانياً: يؤخذ منه تحريم الصيد على المحرم لقوله تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ) [المائدة : 96 ]
ثالثاً: أن من صاد شيئاً من صيد البر عامداً وجب عليه الجزاء
رابعاً : اختلف أهل العلم في صيد المحرم على ثلاثة أقوال : أحدها أنه ممنوع مطلقاً صيد لأجله أو لا وهذا مذكور عن بعض السلف كما ذكر ذلك ابن دقيق العيد وهو مأثور عن علي بن أبي طالب وعثمان رضي الله عنهما كما ذكر ذلك الصنعاني في العدة وأقول : إن هذه القصة إن صحت على أن في السند علي بن جدعان وعلي بن جدعان إن كان هو فهو ضعيف ثم إن القصة تشير إلى أن الحارث الذي كان أميراً على مكة استقبل عثمان حين علم أنه يريد الحج فلقيه بِقُديد أي على مرحلتين أو ثلاث ومعه شيء من الحجل وطعام فدل هذا على أنه كان صيد من أجل عثمان وما صيد لأجل المحرم فهو حرام على المحرم لحديث الصعب بن جثّامة الذي سيأتي فتبين على أن هذا القول لا يخرج عن القول الثاني على الصحيح فيما أرى(3/348)
القول الثاني: أنه ممنوع على المحرم إن صاده هو أو صيد لأجله سواء كان بإذنه أو بغير إذنه قال وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأقول : وأصحاب الحديث دليله حديث أبي قتادة وحديث الصعب بن جثامة الذي سيأتي بعد هذا .
والقول الثالث: أنه إن كان باصطياده أو بإذنه أو بدلالته حرم وإن كان على غير ذلك لم يحرم وأقول : إن الفرق بين الثاني والثالث أنه إن صيد لأجله كان محرماً على القول الثاني أذن فيه أو لم يأذن أما على القول الثالث فإنه لا يحرم إلا إذا صيد بإذنه أما لو صيد لأجله لكن بغير إذنه فلا يحرم هذا الذي يظهر أنه هو الفرق والقول الثاني هو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة وقد دلّ عليه حديث جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قَالَ صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ ) (1)
خامساً : يدل حديث أبي قتادة أن المحرم إذا أشار على الصيد للحلال أو أعان عليه بشيء حرم عليه لقوله ( هل أشار إليه أحد منكم قالوا لا ) وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث أن أبا قتادة ركب فرسه وأخذ رمحه فسقط منه السوط بعد أن ركب فقال لرفقته ناولوني السوط فأبوا فنزل فأخذه ثم ركب فشد على الحُمُر فقتل منها أتاناً
سادساً: تدل الروايات على أنهم أكلوا من لحم ذلك الحمار ثم شكوا فتركوا أكله حتى يلتقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه دليل على أن الاجتهاد في زمنه - صلى الله عليه وسلم - جائز .
__________
(1) الترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم رقم 846 وأبو داود في كتاب المناسك باب لحم الصيد للمحرم رقم 1851 والنسائي في كتاب مناسك الحج باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال رقم 2827 ، بعد البحث في الكتب المذكورة لم يوجد مخرجاً في صحيح الألباني وهذا يدل على أنه ضعيف إلا أن معناه صحيح للأحاديث الصحيحة التي تفيد هذا المعنى ( النجمي )(3/349)
سابعاً: ما ذكر من امتناعهم عن مناولته السوط دال على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد علّمهم ذلك قبل سفرهم وهو دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلّغ ما أُنزل إليه من ربه وفقّه أصحابه في الدين صلوات ربي وسلامه عليه .
[250] الحديث الثاني :عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه ( أنه أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حماراً وحشياً وهو بالأبواء –أو بودّان – فرده عليه فلما رأى ما في وجهي قال إنا لم نرده عليك إلا أنّا حرم ). وفي لفظ لمسلم (رجل حمار ) وفي لفظ ( شق حمار ) وفي لفظ ( عجز حمار ) .
موضوع الحديث : أن المحرم لا يجوز له أن يأكل صيداً صيد لأجله
المفردات
حماراً وحشياً : الحمر الوحشية تعتبر نوعاً من أنواع الصيد وهي حلال بخلاف الحمر الأهلية
قوله بالأبواء أو بودان : موضعان معروفان بين مكة والمدينة
قوله فلما رأى ما في وجهي : أي من الكآبة والحزن قال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم وفي لفظ لمسلم رجل حمار وفي لفظ شق حمار وفي لفظ عجز حمار وعلى هذا فالرواية الأولى من إطلاق الكل على البعض إذ أن الروايات الأخرى تفسر المقصود من الرواية الأولى
المعنى الإجمالي
عندما سافر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج وسمع الناس فرحوا بمجيئه ولعل الصعب بن جثّامه سمع بسفر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يهدي إليه هدية ورأى أن تقديم لحم حمار وحش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحسن ما يهدى إليه لكونه في سفر ولم يكن يعلم أن ما صيد للمحرم يحرم على المحرم الذي صيد له أكله فاعتذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبول الهدية لأنهم كانوا محرمين
فقه الحديث(3/350)
أغلب فقه هذا الحديث قد تقدم في الحديث قبله ويؤخذ من الحديث حسن الاعتذار وتوضيح ما يجهله المهدي إن كانت الهدية لا يبيح الشرع أخذها حرصاً على مشاعر الأخ المسلم أن تجرح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم وبالله التوفيق .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(3/351)
كتاب البيوع
مقدمة عن البيع
لما كان العبد لا يستغني عّما في يد صاحبه وصاحبه لا يستغني عمّا في يده شرع الله سبحانه وتعالى التوصل إلى ما في يد الغير بطريقة البيع التي هي المعاوضة لكي يتوصل كل واحد من المتبايعين إلى حاجته بطريقة مشروعه يأخذ كل منهما العوض عمّا يبيعه ويبذل العوض فيما يشتريه ولما كان البيع يتضمن أنواعاً من البيوع جعل الله عز وجل لتلك البيوع أحكاماً حتى لا يصل الضرر من الفرد إلى المجتمع أو من المجتمع إلى الفرد وقد قرر الشارع - صلى الله عليه وسلم - أحكام الخيار والسلف والهبة وغير ذلك فأباح أشياء من البيع لما فيها من المصلحة ومنع أشياء لما يعلم فيها من المضرة إما على الفرد وإما على المجتمع وإما عليهما معاً ولله في ذلك الحكمة البالغة فما شرع ففيه ضمان المصلحة وما لم يشرعه أو نهى عنه فإنما ذلك لدفع مضرة حقيقية أو متوقعة والله تعالى يقول ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) [البقرة: 275 ] .
[251]الحديث الأول:عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع .
وفي معناه حديث حكيم بن حزام وهو الحديث الثاني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما .
موضوع الحديث :خيار المجلس
المفردات
إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار : إذا حرف شرط غير جازم وجملة تبايع الرجلان فعل الشرط وقوله فكل واحد منهما بالخيار : جواب الشرط وجزاءه وجملة ما لم يتفرقا تحديد لزمن الخيار بالتفرق
قوله وكانا جميعاً : تأكيد لمفاد ما لم يتفرقا والواو واو الحال والجملة حالية(4/1)
قوله أو يخير أحدهما الآخر : هذا يشمل أمرين أحدهما أن يكون بينهما خيار ممتد إلى ما وراء المجلس كثلاثة أيام أو ما أشبه ذلك والثاني أن يشترط أحدهما على الآخر قطع خيار المجلس بأن يقول اختر إمضاء البيع أو رده فإذا حصل ذلك انقطع الخيار .
قوله فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع : أي فقد وجب البيع على ما اتفقا عليه .
المعنى الإجمالي
شرع الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه حق ولا يشرع إلا لمصلحة أنه إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا لأنه إذا اختار أحدهما ترك البيع جاز له الرد والترك رضي صاحبه أو لم يرض أو يخير أحدهما الآخر بأن يقول له اختر إمضاء البيع أو رده ولا خيار لك بعد الاختيار أو يشرط أحدهما امتداد الخيار إلى اليوم واليومين والثلاثة وهذا يسمى خيار الشرط وفي حديث حكيم بن حزام فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما أي أن البركة ملازمة للصدق وبيان العيوب والمحق والخسارة ملازمة للكذب والكتمان وبالله التوفيق .
فقه الحديث
أولاً :يؤخذ من حديثي عبدالله بن عمر وحكيم بن حزام مشروعية خيار المجلس وهو أنه يجوز الخيار ما داما في المجلس لم يتفرقا عنه فإذا اختار أحدهما رد البيع جاز له ذلك رضي صاحبه أو لم يرض وقد قال بما اقتضاه الحديث الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث وقال مالك وأبو حنيفة بعدم خيار المجلس رغم أن مالكاً هو أحد رواة الحديث وقد ذهب ابن حبيب من أصحاب مالك إلى إثبات خيار المجلس والذين نفوه اعتذروا عن عدم القول بالحديث بأعذار ملخصها ما يأتي :-(4/2)
الوجه الأول من الاعتذارات أن مالكاً روى هذا الحديث ولم يقل به وما دام راويه لم يقل به فإن ذلك يكون عذراً لغيره عن الأخذ به ويجاب عن هذا العذر بجوابين : الجواب الأول أن العبرة بما رواه الراوي لا بما رأى فالأخذ بالحديث متعين على من صح عنده وإذا كان الراوي لم يقل به فإن ذلك لا يكون عذراً لغيره عن عدم الأخذ بالحديث المذكور والجواب الثاني أن هذا الحديث قد روي من عدة طرق فروي من غير طريق مالك فإذا كان مالك قد ترك القول بالحديث وتعذر الأخذ به من طريق مالك فإنه لا عذر لأحد عن الأخذ بالحديث من الطرق الأخرى التي جاءت من غير طريق مالك . الوجه الثاني من الاعتذارات أن هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وخبر الواحد فيما تعم به البلوى يجعل ذلك الخبر غير مقبول ويجاب عن هذا الوجه بأن البيع مما تعم به البلوى هو كذلك لكن الفسخ ليس مما تعم به البلوى بل هو يكون نادراً وعلى هذا فإن هذا العذر غير صحيح ولا مقبول .الوجه الثالث من الاعتذارات أن هذا حديث مخالف للقياس الجلي والأصول القياسية والجواب عن هذا أن القياس إنما يصار إليه عند عدم النص وليس أن تترك النصوص من أجل القياس فأين القياس من قول من لا ينطق عن الهوى ، إن هذا كمن يساوي بين الثرى والثريا .(4/3)
الوجه الرابع أن هذا الحديث معارض لإجماع أهل المدينة وعملهم وما كان كذلك يقدم عليه العمل يعني وهذا الحديث يقدم عليه عمل أهل المدينة ، والجواب عن هذا إن عمل أهل المدينة بل وعمل غيرهم إذا خالف النص حكم عليه بالبطلان ووجب الأخذ بالنص وأخيراً لا أدري كيف حال من يجعل هذه الاعتذارات الملتوية ليصرف بها طلاب العلم عن الأخذ بالنص النبوي الصحيح المعقول العلة وإن خيار المجلس حكم شرعي في منتهى اللياقة والوضوح فإن البيع قد يكون فيه أحد المتبايعين مندفعاً فيعقد الصفقة على ما فيه غبن عليه فإذا فكر أحد المتبايعين ورأى أن من صلاحه عدم المضي في البيع وأراد فسخه جاز له ذلك ما دام في المجلس وهذا هو مقتضى هذا الحديث الذي في خيار المجلس أما إن سكت حتى يتم التفرق وليس بينهما خيار فإنه لا يجوز له الرد ما لم يكن هناك خيار مشروط وهذا في منتهى الحكمة واللياقة ومن رد هذا الحكم ليبرر رأي شيخه أو إمامه الذي لم ير القول بهذا الحديث وقد يكون لذلك الإمام أو الشيخ عذر في عدم الأخذ بالحديث لكن ليس للتابع عذر في ترك الحديث بعد أن تبينت له صحته من أجل أن إمامه لم يقل به وإنه ليخاف على مثل هذا من الزيغ نعوذ بالله من ذلك والله سبحانه وتعالى يقول (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) [ الأحزاب : 36 ] والله سبحانه وتعالى يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [ الأنفال : [24،25 ] إلى غير ذلك من النصوص التي توجب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحذر(4/4)
من مخالفة أمره كما قال تعالى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ النور : 63 ] وأخيراً للإطالة في هذا الموضوع مواضع غير هذا ولكن هذا من باب التنبيه على من يريدون بشتى الوسائل رد الحديث النبوي من أجل موافقة رأي إمامهم نسأل الله ألا يزيغ قلوبنا .
ثانياً:قوله أو يخير أحدهما الآخر يدخل تحته أمران :
الأمر الأول أن يشترط أحدهما الخيار ممتداً إلى ما بعد المجلس كخيار ثلاثة أيام أو يوم أو ساعات أو ما أشبه ذلك وهذا يقال له خيار الشرط والدليل عليه حديث حبان ابن منقذ ( أنه كان يبايع فيغلب في البيوع فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إِذَا أَنْتَ بَايَعْتَ فَقُلْ لا خِلابَةَ ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا بِالْخِيَارِ ثَلاثَ لَيَالٍ فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا)(1) فهذا يقال له خيار الشرط وقد رأى بعض الفقهاء أن خيار الشرط يجوز ولو كان لسنة أو سنتين .
الأمر الثاني أن يخير أحدهما الآخر بأن يختار عدم استمرار الخيار إلى نهاية المجلس بل يختار قطعه ويستدل لهذا القول بقوله ( أو يخير أحدهما الآخر ) فإن اتفقا على ذلك انقطع بينهما الخيار .
ثالثاً: هناك خيارات لم تذكر كخيار العيب وقد عدّ الفقهاء الخيارات إلى ثمانية .
__________
(1) ابن ماجة في كتاب الأحكام باب الحجر على من يفسد ماله رقم 2355 (حسنه الألباني )(4/5)
رابعاً: يؤخذ من قوله ( حتى يتفرقا ) أن التفرق يعد منهياً لخيار المجلس ما لم يكن بقصد إنهائه لقوله - صلى الله عليه وسلم - (وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ ) (1) وهل الفراق الذي يحصل من أحد المتبايعين بقصد عدم الإقالة هل يعد قاطعاً لخيار المجلس ما دام وهو معصية لله أم لا ؟ هذا محل نظر وخلاف بين العلماء .
خامساً: يؤخذ من قوله (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ) وفي رواية ( فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا) (2) يؤخذ من ذلك أن البركة في البيع مترتبة على الصدق والبيان وأن المحق فيه والخسران مترتب على الكذب والكتمان .
باب ما نهي عنه من البيوع
[252]الحديث الأول : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المنابذة وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه ، ونهى عن الملامسة والملامسة لمس الثوب ولا ينظر إليه .
موضوع الحديث :البيوع المنهي عنها لما فيها من الغرر
المفردات
المنابذة : صيغة مفاعلة وهو أن ينبذ كل منهما إلى الآخر فالبائع ينبذ الثوب والمشتري ينبذ الثمن ولا خيار بينهما ولا نظر ولا تقليب
قوله قبل أن يقلبه أو ينظر إليه بأن يكون البيع مشروطاً فيه عدم التقليب والنظر في حال المبايعة فمتى نبذ البائع إلى المشتري لزم البيع ولا خيار
__________
(1) الترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا رقم 1247والنسائي في كتاب البيوع باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل أن يفترقا بأبدانهما رقم 4483 وأبو داود في كتاب البيوع باب في خيار المتبايعين رقم 3456 وأحمد رقم 6721 ( الحديث حسنه الألباني )
(2) البخاري في كتاب البيوع باب إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع رقم 2114 .(4/6)
والملامسة مفاعلة من اللمس بأن يقول لمسك للثوب بيعاً بدون خيار
المعنى الإجمالي
ما أعظم الشرع الإسلامي وما أعدله إذ أنه منع الغرر وما يكون فيه ظلم من أحد المتبايعين للآخر وإذا شرط البيع بالنبذ أو اللمس بدون تقليب ولا خيار فإن ذلك من الغرر الذي يمنعه الإسلام ويحاربه ويبطل كل صفقة يكون فيها ذلك .
فقه الحديث
أولاً: قال ابن دقيق العيد رحمه الله اتفق الناس على منع هذين البيعين واختلفوا في تفسير الملامسة إلى آخره وأقول إن البيعين المشار إليهما هما بيع الملامسة والمنابذة لما فيهما من الغرر والضرر إما على المتبايعين معاً وإما على أحدهما
ثانياً: لا بد من معرفة هذين البيعين اللذين اتفق العلماء على منعهما فالأول منهما الملامسة وهو بأن يقول إذا لمست هذا الثوب فهو عليك بكذا ولا خيار لك بعد اللمس . قال ابن دقيق العيد هي أن يجعل اللمس بيعاً بأن يقول إذا لمست ثوبي فهو مبيع منك بكذا وكذا ((وهو)) باطل للتعليق بالصيغة وعدوله عن الصيغة الموضوعة للبيع شرعاً أهـ قلت: ليست العلة هي وضع صيغة بدلاً عن صيغة ولكن كون الصيغة المنهي عنها متضمنة للغرر مشروط فيها عدم التقليب والنظر وقد تكون السلعة معيبة فيكون البيع شبيهاً بالقمار والميسر الذي نهى الله عنه لما فيه من المخاطرة والغش من المسلم للمسلم وهذه هي العلة
ثالثاً: قال وقيل تفسيرها أن يبيعه على أنه إذا لمس فقد وجب البيع وانقطع الخيار وهو أيضاً فاسد من الشرط الفاسد أهـ وأقول إن هذه المسألة وإن اختلفت عن سابقتها في اللفظ لكن المآل واحد وهو عدم تمكين المشتري من النظر للسلعة ومعرفة صلاحها أو كونها معيبة وهذا أيضاً يتضمن الغرر(4/7)
رابعاً: وفسره الشافعي رحمه الله بأن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه الراغب فيقول صاحب الثوب بعتك كذا بشرط أن يقوم لمسك مقام النظر وهذا فاسد إن أبطلنا بيع الغائب وأقول في هذه التفسيرات الثلاثة يتردد الأمر في كون البائع شرط على المشتري أن يكون اللمس بيعاً بدون تقليب ولا نظر ولا خيار للمشتري إذا وجد العيب بعد النظر وقد خرج على التفسير الأول أنه من صور المعاطاة وعلى التفسير الثاني أنه من بيع الغائب وأقول إن المعاطاة جائزة في الأمور المحقرة التي يكون الغبن فيها خفيفاً أو ما يكون معلوم غالباً كأن تعطي للبائع ريالاً أو خمسة ريالات وتقول أعطني خبزاً أما الأمور الخطيرة التي يكون الغبن فيها شديداً وله وقع على نفس من وقع عليه فإنه لا تجوز فيه المعاطاة و الدليل على ذلك آية الدين وما تدل عليه من الاهتمام بالحقوق وأدائها على الوجه الأكمل حيث أمر بكتابتها إذا كانت ديناً وقال تعالى ( ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ) [ البقرة : 282 ] وإن التغرير بالمشتري وأخذ حقه فيما يكون فيه غبن عليه إضرار به والله تعالى يقول (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [ البقرة : 82 ] إذاً فالبيع الذي يكون فيه خطر لا بد فيه من الرؤية والتقليب والنظر أما قول وهذا فاسد إن أبطلنا بيع الغائب .(4/8)
فأقول إن بيع الغائب إن كان منضبطاً بوصف يميزه عن غيره فإنه جائز إن شاء الله وهو من يسر الشريعة وفي زمننا هذا قد أصبحت السلع لها علامات تميزيها كل شيء له علامة محددة وما كان كذلك فإنه يجوز فيه بيع الغائب هذا وبالله التوفيق أما المنابذة فمعناها أن يقول أحدهما أنبذ إليّ الثمن وأنبذ إليك السلعة أي ولا خيار للمشتري إذا وجد في السلعة عيباً والقول في المنابذة كالقول في الملامسة وما نهى عنها إلا لأنها متضمنة للغرر وجالبة للضرر ومثل ذلك لا يجوز في الشريعة وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ ) (1) وفي الحديث (لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ ) (2)
[253]الحديث الثاني :عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولا تصرّوا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر ).
وفي لفظ ( هو بالخيار ثلاثاً )
موضوع الحديث: النهي عن بيوع قد تكون المصلحة فيها تارة للفرد وتارة للجماعة والمقصود منها حماية الحقوق من الظلم والغرر
المفردات
__________
(1) البخاري في كتاب المظالم والغصب باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه رقم 2442 وفي كتاب الإكراه باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل رقم 6951 ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم رقم 2580والترمذي في كتاب الحدود باب ما جاء في الستر على المسلم رقم 1426 وأبو داود في كتاب الأدب باب المؤاخاة رقم 4893 وأحمد رقم 5646 .
(2) ابن ماجة في كتاب الأحكام باب من بنى في حقه ما يضر بجاره رقم 2340 و2341 وأحمد برقم 2867 ومالك في كتاب الأقضية باب القضاء في المرفق رقم 1461 وصححه الألباني .(4/9)
لا تلقوا الركبان : التلقي هو الخروج إلى خارج السوق ليشتري بأرخص بعد أن علم أسعار السوق
الركبان : جمع راكب وهو خرج مخرج الغالب إذ أن تلقي المشاة ليس بجائز
قوله ولا يبع بعضكم على بيع بعض :فسره بعضهم بالسوم وفسره بعضهم بأنه ما يكون في مدة الخيار
قوله ولا تناجشوا : النجش هو الاستثارة يقال نجش الصيد إذا أثاره والمراد بالنجش أن يدفع فيها ثمناً عالياً لا ليشتريها ولكن ليوقع الآخر فيها
قوله ولا يبع حاضر لباد : الحاضر هو صاحب الحضر وهو الساكن في المدينة والباد هو الساكن في البادية
قوله ولا تصرّوا الغنم : الصرّ هو حبس اللبن في الماشية ذات اللبن لترد إلى السوق على هيئة يُظن فيها أنها صاحبة لبن كثير
قوله وهو بخير النظرين : أي نظر الرد ونظر الإمساك يختار أيهما أراد إذا رأى فيه المصلحة .
قوله بعد أن يحلبها : المراد استمرار الحلب وهل يكون مستمراً كعادته أم لا ؟
قوله إن رضيها أمسكها : هذا تفسير للنظرين وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر هذا أيضاً للتفسير
وفي لفظ هو بالخيار ثلاثاً : أي ثلاثة أيام .
المعنى الإجمالي
إن الشارع الحكيم - صلى الله عليه وسلم - يحرص دائماً على جلب المصالح ودفع الضرر سواء كان ذلك للفرد أو للجماعة وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن هذه البيوع لما فيها من الضرر ولما في تركها والعمل بما يجوز من جلب المصالح رعاية للحقوق فصلوات الله وسلامه عليه .
فقه الحديث(4/10)
أولاً: الكلام على الفقرة الأولى وهو النهي عن تلقي الركبان من ثلاثة وجوه من حيث حكم الفعل المنهي عنه ومن حيث صحة البيع أو فساده ومن حيث إثبات الخيار أو عدم إثباته ، الوجه الأول وهو من حيث الحكم فإن من تلقى الركبان عالماً بالتحريم قاصداً لذلك فإن فعله حرام لأنه مخالفة صريحة للنهي وهذا هو الأظهر أما إن خرج لحاجة من غير قصد التلقي أو كان بيته على الطريق فإن هذا لا يدخل في التحريم ولا يكون فاعله آثماً فيما يظهر الوجه الثاني وهو صحة البيع أو فساده قال وهو عند الشافعي صحيح وإن كان آثماً وعند غيره من العلماء يبطل ومستنده أن النهي للفساد ومستند الشافعي أن النهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل هذا الفعل بشيء من أركانه وشرائطه وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان . وأقول : إن القول بصحة البيع هو الأظهر إذ لو لم يكن البيع صحيحاً لما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له الخيار في قوله ( فصاحب السلعة بالخيار ) (1) فلما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له الخيار دل على أن البيع صحيح لأنه إذا استمر على البيع وأنفذه وكان البيع غير صحيح فإن مقتضى ذلك أنه نفذ بيعاً باطلاً . والوجه الثالث : إثبات الخيار بحيث لا ضرر بالركبان بحيث يكونون عالمين بالسعر فلا خيار وأقول : إن إثبات الخيار في بعض الروايات وهي رواية صحيحة يجب على المكلف والفقيه المصير إليها ومن قال لا خيار فإنه قد خالف ما قرره الشارع - صلى الله عليه وسلم - وهذا التقرير إذا تأملناه هو في غاية المصلحة وذلك يدور على وجود الغرر والضرر فإن وجد الغرر والضرر الذي هو علة للنهي فذاك هو الموجب للخيار وإن لم يوجد غرر ولا ضرر فالقول الصحيح عدم وجود الخيار ولهذا قال الفقهاء الحكم يدور مع علته .
__________
(1) أبو داود في كتاب البيوع باب في التلقي رقم 3437 وأحمد رقم 9225 وصححه الألباني .(4/11)
ثانياً :أما قوله ولا يبع بعضكم على بيع بعض فهذا سلك فيه الفقهاء مسلكان ، المسلك الأول تفسيره بالسوم وأنه إذا سام رجل من المسلمين سلعة فإنه لا يجوز للآخر أن يسوم على سومه حتى يشتري أو يترك وهذا قول مالك أي أن مجرد السوم يمنع السوم من الآخر مثال ذلك أن يأتي رجل فيسوم سلعة ويأتي آخر والأول قبله يسوم فيقول هذا أنا أسوم بكذا زيادة على سوم الأول هذا ممنوع عند مالك وأصحابه . أما المسلك الثاني فهو مسلك الشافعية والحنابلة وهو أن السوم على السوم جائز ما لم يُقبل من كان قد سام أولاً وإنما النهي في هذا الحديث أن يكون البيع قد وقع فيقول للمشتري في مدة الخيار رد هذا وأنا أبيع منك بأقل أو العكس فهذا هو الممنوع بموجب هذه الفقرة .(4/12)
وخصص من ذلك من منع السوم على السوم وهم المالكية خصصوا بيع من يزيد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة صاحب الحلس والقدح وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ قَالَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ ) (1) فأجازوا السوم على السوم في بيع من يزيد ومنعوه في غيره ويمكن أن يرجح قول الشافعية والحنابلة قياساً على الخطبة على الخطبة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث قَالَ ( ولا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ ) (2)
__________
(1) أبو داود في كتاب الزكاة باب ما تجوز فيه المسألة رقم 1641والترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء في بيع من يزيد رقم 1218وابن ماجة في كتاب التجارات باب بيع المزايدة رقم 2198 وأحمد برقم 12158 وضعفه الألباني .
(2) البخاري في كتاب البيوع باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه حتى يأذن له أو يترك رقم 2140وفي كتاب النكاح باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع رقم 5144 ومسلم في كتاب النكاح باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك رقم 1412و1414وفي كتاب البيوع باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه رقم 1412 والترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه رقم 1134والنسائي في كتاب النكاح باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه رقم 3239 وفي كتاب البيوع باب سومه على سوم أخيه رقم 4502 وأبو داود في كتاب النكاح باب في كراهية أن يخطب الرجل على خطبة أخيه رقم 2080 وابن ماجة في كتاب النكاح باب لا يخطب الرجل على خطبة أخيه رقم 1867 وأحمد برقم 4722 ومالك في كتاب النكاح باب ما جاء في الخطبة رقم 1111و1112والدارمي في كتاب النكاح باب النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه رقم 2175و2176..(4/13)
وعندما قالت له فاطمة بنت قيس أنه خطبها معاوية وأبو جهم وأسامة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ ) فلم يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطبة على الخطبة في هذا الحديث لأن الخطاب لم يقبل أحد منهم ثم قال لها ( انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ) (1) وقد قال الفقهاء إن الخطبة على الخطبة تجوز إذا كان الخاطب الأول لم يُقبل أما إن قبل فإنه لا يجوز ذلك وربما يقال أن قياس البيع عليه وجيه . وبالله التوفيق .
__________
(1) مسلم في كتاب الطلاق باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها رقم 1480 والنسائي في كتاب النكاح باب إذا استشارت المرأة رجلاً فيمن يخطبها هل يخبرها بما يعلم رقم 3245 وفي كتاب النكاح باب خطبة الرجل إذا ترك الخاطب أو أذن له رقم 3244 وأبو داود في كتاب الطلاق باب في نفقة المبتوتة رقم 2284 ومالك في كتاب الطلاق باب ما جاء في نفقة المطلقة رقم 1234 والدارمي نحوه في كتاب النكاح باب النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه رقم 2177 والترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه رقم 1135 .(4/14)
ثالثاً :قوله ولا تناجشوا النجش كما تقدم معناه استثارة رغبة المشتري بحيث أنه يدفع في تلك السلعة ثمناً قد يكون خيالياً ليوهم الآخرين بأن السلعة جيدة وتستحق هذا الثمن وهو لا يريد شراءها وفي هذه الحالة إن كان بمواطئة فإن الناجش والبائع كلاهما عاص واقع في الإثم لكن إذا لم يكن بمواطئة وحصل الفعل من الناجش قاصداً لمنفعة البائع فالإثم خاص به وهل يصح البيع أو يبطل هذا محل خلاف ونظر وقد نقل الصنعاني عن ابن المنذر أن طائفة من أهل الحديث قالوا بفساد ذلك البيع وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان بمواطئة البائع أو صنيعه أهـ وكأن المذهب الثاني هو ثبوت الخيار وإذا قلنا بثبوت الخيار فإن البيع صحيح والخيار لمن حصل عليه الغبن لذلك فقد نقل الصنعاني أيضاً أنه هو المشهور عن المالكية وهو وجه للشافعية قياساً على المصراة أهـ .قلت إن هذا القول وجيه وقد تلخص لنا مما سبق أن النجش معصية وأن فاعله آثم وأن الخيار ثابت لمن اغتر بفعل الناجش ووقع في الغبن من أجله.(4/15)
رابعاً :قوله ولا يبع حاضر لباد هذه المسألة حملها بعضهم على الكراهة وحملها آخرون على التحريم إذا أدّى ذلك إلى الإضرار بأهل البلد المجلوب إليهم وكأنهم قصدوا بأن هذا نوع من الاحتكار لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال( لا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ )(1) فهو يدور بين شيئين الشيء الأول الاحتكار وإنما يكون الاحتكار في السلع الضرورية التي يحتاج الناس إليها ضرورة كالطعام ولذلك فقد اشترطوا في التحريم شروطاً أولها :أن تكون السلعة من الضروريات . والثاني :أن يعرض الحضري على البدوي . والثالث: أن يلحق أهل البلد ضرر بذلك فإن كانت السلعة من غير الضروريات أو عرض البدوي على الحضري أو كانت السلعة موجودة لا ضرر على أهل البلد من حبسها فحينئذ لا تحريم .
الشيء الثاني :أن يكون النهي محمولاً على الكراهة فقط فإنه حينئذ يقال بأنه لا داعي لهذه الشروط .
__________
(1) مسلم في كتاب البيوع باب تحريم بيع الحاضر للبادي برقم 1522والترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء لا يبيع حاضر لباد رقم 1223 والنسائي في كتاب البيوع باب بيع الحاضر للبادي رقم 4495 وابن ماجة في كتاب التجارات باب النهي أن يبيع حاضر لباد رقم 2176 وأبو داود في كتاب البيوع باب في النهي أن يبيع حاضر لباد رقم 3442 وأحمد رقم 10657 .(4/16)
خامساً :قوله ولا تصروا الغنم قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى فيه مسائل الأولى الصحيح في ضبط هذه اللفظة ضم التاء وفتح الصاد وتشديد الراء المهملة المضمومة على وزن تُزكوا مأخوذة من صَرَ يُصَرَّ ومعنى اللفظة يرجع إلى الجمع تقول صريت الماء في الحوض وصريته بالتخفيف والتشديد إذا جمعته أهـ . قلت : إن ما رجحه ابن دقيق العيد في هذه اللفظة يظهر أنه مرجوح وليس براجح وأن الصحيح في هذه اللفظة أنها بفتح تاء المضارعة وضم الصاد والراء والمقصود ربط أخلاف الماشية ليجتمع فيها اللبن هذا هو القول الصحيح إن شاء الله وإن كان من حيث المعنى وهو الجمع لا يبعد عن المعنى الأول .
ثانياً :وينبني على هذا أن التصرية حرام لهذا قال ابن دقيق العيد رحمه الله ( لا خلاف أن التصرية حرام للغش والخديعة التي فيها للمشتري والنهي يدل عليه مع علم تحريم الخديعة قطعاً من الشرع ) أهـ قلت إن إجماع أهل العلم على تحريم التصرية انتهاء إلى نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - وعملاً به هذا هو الحق لكن حصره بالغش والخديعة فيه نظر بل ولكونه إيذاءٌ للحيوان فالدابة المصراة تتأذى بالصَّر كما يتأذى من ربط ومنع إخراج بوله إذاً فالعلة ليست محصورة في الغش والخديعة فقط بل ولكونه إيذاء للحيوان بمنع ما ينبغي إخراجه منه ومنع ابن المصراة من رضاعها حتى يخفف عنها الأذى أو يذهبه فتبين أن التحريم من جهتين وإن كان مقصود الشرع الأكبر هو الضرر المتعدي إلى الغير والعمل بالخداع والشرع يمنع الخداع .(4/17)
ثالثاً: يؤخذ من قوله ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها يؤخذ من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخيار للمشتري بعد أن يحلبها ومعلوم أن المصراة في أول حلبة بعد البيع يكون لبنها كثيراً فإذا حلبها في المرة الثانية يجد أن اللبن نقص لذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخيار لمدة ثلاثة أيام بحيث يستقر اللبن على وضعه الأول سواء كان كثيراً أو قليلاً أو متوسطاً ثم هو بعد ذلك بالخيار .
رابعاً :قوله إن رضيها أمسكها أي رضي لبنها أمسكها عنده وترك الرد وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له الخيار في ذلك .
خامساً : في قوله وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر الصاع من التمر أو من الطعام قد جعله الشارع - صلى الله عليه وسلم - في مقابل اللبن الذي جاءت به من عند صاحبها .
سادساً : لما كان اللبن يختلف فقد يكون قليلاً وقد يكون كثيراً حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بحكم قاطع فجعل فيه صاعاً من تمر أو صاعاً من طعام
سابعاً :أبى ذلك بعض أهل المذاهب وجعل المردود هو القيمة والقائل بذلك هو أبو حنيفة وروي عن مالك قول بترك العمل بهذا الحديث والقول الأول أصح .
وأخيراً إني لآسف أن يرد بعض الفقهاء حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يعترض عليه بقواعد قعدها من ليس بمعصوم فيجعل تلك القواعد أصلاً والحديث فرع بل يقول إن الحديث مضنون فهل هذا هو التأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يليق به صلوات الله وسلامه عليه كلا فنسأل الله أن يهدي المسلمين للعمل بطاعة ربهم وإجلال وإكرام واحترام سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبالله التوفيق .
[(4/18)
254]الحديث الثالث :عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع حبل الحبلة . وكان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية وكان يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها قيل إنه كان يبيع الشارف _ وهي الكبيرة المسنة _ بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته
موضوع الحديث: النهي عن بيع الغرر
المفردات
حبل الحبلة : أي حمل الحمل الموجود بأن يبيع الناقة الكبيرة المسنة بحمل ما في بطن ناقته وقد ذكر الأمير الصنعاني أن الحبل اسم لحمل الإناث من بني آدم ونقل عن ابن الأنباري اتفاق أهل اللغة على أن الحبل يختص بالآدميات أما غير الآدميات فيقال حمل ولا يقال حبل
المعنى الإجمالي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع حبل الحبلة وكان أهل الجاهلية يتبايعونه فنهى عنه ومنعه تحريماً للغرر لأنه يتضمن التغرير على المشتري فإن ذلك الحمل الذي بيع حمله قد يتم وقد لا يتم والآخر مثله وقد يكون ذكراً أو أنثى وقد تلد وقد تموت قبل ذلك .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم هذا البيع لما يحتوي عليه من الغرر الذي يتنافى مع الشريعة الإسلامية والله سبحانه وتعالى قد حرم الخداع لما ينتج عنه من الضرر وفي الحديث ( لا ضرر ولا ضرار ) (1)
ثانياً :إن هذا ليس من أخلاقيات الإسلام بل هو من صفة أهل النفاق والخداع والريبة
ثالثاً: وجوده في هذا الحديث يدل على صحة هذه التسمية إلا أن ما قاله أهل اللغة دال على أن تسمية الحبل في الحيوانات تسمية غير مشهورة والمشهور فيها ذكر الحمل لا ذكر الحبل
__________
(1) سبق تخريجه(4/19)
ملحوظة : قوله حبل الحبلة المقصود به حمل الحمل الذي في بطن ناقته مثال ذلك أن يكون لأحد المتبايعين شارف هزيلة فاشتراها آخر منه وكانت له ناقة حامل فقال لصاحب الشارف بعني شارفك هذه بما تلده ما في بطن ناقتي هذه بمعنى أن ينتظر إلى أن تنتج ناقة المشتري ثم تحمل فتنتج فيكون نتاج الحمل الموجود هو المبيع وفي هذا من الغرر أن ذلك الحمل قد يبقى وقد تخرجه الناقة ثم إذا بقي هل سيكون ذكراً أو أنثى فإن ولد ذكراً انتفى احتمال الولادة الأخرى وإن ولد أنثى كان احتمال الولادة الأخرى ممكن لكن هل تلك الناقة ستحمل أو لا تحمل فإن حملت كان ذلك الحمل هو المبيع لكن هل سيخرج تاماً أو ناقصاً معيباً أو سليماً فمن أجل هذه الاحتمالات نهى الشارع عن مثل هذا البيع لأنه بيع معلوم بمجهول .
[255]الحديث الرابع :عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري .
وفي معناه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وهو الحديث الخامس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل وما تزهى ؟ قال حتى تحمر قال : أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه .
موضوع الحديثين : في بيع الثمار قبل بدو صلاحها
المفردات
قوله نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها :أي حتى يظهر فيها الصلاح فيبدو هنا بمعنى يظهر
قوله نهى البائع والمشتري : يعني أن النهي عام لهما
قوله وفي حديث أنس حتى تزهى قد فسر كلمة تزهى بأخذ الألوان الأخيرة التي تكون نهائية ويتبين بها صلاح الثمرة فمثلاً يسود العنب الأسود ويبيض الأبيض منه والثمرة التي تكون نهايتها بالاحمرار إذا أخذت اللون الأحمر دل هذا على الصلاح
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها لأنه في هذه الحالة يكون من بيع المعدوم
فقه الحديثين(4/20)
أولاً: يؤخذ من الحديثين تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها لأن النهي من أجل دفع الضرر عن المشتري فكان النهي مفيداً للتحريم
ثانياً :هل يجوز بيع الزرع قبل بدو صلاحه من أجل الحصول على الثمرة الجواب لا يجوز كما قد تقدم لكن أجاز أهل العلم أو بعضهم أن يبيعه بشرط القطع
ثالثاً: إن باع منه زرعاً بشرط القطع ثم أبقاه المشتري حتى ظهرت الثمرة فإن البيع يكون باطلاً على القول الصحيح في هذه الحالة
رابعاً:إن باع بعد بدو الصلاح ثم أصيب المبيع بجائحة فهل يكون من مال المشتري أو من مال البائع ظاهر حديث ( بم يستحل أحدكم مال أخيه ) وحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أمر بوضع الجوائح ) (1) أنه لا يجوز للبائع أكل الثمن بل يجب عليه رده للمشتري وإلى ذلك ذهب الحنابلة والذي ظهر لي بعد البحث في هذا الموضوع على أن المشتري إن كان باع بعد بدو الصلاح فقد باع بيعاً يحل له وأخذ ثمناً يحل له أخذه وأكله فكيف يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجوائح أمراً إلزامياً وعلى هذا فإن الأوامر في هذين الحديثين تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بهذا أمر إرشاد لا إيجاب وقد ورد حديث في كتاب الأم للشافعي أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وشكت إليه بأن ابنها اشترى ثمرة ثم أصيبت بجائحة وأن ابنها ذهب يستوضع الرجل فأبى أن يضع له وحلف فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - آلاء ألا يفعل خيراً ) وبهذا تجتمع الأدلة .
__________
(1) مسلم في كتاب المساقاة باب وضع الجوائح رقم 1554 والنسائي في كتاب البيوع باب وضع الجوائح رقم 4529 وأبو داود في كتاب البيوع باب بيع السنين بنحوه رقم 3374 وأحمد رقم 14371 .(4/21)
خامساً :يؤخذ من قوله أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه هذه الجملة تدل على أن الأمر بوضع الجوائح يكون إلزامياً فيما إذا كان البيع قبل بدو الصلاح وقبل ظهور الثمرة ولهذا قال أرأيت إن منع الله الثمرة أي منعها من الخروج أو منعها من أن تكون صالحة ولم يقل أخذ الله الثمر فلو كان المقصود فيما إذا كان البيع بعد بدو الصلاح لكان الكلام هنا أرأيت إن أخذ الله الثمرة فلما جاء بهذه الصيغة أرأيت إن منع الله الثمرة دل على أن المأمور بوضعها هو ما إذا كان البيع قبل بدو الصلاح أو كمال الصلاح أما إذا كان بعد بدو الصلاح فإن البائع باع شيئاً يحل له وأخذ ثمناً يحل له فكيف نقول في قوله (أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه ) و القول بأن الأمر بوضع الجوائح إذا كان البيع بعد بدو الصلاح أمر إرشاد لا إلزام وندب لا وجوب أما إذا كان قبل بدو الصلاح فإن الأمر حينئذ أمر وجوب وإلزام وبهذا تجتمع الأدلة .(4/22)
سادساً :أن كلام الشارع - صلى الله عليه وسلم - منزه عن التعارض والتضاد فلا يمكن أن يبيح الشارع - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ثم يحرمه فلما أباح للبائع بعد بدو الصلاح أباح له البيع وأباح للمشتري الشراء وبناءً على ذلك حل الثمن للبائع فإن حصلت الجائحة بعد البيع الذي أباحه الشارع - صلى الله عليه وسلم - وتخلى البائع عن الثمرة واستلام المشتري لها فإن قدر الله بجائحة كجراد أو سيل أو آفة أخذت الثمرة فإنه في هذه الحالة تكون الثمرة في ضمان المشتري وحوزته وملكه فلذلك لا يجوز أن نقول أنه يجب عليه أن يرد الثمن بعد أن أباحه له الشارع - صلى الله عليه وسلم - وأنه يكون حرام عليه لو لم يرده لأن ذلك مستلزم لوقوع التناقض في كلام الشارع ووقوع التناقض في كلام الشارع - صلى الله عليه وسلم - ممتنع قطعاً لهذا يتبين أن الجائحة إذا كانت في البيع الذي حصل بعد بدو الصلاح وقبض المشتري وتخلي البائع أن ذلك لا يمكن أن يتنزل عليه الحديث ولكن يتنزل على ما إذا كان البيع قد وقع فيه خلل أو نَقَصَ فيه شرط من هذه الشروط فإن لم يكن كذلك فالأمر بوضع الجوائح أمر إرشاد لا إلزام وبالله التوفيق
[256]الحديث السادس :عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد قال فقلت لابن عباس ما قوله حاضر لباد ؟ قال لا يكون له سمساراً .
موضوع الحديث: النهي عن تلقي الركبان وأن يبيع حاضر لباد
المفردات
تلقى الركبان :أي بأن تخرج من السوق لشراء السلع التي يقدمون بها قبل أن يعلمو ا سعر السوق
قوله وأن يبيع حاضر لباد : الحاضر هو الساكن في المدينة والبادي هو الساكن في البدو
ومعنى سمساراً : السمسار هو الذي يكون وسيطاً في البيع بين البائع والمشتري ويسمى دلالاً
المعنى الإجمالي(4/23)
من حكمة الله عز وجل في شرعه أنه تارة يحمي مصلحة صاحب السلعة وتارة يحمي مصلحة المستهلك وقد جمع في هذا الحديث بين الأمرين فالنهي عن تلقي الركبان حماية لمصلحة أصحاب السلع والنهي عن بيع الحاضر للباد حماية لمصلحة المستهلك وبهذا يوافق هذا الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ) (1)
فقه الحديث
أولاً: قد تقدم الكلام عن تلقي الركبان من حيث الحكم وأنه للتحريم .
ثانياً: يؤخذ منه صحة البيع أو عدم صحته وقد سبق أن رجحنا صحة البيع وجعل الخيار للبائع إذا ورد السوق لما في ذلك من الغرر مع إثم المتلقي .
ثالثاً: قوله وأن يبيع حاضر لباد وقد فسره ابن عباس بقوله لا يكون له سمسار اً وذلك فيما إذا جاء الحاضر إلى هذا البدوي فقال له دع السلعة عندي وأنا أبيعها لك مقطعة لأن في هذا إضرار بالمستهلكين وفيه نوع من الاحتكار لكن إذا جاء البدوي وباع لنفسه بما يسره الله له من ثمن فإن ذلك يكون في مصلحة المستهلك فلله ما أعظم شرعنا ولا غرابة فهو منزل من عند الله ومبلغه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله في حقه ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ) [ النجم : 3،4 ]
[257]الحديث السابع :عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً أو كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام . نهى عن ذلك كله .
موضوع الحديث: النهي عن بيع الأخضر بيابس من جنسه لأن الأخضر غير معلوم فلذلك منع لكون أحدهما معلوم والآخر مجهول
المفردات
المزابنة : مأخوذة من الزبن وهو الدفع فكأن كل واحد منهما يريد أن يدفع صاحبه عن حقه وقد فسرت المزابنة وضربت لها الأمثلة بما لا يدع مجالاً للشك أو الريبة والجهل
المعنى الإجمالي
__________
(1) سبق تخريجه(4/24)
نهى الشارع - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة التي هي بيع ثمر أخضر بشيء من جنسه يابساً لأن الأخضر غير معلوم المقدار وفي مثل هذا يحرم البيع إلا بالتساوي فكان هذا هو علة النهي
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث تحريم المزابنة التي هي بيع ثمر أخضر بيابس من جنسه وإن اختلفت الأنواع والجنس ما شمل أنواعاً والنوع ما شمل أشخاصاً وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي استعمله على خيبر حين باع صاعاً بصاعين أي صاعاً من الجيد بصاعين من الدون (بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا )(1) فبيع الجنس بجنسه لا يجوز إلا متساوياً ويحرم إذا كان متفاضلاً ولو علم التفاضل وكانت الأنواع مختلفة في الجودة والنهي هنا أي في المزابنة النهي عن البيع فيها لأنه بيع معلوم بمجهول والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل
ثانياً: أنه يستفاد من هذا النهي تحريم هذا البيع فلا يجوز بيع الثمر على النخل بتمر يابس ولا بيع الثمر في الكرم بزبيب يابس ولا بيع الثمر بالزرع بطعام يابس والعلة في ذلك كما تقدم عدم العلم بالتساوي وعدم العلم بالتساوي أي الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل ولا يستثنى من هذا الحكم إلا العرايا بشروطها
[
__________
(1) البخاري في كتاب البيوع باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه رقم 2202 وفي كتاب الوكالة باب في الصرف والميزان رقم 2303 وفي كتاب المغازي باب استعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل خيبر رقم 4247 ومسلم في كتاب المساقاة باب بيع الطعام مثلاً بمثل رقم 1593والنسائي في كتاب البيوع في بيع التمر بالتمر متفاضلاً رقم 4553ومالك في كتاب البيوع باب ما يكره من بيع التمر 1314و1315 .(4/25)
258]الحديث الثامن :عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة والمحاقلة وعن المزابنة وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وألا تباع إلا بالدينار والدراهم إلا العرايا . المحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة .
موضوع الحديث :النهي عن المخابرة وما في معناها من بيع الزرع بعد بدو صلاحه بطعام أو تمر أو زبيب من جنس المبيع
المفردات
المخابرة : مأخوذة من الأرض الخبار وهي المحروثة التي تحرث لتزرع ومقصود بها هنا تأجير الأرض بشيء من الثمرة وسيأتي بحث هذه المسألة في باب المساقاة والمزارعة
قوله والمحاقلة : المقصود بها بيع الحقل الذي قد بدا صلاحه بجنسه من الحب اليابس أما المزابنة فقد تقدم شرحها
قوله وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها : قد تقدم الكلام فيه
قوله إلا العرايا : سيأتي تعريف العرايا وبحثه وفقهه
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء من البيوع التي تتعلق بالثمار لما فيها من الضرر على جانب واحد أو على الجانبين والشارع أعلم بالمصلحة وأعرف بالمضرة
فقه الحديث
أولاً: المخابرة فيها خلاف سيأتي بحثه في حديث رافع بن خديج كنا نكري الأرض على الماذيانات وأقبال الجداول ... الحديث
ثانياً: قوله والمحاقلة يؤخذ منه تحريم بيع الحقل وهو الزرع الذي عليه سنابله بطعام من جنسه يابساً والعلة في تحريمه الجهل بالتساوي بين ما يكون على رؤوس الشجر وبين الطعام اليابس والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل ولا يجوز بيع مجهول بشيء من جنسه فلو أن لك قطعة من الأرض قد بدا صلاحها واشتد حبها فجاءك رجل وقال أنا أشتري منك هذه القطعة بما فيها من حب وقصب بمائتي صاع مكيلة فإن هذا لا يجوز ولو بعت منه تلك القطعة بشيء من النقود اتفقتم عليها فإن ذلك جائز ولهذا قال وأن لا تباع إلا بالدينار والدراهم إلا العرايا
ثالثاً: قوله وعن المزابنة قد تقدم الكلام عليها(4/26)
رابعاً: قوله وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها قد تقدم بحث هذا الموضوع
خامساً: قوله وألا تباع إلا بالدينار والدراهم أي أنه لا يباع ثمر أخضر على رؤوس الشجر بمكيل من جنسه كما تقدم .
سادساً: قوله إلا العرايا استثنى بيع العرايا بخرصها وسيأتي بحث هذه المسألة
سابعاً : قوله المحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة هذا تفسير لكلمة المحاقلة .
[259]الحديث التاسع: عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن .
موضوع الحديث :النهي عن ثمن هذه الثلاث لما فيها من الخبث والضرر على المسلمين باستعمال أعواض الجاهلية فيها
المفردات
مهر البغي : هو أجرها على استعمال بضعها حراماً وسمي ذلك مهراً تشبيهاً له بمهر النكاح بجامع أن كل واحد منهما أجراً
قوله البغي : البغي هي الزانية سميت بذلك لأن البغاء يزيدها رغبة والعياذ بالله فيما هي فيه إما رغبة في الأجر أو رغبة في المتعة الجنسية أو كلاهما ومن رغب في الشيء بغاه(4/27)
قوله وحلوان الكاهن : الحلوان هو ما يعطاه الكاهن أجراً على كهانته ولعله سمي حلواناً لأنه يأخذه بدون مشقة والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات وخبره يكون فيه نوع من الإشارة لأن الشيطان الذي يسترق السمع إنما يعطي إشارات لكونه لا يستطيع استيعاب الخبر ولهذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لابن صياد ( إني قد خبأت لك خبيئاً قال ابن صياد هو الدخ فقال إخسأ فلن تعدو قدرك ) (1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خبأ له سورة الدخان والكاهن يشمل من يدعي معرفة المغيبات ويشمل المنجم ومن يسمى بالعراف وهي مهنة تنبني على الدجل والتضليل لابتزاز الأموال .
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن ونهيه عن هذه الثلاثة الأشياء لأنها خبيثة وشيوعها بين المسلمين خبث وأمر يرفضه الإسلام ويأباه وتتنزه عنه المجتمعات الإسلامية لما فيه من الضرر والمخالفة للدين .
فقه الحديث
__________
(1) البخاري في كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه رقم 1355وفي كتاب الجهاد والسير باب كيف يعرض الإسلام على الصبي رقم 3055 وفي كتاب الأدب باب قول الرجل للرجل إخسأ رقم 6172 وفي كتاب القدر باب يحول بين المرء وقلبه رقم 6618 ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة باب ذكر ابن صياد رقم 2924و2931 والترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في ذكر ابن صائد رقم 2249وأبو داود في كتاب الملاحم باب في خبر ابن صائد رقم 4329 وأحمد رقم 11798و6360 .(4/28)
أولاً: يؤخذ من الحديث تحريم ثمن الكلب لأن الكلب نجس وثمنه خبيث وهو في الكلب العادي اتفاق بين العلماء على تحريمه ثم إنهم اختلفوا في الكلب المعلم هل يجوز بيعه أم لا ؟ فالجمهور على عدم جواز بيعه لأن الحديث الوارد في ذلك ضعيف جداً لأنه من رواية أبي المهزم بتشديد الزاي المكسورة التميمي البصري اسمه يزيد وقيل عبدالرحمن بن سفيان متروك من الثالثة روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه ت 8463 والحديث هو ما ورد في النهي عن ثمن الكلب وزاد فيه إلا كلب صيد ) (1) إلا أن هذه الزيادة ضعيفة لضعف راويها وقد ذكروا أن الاستثناء ثابت في القنية وليس في البيع لحديث ( من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان ) (2) فالصحيح أن استثناء كلب الصيد إنما هو في الاقتناء لا في البيع .
__________
(1) الترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور رقم 1281 ورواه النسائي في كتاب الصيد والذبائح في الرخصة في ثمن الكلب رقم 4295 وفي كتاب البيوع باب بيع الكلب ما استثنى رقم 4668 لكن من طريق حماد بن سلمه عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب صيد ) وصححه الألباني في صحيح النسائي .
(2) مسلم في كتاب المساقاة باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك رقم 1574 والنسائي في كتاب الصيد والذبائح باب الرخصة في إمساك الكلب للحرث رقم 4287 وابن ماجة في كتاب الصيد باب النهي عن اقتناء الكلب إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية رقم 3205 والدارمي في كتاب الصيد باب اقتناء كلب الصيد أو الماشية رقم 2004وأحمد رقم 4549 .(4/29)
ثانياً: يؤخذ من قوله ومهر البغي تحريم مهر البغي أي أجرة زناها وقد كان أهل الجاهلية يشترون الجواري ليؤجروهن للبغاء فلما أراد من أراد في أول الإسلام ذلك أنزل الله عز وجل ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الآية [ النور ال: 33] ويظهر أن خبث مهر البغي وحلوان الكاهن كان معروفا حتى عند أهل الجاهلية فلقد ورد أن قريشاً لما عزموا على بناء الكعبة قالوا فيما بينهم لا تدخلوا فيها مالاً من ربا ولا مهر بغي ولا حلوان كاهن
ثالثاً: قوله وحلوان الكاهن يؤخذ منه تحريم ما يأخذه الكاهن على كهانته وأنه شيء خبيث وقبيح لا يجوز أكله وقد ورد أن عائشة رضي الله عنها قالت ( كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام أتدري ما هذا فقال أبو بكر وما هو قال كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسِن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه فأدخل أبو بكر يده في حلقه فقاء كل شيء في بطنه) (1). وإن الكهانة عندما تشيع في المجتمعات الإسلامية شيوعها خطر على المسلمين وضرر عليهم لما يترتب على ذلك من الإضرار بالآخرين ولقد بلغنا من ذلك شيئاً كثيراً لا يستطاع وصفه في هذه العجالة فقد يصاب الإنسان بسحر يجعل حياته بؤساً وجحيماً يتمنى أن لو نزل عليه الموت ولم يقع في تلك الورطة التي حصلت له وإنا لله وإنا إليه راجعون .
[260]الحديث العاشر:عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث .
موضوع الحديث: النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وكسب الحجام وهل الوصف بالخبث دليل على التحريم في كل الثلاث هذا محل نظر كما سياتي
المفردات
__________
(1) البخاري في كتاب المناقب باب أيام الجاهلية رقم 3842 .(4/30)
ثمن الكلب : قيمته التي يباع بها
ومهر البغي : هي أجرة زناها
وكسب الحجام هي أجرته على حجامته وإطلاق وصف الخبيث على الجميع دال على أن هذه المكاسب مكاسب غير جائزة
المعنى الإجمالي
الشرع الإسلامي نقي في عقائده وعباداته ومعاملاته فالعقيدة لا بد أن تكون توقيفية أي مبنية على ما جاء في الشرع ومقصوداً بها وجه الله والمعاملات لابد أن تكون نقية من الغش والخداع والغدر ومن كل ما يتصف بالقبح والخبث لذلك فإن أحكام الشرع الإسلامي لا يوجد لها مثيل قط في هذا الكون إلا ما كان من الشرائع المتقدمة على أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أعلاها وأزكاها وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من قوله ثمن الكلب خبيث أن الكلب لا يجوز بيعه ولا شرائه حتى ولو كان معلماً وما ورد في البيع بقوله ( إلا كلب صيد ) (1) فإن هذا الاستثناء حكم عليه بالوهم أي على راويه بالوهم فإن الاستثناء ثابت في الإقتناء لا في البيع على القول الصحيح .
ثانياً : وصف ثمن الكلب بالخبث يدل على تحريمه لأن الخبيث يقابل الطيب والله سبحانه وتعالى يقول (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) [ البقرة : 168 ] وإذا علم تحريمه فإنه يكون محرماً بيعه وأخذه فيحرم على المشتري بذله وعلى البائع أخذه .
ثالثاً :يؤخذ من قوله ومهر البغي خبيث وقد علم أن مهر البغي هو أجرة زناها ووصفه بالخبث دال على تحريمه لأنه جاء من طريق محرم ولقد تطابقت الشرائع على تحريم الزنا بل وحتى بعض أهل الجاهليات يعرفون ذلك ويتحاشونه ويحتقرونه كما قد سبقت الإشارة إليه .
__________
(1) سبق تخريجه(4/31)
رابعاً :جاء وصف كسب الحجام بالخبث والخبث غالباً يدل على التحريم فما اتصف بالخبث فهو محرم لكن ورد في هذه المسألة بالذات ما يدل على عدم التحريم وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الحجام أجرته وهو دال على أن وصف الخبث في كسب الحجام يدل على الكراهة فقط لا على التحريم وإذا أخرجنا كسب الحجام من التحريم لأن وصف الخبث لم يبق على ظاهره بل عارضه ما صرفه عن التحريم إلى الكراهة فإذا قلنا بهذا في كسب الحجام فلا يجوز أن نقول فيه ما نقوله فيما سواه مما لم يعارضه شيء وبالله التوفيق .
باب بيع العرايا وغير ذلك
[261]الحديث الأول : عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها .
ولمسلم بخرصها تمراً يأكلونها رطباً .
موضوع الحديث : جواز بيع الرطب على رؤوس النخل وهو مخصوص من بيع المزابنة المنهي عنها للعلل التي ستأتي
المفردات
العرية : هي النخلة أو النخلات تمنح من صاحب البستان للفقير لكي يتفكه بها عند حصول الفاكهة وسميت عرية لأنها عريت عن البستان أي انفردت عنه .
بخرصها :الخرص هو التقدير بأن تقدر الثمرة على رؤوس النخل بما يساوي ذلك تمراً إذا يبس
قوله يأكلونها رطباً : هذا بيان للعلة التي من أجلها أبيح بيع العرايا
المعنى الإجمالي
لما كان بيع المزابنة وهو بيع التمر على رؤوس الشجر بشيء من جنسه يابساً لما كان ذلك محرماً أباح الله عز وجل على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيع العرايا للعلل التي ستأتي
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من الحديث جواز بيع العرايا بشروطها وهي(4/32)
الشرط الأول: لوجود العلة المبيحة لذلك والعلة إما أن تكون لحاجة المعار أو تكون لحاجة المعير فأما حاجة المعار فهو أن يكون الفقير له حاجة على التفكه بالرطب مع سائر الناس ويعطيه جاره الغني نخلة أو نخلات بشرط ألا يتجاوز خرصها خمسة أوسق أو أن يكون دون خمسة أوسق ثم يتأذى المانح من دخول أولاد الممنوح فإذا تأذى المانح من الدخول في بستانه خوفاً من التخريب فيه جاز عند ذلك أن يبيع الممنوح ثمر الذي منحه بخرصه تمراً
الحالة الثانية : أن يكون الممنوح يرى أن الرطب لا ينفع لأن الرطب سريع الهضم فإذا أكله العيال أفنوه بسرعة فهو يريد تمراً يابساً لأن ذلك يكون نافعاً في النفقة لوقت أطول
الحالة الثالثة : أن يكون المشتري للرطب على رؤوس النخل غني ولكن ليس عنده نخل وعنده تمر من نفقة أهله وليست عنده نقود يشتري بها ويريد أن يشتري لعياله نخلة أو نخلتين يأخذونها بالتدريج رطباً يتفكهون بها مع الناس فيشتريها بخرصها تمراً .
الشرط الثاني : أن تكون النخلات المبيعة لا يتجاوز خرصها خمسة أوسق أو لا يصل إليها . الشرط الثالث: أن لا يجد المشتري نقوداً يشتري بها فإن وجد نقوداً لم يجز هذا البيع في حقه الشرط الرابع :أن يبيعها بخرصها تمراً ويكون الخرص من قبل أهل النخل المتخصصين فيه(4/33)
الشرط الخامس: وجوب التقابض في المجلس ولا يجوز أن يتفرقا وبينهما شيء وإلا كان ربا نسيئة إذا علم هذا فإنه متى توفرت هذه الشروط جاز بيع العرايا وإن نقص منها شيء بطل البيع . أما بيع الرطب برطب كلاهما على الأرض أو على رؤوس الشجر فإن هذا لا يجوز على القول الصحيح فإن كان كلاهما موجودين على الأرض جاز بيع أحدهما بالآخر كيلاً بكيل أو وزناً بوزن يداً بيد كما هو معلوم في سائر المكيلات أو الموزونات سواء كانا من نوع واحد أو من أنواع مختلفة وإن كانا من نوعين مختلفين فإما أن يتراضيا على بيع الجيد بالرديء وزناً بوزن وكيلاً بكيل وإلا فليبع صاحب الرديء رطبه ويشتري منالجيد كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي استعمله على خيبر ( بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا) (1)
ثانياً : أما بيع اليابس بالأخضر أي الرطب بالتمر فهو لا يجوز بحال إلا بالشروط المذكورة للعلل المذكورة وبدون ذلك يكون من بيع المزابنة المحرم .
ثالثاً : وقد اختلف أهل العلم هل يقاس على العرايا غيرها من الأجناس التي يحتاج الناس فيها إلى التفكه عند مجيء ثمرتها فأجاز ذلك قوم للعلة في العنب والزبيب خاصة وبعضهم قال إذا وجدت العلة جاز مطلقاً ومنع البعض الآخر قائلين أنه من المعلوم أن الرخص تكون خاصة بما هي فيه ولا يقاس عليها غيرها وبالله التوفيق
[262]الحديث الثاني :عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق .
قد تقدم شرحه في الحديث الأول ( حديث زيد بن ثابت )
[263]الحديث الثالث : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( من باع نخلاً قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع )
ولمسلم ( ومن ابتاع عبداً فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع )
__________
(1) سبق تخريجه(4/34)
موضوع الحديث : أن ثمرة النخل المؤبر إذا بيع تكون للبائع والعكس بالعكس وكذلك إذا بيع العبد فماله لبائعه إلا أن يشترط المبتاع .
المفردات
نخلاً قد أبرت : من التأبير وهو اللقاح وذلك بأن يشقق طلع الأنثى ويَذُرُّ عليه من طلع الذكر
قوله إلا أن يشترط المبتاع : إلا أداة استثناء و ما بعدها مستثنى أي ما اشترط المشتري أن تكون الثمرة له وإن أبرت وجب العمل على الشرط متى تراضيا عليه والمراد بالمبتاع المشتري
قوله ومن ابتاع عبداً : أي اشتراه فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع
المعنى الإجمالي
للشريعة الإسلامية محاسن عظيمة لأنها شريعة كاملة ترعى الحقوق وتعطي كل صاحب حق حقه وقد روعي في هذا الحديث حق التأبير للبائع وألحق به الثمرة لكونه قد باشر سببها وهو التأبير إلا أنه متى اشترط المبتاع أن تكون الثمرة له وإن كانت النخل قد أبرت وقبل البائع ذلك فهما على ما اشترطا وكذلك من ابتاع عبداً فإن ماله لبائعه إلا أن يشترط المبتاع .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث أنه يجوز البيع بعد التأبير وقبله
ثانياً : أن من باع نخلاً قد أبرت أي قد عمل لها التلقيح الذي يفعله أهل النخل فإن ثمرها للبائع
ثالثاً : يؤخذ من الاستثناء أنه إذا اشترط المبتاع في البيع بعد التأبير أن تكون الثمرة له وقبل البائع ذلك فإنهما على ما تشارطا عليه
رابعاً : يؤخذ من هذا الحديث أيضاً أنه يقاس البذر على التأبير فإذا باع أرضاً قد بذرها فإن ثمرها للبائع إلا أن يشترطه المشتري
خامساً :إذا كانت هذه الأرض مما يحصد مرات فإنه يكون للبائع الحصدة الأولى وهي التي تسمى الجادّة في جهتنا أما الخلف وهي الجزة الثانية فهي تكون للمشتري لكيلا يشغل ملكه بما هو لغيره وقتاً أطول
سادساً : ويقاس على هذا أن الجارية إذا بيعت وهي حامل فإن الحمل للبائع إلا أن يشترط المبتاع أي المشتري أن يكون ذلك له .(4/35)
سابعاً : يرى بعض أهل العلم أنه إذا بيع العبد أو بيعت الجارية فإنه يلحق به ثياب المهنة دون ثياب الزينة أما ثياب الزينة فهي للبائع إلا أن يشترطها المبتاع
ثامناً : يؤخذ من رواية مسلم أن من ابتاع عبداً له مال فماله لبائعه إلا أن يشترط المبتاع ويقبل البائع ذلك
تاسعاً : أخذ مالك من هذا الحديث أن العبد يملك والظاهر أن العبد لا يملك إلا ما ملّكه له سيده
عاشراً : ذكر ابن الأمير الصنعاني أن الطحاوي احتج بحديث الباب على جواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وتعقبه البيهقي أنه يستدل بالشيء على ما ورد فيه حتى إذا جاء ما ورد فيه استدل بغيره عليه كذلك فيستدل بجواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بحديث التأبير ولا يعمل بحديث التأبير وتعقبه العيني
وأقول :إن الاستدلال بحديث التأبير على جواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها استدلال باطل لأن الشارع نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها نهياً خاصاً أما إلحاق النخل المؤبر بالمشتري وجعل ثمره من حقوق البائع إلا أن يشترط المبتاع فهذا له شأن آخر وقياس ذلك عليه لا يجوز لأمور الأمر الأول : أن الفارق بين بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وإلحاق ثمر النخل المؤبر بالبائع فارق كبير فبيع الثمرة مقصود به الثمرة عينها أما إلحاق ثمر النخل المؤبر والزرع المبذور بالزارع والمؤبر فهو إلحاق له بأصل الملك . الأمر الثاني : أن المالك باشر هذا السبب في وقت ما كان ملكه له فلحوقه له بسبب الملك الأول . الأمر الثالث : أن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها مقصود لذاته كما سبق وليس له ما يلتحق به أما إلحاق ثمر النخل المؤبر بالبائع فهو إلحاق له بالملك الأصلي والسبب المباح وقد قال أصحاب أصول الفقه يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً فتبين أن الفارق بين المسألتين فارق عظيم ومن ألحق إحداهما بالأخرى فإنه قد أخطأ وبالله التوفيق .
[(4/36)
264]الحديث الرابع : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ) وفي لفظ (حتى يقبضه )
وعن ابن عباس مثله
موضوع الحديث :النهي عن بيع الطعام قبل قبضه
المفردات
حتى يستوفيه وفي لفظ حتى يقبضه : الاستيفاء هو القبض وقد يقال أن الاستيفاء فيما كان مكيلاً أو موزوناً أو مذروعاً أو معدوداً والقبض فيما يكون بخلاف ذلك بأن ينقله من مكانه إلى مكان آخر
المعنى الإجمالي
نهى الشارع عن بيع الطعام قبل قبضه واستيفائه حسماً للخلافات التي ربما تحصل بين الناس بسبب البيع قبل القبض وخروجاً من شبهة الربا .
فقه الحديث(4/37)
أولاً : فرق مالك بين ما إذا كان في المبيع حق التوفية على ما دل عليه الحديث ولا يختص ذلك عند الشافعي بالطعام بل جميع المبيعات لا يجوز بيعها قبل قبضها عنده سواء كان عقاراً أو غيره وأبو حنيفة يجيز بيع العقار قبل القبض ويمنع غيره وأقول الخلاف بين مالك والشافعي أن مالكاً اعتبر الاستيفاء كافٍ والشافعي قال لا بد من الاستيفاء والقبض معاً والحق أنه إذا كان الاستيفاء قبضاً فإنه يجوز فيه البيع مثال ذلك فيما إذا كان الكيل في أوعية المشتري فإنه في هذه الحالة يعد استيفاءً وقبضاً وقول الشافعي أنه لا يختص بالمكيلات والموزونات بل هو سار في كل شيء ولو كان عقاراً وهو القول الصحيح الذي يؤيده الدليل ولكن القبض في كل شيء بحسبه فقبض العقارات بقبض صك المبايعة ومفاتيح الدار ووضع اليد عليها بعد رفع يد البائع عنها والمكيلات يكون قبضها بكيلها وقد جاء في الحديث الذي رواه جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي ) (1)
__________
(1) ابن ماجة في كتاب التجارات باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض رقم 2228 والدار قطني رقم 24 والبيهقي في السنن الكبرى 10481 والحديث حسنه الألباني ..(4/38)
أما الأشياء المعدودة كالكراتين والأكياس وما يباع معدوداً كالبطيخ والحبحب وما إلى ذلك فقبضه يكون بعده للمشتري وأخذ المشتري له بعد العد ، يعد قبضاً ويخرج عن ذلك شيئان 1- إذا كان الموهوب أو المباع قابضاً للهبة من قبل البيع أو قبل الهبة فإنه حينئذ لا يحتاج إلى قبض آخر مثال ذلك ما ورد عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَرَ بِعْنِيهِ قَالَ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِعْنِيهِ فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ ) (1) 2- كذلك لو اشترى عبداً ثم اعتقه قبل أن يقبضه فإن الشرع يبيح هذا العتق ويعتبره واقعاً لأن العتق يرغب فيه الشرع ويجوز إخراج العبد عن ملك سيده بالعتق حتى ولو لم يكن قبضه قبض غيره كما أنه ينفذ العتق ولو كان بصفة هزلية ويوجب سريان العتق إذا كان المعتق قد اعتق شقصاً له من ذلك العبد فإنه يجعل العتق سارياً في جميع الرقبة على حساب المعتق إن كان غنياً وبالله التوفيق .
[
__________
(1) البخاري في كتاب البيوع باب إذا اشترى شيئاً فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا ولم ينكر البائع على المشتري رقم 2115 ورواه في كتاب الهبة باب من أهدى له هدية وعنده جلساءه فهو أحق رقم 2610 .(4/39)
265]الحديث الخامس : عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح ( إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميته والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال لا هو حرام ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه ) . قال جملوه أذابوه
موضوع الحديث : تحريم بيع ما حرم أكله أو شربه لنجاسته وتحريم بيع الأصنام على هيئتها
المفردات
الخمر : ما خامر العقل أي غطاه حتى لا يعرف شاربه المشرق من المغرب
والميتة هي : ما ماتت من الحيوانات حتف أنفها أي بدون ذكاة
أما الخنزير : فهو حيوان خبيث حرم الله أكله لما ينشأ عنه من الخلائق السيئة
أما الأصنام : فهي التماثيل من الخشب أو الحجارة أو غيرهما وهي التي تمثل على شكل الآلهة التي يعبدونها
قوله أرأيت شحوم الميتة : استفهام عن الحكم بعد التعليل
قوله فإنه يطلى بها السفن: هذا تعليل يقصد منه هل يكون مؤثراً في الحكم تأثير إباحة
قوله ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس : هاتان الجملتان معطوفتان على الجملة التي قبلها
قوله فقال لا : الضمير في قال يعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نهي أو نفي للحكم المتوهم
وقوله هو حرام : هذه الجملة تأكيد لما تفيده لا ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك قاتل الله اليهود : هذا دعاء عليهم إن الله لما حرم عليهم شحومها أي شحوم بهيمة الأنعام وذلك أن الله عز وجل حرم الشحوم على بني إسرائيل
جملوه : أي أذابوه
قوله ثم باعوه فأكلوا ثمنه : أي آل بهم الأمر إلى أنهم أكلوا ثمن ما حرم عليهم
المعنى الإجمالي(4/40)
سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فسألوه عن المنافع غير الأكل فقال لا هو حرام ثم قال قاتل الله اليهود عندما حرم الله عليهم الشحوم عملوا الحيلة لبيع ما أذابوه منها فذموا على استعمالهم تلك الحيلة ليأكلوا بها ما حرم الله عز وجل .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير لما فيهما من الضرر والمعصية لله تعالى
ثانياً : يؤخذ منه أنه لا يجوز بيع الأصنام بحالتها الراهنة أي وهي باقية على شكلها
ثالثاً: لما كانت الأصنام من مواد طاهرة وإنما حرمت لما طرأ عليها من جعلها تماثيل لمعبودات الوثنيين فإنه لو كانت الأصنام من الخشب فكسرت وبيعت حطباً فإنه في هذه الحالة يجوز بيعها لأنها قد تحولت عما كانت عليه وهذا حكي فيه الاتفاق
رابعاً : الميتة نجسة بصريح الآية واتفاق العلماء والخنزير حرام بالإجماع للنص عليه لكن هل حرمت الخمر لنجاستها أو لما ينشأ عن شربها من ضياع العقل وتسكيره حتى يعود صاحبه لا عقل له فلما كان الخمر متردد تحريمه بين هاتين العلتين اختلف فيه أهل العلم هل هو نجس وهل أن التحريم تلازمه النجاسة فذهب قوم إلى أن التحريم تلازمه النجاسة وذهب قوم إلى أنه لا تلازمه النجاسة واستدلوا بأنه قد يكون التخدير أو التسكير طبيعة في شيء من النباتات كالحشيش والهيروين وغيرهما وإذا كان الأمر كذلك فإن التحريم لما يترتب على شربه أو أكله وليس للنجاسة بل إن الشجر الذي تؤخذ منه هذه المادة طاهر باتفاق ومثل ذلك أيضاً الحَشَر الذي يستعمل في الشيشة فإن شجره طاهر أيضاً باتفاق لهذا فقد تبين بأن التحريم لا تلازمه النجاسة بل قد يكون الشيء محرماً أكله أو شربه وهو طاهر في نفسه وإنما حرم أكله وشربه لما يترتب عليه من تخدير العقل وتسكيره(4/41)
خامساً: لما حرمت الخمر وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإراقتها وكان فيها مال أيتام فأريق ذلك المال وكان بعد الإراقة التي ساحت في شوارع المدينة لا بد أن يطأ فيها الناس فلما لم ينههم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوطأ فيها وهي مراقة ولم يأمر من وطأ فيها أن يغسل ما أصابه منها دل هذا على أنها طاهرة وليست بنجسة .
سادساً: لما سأل الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الانتفاع بهذه الأشياء التي هي الخمر والميتة فسألوه عن الميتة لأنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فسألوه عن ذلك ملتمسين الحكم لعله أن تكون هذه المنافع التي هي غير الأكل والشرب مؤثرة في جواز استعمالها قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا وأكد ذلك بقوله هو حرام
سابعاً : هل يؤخذ من هذا أن من ماتت له بهيمة فاستعمل شحومها للاستصباح أو لطلي السفن هل يكون ذلك مباحاً هذا محل نظر فإن وجد الإجماع وصح على جواز ذلك إذا لم يكن فيه بيع دل على أن التحريم إنما هو من أجل ما يؤول إليه من البيع وعلى هذا فيمكن أن نقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر اليهود عند ذلك وذمهم بجمل الشحوم وبيعها وأكل ثمنها كان ذلك دال على أن التحريم إنما هو للبيع وأكل الثمن وليس لمطلق الانتفاع
ثامناً : ولقد أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ جلد الميتة ودبغه والانتفاع به وقال إنما حرم أكلها فدل ذلك على أن التحريم إنما هو للبيع الذي يؤدي إلى أكل الثمن حين قال - صلى الله عليه وسلم - ( قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه .
تاسعاً : يؤخذ من هذا الحديث أيضاً تحريم الذرائع التي توصل إلى الحرام كما حصل لليهود وبالله التوفيق .
باب السلم
[(4/42)
266] الحديث الأول :عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال قدم رسول الله المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال : من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) .
موضوع الحديث :السلم وما يصح به من شروط تكون مؤثرة في الصحة وعدمها مؤثر في عدم الصحة
المفردات
السلم : مأخوذ من تسليم الثمن في الحال وتأجيل السلعة إلى أجل محدد أما اسم السلف فهو مأخوذ من التقديم بأن يقدم الثمن ويؤجل السلعة ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء دخول المقبرة ( السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالأَثَرِ ) (1) أي أنتم متقدمون ونحن بالأثر بعدكم وكلا اللغتين صحيح . وحقيقة السلم تقديم الثمن وتأخير السلعة وعكسه تقديم السلعة وتأخير الثمن .
المعنى الإجمالي
لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وجدهم يسلفون في الثمار إلى آجال مختلفة بعضها سنة وبعضها سنتين وبعضها ثلاث سنين فأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - السلم وجعل له شرائط تضبطه بقوله ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم )
فقه الحديث
أولاً : جواز السلم وقد حكي الاتفاق على جوازه من حيث الجملة للأدلة الآتية الدليل الأول قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) [ البقرة : 282 ] والدليل الثاني من السنة فهو هذا الحديث وأما الإجماع فهو ما حكاه علماء هذه الأمة قديماً وحديثاً أن الأمة أجمعت على جواز السلم بالشروط المذكورة في الحديث .
__________
(1) الترمذي في كتاب الجنائز باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر رقم 1053 والحديث ضعفه الألباني .(4/43)
ثانياً : السلم جائز بشروط 1- أن يكون مضبوط المقدار والضبط في كل شيء بحسبه فما كان مكيلاً فضابطه الكيل وينبغي أن يُعرف المكيال الذي يكال به إن كان هناك اختلاف في المكاييل أما إن كان العرف جار على مكيال واحد فلا يلزم التعيين وما كان موزوناً فضابطه الوزن وما كان معدوداً فضابطه العد وما كان مذروعاً فضابطه الذرع وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الضابط بالكيل والوزن .
2- من شروط السلم أن يكون المبيع موصوفاً في الذمة إذاً فكل ما لم يكن موصوفاً فإنه لا يصح السلم فيه 3- اشترطوا فيما كان معدوداً أن يكون مستوي الأحجام ومنعوا ما يكون مختلف الأحجام اختلافاً فاحشاً كالحبحب مثلاً فإنه قد يكون حجمه صغير كيلو فأقل وقد تصل الحبحبة الواحدة أحياناً إلى خمسة عشر كيلو فمثل هذا لا ينبغي أن يكون السلم فيه إلا بوصف يضبطه أو يكون متقارب الأحجام .
4- من شروط السلم ذكر الأجل بأن يكون الأجل معيناً بزمنه ومكانه .
5- من شروط السلم أن يذكر محل التسليم بحيث أن يكون مسلماً في مكان كذا
6- أن يكون الأجل يجوز فيه أن يكون له وقع في الثمن كشهرين أو ثلاثة أو سنة أو سنتين
7- أنه يشترط أن يكون المسلم إليه واجداً للسلعة قبل الأجل فإن وجود السلعة يجب توفره عند الأجل .(4/44)
ثالثاً : اختلف أهل العلم في عكس السلم بأن يبيع سلعة بثمن مؤجل هل يجوز له الزيادة على الثمن المعروف في حال البيع أو لا يجوز ؟ فذهب الجمهور إلى الجواز ومن أدلتهم قول الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ ) ومن أدلتهم أيضاً أن السلم لا يرتبط بسعر الزمن الذي حصل العقد فيه بل يكون بحسب ما يتفقان عليه المسلم والمسلم إليه وكما أنه لا يشترط فيه أن يكون مرتبطاً بسعر وقته فكذلك البيع إلى أجل أيضاً لا يشترط أن يكون البيع مرتبطاً بسعر وقت العقد ومما استدل به على جواز ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير اشتراها نفقة لأهله ) واليهود معروفون بجشعهم فلا يعطوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بسعر أكثر من سعر يومه و أيضاً حديث حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ ( أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أسأله يَأْتِينِي الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي مِنْ الْبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي أَبْتَاعُ لَهُ مِنْ السُّوقِ ثُمَّ أَبِيعُهُ قَالَ لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ ) (1)
__________
(1) الترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك رقم 1232والنسائي في كتاب البيوع باب بيع ما ليس عند البائع رقم 4613 وأبو داود في كتاب البيوع باب في الرجل يبيع ما ليس عنده رقم 3503 وابن ماجة في كتاب التجارات باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن 2187 وأحمد رقم 15385و15386و15389 والحديث صححه الألباني ..(4/45)
وذهب قوم إلى أنه لا تجوز الزيادة وإلى ذلك ذهبت الزيدية وبعض أهل السنة مستدلين بحديث أسامة بن زيد ( لا ربا إلا في النسيئة)(1) وهذا الحديث تأوله الشافعي بأنه كان لسؤال عن شيئين يجوز فيهما التفاضل ويحرم النسأ فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله ( لا ربا إلا في النسيئة )
رابعاً :اختلفوا في السلم الحال هل هو جائز أو ممنوع فمنعه مالك وأبو حنيفة وأجازه بعضهم إلا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أجل معلوم دال على أنه لا بد أن يكون فيه أجل له وقع في الثمن وبالله التوفيق .
باب الشروط في البيع
[267]الحديث الأول : عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءتني بريرة (2) فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت : إن أحب أهلك أن أعدّها لهم وولاءك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس فقالت إني عرضت ذلك على أهلي فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق ) .
__________
(1) البخاري في كتاب البيوع باب بيع الدينار بالدينار نسا رقم 2179 ومسلم في كتاب المساقاة باب بيع الطعام مثلاً بمثل رقم 1596والنسائي في كتاب البيوع في بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة رقم 4580 وابن ماجة في كتاب التجارات باب من قال لا ربا إلا في النسيئة رقم 2257 وأحمد برقم 22105 .
(2) ترجمة بريرة قال في التقريب بريرة مولاة عائشة صحابية مشهورة عاشت إلى خلافة يزيد بن معاوية . تقريب رقم الترجمة 8641 ط دار العاصمة .(4/46)
موضوع الحديث : الشروط الجائزة والممنوعة
المفردات
كاتبت أهلي : المكاتبة هي عقد بين السيد وعبده وعرفوها بأنها تعليق عتق بصفة على معاوضة مخصوصة
قولها على تسع أواق : أواق جمع أوقية والأوقية هي أربعون درهماً وهي تساوي عشرة ريالات باعتبار أن الدرهم ربع ريال سعودي .
قولها في كل عام أوقية : أي منجمة على تسع سنين أي مقسطة
قولها فأعينيني : طلبت الإعانة من عائشة رضي الله عنها
فقلت : القائلة عائشة إن أحب أهلك : أي أسيادك أن أعدها لهم أي أنقدهم إياها أي أعطيهم الآن نقداً وولاءك لي فعلت أي بأن يكون ولاءك لي
فذهبت بريرة إلى أهلها لتشاورهم فأبوا عليها : أي منعوا إلا أن يكون الولاء لهم
فجاءت من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس : الواو واو الحال فقالت إني عرضت ذلك أي بالشرط الذي تشترطينه على أهلي فأبوا أي امتنعوا من العتق على أن يكون الولاء لعائشة رضي الله عنها إلا أن يكون الولاء لهم فأخبرت عائشة رضي الله عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال خذيها أي اشتريها واشترطي لهم الولاء أي إقبلي شرطهم فإن شرطهم باطل لذلك فإن وجوده كعدمه
قوله فإنما الولاء لمن أعتق : أي لمن دفع الثمن وأعطى الورق وسمح بالعتق بناءً على ذلك
ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس أي خطيباً فحمد الله وأثنى عليه يعني وأثنى عليه خيراً بذكر ما له من الصفات العلى والأسماء الحسنى
قوله فما بال رجال : أي ما شأنهم ولم يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله أي في شرعه كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل أي غير معمول به لبطلانه
قوله وإن كان مائة شرط : يعني وإن أُكد بتأكيدات
قضاء الله أحق : أي حكمه وشرعه أحق بالتنفيذ
وشرط الله أوثق : أي أوثق من الشروط التي يشترطها الناس مخالفة لكتاب الله عز وجل
وإنما الولاء لمن أعتق : إنما أداة حصر والولاء مبتدأ ولمن أعتق خبر أي إنما الولاء في شرع الله مستحق لمن أعتق .
المعنى الإجمالي(4/47)
هذه القصة مضمونها أن أهل بريرة رضي الله عنها بعد أن كاتبوها على تسع أواق منجمة أي مقسطة وجاءت تستعين عائشة رضي الله عنها فأرادت عائشة رضي الله عنها أن تعطيهم الثمن المؤجل معجلاً وتعتقها على شرط أن يكون الولاء لها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فعند ذلك أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تقبل هذا الشرط الذي وجوده كعدمه فقبلت واشترتها واعتقتها بناءً على ذلك لكن ذلك الشرط هدم بإنكار الشارع له لأنه خلاف شرع الله وقضاءه وقضاء الله أن الولاء لمن دفع الثمن وأعطى الورق والله سبحانه وتعالى يقول ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [ النحل : 90 ] وليس من العدل أن تعطي عائشة رضي الله عنها الثمن وتعتق ويكون الولاء لغيرها وبالله التوفيق .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من قولها كاتبت أهلي مشروعية المكاتبة وقد أمر الله عز وجل بها في قوله ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) [ النور : 33 ].
ثانياً :الكتابة مستحبة وليست بواجبة وإلى ذلك ذهب الجمهور وحملوا الأمر على أنه أمر إرشاد لا أمر إيجاب .
ثالثاً : يؤخذ من الآية أن استحباب الموافقة على الكتابة تكون معلقة بما إذا علم عن العبد صلاحاً وكسباً وهذا هو القول الصحيح
رابعاً : الكتابة منجمة غالباً أي مقسطة .
خامساً : يؤخذ من قولها في كل عام أوقية أن التقسيط يجوز أن يكون بالأعوام وأن يكون بالأشهر
سادساً : أن العبد لا يكون حراً إلا إذا أكمل قيمة نفسه التي كاتب عليها سيده(4/48)
سابعاً : اختلف أهل العلم في جواز بيع المكاتب فبعضهم أجاز وبعضهم منع فإن كان البيع مقصود للعتق كما في قصة بريرة فالأظهر الجواز وإن كان البيع مقصود به غير ذلك فالظاهر أنه مكروه أما أن نقول أنه محرم فلا والكراهة تنبني على أمرين . الأمر الأول : أنه يعتبر تخلفاً من سيده وهذا التخلف مذموم
الأمر الثاني : قد جاء في الحديث (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ ) (1) إذا فنحن نقول أن الوفاء بهذا العقد بين السيد وعبده إما أن يكون واجباً وإما أن يكون مستحباً والعدول عنه يكون مكروهاً .
ثامناً : يؤخذ من قولها فأعينيني جواز الاستعانة ممن حصل له سبب يوجب الاستعانة كهذا وكذلك من أصابت ماله جائحة وكذلك من تحمل ديوناً
تاسعاً : قول عائشة فإن أحب أهلك أن أعدّها لهم وولاءك لي فعلت يؤخذ منه أن عائشة رضي الله عنها استعدت بدفع مال المكاتبة على شرط العتق .
عاشراً : الصحيح أنها ابتاعت بريرة ولم تبتع الكتابة
الحادي عشر : امتناع أهل بريرة من الموافقة على بيعها إلا بشرط أن يكون لهم الولاء يُعدّ وضعاً للشيء في غير محله واشتراطاً لشرط باطل .
الثاني عشر : في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - خذيها واشترطي لهم الولاء يؤخذ من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بأن تشتريها وأن تقبل هذا الشرط الذي اشترطوه .
الثالث عشر : في قوله وإنما الولاء لمن أعتق إخبار أن ذلك الشرط لاغٍ لأنه مخالف لكتاب الله عز وجل وشرعه
__________
(1) أبو داود في كتاب العتق باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت رقم 3926 والحديث حسنه الألباني .(4/49)
الرابع عشر :قد اعترض على هذه العبارة بأن فيها إشكال واضح لا يتلائم مع مقام النبوة وذلك أن أمره لعائشة رضي الله عنها بأن تقبل ذلك الشرط مع أنه باطل ربما يقال أن فيه شيء من الخداع الذي يتنافى مع مقام النبوة
الخامس عشر : قد أُجيب عن هذا بأجوبة غير منتهضة .
وأقول الصواب في نظري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً : أباح لها أن تقبل هذا الشرط نظراً لأنه شرط باطل ووجوده كعدمه وثانياً : أنه لو أظهر لهم ذلك أولاً لمنعوا من العتق والعتق مقصود للشرع مرغب فيه والحث عليه كثير فلذلك أمر عائشة أن تقبل هذا الشرط مع أنه غير صحيح حتى يتم عتق بريرة وأخيراً يجب أن يعتقد كل مكلف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حق ولا يفعل إلا ما هو حق فلا يجوز أن يتطرق هذا الاحتمال إلى مقام النبوة أبداً ، وثالثاً :أن قبول عائشة رضي الله عنها لهذا الشرط ثم إظهار بطلانه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة أشد وقعاً حتى يعرفه كل من سمع ذلك أن مثل هذا الشرط باطل وبالله التوفيق .
السادس عشر : يؤخذ من فعله - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه بعد ذلك قام خطيباً وأعلن الحكم أن مثل هذه الأمور ينبغي إعلانها ليترتب على ذلك معرفة الناس بالأحكام الشرعية .
السابع عشر : يؤخذ من قولها فحمد الله وأثنى عليه أن الخطبة لا بد أن تبدأ بحمد الله والثناء عليه
الثامن عشر : الثناء على الله هو مدحه بما له من المحامد والكمالات التي لا تنبغي إلا له .
التاسع عشر : في قوله أما بعد يؤخذ منه مشروعية هذه الكلمة ليفصل بها بين مقدمة الخطبة والمقصود الذي يريد أن يدخل فيه .
العشرون :يؤخذ من قوله ما بال رجال يشترطون شروطاً أن من أنكر شيئاً من المناكر ينبغي له أن يُكني ولا يصرح وهو أن يقول ما بال أقوام يفعلون كذا ولا يقول ما بال فلان أو آل فلان يفعلون كذا .(4/50)
الحادي والعشرون : يؤخذ من قوله يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ربما قيل أين هذا الشرط من كتاب الله نقول إن الشرط في كتاب الله بإقامة العدل بين عباده في قوله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) [ النحل : 90 ]
الثاني والعشرون : أن هذه القصة داخلة في العدل بإعطاء الحقوق لمستحقيها ومن أعطى الورق ودفع المال وأعتق فهو المستحق للولاء ولا يجوز أن يأخذه غيره ممن لم يفعل شيئاً من ذلك
الثالث والعشرون :قوله كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل يؤخذ من هذا أن كل شرط لا يؤيده كتاب الله ودينه وشرعه فهو باطل وإن كان مائة شرط
الرابع والعشرون : يؤخذ من قوله وإن كان مائة شرط جواز المبالغة
الخامس والعشرون : يؤخذ من قوله قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق أنه يجوز السجع الذي يظهر به الحق ويكون غير متكلف
السادس والعشرون : أنه يجوز مكاتبة الأَمة المزوجة بمملوك مثلها .
السابع والعشرون : أن الأمة إذا عتقت تحت عبد خيرت بين البقاء تحته أو فسخ النكاح كما حصل لبريرة
الثامن والعشرون : أنها إذا اختارت نفسها خرجت من حكم الزوجية وانفسخ النكاح بينهما
التاسع والعشرون : أنها إذا اختارت زوجها ثم أرادت الفسخ لم تمكن منه
الثلاثون : أنها يجب أن تخير بذلك كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بريرة قبل التخيير .
[268]الحديث الثاني : عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه كان يسير على جمل فأعيى فأراد أن يسيبه فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي وضربه فسار سيراً لم يسر مثله ثم قال بعنيه بوقية قلت لا ثم قال بعنيه فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري فقال أتراني ماكستك لآخذ جملك ؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك .
موضوع الحديث :الشرط الجائز في البيع
المفردات(4/51)
أنه كان يسير على جمل فأعيى : المراد بالعي العجز والضعف عن أن يسير مع القافلة .
قوله فأراد أن يسيبه : أي يتركه
قال فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم - :في هذا إلتفات من ضمير الغيبة إلى ضمير التحدث عن النفس
قوله فدعا لي : من الدعوة التي هي الدعاء
وضربه : الضمير يعود على الجمل أي ضرب الجمل فسار سيراً لم يسر مثله : النفي هنا كأنه نفي لحصول سير يساوي سيره ذلك فيما سبق
قوله بعنيه :هذا طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعه منه
بوقية : الوقية هي أربعون درهماً
قلت لا ثم قال بعنيه فبعته بوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي : أي اشترطت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أتبلغ عليه إلى أهلي في المدينة فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الشرط .
فلما بلغت :أي وصلت إلى أهلي أتيته بالجمل أي تنفيذاً للاتفاق بيني وبينه
فنقدني ثمنه : أي أعطاني الأوقية التي بعته بها
ثم رجعت فأرسل في أثري :أي بعدي مباشرة ويحتمل أن يكون في إثري لكن الرواية الأولى لعلها هي الأصح والإثر والأثر متقاربان فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كأنه تتبع أثره فقال أتُراني بضم التاء أي تظنني وتحسبني
ماكستك :المماكسة هي المكالمة بالنقص من الثمن لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك تفضل عليه بإعطائه الجمل والدراهم .
المعنى الإجمالي(4/52)
بينما كان جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في غزوة من الغزوات يسير على جمل له فأعيى ذلك الجمل أي ظهر عليه العجز وعدم القدرة على السير مع القافلة فأراد صاحبه (جابر ) أن يسيبه أي يتركه لغلبة الظن على صاحبه أنه لا فائدة في بقائه معه فبينما هو كذلك لحقه النبي - صلى الله عليه وسلم - وضرب الجمل فسار سيراً لم يسر مثله وتلك معجزة من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ثم طلب منه أن يبيعه إياه فأبى أولاً ثم وافق بعد ذلك لكنه استثنى حُملانه إلى أهله في المدينة فوافق النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فلما بلغ أتاه بالجمل فأعطاه ثمنه فرجع وترك الجمل عنده وإذا به يرسل في أثره قائلاً أتُراني ماكستك لآخذ جملك أي ناقصتك في البيع لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ منه جواز التسييب للدابة التي لم يبق فيها فائدة وذلك بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم نهيه عن ذلك
ثانياً : لم يكن التسييب على ما كان يعتقده أهل الجاهلية في السائبة ولكن لغلبة الظن على أن الجمل لا يستفاد منه فيما بعد
ثالثاً : دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر رضي الله عنه يظهر أنه دعاء قصد منه النبي - صلى الله عليه وسلم - تطييب خاطره وجبر ما في نفسه من ذلك المأزق الذي كاد يقع فيه لولا ما يسره الله له من رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعطفه عليه .
رابعاً : في قوله وضربه فسار سيراً لم يسر مثله الضرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - تحول بركة في حق جابر وجمله فسار سيراً ما كان يسيره وهذه هي المعجزة الظاهرة .
خامساً : يؤخذ من قوله بعنيه بوقية أنه يجوز مبايعة من لم يعرض سلعته للبيع .
سادساً : قوله لا يحتمل أنه امتناع من البيع ويحتمل أنه امتناع من الثمن
سابعاً : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بعنيه مرة أخرى تأكيد من النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلب البيع .(4/53)
ثامناً : فيه دليل على جواز تكرار المبايعة لمن لم يعرض سلعته للبيع .
تاسعاً : في قوله فبعته الفاء هنا رابطة بين طلب البيع والموافقة عليه أو سببيه أي بسبب تكرير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعته وبأوقية كما طلب .
عاشراً : يؤخذ من قوله واستثنيت حملانه إلى أهلي جواز الاستثناء إذا كان معلوماً وهذا استثناء للمنفعة ولم يكن استثناء لبعض الشيء المبيع
الحادي عشر : أن هذا لا يتنافى مع حديث النهي عن الثنيا (1) فالثنيا المنهي عنها هي ما لم تكن معلومة بأن كانت عائمة في المبيع فمن قال بعتك هذا القطيع من الغنم واستثنيت واحدة منه فإنه لا يجوز ذلك إلا أن ينصص على الشاة المستثناه وإن استثنى منفعة فلا بد أن تكون تلك المنفعة معلومة بمقدارها وثمنها فالنهي إنما يكون عن ثنيا غير معلومة وإذا فلا تعارض .
__________
(1) الترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء في النهي عن الثنيا رقم 1290 والنسائي في كتاب البيوع في النهي عن الثنيا رقم 4633 وفي كتاب الأيمان والنذور باب ذكر الأحاديث المختلفة في كراء الأرض بالثلث والربع رقم 3880 وأبو داود في كتاب البيوع باب في المخابرة رقم 3405 والحديث صححه الألباني .(4/54)
الثاني عشر : أن هذا الاستثناء كان شرطاً في البيع وكان إنشاؤه مع إنشاء العقد ولم يتم العقد إلا به وقد أنكر بعض الفقهاء مثل هذا ولكن سلكوا في سبيل تخريجه والاعتذار عن وقوعه مسالك شتى مع العلم أن حديث جابر رضي الله عنه أقوى من حديث النهي عن بيع وشرط (1) وقد قال الصنعاني رحمه الله بعد ما ذكر بعض تلك المسالك التي سلكوها في الاعتذار عن هذا الحديث والأخذ به فقال ( وقوى الحافظ ابن حجر كونه وعداً حل محل الشرط كما نقله عن الإسماعيلي قلت والقول للصنعاني وهذا كله وفاءً بحق المذاهب وإلا فقوله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون معلوماً في حديث الثنيا واضح في صحة هذا الشرط وأمثاله ) أهـ فدل أن تلك التكلفات التي تكلفوها في زعمهم المعارضة من هذا الحديث لحديث النهي عن الثنيا أو لحديث النهي عن بيع وشرط والصواب أن النهي إنما هو عن الثنيا المجهولة والشرط الذي يتعارض مع البيع أو ينافيه ويضاده أما ما لم يكن كذلك فليس فيه معارضة له علماً بأن حديث جابر أصح من تلك الأحاديث التي عارضوا بها رحمنا الله وإياهم
__________
(1) قال صاحب تحفة الأحوذي قلت:حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ وَالْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ , حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ( أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ ), أَوْرَدَهُ فِي قِصَّةٍ . كَذَا فِي الدِّرَايَةِ لِلْحَافِظِ اِبْنِ حَجَرٍ . وَقَالَ الْحَافِظُ الزَّيْلَعِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ بِالْقِصَّةِ : قَالَ اِبْنُ الْقَطَّانِ وَعِلَّتُهُ ضَعْفُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَدِيثِ اِنْتَهَى . نقلاً من تحفة الأحوذي ص 433 –434 .(4/55)
الثالث عشر :يؤخذ من قوله أتراني ماكستك لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك يؤخذ من هذا تفضل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ومكارم خلقه وسخائه وكرمه الذي جعل الدنيا عنده لا تساوي شيئاً فصلوات الله وسلامه عليه القائل ( مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ) (1)
الرابع عشر : أن الاستثناء إنما يكون صحيحاً بشروط :-
الشرط الأول : أن يكون الاستثناء من عين المبيع معيناً كاستثناء شاة من قطيع الغنم واستثناء نخلة من نخيل البستان فهذا لا يصح إلا أن يكون المستثنى معروفاً
الشرط الثاني : أن يكون الاستثناء من منفعة المبيع معيناً أيضاً ومبيناً كاستثناء سكنى الدار مدة معلومة واستثناء ركوب الدابة أو السيارة إلى موضع معين .
الشرط الثالث : أن هذا الشرط لا يصح إلا إذا كان في ذات المبيع أو منفعته أما أن يكون الاستثناء في غير المبيع فهذا لا يجوز ويكون مما نهي عنه في حديث ( النهي عن بيع وشرط ) وبالله التوفيق
[269]الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في صحفتها .
موضوع الحديث:النهي عن بيوع لما فيها من الضرر على الفرد أو المجتمع وعن اشتراط المخطوبة طلاق الزوجة قبلها
المفردات
الحاضر : هو صاحب الحضر وهو الساكن في المدينة والقرية
والباد : هو ساكن البادية
ولا تناجشوا : تقدم تعريف النجش وأنه الزيادة في الثمن ليوقع فيه غيره
__________
(1) الترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في أخذ المال بحقه رقم 2377 وابن ماجة في كتاب الزهد باب مثل الدنيا رقم 4109 وأحمد رقم 4207 والحديث صححه الألباني .(4/56)
ولا يبع على بيع أخيه : قد تقدم أيضاً وهل المقصود به مجرد السوم أو النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه بعد تمام العقد
قوله ولا يخطب على خطبة أخيه : الخطبة بالكسر هو طلب النكاح وبالضم خطبة الجمعة هكذا قرر ابن دقيق العيد رحمه الله
قوله ولا تسأل المرأة طلاق أختها : أي تطلبه وتشترطه والمراد بأختها : هي أختها في الإسلام
لتكفئ ما في صحفتها : أي لتفرغ ما في صحفتها وتمنع عنها الرزق الذي ساقه الله لها
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الثلاثة البيوع المذكورة في هذا الحديث منعاً للغرر والخداع وحسماً لأسباب التباغض بين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويلتحق بذلك نهيه عن الخطبة على الخطبة ونهي المرأة أن تشترط على الخاطب طلاق زوجته الأولى لتكفأ ما في صحفتها من الرزق وتمنع عنها ما قد ساقه الله لها
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث النهي عن بيع الحاضر للباد والتناجش وبيع الرجل على بيع أخيه وهذه قد تقدم فقهها.
ثانياً : يؤخذ من قوله ولا يخطب على خطبة أخيه تحريم خطبة المسلم على خطبة أخيه وذلك بعد التراكن أي بعد أن يقبل الخاطب وتركن المخطوبة إليه ويركن إليها .
ثالثاً : خصوا النهي بهذه الحالة لما قد ورد مما يدل على جواز الخطبة على الخطبة قبل القبول فمن ذلك حديث فاطمة بنت قيس أنها لما انتهت من عدتها جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تستشيره فقالت إن أبا جهم ومعاوية خطباني فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ) (1) فإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت قيس على كون أبي جهم ومعاوية خطباها ولم تقبل واحداً منهما حتى تلك اللحظة وإقرار الخطبة على الخطبة دال على أن المنع يختص بمن قد قبل .
__________
(1) سبق تخريجه .(4/57)
أما لو أرسل هذا وأرسل هذا ولم يقبل أحد منهما فإنه لا مانع حينئذ من أن تقبل غير الخاطبين الأولين كما أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - على فاطمة بنت قيس بقوله ( ولكن أنكحي أسامة ) فدل على أن النهي مختص بمن قد قبل
رابعاً :أخذ من قوله ولا يخطب على خطبة أخيه أنه يجوز خطبة المسلم على خطبة الكافر نظراً لأن النهي إنما هو أن يخطب على خطبة أخيه المسلم والكافر ليس كذلك .
وأقول :أن الكافر ممنوع من تزوج المسلمة لقوله تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )[ النساء : 141 ] ولكن يتصور هذا فيما إذا خطب كتابي ومسلم كتابية.
خامساً :أخذ بعض الفقهاء من هذا النهي أنه لو خطب على خطبة أخيه المسلم لم يصح عقد النكاح وبه قال داود وعن مالك روايتان ذكرهما الصنعاني في العدة وذهب الجمهور إلى أن العقد لا يفسد ولا يفسخ وإن كان الخاطب على الخطبة عاصياً وهذا هو الحق إن شاء الله .
سادساً : ذكر الصنعاني أن هناك وجه للمالكية أن النهي في حق المتقاربين في الديانة أما إذا كان الخاطب الأول فاسقاً ولآخر صالحاً فلا يندرج تحت النهي أما مذهب الشافعي رحمه الله فهو صحة العقد وعدم فسخه .
سابعاً :قال الصنعاني أقول لأنه لا يسمى الفاسق للمؤمن أخاً فإنه تعالى قال ( إنما المؤمنون إخوة ) ومن فسق فليس بمؤمن وهذا يناسب رأي المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين .(4/58)
وأقول : الله سبحانه وتعالى قد أثبت الأخوة بين المسلمين المقتتلين فقال في سورة الحجرات حين ذكر اقتتال المؤمنين بعضهم مع بعض وأمر بالإصلاح بينهم فقال تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) [ الحجرات : 10 ] فأثبت الأخوة بين المتقاتلين وقد سمى ذلك في الحديث كفراً حين قال ( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ) (1) ولكن ذلك متأول بأنه من كفر النعمة وهو من الكفر دون كفر وكذلك هو يعتبر من الفسق ولا يخرج عن مسمى الإيمان إلا عند الخوارج والمعتزلة ومن يقول بقولهم ممن يكفر بالكبيرة وعلى هذا فإن الاخوة ثابتة بينهما أي بين الخاطب الأول والثاني ولكن النظر إلى المصلحة ربما يقال أن الفاسق يجب أن يطرد وأن يقدم الصالح فمثلاً من عرف بشرب الخمر إذا ألقيت المرأة في حجره أوقعها فيما هو فيه فينبغي أن تقدم هذه المصلحة . أقول ذلك برأي ولا أقصد مخالفة الحديث ولكن نظراً لجلب المصلحة للمرأة الضعيفة بإعطائها للرجل الصالح ودفعاً للمفسدة المتوقعة من تزويجها بالفاسق .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر رقم 48 وفي كتاب الأدب باب ما ينهى من السباب واللعن رقم 6044 وفي كتاب الفتن باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ترجعوا بعدي كفارا رقم 7076 ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سباب المسلم فسوق وقتاله كفر رقم 64 والترمذي في كتاب البر والصلة باب ما جاء في الشتم رقم 1983 وفي كتاب الإيمان باب ما جاء سباب المؤمن فسوق رقم 2635 والنسائي في كتاب تحريم الدم باب قتال المسلم رقم 4105- 4112 وابن ماجة في المقدمة باب في الإيمان رقم 69 وفي كتاب الفتن باب سباب المسلم فسوق وقتاله كفر رقم 3939 و3940و3941 وأحمد رقم 3647و3903و4126و4345 .(4/59)
ويؤيد ما قلته ما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ( إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ ) (1) لكن هل يدخل فيه المنع بعد الموافقة ؟ الجواب نعم نظراً للمصلحة وبالله التوفيق .
ثامناً : يؤخذ من قوله ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها أنه يحرم على المرأة المخطوبة أن تشترط على الخاطب طلاق زوجته القديمة لأنه ظلم لها ومنع لما قد ساقه الله إليها من الرزق
تاسعاً : إذا اشترطت المرأة هذا الشرط وقبله الزوج ثم امتنع بعد زواجه بالمرأة المشترطة فهل يُلزم بالوفاء بهذا الشرط أولا يُلزم ؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم والذي أعلمه أن الجمهور من العلماء يرون عدم لزوم هذا الشرط وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله وهي المشهورة في فقه الحنابلة أن الزوج إذا قبل ذلك لزمه إنفاذه لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ ) (2)
باب الربا والصرف
[
__________
(1) الترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه رقم 1084وابن ماجة في كتاب النكاح باب الأكفاء رقم 1967 وحسنه الألباني .
(2) البخاري في كتاب الشروط باب الشروط في المهر عند عقد النكاح رقم 2721وفي كتاب النكاح باب الشروط في النكاح رقم 5151 ومسلم في كتاب النكاح باب الوفاء بالشروط في النكاح رقم 1418والترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء في الشرط عند عقدة النكاح رقم 1127والنسائي في كتاب النكاح باب الشروط في النكاح رقم 3281 وأبو داود في كتاب النكاح باب في الرجل يشترط لها دارها رقم 2139 وابن ماجة في كتاب النكاح باب الشروط في النكاح رقم 1954 وأحمد رقم 16851و16911و16925 والدارمي في كتاب النكاح باب الشروط في النكاح رقم 2203 .(4/60)
270]الحديث الأول :عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذهب بالورق رباً إلا هاء وهاء والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء .
موضوع الحديث :تحريم الربا
المفردات
الربا :مأخوذ من ربى الشيء بمعنى زاد ومن ذلك قوله تعالى ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) [ فصلت : 39 ]
أما تعريف الربا شرعاً : فهو زيادة مخصوصة في شيء مخصوص دل عليه كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
والصرف : هو التحويل وهو أن تحول عملة إلى عملة أخرى أو بيع نقدٍ بنقدٍ آخر .
قوله الذهب بالورق : المراد بالورق هنا الفضة مطلقاً
رباً: أي محرم بيع بعضها ببعض وهو يعتبر من الربا الذي حرمه الله
إلا هاء وهاء : معنى هاء هاك أي خذ ويقول الآخر خذ ومحصل ذلك أنه إذا لم يحصل فيه التقابض في الحال دخل في الربا بكون أحدهما مقبوضاً والآخر مؤجلاً
قوله والبر بالبر رباً: البر جنس يدخل فيه أنواع . إلا هاء وهاء أي بأن يحصل التقابض بين البائعين في المجلس والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء هكذا هو أيضاً من بيع الجنس بجنسه والشعير جنس يدخل تحته أنواع إلا هاء وهاء أي هاك وهاك .
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذ الحديث أن الذهب لا يباع بالورق إلا إذا كان المبيعان حاضرين ويحصل بينهما التقابض في الحال وكذلك البر بالبر والشعير بالشعير وفي الجملة الأولى بيع جنس بآخر تشملهما علة واحدة وفي الجملتين الأخيرتين بيع بعض الجنس بجنسه وأن ذلك يكون رباً إلا إذا لم يحصل التقابض
فقه الحديث(4/61)
أولاً :يؤخذ من هذا الحديث تحريم بيع الذهب بالورق أحدهما حاضر والآخر مؤجل ومعلوم أن الذهب جنس والورق وهو الفضة جنس وأنه لا يجوز بيع أحدهما بآخر إلا أن يكونا حاضرين يتم التقابض فيهما في المجلس ومن هنا نعلم أن بيع الجنس بغير جنسه مما يشترك معه في العلة كالذهب بالورق حيث أن العلة فيهما واحدة وهي إما النقدية وإما الوزن وأن ما كان كذلك يجوز فيه التفاضل ويحرم النسأ فيجوز أن تبيع عشرة مثاقيل من الذهب بعشرين مثقالاً من الفضة فيكون أحدهما فاضلاً والآخر مفضولاً إلا أنه يحرم النسيئة في ذلك وهي التأجيل فتبين أن بيع الجنس بغير جنسه مما يشترك معه في العلة يجوز فيه التفاضل كما مثلنا ويحرم النسأ وهو التأجيل ومثل ذلك بيع البر بالشعير والتمر بالملح إذ أن العلة التي جمعت بين جنسين هي الكيل عند قوم أو ما يعبر عنه بالطعم عند قوم أو الادخار عند قوم فليعلم هذا .
ثانياً : يؤخذ من قوله والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء أن بيع الجنس بجنسه بأن يكون نوع منها بنوع آخر فهذا يحرم فيه شيئان التفاضل والنسأ كما سيأتي في حديث أبي سعيد وكما سيأتي في حديث أبي سعيد الآخر في قصة بلال ومن ذلك يتبين أن بيع الجنس بجنسه يحرم فيه شيئان يحرم فيه التفاضل وإن كان أحد النوعين فاضلاً والآخر مفضولاً كالبرني والجمع من التمر وكذلك بعض الأنواع ببعض من البر فلا يجوز بينهما التفاضل ولا يجوز فيهما النسأ ومثل ذلك الذهب إذا اختلفت أنواعه وهكذا كما سيأتي توضيحه أيضاً في الأحاديث التي بعد هذا وبالله التوفيق .
[271]الحديث الثاني : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز .(4/62)
وفي لفظ إلا يداً بيد . وفي لفظ إلا وزناً بوزن مثلاً بمثل سواء بسواء
موضوع الحديث :تحريم الربا وبيان بعض أنواعه
المفردات
تشفوا : أي تفضلوا وتزيدوا
غائباً بناجز :أي مؤجلاً بحال
قوله وفي لفظ إلا يداً بيد : هذا يراد منه التقابض يداً بيد أي أنا أقبض منك بيدي وأنت تقبض مني بيدك
وفي لفظ إلا وزناً بوزن مثلاً بمثل سواء بسواء : هذا كله تأكيد يقصد منه وجوب التساوي وتحريم التأجيل وهو التأخير عن التسليم في المجلس .
المعنى الإجمالي
في هذا الحديث التحذير من الزيادة في بيع الذهب بالذهب وكذلك الورق بالورق وأن يكون أحدهما غائباً والآخر حاضراً .
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث أولاً : تحريم التفاضل في بيع الجنس بجنسه والتأكيد على التساوي والتقابض وسيأتي مزيد بيان لما يتعلق بالحديث من المسائل الفقهية .
[272]الحديث الثالث : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جاء بلال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر برني فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - من أين هذا ؟ قال بلال كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به .
موضوع الحديث :تحريم ربا الفضل فيما إذا اتحد الجنس واختلف النوع
المفردات
قوله بتمر برني : نوع من أنواع التمر جيد
قوله كان عندنا تمر رديء وفي رواية جمع فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي - صلى الله عليه وسلم - : فسرت الرداءة بالرواية الأخرى وهو أن الجمع نوع رديء من التمر
قوله أوّه أوّه : قال الأمير الصنعاني قال أهل اللغة هي كلمة توجع وتحزن وهي بفتح الهمزة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة وفيها لغات هذه أصحها . قلت : هذه الكلمة تنطق عندنا بضم الواو ويقصد بها الاحتقار كأنه يقول لم تصنع شيئاً ولعلها تأتي بالمعنيين .(4/63)
قوله عين الربا : أي ما فعلته هو عين الربا الذي نهى الله عنه في القرآن وتوعد عليه بالنار والتكرار يراد به التأكيد والإفهام
قوله لا تفعل : هذا نهي عن الوقوع في مثل هذا ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به
المعنى الإجمالي
جاء بلال رضي الله عنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر جيد وما كان يعهده - صلى الله عليه وسلم - عندهم فسأل بلالاً عن مصدره فأخبره أنه باع صاعين من التمر الذي عندهم بصاع من هذا الجيد لكي يطعم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك التمر الجيد فأرشده - صلى الله عليه وسلم - إلى الطريقة التي يعملها حتى لا يقع في الربا وأنه يبيع ما عنده من التمر ثم يشتري بالثمن التمر الذي يريد .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم بيع الجنس بجنسه متفاضلاً فالرديء تمر والجيد تمر ولكن الجيد مرغوب فيه والرديء مزهود فيه فلا يمكن مبادلة بعضه ببعض متساوياً لأن النفوس تشح فصاحب التمر الجيد يشح بأن يبادل به في تمر رديء متساوياً فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً بأنه يبيع الرديء بثمن ثم يشتري بالثمن ما شاء وهذه هي الطريقة للتخلص من الوقوع في الربا واعلم أن الربويات تنحصر في ثلاثة أقسام وهي
القسم الأول : بيع الجنس بجنسه مع اتحاد النوع أو اختلافه وهذا يمثل له بحديثنا هذا وهو يحرم فيه التفاضل والنسأ فلا يجوز أن يباع الجنس بجنسه متفاضلاً حالاً ولا نسيئة
القسم الثاني : أن يختلف المبيعان في الجنس ويتحدا في العلة كالذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح وما أشبه ذلك فالذهب والفضة جنسان مختلفان في الجنس ومتحدان في العلة فيجوز أن تبيع كيلو من الذهب بأربعة كيلو من الفضة إذا كان قد حصل بين البائعين التقابض في المجلس .(4/64)
القسم الثالث :أن يختلف المبيعان في الجنس والعلة كالتمر بالورق أو بالذهب فهنا يجوز التفاضل ويجوز النسأ علماً بأن العلة في الذهب والفضة الوزن عند قوم والنقدية عند قوم آخرين والعلة في البر والشعير والتمر والملح هو الكيل عند قوم والاقتيات عند قوم آخرين والادخار عند قوم آخرين أيضاً وهنا حصل الاختلاف بين أهل العلم في القياس على المنصوص عليه فمن قال العلة في البر والشعير والتمر الكيل قاس ما كان مكيلاً ومن قال العلة الاقتيات قاس ما كان مقتاتاً كالذرة والدخن والأرز وما أشبه ذلك .
ومن قال أن العلة فيما ذكر هو الادخار ولو لم يكن مقتاتاً قاس عليه ما كان مدخراً كالسدر والحنّا والقشر وما إلى ذلك وللعلماء في هذه المسائل اختلاف كثير كما أن بعضهم يقتصر على ما ذكر في الحديث وهي الستة الأنواع الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح والبعض الآخر قاس بنوع من المشابهة كما عرفتم وأن كل قوم قاسوا بحسب ما رجحوه باجتهادهم أو متابعة إمامهم ومذهبهم وعلى هذا فإن ما اختلف فيه الجنس والعلة لا يدخل فيه الربا أصلاً كما سبق أن أشار الصنعاني رحمه الله إلى هذه المسألة واستدل عليها بعد أن استشكلها استدل على جواز النسيئة في بيع ما اختلف جنساً وعلة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير أخذها - صلى الله عليه وسلم - قوتاً لأهله فدل على أنه يجوز بيع ما اختلف في الجنس والعلة تفاضلاً ونسئاً ولا يدخل فيه الربا .(4/65)
ثانياً : يدخل تحت عموم هذا الحديث بيع الذهب بالذهب فإنه يحرم فيه التفاضل ويحرم فيه النسأ وما أكثر ما يقع الناس في هذا فتجد أن باعة الذهب يذهب الواحد منهم إلى الذين يبيعون الذهب بالكيلوات فيشتري منهم كمية كبيرة مثلاً بأربعة مليون ريال يدفع لهم منها مليونين ويؤخر مليونين إلى أن يبيع وقد صدرت فتوى في هذه المسالة بأنها حرام وأنها ربا ولكن قاتل الله الهوى كذلك أيضاً هذا الذي يشتري الكمية يأتي إلى مكانه فيأتيه الذي يريد الزواج فيعطيه عشرة آلاف مثلاً ويقول له أعطني ذهباً بخمسة وعشرين ألفاً أدفع لك العشرة الآلاف وأقسط لك خمسة عشر ألفاً وهذا أيضاً من الربا الواضح ومثل ذلك من يريد أن يبدل ذهب زوجته بذهب جديد واعتاد أصحاب الترف أنهم في نهاية كل سنة يغيرون الذهب فيذهب بالكمية التي معه ويعطيها بائع الذهب بقيمة أدنى ويشتري منه بقيمة أعلى ويحسم قيمة الذهب الملبوس ثم يكمل عليه وهذا كله محرم وأكثر الناس واقعون فيه إذ أن الكثير منهم لا ينظر إلى التحريم والتحليل وإنما ينظر إلى تمشية حاله فقط وأذكر أنه جرى حوار بيني وبين أحد المشائخ الخريجين من كلية الشريعة وأخبرت عن آخر أيضاً وهو خريج من كلية الشريعة يفعل ذلك فنهيتهم عن ذلك الأمر لأنه من الربا الواضح فلم يصدقوني فكتبت سؤالاً لهيئة كبار العلماء بواسطة رئيسهم في ذلك الزمن الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وذلك قبل ما يقارب عشرين سنة وذكرت فيه ما يقع فيه هؤلاء فأجابت هيئة كبار العلماء بأن هذا هو الربا المحرم وقد وزعت الفتوى في ذلك الوقت بعد أن صورت تلك الفتوى وزعت كثيراً منها على كثير من المساجد فنسأل الله للناس الهداية وإنه ليؤسف لهذا الأمر أن تجد ممن يتسمون بالعلم ويحملون الشهادة العليا في الشريعة يقعون في ذلك غير مبالين فإذا عذر العامة في الجهل بذلك على فرض وإلا فإنهم لا يعذرون ما دام أهل العلم عندهم فكيف يعذر الذين يحملون الشهادات العليا في(4/66)
ذلك إلا أنه قلة الاعتناء بالدين وعدم المبالاة وإنا لله وإنا إليه راجعون .
ثالثاً : أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى طريقة التخلص من الربا في قوله ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به فقوله ببيع آخر أي بيع لا يكون فيه ربا وهذا يدل على تحريم الحيل التي تتنافى مع الشرع أو يكون فيها شيء من الشبهة .
رابعاً : يؤخذ من الحديث أن التفاضل في الصفات لا اعتبار به في تجويز الزيادة فإذا كان التمر البرني تمر فاخر لما فيه من الصفات العالية لكن هذه الصفات لم تجوز زيادة الرديء على الجيد في الكم ليقابل جودة الجيد في الكيف فلقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على بلال كونه اشترى صاعاً بصاعين وقال له أوّه عين الربا عين الربا فهذا دليل واضح على أنه يجب على المسلم التحرز من الوقوع في المعاملات المحرمة ولا يتم ذلك إلا بمعرفة الشرع وما يحل فيه وما يحرم لذلك فقد أوجب الله على فئة من الناس غير معينة أن يتفقهوا في الدين ليكونوا مرجعاً لأقوامهم في التمييز بين الحلال والحرام وفي إرشادهم إلى ما يحل من تلك المعاملات وما يحرم وبالله التوفيق .
[273]الحديث الرابع : عن أبي المنهال قال سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكل واحد يقول هذا خير مني وكلاهما يقول نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق ديناً
موضوع الحديث : تحريم تأخير أحد النقدين في الصرف كأن يكون أحدهما حاضر والآخر غائب
المفردات
الصرف : هو التحويل أي تحويل النقد من شيء إلى شيء بأن يحول النقد الذي بيده إلى نقد آخر
الورق : هو الفضة
المعنى الإجمالي
في هذا الحديث الشريف نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يباع ذهب بورق ديناً أي بأن يكون أحدهما غائب عن المجلس والآخر حاضر فيه
فقه الحديث(4/67)
يؤخذ من هذا الحديث تحريم المداينة في الصرف بأن يكون أحدهما حاضراً والآخر غائباً فلا يجوز في الصرف إلا أن يكون يداً بيد ويجوز فيه التفاضل إذا كان التحويل من جنس إلى آخر أما إذا كان التحويل من وحدة إلى أخرى وكلاهما من جنس واحد مثلاً بأن يصرف الرجل من فئة المائة ريال إلى فئة العشرات والخمسات فلا يجوز في هذه الحالة أن يتأخر شيء من أحد النقدين فإذا كانا من جنس واحد حرم فيه التفاضل وحرم النسأ أما إذا كان من وحدة نقدية إلى وحدة نقدية أخرى كأن تحول النقود التي بيدك من ريالات سعودية إلى دولارات أو من دولارات إلى دنانير كويتية مثلاً أو ليرة لبنانية أو ريال يمني أو ما أشبه ذلك فكل وحدة من هذه الوحدات يجوز بيعها بوحدة أخرى متفاضلاً لكنه يحرم فيه النسأ أما إذا كانت الوحدة النقدية واحدة لكن يريد أن يصرف فئة إلى فئة أخرى ففي هذا الحالة يحرم التفاضل والنسأ لأن كل وحدة نقدية تعتبر جنساً على ما يراه فقهاء العصر حسب علمي فمثلاً نقول النقود السعودية تعتبر وحدة نقدية وكذلك الريال اليمني والدولار الأمريكي والجنيه الاسترليني والجنيه المصري والدينار الأردني وهكذا يقال فكل نقد دولة يُعد وحدة نقدية فيجوز بيعها بوحدة أخرى متفاضلةً ويجب التقابض في المجلس فإن كانت الوحدة واحدة ويريد البائع تحويلها من فئة إلى فئة أخرى حرم التفاضل والنسأ وقد جاء في الحديث (عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِاللَّهِ فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي فَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ وَعُمَرُ يَسْمَعُ ذَلِكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ ) (1)
__________
(1) البخاري في كتاب البيوع باب بيع الشعير بالشعير رقم 2174 ومسلم في كتاب المساقاة باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً رقم 1586 والترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء في الصرف رقم 1243وابن ماجة في كتاب التجارات باب صرف الذهب بالورق رقم 2260 ومالك في كتاب البيوع باب ما جاء في الصرف رقم 1333 .(4/68)
[274]الحديث الخامس : عن أبي بكرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا قال فسأله رجل فقال يداً بيد فقال هكذا سمعت
هذا الحديث قد تقدم شرحه في الأحاديث السابقة فلا داعي لإعادته هنا وبالله التوفيق .
باب الرهن وغيره
[275]الحديث الأول : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعاً من حديد .
موضوع الحديث : الرهن
المفردات
تعريف الرهن : لغة الثبوت والدوام أو حبس شيء في مقابل آخر .
وشرعاً : جعل المال وثيقة فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - درعه وثيقة في قيمة ثلاثين صاعاً من شعير .
قوله رهنه : أي جعله عنده رهناً في الثمن حتى يوفيه إياه .
درعاً من حديد : الوصف بقوله من حديد ليفهم أنه من دروع الحرب ذوات القيم العالية .
المعنى الإجمالي
صلوا ت الله وسلامه على نبينا محمد لقد كان مترفعاً عن الدنيا زاهداً فيها فكانت تأتيه الأموال إما من الجزية وإما من الغنائم وإما من الفئ فينفقها في حينه ورغم أنه كان قادراً على تأمين القوت لأهله إما من غلال الأرض وإما مما يأتيه من الأموال التي سبق ذكرها ومع ذلك فقد أنفق ما بيده جميعاً ولم يجد قوتاً لأهله إلا أنه اشترى لهم من يهودي ثلاثين صاعاً من شعير ورهن بها درعه وإن هذا ليدل دلالة عظيمة على تقلله من الدنيا وإنفاقه للأموال التي تأتيه - صلى الله عليه وسلم - ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - في السنة التاسعة والعاشرة حينما كثرت الأموال يجيز الوافدين كما هو معلوم لكل من استقرأ السيرة فلو طلب ثلاثين صاعاً من أصحابه لوجدها بالمجان ولكنه ترك ذلك كله واشترى من اليهودي ورهنه درعه صلوات الله وسلامه عليه .
فقه الحديث(4/69)
أولاً : يؤخذ منه مشروعية الرهن وقد دل على مشروعيته كتاب الله تعالى حيث يقول الله عز وجل ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) [ البقرة : 283 ] فهذه الآية دلت على جواز الرهن في السفر إذا لم يكن هناك ائتمان من بعض المتبايعين لبعض وقد دل على جوازه في الحضر هذا الحديث
ثانياً: يؤخذ منه جواز معاملة الكفار من غير استفصال عن أموالهم من أين دخلت ومعلوم أن أموال الكفار على العموم وبالأخص اليهود يجمعونها من الربا ومهر البغايا وبيع الخنزير وغير ذلك من المعاملات الفاسدة المحرمة وقد أباح الله عز وجل معاملة الكفار فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعاملون مع الكفار بيعاً وشراءً وأخذاً وعطاءً ولا يسألونهم من أين جاءتكم هذه الأموال وقد حصل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام هو وأصحابه بمكة ثلاث عشرة سنة يبايعون المشركين ويتعاملون معهم وعشر سنين في المدينة يبايعون اليهود ويتعاملون معهم ولا يسألون عن مصادر أموالهم وإن كان ذلك معلوماً ضرورة أن في كسبهم ما لا يحل .
ثالثاً:لعل بعض المتعنتين أو الجاهلين يقولون كيف نبايع اليهود والنصارى وكيف نبايع المشركين ونحن نعلم أن في معاملاتهم ما لا يحل لنا ؟ ونقول لهم إن الله حين أباح ذلك كان أرحم بعباده منكم ولو حرم الله عز وجل على المسلمين معاملة الكفار سواء كانوا أهل كتاب أو مشركين وثنيين أو ملحدين لا يؤمنون بدين لوقع عليهم الحرج والضرر إذ كان أغلب ما يستعملون من الآنية والثياب وغير ذلك كلها مما يجلبه الكفار ونحن الآن كذلك قد عشنا وعاش من قبلنا وهم يتعاملون مع الكفار من غير نكير من أحد من العلماء ومن أنكر ذلك ينكر عليه فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعامل معهم وهذا يكفي في الاستدلال على حله(4/70)
رابعاً: يؤخذ من هذا الحديث جواز البيع إلى أجل بأكثر من سعر يومه وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وخالف في ذلك الزيدية ومنعوا البيع بأكثر من سعر يومه استدلالاً بحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه حدث به ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ) (1) وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ( مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا ) (2) ولكن هذين الحديثين متأولين بتأويل يخرج به كل منهما عما قصدوه وقد تأول الحديث الأول الإمام الشافعي في الرسالة وقال حديث أسامة بن زيد إنما هو جواب على شيء معين وكأنه سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمّا يجوز البيع فيه يداً بيد ويحرم فيه النسأ فقال ( إنما الربا في النسيئة ) هكذا تأوله الشافعي رحمه الله والخطابي رحمه الله والجمهور بل كل العلماء على هذا التأويل لم يخرج عن ذلك إلا من شذ وأما حديث ( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ) فذلك كأن يفارقه من غير تعيين لأحد البيعين فمثلاً لو أعطى سلعة للمشتري وقال له إن أردت أن تأخذها نقداً فهي لك بثمانمائة (800) وإن أردتها نسيئة فهي لك بألف (1000) وذهب ولم يعين أحد البيعين ثم بعد أن مضت مدة قال أريدها نقداً ففي هذه الحالة لا يجوز أخذ الزيادة على أكثر من سعر يومه وهذا الحديث دليل على جواز الزيادة في البيع المؤجل لأن اليهود عرفوا بجشعهم وهلعهم على المال فهل يعقل أن ذلك اليهودي يعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين صاعاً بسعر يومها ويأخذ درعه فيها رهناً إلى أجل هذا لا يعقل أبداً .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أبو داود في كتاب البيوع باب فيمن باع بيعتين في بيعة رقم 3461 والحديث حسنه الألباني .(4/71)
والأمر الثاني : قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } [البقرة : 282 ] وقد وقع الإجماع على السلم وهو تقديم الثمن وتأخير السلعة وعكسه مثله وعليه الجمهور كما قلنا لكن لا بد من تحديد وقت الاستلام ومكانه وبالله التوفيق .
خامساً: يشترط في الرهن أن يكون مقابلاً للمال الذي جعل وثيقة فيه أو قريباً منه فإذا كان الدين خمسمائة ريال فلا يكون الرهن قيمته أقل من ذلك بكثير وثانياً : أن الرهن إن كان من المنقولات فينبغي أن يأخذه المرتهن لأن الله تعالى يقول ( فرهان مقبوضة ) أي يقبضها المرتهن وإن كان الرهان عقاراً أو شيئاً لا ينقل فلا بد أن يأخذ صكاً بذلك .
سادساً : إذا كان قد جعل الرهن في مقابل الدين فإن تعذر دفع الدين لصاحبه بيع الرهن بإشراف القاضي وأعطى صاحب الدين دينه ثم يعطيه الباقي وذلك يكون بواسطة أمين يتولى البيع ويقضي الدين ويرد الباقي إلى صاحبه . وبالله التوفيق .
[276]الحديث الثاني :عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مطل الغني ظلم فإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع .
موضوع الحديث: الحوالة
المفردات
المطل : منع قضاء ما استحق أداءه هكذا عرفه الفقهاء
الغني : هو القادر على أداء الدين وقد يكون الدين كثيراً فلا يقدر المُطالب على أداءه مع غناه
قوله ظلم :أي أنه حرام لأنه ظلم لصاحب الحق لكونه منعٌ للحق عن مستحقه .
اتبع : يعني جعل تابعاً لمن أحيل عليه .
مليء :المليء هو الغني الوفي .
قوله فليتبع :هذا أمر من الشارع - صلى الله عليه وسلم - وهل هو للوجوب أو للندب على خلاف بين أهل العلم
المعنى الإجمالي(4/72)
صلوات الله وسلامه على نبينا محمد الذي ما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه ولا ترك شراً إلا حذر الأمة منه فهاهو - صلى الله عليه وسلم - يخبر أن مطل الغني ظلم وهو تأخير أداء ما وجب ولكونه ظلم فإنه إذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع فقد يكون الذي يكون عليه الدين له دين على آخر وحينئذٍ فإذا أحال صاحب الدين على مليء يقدر على دفع دينه فينبغي له أن يتبع المحال عليه تعاوناً مع أخيه وإحساناً منه إليه . وبالله التوفيق .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث تحريم المطل للحق لمن هو قادر عليه أما من ليس بقادر فلا يسمى تأخيره مطلاً ولا يكون حراماً بل يجب إنضاره لقول الله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) [ البقرة : 280 ] وفي صحيح مسلم في قصة أبي اليسر رضي الله عنه وأنه كان له دين على رجل فجاء يتقاضاه حيث قال كَانَ لِي عَلَى فُلانِ ابْنِ فُلانٍ الْحَرَامِيِّ مَالٌ فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَسَلَّمْتُ فَقُلْتُ ثَمَّ هُوَ قَالُوا لا فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ فَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ أَبُوكَ قَالَ سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي فَقُلْتُ اخْرُجْ إِلَيَّ فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ فَخَرَجَ فَقُلْتُ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي قَالَ أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لا أَكْذِبُكَ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا قَالَ قُلْتُ آللَّهِ قَالَ اللَّهِ قُلْتُ آللَّهِ قَالَ اللَّهِ قُلْتُ آللَّهِ قَالَ اللَّهِ قَالَ فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ فَقَالَ إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي وَإِلا أَنْتَ فِي حِلٍّ)(1)
__________
(1) مسلم في كتاب الزهد والرقاق باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر رقم 3006 .(4/73)
فدل هذا الحديث على أن المعسر ينظر
ثانياً : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - مطل الغني ظلم . الظلم هو منع الحق عن مستحقه مع القدرة على أداءه وقد ذكر الصنعاني في العدة أن للعلماء خلاف في تفسيق الماطل هل يفسق بمرة واحدة أولا بد من التكرار لأن المطل إطالة المدافعة وقال قال النووي ومقتضى مذهبنا لا يشترط فيه التكرار لأن منع الحق بعد طلبه وانتفاء العذر عن أدائه يشبه المطل كثرة وإن تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - له ظلماً يشعر بأنه كبيرة والكبيرة لا يشترط فيها التكرار لكن لا يحكم عليه بذلك حتى يظهر عدم عذره لأنه قد يكون معذوراً في الباطن وحاصل هذه الجملة أنه لا يحكم بفسقه إلا بعد تبين عدم العذر .
ثالثاً : يؤخذ من قوله فإذا اتبع بضم الهمزة وإسكان التاء وكسر الباء أحدكم رفع لأنه نائب فاعل فليتبع مفتوح الياء ساكن التاء مفتوح الباء الموحدة أي فليقبل الإحالة .
رابعاً : اختلف العلماء في هذا الأمر هل هو للوجوب أو للندب فذهبت الظاهرية إلى وجوب ذلك على من أحيل على مليء أي وجوب قبول الحوالة وذهب الجمهور من الفقهاء إلى أنه أمر ندب لما فيه من الإحسان إلى المحيل لتحصيل مقصوده وهو تحويل الحق عنه والإحسان لا يجب فكان مندوباً .
خامساً : قال ابن دقيق العيد وفي الحديث إشعار بأن الأمر بقبول الحوالة على المليء معلل بكون مطل الغني ظلم ولعل السبب فيه أنه إذا تعين كونه ظلماً والظاهر من حال المسلم الاحتراز عنه فيكون ذلك سبباً للأمر بقبول الحوالة لحصول المقصود من غير ضرر ويحتمل أن يكون ذلك لأن المليء لا يتعذر استيفاء الحق منه عند الامتناع بل يأخذه الحاكم قهراً ويوفيه
سادساً : استدل باشتراط أن يكون المحال عليه مليئاً أنها إذا صحت الحوالة ثم تعذر القبض بحدوث حادث من فلس أو غيره لم يكن للمحال رجوع على المحيل لأنه لو كان له رجوع ما كان لاشتراط الغنى فائدة .(4/74)
وأقول : إن هذا القول يستلزم ضياع الحق والإضرار بصاحبه والذي يتبين أنه إذا تعذر استلام المحال به من المحال عليه جاز الرجوع إلى المحيل وإلا فإنه يلزم من ذلك الضرر على المحال وبالله التوفيق .
سابعاً : يشترط في الحوالة شروط أربعة هي :
الشرط الأول : تماثل الحقين لأنها تحويل للحق ونقل له فينقل على صفته ويعتبر تماثلهما في أمور ثلاثة هي الجنس والصفة والحلول أوالتأجيل
الشرط الثاني : أن تكون على دين مستقر
الشرط الثالث : أن تكون بمال معلوم
الشرط الرابع : أن يحيل برضاه أما المحال عليه لا يلزم رضاه .
[277]الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول من أدرك ماله بعينه عند رجل ـ أو إنسان ـ قد أفلس فهو أحق به من غيره .
موضوع الحديث : حكم من أدرك ماله بعينه عند مفلس ولم يكن قد أخذ من ثمنه شيئاً فإنه يستحقه دون سائر الغرماء
المفردات
قوله من أدرك ماله بعينه : أي بأن يكون هو عين المبيع لم يتغير بزيادة ولا نقص
قوله عند رجل قد أفلس : المفلس هو من صار إلى حالة لا يملك فيها فلساً فالهمزة في أفلس للسلب بأن كان قد حجر عليه لكثرة دينه وقلة ماله .
قوله فهو أحق به من غيره : أي يستحق أن يأخذه دون سواه من الغرماء ولكن بشروط
المعنى الإجمالي
من كثرت ديونه بحيث زادت على ماله أو ساوته فلم يبق له من ماله شيء فإنه يجب الحجر عليه ويباع ماله ويقضى به دينه وقد حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن من وجد ماله بعينه عند مفلس فهو أحق به إن توفرت الشروط
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن من كثرت ديونه حتى زادت عن ماله أو ساوته على الأقل فإنه يحجر عليه ويمنع من التصرف في ماله
ثانياً : هل يحجر عليه بطلب الغرماء أم بدون ذلك إذا علم والظاهر أن الحجر لا يكون إلا بمطالبة الغرماء(4/75)
ثالثاً : إذا حجر عليه ومنع من التصرف في ماله حسبت ديونه وقوّم ماله بحكم من القاضي وباستعانته بأهل الخبرة ثم بيع ماله وقضي به دينه
رابعاً : إن كان الدين أكثر من المال نسب المال إلى الدين فإن وجد المال نصف الدين أعطي كل واحد من أهل الدين نصف ماله وإن وجد ثلثيه أعطي كل واحد من أهل الدين ثلثا ماله وهكذا
خامساً : وحينئذ نتوصل إلى ما جاء في هذا الحديث وهو أنه إن وجد عنده مال لرجل باعه منه ثم وقع الحجر عليه ففي هذه المسألة يستحق صاحب المال ماله بشروط الشرط الأول : أن يدركه بعينه ولم يكن قد تغير بزيادة أو نقص الشرط الثاني : أن يدركه عنده ولم يكن قد انتقل إلى غيره الشرط الثالث : أن لا يكون قد قبض من ثمنه شيئاً الشرط الرابع : أن يكون في الفلَسَ دون الموت كما دل الدليل فلو فرضنا أن رجلاً حجر عليه لفلس وكان قد اشترى سيارة جديدة على سبيل الدين ووجدت السيارة عنده ولم يكن قد أعطى صاحب السيارة شيئاً فإن بائعها يستحقها حينئذ دون غيره ولا تباع ويكون البائع مع غيره أسوة الغرماء إلا في حالة أن يكون قد اقتضى البائع شيئاً من ثمنها أو وجدت بعد أن باعها من غيره أو وجدت وقد تغير فيها شيء على ما سيأتي بيانه(4/76)
سادساً : قد اختلف الفقهاء في هذه القضية وهي مسألة كون صاحب العين يأخذها وحده فذهب بعض الفقهاء إلى أنه يرجع إليه في الموت والفلس . قال ابن دقيق وهو مذهب الشافعي والثاني أنه لا يرجع إليه لا في الموت ولا في الفلس قال وهو مذهب أبي حنيفة والثالث يرجع إليه في الفلس دون الموت أما في الموت فإنه يكون أسوة الغرماء وهو مذهب مالك وقال الصنعاني في العدة وقد قال به أحمد يعني ابن حنبل واحتجا بما في مرسل مالك ( وَإِنْ مَاتَ الَّذِي ابْتَاعَهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ فِيهِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ) (1) وفرقوا بين الفلس والموت بأن الميت خربت ذمته فليس للغرماء محل يرجعون إليه والمسألة من معترك الأنضار والخلاف فيها جار من قديم الزمان وإلى الآن .
سابعاً : ذكر ابن دقيق العيد أن الرجل المدرك ماله هاهنا هو البائع دون غيره قال ويمكن أن يدخل تحته ما إذا أقرضه رجل مالاً وأفلس المقترض والمال باق فإن المقرض يرجع به وقد علله الفقهاء بالقياس على المبيع . وأقول : إن هذا القياس قياس أولوية فإذا كان البائع يرجع على عين ماله وهو انتقل منه بمقابل فإن المقرض من باب أولى لأنه محسن إلى من أقرضه وفي الإحسان يكون أولى بماله
ثامناً : قال ابن دقيق العيد لا بد في الحديث من إضمار أمور يحمل عليها وإن لم تذكر لفظاً مثل كون الثمن غير مقبوض ومثل كون السلعة موجودة عند المشتري دون غيره ومثل كون المال لا يفي بالديون
وأقول : إن هذه الشروط قد ذكر منها رواية في الحديث مثل كونه لم يقبض من الثمن شيئاً فإن قبض شيئاً كان في الباقي أسوة الغرماء ومثل كونه يستحق ذلك في الفلس دون الموت فإن انتقل بالموت كان ذلك أسوة الغرماء
تاسعاً : يستدل بالحديث على أن الديون المؤجلة تحل بالحجر
__________
(1) مالك في كتاب البيوع باب في ما جاء في إفلاس الغريم رقم 1382 وأبو داود في كتاب البيوع باب في الرجل يفلس فيجد متاعه بعينه عنده رقم 3520 والحديث صححه الألباني .(4/77)
عاشراً : قال الحكم في الحديث يتعلق بالفلس ولا يتناول غيره ومن أثبت من الفقهاء الرجوع بامتناع المشتري من التسليم مع اليسار أو هربه أو امتناع الوارث من التسليم بعد موته فإن ما يثبته بالقياس على الفلس . وأقول : قد تقدمت الإشارة إلى الخلاف بين الفقهاء هل الموت يلحق بالفلس أم لا ؟ وهذا راجع إلى تصحيح الأحاديث الواردة في الموضوع
الحادي عشر : قال ابن دقيق العيد شرط رجوع البائع بقاء العين في ملك المفلس فلو هلك لم يرجع
قلت : إذا هلكت لم يكن وجد متاعه بعينه فيكون الكلام عار عن الفائدة إلا أن يقصد بذلك انتقالها من ملك البائع بعتق أو وقف أو هبة وفي هذه الحالة لم يكن قد وجد متاعه بعينه عند المفلس لأن كلمة عند المفلس يتحقق بها كون ذلك المتاع باق في ملكه .
الثاني عشر : قال ابن دقيق العيد إذا تغير المبيع في صفته بحدوث عيب فأثبت الشافعي الرجوع إن شاء البائع من غير أرش يأخذه عن العيب وقال ابن دقيق العيد أقول في المنهاج واستدل بقياسه على تعيب المبيع في يد البائع فإن المشتري يخير بين أن يأخذه ناقصاً أو يترك وسواء كان النقص حسياً كسقوط بعض الأعضاء أو العمى أو غير حسي كنسيان الحرفة والإباق والتزويج أهـ .
[278]الحديث الرابع: عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال جعل ـ وفي لفظ قضى ـ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة .
موضوع الحديث : الشفعة وأنها إذا قسمت العقار المشتركة ووقعت حدودها وصرفت طرقها فلا شفعة بالشراكة
المفردات
قوله قضى : بمعنى حكم
الشفعة : هي مأخوذة من الشفع وهي بأن يضم الشفيع نصيب شريكه إلى نصيبه في البيع ويمنعه من أن يبيع لغيره
في كل ما لم يقسم : أي في كل شركة لم تدخلها القسمة
الحدود : جمع حد وهي الفواصل بين الممتلكات
صرفت الطرق : أي عدلت من مكان إلى مكان تبعاً للقسمة الجديدة
قوله فلا شفعة : أي لا شفعة بالشراكة(4/78)
المعنى الإجمالي
يخبر جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى وحكم بالشفعة في كل شراكة لم تقسم وكان من جملة قضاءه أنه إذا وقعت الحدود بين الشركاء وصرفت الطرق بينهم على القسمة الجديدة فلا شفعة بالشراكة .
فقه الحديث
المسألة الأولى : يؤخذ من هذا الحديث بأن الشفعة إنما تكون في كل شركة لم تقسم وأن الشراكة إذا قسمت وعدلت الطرق على حسبها فلا شفعة إذاً وقد أخذ بهذا الحديث جمهور العلماء من المحدثين والفقهاء فأجازوا الشفعة بالشراكة قبل القسمة ومنعوها بعدها كما منعوا الشفعة بالجوار وممن ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه رحمهم الله فنفوا الشفعة بالجوار وذهب آخرون إلى ثبوت الشفعة بالجوار وهم الحنفية
والقول بالشفعة بالجوار هو القول الحق إن شاء الله لما يأتي
أولاً : أن هذا الحديث خاص بالشفعة في الشركات ولم يتعرض للشفعة بالجوار وعلى هذا فيمكن أن نقول قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة بالشراكة
ثانياً : أن نفي شفعة الجار من هذا الحديث إنما هو بالمفهوم والقول بشفعة الجار هو حاصل بالمنطوق والمنطوق قد ورد من أحاديث وهي الحديث الأول : حديث ( الجار أحق بسقبه ) رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي رافع رضي الله عنه وقال الألباني رحمه الله صحيح
الحديث الثاني : ( الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً ) رواه أبو داود والترمذي عن جابر بن عبدالله وصححه الألباني رحمه الله في الإرواء(4/79)
الحديث الثالث : حديث الحسن عن سمرة مرفوعاً ( جار الدار أحق بالدار ) صححه الترمذي ولكن فيه سماع الحسن من سمرة وفيه اختلاف وصحح هذا الحديث الألباني في الإرواء وذكر له طريقاً آخر عن أنس واعتبرها الألباني معززة لرواية الحسن عن سمرة لكنه قال الحسن وقتادة كلاهما مدلس وقد عنعن ونقل عن الترمذي أنه قال في حديث الحسن عن سمرة حسن صحيح ثم قال قلت لعله يكون كذلك بمجموع الطريقين .
وأقول : إن هذه الأحاديث الثلاثة كلها صحيحة وحديث أبي رافع في البخاري والباقي صحيحة وهي صريحة في الحكم بشفعة الجار وبهذا تعلم أن القول بالشفعة للجار هو القول الصحيح .
الوجه الثالث : أن الراوي لحديث الصحيحين وهو جابر بن عبدالله رضي الله عنهما والذي استدل به على نفي شفعة الجار هو الذي روى الحديث في إثبات شفعة الجار في قوله ( الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إن كان طريقهما واحداً ) ومن هذه الثلاثة الأوجه يتبين لنا رجحان القول بشفعة الجار التي ذهب إليها أبو حنيفة وأحمد في رواية عنه وأن قول ابن دقيق العيد رحمه الله فمن قال بعدم ثبوت الشفعة تمسك بها يعني رواية إنما الشفعة فيما لم يقسم ومن خالفه يحتاج إلى إضمار قيد آخر يقتضي اشتراط أمر زائد
قلت : قوله اشتراط أمر زائد هو أن نقيد نفي الشفعة بالشراكة فإذا قيدنا نفي الشفعة في الحديث بالشراكة سلم لنا ما دلت عليه الأحاديث الأخرى من شفعة الجوار
وخلاصة ما سبق رجحان هذا القول لأمور
الأمر الأول : أن حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما مفهوم وتلك الأحاديث الثلاثة أو الأربعة إذا جعلنا حديث أنس حديث مستقل منطوقة والمنطوق مقدم على المفهوم
الأمر الثاني : أن حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في تخصيص الشفعة في الشراكة وانتهائها بالقسمة محتمل أن يكون المقصود به الشراكة فقط بإضمار في آخر الحديث حيث يقال فلا شفعة بالشراكة(4/80)
الأمر الثالث : أن تلك الأحاديث الثلاثة أو الأربعة وكلها بلغت إلى درجة الصحة فحديث أبي رافع وحديث جابر بن عبدالله كلاهما صحيح لذاته أما حديث الحسن عن سمرة وحديث سعيد الجريري عن قتادة عن أنس فيكون كل منهما صحيح لغيره أو حسن لغيره على الأقل وقد تبين بهذا رجحان القول بالشفعة للجار إذا كان يدخل عليه ضرر من دخول أجنبي لا يدري ما حاله وقد دل على ذلك قوله إذا كان طريقهما واحداً
المسألة الثانية : أخذ من قوله في كل ما لم يقسم أن الشفعة إنما تجوز فيما يقسم بدون ضرر على كل من الشركاء المقتسمين فإذا كان هناك حمام صغير لا يصلح للقسمة انتفت الشفعة فيه وبهذا قال الشافعي وأحمد رحمهما الله
المسألة الثالثة : ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الشفعة إنما تكون في الدور والعقارات الزراعية غير المنقولة أما المنقولات فلا شفعة فيها فإذا اشترك اثنان في سيارة ثم باع أحد الشريكين نصيبه من غير شريكه فهل له الشفعة في ذلك أم لا ؟ فعلى قول من يرى أن الشفعة في المنقولات جائزة ومشروعة جازت الشفعة وإلا فلا وهو قول الجمهور
المسألة الرابعة : أنهم خصصوا الشفعة فيما انتقل بعوض وهو البيع ومنعوها فيما انتقل بدون عوض كالهبة التي يراد بها وجه الله عز وجل وبالله التوفيق .
[279]الحديث الخامس : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال ( أصاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به ؟ فقال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال فتصدق بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث قال فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول فيه ) وفي لفظ غير متأثل
موضوع الحديث : الوقف
المفردات(4/81)
ما تعريف الوقف :تعريف الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة وهذا أحسن تعريف وأجمعه وقال الصنعاني حقيقة الوقف في الشرع حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ممنوع من التصرف في عينه وتصرف منافعه في البر تقرباً إلى الله عز وجل
قال أصاب عمر أرضاً بخيبر : خيبر بلد معروف بشمال المدينة
قوله فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها : أي يطلب أمره
لم أصب مالاً قط : قط نفي لما مضى وعكسه عوض
قوله هو أنفس عندي منه : أنفس من النفاسة وهي الجودة يقال شيء نفيس أي جيد وذكر الصنعاني أنه قيل له نفيس لأنه يأخذ بالنفس
فما تأمرني به : أي ماذا أصنع فيها
فقال إن شئت حبست أصلها : معنى حبست جعلت أصلها حبيساً أو محبساً توضيحه أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث أي أن أصلها باق على ملكية المصلحة التي جعلت عليها
قوله تصدقت بها : يعني بغلتها
قوله فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف : أي أن هذه الجهات يكون التحبيس عليها وتصرف ثمرتها التي تزيد عن حراثة الأرض ومساقاتها وتصرف على هذه الجهات
قوله لا جناح على من وليها : أي لا حرج ولا إثم على من وليها أن يأكل منها لكن بالمعروف أو يطعم صديقاً له غير متمول أي متخذ مالاً أو مكتسب مالاً .
المعنى الإجمالي
عندما أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الأرض النفيسه فكر ماذا يعمل فيها لينال رضى الله عز وجل متأثراً بقوله تعالى ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره بأن يحبس أصلها ويتصدق بغلتها لله عز وجل وقد شرط لها عمر شروطاً كما هو معروف في كتب الفقه والسير .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث مشروعية الوقف وقد قال بذلك فقهاء الإسلام ما عدا أبا حنيفة فإنه أنكر الوقف بسبب أنه لم يسمع فيه حديثاً .(4/82)
ثانياً :للوقف صيغ منها ما هو صريح ومنها ما هو غير صريح بحيث يعتبر كناية وهذه الألفاظ هي وقفت أو أوقفت وحبست وسبلت وحرمت وتصدقت وأبدت فالصريحة هي ثلاثة وقَّفت وحبست وسبلت والثلاثة الأخرى تعتبر من الكنايات لأن لها احتمال آخر .
ثالثاً : من قال في عقار له زراعياً كان أو سكنياً وقفت هذا فهو وقف لا يجوز بيعه ولا هبته ولا توريثه بل يبقى كما هو ويكون التوقيف بالفعل كأن يجعل داره مسجداً يؤذن فيه ويأذن للمصلين فيه
رابعاً: أنه يكون معيناً على الجهة التي عينه فيها سواء كانت هذه الجهة عامة في كل زمان كالفقراء أو خاصة كأن يقول أوقفت هذا على طلاب علم الحديث أو على تحفيظ القرآن الكريم أو ما أشبه ذلك
خامساً : أن ذلك المعين يبقى على ملك المصلحة التي أوقف عليها بحيث تصرف بعض غلته في إصلاحه وما زاد عن ذلك جعل على الجهة التي كان معيناً عليها
سادساً : يشترط في الجهة المعين عليها أن تكون جهة بر يحرص الشرع على تأمينها وإغناء أصحابها كالوقف على طلاب العلم أو على بناء المساجد أو على حفر الآبار ومد شبكة المياه إلى القرى المحتاجة إليها إلى غير ذلك .
سابعاً : لا يجوز الوقف على جهة يحرم الإنفاق عليها كبناء الأضرحة على القبور أو إسراجها أو غير ذلك من الشركيات أوالبدع
ثامناً : أن يكون المحبس عليه غير منقطع ( منقرض ) فإن حبس على منقطع ( منقرض ) ووصله بغيره أي غير منقطع ( منقرض ) صح كأن يقول أوقفت على بني أو على بني فلان فإن انقرضوا فإن وقفي يكون على الفقراء
تاسعاً : ذهب الجمهور من أهل العلم وهم الذين قالوا بصحة الوقف أنه لا يجوز بيعه أبداً وذهب أبو حنيفة إلى جواز بيعه لأنه لم يطلع على حديث عمر هذا ونقل الصنعاني عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة أنه كان يجيز بيع الوقف تبعاً لأبي حنيفة فلما بلغه حديث عمر هذا قال هذا لا يسع أحداً خلافه ولو بلغ أبا حنيفة لقال به ورجع عن رأيه .(4/83)
عاشراً : اختلف الفقهاء في جواز بيع الوقف إذا تعطلت منافعه أوضعفت فذهب مالك والشافعي إلى عدم جواز بيعه ولو تعطلت منافعه أو ضعفت وذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه إلى جواز بيعه إذا تعطلت منافعه أو ضعفت بشرط أن ينقله إلى مكان أحسن من الأول .
الحادي عشر : الوقف حكم إسلامي ولم يعرف عن أهل الجاهلية أنهم حبسوا نقل ذلك الصنعاني عن الشافعي فقال قال الشافعي ولم يحبس أهل الجاهلية فيما علمت دوراً ولا أرضاً وإنما حبس أهل الإسلام
وأقول إن أهل الجاهلية لم يكونوا يؤمنون بالبعث بعد الموت فيحبسوا من أجل الثواب فلذلك لم يعرف عنهم التحبيس
الثاني عشر : لا بد من الشرط في الناظر على الوقف أن يكون أميناً ولا يجوز أن يولى عليها أي على الأوقاف من لا ثقه فيه ولا أمانة عنده وقد كان عمر رضي الله عنه جعل وقفه إلى حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صار بعدها إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
الثالث عشر : أنه ينبغي أن يوضع للناظر على الوقف والناظر على مال اليتيم أن يوضع له شيء من قبل القاضي بحيث يساوي أجرة يومه أو نفقة يومه وقد يختلف ذلك باختلاف كثرة الأوقاف وقلتها
الرابع عشر : ينبغي أن يكون الناظر على مال اليتيم عنده شيء من التفقه في دين الله وإن لم يكن كذلك ذهب إلى العلماء وسألهم عن بعض التصرفات التي ربما تخفى على بعض الناس
الخامس عشر: هل يقال أن استحقاقه لما يغنيه من الوقف أو مال اليتيم يكون ذلك بشرط حاجته له وعدم غناه أم أنه يجوز له أن يأخذه ولو كان غنياً والله سبحانه وتعالى يقول (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) [ النساء : 6 ]
السادس عشر : ينبغي أن يحترز الناظر على الوقف من أن يدخل عليه شيء منه غير ما يجب له في قيامه عليه أو يعطيه لمن لا يستحقه فلا بد أن يعرف مواقع الاستحقاق فيه لقوله غير متأثل مالاً وبالله التوفيق .
[(4/84)
280]الحديث السادس :عن عمر رضي الله عنه قال حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه فظننت أنه يبيعه برخص فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه
وفي لفظ فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه .
موضوع الحديث : النهي عن شراء ما تصدق به العبد
المفردات
حملت على فرس في سبيل الله : الظاهر أن معنى حملت أي تصدقت بذلك الفرس على شخص معين ليحمل عليه في سبيل الله بأن يجاهد عليه والمراد بسبيل الله هنا جهاد الكفار
قوله فأضاعه : أي أهمله الذي كان عنده فلم يعتن به حتى ضعف
قوله فأردت أن أشتريه : أي أن عمر رضي الله عنه أراد شراءه ليكرمه حتى تعود له قوته .
فظننت أنه يبيعه برخص : أي بقيمة قليلة
فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم وظاهر النهي هنا نهي تحريم لقوله - صلى الله عليه وسلم - ولو أعطاكه بدرهم فإن العائد في هبته أي الراجع فيها والنادم عليها كالعائد في قيئه أي شبيه بمن يأكل قيئه ولا يفعل ذلك إلا الكلب
المعنى الإجمالي
حمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على فرس في سبيل الله بأن أعطى شخصاً ملكه إياه ليجاهد عليه في سبيل الله فأهمله المعطى وضعف الفرس فأراد عمر شراءه ظناً منه أنه يبيعه برخص فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهاه عن شراءه وقال فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث عدة مسائل
أولاً : في قوله حملت على فرس في سبيل الله يؤخذ من هذا جواز إعطاء الشخص فرساً يجاهد عليه في سبيل الله ويكون هذا الغرض هو المقصود من إعطائه وتمليكه إياه وهذا هو القول الراجح لأنه لو كان أوقفه لم يجز بيعه(4/85)
ثانياً : لعل بعض الفقهاء رأى أن الحمل في سبيل الله إيقاف لذلك الفرس على الجهاد ولكن هذا القول يتنافى مع كونه أراد أن يبيعه ولو كان وقفاً لم يجز بيعه
ثالثاً : لو قلنا أنه وقف لأخذ من ذلك جواز تحبيس المنقولات أو وقف الحيوان فأما تحبيس المنقولات فقد دل عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ قال رسول الله (وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) (1) وهذا ظاهر في تحبيس آلات الحرب
رابعاً : أخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر لما سأله قال لا تشتره ولا تعد في صدقتك أنه لا يجوز للمتصدق أن يشتري صدقته لأن من تصدق بها عليه سيراعيه في شرائها ببعض قيمتها مكافئة له على إعطائه إياها وربما كان ذلك عوداً في بعضها .
خامساً : هل النهي في قوله لا تشتره ولا تعد في صدقتك نهي تحريم أو نهي تنزيه وكراهة والظاهر أنه نهي تحريم لأنه اقترن بشيئين يدلان على التحريم الأول قوله وإن أعطاكه بدرهم والثاني قوله فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه
سادساً : يؤخذ من هذا تحريم العود في الهبة وإلى ذلك ذهب الجمهور فقالوا إن الواهب لا يجوز له أن يعود في هبته بل هي محرمة عليه وذهب أبو حنيفة إلى جواز العود في الهبة للأجنبي وهذا خلاف ما نصت عليه الأدلة
سابعاً : يقيد عدم جواز العود في الهبة بما إذا كان قد قبضها أما إذا كان قبل القبض فإنه يجوز
__________
(1) البخاري في كتاب الزكاة باب في قول الله تعالى ( وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله ) رقم 1468ومسلم في كتاب الزكاة باب تقديم الزكاة ومنعها رقم 983 والنسائي في كتاب الزكاة باب إعطاء السيد المال بغير اختيار المصدق رقم 2464وأبو داود في كتاب الزكاة باب في تعجيل الزكاة رقم 1623 وأحمد رقم 8267 .(4/86)
ثامناً : يستثنى من ذلك الوالد بما وهبه لولده لحديث ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ( قَالَ لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ ) (1)
تاسعاً : التشبيه بالكلب مقصود به التنفير وقد حصل التشبيه من ناحيتين من ناحية تشبيه الراجع بالكلب تنفيراً له عن ذلك وتشبيه المرجوع فيه بالقيء وهو أيضاً مقصود للتنفير وهذا يدل على أن النهي هنا للتحريم وليس للكراهة وقد أجاز أبو حنيفة رجوع الأجنبي في الهبة ومنع من رجوع الوالد في هبته لولده قال ابن دقيق العيد عكس مذهب الشافعي . وأقول بل هو عكس النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
عاشراً : يؤخذ من الحديث أن من شك في أمر يجب عليه أن يرجع إلى من يعلمون الشرع فيسألهم عن ذلك كما رجع عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا ينبغي للمسلم أن يتصرف في أمر لا يعلمه حتى يسأل عن حكمه
الحادي عشر: كل ما تقدم في الهبة التي يقصد بها الثواب من الله فإن كان مقصود الواهب أو المهدي الثواب من المهدى إليه فإنه يترتب على ذلك أمور هي :-
الأول : أنه لا ينبغي فعل ذلك لحملة العلم ومن يقتدى بهم لقوله سبحانه وتعالى (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) [ المدثر : 6 ] .
__________
(1) الترمذي في كتاب الولاء والهبة باب ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة رقم 2132 والنسائي في كتاب الهبة باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده رقم 3690 و3703 وأبو داود في كتاب البيوع باب الرجوع في الهبة رقم 3539 وأحمد برقم 4810 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 7655 وإرواء الغليل رقم 1623و1624 ج 6 ص 63-65 ) .(4/87)
الثاني : أن الواهب أو المهدي يستحق الثواب عنها فإن لم يحصل له الثواب جاز له الرجوع في هبته أو قيمتها وقد جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا وَهَبَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هِبَةً فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا قَالَ رضيت قَالَ لا قَالَ فَزَادَهُ قَالَ رضيت قَالَ لا قَالَ فَزَادَهُ قَالَ رضيت قَالَ نَعَمْ ) (1) فدل أن إرضاءه شرط .
الثالث : أنه ينبغي للمهدي إليه إذا عرف أن المهدي أو الواهب إنما أهدى أو وهب للثواب فإنه يجب عليه ألا يتصرف في تلك الهبة حتى يرضى الواهب
الرابع : ويترتب على ذلك جواز المنع من قبول الهدية أو الهبة إذا كانت للثواب وليس عند العبد ما يثيب به عليها وقد جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إِلا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ ) (2)
النوع الثالث : من الهدية أو الهبة أن تكون الهبة من الموظف لرئيسه فهذه الهدية أو الهبة سماها الشارع غلول وقد جاء في الحديث عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ ) (3) لأن من أهداها أو وهبها إنما يقصد بذلك محاباة الرئيس له بأن يتغاضى عنه في الغياب أو يتغاضى عنه فيما إذا حصل منه إخلال بالعمل
__________
(1) أحمد برقم 2687وابن حبان برقم 6384 والمعجم الكبير رقم 10897 .
(2) الترمذي في كتاب المناقب باب في ثقيف وبني حنيفة رقم 3945 و3946 والنسائي في كتاب العمرى باب في عطية المرأة بغير إذن زوجها رقم 3759 وأبو داود في كتاب البيوع باب في قبول الهدايا بنحوه رقم 3537 وأحمد رقم 7905 والحديث صححه الألباني .
(3) أحمد برقم 23999 . .(4/88)
النوع الرابع : نوع فيه خداع وكذب وهو أن يجعل لزوجته صكاً على الدار من أجل أن يستخرج به قرضاً من بنك التسليف فهذا إن جاء بلفظ الهبة فهو باطل لما يحتوي عليه من الكذب ولا يجوز أن يؤخذ إن مات المورث الواهب بمثل هذا الصك المكذوب
النوع الخامس : هبة ثواب العمل للمتوفى وهذا أيضاً لا يجوز سواء كان قراءة قرآن أو غير ذلك لا يجوز منه إلا ما خصه الدليل لأن الله سبحانه وتعالى يقول (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) [ النجم : 39 ] وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ) (1) ومن جهة أخرى فإن الذي وهب الثواب لم يملكه حتى يهبه وإنما يهب العبد ما يملكه والثواب أمر مخفي لا يدرى هل العامل استحقه أم لا ؟ وهذه المسألة قد بسطتها في رسالة سئلت فيها عن إهداء القرآن للميت وبالله التوفيق .
[281]الحديث السابع : عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال تصدق عليّ أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تُشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على صدقتي فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفعلت هذا بولدك كلهم ؟ قال لا قال اتقوا الله واعدلوا في أولادكم فرجع أبي فرد تلك الصدقة .
__________
(1) مسلم في كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته رقم 1631والترمذي في كتاب الأحكام باب في الوقف رقم 1376 والنسائي في كتاب الوصايا باب فضل الصدقة عن الميت رقم 3651 وأبو داود في كتاب الوصايا باب ما جاء في الصدقة عن الميت رقم 2880 وأحمد رقم 8831 والدارمي في كتاب المقدمة باب البلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليم السنن رقم 559 .(4/89)
وفي لفظ فلا تشهدني إذاً فإني لا أشهد على جور
وفي لفظ فأشهد على هذا غيري
موضوع الحديث :النهي عن تخصيص بعض الأولاد بالعطية
المفردات
قوله تصدق علي أبي ببعض ماله : أقول لفظ الصدقة هنا فيه تسامح في التعبير وإلا فإن المراد أنه وهبه موهبة بدليل قوله في بعض ألفاظ الحديث ( سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله فالتوى بها سنة ... ..) الحديث إذا فلفظ الصدقة فيه تسامح في التعبير بحيث أن الصدقة لا يراد عليها ثواب دنيوي والهبة كذلك فأشبهت الصدقة الهبة فعبر بها عنها
قوله فالتوى بها سنة : أي مطلها وتأخر عن إنفاذ ما طلبته منه
قوله ببعض ماله : قد ورد في بعض ألفاظ الحديث أنه وهبه مملوكاً . وفي رواية حديقة
فقالت أمي عمرة بنت رواحة : أقول هي أخت عبدالله بن رواحة الصحابي المشهور
قولها لا أرضى ... إلخ : أي أنها كانت تريد أن تثبت عطية ولدها أكثر بإشهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك
قال فانطلق أبي : أبوه هو بشير بن سعد الأنصاري الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ( قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ) فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستفهماً أفعلت هذا بولدك كلهم يعني هل أعطيتهم جميعاً قال لا قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم
قوله اتقوا الله أي اتقوا سخطه بإقامة العدل في أولادكم
اعدلوا : العدل ضد الجور
قال فرجع أبي فرد تلك الصدقة : بمعنى أنه لم ينفذها
قوله فلا تشهدني إذاً فإني لا أشهد على جور : امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشهادة على هذا دال على تحريم ما فعل ومثل ذلك قوله أشهد على هذا غيري
المعنى الإجمالي(4/90)
يخبر النعمان بن بشير بن سعد رضي الله عنهما أن أمه عمرة بنت رواحة طلبت من أبيه أن يهب لابنها هبة ذلك لأن بشير بن سعد كان له أولاد كبار غير النعمان من غير عمرة فخشيت عمرة على ولدها ما تخشاه الأم على الولد وطلبت من زوجها أن يهب له هبة حتى لو مات أبوه وهو قاصر تنفعه تلك الهبة فالتوى بها أي ماطلها سنة ثم وافقها على هذا الطلب متأثراً بإلحاحها فوهب للنعمان هبة خصه بها دون سائر ولده فأرادت أن تشد هبة ولدها وتقويها بإشهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأراد الله أن يشرع بذلك شرعاً يمنع مثل هذه الموهبة فذهب أبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طالباً أن يشهد على ذلك فقال له هل نحلت كل ولدك هكذا قال لا قال اذهب فأشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم التفضيل بين الأولاد بأن يعطي بعضهم دون بعض ومما يدل على أن النهي هنا للتحريم تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك جوراً في قوله فإني لا أشهد على جور
ثانياً : يؤخذ منه وجوب العدل بين الأولاد بالتسوية بينهم في الهبات والحكمة فيه أن التفضيل يؤدي إلى الإيحاش بأن يستوحش بعضهم من بعض فيؤدي ذلك إلى التباغض والتخاصم والتقاطع وكم قد رأينا من مثل ذلك ما أدى إلى التخاصم بين الأولاد وقطيعة بعضهم لبعض(4/91)
ثالثاً : قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتسوية بين الأولاد في العطية لكن اختلفوا هل التسوية بأن يجعل الذكر والأنثى سواء أو التسوية أن يعطي الذكر حظين والأنثى حظاً واحداً كالميراث ؟ فذهب بعضهم إلى أن التسوية والعدل أن يعطي للذكر حظين وللأنثى حظاً واحداً وإلى ذلك ذهب محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية معللين ومحتجين بأن ذلك هو حظ الأنثى لو بقيت هذه العطية إلى ما بعد موت المورث وذهب غيرهم إلى أن التسوية أن يعطي الذكر والأنثى سواء ولربما دل على صحة القول الأول ما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي بإسناد حسن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً ( سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء ) ونفهم من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا لو كنت مفضلاً أحداً عمّا قرره الله لهن لفضلت النساء فهذا يدل على أن التسوية تكون كالميراث
رابعاً : وما دمنا قد تعرضنا لذلك أي بأن التسوية تكون على ما قرره الله في الميراث فينبغي أن نشير إلى العلة التي جعل الله بها حظ الأنثى نصف حظ الرجل فإن أنصار المرأة الذين هم في الحقيقة أعدائها يدعون بأنها ظلمت وهم كذابون في ذلك إنما يريدون أن يتزلفوا إليها ليدفعوا بها إلى ما حرم الله عز وجل عليها من الاختلاط بالرجال ومشاركتهم فيما يخصهم من السياسة والتجارة وغير ذلك(4/92)
وأقول : قرر العلماء أن الله عز وجل حين أعطى للمرأة نصف ما للرجل أنه إنما فعل ذلك لأن الغالب في النساء أنها تكون مزوجة ومكفية فيكون مالها موفراً ومال الرجل يتعرض للنقص والذهاب فهو الذي يدفع المهر وهو الذي يؤمن لها السكن وهو الذي يؤمن لها الكسوة وهو الذي يؤمن لها النفقة وهو الذي يشارك في الجهاد في سبيل الله وهو الذي يستقبل الضيفان وقد تبين من ذلك بأن إعطاء الله لها النصف مما يعطى الرجل أنه عدل في حقها بل أن حظها سيكون موفراً وحظ الرجل هو الذي يتعرض للذهاب والنقصان فبتأمل هذه الأمور يُلقم دعاة تسوية المرأة بالرجل حجراً في أفواههم لأنهم لا يريدون بذلك إلا إتلافها وضياعها
خامساً : قال ابن دقيق العيد واختلف الفقهاء في التفضيل هل هو محرم أو مكروه فذهب بعضهم إلى أنه محرم لتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه جوراً وأمره بالرجوع فيه إلى أن قال ومذهب الشافعي ومالك أن هذا التفضيل مكروه لا غير .
وأقول : إن القول بتحريم التفضيل هو القول الصحيح الذي لا يجوز العدول عنه لأمور :-
الأول : تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - له جوراً والجور محرم لا شك فيه
الثاني : امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشهادة عليه
الثالث : قوله أتحب أن يكونوا لك في البر سواء قال نعم وهذا يدل على أنه كما أنه يجب أن يكونوا له في البر سواء فكذلك يجب عليه أن يسوي بينهم في الهبة
الرابع : قوله حين سأله أفعلت هذا بولدك كلهم قال لا قال اتقوا الله واعدلوا في أولادكم فدل على أن ترك العدل خلاف التقوى إذاً فالقول الصحيح أن التفضيل حرام لما ذكر ولما يؤدي إليه من القطيعة بين الأولاد فالمفضل عليه يشعر بأن أباه قد عمل في حقه شيئاً محرماً واقترف في ذلك ظلماً ومأثماً بكونه أعطى فلاناً ولم يعطني وبالله التوفيق .
[(4/93)
282]الحديث الثامن : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع
موضوع الحديث: جواز المزارعة والمساقاة بجزء من الثمرة في الزرع وبجزء من ثمرة الأشجار التي عليها المساقاة
المفردات
قوله عامل أهل خيبر : أي اتفق معهم على أن يعملوا في أرض خيبر بإصلاحها وزراعتها على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع
الشطر :هو النصف
الثمر : هو ثمر النخل غالباً
المعنى الإجمالي
أباح الله عز وجل لعباده أن يتعاونوا على البر والتقوى وينتفع بعضهم من بعض فهذا يكون عنده أراضي وليس عنده قدرة على زرعها فيعطي من ليس عنده أراضي ليزرعها على شطر ما خرج منها أو على حسب ما يتفقان عليه
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث جواز المزارعة بأن يكون لأحدهما أرض ويعطي من لا أرض له حتى يصلحها ويهيئها للزرع ثم يزرعها على بعض ما يخرج منها سواء كان المتفق عليه هو شطر الخارج أو ثلثه أو ربعه أو غير ذلك بحسب ما يتفقان عليه وقد اختلف أهل العلم في جواز هذه المعاملة فبعضهم أجازها وبعضهم منعها فذهب بعضهم إلى جواز هذه المعاملة وممن ذهب إلى ذلك وهو كراء الأرض بجزء مما يخرج منها مالك والثوري والليث بن سعد وأحمد والشافعي وجميع الفقهاء المحدثين وأهل الظاهر وجماهير العلماء كما قاله النووي في شرح مسلم والحافظ في فتح الباري وبه قال الجمهور أهـ من العدة للصنعاني بتصرف(4/94)
وذهب آخرون إلى عدم جواز هذه المعاملة وقرروا منعها وحكموا ببطلانها وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وزفر بل قرر أبو حنيفة وزفر أن المزارعة والمساقاة فاسدتان سواء جمعهما في عقد أو فرقهما ولو عقدتا فسختا زاعمين بأن هذه معاملة باطلة لأنها على أجر مجهول وذهب قوم إلى جواز المساقاة دون المزارعة أما المزارعة فإنها تجوز تبعاً للمساقاة على البياض المتخلل بين شجر النخل ثم اختلفوا فيما تجوز عليه المساقاة فقال داود تجوز على النخل خاصة وقال الشافعي تجوز على النخل والعنب وقال مالك تجوز على جميع الأشجار والمقصود به الأشجار التي لها ثمر كالزيتون والتفاح والبرتقال وغير ذلك
وأقول : إن القول بجواز إيجار الأرض بشطر ما يخرج منها من زرع والمساقاة على النخل وغيره ببعض ما يخرج منها من ثمر على حسب الاتفاق أن ذلك جائز للأدلة الصحيحة الصريحة أما ما ورد من النهي عن المخابرة والمزابنة فإنما المقصود به شيئان الأول : أن يشتري الثمر على رؤوس الشجر بثمر من جنسه يابساً(4/95)
والثاني : أن يعين أماكن الزرع ويجعل لنفسه شيئاً وللعامل شيئاً كما في حديث رافع بن خديج أما ما عدا ذلك وهو كونه يزرع الأرض على بعض ما يخرج منها فإن ذلك جائز للأدلة الصحيحة الصريحة وما اعتذر به الحنفيون عن الحديث فهو اعتذار في غير محله وكم لأصحاب أبي حنيفة من شطحات في التأويل وتعسفات لإبطال الدليل ومحاولات لتقديم رأي الإمام على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإمام الحق بالقال والقيل وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على التعصب الممقوت واعتذارهم عن الحديث حديث عبدالله ابن عمر هذا بأن اليهود كانوا مملوكين للنبي - صلى الله عليه وسلم - أقول هذا زعم باطل تخالفه الأدلة التي لا مطعن فيها ولا مرد لها كحديث القسامة (1) وإرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن رواحة كي يخرص عليهم (2)
__________
(1) حديث القسامة رواه البخاري في كتاب الجزية والموادعة باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال رقم 3173 وفي كتاب الأحكام باب كتب الحاكم إلى عماله والقاضي إلى أمنائه رقم 7192 ورواه مسلم في كتاب القسامة والمحاربين باب القسامة رقم 1669ورواه الترمذي في كتاب الديات باب ما جاء في القسامة رقم 1422 والنسائي في كتاب القسامة باب تبدئة أهل الدم في القسامة رقم 4710و4711 وأبو داود في كتاب الديات باب القتل بالقسامة رقم 4521 وابن ماجة في كتاب الديات باب القسامة رقم 2677 ومالك في كتاب القسامة باب تبدئة أهل الدم في القسامة رقم 1630و1631 وأحمد برقم 16189و16194 ..
(2) أبو داود في كتاب الزكاة باب متى يخرص التمر رقم 1606 ومالك في كتاب المساقاة باب ما جاء في المساقاة رقم 1413 وضعفه الألباني ..(4/96)
وحديث عبدالله بن عمر هذا هذه كلها أدلة واضحة تنفي ما قالوا وتدل على أن قولهم هذا إنما يحملهم عليه التعصب فإنا لله وإنا إليه راجعون والخلاصة أنه يجوز أن تؤجر الأرض بالذهب والفضة ويكون الأجر معلوماً من حين الاتفاق وتؤجر ببعض ما يخرج منها بأن يكون جزءاً شائعاً في الثمرة كالنصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك وكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاهدة بذلك وبالله التوفيق .
ويؤخذ من الحديث جواز التعامل مع أهل الكتاب سواء كانوا يهود أو نصارى في الزراعة أو غيرها وأن ذلك لا يكون من التولي للكفار والذي حرمه الله بقوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) [ الممتحنة : 13]
[283]الحديث التاسع : عن رافع بن خديج قال كنا أكثر الأنصار حقلاً وكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه ربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما بالورق فلم ينهنا
ـ ولمسلم عن حنظلة بن قيس قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ولم يكن للناس كراء إلا هذا ولذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به .
الماذيانات الأنهار الكبار والجدول النهر الصغير
موضوع الحديث :حول كراء الأرض للزراعة ما يجوز منه وما لا يجوز
المفردات
كنا أكثر الأنصار حقلاً : المراد بالحقل هو الزرع أو الأرض الصالحة له
وكنا نكري الأرض : بمعنى نؤجرها على من يصلحها بشيء من غلتها
على أن لنا هذه ولهم هذه : معنى ذلك أن أصحاب الحقول يشترطون شيئاً لأنفسهم وشيئاً لمن يزارع معهم(4/97)
قوله ربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه : بمعنى أن في ذلك مخاطرة ومغامرة لأنه قد يصلح هذا ويفسد ذاك وقد يفسد هذا ويصلح ذاك
قوله فأما بالورق : يعني بالدراهم فلم ينهنا
فالحديث الثاني يسجل هذا المعنى بصورة أوضح حيث بين أن كراء الأرض بالذهب والورق لم ينه عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما نهى عن مؤاجرة الأرض بشيء من ثمر الزرع حيث يشترط صاحب المال شيئاً معلوماً لقوله إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات والمقصود بالماذيانات مجاري الماء جمع ماذيانة وهو ما يسمى عندنا بالمسرب الذي يجري فيه الماء فربما أثمرت هذه وتخلفت هذه فيحصل الغبن لأحدهما وقد بين ذلك بقوله فيهلك هذا ويسلم هذا ولذلك زجر عنه
قال فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به
المعنى الإجمالي
شرع الله ضامن للمصلحة ودافع للمفسدة يبيح ما تضمن المصلحة ويمنع ما يؤدي إلى المفسدة ولما كان اشتراط مجاري الماء وأقبال الجداول وما أشبه ذلك فيه غبن على المزارع الأجير وقد يكون فيه غبن على الآخر لذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأباح ذلك بالذهب والفضة وبجزء شائع في الثمرة كالنصف والثلث والربع ومنعه بشيء معلوم كيلاً من جنسه أو غير جنسه لأن هذه هي المزابنة والمخابرة المنهي عنها
فقه الحديث
وردت في كراء الأرض أحاديث كثيرة جداً بعضها نهى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كراء الأرض بالكلية وبعضها يفيد جواز كرائها بالذهب والفضة وبعضها يجيز كرائها ببعض ما يخرج منها على أن يكون جزءاً شائعاً في الثمرة معلوم المقدار بالنسبة لما تخرجه الأرض وقد حملت هذه الأحاديث على ثلاثة أحوال :-(4/98)
الحال الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في أول الإسلام وبعد أن هاجر وكان المهاجرون بحاجة إلى الإعانة والعطف عليهم فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة والأنصار أصحاب الأراضي يكرونها فنهاهم عن ذلك وأمرهم أمراً لا عزيمة فيه بأن يمنحوها إخوانهم فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ لِرِجَالٍ فُضُولُ أَرَضِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ كَانَتْ لَهُ فَضْلُ أَرْضٍ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ ) (1) وبذلك جزم ابن عباس رضي الله عنهما وذلك حثاً منه صلوات الله وسلامه عليه على التعاطف والتباذل
الحالة الثانية : نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كراء الأرض على شيء معلوم من الزرع بحيث يشترط صاحب الأرض أن يكون له هذا المكان وللآخر ذلك المكان فيصلح هذا ويخيب هذا فنهى عن ذلك لأنه شيء مجهول
__________
(1) البخاري في كتاب الهبة باب فضل المنيحة رقم 2632 ومسلم في كتاب البيوع باب كراء الأرض رقم 1536 وأحمد برقم 2598 .(4/99)
الحالة الثالثة :النهي عن كراء الأرض بطعام من جنس ما يزرع فيها بأن يكون ذلك الطعام معلوماً مضموناً وكذلك لو كان الطعام من غير جنس ما يزرع فيها فإنه يؤدي إلى بيع شيء مجهول بمعلوم وحاضر بغائب أما إذا كانت المزارعة على سبيل الكراء بالذهب والفضة وبالسنة بأن يكون له في السنة كذا فهذا جائز لا شيء فيه وكذلك لو أجرها بشيء غير الذهب والفضة ولم يكن مكيلاً حتى ولو كان من غير جنسه لأنه يؤدي إلى بيع جنس بغير جنسه أحدهما حاضر والآخر نسيئة وذلك نوع من أنواع الربا وأما إذا كان الشيء المشترط للأجير أو لصاحب الأرض معلوماً شائعاً في الثمر كالنصف والثلث والربع فهذا جائز على القول الصحيح ويشهد له الحديث السابق وهو حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ) وقد اختلفت مذاهب الناس في هذه المعاملة على أقوال حكاها الصنعاني في العدة فالأول :هو قول طاووس والحسن البصري لا يجوز بحال سواء أكراها بطعام أو ذهب أو ورق أو جزء من زرعها لإطلاق أحاديث النهي عن كراء الأرض الثاني : قول أبي حنيفة والشافعي وكثير يجوز إجارتها بالذهب والفضة والطعام والثياب وسائر الأشياء سواء كان من جنس ما يزرع فيها أم لا ولا يجوز إجارتها بجزء مما يخرج منها كالثلث والربع وهي المخابرة . الثالث : قول ربيعة يجوز في الذهب والفضة فقط ومثله قال مالك وبغير النقدين إلا الطعام . الرابع:قول أحمد وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وجماعة من المالكية وآخرين يجوز إجارتها بكل شيء وبالثلث والربع وتقدم أنه الذي اختاره النووي وكذلك الخطابي وغيرهم . وأقول : هناك اختلاف في مذهب أبي حنيفة خلاصته أنه منع المزارعة والمساقات بجزء مما تخرجه الأرض ولو كان معلوماً شائعاً في الثمرة وهذا مصادم للنصوص وأجازه فيما سوى ذلك فليعلم هذا وبالله التوفيق .
[(4/100)
284]الحديث العاشر :عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى لمن وهبت له .
وفي لفظ من أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث
وقال جابر ( إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول هي لك ولعقبك فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها )
وفي لفظ مسلم ( أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبه )
موضوع الحديث :العمرى والرقبى وحكمهما
المفردات
العمرى : مشتقة من العمر وهي إباحة المنافع للمعمر مدة عمره
والرقبى : هي أن يعطيه حتى يموت الأسبق منهما فيظل كل منهما يراقب موت الآخر
العمرى : هي العطية مدة العمر كما قلنا
قوله ولعقبه : أي ورثته
قوله التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي جعلها نافذة لمن أعطيها
قوله هي لك ما عشت : أي ما بقيت حياً
قوله ولا تفسدوها : أي بالهبات التي تفوت عليكم أموالكم
المعنى الإجمالي
يخبر جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالعمرى لمن وهبت له أي حكم بها لمن وهبت له وهذا اللفظ يحتمل أنه مقيد وأن قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - نافذ بالقيد بأن يقول هي لك مدة حياتك ولعقبك ويحتمل أن كل عمرى فإنها تكون لمن أعمرها ولورثته وسيأتي التفصيل في فقه الحديث
فقه الحديث
أولاً : أن لفظ العمرى والرقبى يدخل فيه حالات ثلاث
الحالة الأولى : أن يقول له هذه الدار أو القطعة الزراعية أو ما أشبه ذلك لك عمرك ولعقبك من بعدك وهذه الصيغة متفق على أنها تكون لمن أعمرها ولا تعود إلى المعمر
الحالة الثانية : أن يقول له هي لك ما عشت فإن مت رجعت إليّ وهذه الأظهر فيها أنها تمليك للمنافع في مدة محدودة تنتهي بموت المعمر واشتراطه رجوعها يجعلها عارية تعود إلى صاحبها إن مات المعمر(4/101)
الحالة الثالثة : حالة الإطلاق وهذه الحالة هي التي فيها الإشكال هل تكون إلى صاحبها أو أنها تكون للمعمر ولعقبه مثل الأولى وهو أن يقول هذه الدار لك ما عشت ولا يشترط الرجوع ولا يجعلها نافذة للعقب والذي يتبين أن الحكم في الصيغة الأولى أنها تكون للمعمر ولعقبه لما جاء من التقييد عن الراوي نفسه وهو جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ولأن قوله فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث وكذلك في الرواية الثالثة إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول هي لك ولعقبك فتبين من هذا أن النافذة هي ما قيدت بقوله هي لك ولعقبك وقوله لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث أي أن هذا المعمر قال هي لك ولعقبك فكأن الرجوع في هذه الهبة محرم لأنها هبة صريحة لم تقتصر على المعمر ولكن تعدته إلى عقبه وهي داخلة تحت قوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ) (1)
__________
(1) البخاري في كتاب الهبة باب هبة الرجل لامرأته رقم 2589و2623 وفي كتاب الجهاد والسير باب إذا حمل على فرس فرآها تباع رقم 3003 وفي كتاب الحيل باب في الهبة والشفعة رقم 6975 وكتاب الزكاة باب هل يشتري الرجل صدقته رقم 1490و2132 ومسلم في كتاب الهبات باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة رقم 1622والترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء في الرجوع في الهبة رقم 1298وفي كتاب الولاء والهبة باب ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة رقم 2131و2132 والنسائي في كتاب الهبة باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده رقم 3689 ،3710 ) وفي كتاب الزكاة باب شراء الصدقة رقم 2615 وأبو داود في كتاب البيوع باب الرجوع في الهبة رقم 3538 ،3540 وابن ماجة في كتاب الأحكام باب الرجوع في الهبة رقم 2384 ..(4/102)
أما الحكم في الحالة الثانية وهي أن يقول هي لك ما عشت فإن مت رجعت إليَّ وأعني بذلك اشتراط المعمر رجوع هذه العمرى إلى صاحبها والأظهر أن هذه عارية موقتة بموت المعمر وأنها ترجع إلى صاحبها متى مات المعمر سواء كان المعمر حياً أو قد توفي فتعود إلى ورثته فهذه كما قلت عارية وهو القول الصحيح .
الحالة الثالثة : أن يقول هي لك ما عشت ولا يشترط الرجوع ولا يدخل فيها كون العطية مستمرة للعقب فهذه فيها خلاف وقد ذكر الصنعاني في العدة بأن عدم رجوع هذه المطلقة إلى واهبها هو مذهب الشافعي في الجديد والجمهور وقال في القديم العقد باطل من أصله والذي يظهر لي أنها ترجع إلى المعمر
أولاً لعدم الشرط فيها وعدم الشرط دال على عدم الاستمرار للعقب .(4/103)
وثانياً : أن أموال الغير الأصل فيها التحريم قال الله عز وجل ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم النحر ( ألا إن دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت ... ) (1)
وثالثاً : أن التي أنفذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر بذلك الراوي هي ما كانت مقيدة بالعقب وما لم يكن كذلك فالأولى بقاءها لصاحبها لأنه ليس هناك قرينة تدل على نفاذ هذه الهبة كما دلت عليه في الحالة الأولى رابعاً : أن الملك متيقن للمعمر وإعطائه المنفعة للغير لا ينقل ملك الرقبة عن أصلها بل تبقى الرقبة في ملكه حتى ينقلها ناقل صحيح .
[
__________
(1) البخاري في كتاب العلم باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - رب مبلغ وليبلغ الشاهد الغائب رقم 67و105 وفي كتاب الحج باب الخطبة أيام منى رقم 1739و1742 وفي كتاب المغازي باب حجة الوداع رقم 4406وفي كتاب الأضاحي باب من قال الأضحى يوم النحر رقم 5550وفي كتاب الأدب باب قوله تعالى لا يسخر قوم من قوم رقم 6043وفي كتاب الحدود باب ظهر المؤمن حمى إلا في حد أو حق رقم 6785وفي كتاب الفتن باب قول - صلى الله عليه وسلم - لاترجعوا بعدي كفاراً رقم 7078وفي كتاب التوحيد باب قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة رقم 7447 ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال رقم 1679 والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة التوبة رقم 3087 وفي كتاب الفتن باب ما جاء دماؤكم وأموالكم عليكم حرام رقم 2159 وابن ماجة في كتاب المناسك باب الخطبة يوم النحر رقم 3055 والدارمي في كتاب المناسك باب في الخطبة يوم النحر رقم 1916.(4/104)
285]الحديث الحادي عشر : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ثم يقول أبو هريرة مالي أراكم عنها معرضين ؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم
موضوع الحديث حكم غرز الجار خشبه في جدار جاره وأنه يجب على الجار أن يأذن لجاره
المفردات
لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبةً أو خشبه في جداره :أن وما دخلت عليه في تأويل المصدر مجرور بمن مقدرة أي لا يمنعن جار جاره من غرز خشبه في جداره
المعنى الإجمالي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الجار أن يتعاون مع جاره ويأذن له بغرز خشبه في جداره
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث أن الواجب على الجار أن يأذن لجاره في غرز خشبه وأن ذلك من حقوق الجار على جاره لكن يبقى معنا شيء آخر وهو أنه إذا غرز الجار خشبه في جدار جاره صار خطراً على جدار الجار الآذن فإنه في هذه الحالة ينبغي له أن يدعم خشبه باسطوان يجعله تحت الخشبة دفعاً للضرر عن جاره لأن الشرع أمر بذلك لينتفع الجار صاحب الخشبة أو الخشب وإذا كان انتفاعه يجلب ضرراً على أخيه فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن يدعم خشبه بأسطوانٍ حتى لا يكون انتفاعه جالباً للضرر على أخيه وبالله التوفيق
[286]الحديث الثاني عشر :عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين .
موضوع الحديث : الترهيب من الظلم في الأرض
المفردات
من ظلم : الظلم هو أخذ مال الغير إما لنفسه أو لشخص آخر وتعريفه هو وضع الشيء في غير موضعه حتى أن العبادة لغير الله عز وجل وهي الشرك به سميت ظلماً لأنها وضعت في غير موضعها ومن ذلك قوله عز وجل حكاية عن لقمان عليه السلام ( يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )(4/105)
قيد شبر : أي قدر شبر أو مساحة شبر والشبر ما بين طرف الإبهام وطرف الخنصر من اليد الواحدة إذا وضعت مبسوطة والقيد بالكسر أي بكسر القاف وإسكان الباء المثناة بعدها دال وهو القدر
طوقه : أي حُمِّله يوم القيامة من سبع أرضين
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من أخذ شبراً من الأرض ظلماً حُمَّل به يوم القيامة وطوقه وكلفه أي كلف حمله من سبع أرضين
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من قوله من ظلم أن هذه العقوبة لا تكون إلا على من ظلم متعمداً أما من حصل له هذا الشيء عن خطأ ظناً منه أن هذا ماله أو تابعاً لماله فنرجوا أن لا يكون كذلك
ثانياً : يؤخذ من قوله قيد شبر أي قدر شبر وهو أدنى مقدار في مساحات الأرض ويمكن أن يكون الفوت الذي هو طول القدم بمقدار الشبر أو قريباً منه أما الذراع فذراع كل واحد شبرين بيده ثم الباع وهو المسافة بين طرف اليد اليمنى واليد اليسرى إذا مدهما الرجل والناس يتعاملون ويتخاطبون بهذه المقادير سواء كان في ذرعة الأرض أو ذرعة الأشياء المذروعة من الثياب وغيرها هذا هو المعروف في الأزمنة المتقدمة والآن التعامل أصبح بالمتر والمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أدنى ما كان معروفاً في تلك الأزمنة محذراً من الوقوع في ظلم الأرض ومرهباً من ذلك
ثالثاً : اختلف في معنى طوقه على أقوال ذكرها الأمير الصنعاني في العدة وهي أولها : أن تكون طوقاً في عنقه كالغل قلت وهذا التأويل مأخوذ من لفظ طوقه لذلك فلعله هو الأقرب ثانيها : أنه يلزمه إثم ذلك كلزوم الطوق وهذا التأويل فيه بعد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار أنه يطوق بالأرض نفسها لا بإثمها ثالثها : يحمل مثله من سبع أرضين رابعها : يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه خامسها : يكلف نقل ما ظلم منها يوم القيامة إلى المحشر(4/106)
وأقول : نؤمن بأن الله عز وجل يعاقب من فعل ذلك بتطويقه الأرض التي غصبها كيف شاء الله وعلى أي وجه شاء فهو القادر على ذلك
رابعاً: يؤخذ من هذا الحديث أن من ملك وجه الأرض ملك ما تحتها وما فوقها فإذا كان في الأرض معدناً فملك ذلك المعدن تابعاً لمالك الأرض
خامساً : يؤخذ منه أن السبع الأرضين متصل بعضها ببعض وليست كالسموات منفصلة
سادساً : يؤخذ منه أنها لو كانت منفصلة لما كلف وطوق بها من سبع أرضين أما قوله سبحانه وتعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ... ) [ الطلاق : 12] فالمراد بالمثلية في هذه الآية المماثلة في العدد وهذه من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل وعلى العبد أن يقف عند حدود علمه وعقله ولا يتجاوز ذلك وبالله التوفيق
باب اللقطة
[287]الحديث الأول: عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال ( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لقطة الذهب أو الورق ؟ فقال :اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرِّفها سنة . فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأّدها إليه وسأله عن ضالة الإبل ؟ فقال : مالك ولها ؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها وسأله عن الشاة ؟ فقال خذها : فإنما هي لك أو لأخيك أو الذئب ).
موضوع الحديث : أحكام اللقطات والضوال
المفردات
اللقطة : هي ما يلتقط مما له قيمة كالذهب والفضة وغيرهما مما يلتقط باليد
قوله اعرف وكاءها : الوكاء هو ما توكى به وهو الرباط الذي يكون على فمها
عفاصها : العفاص هو الوعاء الذي تجعل فيه النفقة ثم يربط عليها والأمر بمعرفة ذلك ليكون وسيلة إلى معرفة هذه اللقطة إذا عرفها الملتقط
عرفها سنة : بأن تقول من له ضالة ولا ينبغي أن تشير إلى بعض صفاتها بل تقول من له ضالة ولا تذكر شيئاً آخر ربما تذرع به مدعيها فلبَّس عليك الأمر(4/107)
قوله عرفها سنة : السنة إما أن تكون بالأشهر وإما أن تكون بالفصول فالفصول أربعة والأشهر اثني عشر
استنفقها : بمعنى أنك أنفقها بعد كمال الحول في حاجاتك وشئونك واحتفظ بوسائل التعريف لقوله ولتكن وديعة عندك
قوله ما لك ولها : يعني اتركها وقد أوضح ذلك بقوله دعها فإن معها حذاءها وسقاءها يعني أنها مستغنية عمّن يحفظها فهي تمتنع بنفسها وتتحمل العطش وتأكل الشجر
فوله حتى يجدها ربها : أي صاحبها
وقال في الشاة إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب وهذا حث على إلتقاطها
المعنى الإجمالي
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الملتقط للذهب والورق وما في معناهما أن يعرف وكاء اللقطة وعفاصها ثم يرفعها ويعرفها سنة فمتى وجد من عرفها أداها إليه أما ضالة الإبل فإنه قد نهاه عن إيوائها إليه وأما الشاة فإنه أمره بأخذها وقال هي لك أو لأخيك أو للذئب
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث وجوب معرفة صفة اللقطة وما يتعلق بها من وكاء ووعاء وعدد وأمثال ذلك ويظهر من قوله اعرف وكاءها وعفاصها أن الأمر هنا أمر إيجاب للاهتمام بها ومعرفة ما يتعلق بها
ثانياً : أنه يجب عليه أن يعرفها سنة كاملة
ثالثاً : التعريف يكون في المجامع وأن يكون عاماً حتى لا يدل على بعض صفاتها
رابعاً : قوله فإن لم تعرف فاستنفقها أي إن لم يعرفها أحد فهي لك وقد قال في بعض ألفاظ الحديث وَإِلا فَهُوَ مَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
خامساً : أنه إن مضت المدة فإنها لم تكن ملكاً له وإنما هي وديعة عنده متى وجد صاحبها أعطاه إياها لقوله فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه
سادساً : وقد نهاه عن إلتقاط ضالة الإبل لما لها من الاستغناء عن الناس لقوله فإن معها حذائها وسقائها ترد الماء وتأكل الشجر
سابعاً: قوله حتى يجدها ربها أي صاحبها ومالكها فإن ذلك أقرب إلى وجوده إياها أما إن دخلت في إبل الغير فإنها لا تعرف إلا بالدلالة عليها(4/108)
ثامناً : وقد سأله عن ضالة الغنم فأمره بأخذها لأن أخذها قد يكون أصون لها حيث قال إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب وليس هذا مقصود به تملكه لها وإنما المقصود حفظها وصونها فإذا أخذها إنسان ممن يخشون الله ويتقونه فإن ذلك أقرب إلى معرفتها ورجوعها إلى صاحبها أما لو تركت فأكلها الذئب فإنه يترتب على ذلك تفويت المصلحة على الملتقط وصاحب الضالة الأساسي
تاسعاً : يخرج عما ذكرنا من تملك اللقطة لقطة الحرم فإنها لا تحل لملتقطها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحرم المكي (وَلا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلا لِمُنْشِدٍ ) (1) فإن لم يجد من يعرف هذه اللقطة فعليه أن يقدمها للمحكمة الشرعية وبالله التوفيق
باب الوصايا
[288]الحديث الأول : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ما حق امريء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده )
زاد مسلم : قال ابن عمر ما مرت ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك إلا وعندي وصيتي ) .
موضوع الحديث :الأمر بالوصية والمبادرة بها خوفاً من دهوم الأجل قبل قضاء الحقوق
المفردات
الوصايا : جمع وصية والوصية هي إلتزام بحق للغير لينفذ بعد الموت أو بحق عليه ليقضى بعد الموت إن فاجأه وهي مأخوذة من الوصي وهو الوصل لأن الموصي وصل حياته بموته بكونه أمر بشيء من التصرف ينفذ عند موته وانقطاع تصرفه
__________
(1) البخاري في كتاب العلم باب كتابة العلم رقم 112وفي كتاب اللقطة باب كيف تعرف لقطة أهل مكة رقم 2434وفي كتاب المغازي باب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الفتح رقم 4313ومسلم في كتاب الحج باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام رقم 1355والنسائي في كتاب المناسك باب النهي أن ينفر صيد الحرم رقم 2892 وسنن أبي داود باب تحريم حرم مكة رقم 2017 والدارمي في كتاب البيوع باب في النهي عن لقطة الحاج رقم 2600 .(4/109)
ما حق امريء مسلم له شيء يوصي به : أي ليس من حقه التساهل في الوصية وعدم الإسراع بها
قوله له شيء يوصي فيه إما أن يكون واجباً كدين عليه أو مندوباً والمندوب ما رغب الشرع في فعله فيأمر بفعله أو يريد أن يتبرع بشيء لله عز وجل أو لأحد من الناس أو يعترف بشيء من الحقوق
المعنى الإجمالي
حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على كتابة الوصية ليكون فيها تلافي ما هو له أو عليه وما يريد أن يوصي به
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث المبادرة بمشروعية الوصية وهل هي واجبة أو مندوبة في هذا خلاف بين العلماء وذكر ابن عبد البر أن الجمهور يقولون بعدم الوجوب قال الصنعاني في العدة ونسب ابن عبدالبر عدم الإيجاب إلى الإجماع سوى من شذ كما قال واستدل لعدم الوجوب بأنه لو لم يوصي لوجبت قسمة تركته بين ورثته بالإجماع فلو كانت الوصية واجبة لأخرج من ماله سهم ينوب عن الوصية .
وأقول : إن صيغة ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تشجع على القول بالوجوب أما الآية التي في سورة النساء فهي منسوخة بآيات المواريث
ثانياً : الوصية تنقسم إلى قسمين واجبة وهي الوصية بالحقوق التي عليه ومستحبة وهي الوصية بما يكون منه ثواب له بعد موته
ثالثاً : يؤخذ من قول ابن عمر رضي الله عنه ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وعندي وصيتي يؤخذ من هذا منزلة الصحابة في المسارعة إلى أوامر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدم التباطئ في ذلك كما يفعل أهل هذا الزمان
رابعاً : سمح بالليلتين والثلاث من أجل أن الإنسان قد يعذر فيهما أما ما عدا ذلك فتسقط الأعذار فيه والله أعلم
خامساً : ينبغي أن تجدد الوصية وبالأخص إذا كان فيها ديون وقضى بعضها وبقي بعض واستجد شيء وذهب شيء وفي هذه الحالة لا بد من التجديد فنسأل الله الكريم أن يعفو عنا ويغفر لنا ولسائر المسلمين وبالله التوفيق .
[(4/110)
289]الحديث الثاني : عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي قال لا قلت فالشطر يا رسول الله قال لا قلت فالثلث قال الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك قال قلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي قال إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة .ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة ) .
موضوع الحديث : الوصية بكم تكون وما هو المطلوب في حق الورثة
المفردات
يعودني : المقصود هنا العيادة من المرض وهي زيارة المريض
عام حجة الوداع : هذا هو المشهور وقد ورد أنه في عام الفتح
من وجع : المراد بالوجع المرض
اشتد بي : من الشدة وهي ضد الخفة
قوله ولا يرثني إلا ابنة : أي ابنة واحدة
أفأتصدق بثلثي مالي : استفهام وكانت الإجابة لا
قلت فالشطر : أي النصف قال لا
قلت فالثلث : قال الثلث والثلث كثير ، المقصود بالكثرة أي كثرة الموصى به وفيه إشارة إلى الغض من الثلث وأنه أفضل
إنك أن تذر : ورد بفتح الهمزة وكسرها ومعنى أن في حال الفتح تعريفية ومعنى إن بالكسر شرطية
قوله أغنياء : أي تتركهم وعندهم غناً يغنيهم عن تكفف الناس أولى من أن تحوجهم على التكفف
خير : هو جواب الشرط على رأي مالك بتقدير فهو خير أما معنى التعريف فهو ضمير للمبتدأ المنسبك من المصدر أي تركك ورثتك أغنياء خير
من أن تذرهم : تتركهم
عالة : فقراء
يتكففون الناس : يطلبونهم بأكفهم(4/111)
قوله وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله : أي تريد بها وجه الله
إلا أجرت عليها : أي كتب لك بها أجر
حتى : للغاية في القلة أي حتى الذي تجعله في فيء امرأتك من الطعام
قلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي :أي أتأخر عنهم إذا ارتحلوا عن مكة التي هي بلدي الذي هاجرت منه
قال إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله : أي تريد به وجه الله
إلا ازددت به درجة ورفعة : المقصود به رفع الدرجات في الجنة بكثرة الثواب
ولعلك أن تخلف : لعل للترجي والضمير اسمها
حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون : والمراد به انتفاع المؤمنين بسعد وما وهبه الله على يديه من الفتوح والغنائم ويضر بك آخرون المقصود به ما يحصل على المشركين من القتل والسبي والهزائم
قوله اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم : دعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه
قوله ولكن البائس سعد بن خولة : البائس هو الذي وقع عليه البأس وهو الفقر والحاجة والمسكنة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة
المعنى الإجمالي
زار النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن أبي وقاص في مرض أصابه وهو بمكة فقام سعد يسأله عن الوصية لأنه لم يكن له في ذلك الحين إلا ابنة واحدة فأراد أن يوصي بثلثي ماله فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أراد أن يوصي بالشطر فنهاه - صلى الله عليه وسلم - ثم استأذنه في الثلث فقال - صلى الله عليه وسلم - الثلث والثلث كثير ولكون سعد من المهاجرين خاف أن يخلف بعد أصحابه فيكون في ذلك انتقاص من أجر هجرته فدار بينه وبين النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - الحوار الذي ذكر في هذا الحديث.
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث عدة مسائل
أولاً : قوله جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني يؤخذ منه مشروعية العيادة للمريض وهذه المسألة تذكر في كتاب الجنائز وفي كتب الأدب(4/112)
ثانياً : قوله في عام حجة الوداع هذا هو المشهور كما قال الصنعاني رحمه الله في العدة ويظهر أن الصنعاني رحمه الله أخذ من فتح الباري فقال قال الحافظ في الفتح ج5 ص363 على قوله في كتاب الوصايا يعودني وأنا بمكة زاد الزهري في روايته ( في حجة الوداع من وجع اشتد بي ) وله في الهجرة ( من وجع اشفيت منه على الموت ) واتفق أصحاب الزهري على أن ذلك كان في حجة الوداع إلا ابن عيينة فقال في فتح مكة أخرجه الترمذي وغيره من طريقه واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه وقد أخرجه البخاري في الفرائض من طريقه فقال بمكة ولم يذكر الفتح قال وقد وجدت لابن عيينة مستنداً فيه وذلك فيما أخرجه أحمد والبزار والطبراني والبخاري في التأريخ وابن سعد من حديث عمرو بن القاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم فخلف سعداً مريضاً حيث خرج إلى حنين فلما قدم من الجعرانة معتمراً دخل عليه وهو مغلوب فقال يا رسول الله (إن لي مالاً وإني أورث كلالة أفأوصي بمالي ... ... الحديث ) وفيه ( قلت يا رسول الله أميت أنا بالدار التي خرجت منها مهاجراً ... . الحديث ) قال ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين مرة عام الفتح ومرة عام حجة الوداع ففي الأولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلاً وفي الثانية كانت له ابنة فقط .
ثالثاً : يؤخذ من قوله من وجع اشتد بي أنه يجوز ذكر اشتداد الوجع إن لم يكن من باب الشكوى بل كان القصد منه حصول دعوة أو إرشاد إلى علاج أو ما أشبه ذلك
رابعاً : يؤخذ من قوله وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أن الوصية ينظر فيها الموصي إلى من يبقى بعده فإن كان المال كثيراً والوارث واحد أمكن أن يوصي بشيء من المال صدقة لله عز وجل
خامساً : يؤخذ من قوله أفأتصدق بثلثي مالي قال لا يؤخذ منه تحريم التصدق بالثلثين ومثل ذلك الشطر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما لا(4/113)
سادساً : يؤخذ من قوله فالثلث قال الثلث والثلث كثير يؤخذ منه جواز الوصية بالثلث
سابعاً : يؤخذ من قوله والثلث كثير إرشاد إلى الوصية بما هو أقل من الثلث
ثامناً : قد استطرد مالك رحمه الله في قوله والثلث كثير في مسائل عدة فمثلاً عنده مسح الرأس يجزئ منه الثلث وعنده تقصير الرأس عند التحلل من الإحرام يجزئ منه الثلث وهكذا
تاسعاً : ورد في الرواية كثير وورد في بعضها شك كثير أو كبير وهل المقصود منه أنه يترتب عليه أجر كثير أو كبير وأن التصدق بالثلث هو الأكمل وأن المراد كثير أجره أو أن المراد كثير غير قليل ورجح الشافعي هذا الأخير وأخذ منه ابن عباس رضي الله عنهما أنه ينبغي الغض من الثلث إلى الربع
عاشراً : يؤخذ من قوله إنك إن تذر ورثتك أغنياء ورد فيه روايتان رواية بفتح الهمزة من أن على التقليل ورواية بكسر الهمزة من إن على أنها شرطية وأنكر بعضهم رواية الكسر وهي ثابتة واختلف في خير هل يكون جواباً للشرط فزعم بعضهم أنه يصلح جواباً ورجح مالك ذلك على تقدير فهو خير
الحادي عشر : يؤخذ من قوله إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس أن طلب الغنى للورثة مستحباً شرعاً بحيث أن ذلك يعزهم ويغنيهم عن سؤال الناس وأن ذلك خير من التصدق
الثاني عشر: يؤخذ من قوله خير من أن تذرهم عالة يؤخذ من ذلك أن ترك الورثة عالة يتكففون الناس أمر محذور ومذموم
الثالث عشر : يؤخذ من قوله وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فئ امرأتك يؤخذ من هذه الجملة أن الأجر يتوقف على النية وليس كل إنفاق يؤجر صاحبه ما لم يكن مبتغياً به وجه الله والدار الآخرة
الرابع عشر : هل يكتفى بنية واحدة أم لا بد من التجدد بحيث أنه يكون في كل نفقة مبتغياً بها وجه الله الأظهر في نظري أن النية الواحدة يكتفى بها في المستقبل إن لم يعدل عنها(4/114)
الخامس عشر : يؤخذ من هذا أيضاً أن المباحات تتحول للمؤمن طاعات بإخلاص النية فهو إذا اكتسب المال ليعف ويعف من تحت يده كان المباح في ذلك صدقة وقربة فإن أكل للتقوي على الطاعة كان أكله قربة وإن جامع امرأته ليستعف بها ويعفها كان ذلك قربة وهكذا
السادس عشر : يؤخذ من قوله إلا ازددت بها درجة ورفعة أن الطاعات يرتفع بها العبد في الدرجات وهو لا يشعر ومثل ذلك قوله ( ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه بها درجة ) (1) وهذا في الإنفاق وهكذا في جميع الطاعات
السابع عشر : في قوله ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون في هذا تعريض لأن قول سعد أخلف بعد أصحابي يقصد التأخر عنهم وعن مزاحمتهم بالأكتاف والأقدام وتسابقهم في نصرة دين الله عز وجل لكن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولعلك أن تخلف قصد به طول العمر وكذلك حصل حيث كان آخر العشرة المبشرين بالجنة موتاً
الثامن عشر : يؤخذ من هذا معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد فتح الله على يد سعد بلداناً كثيرة من جهة العراق وهو الذي افتتح المدائن ودخل إيوان كسرى وأرسل كنوزه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
التاسع عشر : قوله حتى ينتفع أقوام المراد بالانتفاع ما أجرى الله على يديه من الفتوح والانتصارات وما حازوه من الغنائم على يديه وبقيادته وكل هذا فضل من الله جعله على يدي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لقوة إيمانه وقوة شكيمته
__________
(1) مسلم في كتاب الصلاة باب فضل السجود والحث عليه رقم 488 والترمذي في كتاب الصلاة باب ما جاء في كثرة الركوع والسجود وفضله رقم 388والنسائي في كتاب التطبيق باب ثواب من سجد لله عز وجل سجدة رقم 1139وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في كثرة السجود رقم 1422و1423و1424 والدارمي في كتاب الصلاة باب فضل من سجد لله سجدة رقم 1461.(4/115)
العشرون : قوله ويضر بك آخرون يريد به ما حصل من الإضرار على الكفار من النكسات والانتصارات المتوالية عليهم وأخذ بلادهم وطرد أصحاب السلطان منها وتحويلها غنيمة للمسلمين حتى خرج كسرى يزدجرد في سنة ثلاثين (30) من مملكته وقتل .
الحادي والعشرون : دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بأن يمضي الله لهم هجرتهم ولا يردهم على أعقابهم
الثاني والعشرون : توجعه على سعد بن خولة لموته بمكة حين قال لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة وحرم الخير الكثير الذي يجعله الله عز وجل للمهاجر بأن يجعل له من بلده إلى مهاجره في الجنة
الثالث والعشرون : وهي الخاتمة نرجوا من الله عز وجل لسعد بن خولة الذي قدر الله له أن يموت بمكة نرجوا له الخير من الله وإن كان قد يكون أنه يصير أقل درجة من غيره والله سبحانه وتعالى قد وعد أنه لا يضيع عمل عامل وما توجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن خولة خوفاً عليه من النار ولكن يرثي له والله أعلم هبوط الدرجة وهذا كله من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل والله سبحانه وتعالى أعلم فنسأل الله أن يغفر لنا إن كنا قد حصل لنا سوء فهم أو خطأ فيما نقول فإنا لم نقصد من وراء ذلك إلا الخير إن شاء الله وبالله التوفيق .
[290]الحديث الثالث : عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال ( لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله قال الثلث والثلث كثير ) .
موضوع الحديث : استحباب الغض أو النقص من الثلث وهو رأي ابن عباس رضي الله عنهما
المفردات
قد مضت في الحديث السابق
المعنى الإجمالي
استنبط عبدالله بن عباس رضي الله عنهما من لفظ كثير أن الوصية ينبغي أن تكون أقل من الثلث حتى نخرج عما استكثره النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقه الحديث(4/116)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الأفضل في الوصية أن تكون بالربع أو أقل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استكثر الثلث
ثانياً : أن في هذا دليل على أن الأولى مراعاة مصلحة الورثة أكثر من مراعاة مصلحة الموصى له
ثالثاً : يؤخذ منه أيضاً استخدام لو فيما لم يكن فيه استدراك على القدر وبالله التوفيق .
باب الفرائض
الفرائض جمع فريضة والفرض لغة : القطع وشرعاً : نصيب مقدر لوارث خاص
والفروض ستة وهي نصف وربع وثمن وثلث وثلثان وسدس
فالربع للزوجات أو الزوجة من زوجهن إن لم يكن له ولد أو ولد ولد سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً وللزوج من زوجته إن كان لها ولد .
والثمن فرض الزوجات أو الزوجة من زوجها إن كان له بنين أو أبناء بنين أو بنات أو بنات ابن وإن نزلن
والنصف فرض خمسة البنت وبنت الابن والأخت الشقيقة والأخت لأب والزوج يرث من زوجته النصف إن لم يكن لها أولاد منه أو من غيره
والثلثان فرض البنات وبنات الابن والأخوات الشقائق والأخوات لأب
والثلث فرض الأم من ولدها أو بنتها إن لم يكن للميت ولد أو ولد ولد لا ذكراً ولا أنثى ولم يكن معه جمع إخوة
وفرض الأخوة لأم إن لم يكن للميت أولاد ولا أولاد أولاد لا ذكوراً ولا إناثاً ولم يكن له أب ولا جد بشرط أن يكونوا اثنين فأكثر
والسدس فرض سبعة وهم الأب والجد مع الذكور وأولادهم والأم كذلك إن كان هناك أولاد أو أولاد أولاد والجدة مطلقاً والأخ لأم وبنت الابن مع البنت والأخت لأب مع الأخت الشقيقة هذه هي الفروض وهؤلاء هم أصحابها وقد أورد مؤلف العمدة حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً وهو
[291]الحديث الأول : عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر )
وفي رواية ( أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر )(4/117)
موضوع الحديث : أن البداءة في التقسيم تكون بالفرائض وأن العاصب لا يأخذ إلا ما بقي بعدها
المفردات
قوله ألحقوا الفرائض بأهلها : أي أعطوهم إياها
قوله فما بقي : أي ما زاد بعد أهل الفروض
فهو لأولى رجل ذكر : أي لأحق الرجال المرتبطين بالميت في النسب وهو الأقرب إليه
المعنى الإجمالي
أمر الشارع - صلى الله عليه وسلم - بأن تلحق الفرائض بأهلها كلٌ يُعطى فريضته التي أعطاه الله إياها بشرطها فما بقي فهو للمعصب والمعصبون هم الذكور المرتبطون بالميت في النسب وبعدهم أهل الولاء والمولى الذي يعصب هو المنعم على عتيقه بالعتق فإذا مات العتيق ولم يكن له ورثة من النسب ورثه مولاه وهو المنعم عليه بالعتق .
فقه الحديث
يستفاد من هذا الحديث أولاً : وجوب إلحاق الفرائض بأهلها على ما في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ثانياً :إذا بقي شيء بعد الفرائض أخذه العصبة المتعصبون بأنفسهم والعصبة المتعصبون بأنفسهم لا يكونون إلا من الذكور أما النساء فلا تعصب منهن بنفسها إلا المعتقة ولهذا قال الشارح ابن دقيق العيد رحمه الله والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحق للباقي
قلت : لا يخرج عن ذلك الوصف إلا المعتقة فإنها تعصب بنفسها على من أعتقته إذا لم يكن له وارث من النسب وبالله التوفيق .
ثالثاً : العصبة المتعصبون بأنفسهم هم الأولاد الذكور وأولاد الابن والأب والجد والأخوة الأشقاء والأخوة لأب وأبناء الأخوة الأشقاء وأبناء الأخوة لأب والأعمام الأشقاء أو الأعمام لأب وبنو الأعمام الأشقاء وبنو الأعمام لأب .
[292]الحديث الثاني : عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قلت يا رسول الله أتنزل غداً في دارك بمكة ؟ قال وهل ترك لنا عقيل من رباع ؟ ثم قال : لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر .
موضوع الحديث: عدم التوارث بين الكافر والمسلم
المفردات
من رباع : جمع ربع وهو الدار ثم قال(4/118)
لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر : الكافر هو من حكم عليه بالكفر بسبب جحود حتى ولو كان مع استيقان القلب أو بسبب إنكار وتكذيب كمن ردوا رسالة رسولهم إنكاراً لها وتكذيباً لمن جاء بها وما يلحق بذلك من أنواع الكفر لقوله تعالى (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) [ النمل : 14 ]
المعنى الإجمالي
سأل أسامة بن زيد رضي الله عنهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما كانوا قادمين إلى مكة اليوم الذي قبل يوم فتح مكة أتنزل غداً بدارك بمكة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان هذا الاستفهام استفهام إنكار على أسامة بمعنى أن عقيلاً قد باع كل دورهم التي خلفوها في مكة
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث أولاً : جواز بيع دور مكة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر بيع عقيل ولم يكن عقيل قد باع ما يملك بالوراثة فقط فقد باع دور النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يرثه وإنما ورث دور أبي طالب وهذه المسألة أي مسألة بيع دور مكة فيها خلاف كثير وهي مبسوطة في المطولات .
ثانياً : هل ترك بيع عقيل على حاله وعدم الإنكار له يعد من باب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر عقود الجاهلية التي قد مضت ولم يبطلها إلا أنه أبطل الربا بقوله ( وإن أول رباً أضعه ربا العباس بن عبدالمطلب ) (1)
ثالثاً: ويتولد عن ذلك أن وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - للربا لم يكن إبطالاً للصفقة من أصلها وإنما كان إبطالاً لما زاد على رأس المال .
__________
(1) أبو داود في كتاب المناسك باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 1905وابن ماجة في كتاب المناسك باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 3074 والدارمي في كتاب المناسك باب في سنة الحج رقم 1850 والحديث صححه الألباني .(4/119)
رابعاً : قوله لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر يدل على عموم هذا الحديث على أنه لا يرث مسلم كافراً ولا كافر مسلماً فأما كون الكافر لا يرث المسلم فهذا إجماع في القديم والحديث وأما إرث المسلم الكافر فقد صار فيه خلاف في أول الأمر ثم بعد ذلك حصل الإجماع على ما جاء في الحديث
خامساً : هل يتوارث أصحاب الملل الكفرية المختلفة أم لا ؟ هذا محل نظر وخلاف بين أهل العلم فقد جاء في ذلك حديث (عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ ) (1) وقد قيل أن الكفر ملة واحدة والمسألة بحاجة إلى النظر في الأدلة وترجيح ما يترجح بالدليل وبالله التوفيق .
[293]الحديث الثالث : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الولاء وهبته )
موضوع الحديث :النهي عن بيع الولاء وهبته
المفردات
الولاء : صلة بين المعتِق والمعتَق قامت بهما فلا تقبل الانتقال عمن وصف بها لا ببيع كما كان يفعله أهل الجاهلية ولا بهبة كما كانوا يفعلونه أيضاً .
المعنى الإجمالي
كان أهل الجاهلية يبيع الرجل ولاءه من فلان أو يهب ولاءه لغيره فلما جاء الإسلام نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وأخبر أن هذا الوصف لا ينتقل ببيع ولا هبة بل هو ثابت فيمن قام به .
فقه الحديث
__________
(1) الترمذي في كتاب الفرائض باب لا يتوارث أهل ملتين رقم 2108 وأبو داود في كتاب الفرائض باب هل يرث المسلم الكافر رقم 2911وابن ماجة في كتاب الفرائض باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك رقم 2731 وأحمد برقم 6664 و6844 والدارمي في كتاب الفرائض باب في ميراث أهل الشرك وأهل الإسلام رقم 2991وقد صحح الحديث الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي .(4/120)
يؤخذ من هذا الحديث أولاً : أن الولاء وصف قام بالمعتِق والمعتَق فالمعتِق هو المولى الأعلى والمعتِق هو المولى الأسفل وأن هذا الوصف لا ينتقل عمن قام به لا ببيع ولا هبة
ثانياً : يؤخذ من هذا الحديث أنه لو حصل بيع الولاء أو هبته فإنه باطل وعقد مثل ذلك عقد لا يصح حتى وإن تولى المولى الأسفل غير مواليه فإنه مزجور من الشارع وملعون منه بفعله ذلك وقد جاء في الحديث (وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلا ) (1)
[
__________
(1) البخاري في كتاب الحج باب حرم المدينة رقم 1870 وفي كتاب الجزية باب ذمة المسلمين واحدة وجوارهم واحدة رقم 3172ومسلم في كتاب العتق باب تحريم تولي العتيق غير مواليه رقم 1370 وفي كتاب الحج باب فضل المدينة رقم 1370ووالترمذي في كتاب الوصايا باب ما جاء لا وصية لوارث رقم 2120وفي كتاب الولاء والهبة باب ما جاء فيمن تولى غير ومواليه أو ادعى إلى غير أبيه رقم 2127وأبو داود في كتاب الأدب باب في الرجل ينتمي إلى غير مواليه رقم 5115 وابن ماجة في كتاب الحدود باب من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه رقم 2609 وفي كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث رقم 2712 والدارمي في كتاب السير باب في الذي ينتمي إلى غير مواليه رقم 2529 وفي كتاب الفرائض باب من ادعى إلى غير أبيه رقم 2864 وأحمد برقم 615و 3038 .(4/121)
294]الحديث الرابع : عن عائشة رضي الله عنها قالت كانت في بريرة ثلاث سنن خيرت على زوجها حين عتقت وأهدي لها لحم فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبرمة على النار فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال ألم أر البرمة على النار فيها لحم ؟ قالوا بلى يا رسول الله ذلك لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه فقال هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها إنما الولاء لمن أعتق .
موضوع الحديث : أن الولاء لمن أعتق بعد دفع الثمن
المفردات
قولها كانت في بريرة ثلاث سنن : السنن جمع سنة وهي الشرع الذي يشرعه الله عز وجل ويجعله سنة تتبع
قولها خيرت على زوجها : يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرها في البقاء تحته وعدمه فاختارت عدم البقاء تحته لأنه عبد وهي أصبحت حرة
قولها حين عتقت : أي حين وقع عليها العتق بإعتاق عائشة رضي الله عنها لها
البرمة : إناء من خزف يطبخ فيه اللحم
قولها فدعا بطعام : أي طلب الإتيان به
فأتي بخبز وأدم من أدم البيت : الأدم هو يؤتدم به على الطعام
قوله ألم أر البرمة : استفهام تقريري
فيها لحم : هذا دليل على طلبه لحم
ذلك لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه : أي لعلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل الصدقة
هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية : الصدقة هو ما يعطيه العبد لطلب الثواب من الله أما الهدية فهي قد تكون مقصود بها التآلف أو مقصود بها الثواب من الله أو مقصود بها المكافأة
قوله إنما الولاء لمن أعتق : الولاء المعتق على من اعتقه إرثه منه إذا لم يكن له وارث من النسب وارتباطه به ارتباطاً شرعياً لا يفصله شيء
المعنى الإجمالي(4/122)
أخبرت عائشة رضي الله عنها أن في بريرة ثلاث سنن السنة الأولى كونها خيرت في البقاء مع زوجها أو الخروج من عصمته لكونه مملوك وهي حرة والسنة الثانية : هي في قوله - صلى الله عليه وسلم - هو عليها صدقة ولنا منها هدية وهو أن ما تصدق به على المسكين فأهداه إلى صديقه جازت للغني أن يأكل من الصدقة المهداة من الفقير
فقه الحديث
أولاً : قول عائشة رضي الله عنها كانت في بريرة ثلاث سنن أي ثلاثة أحكام شرعية هذا إجمال اتبعته بالتفصيل
ثانياً : يؤخذ من قولها خيرت على زوجها أي خيرت فيه لكونه عبد وهي حرة
ثالثاً: ذهب إلى مقتضى هذا الحديث الجمهور من أهل العلم وهو أن الأمة إذا اعتقت وهي تحت عبد كان لها الخيار بين البقاء تحته وعدمه(4/123)
رابعاً : هذا القول بناءً على أن زوج بريرة كان عبداً وهو الراجح وقد جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِعبَّاسٍ يَا عَبَّاسُ أَلا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَوْ رَاجَعْتِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي قَالَ إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ قَالَتْ لا حَاجَةَ لِي فِيهِ ) (1)
خامساً : ذهب أبو حنيفة إلى وجوب التخيير سواء كان الزوج الذي عتقت تحته حراً أو عبداً وعلل التخيير بكونها لم يكن لها خيار حين النكاح وعندما عتقت ملكت نفسها فوجب أن تخير فجعل علة التخيير كونها ملكت نفسها
سادساً : وهذه المسالة من مسائل الخلاف بين الحنفية والأئمة الثلاثة ولها نظائر كثيرة
__________
(1) البخاري في كتاب الطلاق باب شفاعة النبي في زوج بريرة رقم 5283 والترمذي في كتاب الرضاع باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج رقم 1156 والنسائي في كتاب آداب القضاة باب شفاعة الحاكم للخصوم قبل فصل الحكم رقم 5417 وأبو داود في كتاب الطلاق باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد رقم 2231 وابن ماجة في كتاب الطلاق باب خيار الأمة إذا عتقت رقم 2075 وأحمد رقم 2542 والدارمي في كتاب الطلاق باب في تخيير الأمة تكون تحت العبد فتعتق رقم 2292 .(4/124)
سابعاً: السنة الثانية أنه أهدي لها لحم من الصدقة والنبي - صلى الله عليه وسلم - محرم عليه أكل الصدقة فلما دخل وطلب الطعام أتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال ألم أر البرمة على النار قالوا بلى ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هو عليها صدقة ولنا منها هدية فيؤخذ منه أنه إذا تصدق على الفقير فأهدى من تلك الصدقة إلى الغني كان ذلك جائزاً
ثامناً : أخذ منه على أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسوا من آله الذين تحرم عليهم الصدقة وذلك باستنباط وهو أن بريرة جاءت باللحم إلى عائشة رضي الله عنها لأنهم أهل بيت فدل على أنه يجوز لعائشة أن تأكل من تلك الصدقة بخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم -
تاسعاً : يؤخذ منه جواز تناول طعام الصديق تأولاً برضاه وطيب نفسه لقوله وهو لنا منها هدية قبل أن يسألها عن ذلك
عاشراً : أن الشيء قد يأخذ حكماً آخر بنية المتأول إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبره هدية فصار له حكم الهدية وإن لم تتكلم بذلك
الحادي عشر : أن كراهيتهم لإطعام النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يعلمونه عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه يكره ذلك ويمنع منه
الثاني عشر : أنه ينبغي للعالم أن يبين الحكم المسوغ إذا كان هناك تسويغ يبيح الممنوع فإنه يجب على العالم أن يظهره حتى يتبين بذلك الحكم هو عليها صدقة وهو لنا منها هدية
الثالث عشر : أن الهدية جائزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته وممنوع عليهم الصدقة المفروضة باتفاق وفي الصدقة التطوعية خلاف(4/125)
الرابع عشر : إنكاره على من اشترط الولاء لنفسه مع اقتضاء الثمن فقال - صلى الله عليه وسلم - (فَإِنَّ الْوَلاءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ ) (1)
الخامس عشر : الولاء ارتباط شرعي بين المعتِق والمعتَق ولذا كان حكمه أنه لا يباع ولا يوهب ولا ينتقل عن المعتِق بحال
السادس عشر : يؤخذ من قوله وإنما الولاء لمن أعتق أنه لا يرث أحد خارج النسب إلا بالولاء وذلك حصر في المعتِق وورثته وهم العصبة المتعصبون بأنفسهم . وبالله التوفيق
كتاب النكاح
النكاح في اللغة : هو الضم والتداخل وفي الشرع يطلق على معنيين ، المعنى الأول : أنه يطلق على العقد الذي به ترتبط المرأة بالرجل وتكون داخلة في عصمته دخولاً معنوياً كدخول الشيء في الشيء دخولاً حسياً . والمعنى الثاني : أنه يطلق على الوطء الذي هو إدخال الفرج في الفرج على جهة التلذذ المباح وقضاء الوطر وطلب الولد فالمعنيين متلازمان لكن مختلف في المعنى الحقيقي هل هو الوطء أو العقد فمن نظر إلى كون العقد سبيلاً إلى الوطء وطريقاً إليه قال هو حقيقة في العقد ومن نظر إلى أن الوطء هو غاية ما يقصد من النكاح وكل ما يحصل من الأسباب المؤثرة فيه كالخطبة والعقد والمهر وما إلى ذلك هي وسائل والوطء هو المقصود قال إنه حقيقة في الوطء ومجاز في العقد
أما حكمه فهو المشروعية والاستحباب ويزيد الاستحباب إلى أن يبلغ السنة المؤكدة .
لا غنى للجنسين عنه فالرجل لا يتم حاله ولا تطيب له الحياة إلا بالزوجة الصالحة والمرأة أيضاً لا تطمئن ولا تطيب لها الحياة إلا بالزوج الصالح .
__________
(1) البخاري في كتاب العتق باب بيع الولاء وهبته رقم 2536وفي كتاب الفرائض باب ما يرث النساء من الولاء رقم 6760 وفي باب إذا أسلم على يديه رقم 6758 والنسائي في كتاب الطلاق باب خيار الأمة تعتق وزوجها حر رقم 3449وفي كتاب البيوع باب البيع يكون فيه الشرط رقم 4642وأحمد رقم 25229 .(4/126)
وقد ذهب قوم إلى الوجوب ولكن الوجوب عند الجمهور لا يكون إلا على من خاف على نفسه من الوقوع في الزنا وذلك أن النكاح أمر مطلوب كما تقدم أورد فيه
[295]الحديث الأول : عن عبدالله بن مسعود قال : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء .
موضوع الحديث : الحث على النكاح
المفردات
معشر : المعشر هم قوم يجمعهم وصف واحد
والشباب : هم الذين يجمعهم هنا وصف واحد ويطلق على من بلغ إلى أن يصل إلى الأربعين على القول الأصح وقيل إلى ثلاث وثلاثين وهو منتهى الشباب
الباءة : المراد بها النكاح أو تكاليفه أو استطاعته استطاعة ذاتيه . ولا شك أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - أمر الشباب بالتزوج إذا كانوا قادرين على مؤن الزواج قدرة ذاتية ومالية .
قوله فليتزوج : هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب وعلى هذا فقد ذهب الجمهور إلى أن الأمر هنا أمر إرشاد لا أمر إيجاب وجعلوا النكاح سنة في حق الرجل القادر عليه فإن خشي بتركه الزنا فعله وجوباً
قوله ومن لم يستطع : يعم النفي هنا الاستطاعة المالية والاستطاعة الذاتية
قوله فعليه بالصوم :أي ليكثر منه
فإنه له وجاء : الفاء تعليلية والمقصود أنه يخفف من وطئة الرغبة الجامحة فيه التي ربما أدت بالعبد إلى الوقوع فيما حرم الله
المعنى الإجمالي
يحث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين عندهم القدرة الذاتية والقدرة المالية يحثهم على فعل الزواج ومن لم يستطع ذلك فليكثر من الصوم وليلزم الاستعفاف وليسأل ربه عز وجل أن يعصمه من الوقوع في طائلة الزنا .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث استحباب النكاح لمن له قدرة عليه ليكون ذلك عوناً له على تجنب الزنا والوقوع فيما حرم الله عز وجل سواء كان ذلك بالنظر أو السمع أو ما أشبه ذلك(4/127)
ثانياً: اختلف أهل العلم في حكم النكاح هل هو واجب أو سنة مؤكدة والقول بالوجوب على من خاف على نفسه الوقوع فيما حرم الله لعله هو الأقرب
ثالثاً : خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخطاب معشر الشباب الذين هم مظنة قوة الشهوة التي ربما حملت الشاب أو الشابة على الوقوع فيما حرم الله سبحانه وتعالى .
رابعاً : جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - علاج العزوبة لمن لم يستطع مؤن النكاح الإكثار من الصوم وهذا العلاج علاج نبوي عظيم حيث أن الصوم يخفف قوة الشهوة ويحمل العبد على طاعة الله سبحانه وتعالى فيغرس فيه خليقة التقوى التي يتغلب بها على نزعات النفس ونزغات الشيطان لقلة الطعام والشراب ويكثر للعبد الحسنات التي يتقرب بها إلى الله فما أحسنه من علاج وأحكمه(4/128)
خامساً : إرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الزواج لمن له عليه استطاعة إرشاد إلى أسباب الخير واستقرار النفس فإن الرجل إذا تزوج حصل عنده الاستقرار النفسي وتم بينهما التعاون أي بين الزوجين التعاون على المصالح التي يستعينون بها على أداء الواجبات فالرجل يكون مكفي في بيته بالزوجة التي تعمل له ما يصلحه من طعام وشراب وتنظيف للبيت وتهيئته للمنافع والمرأة تكون مكفية بزوجها في تحصيل الرزق وفي ذلك من الخير ما الله به عليم ولا يفوتني في هذه المناسبة أن ألفت النظر إلى المؤتمر الإجرامي الذي عقده اليهود والنصارى يقصدون به محاربة التزوج المبكر ويشجعون فيه على العزوبة ويقررون فيه التشجيع على المدارس المختلطة ودراسة التثقيف الجنسي حسب قولهم وقرروا فيه فتح مستشفيات بقيم رخيصة يتعاون المستشفى مع المجرمين على الإجهاض فحسبنا الله عليهم وأعاذ الله المسلمين من شرورهم ، إنهم دعاة إلى الشر وإلى انتشار الفواحش فعليهم لعائن الله وبالجملة فإن الواجب على المسلمين في مقابل ذلك أن يشجعوا على الزواج المبكر بتخفيف مؤنة الزواج وتيسير أسبابه امتثالاً لأمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ ) (1) وبالله التوفيق
[
__________
(1) رواه أبو داود في سننه في كتاب النكاح باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء رقم 2050 ورواه ابن حبان في صحيحة برقم 4056و4057 وأخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين رقم 2685 وسنن البيهقي رقم 13253 وأحمد بن حنبل برقم 12640 و13604 والنسائي في كتاب النكاح باب كراهية تزويج العقيم رقم 3227 والحديث صححه الألباني .(4/129)
296]الحديث الثاني : عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نفراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر ؟ فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه وقال : ما بال أقوام قالوا كذا ؟ ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .
موضوع الحديث : الإنكار على من دعوا إلى الرهبنة بنوع من التأويل
وإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من رغب عن سنته التي هي التوسط بين الترهبن والجفاء
من رغب عنها فإنه قد سلك طريقاً غير طريقه واتبع سنة غير سنته
المفردات
أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - : هن زوجاته
عن عمله في السر : أي العمل الذي يعمله في بيته
قال بعضهم لا أتزوج النساء : تفضيلاً للعبادة على اللذة المشروعة وقال بعضهم لا آكل اللحم منعاً للنفس عن بعض شهواتها وقال بعضهم لا أنام على فراش يعني تجافياً عن الرفاهية
فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي أخبر به
فحمد الله وأثنى عليه : أي قام خطيباً فبدأ بحمد الله والثناء على الله بما يستحق
وقال ما بال أقوام : هذه عبارة تقال في إنكار ما قصد به الستر على من عمله
قالوا كذا : يعني ما تقدم
لكني أصلي وأنام : أي أقوم بحق ربي وأعطي نفسي حظها من الراحة ومع ذلك أصوم وأفطر وأتزوج النساء
قوله فمن رغب عن سنتي : الرغبة عن الشيء تركه والرغبة فيه محبته وفعله والرغبة عن السنة ترك لها وزهد فيها
قوله فليس مني : يعني ليس على طريقتي في اتباع التوسط في العبادة بين الجفاء والغلو
المعنى الإجمالي(4/130)
شريعة الله وسط بين الغلو والجفاء والانهماك في العبادة والغفلة واللهو فهي تضع الأمور مواضعها عبادة لله وطاعة له مع إعطاء النفس حظوظها من المباحات المعينة على استمرار العبادة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فان الله لا يمل حتى تملوا )(1) وفي الحديث الآخر ( فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى ) (2) وبذلك يكون العبد قد أدى عبادة الله ولم يحرم نفسه حظوظها من الراحة والتلذذ المباح
فقه الحديث
أولاً : أن شريعة الله وسط بين الغلو والجفاء وفي ذلك قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً ) [ البقرة : 143 ]
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب ما يؤمر به من القصد في الصلاة برقم 1368 والنسائي في كتاب القبلة باب المصلي يكون بينه وبين الإمام سترة برقم 762 وابن ماجة بنحوه في كتاب الزهد باب المداومة على العمل رقم 4240 ومالك بنحوه برقم 260 وأصله في البخاري برقم 43و1151ومسلم بمعناه رقم 785 والحديث صححه الألباني .
(2) قطعة من حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى فاعمل عمل أمرىء يظن أن لن يموت أبدا واحذر حذرا يخشى أن يموت غدا ) رواه البيهقي في السنن الكبرى رقم 4521 وفي السلسلة الضعيفة رقم 2480 وورد من طريق جابر أيضاً مختصراً بدل سفراً أرضاً برقم 4520 وفي ضعيف الجامع الصغير للألباني رحمه الله برقم 2022 وورد في مسند الشهاب رقم 1147 من رواية جابر أيضاً.(4/131)
ثانياً : الوسطية بينة في شرائع الله ما بين الرهبنة والغلو وما بين التساهل في حقوق الله والجفاء عنها ثم إن مذهب أهل السنة والجماعة وسط في باب الأسماء والصفات بين التعطيل والتشبيه وفي باب القدر وسط بين القائلين بالجبر والنافين للقدر وهكذا يتبين عند التأمل أن شريعة الله وسط في كل شيء
ثالثاً : أن السنة التي قررها الله عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وقررها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن تؤدى حقوق الله فرضاً ونفلاً وأن يعطي نفسه حظوظها من التلذذ المباح في المآكل والمشارب والمناكح والنوم واليقظة وأخذ النفس بحق ربها من دون تشديد عليها ولا تغليب لشهواتها حتى تلهو بها عن حقوق الله عز وجل(4/132)
رابعاً : في هذا الحديث تفضيل للتلذذ بالمباحات التي تتطلبها النفس على نوافل العبادات التي ربما تؤدي بالعبد إلى الانقطاع والضعف في الأخير ولهذا جاء في الحديث ( فإن لكل عابد شرة ولكل شرة فترة فإما إلى سنة وإما إلى بدعة فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدي ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك )(1) وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن عمرو (قم ونم وصم وأفطر ) (2) فهذا هو الحق الذي ينبغي للمسلم أن يعمل به ويتخذه نبراساً في حياته إذا وجد من نفسه ضعفاً عن العمل شدها إليه وأخذها به حتى تذل وتلين وإذا وجد من نفسه ميلاً إلى كثرة العبادة فليحد من غلوائها وقد تمنى عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن لو كان أطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التخفيف عن نفسه من كثرة العبادة
خامساً : أن فضل السنة أعلى وأفضل من نوافل العبادات ولو أنه رئي أن العمل فيها قليل فمتابعة السنة خير من كل عمل يخرج عنها وبالله التوفيق .
[297]الحديث الثالث :عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا .
موضوع الحديث : كراهة ترك النكاح زهداً فيه واتباعاً للرهبنة التي سلكها بعض أهل الكتاب
المفردات
التبتل : هو ترك النكاح من أجل الانقطاع للعبادة وقد ذم الله عز وجل أهل الكتاب على ذلك
__________
(1) رواه الإمام أحمد برقم 6477
(2) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باب حق الضيف رقم 6134 ومسلم في كتاب الصوم باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به برقم 1159 وأبو داود في كتاب الصوم باب في صوم الدهر تطوعاً رقم 2427 والنسائي في الصيام باب صوم يوم وإفطار يوم رقم 2390 و2391 و2401 وأحمد برقم 6761و6760 والسنن الكبرى للبيهقي رقم 2700و2698 .(4/133)
قوله ومنه قيل لمريم عليها السلام البتول لا نقطاعها عن الزواج للعبادة وأقول إن مريم كانت نذرتها أمها لذلك وكان جائزاً في شرعهم مثل هذا أما شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس فيها ذلك
وقوله قيل لفاطمة البتول إما لانقطاعها عن الأزواج غير علي وأقول هذا لا ينبغي وليس لها امتياز في هذا بل كل من تزوجت برجل واحد وماتت عنده فهي كذلك . أو لانقطاعها عن نضرائها في الحسن والشرف : أقول الحسن لا يكون سبباً للمحمدة ولكن لشرفها في نسبتها إلى أبيها صلوات الله وسلامه عليه وعليها
قوله ولو أذن له لاختصينا : أي لو أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بن مضعون في ذلك لاختصينا رغبة في الانقطاع للعبادة
المعنى الإجمالي
كان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رجال لهم نهم في العبادة ورغبة فيها ظنوا أن التزوج مشغلة عن العبادة والجهاد في سبيل الله وبناءً على ذلك رغبوا في الانقطاع للعبادة وترك الاشتغال بالمباحات فمنعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرهم أن اتباع سنته - صلى الله عليه وسلم - خير من التبتل والرهبنة
فقه الحديث(4/134)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث ذم التبتل وقد ذكر الله التبتل على سبيل المدح وأمر به في سورة المزمل حيث قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ( يَأَيّهَا الْمُزّمّلُ قُمِ الْلّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً ... . إلى أن قال وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وَتَبَتّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً )[ المزمل: (1-8) ] فهل هناك معارضة بين ما أمر به القرآن الكريم وبين التبتل الذي نهي عنه في السنة وأقول : الجواب لا معارضة إذ أن التبتل الذي أمر الله به هو الانقطاع إلى الله بالقلب من الدنيا وعلائقها في أوقات العبادة عند أداء الفرائض في إقامة الصلاة المفروضة وقيام الليل انقطاعاً مؤقتاً حتى يتم عبادته وربما قيل أن التبتل المراد في الآية هو الانقطاع عن الدنيا مع مباشرتها فيكون بقلبه منقطعاً عنها غير مبال بها بل هو مقبل على الله عز وجل يستعملها فيما أمر الله ويجتنبها ويبتعد عنها إذا هي جاءت بنقص من دين أما التبتل المنهي عنه فهو ترك التزوج والانقطاع للعبادة كما كان يفعله الرهبان هذا هو القول الحق فيما أرى فشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - جاءت لتعطي النفس حظوظها باعتدال حتى يتم التوازن في أعمال العبد إذ أن الرهبنة التي كان يفعلها أهل الكتاب مذمومة لأن أصحابها تركوا المباحات وشددوا على أنفسهم تشديداً لم يأمرهم الله به وبالله التوفيق
ثانياً : يؤخذ منه تحريم الاختصاء وعدم جوازه وكذلك أيضاً ما يؤدي إلى مثل حالة المختصي بالمعالجة كالإبر التي تقطع حركة الرجل ومنعه من معاشرة النساء
ثالثاً: أن التبتل من التنطع الذي ذمه الله عز وجل ونهى عنه
رابعاً : وفي مقابل ذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتزوج وحصول الأولاد وتكثيرهم ليكثر من يعبد الله وحده وتكثر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر الأنبياء يوم القيامة)(1)
__________
(1) سبق تخريجه(4/135)
خامساً : إن الاختصاء خروج عن السنن الكونية التي أرادها الله من عباده وسلوك لمسالك المنحرفين المشددين على أنفسهم بغير حق وبالله التوفيق
سادساً : ومن ذلك بعض ما يعمله بعض أصحاب التصوف من ترك الطعام اللذيذ أو ترك بعض الشهوات التي يحتاج إليها العبد ويروى أن رجلاً اسمه فرقد السبخي دخل على الحسن البصري وهو يأكل طعاماً لذيذاً يقال له الفالوذج فقال له هلم فقال لا آكله ولا أحب من يأكله فقال الحسن لعاب النحل بلباب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحب الحلوى والعسل وقال - صلى الله عليه وسلم - ( إنما حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة )(1) وكان سفيان الثوري يحمل معه الفالوذج إذا خرج في سفر واللحم المشوي ويقول إن الدابة إذا أحسن إليها عملت وإن البدن كالمطية لا بد لها من علف يعني وكذلك البدن لا بد من الاهتمام به وبالله التوفيق
[298]الحديث الرابع : عن أم حبيبة (2)
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى رقم 13232 وفي صحيح الجامع الصغير للألباني برقم 3124.
(2) أم حبيبة : هي رملة بنت أبي سفيان هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيدالله بن جحش فلما وصلوا إلى الحبشة تنصر زوجها ثم مات على النصرانية فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة ليخطبها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فخطبها عليه وعقد بها خالد بن سعيد بن العاص وأمهرها النجاشي أربعمائة دينار وهي أكثر امرأة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهرت بهذا القدر وجهزها بجهاز يعتبر كبيراً في ذلك الزمن من الأثاث والأطياب والحلي وغير ذلك توفيت سنة اثنتين واربعين أو أربع وأربعين وقيل سنة تسع وأربعين وقيل سنة خمسين ( النجمي ) .(4/136)
بنت أبي سفيان رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان فقال أو تحبين ذلك فقلت نعم لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن ذلك لا يحل لي قلت فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال بنت أم سلمة قلت نعم فقال لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن . قال عروة وثويبة مولاة لأبي لهب كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة قال له ماذا لقيت قال أبو لهب لم ألق بعدكم خيراً غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة .
موضوع الحديث : تحريم الجمع بين الأخوات وتحريم الربائب وبنات الأخ من الرضاع
المفردات
تقول أم حبيبة أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان قال أو تحبين ذلك : استغرب النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الطلب لأن من عادة النساء أن المرأة لا ترضى أن ينكح زوجها ضرة لها حتى ولو كانت قريبة
قولها لست لك بمخلية : أي لست بمنفردة بك ولا متروكة من ضرة وإذا كان كذلك فأحب من شاركني في الخير أختي
قوله إن ذلك لا يحل لي : يعني لتحريم الجمع بين الأخوات
قولها إنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال بنت أم سلمة : وهذا استفهام
قالت نعم قال إنها لو لم تكن ربيبتي : الربيبة بنت الزوجة والربيب ابنها
في حجري : هذا شرط آخر مقتض لعدم الحلية وهو كونها ربيبة وأمها زوجة مدخول بها وكونها مرباة في حجر زوج أمها
ما حلت لي : أي لو لم تكن كذلك ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة : ومعنى ذلك أن سبب التحريم في حقها أمران الأمر الأول : كونها ربيبة في حجره والأمر الثاني : كونها بنت أخيه من الرضاع(4/137)
قوله أرضعتني وأبا سلمة ثويبة : ثويبة جارية لأبي لهب أرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرضعت أبا سلمة بن عبد الأسد زوج أم سلمة السابق وأرضعت حمزة بن عبدالمطلب ولكن أبا لهب اعتقها من أجل رضاعها لابن أخيه وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -
قوله فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن : هذا نهي لهن عن عرض بناتهن وأخواتهن عليه صلوات الله وسلامه عليه .
أما ما في الإلحاق من أن العباس رأى أخاه أبا لهب بشر حيبة فقال له ماذا لقيت فقال أبو لهب لم ألق بعدكم خيراً غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة والإشارة إلى النقرة الكائنة بين الإبهام والسبابة يعني أنه سقي في تلك النقرة الصغيرة بسبب عتقه لثويبة برضاع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لكونه عاداه بعد أن بعث كان ذلك سبباً في حرمانه من كل خير
بشر حيبة : حالة
المعنى الإجمالي
تروي أم حبيبة رضي الله عنها بأنها عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أختاً لها كي ينكحها فاستغرب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فأخبرته بأنهن يحدثن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يتزوج بنت زوجته درة بنت أبي سلمة فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها لو لم تكن ربيبته ما حلت له لأنها بنت أخيه من الرضاع وقد استفيد من الحديث الأحكام الآتية
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث نصح أم حبيبة برغبتها أن تدخل أختها معها في الخير الذي حازته بزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بها
ثانياً : يؤخذ من قولها وأحب من شاركني في خير أختي يؤخذ من هذه العبارة أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كن يعتبرن زواجهن من رسول الله نكاحاً مجرداً ولكنهن يعتبرن أن نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن خير ساقه الله إليهن .(4/138)
ثالثاً : يؤخذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن ذلك لا يحل لي تحريم الجمع بين الأختين الذي دلت عليه الآية في قوله تعالى ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) [ النساء : 23]
رابعاً : يؤخذ من هذا أن أم حبيبة كانت تعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له خصائص في النكاح منها الجمع بين أكثر من أربع ومنها النكاح بالهبة فظنت أن الجمع بين الأخوات يحل له قياساً على ما علمت من زيادة العدد والنكاح بالهبة وهذا هو القول المعتمد فما كانت أم حبيبة تجهل تحريم الجمع بين الأخوات ولا تجهل تحريم نكاح الربيبة والقول الآخر أن ذلك حصل قبل أن تنزل آية النساء في المحرمات وأن أم حبيبة كانت تجهل ذلك وقائل هذا لو تأمل الحديث لكان فيه ما يدل على أن ذلك كان معلوماً عند أم حبيبة وعند غيرها ولكنها ظنت أن ذلك من خصوصياته
خامساً : يؤخذ من قولها إنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال بنت أم سلمة قالت نعم قال إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ... إلخ يؤخذ من هذه الجملة وهو المأخذ الخامس أن الربيبة محرمة إذا كانت من زوجة مدخول بها ومتربية في حجر زوج أمها(4/139)
سادساً : اختلف أهل العلم هل لهذا الشرط مفهوم مخالفة أم ليس له مفهوم مخالفة فذهب جمهور المحدثين والفقهاء أن اشتراط تربيتها في الحجر اشتراط لا مفهوم له بل إنه خرج مخرج الغالب فحرموا الربيبة سواء كانت مرباة في حجر زوج أمها أم لا إذا كانت الأم مدخول بها وذهب بعض الصحابة وأهل الظاهر إلى الأخذ بهذا القيد فقالوا أن الربيبة التي لم تكن مرباة في حجر زوج أمها تحل لزوج أمها بعد موت الأم أو مفارقتها بالطلاق واستدلوا على ذلك بما أخرجه عبدالرزاق عن مالك ابن أوس ابن الحدثان قال كان عندي امرأة قد ولدت لي فماتت فوجدت عليها فلقيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال مالك فأخبرته فقال ألها ابنة من غيرك قلت نعم قال كانت في حجرك قلت لا هي في الطائف قال فانكحها قلت فأين قوله تعالى وربائبكم قال إنها لم تكن في حجرك ) قال الصنعاني ورواية إبراهيم بن عبيد ابن رفاعة معروف ثقة تابعي وأبوه وجده صحابيان فلا التفات إلى من يزعم أنه غير معروف وكذا صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أفتى من سأله أن يتزوج بنت ربيبته كانت تحته جدتها ولم تكن البنت في حجره أخرجه أبو عبيد إلا أن الجمهور لم يقولوا بذلك وقالوا أن اشتراط الحجر خرج مخرج الغالب وهذا المذهب أسلم وبالله التوفيق
سابعاً : في قوله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاع فيؤخذ من هذا أن بنت الأخ من الرضاع إذا كان الرضاع محرماً أنها تكون محرمة على عمها من الرضاع وإن أرضعتهما أجنبية كما هو الحال في ثويبة
ثامناً : أنه اجتمع في بنت أم سلمة سببان للتحريم أحدهما كونها ربيبة والثاني كونها بنت أخيه من الرضاع(4/140)
تاسعاً : أن الجمع بين الأختين متفق على تحريمه في النكاح ومختلف في تحريمه بملك اليمين والجمهور يرون التحريم وحكي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه يجوز الجمع بينهن بملك اليمين وبذلك أخذ الظاهرية والجمهور يقولون بتحريم الجمع بينهما في النكاح لا في الملك لأن الملك يراد لغير النكاح فإن وطئ إحداهما حرمت عليه الأخرى حتى يعمل سبباً يحرم الأولى عليه
عاشراً : يؤخذ منه أن الجمع بين الأختين محرم سواء كان ذلك الجمع في وقت واحد أو نكح الأولى ثم نكح الثانية فإن نكح الأولى ثم نكح الثانية بطل نكاح الثانية وإن نكحهما معاً بطل النكاحان وبالله التوفيق.
[299]الحديث الخامس : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها .
موضوع الحديث : تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وعكسه لازم أي بين المرأة وابنة أخيها والمرأة وابنة أختها وأنه لا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى
المفردات
العمة : هي أخت الأب والخالة هي أخت الأم
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها لأن ذلك موجب للقطيعة بين ذوات الأرحام
فقه الحديث(4/141)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها أو المرأة وابنة أخيها أو المرأة وابنة أختها لا تنكح هذه على هذه ولا هذه على هذه قال ابن دقيق العيد جمهور الأمة على تحريم هذا الجمع أيضاً وهو مما أخذ من السنة وإن كان إطلاق الكتاب يقتضي الإباحة يعني قول الله عز وجل ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم ) قال إلا أن الأئمة من علماء الأمصار خصوا ذلك العموم بهذا الحديث وهو دليل على جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد أهـ . وقال الصنعاني في تعليقه جمهور الأمة على تحريم هذا الجمع أيضاً أقول كما أن جمهورهم على تحريم الجمع بين الأختين قال ابن المنذر لست أعلم في ذلك خلافاً اليوم وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج واتفق أهل العلم على القول به ولا اعتبار بخلاف من خالفه أهـ .
أقول في ذلك إيهام لأن قوله واتفق أهل العلم على القول به يقصد على القول بتحريم الجمع بين من ذكر وفي عطفه على قول الخوارج إيهام لأن المراد به قول الخوارج وكان الأولى أن يقول واتفق أهل العلم على القول بتحريم الجمع بين من ورد في الحديث بالنهي عن الجمع بينهن ثم قال الصنعاني رحمه الله ونقل الإجماع ابن عبدالبر وابن حزم والقرطبي والنووي أي نقلوا الإجماع على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها إلا أنه استثنى ابن حزم عثمان البتي وهو أحد الفقهاء القدماء من أهل البصرة .
وأقول : القول بالتحريم الوارد في الحديث هو الحق ولا عبرة بخلاف من خالفه كما قال الصنعاني ومن زعم أن خبر الآحاد لا يخصص الكتاب وإنما خصص الآية الإجماع فزعمه من أبطل الباطل إذ أن الإجماع استند على هذا الحديث وما في معناه فالإجماع إنما وقع على القول بما جاءت به السنة وليس هذا الحديث هو الوحيد في الموضوع بل ذكر الصنعاني عن الحافظ بأنه ورد من طريق ثلاثة عشر نفر من الصحابة(4/142)
ثانياً : يقال في الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة و خالتها كما قيل في الجمع بين الأختين بأنه إن تزوجهما في عقد واحد بطل العقد وإن تزوج إحداهما بعد الأخرى فالعقد على الأولى صحيح وعلى الأخيرة باطل سواء كانت الأولى هي الصغرى أو الكبرى وبالله التوفيق
[300]الحديث السادس :عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج )
موضوع الحديث : الأمر بالإيفاء بالشروط التي تستحل بها الفروج
المفردات
قوله إن أحق الشروط أن توفوا به : كأنه قال إن أحق الشروط بالوفاء هي الشروط التي تستحلون بها الفروج
جملة ما استحللتم به الفروج : في محل رفع خبر إن أي هي الشروط التي استحللتم بها الفروج
المعنى الإجمالي
تدل هذه العبارة على أن الشروط يجب الوفاء بها ولكن أشدها وجوباً أن يوفى به ما استحلت به الفروج
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الشروط التي اتفق عليها عند العقد يجب الوفاء بها لقوله تعالى (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) [ المائدة : 1]
ثانياً : يدل على أن الشروط مختلفة منها ما هو واجب ومنها ما هو أو جب ومنها ما هو شديد ومنها ما هو أشد ولكن الأوجب منها والأشد فيها ما استحلت به الفروج(4/143)
ثالثاً : اختلف أهل العلم في الشروط التي يجب الوفاء بها علماً أن الحديث الذي ورد في الشروط عامة وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - (وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا) (1)
__________
(1) الترمذي في كتاب الأحكام باب ما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلح رقم 1352 وأبو داود في كتاب الأقضية باب في الصلح رقم 3594 والحديث صححه الألباني ..(4/144)
معنى هذا الحديث أن الشرط الذي يحل حراماً أو يحرم حلالاً لا يجوز الوفاء به ومن أجل ذلك فقد حصل الخلاف في بعض الشروط فلو اشترطت المرأة على الرجل ألا يتزوج عليها فهذا الشرط حرم حلالاً وكذلك لا يتسرى عليها ولو شرط الرجل على المرأة أن تنفق على نفسها فهذا الشرط أيضاً أبطل واجباً وإذا شرطت المرأة على الرجل أن يطلق ضرتها التي هي زوجته قبلها فهل يلزمه ذلك هذا محل نظر وخلاف مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( ولا تسال المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إناءها )(1) وسؤالها طلاق أختها اشتراط فالخلاف في مثل هذه الشروط التي تحرم حلالاً أو تحل حراماً أو تمنع واجباً هل المقصود بالحديث مثل ذلك وأنه إن شرطت عليه أن لا يتزوج عليها وجب عليه الوفاء وإن شرط على المرأة أن لا ينفق عليها لم يلزم لها النفقة مع أن الله سبحانه وتعالى يقول (وَإِن كُنّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنّ حَتّىَ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ ) [ الطلاق : 6 ] والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ( إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة ) (2)
__________
(1) البخاري في كتاب البيوع باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه رقم 2140 وفي كتاب الشروط باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح رقم 2723 وفي كتاب القدر باب وكان أمر الله قدراً مقدوراً بنحوه رقم 6601 ورواه مسلم في كتاب النكاح باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه المسلم حتى يأذن برقم 1413والترمذي في كتاب الطلاق واللعان باب ما جاء لا تسأل المرأة طلاق أختها برقم 1190 والنسائي في كتاب النكاح باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه رقم 3239 وفي كتاب البيوع باب سوم الرجل على سوم أخيه رقم 4502 وأبو داود في كتاب الطلاق باب في المرأة تسأل زوجها طلاقه امرأة له برقم 2176 وأحمد برقم 7247 ومالك في كتاب الجامع باب جامع ما جاء في أهل القدر رقم 1666
(2) النسائي في كتاب الطلاق باب الرخصة في ذلك رقم 3403 والحديث صححه الألباني .(4/145)
إلى غير ذلك من الأدلة فمن نظر إلى أن صاحب الحق إذا وافق على هذا الشرط فقد أسقط حقه قال بالوفاء بهذه الشروط ومن نظر إلى أن هذه الشروط قد تحل حراماً أو تحرم حلالاً أو تسقط واجباً أو تبيح محظوراً قال بأن هذه الشروط لا يلزم الوفاء بها ومن أجل ذلك فقد وقع الخلاف بين أهل العلم في بعض هذه الشروط أما ما اقتضاه العقد من الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان أو وجوب النفقة والمسكن والكسوة فهذه لا تأثير للشرط فيها إذ أنها مشروطة بمقتضى العقد كما أمر الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك ويلتحق بذلك شرط المرأة على الرجل أن لا ينتقل بها من دارها أو محلتها وهذا الشرط قد رأى بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم وجوب الوفاء به لأن المشروط عليه قد اسقط حقه بقبول هذا الشرط وبالله التوفيق .
[301]الحديث السابع : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار ، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق .
موضوع الحديث : النهي عن النكاح الذي يكون مشروطاً بنكاح آخر
المفردات
الشغار : مأخوذ من شغر الكلب برجله إذا رفعها ليبول وقيل من شغر المكان إذا خلى وشغرت الوظيفة إذا خلت ممن يشغلها والمعنى يدور حول الخلو والرفع إما أن يكون لا ارفع لك عن موليتي إلا بأن ترفع لي عن موليتك وإما أن يكون من الخلو ومعنى ذلك أن يخلو هذا النكاح عن الصداق هكذا فسره أهل العلم لكن اختلف في هذا التفسير هل هو من الصحابي أو من التابعي وهو نافع أو ممن دون ذلك وهو مالك
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح الشغار لما فيه من المخالفة وما يترتب عليه من المفاسد
فقه الحديث(4/146)
أولاً : يؤخذ من الحديث تحريم الشغار في النكاح وذلك بأن يكون كل واحد من النكاحين مشروط بالآخر وهل العلة في النهي الاشتراط أو عدم وجود الصداق هذا محل خلاف ونظر والذي يترجح لي في هذه المسألة أن النهي مترتب على وجود الاشتراط إذا اشترط أحد النكاحين بالآخر وقد رأينا وعرفنا من هذا القبيل الشيء الكثير فإنه إذا حصل هذا الشرط ودب الفساد بين إحدى الأسرتين دب إلى الأسرة الأخرى وكل منهما يقول كيف تبقى ابنتي تحت فلان وابنته قد خرجت مني أو تمردت عليّ فيجبرون المرأة في الأسرة الصالحة على أن تمتنع من زوجها وهذا هو السبب في النهي ، أما عدم وجود الصداق فيمكن أن يحكم بصحة النكاح وللمرأة صداق المثل كالمولية وبهذا يتبين أن العلة في النهي هي الاشتراط .
ثانياً : هل يصح عقد النكاح الذي وقع في الشغار القول الصحيح أن عقد النكاح المبني على الشغار عقد باطل لا يصح أما انتقاد الصنعاني رحمه الله للمعنى الأول وهو أن يقول لا أرفع لك عن موليتي إلا بأن ترفع لي عن موليتك فهذا انتقاد في غير محله فيما أرى وليس معنى ذلك التفسير المكروه وهو رفع الرِجل ولكن المقصود بالرفع المراد به فتح الباب أي لا أفتح لك باب النكاح لابنتي إلا بأن تفتح لي باب النكاح لابنتك وهو راجع إلى الاشتراط وإن قلنا العلة فيه الخلو فإما أن يكون المقصود الخلو من المهر وإما أن يكون المقصود الخلو من الاشتراط المعوق وهذا هو الأقرب إلا في صورة واحدة وهو أن يجعل بضع هذه مهراً لبضع تلك فإذا كان الأمر هكذا فإنه هو الشغار بغير خلاف وبالله التوفيق .
[302]الحديث الثامن : عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية .
موضوع الحديث : تحريم نكاح المتعة
المفردات
نكاح المتعة : نكاح مؤقت بزمن يتفق عليه الناكح والمنكوحة فقط وهو حرام
يوم خيبر : أي يوم فتح خيبر(4/147)
قوله وعن لحوم الحمر الأهلية : أي ونهى كذلك عن لحوم الحمر الأهلية والحمر الأهلية هي الإنسية بخلاف الحمر الوحشية فإنها مباحة والإنسية هي الآنسة تأنس إلى الناس ولا تنفر منهم
المعنى الإجمالي
يخبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المتعة الذي هو نكاح إلى أجل وعن أكل لحوم الحمر الأهلية
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم نكاح المتعة وسمي هذا النكاح نكاح متعة لأنه نكاح لا يقصد به العلاقة المستديمة ولا الاستيلاد بل مقصود صاحبه التمتع فقط وهذا النكاح كان مباحاً في أول الإسلام فقد فعله الصحابة بإذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم حرم في موقعة خيبر ثم أبيح يوم فتح مكة ثم حرم إلى يوم القيامة
ثانياً : حصل خلاف بين أهل العلم في وقت تحريم نكاح المتعة والأقرب أن التحريم المؤبد حصل بعد فتح مكة لحديث الربيع بن سبرة عن أبيه في صحيح مسلم (1)
ثالثاً : اتفق أهل العلم على تحريم نكاح المتعة فقد كان في عصر الصحابة خلاف في بقاء حكمها واشتهر القول بإباحتها عن ابن عباس رضي الله عنه وجماعة ولكن ابن عباس رضي الله عنه رجع بعد ذلك
رابعاً : نكاح المتعة هو أن يتزوج المرأة إلى أجل معلوم وأن يكون بين الرجل والمرأة فقط دون سواهما وقد أبدلنا الله عز وجل عن ذلك بالنكاح الصحيح الذي يشترط فيه الولي وشاهدان وإعلان النكاح بالدف والغناء
خامساً : بقيت الرافضة تقول بنكاح المتعة وقولهم باطل مخالف لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رضوان الله عليهم
سادساً : وقع الإجماع بعد ذلك على تحريم نكاح المتعة وأنه محرم إلى يوم القيامة
__________
(1) صحيح مسلم في كتاب النكاح باب نكاح المتعة رقم 1406 والدارمي في كتاب النكاح باب النهي عن متعة النساء رقم 2196 .(4/148)
سابعاً : اختلف أهل العلم فيمن عقد على امرأة وأسر في نفسه أنه يطلقها بعد مدة معينة فبعضهم أجاز ذلك والجمهور على منعه لأنه يوافق المتعة في كونه عاقداً في نفسه أنه يطلق بعد مدة معينة إلا أن الإثم ينحصر فيمن نوى هذه النية ولم يطلع عليها أحداً لا المرأة المنكوحة ولا أوليائها وبالله التوفيق .
[303]الحديث التاسع : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا يا رسول الله فكيف إذنها قال أن تسكت .
موضوع الحديث : شرط نكاح الأيم وشرط نكاح البكر وأن الأيم لا بد وأن تستأمر أما البكر فإذنها صماتها
المفردات
الأيم : تطلق ويراد بها الثيب التي قد تزوجت زوجاً دخل بها ثم فارقها أو مات عنها وتطلق ويراد بها من لا زوج لها وقد تطلق هذه الكلمة على الرجل الذي لا زوجة له
قوله تستأمر : أي يطلب أمرها ومعنى ذلك أنه لا يكفي السكوت كما في البكر
قوله والبكر : المراد به من لم توطأ بنكاح
قوله تستأذن : أي يطلب إذنها
قولهم فكيف إذنها : استفهام عن صفته
قوله أن تسكت : يعني أن أذنها سكوتها
المعنى الإجمالي
الله أكبر ما أعدل شرائع الإسلام وأجملها فهاهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن لأن إنكاحها بغير رضاها مصادرة لحريتها وهي التي ستعيش مع الزوج فلا بد من تصريحها بالأمر أما البكر فتستأذن وإذنها صماتها
فقه الحديث(4/149)
أولاً : يؤخذ من قوله ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر ) أن النكاح لا بد أن يكون بإشراف الولي والولي شرط في صحة النكاح للأدلة الآتية أولاً : قول الله سبحانه وتعالى ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) [ النساء : 25 ] ثانياً : نهى الله عز وجل للأولياء عن العضل حيث يقول سبحانه وتعالى (وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَىَلَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 232 ] فالأمر بأن يكون النكاح بإذن أهلهن سواء كن حرائر أو إماء ونهى الأولياء عن العضل دليل واضح على اشتراط الولي وفي الحديث ( لا نكاح إلا بولي)(1) وهذا الحديث وإن كان فيه كلام إلا أن له شواهد تبلغه إلى درجة الصحة أو الحسن
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء لا نكاح إلا بولي رقم 1101 ورواه أبو داود في كتاب النكاح باب في الولي رقم 2085 وابن ماجة في كتاب النكاح باب لا نكاح إلا بولي رقم 1880و1881 وأحمد رقم 2260 والدارمي في كتاب النكاح باب النهي عن النكاح بغير ولي رقم 2182 والحديث صححه الألباني .(4/150)
ثانياً : يؤخذ من قوله ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر ) بأن النكاح ليس في يدها وإنما هو بيد وليها وإلى اشتراط الولي ذهب الجمهور وخالف في ذلك الحنفية قال ابن عبدالبر روى معقل بن يسار قال كانت لي أخت تخطب إلي فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه ثم طلقها طلاقاً رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها فلما خطبت أتاني يخطبها فقلت والله لا أنكحتكها أبداً قال ففي نزلت ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ) قال فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه (1) ثم ذكر رواية البخاري فقال قال البخاري وأخبرنا أبو معمر حدثنا عبدالوارث حدثنا يونس عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها ثم خطبها فأبى معقل فنزلت هذه الآية ( فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ) (2) قال البخاري وقال إبراهيم عن يونس عن الحسن حدثني معقل بن يسار قال أبو عمر هذا أصح شيء وأوضحه في أن للولي حقاً في الإنكاح ولا نكاح إلا به لأنه لولا ذلك ما نهي عن العضل ولا استغني عنه قال أبو عمر وقد صرح الكتاب والسنة ( أن لا نكاح إلا بولي ) فلا معنى لما خالفهما ألا ترى أن الولي نهي عن العضل وقد أمر بخلاف العضل وهو التزويج قال أبو عمر في اتفاقهم على أن للولي فسخ نكاح وليته إذا تزوجت غير كفء بغير إذنه دليل على أن له حقاً في الإنكاح بالكفء وغير الكفء قال ولا خلاف بين أبي حنيفة وأصحابه أنه إذا أذن لها وليها فعقدت النكاح لنفسها جاز وقال الأوزاعي إذا ولت أمرها رجلاً فزوجها كفؤاً فالنكاح جائز وليس للولي أن يفرق بينهما أهـ من كتاب التمهيد ج 19 ص 9089
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب في العضل رقم 2087 والحديث صححه الألباني .
(2) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن رقم 4529 وفي كتاب النكاح باب من قال لا نكاح إلا بولي رقم 5130 وفي باب (وبعولتهن أحق بردهن ) رقم 5331 .(4/151)
وأقول إن هذه الأدلة صريحة في اشتراط الولي وهي تدل على أن نكاح المرأة بغير إذن وليها باطل للأدلة التي سبق ذكرها ولحديث ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ) (1) قلت : الأدلة الواردة في الكتاب والسنة أن المرأة لا يجوز لها أن تزوج نفسها لحديث عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَلِيَّ لَه ُ)(2) وكل ذلك يدل على بطلان مذهب أبي حنيفة الذي يبيح للمرأة أن تزوج نفسها
أولاً : لأن المرأة لا ولاية لها على نفسها ولا على غيرها
__________
(1) رواه ابن حبان رقم 4075 والدارقطني رقم 24 وفي المعجم الأوسط رقم 9291 وسنن البيهقي رقم 13496 كلهم من طريق عائشة رضي الله عنها ومن رواية ابن عباس وفيها زيادة ( بولي مرشد ) في مسند الشافعي رقم 1075 وسنن البيهقي رقم 13428 ومن طريق عمران بن حصين في المعجم الكبير رقم 299 وفي الإرواء رقم 1860 .
(2) الترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء لا نكاح إلا بولي رقم 1102 وأبو داود في كتاب النكاح باب في الولي رقم 2083 وابن ماجة في كتاب النكاح باب لا نكاح إلا بولي رقم 1879 وأحمد رقم 23851 و 23685 والدارمي في كتاب النكاح باب النهي عن النكاح بغير ولي رقم 2184 والحديث صححه الألباني .(4/152)
ثانياً : أن الفارق بين المال والبضع واضح فهي قد تنساق للشهوة وتبذل بضعها لمن لا يكون كفؤاً ولأنها ناقصة عقل ودين فقد ربط الله الولاية بالرجال ليكون في ذلك حاجز عن التصرف الغوغائي وقد سمعت في شريط لعبد الحميد كشك رحمه الله والظاهر أنه يرد فيه على الحنفية مذهبهم الشنيع قال كان شاب معه شلة شباب مفسدين في مصر وهو ابن فقيه حنفي فقال هذا الشاب لشلته إذا أراد أحدكم أن يبيت مع امرأة فليعطها شيئاً وتقول زوجتك نفسي فإذا فارقها طلقها والذي أريد الاستشهاد عليه أن هذا الشاب قد جعل مذهب الحنفية وسيلة للعبث بأعراض النساء وذريعة إلى الإفساد في الأرض وفيما ذكر كفاية وبالله التوفيق .
ثالثاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الأيم تستأمر بمعنى أنها تصرح بالأمر بإنكاحها من الشخص الذي تريده ولا يقبل منها إلا ذلك
رابعاً: أن الثيب لا تجبر(4/153)
خامساً : أن البكر تستأذن أي يؤخذ إذنها في النكاح فإن سكتت فذلك إذن لهذا الحديث وإن ضحكت فذلك إذن أيضاً وإن بكت فهل يكون ذلك إذن أم لا ؟ علماً بأن بعض الناس قد يبكي من الفرح ومما يدل على ذلك ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت بينا نحن في بيتنا إذا نحن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قام قائم الظهيرة ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطئه أن يأتي بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه أول النهار أو من آخره فلما رآه أبو بكر قال ما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الساعة إلا لأمر قال فدخل البيت قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرج من عندك فقال ليس عليك عين إنما هن بناتي فقال قد أذن لي في الخروج قلت فالصحبة يا رسول الله قال نعم الصحبة فلقد رأيت أبا بكر يبكي من الفرح ... ) (1)
__________
(1) مسند إسحاق بن راهويه برقم 1161 ومما يدل أن المرء يبكي أيضاً من الفرح ما ورد من قصة إسلام أم أبي هريرة رضي الله عنه وفيها ( فَفَتَحَتِ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - َ فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ ) الحديث رواه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه رقم 2491 وأحمد برقم 8242(4/154)
سادساً : أن للأب خاصة أن يزوج ابنته الصغيرة بدون إذن منها وقد حكى الاتفاق على ذلك وفي البالغة خلاف والصواب أن البالغة تستأذن ولو كان المزوج أباها وذلك لما روت عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ فَتَاةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ وَأَنَا كَارِهَةٌ قَالَتْ اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِيهَا فَدَعَاهُ فَجَعَلَ الأَمْرَ إِلَيْهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ أَلِلنِّسَاءِ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) (1) وبالله التوفيق
[304]الحديث العاشر :عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت :كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبدالرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذق عسيلتك قالت ـ وأبو بكر عنده ـ وخالد بن سعيد بالباب ينتظر أن يؤذن له ، فنادى : يا أبا بكر ، ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
موضوع الحديث :أن من طلق زوجته طلاقاً بائناً بينونة كبرى ثم تزوجت برجل آخر أنها لا تحل للأول إن فارقها الثاني بغير تبييت نية تحليل إلا بعد جماع يشعر بلذته الرجل والمرأة وهل يُشترط فيه الانتشار والإنزال هذا محل نظر
المفردات
__________
(1) رواه النسائي في كتاب النكاح باب البكر يزوجها أبوها وهي كارهة رقم 3269 وابن ماجة في كتاب النكاح باب من زوج ابنته وهي كارهة رقم 1874 والدار قطني رقم 45 و46 و47 والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم رقم 3337 .(4/155)
رفاعة القرظي : نسبة إلى بني قريظة ومطلقته اسمها تميمة بنت وهب بمثناة مضمومة مصغرة أي تُميمة ورفاعة هو ابن سموئل وعبدالرحمن بن الزبير أبوه الزبير بن باطا وكل الثلاثة من بقايا بني قريظة الذين أسلموا أو الذين كانوا وقت قتل آبائهم وأمهاتهم دون الحلم وللزبير بن باطا قصة مع ثابت بن قيس بن شماس ذكرها أصحاب المغازي والسير وهو أنه كان قد أسر ثابت بن قيس في حروب بينهم وبين بني قريظة والأنصار في الجاهلية وحلق رأسه ومنّ عليه فلما نزلوا على حكم سعد بن معاذ وحكم عليهم بالقتل أي جميع البالغين أراد ثابت أن يرد يده فذهب إليه وقال له أطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمك فوافق ولكنه قال كيف أبقى بدون عيال فطلب ثابت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمّن عليه بأولاده ففعل وأخيراً قال كيف يعيش رجل في الحجاز بدون مال فطلب ثابت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمّن عليه بماله ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخيراً قال لثابت ما هي إلا قبلة ناضح حتى ألحق الأحبة فطلب منه أن يضرب عنقه ففعل
قولها طلقني فبت طلاقي : البتُّ معناه الطلاق المبين بينونة كبرى فلا تحل له بعدها حتى تنكح زوجاً غيره
قولها وإنما معه مثل هدبة الثوب : شبهت ما معه بهدبة الثوب إما في الرقة والرخاوة وإما في الصغر
أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا : أي لا يتم لك ذلك حتى تذوقي عسيلة زوجك الجديد ويذوق عسيلتك والعُسيلة تصغير عسلة وهو كناية عن لذة الجماع
وأبو بكر عنده : أي جالس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قالت له ذلك
وخالد بن سعيد بالباب : هو خالد بن سعيد بن العاص
بالباب : أي ينتظر أن يُؤذن له
فنادى يا أبا بكر ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكأنه يريد من أبي بكر أن ينتهرها ولكن أبا بكر لزم الأدب عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يمكنه أن يتقدم بين يديه بشيء(4/156)
المعنى الإجمالي
تقول عائشة رضي الله عنها جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي وأخبرت أنها تزوجت بعده بعبدالرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب تعريضاً بأنها تريد أن تخرج منه وتعود إلى زوجها الأول رفاعة فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرف أنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول فقال لها لا حتى تذوقي عسيلة زوجك الجديد ويذوق عسيلتك كناية عن شرطية وجود لذة الجماع في حل الزواج الثاني وعلى هذا فيحمل قوله تعالى ( حتى تنكح زوجاً غيره ) على أن المراد بالنكاح هنا الذي هو لذة الجماع وبالله التوفيق
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث أن طلاق البته موجب لتحريم الزوجة المطلقة على زوجها المطلق وبينونتها منه بينونة كبرى لا تحل له بعدها حتى تنكح زوجاً غيره
ثانياً : ذكر الصنعاني في العدة لطلاق البتة احتمالات وهي إرسالها أي الطلقات دفعة واحدة كقول القائل أنت طالق ثلاثاً أو مفرقة بأن يكرر أنت طالق عدة مرات تصل إلى ثلاث أو يقول لها هي طالق البتة أو طلاق البينونة بأن يقول أنت طالق طلاق البتة أو أنت بائن وهذا كله عند من يرى وقوع هذه الألفاظ مبينة لمن طلقها وهم الجمهور وذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك لا يكفي بل لا بد أن تكون الطلقات مفرقة كل طلقة تتبعها رجعة وفي الثالثة تكون البينونة وهذا مذهب بعض أهل العلم وممن ذهب إلى ذلك الظاهرية وابن تيميه وتلميذه ابن القيم الجوزية وحكاه الصنعاني عن الهادوية ومسالة الطلاق فيها خلاف طويل ونزاع كثير سيأتي بعضه في كتاب الطلاق
ثالثاً : يؤخذ من قولها فتزوجت بعده بعبدالرحمن بن الزبير أنها أتت شاكية من عبدالرحمن وراغبة في الرجوع إلى زوجها الأول
رابعاً : يدل على ذلك قولها وإنما معه مثل هدبة الثوب
خامساً : قوله فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي متعجباً من صنيعها(4/157)
سادساً : قوله لها أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة يؤخذ منه أن الظن الذي تسنده قرائن يؤخذ به
سابعاً : قوله لها لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك أفتاها بعدم جواز رجوعها إلى رفاعة على نقيض قصدها
ثامناً : يؤخذ من قوله لا حتى تذوقي عسيلته أن تحليل الزوج الثاني للزوج الأول إنما يكون بالجماع الذي تصحبه اللذة وهل يشترط الانتشار والإنزال هذا محل نظر
تاسعاً : يؤخذ من هذه الفتوى أن قوله سبحانه وتعالى ( حتى تنكح زوجاً غيره ) ليس مجرد النكاح الذي هو العقد ولكن لا بد أن يصحبه الدخول بها وهو الجماع
عاشراً : يؤخذ من مجموع الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفتاها بنقيض قصدها حيث أنها ظنت أن مجرد زواجها من عبدالرحمن سيكون مبيحاً لزوجها الأول وهي قد اعترفت بأنه لم يصل منها إلى كبير شيء فأفتاها بنقيض قصدها
الحادي عشر : هذا هو مذهب الجمهور على مقتضى هذا الحديث وشذ رجلان من السلف رحمهما الله فذهب سعيد بن المسيب إلى أن مطلق العقد يكفي لحل المبتوتة للزوج الأول وخالف في ذلك الإجماع وذهب الحسن البصري رحمه الله إلى أنها لا تحل إلا بجماع يكون فيه إنزال وشذ بذلك عن رأي الجمهور أما جمهور الفقهاء فهم يشترطون الجماع ولو لم يصحبه إنزال بل إن الحل يترتب على إدخال الحشفة في الفرج الذي قال النووي أنه يترتب عليه مائة حكم
الثاني عشر : أن من احتال حيلة يقصد بها استعجال الشيء المحرم المشروط بشرط أنه يعاقب بحرمانه من ذلك مؤقتاً حتى يتحقق الشرط وبالله التوفيق.
[305]الحديث الحادي عشر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً وقسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم ) قال أبو قلابة ولو شئت لقلت إن أنساً رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
موضوع الحديث : ما يلزم للمرأة المستجدة من إقامة الزوج عندها سواء كانت بكراً أو ثيباً
المفردات(4/158)
قوله من السنة : أي من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وطريقته
البكر : هي التي لم تتزوج أي لم توطأ بنكاح صحيح
الثيب : هي من قد تزوجت أي وطئت بنكاح صحيح
أقام عندها سبعاً : أي سبع ليال
وقسم : أي بينها وبين ضرتها أو ضراتها وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم
المعنى الإجمالي
يحكي أبو قلابة أن من السنة التي جرى عليها الشرع وعمل بها في زمن النبوة وبعده أنه إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً أي سبع ليال وقسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم والخلاصة أن حق البكر الجديدة سبعة أيام وحق الثيب الجديدة ثلاثة أيام
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن قول الصحابي من السنة كذا له حكم الرفع لأن السنة في عصر النبوة وبعدها هي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -
ثانياً أن من تزوج البكر وعنده امرأة قبلها وجب لها عليه أي يعطيها سبع ليال ولسنا مكلفين أن نعرف العلة فتحتمل أن تكون الإيناس ويحتمل أن يكون هذا حق لها من غير تعليل
ثالثاً : إذا تزوج امرأة ثيباً على امرأة قبلها أقام عندها ثلاثة أيام ثم قسم
رابعاً : ما هو الفرق بين البكر والثيب حتى جعل الشارع للبكر سبعاً وللثيب ثلاثاً ؟
الفرق أن البكر غالباً تكون حديثة السن منكمشة قليلة الانسجام فجعل لها الشارع سبعاً ليتم إيناسها أما الثيب فإنها قد عرفت الأزواج وجربت الأمور فلذلك أعطيت ثلاثاً فقط(4/159)
خامساً: إذا رضيت الثيب في أن يسبع لها سقط حقها في الثلاث ووجب على الزوج أن يقضي لضرتها ما أقام عندها وهذا هو الاحتمال الأظهر لحديث أم سلمة عند مسلم أن رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا وَقَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي) (1) وفي هذا دليل على أنه يقضي السبع كلها لضرتها إن اختارت التسبيع وفي الحديث دليل على أن قول من قال يقضي لها الأربع الزائدة أن قوله ضعيف .
سادساً : هل يرتبط هذا الحق بما إذا كان له زوجة أخرى أو أنه يجب عليه وإن لم يكن له زوجة هذا محل نظر والأظهر أن ذلك لا يكون واجباً عليه إذا لم يكن له زوجة قبلها وهو بالطبيعة في هذه الحال سيأوي إليها وليس له حق أن يصرف مالها من حق عليه في الوطء والإيناس يصرفه إلى شيء آخر قد يدخل في قسم المباحات
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الرضاع باب قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف رقم 1460 وأبو داود في كتاب النكاح باب في المقام عند البكر رقم 2122 وابن ماجة في كتاب النكاح باب الإقامة على البكر والثيب رقم 1917 وأحمد برقم 27037 ومالك في كتاب النكاح باب المقام عند البكر والأيم رقم 1123 والدارمي في كتاب النكاح باب الإقامة عند الثيب والبكر إذا بنى بها رقم 2210(4/160)
سابعاً : إذا أراد أن يتخلى في بعض الليالي للعبادة فهل يلزم بشيء معين هذا محل نظر ويذكرنا هذا البحث بالقصة التي حدثت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أتته امرأة فشكرت عنده زوجها وقالت هو من خير أهل الدنيا يقوم الليل ويصوم النهار ثم أدركها الحياء فقال جزاك الله خيرا فقد أحسنت الثناء فلما ولت قال كعب بن سور يا أمير المؤمنين لقد أبلغت في الشكوى إليك فقال وما اشتكت قال زوجها قال علي بهما فقال لكعب اقض بينهما قال أقضي وأنت شاهد قال إنك قد فطنت إلى ما لم أفطن له قال إن الله تعالى يقول فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع صم ثلاثة أيام وأفطر عندها يوما وقم ثلاث ليال وبت عندها ليلة فقال عمر هذا أعجب إلي من الأول فبعثه قاضيا لأهل البصرة(1) وفي المسالة كلام أكثر من هذا وهو أنه قال إن الذي شغله عنها ما يجد من حلاوة تلاوة آل حم وأمثالها وبالله التوفيق
ثامناً: هل الواجب في القسم المبيت أو الواجب الوطء قال أهل العلم إن الواجب هو المبيت أما الوطء فإنه يتعلق بارتياح القلب لذلك فإنه تلزم فيه المساواة بل يقال أنه لو جاء إلى هذه المرأة ولم يكن مرتاحاً لها لم يلزمه في هذا المبيت الجماع وأتى إلى تلك المرأة وكان مرتاحاً لها فإنه ليس عليه حرج أن يجامع في ليلة هذه ولا يجامع في ليلة تلك
تاسعاً : ومما أذكره أن شيخنا حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله تعالى قال إذا كانت إحدى الضرتين مريضة فلا يجوز لك في ليلتها أن تجامع ضرتها حتى ولو بت عندها أي حتى ولو بت عند صاحبة الليلة .
[306]الحديث الثاني عشر :عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا . فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً ) .
__________
(1) الطرق الحكمية لابن القيم الجوزية ص 35 تحقيق د/ محمد جميل غازي(4/161)
موضوع الحديث :الاستعاذة عند إرادة الجماع
المفردات
قوله أراد أن يأتي أهله : المراد بالإتيان هنا الجماع فهو كناية
قوله إن يقدر بينهما ولد : يعني من تلك المواقعة
قوله لم يضره الشيطان : أي لم يضره بخبل ولا مس لعله هكذا
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من دعا بهذا الدعاء عند إرادة الجماع فإن الله يحمي الولد الكائن من تلك المواقعة يحميه من ضرر الشيطان
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث مشروعية هذا الدعاء عند الجماع
ثانياً : يؤخذ من قوله إذا أراد أن يأتي أهله معنى هذا أن يقول هذا قبل التلبس بالجماع
ثالثاً :أن من فائدة هذا الذكر عند الجماع أن الله يحمي الولد الذي يكون من تلك المواقعة يحميه من ضرر الشيطان وليس معنى ذلك أنه يعصمه فإن العصمة إنما هي للأنبياء وبالله التوفيق
رابعاً : جواز استخدام لو عند الحاجة
[307]الحديث الثالث عشر: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أرأيت الحمو قال الحمو الموت .
ولمسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال سمعت الليث يقول الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج وابن العم ونحوه .
موضوع الحديث : النهي عن الدخول على النساء لما فيه من الخطورة على الدين والخلق
المفردات(4/162)
الحمو : ضبط بضبطين ضبط بالهمزة وبه صرح القرطبي كما في العدة للصنعاني ورسمه بالحاء والميم بعدها واو عليها همزة . الضبط الثاني وهو الذي حكاه الصنعاني عن الخطابي وأبي عبيد الهروي وابن الأثير وغيرهما قال الحافظ ابن حجر وهو الذي ثبت عندنا في رواية البخاري الحمو على زنة دلو أما من ناحية معنى الحمو فهم أقارب الزوج كأبيه وأخيه وعمه وابن عمه والمعنى أقارب الزوج والأختان أقارب الزوجة كأبيها وأخيها وما أشبه ذلك واسم الأصهار يقع على الجميع قال تعالى ( وَهُوَ الّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبّكَ قَدِيراً )[ الفرقان : 54 ]
المعنى الإجمالي
حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدخول على النساء الأجنبيات فسأله بعضهم عن الحمو وهو اسم جنس لأقارب الزوج فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الحمو الموت
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم دخول أقارب الزوج على زوجته وذلك أن الناس يتساهلون في هذا الأمر عادة وقد استشكل هذا الجواب وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحمو الموت هل المراد به المنع أو الإباحة وعلى هذا فلا بد من التفصيل فإن كان القصد من هذه الكلمة إباحة الدخول وتحقق وجوده فإنه يحمل على أبي الزوج الذي هو محرم لزوجة ابنه أما إن كان المقصود به الزجر والمنع والنهي عن الدخول فهو محمول على أقارب الزوج الذين ليسوا بمحارم ويكون قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (الحمو الموت ) مقصود به أنه الخطر منه متحقق كتحقق الموت وهذا هو الأقرب لتأويل الحديث لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصد بهذا النهي الزجر عن الدخول على النساء والخلوة بهن لما يترتب على ذلك من الفواحش وشيوع المنكرات وانتشارها في المجتمعات الإسلامية فكأنه جعل خطر الحمو كخطر الموت وتحقق وجوده الخطر كتحقق وجود الموت وبالله التوفيق(4/163)
ثانياً : نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدخول على النساء متضمن ومستلزم لنهيه أيضاً المرأة أن تكشف محاسنها أمام رجل من أقارب زوجها والله سبحانه وتعالى قد حذر من ذلك كما في سورة النور حيث يقول تعالى ( قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىَ لَهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ - وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ) [ النور : 30 ، 31 ] وقد تضمنت هاتين الآيتين النهي عن نظر الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل حتى ولو كان في غير خلوة لأن ذلك مما يسبب انتشار الفواحش وللنفوس دخائل يعلمها الله سبحانه وتعالى فما حرم الله النظر إلى غير المحارم إلا لما يعلمه في ضمن ذلك من الريبة والتذرع إلى المحرمات والله هو أعلم بالعباد من أنفسهم وكم من امرأة عفيفة صارت ضحية للشيطان بسبب نظرة والناس دائماً يحاولون التغطية على الحقائق ولكن الله سبحانه وتعالى عليم بالنفوس وما فيها فينبغي عدم الاغترار بما يشيعه كثير من الناس من استبعاد وقوع الفاحشة في مثل هذه الملابسات والله تعالى يقول (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنّ اللّهَ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [ النور : 21 ]
باب الصداق
[308]الحديث الأول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها .
موضوع الحديث : جعل العتق صداقاً
المفردات(4/164)
صفية بنت حيي بن أخطب اليهودي النضيري نسبهم في هارون بن عمران والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لصفيه حين كانت إحدى نسائه تساميها وتفخر عليها حيث قال ( إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفخر عليك ثم قال اتقي الله يا حفصة ) (1)
قوله اعتقها وجعل عتقها صداقها : أي جعل العتق صداقاً والعتق منفعة للمرأة فهي منفعة عظيمة حيث تنقلها من الرق إلى الحرية .
المعنى الإجمالي
كون النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتق صفية وجعل عتقها صداقها هذا كلام مجمل يؤدي إلى معرفة الحكم وبيان الواقعة
فقه الحديث
__________
(1) الترمذي في كِتَاب الْمَنَاقِبِ في بَاب فَضْلِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رقم 3894 وأحمد رقم 12419 والحديث صححه الألباني .
قال في تحفة الأحوذي : ( أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ ) أَيْ فِي حَقِّ صَفِيَّةَ ( بِنْتَ يَهُودِيٍّ ) أَيْ نَظَرًا إِلَى أَبِيهَا ( قَالَتْ ) أَيْ صَفِيَّةُ ( قَالَتْ لِي حَفْصَةُ ) أَيْ فِي حَقِّي " وَإِنَّك لابْنَةُ نَبِيٍّ " أَيْ هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ " وَإِنَّ عَمَّك لَنَبِيٌّ " أَيْ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ " إوِنَّك لِتَحْتِ نَبِيٍّ " أَيْ الآنَ "(( يعني نفسه )) أهـ(4/165)
أولاً : يؤخذ من الحديث جواز عتق الأمة وجعل عتقها صداقاً لها وقد نازع في ذلك كثير من الفقهاء وقالوا أنه يتنافى مع القياس حيث زعموا أنه تم النكاح وهي في الرق فهذا ليس بصحيح لتنافي الرق مع جواز التصرف الذي يبنى عليه العقد وإن قلنا بعده لم يصح لأن الرق قد زال عنها لذلك ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز جعل العتق صداقاً وحملوا الحديث على أنه من خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم - وذهب أحمد إلى جواز ذلك وهو الصحيح لموافقته الدليل أولاً : فإن قولهم بالقياس قول باطل لأنه لا قياس مع النص ثانياً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها وهذا تشريع منه - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد عنه ما يدل على الخصوصية لأن الأصل في الأحكام التشريع ثالثاً : أن العاقد عليها هو الذي يملك رقبتها فكما أنه يجوز له العقد عليها بيعاً للغير أو تزويجاً لها منه فكيف يصح عقده عليها بيعاً للغير أو تزويجاً له ولا يصح عقده عليها لنفسه
رابعاً : أن العتق منفعة وقد أجاز الشرع جعل المهر منفعة كما في حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يردها ثم زوجها من رجل آخر بتعليم شيء من القرآن ومن هذه الأوجه ظهر ضعف قول القائلين بأنه لا يجوز له العقد عليها ولكن يصح العقد عليها بمهر أرجو أن الحق في هذا هو ما ذهب إليه الإمام أحمد وهو ما أيدناه بهذه الكلمات والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وبالله التوفيق
[(4/166)
309]الحديث الثاني : عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة فقالت إني وهبت نفسي لك فقامت طويلاً فقال رجل يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال : هل عندك من شيء تصدقها ؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك فالتمس شيئاً قال ما أجد قال التمس ولو خاتماً من حديد فالتمس فلم يجد شيئاً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل معك شيء من القرآن ؟ قال نعم قال رسول الله زوجتكها بما معك من القرآن ).
موضوع الحديث :جعل المنفعة صداقاً وأن تعليم القرآن من أعظم المنافع
المفردات
جاءته امرأة : نقل الصنعاني عن الحافظ بن حجر أنه قال لم نقف على اسمها وكذلك الرجل الذي طلب التزوج بها .
قوله إن لم يكن لك بها حاجة : هذا قيد في الطلب
فقالت إني وهبت نفسي لك : النكاح بالهبة مخصوص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره لقوله سبحانه وتعالى (وَامْرَأَةً مّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ إِنْ أَرَادَ النّبِيّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ .. ) [ الأحزاب : 50 ] فهذا يدل على الخصوصية
هل عندك من شيء تصدقها إياه : دليل أن الصداق أمر لا بد منه في النكاح
فقال ما عندي إلا إزاري هذا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إزارك : الظاهر أن قوله إزارك استفهام إنكاري يعني كيف يمكن أن تعطيها إزارك وأنت لا إزار لك غيره وهو معنى قوله إن أعطيتها جلست ولا إزار لك
قوله فالتمس شيئاً : تأكيد حيث أمره مرةً أخرى بالالتماس
قوله ما أجد : هذا اعتذار من الرجل
قوله التمس ولو خاتماً من حديد : أي ولو كان الملتمس خاتماً من حديد(4/167)
قال فالتمس فلم يحد شيئاً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل معك شيء من القرآن : يعني تحفظه قال نعم فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - زوجتكها بما معك من القرآن .
المعنى الإجمالي
يخبر سهل بن سعد رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت إنها وهبت نفسها له ثم أنها قامت طويلاً والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس فقام رجل من القوم فقال زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فطلب منه أن يصدقها شيئاً ولكن الرجل كان فقيراً مدقعاً فلم يجد حتى ولو خاتماً من حديد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - هل معك شيء من القرآن قال نعم فقال زوجتكها بما معك من القرآن
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الفاضل
ثانياً : كون المرأة تعرض نفسها على الرجل الفاضل ليس معنى ذلك أنه يتزوجها بالهبة لأن الزواج بالهبة من خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا فيلزم لها مهر المثل
ثالثاً: يؤخذ منه حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث وقفت المرأة طويلاً فلم يرد أن يكدر خاطرها بقوله لا أريدك حتى يسر الله ذلك الرجل الذي طلب إنكاحها إياه
رابعاً: يؤخذ من قول الرجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة جواز مثل هذه العبارة في طلب النكاح
خامساً: حسن الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الصحابي حيث قال إن لم يكن لك بها حاجة
سادساً : يؤخذ من قوله هل عندك من شيء تصدقها أن الصداق مطلوب في النكاح ولا يصح النكاح بدونه
سابعاً: يؤخذ من قوله ما عندي إلا إزاري هذا ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفقر
ثامناً: إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله إزارك كأن هذا الاستفهام استفهام إنكار أي كيف تصدقها إزارك وأنت لا إزار لك(4/168)
تاسعاً:يؤخذ من قوله التمس ولو خاتماً من حديد أن خاتم الحديد يجوز أن يجعل صداقاً إذا كان له قيمة
عاشراً : اختلف الفقهاء فيما يجوز أن يعتبر صداقاً وهل لذلك حد أم أنه ليس له حد إلا أن قول الله سبحانه وتعالى (أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) [ النساء : 24 ] ومعنى ذلك تطلبون بأموالكم إذا فكل ما يسمى مالاً يجوز أن يكون صداقاً وكذلك قول الله سبحانه وتعالى (وَمَن لّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) [ النساء : 25] والطول هنا المال الذي يستطيع أن يتزوج به ومن أجل ذلك فقد اختلف الفقهاء فيما يجوز أن يكون صداقاً فذهب مالك إلى أن اقله ثلاثة دراهم وهو المقدار الذي تقطع فيه اليد وذهب أبو حنيفة إلى أن أقله عشرة دراهم وذهب الشافعي ومن معه إلى أن كل ما يسمى مالاً ويمكن الانتفاع به يجوز أن يكون صداقاً ويُستدل لذلك بحديث المرأة الفزارية التي تزوجت على نعلين )(1)
__________
(1) الحديث عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَأَجَازَهُ ) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء في مهور النساء رقم 1113 ورواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب صداق النساء رقم 1888وأحمد برقم 15767 وسنن البيهقي الكبرى برقم 14152 و13567 ومسند أبي يعلى برقم 7194 ومسند الطيالسي برقم 1143 ومسند ابن الجعد برقم 3265 وقد ضعف الحديث الألباني رحمه الله ..(4/169)
إلا أن فيه ضعف وهناك أحاديث أخر في هذا غير أن مفهوم الآيتين دال على أن ما لم يسم مالاً لا يكون صداقاً والمسألة من معترك الأنظار والذي يميل إليه القلب هو ما ذهب إليه مالك وهو الثلاثة الدراهم التي تقطع فيها اليد لأن ذلك يسمى مالاً .
الحادي عشر :يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - هل معك شيء من القرآن قال نعم فقال زوجتكها بما معك من القرآن يؤخذ منه النكاح على تعليم شيء من القرآن وأقله عشرون آية فقد قال بذلك بعض أهل العلم ومنعه الأكثرون إلا أنه لا حجة لهم في المنع لأن المشرع وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست الشريعة تؤخذ من العقول ولكنها تؤخذ عن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
الثاني عشر : إذا جاز النكاح على المنفعة المتراضى عليها قلت أو كثرت فإنه يجوز على تعليم القرآن وتعليم القرآن أعظم منفعة والأصل في النكاح على المنفعة قصة موسى مع صاحب مدين حين قال له ( إِنّيَ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيّ هَاتَيْنِ عَلَىَ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) [ القصص : 27 ] الآية وهذا دليل واضح على جعل المنفعة صداقاً ومن ذلك تعليم القرآن وأجاز بعض أهل العلم النكاح على تعليم باب من العربية إلى غير ذلك وإذا كانت أم سليم قد تزوجت أبا طلحة على إسلامه واعتبرت إسلامه مهراً لها فإن كل منفعة تنتفع بها المرأة من عتق أو تعليم أو غير ذلك فإنه يجوز التزويج عليه على القول الأصح وبالله التوفيق
[310]الحديث الثالث : عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى عبدالرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مهيم فقال يا رسول الله تزوجت امرأة فقال ما أصدقتها ؟ قال وزن نواة من ذهب قال فبارك الله لك أولم ولو بشاة .
موضوع الحديث : الأمر بالوليمة
المفردات(4/170)
ردع : أقول الردع والردغ هو الشيء يكون له أثر في الثوب وكأنه هنا المراد به أثر صفرة لأنه منهي عن لبس الثوب المعصفر للرجل ولكن الذي يظهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف أنه لم يقصد لبس ماهو مزعفر أو معصفر وإنما كان ذلك من تقارب ثيابه مع ثياب زوجته
والزعفران : نبات معروف
قوله مهيم : أي ما شأنك وما خبرك وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف أنه تزوج بوجود ذلك الأثر في ردائه
قوله ما أصدقتها : أي كم أصدقتها أو أي شيء أصدقتها
فقال وزن نواة من ذهب : اختلف في النواة هل هي وزن معروف أو أنه ما يساوي خمسة دراهم أو ما يساوي وزنها والذي يظهر والله أعلم أن النواة ثمن أوقية من الذهب سميت هذه الكمية من الوزن نواة كما سموا نصف الأوقية نشاً وهو بالذهبي ثلاثة دنانير ونصف أو أربعة دنانير إلا ربع أي ما يقارب هذا
المعنى الإجمالي
رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ثوب عبدالرحمن بن عوف شيئاً من لون الزعفران ففهم أنه تزوج فسأله عن ذلك فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار وساق إليها وزن نواة من الذهب
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن هذا المقدار يصلح أن يكون مهراً ووزن خمسة دراهم يعد أربعة عشر جراماً وينقص من الجرام الخامس عشر خمسة عشر بالمائة
ثانياً: أن المهر في ذلك الزمان كان يسيراً
ثالثاً: ينبغي للناس اليوم أن يتأسوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في قلة المهر ليتيسر النكاح للشباب
رابعاً : أن تيسير المهور تسهيل للنكاح الحلال وإبعاد للشباب عن مواطن الريبة والفواحش(4/171)
خامساً: يؤخذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بارك الله لك مشروعية الدعاء للمتزوج بالبركة وقد ورد أيضاً أن يكون الدعاء له ولزوجته كما ورد ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفأ الإنسان ( هنأه ودعا له ) إذا تزوج قال: " بارك الله لك وبارك عليك ، وجمع بينكما في خير ) (1)
سادساً :يؤخذ من قوله أولم مشروعية الوليمة وأنها واجبة لهذا الأمر وهذا مذهب الإمام مالك رحمه الله وذهب الجمهور إلى أن الوليمة سنة مستحبة
سابعاً :الوليمة هي الطعام المتخذ لأجل العرس
ثامناً : أنه ينبغي أن تكون الوليمة بعد الدخول وقد اختلف أهل العلم في وقتها فقال بعضهم بعد العقد وقال بعضهم بعد الدخول
وأقول : إن الأشهر أنها تكون بعد الدخول
تاسعاً: المرجح أنها تكون بعد الدخول وهذا ما جرى عليه عمل كثير من المسلمين والأئمة
عاشراً: قوله أولم ولو بشاة يراد بلو هنا أنها للتقليل
الحادي عشر : أنه مهما يكن فإن الوليمة لا تتجاوز الكبشين أو الثلاثة في عرف الأقدمين
الثاني عشر :أن ما يفعله الناس اليوم من الإسراف في الولائم أمر لا يقره الشرع بل هو يعتبر من الباطل الذي يأثم العبد عليه إذ أن بعضهم تصل الذبائح عندهم إلى فوق الأربعين وهذا لا شك أنه بذخ لا ينبغي فعله من المسلم المتبع لأوامر الله عز وجل وبالله التوفيق
كتاب الطلاق
الطلاق في اللغة هو الإطلاق وفي الشرع هو حل عقدة النكاح المبرم وهو يعتبر إطلاق لها وحلاً لتلك العقدة
[
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب تهنئة النكاح رقم 1905 والترمذي في كتاب النكاح باب ما جاء فيما يقال للمتزوج رقم 1091 والدارمي في كتاب النكاح باب باب إذا تزوج الرجل ما يقال له رقم 2174 وأبو داود في كتاب النكاح باب ما يقال للمتزوج رقم 2130 واللفظ له والحديث صححه الألباني.(4/172)
311]الحديث الأول: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله عز وجل . وفي لفظ ( حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها بها وفي لفظ فحسبت من طلاقها وراجعها عبدالله كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
موضوع الحديث:الطلاق في الحيض
المفردات
قوله فتغيظ منه : أي غضب
قوله ليراجعها : هذا أمر
ثم يمسكها حتى تطهر : أمر آخر
ثم تحيض فتطهر : أمر ثالث مترتب على ما قبله
فإن بدا له أن يطلقها : أي أحب أن يطلقها أو ظهرت له المصلحة في طلاقها
فليطلقها : هذا أمر أيضاً
قبل أن يمسها : أي قبل أن يجامعها
قوله فتلك العدة : الإشارة إلى قوله سبحانه وتعالى (فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ ) [ الطلاق : 1] والمعنى لاستقبال عدتهن
قوله حيضة مستقبلة : أي غير الحيضة التي طلقها فيها
قوله وفي لفظ فحسبت من طلاقها : أي لم تلغ كما زعمه بعض أهل العلم بل حسبت عليه
من طلاقها : أي من الثلاث التي منحه الله إياها
المعنى الإجمالي
طلق عبدالله بن عمر رضي الله عنه زوجته وهي حائض في حال الحيض قبل أن تغتسل منه فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب من ذلك وأمره أن يراجعها بإعادتها إلى عصمته ثم يمهلها حتى تطهر ثم يمسكها في ذلك الطهر بدون جماع حتى تحيض حيضة أخرى فإذا حاضت حيضة أخرى طلقها إن شاء بعد الطهر من الحيض .
فقه الحديث(4/173)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم الطلاق في الحيض وهل يقع أو لا يقع ؟ في هذا خلاف بين أهل العلم فذهب الجمهور إلى وقوع الطلاق وأن المطلق آثم وذهب ابن تيمية وابن القيم وجماعة من العلماء معهم وأهل الظاهر إلى أن الطلاق في الحيض غير واقع بالكلية وأن زوجته ما زالت في عصمته واستدلوا لذلك بأن هذا الطلاق طلاق بدعي فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن كل محدث مردود وكونه مردود فمعناه أنه لا يقع فيه شيئاً مستدلين بحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ ) (1)
__________
(1) البخاري في كتاب الصلح باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود رقم 2697ومسلم في كتاب الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور رقم 1718 وأبو داود في كتاب السنة باب في لزوم السنة رقم 4606 وابن ماجة في المقدمة باب تعظيم حديث رسول الله والتغليظ على من عارضه رقم 14 .(4/174)
ثانياً : أنهم قدحوا في الروايات التي دلت على احتساب تلك الطلقة أما الجمهور فإنهم استدلوا بالروايات التي دلت على احتساب تلك الطلقة من طلاقها وقد تتبع الشيخ الألباني رحمه الله الروايات التي دلت على احتساب تلك الطلقة والروايات التي دلت على عدم احتسابها في كتابه إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل وظهر من تلك الروايات أن الروايات التي دلت على احتسابها أكثر ورواتها أحفظ وقد رجحت ذلك أي مذهب الجمهور في تعليقي على هذا الحديث في سبل السلام وهو الذي تطمئن إليه النفس لأمور ثلاثة الأول : أن الروايات التي دلت على احتساب تلك الطلقة أكثر وثانياً : أن رواتها أحفظ وثالثاً : أن الأمر بالمراجعة دال على أن الطلاق الأول وقع (1)
__________
(1) وبالرجوع إلى كتاب الألباني المذكور تبين لنا أن الطرق أو الروايات التي ساقها رحمه الله لحديث ابن عمر رضي الله عنه ثلاث عشرة رواية وهي تعود إلى تسع روايات ستة في الاعتداد بالطلقة الأولى وثلاث استدل بها من لا يرى الاعتداد ، على أن روايات الاعتداد راجحة على روايات عدم الاعتداد لأمور :-
الأمر الأول : أن رواتها من الحفاظ المتقنين
الأمر الثاني : أنها صريحة في الاعتداد
الأمر الثالث : أن روايات الاعتداد أكثر
الأمر الرابع : أن روايتين من الاعتداد الصريح مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الأمر الخامس : أن ثلاث روايات من الصريح موقوفة وهي صحيحة .
أما روايات القسم الثاني وهي عدم الاعتداد فهي ثلاث فقط ومع كونها أقل فإنها غير صريحة بل هي قابلة للتأويل كما قال الشافعي رحمه الله ولم يرها شيئاً صواباً وبهذا يتبين أن القول بأن من طلق امرأته وهي حائض أو طلقها في طهر جامع فيه أنه يعتد بذلك الطلاق أي أن الطلاق يقع وهو آثم وبالله تعالى التوفيق ( النجمي) .(4/175)
ثالثاً: يؤخذ من هذا الحديث أن الطلاق ينقسم إلى سني وبدعي فالطلاق السني هو أن يكون في طهر لم يجامع فيه أو حاملاً مستبين حملها وأن يوقع الطلاق واحدة
أما الطلاق البدعي فهو إيقاع الطلاق في الحيض أو في طهر جامع فيه أو جمع الثلاث في مجلس واحد
رابعاً : أن تغيظ النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن عمر دال على أن إيقاع الطلاق في الحيض معصية لله موجبة لغضبه ولو لم تكن موجبة لغضبه ما تغيظ النبي - صلى الله عليه وسلم - منها
خامساً : قد تكلم العلماء على العلة التي من أجلها نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إيقاع الطلاق بعد خروج المرأة من الحيضة الأولى فمنهم من قال أن الحكمة في ذلك تطويل العدة لعله يرغب فيها فيمسكها ومنهم من قال لئلا تصير الرجعة لغرض الطلاق ومنهم من قال إن ذلك عقوبة له ومهما يكن فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى ذلك المطلق عن إيقاع الطلاق في الطهر الذي بعد تلك الحيضة حتى يأتي طهر بعد حيضة أخرى وعلى هذا فإن حكم الطهر الذي بعد الحيضة الأولى كحكمها لا يجوز إيقاع الطلاق فيه
سادساً: الحكمة في هذا النهي حتى لا تطول العدة على المرأة
سابعاً: يؤخذ منه أن الطلاق البدعي معصية والمعصية لا يرضاها الله عز وجل
ثامناً : قال أهل الأصول أن الأمر بالأمر بالشيء أمر به فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه أن يأمر عبدالله بن عمر برجعتها يعتبر أمراً بذلك الأمر
تاسعاً : دل الحديث على أن المراد بالأقراء الحيض وقد ذهب مالك والشافعي إلى أن المراد الأطهار وذهب أبو حنيفة إلى أن المراد بها الحيض والقول أن المراد بالأقراء الحيض هو ما دل عليه هذا الحديث لأنه لو كانت الأقراء الأطهار ما كان عبدالله بن عمر متعدياً وعاصياً وبالله التوفيق .
[(4/176)
312]الحديث الثاني :عن فاطمة بنت قيس ( أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب ـ وفي رواية : طلقها ثلاثاً ـ فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال : والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال ليس لك عليه نفقة ـ وفي لفظ : ولا سكنى فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد فكرهته ثم قال انكحي أسامة بن زيد فنكحته فجعل الله فيه خيراً واغتبطت به .
موضوع الحديث :هل للمطلقة البائن سكنى ونفقة أم لا ؟
المفردات
فاطمة بنت قيس : من بني محارب بن فهر بن مالك وهي أخت الضحاك بن قيس الذي ولي العراق ليزيد بن معاوية وهو من صغار الصحابة وهي أسن منه وكانت من المهاجرات الأول وكان لها عقل وجمال
قوله أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة : أقول أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بن عبدالله بن عمر ابن مخزوم زوج فاطمة بنت قيس قيل اسمه عبدالحميد وقيل أحمد ويقال فيه أبو حفص بن عمرو مات باليمن في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصحيح وقيل عاش إلى خلافة عمر وهو وهم وصاحب القصة الذي قال لفاطمة بنت قيس ليس لك علينا شيء هو عياش بن أبي ربيعة وهو ابن عم أبي عمرو .
قوله ألبتة : تطلق البتة ويراد بها الطلاق البائن بينونة كبرى وهي صفة للطلاق المبين إما أن تكون هي الطلقة الثالثة وإما أن يكون جمع الطلاق الثلاث مرة واحدة واعتبر ذلك مبيناً لها من زوجها على رأي الجمهور رجح الصنعاني رحمه الله الرواية التي فيها أنه خرج مع علي إلى اليمن فبعث إليها بتطليقة ثالثة بقيت لها وقال وهذا هو الصحيح(4/177)
قوله فأرسل إليها وكيله بشعير : على إعراب وكيله بالرفع أنه فاعل أرسل
فسخطته : أي غضبت منه
قال والله مالك علينا من شيء : أي ليست لك نفقة واجبة علينا في الشرع
فجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي جاءت إليه فاطمة بنت قيس لتسأله عن الحكم في هذه المسألة فقال ليس لك عليه نفقة وفي لفظ ولا سكنى أي القائل هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرها أي أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك امرأة يغشاها أصحابي أي يدخلون عليها في منزلها لكونها تحسن إليهم
قوله اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك : أي فلا يراك
فإذا حللت فآذنيني : أي إذا انتهيت من عدتك فلا تصنعي شيئاً حتى تخبريني قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني بمعنى أنهما أرسلا إليها ولم تقطع مع واحد منهما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه يعني أنه يضرب النساء وأما معاوية فصعلوك معنى صعلوك فقير ثم فسره بقوله لا مال له ثم أمرها أن تنكح أسامة بن زيد فكرهته لعلها كرهته أولاً لكونه مولى وهي قرشية وهذه نعرة كانت متأصلة عند العرب ثم أمرها مرة أخرى بقوله أنكحي أسامة بن زيد فنكحته أي تزوجت به فجعل الله فيه خيراً كثيراً قالت واغتبطت به بمعنى أن النساء غبطنها به
المعنى الإجمالي(4/178)
في هذه القصة أن فاطمة بنت قيس القرشية الفهرية طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص وهو منطلق إلى اليمن وأن وكيله أرسل لها شعيراً يكون نفقة فتسخطته أي أنفت من أخذه فقال والله مالك علينا من شيء فعند ذلك ذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مستفتيه فأخبرها بأنه ليس لها على مطلقها سكنى وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ولكن لكون أم شريك يغشى منزلها بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك عدل عن كونها تعتد عندها ثم أمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم لكون ابن أم مكتوم عامري وهي عامرية ومن ناحية أخرى تضع ثيابها فلا يراها ثم أمرها أن تؤذنه عندما تحل للأزواج ولما حلت أخبرته بأنها خطبت من قبل أبي جهم ومعاوية فلم يشر عليها بنكاح أحد منهما وإنما أشار عليها بأن تنكح أسامة بن زيد فنكحت أسامة بن زيد واغتبطت به وفي حديثها مسائل هي من معترك الخلاف بين الفقهاء
فقه الحديث
أولاً : قولها أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة اختلف أهل العلم في البتة هذه هل كان طلاقه بلفظ البتة أو كان طلاقه ثلاثاً في موضع واحد فاعتبرت بتة أو كان طلاقه متفرقاً وكانت الطلقة الأخيرة منها هي التي أرسلها إليها وهو غائب بمعنى أنه أرسل إليها التطليقة الثالثة
ثانياً: أن المرجح من هذه الروايات أنه أرسل إليها التطليقة الثالثة فاعتبرت هي المبينة لها منه ولذلك سمتها البتة(4/179)
ثالثاً : تمسك الجمهور برواية أنه طلقها البتة بأنه جمع الطلاق فيها وعدوا ذلك من الأدلة على أن من جمع الطلاق في مجلس واحد بأن بلغ طلاقه ثلاثاً أن طلاقه ذلك يكون مبيناً لزوجته من عصمته إلا أن هذا المفهوم يعارضه حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ الطَّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ طَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ (1)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الطلاق باب طلاق الثلاث رقم 1472وأبو داود بنحوه في كتاب الطلاق باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث رقم 2199 و2200 والنسائي في كتاب الطلاق باب طلاق الثلاث قبل الدخول بالزوجة رقم 3406 وأحمد برقم 2877 ..(4/180)
ثم إن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة واستشارهم في ذلك بقوله (إني أرى الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فأرى أن نمضيه عليهم فأمضاه عليهم ) ويستفاد من هذا الحديث أن من جمع الطلاق الثلاث في مجلس واحد أن طلاقه يعتبر واحدة وقد ذهب الجمهور إلى ما قرره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاعتبروا الثلاث ثلاثاً سواء كانت بلفظ واحد وصفه بثلاث أو ثلاث لفظات متتالية وعلى هذا جرى أصحاب الفتوى في عهد عمر رضي الله عنه ومن بعده وفي عهد التابعين واتباع الأتباع ولم يخالف أحد منهم هذا الرأي رغم أن الحديث صريح في أن الثلاث كانت واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفى بذلك دليلاً لأنه هو المشرع صلوات الله وسلامه عليه وكل قول خلاف قوله فهو مردود وكل رأي خلاف سنته فهو مفند ورأى عمر رضي الله عنه في امضاءه ما تسارعوا إليه رأي في مقابلة النص وإنما كان عقوبة منه لهم في تسارعهم إلى ذلك أي إلى جمع الثلاث في مجلس واحد والمسالة من معترك الأنظار ومواطن الخلاف قديماً وحديثاً وقد ذهب أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث إذا كان في مجلس واحد سواء كان بألفاظ متتالية كأن يقول لزوجته هي مطلقة مطلقة مطلقة أو بلفظ واحد وصفه بثلاث كأن يقول لزوجته هي طالق بالثلاث فإنهم يعتبرون ذلك واحدة قال به أهل الظاهر قديماً وأحيا هذا القول ونشره وأفتى به ابن تيمية أحمد بن عبدالحليم ابن عبدالسلام الحراني في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع وأوذي بسبب هذا القول كثيراً وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله وأوذي هو الآخر بعد موت شيخه بسبب هذه الفتوى علماً بأنها هي الحق الذي ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه أمته ولشيخ الإسلام وتلميذه فتاوى كثيرة في هذا الباب حيث قرر كل منهما رحمهما الله في غير ما موطن أنه لا يعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمضى الثلاث وجعلها ثلاثاً ولكن العكس هو المعروف عن(4/181)
النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تبع شيخ الإسلام ابن تيمية جماعة من العلماء في هذا القول إلا أن بعض المتأخرين علق القول به على النية ومنهم شيخنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وقال به الصنعاني والشوكاني والألباني ومحمد بن صالح العثيمين رحمهم الله جميعاً وهذا هو القول الصحيح فيما أرى وعلى هذا فمن جمع الطلاق في مجلس واحد استحلف فإن كان أراد بذلك الثلاث فهي ثلاث وإن كان أراد به واحدة فهي واحدة وإن جرى منه ذلك في حال غضب لم يتبين فيه نيته كان ذلك الطلاق واحدة وبالله التوفيق
رابعاً : يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس ليس لك عليه نفقة وفي رواية ولا سكنى أن المبتوتة التي طلقت طلاقاً لا رجعة فيه ليس لها على مطلقها سكنى ولا نفقة ولأهل العلم في هذه المسألة قديماً وحديثاً ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن لها السكنى والنفقة وبه قال أبو حنيفة وورد عن عُمَرُ رضي الله عنه أنه أنكر حديثها وقال : ( لا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ (1)
القول الثاني : وعليه جمهور أهل المذاهب وهم الشافعية والمالكية أن لها السكنى دون النفقة
__________
(1) صحيح مسلم في كتاب الطلاق باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها رقم 1480والترمذي في كتاب الطلاق باب ما جاء في المطلقة ثلاثاً لا سكنى لها ولا نفقة رقم 1180 والنسائي نحوه في كتاب الطلاق باب الرخصة في خروج المبتوتة من بيتها في عدتها رقم 3546 .(4/182)
القول الثالث : قال به الإمام أحمد رحمه الله وهو قول كثير من المحدثين المتحررين عن التمذهب أنه ليس للمبتوتة سكنى ولا نفقة إلا إن كانت ذات حمل فإن ينفق عليها من أجل الحمل وهذا هو القول الصحيح بأن المطلقة طلاقاً بائناً ليس لها سكنى ولا نفقة وأن السكنى والنفقة إنما تكون للمطلقة الرجعية التي يملك المطلق الرجعة عليها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك ثم عدل عن ذلك وأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم فلو كانت السكنى لها ما عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك والأعذار التي يراد بها إبطال النص يجب أن ترفض وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم أو يفتي بغير الحق فإنه يترتب على سكناها في بيت ابن أم مكتوم مضايقة له ولأهله ولو كانت تجب لها السكنى ما عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك إلى مضايقة ذلك الرجل الأعمى . أما قوله سبحانه وتعالى ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ) [ الطلاق : 6 ] فهذا خاص بالرجعيات
خامساً : أن الطلاق في غيبة المرأة واقع باتفاق أهل العلم
سادساً : يؤخذ من قوله تلك امرأة يغشاها أصحابي المقصود به أن أم شريك كانت امرأة تحسن إلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يزورونها ويؤخذ من هذا زيارة الرجال للمرأة الكبيرة إذا لم يكن هناك خلوة ولا تهمة
سابعاً: يؤخذ من قوله اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فلا يراك يؤخذ من هذا مراعاة أخف الضررين فإن اعتدادها عند أم شريك يعرضها لأنظار الرجال وهي امرأة جميلة وفي مقتبل عمرها ولا يمكنها الاحتياط إلا بمشقة عظيمة فلذلك عدل - صلى الله عليه وسلم - عن أمرها بالاعتداد في بيت أم شريك إلى الاعتداد في بيت ابن أم مكتوم مراعاة لأخف الضررين وأدنى المشقتين .(4/183)
ثامناً: يؤخذ من قوله فإذا حللت فآذنيني أن المطلقة طلاقاً بائناً يجوز التعريض لها في العدة فإن في ذلك تعريض لها بأن للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها غرضاً .
تاسعاً : يؤخذ من قولها فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني يؤخذ من ذلك أن الخطبة على الخطبة جائزة ما لم يقبل أحد الخاطبين فإن قبل أحد الخاطبين حرم على الآخرين أن يخطبوا على خطبته أما إن خطب هذا وخطب هذا ولم يقبل أحد منهم فإن ذلك جائز لهذا الحديث
عاشراً : يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له أنكحي أسامة بن زيد يؤخذ من هذا جواز الغيبة إن كانت نصيحة للمنصوح ومثل هذا يعتبر من الأمور الستة التي تجوز فيها الغيبة (1)
الحادي عشر : يؤخذ مما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي جهم ومعاوية أنه يجوز القدح من أجل النصيحة كما تقدم
__________
(1) تجوز الغيبة في المواضع الستة الآتية :
أولاً : التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي فيقول ظلمني فلان بكذا .
وثانياً : الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر فلان يعمل كذا
ثالثاً : الاستفتاء كأن يقول ظلمني فلان أو نحو ذلك
رابعاً : تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم
خامساً : أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته فيجوز ذكره بما يجاهر به
سادساً : التعريف فإذا كان الإنسان معروفاً بلقب كالأعمى مثلاً جاز تعريفه بذلك أهـ من رياض الصالحين للنووي بتصرف
وقد جمع ذلك بعض العلماء في بيتين من الشعر فقال :
القدح ليس بغيبة في ستة متظلم ومعرِّف ومحذر
ومجاهر فسقاً ومستفت ومن طلب الإعانة في إزالة منكر(4/184)
الثاني عشر : أنه لا يلزم ذكر المحاسن أي محاسن المقدوح فيه خلافاً لمن قال ذلك من أصحاب الحزبيات وهم الذين يقولون بالموازنة بين الحسنات والسيئات ولا أعرف أن أحداً قال بذلك من أهل العلم فيما سبق
الثالث عشر : أنه إذا جاز الطعن في أبي جهم ومعاوية من أجل نصيحة فاطمة بنت قيس فإنه يجوز الطعن في كل مبتدع ابتدع بدعة إذا نصح فأبى أن يقبل النصيحة فإنه يجوز الطعن فيه والتحذير منه ولأهل العلم وبالأخص علماء الجرح والتعديل من المحدثين لهم في ذلك أقوال كثيرة تدل على جواز ذلك بل وجوبه حتى لا يغتر الناس بذلك المبتدع
الرابع عشر : يؤخذ من قوله أنكحي أسامة بن زيد فكرهته ثم قال أنكحي أسامة بن زيد فنكحته يؤخذ من ذلك أنه يجوز إنكاح القرشية من المولى ومثل ذلك إنكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - لابيه زيد بن حارثة من زينب بنت جحش ونزل في ذلك قول الله عز وجل ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ .. ) [الأحزاب:37]
الخامس عشر : يؤخذ من قوله أنكحي أسامة بن زيد مرة ثانية تأكيد للأمر الأول أنه يجوز إرغام المرأة على من يكون نكاحه لها فيه المصلحة
السادس عشر : يؤخذ من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بهذا الحكم على نعرات الجاهلية والعصبيات القومية تقريراً لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) [ الحجرات : 13 ]
السابع عشر : يؤخذ من قوله فنكحته فجعل الله فيه خير واغتبطت به أن الخير كله في طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن رأى الإنسان أن في ذلك غضاضة عليه فإنما ذلك من إيهام الشيطان ونزغه(4/185)
الثامن عشر: يؤخذ من هذا أن اللون غير مؤثر في منع النكاح وقد ورد في الحديث الذي يرويه أَبِو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ )(1) وما كرهته فاطمة بنت قيس في نكاح أسامة بن زيد إلا لأنه مولى ولأن أسامة كان أسود اللون
التاسع عشر : أن الحاكم الشرعي هو ولي من لا ولي لها وقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَلِيَّ لَه ُ) (2) وبالله التوفيق .
باب العدة
العدة مصدر عددت الشيء أعده عدة وهي اسم للمدة التي تنتظرها المفارقة لزوجها بموت أو طلاق .
[
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .(4/186)
313]الحديث الأول : عن سبيعة (1) الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة ـ وهو من بني عامر بن لؤي وكان ممن شهد بدراً ـ فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل ابن بعكك ـ رجل من بني عبد الدار ـ فقال لها مالي أراك متجملة ؟ لعلك ترجين للنكاح والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشراً قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك ؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي .
موضوع الحديث :عدة الحامل المتوفى عنها زوجها
المفردات
سعد بن خولة : صحابي بدري توفي في حجة الوداع قلت وهو الذي قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد بن أبي وقاص لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة وقد كان مهاجراً
قول فلم تنشب أن وضعت : أي فلم تلبث بعد موته إلا يسيراً حتى وضعت حملها بعد وفاته
فلما تعلت من نفاسها : أي طهرت منه
قوله تجملت للخطاب : أي أخذت زينتها وهذا يدل على أن عندها علم بأن عدتها قد انقضت بوضع حملها بعد موت زوجها .
قوله فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك : رجل من بني عبدالدار
أبو السنابل :جمع سنبلة ابن بعكك بفتح الباء وإسكان العين وفتح الكاف الأولى مشهور بكنيته واختلف في اسمه على أقوال ذكر الشارح ابن دقيق العيد بعضها
__________
(1) سبيعة : بالتصغير الأسلمية نسبة إلى بني سليم وهي صحابية جليلة قال ابن دقيق العيد ذكرها ابن سعد في المهاجرات روى لها اثني عشر حديثاً اتفقا منها على هذا الحديث ليس لها عندهما غيره ( النجمي ) .(4/187)
فقال لها مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر : فقد توعدها بمنعها من النكاح حتى تمر عليها عدة المتوفى عنها زوجها ولم يعلم أن ذلك في غير الحامل وأن الحامل تنقضي عدتها بوضع حملها ولعله يستنبط من هذا أنها كانت أفقه منه .
قولها جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت ... ألخ ما ذكرت وأفادت هذه الجملة وهو قولها فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ذلك على أن الحامل تنتهي عدتها بوضع حملها
المعنى الإجمالي
توفى سعد بن خولة في حجة الوداع ورثاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن توفي بالبلد الذي هاجر منها وهي مكة وأن زوجته سبيعة الأسلمية عندما طهرت من نفاسها تجملت للخطاب فاعترض عليها أبو السنابل بن بعكك وتوعدها بالمنع من النكاح إلا بعد أن تكمل عدتها أربعة أشهر وعشر وبسبب ذلك ذهبت سبيعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بحالها وما جرى لها فأفتاها بأنها قد حلت بوضع حملها فكان لذلك حديثهاً حكماً قاطعاً في المتوفى عنها زوجها وهي حامل .
فقه الحديث(4/188)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الحامل متى وضعت حملها فإنها قد انقضت عدتها حتى ولو كان بعد موت زوجها بزمن يسير فقد جاء في هذه المسالة خلاف في أول الأمر فأثر عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما أنها تعتد بأبعد الأجلين ولكن قولهما هذا قد تركاه لحديث سبيعة وقد انعقد الإجماع بعد ذلك أي بعد الاطلاع على حديث سبيعة أن الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل ويؤيد ذلك ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه أن آية النساء الصغرى نزلت بعد آية النساء الكبرى أي أن سورة الطلاق نزلت متأخرة عن سورة البقرة لذلك فقد قضى بآيتها على آية البقرة وآية البقرة هي قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) الآية 234 من سورة البقرة وأما آية الطلاق فهي قول الله تعالى في سورة الطلاق (وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) وهي بعض آية من آية أربعة من سورة الطلاق لذلك فقد كان الحكم في الحامل لآية الطلاق وأنها تنتهي عدتها بوضع الحمل وما ذكره الشارح رحمه الله تعالى وكذلك المعلق من أن بعض أهل العلم قال لا تنقضي عدتها إلا بالطهر من النفاس فهذا قول ضعيف والله سبحانه وتعالى قد علق انقضاء العدد في الحوامل بوضع الحمل لا بالطهر من النفاس(4/189)
ثانياً : هل الذي يتعلق به انقضاء العدة هو وضع الحمل الكامل أم أنه إذا خرج الجنين فإنه يعتبر منهياً للعدة سواء كان كاملاً أو ناقصاً وسواء فيه خلقة الإنسان بينة أو خفيه يعرفها النساء هذا هو القول الصحيح لأن المهم العلم بخلو الرحم مما كان يشغله إلا أنه إذا كان الحمل أكثر من واحد فلا تنقضي عدتها إلا بوضع الجميع وأغرب ما سمعت في هذا الأمر أن امرأة وضعت إنساناً لا أدري ذكراً أم أنثى وبقيت أربعة أشهر ووضعت أنثى هذا سمعته سماعاً مؤكداً من أناس لا أشك في ثقتهم والمهم أنه لا تنقضي العدة إلا بوضع الآخر وقد علمت أيضاً أن امرأة وضعت توأمين بينهما يوم وليلة فتعجبت منها جارتها فوقع لها بعد ذلك ما وقع للمتعجب منها وهذا الأخير الذي قلته وقع في قريتي وإحداهن من قرابتي إلا أن هذا حصل في زمن متقدم والمهم أنه لا يبرأ الرحم إلا بخروج جميع الأجنة التي فيه ولو تباعد ما بينهما وبالله التوفيق
ثالثاً : أنه يجوز أن يعقد عليها بعد وضع الحمل حتى ولو كان بعد موت زوجها بزمن يسير إلا أنه لا يقربها إلا بعد أن تطهر .
رابعاً : أن من توفى عنها زوجها وهي غير حامل فإن عدتها تتعين بأربعة أشهر وعشر ولا تخرج من عدتها إلا بتمام هذه العدة لقوله سبحانه تعالى ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ) [ البقرة : 234 ] وأما حكم الإحداد على غير الزوج فسيأتي في حديث زينب بنت أم سلمة الذي بعد هذا ويأتي فيه أيضاً حكم الإحداد وأنه واجب وليس بشرط فإن تزينت وهي في عدتها لم تبطل العدة ولكنها تأثم والعدة تمضي بمضي زمنها .(4/190)
خامساً : إذا كان الزوج في غيبة وتوفي ولم تعلم به زوجته إلا بعد أن مضت العدة أو مضى بعضها فإن كانت العدة قد مضت لم يلزمها قضاءها وإن كان قد انقضى بعضها وجب عليها أن تكمل الباقي فلو فرضنا أن الزوج توفي في بلد بعيد ولم تعلم الزوجة بوفاته إلا بعد مضي شهرين فإنه يجب عليها أن تكمل العدة شهرين وعشرة أيام ولا يجب عليها أن تبدأ من أولها
سادساً : يؤخذ من هذا الحديث أن المعتدة لها أن تخرج لطلب الفتوى أو غيرها من الأمور التي تهمها .
[314]الحديث الثاني : عن زينب (1) بنت أم سلمة رضي الله عنها قالت ( توفي حميم لأم حبيبة فدعت بصفرة فمسحت بذراعيها فقالت : إنما أصنع هذا لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج : أربعة أشهر وعشراً .
الحميم : القرابة
موضوع الحديث : إحداد المتوفى عنها
المفردات
حميم لأم حبيبة : الحميم هو القرابة وقد تعين هذا الحميم بأنه أبوها أبو سفيان والرواية في ذلك في الصحيحين
فدعت بصفرة : المراد بذلك طيب فيه صفرة
لا يحل لامرأة : نكرة تعم كل امرأة
__________
(1) زينب بنت أم سلمة أبوها أبو سلمة بن عبدالأسد ابن المغيرة أسلم قديماً وهاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة ثم هاجر إلى المدينة ولحقته زوجته بعد سنة وفي ذلك قصة وهو أخو النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة وزينب هذه ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمها وهي ترضع وكان زواجه من أمها في السنة الرابعة لذلك فإنها صحابية من صغار الصحابة ولعلها كانت عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنت سبع سنوات توفيت سنة 73هـ وحضر ابن عمر جنازتها وقد استغربت أن محقق كتاب الإعلام الذي هو شرح العمدة قال إنها تابعية وهذا القول خطأ وقد صرح الذهبي بأنها صحابية وكذلك هنا ( النجمي )(4/191)
تؤمن بالله وباليوم الآخر : أي حال كونها تؤمن بالله واليوم الآخر فالجملة حالية
أن تحد : أن وما دخلت عليها في تأويل مصدر تأويله إحداداً فوق ثلاث .
تحد : بضم أوله وكسر ثانيه ( أحد) ويجوز فتح أوله وضم ثانيه أو كسره من (حَد) يقال : أحدت المرأة على زوجها وحدت : إذا حزنت عليه ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة .
على ميت فوق ثلاث : أي أكثر من ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً .
المعنى الإجمالي
يتضمن هذا الحديث تحريم الإحداد فوق ثلاثة أيام إلا على الزوج فإنه يجب الإحداد عليه أربعة أشهر وعشراً لآية البقرة الآية 234 وهي قول الله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا )
فقه الحديث
أولاً :يؤخذ من هذا الحديث أنه يجوز الاحداد ثلاثة أيام على غير الزوج
ثانياً: يؤخذ تحريم الإحداد فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً
ثالثاً: يؤخذ منه أن الحديث الذي ورد في الأب وأنه يجوز الإحداد عليه سبعة أيام أن هذا الحديث ضعيف (1)
__________
(1) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " الْمَرَاسِيل " مِنْ رِوَايَة عَمْرو بْن شُعَيْب " أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - رخَصَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحُدّ عَلَى أَبِيهَا سَبْعَة أَيَّام , وَعَلَى مَنْ سِوَاهُ ثَلاثَة أَيَّام ) نيل الأوطار للشوكاني رحمه الله ج 7 ص 96 وفي فتح الباري شرح صحيح البخاري ج9/396 شرح حديث رقم 5334 .(4/192)
رابعاً: يؤخذ منه مشروعية الإحداد على الزوج مدة أربعة أشهر وعشراً وهل يجب أو لا يجب هذا محل نظر والقول بوجوبه هو الراجح وهو الذي ذهب إليه الجمهور وإن كان لفظ الحديث لا يقتضي الوجوب ولكن يقتضي الإباحة لأن قوله لا يحل لامرأة ..ألخ الحديث واستثنى منه إلا على زوج فيكون استثناء الزوج بمعنى أنه يحل ولكن تطابق السلف على فعله كابراً عن كابر يدل على أنه واجب وربما أن للوجوب أدلة أخرى .
خامساً : إنما حددت هذه المدة التي هي أربعة أشهر وعشر لأنها هي المدة التي يتخلق فيها الجنين فلعل الجنين يخفى فإذا نفخ فيه الروح تحرك ونفخ الروح لا يحصل إلا بعد كمال مائة وعشرين يوماً على النطفة في الرحم لحديث عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رضي الله قال حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نطفة ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ إليه الملك ... ) (1)
سادساً : أن هذه العدة في حق من لم تكن حاملاً أما من كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل كما سبق ولو وضعت بعد وفاة زوجها بلحظة
__________
(1) رواه البخاري في كتاب بدأ الخلق باب ذكر الملائكة رقم 3208 وفي كتاب أحاديث الأنبياء باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته رقم 3332 وفي كتاب القدر باب في القدر رقم 6594 وفي كتاب التوحيد باب قوله تعالى (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ) رقم 7454 ورواه مسلم في كتاب القدر باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه رقم 2643 والترمذي في كتاب القدر باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم رقم 2137 وأبو داود في كتاب السنة باب في القدر رقم 4708 وابن ماجة في المقدمة باب في القدر رقم 76 وأحمد برقم 3624 و4091 .(4/193)
سابعاً : الإحداد ترك الزينة والزينة تشمل كل ما يرغب في النظر إلى المرأة والرغبة فيها فيدخل في ذلك الطيب والكحل والحناء ولبس الحلي ولبس اللباس الجديد وفي الكحل عند الحاجة خلاف سيأتي في الحديث الذي بعد هذا وبالله التوفيق .
[315]الحديث الثالث :عن أم عطية (1)رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذةً من قسط أو أظفار .
العصب ثياب من اليمن فيها بياض وسواد
موضوع الحديث :بيان عدة المتوفى عنها وهي غير حامل
المفردات
لا تحد : لا ناهية أو نافية فإن كانت نافية فالمضارع مرفوع وإن كانت ناهية فالمضارع في محل جزم وامرأة فاعل تحد والإحداد هو ترك الزينة الذي أوجبه الله على المرأة المتوفى عنها زوجها وأباحه ثلاثة أيام فيما سوى ذلك
يقال أحدت تُحد ويقال حدت تَحد ويقال امرأة حاد ولا يقال حادة وتعقب الحافظ ابن حجر من قال ذلك وقال إنه ثبت في صحيح البخاري
فوق ثلاث : أي أكثر من ثلاث
قوله لا تلبس ثوباً مصبوغاً : المراد به المصبوغ بالزينة والمراد به الجديد الذي باقياً فيه رونقه ولمعانه ولا يدخل في ذلك الثوب البالي المنكسر
قوله إلا ثوب عصب : هو نوع من الثياب اليمنية
قوله ولا تكتحل : أي لا تستعمل الكحل
ولا تمس طيباً : كذلك فيه تحريم الطيب على المرأة الحاد
إلا إذا طهرت : أي بعد الحيض
نبذة : أي فلها أن تأخذ نبذة من قسط أو أظفار وهما نوعان من أنواع الطيب الذي يتبخر به
المعنى الإجمالي
__________
(1) أم عطية : هي نسيبة الأنصارية قال في التقريب نسيبة بالتصغير ويقال بفتح أوله بنت كعب ويقال بنت الحارث أم عطية الأنصارية صحابية مشهورة مدنية ثم سكنت البصرة تقدم لها حديث في كتاب الجنائز ( النجمي ) .(4/194)
تخبر أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحد امرأة على ميت فوق ثلاث أي سواء كان الميت ابنها أو أخاها أو أباها إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً أي فعليها أن تحد عليه هذه المدة إذا مات وهي غير حامل ونهى أيضاً عن أن تلبس ثوباً مصبوغاً واستثنى من ذلك ثوب العصب ونهاها أن تكتحل وأن تمس طيباً إلا أنه رخص لها إذا طهرت من الحيض أن تتبخر بنبذة من قسط أو أظفار لإزالة الرائحة الكريهة التي تبقى بعد الحيض
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم الإحداد على غير الزوج فوق ثلاث
ثانياً : جوازه أو وجوبه على من مات عنها زوجها وهي غير حامل مدة أربعة أشهر وعشراً
ثالثاً: أن هذا الحكم مستفاد من آية البقرة رقم 234 وهي قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا )
رابعاً : إنما حددت هذه المدة لأن المرأة قد تكون في مبادئ الحمل فلا يعرف نظافة رحمها إلا بعد مضي هذه المدة فيتبين إن كان فيه جنين أم لا ؟
خامساً : سبق أن قلنا أن هذه المدة هي التي يتخلق فيها الجنين وينفخ فيه الروح كما في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه .(1)
سادساً : يؤخذ من هذا الحديث منع المرأة الحاد من لبس الثياب المصبغة التي صبغت للزينة
سابعاً :استثني من ذلك ثوب العصب وهي ثياب يؤتى بها من اليمن فيها بياض وسواد
ثامناً : يؤخذ من مفهوم هذا الحديث أن المرأة الحاد ممنوعة من لبس ثياب الجمال والاتفاق حاصل على تحريم لبسها بما صبغ بالورس والزعفران وفيما عدا ذلك خلاف وقد أجاز الشافعي ومالك أجازا لها لبس الثوب الأسود لأنه لا يتخذ للزينة .
__________
(1) تقدم تخريجه(4/195)
قال ابن المنذر : أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحادة لبس الثياب المعصفرة والمصبغة إلا ما صبغ بسواد فرخص فيه عروة بن الزبير ومالك والشافعي وكرهه الزهري أي لكونه مصبوغاً ومن أجازه اجاب بأنه غير مراد للزينة .
قال ابن الملقن : يؤخذ منه استثناء ثوب العصب وهو مذهب الزهري وكرهه عروة والشافعي وأجاز مالك غليظه والأصح عند أصحابنا تحريمه مطلقاً والحديث حجة عليهم
تاسعاً: قال ابن المنذر ورخص جميع العلماء في الثياب البيض ومنع بعض متأخري المالكية جيد البيض والسواد الذي يتزين به(4/196)
عاشراً : يؤخذ منه تحريم الاكتحال على المرأة المحد وفي حديث أم سلمة في الموطأ (1) الأذن فيه ليلاً ومسحه نهاراً وحمله العلماء على أنها كانت محتاجة إليه وسيأتي مزيد بيان في حديث أم سلمة
الحادي عشر : يؤخذ منه تحريم الطيب على المحدة بجميع أنواعه
الثاني عشر: أنه يستثنى من ذلك عند التطهر من الحيض أن تتبخر بقسط أو أظفار .
[
__________
(1) لفظ الحديث عن الْمُغِيرَةَ بْنَ الضَّحَّاكِ يَقُولُ أَخْبَرَتْنِي أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ أَسِيدٍ عَنْ أُمِّهَا أَنَّ زَوْجَهَا تُوُفِّيَ وَكَانَتْ تَشْتَكِي عَيْنَيْهَا فَتَكْتَحِلُ بِالْجِلاءِ قَالَ أَحْمَدُ الصَّوَابُ بِكُحْلِ الْجِلاءِ فَأَرْسَلَتْ مَوْلاةً لَهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَسَأَلَتْهَا عَنْ كُحْلِ الْجِلاءِ فَقَالَتْ لا تَكْتَحِلِي بِهِ إِلا مِنْ أَمْرٍ لا بُدَّ مِنْهُ يَشْتَدُّ عَلَيْكِ فَتَكْتَحِلِينَ بِاللَّيْلِ وَتَمْسَحِينَهُ بِالنَّهَارِ ثُمَّ قَالَتْ عِنْدَ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَى عَيْنِي صَبْرًا فَقَالَ مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ فَقُلْتُ إِنَّمَا هُوَ صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ قَالَ إِنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ فَلا تَجْعَلِيهِ إِلا بِاللَّيْلِ وَتَنْزَعِينَهُ بِالنَّهَارِ وَلا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ قَالَتْ قُلْتُ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ ) رواه أبو داود واللفظ له في كتاب الطلاق باب فيما تجتنب المعتدة في عدتها رقم الحديث 2305 وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق باب الرخصة للحادة أن تمتشط بالسدر رقم 3537 وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب الطلاق باب ما جاء في الإحداد بلاغاً رقم 1271 .الحديث ضعفه الألباني رحمه الله .(4/197)
316]الحديث الرابع : عن أم سلمة رضي الله عنها قالت ( جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مرتين أو ثلاثاً ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو طير أو شاة فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطي بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب وغيره )
موضوع الحديث :عدة المتوفى عنها زوجها
اشتكت عينها : بضم النون من عينها على أن العين فاعلة الشكوى والوجه الثاني أن تكون منصوبة أي اشتكت عينها وعلى هذا يكون فاعل الشكوى ضمير يعود على المرأة .
أفنكحلها : استفهام طلبي
قوله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول لا
قوله ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول قال في كتاب الإعلام لابن الملقن هذه السائلة هي عاتكة بنت نعيم أخت عبدالله بن نعيم العدوي قال وزوجها هو المغيرة المخزومي كذا رأيته في موطأ عبدالله بن وهب ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشر أي أن هذه المدة قد خففت عنكن بدل ما كانت المرأة تجلس سنة وفي هذا إشارة إلى نسخ الاعتداد بالحول إلى الاعتداد بالأربعة الأشهر والعشر
قوله فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً : هو البيت الصغير المتواضع(4/198)
قوله ولم تمس طيباً ولا شيئاً وفي رواية ولا ماء حتى تمر عليها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به ثم تراجع بعد ذلك ما شاءت هذا القول من زينب بنت أم سلمة تخبر به عما كان يعمله النساء في الجاهلية والظاهر أن الذي أقره الإسلام هو الاعتداد بالحول دون ما كن يفعلنه من ترك النظافة حتى تنتن المرأة بأن تكون لها رائحة كريهة وقيل معنى تفتض به أي تتمسح به والمهم أن الله عز وجل أراح النساء المسلمات من العناء الذي كانت تعانيه نساء الجاهلية وقد تقدم الكلام على الإحداد وما يجوز فيه وما يمنع وأن الخلاف في الكحل إذا احتيج إليه هل يجوز بالليل ويمنع بالنهار أو لا يجوز بالكلية أو يجوز فيما لم يكن فيه طيب ويمنع منه ما كان مطيباً هذا محل نظر وخلاف .
كتاب اللعان
اللعان والملاعنة والتلاعن هو ما أمر الله به بين الرجل وامرأته إذا اتهمها الزوج بالزنا ولم تكن له بينة فإنه في هذه الحالة يلاعنها كما أمر الله وسمي لعاناً من باب التغليب وإلا فاللعن هو في حق الرجل لا في حق المرأة.
[(4/199)
317]أورد فيه حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ( أن فلان بن فلان قال : يا رسول الله أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع ؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك قال فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات من سورة النور (النور 6-9 : والذين يرمون أزواجهم ) فتلاهن عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقالت لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما ثم قال إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ ثلاثاً . ) وفي لفظ لا سبيل لك عليها قال يا رسول الله مالي ؟ قال لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت فهو أبعد لك منها .
موضوع الحديث : اللعان
المفردات
قوله إن فلان بن فلان : كنى عنه ستراً عليه
أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة : الظاهر أن أن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وتقديره أنه أي الشأن لو وجد أحدنا امرأته ... الحديث
قوله على فاحشة :المراد به فاحشة الزنا
كيف يصنع : هذا استفهام عن الأمر الذي يصنعه من ابتلي بذلك
قوله إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك : ذا فيه بيان وتوضيح للمشكلة أي أنه في كلا الحالتين يقع في ورطة(4/200)
قوله فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سئل عن مثل هذه المسائل لا يجيب بشيء حتى يأتيه الوحي فلما كان بعد ذلك أتى : أي أن السائل رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات من سورة النور ( والذين يرمون أزواجهم ... فتلاهن عليه ووعظه
الوعظ : هو التذكير بعواقب الأمور وبيان خطر المعاصي وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة أي أخف من عذاب الآخرة فقال لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها أي أكد صدقه ثم دعاها فوعظها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقالت لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب
فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين واللعنة هي الإبعاد من رحمة الله
ثم ثنى بالمرأة أي جعلها هي الثانية فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين
والغضب : أشد من اللعن والعياذ بالله وكلاهما عظيم
ثم قال إن الله يعلم أن أحدكما كاذب : أي في نفس الأمر وإن لم يتبين ذلك
قوله فهل منكما تائب : دعوة إلى التوبة
قوله لا سبيل لك عليها : أي قد انتهت رابطة الزوجية بينك وبينها ووجب التفريق بينكما
قوله بما استحللت من فرجها : أي في حال وطئك السابق
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الصحابة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الحكم فيما إذا وجد الرجل امرأته على فاحشة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت عنه فلم يجبه عن ذلك ثم أنه عاد إليه وأخبره بأنه قد ابتلي بالأمر الذي سأل عنه فعند ذلك نزلت آيات الملاعنة من سورة النور فلاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما كما هو موضح في الحديث الشريف وكما سيأتي بيانه
فقه الحديث(4/201)
أولاً : قوله إن فلان بن فلان يؤخذ منه استحباب الستر على المسلم الذي ابتلي بشيء من القاذورات فعبدالله بن عمر رضي الله عنهما يعرف اسمه ولكن كنى عنه بفلان بن فلان ستراً عليه
ثانياً : يؤخذ منه جواز السؤال عن الأمر المتوقع قبل وقوعه
ثالثاً : أن ذلك جائز فيما إذا كان الإنسان قد ابتلي بشيء من الأسباب التي تدخل عليه الشك في زوجته وأن ذلك السبب هو المبيح للسؤال .
رابعاً: يؤخذ من قوله إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت عن مثل ذلك بيان فضاعة المسألة وغلظها
خامساً : يؤخذ من قوله فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه فيه السكوت عن الإجابة في الشيء الذي لا يعلم الإنسان حكمه
سادساً: أن سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظاراً للجواب من الله تعالى
سابعاً : يؤخذ من قوله إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به بأنه قد وقع فيما كان يتوقع ووجد امرأته على الفاحشة
ثامناً : يؤخذ منه أن قصة هذا الرجل هي سبب نزول الآيات التي في سورة النور وهل هو هلال بن أمية أو عويمر العجلاني لا يترتب على تعيينه كبير فائدة
تاسعاً :يؤخذ من قوله فتلاهن عليه ووعظه وذكره يؤخذ منه وعظ المتلاعنين وتذكيرهما
عاشراً : يؤخذ منه البداءة بالرجل لأن مبدأ الأمر من عنده وهو اتهامه لزوجته
الحادي عشر: يؤخذ منه أن الرجل إذا دعي إلى التراجع فأصر فإنه يجب عليه أن يأتي بالشهادات التي أمر الله بها
الثاني عشر : يؤخذ منه أنه لا بد من تكرير الشهادات ولا يكفي أن يقول أشهد بالله أربع شهادات
الثالث عشر :يؤخذ منه أن الرجل يلعن نفسه بأن يقول لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين
الرابع عشر :أنه إذا تم لعان الرجل ثنى الحاكم الشرعي بالمرأة
الخامس عشر : أن الحاكم الشرعي يعظها قبل إيقاع الشهادات منها ويذكرها ويقول لها إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة
السادس عشر :فإن أصرت أمرها أن تشهد على زوجها أربع شهادات إنه لمن الكاذبين(4/202)
السابع عشر : أنها تختم ذلك بقولها والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين
الثامن عشر: إذا تم اللعان بينهما فرق بينهما وهل التفريق يكون بتمام اللعان أو يكون بتفريق الحاكم ذهب إلى الأول الأئمة الثلاثة والجمهور وذهب إلى الثاني أبو حنيفة وأصحابه
التاسع عشر :يسن أن يقال لهما الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -
العشرون :أن فراقهما لا يحتاج إلى طلاق على القول الصحيح
الحادي والعشرون : أنه لا مهر للرجل عليها فإن كان صادقاً عليها فالمهر بما استحل من فرجها وإن كان كاذباً عليها فهو أبعد له منها .
الثاني والعشرون : أنه لا يسقط عن الزوج حد الفرية إلا بتمام اللعان أو اعتراف المرأة .
هذه هي المسائل المأخوذة من هذا الحديث ويبقى مسالة الانتفاء من ولدها سيأتي في الحديث القادم إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق .
[318]الحديث الثاني : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً رمى امرأته وانتفى من ولدها في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا كما قال الله تعالى ثم قضى بالولد للمرأة وفرق بين المتلاعنين .
موضوع الحديث :اللعان والانتفاء من الولد
المفردات
قوله أن رجلاً : يحتمل أنه هلال بن أمية الواقفي المذكور في الحديث الأول إذ أن في بعض ألفاظ ذلك الحديث أنه رماها أي زوجته بشريك بن سحماء وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال انظروا فإن أتت به كذا فهو للنعت السيء وإن أتت به كذا فهو لهلال بن أمية فأتت به على النعت السيء فجاء في الحديث لولا اللعان لكان لي ولها شأن فمن هذا يؤخذ أن الرجل المذكور هو الذي سبق ذكره في الحديث الأول وكنى عنه هنا
قوله وانتفى من ولدها :يعني أنه ليس له(4/203)
فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا : تسمية ما يحصل بين الرجل وامرأته ملاعنة تسمية أغلبية أي أنه غُلب اللعن مع أنه في حق الرجل دعاء باللعن وفي حق المرأة دعاء بالغضب
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً رمى امرأته بالزنا وانتفى من ولدها أي أنه تبرأ منه وقال إنه ليس له فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي أمر الزوجين بالتلاعن على مقتضى كتاب الله عز وجل .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الرجل إذا رمى امرأته بالزنا وقال إنه وجدها على الفاحشة مع رجل آخر فإنه إما يأتي ببينة على ذلك وإلا فإنه يشرع بينهما التلاعن وقد ذكر التلاعن في الحديث الأول وذكرنا هناك ما يقتضيه المقام من الفوائد التي تؤخذ من ذلك الحديث
ثانياً : يؤخذ من هذا الحديث أن الرجل إذا رمى امرأته بالزنا وادّعى بأن ابنها ليس له فإنه لا بد أن يلاعنها عليه بأن يشهد أربع شهادات بالله إن هذا الولد ليس له وأن عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين وهي تشهد أربع شهادات بالله أن ذلك الولد له والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين
ثالثاً : أنه إذا تم بينهما التلاعن على نفي الولد انتفى الولد من أبيه والتحق بأمه بحيث ينفصل من أبيه الذي نفاه انفصالاً كاملاً
رابعاً : أنه يرث أمه وترثه إن لم يكن له وارث غيرها
خامساً : يؤخذ من قول الشارح وقد ترددوا فيما لو كانت بنتاً هل يحل للملاعن تزوجها وقد ذكر الصنعاني في الحاشية بأن بعض الفقهاء قال بأنه يحل له نكاحها وهو قول شاذ لبعض الشافعية قال والأصح قول الجمهور أنها تحرم لأنها ربيبة بالجملة
وأقول :إنما ذكره الصنعاني هو الصواب في هذه الصورة لأنها بنت زوجة مدخول بها فهي تحرم من هذه الناحية(4/204)
سادساً : الخلاف مشهور بين أهل العلم في بنت الزنا هل يحل للزاني تزوجها إذا علم أنها بنته وخلقت من مائه لأنها ليست بنتاً شرعية ؟ ذهب الشافعي إلى هذا فيما نقل عنه وأنكر عليه هذا القول والجمهور يقولون بأنه إذا عرف أنها بنته وخلقت من مائه فإنه لا يحل له تزوجها وهذا هو القول الصواب لو ما يكون إلا من باب اتقاء الشبهات
سابعاً: يؤخذ من قوله وفرق بين المتلاعنين ربما يؤخذ من ذلك دليل لأبي حنيفة رحمه الله حيث زعم أن اللعان لا يوجب فرقة وإنما تكون الفرقة بتفريق الحاكم والقول الصحيح أن اللعان هو الموجب للفرقة وأنه لا تتم الفرقة إلا بتمام اللعان هذا وعلى هذا فإن تفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما يعد إخبار بالحكم وبيان له وبالله التوفيق .
[319]الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل من بني فزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هل لك إبل ؟ قال نعم قال فما ألوانها ؟ قال حمر قال فهل يكون فيها من أورق قال إن فيها لورقا قال فأنى أتاها ذلك ؟ قال عسى أن يكون نزعه عرق قال : وهذا عسى أن يكون نزعه عرق .
موضوع الحديث :التعريض بنفي الولد
المفردات
جاء رجل من بني فزارة : قال ابن الملقن في كتاب الإعلام بفوائد عمدة الأحكام اسم هذا الرجل ضمضم بن قتادة ذكره عبدالغني في غوامضه قال وفيه وُلِدَ مولود أسود من امرأة من بني عجل ومنه أيضاً وفِدَ عجائز من بني عجل فأخبرن أنه كان للمرأة جدة سوداء
بني فزارة : قبيلة من العرب
غلاماً اسود : أي أسود اللون
هل لك من إبل قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق : أقول أورق هو الجمل أو البعير الذي يكون فيه غبرة وسواد وهو ما يسمى في لغتنا أشعل
قال إن فيها لورقاً :يعني أن هذا الوصف موجود فيها بكثرة .(4/205)
قوله فأنى أتاها ذلك : أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له كيف أتاها ذلك حيث أتى مخالف لألوانها
قال عسى أن يكون نزعه عرق : يعني أن يكون معه في أصوله شيء على هذا الوصف فأشبهه قال وهذا عسى أن يكون نزعه عرق
والعرق : هو الأصل في النسب
المعنى الإجمالي
أراد رجل من بني فزارة كان قد ولدت امرأته غلاماً أسود فأنكره وهمّ بنفيه فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - مستفتياً فجرى بينهما الحوار الذي ذكر في الحديث فاقتنع الرجل وذهب مقتنعاً بأن ذلك لا يوجب شبهة وهذا من حكمة الشارع الحكيم - صلى الله عليه وسلم - .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن التعريض بنفي الولد لا يكون نفياً صريحاً إذا كان بصيغة محتملة وأنه لا يوجب حداً ولا تعزيراً(4/206)
ثانياً : يؤخذ من الحديث أيضاً أن مخالفة الولد لأبيه في اللون لا يوجب نفياً له لأن الله سبحان وتعالى قد أخبر في كتابه بأنه يركب صورة الولد على ما يشاء من الصور لقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم ِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَك َ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) [ الانفطار: (6- 8) ] وقد ورد أن الله عز وجل إذا أراد خلق الإنسان في بطن أمه ركبه في أي صورة شاء مما يكون له عرق نسب يوصله إليه وقد جاء في الحديث أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاثٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا نَبِيٌّ ) .. ومنها ( وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ ) ... فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتْ الْوَلَدَ ... ... إلخ الحديث )(1)
ثالثاً : يؤخذ منه حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإقناع وكيف حاور الرجل حتى أقنعه
رابعاً : يؤخذ منه أن اختلاف اللون لا يوجب نفياً
خامساً: يؤخذ منه دليل لمن قال بالقياس وذلك أنه شبه شيئاً يشئ فدل على صحة القياس أي قياس الشبه ومن تراجم البخاري على هذا الحديث باب من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين
[
__________
(1) البخاري في كتاب المناقب باب كيف آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه رقم 3938 وفي كتاب تفسير القرآن باب من كان عدواً لجبريل رقم 4480(4/207)
320]الحديث الرابع : عن عائشة رضي الله عنها قالت اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد : يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إليّ أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شبهه فرأى شبهاً بيناً بعتبة فقال : هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة فلم ير سودة قط .
موضوع الحديث : الحكم في الولد المتنازع عليه أنه للفراش أما العاهر فليس له إلا الخيبة
المفردات
اختصم سعد بن أبي وقاص : سعد بن أبي وقاص بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري أبو إسحاق أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله وهو الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا خالي فليرني امرؤ خاله أمّره عمر بن الخطاب رضي الله عنهما على فتوح العراق فوقعت في امرته موقعة القادسية وغيرها من المواقع وهو الذي فتح المدائن عاصمة كسرى توفى سنة 55 وهو آخر العشرة وفاتاً .
عبد بن زمعة : قرشي عامري وزمعة بفتح الميم وإسكانها وهو الأكثر كان عبداً قرشياً سيداً من سادات الصحابة وهو أخو سودة أم المؤمنين رضي الله عنها لأبيها .
عتبة بن أبي وقاص : هو أخو سعد بن أبي وقاص لأبيه
اختصم : الخصومة هي التشاجر وأن يدعي كل واحد من الخصمين شيئاً .(4/208)
قوله عهد إليّ أنه ابنه : أي أن سعداً ذكر أن أخاه عتبة عهد إليه بأن ذلك الولد المتنازع فيه هو ابنه أي من السفاح والزنا وقد كان أهل الجاهلية يتخذون الولائد أي الجواري والمملوكات ويفتحون لهن محلات للدعارة من أجل أن يكسبوا من ورائهن مالاً حتى جاء الإسلام ونهى عن ذلك بقوله ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [ النور : 33 ] فكان من طريقتهم أن هذه الأمة إذا أتاها رجال عدة في طهر واحد فحملت يجمعون لها بعد الولادة ويؤتى بالقائف فيلحقه بمن رأى أنه أشبه به فلما جاء الإسلام منع ذلك عند ذلك أوصى عتبة أخاه سعداً أن ابن وليدة زمعة هو ابنه لذلك اختصما فيه .
قوله الولد للفراش : إخبار بالحكم الشرعي وأن الولد ملحق بالفراش سواء كان صاحب الفراش زوجاً أو سيداً
قوله وللعاهر الحجر : فُسر بتفسيرين فُسرَ بأن المراد الزاني له الرجم وفُسرَ بأنه له الخيبة وفي رواية له الأثلب والأثلب هو الحجر .
المعنى الإجمالي
اختصم عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص في ابن وليدة زمعة وهو المسمى عبدالرحمن اختصما فيه بعد الفتح حيث طالب سعد بن أبي وقاص باستلحاقه لأنه ابن أخيه عتبة وأبى ذلك عبد بن زمعة وقال هو أخي ولد على فراش أبي من وليدته فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الولد للفراش وللعاهر الحجر .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث جواز تسمية عبد بدون إضافة وقد كان أحد العلماء ينكر ذلك وأنكر اسم عبده ولكن هذا الحديث دليل على أن إنكاره لهذه التسمية إنكار في غير محله .(4/209)
ثانياً : كان الاختصام بين سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام ولد من وليدة زمعة فأدلى كل منهما بحجته فسعد بن أبي وقاص ادّعى بأن أخاه أوصى إليه أن ابن وليدة زمعة هو ابنه وادّعى عبد بن زمعة بأنه أخاه ولد على فراش أبيه من وليدته .
ثالثاً: يؤخذ منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم في هذا الولد بحكمين متعارضين فحكم بأن الولد للفراش فألحقه بزمعة لأنه ولد من وليدته على فراشه وقال هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وهذا الحكم حكم شرعي ثابت إلى يوم القيامة وللعاهر الحجر والمراد بالعاهر الزاني
رابعاً :اختلف الأئمة في الحكم بالقيافة هل هو ممكن الآن أو ليس بممكن فحكم بعضهم بإمكانه في الإماء دون الحرائر وهذا قول مالك ومنع ذلك بعضهم
خامساً : نقل ابن الملقن عن ابن عبد البر أنه قال في الحديث إشكال فإن الأمة مجتمعة على أن أحداً لا يدعي على أحد إلا بتوكيل ولم يذكر في هذا الحديث توكيل عتبة لأخيه سعد في دعواه ولا توكيل زمعة لابنه عبد بن زمعة في دعواه
سادساً : والجواب على هذا القول أن سعداً وعبد بن زمعة كل منهما قد ادّعى عن ميت بالولاية وذلك جائز في حكم الشرع لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك
سابعاً : متى تكون الزوجة فراشاً وبأي شيء تكون فالجمهور على أن المرأة لا تكون فراشاً لزوجها بمجرد العقد يتبعه ولدها إلا مع إمكان الوطء والاتصال بينهما وادّعى أبو حنيفة أن الزوجة تكون فراشاً لزوجها بمجرد العقد ولو لم يمكن الاتصال بينهما وهذا القول ضعيف .
ثامناً : يؤخذ من هذا الحديث أنه يجوز إعمال الحكم في أمرين متعارضين وبيان ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الولد للفراش وأعمل الشبه فأمر سودة أن تحتجب من ذلك الولد لأن ظاهر الشبه بأنه ليس بأخ لها فأمرها بالاحتجاب منه من باب الاحتياط وإن كان الظاهر أنه أخاها من النسب .(4/210)
تاسعاً : إلحاق ابن الأمة بسيدها يتوقف على اعترافه بوطئها فإن لم يعترف بوطئها ألحق به ليكون عبداً له تابعاً لأمه في العبودية
عاشراً : ومن أجل ذلك اُختلف في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هو لك يا عبد بن زمعة هل المراد هو لك أخ أو أن المراد هو لك عبد في كونه مدعياً على الورثة وأن الولد يكون مملوكاً تابعاً لأمه .
الحادي عشر : على التقدير الأول يكون فيه دلالة لقول الشافعي وموافقيه في استلحاق النسب وأنه يجوز أن يستلحق الوارث نسباً لمورثه ويشترط أن يمكن كون المستلحق ولداً للميت
الثاني عشر : أنه لا يكون الاستلحاق إلا إذا كان المالك قد اعترف بوطء الأمة فإن لم يعترف بوطئها فإنه لا يلحقه أحد منهم
الثالث عشر : أن الشبه لا يوجب إلحاقاً ولا نفياً إذا عارض ما هو أقوى منه كما تقدم في الحديث الذي قبل هذا
الرابع عشر :يؤخذ منه أن حكم الحاكم بالظاهر لا يحل الشيء في الباطن وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألحق الولد بالفراش وأمر سودة أن تحتجب منه وهي أخته على مقتضى الإلحاق .
[321]الحديث الخامس : عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال ألم ترى أن مجززاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال إن بعض هذه الأقدام لمن بعض .
وفي لفظ كان مجززاً قائفاً .
موضوع الحديث : الاستدلال بالقيافة من قائف معروف فيما يؤيد الأصل الشرعي أو يلحق الولد الناشئ عن وطء محترم بأحد الواطئين
المفردات
التعريف بالأسماء الواردة فيه(4/211)
زيد بن حارثة الكلبي أخذه قطاع الطرق من أمه واسترقوه وهو يافع فاشتراه حكيم بن حزام وقدم به إلى مكة وكانت قريش يرحلون إلى الشام وإلى اليمن في رحلتي الشتاء والصيف ولما قدم حكيم بن حزام أتته عمته خديجة بنت خويلد مهنئة له بالوصول وكان قد اشترى غلماناً ليتجر فيهم فقال لها خذي غلاماً من هؤلاء الغلمان ليخدمك فأخذت زيد بن حارثة ثم بعد ذلك وهبته لزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يدعى زيد بن محمد فجاء أبوه وعمه لما سمعوا به ليفادوه فسألوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدوه في المسجد فقالوا له أنت محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب قال نعم فقالوا إن لنا ابناً ظل منا وسمعنا أنه عندك وقد جئنا لفداءه فاطلب الذي تريد من الفداء نعطك إياه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو خير من ذلك قالوا ما هو قال أدعوه الآن فإن أراد أن يذهب معكم فهو لكم بدون فداء قالوا رضينا فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه فجاء فقال له من هؤلاء قال هذا أبي وهذا عمي فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - إن أباك وعمك قالا لي كذا وقلت لهما كذا فإن شئت أن تذهب معهم فاذهب معهم بدون فداء قال لا أريد أن أذهب معهم فقالوا له تفضل الناس على أبيك وأهلك قال نعم لقد عرفت من هذا الرجل ما يجعلني لا أختار عليه أحداً ومن حينها قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن حضروا المجلس أشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - فدعي من يومها زيد بن محمد فأعتقه النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجه بمولاته أم أيمن بركة الحبشية وكانت حبشية سوداء فولدت له أسامة بن زيد فكان أسامه بن زيد حب النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن حبه خرج أسامة بن زيد أسود مع أن أباه كان أبيض فكانت قريش تطعن في نسبه ولما جاء مجزز ورأى زيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد وقد غطيا رؤوسهما ووجوههما ببرد وأقدامهما بادية مع أن أقدام زيد بيضاء وأقدام(4/212)
أسامة بن زيد سوداء فلما نظر إليها قال إن هذه الأقدام بعضها من بعض فلذلك دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة مسروراً تبرق أسارير وجهه إذ كان في قول مجزز رد على المشركين الذين يطعنون في نسبه
مجزز : بضم الميم وفتح الجيم وكسر الزاي الأولى على زنة مفعل ابن الأعور ابن جعدة ابن معاذ ينتهي نسبه إلى بني مدلج قبيلة من قبائل بني كنانة قيل سمي مجززاً لأنه كان يجز نواصي أسرى الحرب أو لحاهم ويتركهم وكانت بني مدلج مشهورة بالقيافة .
المعنى الإجمالي
دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على زوجته عائشة مسروراً تبرق أسارير وجهه فتعجبت من الأمر الذي سر له فأخبرها أن مجززاً مر بزيد بن حارثة وأسامة بن زيد وهما متغطيان ببرد وأقدامهما بادية فقال إن هذه الأقدام بعضها لمن بعض وفي ضمن ذلك إقرار للقيافة والعمل بها
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث جواز العمل بالقيافة لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لمجزز عليها وفرحه بها وقد ذهب إلى العمل بالقيافة في الشرع الإسلامي الشافعي وفقهاء الحجاز وجماهير العلماء ونفى العمل بها أبو حنيفة وأصحابه والثوري وإسحاق وهناك قول ثالث يفرق بين الإماء والحرائر وهو أنه يعمل به في الإماء و لا يعمل به في الحرائر وهذا هو قول مالك في مشهور مذهبه وعنه رواية كالقول الأول ولا تشرع القيافة إلا في وطء محترم فإذا وطء رجلان امرأة كل منهما وطئه محترم كالبائع والمشتري يطئان الجارية المبيعة في طهر قبل الاستبراء فتأتي بولد لستة أشهر فصاعداً من وطء الثاني ولدون أربع سنين من وطء الأول فإذا كان مثل ذلك فإنه يدعى له القائف فيلحقه بأحد الواطئين وهل يشترط في القيافة العدد كالشهادة أو أنه يكفي قائف واحد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر قول مجزز وسر به لكونه أيد الأصل بحيث كان في هذه القيافة دليل على صحة نسب أسامة بن زيد لأبيه .
[(4/213)
322]الحديث السادس: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ذكر العزل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ولم يفعل ذلك أحدكم ولم يقل فلا يفعل ذلك أحدكم فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها
موضوع الحديث : حكم العزل هل هو مباح بلا كراهة أو أنه مكروه أو أنه محرم
المفردات
قوله ولم يفعل ذلك أحدكم : استفهام إنكاري ولم يقل فلا يفعل ذلك أحدكم أي لم يكن ذلك منه نهياً فإنه لو كان نهياً لأخذ منه التحريم
قوله فإنه ليست نفس مخلوقة : أي قدر الله خلقها في الأزل إلا الله خالقها يعني أن ما قدر في الأزل وكتب في اللوح المحفوظ فإنه لابد من وقوعه .
المعنى الإجمالي
يخبر أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه ذكر العزل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنه أنكر ذلك بقوله ولم يفعل ذلك أحدكم وهذه الصيغة تدل على أن الحذر لا ينفع مع القدر وأنه وإن عزل فإن الله تبارك وتعالى سيحقق ما كتب في اللوح المحفوظ ولهذا قال فإنه ليست نفس مخلوقة أي قدر خلقها إلا الله خالقها وبناء على ذلك فإنه لا ينفع الحذر مع القدر
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث جواز العزل وأن الإنسان إذا جامع زوجته أو سريته وعزل عنها فإن ذلك لا يمنع وقوع شيء قد كتبه الله بل أن ما كتب سيقع رغم أنفه ولهذا فقد اختلف الفقهاء في حكم العزل أي اختلفوا في إباحته أو مع الكراهة أو عدم إباحته فالجمهور ذهبوا إلى كراهيته كراهة تنزيه جمعاً بين الأحاديث ونقل ابن عبدالبر الإجماع على أنه لا يشرع عن الزوجة الحرة إلا بإذنها لأن الجماع من حقها ولها المطالبة به .أما الأمة فقالوا أنه يجوز له أن يعزل عنها إذا كان المجامع سيدها .أما إذا كانت الأمة زوجة فإنه لا يجوز العزل عنها إلا بإذنها وإذن سيدها أما إذنها فلأن لها الحق في الجماع وأما إذن سيدها فإن السيد له الحق في الولد .(4/214)
إذا فالأمة إذا كانت زوجة فإنه يشترط إذنها وإنما يكون بغير إذنها لو كانت مملوكة للواطئ وقد عورض هذا الحديث بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العزل فقال هو الوأد الخفي أخرجه مسلم وبحديث آخر أن اليهود كانت تقول إن العزل هو الموئودة الصغرى فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال كذبت اليهود لو أراد الله خلقه لم يستطع رده أخرجه الترمذي والنسائي وصححاه ومن أجل اختلاف هذه الأحاديث فقد اختلف الفقهاء في حكم العزل والمشهور عند جماهيرهم أنه مكروه كراهة تنزيه لا كراهة تحريم وأنه لا يجوز فعله إلا بإذن الزوجة الحرة وبإذن من سيد الزوجة الأمة (( المملوكة )) وقال بعضهم إن الزوجة الأمة لها الحق في الوطء ولها المطالبة به وقد ذهب ابن حزم في المحلى إلى عدم جواز العزل . ولكن الحديث الآتي دال على جوازه
[323]وهو حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال كنا نعزل والقرآن ينزل لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن .وقد ورد في صحيح مسلم أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن لي أمة وأنا أطوف عليها وأخاف أن تحمل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا عليك ألا تفعل فإنه سيأتيها ما قدر لها فمكث وقتاً ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن الأمة التي قلت لك قد حبلت فقال قد قلت لك إنه سيأتيها ما قدر لها )
وجملة هذه الأحاديث تفيد أن العزل مكروه كراهة تنزيه وأنه لا يجوز أن يفعل مع الزوجة الحرة إلا بإذنها ولامع الزوجة الأمة إلا بإذن سيدها وبالله التوفيق .
[324]الحديث الثامن : عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدوّ الله وليس كذلك إلا حار عليه .
كذا عند مسلم وللبخاري نحوه .(4/215)
موضوع الحديث : النهي عن الانتفاء من النسب وادعاء المسلم ما ليس له وأن يرمي رجلاً بالكفر من دون ما يوجبه
المفردات
قوله إلا كفر : الكفر في أصل اللغة الستر يقال كفرت الريح الآثار أي سترتها وهو ينقسم إلى قسمين كفر دون كفر وهو ما لا يخرج من الملة ومن ذلك الانتفاء من النسب كما في هذا الحديث وكفر يخرج من الملة وسنأتي على ذلك مفصلاً
قوله ومن ادعى ما ليس له فليس منا : أي ليس منا في هذا الوصف أو هذا العمل
قوله فليتبوأ مقعده من النار : التبوأ هو طول الإقامة في المكان يقال تبوأ مكاناً أي اختاره مكاناً لإقامته الطويلة فكأن قال ليختر له مكاناً من النار فهو لا بد أن يقع فيها
قوله ومن دعى رجلاً بالكفر :أي سماه كافراً كفراً مخرجاً من الملة أو قال له عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه معنى حار عليه يعني رجع عليه .
المعنى الإجمالي
يخبر أبو ذر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذه الخصال الثلاث ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر وأن من ادعى ما ليس له فليس من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه سيتبوأ مقعده من النار وأن من دعى رجلاً بالكفر وليس كذلك فإن قوله سيرجع عليه
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الانتفاء من النسب كبيرة من الكبائر العظام فمتى قال الرجل أنه ليس ابن فلان فإنه قد وقع في هذا المأزق
ثانياً : أنه لا يكون كذلك إلا إذا ادعى لغير أبيه بأن نسب نفسه إلى غير أبيه الحقيقي وهو يعلم ذلك فإنه يكون قد كفر هذه النعمة(4/216)
ثالثاً : يؤخذ من قوله إلا كفر أن ذلك يكون من الكفر دون الكفر ومعلوم أن انتماء الإنسان إلى أبيه وأسرته وعشيرته نعمة من الله عز وجل خص بها بني آدم حيث يقول جل من قائل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[ الحجرات : 13] فمتى كان للعبد أب معروف وأسرة معروفة وعشيرة معروفة كما قال (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ) [ المعارج : 3،4] فمتى أنكر هذا وجحد هذه النعمة فإنه حينئذ قد كفر بها أي جحدها وليس المراد بذلك أنه من الكفر المخرج من الملة وقد ورد هذا في كثير من النصوص الشرعية مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - ( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ) (1) ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - ( هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ - الليلة - قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ – مطرنا - بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ ) (2)
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) البخاري في كتاب الأذان باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم رقم 846 وفي كتاب الجمعة باب قول الله تعالى (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) رقم 1038 وفي كتاب المغازي باب غزوة الحديبية رقم 4147 ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان كفر من قال مطرنا بالأنواء رقم 71 وأبو داود في كتاب الطب باب في النجوم رقم 3906 ومالك في كتاب النداء للصلاة باب الاستمطار بالنجوم رقم 451 ..(4/217)
وكذلك قوله كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت ) (1) وعلى هذا فيمكن أن نقول أن الكفر ينقسم إلى قسمين كفر أصغر وكفر أكبر فالكفر الأصغر هو الذي لا يخرج من الملة مثل ما سبق أن مثلنا له . والكفر الأكبر هو المخرج من الملة كالشرك بالله عز وجل وإنكار البعث بعد الموت أو إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهذا وأمثاله موجب للكفر المخرج من الملة والذي يحبط عمل صاحبه ويكون به كافراً مرتداً ولزاماً انظر نواقض الإسلام العشرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لتكون على بينة من أمرك . وبالله التوفيق
رابعاً : قال الصنعاني رحمه الله نقلاً عن ابن الأثير الكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار بأن لا يعرف الله تعالى ولا يعترف به
قلت : وهو كفر الملحدين في هذا الزمان الذين لا يعترفون بوجود الله عز وجل . ثانياً : كفر جحود ككفر إبليس لعنه الله يعرف الله تعالى بقلبه ولا يقر بلسانه قال الصنعاني قلت في هذا تأمل فإن إبليس مقر بالله (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) [ الحجر 39] فهو معترف بربوبية ربه وإنما كفر بتكبره على الله تعالى وعدم امتثاله لأمره جل وعلا فصار كافراً بذلك قال الله عنه (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) [ ص : 74 ] وأقر على نفسه حين قال (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ ) [ إبراهيم : 22]
__________
(1) مسلم في كتاب الإيمان باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة رقم 67 وأحمد برقم 10438 .(4/218)
ثالثاً : كفر عناد وهو أن يعرف بقلبه ويعترف بلسان ولا يدين به حسداً وبغضاً ككفرأبي جهل وأضرابه . قال الصنعاني قلت ولعل كفر إبليس من هذا أما كفر أبي جهل ونحوه فهو لإنكاره نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ألا تراهم يقولون ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ) [ الأنفال : 32] ومنه كفر بعض اليهود فإنهم قالوا { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ }[النساء : 150 ] قال الله فيهم { أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً }[النساء : 151 ] قال الصنعاني رحمه الله ولا يخفى أن هذا القسم خارج عن الأربعة الأنحاء ثم قال ابن الأثير وكفر نفاق وهو أن يعترف بلسانه ولا يعتقد بقلبه .
قلت : وهناك أقسام أخرى لم يذكرها ككفر الاستهزاء بالدين وغير ذلك مما هو مذكور في نواقض الإسلام العشرة .
خامساً :يؤخذ من قوله ومن ادعى ما ليس فله فليس منا وليتبوأ مقعد من النار
وأقول : إن هذا لا بد أن يقيد بالعلم أن يكون المدعي ما ليس له عالماً بأن هذا الشيء المدعى ليس له ولكنه تجرأ عليه واستهان بالوعيد في ذلك .
سادساً : يخرج عن هذا من ادعى بالوكالة وهو ما يسمى بالمسخر كما ذكر ذلك الصنعاني في العدة فإذا ادعى أن هذا الشيء لموكله فإنه لا يدخل في هذا الوعيد
سابعاً : قوله فليس منا مصروف عن ظاهره إذ أنه لو أجريناه على ظاهره لخرج المدعى ما ليس له من الإسلام ولكن يؤل قوله فليس منا بأنه ليس من النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخصلة ولا يخرج من الإسلام من أجل ذلك .
ثامناً : قوله فليتبوأ مقعده من النار هذا فيه وعيد مؤكد لأن حقوق الآخرين مبنية على المشاحة لذلك فإنه يكون مستحقاً للعذاب إلا أن يشاء الله عز وجل العفو عنه .(4/219)
تاسعاً : يؤخذ من قوله ومن دعى رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه يؤخذ منه تحريم الحكم بالكفر المخرج من الملة إلا بدليل واضح كالشرك بالله أو جحد يوم القيامة أو جحد الجنة أو النار أو هما معاً أو إنكار أمر مجمع عليه كإنكاره فرضية الصلاة أو إنكاره فرضية الزكاة أو إنكار صوم رمضان أو استحلال محرم مجمع عليه كاستحلال الزنا أو الربا أو السرقة إلى غير ذلك من استحلال المحرمات أو السخرية من الشرع .
عاشراً :يؤخذ من قوله إلا حار عليه أن من حكم على شخص من المسلمين بالكفر بغير دليل يوجبه فإنه يرجع على القائل لأن معنى حار رجع عليه . وفي المقابل هل يكون من أنكر كفر كافر ولم يحكم عليه بالكفر كاليهودي والنصراني والوثني وغير ذلك هل يكون من لم يكفر هؤلاء كافر ؟ الجواب نعم لأنه كذب الله عز وجل في خبره عنهم بأنهم كفار وقد أخبر الله عز وجل عن اليهود والنصارى أنهم كفار فقال الله عز وجل ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ... ) [ المائدة : 73 ] وقال تعالى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) [ المائدة : 78] وقال عز وجل (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) إلى أن قال ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) [ المائدة : 64] إلى غير ذلك من الآيات فمن تحاشا أن يحكم عليهم بالكفر فهو كافر بهذه الايات التي أنزلها الله عز وجل فيهم وبالله التوفيق
كتاب الرضاع
الرضاع بكسر الراء على المشهور وحكى الصنعاني الفتح وهي مص الرضيع لثدي أمه أو من ترضعه وسيأتي بيان الرضاعة المحرمة والاختلاف فيها أي في شروط التحريم ، أورد فيه حديث ابن عباس وهو
[(4/220)
325]الحديث الأول : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة ( لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة )
موضوع الحديث : الرضاع وأنه يحرم به ما يحرم من النسب
المعنى الإجمالي
عندما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة في عمرة القضية أو في عمرة القضاء فعند خروجهم من مكة لحقتهم بنت حمزة بن عبدالمطلب وهي تنادي يا عم يا عم فاختصم فيها علي بن أبي طالب وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة رضي الله عنهم فقال زيد بن حارثة ابنة أخي وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بينه وبين حمزة وقال علي بن أبي طالب ابنة عمي وقال جعفر بن أبي طالب ابنة عمي وخالتها تحتي فحكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها وهي زوجة جعفر بن أبي طالب وقال إنما الخالة بمنزلة الأم ولما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت حمزة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها لا تحل لي يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وحمزة ثويبة مولاة أبي لهب .
فقه الحديث(4/221)
أولاً : يؤخذ من الحديث ومن قوله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب قال وهي ابنة أخي من الرضاع ذهب الجمهور إلى أنه يشترط للرضاع المحرم شرطان الشرط الأول : أن يكون الرضاع خمس رضعات وثانياً : أن يكون في الحولين لكن اختلفوا في الرضعة ما هي ؟ فقال قوم الرضعة المصة وقال قوم أن يقبل على الثدي بنفسه ويتركه بنفسه وقال قوم أن الرضعة بالنسبة للرضيع بمنزلة الوجبة للكبير وهذا القول هو الأولى في نظري بأن يرضع الطفل حتى يشبع لأنها يترتب عليها تحريم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أُمَّ الْفَضْلِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ أَوْ الرَّضْعَتَانِ أَوْ الْمَصَّةُ أَوْ الْمَصَّتَانِ (1) وعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ أيضاً قَالَتْ دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتِي فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ فَتَزَوَّجْتُ عَلَيْهَا أُخْرَى فَزَعَمَتْ امْرَأَتِي الأُولَى أَنَّهَا أَرْضَعَتْ امْرَأَتِي الْحُدْثَى رَضْعَةً أَوْ رَضْعَتَيْنِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لا تُحَرِّمُ الإِمْلاجَةُ وَالإِمْلاجَتَانِ )(2)
__________
(1) مسلم في كتاب الرضاع باب في المصة والمصتان رقم 1451 وابن ماجه في كتاب النكاح باب فضل النكاح رقم 1940.
(2) مسلم في كتاب الرضاع باب في المصة والمصتان رقم 1451والنسائي في كتاب النكاح باب القدر الذي يحرم من الرضاعة رقم 3308 وأحمد رقم 27410و27417 والدارمي في كتاب النكاح باب كم رضعة تحرم رقم 2252 ..(4/222)
وعن ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إِلا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ ) (1) ورواه مرفوعاً بمعناه أيضاً عند أبي داود (وَقَالَ أَنْشَزَ الْعَظْمَ) (2) ولا يمكن أن ينبت اللحم وينشز العظم إلا بما يكون بمنزلة الوجبة وهو يتصور في كل ساعتين إذ أن الطفل معدته تهضم اللبن الذي فيها في خلال ساعتين وعلى هذا فيتصور أن تكون الخمس الرضعات في يوم أو في يوم وليلة .
__________
(1) أحمد رقم 4114
(2) أبو داود في كتاب النكاح باب في رضاعة الكبير رقم 2059 الحديث صححه الألباني .(4/223)
ثانياً : وقع الخلاف في رضاع الكبير الذي تجاوز الحولين بكثير هل تكون رضاعته محرمة أم ليست بمحرمة وقد ورد في ذلك حديث سهلة بنت سُهَيْلٍ عن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ إِنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعَقَلَ مَا عَقَلُوا وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ وَيَذْهَبْ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ ) (1) وفي رواية فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْضِعِيهِ فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ) (2) وقد اختلف أهل العلم في هذه الرضاعة هل هي خاصة بسهلة وسالم أم هي عامة في كل من احتاج إلى ذلك أو هي عامة بدون قيد فذهب قوم إلى أن رضاعة الكبير لا تؤثر التحريم وأن قصة سهلة بنت سهيل وسالماً مولى أبي حذيفة محمولة على الخصوصية فلا يقاس عليها غيرها وإلى ذلك ذهب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عدا عائشة رضي الله عنهن وذهب قوم إلى أن رضاع الكبير محرم سواء كان لحاجة أو لغير حاجة وذهب ابن تيمية وأناس معه إلى أن رضاعة الكبير لا تحرم إلا عند الحاجة فإذا كان هناك حاجة أثرت التحريم وإلا فلا فهذا قول وسط بين القولين
__________
(1) مسلم في كتاب الرضاع باب رضاعة الكبير رقم 1453والنسائي في كتاب النكاح باب رضاع الكبير رقم 3319، 3320، 3321،3323 وابن ماجة في كتاب النكاح باب رضاع الكبير رقم 1943 وأحمد رقم 26168 والدارمي في كتاب النكاح باب في رضاعة الكبير رقم 2257 .
(2) أبو داود في كتاب النكاح باب فيمن حرم به رقم 2061وأحمد رقم 25122 و25798 ومالك في كتاب الرضاع باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر رقم 1288والحديث صححه الألباني .(4/224)
ثالثاً : اختلفوا في لبن الرضاعة هل يشترط فيه أن يكون ناشئاً عن حمل ووطء وولادة أم لا ؟ فذهب الحنابلة إلى هذا الشرط واشترطوا في اللبن الذي ترضع به المرأة أن يكون ناشئاً عن وطء وحمل وذهب الجمهور إلى عدم التفريق فلو أرضعت المرأة الكبيرة أو المرأة التي لم تتزوج طفلاً رضاعاً محرماً هل يترتب عليه تحريم أم لا ؟ وقد ترجح لي بعد البحث والتأمل مذهب الجمهور وقررت حين كنت أدرس الفقه في المرحلة الثانوية عدم التفريق بين اللبن الناشئ عن حمل وولادة واللبن الذي لا يكون كذلك حيث أن عناصر اللبن واحدة وماهيته واحدة وذلك يقتضي أن المرأة العجوز التي تقدمت عن سن الولادة تقدماً كبيراً والمرأة التي لم تتزوج أن رضاعهما ينشأ عنه التحريم حيث أن عناصر اللبن واحدة وقد سمعت في هذين اليومين القريبين أسئلة قدمت لطبيب من الأطباء الاستشاريين في غذاء الأطفال حيث سألته امرأة طبيبة وأنا أسمع هل هناك فرق بين لبن امرأة جسيمة وامرأة ضعيفة البنية ؟ فقال لا فاللبن واحد بل إن لبن المرأة الجسيمة والنحيفة واحد وقد يكون لبن النحيفة أقوى أما العناصر فهي واحدة أو كلاماً نحو هذا ويعلم الله أني فرحت بهذه الإفادة لأنه تبين لي منها أني أصبت في اختياري هذا والحمد لله وعلى هذا فأقول إنه لا فرق بين لبن نشأ عن حمل وولادة ولبن لم ينشأ عن شيء من ذلك إلا أن هناك ملاحظة وهي ما نشأ عن حمل وولادة ينسب فيه الولد إلى صاحب اللبن فيكون أباً له أما الذي بدون حمل ولا ولادة فلا يكون الزوج الأول أباً للرضيع إذا حصل اللبن بعد فترة من زمن الحمل والولادة(4/225)
رابعاً : اختلفوا في الرضعات المحرمة فذهب قوم إلى أن الرضاع المحرم رضعة واحدة أخذاً من قوله تعالى (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ) [ النساء : 23] وذهب قوم إلى أن الرضعات المحرمة هي ثلاث مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم - (لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ أَوْ الرَّضْعَتَانِ أَوْ الْمَصَّةُ أَوْ الْمَصَّتَانِ ) فأخذوا بمفهوم هذا الحديث وجعلوا الرضاع المحرم ثلاث رضعات وذهب الشافعي وأحمد وجمهرة المحدثين إلى أن الرضاع المحرم هو خمس رضعات مستدلين بحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ ) (1) فهذا الحديث فيه أن العشر الرضعات نسخت تلاوة وحكماً بعد أن كانت فيها آية تتلى وأنها نسخت بخمس رضعات والخمس أيضاً نسخت تلاوة لا حكماً وهذا نص في أن الرضاع المحرم خمس رضعات وهو نص صريح وصحيح بخلاف المذهبين الأولين فإنهما بنيا على مفهومات .
__________
(1) مسلم في كتاب الرضاع باب التحريم بخمس رضعات رقم 1452 والترمذي في كتاب الرضاع باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان رقم 1150 والنسائي في كتاب النكاح باب القدر الذي يحرم من الرضاعة رقم 3307 وأبو داود في كتاب النكاح باب هل يحرم ما دون خمس رضعات رقم 2062 ومالك في كتاب الرضاع باب جامع ما جاء في الرضاعة رقم 1293 .(4/226)
خامساً : يؤخذ من هذا الحديث أن بنت الأخ من الرضاعة وبنت الأخت من الرضاعة أنهن يحرمن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابنة حمزة لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة ) وقوله - صلى الله عليه وسلم - في زينب بنت أبي سلمة أنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ) . وبالله التوفيق .
ملحوظة : قال ابن الملقن في كتابة الإعلام بفوائد عمدة الأحكام ثم اعلم أن الأمة مجتمعة على أنه لا يترتب على الرضاع أحكام الأمومة من كل وجه فلا توارث ولا نفقة ولا عتق بالملك ولا عقل (( ولا الولاية في النكاح )) ولا ترد شهادته له ولا يسقط عنها القصاص بقتله وإنما تترتب عليه الحرمة والمحرمية فقط .
[326]الحديث الثاني : عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة )
موضوع الحديث :أن الرضاعة تنشر الحرمة كما أنها تنتشر بالنسب
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الرضاعة تنشر الحرمة كما تنتشر الحرمة بالنسب وذلك أن الرضيع إذا تغذى بلبن المرضعة خمس مرات وكان ذلك في الحولين أي في الزمن الذي لا يكون للرضيع غذاء غير اللبن فإذا تغذى من لبنها خمس مرات فإنها تكون أمه من الرضاعة لأن شيئاً من جسمه نما على شيء من جسمها فترتب على ذلك المحرمية بينهما .
ثانياً : أن الرضاعة المحرمة هي ما كانت في الحولين وهل يتسامح في شيء من الزيادة على الحولين . فبعضهم تسامح في شهرين أو ثلاثة وبعضهم قال إلى ستة أشهر ولعل الأقوى أن الحولين هما الوقت الذي تنتشر فيه حرمة الرضاعة والتسامح يكون في شيء قليل بعدها لقوله تعالى ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) [ البقرة 233 ](4/227)
ثالثاً : سبق أن بينا الاختلاف في رضاع الكبير بدليله فلا داعي لإعادته
رابعاً : يؤخذ من عموم هذا أن الرضاعة تنتشر من قبل الأب الذي هو صاحب اللبن كما تنتشر من قبل الأم إلا أن اللبن الذي لا يحصل عن حمل وولادة إما لتقدم سن المرضعة وبعدها عن زمن الحمل والولادة وإما لأن المرضعة لم تتزوج أصلاً
خامساً : اختلفوا في لبن الفحل فذهب الجمهور إلى أنه ينشر الحرمة واستدلوا على ذلك بحديث عائشة الآتي وهو الحديث الثالث وحديث عائشة أيضاً في صحيح البخاري ولفظه عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُرَاهُ فُلانًا لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لَوْ كَانَ فُلانٌ حَيًّا لِعَمِّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَيَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَعَمْ إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلادَةِ ) (1)
[
__________
(1) البخاري في كتاب الشهادات باب الشهادة على الأنساب والرضاع رقم 2646 وفي كتاب النكاح باب وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم رقم 5099 ومسلم في كتاب الرضاع باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة رقم 1444 والنسائي في كتاب النكاح باب لبن الفحل رقم 3313 وأحمد بررقم 24671 ومالك في كتاب الرضاع باب رضاعة الصغير رقم 1277 والدارمي في كتاب النكاح باب ما يحرم من الرضاع رقم 2247 .(4/228)
327]الحديث الثالث في ترتيب كتاب الإعلام بفوائد عمدة الأحكام : عنها قالت ( إن أفلح ـ أخا أبي القعيس ـ أستأذن عليّ بعدما أنزل الحجاب ؟ فقلت : والله لا آذن له حتى أستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته فقال ائذني له فإنه عمك تربت يمينك )
قال عروة فبذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب
وفي لفظ ( أستأذن عليّ أفلح فلم آذن له فقال أتحتجبين مني وأنا عمك ؟ فقلت كيف ذلك قال أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي قالت فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال صدق أفلح ائذني له تربت يمينك )
موضوع الحديث : التحريم في الرضاع بلبن الفحل
المفردات
أفلح : بالفاء وكنيته أبو الجعد الأشعري واسمه وائل بن أفلح كما قاله الدارقطني ، وأبو عمر ذكر ابن الملقن في الإعلام الخلاف في كون أفلح هل هو أبو القعيس أو هو أخو أبي القعيس وقد ورد في بعض الروايات أفلح بن أبي القعيس قال وأصحها ثانيها أي أصحها أفلح أخو أبي القعيس
قوله ائذني له فإنه عمك تربت يمينك : قوله تربت يمينك بمعنى افتقرت وهذ هو أصح الأقوال ولكن العرب يدعون على الشخص ولا يريدون وقوع الدعاء به كقوله ثكلتك أمك وما أشبه ذلك .
المعنى الإجمالي
المعنى الإجمالي لهذا الحديث هو أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن على عائشة رضي الله عنها بعدما أنزل الحجاب فأبت أن تأذن له حتى تستأذن زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها سألته وأخبرته بما قال أفلح وبما قالت هي وأنها قالت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعن الرجل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ائذني له فإنه عمك تربت يمينك .
فقه الحديث(4/229)
أولاً :يؤخذ من هذا الحديث أن الواجب على كل أحد أن يستأذن في الدخول حتى ولو كانت صاحبة البيت محرمة عليه أي من محارمه في النسب أو الرضاع
ثانياً : أن المرأة لا ينبغي أن تأذن في بيت الرجل الذي هو زوجها إلا بعد أن تستأذنه في ذلك
ثالثاً : أن عائشة رضي الله عنها عللت عدم إذنها بأنها ترى عدم وقوع التحريم وذلك بأن اللبن انفصل من المرأة وليس من الرجل لقولها فإن أبا القعيس ليس هو أرضعني وإنما أرضعتني امرأته .
رابعاً : قد رد عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المفهوم وبين لها أن التحريم بالرضاع إنما كان بسبب الحمل وأن صاحب اللبن تنتشر من قبله الحرمة وصدق قول أفلح أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - صدق أفلح ولم يعتبر معارضتها شيئاً يذكر .
خامساً : يؤخذ منه التحريم بلبن الفحل وأنه تنتشر من قبله الحرمة فيعتبر صاحب اللبن أباً وأخوه عماً وأخته عمةً وأبوه جداً وأمه جدةً وبهذا قال الجمهور وخالف في ذلك عدد قليل من أهل العلم هم أهل الظاهر وابن علية وابن بنت الشافعي وعامتهم قد قبلوا هذا الحديث وحديث حفصة الذي تقدم
سادساً : قال ابن الملقن في كتابه الإعلام بفوائد عمدة الأحكام أن من ادعى رضاعاً وصدقه الرضيع ثبت حكم الرضاع بينهما ولا يحتاج إلى إقامة بينة .
وأقول : إن هذا يحتاج إلى بينة ، وقبول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه دلالة أن الرضاع من ادعاه قبل منه والأصل أن كل الأمور تنبني على البينة والاعتراف .
سابعاً : أما قوله قلت لعله لم يستفصلها لأنها راوية لحديث (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ )(4/230)
وأقول :إن هذا الاستنتاج غير صحيح بل الظاهر أنه قد علم بهذا الرضاع وأنه ثابت لأن علاقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي بكر وعلاقة أبي بكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ثابتة قبل ولادتها وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخطئه أن يأتي إلى بيت أبي بكر كل يوم صباحاً ومساءً أو في أحدهما ) (1) فلا بد أن علمه بالرضاع قد حصل .
ثامناً : يؤخذ منه جواز الدعاء الذي لم يقصد معناه كقوله هنا تربت يمينك وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ ( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ) (2)
تاسعاً: أن من اشتبه عليه أمر ينبغي له أن يسأل أهل العلم حتى يبينوا له صحة ما هو صحيح فيعمل به
عاشراً : فيه جواز ابتدار المستفتي المفتي بالتعليل قبل سماع الفتوى ولعله هو السبب في الدعوة التي دعا بها النبي - صلى الله عليه وسلم - تربت يمينك .
الحادي عشر: أن من قال قولاً وافق الحق ينبغي أن يصدق سواء كان قوله مبنياً على علم سابق أو غير ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - صدق أفلح .
الثاني عشر :فيه جواز التسمية بأفلح وأن النهي الوارد في ذلك للكراهة لا للتحريم وبالله التوفيق .
[
__________
(1) لما روت عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ ... ) إلخ الحديث رواه البخاري في كتاب البيوع باب إذا اشترى متاعاً أو دابة فوضعه عند البائع رقم 2138 وفي كتاب المناقب باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رقم 3906 وفي كتاب الأدب باب هل يزور صاحبه كل يوم بكرة أو عشياً رقم 6079 .
(2) الترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في حرمة الصلاة رقم 2616 وابن ماجة في كتاب الفتن باب كف اللسان في الفتنة رقم 3973 وأحمد برقم 22366 والحديث صححه الألباني .(4/231)
328]الحديث الرابع : وعنها أي عائشة رضي الله عنها قالت دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي رجل فقال يا عائشة من هذا ؟ قلت : أخي من الرضاعة فقال يا عائشة انظرن من إخوانكن ؟ فإنما الرضاعة من المجاعة )
موضوع الحديث : أنه ليس مطلق الرضاع يكون محرماً
المفردات
انظرن من إخوانكن : أي نظر فحص وتأمل هل الرضاع الذي حصل كان محرماً أم لا ؟
قوله فإنما الرضاعة من المجاعة :يعني إنما الرضاعة المعتبرة والتي يترتب عليها الحرمة هي الرضاعة التي تسد المجاعة وهي ما تكون في الحولين
المعنى الإجمالي
تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها رجل فقال يا عائشة من هذا فقالت أخي من الرضاعة فقال يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن عائشة رضي الله عنها أخبرت بذلك واثقة من أن المؤمنين لا يتطرق إليهم الشك فيها حيث أن الله قد برأها من فوق سبع سموات بل من فوق عرشه فلا يتطرق إليها الشك حيث أنزل براءتها في آيات من أول سورة النور وأن الذين تحملهم الريبة والشك أن يكونوا شاكين في حصانتها التي شهد لها بها القرآن إنما هم مارقون عن الحق مكذبون بالقرآن فسيلقون جزاءهم عند الله تعالى
ثانياً :أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره ذلك وتمعر وجهه وغضب فأخبرته أنه أخاها من الرضاعة
ثالثاً : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقها في ذلك ولكنه أرشدها إلى الحق الذي تثبت به الرضاعة فقال لها انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة يعني أن الرضاعة المحرمة ما كانت تسد جوعة الرضيع في حين أنه كان دون الحولين .
رابعاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الرضاعة المحرمة هي التي تكون قبل الفطام ولذلك فقد قال ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ( لا رِضَاعَ إِلا مَا شَدَّ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ ) وذلك ما يكون في الحولين(4/232)
خامساً : قد ورد في رضاع الكبير حديث سهلة بنت سهيل وقد تقدم الكلام عليه وأن في اعتباره ثلاثة مذاهب مذهب يرى أنه محرم مطلقاً وآخر يعتبره غير محرم مطلقاً وثالث يعتبره محرم إذا كان لحاجة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الحق فيما أرى
سادساً : أن الرضاع المحرم هو ما كان في الحولين وقد جاء في حديث رواه الدارقطني بلفظ ( لا رضاع إلا ما كان في الحولين ) ثم قال لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ وخالف ابن القطان فأعله بالراوي عن الهيثم وهو أبو الوليد بن برد الأنطاكي وقال لا يعرف وقوله هذا غريب فقد روى عن جماعة ورووا عنه جماعة .وقال النسائي في كناه صالح وفي جامع الترمذي من حديث فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام ) ثم قال هذا حديث حسن صحيح وعزاه ابن حزم إلى النسائي وأعله بالانقطاع بين فاطمة بنت المنذر وأم سلمة . أهـ
قلت : في ذلك نظر فإن ابن الملقن قال قلت: إدراكها ممكن لا جرم وخرجه ابن حبان في صحيحه .
والرضاع يثبت بوصول اللبن إلى بطن الرضيع سواء كان بطريقة المص للثدي أو كون المرضعة حلبت لبناً من ثديها وشربته به أو سعطته به فالجمهور اشترطوا وصول اللبن إلى بطن الرضيع بأي وسيلة وإنما خالف في ذلك داود الظاهري وقال إن الرضاع لا يكون محرماً إلا إذا إلتقم الرضيع الثدي ومصه وقد سبق الكلام على أحكام الرضاع في الأحاديث الماضية وبالله التوفيق .
[329]الحديث الخامس : عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال فأعرض عني قال فتنحيت فذكرت ذلك له فقال كيف ؟ وقد زعمت أن قد أرضعتكما
موضوع الحديث:ترك نكاح المرأة التي يشك في تحريمها بالرضاع
المفردات(4/233)
أرضعتكما : أي أنها أرضعت الزوج وزوجته
فتنحيت : أي درت لكي أقابل وجهه مرة أخرى
كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما :الزعم هو الشيء الذي لم تتحقق صحته
عقبة بن الحارث راوي الحديث : هو عقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف النوفلي المكي صحابي من مسلمة الفتح بقي إلى بعد الخمسين . التقريب ت4634
أم يحيى بنت أبي أهاب قال ابن الملقن اسمها غنية ولم يذكرها في التقريب لأنها لم تكن راوية .
تخريج الحديث : قال ابن الملقن هذا الحديث لم يخرجه مسلم في صحيحه وإنما هو من أفراد البخاري خرجه في باب شهادة المرضعة من كتاب النكاح .
المعنى الإجمالي
يروي عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي أهاب بن عزيز وبعد أن دخل بها جاءت امرأة سوداء فقالت إني قد أرضعتكما فذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتيه فأمره بمفارقتها ويظهر أن الأمر كان المقصود منه الورع
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ منه ذكر السبب المفضي لرفع النكاح والتنبيه عليه
ثانياً : يؤخذ منه أنه يؤخذ بشهادة المرضعة وحدها في الرضاع وقد اختلف العلماء في ذلك فقبل شهادتها وحدها ابن عباس والحسن وإسحاق وأحمد قال ابن الملقن وتحلّف مع ذلك ولم يقبل شهادتها الشافعي إلا مع ثلاث نسوة وقبلها مالك مع امرأة أخرى ولم يقبل أبو حنيفة في الرضاع شهادة النساء المتمحضات من غير ذكر .
وأقول : إن الرضاع من الأمور التي تختص بالنساء غالباً والقول بشهادة النساء فيه هو القول الصحيح أما هل تقبل شهادة المرضعة وحدها أو مع نساء غيرها فهذا محل نظر وبالله التوفيق
ثالثاً : يؤخذ من قوله فأعرض عني أن المفتي يجوز أن يعرض عن المستفتي لأول وهلة لعله يترك
رابعاً : أن المفتي ينبغي أن يتوخى في فتواه الأحوط للدين ولما كان هذا النكاح فيه شبهه كان الأحوط للدين تركه
خامساً : هل ما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث يعتبر قضاءً أو أنه ندبه إلى الأحوط في الدين من غير إلزام(4/234)
سادساً : أن الأمر إذا اشتبه في حكمه ولم يتمحض عند المفتي فإنه يأمر بالأحوط وترك المشتبه لقوله - صلى الله عليه وسلم - كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما .
[330]الحديث السادس : عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ يعني من مكة ـ فتبعتهم ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم فتناولها علي فأخذها بيده وقال لفاطمة دونك ابنة عمك فاحتملتها فاختصم فيها علي وجعفر وزيد فقال عليّ أنا أحق بها وهي ابنة عمي وقال جعفر ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد ابنة أخي فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخالتها وقال الخالة بمنزلة الأم وقال لعلي أنت مني وأنا منك وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي وقال لزيد أنت أخونا ومولانا )) .
موضوع الحديث:تحريم ابنة الأخ من الرضاع
المفردات
قوله خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يعني من مكة والمقصود أن ذلك في عمرة القضاء فتناولها علي فأخذ بيدها أي رفعها إلى فاطمة
دونك ابنة عمك : أي أمسكيها
فاختصم فيها علي وزيد وجعفر كل واحد يريد أن تكون حضانتها إليه وأدلى كل واحد منهم بما لديه من حجة فقضى بها : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها وخالتها أسماء بنت عميس
خالتها تحتي :بمعنى أنها زوجته
الخالة بمنزلة الأم : أي في الحضانة والشفقة والرحمة بالمحضون لا في الإرث
قوله لعلي رضي الله عنه أنت مني : أي بالقرابة والنسب والصهر والمحبة
وقال لجعفر : أشبهت خَلقي وخُلقي : الخلق هو ما يرى من خلقه الإنسان والخُلق المقصود به الخصال الحميدة أو الذميمة في الإنسان
أنت أخونا ومولانا : أي أخونا في الإسلام ومولانا ولاية عتق
المعنى الإجمالي(4/235)
لما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرة القضاء في السنة السابعة فلما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم وحينئذ اختصم علي وجعفر وزيد كل منهم يريد ضمها إليه أما علي فلكونه ابن عمها وأما جعفر فلكونه أيضاً ابن عمها وخالتها تحته . وأما زيد بن حارثة فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بينه وبين حمزة عند قدومه المدينة والشاهد من الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إنها ابنة أخيه من الرضاعة
فقه الحديث
أولاً : أن ابنة حمزة كانت عند أمها وأنها تبعت أهلها عند خروجهم لتنضم إليهم
ثانياً : أن من لا يستقل بنفسه تجب على قرابته الحضانة سواء كان ذكراً أو أنثى
ثالثاً : أن هذه الفتاة قد اختصم ثلاثة كل منهم يريد ضمها إليه وكل منهم أدلى بوجه القرابة التي يطالب بها
رابعاً : أن الحضانة يقدم فيها النساء
خامساً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بها لخالتها وقال إنما الخالة بمنزلة الأم
سادساً : أن الخالة مقدمة على غيرها في الحضانة لما لها من الشفقة والرحمة
سابعاً : أن قوله إنما الخالة بمنزلة الأم ليس على إطلاقه في كل شيء بل يكون ذلك في الشفقة والرحمة والعطف على المحضون
ثامناً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد طيب قلب كل واحد منهم فقال لعلي أنت مني وأنا منك وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي وقال لزيد أنت أخونا ومولانا
تاسعاً : أن المفتي والداعية ينبغي له أن يطيب نفوس المستفتين وكذلك المعلم بالمتعلمين وكذلك الداعية بالمدعوين والله تعالى يقول ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [ آل عمران : 159] .(4/236)
عاشراً : أن بيت القصيد في الحديث هو ما يستدل عليه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ( ألا تنكح ابنة حمزة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها لا تحل لي فهي ابنة أخي من الرضاعة )
الحادي عشر: أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب فكما أن ابنة الأخ من النسب تحرم على عمها فكذلك ابنة الأخ من الرضاعة تحرم على عمها وبالله التوفيق .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(4/237)
كتاب القصاص
القصاص : بكسر القاف هو المماثلة مأخوذ من القص وهو القطع ومن اقتصاص الأثر وهو تتبعه كما قاله الواحدي لأن المقتص يتبع جناية الجاني فيأخذ مثلها كما قال الله تعالى (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) [المائدة : 45 ] أورد فيه
[331]الحديث الأول : عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
موضوع الحديث : عصمة دم المسلم إلا بهذه الثلاث المذكورة في الحديث
المفردات
قوله لا يحل دم امرئ مسلم : يعني ليس هناك سبب يبيح دمه إلا هذه إلا بواحدة من هذه الثلاث .
قوله دم امرئ : هذا عموم
قوله مسلم : يخصص ذلك العموم أي امرئ متصف بالإسلام
قوله يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله : هذا بيان لعقيدة المسلم وأنه لا يكون مسلماً إلا أن يشهد لله بوحدانية الأولوهية وأنه هو المستحق لجميع العبادة وأن يشهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة فمن فقد واحدة منهما لم يكن مسلماً وإن ادعى ذلك
قوله إلا بإحدى ثلاث : أي واحدة من الثلاث المذكورة
الثيب : هو من وطأ في نكاح صحيح والمرأة الثيب هي من وطئت في نكاح صحيح أيضاً
الزاني : يعني إذا زنى وهو ثيب فإنه يباح قتله على الكيفية الواردة في عقوبة الزاني المحصن وهو الرجم بالحجارة حتى يموت
قوله والنفس بالنفس : يعني أنه من قتل نفساً معصومة قتل بها
والتارك لدينه : المقصود به المرتد
المفارق للجماعة : أي جماعة المسلمين فإنه من لازم الردة مفارقة الجماعة
المعنى الإجمالي(5/1)
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن كل مسلم معصوم الدم لا يحل إزهاق روحه بأي سبب من الأسباب غير هذه الثلاثة وهو من زنى وهو ثيب فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت ومن قتل نفساً بغير نفس فإنه يقتل بها ومن ارتد عن دين الإسلام وفارق جماعة المسلمين فإنه يباح قتله لهذا السبب .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث أن المسلم لا يكون مسلماً إلا أن يشهد لله بوحدانية الأولوهية وأن يشهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة العامة لجميع البشر
ثانياً : أن من شهد أن لا إله إلا الله ولكنه خالف تلك الشهادة بدعوته لغير الله عز وجل واعتقاد القدرة فيه على جلب النفع ودفع الضر الذي لا يقدر أحد غير الله عز وجل على جلبه أو دفعه من اعتقد هذا الاعتقاد ولو تشهد بهذه الشهادة فهو مشرك شركاً أكبر يحرج به من الإسلام وما أكثر من هم على هذه الوتيرة ممن يدعون الإسلام فتجد كثيراً ممن يزعمون أنهم مسلمون يدعون الأموات ويعتقدون فيهم القدرة على ما لا يقدر عليه إلا الله من إنجاب الولد وإنزال المطر ورفع العاهة وغير ذلك من الاعتقادات التي هي معروفة عنهم ومثل هؤلاء يبين لهم أن هذا الاعتقاد كفر فمن أصر على ذلك فإنه يكون كافراً حلال الدم والمال
ثالثاً: مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله أن يعتقد العبد أن الله أرسل محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب وشرع له الشريعة وأنه لا يسع أحداً من الناس أن يخرج عنها وهذا هو مقتضى عقيدة الإسلام وهو حقيقة الإسلام فلا يكون الإنسان مسلماً على الحقيقة إلا بأن يعتقد هذا الاعتقاد .
رابعاً : من اعتقد هذا الاعتقاد عصم دمه وماله فلا يحل إزهاق روحه إلا بواحدة من الثلاث المذكورة في الحديث
خامساً : الأولى من هذه الثلاث أن يزني وهو ثيب ويثبت عليه ذلك باعترافه أو بالبينة فإنه يرجم حتى يموت(5/2)
سادساً : أن قتل الثيب الزاني يكون بالرجم فمن قتل الزاني بالسيف فإنه قد جانب الحق وبعد عن الصواب إذاً فلا بد أن نعتقد الكيفية بالقتل مع اعتقاد الإباحة لدمه
سابعاً : يؤخذ من قوله والنفس بالنفس أن من قتل مسلماً قتل به قصاصاً إذا وجدت العمدية بأن يقتله عامداًُ
ثامناً :يستثنى من الصفة ما إذا قتل بشيء محرم فإن الموافقة في الصفة لا تجوز كما لو قتل الجاني شخصاً باللواط فيه حتى مات وما أشبه ذلك فإن المماثلة حينئذ لا تجوز
تاسعاً : يؤخذ من قوله والتارك لدينه المفارق للجماعة أن من ترك الدين بأن ارتد عنه فإنه يقتل لحديث ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ( مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)(1)
عاشراً : اختلف أهل العلم في المرأة المرتدة هل تقتل كالرجل أو لا تقتل ؟ والصواب أنها تقتل للحديث الذي سبق ذكره حيث من هي من أدوات العموم فتعم الذكر والأنثى .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب لا يعذب بعذاب الله رقم 3017 وفي كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم رقم 6922 ورواه الترمذي في كتاب الحدود باب ما جاء في المرتد رقم 1458 والنسائي في كتاب تحريم الدم باب الحكم في المرتد من رقم 4059 - 4065 وأبو داود في كتاب الحدود باب الحكم فيمن ارتد رقم 4351 وابن ماجة في كتاب الحدود باب المرتد عن دينه رقم 2535 .(5/3)
الحادي عشر: أن من كان كافراً أصلاً كاليهودي والنصراني ثم دخل في الإسلام ثم أراد الرجوع عن الإسلام إلى دينه قتل وفي ذلك ما ورد في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل أَبَا مُوسَى إلى الْيَمَنِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ انْزِلْ وَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ قَالَ مَا هَذَا قَالَ هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ فَتَهَوَّدَ قَالَ لا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... ) (1)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم رقم 6923 ومسلم في كتاب الإمارة باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها رقم 1652 والنسائي مختصراً في كتاب تحريم الدم باب الحكم في المرتد رقم 4066 وأبو داود في كتاب الحدود باب الحكم فيمن ارتد رقم 4354 وأحمد برقم 19900 .(5/4)
الثاني عشر: اختلفوا في تارك الصلاة هل هو كافر أم لا ؟ فمن قال هو كافر أوجب قتله كفراً إذا أصر على ما هو عليه ولم يتب . وذهب قوم إلى أن تارك الصلاة ليس بكافر وهؤلاء اختلفوا في حده فذهب مالك والشافعي إلى أنه يقتل حداً بعد الاستتابة وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يقتل ولكن يعزر وقال أحمد بن حنبل في الرواية المشهورة عنه تارك الصلاة كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كفراً وهو الذي نعتقد بأنه هو الصواب لقوله تعالى ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) [التوبة : 5 ] ولقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جَابِر رضي الله عنه قال سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ ( إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ ) (1)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة رقم 82 والترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في ترك الصلاة رقم 2620 والنسائي في كتاب الصلاة باب الحكم في ترك الصلاة رقم 464 وأبو داود في كتاب السنة باب في رد الإرجاء رقم 4678 وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء فيمن ترك الصلاة رقم 1078 ورقم 1080 والدارمي في كتاب الصلاة باب في تارك الصلاة رقم 1233 ..(5/5)
ولحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه ِ - صلى الله عليه وسلم - ( الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ )(1) ولحديث عبد الله بن شقيق العقيلي قال ( كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ) (2)
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في ترك الصلاة رقم 2621 والنسائي في كتاب الصلاة باب الحكم في تارك الصلاة رقم 463 وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء فيمن ترك الصلاة رقم 1065 ( وقد صححه الألباني رحمه الله )
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في ترك الصلاة من حديث عبدالله بن شقيق العقيلي موقوفاً رقم 2622 ووصله الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة وسكت عنه وقال الذهبي لم يتكلم عليه وإسناده صالح وفي صحيح الترغيب والترهيب رقم 565 قال الألباني صحيح موقوف .(5/6)
وأقول : إن هذه الأحاديث صالحة للاستدلال بها على أن تارك الصلاة كافر إذاً فهو داخل في قوله والتارك لدينه المفارق للجماعة أما حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاةَ يَوْمًا فَقَالَ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلا بُرْهَانٌ وَلا نَجَاةٌ وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ ) (1) والحديث الآخر عن عُبَادَةُ بن الصامت رضي الله عنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ ) (2)
وأقول : إن من ألفاظ هذا الحديث ( فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يَنْتَقِصْ مِنْهُنَّ شَيْئًا ) (3)
__________
(1) الدرامي في كتاب الرقاق باب في المحافظة على الصلاة رقم 2721 وأحمد رقم 6576 وفي ضعيف الترغيب والترهيب رقم 312 وضعيف الجامع رقم 2851 .
(2) النسائي في كتاب الصلاة باب المحافظة على الصلوات الخمس رقم 461 وأبو داود في كتاب الصلاة باب فيمن لم يوتر رقم 1420 ومالك في كتاب النداء للصلاة باب الأمر بالوتر رقم 270 والدارمي في كتاب الصلاة باب في الوتر رقم 1577 ( وصححه الألباني) .
(3) ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس والمحافظة عليها رقم 1401 ( صححه الألباني)(5/7)
فهذا الحديث وأمثاله فيمن انتقص من حقهن شيئاً أما التارك لها بالكلية فهو كافر على الأصح وقد ذهب إلى ذلك كثير من المحققين ممن عاصرناهم منهم الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله وهذا ما نعتقد أنه الصواب وبالله التوفيق .
الثالث عشر : قد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أباح دم الصائل والله سبحانه وتعالى أباح قتل المحارب إذا قتل والحكم فيه إلى إمام المسلمين فهذه الأحاديث لا تنافي بينها وبين هذا الحديث لأن إباحة القتل فيها لأسباب ترتبت عليها وبالله التوفيق .
الحديث الثاني : عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء )
موضوع الحديث : الدماء وأهميتها وأنها أول ما يقضى فيه يوم القيامة
المفردات
يقضى : يحكم
في الدماء : أي في إراقتها وإزهاق الأرواح بها
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء وهو دال على أهمية الدماء والمراد به القتل وسفك الدم بغير حق وأن أول ما يقضى فيه يوم القيامة هي الدماء
فقه الحديث(5/8)
قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يلتمسون من يشفع لهم في فصل القضاء فيذهبون إلى آدم فيأبى ثم يذهبون إلى نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى وكل منهم يقول لست لها فإذا أتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أنا لها وقد ذكر صلوات الله وسلامه عليه أنه يذهب فيستأذن على ربه فيؤذن له فيسجد بين يدي ربه قدر جمعة ثم يقال له يا محمد أرفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - رب أمتي رب أمتي فيأمر الله عز وجل بفصل القضاء فتكون أمة محمد هي أول أمة يقضى بينها ولهذا يقول علي بن أبي طالب أنا أول من يجثوا بين يدي الله عز وجل للخصومة يوم القيامة وذلك لأنه كان أحد الثلاثة المسلمين الذين بارزوا يوم بدر وفيهم نزل قول الله عز وجل ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) [الحج : 19 ] فأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي أول من يقضى بينها وأول ما يقضى بينهم في الدماء وأول دماء أريقت في سبيل الله هي دماء المبارزين في بدر والثلاثة المقابلين لهم دمائهم أريقت في سبيل الطاغوت إذاً فأول ما يقضى بين الناس في الدماء وفيما يتعلق بالحقوق بينهم وأول ما يحاسب به العبد الصلاة وهذا الحساب يتعلق بين العبد وبين ربه فلا تنافي إذاً وبالله التوفيق .(5/9)
الحديث الثالث : عن سهل بن حثمة قال أنطلق عبدالله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبدالله بن سهل – وهو يتشحط في دمه قتيلاً – فدفنه ثم أتى المدينة فانطلق عبدالرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبدالرحمن يتكلم فقال كبر كبر وهو أحدث القوم فسكت فتكلما فقال : أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم ؟ قالوا وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر ؟ قال فتبرئكم يهود بخمسين يميناً فقالوا كيف نأخذ بأيمان قوم كفار ؟ فعقله النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده) وفي حديث حماد بن زيد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته قالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا يا رسول الله قوم كفار .
وفي حديث سعيد بن عبيد فكره رسول الله أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة
موضوع الحديث : القسامة
المفردات
انطلق : ذهب
محيصة وحويصة : ورد بالفتح والتشديد وورد بإسكان الياء حويصة ومحيصة ولكن التشديد أشهر
يتشحط في دمه : أي يضطرب فيه قتيلاً
فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر كبر : بمعنى يتكلم الأكبر
أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم : استفهام طلبي
قالوا كيف نحلف ولم نشهد ولم نر : أي أن هذا لا يمكن
قوله فتبرئكم يهود : أي تبرأ من دم صاحبكم بخمسين يميناً أي يحلفون خمسين يميناً أنهم ما قتلوا وما علموا قالوا كيف بأيمان قوم كفار
فعقله : أي ساق ديته من عنده . وفي حديث حماد بن زيد يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته : المراد بالرمة الحبل الذي يربط له الأسير أو الجاني
قالوا أمر لم نشهده : أي لم نحضره
وتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا يا رسول الله قوم كفار
وفي حديث سعيد بن عبيد فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه بمعنى يهدر فوداه : أي ساق ديته(5/10)
المعنى الإجمالي
ذهب رجلان من الأنصار إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا ثم أتى أحدهما إلى الآخر فوجده قتيلاً فواراه ثم رجع إلى المدينة وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبره مدعين على اليهود أنهم قتلوه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلف خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته أي يدفع إليكم لتقتلوه بصاحبكم فأبوا أن يحلفوا قال فتحلف لكم يهود خمسين يميناً تبرئكم بها من دم صاحبكم فأبوا أن يقبلوا أيمانهم لأنهم قوم كفار .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث مشروعية القسامة في الدماء وذهب إلى القول بها جمهور الفقهاء والمحدثين على اختلاف بينهم في التفاصيل .والقول بالقسامة هو الحق لهذا الحديث لكن تجب القسامة بشرط اللوث
ثانياً : اللوث هو الشيء الذي تشتد به التهمة فيكون قرينة على صدق دعوى المدعي وقد حصروا اللوث في سبع صور منها :
إذا وجد المقتول في محلة أو قرية بينه وبين أهلها عداوة ظاهرة ووصف بعضهم القرية أن تكون صغيرة واشترط ألا يكون معهم ساكن من غيرهم الثانية : أن يوجد رجل حول المقتول متلطخاً بالدماء وذكروا تمام الصور
ثالثاً : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سهل كبر كبر يؤخذ منه أن الكلام يكون للأكبر سناً لكن إذا كان الأصغر أفقه أو أقدر على الكلام فإنه حينئذ يجوز له لأن الأمر أمر ندب لا إيجاب
رابعاً : يؤخذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أتخلفون وتستحقون دم قاتلكم أو قال دم صاحبكم يؤخذ منه أن القسامة يبدأ فيها بالمدعين
خامساً : أن الحلف في القسامة يكون خمسين يميناً لقوله أتحلفون أو قال يحلف خمسون منكم على رجل منهم
سادساً : إذا كان المدعون أقل من الخمسين وزعت عليهم الأيمان بحسب عددهم ومتى انكسرت جبر النقص فإن كانوا خمسة حلف كل واحد منهم عشرة أيمان وإن كانوا عشرة حلف كل واحد منهم خمسة أيمان
سابعاً : أن هذه الأيمان تكون على المدعين من عصبة المقتول وقرابته(5/11)
ثامناً : أن القسامة إنما تكون على شخص معين لقوله تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم ويدفع إليكم برمته
تاسعاً : متى حلفوا على شخص معين سلم إليهم ليقتصوا به على القول الصحيح لقوله فيدفع إليكم برمته أي بالحبل الذي هو موثق به لتقتلوه
عاشراً : قال الشافعي إذا حلفوا على جماعة جاز واستحقوا بذلك الدية فقط
الحادي عشر : الأصح أن الأيمان الخمسين توزع على الوارثين ويجبر النقص إذا حصل الانكسار
الثاني عشر: أن المدعين إذا كانوا أكثر من خمسين حلف خمسون منهم فقط
الثالث عشر: جريان القسامة في قتل الحر فهل يلحق به العبد قولان للشافعي
الرابع عشر: جريان القسامة في النفس الكاملة فهل تجري القسامة في الأطراف والجراح مذهب مالك لا ومذهب الشافعي قولان
الخامس عشر : جواز الحكم على الغائب إذا تعذر إحضاره وسماع الدعوى في الدماء مع غياب المدعي عليه
السادس عشر: جواز اليمين للظن الراجح إن لم يوجد ما يوجب القطع به
السابع عشر: إن الحكم بين المسلم والكافر يكون بحكم الإسلام
الثامن عشر : نظر الإمام في المصالح العامة والاهتمام بإصلاح ذات البين
التاسع عشر: جواز دفع الدية لأولياء المقتول من بيت مال المسلمين
العشرون : كراهة إبطال دم المسلم وذهابه هدراً بدون مقابل لقوله فكره أن يبطل دمه
الحادي والعشرون : جواز دفع الدية لمن جهل قاتله من إبل الصدقة
الثاني والعشرون : أن الدية تكون من الإبل وهي الأصل فيها
الثالث والعشرون : أن المدعين إذا نكلوا عن اليمين نقلت على المدعى عليهم
الرابع والعشرون : أن المدعى عليهم في القسامة إذا حلفوا على البراءة برئوا من الدم لقوله فتبرئكم يهود
الخامس والعشرون : أن هذه القصة هي أول قسامة وقعت في الإسلام
السادس والعشرون : أنه إذا نكل واحد من المدعى عليهم عن اليمين دفع قسطه من الدية وهي بعيران وبالله التوفيق .(5/12)
الحديث الرابع : عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن جارية وجد رأسها مرضوضاً بين حجرين فقيل من فعل هذا بك ؟ فلان ؟ فلان ؟ حتى ذكر يهودي فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فاعترف فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرض رأسه بين حجرين )
ولمسلم والنسائي عن أنس : أن يهودياً قتل جارية على أوضاح فأقاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
موضوع الحديث : القصاص بالمثل
المفردات
مرضوضاً : الرض هو الكسر بأن يجعل حجر تحته ويضرب بحجر من فوقه
أن يرض رأسه بين حجرين :أي يفعل به كما فعل هو بالجارية
أوضاح : الأوضاح هي نوع من الحلي الورق أي الفضة وتجعل فوق المرفق من المرأة وسميت أوضاحاً لبياضها ولمعانها
المعنى الإجمالي
يخبر أنس بن مالك رضي الله عنه أن جارية من الأنصار رضَّ رأسها يهودي بحجر فأدركوها وبها رمق فسئلت من فعل بك هذا ؟ فلان ؟ فلان ؟ أشارت برأسها أن لا . فلان ؟ أشارت برأسها أن لا . فلان ؟ أشارت برأسها نعم . فأخذ ذلك اليهودي وسئل فاعترف
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث مسائل
أولاً : قتل الرجل بالمرأة ، قال ابن الملقن وهو إجماع ممن يعتد به
ثانياً : قتل الذمي بالمسلم فاليهودي ذمي والجارية مسلمة
ثالثاً : يؤخذ منه قتل الكبير بالصغير فالجارية هي الصغيرة من الإناث مثل الغلام من الذكور فإذا بلغت قيل امرأة أو فتاة أو شابة
رابعاً : يؤخذ منه جواز التوسط إلى معرفة القاتل بتعداد الأشخاص المتهمين إذا كان يعرفهم فإذا قال نعم أو أشار إشارة يفهم منها بأنه هو الجاني أخذ بذلك واستجوب
خامساً : إذا قال المجني عليه نعم فلا يقضى على الجاني بذلك ولكن يستجوب ويشدد عليه فإن اعترف قص به
سادساً : يؤخذ من الحديث الاكتفاء بالإشارة حيث أن الجارية أشارت برأسها أن نعم وكان ذلك كافياً عن القول(5/13)
سابعاً : مشروعية المماثلة في القصاص فإن قتل بمحدد قتل بمثله وإن قتل بمثقل قتل بمثله وخالفت الحنفية فمنعت القتل بمثقل واستدلوا بحديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( لا قَوَدَ إِلا بِالسَّيْفِ ) (1) وهذا الحديث فيه ضعف
ثامناً : يشهد لهذا الحديث قول الله عز وجل (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) [ النحل : 126 ]
تاسعاً : أن القصاص مشروع في الجنايات المتعمدة سواء كان في القتل أو ما دون القتل إلا إذا كانت الجناية دون القتل ولا تنضبط فيها المماثلة فإنه حينئذ يرجع إلى الأرش والأرش هو دية الجناية من المال
عاشراً : يستثنى من المماثلة ما إذا كان القتل حصل بمحرم كالقتل بالسحر والقتل باللواط والقتل بإلقائه في النار لأنه جاء في الحديث ( لا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلا رَبُّ النَّارِ ) (2) (وَإِنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللَّهُ ) (3)
__________
(1) ابن ماجة في كتاب الديات باب لا قود إلا بالسيف رقم 2667 ورقم 2668 وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم 6307 .
(2) رواه أبو داود في كتاب أول الجهاد باب في كراهية حرق العدو بالنار رقم 2673 ورواه الإمام أحمد برقم 16077 ورقم 16078(قال الألباني صحيح )
(3) البخاري في كتاب الجهاد والسير باب لا يعذب بعذاب الله رقم 3016 والترمذي في كتاب السير باب ما جاء في النهي عن قتل النساء والصبيان رقم 1571واحمد رقم 8054.(5/14)
الحديث الخامس : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكة قتلت هذيل رجلاً من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية . فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن الله تعالى قد حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنها لم تحل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار وإنها ساعتي هذه حرام لا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد . ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يدي فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال يا رسول الله اكتبوا لي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكتبوا لأبي شاه ثم قام العباس فقال يا رسول الله إلا الإذخر فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الإذخر .
موضوع الحديث :تحريم مكة
المفردات
لما فتح الله تعالى على رسوله مكة : الفتح سنة ثمان
قتلت هذيل : المراد بهذيل قبيلة
وبنو ليث : هم بنو بكر بن عبد مناة
القتل : أسند لهذيل وهي القبيلة ولكن الفاعل هو رجل منهم والظاهر أن القاتل هو رجل من خزاعة
قال ابن الملقن : روى ابن إسحاق أن فراش بني أمية من خزاعة قتل ابن الأدلع الليثي بقتيل قتل في الجاهلية فقال - صلى الله عليه وسلم - يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل
فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي قام خطيباً
فقال إن الله تعالى قد حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين
حبس : منع والفيل هو الذي أتي به لهدم الكعبة
فسلط عليها رسوله : أي أباحها لهم بحيث أباح القتل فيها
قوله إنها لم تحل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد بعدي : إخبار باستمرار حرمتها سابقاً ولاحقاً وأن الله أباحها لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ساعة من نهار فقط
قوله لا يعضد شجرها : أي لا يقطع(5/15)
ولا يختلى خلاها : المراد بالخلاء هو العلف فلا يجوز أخذه ولكن ما أكلته الدواب بأفواهها فلا شيء فيه
قوله ولا يعضد شوكها : أي لا يقطع الشجر الذي فيه الشوك كالسلام والسمر والسدر وما إلى ذلك
قوله ولا تلتقط ساقطتها : أي الضالة التي سقطت من نقود أو غيرها إلا لمنشد يعني أنها لا تحل له مع طول الزمن
ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين : أي يخير الخيرتين إما أن يقتل وإما أن يدي أي هو بالخيار بين القصاص وأخذ الدية
فقام رجل من أهل اليمن فقال اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكتبوا لأبي شاه والمرادبه كتابة خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -
ثم قام العباس وقال يا رسول الله إلا الإذخر فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا فقال رسول الله إلا الإذخر
الإذخر :نوع من الحشائش له رائحة طيبة أما جعله في البيوت فهو أن يوضع فوق الأسرى (الخشب) ويجعل فوقه الطين وأما جعله في القبور فهو بأن يجعل على الفجوات أو الفوارق التي تكون بين اللبن بحيث يوضع عليه الطين الذي يمنع تسلل التراب إلى اللحد
المعنى الإجمالي
يخبر أبو هريرة رضي الله عنه أنه لما فتحت مكة قتل رجل من خزاعة رجلاً من هذيل بقتيل لهم كان في الجاهلية وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فخطب بما ذكر في الحديث حيث بين حرمة مكة وأنها كانت ولا زالت محرمة وأن الله حبس عنها أهل الفيل وأباحها لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ساعة من نهار وليس المراد بالساعة هي الساعة المحدودة ولكن المراد وقتاً من نهار يوم الفتح إذ أنها أبيحت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صبيحة ذلك اليوم إلى العصر وأخبر أن حرمتها عادت بعد ذلك كما هي لا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد
فقه الحديث
أولاً : إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على من قتل بعد الفتح مبادرة لحكم الإسلام(5/16)
ثانياً : أن ذلك مما أوجب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخطبة المذكورة في الحديث
ثالثاً : يؤخذ منه مشروعية الخطبة للأمر يحدث
رابعاً : يؤخذ منه أن حرمة مكة لم تكن مستجدة ولكنها قديمة بقدم الزمن
خامساً : يؤخذ منه تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإذن له فيها وذلك في يوم الفتح
سادساً : أن حرمتها بعد ذلك اليوم عادت كما كانت من قبل
سابعاً : إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حرمة الحرم المكي وكيفية تلك الحرمة
ثامناً : بين تلك الحرمة بقوله لا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها لأن أشجارها محرمة لا يجوز قطعها ولا إبعادها
تاسعاً : أن من قطع شجرة فعليه في ذلك جزاء والخلاف في الجزاء بأي شيء يكون ؟ وقد ذهب بعض الفقهاء أن في الشجرة الكبيرة بقرة والمتوسطة شاة وفي الغصن صدقة
عاشراً : ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد فهذه خصيصة اختص بها الحرم المكي فمن وجد لقطة في غيرها عرف بها سنة ثم تملكها لكن لقطتها لا تملك مدى الدهر والعلة في ذلك أنها مجتمع الناس فلا يجوز تملك لقطتها
الحادي عشر: يؤخذ من قوله ( ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ) يؤخذ منه أن ولي القاتل له أن يختار القصاص وأن يعفو على الدية وأن يعفو بدون مقابل لكن المذكور هنا ( إما أن يقتل وإما أن يدي )
الثاني عشر : هل يجوز العفو على الدية بدون إذن الجاني ؟ قال بعض أهل العلم لا والجمهور على خلافه لأن الحق في ذلك لأولياء الدم
الثالث عشر :قوله فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال يا رسول الله اكتبوا لي يؤخذ منه مشروعية كتابة غير القرآن إذا احتيج إلى ذلك والمسالة فيها خلاف والحق ما جرى عليه أهل الإسلام من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن .
الرابع عشر: قوله ثم قام العباس يؤخذ منه استثناء الإذخر من الشجر المكي وأنه يجوز أخذه سواء كان أخضراً أو يابساً(5/17)
الخامس عشر : يؤخذ منه جواز الاستثناء بعد انقضاء أو تمام الكلام وفيه خلاف بين أهل أصول الفقه ، وبالله التوفيق .
الحديث السادس : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة عبد أو أمة فقال لتأتين بمن يشهد معك فشهد معه محمد بن مسلمة
إملاص المرأة : أن تلقي جنينها ميتاً
موضوع الحديث :ما هو الواجب في الجنين إذا سقط بجناية
المفردات
إملاص المرأة: هو إسقاط جنينها إذا حصل ذلك بجناية قال ابن الملقن الإملاص بكسر الهمزة وهو جنين المرأة يقال أملصت به أو أزلقت به أو أسهلت به وذلك إذا خرج قبل تمامه وقال المغيرة بن شعبة شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة عبد أو أمة
قوله عبد أو أمة : تفسير للغرة وهو بدل منها أو عطف بيان عليها
المعنى الإجمالي
استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس في الجنين إذا سقط بجناية فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم فيه بغرة
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث عدة مسائل
أولاً : أن الإمام إذا أشكلت عليه مسألة استشار فيها أهل العلم وقد كان الأئمة في ذلك الزمن يتولون الحكم في المسائل أما الآن فإن الحكم يسند إلى القضاة وإذا وجب على الحاكم نفسه أن يستشير أهل العلم في القضايا المستعصية فإنه من باب أولى يشرع لغيره أن يستشيروا فيها
ثانياً : أن العلم الخاص قد يخفى على بعض الأكابر فيتعلمونه ممن دونهم
ثالثاً : فيه رد على من يزعم من المقلدة أن إمامه قد حفظ كل الأحاديث ولو كان ذلك الحديث صحيحاً لما تركه وهذا زعم باطل
رابعاً : أن دية الجنين غرة والغرة عبد أو أمة والأصل في الغرة البياض في الوجه ويطلق على كل شيء له قيمة عالية
خامساً : القول الصحيح أنه لا يشترط في الغرة أن تكون بيضاء بل يجوز أي لون كان لها(5/18)
سادساً : قال ابن الملقن شرط الغرة التمييز لأن من لا يميز لا استقلال له والسلامة من عيب المبيع
سابعاً : اتفقوا على أن دية الجنين هي ما ذكر سواء كان ذكراً أو أنثى فإن لم يكن وجود للغرة ففيه عٌشر دية أمه ونصف عٌشر دية أبيه فإذا كانت الدية مائة ألف للذكر وخمسون ألفاً في الأنثى فدية الجنين هي عٌشر دية أمه وهي خمسة آلاف ريال .
ثامناً : هذا كله إذا انفصل الجنين ميتاً أما إن انفصل حياً ثم مات فإنها تجب فيه كمال الدية فإن كان ذكراً وجب فيه مائة بعير وإن كانت أنثى فخمسون قال وهذا مجمع عليه
تاسعاً : تعرف حياته بالحركة والعطاس والرضاع والاستهلال يعني البكاء وفي بعض ذلك خلاف
عاشراً : متى وجدت الغرة فهي على العاقلة ليست على الجاني .
وأقول : إن هذا كذلك إذا كان خطئاً أما إذا كانت الجناية عمداً فهي على الجاني
الحادي عشر: يلزم الجاني الكفارة التي أوجبها الله عز وجل في قتل الخطأ
الثاني عشر : هذا الحكم إذا كانت الأم حرة فإن كانت الأم أمة وجب عٌشر قيمتها
الثالث عشر: تمسك بقول عمر هذا من يرى أن الرواية يشترط فيها العدد كالشهادة والقول الصحيح أن ذلك لا يشترط في الرواية وقد انفرد برواية بعض السنن صحابي أو صحابية فأخذ ووجب العمل به وبالله التوفيق .
الحديث السابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دية جنينها غرة عبد أو وليده وقضى بدية المرأة على عاقلتها ، وورثها ولدها ومن معهم ، فقام حمل بن النابغة الهذلي فقال:يارسول الله ، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ؟ فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما هو من إخوان الكهان )) من أجل سجعه الذي سجع.(5/19)
الكلام عليه من وجوه: أحدها الضاربة من المرأتين ؛ يقال أنها أم عفيف بنت مسروح واسم المضروبة مليكة بنت عويم . كتاب الإعلام لابن الملقن ج9 ص107/108
موضوع الحديث: الخطأ شبه العمد وما يوجبه
المفردات
امرأتان من هذيل :أي من قبيلة هذيل وهذيل قبيلة من قبائل العرب منازلهم حوالي مكة وبنوا لحيان فرع منهم
قوله فرمت إحداهما الأخرى بحجر :لعل الحجر كان صغيراً فلذلك عد هذا من الخطأ شبه العمد
قوله فقتلتها وما في بطنها : أي قتلتها بالرميه التي رمتها بها
وما في بطنها : ما موصولة بمعنى الذي أي وقتلت الذي في بطنها والمقصود به الجنين
فاختصموا إلى رسول الله : أي تحاكموا عنده
فقضى رسول الله أن دية جنينها غرة وفسرت الغرة بأنها عبد أو وليدة أي ذكراً أو أنثى والوليدة هي الجارية المملوكة
وقضى بدية المرأة : أي حكم بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم
فقام حمل بن النابغة : معنى قام هنا أي تكلم قاصداً إبطال حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقال يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل : أي كيف أغرم جنايته أو بمعنى أصح أتحمل أرشه مع أنه لم يشرب ولم يأكل ولم ينطق ولم يستهل بالبكاء أي لم يكن هناك علامة من علامات الحياة عليه
فمثل ذلك يطل : أي يهدر وفي رواية بطل من الإبطال الذي هو الترك
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو من إخوان الكهان وفي رواية أسجع كسجع الكهان
والسجع : هو الكلام المقفى على حرف واحد وعلى وتيرة واحدة
المعنى الإجمالي
المعنى الإجمالي لهذا الحديث هو أن امرأتان كانتا ضرتين فاقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر وفي رواية ضربتها بعمود فسطاط فقتلتها وما في بطنها والفسطاط هو الخيمة
فقه الحديث
أولاً :يؤخذ من هذا الحديث أن الجنايات والخصام فيها يرفع إلى الحكام لغرض الفصل فيها بين المتخاصمين سواء كان المتخاصمان أفراداً أو جماعات(5/20)
ثانياً : يؤخذ من هذا الحديث أن في الجنين غرة عبد أو أمة وقد مضى في الحديث السابق حكم الغرة
ثالثاً : أنه إذا لم يوجد العبد أو الأمة فإنه في هذه الحالة فيه عشر دية أمه إن كانت حرة وعشر قيمتها إن كانت أمة
رابعاً : قوله فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي حكم والحكم هو ما سبق ذكره
خامساً : يؤخذ من قوله وقضى بدية المرأة على عاقلتها أن جناية الخطأ شبه العمد حكمه حكم الخطأ في التنجيم بأن تكون الدية منجمة على ثلاث سنوات أي مقسطة
سادساً : بهذا قال الجمهور فقسموا الجنايات إلى ثلاثة أقسام عمد وشبه عمد وخطأ وأبى مالك ذلك وقال إن الجنايات تنقسم إلى قسمين عمد وخطأ فقط ودليل من قال أن هناك قسم ثالث وهو خطأ شبه العمد دليلهم هذا الحديث
سابعاً : ربما قيل أن في بعض الروايات أنها ضربتها بعمود فسطاط وفي بعضها رمتها بحجر فكيف يقال خطأ شبه عمد والجواب أن الحجر لعله كان خفيفاً لا يظن أنه يقتل وكذلك عمود الفسطاط وهو يكون ضخماً ولكنه يكون خفيفاً وإنما يقتل ما كان ثقيل الوزن
ثامناً : أن شبه العمد عرفوه بأن يقصد الجاني الجناية بآلة ليست بقاتلة في العادة فإذا ضرب رجل رجلاً آخر بعصى خفيفة أو حجر صغير فذلك من الخطأ شبه العمد
تاسعاً : أن الخطأ شبه العمد ديته مغلظة كالعمد إلا أنه لا يجب فيه القصاص وديته مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها
عاشراً : أنها مع ذلك تكون منجمة كالخطأ
الحادي عشر: أنها تكون على العاقلة والعاقلة هم عصبة الجاني المتعصبون بأنفسهم
الثاني عشر :أن أولاد المرأة الجانية لم يدخلوا في عاقلتها لأن أباهم أجنبي عن أمهم ولهذا قال فورثها بنيها وجعل ديتها على عاقلتها أما إذا كان أبوهم من القرابة فأولادها من عاقلتها على القول الأصح .(5/21)
الثالث عشر: أن السجع مذموم وكذلك بليغ الكلام الذي يراد به إبطال الحق لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذم حمل بن النابغة من أجل سجعه الذي أراد أن يبطل به حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان السجع مقصوداً به إبطال الحكم الشرعي فهو يكون مذموماً
الرابع عشر: قد ورد السجع في كتاب الله وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف نجمع بين تلك النصوص وبين ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - للسجع هنا ؟ والجواب إن كان السجع قد جاء غير متكلف ولم يقصد به صاحبه إبطال الحكم الشرعي ففي هذه الحالة نقول إنه جائز وبالله التوفيق
الحديث الثامن : عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رجلاً عض يد رجل فنزع يده من فمه فوقعت ثنيتاه فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك
موضوع الحديث : أن من جنى عليه جناية فأراد التخلص منها فترتب على تخليصه جناية أخرى فإن ذلك هدر
المفردات
عض يد رجل : أي أكله بأسنانه ويقال قضمه
فنزع يده من فمه : أي أخرجها من فمه بقوة
فوقعت ثنيتاه : الثنيتان هما أوسط الأسنان
فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يعض أحدكم أخاه أي يقضمه ويأكله بأسنانه
قوله كما يعض الفحل :المراد بالفحل ذكر الإبل
لا دية لك : أي لا ارش لك
المعنى الإجمالي
يروي عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلين تقاتلا هما يعلى بن أمية أو أجيره ورجل آخر فعض أحدهما صاحبه عضة أوجعته فنزع يده من فيه ليتخلص من عضته فسقطت ثنيتاه
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن من جنيت عليه جناية فأراد أن يتخلص منها فترتب على تخليصه جناية في الجاني فإن الجناية المترتبة على ذلك تكون هدراً أي لا أرش فيها
ثانياً : يؤخذ منه تحريم العض من المسلم لأخيه
ثالثاً : يؤخذ منه التنفير من ذلك حيث قال يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل
رابعاً : أن الجنايات ترفع إلى الحكام للفصل فيها(5/22)
خامساً : قرر الفقهاء أن التخلص يكون بالأسهل فالأسهل ومعلوم أن المجني عليه في تلك الحالة يكون معذوراً لأن حالة المضاربة حالة تكون مرتبكة في حق الجاني والمجني عليه والقول بقصر التخلص على ما حصل في تلك الحادثة أولى أما إطلاق التخلص بأي نوع من أنواع الأذية التي ربما أدت إلى قتله فهذا قول في غير محله
الحديث التاسع : عن الحسن (1) بن أبي الحسن البصري رحمه الله تعالى قال حدثنا جندب في هذا المسجد وما نسينا منه حديثاً وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال الله عز وجل عبدي بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة
موضوع الحديث : الوعيد لمن قتل نفسه
المفردات
حدثنا جندب : المراد بجندب هو جندب بن عبدالله بن سفيان البجلي ثم العلقي بفتحتين ثم قاف أبو عبدالله وربما نسب إلى جده له صحبة مات بعد الستين
قوله في هذا المسجد : أراد به الحسن التأكيد بذكر المكان لكي يعلم أنه متأكد من حديثه
قوله وما نسينا منه حديثاً : وهذا تأكيد آخر
قوله وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي لا نخاف كذبه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نعلم عدالته وأمانته وصدقه
قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فيمكن كان قبلكم رجل به جرح : الجرح هو المكان المجروح
فأخذ سكيناً فحز بها يده : أي قطع أكحل يده
فما رقأ الدم : أي ما وقف الدم حتى مات
__________
(1) الحسن بن أبي الحسن البصري واسم أبيه يسار بالتحتانية والمهملة الأنصاري مولاهم ثقة فقيه فاضل مشهور وكان يرسل كثيراً ويدلس قال البزار كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم ويتجوز ويقول حدثنا وخطبنا يعني قومه الذين حدثوه وخطبوا بالبصرة ورأس أهل الطبقة الثالثة مات سنة عشر ومائة وقد قارب التسعين روى له الجماعة(5/23)
قال الله عز وجل عبدي بادرني بنفسه : أي سابقني بنفسه
فحرمت عليه الجنة : أي حرمته من دخول جنة المؤمنين العالية
المعنى الإجمالي
كان رجل فيمن كان قبلنا أصابه جرح فتضرر منه ولم يصبر فأخذ السكين وقطع أكحل يده فاستمر به جريان الدم حتى مات قال الله عز وجل عبدي بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة وهذا كله مما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من علم الغيب
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم قتل الإنسان نفسه وأن ذلك موجب لغضب الله عز وجل عليه
ثانياً : فيه دليل على أن العبد لا يملك نفسه بل أن نفسه مملوكة لربه جل وعلا
ثالثاً : قوله بادرني بنفسه يعني أنه تضجر وتسبب في قتل نفسه إذ أن المبادرة معناها المسابقة ومفهوم ذلك أن للعبد أجلان أجل هو الذي حصل بقتله لنفسه والأجل الثاني لو لم يفعل
رابعاً : أن الله سبحانه وتعالى يكتب للعبد أجلين أجل لو قتل نفسه وأجل لو لم يفعل أجل لو وصل رحمه وأجل لو لم يفعل وقد علم الله عز وجل بم تكون النهاية للعبد هل تكون بقتله لنفسه أو تكون بالموت العادي وهل يكون العبد واصلاً فيطول عمره أو قاطعاً فيقصر وعلى هذا يتخرج .
خامساً : قوله فحرمت عليه الجنة يحمل على أمرين إما أن يكون المعنى حرمت عليه أن يدخلها مع الداخلين الأولين أو يكون المعنى حرمت عليه جنة بعينها وهي جنة المتقين الصابرين
سادساً : أهل العلم من أهل السنة والجماعة قرروا أن كل ذنب وإن كبر فهو معرض للغفران غير الشرك الأكبر والكفر إذاً فقوله حرمت عليه الجنة يتخرج على التأويل الذي سبق ذكره
سابعاً : قلنا أن العبد لا يملك نفسه وأن النفس مملوكة لله عز وجل ويؤخذ من هذا الحديث أنه لا يجوز أن يتبرع الشخص بشيء من أعضائه لأنه لا يملك ذلك العضو الذي تبرع به بل الله عز وجل هو الذي يملكه والمسألة فيها خلاف وكثير من أهل العصر أجازوا التبرع لكن الأظهر عدم جوازه(5/24)
ثامناً : يؤخذ من هذا الحديث أن العمليات الانتحارية والتي تسمى عند قوم استشهادية أنها لا تجوز و لا مبرر لها لأمور
الأمر الأول : أنه مقطوع بقتل المنفذ وأنه سيكون هو أول مقتول فيها
الأمر الثاني : أن هذه العمليات تٌعمل في فلسطين وتلك البلاد يختلط فيها المسلمون مع الكافرين فإذا نفذت العملية ربما استهدفت المسلمين أو بعضهم مع أنه لا يجوز تنفيذها في الكفار المستأمنين وفي الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا ) (1)
الأمر الثالث : أن تلك العمليات تفتك بالمنفذ ومن حوله وقد يكون من حول المنفذ في وقت تفجيره نساء وأطفال
الأمر الرابع : أن الكفار الموجودين في تلك البلاد لو كانوا متميزين فإنه لا يجوز قتل نسائهم ولا أطفالهم
الأمر الخامس : وإذا كان الأمر كذلك فإن المسلم إذا فعل ذلك يخاطر بنفسه ويحرمها الخير الكثير والأجر الوفير عند الله سبحانه وتعالى بسبب جزعه وقلة صبره فلهذه الأمور يظهر لي عدم جواز العمليات الانتحارية
__________
(1) البخاري في كتاب الجزية باب إثم من قتل معاهداً بغير جرم رقم 3166 وفي كتاب الديات باب إثم من قتل ذمياً بغير جرم رقم 6914 وابن ماجة في كِتَاب الدِّيَاتِ بَاب من قتل معاهداً رقم 2686 وورد مسيرة سبعين عاما رواه ابن ماجة في كِتَاب الدِّيَاتِ بَاب من قتل معاهداً 2687 ( قال الألباني صحيح ) وورد مسيرة خمسمائة عام رواه ابن حبان برقم 7383 والطبراني في المعجم الأوسط رقم 431 وفي ضعيف الترغيب والترهيب رقم 1778 قال الألباني منكر .(5/25)
الأمر السادس : يستثنى من هذا ما إذا كان المسلمون والكفار في حالة حرب والكفار متميزين فإنه يجوز أن يخوض الفارس الشجاع غمار الكفار لكن بغير هذه الطريقة الانتحارية بل بالطرق الحربية المعروفة والمألوفة فإن قتل كان شهيداً وإن سلم كان في ذلك حميداً وبالله التوفيق .
كتاب الحدود
تعريف الحدود : الحدود جمع حد والحد هو المانع الذي يفصل بين شيئين وسميت الحدود حدوداً لأنها تمنع من مواقعة ما جعلت عقوبة على فعله فالسارق إذا علم أنه ستقطع يده ترك السرقه والزاني إذا علم أنه يرجم ويجلد ويغرب سنة ترك الزنا وهكذا وتطلق الحدود على محارم الله عز وجل وقد جاء في الحديث ( لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله )
الحديث الأول : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قدم ناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمرت أعينهم وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله )
موضوع الحديث : حد المحاربين
المفردات
قدم ناس من عكل أو عرينة : أقول عكل اسم قبيلة وعرينة اسم قبيلة أيضاً
اجتووا المدينة : أي استوخموها واستوبأوا جوها ولم يطيقوه فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح
اللقاح : هي الإبل ذات اللبن وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها هذه الجملة فيها طب نبوي فالشرب من أبوال الإبل وألبانها بأن يأخذ قليلاً من البول ويحلب عليه لبناً ويشربه هذا أحسن دواء لداء البطن(5/26)
فانطلقوا : أي ذهبوا في الإبل آخذين ما أمر لهم به فلما صحوا أي عادت إليهم صحتهم قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا النعم أي أخذوها
والنعم : اسم جنس للإبل غالباً وللأربعة الأنواع إذا اجتمعت إلا أن الغنم وحده لا يطلق عليه نعم إذا كان وحده هكذا قال أهل اللغة
قوله فبعث في آثارهم : أي أرسل ورائهم خيلاً ورجالاً فأمر بهم الآمر هو النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف : أي لأنهم حاربوا الله ورسوله وارتدوا عن الإسلام
قوله سمرت أعينهم : أي كحلوا بالمسامير المحماة حتى سالت أعينهم جزاءً لهم على ما فعلوه بالراعي
وتركوا في الحرة : الحرة هي أرض مرتفعة تعلوها حجارة سوداء
يستسقون : أي يطلبون السقيا من الماء فلا يسقون
فوله فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله : هذا من كلام أبو قلابة والراوي هو أنس بن مالك رضي الله عنه .
المعنى الإجمالي(5/27)
جاء نفر من قبيلة عكل أو عرينة فأسلموا وبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم إنهم استوخموا المدينة بحيث أن جوها لم يناسبهم فمرضوا فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإبل ذات لبن يقال أنها خمسة عشر وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا فلما صحوا قتلوا الراعي وسمروا عينيه وجعلوا الشوك في لسانه ثم استاقوا الإبل فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم فأتى بهم وأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركوا من دون حسم وسمر أعينهم وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ونزلت في شأنهم الآية التي في سورة المائدة وهي قوله تعالى ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ المائدة : 33 ]
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث عدة مسائل
أولاً : قدوم القبائل على الإمام لبعض الشئون فهؤلاء قدموا فأسلموا ثم ارتدوا
ثانياً : يؤخذ من هذا أنه ينبغي للإمام أن ينظر في مصالح هؤلاء القادمين ويأمر لهم بما يناسب حالهم وصلاح أبدانهم
ثالثاً : طهارة بول ما يؤكل لحمه وهو مذهب مالك وأحمد وقول ابن خزيمة والروياني من الشافعية لكن اشترط المالكيون للحكم بعدم نجاسة أبوالها بأن لا تكون مما يستعمل النجاسة قالوا فإن كانت تستعمل النجاسة فنجسه على المشهور(5/28)
وأقول : المعروف عن الإبل أنها لا تستعمل النجاسة لكن قد يوجد في البقر أن بعضها تأكل العذرة اليابسة فهذا الشرط يمكن أن يكون في البقر دون الإبل علماً بأن طواف النبي - صلى الله عليه وسلم - على البعير دال على طهارة بوله وروثه وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرابض الغنم دال على طهارة روثها ولهذا فالقول الصحيح أن أبوال الإبل وأرواثها وكذلك البقر ما لم تكن جلالة وكذلك الغنم كلها طاهرة وقد ذهب الحنفية وجمهور الشافعية إلى أن بول وروث الإبل وكذلك البقر والغنم نجس واعتذروا عن هذا الحديث ونحوه أن ذلك جائز في التداوي
رابعاً :قال ابن الملقن يؤخذ منه ثبوت أحكام المحاربة في الصحراء واختلف العلماء في ثبوت أحكامها في الأمصار فنفاه أبو حنيفة وأثبته مالك والشافعي قال ووافق بعض المالكية الحنفية
وأقول : إن الآية مطلقة فلا تقيد بالصحاري دون المدن وكذلك الحديث
خامساً : يؤخذ منه مشروعية المثلة في القصاص والنهي عن المثلة محمول على ما إذا لم تكن على سبيل المكافأة أما إن كانت على سبيل المكافأة فهي جائزة وتقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رضخ رأس اليهودي الذي رضخ رأس جارية ليأخذ أوضاحها فالأحاديث في النهي عن المثلة تؤخذ على غير المكافأة أما إذا كان القاتل مثل بالمقتول فإنه يجوز أن يمثل به لقوله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [ النحل : 126]
سادساً : أنه إذا فعل الإمام بالمحاربين وأهل الفساد شيئاً من العقوبات المنفرة فإن ذلك لا يعد من عدم الرحمة بل هو يعد رحمة من أجل أن يرتدع من يهوون الفساد عن فسادهم(5/29)
سابعاً : جاءت عقوبة المحاربين في هذا الحديث على وفق ما ورد في الآية {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[ المائدة : 33 ]
ثامناً : أن أو في هذه الآية الأصح فيها أنها للتخيير ومعنى ذلك أن يختار الإمام ما يراه مناسباً لحالهم وما يكون به ردع لأمثالهم وقال بعض أهل العلم أن أو في الآية هي للتقسيم فعقوبة من قتل القتل وعقوبة من أخاف الآمنين قطع الأيدي والأرجل إذا هو جمع بين أخذ المال والإخافة وهكذا .
تاسعاً : يؤخذ منه أن المرتد بالحرابة يقتل بدون استتابة فلا يستتاب
عاشراً : يؤخذ منه قتل الجماعة بالواحد إذ المأثور أنهم كانوا ثمانية وهم قتلوا الراعي وهو واحد
الحادي عشر : قتل الجماعة بواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة وبه قال الشافعي ومالك وجماعة وخالف في ذلك أبو حنيفة .
الثاني عشر: أن من حصلت منهم الحرابة فلا بد أن يثبت عليهم إما باعتراف أو ببينة أما الذين في الحديث فالحكم ثابت عليهم لقتلهم الراعي وأخذهم الإبل
الثالث عشر: مناسبة نوع العقوبة لنوع الذنب فهؤلاء سقاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره لهم بالإبل أن يشربوا لبنها فلما قتلوا الراعي وأخذوا الإبل أمر بهم بعد قطع أيديهم وأرجلهم أن يلقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون جزاءً لهم على ذنبهم وهكذا كل من كفر الإحسان يعاقبه الله على ذلك عقوبة يكون بها عبرة لغيره وبالله التوفيق(5/30)
الحديث الثاني : عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما قالا إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - قل قال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليده فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا انيس لرجل من أسلم الى امرأة هذا إن اعترفت فارجمها قال فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت .
العسيف : الأجير
موضوع الحديث : حد الزنا في حق البكر والثيب
المفردات
الأعراب : جمع أعرابي وهم أهل البادية لأن فقههم قليل
أنشدك الله : أي أسألك به رافعاً نشيدي أي صوتي
إلا قضيت بيننا : أي حكمت بيننا بكتاب الله أي بما شرع الله عز وجل فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه قوله وهو أفقه مأخوذ من قرينة الحال إذ أن استئذانه سبره للقضية دال على فقهه
قوله قل أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتكلم بعد الاستئذان
قوله إن ابني كان عسيفاً على هذا : أي أجيراً وسمي الأجير عسيفاً لأنه يعسف أي يجبر على العمل الذي استؤجر فيه
قوله فزنا بامرأته : الفاء هنا فاء السببيه أي أنه بالتقارب الحاصل بين العسيف وامرأة الرجل أدى ذلك إلى زناه بها
قوله وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة : الوليدة هي الأمة وسيأتي الكلام في هذا الافتداء وحكمه(5/31)
فسألت أهل العلم المراد بهم الذين قرأوا القرآن وجالسوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعرفوا الأحكام الشرعية قال الله تعالى عن المنافقين ( حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ) [ محمد : 16 ]
قوله تغريب عام بأن يغرب الزاني إلى بلد يكون فيها غريباً
قوله والذي نفسي بيده : هذا قسم من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأقضين بينكما بكتاب الله وصف جزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه هو كتاب الله
قوله الوليدة والغنم رد عليك : أي مردودة عليك
وعلى ابنك جلد مائة : أي بأن يجلد مائة جلدة
وتغريب عام : أي سنة
واغد يا أنيس : اغد بمعنى اذهب في الغدو إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ومعنى اعترفت أقرت
فارجمها أي الرجم الشرعي أي حتى تموت فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت
المعنى الإجمالي
أن رجلاً كان أجيراً عند آخر فزنا بامرأته ولعل ذلك قد اشتهر وسمع بالاشاعات التي لا تكون وافيه بمعرفة الحكم بل إنما سمع بطرف الخبر أن على كل زان الرجم فافتدى من زوج المرأة بمائة شاة ووليدة ولعله سأل من هم أخص بالأحكام الشرعية من أهل العلم فاخبروه أن الرجم على المرأة لكونها محصنة وأن ابنه ليس عليه رجم وإنما عليه الجلد والتغريب فمن أجل ذلك ذهب والد الزاني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبدأ زوج المرأة المزني بها فطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم بينهما بكتاب الله ثم طلب الآخر وهو والد الزاني وأدى القصة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله فأخبره أن المائة شاة والوليدة مردودة على صاحبها وأن على ابنه جلد مائة وتغريب عام وأمر أنيساً أن يذهب إلى المرأة المزني بها فيسألها عن صحة ما قذفت به فسألها فاعترفت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمها(5/32)
التعريف بالراوي : عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود قال ابن الملقن هو أبو عبدالله الهذلي المدني التابعي الفقيه الأعمى روى عن أبيه وعائشة وغيرهما واتفقوا على توثيقه وأمانته وجلالته وكثرة علمه وفقهه وحديثه وصلاحه وقال في التقريب عبيد الله بن عبدالله المدني ثقة فقيه ثبت من الثالثة مات سنة ثمان وتسعين روى له الجماعة قلت : هو ابن ابن أخي عبدالله بن مسعود فجده عتبه بن مسعود وهو أخو عبدالله بن مسعود
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث عدة مسائل
أولاً : جواز النّشد بالله أي السؤال به لقوله أنشدك الله كقول أسألك بالله إلا قضيت بيننا بكتاب الله
ثانياً : أن القضاء بكتاب الله هو المطلب المفضل لكل مسلم
ثالثاً : هل المراد بكتاب الله القرآن الكريم أو المراد به الأحكام الشرعية التي أنزلها الله على رسوله وامتن عليه بذلك في قوله (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ) [الجاثية : 18 ] والظاهر أن المراد بذلك الشرع المأخوذ من الكتاب والسنة
رابعاً : يؤخذ من قوله فقال الخصم الآخر وهو أفقه أن الحكم بالقرائن مأخوذ به ومتفق عليه لا كما يدافع به الحزبيون عن الحزبيات والمتحزبين ويزعمون أن ذلك تدخل في السرائر
خامساً : إذا كان قد قال الراوي وهو أفقه أخذاً بالقرائن فما هي القرينة التي أخذ منها ذلك والجواب أن القرينة هي في تأدبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلب الإذن في الكلام وبيانه للقضية بياناً شافياً
سادساً : أن رسول الله قد أمره أن يقول فيدعي أويبين فيفصح عن الحقيقة
سابعاً : فيه فضل الصحابة وإن كانوا ممن فيهم جفاء حيث أن الذي قال الحقيقة التي أقر له بها خصمه ولو كان قد كذب في قوله لما أقر له الخصم
ثامناً : قال الرجل في دعواه أو في بيانه إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنا بامرأته يؤخذ منه جواز إيجار الإنسان نفسه وأن ذلك يجوز له شرعاً(5/33)
تاسعاً : قوله فزنا بامرأته الفاء للسببية بسبب ذلك زنا بامرأة من هو عسيف عنده فيؤخذ من هذا أن الإختلاط موجب لحدوث مثل هذا المنكر
عاشراً : أن الواجب على المسلمين أن الرجل إذا استأجر أجيراً ما فإن الواجب على صاحب البيت أن لا يتيح للأجير الفرصة في الاختلاط في النساء ومن مشكلات العصر وجود السائقين في البيوت وعند كثير من الناس الذين يتساهلون في التحصن أو التحصين من مثل هذه الأمور فإنه ينتج عن ذلك قضايا يندى لها الجبين
الحادي عشر : يؤخذ من قوله وأن على ابني الرجم أن الأخبار الشرعية قد تتناقل بنوع من القصور وإذا كان هذا قد حدث في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فما بالك بزمن غيره ومعنى ذلك أن هذا الخبر دل على أن الرجم على كل زان وليس بصحيح وإنما الرجم على الزاني المحصن
الثاني عشر :يؤخذ من قوله فافتديت منه بمائة شاة ووليدة وهذا ما يقال له عند كثير من الناس ما يسمى بالعيب فيؤخذ فيه مقابل مالي وقد تبين من هذا أن هذا المقابل غير صحيح
الثالث عشر : يؤخذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الوليدة والغنم رد عليك أنما أخذ بمثل هذا السبب فإنه يكون باطلاً لأمرين : الأول : أنه يراد منه إسقاط الحد الشرعي وهذا لا يجوز
الثاني : أنه قد عوض زوج المرأة عن العرض بالمال والتعويض عن العرض بالمال غير جائز في الشرع وإنما تؤخذ الأعراض والاعتداء عليها بالحدود الموضوعة لذلك
الرابع عشر: قوله فسألت أهل العلم وأخبروني أنه في كل مجتمع قد يوجد أهل علم وقد يكون هذا العلم علم على الحقيقة أو علم يخالف كتاب الله وسنته وأنما قلت هذا لأن في المجتمعات الإسلامية اليوم أناس يدعى لهم أنهم أهل علم وليسوا كذلك .
الخامس عشر : وبناء على ما سبق فإن قوله وسألت أهل العلم أن المراد بأهل العلم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - هم أهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال القائل(5/34)
العلم قال الله قال رسوله ... ... قال الصحابة هم أولوا العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... ... بين الرسول وبين قول فلان
السادس عشر : لكون أهل العلم قد أخبروه بأنه ليس على ابنه رجم فلذلك كأنه يعرض بالرجوع فيما بذل والله أعلم بذلك
السابع عشر : يؤخذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الحلف على الأمر الذي يعتقده العبد في نفسه واثقاً منه والنبي - صلى الله عليه وسلم - حلف أن قضاءه هذا هو قضاء بكتاب الله عز وجل
الثامن عشر : يؤخذ من قوله الوليدة والغنم رد عليك أن ما أخذ في مقابل الحدود من المال فهو باطل فيكون محرماً على باذله بذله ومحرم على آخذه أخذه
التاسع عشر : يؤخذ من قوله وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام يؤخذ منه جلد البكر مائة جلدة في موضع واحد
العشرون : أن الجلد لا بد أن يكون فيه إيلام وإيجاع لأن الله تعالى قال (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [ النور : 2 ]
الحادي والعشرون : يؤخذ من هذا الحديث وغيره أن من حد الزاني وتكملة الحد تغريب عام بأن يغرب في بلد بعيد عن بلده وقد أخذ بهذا الجمهور وخالف في ذلك أبو حنيفة وقوله باطل مردود
الثاني والعشرون : قد استشكل تغريب المرأة الزانية بأنه قد يؤدي إلى الوقوع في زنا آخر وإن غرب معها وليها كانت العقوبة على الولي بغير ذنب
الثالث والعشرون : أن الله لا يشرع شرعاً إلا ويكون حقاً وعدلاً وأن تغريب المرأة الزانية مع وليها قد يكون سببه التساهل في حفظ النساء عن التعرض لما يجلب العار والإثم
الرابع والعشرون : يصح أن يكون التغريب في سجن يقع في بلد بعيد عن بلد المرأة الزانية
الخامس والعشرون : أن هذا لا يكون إلا إذا كان السجن محصناً فيكون المشرفين على السجن أهل أمانة وعدالة(5/35)
السادس والعشرون : يؤخذ من قوله واغد يا أنيس لرجل من أسلم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها جواز النيابة في الحد فيما يثبته وفي إقامته
السابع والعشرون : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل لكل قوم رجلاً منهم حيث الحمية عند العرب تجعل ذلك غير مقبول إذا كان من قبيلة أخرى وهذا من السياسة الشرعية حيث أن الناس غالباً يخضعون لرؤسائهم وذوي السيادة فيهم
الثامن والعشرون : يؤخذ من قوله فإن اعترفت فارجمها أن الاعتراف فيه مرة واحدة وبهذا قال جماهير أهل العلم وقال بعضهم أن الاعتراف لا بد أن يكون أربع مرات وهذا قول الحنفية والحنابلة
التاسع والعشرون : أن الزاني المحصن كما في هذه المرأة وكما في ماعز والغامدية وكما في اليهوديين يرجم ولا يجلد أما حديث عبادة بن الصامت البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فهذا قد أخذ به علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وأخذ به بعض أهل العلم والقول الصحيح أن ذلك منسوخ حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ولم يجلد وبالله التوفيق .
الحديث الثالث : وعنه أي عبيدالله بن عبدالله رحمه الله أي زيد بن خالد الجهني وأبو هريرة رضي الله عنهما قالا سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إذا زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير
قال ابن شهاب ولا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة والضفير الحبل
موضوع الحديث : إقامة الحد على الأمة إذا زنت من قبل سيدها
المفردات
قوله ولم تحصن : الإحصان يطلق على أمور الأمر الأول : التزويج الأمر الثاني الحرية
الأمر الثالث العفة والمراد به هنا الحرية
قوله إذا زنت فاجلدوها : المراد بهذا الجلد جلد الحد ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير
قوله بضفير: الضفير هو الحبل وقد فسر بالرواية الثانية في قوله ولو بحبل من شعر(5/36)
المعنى الإجمالي
أَمَرَ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - سَيد الأمة إذا زنت وتبين زناها أن يجلدها نصف جلد الحرة والتنصيف يقتضي أن تجلد الأمة خمسين جلدة وهذا الأمر خاص بأسياد العبيد والإماء فإن لم تتب وعاودت الزنا وجب بيعها ولو بقيمة دنيئة كحبل من شعر
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث عدة مسائل
أولاً : أن إقامة الحد على الأمة إذا زنت وكذلك العبد إذا زنى إقامة الحد عليه يكون من قبل سيده وإلى ذلك ذهب الجمهور ومنعت ذلك الحنفية والقول الأول هو الأصح
ثانياً : أن إقامة الحدود على الأحرار واجب على ولي الأمر إذا تبين موجب الحد بإقرار أو ببينة
ثالثاً : أن الزنا عيب في الرقيق يرد به ويضع من قيمته لقوله في الثالثة فبيعوها ولو بحبل من شعر
رابعاً : أن من عاود الزنا بعد ما أقيم عليه الحد فإنه يعاود عليه الحد مرة أخرى لقوله ( إن زنت فاجلدوها فإن زنت فاجلدوها ) وهذا دليل على أن معاودة الزنا موجب لمعاودة الحد
خامساً : قوله إذا زنت ولم تحصن المراد لم تتحرر والله أعلم لأنها إذا زنت بعد التحرر وعاودت الزنا بعد إحصانها بالتزويج وجب رجمها
سادساً : يؤخذ منه وجوب الإخبار بالعيب لأن قوله ولو بضفير يدل على أن الواجب على البائع أن يخبر بعيبها وإذا أخبر بعيبها تدنت قيمتها
سابعاً : يؤخذ منه أن إقامة الحد لازمة سواء كانا مزوجين أو غير مزوجين
ثامناً : أن قوله تعالى ( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ) [ النساء : 25] أن المراد بالمحصنات في الآية المحررات والمقصود به الجلد لأن الرجم لا يتنصف فقوله ( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ) إحالة على الحد الذي يتنصف وهو الجلد
تاسعاً : يؤخذ منه أن المملوك لا يرجم
عاشراً : يؤخذ منه أن المملوك لا يغرب لأن في تغريبه تضييع لحق سيده .(5/37)
الحديث الرابع :عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال أتى رجل من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فناداه فقال يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه فقال : يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات فلما شهد علىنفسه أربع شهادات دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبك جنون ؟ قال : لا قال فهل أحصنت قال نعم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اذهبوا به فارجموه .
قال ابن شهاب : فأخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن أنه سمع جابر بن عبدالله يقول : كنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه
الرجل هو ماعز بن مالك . ورى قصته جابر بن سمرة وعبدالله بن عباس وأبو سعيد الخدري وبريدة بن الحصيب الأسلمي .
موضوع الحديث : الاعتراف بالزنا
المفردات
قوله فناداه : أي رفع صوته بقوله يا رسول الله إني زنيت
فأعرض عنه : أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحول عنه إلى جهة أخرى
قوله فتنحى : أي تحول ليقابل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إني زنيت
قوله حتى ثنى ذلك أربع مرات : أي كرر الاعتراف أربع مرات
قوله فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه : أي طلب منه الدنو فدنى فقال أبك جنون قال لا وإنما سأله هل به جنون لأن المجنون لا يؤخذ بكلامه
قوله قال فهل أحصنت : أي هل تزوجت قال نعم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اذهبوا به فارجموه
قوله قال ابن شهاب فاخبرني أبو سلمة أنه سمع جابر بن عبدالله يقول كنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى : المراد بالمصلى هو المكان الذي يصلى فيه العيد والاستسقاء وما أشبه ذلك
قوله فلما أذلقته الحجارة هرب : معنى أذلقته أوجعته
قوله فأدركناه بالحرة : الحرة هي أرض مرتفعة تعلوها حجارة سود
المعنى الإجمالي(5/38)
جاء رجل من المسلمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فناداه مقراً على نفسه ومعترفاً عليها بقوله إني زنيت فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - تمكيناً له أن يتراجع إن أراد ولكنه كان كلما تحول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جهة تحول هو إليها فلما رأى منه النبي - صلى الله عليه وسلم - الإصرار سأله أبك جنون قال لا وسأل الحاضرين أفي عقله شيء قالوا لا فأمر أن يُشم فمه ويستنكه فشم ولم يوجد به رائحة خمر فاستثبته النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله أدخل ذاك منك في ذاك منها قال نعم فعلت بها حراماً ما يفعله الرجل بامرأته حلالاً فعند ذلك أمر به فرجم وفي قصته عدة مسائل سنأتي عليها إن شاء الله تعالى .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث الإقرار بالزنا عند الإمام
ثانياً : أن الإمام إذا أتاه من هو مقر على نفسه بما يوجب الحد ينبغي أن يعرض عنه لكي يعطيه الفرصة في التراجع كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أعرض عنه ثلاث مرات وفي الرابعة كلمه
ثالثاً : أن الحدود إذا بلغت الإمام وجب تنفيذها ولا يجوز إهمالها بعد ذلك
رابعاً : جواز النداء للحاكم أو للأمير أو للعالم بأعلى نعوته وأفضلها والجهر بذلك عند إتيان ما يوجب فقد نادى هذا الرجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلى صوته قائلاً يا رسول الله إني زنيت
خامساً : يؤخذ منه أن إقرار المجنون باطل لكونه لا يرجع إلى عقل يمنعه من الاعتراف بما يوجب عليه الضرر
سادساً : أنه ينبغي للإمام أو القاضي أن يعرض للمقر بالرجوع فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلك لمست لعلك قبّلت(5/39)
سابعاً :اختلف أهل العلم في الإقرار هل يكفي فيه مرة واحدة أو لا بد أن يقرّ أربع مرات فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنه لا بد في الإقرار بالزنا من أن يقر أربع مرات وذهب مالك والشافعي وكثير من أهل الحديث إلى أن الإقرار بالزنا يثبت بمرة واحدة أولاً : لأن ترديد النبي - صلى الله عليه وسلم - لماعز لم يكن من أجل تعدد الإقرار ولكن للاستثبات ولكونه شك في عقله . ثانياً :أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في امرأة صاحب العسيف واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يجعل لذلك عدداً لا يعتبر الإقرار إلا به . ثالثاً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر إقرار الغامدية أو الجهنية بدون عدد حتى قالت له أتريد أن ترددني كما رددت ماعزاً .
ثامناً : أن شارب الخمر لا يعتبر بإقراره ولا بكلامه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستنكه ماعز فاستنكهوه ولما لم يجدوا فيه رائحة خمر اعتبر إقراره .
تاسعاً : جواز تفويض الإمام الرجم إلى غيره لقوله - صلى الله عليه وسلم - اذهبوا به فارجموه
عاشراً : يؤخذ منه أن المرجوم لا يحفر له وقد اختلف أهل العلم في هذه المسالة اختلافاً كثيراً فذهب مالك وأحمد وأبو حنيفة في رواية عنه وأبو يوسف وأبو داود إلى أنه يحفر لهم فقال بعضهم يحفر لمن رجم بالبينة لا لمن رجم بالإقرار وقال بعضهم يحفر للمرأة ولا يحفر للرجل وفي هذا الحديث بالذات أن ماعزاً لما أذلقته الحجارة هرب فلو كان حفر له لم يهرب وقد ورد في رواية أنهم حفروا له ولعل راويها وهم وكذلك في قصة اليهوديين أن الرجل كان يجنأ على المرأة وذلك دليل على أنه لم يحفر لهما
الحادي عشر : أن الزاني المحصن إذا شرعوا في رجمه وهرب ترك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ) وممن قال بتركه الشافعي وأحمد وقال مالك لا يترك .(5/40)
الثاني عشر : أن المحصن يرجم ولا يجلد وقد سبق أن قلنا أن حديث عبادة بن الصامت منسوخ وإن كان قد ذهب بعض أهل العلم إلى العمل به
الثالث عشر : أن المصلى أي المكان الذي يصلى فيه العيد ليس له حكم المسجد لأنه لو كان له حكم المسجد ما رجموه فيه علماً بأنه قد ثبت النهي عن إقامة الحدود في المسجد وبالله التوفيق .
الحديث الخامس : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيا فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترون في التوراة في شأن الرجم فقالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبدالله بن سلام كذبتم إن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبدالله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقال صدقت يا محمد فأمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجما قال فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة .
الذي وضع يده على آية الرجم هو عبدالله بن صوريا
موضوع الحديث : الحكم في الحد علىأهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا
المفردات
قوله ما ترون في التوراة في شأن الرجم :أي ما تقرؤون فيها أي في حكم الرجم(5/41)
قالوا نفضحهم الفضح معناه : أنهم يطلون وجه الزاني والزانية بالقار ويحملونهما على حمار عري ويصاح عليهما ويوبخا بما فعلا والسبب في ذلك فيما ذكر أن رجم الزاني المحصن كان في كتابهم وكانوا يقيمونه ولما زنا قريب لملك من ملوكهم في ذلك الزمن تركوا الرجم فلما رأوا أنهم يقيمونه على الضعيف ويتركونه عن الشريف عند ذلك اتفقوا على حكم يمضونه على الجميع فاتفقوا على الفضح ويجلدون فقال عبدالله بن سلام كذبتم إن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها أي فتحوها على الموضع الذي فيه هذا الحكم فوضع أحدهم يده عليها وهو عبدالله بن صوريا وكان يقال عنه أنه أعلم أهل الكتاب وكان أعور فقال له عبدالله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فأمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجما قال فرأيت الرجل يجنأ وفي رواية يحنأ عليها يقيها الحجارة
المعنى الإجمالي
عندما حصل الزنا عند اليهود بين رجل وامرأة جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يريدون أن يعرضوا عليه حكمهما راجين أن يكون عنده حكم فيه رحمة بهما فسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم الله للزاني المحصن الذي أنزله الله في التوراة فكذبوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - زاعمين أن الحكم عندهم فضح الزانيين فكذبهم عبدالله بن سلام وحين نشروا التوراة تبين أن الحكم فيها بالرجم على الزاني المحصن فأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال( اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ )(1) وأمر بهما فرجما
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث عدة مسائل
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحدود باب رجم اليهود وأهل الذمة في الزنا رقم 1700 وأبو داود في كتاب الحدود باب في رجم اليهوديين رقم 4448 وابن ماجة في كتاب الحدود باب رجم اليهودي واليهودية رقم 2558.(5/42)
أولاً : أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة كما أنهم مخاطبون بأصولها
ثانياً : أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا حكمنا بينهم بحكم الله المنزل في القرآن
ثالثاً : أن الله سبحانه وتعالى خير نبيه في قوله عز وجل ( فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا ) [ المائدة : 42 ] وفي الآية الأخرى ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ ) [ المائدة : 49] والمهم هل النبي - صلى الله عليه وسلم - مباح له أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم أو أنه مكلف أن يحكم بينهم بما أنزل الله وهذه المسالة تحتاج إلى تحرير .
رابعاً : قال ابن الملقن اختلف العلماء في أن الإسلام هل هو شرط في الإحصان أم لا ؟
أحدهما لا وهو قول الشافعي وأصحابه فإذا حكم الحاكم على الذمي المحصن رجمه
وثانيهما نعم وهو قول أبي حنيفة وقال مالك لا يصح إحصانه أيضاً
خامساً : وجوب إقامة حد الزنا على الكافر على مقتضى شرعنا والصحيح عند الشافعي وجوب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا
سادساً : صحة نكاح الكافر الكتابي لأنه لو لم يكن نكاحهم صحيحاً ما ترتب على ذلك إحصان فلم يترتب الإحصان إلا على صحة نكاح وأنكحة الكفار صحيحة بينهم
سابعاً : هل ثبت زناهما ببينة أو باعتراف وإذا كان قد ثبت ببينة فكيف صحت البينة وقبلت شهادتهم وهم كفار والظاهر أن الكافر تقبل شهادته على الكافر بخلاف المسلم
ثامناً : يؤخذ منه عدم الحفر للمرجوم لقوله فكان يجنأ عليها أو يحنأ عليها وكل ذلك بمعنى أنه كان ينحني عليها ليقيها وقع الحجارة
يؤخذ منه علو الإسلام على سائر الأديان وبالله تعالى التوفيق .
الحديث السادس : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لو أن امرءاً اطلع عليك بغير إذنك فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح .(5/43)
موضوع الحديث : إهدار عين المتعدي بالنظر لو فقأت من قبل صاحب الدار لكانت هدراً لا شيء فيها
المفردات
لو أن : لو حرف وجود لوجود
فحذفته : الحذف بالعود والسيف وما شاكلهما وورد في رواية فخذفته بحصاة : الخذف يكون بحجر صغير يرمى بين الأصبعين
أما الحجر الكبير فالرمي به لا يكون بين الأصبعين ولكن باليد وهو يقال له رجم قال تعالى عن موسى عليه السلام ( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) [الدخان : 20]
قوله ففقأت عينه : الفقأ هو إفساد عين الناظر وتخريبها بشيء حتى تسيل ويذهب نورها
ققوله ما كان عليك جناح :أي ما كان عليك إثم ولا تبعة
المعنى الإجمالي
لما كان البصر حاسة استطلاعية تكشف على الصورة وتنقلها إلى القلب فيتأثر بها وربما كان هذا التأثر له عواقبه الوخيمة كذلك جاء عن الشارع - صلى الله عليه وسلم - ما فيه حماية للعورات المكنونة في البيوت من الاطلاع عليها بغير إذن من أهلها وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - ( لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذنك فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح ) أي أن الشارع أباح فقأ عين المطلع وتخريبها وجعل عينه إذا فقأت هدراً لا تضمن بقصاص ولا دية وهل يستكثر مثل هذا إذا ورد من الشارع الحكيم فربما كان النظر سبباً في وقوع الزنا الذي يترتب عليه حده المخفف أوالمغلظ أي المخفف على البكر والمغلظ على الثيب فإذا كان قد أبيح دم الزاني وأمر بقتله رمياً بالحجارة حتى يموت فإن الواجب علينا ألا نستكثر إباحة فقأ عينه إذا هو اطلع على العورات .
فقه الحديث(5/44)
أولاً : يؤخذ من الحديث جواز فقأ عين المطلع في بيوت الناس بغير إذنهم ولقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا التصرف كما جاء في حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ ) (1)
ثانياً : أن هذا الحكم جعله الشارع - صلى الله عليه وسلم - حماية للعورات ومنعاً لتسرب الأبصار إليها وتنبيهاً على خطر البصر ولهذا قيل
كل الحوادث مبدأها من النظر ... ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
__________
(1) البخاري في كتاب الاستئذان باب الاستئذان من أجل البصر رقم 6241 وفي كتاب الديات باب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية رقم 6901 ومسلم في كتاب الآداب باب تحريم النظر في بيت غيره رقم 2156 والنسائي في كتاب القسامة باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول رقم 4859 والترمذي في كتاب الاستئذان والآداب باب من اطلع في دار قوم بغير إذنهم رقم 2709 و وأبو داود نحوه في كتاب الأدب باب في الاستئذان رقم 5174 والدارمي في كتاب الديات باب من اطلع في دار قوم بغير اذنهم رقم 2384 ورقم 2385(5/45)
وعلى هذا فإني أقول أن من يعارضون هذا الحديث ويقولون لا يجوز فقأ عين المطلع فالمعصية لا تزال بمعصية أقول إن هذا القول خطأ كبير ومعارضة للشارع ورفض لحكمه فهل المعصية تقرر من قبل الشارع أو من قبل أهوائنا وعقولنا لا شك أن الشرع هو الذي يقرر بأن هذا العمل حق أوواجب أو مباح وجائز وذلك العمل إثم وحرام أو مكروه أو مباح فهذا كله يتقرر من قبل الشارع لا من قبل أهواء الناس وعقولهم وقد جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلا دِيَةَ لَهُ وَلا قِصَاصَ ) (1) وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ ) فمن زعم أن فقأ عين المعتدي يعد معصية صغيرة فإنه قد عارض حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورده وعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه
ثالثاً : أنه يجوز رميه أو طعنه قبل نهيه وإنذاره لاطلاق الحديث هكذا قال ابن الملقن رحمه الله وكلامه وجيه
رابعاً : أنه لا يلتحق بالنظر غيره كالسمع لأن السمع لا ينظبط وقد تسمع الصوت من الدار وأنت مار به فهو يدخل عليك من دون أن تستطيع على منعه إلا أنه إذا تعمد السمع وتلذذ به فإنه لا ينبغي وبالأخص إذا كان صوت امرأة
__________
(1) رواه النسائي في كتاب القسامة باب من اقتبس وأخذ حقه دون السلطان رقم 4860 وأحمد رقم 8985 وابن حبان برقم 6004 والدارقطني رقم 348 وصححه الألباني .(5/46)
خامساً : من قال أنه يجوز النظر لمن له محرم في الدار يرد عليه بأنه لا يجوز له النظر ولا الدخول ما دام في الدار غير محرمه إلا إذا علم وتيقن بأنه ليس في الدار غير محرمه فإنه يجوز
سادساً : إذا علم أن في الدار رجل وليس لديه حرم فلا بد من الاستئذان عليه لأنه قد يكون على حال لا يحب الاطلاع عليه فيها
سابعاً : يشترط في إهدار عين الناظر أن يكون صاحب الدار قد احتاط بما يكف النظر وهو وجود ساتر وباب يمنع فإن لم يكن هناك شيء يمنع النظر فإن الواجب على الناظر أن يكف نظره فإن أطلق نظره فهل يجوز رميه ويهدر بصره بذلك ؟ الظاهر عدم إهداره لوجود التقصير من صاحب الدار
ثامناً : إذا كان الناظر طفلاً فالظاهر عدم جواز فقأ عينه إلا أن يكون بالغاً أو مراهقاً أي ممن يطلعون على العورات ويعرفونها
تاسعاً : ومن أجل ذلك فإن المستأذن ينبغي له أن يستأذن وهو على جانب من الباب لا يقابل فتحة الباب فيطلع على من في الدار فقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن المستأذن يكون بجانب الباب إما الأيمن وإما الأيسر . وبالله التوفيق .
باب حد السرقة
تقدم لنا أن الحد هو الفاصل بين شيئين وهنا يراد بالحد العقوبة التي تمنع من الوقوع في هذه الجريمة أو تلك فحد السرقة كأن يقطع الكف من اليد اليمنى التي تكون غالباً مباشرة للسرقة وقد ألقى أبو العلاء المعري شبهة في زمنه حيث قال
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ... ما بالها قطعت في ربع دينار
فرد عليه عالم من علماء ذلك الزمن يقال له عبدالوهاب وهو من علماء المالكية فقال
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ... ... ذل الخيانة فافهم حكمة الباري(5/47)
ولهذا قالوا لما كانت أمينة كانت ثمينة ولما خانت هانت وهو كذلك فقيمة اليد خمسمائة مثقال من الذهب وهي نصف دية الرقبة فدية الرجل ألف دينار من الذهب .ودية اليد إذا قطعت خمسمائة مثقال والمثقال هو دينار أما إذا سرقت فإنها تقطع في ربع دينار وربع الدينار كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يساوي ثلاثة دراهم من الفضة والثلاثة الدراهم تساوي ريالاً إلا ربع بالنقد السعودي إذ أن أهل العلم قالوا إن الدرهم يساوي جرامين وسبعة وتسعين من الجرام الثالث ( 2.97 جم ) ولقد أخذت ريالاً سعودياً من الفضة ووزنته في زمن قديم عند باعة الذهب فوزن أحد عشر جراماً وثمانية وثمانين من المائة من الجرام الثاني عشر ( 11.88جم ) وذلك يساوي أربعة دراهم إذا قلنا أن الدرهم يزن جرامين وسبعة وتسعين من الجرام الثالث أي أنه ثلاث جرامات ينقص الثالث منها ثلاثة بالمائة . فلو ضربنا ذلك في أربعة لطلع معنا أحد عشر جراماً وثمانية وثمانين بالمائة من الجرام الثاني عشر ( 11.88جم ) أي أن الثاني عشر ينقص اثني عشر بالمائة من الجرام فتبين أن الثلاثة الدراهم تساوي ريالاً إلا ربع وقد جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ) (1)
__________
(1) البخاري في كتاب الحدود باب لعن السارق إذا لم يسم رقم 6783 وفي كتاب الحدود أيضاً باب قول الله تعالى ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) رقم 6799 ومسلم في كتاب الحدود باب حد السرقة ونصابها رقم 1687 والنسائي في كتاب قطع السارق باب تعظيم السرقة رقم 4873 وابن ماجة في كتاب الحدود باب حد السارق رقم 2583 وأحمد رقم 7430 .(5/48)
وقد استغرب بعض الفقهاء كيف يسرق الحبل أو البيضة فتقطع يده علماً بأن البيضة المسلوقة تباع في وقتنا الحاضر بريال واحد وأن الحبل يباع بعدة ريالات وقد ورد أنه في زمن السلف سرق سارق أترجة أي حبة أترنج تساوي ثلاثة دراهم فقطعت يده وسيأتي الكلام على كون المعتبر في نصاب السرقة هو ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الفضة وقد قال الشافعي بأن أصل نصاب السرقة الذهب لحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في ربع دينار وذهب آخرون إلى أن الأصل في نصاب السرقة الدراهم فيكون ثلاثة دراهم لحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وسنبين الفرق فيما يأتي إن شاء الله تعالى . وبه قال مالك ومن معه كما سيأتي .
المجن يسمى الدرقة وهو شيء من الحديد مجوف
الحديث الأول : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن قيمته وفي لفظ ثمنه ثلاثة دراهم
موضوع الحديث : نصاب السرقة
المفردات
قوله قطع : أي قطع يد السارق
في مجن : أي بسبب مجن سرقه والمجن هو الدرقة التي كانت يستجن بها أي يتقى بها ضرب السيوف أو طعن الرماح أو السهام
قوله : قيمته وفي لفظ ثمنه : القيمة والثمن يمكن أن تكون لفظان مختلفان على شيء واحد ويمكن أن يقال أن القيمة هي التي تعرف غالباً عند الناس وأما الثمن فقد يزيد عن القيمة المعروفة وقد ينقص بناء على المماكسة وعلى هذا فإن القيمة والثمن يقال أنهما يختلفان أحياناً ويتفقان في الغالب
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع يد سارق في سرقة مجن قيمته ثلاثة دراهم
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث الشريف أن الثلاثة الدراهم هي نصاب القطع في السرقة فلا يقطع في أقل منها وبهذا قال مالك وأحمد وإسحاق ورواية عن الشافعي(5/49)
ثانياً : يؤخذ منه أن الدراهم وهي الفضة هي أصل في نصاب السرقة وهذه الرواية رواية صحيحة رواها البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأحمد في المسند والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة
وأما الأقوال في نصاب القطع في السرقة فهي ثمانية أقوال حكاها ابن الملقن في كتابه الإعلام بفوائد عمدة الأحكام في شرح هذا الحديث فكان منها القول بأن النصاب ثلاثة دراهم وسبق أن قلت أن الثلاثة الدراهم تقدر بالنقد الحالي بريال إلا ربع سعودي(5/50)
القول الثاني على أن نصاب القطع في السرقة ربع دينار من الذهب وهذا مقتضى حديث عائشة رضي الله عنها الآتي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في ربع دينار والرواية الموجودة هنا عن عائشة أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً وهذا الحديث ذهب إليه الشافعي وهو قول كثير من العلماء ذكر ابن الملقن منهم عائشة وعمر بن عبدالعزيز والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأبو ثور وإسحاق وقد ذهب هؤلاء إلى أن الأصل في نصاب السرقة هو الذهب وإذا قلنا بأن الأصل في نصاب السرقة هو الذهب فإن القطع يكون في ربع دينار سواء كانت قيمته ثلاثة دراهم أو أكثر فلو قلنا بهذا القول وجعلنا الذهب أساساً في نصاب السرقة فإنه لا يقطع إلا فيما قيمته ربع دينار والدينار هو مثقال وهو أربعة جرامات وثلاث وعشرين بالمائة من الجرام الخامس (4.23 جم) وقد كمل الفقهاء اثنين بالمائة ليساوي الدينار أربع جرامات وربع (4.25 ) وإذا قلنا أربع جرامات وربع فإنه يعتبر بقيمة الذهب في وقت السرقة فمثلاً الآن الجرام من الذهب يباع بخمسة وأربعين أو بأربعين ريالاً فيضاف إليها ربع الربع لو قلنا أن قيمة الجرام أربعين فيجب أن نضيف إليه ربع الربع حيث أن الدينار أربع جرامات وربع ( 4.(5/51)
25 ) فيكون النصاب اثنين وأربعين ونصف ريال سعودي والفرق كبير بين هذين النصابين علماً بأن قيمة الذهب ترتفع وتنخفض فتكون غير محددة بل تكون عائمة في القيم المختلفة ومن ناحية أخرى فإذا قلنا بحديث عبدالله بن عمر وهو كان في ذلك الزمن ربع دينار أي الثلاثة الدراهم ربع دينار لأن صرف الدينار في ذلك الزمن اثني عشر درهماً وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقطع في شيء أقل من النصاب الذي يجب القطع به وفيما يظهر لي والله أعلم أن تقدير النصاب بثلاثة دراهم أضبط وكون الدراهم معروفة المقدار فيكون القطع فيما قيمته ثلاثة دراهم وهي ريال إلا ربع بالنقد السعودي هذا ما تلخص لي أما القول بأن نصاب القطع في السرقة عشرة دراهم أو خمسة دراهم أو درهمين أو درهم واحد أو أربعين درهماً فكل هذه الأقوال أدلتها ضعيفة والقول بها أضعف والله تعالى أعلم .
يبقى معنا الكلام من أين تقطع اليد وما هو الذي يثبت به هذا الحد فالجمهور على أن اليد تقطع من مفصل الرسغ وهو مفصل الكف مع الذراع وعلى هذا القول جرى العمل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين وقالت الخوارج أن اليد تقطع من المنكب وقولهم هذا ضعيف وكذلك القول بأنها تقطع من المرفق .(5/52)
ثالثا : أنه لا يقطع إلا في الآخذ من حرز والحرز شرط عند الجمهور فالصندوق حرز للدراهم وكل شيء حرزه بحسبه والدابة إذا كانت مربوطة فحرزها رباطها والجيب حرز أيضاً وقد ورد في الحديث ( أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ قِيلَ لَهُ هَلَكَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ قَالَ فَقُلْتُ لا أَصِلُ إِلَى أَهْلِي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَكِبْتُ رَاحِلَتِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمُوا أَنَّهُ هَلَكَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ قَالَ كَلا أَبَا وَهْبٍ فَارْجِعْ إِلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ قَالَ فَبَيْنَمَا أَنَا رَاقِدٌ إِذْ جَاءَ السَّارِقُ فَأَخَذَ ثَوْبِي مِنْ تَحْتِ رَأْسِي فَأَدْرَكْتُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ إِنَّ هَذَا سَرَقَ ثَوْبِي فَأَمَرَ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْطَعَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا أَرَدْتُ هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ قَالَ فَهَلا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ) (1)
__________
(1) رواه النسائي في كتاب قطع السارق باب الرجل يتجاوز للسارق عن سرقته رقم 4879 وفي كتاب قطع السارق أيضاً باب ما يكون حرزاً وما لا يكون رقم 4883 ورقم 4884 ورواه أبو داود في كتاب الحدود باب من سرق من حرز رقم 4394 والدارمي في كتاب الحدود باب السارق يوهب منه السرقة بعد ما سرق رقم 2299 وابن ماجة في كتاب الحدود باب من سرق من الحرز رقم 2595 وأحمد رقم 15377 واللفظ له وصححه الألباني .(5/53)
فنأخذ من هذا الحديث أن رداء صفوان رضي الله عنه كان وضع رأسه عليه حرزاً له ويتبين لنا أن الحرز في كل شيء بحسبه والسيارة إذا كانت مقفلة وفتحها السارق فإنه إذا أخذها ، أخذها من حرز والدابة إذا كانت مربوطة فأخذها السارق من رباطها فإنه قد أخذها من حرز وهكذا وتبين لنا أن بعض الفقهاء الذين يتشددون في الحرز أنهم مخطئون في ذلك ولعل الإنسان يكون آثماً عندما يحاول دفع الحد عن المجرم بأوهى سبب
رابعاً : أن القطع في السرقة هو أن تقطع من مفصل الكف في اليد اليمنى فإن عاد فسرق قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم .
الحديث الثاني : عن عائشة رضي الله عنها والقول فيه كما سبق في حديث ابن عمر رضي الله عنه أما ثبوت الحد فهو يثبت بالاعتراف كما في حديث صفوان ابن أمية الذي شهد فيه السارق على نفسه بالسرقة أو بالبينة وبالله تعالى التوفيق .
الحديث الثالث : عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله فكلمه أسامة فقال أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فاختطب فقال إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها .
وفي لفظ كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها
موضوع الحديث :وجوب المساواة في إقامة الحدود بين الأشراف والضعفاء
المفردات
أن قريشاً : قريش اسم للقبيلة ويجمع اثني عشر بطناً من العشائر والأشهر أن لقب قريش اسم لبني فهر(5/54)
أهمهم : أشغلهم وعظم عليهم شأن المخزومية التي سرقت ذلك أن بني مخزوم كانوا من أشراف قريش في زمن الجاهلية فشغلهم أمرها لكونها سرقت وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها فرأوا أن ذلك عار يلحقهم فطلبوا من يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضانين أن الوساطة تنفع عنده كما تنفع عند غيره
من يجترئ : ومعنى يجترئ أي يستطيع أن يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أسامة بن زيد وأسامة بن زيد بن حارثة هو حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن حبه لأنه ابن مولاه زيد بن حارثة الذي أشار القرآن الكريم إليه بقوله ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ) [ الأحزاب : 37] وحب بمعنى محبوب وزيد بن حارثة قد ذكرنا قصته فيما مضى
قوله فكلمه أسامة فقال أتشفع في حد من حدود الله : الهمزة للاستفهام الإنكاري
قوله ثم قام فاختطب : أي خطب الناس مبيناً لهم عواقب هذا الصنيع وهو إقامة الحد على الضعيف وتركه عن الشريف .
قوله إنما أهلك الذين من قبلكم : أي أوقع عليهم الهلاك والذم من قبل الله عز وجل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه والمراد بالشريف من له حسب وجاه وشعبية تحميه وإذا سرق فيهم الضعيف وهو من لا حسب له ولا جاه ولا شعبية أقاموا عليه الحد : أي عملوه فيه غير مبالين بما ارتكبوا من جريمة بترك الحد عن الشريف وإقامته على الضعيف والوضيع .
وأيم الله : هذا يمين على المشهور
لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها : لو حرف وجود لوجود أي لو وجدت منها السرقة لوجد مني القطع ليدها
المعنى الإجمالي(5/55)
هذا حديث عظيم من أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يبين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يثنيه عن تنفيذ أمر الله عز وجل على من استحقه بما عمل من السبب لا يثنيه عن ذلك شرف الفاعل ولا قرابته ولا محسوبيته فقد أقسم - صلى الله عليه وسلم - أنه لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع يدها ولا يمنعه عن ذلك كونها ابنته وهذا مقام عظيم لا يثبت فيه إلا الأولياء والأصفياء وأولوا العزم من رسل الله عز وجل فذاك إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام حين رأى أنه يذبح ابنه عزم على التنفيذ ولم يثنه شفقة الأبوة وحنوها على الابن وبذلك أثنى الله عليه بقوله ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) [ النجم : 37 ] أي وفى ما أمر به .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث ما كان عليه أهل الجاهلية من حمية الجاهلية التي يحاولون بها الامتناع عن حدود الله لو استطاعوا ولكونهم لا يستطيعون ذلك فقد توسطوا بالشفاعة من حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن حبه في ترك القطع عنها
ثانياً : أن الناس كلما كانوا ألصق بالدنيا وأنانيتها وعظمتها المزعومة كان الشيطان ينفخ فيهم ويجعلهم يمتنعون عن إقامة حدود الله لو استطاعوا
ثالثاً : أنهم توسطوا بحب رسول الله وابن حبه أسامة بن زيد في ترك ما أمر الله به فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أسامة بن زيد رغم مودته له وأنكر عليه قائلاً ( أتشفع في حد من حدود الله )
رابعاً : أحس أسامة بن زيد بالخطأ والخجل وشعر بإساءته فطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر له
خامساً : لم يكتف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتأنيب أسامة بن زيد فقد قام خطيباً وأطلقها صريحة إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد(5/56)
سادساً :ينبغي أن نتذكر حديث الزانيين اليهوديين اللذين رجمهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل اليهود عن الرجم هل هو في التوراة وأن الله أمرهم به فحاولوا جحده أولاً ولما انكشف الأمر قال له بعض علمائهم بأن الذي نزل في التوراة الرجم ولكنهم كانوا إذا زنا فيهم الضعيف رجموه وإذا زنا فيهم الشريف تركوه كالحال في السرقة فعند ذلك اتفقوا على التسويد والتجبيه بدلاً عن الرجم وبدلوا أمر الله عز وجل فغضب الله عليهم
سابعاً : عند ذلك أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله أيم الله لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وفي هذا تأييس للذين يحاولون صرف المسئول عن إقامة حد الله عز وجل لكي يعلموا أنه لا نجاة للعباد إلا بإقامة أمر الله عز وجل (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) [ المائدة : 65 ،66 ]
ثامناً : فاطمة بنت محمد حاشاها من السرقة ولكن هذا مثل ليعلم به القوم الذين أرادوا منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قطع يد المخزومية ليعلموا بذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يثنيه عن تنفيذ أمر الله شيء .
تاسعاً : يؤخذ منه قطع يد السارق لقول الله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [ المائدة : 38]
عاشراً : لكون السارق غالباً يسرق باليمين فإنها تقطع يمينه من مفصل الكف
الحادي عشر:أن هذا الحكم من الله عز وجل جزاءً لمن يستعمل يمينه في أخذ حقوق العباد أن تقطع يده اليمنى ويحرم منها ومن منفعتها(5/57)
الثاني عشر :لنتذكر قول الله عز وجل ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ ) [ الحجر : 49 ، 50 ] وقوله عز وجل ( حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) [ غافر : 1 – 3 ]
فكما أن رحمته واسعة فإن عذابه أليم ولا يظلم الله أحداً ولكن الناس أنفسهم يظلمون فمن أقيم عليه الحد بسبب سرقته فلا يظن أن الله ظلمه وليعلم أن الذي حصل له إنما هو بسبب جرمه وإسائته .
الثالث عشر :ينبغي أن نعلم حرمة حقوق الناس وأنها حرمة عظيمة فمن سرق مالاً تافهاً لغيره قطعت يده التي تساوي قيمتها نصف دية نفسه وجاء في الحديث (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ ) (1)
__________
(1) مسلم في كتاب الإيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجره رقم 137 والنسائي في كتاب آداب القضاة باب القضاء في قليل المال وكثيره رقم 5419 ومالك في كتاب الأقضية باب ما جاء في الحنث على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 1435والدارمي في كتاب البيوع باب فيمن اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه رقم 2603 وابن ماجة بدل ( قضيباً ) (سواكاً ) في كتاب الأحكام باب من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالاً رقم 2324 .(5/58)
الرابع عشر: ذهب الإمام أحمد إلى أن من يستعير المتاع ويجحده تقطع يده للرواية التي وردت في هذا الحديث وخالفه في ذلك جماهير أهل العلم واعتبروها رواية شاذة وزعموا أن القطع ليس من أجل جحد العارية ولكن من أجل وجود السرقة كما وردت بذلك روايات
الخامس عشر : أن الشفاعة في الحدود بعد وصولها إلى السلطان لا تجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الذي سرق رداء صفوان بن أمية فاعترف فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يده فقال صفوان بن أمية دعه يا رسول الله ردائي صدقة عليه فقال رسول الله هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به )
السادس عشر: يؤخذ منه جواز الشفاعة في الحدود وغيرها قبل أن تصل إلى السلطان فإن وصلت إليه حرم ذلك
السابع عشر :مفهوم هذا أي مفهوم الحديث أن الشفاعة في غير الحدود جائزة حتى لو بلغت إلى السلطان لكن في الحدود غير جائزة إلا قبل بلوغ السلطان وأيضاً في هذه الحالة إذا كان الذي حصلت منه الجريمة معروف بالشر وبأذية المسلمين فإن الشفاعة في مثل هذا لا تجوز بحال وبالله التوفيق
باب حد شارب الخمر
يلاحظ على من وضع هذه الترجمة وهي قوله باب حد الخمر وهذا الكلام خطأ فإن الحد إنما هو على شربها فمن وجدت عنده خمر لم يجلد من أجل وجودها عنده إلا تعزيراً ولكن يوعظ وأن بقاءها عنده إدمان
أورد فيه الحديث الأول حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدة نحو أربعين قال وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبدالرحمن بن عوف أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر رضي الله عنه
موضوع الحديث :حد شارب الخمر هل هو أربعون أو ثمانون
المفردات(5/59)
أتي برجل : لم يعرف من هو هذا الرجل إلا أنه قد ذكر أن أَنَّ رَجُلا من الصحابة عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (1)
الخمر : يسمى به كل شراب بلغ إلى حد الإسكار وقد قام عمر رضي الله عنه خطيباً فقال الخمر ما خامر العقل أهـ . وهو إما مشتق من التخمير الذي هو التغطية وذلك أنها تغطي العقل وإما مشتق من المخامرة التي هي المخالطة والقول الأول لعله هو الأقرب لكونها تغطي العقل وتمنعه من معرفة الحقائق
بجريدة : الجريدة تطلق على كل عود سواء كان أخضراً أو يابساً ولعله في الأخضر أشهر وفي محيط المدينة النبوية قد يكون أن إطلاق الجريدة يراد به جريد النخل
قوله نحو أربعين : هذه اللفظة تدل على أن الأربعين تقديراً لا تحديداً
قوله وفعله أبو بكر : أي جرى على ما كان عليه الأمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان عمر استشار الناس : أي طلب الرأي والمشورة منهم ولعل السبب أن الناس لما حصلت لهم النعمة بطر بعضهم بها وأكثروا من شرب الخمر
__________
(1) البخاري في كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج رقم 6780(5/60)
قوله أخف الحدود ثمانون : المراد به هنا الحدود المنصوص عليها بالضرب فحد الزنا إذا كان الزاني بكراً مائة جلدة وحد الفرية ثمانون وحد الزاني المحصن الرجم بالحجارة حتى يموت وحد السرقة قطع اليمين من مفصل الكف إذاً فحد الفرية ثمانون بنص الكتاب وأشار عبدالرحمن بن عوف باعتماده فأمر به عمر رضي الله عنه فكان سنة في الشارب
المعنى الإجمالي
يخبر أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب شارب الخمر بجريدة نحو أربعين وأن أبا بكر جرى على ما كان عليه الأمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان زمن عمر رضي الله عنه وكثرت الفتوح وفاضت الأموال وكثر الوقوع في شرب الخمر ممن لم يكن عندهم من الإيمان ما يردعهم عن ذلك فاستشار عمر رضي الله عنه الصحابة أي استشارهم في الزيادة على الأربعين أو الاكتفاء بها فكأنهم رأوا الزيادة حسماً لذلك التوارد على شرب الخمر من كثير من الناس ليكون في تلك الزيادة زاجراً ورادعاً لهم .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم شرب الخمر وهو إجماع والله سبحانه وتعالى قد حرم شربها في كتابه وبين أن الشيطان حريص على إيقاع العبد فيما حرم الله عز وجل فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : 90 ، 91 ]
ثانياً : يؤخذ من هذا الحديث وجوب الحد على شاربها سواء شرب كثيراً أو قليلاً(5/61)
ثالثاً :اختلف أهل العلم في حد شرب الخمر فذهب الشافعي إلى أنه أربعون وبه قال داود الظاهري وأبو ثور وقال الشافعي للإمام أن يبلغ به الثمانين إن رأى ذلك لفعل عمر رضي الله عنه وقال الجمهور أن حد شارب الخمر ثمانون جلدة وممن قال بذلك مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وابن المنذر
قلت : والذي نص عليه في مذهب الإمام أحمد روايتان رواية كمذهب الشافعي أنه أربعون ورواية كمذهب الجمهور أنه ثمانون
رابعاً : الجلد في حد الخمر يكون بالجريد والنعال والسياط ويجوز أن يكون بعضه بالثياب لا كله والضرب بالسوط أوجع للمضروب وأكثر ردعاً للمتربص
خامساً :يؤخذ من هذا الحديث جواز مشاورة الإمام لأهل الحل والعقد من رعيته
سادساً: ليس على الإمام لوم إذا تبع رأياً من الآراء المعروضة لما رأى من المصلحة في العمل به .
سابعاً : قد ورد في حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الشارب إذا عاد للشرب في المرة الرابعة وأجمع من يعتد به على عدم العمل بهذا الحديث ورأوا أنه منسوخ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى برجل يشرب الخمر كثيراً فيجلده حتى قال بعض من حضر لعنه الله ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسكران فأمر بضربه فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضربه بثوبه فلما انصرف قال رجل ما له أخزاه الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)(1) فسماه أخاً ولم يقتله مع تكرر شربه للخمر فكان ذلك ناسخاً للحديث الذي ورد والله تعالى أعلم
الحديث الثاني :عن أبي بردة بن نيار البلوي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله )
__________
(1) البخاري في كتاب الحدود باب لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج رقم 6781 .(5/62)
موضوع الحديث : التعزير وهل يجوزأن يبلغ به أدنى الحدود أو لا يجوز في ذلك نظر
المفردات
أبو بردة بن نيار لعلها تقدمت ترجمته في باب العيدين وهو خال البراء بن عازب البلوي نسبة إلى بليّ بطن من قضاعة وهو كان حليفاً للأنصار
قوله لا يجلد : الجلد هو ضرب الجلد يقال جلده إذا ضرب جلده إما في تعزير أو حد
فوق عشرة أسواط : يعني أكثر منها
إلا في حد من حدود الله : الحد يطلق ويراد به العقوبة المقدرة شرعاً على بعض الذنوب ويطلق ويراد به محارم الله عز وجل وقد ورد في الشرع على الأمرين فمن الأول قوله تعالى ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ) [ البقرة : 229 ] ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا )[ البقرة : 187] ومن الثاني الحدود المقدرة كحد السرقة وحد الفرية وحد الزاني البكر وما أشبه ذلك
المعنى الإجمالي
يخبر أبو بردة بن نيار رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن يجلد المسلم فوق عشرة أسواط إلا أن يكون ذلك في حد من حدود الله عز وجل .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث أولاً : النهي عن الزيادة على عشرة أسواط في العقوبة غير المقدرة وكما قد أشرنا أن أهل العلم اختلفوا في الحد فمنهم من حمله على الحدود المقدرة ومن قال أقل الحدود حد الخمر وهو أربعون جلدة قال لا يزاد في التعزير على تسع وثلاثين جلدة وذلك أقل الحدود ومن قال أن الحد في الخمر ليس حداً مقدراً وإنما هو تأديب وتعزير ولذلك جاز الضرب فيه بالنعال والثياب ولكن أدنى الحدود حد الفرية وهو ثمانون ومن قال بذلك قال لا يزاد في التعزير على تسعة وسبعين سوطاً .
وقال قوم أن أدنى الحدود عشرون وهو أن العبد يضرب نصف الحد ويضرب نصف الأربعين عشرين جلدة وإذاً فلا يزاد في التعزير على تسعة عشر جلدة(5/63)
ثانياً : من قال أن الحد المراد به الذنب الذي يكون فيه مخالفة لأمر الله عز وجل فهو يرى أن من عزر على كبيرة لا يزاد تعزيره على عشرة أسواط . والمسألة خلافية كما ترى والسلف مختلفون في ذلك ومن اقتنع برأي من العلماء المعتبرين الذين يجوز لهم الاجتهاد ينبغي أن يعمل عليه إلا أن مثل هذا ألصق بعمل القضاة وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثاني الخلفاء الراشدين وصاحب الاجتهادات العظيمة قد ضرب صبيغاً مائة جلد ثم مائة جلدة ثم أراد أن يضربه في المرة الثالثة فقال يا أمير المؤمنين إن كنت قاتلي فاقتلني فسيره إلى الكوفة ونهى عن مجالسته حتى حلف لأبي موسى أن ما كان يجده في رأسه قد ذهب فقال له خل بينه وبين الناس فكيف يحمل عمل عمر رضي الله عنه مع أن الرجل الذي ضربه كان ظاهر عمله عملاً لا ينكر وهو أنه كان يسأل عن المتشابة ولكن بفراسة عمر رأى أنه يريد أن يثير فتنة فضربه ذلك الضرب فكيف الجواب عن مثل هذا ؟(5/64)
والحقيقة أن الجواب على مثل هذا فيه شيء من الصعوبة وسأقول بما فتح الله وأسأل الله أن يسددني في ذلك فأقول : تفرس عمر رضي الله عنه من ذلك الرجل وكأنه قد بلغه عنه أنه كان يكثر السؤال عن المتشابه فحين قال له ما الذاريات ذرواً ما الحاملات وقراً ما الجاريات يسراً ؟ فأجابه عمر رضي الله عنه ثم قال له من أنت قال أنا عبد لله صبيغ فأمر بجريد من نخل وحسر عن ذراعيه وقال وأنا عبدالله عمر فضربه ثم أمر به فترك حتى برأ ثم عاد إليه فضربه مائة جلدة ثم تركه حتى برأ ثم عاد إليه فضربه فقال إن كنت قاتلي فاقتلني فأقول إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد تفرس أن هذا الرجل في نفسه شك وأنه يريد أن يثير أسألة حول القرآن ورأى أن ذلك سيفتح باب فتنة فضربه ذلك الضرب وحيث أن الأمر الذي اتهمه به لم يكن واضحاً غاية الوضوح حتى يوجب قتله فضربه من أجل أن يرتدع هو وأمثاله والذي يظهر لي أن عمل ذلك الخليفة الموفق عمل موفق أيضاً أراد أن يحمي به الدين وهذا من توفيق الله لهذا الإمام هذا ما يظهر لي وأرجو أنه الحق إذاً فلا تنافي بين قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله وبين فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه رأى أن في ذالك حماية للدين فكان ذلك من حدود الله وبالله تعالى التوفيق .
كتاب الأيمان
الأيمان جمع يمين والمقصود به الحلف سمي الحلف يميناً لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد منهم بيمين صاحبه وهي في الشرع تحقيق الشيء أو تأكيده بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته مثال ذلك والله إني لصادق . أما التمثيل للحلف في صفة من صفات الله كقول القائل وعزة الله إني لصادق فيما قلته .
أما النذور فهي جمع نذر والنذر شرعاً أن يوجب الإنسان على نفسه شيئاً لم يجب عليه بمحض الشرع كأن يقول لله عليّ أن أصلي كل ليلة كذا ركعة تطوعاً أو أصوم في كل شهر كذا يوماً تطوعاً .(5/65)
الحديث الأول :عن عبدالرحمن (1) بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا عبدالرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير .
موضوع الحديث
النهي عن سؤال الإمارة وتعليل ذلك بأن من أعطيها عن مسألة وكل إليها ومن أعطيها عن غير مسألة أعين عليها والأمر بالوفاء باليمين والتكفير عنها إن كان الوفاء خيراً
المفردات
الإمارة : هي الولاية ولعلم الشارع أن النفوس تحرص عليها نهى عن ذلك معللاً بما تقدم
معنى وكلت إليها :أي تركت ونفسك واستولى عليك الشيطان وأدخلك فيما لا يجوز
ومعنى أعنت عليها : أي جعل الله لك عوناً بمعرفة وجهة الحق ولا يجعله ملتبساً عليك
إذا حلفت على يمين : أي على شيء تريد فعله أو تركه فرأيت بعد ذلك أن عدم الوفاء بها خير من الوفاء بها فكفر عن يمينك أي قد جعل الله لك مخرجاً بأن تكفر عن يمينك وتأتي الذي هو خير .
المعنى الإجمالي
في هذا الحديث ينهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سؤال الإمارة معللاً ذلك بأن من أعطيها عن مسألة وكل إليها أي خذل وترك لرغبته في الدنيا وإيثارها على الآخرة وأن من أعطيها عن غير مسألة أعين عليها بأن يسدده ربه وأن الحلف على شيء لا يجعله الحالف مانعاً له من فعل الخير إذا رآه في غير جهة اليمين ولذلك فإن له أن يتخلص من اليمين بالتكفير ثم يأتي الذي هو خير
فقه الحديث
__________
(1) عبدالرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس العبشمي أبو سعيد صحابي من مسلمة الفتح يقال كان اسمه عبدكلال افتتح سجستان ثم سكن البصرة ومات بها سنة خمسين أو بعدها(5/66)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث كراهية سؤال الإمارة وهذا النهي يعززه ما ورد في الحديث الذي رواه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ ) (1) وكذلك ما ورد في حديث أَبُي بُرْدَةَ قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعِي رَجُلانِ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِي فَكِلاهُمَا سَأَلَ الْعَمَلَ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَاكُ فَقَالَ مَا تَقُولُ يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قَالَ فَقُلْتُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَطْلَعَانِي عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمَا وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ قَالَ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ تَحْتَ شَفَتِهِ وَقَدْ قَلَصَتْ فَقَالَ لَنْ أَوْ لا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ فَبَعَثَهُ عَلَى الْيَمَنِ ... الحديث ) (2)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب ما يكره من الحرص على الإمارة رقم 7148 ورواه النسائي في كتاب البيعة باب ما يكره من الحرص على الإمارة رقم 4211 ورواه أيضاً في كتاب آداب القضاة باب النهي عن مسألة الإمارة رقم 5385 وابن حبان برقم 4482 .
(2) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم رقم 6923ورواه مسلم في كتاب الإمارة باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها رقم 1652 والنسائي في كتاب الطهارة باب هل يستاك الإمام بحضرة رعيته رقم 4 ورواه أبو داود في كتاب الحدود باب الحكم فيمن ارتد رقم 4354 ..(5/67)
فأرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - أي أرسل أبا موسى أميراً على اليمن فدل ذلك على أن طلب الإمارة والولاية مكروهاً لما يترتب على ذلك من خذلان الله للعبد إن طلب الولاية .
ثانياً : إذا علم المسئول عن شخص بأنه مستحق لتلك الولاية وأشار عليه بذلك من لا يتهم فأراد السلطان أن يوليه ذلك العمل وشعر المولى من نفسه بالكفاية ولم يكن على الساحة من هو خيراً منه ففي هذه الحالة ينبغي له أن يقبلها بعد استخارة واستشارة وعدم تسرع إلى الإجابة ويستأنس لهذا بقول يوسف عليه السلام ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) [ يوسف : 55 ]
ثالثاً : أن من تولى القضاء أو الولايات الكبيرة يجب عليه أن يكثر من التضرع بين يدي الله عز وجل أن يعينه ويسدده وهو حري إن فعل ذلك أن الله عز وجل سيسدده ويعينه
رابعاً : النهي عن طلب الإمارة يتجه والله أعلم إلى الولايات الكبيرة التي يكون فيها والياً على جملة أشياء والتي يكون فيها سلطة يتسلط بها الوالي أما الوظائف الصغيرة التي تطلب ويطلب القيام بها من أجل سداد ثغرة من الثغرات يحتاج إليها في العمل فهذه لا تكون من الولايات المرموقة التي نهي عن طلبها
خامساً : قوله وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير يؤخذ من هذا أن من حلف على يمين أن لا يفعل كذا أو أن يفعل كذا ولكنه رأى الخير في ترك ما حلف على فعله أو فعل ما حلف على تركه فإنه يشرع له التخلص من تلك اليمين بالتكفير عنها واتيان الذي هو خير
سادساً : اختلف أهل العلم هل يجوز التكفير قبل الحنث ؟(5/68)
فذهب قوم إلى جوازه مطلقاً قال ابن الملقن وبه قال أربعة عشر من الصحابة وجماعات من التابعين ومالك والشافعي والأوزاعي والثوري والجمهور لكن قالوا يستحب كونها بعد الحنث واستثنى الشافعي التكفير بالصوم فقال لا يجوز قبل الحنث لأنه عبادة بدنية فلا يجوز تقديمها قبل وقتها كالصلاة وقال أبو حنيفة وأصحابه وأشهب من المالكية بعدم جواز تقديمها على الحنث مطلقاً .
سابعاً : أما الأدلة فقد جاءت كما يلي
فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير
الرواية الثانية : وائت الذي هو خير وكفر عن يمينك
الرواية الثالثة : فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير
وهذه الرواية الأخيرة دالة على جواز تقديم التكفير على الحنث لقوله فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير وهي دليل الجمهور وهناك مسألة أخرى في حديث أبي موسى حينما جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحملونه ولم يكن عنده شيء من الإبل فحلف ألا يحملهم لأنه لا يجد ما يحملهم عليه فجاءت إبل من إبل الصدقة فأرسل إليهم يدعوهم وأعطاهم ست قلائص غر الذرى فلما خرجوا من عنده قال أبو موسى لأصحابه والله لا نصيب خيراً فقد استغفلنا رسول الله عن يمينه فرجعوا وأخبروه فقال والله إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ويحتمل أنه أرسل إليهم قبل التكفير وعلى هذا فالذي يترجح عندي أن العزم على الحنث بمنزلة الحنث توضيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف ألا يحملهم في حالة كونه لا يجد ما يحملهم عليه فلما وجد بوجود إبل الصدقة عند ذلك عزم على الحنث وأرسل إليهم فحملهم وهذا هو القول الصواب في نظري(5/69)
ثامناً : ما معنى الحنث ؟ الحنث هو وقوع خلاف ما حلف عليه أي مخالفة جهة اليمين فحينما حلف ألا يحملهم وأرسل إليهم فحملهم ولعله قد كفر قبل أن يرسل إليهم ومن هنا نقول أن الحنث هو مخالفة اليمين ومعنى الحنث الإثم فإنه إذا خالف يمينه من غير أن يكفر أثم والخروج من الإثم بالتكفير عن اليمين
تاسعاً : ما هي كفارة اليمين ؟ كفارة اليمين أربعة أمور ثلاثة منها مرتبة وهي المذكورة في قوله تعالى ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) فبدأ الله عز وجل بالأسهل وهو إطعام عشرة مساكين ثم أتبعه بما هو أعلى وأصعب وهو كسوة المساكين العشرة ثم أتبعه بعتق الرقبة ثم قال ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ) [ المائدة : 89 ] فجعل الصيام مرتباً بعد الثلاثة ويكفر به عند عدم وجود الثلاث المذكورة وبالله التوفيق .
الحديث الثاني : عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها
موضوع الحديث: أفضلية تكفير اليمين والرجوع عن الاستمرار فيها
المفردات
قوله لا أحلف على يمين المقصود بالحلف هو اليمين وإنما أراد لا أحلف على شيء يميناً فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير
قوله خيراً منها : أي خيراً من الاستمرار فيها بحيث أعزم على تحنيث نفسي وتحللي من اليمين لكي آتي الذي هو خير
المعنى الإجمالي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن نفسه بأنه إذا حلف على يمين ثم بعد ذلك رأى أن الخير في عدم الاستمرار عليها تركها بترك ما حلف عليه وكفرها وأتى الذي هو خير
فقه الحديث(5/70)
أولاً : أن هذا الحديث قد ورد على سبب كما تقدم في شرح الحديث قبل هذا وهو أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وجماعة معه يستحملونه أي يطلبون منه أن يحملهم فقال والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فذهبوا وبعد أن ذهبوا أرسل في أثرهم حين أتته إبل الصدقة فأعطاهم ست قلانص أو خمس ذكر في صفتها أنها غر الذرى والذرى جمع ذروة وهي سنام البعير فحملهم عليها قال أبو موسى فلما خرجنا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت لأصحابي والله لا نصيب خيراً فقد استغفلنا رسول الله يمينه فرجعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا يا رسول الله إنا جئناك أولاً فحلفت ألا تحملنا ثم أرسلت في أثرنا وحملتنا فلما خرجنا قلت لأصحابي والله لا نفلح وقد استغفلنا رسول الله يمينه فرجعنا إليك أو كما قال أبو موسى فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث الموجود هنا ( إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ... ) الحديث
ثانياً : يؤخذ منه أن الحلف على الشيء لا يعتبر شيئاً مانعاً لا يجوز خلافه بل يجوز أن تعزم على الحنث فتحنث نفسك وتأتي الذي هو خير ثم تتحلل يمينك أو تكفر يمينك ثم تأتي الذي هو خير
ثالثاً : يؤخذ منه جواز التأكيد بقوله إن شاء الله بعد اليمين إذا كان للتبرك وإنه في هذه الحالة لا يرفع حكم اليمين ويجوز الاستثناء باليمين بقصد إبطال حكمها ولكن بشرط أن يكون الاستثناء متصلاً وسيأتي بحث الاستثناء في الحديث بعده(5/71)
رابعاً : أنه يجوز التحلل من اليمين بعمل الكفارة لقوله وتحللتها وقد خالف في ذلك بعض أهل العلم في هذه المسألة أي في جواز الحنث قبل التكفير وبذلك قال أبو حنيفة أي قال بعدم جواز الحنث قبل التكفير والقول الأول أصح لورود الحديث بذلك وقد قلنا أن القول الصحيح جواز الحنث قبل تحلل اليمين بالكفارة فهو إذا عزم على ذلك وبقيت الكفارة فحينئذ يجب عليه أن يؤديها وقد ترجم البخاري على باب الكفارة قبل الحنث وبعده وبالله التوفيق.
الحديث الثالث : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم
وفي رواية لمسلم من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت
وفي رواية قال عمر والله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاكراً ولا آثراً . يعني ما ما حلفت حاكياً عن غيري أنه حلف بها
موضوع الحديث : تحريم الحلف بغير الله كالآباء وغيرهم
المفردات
من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت : يعني ليسكت
قوله ذاكراً ولا آثراً : أي ما حلفت بغير الله متعمداً ولا حاكياً ذلك عن غيري
المعنى الإجمالي
سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يحلف بأبيه فقال ورأس أبي فناداهم النبي - صلى الله عليه وسلم - رافعاً صوته إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث تحريم الحلف بغير الله عز وجل وأنه لا يجوز لأحد أن يحلف بغير الله
وهل النهي هنا يقتضي التحريم أو الكراهة ؟
صرح بعض القدماء بالكراهة أي كراهة التنزيه والقول الصحيح أن ذلك محرم ويؤخذ التحريم من كونه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الله نهى عن ذلك ولا ينهى الله عز وجل عن شيء نهياً معزوماً عليه إلا وهو محرم(5/72)
ثانياً : ومما يستفاد منه تأكيد التحريم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ناداهم رافعاً صوته بقوله يا أيها الناس إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت
ثالثاً : يؤخذ منه أن الحلف بالمخلوق تعظيم له ولا ينبغي أن يعظم مع الله عز وجل أحد
رابعاً : بلغني أن أقواماً من الناس يتجرئون على الحلف بالله ولا يتجرئون على الحلف بغيره فإذا أتهم أحدهم بشيء وطلب منه يمين البراءة حلف على ذلك بالله وإذا قيل له احلف بالولي الفلاني أبى وتلعثم ورفض الحلف به وهذا كفر يخرج من الملة لأن من عظم غير الله كتعظيم الله أو أكثر من ذلك فإن عمله هذا يخرجه من الملة(5/73)
خامساً : الحلف بغير الله يعتبر من الشرك الأصغر الذي لا يخرج من الإسلام بدليل أن المسلمين كانوا في أول الإسلام يحلفون بالكعبة (1)
__________
(1) الترمذي في كِتَاب النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ باب من حلف بغير الله فقد أشرك رقم1535 والنسائي في كتاب الأيمان والنذور باب الحلف بالكعبة رقم 3773 وأبو داود في كتاب الأيمان والنذور رقم 3251 صححه الألباني ..(5/74)
ويحلفون بالنبي (1) - صلى الله عليه وسلم - ويحلفون بآبائهم (2) ثم أن الله حرم عليهم ذلك فلو كان الحلف بغير الله يعد من الشرك الأكبر المخرج من الإسلام لم يفعله المسلمون في أول إسلامهم وذلك دليل أنه من الشرك الأصغر وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله جل ذكره أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه مثني تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظمك ربنا فيرد عليه ما علم ذلك من حلف بي كاذبا )(3)
__________
(1) سنن ابن ماجة في كِتَاب الْكَفَّارَاتِ بَاب يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يَحْلِفُ بِهَا رقم 2117 ( قال الألباني حسن صحيح ) والنسائي في كتاب الأيمان والنذور باب الحلف بالكعبة رقم 3773 وأحمد برقم 1839 و1964 و2561 و3247
(2) البخاري في كتاب المناقب باب أيام الجاهلية رقم 3836 وفي كتاب الأيمان والنذور باب لا تحلفوا بآبائكم رقم 1646 ورقم 1648 وفي كتاب التوحيد باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها رقم 7401 ومسلم في كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله رقم 1646 وابن ماجة في كِتَاب الْكَفَّارَاتِ بَاب يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يَحْلِفُ بِهَا رقم 2101 والنسائي في كتاب الأيمان والنذور باب التشديد في الحلف بغير الله تعالى رقم 3764 ورقم 3769 و3774 وأبو داود في كتاب الأيمان والنذور رقم 3248
(3) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم 7324 وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب في كتاب البيوع وغيرها رقم 1839 و في سلسة الأحاديث الصحيحة رقم150 وصحيح الجامع رقم 1714 ( قال الألباني صحيح )(5/75)
سادساً : لا تنافي بين كونه من الشرك الأصغر وبين جعل بعض أنواعه شركاً أكبر مخرجاً من الملة فإنما حكم على ذلك النوع بأنه شرك أكبر مخرج من الملة لأن الحالف عظم فيه المخلوق أكثر من تعظيمه لله عز وجل
سابعاً : يؤخذ من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما حلفت بها بعد ذلك ذاكراً ولا آثراً وذلك يدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا وقافين عند الأوامر والنواهي ممتثلين لها فعلاً وتركاً وذلك دليل على عمق إيمانهم رضي الله عنهم ولعنة الله على من سبهم وتنقصهم وبالله التوفيق .
الحديث الرابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله فقيل له قل إن شاء الله فلم يقل فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان ذلك دركاً لحاجته )
قوله قيل له قل إن شاء الله يعني قال له الملك
موضوع الحديث :الاستثناء في اليمين
المفردات
سليمان بن داود عليهما السلام هو نبي وأبوه نبي وكان بعد موسى بحوالي ألف سنة وقبل عيسى بحوالي تسع مائة سنة أما ترجمة سليمان فمن أرادها مبسوطة وكذلك ترجمة أبيه ففي كتاب البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله ترجمة لكل منهما
قوله لأطوفن : اللام لام قسم أي والله لأطوفن
قوله سبعين امرأة وفي رواية تسعين امرأة وفي رواية ستين امرأة كل هذه الروايات صحيحة
قوله تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله : هذا إخبار عما يعتقده ذلك النبي إذ يعتقد ويقصد بالزواج ومجامعة النساء تكثير الأولاد ليجاهدوا أهل الكفر الذين كانوا في ذلك الزمن
فقيل له قل إن شاء الله : هذا تذكير من الملك لنبي الله سليمان
فلم يقل : يعني أنه نسي وقد أنساه الله عز وجل ليتم فيه القدر
فطاف بهن : أي جامعهن(5/76)
فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان ذلك دركاً لحاجته
قوله دركاً لحاجته : أي كان سبباً في إدراكها
المعنى الإجمالي
المعنى الإجمالي لهذا الحديث هو أن سليمان عليه السلام قال لجليسه إما أن يكون الملك وإما أن يكون وزيراً له لأطوفن الليلة على سبعين امرأة أخبر أنه سيجامعهن جميعاً تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله فقيل له قل إن شاء الله أي أن جليسه ذلك ذكره بالاستثناء فلم يقل فطاف بهن أي دار عليهن جميعاً وجامعهن كلهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان أو شق إنسان وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لو قال إن شاء الله لما حنث في يمينه ولكان ذلك سبباً لإدراك حاجته .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث عمل المباح لغرض ديني إذ أن سليمان عليه السلام قصد بدورانه على هذه العدة من النساء قصد بذلك أنه يكون سبباً في وجود الولد أو في وجود الأولاد الذين يجاهدون في سبيل الله وتكثيرهم
ثانياً : يؤخذ منه ما كان عليه الأنبياء من علو المقاصد إذ أن سليمان عليه السلام لم يرد وجود الأولاد من أجل الدنيا وإنما أراد ذلك من أجل الجهاد في سبيل الله(5/77)
ثالثاً : أنه يجوز للمسلم التحدث بمثل هذا الذي يكون فيه إجمال إذا كان لحاجة أما بدون حاجة فإنه لا يجوز وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ قُعُودٌ عِنْدَهُ فَقَالَ لَعَلَّ رَجُلا يَقُولُ مَا يَفْعَلُ بِأَهْلِهِ وَلَعَلَّ امْرَأَةً تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَأَرَمَّ الْقَوْمُ فَقُلْتُ إِي وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُنَّ لَيَقُلْنَ وَإِنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ قَالَ فَلا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِثْلُ الشَّيْطَانِ لَقِيَ شَيْطَانَةً فِي طَرِيقٍ فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ ) (1)
رابعاً : يؤخذ من هذا الحديث أن المسلم إذا أراد أمراً ولو كان الأمر خيراً فإنه ينبغي له أن يقول إن شاء الله أولاً تأدباً مع الله وأن كل شيء لا يتم إلا بمشيئته والله سبحانه وتعالى قد قال في كتابه مؤدباً نبيه - صلى الله عليه وسلم - ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) [ الكهف : 23 – 24 ] وثانياً : إن الاستثناء سبب في إدراك الحاجة التي يريدها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان ذلك دركاً لحاجته
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب ما يكره من ذكر الرجل ما يكون من إصابته أهله رقم 2174 رواه الإمام أحمد برقم 28135 وقال الألباني حسن انظر صحيح الجامع رقم 7037 و4008 والصحيحة رقم 3153 .(5/78)
خامساً : اختلف أهل العلم في الاستثناء بعد اليمين وبعد الطلاق وبعد العتق هل يجوز ويرفع حكم ما سبقه في كل ذلك أم أنه لا يرفع إلا حكم اليمين فقط ؟ قال ابن الملقن في شرح العمدة أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله فقال أنت طالق إن شاء الله أو أنت حر إن شاء الله أو أنت عليّ كظهر أمي إن شاء الله وما أشبه ذلك فمذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور صحة الاستثناء في جميع ذلك كما أجمعوا عليها في اليمين بالله فلا يحنث في طلاق ولا عتق ولا ينعقد ظهاره ولا نذره ولا إقراره ولا غير ذلك مما يتصل به قول إن شاء الله وقال مالك والأوزاعي لا يصح الاستثناء في شيء من هذا إلا باليمين بالله تعالى ، وقال الحسن يصح فيها وفي العتق والطلاق خاصة وقال الشيخ تقي الدين فرق مالك بين الطلاق واليمين بالله تعالى وإيقاعه الطلاق بخلاف اليمين بالله لأن الطلاق حكم قد شاءه الله تعالى مشكل جداً ) أهـ
سادساً : القول الصحيح في الاستثناء أنه يشترط فيه أن يكون متصلاً بالكلام إلا إذا طال الفصل أو أخذ في كلامٍ غيره ثم بعد ذلك استثنى فإنه لا يتم الاستثناء بهذه الصفة(5/79)
وينعقد الاستثناء إذا كان متصلاً بالكلام بدون فاصل دليله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر لا يُخْتَلَى خَلاهَا وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلا لِمُعَرِّفٍ فقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا الإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ إِلا الإِذْخِرَ ) (1)
سابعاً : يؤخذ منه أن الأنبياء والرسل منحهم الله طاقة بشرية عالية وفي هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن سليمان عليه السلام طاف على سبعين امرأة أو تسعين امرأة في تلك الليلة والنبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على نسائه التسع ليلة بات بذي الحليفة وفي هذا دليل على أن الأنبياء منحهم الله عز وجل طاقة قوية في الجماع
ثامناً : يؤخذ منه التأدب باستعمال الألفاظ التي لا يكون فيها بشاعة فقد قال سليمان ( لأطوفن الليلة ولم يقل لأجامعن فكان في استعماله بهذا اللفظ تعبير حسن وبالله التوفيق
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم باب كتاب العلم رقم 112 وفي كتاب الجنائز باب الإذخر والحشيش في القبر رقم 1349 وفي كتاب الحج باب لا ينفر صيد الحرم رقم 1833 وفي كتاب الحج باب لا يحل القتال بمكة رقم 1834 وفي كتاب البيوع باب ما قيل في الصواع رقم 2090 وفي كتاب اللقطة باب كيف تعرف لقطة أهل مكة رقم 2434 وفي كتاب الجزية باب إثم الغادر للبر والفاجر رقم 3189 وفي كتاب الديات باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين رقم 6880 ورواه مسلم في كتاب الحج باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها رقم 1353 ورقم 1355 ورواه النسائي في كتاب مناسك الحج باب حرمة مكة رقم 2874 وفي باب النهي أن ينفر صيد الحرم رقم 2892 ورواه أبو داود في كتاب مناسك الحج باب تحريم مكة رقم 2017 وابن ماجة في كتاب المناسك باب فضل مكة رقم 3109 .(5/80)
الحديث الخامس : عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من حلف على يمينٍ صبرٍ يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ونزلت ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ) إلى آخر الآية
موضوع الحديث : اليمين الغموس التي يقتطع بها مال المسلم
المفردات
من : اسم شرط
جملة حلف : فعل الشرط
على يمين : المقصود هنا المحلوف عليه
على يمينٍ صبر : كلمة صبر أي مصبورة بمعنى أنه حبس نفسه عليها أي على فعلها
ورد بالتنوين على يمين صبرٍ وورد بالإظافة على يمينِ صبر وسميت صبراً لأنه تجرأ عليها وأطاع الشيطان وعصى الله فيها
قوله يقتطع بها : هذه صفة لليمين يقتطع بها مال امرئ مسلم
قوله هو فيها فاجر : صفة أخرى لليمين أي أنه كاذب فيها
لقي الله : هذا الفعل هو جواب الشرط وجزاءه
لقي الله وهو عليه غضبان : الواو واو الحال والجملة بعده حالية وهو أي الحال أن الله عليه غضبان
وهذه اليمين هي ما تسمى باليمين الغموس
قوله ونزلت إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً إلى آخر الآية
المعنى الإجمالي(5/81)
اليمين الفاجرة هي اليمين على دعوى كاذبة يدعيها مسلم على مسلم قل نصيبه من الله وخفت بضاعته من الإيمان فرغب في الدنيا وزهد في الآخرة وحلف على شيء لهذا مالي أو حقي وليس ماله ولا حقه فإنه متوعد بهذا الوعيد وهو قول الله عز وجل ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) حتى ولو كان المحلوف عليه شيئاً يسيراً فقد جاء في الحديث أيضاً ( عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ كان قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ ) (1)
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث أولاً : تحريم اليمين الغموس وهي اليمين على دعوى كاذبة يدعيها العبد في مال غيره
ثانياً : هذه اليمين عظيمة لأنها موجبة لغضب الله عز وجل ومعنى عظيمة أي فضيعة آثارها على العبد سيئة عواقبها عليه كريهة ونسأل الله العفو والعافية
ثالثاً : إنما كان ذلك لأن حرمة مال المسلم عظيمة وأخذها بغير حق جريمة
__________
(1) تقدم تخريجه(5/82)
رابعاً : اختلف أهل العلم في تكفير اليمين الغموس هل تكفر أو لا تكفر والقول الصحيح أنها لا تكفر لأن تكفير اليمين إنما يتعلق بيمين يحلف على شيء مستقبل والله لأفعلن كذا أو والله لا أفعل كذا فإذا رأى الحالف أن البر في ترك هذه اليمين وما تقتضيه كفر عنها وأتى الذي هو خير أما اليمين الغموس فهي يمين على شيء مضى بأن يحلف بأن هذا مالي فيدعيه له وهو ليس له سواء كانت سلعة أو داراً أو عقاراً حتى ولو كان سوطاً فإنه يستحق هذا الوعيد وقد اختلف الأئمة في جواز تكفير اليمين الغموس أو عدم جواز ذلك
فالشافعي أجاز تكفيرها والثلاثة منعوا ذلك وهم مالك وأحمد وأبو حنيفة وقول الثلاثة هنا هو الحق
خامساً : يؤخذ من قوله يقتطع بها مال امرئ مسلم التشنيع على الحالف حيث أنه لا يجوز أن يقتطع مال أخيه المسلم بغير حق وإذا كان لا يجوز له أخذ مال الكافر بغير حق فإن أخذ مال المسلم أشد
سابعاً : وإذا كان في ذلك دليل على حرمة مال المسلم فإنه من باب أولى دليل على حرمة دمه وعرضه إلا ما قصد به بيان حق أو دفع باطل
ثامناً : الوعيد في هذه الاية وعيد شديد (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ) المراد بالثمن القليل الدنيا بأسرها فإذا استبدلت الثمن القليل بأن تحلف بالله عز وجل فاجراً عليه فإنك حينئذ قد غبنت أشد الغبن واقرأ كامل الآية واسمع ماذا يقول ربك عز وجل ( أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ آل عمران : 77 ] وعيد ترتعد له المفاصل وتختلج له الأعضاء ممن يخاف الله عز وجل نسأل الله أن يجعلنا ممن يخافه(5/83)
تاسعاً : قال ابن الملقن هذه الآية يدخل فيها الكفر فما دونه من جحد حقوق ونحوها وكل أحد يأخذ من وعيدها على قدر جريمته وهذا كلام جيد حسن مهما كانت الحقوق التي جحدها العبد
عاشراً : أن حكم الحاكم إذا حكم لك بمال غيرك بناءً على اليمين فإن هذا الحكم لا يبيح لك مال الغير والأمر يبقى على حقيقته أي أن ما أخذته باليمين الكاذبة فهو حرام عليك أخذه وبذلك قال الشافعي ومالك وأحمد والجمهور خلافاً لأبي حنيفة
أما قول أبي حنيفة بأن ما حكم به الحاكم يباح أخذه للمحكوم له فهذا قول ضعيف لا يلتفت إليه وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ ) (1) وبالله تعالى التوفيق .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الحيل باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت رقم 6967 ورواه في كتاب الشهادات باب من أقام البيعة بعد اليمين رقم 2680 وفي كتاب الأحكام باب موعظة الإمام للخصوم رقم 7169ورقم 7181 ورقم 7185 وفي كتاب المظالم والغصب باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه رقم 2458 ورواه مسلم في كتاب الأقضية باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة رقم 1713 ورواه النسائي في كتاب آداب القضاة باب الحكم بالظاهر رقم 5401 وباب ما يقطع القضاء رقم 5422 ورواه أبو داود في كتاب الأقضية باب في قضاء القاضي إذا أخطأ رقم 3583 ورواه الترمذي في كتاب الأحكام باب ما جاء في التشديد على من يقضى له بشيء ليس له رقم 1339 ورواه ابن ماجة في كتاب الأحكام باب قضية الحاكم لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً رقم 2317 ورقم 2318 ورواه مالك في كتاب الأقضية باب الترغيب في القضاء بالحق رقم 1424(5/84)
الحديث السادس : عن الأشعث (1) بن قيس الكندي رضي الله عنه قال : كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاهداك أو يمينه . قلت إذاً يحلف ولا يبالي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان
موضوع الحديث : اليمين الغموس
المفردات
خصومة في بئر : أي بسببها
قوله شاهداك أو يمينه : شاهداك خبر لمبتدأ محذوف تقديره المطلوب أو المعتبر شاهداك أو يمينه
قلت إذاً يحلف : أي إذا كان الأمر هكذا فسيحلف لعدم المبالاة
قوله ولا يبالي : يعني أنه لا يبالي ما الإثم في ذلك
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان
من : اسم شرط جازم وحلف فعل الشرط
على يمين صبر : أي يمين مصبورة ومعنى مصبورة أي يحبس نفسه على حلفها
يقتطع بها مال امرئ مسلم : هذه صفة ثانية لليمين
هو فيها فاجر : صفة ثالثة
لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان :هذا جواب الشرط وجزائه
المعنى الإجمالي
هذا الحديث تضمن قصة وهو أن الأشعث بن قيس تشاجر مع خصم له في بئر واحتكما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاهداك أو يمينه فظن الأشعث أن خصمه يحلف ولا يبالي فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين صبر .. إلخ الحديث
فقه الحديث
بعض فقه هذا الحديث قد تقدم في الحديث قبله وهنا سأذكر ما لم يذكر هناك واختص بذكره هذا الحديث فأقول :
__________
(1) هو الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي أبو محمد الصحابي نزل الكوفة مات سنة أربعين أو إحدى وأربعين وهو ابن ثلاث وستين سنة(5/85)
أولاً : يؤخذ من قوله شاهداك أو يمينه حصر أسباب الحكم في شيئين أحدهما : أن تأتي أنت أيها المدعي بشاهدين عدلين يشهدان لك بصحة ما ادعيت
وثانيهما : أن تعجز عن إقامة البينة فيحلف المدعى عليه على نفي ما ادعيت
ثانياً : يؤخذ من الحديث أن المدعي إذا أثبت دعواه ببينة استحق الحكم ويلتحق بذلك أنه يشترط في البينة أن تكون عادلة وأن تكون الشهادة على مقتضى الادعاء وأن يؤتى على كل شاهد بشاهدي عدل يشهدان بعدالة كل واحد منهم فإذا حصل ذلك استحق المدعي الحكم له بما ادعاه .
ثالثاً : إذا انعدمت البينة فله على الخصم اليمين على نفي دعوى المدعي وبذلك يحكم بالسلعة المدعى فيها للمدعي عليه إذا حلف
رابعاً : ظاهر هذا الحديث أن هذه هي طريقة الحكم لا غير ولكن ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم بشهادة واحد ويمين المدعي وقد أخذ بهذا جمهور أهل العلم وأبى أبو حنيفة فلم يقل بذلك الحديث
خامساً : تدل فدلكة القصة أن من ادعى شيئاً أي شيء كان فعليه أن يثبت دعواه وإن لم يثبت بالبينة فعلى المدعى عليه يمين البراءة ولا يختص ذلك بالأموال بل يدخل في ذلك الدعاوي في الأعراض فمن ادعى على شخص أنه رماه في عرضه وأنكر المدعى عليه فعلى المدعي إحضار بينة بذلك فإن عجز فعلى المدعى عليه اليمين أنه لم يفعل ذلك
سادساً : أنه إذا حلف على النفي كاذباً وقد وقع منه استحق هذا الوعيد ولا تختص المسألة بالدعوي المالية وبالله التوفيق .
الحديث السابع : عن ثابت (1)
__________
(1) ثابت بن الضحاك لم تسبق له رواية ولهذا فإنه لم يترجم ومن أجل ذلك فلا بد أن نترجمه فنقول هو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأشهلي صحابي مشهور روى عنه أبو قلابة مات سنة خمس وأربعين قاله الفلاس والصواب سنة أربع وستين وهناك صحابي آخر يقال له ثابت بن الضحاك بن بشر الخزرجي له رؤية قال الحافظ وهم من خلطه بالأول
قلت فتبين بأن الراوي هاهنا هو ثابت بن الضحاك بن خليفة المترجم له أولاً .(5/86)
بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه أنه بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة وليس على رجل نذر فيما لا يملك
وفي رواية ولعن المؤمن كقتله
وفي رواية ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله عز وجل إلا قلة
موضوع الحديث : جمع الحديث مجموعة من المناهي رهب منها ليزجر عن الوقوع فيها
المفردات
قوله بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة : المقصود بها شجرة الحديبية
قوله من حلف على يمين : الظاهر أن المقصود من حلف يميناً لأن الحلف هو اليمين وسبق أن الحلف سمي يميناً لأنهم كانوا إذا تحالفوا مد كل واحد منهم يمينه
قوله بملة غير الإسلام : يقصد بها الملل المنسوخة كاليهودية والنصرانية لأن هذه الملل قد نسخت وبقي أقوام متشبثين بها
قوله كاذباً متعمداً : وصفان منصوبان على الحال أي حال كونه كاذباً متعمداً
قوله فهو كما قال : أي من حلف بملة غير الإسلام بأن قال إن فعل كذا فهو يهودي أو قال إن لم يفعل كذا فهو نصراني
قوله فهو كما قال : يعني أنه إذا حنث في يمينه تلك فإنه يكون كما ألتزم على نفسه والظاهر من الحديث أنه يخرج من الإسلام ويكون متصفاً بالملة التي حلف بها والعياذ بالله .(5/87)
قوله ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة : أي أنه سيعذب به يوم القيامة وظاهر هذا الحديث السكوت عن البرزخ والظاهر أن العذاب متصل عليه وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا(1)
وقوله وليس على رجل نذر فيما لا يملك : أي أنه لا تلزمه كفارة إذا حنث لأنه لا يملك ما نذر به وفي رواية لعن المؤمن كقتله أي لعن المؤمن شديد كشدة القتل
قوله ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله بها إلا قلة : أي أن الله سبحانه وتعالى يعامله بنقيض قصده فهو حين يكذب ليتكثر أي ليكثر ماله يعاقب بالقلة كما جاء في الحديث المذكور سابقاً ( مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ الرِّبَا إِلا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ ) لأنه أراد أن يتكثر بالحرام
المعنى الإجمالي
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الطب باب شرب السم والدواء به رقم 5778 وفي كتاب الجنائز باب ما جاء في قاتل نفسه رقم 1364 ورواه مسلم في كتاب الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه رقم 109 ورواه الترمذي في كتاب الطب باب ما جاء فيمن قتل نفسه بسم أو غيره رقم 2043 ورقم 2044 ورواه النسائي في كتاب الجنائز باب ترك الصلاة على قاتل نفسه رقم 1965 والدارمي في كتاب الديات باب التشديد على من قتل نفسه رقم 2362(5/88)
ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عدة مناهي ليزجر الناس عن الوقوع فيها فمنها الحلف بملة غير الإسلام ومنها أن من قتل نفسه بشيء عذب به وأن من نذر في مال غيره فإن نذره يبطل ولا تلزمه كفارة وأن لعن المؤمن في عظمه وفضاعته كقتله وأن من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها عاقبه الله عز وجل بالفقر والقلة نسأل الله العافية
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث عدة مسائل
أولاً : تحريم الحلف بملة غير الإسلام كأن يقول الشخص إن لم يفعل كذا فهو يهودي أو إن فعل كذا فهو نصراني فيؤخذ منه تحريم الحلف بملة غير الإسلام
ثانياً : ظاهر الحديث أنه إذا فعل ذلك كاذباً متعمداً وحنث في حلفه ذلك فهو كما قال أي أن الله عز وجل يلزمه ما ألزم نفسه به
ثالثاً : أن من قتل نفسه بشيء عذب به وقد ورد في الحديث تفسيراً لهذا بأن من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً ومن تحسى سماً فسمه في يده يتحساه خالداً مخلداً إلى غير ذلك
رابعاً : يؤخذ من هذه الجملة في هذا الحديث أن نفس الإنسان ليست له وإنما هي ملك لله عز وجل فلا يجوز له أن يتبرع بعضو من أعضاء نفسه لأنه لا يملكها ولذلك فإنه عوقب على قتله لنفسه
خامساً : أن من نذر نذراً في مال غيره فإن نذره ذلك يكون باطلاً فلو نذر زيد أن يعتق عبد عمرو فإنه لا يجوز له تنفيذ ذلك وهل تجب عليه الكفارة أم لا ؟(5/89)
الظاهر أنه لا تجب عليه الكفارة والدليل على ذلك حديث قصة المرأة التي أسرت من ( الأَنْصَارِ وَأُصِيبَتْ الْعَضْبَاءُ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْوَثَاقِ وَكَانَ الْقَوْمُ يُرِيحُونَ نَعَمَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ بُيُوتِهِمْ فَانْفَلَتَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ الْوَثَاقِ فَأَتَتْ الإِبِلَ فَجَعَلَتْ إِذَا دَنَتْ مِنْ الْبَعِيرِ رَغَا فَتَتْرُكُهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْعَضْبَاءِ فَلَمْ تَرْغُ قَالَ وَنَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ فَقَعَدَتْ فِي عَجُزِهَا ثُمَّ زَجَرَتْهَا فَانْطَلَقَتْ وَنَذِرُوا بِهَا فَطَلَبُوهَا فَأَعْجَزَتْهُمْ قَالَ وَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا فَلَمَّا قَدِمَتْ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ فَقَالُوا الْعَضْبَاءُ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ بِئْسَمَا جَزَتْهَا نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ وَلا فِيمَا لا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حُجْرٍ لا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ )(1) ولم يأمرها بكفارة فدل ذلك على أنه ليس على الناذر كفارة
سادساً : يؤخذ من قوله ولعن المؤمن كقتله تحريم لعن المؤمن لأن اللعن طرد من رحمة الله ولا يجوز أن يُدعى على المؤمن بالطرد من رحمة الله عز وجل
__________
(1) مسلم في كتاب النذر باب لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك رقم 1641 ورواه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور باب في النذر فيما لا يملك رقم 3316 والدارمي في كتاب السير باب إذا أحرز العدو من مال المسلمين رقم 2505 .(5/90)
سابعاً :شبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المؤمن بقتله وكأن التشبيه هذا تشبيه في الفضاعة والقبح فكما أن قتل المؤمن فضيع في غاية الفضاعة ويستحق فاعله الوعيدات الخمسة المذكورة في الآية وهو قول الله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [ النساء : 93 ]
ثامناً : أن هذا الذنب وهو اللعن ذنب عظيم كما أن قتل المؤمن عظيم فلعنه عظيم أيضاً
تاسعاً : يؤخذ من قوله ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها أي ليكثر ماله بها لم يزده الله عز وجل إلا قلة
عاشراً : يؤخذ من هذه الفقرة من الحديث يؤخذ منها أن الجزاء من جنس العمل وقد يعاقب الله عز وجل بالنقيض فكما أن هذا ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها عوقب بالقلة وقد جاء في الحديث عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ الرِّبَا إِلا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ ) (1)
باب النذور
النذور جمع نذر يقال نذرت أُنذر أو أَنذر بكسر الذال وضمها قلت والكسر أشهر
قال وهو لغة : الوعد بخير أو شر
وشرعاً : وعد بخير دون شر
قال الماوردي : قال عليه الصلاة والسلام ( لا نذر في معصية الله ) وقال الرافعي هو إلتزام شيء وعبارة غيرهما أنه إلتزام قربة غير لازمة بأصل الشرع وزاد بعضهم مقصودة
قلت : ومعنى مقصودة أي متعبد بها
وأقول : إن الخلط بين نذرت وأنذرت خلط لا ينبغي فإن معنى نذرت أي إلتزمت طاعة لم تكن لازمة عليّ بمحض الشرع ولكن إلتزمتها على نفسي طائعاً مختاراً
__________
(1) ابن ماجة في كتاب التجارات باب التغليظ في الربا رقم 2279 ( قال الألباني صحيح )(5/91)
أما أنذرت فالإنذار معناه التخويف والتهديد من قادر بشر وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين أي ينذروا قومهم بالعذاب إن هم عصوا فقال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) [ التوبة : 122 ] فالإنذار من النذارة وهي التخويف والإيعاد بشر
أما النذر فهو كما قلنا إلتزام العبد بطاعة لله لم تكن لازمة عليه بمحض الشرع
الحديث الأول : عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال قلت يا رسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة
وفي رواية يوماً في المسجد الحرام ؟ قال أوف بنذرك
موضوع الحديث :وجوب الوفاء بالنذر إذا كان في طاعة ولو كان من كافر فإنه يلزمه الوفاء إذا أسلم
المفردات
قوله إني نذرت :أي إلتزمت بهذه الطاعة وهي اعتكاف ليلة في المسجد الحرام
المسجد الحرام : هو الحرم المكي
قوله أوف بنذرك : هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب وعلى هذا فمن نذر بطاعة وهي مستطاعة له وجب عليه الوفاء
المعنى الإجمالي
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نذر الإعتكاف ليلة في المسجد الحرام ثم أسلم وبقي في مكة حوالي ثماني سنوات ثم هاجر إلى المدينة وبقي أيضاً في المدينة ثمان سنوات وبعد فتح مكة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا النذر فأمره بالوفاء به
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الكافر إذا نذر بطاعة ثم أسلم ولم يوف بها وجب عليه أن يوفي بها بعد إسلامه
ثانياً : أن الإعتكاف طاعة لله فمن نذر به وجب عليه أن يفي
ثالثاً : أُخذ منه أن الصوم ليس شرطاً في الإعتكاف بناءً على هذه الرواية أن أعتكف ليلة والليل لا صوم فيه
رابعاً : رواية يوماً تدل أن النذر كان بيوم وليلة فتارة ذكر اليوم وتارة ذكرت الليلة(5/92)
خامساً : أن من نذر بشيء وجب عليه الوفاء به ولو تقادم وقت النذر فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوفي بنذره بعد ستة عشر عاماً على الأقل
سادساً : أن أهل العلم قد قسموا النذر إلى ثلاثة أقسام
القسم الأول : أن يعلق النذر على وجود نعمة أو اندفاع نقمة كأن ينذر إن شفى الله مريضي أو ردّ ضالتي فلله عليّ كذا وهذا يلزم الوفاء به
القسم الثاني : ما علق على شيء لقصد المنع أو الحث كأن يقول إن كلمت فلاناً فلله عليّ حجة أو إن دخلت بيت فلان فعبيدي عتقاء وهذا ما يسمى بنذر اللجاج والغضب وقد ذهب بعض أهل العلم في هذا إلى أنه مخير بين كفارة اليمين وبين تنفيذ ما إلتزمه
القسم الثالث : ما لم يعلق على شيء وإنما قصد به صاحبه التقرب إلى الله عز وجل وهذا هو النذر المطلق والمشهور وجوب الوفاء به وهذا يسمى أيضاً نذر التبرر
سابعاً : الإعتكاف طاعة وليس من جنسها واجب وإنما هي مستحبة ولا تجب إلا بالنذر كما حصل لعمر رضي الله عنه .
ثامناً : أنه يشترط في وجوب الوفاء بالنذر شرطان :
الشرط الأول : أن يكون المنذور طاعة
الشرط الثاني : أن يكون الوفاء به مستطاعاً للناذر فإن نذر أنه يطير في الهواء بدون آلة أو يعرج إلى السماء فهذا نذر خارج عن الطاقة فلا يلزم الوفاء به وهل يجب فيه كفارة يمين كالنذر الذي يشق الوفاء به هذا محل نظر وبالله التوفيق .
الحديث الثاني : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل
موضوع الحديث : كراهة النذر وأنه لا يجلب خيراً على الناذر وإنما يستخرج به من البخيل
المفردات
نهى عن النذر : النذر قد تقدم الكلام عليه
قوله إنه لا يأتي بخير : بمعنى أن الناذر إذا اعتقد أن الله عز وجل لا يعطيه الشيء الذي طلبه منه إلا بمقابلة النذر فهذا ظن سوء بالله عز وجل لا ينبغي للعبد أن يظنه(5/93)
معنى يستخرج : أي يؤخذ به من البخيل أي الذي لا يعطي شيئاً إلا بمقابل
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر لما فيه من تعريض للإنسان نفسه لتثبيط الشيطان له عن الوفاء به حتى يأثم
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث كراهة النذر وليس المقصود به كل نذر ولكن المقصود به النذر الذي يكون على سبيل المقابلة إن فعل الله بي كذا فلله عليّ كذا وإن صرف الله عني كذا فلله عليّ كذا
ثانياً : لا يعرف في الشريعة طاعة منهي عنها نهى تنزيه إلا النذر وقد استشكل كيف يكون النذر واجب الوفاء به وهو في نفس الوقت مكروه
ثالثاً : إنما جاءت الكراهة في حالة أن يكون العبد معتقداً أن الله لا يعطيه إلا بشيء يبذله هو وهذا ظن يعتبر من ظن السوء الذي حرمه الله عز وجل ونهى عنه وأنّب عليه المنافقين فقال تعالى ( وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ ) [ الفتح : 12 ] فنعم الله متوالية والعبد مأمور أن يسأل الله عز وجل فالله سبحانه وتعالى سيعطيه ما سأل إن علم له الخير فيه
رابعاً : إنما نهي عن النذر لأن الناذر يتعرض لتثبيط الشيطان له وبالأخص إذا التزم التزاماً مالياً لأن النفوس شحيحة في الأموال إلا من وفقه الله عز وجل وجعل الدنيا هينة في عينه
خامساً : يؤخذ منه ذم البخيل والبخلاء
سادساً : يؤخذ منه أن من التزم بالشرع فليس ببخيل وبالله التوفيق .
الحديث الثالث : عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية فأمرتني أن استفتي لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته فقال لتمش ولتركب
موضوع الحديث : نذر ما يشق على الناذر
المفردات
قوله حافية : أي بدون نعلين
فأمرتني : هذا أمر التماس
أن استفتي لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي أطلب منه بيان الحكم في نذرها هذا . وبيان الحكم يقال له فتوى
قوله فاستفتيته : أي تنفيذاً لرغبتها(5/94)
فقال لتمش ولتركب : أي لتمش ما أطاقت المشي بمعنى أنها تمشي في بعض الطريق ولتركب إذا شق عليها المشي
المعنى الإجمالي
من طبيعة الإنسان أنه يندفع أحياناً فيوجب على نفسه ما يشق عليه ويحسب أن ذلك قربة وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مثل هذه الالتزامات التي يشق فيها العبد على نفسه ليست بمطلوبة في شرع الله وعبادته وإنما المطلوب في الشرع والعبادة الاعتدال فيها وعدم المشقة على النفس لكي تستمر العبادة وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على من وجده يقاد بزمام وهو يطوف فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ ) (1)
__________
(1) البخاري في كتاب الحج باب إذا رأى شيئاً يكره في الطواف فقطعه رقم 1621 ورواه في كتاب الأيمان والنذور باب النذر فيما لا يملك وفي معصية رقم 6702 وفي نفس الكتاب والباب عن ابن عباس أيضاً بلفظ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِي أَنْفِهِ فَقَطَعَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ ) رقم 6703 وقد رواه بهذا اللفظ الأخير النسائي في كتاب مناسك الحج باب الكلام في الطواف برقم 2920 وأبو داود في كتاب الأيمان والنذور باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية رقم 3302 ..(5/95)
ولما وجد رجلاً يهادى بين ابنيه وأخبروه أنه نذر أن يمشي إلى بيت الله الحرام فقال مروه فليركب إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه كما في حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ قَالَ مَا بَالُ هَذَا قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ (1) وقصة هذه المرأة كذلك إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه رأى أن أخت عقبة بن عامر تطيق شيئاً من المشي فأمرها أن تمشي ما أطاقت وتركب ما عدا ذلك وبالله التوفيق
فقه الحديث
__________
(1) البخاري في كتاب الحج باب من نذر المشي إلى الكعبة رقم 1865 ورواه في كتاب الأيمان والنذور باب النذر فيما لا يملك رقم 6701 ورواه مسلم في كتاب النذر باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة رقم 1642 والترمذي في كتاب النذور والأيمان باب ما جاء فيمن يحلف بالمشي ولا يستطيع رقم 1537 والنسائي في كتاب الأيمان والنذور باب ما الواجب على من أوجب على نفسه نذراً فعجز رقم 3852 ورقم 3853 وأبو داود في كتاب الأيمان والنذور باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية رقم 3301(5/96)
أولاً : يؤخذ من الحديث أن من نذر اتيان بيت الله الحرام وجب عليه الوفاء لأن اتيانه طاعة وقد جاء عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ ) (1)
__________
(1) البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب النذر في الطاعة رقم 6696 وفي كتاب الأيمان والنذور باب النذر فيما لا يملك وفي معصية رقم 6700 ورواه الترمذي في كتاب النذور والأيمان باب من نذر أن يطيع الله فليطعه رقم 1526 والنسائي في كتاب الأيمان والنذور باب النذر في الطاعة رقم 3806 وفي باب النذر في المعصية رقم 3807 ورقم 3808 ورواه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور باب ما جاء في النذر في المعصية رقم 3289 ورواه ابن ماجة في كتاب الكفارات باب النذر في المعصية رقم 2126 ومالك في كتاب النذور والأيمان باب ما لا يجوز من النذور في معصية الله رقم 1031 والدارمي في كتاب النذور والأيمان باب لا نذر في معصية الله رقم 2338 .(5/97)
وهل يلتحق بذلك مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى الجواب نعم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَسْجِدِ الأَقْصَى ) (1)
ثانياً : يؤخذ من هذا الحديث ومن الحديث الآخر الذي ذكرناه أن من نذر أن يصلي في مسجد غير هذه الثلاثة أو يأتي بلداً غير البلد الحرام فإنه لا يلزمه ذلك النذر حتى ولو كان ذلك المكان له شيء من التقديس كوادي طوى ومسجد الخليل وما أشبه ذلك وقد أنكر أبو هريرة رضي الله عنه على من ذهب إلى وادي طوى
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجمعة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة رقم 1189 وفي باب مسجد بيت المقدس رقم 1197 وفي كتاب الصوم باب صوم يوم النحر رقم 1996 وفي كتاب الحج باب حج النساء رقم 1864 ومسلم في كتاب الحج باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد رقم 1397وفي باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 827 ورواه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس رقم 1409 ورقم 1410 ورواه أبو داود في كتاب المناسك باب في إتيان المدينة رقم 2033 ورواه الترمذي في كتاب الصلاة باب ما جاء في أي المساجد أفضل رقم 326 ورواه النسائي في كتاب المساجد باب ما تشد الرحال إليه من المساجد رقم 700 ورواه ابن حبان في كتاب الصلاة باب المساجد رقم 1617 ورقم 1619(5/98)
ثالثاً : من نذر شيئاً يشق على نفسه به كنذر أخت عقبة إذ ورد أنها نذرت أن تحج حاسرة وحافية وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها وأمرها أن تمشي وتركب وأن تلبس وكذلك عندما كان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ وَلا يَسْتَظِلَّ وَلا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ ) (1) وما سبق أن أشرنا إليه في الذي وجد يهادى في الطريق والذي رآه يقاد بزمام وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه
رابعاً : أن من نذر شيئاً يشق عليه وهو قادر على بعضه فإنه يشرع له تركه وعليه كفارة يمين وفي الحج عليه هدي
خامساً : أن الحفاء تعذيب للنفس فهو ملحق بما يشق على الإنسان وأنه يجوز له أن يكفر عن النذر أو يتركه بالكلية ويجوز له أن ينفذ ما يستطيع عليه ويكفر عن الباقي
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب النذر فيما لا يملك وفي معصية رقم 6704 ورواه ابن ماجة في كتاب الكفارات باب من خلط في نذره طاعة بمعصية رقم 2136 ورواه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية رقم 3300 ورواه مالك في الموطأ في كتاب النذور والأيمان باب ما لا يجوز من النذور في معصية الله رقم 1029(5/99)
سادساً : قول بعض الفقهاء أنه إذا مشى يسيراً وجب عليه أن يرجع مرة أخرى ليمش بقدر ما ركب ويركب بقدر ما مشى هذا القول فيه نظر أولاً : لأنه مصادم لما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقر شيئاً يشق على الناذر وثانياً : قد تكون بلد المسلم بعيدة كأن تكون من خارج الجزيرة العربية فلا يمكنه الرجوع والقول الصحيح أن مثل هذا النذر لا يكلف به الإنسان والله أعلم
سابعاً : أن من نذر معصية فإنه يحرم عليه الوفاء بالمعصية والقول الصحيح أنه لا تجب الكفارة عن ذلك النذر ونذر أخت عقبة دخل فيه شيء من المعصية فهي نذرت أن تمشي حاسرة أي بدون ثياب وناشرة شعرها وهذا يحرم على المرأة أن تفعله ولذلك فإنه لا يجوز تنفيذه ولا يجب على الناذر كفارة عنه لحديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( لا نَذْرَ لابْنِ آدَمَ فِيمَا لا يَمْلِكُ وَلا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ) (1)
الحديث الرابع : عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال استفتى سعد بن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقضه عنها )
موضوع الحديث : قضاء الولي عن وليه ما كان عليه من نذر أو غيره
المفردات
قوله عن نذر : كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه
قوله قبل أن تقضيه : الضمير يعود على النذر
قوله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقضه عنها : أي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقضي ذلك النذر عنها
المعنى الإجمالي
توفيت أم سعد ولم تقض نذراً عليها فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنها سعد بن عبادة أن يقضيه عنها
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ منه قضاء ما على ولي الميت من الحقوق سواء كانت لازمة بالشرع أو التزم بها لله عز وجل كالنذر
__________
(1) سبق تخريجه(5/100)
ثانياً : هل يلزم الولي قضاء الواجب المالي إن كان فقيراً أم لا ؟ أما قضاء الواجب فيكون من تركته أي من ميراثه
ثالثاً : هل يلزمه القضاء بدون مطالبة أم لا بد من المطالبة ؟ قال الشافعي بالأول وقال أبو حنيفة ومالك لا يقضى إلا بالمطالبة
رابعاً : يؤخذ منه استفتاء الأعلم ما أمكن
خامساً : من بر الوالدين قضاء الديون عنهما والإحسان إلى أهل ودهما بعد موتهما وبالله التوفيق .
الحديث الخامس : عن كعب (1) بن مالك رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك
موضوع الحديث : حكم النذر والتصدق بجميع المال
المفردات
قوله إن من توبتي : أي من شكر توبة الله عليّ
أن أنخلع من مالي : يعني أخرج منه صدقة إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك فأمره بإمساك بعض المال وإنفاق بعضه
المعنى الإجمالي
__________
(1) كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري السلمي بالفتح المدني صحابي مشهور وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا مات في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
قلت قصة تخلف كعب عن غزوة تبوك قصة مشهورة وطويلة وفيها أحكام وحكم وقد كان كعب أحد الشعراء من الصحابة الذين كانوا ينافحون عن الإسلام وأهله(5/101)
تخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء إليه المعذرون فكر كعب أن الكذب عاقبته وخيمة فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - واعترف بالصدق فأرجأ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره هو والاثنين اللذين معه وهما هلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع وبعد خمسين ليلة تاب الله عليه فلما بشر كعب بن مالك بالتوبة أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن من توبة الله عليّ أن أنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإمساك بعض المال
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث كراهية التصدق بجميع المال ويبقى ذلك المتصدق ينظر إلى أكف الناس
ثانياً : أن الشريعة الإسلامية وسط بين الإسراف في المادية والتخلي عن الأسباب التي تجعل الإنسان غنياً لقوله ( أمسك عليك بعض مالك ) أي أمسك بعضه وتصدق منه
ثالثاً : فيه استحباب الصدقة شكراً لله عند تجدد النعم وانصراف النقم
رابعاً : يؤخذ منه أن الصدقة لها أثر في محو الخطايا وصرف الملمات
خامساً : أن التقرب إلى الله تعالى بمتابعة رسوله تعتبر أفضل الأعمال(5/102)
سادساً: أن إمساك ما يحتاج إليه من المال أولى من إخراجه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إِنَّكَ إنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ) (1)
سابعاً : اختلف أهل العلم في جواز الصدقة بالمال كله فأجاز ذلك بعضهم محتجاً أن أبا بكر رضي الله عنه أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجميع ماله عند تجهيز جيش العسرة ومنع ذلك بعضهم مستدلاً بهذا الحديث ( أمسك عليك بعض مالك ) وفرق بعضهم بين حالة من يستطيع الصبر ومن لا يستطيعه والله تعالى أعلم .
باب القضاء
القضاء بالمد الولاية : أي ولاية الأحكام الشرعية وجمعه أقضية يقال قضاء وأقضيه كغطاء وأغطية
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب رثى النبي سعد بن خولة رقم 1296 وفي كتاب الوصايا باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا رقم 2742 وفي كتاب المغازي باب حجة الوداع رقم 4409 وفي كتاب النفقات باب فضل النفقة على الأهل رقم 5354 وفي كتاب المرضى باب ما رخص للمريض أن يقول إني وجع أو وارأساه .. رقم 5668 وفي كتاب الدعوات باب الدعاء برفع الوباء والوجع رقم 6373 ورواه مسلم في كتاب الوصية باب الوصية بالثلث رقم 1628 ورواه ابن ماجة في كتاب الوصايا باب الوصية بالثلث رقم 2708 ورواه أبو داود في كتاب الوصايا باب ما جاء في ما لا يجوز للموصي في ماله رقم 2864 والترمذي في كتاب الوصايا عن رسول الله باب ما جاء في الوصية بالثلث رقم 2116 والنسائي في كتاب الوصايا باب الوصية بالثلث رقم 3626 ورقم 3627 ورقم 3628 ورقم 3633 ورواه ابن حبان في كتاب الرضاع باب النفقة رقم 4249 وفي كتاب إخباره عن مناقب الصحابة باب فضل الصحابة والتابعين رقم 7261 ورواه مالك في الموطأ في كتاب الأقضية باب الوصية بالثلث رقم 1495 ورواه الدارمي في كتاب الوصايا باب الوصية بالثلث رقم 3196 .(5/103)
المثال هنا ليس بملائم لما مثل عليه لأن القضاء بفتح فاء الفعل وغطاء بكسر فاء الفعل أما الجمع فهي مستوية أقضية وأغطية
وهو في الأصل اسم لإحكام الشيء والفراغ منه ويكون أيضاً بمعنى حكم وأوجب وبمعنى قدر وبمعنى إتمام الشيء وأدائه هذه كلها ترد لها أدلة من اللغة والقرآن (1)
الحديث الأول : عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
وفي لفظ من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد
موضوع الحديث : منع المحدثات والحكم بإبطالها إذا خالفت الشرع الإسلامي
المفردات
من أحدث في أمرنا : كلمة أحدث تطلق ويراد بها الابتداع في الدين والإحداث في الدين هو أن يخترع أحد المكلفين شيئاً على سبيل التعبد لم يكن له شاهد في الشرع
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمرنا : يعني في ديننا وكذلك قوله ليس عليه أمرنا المقصود به الشرع الذي جاء به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -
قوله ما ليس منه : أي ما لم يكن له شاهد لا من خصوص ولا من عموم ولا نص ولا مفهوم
قوله فهو رد : أي مردود على صاحبه
المعنى الإجمالي
أن كل من ابتدع بدعة أو اخترع شيئاً يقصد به التعبد ولم يكن له أساس في الشرع فإنه مردود عليه وكذلك قوله من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد لأن الإحداث تارة يكون بالقول الذي يقصد به صاحبه تشريع شيء ليس من الشرع وتارة يكون في الفعل
فقه الحديث
__________
(1) يأتي القضاء بمعنى إتمام الشيء وفراغه ومنه قوله تعالى ( فقضاهن سبع سموات في يومين ) وبمعنى أوجب كقوله تعالى ( وقضى ربك ) ويأتي القضاء بمعنى الإتمام كما قال تعالى ( فإذا قضيت الصلاة ) ( فإذا قضيتم مناسككم ) .
قال الزهري والقضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه وكل ما أحكم عمله أو أتم أو أدي أو أوجب أو أعلم أو أنفذ أو أمضى فقد قضى .(5/104)
أولاً : أن هذا الحديث من الأحاديث العامة التي يدخل فيها أشياء كثيرة وتشمل أموراً ليس لها حصر وقد قيل أن هذا أحد الأحاديث الثلاثة التي تعتبر أسساً وأصولاً في الدين وهي هذا الحديث وحديث ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ) (1) وحديث (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ ) (2) وبعضهم أضاف إليها حديثاً رابعاً وهو حديث النعمان بن بشير (إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ) (3)
__________
(1) البخاري في كتاب بدأ الوحي باب بدأ الوحي رقم 1 ورواه مسلم في كتاب الإمارة باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنية رقم 1907 والترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا رقم 1647 والنسائي في كتاب الطهارة باب النية في الوضوء رقم 75 وفي كتاب الأيمان والنذور باب النية في اليمين رقم 3794 ورواه أبو داود في كتاب الطلاق باب فيمن عني به الطلاق والنيات رقم 2201 وابن ماجه في كتاب الزهد باب النية رقم 4227
(2) رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق باب ما جاء في صفة أواني الحوض رقم 2518 والنسائي في كتاب الأشربة باب الحث على ترك الشبهات رقم 5711 والدارمي في كتاب البيوع باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رقم 2532 (قال الألباني صحيح )
(3) رواه مسلم في كتاب المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات رقم 1599 والنسائي في كتاب البيوع باب اجتناب الشبهات في الكسب رقم 4453 وفي كتاب الأشربة باب الحث على ترك الشبهات رقم 5710 وأبو داود في البيوع باب في اجتناب الشبهات رقم 3329 .(5/105)
ثانياً : المراد بالإحداث الابتداع في الدين لأن الله سبحانه وتعالى أخبر عن الدين أنه قد كمل فقال جل من قائل ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًاً ) [ المائدة : 3 ] فمن أدخل بدعة في الدين فإنه يعد مستدركاً على المشرع زاعماً بلسان حاله إن لم يكن بلسان مقاله أن الدين ناقص
ثالثاً :يؤخذ من هذا الحديث أن المحدثات التي تتعلق بالدنيا ومصالحها لا تمدح ولا تذم ما دامت فيها مصلحة للإنسان ومن ذلك المخترعات التي ظهرت في هذا العصر فما كان منها فيه منفعة محضة بدون ضرر كالسيارات والطائرات والقطارات وما أشبه ذلك وكذلك المخترعات الحربية التي ينتفع بها المسلمون ويجاهدون بها أعداء الله عز وجل فهي جائزة
رابعاً : يعد من هذا القبيل تلقيح النخل وما أشبه ذلك من الأسباب التي توفر على بني الإنسان كثيراً من الرزق وربما يكون تركها فيه نقص في الغلال وما أشبه ذلك(5/106)
خامساً : يؤخذ منه كما سبقت الإشارة أن كل بدعة مردودة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث العرباض بن سارية ( فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ ) (1) وكما ورد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ ( إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ ) (2) فيحكم على كل بدعة ليس لها شاهد من الشرع أنها باطلة ومذمومة هي ومخترعها
سادساً : يؤخذ من قوله فهو رد أن جميع البدع يحكم عليها بالفساد للنهي الوارد في هذا الحديث وغيره
__________
(1) أبو داود في كتاب السنة باب في لزوم السنة رقم 4607 والدارمي في المقدمة باب اتباع السنة رقم 95 وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين رقم 42 وصححه الألباني .
(2) النسائي في كتاب صلاة العيدين باب كيف الخطبة رقم 1578 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 1353 وهو في صحيح مسلم بدون ذكر ( وكل ضلالة في النار ) في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة رقم 867 .(5/107)
سابعاً : أن حكم الحاكم لا يكون معتبراً إلا إذا كان على محض الشرع فإن خالف ذلك بطل وأن الحكم بما خالفه لا يسوغ لا سيما وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ ) (1) وفي رواية عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا )
ثامناً : أن المرجع في التمييز بين المحدثات والمشروعات هم العلماء الذين مارسوا الشرع أزمنة طويلة وكانوا في غالب أحوالهم على الاستقامة
تاسعاً : يلزم من ذلك البيان ورد ما اشتبه وأن أهل العلم الذين يميزون بين هذه الأمور لهم أن يتكلموا فيمن أتى بحدث ويبينوه وليس ذلك من الغيبة كما يدعيه بعض أهل العصر ممن يريدون أن يبرروا الإتجاهات الحزبية وبالله التوفيق .
الحديث الثاني:عن عائشة رضي الله عنها قالت دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل عليّ في ذلك من جناح فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك )
__________
(1) سبق تخريجه(5/108)
موضوع الحديث : استفتاء من هند بنت عتبة في أخذ ما يتمم نفقة بنيها من غير علم زوجها
أولاً : ذكر التراجم الواردة في الحديث
فهند بنت عتبة بن ربيعه بن عبد شمس أخت أبي حذيفة بن عتبة وأبوها الذي بارز يوم بدر هو وأخوه وابنه وكان رجلاً مسناً وشريفاً في قريش حتى فسر قول الله عز وجل ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) [ الزخرف : 31 ] قالوا هو عتبة بن ربيعه من قريش وعروة بن مسعود الثقفي من ثقيف حضرت أحداً مع زوجها وكانت تحرض على قتل المسلمين فلما قتل حمزة رضي الله عنه بقرت بطنه وأخذت قطعة من كبده فلاكتها ثم لفظتها وكان حمزة رضي الله عنه هو الذي بارز يوم بدر عمها شيبة بن ربيعه فقتله واختلفا عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وعتبة بن ربيعه ضربتين فمال حمزة رضي الله عنه على أبيها عتبة فأجهز عليه لكنها أسلمت يوم الفتح بعد زوجها بيوم وذهبت في اليوم الثاني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعته وقد جاء عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ إِنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ مِمَّا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ أَوْ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ أَوْ خِبَائِكَ شَكَّ يَحْيَى ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَهْلُ أَخْبَاءٍ أَوْ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ أَوْ خِبَائِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ قَالَ لا إِلا بِالْمَعْرُوف(1)
__________
(1) البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب كيف كان يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 6641 وفي كتاب الأحكام باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس رقم 7161 ومسلم في كتاب الأقضية مختصراً باب قضية هند رقم 1714 .(5/109)
وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع النساء المبايعات توفيت في السنة الرابعة عشرة في اليوم الذي توفي فيه أبو قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
أما قول ابن الملقن رحمه الله عندما ذكر هند قال وهند هذه أم معاوية لها ذكر ونفس وابقة
وأقول : إن هذه الكلمة كلمة عظيمة وفضيعة من ابن الملقن إذ أن الذي حصل منها كان في حال الكفر وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإسلام يجب ما قبله إذاً فلا يجوز أن نقول في صحابية أسلمت وبايعت وحسن إسلامها مثل هذا القول لأن الصحابة رضي الله عنهم لهم حق الصحبة وهو حق عظيم لا يصل إليه أحد لما ورد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ )(1) وإن الواجب التأدب مع أصحاب رسول الله وأن نرى لهم الفضل على غيرهم وبالله التوفيق .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المناقب باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لو كنت متخذاً خليلاً ) رقم 3673 ورواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم رقم 2540 ورقم 2541 ورواه الترمذي في كتاب المناقب باب فيمن سب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 3861 ورواه أبو داود في كتاب السنة باب في النهي عن سب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 4658 ورواه ابن ماجه في المقدمة باب فضل أهل بدر رقم 161 .(5/110)
أما أبو سفيان فهو صخر بن حرب بن أميه بن عبد شمس بن عبد مناف والد معاوية ويزيد بن أبي سفيان وحنظلة الذي قتل يوم بدر كان من أشراف قريش في الجاهلية وأفضلهم ومن التجار وكانت له راية الرؤساء المعروفة بالعقاب أسلم يوم الفتح وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم هوازن مائة من الإبل وأربعين أوقية من الفضة تقوم عن أربعة آلاف من الدراهم وأعطى ابنيه على خمسين من الإبل يتألفهم على الإسلام توفي أبو سفيان رضي الله عنه في سنة اثنتين وثلاثين وقيل إحدى وثلاثين وقيل ثلاث وثلاثين
المفردات
إن أبا سفيان رجل شحيح : الشح والبخل متقاربان والظاهر أن الشح أعم من البخل لأن البخل يكون في المال وشح النفس منع البذل أو قلته سواء كان في المال أو غيره
قولها فهل عليّ : أي فهل عليّ من جناح في ذلك أن آخذ من ماله بغير علمه فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - ( خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك )
المعنى الإجمالي
أسلمت هند بنت عتبة بن ربيعه بن عبد شمس صبيحة يوم الفتح وكانت قبلها شديدة الحرب على الإسلام وأهله وذهبت فبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - واستفتته بما ورد في هذا الحديث وذلك أنها تأخذ من مال زوجها أبي سفيان بغير علمه فأفتاها بجواز ذلك إذا أخذت قدر الكفاية بالمعروف
فقه الحديث(5/111)
أولاً : اختلف أهل العلم في هذه القصة هل هي استفتاء أو طلب حكم فمنهم من رأى أنها طلب حكم وأخذ منه جواز الحكم على الغائب إذا تعذر حضوره إلى مجلس الحكم وأخذ منه مسألة الظفر ومنهم من قال أنه استفتاء فمن رأى أنه استفتاء قال بجواز ذكر الإنسان بما يكره إذا كان في الاستفتاء والقول بأنه استفتاء هو الأقرب لقولها أن أبا سفيان رجل شحيح إلى أن قالت فهل عليّ في ذلك من جناح إذا أخذت من ماله بغير علمه . ومما يؤيد أنه استفتاء أنه أفتاها بقوله ( خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك ) ولو كانت المسألة طلب حكم لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد طلب حضوره وسأله هل يعترف بما ادعت عليه زوجته أم لا ؟ فهذه القرآئن أو هذه الأمور تبين أن المسألة مسألة استفتاء لا مسألة طلب حكم(5/112)
ثانياً : وجوب نفقة الزوجة على زوجها قال وهو إجماع قلت هذا الإجماع يستند على الأدلة المعروفة في ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أَلا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً أَلا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ أَلا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ )(1)
ثالثاً : أن نفقة المرأة تقدر بحال الزوج على الصحيح وإلى ذلك ذهب الشافعي رحمه الله وذهب مالك وأبو حنيفة أن الاعتبار في النفقة بحال المرأة وذهب أحمد بن حنبل أن الاعتبار بحالهما والقول الصحيح هو القول الأول لقول الله عز وجل ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ) [ الطلاق : 7 ]
__________
(1) صحيح مسلم في كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم 1218 وأبو داود في المناسك باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم 1905 رواه الترمذي في كتاب الرضاع باب ما جاء في حق المرأة على زوجها رقم 1163 ورواه في تفسير القرآن باب ومن سورة التوبة رقم 3087 ورواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب حق المرأة على الزوج رقم 1851 والدارمي في كتاب المناسك باب في سنة الحج رقم 1850 وابن حبان رقم 3944 .(5/113)
رابعاً :وجوب نفقة الأولاد الصغار على والدهم لقول الله عز وجل ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) [ البقرة : 233 ]
فقوله (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ) دليل على أن نفقة الأبناء على الأب أو من ينوب عنه
خامساً : أن هذه النفقة مقدرة بالكفاية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك )
سادساً : إذا كان للرجل زوجتان إحداهن لها أولاد كثير والثانية لها أولاد قليل فكل واحدة منهن لها نفقتها بقدر ما عندها من البنين ولعل بعض الناس يظن المساواة مع اختلاف عدد الأولاد وهذا كلام باطل
سابعاً : أن نفقة الأولاد تجب إلى أن يبلغوا فإذا بلغوا فإنه لا تلزم على الأب نفقتهم إلا من باب الإحسان إلا أنه يستثنى من ذلك النساء غير المزوجات والزَمناء وذوي العاهات من الأولاد الذين عندهم عاهات تمنعهم من الكسب فإنه تجب نفقتهم
ثامناً :فيه جواز سماع كلام الأجنبية عند الاستفتاء وعند التحاكم لأن ذلك ضرورة
تاسعاً : يؤخذ منه جواز ذكر الإنسان بما يكره إذا كان للاستفتاء أو للشكوى والله سبحانه وتعالى يقول (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ) [ النساء : 148 ] وأن ما كان من هذا القبيل لا يعد من الغيبة(5/114)
عاشراً :إذا كان لا يعد من الغيبة من أجل حق المستفتي أو الشاكي فإنه من باب أولى ألا يكون من الغيبة إذا كان ذلك في بيان حق الله فمن ابتدع بدعة أو أحدث حدثاً وجب أن يذكر ببدعته أو حدثه ليعلم الناس حاله وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الْمَدِينَةُ وأنها حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ قال ( فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ ) (1)
الحادي عشر : استدل بهذا الحديث على مسألة الظفر وهو أن يكون للرجل حق عند أحد من الناس ولم يصل إلى حقه فتمكن من بعض ماله قالوا فله أن يأخذ بقدر حقه من غير رجوع إلى من عليه الدين
قال ابن الملقن وهذا مذهب الشافعي وأصحابه وتسمى هذه المسألة مسألة الظفر ومنع ذلك أبو حنيفة ومالك كما حكاه النووي في شرح مسلم
الثاني عشر : قال ابن الملقن يجوز الأخذ من الجنس ومن غيره كما هو ظاهر الإطلاق والأصح عند أصحابنا أنه لا يأخذ من غير الجنس إلا إذا تعذر الجنس أي جنس المال الذي له عند الرجل
الثالث عشر : جواز إطلاق الفتوى من غير تقييد بثبوت كما أطلقه النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الحج باب حرم المدينة رقم 1870 وفي كتاب الجزية باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة رقم 3172 وفي كتاب الفرائض باب إثم من تبرأ من مواليه رقم 6755 وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب إثم من آوى محدثاً رقم 7306 ومسلم في كتاب الحج باب فضل المدينة رقم 1366 ورقم 1370 ورقم 1371 ورواه الترمذي في كتاب الولاء والهبة باب ما جاء فيمن تولى غير مواليه أو ادعى إلى غير أبيه رقم 2127 ورواه أبو داود في المناسك باب في تحريم المدينة رقم 2034 .(5/115)
الرابع عشر: جواز اعتماد العرف في الأمور التي ليس لها تحديد شرعي لقوله ( خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك )
الخامس عشر :جواز خروج المرأة المزوجة من بيتها لحاجتها من محاكمة واستفتاء وغيره إذا أذن لها زوجها أو علمت رضاه هكذا قال ابن الملقن والذي ذكره ابن كثير في ترجمتها أنها استأذنت زوجها في الخروج
السادس عشر: أن ما يذكر في الاستفتاء من عيب أو أذية للغير وكذلك في المحاكمة أنه لا يوجب تعزيراً ولا يكون ذلك من الممنوع كما تقدم
السابع عشر:جواز القضاء على الغائب قال ابن الملقن كذا استدل به جماعة من أصحابنا وترجم عليه البخاري في صحيحه وفيه قولان لأهل العلم
وأقول : تقدم أن رجحت أن المسألة مسألة استفتاء لا طلب حكم كما بينت الأدلة على ذلك من الحديث
الثامن عشر :أن للمرأة ولاية على ولدها من حيث أن صرف المال على المحجور عليه أن يملكه نفقته لمدة معينة وفي حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَانٌ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ قَالَ لا قَالَ فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ )(1)
التاسع عشر : أن القول قول الزوجة في قبض النفقة أو عدمها
العشرون : أن المرأة لا يجوز لها أن تأخذ من مال زوجها شيئاً إلا بإذنه وإن قل هكذا قال ابن الملقن
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزكاة باب فضل النفقة على العيال والمملوك رقم 996 وأبو داود نحوه في كتاب الزكاة باب في صلة الرحم رقم 1692(5/116)
قلت : وقد سأل النساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإنفاق من مال أزواجهن فأفتاهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن لهن الرطب أي الطعام الناضج ) (1) ولا يجوز للمرأة أن تأخذ غير هذا إلا بإذن زوجها
الحادي والعشرون :أن مال الغير محضور على الغير لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن صاحبه أو بأمر شرعي وهذه القاعدة أيدتها أدلة لا نطيل بذكرها منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ ) (2)
فما أصعب الموقف بين يدي الله عز وجل على من يأخذ أموال الناس بغير حق نسأل الله أن يجعلنا من الوقافين عند الحدود وألا يجعلنا من المتجرئين على حقوق الغير وبالله تعالى التوفيق .
الحديث الثالث :عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها
موضوع الحديث : إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه بأنه بشر كسائر البشر وأنه يقضي على نحو مما يسمع وأن قضاءه لا يحل شيئاً محرماً بل إن المال الحرام يبقى حراماً ولا يحله حكم الحاكم لقوله ( فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها )
المفردات
جلبة : هي اختلاط الأصوات ومثله لجبة بأن ترتفع أصوات مختلطة لا يتبين منها شيء
__________
(1) سنن أبي داود في كتاب الزكاة باب المرأة تتصدق من بيت زوجها رقم 1686 ضعفه الألباني وفي سنن البيهقي رقم 7640 .
(2) سبق تخريجه(5/117)
جلبة خصم : أي أصوات خصوم يتنازعون
عند باب حجرته : أي حجرة أم سلمة رضي الله عنها
فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض : مثل قوله ألحن بحجته من بعض وهذا أمر ملموس فالناس يتفاوتون في إقامة الحجة
ومعنى أبلغ : أكثر بلاغة
فأحسب : أي فأظن وأعتقد أنه صادق فأقضي له بناءً على ذلك الحسبان فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار
فليحملها أو يذرها : أي أن ذلك الحق الذي أخذه من مال أخيه ببلاغته إنما هي قطعة من النار
فليحملها : أمر تهديد
أو يذرها : أمر إباحة
المعنى الإجمالي
سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - خصومة قوم عند باب حجرته فخرج إليهم وقال لهم إنما أنا بشر وإنما أقضي على نحو مما أسمع ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته أي أقوى حجة وأكثر بلاغة فأقضي له فمن قضيت له بحق أخيه فإنما اقتطع له قطعة من النار فليحملها إن شاء فإنه متى حملها حمل النار أو ليذرها إن شاء فهو خير أن يترك ما ليس له فيه حق
فقه الحديث(5/118)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث جواز التقاضي والتخاصم في المسجد فإنه قد ورد أن كَعْبٍ بن مالك رضي الله عنه تَقَاضَى عبدالله بن أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا ... ) الحديث(1) ولا شك أن بيوت الله ينبغي أن تصان عن الخصومات
ثانياً : قوله ألا إنما أنا بشر في هذا تقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم - لبشريته تبعاً لما قضاه الله عز وجل وأمر به في قوله (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) [ فصلت : 6 و الكهف : 110 ]
ثالثاً : يؤخذ من هذا براءة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يدعيه له بعض أصحاب البدع من صوفية وبريلوية وغيرهم من اعتقادات في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتجاوز به إلى مقامات الألوهية وهذا افتراء عليه - صلى الله عليه وسلم - فهو بريء من كل من كذب عليه أو أعطاه شيئاً من حق ربه سبحانه وتعالى
رابعاً : في هذا تقرير وهو قوله إنما أنا بشر تقرير بأنه لا يعلم الغيب وأنه بشر كغيره من البشر لا يحكم إلا بالظاهر
__________
(1) البخاري في كتاب الصلاة باب التقاضي والملازمة في المسجد رقم 457 وفي باب رفع الصوت في المساجد رقم 471 وفي كتاب الخصومات باب كلام الخصوم بعضهم في بعض رقم 2418 وفي باب في الملازمة رقم 2424 وفي كتاب الصلح باب هل يشير الإمام بالصلح رقم 2706 وفي باب الصلح بالدين والعين رقم 2710 ومسلم في كتاب المساقاة باب استحباب الوضع من الدين رقم 1558 والنسائي في كتاب آداب القضاة باب حكم الحاكم في داره رقم 5408 وأبو داود في كتاب الأقضية باب في الصلح رقم 3595 وابن ماجه في كتاب الأحكام باب الحبس في الدين والملازمة رقم 2429 والدارمي في كتاب البيوع باب في انظار المعسر رقم 2587 .(5/119)
خامساً : يؤخذ من قوله وإنما يأتيني الخصم دليل على أن المتخاصمين كل منهما يريد أن يجعل الحجة له وقد يتغلب أحدهما إما بكونه محق ومعه البينة وإما لكونه أشد بلاغة من خصمه فيجعل ببلاغته الحق باطلاً والباطل حقاً والصدق كذباً والكذب صدقاً
سادساً : يؤخذ من قوله ولعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له أن حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - كحكم غيره من البشر يقضي بما سمع من الحجج والأمور الشرعية وذلك شيء غير مبيح لمال الغير لقوله ( فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار )
سابعاً : يؤخذ من هذا أن حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - كحكم غيره لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً بل تبقى الأحكام الحقيقية كما هي فمن جاء بشاهدي زور بأنه قضى دائنه المبلغ المحدد فحكم القاضي بأنه قد برئت ذمته من ذلك الدين فإن ذمته لم تبرأ بذلك الحكم وإذا أتى الرجل بشاهدين يشهدان أن فلاناً تزوج فلانة وأشهدنا على ذلك فحكم القاضي بشهادتهما وحكم بأنها زوجته لم يبح له وطئها بذلك الحكم بل هو يعتبر كلما وطئها وطئها بالزنا والعياذ بالله وهذا مذهب الجمهور وخالف في ذلك أبو حنيفة فزعم أن حكم القاضي يبيح الفروج دون الأموال وكل ذلك حرام لا يباح منه شيء بشهادة الزور بل أن ذلك يبقى حراماً كما هو في الأصل حرام(5/120)
ثامناً : يؤخذ من قوله فإنما هي قطعة من النار أن الحكم لا يبيح ما حكم به القاضي ولو كان مستنداً إلى البينة واليمين وأن مال الغير حرام على الغير وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرَقُ النَّارِ ) (1) وهي ضالة فكيف إذا أخذ ذلك المال بحكم احتال فيه فإنه يكون أشد تحريماً وعلى من يخاف الله أن يمتنع عن أخذه
تاسعاً : في قوله فليحملها أو يذرها قوله فليحملها إن شاء هذا الأمر أمر تهديد كقوله سبحانه وتعالى (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [ فصلت : 40 ]
عاشراً : أن الحاكم لا يجوز له أن يحكم بعلمه بل يجب عليه أن يحكم بالإجراءات الشرعية التي تبيح الحكم في الظاهر حتى ولو علم هو بنفسه شيئاً خلاف ما يحكم به فإنه يجب عليه أن يحكم بالإجراءات ويترك علمه ومن هنا قال الفقهاء أن الواجب على القاضي ألا يحكم بعلمه
الحادي عشر : يؤخذ منه موعظة القاضي للخصوم
الثاني عشر: يؤخذ منه العمل بالظن وبناء الحكم عليه حيث قال فأحسب أنه صادق وهو أمر مجمع عليه بالنسبة للحاكم والمفتي وبالله التوفيق .
الحديث الرابع : عن عبدالرحمن (2)
__________
(1) ابن ماجه في كتاب الأحكام باب ضالة الإبل والبقر والغنم رقم 2502 والدارمي في كتاب البيوع باب في الضالة رقم 2601 و2602 وفي مسند الطيالسي برقم 1294 وفي مسند الإمام أحمد رقم 21037 وفي المعجم الكبير رقم 2110 و2112 وفي سنن البيهقي رقم 5792 وصححه الألباني .
(2) عبدالرحمن بن أبي بكرة : ترجمه في التقريب برقم 3816 وقال عبدالرحمن بن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي البصري ثقة من الثانية مات سنة ست وتسعين روى له الجماعة . أما عبيد الله فلم أجد له ترجمة في التقريب(5/121)
بن أبي بكرة رضي الله عنهما قال كتب أبي أو كتبت له إلى ابنه عبيد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان
وفي رواية لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان
موضوع الحديث : النهي عن الحكم في حالة الغضب
المفردات
قوله بسجستان : هذه بلاد معروفة تسمى الآن أفغانستان وعاصمتها كابل
ألا تحكم بين اثنين وأنت غضبان : أي أن والده ينهاه عن الحكم بين الناس في حالة الغضب
قال فإني سمعت رسول الله : الفاء تعليلية أي من أجل هذا الدليل لا تحكم في حالة الغضب سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ) الواو واو الحال والجملة بعده حالية أي والحال هو غضبان
المعنى الإجمالي
نهى الشارع الحكيم - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم الحاكم بين الناس وهو غضبان ذلك لأن الغضب يؤثر على التوازن الشخصي للإنسان فلذلك لا يؤمن أن يحيف قاصداً أو يخطأ الصواب في حال غضبه فيكون ذلك ظلماً على المحكوم عليه وحسرة على الحاكم وإثماً عليه
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث المنع من القضاء في حالة الغضب وذلك لما يحصل للإنسان فيه من التشويش الموجب لاختلال النظر وعدم حصوله على الوجه المطلوب وعداه الفقهاء بالعلة الجامعة إلى كل حال يخرج الحاكم بها عن السداد واستقامة الحال فألحقوا به الهم الذي يجلب للنفس الضجر وألحقوا به الجوع الشديد والفرح المفرط ومدافعته للحدث والتوقان إلى الطعام والمرض المؤلم والحر المزعج والبرد المنكي والنعاس الغالب ونحو ذلك
قال ابن الملقن رحمه الله وهو قياس مظنة على مظنون فإن كل واحد من هذه الأمور مشوش للذهن حامل على الخلط وكأن الغضب إنما خص لشدة استيلائه على النفس وصعوبة مقاومته
ثانياً : ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون الغضب لله تعالى أو لغيره(5/122)
ثالثاً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الخطأ فلا يقال أنه داخل في النهي مع سائر المكلفين لأن حاله لا تقاس بحال غيره وقد جاء في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلا حَقٌّ ) (1)
رابعاً : يؤخذ من الحديث العمل بالكتابة وأنها كالسماع من الشيخ في وجوب العمل . أما إذا كان في الرواية فمنع الرواية بها قوم إذا كانت مجردة عن الإجازة
قال ابن الملقن رحمه الله والصحيح المشهور بين أهل العلم الجواز لكن يقول في الرواية بالكتابة كتب إليّ فلان
خامساً : أبو بكرة هذا هو الصحابي المشهور نزل في بكرة أيام حصار الطائف من القصر الذي كانت ثقيف محاصرة فيه وسمي أبو بكرة وأبوه مولى للحارث بن كلدة ونال العز والشرف بالإسلام والهجرة وهو أخو زياد بن أبيه
الحديث الخامس : عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً ( أي قالها ثلاث مرات )قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت .
موضوع الحديث :الإخبار بأكبر الكبائر
المفردات
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب العلم باب في كتابة العلم رقم 3646 والدارمي في المقدمة باب من رخص في كتابة العلم رقم 484 وأحمد رقم 6510 وصححه الألباني .(5/123)
ألا أنبئكم بأكبر الكبائر:أي ألا أخبركم بأكبر الكبائر ثم أورد ما ذكر فذكر الثلاث المعاصي التي هي الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور
أما الإشراك بالله فقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله أن تجعل لله نداً وهو خلقك ومعلوم أن الشرك ينقسم إلى قسمين شرك أكبر يخرج المسلم من الإسلام وشرك أصغر لا يخرج العبد من الإسلام
أما عقوق الوالدين وهو مشتق من العق وهو قطع الأرض وشقها وعقوق الوالدين قطيعتهما بعمل الإساءة إليهما حتى يجعلهما يبكيان
قوله وكان متكئاً فجلس : أي أنه اهتم بذكر شهادة الزور وقول الزور فجلس فقال ألا وقول الزور وقول الزور يشمل كل زور فمن ألحق بمسلم ضرراً بقول كأن رماه بفرية اختلقها وزورها عليه ليهينه بها ويسيء سمعته فهو من هذا القبيل بل أن من شهد زوراً على فلان بأن عنده مال لفلان قدره كذا وكذا أخف وطئة من أن يلحق به عيباً وعاراً والله حسيب من يفعل ذلك من أصحاب الحزبيات وسيقف الجميع بين يدي من لا تخفى عليه خافية .
المعنى الإجمالي
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكم وظيفته التي وضعه بها ربه وهو بيان الأحكام الشرعية قال لأصحابه ألا أنبئكم أي أخبركم بأكبر الكبائر فذكر هذه الثلاث التي هي الإشراك بالله وهو اعتداء على مقام الألوهية وأخذ لحقه سبحانه وتعالى وإعطاءه لمن لا يستحقه من المخلوقين العاجزين وعقوق الوالدين فضيع لأنه مكافئة للإحسان بالإساءة وشهادة الزور عامة لكل قول مزور ومكذوب يراد به انتقاص من وقع عليه بأخذ من ماله أو اعتداء على عرضه
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث إبلاغ الأحكام الشرعية بطريقة العرض ألا أنبئكم
ثانياً : أن المعاصي تنقسم إلى ثلاثة أقسام كبائر وأكبر كبائر ومعاصي دون ذلك
ثالثاً : تعريف الكبائر هي كل ذنب اتبع صاحبه بلعن أو توعد بالنار أو بغضب الملك الجبار أو رتب عليه حد من الحدود الدنيوية(5/124)
رابعاً : أما أكبر الكبائر فلا تعلم إلا من طريق الشرع وهذه الثلاث منها
خامساً : أولها الإشراك بالله وهذه الكبيرة هي أكبر من كل الكبائر وفاعلها يخرج من الإسلام إن كان الشرك أكبر
سادساً : الشرك الأكبر الذي يخرج من الإسلام هو أن يعطي الإنسان حق الألوهية لغير الله جل وعلا فيعتقد فيه القدرة على ما لا يقدر عليه إلا الله كإنزال المطر وإعطاء الولد والنصر على العدو وأن يعتقد فيه سلطاناً غيبياً يطلع به على المغيبات
سابعاً : أما الشرك الأصغر فهو لا يخرج من الإسلام كالرياء العارض في العمل والحلف بغير الله إذا لم يقصد تعظيم المخلوق تعظيماً يساوي تعظيم الله عز وجل أو يزيد عليه وإسناد النعم إلى غير الله كقولهم لولا الكلب لأتانا اللصوص وما أشبه ذلك فهذا الشرك الأصغر لا يخرج من الإسلام ولا يوجب الخلود في النار وقد قيل إنه داخل في الوعيد بعدم المغفرة نعوذ بالله من ذلك
ثامناً : عقوق الوالدين الذي يوجب لهما البكاء والحزن الشديد لكون ابنهما قابل إحسانهما بالإساءة وهذا الذنب أعظم الذنوب بعد الشرك
تاسعاً : قوله وكان متكئاً فجلس دليل على الاهتمام بالخصلة الأخيرة لأن الدواعي إليها كثيرة فقد يحمل على شهادة الزور بغض المشهود عليه أو حب المشهود له أو أخذ الرشوة على ذلك(5/125)
عاشراً : وقول الزور يتفاوت فمن بهت مسلماً في عرضه بما يريد أن يشينه به أو يسيء به سمعته فإن ذنبه عظيم وحسابه شديد والله سبحانه وتعالى يقول (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) [ الأحزاب : 58 ] وقد جاء في الحديث عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ أُرَاهُ قَالَ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ )(1)
الحادي عشر : تنفير النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شهادة الزور وقول الزور بكونه كررها حتى قالوا ليته سكت وبالله التوفيق .
الحديث السادس : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه .
موضوع الحديث :الدعاوي والبينات من كتاب القضاء
المفردات
لو يعطى الناس بدعواهم بدون قيود لادعى أناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه
المدعي :هو المطالب وعرفه الفقهاء بأن المدعي هو من لو ترك لم يتابع
أما المدعى عليه فهو بضد ذلك وهو من إذا ترك لم يترك وقد يقال في المدعي عليه هو من بيده السلعة المدعى فيها وقد يعرف بأنه المتهم
المعنى الإجمالي
__________
(1) أبو داود في كتاب الأدب باب من رد عن مسلم في غيبة رقم 4883 وأحمد رقم 15734 وحسنه الألباني .(5/126)
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لو يعطى الناس بدعواهم بدون بينة ولا يمين لادعى أقوام دماء رجال وأموالهم ولكن الشريعة جاءت من عند العليم الخبير فجعل الله عز وجل لها حدوداً وموازين لتؤدى الحقوق إلى أصحابها ويمنع المعتدون عن الدعاوي الكاذبة بما يترقبهم وينتظرهم عند العجز من التعزير والإفلاس وبالله التوفيق
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الناس لا يستوون في التورع وعدمه ففي الناس من يمنعه إيمانه ومن الناس من يمنعه حياؤه وفي الناس من لا يمنعه حياء ولا إيمان وهو الشخص الذي لا يبالي وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا دليل على أن من الناس من يحب ابتزاز أموال الناس والادعاء عليهم ولذلك جعلت لهم الشريعة رادعاً وهو تكليف المدعي بالبينة والمدعى عليه باليمين
ثانياً : أن المدعي تلزمه البينة وغالباً تكون الدعوى في شيء تحت يد المدعى عليه فتخالف الواقع فمن أجل ذلك كلف المدعي بالبينة على صدق دعواه
ثالثاً : إذا عجز المدعي عن البينة وجب على المدعى عليه أن يحلف يمين البراءة من تلك الدعوى حتى تبرأ ساحته
رابعاً : قال ابن الملقن إنما جعلت البينة على المدعي لأنها حجة قوية تؤكد الدعوى وتقويها حيث أن المدعى فيه غالباً يكون بيد المدعى عليه فكلف المدعي بالبينة وهي الحجة القوية فمن توفرت له هذه الحجة أخذ الحق المدعى فيه بها ومن لم تتوفر له فلا يلزم له بعد ذلك إلا اليمين وهذا التقسيم استنتاج عقلي إلا أن هذا الاستنتاج العقلي يبين صحة الشرع وأنه يضع الأمور في مواضعها وإلا فالحقيقة أن الشرع كاف في توزيع هذه الأمور ووضع كل شيء في موضعه فالحمد لله الذي علمنا ما لم نكن نعلم(5/127)
خامساً : يستثنى من قاعدة الدعاوي والبينات القسامة فإنه يبدأ فيها بالمدعي فيجعل عليه اليمين وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار حين ادعوا دم عبدالله بن سهل على يهود خيبر تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم فيدفع إليكم برمته
سادساً : ويستثنى من هذه القاعدة قاعدة البينة على المدعي واليمين على من أنكر . ما صح به الحديث وهو أنه إذا كان للمدعي شاهد واحد فإنه إذا لم يجد الشاهد الآخر الذي يكمل النصاب يحلف على مقتضى ما شهد به الشاهد فيكون مكملاً لدعواه وبالشاهد واليمين أخذ الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد ومنع القضاء بذلك أبو حنيفة والحنفية محجوجون بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اعتبار يمين المدعي مكملاً لنصاب الشهادة عند عدم وجودها وبالله التوفيق .
كتاب الأطعمة(5/128)
الأطعمة جمع طعام وهو ما يتغذى به الإنسان من مأكولات ومشروبات ولكن يطلق الطعام على المأكول غالباً علماً بأن المشروبات التي فيها تغذية للجسم تشترك مع المأكولات في كونها مغذية والإنسان بحاجة إلى ما يغذي جسمه وقد أمر الله عباده أن يأكلوا مما في الأرض حلالاً طيباً (1) وحرم الله عز وجل على المسلمين أكل المحرمات وتوعد على ذلك بالوعيدات الرادعة كما يقول سبحانه وتعالى ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) [ البقرة : 275 ] وقال ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [ آل عمران : 130] وقال (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) [ النساء : 10 ]
وحرم على المؤمنين أن يأكل بعضهم أموال بعض بالباطل فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) [ النساء : 29،30 ]
__________
(1) كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [ البقرة : 168](5/129)
إلى غير ذلك من النصوص القرآنية والنصوص النبوية وأمر بأخذ الحلال البين وترك المشتبة استبراءً للدين والعرض ورتب على أكل الحلال قبول العمل واستجابة الدعاء فقال - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص لما طلب منه أن يكون مستجاب الدعاء ( يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ... الحديث ) (1)
وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لا يُحِبُّ وَلا يُعْطِي الدِّينَ إِلا لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يَسْلَمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَلا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ قَالُوا وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ وَلا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالاً مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ وَلا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ وَلا يَتْرُكُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ إِنَّ الْخَبِيثَ لا يَمْحُو الْخَبِيث ) (2)
ذكر فيه عشرة أحاديث
__________
(1) ضعيف الترغيب والترهيب رقم 1071و في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة برقم 1812 للألباني رحمه الله
(2) أخرجه أحمد برقم 3672 وفي ضعيف الترغيب والترهيب رقم 1076 و1519 وفي ضعيف الجامع رقم 1625 .(5/130)
الحديث الأول : عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول وأشار النعمان بأصبعيه إلى أذنيه إن الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب .
موضوع الحديث : اتقاء الشبهات استبراء للدين والعرض
المفردات
إن الحلال بين : أي واضح
والحرام بين : أي واضح وكل منهما يتضح بصفته وماهيته ففي الحلال البين أنواع المآكل من البر والذرة والأرز واللحم المذكى والأسماك والفواكه والخضروات وغير ذلك . ومن الحرام البين الربا والمال المأخوذ بالسرقة والغش وغير ذلك من المأكولات المحرمة والمشروبات المحرمة كالخمر والمخدرات بجميع أنواعها وما أشبه ذلك والمال المأخوذ بالظلم وأكل أموال الأوقاف وأكل أموال اليتامى وأكل مال المسلم بغير حق والزنا وما إلى ذلك من المحرمات
قوله وبينهما مشتبهات وفي رواية وبينهما أمور مشتبهات وهذه المشتبهات يخفى حكمها إلا على أهل العلم المتعمقين فيه والممارسين لأحكام الشريعة ولهذا قال لا يعلمهن كثير من الناس يعني أن أكثر الناس تخفى عليهم أما أهل العلم فإنهم بالنظر والقياس يلحقون هذا المشتبه بأحد الحكمين إما أن يكون أشبه بالحلال فيلحقونه به أو أشبه بالحرام فيلحقونه به ولهذا قال فمن اتقى الشبهات أي ابتعد عنها ولم يقربها حماية لدينه وحماية لعرضه فإنه حينئذ قد استبرأ أي طلب البراءة لدينه وعرضه(5/131)
قوله ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام : أي أن من تجرأ على الشبهات بمعنى أنه تجرأ على الأمور المشتبهة فوقع فيها وأفتى نفسه بحلها فإنه يقع في الحرام ولا بد لأن من المعلوم من حال الناس أن من تجرأ على الأمور المشتبهة فإن الشيطان يستدرجه حتى يستهين بالحرام الواضح فيقع فيه وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلاً بقوله كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ومعلوم أن صاحب الماشية الذي يرعى فربما يقول إن المرعى الذي في الفلاة قد أكلت منه مواشي الناس ولكن الذي حول الزرع وقريب منه الرعي فيه أسلم وأحسن لأن المرعى الذي فيه لم تقع فيه المواشي فيرعى قريباً من الزرع فإذا رعى قريباً من الزرع دخلت بعض مواشيه على الزرع فأكلت منه وهكذا ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المثل ثم قال ألا وإن لكل ملك حمى : كان الملوك في الزمن الأول لهم خيل يقاتل عليها ولهم إبل يحمل عليها ولا بد لهم من أماكن تكون محمية لخيلهم وإبلهم وماترك هذا إلا حين استغنى الملوك والرؤساء بالمصنوعات كالسيارات والطيارات والدبابات والمصفحاتثم قال - صلى الله عليه وسلم - وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب هذه المضغة لصغرها أي لصغر حجمها فإنها هي التي تصرف الجسد والجوارح فإن كانت صالحة بأن كانت عامرة بالإيمان معمورة بالتقوى ظهرت الأعمال وحركات الجسد صالحة لأن القلب الصالح هو الأمير لها والمدبر فيها وإن كانت بخلاف ذلك بأن كانت مشحونة بالهوى والشهوات وأمور الباطل انعكست على الجسد وجوارحه فأفسدته بأوامرها السيئة المبنية على الشهوات والشبهات نسأل الله أن يصلح قلوبنا وأعمالنا إنه جواد كريم
المعنى الإجمالي
مدار هذا الحديث على ثلاثة أمور :-(5/132)
حلال بين واضح وحرام بين واضح وأمور مشتبهة تخفى على معظم الناس فلا يدرون هل هي من الحلال أم من الحرام ولهذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر من الأمور المشتبهة أن يستهان بها أو يتجرأ عليها بلا علم وأن الواجب على من لم يكن عنده علم ألا يقدم على أي شي من هذه المشتبهات حتى يسأل أهل العلم عن حكمها فإن أفتوه وبقي مع ذلك في نفسه شيء من الخوف والشك فليتجنب تلك الشبهات وليبتعد عنها لقوله عليه الصلاة والسلام ( وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ قَالَ سُفْيَانُ وَأَفْتَوْكَ ) (1) ولقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن في الجسد مضغة ينبني عليها صلاح الجسد وفساده فإن صلحت فسيكون الجسد كله صالحاً لأنها تملي عليه الصلاح وإن فسدت كان الجسد كله فاسداً لأنها تملي عليه العصيان فليدع العبد ربه بأن يصلح قلبه حتى يكون صالحاً فلا يأمر صاحبه إلا بخير
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن الدين ينقسم إلى ثلاثة أقسام حلال واضح بين وحرام واضح بين والقسم الثالث أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فيهن شبه بالحلال وشبه بالحرام
ثانياً : في ضمن ذلك حث للمسلم على أخذ الحلال واجتناب الحرام والله تعالى يقول {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }[ البقرة : 168 ]
ففي هذا أمر بأخذ الحلال الواضح واجتناب الحرام الواضح والإمساك عن الشبهات حتى يعلم العبد من أي شيء هي
__________
(1) أحمد رقم 18162 والدارمي في كتاب البيوع باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رقم 2533 وفي صحيح الترغيب والترهيب برقم 1734 قال الألباني حسن لغيره .(5/133)
ثالثاً : أمر الله للعباد بأكل الحلال أمر إباحة فمن امتنع عن أكل الحلال تديناً عد معتدياً وقد علمنا ما جرى للرهط الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته حيث روى البخاري في صحيحه عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ) (1) وفي رواية ( وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ ) (2)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح رقم 5063 و رواه ابن حبان في كتاب البر والإحسان باب ما جاء في الطاعات وثوابها رقم 317
(2) رواه مسلم في كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد رقم 1401 ورواه النسائي في كتاب النكاح باب النهي عن التبتل رقم 3217 ورواه ابن حبان في المقدمة باب الإعتصام بالسنة وما يتعلق بها نقلاً وأمراً رقم 14 ..(5/134)
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) فليس من الدين ترك الحلال تديناً كما أنه ليس من الدين التجرؤ على محارم الله سبحانه وتعالى .
رابعاً : أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هناك أموراً مشتبهات والناس أمام هذه المشتبهات ينقسمون إلى قسمين أما علماء فإنهم يجب عليهم أن يدرسوا هذه المشتبهات ويلحقوها بما يرون أنها به أشبه وإليه أقرب سواء كان من الحلال أو من الحرام يحكمون عليها بعد الدراسة بعيداً عن المؤثرات ليكون الحكم لهم ولغيرهم من الناس
الصنف الثاني العوام وطلبة العلم المبتدئين الذين لا يمكنهم إلحاق هذه المشتبهات بأحد النوعين الحلال أو الحرام فهؤلاء يجب عليهم التوقف وعدم الإقدام على هذه المشتبهات إلا بفتوى من أهل العلم وإن اختلفت الفتوى فيجب أن يعودوا إلى الفتوى التي تكون أقرب إلى كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلال الأدلة المسبورة في الفتوى
خامساً : يؤخذ من هذا أن في ترك الأمور المشتبهة حماية للدين والعرض وفي ذلك يكون التارك للمشتبه أقرب للسلامة
سادساً : مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشتبهات بمن رعى حول الحمى فإنه من قارب الحمى وقع فيه ولا بد
سابعاً : هناك علاقة في قوله كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه وبين قوله ألا إن في الجسد مضغة وهذه العلاقة هي أن التحرز مما اشتبه أمره يعود إلى تقوى القلوب وصلاحها وتأثرها بالإيمان فإن كان القلب صالحاً متأثراً بالإيمان كان أزكى وأبعد عن الشبهات وإن كان تأثره بالإيمان ضعيف وسماعه للنصوص الشرعية قليل كان أكثر جرأة على تلك الشبهات أو بالمعنى الأصح المتشابهات(5/135)
ثامناً : أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجسد كله يقوم على القلب صلاحاً وفساداً مع أن القلب مضغة أي قطعة من اللحم صغيرة ولكنه هو المحرك والمؤثر في الجسد
تاسعاً : اختلف الناس قديماً وحديثاً هل العقل في القلب أو في الدماغ فبعضهم قالوا في الدماغ وبعضهم قالوا في القلب ولكل منهم أدلة والصحيح أن العقل فيهما جميعاً وأن بين القلب والدماغ ارتباط قوي ولا يصح العقل إلا إذا كان القلب والدماغ صحيحان فإذا حصل التأثير على الدماغ انعكس أثره على القلب وإذا حصل التأثر على القلب انعكس أثره على الدماغ ولا يصح العقل إلا بصحتهما وبالله التوفيق .
الحديث الثاني : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال أنفجنا أرنباً بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا وأدركتها فأخذتها فأتيت أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوركها وفخذيها فقبله )
(لغبوا ) أعيوا
موضوع الحديث :حل الأرنب وجواز أكلها
المفردات
أنفجنا : أي أثاروا
أرنباً : الأرنب حيوان معروف سريع الجري وهو نوع من أنواع الصيد يجوز أخذه وتربيته ويذبح فيؤكل
سعى القوم : السعي هو الجري
فلغبوا بمعنى تعبوا وأعيوا
أدركتها : لحقتها
فأخذتها : مسكتها
فأتيت أبا طلحة : أبو طلحة اسمه زيد بن سهل أحد النقباء ليلة العقبة وأحد فضلاء الأنصار وهو زوج أم سليم التي هي أم أنس بن مالك رضي الله عنهم
بوركها : الورك هو ملتقى الظهر مع مربط الرجل
وفخذيها : أي فخذي الأرنب والفخذ في أعلى الرجل
مر الظهران : هو موضع قريب من مكة ولعله ما يسمى الآن بالجموم أو قريباً منه
المعنى الإجمالي(5/136)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في سفر ولعلهم قد نزلوا في ذلك المكان الذي هو مر الظهران فلقد نزل في هذا الموضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه في عام الفتح فأثاروا أرنباً وهو معنى أنفجنا أي أثرنا فسعى القوم بعدها ليأخذوها قال فلغبوا وأدركتها وكان أنس بن مالك في ذلك الوقت في ريعان شبابه فأخذها وذهب بها إلى زوج أمه فذبحها وأهدى منها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبلها ولعله قد أكل منها كما أشار إلى ذلك ابن الملقن في الرواية التي حكاها
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث جواز أكل الأرنب وأنها نوع من أنواع الصيد يؤكل لحمها
ثانياً : يؤخذ منه أن الصيد لمن أدركه وإن سعى وراءه عدد فلم يدركوه فإنه يكون لمن أدركه ويملك لحمه بالتذكية وهو الذبح ويملكه بالأخذ ويحل لحمه بالتذكية
ثالثاً : أن هذا الحيوان يجوز اقتنائه وتربيته
رابعاً : حكيت كراهة لحمه عن بعض السلف وزعموا أن الأرنب تحيض ولا دليل على ذلك إلا ما حكاه ابن حجر في الفتح رحمه الله حيث قال من حديث أخرجه النسائي من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأرنب قد شواها فوضعها بين يديه فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يأكل وأمر القوم أن يأكلوا )
ورجاله ثقات إلا أنه اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافاً كثيراً ) أهـ
وأقول : وأخرجه أيضاً عبدالرزاق 4/516 وابن أبي شيبة 8/247 والبيهقي 9/321 إلى أن قال واحتج بحديث خُزَيْمَةَ بْنِ جَزْءٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الأَرْنَبِ قَالَ لا آكُلُهُ وَلا أُحَرِّمُهُ قُلْتُ فَإِنِّي آكُلُ مِمَّا لَمْ تُحَرِّمْ وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نُبِّئْتُ أَنَّهَا تَدْمَى ) وسنده ضعيف(5/137)
أقول : أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجة من طريق محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن عن عبدالكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف قال ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة كما سيأتي تقريره في الباب الذي بعده قال وله شاهد عن عبدالله بن عمرو بلفظ (جِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا جَالِسٌ فَلَمْ يَأْكُلْهَا وَلَمْ يَنْهَ عَنْ أَكْلِهَا وَزَعَمَ أَنَّهَا تَحِيضُ ) أخرجه أبو داود وله شاهد عن عمر عند إسحاق بن راهوية في مسنده
وحكى الرافعي عن أبي حنيفة أنه حرمها وغلطه النووي في النقل عن أبي حنيفة ) أهـ
وأقول : أولاً أن هذه الأحاديث التي ذكرت فيها ضعف وحديث أنس بن مالك في الصحيحين
ثانياً : أن القاعدة الاصطلاحية أنه إذا تعارض حديثان فإن أمكن الجمع بينهما جمع بينهما وإن لم يمكن فيجب الرجوع إلى الترجيح ولا شك أن حديث الصحيحين أرجح وهذه الأحاديث التي ذكرت فيها ضعف وربما إن بلغ بعضها إلى درجة المقبول ولكنه لا يصل إلى درجة ما رواه صاحبا الصحيح بل ما رواه أحدهما
ثالثاً : أنه لو صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا آكله ولا أحرمه فإن ذلك لا يدل على تحريمه أو كراهته علماً بأنه قد ثبت في رواية البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل منها وبالله التوفيق
خامساً : يؤخذ منه جواز هدية الصيد لمن ملكه سواء كان حياً أو هدية لحمه بعد الذكاة وبالله التوفيق .(5/138)
الحديث الثالث : عن أسماء (1) بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت نحرنا فرساً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلناه .
وفي رواية ونحن بالمدينة
موضوع الحديث : حل أكل لحم الخيل
المفردات
نحرنا : النحر يكون لما لا يذبح من الأنعام كالإبل وما يقدر ابن آدم على ذبحه فهو يذبح ولعل الفرس مما لا يستطاع ذبحه فينحر ونحر ما يجوز ذبحه وذبح ما يجوز نحره كل ذلك جائز ويعتبر ذكاة إلا أنه مخالفة للسنة
فرساً : الفرس يقال للأنثى والذكر كما يقال
على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي في زمنه
قولها فأكلناه : بينت علة النحر ليدل ذلك على جواز أكله وفي رواية ونحن بالمدينة يعني أنهم فعلوا ذلك بعد الهجرة
المعنى الإجمالي
تخبر أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنهم نحروا فرساً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلوه هم وأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك دلالة على جواز أكل لحوم الخيل ولا يتوهم أحد منع أكلها لاقترانها مع الحمير والبغال في الآية وهي قوله تعالى (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) [ النحل : 8 ]
فقه الحديث
__________
(1) أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها هي زوجة الزبير بن العوام رضي الله عنه هاجرت بعد هجرة أبيها هي وزوجها الزبير وهي حامل بعبدالله بن الزبير وولدته يعني عبدالله بعد قدومها المدينة وهو أول مولود للمهاجرين بعد الهجرة . قالوا لا يوجد أربعة صحابة على نسق بعضهم من بعض إلا عبدالله بن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر وجده أبو بكر وأبو جده أبو قحافة وكذلك محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة . عمرت أسماء بنت أبي بكر حتى قتل ابنها في عام أربعة وسبعين قتله الحجاج وتوفيت أمه بعده بزمن يسير ولها من العمر فيما يقال مائة سنة وعلى هذا فيكون أنها هاجرت وهي بنت ست وعشرين سنة(5/139)
يؤخذ من الحديث جواز أكل لحوم الخيل قال ابن الملقن وفي ذلك ثلاثة مذاهب
أحدها جوازها من غير كراهة وهو مذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين منهم عبدالله بن الزبير وأنس بن مالك وفضالة بن عبيد وأسماء بنت أبي بكر ومن التابعين سويد بن غفلة وعلقمة والأسود وعطاء وشريح وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وحماد بن ابي سليمان وإسحاق وأبي يوسف ومحمد وداود وغيرهم
المذهب الثاني : حله مع الكراهة وهو قول ابن عباس والحكم بن عتيبة وبعض اصحاب أبي حنيفة
المذهب الثالث : أنه حرام وهو الصحيح عند أصحابه كما نقله عنه الشيخ تقي الدين
قلت يعني بذلك ابن دقيق العيد يعني نقل تحريمه عن أبي حنيفة
وعنه يأثم ولا يسمى حراماً وعليها اقتصر النووي في شرحه في حكايتها عنه
وعند المالكية ثلاثة أقوال الكراهة والتحريم والإباحة قال الفاكهي والظاهر فيها وهو المشهور الكراهة والصحيح عند المحققين منهم التحريم
وأقول : معنى ذلك عند المحققين من المالكية
واقتصر النووي في شرحه والقرطبي في النقل عن مالك على الكراهة فقط ومن قال بكراهة أكله أو تحريمها استدل بحديث رواه صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب عن جده المقدام عن خالد بن الوليد أنه عليه الصلاة والسلام ( نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير وكل ذي ناب من السباع ) أهـ
وفي بعض رواياتهم أن ذلك يوم خيبر ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه(5/140)
وأقول : قد قدح في هذا الحديث بأن صالح بن يحيى وأبوه غير معروفين وأن خالد بن الوليد لم يسلم إلا بعد فتح خيبر مع أن حديث أسماء في الصحيحين وحديث جابر بن عبدالله الآتي في الصحيحين أيضاً وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل ) ولمسلم وحده قال ( أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمار الأهلي ) فالاستدلال بهذين الحديثين الصحيحين على جواز أكل لحوم الخيل استدلال صحيح في محله ولا تعارض هذين الحديثين الصحيحين بحديث ضعيف علماً بأن في رواية أسماء أنهم أكلوا لحم ذلك الفرس هم وأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله سبحانه وتعالى لا يقر صحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على شيئ محرم بل قال جل من قائل (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [ التوبة : 115 ] مع أن الدلالة واضحة من حديث أسماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم ذلك وأقره وما أكل في بيته - صلى الله عليه وسلم - فالمظنون أنه يأكل منه ومنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل لحوم الحمر الأهلية ونهيه عنها وكفئه لقدور طبخها وهي تغلي وترميلها بالتراب وإقراره لأكل لحوم الخيل وحمر الوحش بالإذن فيها كل ذلك يدل دلالة واضحة على حل أكل لحوم الخيل وبالله التوفيق .
الحديث الرابع : عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل
ولمسلم وحده قال : أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمار الأهلي .
موضوع الحديث: إباحة أكل لحوم الخيل والحمر الوحشية وتحريم الحمار الأهلي
المفردات(5/141)
لحوم الحمر الأهلية : المقصودبها الحمر الأنسية والأهلية والإنسية بمعنى أنها آنسة وليست بمتوحشة
قوله وأذن في لحوم الخيل : أي في أكلها وهذا الحديث دليل على إباحة لحوم الخيل وكذلك حمر الوحش وحمر الوحش هي حمر متوحشة أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - أكلها وأكلها هو بنفسه وقبل الهدية بها واعتذر من المهدي بأنه كان محرماً وصيد البر لا يحل له
المعنى الإجمالي
يخبر راوي الحديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحمر الأهلية أي نهى عن أكلها وأنه أباح وأذن في لحوم الخيل والحمار الوحشي
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم لحوم الحمر الأهلية وسيأتي من حديث عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بكفأ القدور وهي تغلي بلحمها
وتحريم لحوم الحمر الأهلية مجمع عليه إلا من شذ
ثانياً : ورد حديث عَنْ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي شَيْءٌ أُطْعِمُ أَهْلِي إِلا شَيْءٌ مِنْ حُمُرٍ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنَا السَّنَةُ وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِي مَا أُطْعِمُ أَهْلِي إِلا سِمَانُ الْحُمُرِ وَإِنَّكَ حَرَّمْتَ لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَقَالَ أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ فَإِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أَجْلِ جَوَّالِ الْقَرْيَةِ يَعْنِي الْجَلالَةَ ) (1)
__________
(1) أبو داود في كتاب الأطعمة باب في أكل لحوم الحمر الأهلية رقم 3809 وفي سنن البيهقي رقم 19255 قال الألباني ( ضعيف الإسناد ومضطرب )(5/142)
وهذا الحديث ضعيف قد ضعفه أهل العلم إذ حكى ابن الملقن عن البيهقي أنه قال هذا الحديث مختلف في إسناده ومثله لا تعارض به الأحاديث الصحيحة بتحريم لحوم الحمر الأهلية
وقال عبدالحق هذا الحديث ليس بمتصل الإسناد إلا من حديث عبدالله بن عامر بن لويم وهو غير معروف وعبدالرحمن بن بشر وهو مجهول
وقال ابن الملقن المذكور في وصفه ضعيف باتفاق الحفاظ لما في إسناده من الاضطراب وشدة الاختلاف
وأقول : مثل هذا الحديث لا تعارض به الأحاديث الصحيحة الواردة في الصحيحين وغيرهما وعلى تقدير صحة الحديث أي حديث ابن أبجر فإنه يحمل على أن تلك السنة المجدبة كان فيها حالة اضطرارية تبيح أكل لحوم الحمر الأهلية بسبب الضرورة كما تباح الميتة للمضطر أيضاً وهذا تنزلاً على فرضية بلوغ حديث غالب بن أبجر إلى درجة الاحتجاج ولكن القول بضعفه واضطرابه وعدم صحته هو القول الراجح عند أهل الحديث .
ثالثاً : ما هي العلة التي من أجلها حرمت لحوم الحمر الأهلية ؟
الجواب : ادعى بعض أهل العلم أن العلة في ذلك أنها للركوب والحمل فلو سلط عليها الأكل لنفدت فلذلك حرمت
والقول الصحيح أنها أنما حرمت لنجاستها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنها نجسة ففي صحيح ابن خزيمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبعض الصحابة أبغني أحجاراً أستنفض بها فأتاه بحجرين وروثة حمار فرمى الروثة وقال إنها ركس .
رابعاً : يؤخذ من الحديث جواز أكل لحوم الخيل كما أفاده حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وتقدم بأن الجمهور قالوا بجواز أكل لحوم الخيل وأن أبا حنيفة حرمها أو كرهها والقول بالإباحة هو صريح هذه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها
خامساً : يؤخذ من الحديث جواز أكل لحوم الحمر الوحشية وقد أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - منها في عام الحديبية حين لحقه أبو قتادة بشيء من لحم حمار الوحش الذي اصطاده وأكل لحم حمر الوحش متفق عليه لا خلاف في ذلك وبالله التوفيق .(5/143)
الحديث الخامس : عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال أصابتنا مجاعة ليالي خيبر فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن اكفؤ القدور وربما قال ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً .
موضوع الحديث : تحريم لحوم الحمر الأهلية
المفردات
أصابتنا مجاعة : أي جوع
ليالي خيبر : أي وقت القتال فيها وانتظار فتحها
فلما كان يوم خيبر : أي بعد أن فتحت وقعنا في الحمر الأهلية أي أصبنا منها فانتحرناها بمعنى أنهم ذكوها
فلما غلت بها القدور : بمعنى أنها كادت أن تنضج نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أكفؤ القدور : الكفأ هو القلب وإراقة ما فيها وربما قال ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً .
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن أبي أوفى بأنهم حصلت لهم مجاعة في ليالي موقعة خيبر ولما فتحت انتحروا من حمرها وأخذوا من لحمها وطبخوه ولما طبخوه أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفئ القدور وعدم الأكل من ذلك اللحم
فقه الحديث
تقدم الكلام عن لحوم الحمر الأهلية وأنها محرمة وتقدم بحث ذلك في الحديث الرابع والذي قبله بما أغنى عن إعادته هنا ومثل ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال حرم رسول الله لحوم الحمر الأهلية وهذا من الأحاديث الصريحة الدالة على تحريم أكلها
وفقه الحديث كما تقدم في الأحاديث قبله وأن التعليل بكونها مركوبة أو بكونها جلالة كل ذلك تعليل غير صحيح بل هو من تفقه بعض الصحابة والعلة قد نص عليها الحديث حين أمر أبا طلحة أن ينادي إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس وبالله التوفيق .(5/144)
الحديث السابع :عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فقال بعض النسوة اللآتي في بيت ميمونة أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده فلم يأكل فقلت أحرام هو يا رسول الله ؟ قال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه .
قال خالد فاجتررته فأكلته والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر
قال رضي الله عنه: المحنوذ المشوي بالرضف وهي الحجارة المحماة
موضوع الحديث : حكم أكل الضب
المفردات
فأتي بضب : الضب دابة من دواب الأرض وهو حيوان بري قال ابن الملقن يشبه الجرذون لكنه كبير القد يعني أكبر جثة من الجرذون
والضب هذا هو الذي ورد فيه الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لاتَّبَعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ ) (1)
يقال أن حفرة الضب متعرجة يحفرها تارة كذا وتارة كذا فلذلك ضرب به المثل
أما قوله محنوذ : فالمحنوذ هو المشوي سواء كان على رضف أو غير ذلك فكل مشوي يقال محنوذ
فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي مد يده إليه ليأكل منه
فقلت أحرام هو : استفهام طلبي
قال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لتتبعن رقم 7320 وفي كتاب أحاديث الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل رقم 3456 ومسلم في كتاب العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى رقم 2669 وابن ماجة في كتاب الفتن باب افتراق الأمم رقم 3994(5/145)
من عجائب الضب يقولون أنه إذا أراد من اصطاده أن يذبحه يضع يده على حلقه ولحمه ينقز من القدر ومن أجل ذلك يضعون عليه شيئاً ثقيلاً
المعنى الإجمالي
جاءت أم حفيد بنت الحارث وهي هزيلة بنت الحارث جاءت إلى أختها ميمونة زائرة لها ومعها شيء من الهدايا وكان من ضمن الهدايا ضب وقد حضر ذلك الغداء أبناء أخوات ميمونة فخالد بن الوليد هو ابن أختها ميمونة خالته وعبدالله بن عباس والفضل بن عباس هي خالتهما أيضاً
ولما وضع الغداء ومد النبي - صلى الله عليه وسلم - يده إلى اللحم ليأكل منه قالت نسوة ممن في البيت أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل فقيل له إنه لحم ضب فحبس يده فقال له خالد أحرام هو يا رسول الله قال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه . قال خالد فاجتررته فأكلته والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث حل أكل الضب وأنه ليس بحرام بل هو حلال وما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا تقذراً
ثانياً : يؤخذ من هذا الحديث أن ما تركه الشارع - صلى الله عليه وسلم - تقذراً فهو ليس بحرام
ثالثاً : قد ورد في ذلك حديث عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ (1) وهو حديث ضعيف ولا يصح أن يكون معارضاً لهذا الحديث الصحيح وضعفه ابن الجوزي في علله وقال البيهقي تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة عن الشاميين وتعقبه ابن الملقن بأن إسماعيل بن عياش حديثه عن الشاميين حجة وقد حدث في هذا عن ضمضم وضمضم حمصي وتعقب ابن حزم في ادعائه أن رجال سنده ضعفاء
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأطعمة باب في أكل الضب رقم 3796 وحسنه الألباني .(5/146)
والمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كرهه هو نفسه تقذراً وأخبر بحله في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه المشهور شهرة عظيمة . إذاً فهذا الحديث شاذ الذي ادعى فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الضب إلا أن يكون قال قبل أن يعلم حكمه وقبل أن يوحى إليه فيه ثم استقر حكم الضب على الجواز من غير كراهة فكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ظن أنه من الممسوخات وخاف أن يكون مما توالد منها وبعد أن أعلمه الله عز وجل أن كل أمة مسخت لم يبق لها عقب ومن هنا فقد كان بذلك الأمن مما كان يحذر
رابعاً : ورد حديث في المعجم الصغير للطبراني عن جابر بن سمرة رضي الله عنه سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضب ( فقال أمة مسخت ) (1) وهذا مما يستأنس به أن النهي الذي حصل قبل ذلك عن أكل لحم الضب حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتقد أنه من بقايا المسخ فلما أعلمه الله عز وجل بأن الأمم الممسوخة لم يبق لها عقب وأن كل أمة مسخت لا تبقى أكثر من ثلاثة أيام بعد المسخ زال ما كان يحذر كما سبق
خامساً : جواز دخول أقارب الزوجة بيتها وتبسطهم فيه إذا علموا أن الزوج لا يكره ذلك
__________
(1) رواه في المعجم الصغير برقم 140 من حديث جابر بن سمرة وفي الأوسط برقم 2203 وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال ( أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه وقال لا أدري لعله من القرون التي مسخت ) وورد من حديث ثابت بن وديعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بضب فقال أمة مسخت ) رواه في المعجم الكبير برقم 1363 وفي السنن الكبرى رقم4833 و4834 والنسائي في كتاب الصيد والذبائح باب الضب رقم 4321 و 4322 والدارمي في كتاب الصيد باب في أكل الضب رقم 2016 وابن ماجة في كِتَاب الصَّيْدِ بَاب قَتْلِ الْكِلابِ إِلّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ رقم 3240 من رواية أبو سعيد الخدري رضي الله عنه .(5/147)
سادساً : الأكل في بيت الصديق والقريب الذي لا يكره ذلك والله سبحانه وتعالى يقول في آية سورة النور ( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) [ النور : 61 ]
الحديث الثامن : عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد .
موضوع الحديث :جواز أكل الجراد
المفردات
الجراد طائر من الطيور وقد يسلطه الله عز وجل أحياناً فيأكل غلال الناس لأنه إذا تسلط يأكل الثمر ويأكل ورق الشجر حتى يظل الزرع ليس فيه ورقة إلا الأعمدة وصغاره يقال لها الدّبا
المعنى الإجمالي
هو أن الله سبحانه وتعالى رزق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع غزوات يمدهم بالجراد لعدم وجود القوت عندهم كما أمدهم بالعنبر الذي خرج من البحر فأكلوا منه أكثر من عشرين يوماً ولم يتعفن حتى سمنوا على لحمه
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث جواز أكل الجراد وهو إجماع
ثانياً : أنه لا تشترط له الذكاة سواء مات باصطياد مسلم أو كافر أو مات حتف أنفه والدليل على ذلك ما جاء في الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أُحِلَّتْ لَكُمْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ)(1) وهذا الحديث على ضعف سنده إلا أن معناه مجمع عليه وبالله التوفيق .
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب الأطعمة باب الكبد والطحال رقم 3314 قال الشيخ الألباني :صحيح ورواه أحمد برقم 5723 وفي الصحيحة رقم 1118 وفي الإرواء رقم 2526(5/148)
الحديث التاسع : من باب الأطعمة عن زهدم (1) بن مضرب الجرمي قال كنا عند أبي موسى الأشعري فدعا بمائدة وعليها لحم دجاج فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي فقال هلم فتلكأ فقال له هلم فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل منه
موضوع الحديث : حل لحم الدجاج
المفردات
قال كنا عند أبي موسى الأشعري : أبو موسى هو عبدالله بن قيس الأشعري تقدمت ترجمته
فدعا بمائدة : المائدة هي السفرة التي يؤكل عليها الطعام
وعليها لحم دجاج : لحم الدجاج معروف وهو من الحيوانات الإنسية يربى في البيوت إلا أنه من طبيعته أنه يأكل العذرة فلذلك كرهه بعض الناس .
وقد ورد في الشرع النهي عن أكل لحم الجلالة أي التي تأكل الجلة (2) وهي العذرة وقد ورد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه إذا أراد أكل الجلالة حبسها ثلاثاً ) (3)
فدخل رجل من بني تيم الله : اسم عائلة
أحمر شبيه بالموالي فقال هلم : أي قال أبو موسى للرجل المذكور هلم أي تعال فكل معنا
فتلكأ : التلكؤ هو التردد في الكلام والفعل فقال له هلم فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل منه أي يأكل من الدجاج
المعنى الإجمالي
__________
(1) زهدم بوزن جعفر بن مضرب الجرمي بفتح الجيم أبو مسلم البصري ثقة من الثالثة روى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأقول : الجرمي نسبة إلى قبيلة جرم
(2) عن ابن عمر قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها ) رواه أبو داود رقم 3785 والترمذي برقم 1824 والنسائي رقم 4447 وابن ماجة رقم 3189 .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة ولفظه ( أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثاً ) انظر إرواء الغليل رقم 2505(5/149)
أبو موسى الأشعري أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة وبقي بها أميراً ومعلماً ومعه عبدالله بن مسعود يروي زهدم بن مضرب الجرمي أنه كان هو وقوم معه عند أبي موسى فدعا بمائدة فجيء بها إليهم وعليها لحم دجاج فدخل رجل من بني تيم الله أحمر اللون شبيه بالموالي يعني الأعاجم فقال له هلم يعني إلى الغداء فتلكأ وأبى أن يأتي ثم قال إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته فحلفت ألا آكله فقال له أبو موسى إني رأيت رسول الله يأكل منه ثم حدثه بقصته هو وأصحابه حين أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدون أن يحملهم وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف ألا يحملهم ثم بعد ذلك دعاهم وحملهم وقال ( إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يمني وأتيت الذي هو خير )
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث جواز أكل لحم الدجاج علماً بأن الدجاج في كل مكان يأكل العذرة
ثانياً : إذا كان قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن أكل لحم الجلالة فكيف نجمع بين هذا وبين أكل لحم الدجاج مع العلم أنه أي الدجاج يأكل العذرة ؟
والجواب:أنه قد ورد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا أراد أكل لحم الدجاج حبسه يوماً أو يومين حتى يذهب ما في بطنه ثم يأكله . وعلى هذا فإن جواز أكل لحم الدجاج مع أنه يأكل الجلة هذا من التيسير بشرطه وقد وصف الله سبحانه وتعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه يحل لأمته الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وعلى هذا فإن الدجاج من الطيبات التي أحلها الله فإن كان الدجاج محبوساً ومعلوفاً كفينا أمره وإن كان متروكاً يذهب ويجيء ففي هذه الحالة إذا أراد صاحبه أن يذبح منه حبس التي يريد أن يذبحها
الحديث العاشر : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها
موضوع الحديث : لعق الأصابع بعد الأكل
المفردات(5/150)
يلعقها : أي يلحسهابلسانه
ويُلعقها : يعطي غيره ممن لا يتقذر منه فيأمره بلعقها
المعنى الإجمالي
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل طعاماً ألا يمسح يده أو يغسلها حتى يلعقها أو يلعقها لأنه لا يدري في أي طعامه البركة ومن أجل ذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلعق الأصابع فلعل البركة فيما علق بها من الطعام
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما استحباب لعق الأصابع بعد الأكل وقبل الغسل
ثانياً : العلة في ذلك أن العبد لا يدري في أي طعامه البركة
ثالثاً : أن اللعق ليس بمستقذر ولا مستقبح وإن زعم ذلك الذين فسدت عقولهم وتغيرت طباعهم فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بمستقبح ولا مستنكر وإنما يأمر بالحق
رابعاً : يؤخذ من قوله أو يُلعقها أي يعطي غيره من أهل بيته من زوجة أو خادم أو ولد أو بنت أو ما أشبه ذلك
خامساً : أطلق اليد على الأصابع واللعق يكون للأصابع وراحة الكف التي تباشر الطعام وقد استنبط ابن الملقن رحمه الله من الأمر باللعق للأصابع أنه يجوز الأكل بها جميعاً
سادساً : جواز مسح اليد بعد الأكل وحيث أن المسح لا يزيل بقايا الطعام جميعاً فقد استحب الغسل بعده وبالله التوفيق .
باب الصيد
الصيد مصدر صاد يصيد صيداً والمقصود به الحيوانات المتوحشة التي لا يمكن للإنسان التمتع بلحمها إلا بقتلها إما برمي حجارة فيدركه فيذكيه أو برمي المعراض كما في حديث عدي بن حاتم وهي تنقسم إلى قسمين :-(5/151)
ما كان من نوع الطيور ما يعتبر منها من الطيبات لطيب لحمه دون ما يصيد بمخلبه كالصقر من الطيور أو نابه من السباع وقد حرم الشارع أكل هذه الأنواع فقد ورد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ) (1)
كذلك ما كان يأكل القاذورات أو كريه الرائحة كالذي يسمى عندنا بالعكاش
وقول الله تعالى ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) [ المائدة : 5 ] فكل طيب من الطير والصيد فهو حلال إلا ما وصفنا سابقاً ويستثنى مما يأكل القاذورات كالجيف وما أشبه ذلك يستثنى من ذلك الضبع ويحرم ما عداه كالنسر والرخم والغراب والحدأة وما أشبهها من الطيور وما كان مفترساً من الطيور وهو الصقر وما في معناه من الطيور المفترسة وكذلك من الحيوانات المتوحشة أو المفترسة كالسبع والفهد والنمر والذئب وما أشبه ذلك
الحديث الأول : عن أبي ثعلبة (2)
__________
(1) رواه مسلم في الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير رقم 1934 والترمذي في كتاب الأطعمة باب ما جاء في كراهية أكل المصبورة رقم 1474 وفي باب ما جاء في كراهية أكل كل ذي ناب وذي مخلب رقم 1478 والنسائي في كتاب الصيد والذبائح باب إباحة أكل لحوم الدجاج رقم 4348 وأبو داود في كتاب الأطعمة باب النهي عن أكل السباع رقم 3803 ورقم 3805 ورقم 3806 وابن ماجة في كتاب الصيد باب أكل كل ذي ناب من السباع رقم 3234 والدارمي في كتاب الأضاحي باب ما لا يؤكل من السباع رقم 1982
(2) أبو ثعلبة الخشني بضم المعجمة وفتح الشين المعجمة بعدها نون صحابي مشهور بكنيته قيل اسمه جرثوم بن ناشر وقيل غير ذلك توفي في أول خلافة معاوية . التقريب 8006(5/152)
الخشني رضي الله عنه قال أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم ؟ وفي أرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي قال أما ما ذكرت يعني من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل .
موضوع الحديث : فيه مسائل متشعبة فمنها الأكل في آنية أهل الكتاب ومنها الصيد بالقوس والكلب المعلم وغير المعلم
المفردات
إنا بأرض قوم أهل كتاب : المراد بهم اليهود والنصارى
أفنأكل من آنيتهم : استفهام طلبي يراد منه بيان الحكم
وفي أرض صيد : المراد به الحيوانات المتوحشة
قوله بكلبك المعلم : المعلم هو ما عُلم آداب الاصطياد
قوله أما ما ذكرت : أما هنا تفصيلية
قوله فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها : إنّ هنا شرطية ويترتب على هذا الشرط أنه لا يجوز الأكل فيها إلا إذا لم توجد آنية غيرها
قوله وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل : المقصود بالصيد بالقوس أن يخرق ويسيل الدم وما صدت بكلبك غير المعلم وأدركت ذكاته فكل
المعنى الإجمالي
سأل أبو ثعلبة رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مسائل تتعلق بآنية الكفار وبالصيد كما سيأتي فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث
فقه الحديث
الأول : سؤال العبد عما يشكل عليه في دينه
الثاني : جمع المسائل والسؤال عنها دفعة واحدة
ثالثاً : سأل أبو ثعلبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأكل في آنية أهل الكتاب فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها فيؤخذ منه تحريم الأكل في آنية أهل الكتاب إن وجدنا غيرها(5/153)
رابعاً : أنا إذا لم نجد غيرها فإنه يجب علينا أن نغسلها ونأكل فيها
خامساً :هذا الحكم يتعلق بآنية أهل الكتاب التي يطبخون فيها الخنزير والميتة ويشربون فيها الخمر
سادساً : قد دلت أدلة على أن أواني الماء وما أشبهها مما يكون مخصصاً للحلال فإنه يجوز الأكل والشرب فيه بدليل استسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مزادتي المشركة (1) وبدليل توضأ عمر من جرة نصرانية (2)
سابعاً : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل المراد بالقوس الذي يكون به النبل والنبل غالباً يخرق الصيد ويقتله فما أسال الدم في أي عضو منه فإنه يعتبر ذكاة له إذا ذكر اسم الله عليه
ثامناً : القول الصحيح في الصيد أنه لا يحل إذا نسي الصائد أن يذكر اسم الله على القوس إذا أرسلها أو على الكلب إذا أرسله
تاسعاً : يؤخذ من قوله وما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل يؤخذ منه أنه لايحل إلا ما صاده الكلب المعلم بشرط أن يكون قد ذكر اسم الله عليه فإن نسي أن يذكر اسم الله عليه حين أرسله لم تحل أخيذته لأن التسمية شرط في الصيد دون الذكاة على القول الأصح
عاشراً : ما هي شروط الكلب المعلم الذي يعتبر معلماً تحل أخيذته أي يحل ما صاده ؟
الجواب : أولاً : المعلم هو الذي إذا أرسله استرسل وإذا زجره انزجر
ثانياً : ألا يأكل مما صاده لأنه إذا أكل منه فإنما يكون قد أمسك على نفسه لا على صاحبه
ثالثاً : أن يكون قد جرح الصيد إما بمخلبه أو بنابه فأسال منه الدم
__________
(1) البخاري في كتاب التيمم باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء رقم 344 وفي كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام رقم 3571 ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها رقم 682
(2) سنن البيهقي رقم 127 وفتح الباري شرح صحيح البخاري 1/358 شرح حديث رقم 193 .(5/154)
الحادي عشر: أنه لا يحل مما صاده الكلب المعلم إلا بالشروط الثلاثة المتقدمة فإن لم يكن جرحه فإنه في هذه الحالة إما أن يدرك الصائد ذكاته فيذكيه فيحل أولا يدرك ذكاته فلا يحل
الثاني عشر :اختلف أهل العلم فيما إذا أكل الكلب من فريسته وهو معلم هل يحل الصيد ؟ اختلفت في هذا المسألة الأحاديث فلذلك اختلف أهل العلم فيها فمنهم من أجاز ما صاده ولو أكل منه إذا كان معلماً ومنهم من منع وهذه المسألة تحتاج إلى تحرير
الثالث عشر :أنه إذا كان الكلب غير معلم فإنه لا يحل صيده إلا أن يدركه صاحبه حياً فيذكيه لقوله - صلى الله عليه وسلم - وما صدت بكلبك غير المعلم وأدركت ذكاته فكل ) فيؤخذ منه أن ما لم تدرك ذكاته لا يؤكل .
الرابع عشر: لم يذكر في هذا الحديث المعراض وقد ذكر في حديث عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ أُرْسِلُ كِلابِي الْمُعَلَّمَةَ قَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كِلابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَأَمْسَكْنَ فَكُلْ وَإِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْ )
الخامس عشر :أن ما صاده الصائد بالمعراض أو غيره فقتله بثقله ولم ينهر منه الدم فإنه حينئذ لا يحل أكله .
السادس عشر : يؤخذ مما تقدم أن الصيد لا يحل إلا بشروط كما سبق بيانه فإن كان قد صيد بكلب معلم أو بسهم وذكر اسم الله عليه وأنهر الدم فهو حلال وإن كان قد صيد بكلب غير معلم أو قتل بشيء ثقيل أو نسي الصائد أن يسمي عليه ولم ينهر دماً فإنه في هذه الحالة لا يحل(5/155)
السابع عشر :فرق بين تذكية الحيوانات الأهلية كالأنعام وبين الصيد أن التسمية في الصيد شرط وفي الذكاة واجبة وليست بشرط لحديث عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ قَوْمًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِلَحْمٍ لا نَدْرِي ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا قَالَ سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا وَكَانُوا حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْكُفْرِ ) (1) وبالله التوفيق .
الحديث الثاني : عن همام (2) بن الحارث عن عدي (3) بن حاتم رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن عليّ وأذكر اسم الله فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك قلت وإن قتلن قال وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها قلت فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب قال إذا رميت بالمعراض فخرق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله
وحديث الشعبي (4)
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب الذبائح باب التسمية عند الذبح رقم 3174 والدارمي في كتاب الأضاحي باب اللحم يوجد فلا يدرى أذكر اسم الله عليه رقم 1976 ( قال الألباني صحيح )
(2) همام بن الحارث بن عمر بن قيس النخعي الكوفي الثقة عابد من الثانية مات سنة خمس وستين روى له الجماعة
(3) عدي بن حاتم : هو عدي بن حاتم بن عبدالله بن سعد بن الحشرج بفتح المهملة وسكون المعجمة آخره جيم الطائي أبو طريف بفتح المهملة وآخره فاء صحابي شهير وكان ممن ثبت في الردة وحضر فتوح العراق وحروب علي رضي الله عنهما مات سنة ثمان وستين وهو ابن مائة وعشرين سنة وقيل ثمانين . التقريب ت 4572 .
(4) الشعبي : هو عامر بن شراحيل الشعبي بفتح المعجمة أبو عمر ثقة مشهور فقيه من الثالثة قال مكحول ما رأيت أفقه منه مات بعد المائة وله نحو من ثمانين سنة روى له الجماعة الترجمة3092 التقريب(5/156)
عن عدي نحوه وفيه إلا أن يأكل الكلب فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره .
وفيه إذا أرسلت كلبك المكلب فاذكر اسم الله عليه فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاته
وفيه أيضاً إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه
وفيه وإن غاب عنك يوماً أو يومين
وفي رواية اليومين والثلاثة فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت فإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك .
موضوع الحديث :ما يحل من أخذ الصيد بالكلب المكلب وما يحرم وما يحل مما يرمى بالمعراض والسهم وما يحرم
المفردات
الكلاب المعلمة : هي التي علمت لاصطياد الصيد ويفرق الكلب المعلم بأنه يسترسل إذا أرسل وقيل هو الذي يستشلي إذا أشلي وينزجر إذا زجر ولا يأكل من فريسته
فيمسكن عليّ : أي يمسكن على الصيد
واذكر اسم الله : ليس معنى واذكر اسم الله مرتباً على الإمساك ولكنه يذكر اسم الله عليه إذا أرسل
فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك : أي ويعرف ذلك بالعلامات السابقة
قلت وإن قتلن قال وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها
قوله أرمي بالمعراض : المراد بالمعراض الظاهر أنه عود فيه زج كالحربة
قال إذا رميت بالمعراض فخزق : معنى خزق هو بمعنى حديث أبي ثعلبة الخشني فخرق بمعنى أنه دخل في جسم الصيد وأسال منه الدم فكله(5/157)
وإن أصابه بعرضه فلا تأكله : بمعنى أنه وقيذ والموقوذة حرام كما في أول سورة المائدة (1)
قوله كلبك المكلب : أي المعلم
فاذكر اسم الله عليه فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة له وكذلك قال في السهم إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه وفيه وإن غاب عنك يوماً أو يومين
وفي رواية اليومين والثلاثة فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت فإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل فإنك : الفاء هنا تعليلية لا تدري الماء قتله أو سهمك .
المعنى الإجمالي
سأل عدي بن حاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاصطياد بالكلاب المعلمة فقال له كل مما أمسكن عليك إذا ذكرت اسم الله عليها عند الإرسال ما لم تجد معها كلب آخر فإن وجدت معها كلب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك وكذلك إذا رميت بالمعراض وخزق أي دخل في الصيد وأسال منه الدم فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكل فإنه إذا أرسل كلبه ولحق الصيد قبل أن تقتله الكلاب فإنه يجب عليه أن يذكيه حينئذ إذا كان حياً ولو شاركه كلب آخر ، وسأله عن الرمي بالسهم إذا ذكر اسم الله عليه فأمره أن يأكل مما أصاب فإن غاب عنه يوم أو يومان ولم يجد فيه إلا أثر سهمه فإنه يجوز له الأكل منه فإن وجده غريقاً في الماء فلا يأكل فإنه لا يدري الماء قتله أم سهمه
فقه الحديث
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ... . الآية) [ المائدة : 3 ](5/158)
أولاً : يؤخذ منه اشتراط التسمية على الصيد كما تقدم في حديث أبي ثعلبة والتسمية على الصيد شرط في حله أما في الذكاة لبهيمة الأنعام فهي فيها واحبة وليست بشرط فلو نسيها في الذكاة أو الذبيحة فالذبيحة حلال .
ثانياً كل ما يكون سبباً في اصطياد الصيد فلا بد من التسمية عليه فإن كان كلب سمي عليه حين يرسله وإن كان سهماً سمى عليه حين يرمي به
ثالثاً : يؤخذ منه أن ما صيد بالكلاب المعلمة فإنه يؤكل لقوله سبحانه وتعالى (مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) [ المائدة : 4 ]
وهنا قال فإن أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك
رابعاً : أنه إذا وجد الصيد حياً وجب عليه أن يذكيه
خامساً : فإن قصر في التذكية حتى مات الصيد فإنه يحرم أكله
سادساً : إذا شارك الكلب المعلم كلب آخر فوجد الصيد مقتولاً لم يجز لصاحب الكلب المعلم أن يأكل من الصيد لأنه إنما سمى على كلبه ولم يسم على كلب غيره
سابعاً : أنه إن أكل منه أي إن أكل الكلب من الفريسة لم يجز الأكل مما صاد لأنه ربما أنه أمسك على نفسه ولم يمسك على صاحبه
ثامناً : اختلفت الرواية في الكلب إذا أكل من الصيد ففي بعضها نهى عن الأكل مما أمسك إذا أكل منه وفي بعضها جواز الأكل مما أكل خشية أن يكون إنما صاد لنفسه ولم يصد لصاحبه ومن أجل ذلك فقد اختلف أهل العلم في ذلك فبعضهم أجاز وبعضهم منع وقد ذكر ابن الملقن الذين قالوا بالمنع نقلاً عن النووي في شرحه لمسلم قال ومنهم ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن البصري والشعبي والنخعي وعكرمة وقتادة وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وداود وبه قال الشافعي في أصح قوليه محتجين بحديث عدي هذا وبقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) وهذا لم يمسك علينا وإنما أمسك على نفسه(5/159)
قال وقال سعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وابن عمر ومالك يحل وهو قول ضعيف للشافعي وفي سنن ابي داود من حديث أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ) (1) لم يضعفه أبو داود وأما ابن حزم فضعفه
ونقل المحقق عن ابن حجر في الفتح أنه قال أخرجه أبو داود ولا بأس بسنده وحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه قال وربما علل بأن عدياً كان من المياسر فخير له الحمل على الأولى بخلاف أبي ثعلبة
قلت : أحكام الله عز وجل لا تختلف باختلاف الأشخاص وحالتهم المادية
تاسعاً : ذكر ابن الملقن عن إمام الحرمين أنه قال وددت لو فصل مفصل بين أن يكف زماناً ثم يأكل وبين أن يأكل بنفس الأخذ لكن لم يتعرضوا له
وأقول : في هذا تنبيه على أمر مهم وهو أن يكون الكلب جائعاً فيمسك عن الأكل زمناً فإذا لم يأت أحد للصيد أكل منه بسبب جوعه وفي هذا نظر إذا كان الأكل بسبب تأخر صاحبه عنه
عاشراً : أن حكم الجوارح من الطير كحكم الكلاب إذا أكلت مما صادته فالأصح جمع القولين بالكلب والطير سواء
الحادي عشر : قوله وأصيد بالمعراض أو قال وأرمي بالمعراض فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رميت بالمعراض فخزق فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل يعني أنه إذا خرق وأسال الدم حل الصيد أما إذا قتله بثقله فهو موقوذ فلا يحل وقد قال الله عز وجل (وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ)(2)
يعني أن هذه كلها محرمات .
الثاني عشر : إذا كان الصائد يصطاد بسهم فيرمي فإنه إذا ذكر اسم الله عليه حل ما رماه به لقوله وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه
__________
(1) أبو داود في كتاب الصيد باب في الصيد رقم 2852 قال الألباني منكر
(2) سبق تخريجه(5/160)
الثالث عشر:إنه إذا غاب عنه يوم أو يومين ولم يجد فيه إلا أثر سهمه فإنه يجوز له أكله
قلت : يجوز له أكله ما لم يتعفن فإن تعفن فإنه يكون قد تسمم فلا يجوز أكله ومعلوم أن طبيعة الإنسان تأباه
الرابع عشر:أنه إذا رمى الصيد بالسهم وغاب عنه ثم وجده غريقاً في ماء فلا يجوز له أكله لأنه لا يدري أقتله سهمه أو قتله الماء
الخامس عشر : يجب أن يعلم أن التذكية تكون بسيلان الدم من المذكاة سواء كانت بالسهم إذا كان في الصيد أو بإمساك الكلب وجرحه له أو بجرح الطير من الجوارح وما لم يجرح وييخرج دمه فإنه لا يجوز أكله
الحديث الثالث : عن سالم (1) بن عبدالله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان قال سالم وكان أبو هريرة يقول أو كلب حرث وكان صاحب حرث
موضوع الحديث : حكم اقتناء الكلب
المفردات
من اقتنى كلباً : الاقتناء هو الاتخاذ والاكتساب
إلا كلب صيد : المقصود به الكلب المعلم الذي يصطاد به أو ماشية بأن يكون صاحبه صاحب غنم ويريد باقتنائه أن يحمي غنمه وورد في رواية أبي هريرة أو كلب حرث
والمراد بكلب الحرث : هو الذي يقصد به حماية الحرث أي الزرع
المعنى الإجمالي
__________
(1) ترجمة سالم بن عبدالله : هو سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي أبو عمر أو أبو عبدالله المدني أحد الفقهاء السبعة وكان ثبتاً عابداً فاضلاً كان يشبه بأبيه في الهدى والسمت من كبار الثالثة مات في آخر ست على الصحيح
قلت : يعني ست ومائة روى له الجماعة . التقريب رقم الترجمة 2176(5/161)
يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من اقتنى كلباً لا لشيء من المقاصد الشرعية الصحيحة بأن يكون اقتناه ليصيد به الصيد أو اقتناه ليحمي له الماشية أو اقتناه ليحمي له الزرع فمن اقتناه لشيء من هذه الثلاثة نجا من الإثم ونقصان العمل ومن اقتناه لغير هذه المقاصد فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراط
القيراط مقدار من ثواب العمل يعلمه الله عز وجل وقد ورد ذكر القيراط في اتباع الجنازة وقد ورد أنه إن تبعها إلى أن تدفن رجع بقيراطين من الأجر وإن تبعها حتى يصلى عليها رجع بقيراط من الأجر وقال في بعض الروايات أن القيراط مثل جبل أحد والمهم أنه مقدار يعلمه الله عز وجل ولا نعلمه وبالله التوفيق
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث كراهة اقتناء الكلب لغير هذه المقاصد
ثانياً : سبق أن قلنا أن القيراط مقدار من الثواب يعلمه الله عز وجل
ثالثاً : قيل أن القيراطين أحدهما من الفرض والآخر من النفل وقيل أن أحدهما من عمل الليل والآخر من عمل النهار
رابعاً : أن اقتناء الكلاب لغير المقاصد المذكورة في الحديث يعرض المقتني في التساهل بالنجاسة وكثيراً ما يلامس الكلاب أصحابها والعياذ بالله
خامساً : هل العلة في النقص ما يحصل منها من ترويع المارين الذين ليس لهم مقاصد سيئة أو غير ذلك نترك الأمر في ذلك إلى الله عز وجل
سادساً : يؤخذ من الحديث أن اقتناء الكلب ممنوع وقد رخص فيه لمن قصد الاصطياد به أو حماية الماشية أو الزرع
سابعاً : يقاس على الثلاثة الخصال المذكورة في الحديث جواز الاقتناء لأهل البادية الذين يسكنون في البوادي ويتخذون الكلاب لحماية بيوتهم قال ابن الملقن هل يقاس على الصيد والزرع والماشية غرض حراسة الدروب ونحوها فيه وجهان لأصحابنا
أحدهما: يقتصر بالرخصة على ما ورد
قلت : وقد قال أهل الأصول الرخص لا يقاس عليها(5/162)
والثاني : أن هذه الرخصة وهي الحاجة إلى الحماية يتعدى بها ولهذا قال العلماء الرخصة إذا عرفت عمت وإذا وقعت عمت فعمومها يكون في حكمها ومعناها ومحل الخلاف في حفظ الدروب في غير أهل البوادي وسكان الخيام في الفلوات فأما هؤلاء فيجوز لهم اقتنائه حول بيوتهم قطعاً لتحرسهم من الطراق والوحش وعزى هذا إلى العجلي وقال وحكاه الروياني في بحره وبالله التوفيق .
الحديث الرابع : عن رافع بن خديج الأنصاري رضي الله عنه لعلها تقدمت ترجمته قال كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة من تهامة فأصاب الناس جوع فأصابوا إبلاً وغنماً وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات القوم فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقدور فأكفئت ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير فند منها بعير فطلبوه فأعياهم وكان في القوم خيل يسيرة فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه الله تعالى فقال ( إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا قال قلت يا رسول الله إنا لاقوا العدو غداً وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟ قال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة .
موضوع الحديث : الذكاة
المفردات
قوله بذي الحليفة : ذكر الشارح ابن الملقن على أن هذا مكان من تهامة بين جادة وذات عرق وليست المُهل الذي بقرب من المدينة نص على ذلك أهل العلم منهم الحازمي في المؤتلف والمختلف من أسماء الأماكن
فأصاب الناس جوع : الناس مفعول لأصاب وجوع فاعل
وأصابوا إبلاً وغنماً : الإبل اسم جنس ولا واحد له من لفظه وغنماً اسم جنس أيضاً
في أخريات القوم : أي في مؤخرهم وقد ورد أن أمير السرية أو أمير الغزو يكون في أول الجيش إذا غزى وفي مؤخرهم إذا قفل وهذا يدل على ما ذكر(5/163)
قوله فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور : أي أنهم ذبحوا من تلك المواشي ولم ينتظروا القسمة فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقدور فأكفئت : أي أكفأ اللحم والمرق
ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير : معنى عدل أي جعل البعير عدل عشر شياة
قوله فندّ منها بعير : أي فرّ وهرب وامتنع أن يُمسك
فطلبوه فأعياهم : أي أنهم طلبوا البعير ليأخذوه فأعياهم بنفوره
قوله وكان في القوم خيل يسيرة : تعليل لعدم قدرتهم على أخذه
فأهوى رجل : أي رماه رجل منهم بسهم
فحبسه الله تعالى : أي أمسكه بذلك السهم بإذن الله تعالى
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن لهذه البهائم أوابد : يعني أن بعضها ينفر نفور الوحش
والأوابد : جمع آبدة والآبدة هي النافرة من الوحش يقال أَبَدَ يَأبِد أُبُوداً كنفر ينفر نفوراً
قوله فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا : أي ما غلبكم ولم تقدروا عليه فاصنعوا به هكذا : أي ارموه كما ترموا الصيد
قلت يا رسول الله إنا لاقوا العدو غداً : أي سنلقى العدو غداً ولربما أن نغنم منهم وليست معنا مُدى والمدى جمع مدية وهي الشفرة أو السكين الذي يُذبح به
أفنذبح بالقصب : المراد بالقصب الليطة التي تكون على القصب وهي ما تسمى حلالة بلغتنا الدارجة
قال ما أنهر الدم : أي أساله بجريان كثير كجريان النهر وذكر اسم الله عليه فكلوا : أي ما جمع هذين الأمرين إنهار الدم وذكر اسم الله عليه فلكم أن تأكلوا لقوله سبحانه وتعالى ( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) [الأنعام : 118 ]
قوله ليس السن والظفر : ليس هنا استثنائية بمعنى إلا السن والظفر
قوله وسأحدثكم عن ذلك : أي عن سبب منع التذكية بالسن والظفر
أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة
المعنى الإجمالي(5/164)
يخبر رافع بن خديج رضي الله عنه أنهم كانوا في غزوة من الغزوات مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكان يقال له ذي الحليفة وأنهم أصابوا نعماً كثيرة فذبحوا من تلك النعم قبل قسمته ولم ينتظروا القسمة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - متأخراً فأتى إليهم وقد نصبوا القدور فعمد إلى القدور فكفئها ورملها أي حشاها بالتراب وقال إن النهبة ليست بأحل من الميتة ثم قسم فعدل البعير بعشر من الغنم وحينئذ ذبح كل منهم مما أصاب أي من نصيبه الخاص به فند بعير أي فر ولم يقدروا عليه لقلة الخيل ورماه رجل بسهم فحبسه الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن لهذه البهائم أوابد كأبوابد الوحش فما ند عليكم منها فاصنعوا به هكذا
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث تحريم التصرف في الأموال المشتركة كالغنيمة وغيرها بغير إذن من أصحاب الحقوق أو الإمام
ثانياً : فيه فضيلة للصحابة رضوان الله تعالى عليهم حيث كانوا يكونون في الغزوات يصيبهم الجوع والحاجة فيصبرون
ثالثاً : يؤخذ من قوله فأصابوا إبلاً وغنماً أن الله سبحانه وتعالى كان يمنح أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - رزقاً يزيل به ما عليهم من الشدة وفي هذه الغزوة قد أصابوا إبلاً وغنماً
رابعاً : أن القوم عجلوا وذبحوا ونصبوا القدور ضانين إباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك
خامساً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب عليهم فأكفأ قدورهم بما فيها من اللحم والمرق ورملها أي حشاها بالرمل وهو التراب ليكون ذلك أبلغ في الزجر
سادساً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليست النهبة بأحل من الميتة مشيراً إلى أن ما فعلوه يعتبر نهبة لأنهم ذبحوا من شيء مشترك قبل قسمته
سابعاً : يؤخذ منه عقوبة الأمير لرعيته إذا حصلت منهم مخالفة(5/165)
ثامناً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم بعد ذلك فعدل عشراً من الغنم ببعير وهذا فيه مخالفة لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن البعير يعدل سبع شياة في الأضاحي والهدي فأما أن يكون الغنم الذي أصابوه صغاراً وتكون هذه القصة مخصوصة بذلك فتعتبر واقعة عين وأما أن يكون التقدير الذي في الهدي والأضاحي يختلف عن التقدير في القسمة
تاسعاً : قوله فند منها بعير أي فر فطلبوه فأعياهم أي لم يقدروا عليه فرماه رجل بسهم فحبسه الله تعالى وفي هذا دليل على أن ما توحش من البهائم تكون ذكاته كذكاة الصيد فيذكى بالعقر قال ابن الملقن وممن قال بجواز عقر الناد علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس يعني من الصحابة وطاووس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري والشعبي والأسود بن يزيد من التابعين والحكم بن عيينة وحماد لعله ابن زيد والنخعي إبراهيم والثوري أي سفيان الثوري وأبو حنيفة هؤلاء من اتباع الأتباع وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وابو ثور والمزني وداود والجمهور أي هؤلاء كلهم قالوا أن ما ندّ من البهائم يكون حكمه كحكم الصيد في الذكاة وقال سعيد بن المسيب وربيعة الرأي والليث بن سعد ومالك لا يحل إلا بذكاته في حلقه كغيره قال وحديث رافع حجة عليهم . أهـ بتصرف
عاشراً : يؤخذ من قوله فاصنعوا به هكذا أن ما ندّ من البهائم يرمى فإن أدرك قبل الموت ذكي أما إذا مات من ذلك وكان الرامي قد سمى الله عليه ورماه بما يسيل الدم وينهره فهو يعتبر مذكى
الحادي عشر :كما أن ما ندّ من البهائم تكون ذكاته ذكاة صيد فكذلك ما قدر عليه من الصيد قبل أن يموت فهو يذكى كتذكية البهائم
الثاني عشر : قوله قلت يا رسول الله إنا لاقوا العدو غداً وليس معنا مُدى أي ليس معنا سكاكين أفنذبح بالقصب وقد ورد بالحجارة أو ما أشبه ذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ) يؤخذ من هذا أن في ذكاة البهائم شرطين(5/166)
الشرط الأول : أن يذكى بما يسيل الدم وينهره
الشرط الثاني : أن يذكر اسم الله عليه
فما توفرت فيه هذان الشرطان فهو مذكى
الثالث عشر : أن ليطة القصب والحاد من الحجارة والزجاج يختلف في إنهار الدم باختلاف الحيوان الذي يذكى به فما كان جلده أقوى لا ينهر دمه إلا السكين أو السيف أما القصب فيجوز أن يذكى به أولاد الغنم الصغار والطيور أو ما أشبه ذلك فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أنهر الدم أي ما أساله بكثرة حكم عام فصلوات الله وسلامه على من أوتى جوامع الكلم
الرابع عشر: سبق أن قلت أن المتوحش إذا كان مقدوراً عليه لا بد أن يذكى كذكاة الحيوانات الآنسه ونضرب لذلك مثلاً ليتضح فمن كان عنده مجموعة من الأرانب وأراد أن يذبح منها للأكل فلا يجوز أن يذكيها كذكاة الصيد ما دام قادراً عليها بل يجب عليه أن يذكيها ذكاة الحيوانات الآنسة بأن يأخذ الأرنب ويذبحها من الحلق
الخامس عشر : ما هي الذكاة المشروعة في الحيوان الآنس كالغنم والبقر وما أشبه ذلك تكون الذكاة بقطع المري والحلقوم لأن قطعهما يسيل به الدم وفي حق الإبل طعنها في اللبة وهو ما يسمى بالنحر
السادس عشر : هل التسمية مشروطة في الحيوان الذي يذكى ويذبح أو أنها واجبة فإن تركت نسياناً صحت الذبيحة وقد اختلف أهلم العلم في هذا وما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله من أن الذكاة في حق البهائم الآنسة بذكر اسم الله عليه ولكن التسمية في ذلك ليست بشرط وإنما تكون شرطاً في الصيد
السابع عشر : قوله هنا وذكر اسم الله عليه يظهر منه أنه شرط في ذكاة الحيوان الآنس فما هو الدليل الذي صرفه عن الشرطية إلى الوجوب ؟(5/167)
الجواب : تقدم لنا حديث في ذلك وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِلَحْمٍ لا نَدْرِي ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا قَالَ سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا ) (1) فكان هذا الحديث صارفاً لهذا النص من الشرطية إلى الوجوب ويستقر الأمر في ذلك أن التسمية في الذكاة واجبة وليست بشرط فإن تركت نسياناً جازت المذكاة
الثامن عشر : قوله ليس السن والظفر هذا استثناء من قوله ما أنهر الدم أي إلا السن والظفر قال وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم ويؤخذ منه أن العظام لا يجوز الذبح بها لأنها طعام الجن كما أنه لا يجوز الاستنجاء والاستجمار بها
التاسع عشر : قوله وأما الظفر فمدى الحبشة أي سكاكين الحبشة وأنتم منهيون عن التشبه بالكفار فابتعدوا عن ذلك .
العشرون : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن لأمته كل ما يشكل عليهم ولم يبق على أمته شيء مشكل وقد قال - صلى الله عليه وسلم - تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ) إلا أن علم ذلك يختلف باختلاف الناس فالحمد لله الذي علمنا ما لم نكن نعلم ذلك فضل الله علينا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
باب الأضاحي
الأضاحي جمع أضحية ويقال جمع ضحية وقد يقال أن جمع الأضحية أضاحي وجمع الضحية ضحايا
__________
(1) سبق تخريجه(5/168)
قيل سميت الضحية باسم زمن فعلها والأصل في مشروعيتها ما ذكره الله عز وجل عن نببيه وخليله إبراهيم عليه السلام أنه أتى إلى ابنه إسماعيل بمكة وهو غلام وقال له يا بني ( إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) [ الصافات : 102 ] ولا عجب من هذا الجواب إذ أن إسماعيل هو أيضاً من أنبياء الله ويعلم أن رؤيا الأنبياء حق فأجاب بالموافقة بل إلتمس من أبيه إنفاذ الأمر الرباني (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) فذهب به إلى حيث أمره جبريل فاعترضه الشيطان يقول أتذبح ابنك على رؤيا فرماه بحجر وانتقل إلى مكان آخر فقال له مثل ذلك فرماه بحجر وانتقل إلى المكان الثالث فاعترضه فرماه بحجر ولم ينتقل وعزم على إنفاذ الأمر فجاءه جبريل بالفداء كبش من الجنة قال الله عز وجل ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) [ الصافات : 107] فكانت سنة وشرعها الله عز وجل لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -
أورد فيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما
والأملح : الأغبر وهو الذي فيه سواد وبياض .
موضوع الحديث : الأضحية واختيارها وأفضلية الجيد منها
المفردات
ضحى : أي ذبحهما ضحايا
بكبشين : هما الذكور من الضأن يقال له كبش ويقال له خروف
أملحين : تفسير الملوحة بأنها بياض اللون أو بياض يخلطه سواد بأن يكون السواد يحيط بالعينين والفم والركب وشيء من البطن
أقرنين :يعني أنهما كبار قد بدت لهما قرون
ذبحهما بيده : أي باشر الذبح بيده
وسمى وكبر : أي قال بسم الله والله أكبر
ووضع رجله على صفاحهما : جمع صفحة وهو جانب العنق
المعنى الإجمالي(5/169)
يخبر أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أي جعلهما ضحيتين موصوفين بملوحة اللون وأن لهما قرنان وأنه ذبحهما بيده ولم يستنب أحداً في الذبح وسمى وكبر على الذبح ووضع رجله على صفاحهما
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث مشروعية الأضحية ولا خلاف أنها من شرائع الدين وهي سنة مؤكدة قال ابن الملقن على الكفاية قال وهو مذهب الشافعي وأصحابه وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد قلت هو محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة هي واجبة على المقيمين من أهل الأمصار ويعتبر في وجوبها النصاب
وأقول : أولاً : أن الأضحية سنة مؤكدة على الموسر دون المعسر وهو الذي تدل عليه الأدلة
الثاني : اختلف أهل العلم في الأفضل من الأنعام هل هو الإبل أو البقر أو الغنم ولا شك أن الواحدة من الإبل المعتبرة في الهدي والأضحية تكفي عن سبعة وكذلك البقر(5/170)
ثالثاً : أن الأفضل في الأضحية هو الغنم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين كما في الحديث وأنه مرة كان عنده غنم فأمر أحد أصحابه وهو عقبة بن عامر أن يقسمها بين صحابته وبقي منها تيس عتود فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ضح به أنت كما جاء ذلك في حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ ضَحِّ بِهِ أَنْتَ )(1)
رابعاً : السن المعتبرة في الأضاحي هي الثني ويعتبر الثني في الإبل والبقر والمعز دون الضأن ويجزئ في الضأن الجذع إذا كان ضخماً ولا يجزئ الجذع في غير الضأن
خامساً : أن الذكر أفضل من الأنثى في جميع بهيمة الأنعام بالنسبة للأضحية والهدي
سادساً : ينبغي مراعاة اللون كما جاء في الحديث كبشين أملحين والملوحة هي البياض واختلف أهل اللغة هل المراد بها البياض المحض أو البياض الذي يخلطه سواد قليل حول العينين والفم والأزماع والركبتين
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الوكالة باب وكالة الشريك في القسمة وغيرها رقم 2300 وفي كتاب الشركة باب قسمة الغنم والعدل فيها رقم 2500 وفي كتاب الأضاحي باب في أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 5555 ورواه مسلم في كتاب الأضاحي باب سن الأضحية رقم 1965 والترمذي في كتاب الأضاحي باب ما جاء في الجذع من الضأن في الأضاحي رقم 1500 والنسائي في كتاب الضحايا باب المسنة والجذعة رقم 4379 وابن ماجة في كتاب الأضاحي باب ما تجزئ من الأضاحي رقم 3138 والدارمي في كتاب الأضاحي باب ما يجزئ من الضحايا رقم 1954(5/171)
سابعاً : وقد حث العلماء على ما يكون لحمه أفضل وتكلموا في اللون أن له تأثير في نكهة اللحم وذوقه والظاهر أن التأثير في نكهة اللحم وذوقه هو الخصاء أو الوجاء وقد ورد في بعض الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ضحى بكبشين موجوئين ) (1) ومما هو مجرب ومعروف بلا خلاف أن لحم المخصي أفضل من لحم الموجوء والفحيل ولحم الموجوء أفضل من لحم الفحيل
ثامناً : الخصي هو الذي سلبت خصيتيه بمعنى قطعت وهو صغير والموجوء هو الذي رضت عروق خصيتيه وهو صغير
تاسعاً : أنه يشترط في الأضحية سلامتها من العيوب وقد نص على أربعة أنها من العيوب التي تمنع التضحية بالدابة التي اتصفت بها وهي
__________
(1) لحديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين فذبح أحدهما عن أمته لمن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ وذبح الآخر عن محمد وعن آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ) قال الشيخ الألباني : صحيح سنن ابن ماجة في كتاب الأضاحي باب أضاحي رسول الله رقم 3122 ولحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ ذَبَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مُوجَأَيْنِ فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ ذَبَحَ ) رواه أبو داود في كتاب الضحايا باب ما يستحب من الضحايا رقم 2795 وقد ضعفه الألباني رحمه الله(5/172)
العوراء البين عورها والعرجاء التي لا تطيق المشي مع الصحاح والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي من الكبر أو ما أشبه ذلك ) (1) وجعلوا كسر القرن وقطع الأذن عيباً يمنع التضحية بما وقعت فيه وقدروا ذلك بأن يكون أكثر من النصف ) (2)
عاشراً : الخرّاج ليس بعيب لأنه من خارج اللحم وتحت الجلد فقط فليس له تأثير في اللحم
الحادي عشر : أن من له أربع زوجات فله أن يضحي بأضحية واحدة لأن الأضحية تكفي عن الرجل وأهل بيته
__________
(1) لحديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ مَاذَا يُتَّقَى مِنْ الضَّحَايَا فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَقَالَ أَرْبَعًا وَكَانَ الْبَرَاءُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لا تُنْقِي ) رواه مالك في الموطأ في كتاب الضحايا باب ما ينهى عنه من الضحايا رقم 1041والنسائي في كتاب الضحايا باب العرجاء رقم 4369 ورقم 4370 ورقم 4371 وأبو داود في كتاب الضحايا باب ما يكره من الضحايا رقم 2802 وابن ماجة في كِتَاب الأَضَاحِيِّ بَاب مَا يُكْرَهُ أَنْ يُضَحَّى بِهِ رقم 3144 والترمذي في كِتَاب الأَضَاحِيِّ بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الأُضْحِيَّةِ رقم 1497 وصححه الألباني .
(2) لحديث عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الأُذُنِ وَالْقَرْنِ ) رواه أبو داود في كتاب الضحايا باب ما يكره من الضحايا رقم 2805 وابن ماجة في كتاب الأضاحي باب ما يكره أن يضحى به رقم 3145 والترمذي في كتاب الأضاحي باب في الضحية بعضباء القرن والأذن رقم 1504 الحديث ضعفه الألباني رحمه الله تعالى(5/173)
الثاني عشر: أنه يستحب للمضحي أن يتولى ذبح أضحيته بنفسه
الثالث عشر :أن يسمي على ذبحها لأن الله أمر بذلك والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك
الرابع عشر: يستحب أن يصرع الأضحية أو الهدي على جنبها الأيسر ويضع رجله على صفحتها اليمنى ويكون معه من يمسك برجليها إن أمكن ويمسك السكين باليمين ويسمي ويكبر عند الذبح
الخامس عشر : أن يستقبل بها القبلة عند الذبح وهذا من السنن .
السادس عشر :قد تقدم لنا في باب الصيد أن التسمية واجبة في المذكى وليست بشرط فيه فإذا تركها المذكي نسياناً فإن المذكى حلال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل (أَنَّ قَوْمًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِلَحْمٍ لا نَدْرِي ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا قَالَ سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا ) (1)
السابع عشر : السنة في الأضحية أن يأكل منها ويتصدق ويهدي فلو لم يتصدق هل تجزئ عنه هذا محل خلاف
الثامن عشر:لا تجزئ الأضحية إلا إذا ذبحت يوم النحر بعد الصلاة فإن ذبحت قبل الصلاة بطلت كما في (حديث البراء بن عازب وقصة خاله بردة بن نيار ) (2)
التاسع عشر : أن وقت الذبح هو النهار دون الليل على الأصح في يوم العيد واليومين بعده وعند الشافعي اليوم الثالث عشر يعتبره من وقت الذبح
العشرون : أن المضحي منهي أن يأخذ من شعره أو أظفاره إذا دخلت العشر أي عشر ذي الحجة وهل النهي للتحريم أو للتنزيه في هذا خلاف بين أهل العلم وهل يدخل في ذلك الزوجة والأولاد أم يختص برب البيت في هذا خلاف أيضاً وبالله التوفيق .
كتاب الأشربة
الأشربة جمع شراب ويقصد به هنا الأشربة المحرمة وما عدا ذلك فهو مباح
والأشربة المباحة ثلاثة :
1- الماء 2- واللبن 3- والعسل
وما اعتصر من الفواكة ولم يكن فيه مظنة الإسكار فهو مباح حلال
__________
(1) سبق تخريجه
(2) الحديث سبق في باب العيدين ج 3(5/174)
أما الاربع وهو النبيذ وما بلغ إلى حد التخمر سواء كان معتصراً أو نبيذاً فما بلغ إلى حد التخمر وجب تركه وحرم شربه والعلة في تحريم الخمر أنها تذهب العقل وتفسد الأخلاق وتستنزف المال وقد أشار القرآن إلى العلة في تحريمها حيث يقول تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) [ المائدة : 90 و91 ] ولقد كان تعلق العرب بالخمر شديداً فلذلك تدرج الله معهم في تحريمه .(5/175)
فأول ما جاء التعريض به في قوله سبحانه وتعالى ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) [البقرة : 219 ] فالتعريض من الله سبحانه وتعالى بالخمر والميسر بأن إثمهما أرجح من نفعهما ترجيح لجانب التحريم ثم بعد ذلك حرمت الخمر في أوقات الصلاة وقربها وأبيح للناس شربها إذا كان في وقت بعيد عن الصلاة لقوله سبحانه وتعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) [النساء : 43 ] وكان لذلك سبب وهو أن بعض الصحابة اجتمعوا في بيت أحدهم وجاء لهم بخمر فشربوا ثم قاموا يصلون فقرأ إمامهم (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) (1)
__________
(1) الحديث هو عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْرِ فَأَخَذَتْ الْخَمْرُ مِنَّا وَحَضَرَتْ الصَّلاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة النساء رقم 3026 وأبو داود نحوه في كتاب الأشربة باب تحريم الخمر رقم 3671 ( قال الألباني صحيح )(5/176)
المرحلة الثالثة وهي النهائية وهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل تحريمها حين شرب حمزة فقام إلى شارفين لعلي بن أبي طالب فجب أسنمتهما ولما ذهب علي رضي الله عنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شاكياً جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حمزة وهو ثمل (يعني سكران) فرفع بصره إليه وقال ما أنتم إلا عبيد لأبي (1)
أورد فيه ثلاثة أحاديث
الحديث الأول : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر : ما خامر العقل ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه :الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا .
موضوع الحديث : تحريم الخمر
المفردات
الخمر : مأخوذ من التخمير وهي التغطية ولكون الخمر يغطي العقل فيذهب الإحساس من الإنسان ويظل مثل البهيمة لا يشعر بشيء ولا يميز بين الأشياء فمن أجل ذلك حرم الله الخمر لأنها تغطي العقل وتذهب بإحساسه فيقع منه الفحش في القول والفعل لغياب العقل عنه وقد ذكروا أن قوماً من أهل الجاهلية تركوا الخمر في الجاهلية فلم يشربوها لمواقف حصلت لهم فذكر عن قيس بن عاصم المنقري أنه شرب الخمر فلما صحى فإذا ابنته تشتكي إليه أنه غمز عجيزتها فترك شربها وهو مشرك ومرّ أبو بكر في الجاهلية بسكران يرفع العذرة إلى فيه فحرم على نفسه الخمر في الجاهلية وكم قد سمع الناس أن بعض الناس يسكرون فيقع على أخته أو بنته أو أمه أو ما أشبه ذلك .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب أبواب الخمس باب فرض الخمس برقم 3091 وفي كتاب المغازي باب شهود الملائكة بدراً رقم 4003 ورواه مسلم في كتاب الأشربة باب تحريم الخمر وبيان أنها من عصير العنب رقم 1979 وأبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى رقم 2986(5/177)
قال وهي من خمسة ثم ذكر الخمسة وهي العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ثم قال والخمر ما خامر العقل أي غطاه كما سبق
ثلاث : أي ثلاث مسائل
وددت : تمنيت
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه ثم ذكر هذه الثلاث المسائل وهي الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا
قوله الجد : أي ميراث الجد
والكلالة : الكلالة على القول الأصح هو كل ميت لا ولد له ولا والد أي إذا انعدم الأصل والفرع فهو كلالة . الأصل هو الأب والجد والفرع هو الابن وابن الابن
قوله وأبواب من أبواب الربا : أي الظاهر أنه مسائل في الربا
المعنى الإجمالي
خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى منبره . هذه الخطبة قرر فيها رضي الله عنه أن الخمر ما خامر العقل وفي هذه الخطبة دليل للجمهور على أن الخمر لا يختص بالعنب كما قالت الحنفية وقد ذكر عمر رضي الله عنه في خطبته أن ثلاث مسائل فيها إشكال عندهم تمنى أن لو كان عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الثلاث المسائل عهداً إلى أمته ينتهون إليه فيها والحمد لله أن الأمر في هذه الثلاث المسائل قد وضح عند الجمهور وبالله التوفيق .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث مشروعية الخطبة على المنبر لبيان الأمور المشتبهة
ثانياً : مشروعية أما بعد في الخطبة
ثالثاً : مخاطبة الناس بما يجب بيانه لهم(5/178)
رابعاً : أخبر عمر رضي الله عنه أنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء أي المستعمل في المدينة من الخمسة الأشياء وهي العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ويؤخذ من هذا أن الخمر ليس مقصوراً على ما اتخذ من العنب كما قرر ذلك أبو حنيفة في مذهبه والحق أن الخمر كل ما خامر العقل وبلغ إلى حد الإسكار وقال ابن الملقن ج10ص196 وقال أبو حنيفة إنما يحرم عصير ثمرات النخل والعنب قال :فسلاقة العنب يحرم قليلهاوكثيرها إلا أن يطبخ حتى ينقص ثلثاها . قال : وأما نقيع التمر والزبيب فيحل إلى أن قال والنيء منه حرام ولكن لا يحد شاربه هذا كلامه مالم يشرب ويسكر فإن سكر فهو حرام بالإجماع . أهـ نقلاً عن ابن الملقن وبالجملة فإن مذهب أبا حنيفة فيه تساهل كثير في شرب النبيذ والقول الحق ما ذهب إليه الجمهور لقول عمر والخمر ما خامر العقل وللحديث الآخر الصحيح ( كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) أخرجه مسلم من طريق عمرو ولحديث عائشة الآتي رقم 408 سئل رسول الله عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام والبتع هو نبيذ العسل .
خامساً : أن كل ما بلغ إلى حد الإسكار سواء كان معتصراً أو نبيذاً وسواء كان من العنب أو من غيره فهو حرام .
سادساً : أشار الله عز وجل في كتابه إلى العلة في تحريم الخمر بقوله سبحانه وتعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ ) والميسر هو ما يسمى بالقمار وهو أن تجرى لعبة بعينها على شيء يأخذه الغالب من اللاعبين فهذا هو الميسر وهو يفضي بصاحبه إلى الإفلاس والعياذ بالله وغضب الله عليه فوق ذلك
قوله والأنصاب المراد بها الأصنام(5/179)
والأزلام هو أن يكتب الشخص ثلاث ورقات في إحداها إفعل وفي الثانية لا تفعل وفي الثالثة أعد ثم يخلط بينها ولا يكون فيها شيء يميزه عن الآخر ثم يضعها ويأخذ واحداً منها من غير قصد لشيء منها فإن خرج افعل فعل وإن خرج لا تفعل ترك وإن خرج أعد أعاد وهكذا هذه هي الأزلام وقد أخبر الله عز وجل بأن هذه رجس التي هي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بأنها رجس كلها وأنها من وسائل الشيطان التي يحاول بها إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين فلذلك دعا الله عباده إلى الانتهاء عنها
سابعاً : حكى ابن الملقن في كتابه الإعلام والذي نحن بصدد قراءته عن ابن دقيق العيد في كتاب له سماه وهج الخمر في تحريم الخمر وذكر أنه يستفاد من الآية وهي قول الله سبحانه وتعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ..) أن في هذه الآية والتي بعدها عشرة أدلة على التحريم ولم يذكرها وقد حاولت تفهم هذه العشرة الأدلة بقدر الإمكان فأقول:
1- نداء الله المؤمنين باسم الإيمان المقتضي للامتناع عما حرم عليهم
2- حصر الخمر وما ذكر معه في أنها رجس من عمل الشيطان
3- وصفها بالرجسية وهي النجاسة
4- وصفها بأنها من عمل الشيطان
5- الأمر باجتناب هذه الأمور المتصفة بالرجس
6- رجاء الفلاح باجتنابها
7- اقتران الخمر بالأنصاب وهي الأصنام وعبادتها شرك دليل على شدة قبحه
8- أن هذه الأمور المذكورة طريق لتسلط الشيطان على العبد واستيلاءه عليه لقوله ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ) إرادة الشيطان وقصده إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين
9- الصد عن ذكر الله عموماً وعن الصلاة خصوصاً ومن هنا نعلم أن الشيطان عدو لنا يريد كيدنا ومضرتنا لذلك ختم الله الآية بقوله ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ويجب أن نقول نحن كما قال الصحابة انتهينا(5/180)
ثامناً :في ذلك التنبيه على شرف العقل وفضله
تاسعاً : أن الشرع الشريف يحرم على المسلم كل ما فيه ضرر عليه في عقله لأن العقل من الضرورات الخمس المأمور بحفظها
عاشراً : أن المعتبر في الأحكام الشرعية مفاهيم الصحابة ولغاتهم فإن القرآن نزل بلغتهم
الحادي عشر : فيه استعمال القياس وإلحاق الشيء بنضيره
الثاني عشر : فيه جواز إحداث الاسم للشيء من طريق الاشتقاق أي لقوله والخمر ما خامر العقل
الثالث عشر : لقد استجدت في زمننا مخدرات أشد ضرراً من الخمر وأكثر فتكاً بالمجتمعات فلذلك فقد ارتأت الدولة حفظها الله أي دولتنا السعودية أن عقوبة مهرب تلك المخدرات ومن أنواعها الحشيش والهيروين أرتأت دولتنا السعودية حفظها الله أن تهريبها وإيصالها للمجتمع عقوبته القتل لأن ذلك نوع من المحاربة وإفساد المجتمعات ونشر الفساد فيها وهذه مبادرة موفقة من الدولة حفظها الله وبالله تعالى التوفيق .
الحديث الثاني : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن البتع ؟ فقال كل شراب أسكر فهو حرام
قال المؤلف رحمه الله البتع نبيذ العسل
موضوع الحديث : تعليق التحريم على الإسكار فما لم يكن مسكراً فهو ليس بحرام ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينبذ له إذا كان صائماً في أول النهار ويشربه في آخره
المفردات
قال ابن الملقن البتع بباء موحدة مكسورة ثم تاء مثناه فوق ساكنة وبفتحها أيضاً حكاه الجوهري ثم عين مهملة وهو نبيذ العسل كما قال المصنف أهـ
قلت : النبيذ اسم لما ينبذ في الماء وكان الأولون ينبذون في الماء شيئاً من الفواكهة ثم يأخذونه ويشربونه في آخر النهار فإذا كان نبيذ اليوم أو قبل أن يتم له يوم وليلة فهو مباح فإذا زاد عن اليوم والليلة وبدأ ينش أي يغلي ويرتفع حَرُم .
المعنى الإجمالي(5/181)
تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن البتع وهو نبيذ العسل فقال كل شراب أسكر فهو حرام وفي هذا تعليق للتحريم بالإسكار وهذا حكم حاسم بأن كل ما أسكر فهو حرام ويجب على من شربه عامداً حد الخمر وهو أربعين جلدة أو ثمانين جلدة
فقه الحديث
أولاً : قد تقدم في الحديث قبله إلا أن هذا فيه تعليق الحرمة على الإسكار فكل مسكر حرام ويجب على من تناوله حد الخمر ولو كان القدر الذي أخذه لا يسكر للحديث الذي روته عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرْقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ ) (1) والفرق إناء يسع ثلاثة آصع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - حوالي سبعة كيلو والصاع النبوي خمسة أرطال وثلث إذاً فالفرق ستة عشر رطلاً فملأ الكف منه حرام فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كل شراب أسكر فهو حرام) دليل على أن الحرمة تتناول قليله وكثيره ويدخل في ذلك أن من تناول شيئاً قليلاً وثبت عليه باعترافه أو بالبينة فإنه يجب عليه أن يحد
ثانياً :يؤخذ منه أن خلط الخمر بشيء من المأكولات من أجل وجود النكهة فيها حرام وقد ورد إليّ سؤال من بعض البلدان العربية أن بعض المطاعم تخلط طعامها بالخمر من أجل وجود النكهة فيه كما يزعمون وهذا حرام يجب أن يتنبه له المسلمون ويبتعدوا عنه فلعل الإنسان يموت وفي بطنه طعام أو إدام مما خلط بالخمر فيستحق الوعيد الذي جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق على الله أن مات بشربها أن يسقيه من طينة الخبال عصارة أهل النار
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب النهي عن المسكر رقم 3687 ورواه الترمذي في كتاب الأشربة باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام رقم 1866 (قال الشيخ الألباني : صحيح )(5/182)
عصارة الخبال هو ما يتحلل من جروح أهل النار وقروجهم من الصديد والدم والدمع والأشياء الخبيثة بعد جمع الملائكة لها واسقاءها شارب الخمر
محلوظة : لم يأت المؤلف في هذا الباب بشيء عن حد الخمر والذي ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ضرب في الخمر أربعين وضرب أبو بكر أربعين فلما كثر وقوع الناس في الخمر في زمن عمر استشار الصحابة فأشار عليه علي بن أبي طالب وفي رواية عبدالرحمن بن عوف بالضرب ثمانين لأنه حد الفرية والسكران إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فضرب عمر رضي الله عنه حد الفرية وقد اختلف أهل العلم في حد الخمر فذهب مالك وأبو حنيفة والثوري إلى أن حد الخمر ثمانين عملاً بما جرى عليه الأمر في عهد عمر ورأوا أن ذلك إجماعاً من الصحابة وذهب الشافعي إلى أن حد الخمر أربعين وعن الإمام أحمد روايتان كالمذهبين والمشهور في مذهبه أن الحد ثمانين وقالوا أن أحمد بن حنبل رأى أن الحد الأصلي أربعين والأربعين الأخرى تعزيراً فذكر ابن قدامة في المغني أن الحد لا يكون إلا على من شربه مختاراً عالماً بأنه سكر فإن شربه مكرهاً أو جاهلاً به غير عالم به أنه خمر مسكر أو متأولاً فلا حد عليه وبالله التوفيق .
الحديث الثالث : عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال بلغ عمر رضي الله عنه أن فلاناً باع خمراً فقال قاتل الله فلاناً ألم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها )
جملوها : أذابوها
موضوع الحديث : تحريم الحيل التي تفضي إلى أكل الحرام
المفردات
بلغ عمر أن فلاناً باع خمراً : المراد به هنا سمرة بن جندب رضي الله عنه
قوله قاتل الله فلاناً : يعبر عن المقاتلة بالمحاربة ولا يدعى على أحد بهذا إلا لارتكابه شيء يعتبر جرماً مع أن العرب كانوا يطلقون الدعاء بمقاتلة الله للمدعو عليه من غير قصد لوقوع ذلك مثل قولهم تربت يداه وثكلتك أمك يعني فقدتك أمك(5/183)
قوله حرمت عليهم الشحوم : يعني أن بني إسرائيل كانت الشحوم محرمة عليهم
قوله فجملوها : أي أذابوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها
المعنى الإجمالي
لما بلغ عمر رضي الله عنه أن أحد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باع خمراً فغضب لذلك ودعا عليه بقوله قاتل الله فلاناً ألم يعلم أن رسول الله قال قاتل الله اليهود .. ) الحديث
اعتذار
سمرة بن جندب صحابي غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاتل معه وغزا في زمن الخلفاء الراشدين وكان أميراً على البصرة لعمر وكان هناك من أهل الكتاب من تجب عليهم الجزية فالظاهر أنه من باب الملاطفة وعدم المشقة عليهم أنه قبل منهم الخمر وباعها عليهم لأنهم على الكفر والكفر أعظم ذنب ظناً منه أن ذلك يجوز وكان في ذلك متأولاً فلما نهاه عمر رضي الله عنه ترك ذلك
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث أولاً : أن الشحوم كانت محرمة على اليهود وقد ذكر الله ذلك في القرآن
ثانياً : أن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوها أي أذابوها وجمعوها ثم أكلوا ثمنها
ثالثاً : أن عملهم مذموم لأنهم تحايلوا على أكل الحرام
رابعاً : قول عمر رضي الله عنه قاتل الله فلاناً يدل أنه قاس بيع الخمر على بيع الشحوم وأخذ من تحريم بيع ما حرم أكله لأنه إذا باعه أكل ثمنه
خامساً : فيه استعمال القياس حيث قاس عمر بيع الخمر المحرمة على بيع الشحوم المحرمة
سادساً : أن عمر رضي الله عنه دعا على من خالف ذلك القياس وهذا يدل على تأكيد استعمال القياس
سابعاً : فيه جواز الدعاء على المسلم إذا فعل ما يوجب الغضب عليه من الله
ثامناً : في الحديث تحريم التحايل على أكل الحرام أو ثمنه كما فعلت ذلك اليهود فجملوا الشحوم وأكلوا ثمنها واستعملوا صيد السمك في يوم السبت بحفر حفائر يبقى فيها وهذه كلها من الحيل المحرمة وبالله التوفيق.
كتاب اللباس(5/184)
اللباس ما يتخذ ستراً للعورة وجمالاً للإنسان ودفعاً للحر والبرد وقد امتن الله على العباد بذلك في قوله (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) [الأعراف : 26] وهذا امتنان من الله عز وجل على بني آدم فيما هيئه لهم من اللباس وقد كان اللباس فيما سبق يتخذ من شعر الأنعام وأوبارها ثم أن الناس استعملوه من القطن ومن الحرير ومن المختلط منهما ومن اللباس ما يتخذ من مشتقات البترول وكل ذلك نعم من الله امتن الله بها على بني آدم في ستر عوراتهم وما يكتسبون به الجمال وما يدفعون به سورة الحر والبرد فلله الحمد على ذلك وهذا الباب فيه بيان ما يحل لبسه وما يحرم
الحديث الأول : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة
موضوع الحديث : تحريم لبس الحرير وأنه من لبسه في الدنيا حرم منه في الجنة ولو دخلها
المفردات(5/185)
الحرير : قال عنه ابن الملقن اسم جنس واحدته حريرة ويقال له الدمقسي والسيراء والستراء وهو مأخوذ من دود القز وهناك نوع من القطن يسمى الكتان لين إلا أنه لا يحرم وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه وجد حلة من استبرق بالسوق فأخذها فأتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هذه لباس من لا خلاق له أو إنما يلبس هذه من لا خلاق له فلبث عمر ما شاء الله ثم أرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجبة ديباج فأقبل بها حتى جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله قلت إنما هذه لباس من لا خلاق له ثم أرسلت إلى بهذه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أرسلتها إليك لتبيعها وتصيب بها حاجتك )
قوله من لبسه في الدنيا : أي مختاراً ولم يكن مضطراً إلى ذلك
لم يلبسه في الآخرة : أي أن الله سبحانه وتعالى يمنعه لبس الحرير وإن دخل الجنة
المعنى الإجمالي
في هذا الحديث نهي عن لبس الحرير للرجال وأن عقوبة لابسه أنه لا يلبسه في الآخرة
فقه الحديث(5/186)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم لبس الحرير على الرجال لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أهدي له حرير فأعطى علياً قطعة منه فلبس منها شيئاً وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - إني لم أعطكها لتلبسها وإنما أعطيتكها لتلبسها نسائك قال فقطعتها خمراً بين الفواطم (1) وهن رضي الله عنهن فاطمة بنت أسد وهي أمه وزوجته فاطمة بنت محمد وبنت عمه فاطمة بنت حمزة وكذلك حصل لأسامة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم
ثانياً : الإجماع قائم على أن الحرير يجوز لبسه للنساء وخالف في ذلك عبدالله بن الزبير ولكنه انعقد الإجماع بعده على حله للنساء .
ثالثاً : يحرم الثوب الذي غالبه حرير سواء كان الحرير لحمته أم سداه
رابعاً : يجوز العلم من الحرير بشرط ألا يتجاوز أربع أصابع من كل جانب أصبعين
خامساً : هذه العقوبة نؤمن بأنها واقعة على من لبس الحرير وأنه سيحرم من لباسه في الجنة ولو دخلها
سادساً : يجوز لبس الحرير للتداوي وقد لبسه عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان لحكة كانت بهما
__________
(1) الحديث هو عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةٌ مَكْفُوفَةٌ بِحَرِيرٍ إِمَّا سَدَاهَا وَإِمَّا لَحْمَتُهَا فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِهَا أَلْبَسُهَا قَالَ لا وَلَكِنْ اجْعَلْهَا خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ ) رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال رقم 2071 وابن ماجة في كتاب اللباس باب لبس الحرير والذهب للنساء رقم 3596 واللفظ له .(5/187)
سابعاً : كما يحرم لباس الحرير فكذلك يحرم افتراشه والافتراش يسمى لباساً وقد جاء في صحيح البخاري من حديث حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَانَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ(1) وقد جاء في حديث أنس أنه لما دخل عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فأخذت فراشاً لنا قد اسود من طول ما لبس (2) والمقصود بالفراش هنا الخصفة وبالله التوفيق .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب اللباس باب افتراش الحرير رقم 5837
(2) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ قُومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ قَالَ أَنَسٌ فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَفْتُ وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ ) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب الصلاة على الحصير رقم 380 وفي كتاب صفة الصلاة باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور رقم 860 ورواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب جواز الجماعة في النافلة والصلاة على الحصير رقم 658 ورواه الترمذي في كتاب الصلاة باب ما جاء في الرجل يصلي ومعه الرجال والنساء رقم 234 ورواه النسائي في كتاب الإمامة باب إذا كانوا ثلاثة وامرأة رقم 801 وأبو داود في كتاب الصلاة باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون رقم 612 ومالك في كتاب النداء للصلاة باب جامع سبحة الضحى رقم 362 والدارمي في كتاب الصلاة باب في صلاة الرجل خلف الصف وحده رقم 1287(5/188)
الحديث الثاني : عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة .
موضوع الحديث : تحريم لباس الحرير والديباج والشرب أو الأكل في آنية الذهب والفضة
المفردات
الحرير : سبق بيانه وهو المأخوذ من دود القز ويسمى الإبريسم وهو محرم لبسه على الرجال
قوله ولا الديباج : الديباج نوع من الحرير وهو ما غلظ وثخن من ثياب الحرير وذكره بعد الحرير وإن كان نوعاً منه من باب ذكر الخاص بعد العام
الثالث الصحاف : بكسر الصاد جمع صحفة بفتحها وهي دون القصعة قال الجوهري قال الكسائي أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل
قوله فإنها لهم : أي للكفار
في الدنيا ولكم في الآخرة : أي إنها لهم باستعمالهم إياها وإلا فالحقيقة ليست مباحة لهم
وأما الآخرةفما لهم فيها من نصيب أما المسلمون فلهم في الجنة الحرير والذهب وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن لباس الحرير والديباج وعن الشرب في آنية الذهب والفضة والأكل في صحافهما فإنها لهم أي للكفار باستعمالهم إياها وعدم تقيدهم بالأوامر والنواهي الواردة من الله ورسوله ولكم في الآخرة أي مختصون بها وتأخذونها بدون انقطاع أما الدنيا فهي منقطعة
فقه الحديث(5/189)
أولاً : يؤخذ من الحديث تحريم لباس الحرير المأخوذ من دود القز وقد تقدم الكلام عليه في الدرس السابق وأن الحرير بالإجماع محرم على ذكور أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومباح لنساءها وفي ذلك أحاديث منها عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَلَّ لإِنَاثِ أُمَّتِي الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ وَحَرَّمَهُ عَلَى ذُكُورِهَا(1) وقد أثر عن عبدالله بن الزبير أنه قال بتحريمه على النساء ولكن يقال أنه رجع بعد ذلك وانعقد الإجماع بعده على حله للنساء وتحريمه على الذكور فقط
أما الديباج فهو نوع من الحرير وهو غليظ وهو محرم على الذكور كتحريم الحرير ومباح للإناث وقد قال بعض أهل العلم بجواز لبسه في الحرب قالوا لأنه يكافح السلاح وهذه العلة فيها نظر لكن الحرير ومشتقاته يجوز لبسه للتداوي حيث أنه يتداوى به للحكة وقد ورد عن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف أنهما أصابتهما الحكة فأجاز لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس الحرير
ثانياً : يؤخذ منه تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة والأكل في صحافهما أي أن الآنية المتخذة سواء متخذة للشرب كالأكواس أو متخذة للأكل كالصحاف فإنه يحرم الأكل والشرب فيها على الرجال والنساء إذ أن إباحة ذلك للنساء إنما هو اللبس لأن النساء من شأنهن التزين والتجمل فأبيح لهن ذلك أما الأكل والشرب فإنه يحرم على الرجال والنساء والغلمان أي حتى الغلمان غير المكلفين لا يجوز لأولياءهم أن يمكنوهم من الشرب في آنية الذهب والفضة ولا يمكنوهم من الأكل في صحافهما
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الزينة باب تحريم الذهب على الرجال رقم 5265 والترمذي نحوه في كتاب اللباس باب ما جاء في الحرير والذهب وفي باب الرخصة في لبس الحرير للرجال رقم 1720 وأحمد رقم 19731 و19732 (وصححه الألباني )(5/190)
ثالثاً : قوله إنها لهم في الدنيا ليس المراد أنها مباحة لهم ولكن المراد أنهم إن أكلوا وشربوا فيها فإن ذلك لا يتعدى الدنيا إذ أن الآخرة ليس للكفار فيها نصيب
رابعاً : هل العلة في النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة هو التباهي أوالعلة لأنها النقدان ويحتاج الناس إليهما فإذا أبيح استعمالها آنية كان في ذلك إشغالاً لهذه المادتين عما خلقت له وهو الانتفاع بهما في الدنيا
خامساً : فيه إشارة بالأكل والشرب إلى غيرهما مما هو دونهما فإذا كان يحرم أن يتخذ الرجل كأساً من ذهب للشرب أو إناءً للأكل من فضة فكذلك يحرم من باب أولى أن يتخذ منه ما دون ذلك كالبزابيز التي هي للماء أو ما أشبه ذلك من الاستعمالات وبالله التوفيق
ملحوظة : الحرير الصناعي وهو ما يتخذ من مشتقات البترول لا يحرم لبسه وإن كان فيه ليونة ونعومة تشبه نعومة الحرير :
أولاً : لأنه من أصل مباح
وثانياً : أن طبيعته تختلف عن طبيعة الحرير الطبيعي لأن الحرير الطبيعي فيه ليونة ونعومة وهو بطبيعته بارد في وقت الحر ودافئ في وقت الشتاء فهذه الطبيعة يختلف بها عن طبيعة الحرير الصناعي الذي يشتد حره في وقت الحر ويشتد برودة في وقت البرد(5/191)
ملحوظة ثانية : وهو أنه يجوز اتخاذ السن أو الأنف من الذهب إذا احتاج الرجل إليهما أو إلى أحدهما لحديث عَرْفَجَةَ بْنِ أَسْعَدَ قَالَ أُصِيبَ أَنْفِي يَوْمَ الْكُلابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّخَذْتُ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيَّ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ )(1) وقد أخذ من هذا الحديث جواز اتخاذ الرجل السن أو الأنف إذا احتاج إليها وبالله التوفيق .
ملحوظة ثالثة : قد ورد في كتب الفقه للحنابلة جواز اتخاذ القبيعة للسيف من الذهب أو الفضة وكذلك المقبض أو ما أشبه ذلك وأثر عن بعض الصحابة أنه كان لبعضهم سيف قبيعته من فضة والمهم أن السلاح يجوز تحليته بالذهب أو الفضة وبالله التوفيق .
الحديث الثالث :عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال ما رأيت من ذي لمة سوداء في حلة حمراء أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له شعر يضرب منكبيه بعيد ما بين المنكبين ليس بالقصير ولا بالطويل .
موضوع الحديث : وصف حليته صلوات الله وسلامه عليه
المفردات
من ذي لمة : اللمة هو الشعر الذي يكاد يلم بالمنكبين قال أهل اللغة وهو دون الجمة سميت اللمة لإلمامها بالمنكبين يعني تقارب المنكبين
سوداء : وصف للمة أي وصف لشعر رأسه
في حلة : الحلة هي إزار ورداء من البرود اليمنية
حمراء : أي وصفها بالحمرة
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب اللباس باب ما جاء في شد الأسنان بالذهب رقم 1770 والنسائي في كتاب الزينة باب من أصيب أنفه هل يتخذ أنفاً من ذهب رقم 5161 و5162 وأبو داود في كتاب الخاتم باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب رقم 4232 ( قال الألباني حسن )(5/192)
قوله أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يعني يقول ما رأيت من ذي لمة سوداء في حلة حمراء أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا نعت عظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم - نعت لخلقته أما خلقه فيكفيه ما قال الله فيه (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [ القلم : 4 ]
منكبه : المنكب هو مجمع اليد مع الجنب وهو رأس الكتف
قوله بعيد ما بين المنكبين : يعني أن صدره كان واسعاً وهذا يكون دليلاً على القوة
قوله ليس بالقصير ولا بالطويل : يعني أنه وسط بين الطول والقصر
المعنى الإجمالي
وصف البراء بن عازب رضي الله عنه نبي الله صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث وصفاً يدل على حسنه وجماله وأنه كان جميل منظره يضاف ذلك إلى جميل مخبره صلوات الله وسلامه عليه الذي قال فيه ربه سبحانه وتعالى ( وإنك لعلى خلق عظيم )
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث مشروعية اتخاذ اللمة وهو الشعر بأن يترك الإنسان شعره حتى يطول ويلم بالمنكب يعني يكاد يصل إليه
ثانياً : كان كعادة العرب له شعر طويل يؤخذ منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي قبل أن يشيب وأن شعره كان أسود وقد جاء ذلك في بعض الأحاديث ( فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ شَيْبُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَ عِشْرِينَ شَعَرَةً ) (1)
ثالثاً : يؤخذ من قوله في حلة حمراء مشروعية لبس الحلة والحلة إزار ورداء من البرود اليمنية وهو كما نقول مصنف ولحاف
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب اللباس باب من ترك الخضاب رقم 3630 وأحمد رقم 5633 وصححه الألباني في الصحيحة رقم 2096 وفي صحيح الجامع رقم 4818 .(5/193)
رابعاً : وصف الحلة بأنها حمراء دليل على جواز لبس الأحمر وفي ذلك معارضة لأحاديث النهي عن لبس الأحمر لأنه قد ورد في النهي عن لبس الأحمر أحاديث لكن فيها ضعف فمن أهل العلم من ضعفها أي الأحاديث التي فيها النهي وقال بجواز لبس الأحمر من غير تحريم ولا كراهة وإلى ذلك مال الألباني رحمه الله ومن أهل العلم من جمع بين الأحاديث الواردة في النهي عن لبس الأحمر لأنه رأى أنها بمجموعها تصل إلى درجة الصحة وهؤلاء جمعوا بين هذه الأحاديث وبين حديث البراء بن عازب بأن حملوا النهي على ما كان أحمر صرفاً وحملوا الجواز على ما كان مخططاً بحمرة مع خطوط غيرها وهذا هو الأقرب في رأي .
خامساً : قوله أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي لم أر أحداً أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الجمال الذي شرحته
سادساً : قوله له شعر يضرب منكبه أي له شعر طويل يصل إلى منكبيه علماً بأن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وصفه بأن له شعر يبلغ شحمة الأذن وكانه عليه الصلوات والسلام يقصر شعره أحياناً ويتركه يطول أحياناً وهذا دليل على الجواز
سابعاً : يؤخذ من قوله بعيد ما بين المنكبين أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عريض الصدر وقد وصف صلوات الله وسلامه عليه بأنه كان عظيم المشاش أو عظيم الكتد والمشاش هو رؤوس العظام والكتد مجتمع الكتفين
ثامناً : يؤخذ من قوله ليس بالقصير ولا بالطويل أنه رجل بين الرجلين أي لا يوصف بطول ولا قصر بل هو بين الطول والقصر
ملحوظة: تعرض الشارح ابن الملقن رحمه الله تعالى للسدل والفرق وقال وجاء عنه أنه سدل وأنه فرق وهو آخر الأمرين منه حتى جعله بعضهم نسخاً فعلى هذا لا يجوز السدل واتخاذ اللمة ويحتمل أن يكون فرق ليرى الجواز أو للندب ولذلك اختلف السلف فيه والصحيح جوازهما واختيار الفرق أهـ(5/194)
أقول : هذا القول فيه نظر والقول الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سدل في أول أمره تأسياً بأهل الكتاب فلما هاجر إلى المدينة ونهاه الله عز وجل عن التأسي بأهل الكتاب أخذ الفرق الذي هو عادة العرب والفرق يكون في وسط الرأس من أوله إلى ما بين القرنين
أما ما يعمله بعض الناس الآن من الفرق من الجانب الأيسر في الرأس فهذا مذموم ومنهي عنه واذكر أنني قلت في صيحة حق
وفرق رأس جانباً في الأيسر تدعي بموضة سبيل المفتري
وعلى هذا فإن الواجب على أمة محمد رجالاً ونساءاً أن يفرقوا في الوسط ولا منافاة بين الفرق في الوسط واللمة بل يفرق في وسط الرأس ويكون له لمة أو جمة وبالله التوفيق .
ملحوظة أخرى : قال ابن الملقن رحمه الله كان من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يمشي معه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مشى مع إنسان طويل يكون في طوله فإذا فارقه عاد إلى حاله
وأقول : هذا الكلام غير صحيح ولو كان كذلك لاشتهر هذا الأمر والنبي - صلى الله عليه وسلم - كل من وصفه يقول بأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس بالطويل البائن ولا القصير ربعة بينهما وبالله التوفيق
الحديث الرابع : عن البراء بن عازب أيضاً قال أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام ونهانا عن خواتيم أو تختم الذهب وعن شرب بالفضة وعن المياثر وعن القسي ولبس الحرير والاستبرق والديباج .
موضوع الحديث : ذكر أحكام من الأوامر والنواهي
المفردات
أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع : أي أمرنا بسبع خصال ونهانا عن سبع خصال ثم شرع يوضحها
أمرنا بعيادة المريض : وعيادة المريض زيارته والاطمئنان عليه ومساعدته إن كان يحتاج إلى مساعدة لأن هذا مما يقوي الروابط بين المسلمين(5/195)
قوله واتباع الجنازة : اتباع الجنازة أي الخروج معها من بيتها إلى المسجد والصلاة عليها ثم اتباعها إلى أن تدفن والمراد بالجنازة الميت على السرير وقيل أن الجنازة تكون بالفتح والكسر
فالمراد بالكسر السرير الذي عليه الميت إذا كان على السرير محمولاً والمراد بالفتح الميت حين يكون على السرير بعد الموت كما قد تقدم
تشميت العاطس : الدعاء له بالرحمة بأن يرده الله إلى سمته أو أن يثبت شوامته والعطاس معروف وهو احتقان الهواء في الرأس ثم خروجه مع صوت
إبرار القسم أو المقسم : والحقيقة أن تنفيذ ما أقسم عليه المقسم في قسمه إذا كان طاعة لله أو مباحاً مستحب كما سيأتي فمن أبررت قسمه فأنت حينئذ أبررته وهو المقسم أي نفذت مراده ليكون براً في قسمه ولا يحنث فيه
نصر المظلوم بما يقدر عليه الشخص من النصر إما بالكلمة أو بغيرها من نصح الظالم وأداء الشهادة إذا كان له شهادة عندك .
إجابة الداعي : أي بأن أخاك المسلم إذا دعاك فيستحب لك إجابته ما لم يكن هناك مانع من الإجابة
هذه السبع المطلوب فعلها وتبادلها بين الناس وأما المنهيات
فأولها : التختم بالذهب فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التختم بالذهب وهذا النهي خاص بالرجال دون النساء
وعن شرب بالفضة : هذا عام في الرجال والنساء لأن الشرب في آنية الذهب والفضة حرمان منها في الآخرة قد جاء في الحديث ما سيأتي ذكره عند الحكم
أما قوله وعن المياثر والقسي ولبس الحرير والاستبرق والديباج فهذه ايضاً النهي فيها خاص بالرجال
والمياثر : جمع ميثرة وهو بساط يوضع عليه لباس لين ليكون وطيئاً للجلوس عليه .
المعنى الإجمالي
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بسبع خصال وهي المذكورة في حديث البراء ونهاهم عن سبع خصال أيضاً وهذا الحديث من أجمع الأحاديث للأوامر والنواهي وبالله التوفيق .
فقه الحديث(5/196)
أولاً : يؤخذ من قوله أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل الأمر هنا أمر إيجاب أو أمر استحباب والقول بأن الأصل في الأوامر الوجوب إلا ما وجد له صارف هذا هو الصواب وما لم يوجد له صارف من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجمع على عدم وجوبه صرف من الوجوب إلى الاستحباب بالإجماع
ثانياً : قوله أمرنا بعيادة المريض بالذهاب إليه والعود عليه لحاجة المريض إلى ذلك أما من حيث الحكم فهو يختلف باختلاف الناس فالقرابة الذين لا يستغني عنهم المريض يجب عليهم ذلك وجوباً متحتماً ومن عداهم فإن الأمر يكون في ذلك للاستحباب والله تعالى أعلم
ثالثاً : كذلك اتباع الجنازة فإن الواجب على المسلمين أن يتبعوا جنازة أخيهم المسلم حتى تدفن وقد ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من اتبع الجنازة حتى تدفن كان له من الأجر قيراطان كل قيراط مثل أحد ومن اتبعها حتى يصلى عليها كان له قيراط ولعل الوجوب يكون في حق من يتم بهم الدفن ومن عداهم يكون في حقه مستحباً .
رابعاً : تشميت العاطس هو الدعاء له بأن يعيد الله شوامته إلى سمتها(5/197)
خامساً : ثبت في الأحاديث أن التشميت لا يشرع إلا في حالة أن يحمد الله العاطس فإذا حمد الله شمت بأن يدعو له السامع بقوله يرحمك الله وقد أثر عَنْ أَبِي بُرْدَةَ رضي الله عنه قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ فِي بَيْتِ بِنْتِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فَعَطَسْتُ فَلَمْ يُشَمِّتْنِي وَعَطَسَتْ فَشَمَّتَهَا فَرَجَعْتُ إِلَى أُمِّي فَأَخْبَرْتُهَا فَلَمَّا جَاءَهَا قَالَتْ عَطَسَ عِنْدَكَ ابْنِي فَلَمْ تُشَمِّتْهُ وَعَطَسَتْ فَشَمَّتَّهَا فَقَالَ إِنَّ ابْنَكِ عَطَسَ فَلَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ فَلَمْ أُشَمِّتْهُ وَعَطَسَتْ فَحَمِدَتْ اللَّهَ فَشَمَّتُّهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ فَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ فَلا تُشَمِّتُوهُ ) (1)
سادساً : قوله وإبرار القسم المقصود بإبرار القسم أو المقسم أي إبرار الآلية بأن تجنبه الحنث إن كنت تقدر على ذلك ولا شك أن إبرار القسم هو إبرار للمقسم ويستفاد من هذا الأمر استحباب إبرار القسم أو المقسم إلا أن يكون هناك مانع من الإبرار ففي هذه الحالة يعذر الشخص المقسم عليه
سابعاً : قوله ونصر المظلوم أي يجب على المسلمين أن ينصروا المظلوم إذا عرفوا أنه مظلوم ونصره بفعل ما يقدر عليه العبد فإن كان له عندك شهادة أديتها وإن كنت تقدر على أن تعينه بكلمة أو بشيئ أو رأي أو ما أشبه ذلك وجب عليك أن تفعل وإن قصرت فإنك تكون مخاطباً ومسئولاً أمام الله عز وجل
__________
(1) مسلم في كتاب الزهد والرقاق باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب رقم 2992 وأحمد برقم 8832 و9330 .(5/198)
ثامناً : قوله إجابة الداعي وقد جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حق المسلم على المسلم ست . قيل: ما هن يا رسول الله ؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه ) (1) وسواء كانت الدعوة لطعام أو لشيء مباح تقدر عليه وهي غالباً في الطعام أكثر لكن هناك موانع فإذا كان الداعي مبتدعاً فلا تلزم إجابة دعوته وإذا كان الداعي في ماله شبهة لأنه يأكل الربا أو يأخذ الرشوة أو ما أشبه ذلك كذلك أيضاً إذا كانت الدعوة إلى وليمة عرس وكان في هذا العرس منكر لا يقدر المدعو على إنكاره جاز له التخلف أو كانت الدعوة يكون فيها إحراج وتأخير على الإنسان كما يحصل الآن في ولائم الزواج والتي قد تكون في القصور بحيث أنها تتأخر إلى الساعة الثانية عشر أو الحادية عشرة والنصف أو ما أشبه ذلك فيظهر أن هذا عذر قد يفوت عليه بعض المنافع الدينية والدنوية
تاسعاً : قوله وإفشاء السلام نشره بأن لا يبخل به على أحد فتسلم عليه وترده إذا بدأك هو بالسلام وترفع صوتك لأن رفع الصوت هنا مطلوب والإفشاء معناه الإكثار والنشر ولهذا جاء في كلام عمر بن عبدالعزيز وكتابته إلى الزهري افشوا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفشوا العلم وتكتبوه فإني أخاف من دروس العلم وضياعه ومعنى تفشوا تنشروا وتكثروا من دراسته وذكره
__________
(1) رواه مسلم في كتاب السلام باب من حق المسلم للمسلم رد السلام رقم 2162 وابن ماجة نحوه في كتاب ما جاء في الجنائز باب ما جاء في عيادة المريض رقم 1433(5/199)
ملحوظة : أذكر أنني قرأت في العلامات الصغرى لقرب الساعة في حديث أن من علامات قرب الساعة أن يكون السلام معرفة واستغربت هذا ولكن تبين لي عندما ذهبت إلى إحدى المدن بأنه لا يرد سلامك إلا من يعرفك ولا يسلم عليك إلا من يعرفك فقد كنت أرفع صوتي بالسلام وفي الغالب أن كثيراً من الناس لا ينتبه لذلك وكأن هذه العلامة أصبحت واقعة وبالله التوفيق .
قوله ونهانا عن سبع ثم ذكرها
عاشراً : أما المناهي فقد ابتدأها بقوله ونهانا عن خواتيم أو تختم الذهب الخاتم هو ما يلبس في الأصابع وهو مشروع للرجال والنساء أما النساء فتختمهن للتزين وأما الرجال فتختمهم أسوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد يكون الخاتم عليه اسم صاحبه فيؤخذ منه مشروعية التختم بما عليه اسم صاحبه .
الحادي عشر : أن التختم جائز بالفضة وبشترط أن لا يكون أكثر من مثقال والمثقال أربعة جرامات وربع قال هذا معروف في كتب التقارير
الثاني عشر : يشرع للرجل التختم في الخنصر من اليد اليمنى واليسرى ورحج الحافظ في الفتح رواية اليمنى وأما المرأة فيشرع لها التختم فيما عدا السبابة والإبهام فتفرق هي على الرجل في التختم بالوسطى
الثالث عشر: النهي عن التختم بالذهب خاص بالرجال أما النساء فيحل لهن ذلك على الأرجح وقد كتبت إجابة على سؤال تعتبر تلك الإجابة رسالة ورجحت جواز التحلي بالذهب للنساء مع كراهة الإسراف في ذلك وطبعت تلك الرسالة ضمن فتح الرب الودود في الفتاوى والرسائل والردود .
الرابع عشر :قوله وعن شرب بالفضة وهذا عام في الرجال والنساء وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم نسأل الله العفو العافية وقد تقدم الحديث لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة(5/200)
الخامس عشر: تحريم المياثر الحرير على الرجال سواء كانت على رحل البعير أو سرج الفرس أو ما أشبه ذلك لأن افتراش الحرير محرم على الرجال كما هو محرم لبسه أما إن كان في غير الحرير فليست بحرام والميثرة هي وطاء يوضع على رحل البعير أو سرج الفرس وقد ورد النهي عن المياثر الحمر
السادس عشر : تحريم استعمال القسي وهو نوع من الحرير والنهي هنا للتحريم خلافاً لمن قال أن استعمال القسي مكروه كراهة تنزيه
السابع عشر : يؤخذ من قوله والاستبرق تحريم الاستبرق وهو نوع من الحرير أيضاً
الثامن عشر : قوله ولبس الحرير والاستبرق والديباج يؤخذ منه تحريم الديباج والديباج نوع من الحرير أيضاً فالحرير يعم القسي والاستبرق والديباج وهو محرم على الرجال دون النساء بجميع أنواعه وقد تقدم أن عبدالله بن الزبير كان يرى تحريم الحرير على النساء ولكن من بعده انعقد الإجماع على جواز لبسه للنساء من غير كراهة
فائدة : يحرم على الرجال لبس الحرير الطبيعي أما الصناعي فيجوز لأن الحرير الطبيعي من طبيعته أنه بارد في الصيف دافئ في الشتاء أما الحرير الصناعي فهو عكس ذلك فإنه بارد في الشتاء حار في الصيف .
الحديث الخامس : عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصطنع خاتماً من ذهب فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه فصنع الناس كذلك ثم إنه جلس على المنبر فنزعه فقال إني كنت ألبس هذا الخاتم واجعل فصه من داخل فرمى به ثم قال والله لا ألبسه أبداً فنبذ الناس خواتيمهم
وفي لفظ جعله في يده اليمنى .
موضوع الحديث : الخاتم
المفردات
فصه : الفص هو ما يجعل في الخاتم وهو إما أن يكون شيء من الأحجار التي هي اللآلئ والزبرجد أو ما يكون مصنوعاً على شكلها من أحمر وأخضر وغيرهما وقد يجعل فص الخاتم من فضة ويكتب عليه الاسم
قوله فصنع الناس كذلك : أي تأسوا به الناس(5/201)
وقد قيل أن الذي كان يلبسه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بذهب ولكنه من فضة مطلي عليه ذهب وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ هذا الخاتم لأنه حين يكاتب الملوك قيل له أنهم لا يقرأون إلا كتاباً مختوماً فاتخذ الخاتم أولاً من فضة مطلي عليه ذهب وقيل ملوي عليه الذهب وكيف ما كان فنبذ النبي - صلى الله عليه وسلم - له يعد نسخاً كما سيأتي
قوله والله لا ألبسه أبداً :يعني خاتم الذهب
فنبذ الناس خواتيمهم : أي تركوها تأسياً به وهذا القول هو الذي تطمأن إليه النفس لأن خاتم الورق قد بقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن مات وسواء قلنا أن الخاتم كان من ذهب كله أو من ورق مطلي عليه ذهب وهذا هو الذي يوافق عموم الأدلة التي تدل على تحريم التختم بالذهب للرجال
قوله فنبذ الناس خواتيمهم : أي طرحوها وتركوها والخاتم يجمع على خواتيم وخواتم
قوله وفي لفظ جعله في يده اليمنى : أي في خنصره قال الحافظ في الفتح ج10 ص 327 بعد أن ذكر اختلاف الروايات في اليمين واليسار ثم قال ابن أبي حاتم سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك فقال لا يثبت هذا ولا هذا ولكن في يمينه أكثر إلى أن قال ويترجح التختم في اليمين مطلقاً لأن اليسار آلة الاستنجاء فيهان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة . قلت وبالأخص إذا كان فيه اسم من أسماء الله تعالى كعبدالله أو عبد الرحمن .
المعنى الإجمالي
حديث عبدالله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اصطنع خاتماً من ذهب ولبسه مدة ثم نزعه وهو على المنبر ليراه الناس فتأسوا به فنزع الناس خواتيمهم أي تركوها
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث(5/202)
أولاً : أن خواتم الذهب محرمة على الرجال لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اصطنع خاتماً من ذهب في أول أمره سواء كان من الذهب الصرف أي الخالص أو كان من الفضة مطلي عليه بالذهب فقد رماه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحلف أن لا يلبسه وهذا يعد نسخاً للأمر الأول
أما إن قلنا أن الخاتم الأول من الفضة كما جاء في بعض الروايات وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرحه(1) ثم لبسه لحاجته إلى ذلك فإنه يكون فيه نسخاً للتختم على سبيل الزينة والإباحة للتختم بالفضة إذا دعت الحاجة
ثانياً : قد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس خاتماً من ورق مكتوب فيه محمد رسول الله ثلاثة أسطر الأول محمد والثاني رسول والثالث لفظ الجلالة (2) وأنه بقي معه إلى أن مات ثم لبسه أبو بكر إلى أن مات ثم لبسه عمر إلى أن مات ثم لبسه عثمان رضي الله عنهم جميعاً وقيل أنه بعد ست سنوات سقط في بئر أريس ونزحت البئر بحثاً عنه فلم يظفروا به والمهم أن استمرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على لبسه دال على جواز لبس الخاتم والأحاديث في ذلك ثابتة
__________
(1) البخاري في كتاب اللباس باب خاتم الفضة رقم 5868 ومسلم في كتاب اللباس والزينة باب طرح الخواتم رقم 2093 والنسائي في كتاب الزينة باب طرح الخاتم وترك لبسه رقم 5291 وأبو داود في كتاب الخاتم باب ما جاء في ترك الخاتم رقم 4221 .
(2) عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاثَةَ أَسْطُرٍ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاللَّهِ سَطْرٌ ) البخاري في كتاب فرض الخمس باب ما ذكر من درع النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 3106 والترمذي في كتاب اللباس باب ما جاء في نقش الخاتم رقم 1748(5/203)
ثالثاً : قد تقدم أنه يجوز للرجال لبس خاتم الفضة بشرط أن لا يزيد على مثقال
رابعاً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر كثير من الناس على التختم بالفضة وهو دليل على الإباحة .
خامساً : يؤخذ منه أنه يجوز لبسه في الخنصر (1) والبنصر وقد ورد في ذلك حديث عَنْ عَلِيٍّ ابن أبي طالب رضي الله عنه قَالَ نَهَانِي يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَجْعَلَ خَاتَمِي فِي هَذِهِ أَوْ الَّتِي تَلِيهَا ) وفي رواية ( فَأَوْمَأَ إِلَى الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا) (2) وفي الترمذي (وَأَشَارَ إِلَى السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ) (3) والبنصر مفهوم مخالفة
سادساً : في قوله جعله في يده اليمنى وأقول قد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تختم في الخنصر من اليد اليمنى ومن اليد اليسرى وأكثر الروايات تثبت اليمنى كما تقدم وقد عقد أبو داود كتاباً في سننه سماه كتاب الخاتم أورد فيه سبعة أبواب فليراجع وليراجع باب الخاتم من الزينة في جامع الأصول ج4 ص705 وبالله التوفيق .
__________
(1) البخاري في كتاب اللباس باب الخاتم في الخنصر رقم 5874 ومسلم في كتاب اللباس والزينة باب في لبس الخاتم في الخنصر رقم 2095 وفي كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب وقت العشاء وتأخيرها رقم 640 وأبو داود في كتاب الخاتم باب ما جاء في التختم في اليمين أو اليسار رقم 4229 والنسائي في كتاب الزينة باب موضع الخاتم رقم 5282 ورقم 5285
(2) رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة باب النهي عن التختم في الوسطى والتي تليها رقم 2078
(3) الترمذي في كتاب اللباس باب كراهية التختم في أصبعين رقم 1786 والنسائي في كتاب الزينة باب موضع الخاتم رقم 5286 وصححه الألباني .(5/204)
ملحوظة : أما النساء فقد تقدم أنه يحل لهن التختم بالذهب والتحلي به على أي طريقة كانت وهو القول الأصح من أقوال العلماء ولشيخنا الألباني رحمه الله رأي في ذلك وهو أن المحلق لا يجوز للنساء وأهل العلم جميعاً إلا من قلده يخالفونه في ذلك ولا شك أن الألباني عالم جليل صاحب سنة وله جهود كبيرة في تمييز صحيح الحديث من ضعيفه ولكنه غير معصوم في اجتهاده كغيره من الناس وبالله التوفيق .
الحديث السادس : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبوس الحرير إلا هكذا ورفع لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبعيه السبابة والوسطى
ولمسلم نهى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع .
موضوع الحديث : مقدار ما يجوز من الحرير للرجال
المفردات
نهى عن لبوس الحرير : أي عن لبسه
إلا هكذا : استثناء
فرفع أصبعيه : المراد بالأصبعين السبابة والوسطى
وفي الرواية الثانية إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع
المعنى الإجمالي
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن نهي الله سبحانه وتعالى للذكور من عباده عن لبس الحرير إلا ما استثنى والمستثنى في الحديث المتفق عليه أصبعين وفي رواية مسلم أو ثلاث أو أربع
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث تحريم لبس الحرير على الذكور من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا ما استثنى
ثانياً : تخصيص النهي بالرجال يدل عليه ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أنه أخذ في إحدى يديه ذهباً وفي الأخرى حريراً ثم قال ألا إن هذين حلال لإناث أمتي ومحرم على ذكورها )(5/205)
ثالثاً :إنما أبيح الذهب والحرير للنساء لأنهن بحاجة إلى التجمل وهذين النوعين مما يجمل النساء والله سبحانه وتعالى هو خالق الذكور والإناث ويعلم حاجة كل منهما وقد وصف الله سبحانه الإناث بقوله ( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) [ الزخرف : 18 ] فالمرأة بحاجة إلى التحلي والتجمل لذلك أباح الله لها التحلي بالذهب وأباح لها لبس الحرير أيضاً وحرمه على الرجال ذلك لأن الحرير فيه نعومة والرجال بحاجة إلى الخشونة والقوة ونهوا عن الليونة ولهذا ورد من كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه (اخشوشنوا واخشوشبوا )
رابعاً : أبيح للرجال العلم في الثوب من الحرير بشرط أن لا يزيد على أربع أصابع فإن كان العلم من ناحية أصبعين جاز أما إذا كان أكثر من ذلك فإنه لا يجوز لبسه للرجال
خامساً : قال ابن الملقن يدخل في الإباحة العلم في الثوب والعمامة وعن مالك رواية تمنعه وهو قول ابن عمر
وأقول : إذا كان العلم في الإزار أو الرداء فذلك ظاهر فيه الجواز أما العمامة فلا أدري على أن الإباحة في الأثواب المستعملة كثيراً والمستعمل كثيراً هو الإزار والرداء علماً بأنه لو كان في الإزار والرداء ما يزيد على أربع أصابع فإنه يمنع هذا هو الظاهر وبالله التوفيق.
كتاب الجهاد
الجهاد مأخوذ من الجهد وهو التعب والمشقة أو الجهد بضم الجيم وإسكان الهاء وهو بلوغ الطاقة فالمجاهد في سبيل الله يتعب نفسه ويبذلها لطاعة ربه سبحانه وتعالى راجياً ثوابه وطامعاً في جنته يبيع الحياة المحدودة المنغصة بالحياة الأخروية الخالية من التنغيص والتي ليس لها حدود ولا نهاية لكن يشترط في هذا الجهاد أولاً : أن يكون مبنياً على العلم حتى يعلم الإنسان الأمر الذي يجاهد فيه(5/206)
ثانياً : أن يكون ذلك خالصاً لوجه الله عز وجل والإخلاص في ذلك هو أعظم شرط فيه قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) [الصف : 10 ،11،12،13]
ثالثاً : الجهاد الشرعي ينقسم إلى قسمين
جهاد بالعلم واللسان وجهاد بالسيف والسنان
فأما الجهاد بالعلم واللسان فهو طلب العلم الشرعي وتعلمه على أيدي المشائخ السلفيين من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه السلف الصالح ثم الجهاد في نشره ومجاهدة الناس على الاستقامة عليه بالتعليم والخطب والمحاضرات ومجاهدة أصحاب الإنحراف من أهل البدع الخارجين عن الأدلة الشرعية الآخذين بالحزبيات وغيرهم فجهادهم ببيان أخطائهم وإظهار فساد معتقداتهم هذا كله من الجهاد في سبيل الله
أما النوع الثاني وهو قتال الكفار على نشر الإسلام بالآلات الحربية فهذا أيضاً أعظم الجهاد ولكن له شروط
أولها : ما تقدم من العلم والإخلاص(5/207)
وثانيها وثالثها : أن يكون الجهاد على الطريقة الشرعية بأن يكون تحت راية إمام مسلم لأن الله سبحانه وتعالى يقول مبيناً هذين النوعين من الجهاد (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) [ التوبة 122 ] فهذه الآية شملت النوعين الجهاد بالعلم واللسان والجهاد بالسيف والسنان ويترتب على الجهاد الشهادة ، والشهيد هو الذي قتل باذلاً دمه ونفسه من أجل الله يعوضه الله بهذه الحياة الدنيا حياة أبدية لا نهاية لها وهي الحياة في البرزخ أي قبل القيامة والحياة في الجنة بعد القيامة قال الله سبحانه وتعالى ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)[ آل عمران : 169 ،170،171]
أما جهاد النفس فكلا الجهادين مترتب عليه فإن العبد لا يمكن أن يتفرغ لطلب العلم الشرعي ومعرفته واتقانه ثم الجهاد في نشره ومجاهدة من خالفه إلا بجهاد النفس ولا يمكن أن يجاهد بالسيف والسنان أي بالسلاح والعتاد والتي هي في كل زمن بحسبه لا يمكن أن يكون ذلك إلا بجهاد النفس فجهاد النفس أصل في ذلك كله نسأل الله أن يوفقنا لذلك وأن يعيننا عليه وأن يجعلنا من أهله وبالله التوفيق(5/208)
الحديث الأول : عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا زالت الشمس قام فيهم فقال أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف . ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم .
موضوع الحديث : فضل الجهاد في سبيل الله والنهي عن تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند لقائه
المفردات
قوله بعض أيامه : أي حروبه والحرب يسمى يوماً وإن استغرق أياماً كما يقال يوم بعاث ويوم صفين وما أشبه ذلك
انتظر : أي تأخر إلى ما بعد الزوال
قام فيهم : أي خطيباً
وقال يا أيها الناس : أي قال في خطبته يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو : نهي عن تمني لقاء العدو
واسألوا الله العافية : أمر بسؤال العافية من الله والمقصود بذلك السلامة
قوله فإذا لقيتموهم فاصبروا : أي إذا ابتليتم بلقاء العدو فاصبروا أي اصبروا على مرارة الحرب وما يكون فيها من الموت أو الجراح سواء كان غالباً أو مغلوباً
فإن كان غالباً لزمه الصبر عن البطر والإعجاب بالنفس وإن كان مغلوباً صبر على ما حصل له
قوله واعلموا : هذا تنبيه على فضل الجهاد(5/209)
أن الجنة تحت ظلال السيوف : أي لأن الجنة متسببة عنها وبريق السيوف من أعظم الأسباب فيها إذا بني ذلك على قصد نشر الدين وإعلائه وكان الجهاد على الطريقة الشرعية ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بتنزّل النصر بقوله ( اللهم منزل الكتاب أي كما أنزلته فانصره ومجري السحاب أي بقدرتك الكاملة التي أجرت السحاب وأنزلت منه المطر نسألك بكل ذلك أن تنصرنا على عدوك وعدونا وهازم الأحزاب : المقصود بالأحزاب كل من عادى الرسل واتباعهم قال تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) [ غافر : 5 ] أي كما هزمت الأحزاب المتقدمين في الزمن اهزم هؤلاء الأحزاب الذين تحزبوا وتعاونوا وتناصروا على دحض الحق بالباطل كما كبتَّ الذين من قبلهم اكبت هؤلاء وانصرنا عليهم
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن أبي أوفى الصحابي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي العدو في بعض أيامه فانتظر ولم يبدأ بالقتال إلا بعد أن زالت الشمس ولما زالت الشمس قام فيهم و لا بد أن يكون ذلك بعد الصلاة قام فيهم خطيباً فنهاهم عن تمني لقاء العدو لما فيه من الإعجاب بالنفس وأن يسأل الله العافية ثم قال فإذا لقيتموهم فاصبروا أي إن حقق الله ذلك وابتليتم بلقاء العدو فاصبروا عند ذلك واتركوا الجزع واعلموا أن لكم إحدى الحسنيين أما أن يُضفركم الله بعدوكم وتكون لكم الغلبة ويجمع الله لكم بين قهر العدو في الدنيا والثواب في الآخرة وإما أن تُغلبوا بعد أن بذلتم المجهود في الجهاد فيكون لكم الثواب الأخروي(5/210)
أما قوله واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف فيجب علينا أن نؤمن به كما هو ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه بشرعه المنزل وقدرته الكاملة أن ينصر المسلمين على عدوهم وبالله التوفيق
فقه الحديث
أولاً : أن المشروع للمسلمين الذي شرعه لهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أنهم إما أن يبدأوا القتال من الصباح وإن لم يبدأوا من الصباح أخروا القتال إلى بعد صلاة الظهر وزوال الشمس وهبوب الرياح
ثانياً : قيل أن التأخير إلى بعد الزوال لأمرين الأمر الأول أن يصلي المسلمون ويدعو لجيوشهم بالنصر وكذلك المجاهدون يؤدون فريضة الله عز وجل ويكون ذلك سبباً في النصر على العدو
الأمر الثاني : أنه بعد الزوال تهب الرياح ويبرد الجو ويكون في ذلك عون للمسلمين على عدوهم
ثالثاً : مشروعية الخطبة من قائد الجيش قبل البدأ بالقتال ليلخص لهم أهدافه ويأمرهم بالصبر وينهاهم عما لا ينبغي
رابعاً : النهي عن تمني لقاء العدو لأن فيه الإعجاب بالنفس والله عز وجل قال (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) [ التوبة : 25] وذلك بسبب قول بعضهم لن نغلب اليوم من قلة ثم أخبر أنه نصر نبيه بعد تلك الجولة بقوله ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) [ التوبة:26 ](5/211)
خامساً : ويتضمن النهي عن تمني لقاء العدو يتضمن النهي عن الإعجاب بالنفس والتباهي بالقوة وأن يكل العبد أمره إلى مولاه جلت قدرته وعز سلطانه فكم قد نصر أهل الحق وهم رسله وأتباعهم وهم قلة مستضعفون فنصرهم على أهل القوة المادية ونتذكر إغراق الله لقوم نوح ونصر إبراهيم على قومه حين ألقوه في النار وخرج منها بعد أن خمدت مرفوع الرأس منتصراً على قومه وكيف كان فرعون وقومه متيقنين في أنفسهم النصر على بني إسرائيل بكثرتهم وقلة بني إسرائيل فأمر الله البحر فانفتح لبني إسرائيل طرقاً حتى خرجوا ودخل فرعون وقومه فابتلعهم وأهلكهم فكم لله من عجائب في خلقه فكما فعل بأولئك فهو قادر على نصر المؤمنين من عدوهم
سادساً : الأمر بالصبر عند اللقاء ومعنى ذلك النهي عن الجزع الذي يؤدي إلى الانهزام والفشل بل يجب على المؤمنين أن يصبروا وينبغي لهم أن يواصلوا ما بدأوه من قتال العدو سواء كان قتالاً فعلياً أو قتال مخاصمة وطرح وأخذ ورد وبيان للحق ودحض للباطل كما يكون بمجادلة أهل الأحزاب والمبتدعة وما أشبه ذلك فإن هذا من الجهاد نسأل الله القوة عليه والصبر فيه
سابعاً : في قوله واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف إخبار بحقيقة يعلمها الله وعلينا أن نؤمن بها فإنها حقيقة وليست مجازاً كما يقوله بعض من كتب في هذا الأمر فالجهاد هو سبب دخول الجنة
ثامناً : ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - داعياً اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم وفي ضمن ذلك المسألة وهو أن المشروع لأصحاب الحق وأهله أن يدعوا الله عز وجل وأن يتضرعوا بين يديه راجين نصره وثوابه وإعزاز الشرع وأهله وهزيمة الباطل وأصحابه
تاسعاً : يؤخذ من قوله منزل الكتاب التوسل إلى الله عز وجل أن ينصر كتابه الذي أنزله لكونه منزله وهو يملك نواصي العباد ويملك ما ملكوا فهو قادر عليهم قادر على إذلال من ناوئ كتابه وكذب رسله(5/212)
عاشراً : قوله مجري السحاب توسل إليه سبحانه وتعالى بأسباب الرزق وهو إجراء السحاب وإنزال المطر وإنبات النبات الذي فيه رزق بني آدم والبهائم
الحادي عشر : التوسل أيضاً بهزيمة للأحزاب الذين تحزبوا ضد رسله وكتبه يريدون أن يدحضوا الحق بالباطل فهزمهم ونصره عليهم وهذه الثلاثة الأمور وهي نصر الشرائع وبسط الرزق للعباد وهزم الأحزاب الذين تحزبوا ضد رسله واتباع رسله في كل زمان ومكان توسل إلى الله بقدرته العظيمة التي فعلت هذا كله فقال إهزمهم وانصرنا عليهم وبالله التوفيق .
الحديث الثاني : عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما تقدمت ترجمته في كتاب الجمعة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خيرمن الدنيا وما فيها .
قال الرباط مراقبة العدو في الثغور المتاخمة لبلاد المسلمين .
موضوع الحديث : الموازنة بين الفاني والباقي وأن الفاني قليل وإن كثر والباقي كثير وإن رأوه قليلاً
المفردات
الرباط : هو المقام في حدود العدو(5/213)
من أجل ذلك وقد قال الله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [ آل عمران : 200 ] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ (1) وعلى هذا فيكون الرباط هو المثابرة على العمل والدأب فيه وهو إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى الصلاة لأدائها وانتظار الصلاة .
قوله خير من الدنيا وما عليها : أي أن المقام في حدود العدو من الكفار رصداً لحركات العدو وحراسته لمن يكونون حوله وقريباً منه رباط يوم بهذه النية خيرمن الدنيا وما عليها والدنيا هي كل ما قصد به الانتفاع من الأمور المادية من ذهب وفضة وحرث وزراعة وغير ذلك
قوله وموضع سوط أحدكم في الجنة خيرمن الدنيا وما عليها : أي أن هذا المقدار خير من الدنيا وما عليها ومعلوم تفضيل موضع السوط في الجنة على الدنيا بأكملها .
قوله والروحة يروحها العبد في سبيل الله
أقول الروحة هي الذهاب من بعد الظهر في عمل الخير كمن يذهب لطلب علم أو لتعليم قوم وإرشادهم أو لقتال كفار أو لأي أمر فيه صلاح للدين فهذه الروحة أو الغدوة إن غدا من أول النهار إلى وسطه خير من الدنيا كلها وما فيها
المعنى الإجمالي
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الطهارة باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره رقم 251 والترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في إسباغ الوضوء رقم 51 والنسائي في كتاب الطهارة باب الفضل في ذلك رقم 143 ومالك في كتاب النداء للصلاة باب انتظار الصلاة والمشي إليها رقم 386(5/214)
يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن مقام يوم في الرباط أو غدوة في سبيل الله وموضع سوط أحدنا في الجنة كل ذلك خير من الدنيا وما عليها ذلك لأن الجنة باقية والدنيا فانية وقليل الباقي خير من كثير الفاني
فقه الحديث
أولاً : فضيلة الرباط في سبيل الله وأن رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها
ثانياً : يؤخذ من قوله وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها أن موضع السوط مع قلته والدنيا كلها مع كثرتها يفضل عليها موضع السوط لأن الدنيا وما فيها من متاع كلها فانية من نساء وبنين وزروع وحرث وذهب وفضة وقصور وغير ذلك كل هذه إذا وضعت بالمفاضلة فموضع السوط خير منها
ثالثاً : يؤخذ من قوله والروحة يروحها العبد أو الغدوة خير من الدنيا وما فيها فالروحة في طلب العلم أو في تعليمه في إرشاد الضال وتبصير الجاهل وغير ذلك كل هذا غدوة يذهب لها الإنسان أو روحة والغدوة هي ما قبل الزوال والروحة التي بعده إلى المغرب كل ذلك يعني أن ثواب الغدوة أو الروحة خير من الدنيا كلها وما عليها بكل ما فيها كما قلنا
رابعاً : أن العمل الذي يترتب عليه الثواب يشترط فيه أن يكون خالصاً لله وصواباً على ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان خالصاً لله وصواباً على ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلنعلم أن ثوابه مضمون
خامساً : الذي نظنه ونعتقده أن أعمال أهل البدع لا يترتب عليها هذا الثواب العظيم فينبغي أن يعلم الفرق بين ما جمع الشرطين وهو ما كان خالصاً وصواباً على ما شرعه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما كان مخلطاً فالظاهر أن المخلط أي العمل المخلوط بالبدعة أنه مردود وغير مقبول حسب ما فهم من النصوص الشرعية وبالله التوفيق .
سادساً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن رباط يوم في سبيل الله يترتب عليه ذلك الثواب العظيم الذي يفضل الدنيا وما فيها
سابعاً : يؤخذ منه أن رباط يوم يسمى رباط(5/215)
ثامناً : التنبيه على عظم فضل ما أعد للمجاهد وإن قل عمله
تاسعاً : فيه الحث على الغزو والجهاد في سبيل الله سواء كان لتعلم أو لتعليم وغير ذلك
عاشراً : فيه التنبيه على حقارة الدنيا وما فيها وعلى فنائها وبقاء الآخرة وبالله التوفيق
الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال انتدب الله .
ولمسلم : تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسولي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة
ولمسلم : مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجر أو غنيمة
موضوع الحديث : فضيلة الجهاد في سبيل الله وأنه يعدل ثواب الصائم القائم الذي لا يفتر من صيام وقيام
المفردات
قوله تضمن الله وفي رواية تكفل الله وفي رواية توكل الله وفي رواية انتدب الله وكلها بمعنى واحد وهو تحقيق الموعود وما ضمن فيه رب العالمين فهو واقع لا محالة ونحن على ذلك من الشاهدين لأنه تكفل فيه القادر الذي لا يعجزه شيء والواجد الذي لا يعدم والغني الذي عطاءه كلام وعذابه كلام
قوله لمن خرج في سبيله : والضمير في قوله في سبيله يعود إلى الله تعالى بمعنى أنه مخلص لله مؤمن به مصدق بموعوده
قال لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي : أي تصديق بي يعني بالله وتصديق برسولي
فهو علي ضامن : معنى ضامن كتامر ولابن أي ذا تمر ولبن والمعنى أن الله ضامن له(5/216)
وضامن بمعنى مضمون كعيشة راضية أي مرضية أن أدخله الجنة : يعني إن قتل أدخلته الجنة وإن لم يقتل فإني أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال أي نائلاً الثواب الذي رصد له من أجر وغنيمة ومعنى ذلك أنه لا بد أن ينال الثواب مع الغنيمة إن جمعت له أو الثواب إن لم تحصل له غنيمة فهو في كلا الأحوال رابح وفائز
قال ولمسلم مثل المجاهد في سبيل الله ..إلخ قال ابن الملقن هذه الرواية ليست في صحيح مسلم وإنما هي في صحيح البخاري وهذا لفظه وقال هذه الزيادة التي عزاها المصنف إلى مسلم ليست فيه وإنما هي في البخاري بطولها في باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ) فكان ينبغي أن يقول وللبخاري بدل ولمسلم أهـ
قوله مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم : يعني أن أجره كأجر الصائم القائم الذي لا يفتر من صيام ولا قيام من الفتور وهو الضعف والانقطاع
قال وفي مسلم من حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله قال لا تستطيعونه فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا تستطيعونه ثم قال مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله )
المعنى الإجمالي
في هذا الحديث ضمان من الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيله ..إلخ ومعنى ذلك أنه يكون مؤمناً مخلصاً أنه ضامن على الله في واحد من ثلاثة أو اثنتين منها فإن قتل فهو ضامن على الله أن يدخله الجنة وإن بقي فقد تضمن الله أن يرجعه إلى مسكنه بما ناله من أجر أو غنيمة أي من أجر بدون غنيمة أو يجمع الله له بين الغنيمة والأجر
أما الرواية الثانية التي عزاها صاحب العمدة إلى مسلم واستدل عليه ابن الملقن وفيها أن فضيلة الجهاد في سبيل الله أي التي تقوم مقام الجهاد أمر لا يستطيعه البشر وذلك كالآتي(5/217)
أن يكون بدلاً من الخروج يدخل في مصلاه فيواصل الصلاة والصيام والقيام ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لا تستطيعونه
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث الأول قوله انتدب الله يؤخذ منه فضيلة المجاهد في سبيل الله وأنها فضيلة عظيمة وكذلك في الرواية الأخرى نسأل الله أن يبلغنا من فضله ما يكون له هو أهل وإن كنا لسنا بأهل
ثانياً : معنى تضمن وانتدب وتكفل أنه قطع وعداً على نفسه بأن يكون كفيلاً لمن خرج في سبيله بالأمور الثلاثة المذكورة في الحديث
1- وهي دخول الجنة إن قتل وكذلك إن مات
2- إحرازه للثواب إن بقي وهو إما ثواب كامل لمن لم يحصل على غنيمة
3- أو ثواب مع غنيمة لمن حصل عليها في الدنيا
ثالثاً : يؤخذ من قوله مثل المجاهد في سبيل الله أن ثواب المجاهد كثواب الصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر أي الذي لا يفتر عن الصلاة وفي هذا من الفضل ما لا يستطاع وصفه
رابعاً : يؤخذ من قوله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله أن الجهاد لا بد أن يكون جهاداً شرعياً بشروطه
خامساً : وأن يكون المجاهد مخلصاً لله عز وجل لا يريد من رواء ذلك عرضاً دنيوياً ولا شيئاً من مقاصد الدنيا الزائلة وبالله التوفيق .
سادساً : ومن شروطه أن يكون تحت راية إمام مسلم
الحديث الرابع : وعنه رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى اللون لون الدم والريح ريح المسك .
موضوع الحديث : فضل من جرح في سبيل الله عز وجل
المفردات
مكلوم : بمعنى مجروح
يكلم : بمعنى يجرح
في سبيل الله : أي كانت نيته خالصةً لله وبذل نفسه لإعلاء كلمة الله
إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى : أي وجرحه يثعب منه الدم ويسيل كهيئته حين جرح
اللون لون الدم والريح ريح المسك : أي أن اللون أحمر ولكن الريح ريح المسك وليس بريح دم
المعنى الإجمالي(5/218)
يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ما من مكلوم يكلم في سبيل الله بأن كان مخلصاً باذلاً نفسه لربه طائعاً راجياً من الله ثوابه وخائفاً من عقابه إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى كهيئته يوم جرح اللون لون الدم والريح ريح المسك
فقه الحديث
أولاً : فضيلة من يكلم في سبيل الله وأن رائحة دمه تنتشر في الموقف فيشمها الناس جميعاً كأنها رائحة مسك
ثانياً : أنه يشترط لذلك أن يكون في سبيل الله وما معنى في سبيل الله ؟
أي يكون مخلصاً لله في العمل الذي أوجب جرحه وأن يكون عمله صواباً على ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن كانت النية مدخولة أو العمل غير صواب على الوجهة الشرعية فإنه لا يكون كلمه كذلك ولهذا جاء في الحديث الذي مضى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( والله أعلم بمن يجاهد في سبيله )
ثالثاً : يعلم من هذا أن الذين يقتلون أنفسهم فيما يسمونه بالعمليات الاستشهادية وهي ليست استشهادية وإنما هي انتحارية وكذلك الخوارج الذين يفسدون في الأرض بإزهاق الأرواح وسفك الدماء وإتلاف الأموال على غير بصيرة ولا هدى فإن عملهم باطل وهو موجب لغضب الله لا موجب لرضى الله كما زعموا ولهذا فليتقوا الله في أنفسهم وليتق الله الذين يفتونهم بجواز ما عملوا من الإفساد
رابعاً : قوله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى أي ينزل منه الدم كهيئته يوم جرح(5/219)
خامساً : قوله اللون لون الدم والريح ريح المسك يؤخذ منه أن الله سبحانه وتعالى الذي يخلق ما يشاء يجعل الشيء الذي تتقزز منه النفوس وتنفر من رائحته الكريهة يجعله بعكس ذلك حسناً طيباً تقبله النفوس وتتلذذ به كما جاء ( أن خلوف فم الصائم الذي يكون مكروهاً عند الناس يكون عند الله عز وجل طيباً كرائحة المسك ) (1)
__________
(1) الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ) رواه البخاري في كتاب الصوم باب فضل الصوم رقم 1894 وفي باب هل يقول إني صائم إذا شتم رقم 1904 وفيه (وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ ...الحديث) وفي كتاب اللباس باب ما يذكر من المسك رقم 5927 ومسلم في كتاب الصيام باب فضل الصوم رقم 1151 والترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في فضل الصوم رقم 764 والنسائي في كتاب الصيام باب فضل الصيام رقم 2211 ورقم 2212 ورقم 2213 ورواه ابن ماجة في كتاب الصيام باب ما جاء في فضل الصيام رقم 1638 ومالك في كتاب الصيام باب جامع الصيام رقم 690 والدارمي في كتاب الصوم باب فضل الصوم رقم 1769(5/220)
سادساً : ما هو السبب في تغير الدم تغير رائحته وإن كان لونه لونه السبب في ذلك طيب النية وحسنها وامتثال الأمر وبذل النفس في سبيل الله كما يقول عز من قائل (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 193 ]
فإذا كانت النية لإعلاء كلمة الله أظهر الله حسنها يوم القيامة لأهل الموقف والمشهد
سابعاً : أن تلك الرائحة الجميلة الحسنة يستدل بها من شمها على حسن عمل صاحبها وطيب نيته وإخلاصه لله رب العالمين نسأل الله جل شأنه أن يجعلنا من المخلصين وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه
ثامناً : ادعى بعض الجماعات أن الذين قتلوا منهم كانت تنبعث من قبورهم رائحة المسك وهذه الدعوى يجب أن نعرضها على واقع السلف فهل ادعى في قبر أحد منهم أنه كان ترابه كرائحة المسك لا يصح هذا عن أحد أبداً وإن الذين قالوا هذا القول قولهم باطل لأن قتالهم وإن كانوا في سبيل الله ليسوا بأفضل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سبعين رجلاً ولم يوجد في حديث واحد أنه انبعث من قبر أحد منهم رائحة المسك وإنما هذه مبالغة نسأل الله أن يسامح من كتبها وأن يوفقنا للحق إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد
تاسعاً : أما ما ورد في هذا الحديث فهو يوم القيامة وليس في الدنيا .
الحديث الخامس : عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس أو غربت .
قال ابن الملقن هذا الحديث من أفراد مسلم
والكلام على الغدوة والروحة قد مر في الأحاديث القريبة الماضية فالغدوة هي الخروج من الغدو ما بين صلاة الصبح إلى الزوال
والروحة هي الخروج في الرواح ما بين الزوال إلى غروب الشمس
ويستفاد من الحديث(5/221)
أن تلك الغدوة أو الروحة التي يعملها العبد في سبيل الله بأن يكون مخلصاً لله وعمله موافقاً لما شرع الله أي أن تلك الغدوة أو الروحة خير مما طلعت عليه الشمس أو غربت وهذا تفضيل لتلك الغدوة أو الروحة على جميع متاع الدنيا من أموال وقصور ومزارع وغير ذلك من متاع الدنيا ونسائها أن تلك الغدوة أو الروحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت أي من مشرقها إلى مغربها فسبحان من لا يحصر فضله ولا يعلم مداه إلا هو وهذا فيه فضيلة للأعمال الخيرية جميعاً سواء كان ذلك بجهاد السنان أو البيان وقد سبق لنا أن بينا أن الخروج لطلب العلم أو تعليمه أو للجهاد الفعلي في سبيل الله بين المسلمين والكفار كل ذلك في سبيل الله وأن الغدوة أو الروحة فيه خير من الدنيا وما عليها وبالله التوفيق .
الحديث السادس : عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها
هذا الحديث متفق عليه أخرجه البخاري وأخرجه مسلم والكلام عليه كالكلام على سابقه فلا داعي للإعادة . وبالله التوفيق .
الحديث السابع : عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين – وذكر قصة – فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتل قتيلاً عليه بينة فله سلبه قالها ثلاثاً
موضوع الحديث : أن السلب للقاتل وسيأتي الكلام على هذه المسالة
المفردات
قوله خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين : حنين موضع شرق عرفة وقد ذكره الله عز وجل في قوله (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا ) [التوبة : 25](5/222)
قوله وذكر قصة : القصة هي ( عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ حُنَيْنٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ فَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلا رَجُلاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَدَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ حَتَّى ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ مَا بَالُ النَّاسِ قَالَ أَمْرُ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا وَجَلَسَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُمْتُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ ثُمَّ قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُمْتُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ فَقُمْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ رَجُلٌ صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ عَنِّي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاهَا اللَّهِ إِذًا لا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِيكَ سَلَبَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَدَقَ فَأَعْطَاهُ فَبِعْتُ الدِّرْعَ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ فَإِنَّهُ لأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلامِ).(5/223)
(1)
قوله عليه بينة : المراد بالبينة ما يتبين به الأمر وقد اختلف أهل العلم هل يعتبر ترك ذلك الرجل يعتبر بينة فبعضهم قال نعم وبعضهم قال لا لأنه لم يطلب منه شاهد آخر ولم يحلفه والقول بأن الشاهد الواحد يكفي في مثل هذا ويعتبر في نظري هو الأصح .
قوله سلبه : السلب هو ما قتل القتيل وهو عليه من آلات الحرب وغيرها
المعنى الإجمالي
المعنى الإجمالي في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حنين من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه وأن أبا قتادة قتل رجلاً وقال لمن حوله إني قتلت رجلاً فأقسم على من عرف ذلك أن يشهد لي قالها ثلاثاً وفي الثالثة قال رجل من المسلمين ... إلخ
الحديث الثامن : عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عين من المشركين – وهو في سفر – فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلبوه واقتلوه فقتلته فنفلني سلبه .
وفي رواية فقال : من قتل الرجل فقالوا بن الأكوع فقال له سلبه أجمع
موضوع الحديث : السلب كما سبق
المفردات
العين : هو الجاسوس الذي يريد اكتشاف أخبار المسلمين ليدل العدو على ذلك
وهو في سفر: المراد به موقعة حنين
قوله فجلس عند أصحابه : الضمير يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والضمير في جلس ويتحدث المستتر يعود على الجاسوس
__________
(1) البخاري في كتاب فرض الخمس باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلاً فله سلبه رقم 3142 وفي كتاب المغازي باب قول الله تعالى ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) رقم 4322 وفي كتاب الأحكام باب الشهادة تكون عند الحاكم وفي ولايته القضاء رقم 7170 ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب استحقاق القاتل سلب القتيل رقم 1751 و أبو داود في كتاب الجهاد باب في السلب يعطى القاتل رقم 2717 ومالك في كتاب الجهاد باب ما جاء في السلب في النفل رقم 990(5/224)
قوله ثم انفتل : أي تحرك وخرج بسرعة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلبوه واقتلوه : أي اطلبوه حتى تلحقوه وتقتلوه
قال فقتلته فنفلني سلبه
قوله فقال ابن الأكوع : يعني سلمة
فقال له سلبه أجمع : هكذا ورد بالسجع
المعنى الإجمالي
لحديث سلمة أن عيناً من المشركين والعين هو الجاسوس الذي يريد أن يخبر بما عليه العدو لأصحابه فإذا رأى رقة وضعفاً أخبرهم
والجاسوس على المسلمين يشرع قتله .
فقه الحديثين
يؤخذ من الحديثين :
أولاً : أن السلب للقاتل سواء شرطه الإمام أو لم يشرطه وهو حكم شرعي لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) وقالها بعد انقضاء القتال وذلك يدل على أن هذا الحكم حكماً جارياً في الإسلام ومما يدل على ذلك قول أَبُي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاهَا اللَّهِ إِذًا لا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِيكَ سَلَبَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَدَقَ فَأَعْطَاهُ إياه فدل ذلك على أن هذا كان حكماً معلوماً في الإسلام لأن أبا بكر ما تكلم إلا عن شيء يعلمه شرعاً مستقراً سواء كان قاله قائد الجيش أو لم يقله وسواء قاله قبل القتال أو بعده كل ذلك يستحق به السلب(5/225)
قال ابن الملقن واختلف فيه العلماء على قولين أحدهما أنه يستحقه سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلاً فله سلبه أو لم يقل ذلك وبه قال الشافعي والأوزاعي والليث والثوري وأبو ثور وأحمد وإسحاق وابن جرير وغيرهم قالوا هذا الحديث فتوى منه - صلى الله عليه وسلم - وإخبار عن حكم الشرع فلا يتوقف على قول أحد والقول الثاني أنه لا يستحق القاتل ذلك لمجرد القتل وإنما هو لجميع الغانمين كسائر الغنيمة إلا أن يقول قبل القتال من قتل قتيلاً فله سلبه وبه قال مالك وأبو حنيفة ومن تابعهما وحملوا الحديث على هذا وجعلوا هذا إطلاقاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس بفتوى وإخبار عنه قال واستضعف هذا فإنه صرح في هذا الحديث الصحيح بأنه عليه الصلاة والسلام قال هذا بعد الفراغ من القتال واجتماع الغنائم .
وقال الشيخ تقي الدين هذا يتعلق بقاعدة وهي أن تصرفات الشارع في أمثال هذا إذا ترددت بين التشريع والحكم الذي يتصرف فيه ولاة الأمور هل يحمل على الأول أو الثاني والأغلب حمله على الأول
قلت :وقد تقدم الترجيح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك بعد انتهاء القتال وأن أبا بكر حين أنكر على ذلك الرجل حين طلب أن يرضي القاتل عن السلب وقرره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فقال أعطه سلبه إلا أنه قد تحصل حالات يستكثر فيها السلب فيرى أمير الجيش أن إعطاء السلب مع كثرته فيه ضرر على المجاهدين ونقص من غنيمتهم كما في حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه (1) أو كان المطالب قد أساء الأدب مع الأمير فيستحق أن يمنع ذلك السلب بسبب سوء أدبه .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب استحقاق القاتل سلب القتيل رقم 1753 ورواه أبو داود في كتاب الجهاد باب في الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى والفرس رقم 2719 ورواه ابن حبان في صححه في كتاب السير باب الغنائم وقسمتها رقم 4842.(5/226)
ثانياً : ما هو السلب ؟ والجواب : السلب هو ما كان يحمله المقتول أو يلبسه وقت القتل وهو كالسيف والترس والقوس والسهام وما أشبه ذلك من لأمة الحرب سواء كانت في ذلك الزمن أو في زمننا هذا وكذلك ما كان لابساً له من لباس ودرع وخوذة واختلفوا في الدابة هل تلحق بالسلب أم لا ؟ وقد ذكر هنا ابن الملقن أن الإمام أحمد لم يجعل الدابة من السلب وقال في مسائل الخرقي والدابة وما عليها من آلتها من السلب وقال في المغني وجملته أن السلب ما كان القتيل لابساً له من ثياب وعمامة وقلنسوة ومنطقة ودرع ومغفر وبيضة وتاج وأسورة .. إلخ ما ذكر وقال في المغني أيضاً واختلفت الرواية عن أحمد في الدابة فنقل عنه أنها ليست من السلب وهو اختيار أبي بكر لأن السلب ما كان على يديه والمهم أن عن أحمد روايتان في الدابة إحداها أنها تدخل في السلب والرواية الثانية أنها لا تدخل ( المغني الجزء الثالث عشر ص72)
ثالثاً : أنه لا يستحق السلب إلا بشروط أربعة :
أحدها : أن يكون المقتول من المقاتلة فأما إن قتل امرأة أو صبياً أو شيخاً فانياً أو ضعيفاً مهيناً ونحوهم ممن لا يقاتل لم يستحق سلبه
الثاني : أن يكون المقتول فيه منعة غير مثخن بالجراح فإن كان مثخناً بالجراح فليس لقاتله شيء من سلبه .
الثالث : أن يقتله أو يثخنه حتى يكون في حكم المقتول
الرابع : أن يغرر بنفسه في قتله أي يخاطر بنفسه لأنه يحتمل أن يكون قاتلاً أو مقتولاً
وقد ذكر ابن الملقن فوائد
أحدها : الجلوس عند أصحابه لإيناسهم بالحديث وتعلم العلم في الأسفار ووقت الحاجة إلى ذلك
قال وفي صحيح مسلم أن ذلك كان وقت التضحي لقوله(بينما نحن نتضحى إذ جاءه رجل ... )(1)
__________
(1) مسلم في كتاب الجهاد والسير باب استحقاق القاتل سلب القتيل رقم 1754 وأبو داو في كتاب الجهاد باب في الجاسوس المستأمن رقم 2654(5/227)
وأقول:قوله فجلس مع أصحابه يتحدث الضمير في هذا يعود إلى العين من المشركين لا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأن المؤلف فهم من قوله فجلس عند أصحابه يتحدث أن الضمير يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس كذلك
ثانيها : الأمر بطلب الجاسوس الكافر الحربي وقتله والإجماع قائم على ذلك لما في ذلك من كشف لعورات المسلمين ، واختلف العلماء في الجاسوس المعاهد والذمي هل ينتقض عهده إذا علم منه التجسس على المسلمين ويقتل ؟
أحدها : يصير ناقضاً للعهد بذلك فإن رأى الإمام استرقاقه أرقه ويجوز قتله
ثانيهما : لا ينتقض عهده بذلك وبه قال جمهور العلماء . قالت الشافعية إلا أن يكون قد شرط عليهم انتقاض العهد بذلك
وأقول : إن القول أن العهد ينتقض بذلك هذا هو الصحيح وفي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالأمان لأهل الذمة ما يشهد لذلك .
أما الجاسوس المسلم فقال الشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وبعض المالكية والجمهور يعزره الإمام بما يراه من ضرب وحبس ونحوهما ولا يجوز قتله وقال مالك يجتهد فيه الإمام
ثالثها ورابعها: أن القاتل يستحق السلب وأنه لا يخمس
خامسها : يؤخذ منه سؤال الإمام عمن فعل فعلاً جميلاً ليثنى عليه به ويعطيه ما يستحقه
سادسها : جواز مجانسة الكلام لقوله قال ابن الأكوع قال له سلبه أجمع إذا لم يكن فيه تكلف
سابعها : مبادرة الرعية إلى امتثال أمر إمامهم ما لم يكن معصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
ثامنها : قال ابن الملقن فيه جواز تنفيل جميع ما أخذته السرية لأن سلبه كان جملة ما غنموه ثم قال ولا يخلوا ما ذكره من نظر
وأقول : إنه يؤخذ من هذا أنه إذا أمر قائد الجيش بقتل الجاسوس فانتدب لذلك جماعة وكان الذي قتله واحداً منهم فإن السلب لمن قتل دون غيره وبالله التوفيق .(5/228)
الحديث التاسع :عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى نجد فخرجت فيها فأصبنا إبلاً وغنماً فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيراً بعيراً .
موضوع الحديث : النفل المعطى للسرايا
المفردات
السرية : عند أهل السير الذين كتبوا عن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كل جيش لم يخرج فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - والغزوة ما خرج فيها ، والسرية على العموم هي جيش قليل يرسلهم الإمام لغرض خاص وقد تكون مقتطعة من الجيش الكبير وقد تكون مرسلة من الإمام كما بينا
قبل نجد : عرف الشارح نجداً بقوله ونجد ما بين جرش إلى سواد الكوفة وحده مما يلي المغرب الحجاز وعن يسار الكعبة اليمن ونجد كلها من أعمال اليمامة
سهماننا : جمع سهم
اثني عشر بعيراً : أي أصاب كل واحد من أفراد السرية اثني عشر بعيراً
قوله ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : التنفيل هو ما يعطى من قبل الإمام تشجيعاً على عمل عمله المجاهد
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثهم في سرية إلى نجد فأصابوا غنائم كثيرة من إبل وغنم فنال كل واحد منهم اثني عشر بعيراً .
فقه الحديث
أولاً : السرايا تنقسم إلى قسمين : سرية مستقلة يرسلها الإمام لغرض خاص وسرية مقتطعة من الجيش الكبير(5/229)
ثانياً : السرية المستقلة حكمها حكم الجيش المستقل ما غنموه فهو لهم يؤخذ منه الخمس ويوزع الباقي على الغانمين أما السرية المقتطعة من الجيش فهذه تعطى شيئاً بعد الخمس والباقي يكون غنيمة للجيش لأن الجيش يكون ردءاً للسرية وقوة لها وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان ينفل الربع بعد الخمس في بدء الغزو وينفل الثلث بعد الخمس عند القفول فإذا كان في أول الغزو يرسل السرية ويقول لهم لكم الربع بعد الخمس وإذا كان عند القفول والناس سائمين من الحرب ومن الأسفار ويحبون الرجوع إلى أوطانهم ففي هذه الحالة ينفل الثلث بعد الخمس
ثالثاً : وعلى هذا فإن قول من قال أن للإمام أن ينفل الكل هذا قول ضعيف بل ينفل كما ورد لأن التنفيل للترغيب في تحصيل مصالح القتال .
رابعاً : يؤخذ من الحديث دليل على وجوب توزيع الغنيمة بين الغانمين لقوله فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً .
خامساً : الغنيمة تجمع بكل ما فيها من ذهب وفضة وثياب وأعيان أخرى حتى الخيط والمخيط يجب أداؤها جميعاً ولا يجوز لأحد من الجيش أن يغل شيئاً
سادساً : من غل شيئاً من الغنيمة ثم أتى به فالظاهر أن الإمام يرده إذا كان شيئاً يسيراً لأنه قد جاء في بعض الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغلول وأخبر بتحريمه فجاء بعضهم بخيط ومخيط (1) فأبى أن يقبله منهم - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا نظر يحتاج إلى تحرير
__________
(1) رواه مسلم بنحوه في كتاب الإمارة باب تحريم هدايا العمال رقم 1833 ورواه أبو داود في كتاب الأقضية باب في هدايا العمال رقم 3581 وفي كتاب الجهاد باب في فداء الأسير بالمال رقم 3694 وابن ماجة في كتاب الجهاد باب الغلول رقم 2850 والنسائي في كتاب الهبة باب هبة المشاع رقم 3688 وانظر الأحاديث الصحيحة رقم985 .(5/230)
سابعاً : بعد جمع الغنيمة يخرج الخمس الذي فرضه الله في قوله ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... .. الآية ) [ الأنفال : 41 ] ثم يقسم الأربعة الأخماس على الغانمين
ثامناً : إذا كانت هناك سرية اقتطعت من الجيش خمست غنيمتها أي يخرج منها الخمس ثم يخرج ما نفلهم الإمام سواء كان الربع أو الثلث ويبقى ما بقي فيدخل في الغنيمة المشتركة بين الجيش جميعاً
تاسعاً : يكون ما نفله الإمام إلى السرية المقتطعة خاصاً بهم مع أن لهم سهمانهم مع سائر الجيش
عاشراً : للإمام أن ينفل من الخمس أو من خمس الخمس ما يكون فيه ترغيب وتحفيز لمن صنع شيئاً نافعاً للجيش لقوله ( ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيراً بعيراً )
الحادي عشر : قال ابن الملقن ناقلاً عن ابن عبدالبر في الاستذكار النفل على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يريد الإمام تفضيل بعض الجيش لقتاله وبلائه فينفلهم من الخمس واستحب بعضهم أن يكون من خمس الخمس
ثانيها : أن يبعث الإمام سرية من العسكر فينفلها ما غنمت دون المعسكر فحقه أن يخمس ما غنمت ثم يعطي السرية ما بقي بعد الخمس ما شاء أو لا يزيد على الثلث لأنه أقصى ما روي في النفل عنه عليه الصلاة والسلام
وأقول : القول الأخير هو الصحيح
ثالثها : أن يحرض الإمام أهل المعسكر على القتال قبل لقاء العدو وينفل من شاء منهم أو جميعهم مما يفتح الله عليه الربع أو الثلث . قال وكره مالك هذا لخبث النية لسببه وأجازه بعض السلف
وأقول : إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أذن بذلك وهو الشارع فلا نمنع شيئاً أذن فيه ولكن نوصي بإخلاص النية لله وينوي العبد أن ما أعطيه عوناً له على طاعة الله وهو الأصح فيما أرى والله تعالى أعلم .(5/231)
الحديث العاشر: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا جمع الله الأولين والآخرين يُرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان )
موضوع الحديث : تحريم الغدر وبيان جزائه وعقوبته يوم القيامة
المفردات
الغدر في اللغة : عدم الوفاء بالعهد يقال غدر يغدر غدراً وغَدر يغدُر غدراً إذا خاس بالعهد ولم يف به
واللواء بالمد : هو الراية وهي خرقة توضع في خشبة طويلة وكانت في الزمن السابق وفي طريقة القتال بالسيوف والرماح التي كانت في الزمن القديم كان كل قوم يجعلون لهم لواء لكي يعرفوه ويأووا إليه قال الله عز وجل (( وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ) [ الرحمن : 24 ]
قال ابن الملقن : والسود هي الراية العظيمة لا يمسكها إلا صاحب الجيش أو صاحب دعوة الجيش ويكون الناس تبعاً له وأصل رفع اللواء الشهرة والعلامة ولما كان الغادر قد اختفى بغدره حتى وقع عند ذلك أظهر الله غدر الغادر في موقف القيامة ليشتهر به وجاء في بعض الروايات قوله (لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به عند أسته ) (1) أي في دبره خلفه لأن الغدر كان تصرف من الخلف أي من دون علم المغدور به
المعنى الإجمالي
لما كان الغادر خائن وغدره به ضرر على الغير عمله في الخفاء ليضر بالمغدور به جعل الله للغادر لواء يعرف به أنه غادر
فقه الحديث
__________
(1) سلسة الأحاديث الصحيحة رقم 1690وصحيح الجامع الصغير 2153 و5167 .(5/232)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم الغدر وأنه من أشد المحرمات حرمة ولهذا مدح الله الموفين بالعهود وأثنى عليهم بذلك بقوله في سورة الرعد (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ) [ الرعد : 20 ] وذم الغادرين بقوله (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) ولما كان الحامل على الغدر غالباً هو حب المال والاستعلاء قال بعد ذلك (اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ) [ الرعد : 25 ، 26 ]
ثانياً : من الغدر ما ينطوي عليه أصحاب الحزبيات ويعدون له من الخروج المفاجئ على الدولة المسلمة كما حصل من التفجيرات التي حصلت في الرياض عدة مرات وإخافتهم للآمنين وخيانتهم للدولة بإعدادهم للخروج عليها وإخافتهم للشعب ومحاربتهم لله ورسوله وكذلك الاغتيالات وقد كثرت في زمننا هذا كل هذا من الغدر الذي حرمه الله عز وجل وأصحابه ينالهم هذا الوعيد لأنهم تخفوا بأعمالهم ولم يعلم بها أحد حتى ظهرت ولذلك عوقب الغادر بنشر غدرته على مسامع أهل الموقف وأبصارهم .
وقلت في هذا المعنى في صيحة حق
لكل غادر لواء ينصب ... ... بغدره عند استه ويشجب
يقال ذي غدرته ويذكر ... ... باسمه الذي به يشتهر
الحديث الحادي عشر : وعنه رضي الله عنه أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقتولة فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل النساء والصبيان
موضوع الحديث : أن قتل النساء والصبيان لا يجوز
المفردات
النساء : هن الإناث من بني آدم
والصبيان : هم الصغار دون الحنث
المعنى الإجمالي(5/233)
إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل النساء والصبيان يدل على تحريم قتلهم وقوله في بعض الأحاديث الواردة في هذا المعنى ( ما كانت هذه لتقاتل ) (1) تنبيه على علة النهي عن قتل النساء لأن الغالب فيهن عدم المقاتلة وإن كان في بعضهن شر وشجاعة لكن الحكم علق على الأغلب
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث تحريم قتل النساء لكن اختلفوا فيمن تقاتل هل يباح قتلها إذا قاتلت رأى بعضهم ذلك ومنع بعضهم ذلك وهذا هو الأظهر فإذا قاتلت ينبغي أسرها وعدم قتلها
ثانياً : إن قَتلت قُتلت قصاصاً وإن ارتدت قتلت على الردة بأن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت لعموم حديث ابن عباس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من بدل دينه فاقتلوه ) ويكون هذا خارجاً عن عموم النهي عن قتل النساء
ثالثاً : إن حصل بيات للمشركين وقتل أحد من النساء والصبيان من غير قصد فإنه يرجى ألا عقوبة في ذلك
رابعاً : إذا تترس العدو بالنساء والصبيان من المسلمين فهل يقتلون هذا محل نظر .
الحديث الثاني عشر : عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عبدالرحمن (2) بن عوف والزبير (3) بن العوام شكيا القمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة لهما فرخص لهما في قميص الحرير فرأيته عليهما
موضوع الحديث : ترخيص النبي - صلى الله عليه وسلم - في لبس الحرير لدفع القمل
المفردات
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب في قتل النساء رقم 2669 وابن ماجة في كتاب الجهاد باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان رقم 2842 وأحمد رقم 16088 ( قال الألباني حسن صحيح )
(2) عبدالرحمن بن عوف الزهري هو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة أسلم قديماً ومناقبه شهيرة مات سنة اثنتين وثلاثين وقيل غير ذلك .التقريب ترجمة رقم 3973
(3) الزبير بن العوام بن خويلد بن عبدالعزى أبو عبدالله القرشي الأسدي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة قتل سنة ست وثلاثين بعد منصرفه من موقعة الجمل . التقريب 2003(5/234)
شكيا وشكوى : يجوز أن يكون بالياء فيقال شكيت وأن يكون بالواو فيقال شكوت
القمل : معروف وهو دابة تكون في ملابس الإنسان وقد تكون في الرأس فتتكاثر وتؤذي من تكون فيه
في غزاة : أي في غزوة
فرخص لهما في قميص الحرير ورأيته عليهما
المعنى الإجمالي
من يسر الدين الإسلامي أنه يرخص في الشيء المحرم لعلة توجب الترخيص وقد رخص الشارع - صلى الله عليه وسلم - للزبير وعبدالرحمن في لبس قمص الحرير لكونه يدفع القمل بما جعل الله سبحانه وتعالى فيه الطبيعة المنافية لذلك وكذلك فيه دواء للحكة
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث جواز لبس الحرير لدفع القمل أو لدفع الحكة ويلتحق بذلك ما وصف الأطباء أن لبس الحرير ينفع فيه فيخففه أو يزيله من الأمراض الجلدية
ثانياً : أن الرخصة لا تتوقف على الغزو بل الرخصة عند وجود العلة المقتضية لذلك وبالله التوفيق .
الحديث الثالث عشر : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة فكان رسول الله يعزل نفقة أهله سنة ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل .
موضوع الحديث : حكم الفيء
المفردات(5/235)
بني النضير : قبيلة من اليهود ينتسبون إلى هارون أخي موسى عليهما الصلاة والسلام ولما حصل بين بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحصل بين الضرات افتخرت إحداهن على صفية بنت حيي فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أَلا قُلْتِ فَكَيْفَ تَكُونَانِ خَيْرًا مِنِّي وَزَوْجِي مُحَمَّدٌ وَأَبِي هَارُونُ وَعَمِّي مُوسَى ) (1)
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 3892 ورواه الحاكم في مستدركه برقم 6790 قال الألباني رحمه الله إسناده ضعيف وفي الضعيفة برقم 4963 ..(5/236)
هذا الحديث فيه ضعف لكن له شاهد من حديث أنس رضي الله عنه وقد سبق أن أمليته في الجزء الرابع وأن المفتخرة هي حفصة رضي الله عنها كان رئيس بني النضير حيي بن أخطب والد صفية بنت حيي وقصة غدرهم بالعهد الذي بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابتة مشهورة حين ذهب يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري فهموا بقتله وأرسلوا من يسقط عليه رحا وهو الذي يطحنون عليه من فوق فأخبره الله عز وجل بواسطة الوحي وخرج من بينهم كأنه يريد قضاء حاجة وذهب إلى المدينة ولما طال الجلوس على أصحابه خرجوا يبحثون عنه فوجدوا رجلاً جاءياً من المدينة فسألوه فأخبرهم أنه وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - داخلاً المدينة ثم غزاهم بعد ذلك فألقى الله في قلوبهم الرعب فصالحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لهم ما حملت الإبل غير اللئمة أي غير عدة الحرب فكانت فيئاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله في ذلك سورة الحشر وفيها (وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1) الآية والتي بعدها
__________
(1) الآية التي بعدها هي قوله تعالى ( مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [ الحشر :7](5/237)
وبعد ذلك كان حيي هو المحرض لبني قريظة على الغدر ووعدهم أنه يكون مصيره مصيرهم فغدرت بنو قريظة في السنة الخامسة عند مجيء الأحزاب فلما ارتحلت الأحزاب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بغزو بني قريظة فغزاهم وحاصرهم بضعة وعشرين يوماً ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم وأن تغنم أموالهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات فقتلت مقاتلتهم ومعهم حيي بن أخطب وفي السنة السابعة غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر وغنم أرض خيبر وكانت صفية بنت حيي في السبي فأعتقها وتزوجها.
الإيجاف : هو الإسراع في الشيء وعند الحرب يسرع الناس فنفي الإيجاف عن أموال بني النضير أنها جاءت للمسلمين من غير كد ولا تعب فجعلها الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فكان يعزل منها نفقة أهله سنة ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله
والمراد بالكراع : الخيل والإبل التي يحمل عليها في سبيل الله
المعنى الإجمالي
لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة عقد عهداً مع اليهود ولكنهم غدروا بالعهد فسلط الله عليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فنفى من نفى وقتل من قتل وكانت ديارهم وأموالهم فيئاً لله ورسوله فسبحان من بيده الأمور وإليه المصير وله الحكم في الأولى والأخرى
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث
أولاً : ما أكرم الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث أعزه وأداله على جميع مناوئيه وبالأخص اليهود الذين كانوا مساكنين له بالمدينة حيث ظهر الغدر منهم قبيلة تلو الأخرى وأغنم الله نبيه ديارهم وأموالهم فكانت لنبيه - صلى الله عليه وسلم - .
ثانياً : أن حكم أموال الفيء كانت خاصة به في حياته يضع تلك الأموال حيث أراه الله من المصالح فكان يعزل نفقة أهله سنة ويضع ما بقي في الخيل والكراع كما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه(5/238)
ثالثاً : قال الله عز وجل (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ) [ الحشر : 7 ]
فكان صلوات الله وسلامه عليه يتصرف فيها في حياته أما بعد موته اختلف أهل العلم في مصارف الفيء فقيل جميعه للمصالح ولا يخمس وهو قول أبي حنيفة وأحمد وقيل أن الأخماس الأربعة للمرتزقة وهم الأجناد المرصدون للجهاد وخمس الخمس لمصالح المسلمين وبني هاشم والمطلب واليتامى والمساكين وابن السبيل وهذا مذهب الشافعي والأكثرون على أن لا يخمس حتى عدّ القول بتخميسه من أفراد الشافعي أهـ . من كتاب الإعلام لابن الملقن
رابعاً :يؤخذ منه جواز الإدخار للنفس والعيال قوت سنة وأن ذلك غير قادح في التوكل
خامساً : يؤخذ منه مراقبة الله تعالى في الأموال أخذاً وعطاءً وصرفاً ومنعاً لأنها مسئولية في أيد العباد والله سبحانه سائلهم عنها
سادساً : البداءة بالإنفاق على العيال والتوسعة عليهم
سابعاً : إعداد اللأمة والاستعداد بالسلاح وهذا مما يخاطب به ولاة الأمور امتثالاً لقوله تعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [ الأنفال : 60 ]
ثامناً : الاستعداد للغزو بما يلزم له من العدة وأن ذلك لا ينافي التوكل قال ابن الملقن خلافاً لبعض من حكي عنه أنه كان إذا خرج لا يعلق ماءه ويرى أن إعلاقه ليس من التوكل معنى ذلك أنه لا يحمل ماءاً ويرى أن حمله ليس من التوكل .(5/239)
تاسعاً : أقول في رد هذا الزعم الذي جاء به بعض الصوفية مما يرد به على هذا الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدخر قوت أهله سنة ومنها أنه كان يتجهز هو وأصحابه للغزو ويأخذون الأزواد التي تغنيهم في غزوهم حتى أنه لما نفدت أزواد القوم في غزوة تبوك والقوم كثيرون يبلغون ثلاثين الفاً فأشار بعضهم بنحر الإبل ثم جاء عمر رضي الله عنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأشار عليه أن تجمع له أزواد القوم وأن يدعو فيها بالبركة ثم يأخذون منها ففعل فبارك الله لهم بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ملئوا أوعيتهم وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يلبسون الدروع ويتخذون الدّرق ويجعل كل واحد منهم على رأسه المغفر وكل ذلك لا ينافي التوكل وما هذا إلا من رعونة الصوفية وقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - على المغالين في قوله ( ما بال أقوام قالوا كذا ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني )
فصلوات الله وسلامه عليه وتباً لمن يخالف سنته وبالله التوفيق
الحديث الرابع عشر: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال أجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ضمر من الحفياء إلى ثنية الوداع وأجرى ما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق
قال ابن عمر وكنت فيمن أجرى
قال سفيان من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو سبعة ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل .
موضوع الحديث : حكم المسابقة بين الخيل
المفردات
معنى أجرى : سابق
ما أضمر : التضمير هو أن يعلف الفرس أربعين يوماً حتى يسمن فإذا سمن قلل له قوته وإذا قربت المسابقة يدخل في بيت ويوضع عليه جلّ وهو ما يوضع تحت السّرج من الأشياء التي تقيه ويغلق عليه في البيت حتى يعرق فإذا خرج وجف من العرق خف لحمه وجرى جرياً أكثر من غير المضمر
قوله من الحفياء : الحفياء موضع(5/240)
إلى ثنية الوداع : الثنية هي الطريق في الجبل وسميت ثنية الوداع لأن أهل المدينة كانوا يخرجون مع المسافر إليها ويودعونه من عندها
مسجد بني زريق : إضافة تخصيص وتمييز لا إضافة ملك .
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل وجعل أمد الخيل المضمرة أبعد من الخيل التي لم تضمر وقد قدر من الحفياء إلى ثنية الوداع بخمسة أميال أو ستة في حديث سفيان وبستة أو سبعة في حديث موسى بن عقبة والكل سائغ في التقدير
أما مالم يضمر فجعل غايتها ميل واحد
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث جواز المسابقة بين الخيل قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث من فتح الباري ج6 ص72 طبعة محب الدين الخطيب وفي الحديث مشروعية المسابقة وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة
ثانياً : أما من ناحية الحكم فهي دائرة بين الاستحباب والإباحة
ثالثاً : وقد أجمع العلماء على جواز المسابقة بغير عوض سواء كانت على الخيل أو غيرها من الدواب وعلى الأقدام وكذا الترامي بالسهام
رابعاً : فيه جواز التضمير للخيل من أجل المسابقة
خامساً : فيه مشروعية الإعلان بالابتداء والانتهاء
سادساً : المشروع أن الخيل المضمرة يكون أمدها أبعد
سابعاً : واتفقوا على جواز المسابقة بعوض بشرط أن يكون من غير المتسابقين يعني أن يكون السبق وهي الجائزة التي يأخذها السابق من بيت مال المسلمين كالإمام حيث لا يكون مع الإمام فرس وجوَز الجمهور أن يكون من أحد الجانبين من المتسابقين وكذا إذا كان معهما ثالث محلل (1) بشرط ألا يخرج من عنده شيئاً ليخرج العقد عن صورة القمار
__________
(1) المحلل أن يدخل واحد في السباق بدون مال فإذا سبق أخذ السبق مع أنه لم يقدم شئاً إلا أن هذه الفقرة لا أعلم عليها دليل وتركها أو عدم الأخذ بها هو الأولى في نظري وبالله التوفيق ( النجمي )(5/241)
ثامناً : يشترط في المسابقة بالخيل كونها مركوبة لا مجرد إرسال الفرسين من غير راكب
تاسعاً : لا تجوز المسابقة على عوض إلا في الثلاثة التي نص عليها الحديث وهو قول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ( لا سَبَقَ إِلا فِي خُفٍّ أَوْ فِي حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ )(1)
عاشراً : فيه جواز معاملة البهائم عند الحاجة بما يكون تعذيباً لها في غير الحاجة كالإجاعة والإجراء
الحادي عشر : مشروعية تفضيل الخيل المضمرة في الغاية وجعل جوائزها أكثر وعبارة الحافظ وفيه تنزيل الخلق منازلهم لأنه - صلى الله عليه وسلم - غاير بين منزلة المضمر وغير المضمر .
الثاني عشر: يؤخذ من هذا أن المسابقة على عوض لا تجوز في غير الثلاثة ومن هنا نأخذ منع العوض في المسابقات الرياضية أما المسابقة بغير عوض فهي جائزة في أشياء كثيرة كما تقدم وبالله التوفيق .
ملحوظة : وربما يقال أنه يجوز إعطاء الجوائز لحفظ القرآن والمسابقة لحفظ المتون وما أشبه ذلك ليكون حافزاً على العلم وبالله التوفيق .
الحديث الخامس عشر : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني .
موضوع الحديث : السن الذي يعتبر به الغلام بالغاً
المفردات
عرضت : أي استعرضني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا راغب في الغزو فلم يجزني يوم أحد لأني لم أكمل خمس عشرة وأجازني يوم الخندق لأني أكملت خمس عشرة
المعنى الإجمالي
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب في السبق رقم 2574 والترمذي في كتاب الجهاد باب ما جاء في الرهان والسبق رقم 1700 والنسائي في كتاب الخيل باب في السبق رقم 3586 و3589 وابن ماجة في كتاب الجهاد باب السبق والرهان رقم 2878 ( قال الألباني صحيح )(5/242)
أن كمال خمس عشرة فاصل بين من يعد في العيال وبين من يعتبر من الرجال المطيقين للقتال .
فقه الحديث
يؤخذ منه أولاً : مشروعية استعراض الإمام للجيش
ثانياً : يؤخذ منه استبعاد من لم يكن مطيقاً
ثالثاً : يؤخذ منه أن الخامسة عشرة هي بدأ التكليف في حق الرجال والنساء وهذا هو الأصح وإلى ذلك ذهب الشافعي وأحمد أي أن البلوغ بالسن يحدد بكمال الخامسة عشرة وحكاه ابن الملقن عن الأوزاعي وابن وهب وقد ذهب مالك إلى أن البلوغ يكون بسبع عشرة وقول آخر أنه يكون بثمان عشرة قال ابن الملقن وهو المشهور عند المالكية .
وفرق أبو حنيفة بين الغلام والجارية فقال بثمان عشرة للغلام وسبع عشرة للجارية
رابعاً : والبلوغ يعرف بأمور فيعرف في الجارية بالحبل والحيض وقد قالت عائشة رضي الله عنها (إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة )
خامساً : ما يكون علامة للذكر والأنثى وهو نبات الشعر الخشن حول الفرج وهذه العلامة استعملها النبي - صلى الله عليه وسلم - في المراهقين من بني قريظة حين حكم سعد بن معاذ بقتل مقاتلتهم فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكشف عن المراهقين فمن وجد منهم أنبت قتله ومن وجد لم ينبت تركه وفي هذا دليل على أن نبات الشعر الخشن حول الفرج من علامات البلوغ وهناك علامة أخرى وهي الاحتلام وخروج المني من القبل سواء كان ذكراً أو أنثى
سادساً : تبين من هذا أن علامات البلوغ ثلاث إما كمال خمس عشرة أو الاحتلام أو نبات الشعر الخشن حول الفرج وتزيد المرأة على ذلك بالحيض والحمل .
وقد قال الشافعي رحمه الله أنه وجد امرأة في اليمن صارت جدة وهي ابنة إحدى وعشرين سنة وتقرير ذلك أنها بلغت لتسع فحملت في العاشرة ووضعت بنتاً وأن ابنتها بلغت لتسع وحملت في العاشرة من عمرها وكانت بعد العاشرة أماً وأمها جدة .(5/243)
سابعاً : يترتب على هذا أن من كان ابن خمس عشرة سنة يكون له سهم في المقاتلة وأن من ترك الصلاة بعد خمس عشرة استتيب فإن تاب وإلا قتل وأن المرأة تؤمر بالحجاب فيما يظهر من بعد التسع لقول عائشة ( إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة ) أو لقول الشافعي أنه وجد جدة وهي بنت إحدى وعشرين سنة وبالله التوفيق.
الحديث السادس عشر : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم في النفل للفرس سهمين وللراجل سهماً .
موضوع الحديث : ما يقسم للرجل والفرس
المفردات
النفل : المراد به الغنيمة وقد جاء في كتاب الله ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ) [ الأنفال : 1]
قوله للفرس سهمين : أي دون فارسه وهو صاحبه الذي يركبه وذلك أن كلفة الفرس كثيرة ونفعه في الحرب أكثر لذلك قسم له النبي - صلى الله عليه وسلم - سهمين ولصاحبه سهم واحد
قوله وللراجل سهماً : المراد بالراجل الماشي وكل من له فرس يقسم له ولفرسه
المعنى الإجمالي(5/244)
يخبر عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهماً ذلك بأن غناء الفرس في الحرب أكثر من غناء الرجل وحده بدون فرس وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل ( فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً - فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً - فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) [العاديات : 3- 5] في هذا تنويه بالخيل وإشارة إلى غنائها في الحرب وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) (1)
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن القسم في الغنائم يكون للراجل سهم وللفرس سهمين فمن كان فارساً قسم له ثلاثة أسهم سهم له وسهمين لفرسه ومن كان راجلاً قسم له سهم واحد وإلى ذلك ذهب الجمهور .
قال ابن الملقن : اختلف العلماء في سهم الفارس والراجل من الغنيمة فقال الجمهور يكون للرجل سهم واحد وللفارس ثلاثة أسهم سهمان بسبب فرسه وسهم بسبب نفسه وممن قال هذا ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وعمر بن عبدالعزيز ومالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو يوسف ومحمد أي محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن جرير وآخرون
وقال أبو حنيفة للفارس سهمان فقط سهم له وسهم لفرسه وحكي عنه أنه قال لا أفضل بهيمة على مسلم ولم يقل بقوله هذا أحد وحجة الجمهور هذا الحديث على رواية الكتاب .
__________
(1) البخاري في كتاب الجهاد والسير باب الخيل مععقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة رقم 2849 وفي كتاب المناقب باب سؤال المشركين ان يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر رقم 3644 ومسلم في كتاب الإمارة باب الخيل في نواصيه الخير إلى يوم القيامة رقم 1871 وأحمد رقم 4816 وسنن ابن ماجة في كتاب الْجِهَادِ باب ارتباط الخيل في سبيل الله رقم 2787 ورقم 2788 ورواه النسائي في كتاب الخيل باب فتل ناصية الفرس رقم 3573 .(5/245)
قلت : وقول الجمهور هو الحق أما قول أبي حنيفة لا أفضل بهيمة على مسلم فقول مردود ولا يلزم من إعطائها سهمين التفضيل لها ولكن لمؤونتها وكلفتها وغنائها . وبالله التوفيق .
الحديث السابع عشر :وعنه رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل بعض من يبعث في السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش .
موضوع الحديث : قضية النفل للسرايا المقتطعة من الجيش
المفردات
تقدم الكلام على النفل إلا أنه يشمل هذا أي يشمل اسم الغنيمة ويشمل ما أعطاه قائد الجيش تشجيعاً لمن عمل عملاً غامر بنفسه فيه
قوله بعض من يبعث من السرايا : ذلك لأنه كان يذهب بالجيش العام فإذا وصل إلى مكان يكون هو المقصود بعث السرايا فينتدب عدداً يرسلهم في جهة اليمين مثلاً وينتدب عدداً ويرسلهم في جهة اليسار مثلاً وهكذا في الجهات الأربع إما أن يسمي لهم أماكن خاصة وإما أن يرسلهم بدون تسمية
والسرية : هي القطعة من الجيش يكون عددهم قليل
يذهبون إلى مكان ما وفي سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - السرية هي التي لم يذهب فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والغزوة ما ذهب فيها وقد جاء في الحديث عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( خير الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة ) (1)
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل بعض من يبعث في السرايا لأنفسهم خاصة أي يعطيهم نسبةً مما غنموا خاصة بهم دون سائر الجيش وذلك تشجيعاً وحفزاً لهم على الجهاد
فقه الحديث
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد برقم 2611 والترمذي في كِتَاب السِّيَرِ بَاب مَا جَاءَ فِي السَّرَايَا رقم 1555 وأحمد رقم 2682 وفي الصحيحة برقم 986 وصحيح الجامع رقم 3278 لكن قد تراجع الألباني عن تصحيح هذا الحديث وضعفه في ضعيف الترغيب والترهيب رقم 1814 .(5/246)
يؤخذ من الحديث جواز تنفيل قائد الجيش للسرايا الذين يبعثهم حين ينتدبهم من الجيش ليرسلهم إلى أماكن يغزونها وما غنموه منها أخرج منه الخمس ثم يخرج منه النفل ثم يوزع الباقي على عامة الجيش وأصحاب السرية منهم ومثال ذلك أن يأتي الجيش إلى مكان ما يتمركز فيه ثم بعد أن يأخذ الأخبار عن الجهات التي حوله يرسل سرايا يقتطعها من عامة الجيش وينتدب مثلاً خمسين رجلاً أو ستين أو ثمانين يقول لهم اذهبوا إلى مكان كذا فاقتلوا في المشركين وأثخنوا وما غنمتم فلكم منه الربع بعد الخمس أو الثلث بعد الخمس وغالباً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل الربع في البداءة والثلث في الرجعة لأن الجيش في البداءة يكون نشيطاً وفي الرجعة يكون متعباً فلذلك ينفلهم الثلث بعد الخمس إذا كانوا في الرجعة وينفلهم الربع بعد الخمس إذا كانوا في البداءة دليل ذلك ما روى أبو داود من طريق زياد بن جارية عن حبيب بن مسلمة قال شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع في البداءة والثلث في الرجعة ) رواه أبو داود برقم 2750 وابن ماجه برقم 2853 قال وروي في حديث حبيب هذا أنه عليه الصلاة والسلام كان ينفل بعد إخراج الخمس
ثانياً : قلنا أن التنفيل يكون في البداءة بالربع وعند الرجعة بالثلث
ثالثاً : أن هذا التنفيل يكون بعد الخمس أي بعد أن يخرج خمس الغنيمة وقيل أن النفل يكون قبل التخميس فلعل القول الأول أقرب للصواب
رابعاً : للحديث تعلق بمسائل الإخلاص في الأعمال فهل ما يجعله قائد الجيش من الحوافز يؤثر في الإخلاص أم لا ؟(5/247)
ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله ) على أن الذي ينبغي للإمام أو القائد أن يحثهم على صلاح النية وألا يكون عملهم متعلقاً به عرضاً زائلاً ولا شك أن الأمر يحتاج إلى مجاهدة وكذلك في سائر الأعمال والله سبحانه وتعالى يقول ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) [ الكهف : 110 ]
خامساً : أن ما أريد به الإعانة على عمل من أعمال الخير لا يكون منافياً للإخلاص وإنما يتنافى مع الإخلاص ما كان القصد فيه ممحضاً للدنيا
سادساً : أن الوسائل لا تؤثر على أصل المقاصد فإذا كانت المقاصد أصلها لله فلا تؤثر عليها الوسائل سواء كان ذلك في جهاد أو في طلب علم أو غير ذلك من أعمال الخير
سابعاً : أن النفل لا يتجاوز به الثلث لحديث حبيب بن مسلمة الماضي وهو قول مكحول والأوزاعي وبالله التوفيق .
الحديث الثامن عشر :عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من حمل علينا السلاح فليس منا
موضوع الحديث : التغليظ في حمل السلاح على المسلمين وأنه ليس من مقتضيات الإيمان
المفردات
قوله من حمل علينا السلاح : المقصود به من حمل السلاح لقتال المسلمين أو لإرهاربهم إما متأثراً بمنهج تكفيري أو منتصراً لدعوة عصبية أو حزبية أو منقاداً لأمر يجعله قاصداً قتل أخيه
أما إن حمل السلاح بأمر إمامه لقتال الخارجين عليه أو المناوئين له بدون حق فهذا لا يكون حاملاً للسلاح على المسلمين وإنما هو حامل له من أجلهم
المعنى الإجمالي
تحريم حمل السلاح بقصد الإيقاع بمسلم بغير حق فإن حمله قاصداً به الدفع عن نفسه ممن قصده بسوء كدفع الصائل ودفع من يريد أخذ ماله أو انتهاك حرمه فهذا مباح ولا يدخل في الحديث
فقه الحديث(5/248)
أولاً : يؤخذ من الحديث تحريم حمل السلاح على المسلمين لقتالهم وتغليظ ذلك بهذا الوعيد الذي جعله ليس من المسلمين في عمله هذا
ثانياً : يؤخذ منه حرمة دم المسلم والله سبحانه وتعالى يقول ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) [ النساء : 93]
ثالثاً : ومن أجل تحريم دم المسلم وتغليظ الوقوع فيه نهى الشارع عن تعاطى السيف مسلولاً وأمر من دخل المسجد أو مشى في الزحام ومعه نبال أي سهام أو نصال أمره أن يأخذ بنصالها حتى لا يخدش مسلماً ومنع الإشارة بالحديد أو السلاح نحو المسلم مخافة أن ينزع الشيطان في يده وكل هذا دليل على احترام دم المسلم ونهى عن تعاطى الأسباب الحاملة على أذاه لكرامته عند الله .
رابعاً : قوله من حمل علينا السلاح فليس منا أي ليس على مُثلنا ولا على طريقتنا ولا مهتدياً بهدينا أو أنه ليس منا في هذه الخصلة كقوله ( ومن غشنا فليس منا ) (1) وكقوله (: ( ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ).
__________
(1) مسلم في كتاب الإيمان باب قول النبي من غشنا فليس منا رقم 101 ورقم 102والترمذي في كتاب البيوع عن رسول الله باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع رقم 1315 وابن حبان في كتاب البر والإحسان باب الصحبة والمجالسة رقم 567 وفي كتاب البيوع رقم 4905 وفي كتاب الحظر والاباحة رقم 5559(5/249)
خامساً : أن ذلك لا يقتضي تكفيره لأن الله سبحانه وتعالى يقول ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) [الحجرات: 9،10 ]
فجعل المتقاتلين إخوة فدل هذا أن فعل الكبائر لا يوجب الحكم بالكفر على فاعلها
سادساً : إنما يحكم بالكفر على من استحل محرماً مجمعاً على تحريمه فمن استحل الفرج الحرام أو استحل الدم الحرام أو المال الحرام كاستحلال الزنا واستحلال قتل المسلمين واستحلال أخذ أموالهم فهذا يكفر بالاستحلال لا بالفعل
سابعاً : قال بعض أهل العلم الأفضل بقاء مثل هذه الأحاديث بدون تأويل لها لأن ذلك أبلغ في الزجر
وأقول : إذا كان في السامعين من ينهج المنهج التكفيري ويستحل دماء المسلمين ويخاف منه أن يستغل هذا الحديث وأمثاله لمذهبه التكفيري فيجب أن نتأول الحديث ونبين بأنه لا يقصد به التكفير وإنما يقصد به الزجر وأن فاعل ذلك لا يخرج به من الإسلام باتفاق السلف قاطبة أما الخوارج والمعتزلة فهم أصحاب بدع ولا يجوز أن نأخذ بأقوالهم وبالله التوفيق .
الحديث التاسع عشر : عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله ؟ قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل
موضوع الحديث : بيان المجاهد في سبيل الله بأنه من لا يكون مدفوعاً بحمية عصبية أو لم يكن مريداً بقتاله عرض الدنيا ولا إظهار شجاعة وإنما يكون في سبيل الله من قاتل لإعلاء كلمة الله
المفردات(5/250)
سئل عن الرجل يقاتل شجاعة قال ابن الملقن الشجاعة ضد الجبن وهي شدة القلب عند البأس
ويقاتل حمية : الحمية هي الأنفة وهي إما أن تكون حمية لعصبية جاهلية أو حمية لحزب أو مذهب كل هذا يدخل في الحمية
قوله ويقاتل رياءً : الرياء هو أن يظهر القصد الحسن وأنه يريد الآخرة وهو لا يريد إلا الدنيا كقوله - صلى الله عليه وسلم - ( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ) (1) أي الذي يريد بعمله الدنيا من غير قصد لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)
فهذا حكم فصل لأن كل مقصد لا يكون كذلك فإن صاحبه لا يكون في سبيل الله .
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عمّن يقاتل شجاعة أو حمية أو رياءً أو ليرى مكانه أي ذلك في سبيل الله فقال صلوات الله وسلامه عليه من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل أي من كان قاصداً بقتاله نصرة الدين وإعلاء كلمته على كل كلمة غيرها وإظهار أحكامه وإعزاز أهله فهو في سبيل الله .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن من قاتل لمقصد من هذه المقاصد بأن يكون قاصداً إظهار شجاعته أو قاتل حمية لقبيلته وعصبيته أو لمنهجه وحزبه أو لمذهبه أو أظهر القصد الحسن بأنه يقاتل من أجل إعلاء كلمة الله وهو في الباطن بخلاف ذلك فكل هؤلاء قتالهم لم يكن في سبيل الله
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ما يتقى من فتنة المال رقم 6435 وفي كتاب الجهاد والسير باب الحراسة في الغزو في سبيل الله رقم 2887 وابن ماجة في كتاب الزهد باب في المكثرين رقم 4136 واللفظ له وابن حبان في كتاب الزكاة باب جمع المال من حله وما يتعلق بذلك رقم 3218(5/251)
ثانياً : إنما يكون في سبيل الله من قاتل لإعلاء كلمة الله وقصد نصرة دين الله وإعزاز المؤمنين المتبعين لمنهج الله لتعلوا كلمة الله على المآذن دعوة للصلاة ولتعلوا سلطة الحق على سلطة الباطل وتنشر أحكام الله بين عباد الله فذلك الذي يقاتل في سبيل الله ولهذا جاء في حديث ابن مسعود قوله (ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته ) (1)
ثالثاً : الظاهر أن من قتل في الحرب بين المسلمين والكفار فإنه يعتبر شهيداً بظاهر هذه النية ولكن الشهادة الحقيقية هي تكون لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا
وقلت في أرجوزة صيحة حق وأسأل الله أن يكون ذلك لوجهه
ثم الشهيد يا أخي من قتلا ... ... في نصر دين الله جلا وعلا
ولم يكن يدفعه حب الثنا ... ... ... ولا اكتساب مغنم في ذي الدنا
ولم يكن منفعلاً بالغضب ... ... ... لنصرة الباطل بالتعصب
إلى قبيل مذهب أو وطن ... ... ... بل مخلصاً لذي الثنا والمنن
وجاد بالنفس من أجل المعتقد ... ... عوضه الله حياة للأبد
في جنة الفردوس بين الحور ... ... على الحجال في ذرا القصور
رابعاً : ومن هذا نأخذ أن الإخلاص لله عز وجل هو الموجب لرضاه دون غيره وقد روى أبو داود في سننه عن يعلى بن منية قال آذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خادم فالتمست أجيرا يكفيني وأجري له سهمه فوجدت رجلا فلما دنا الرحيل أتاني فقال ما أدري ما السهمان وما يبلغ سهمي فسم لي شيئا كان السهم أو لم يكن فسميت له ثلاثة دنانير فلما حضرت غنيمته أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أمره فقال ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى ) (2)
__________
(1) رواه أحمد برقم 3771 وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة رقم 2988 وضعيف الجامع الصغير برقم 1404
(2) أبو داود في كتاب الجهاد باب في الرجل يغزو بأجر الخدمة رقم 2527 ( قال الشيخ الألباني : صحيح انظر السلسلة الصحيحة رقم 2233 .(5/252)
نعوذ بالله من سوء المقصد وسوء الخاتمة ونسأل الله جل وعلا أن يمنحنا إيماناً ويقيناً وعملاً صالحاً نفوز به في الدار الآخرة . وبالله التوفيق .
باب العتق
تعريف العتق قال ابن الملقن هو في الشرع إزالة ملك عن آدمي لا إلى مالك تقرباً إلى الله تعالى .
وأقول : الأولى في التعريف به : إزالة المالك المختار الذي يصح تصرفه مُلكه عن آدمي تقرباً إلى الله عز وجل ورغبة في ثواب العتق ذلك لأن المعتَق يتخلص من المَلكة التي تجعل تصرفه في يد غيره والإسلام يرغب في عتق المسلم ويجعله سبباً في العتق من النار لمن اعتق ذلك المعَتق وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار حتى فرجه بفرجه ) (1)
والإسلام يرغب في العتق ويحث عليه وبالأخص إذا كان المُعتق مسلماً ومن أجل ترغيبه في العتق فإنه يجعل عتق الحصة في العبد موجباً لعتق الجميع إذا كان المعتِق موسراً كما في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
الحديث الأول : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من أعتق شركاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق .
قال المحقق رواه البخاري برقم 2521 ومسلم برقم 1501
موضوع الحديث : عتق الحصة في العبد وأنه يسري العتق في الجميع إذا كان المعتِق غنياً وعليه لشركائه حصصهم
المفردات
من أعتق شركاً له في عبد : أي شراكة له فيه بأن حرر نصيبه مبتغياً بذلك وجه الله
__________
(1) صحيح البخاري في كتاب كفارات الأيمان باب قول الله أو تحرير رقبة وأي الرقاب أزكى رقم 6715 ومسلم في كتاب العتق باب فضل العتق رقم 1509 والترمذي في كتاب النذور والأيمان عن رسول الله باب ما جاء في ثواب من أعتق رقبة رقم 1541(5/253)
فكان له مال ... إلخ : الفاء هنا فاء السببية أي بسبب عتقه يعتق عليه الجميع إذا كان له مال ويُقوَّم عليه قيمة عدل حصص الباقين فيعطي شركاءه أنصبائهم ويُعتق عليه العبد كله
قوله وإلا : أي إن لم يكن كذلك بأن كان المعتِق فقيراً فإن عتقه لا يسري إلى أنصباء الغير ويبقى العبد مملوكاً بقدر حصص الآخرين
المعنى الإجمالي
أنه إذا كان العبد مشتركاً بين جماعة أو على الأقل بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه وكان غنياً بحيث يستطيع دفع ثمن الحصص المشاركة قوِّم عليه حصص الشركاء وعتق العبد جميعه في نصيبه ولم يبق للشركاء إلا قيمة حصصهم
فقه الحديث
أولاً : قوله من أعتق من هنا اسم شرط جازم وهي من أدوات العموم يدخل فيها جميع المُعتِقين سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً وسواء كان المعتِق مريضاً أو غير مريض وسواء كان المعتِق فقيراً أو غنياً .
ثانياً : يؤخذ من الحديث أن المعتِق إذا كان غنياً بأن كان له مال يبلغ ثمن العبد فإنه تقوَّم عليه حصص الشركاء ويعطيهم حصصهم ويُعتَق العبد من نصيبه ويكون ولائه له
ثالثاً : يدل هذا أنه لا بد من تدخل الحاكم الشرعي في المسألة بأن يدعو رجلين من ذوي الخبرة والعدالة فيقوموا حصص الشركاء
رابعاً : بعد تقويم حصص الشركاء لم يبق لهم إلا دفع قيمها والعبد مُعتق بالعتق الأول
خامساً : إذا أُعتق العبد في مال المعتق الأول وكان ولاءه له فيلتحق به فيكون ملحقاً به كلحوق النسب لأن الولاية أي ولاية العتق في نظر الإسلام لا تباع ولا توهب بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية
سادساً : إذا مات هذا العبد المعتَق ولم يكن له وارث فإن ميراثه لمعتِقه وإن كان له وارث صاحب فرض كزوجة أو أم ورث الباقي بعد الفروض(5/254)
سابعاً : إن قَتل خطئاً فإن مولاه وعصبته يؤدون الدية عنه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ) (1)
ثامناً : إذا كان المعتِق فقيراً أو لا يتحمل ماله قيمة حصص الشركاء فإنه يعتبر قد عُتِق من العبد ما عُتِق وتبقى أنصباء الشركاء تحت الرق .
تاسعاً : لو كان المعتِق مالكاً للثلث يعني لثلث العبد كان للعبد يوم من كل ثلاثة أيام ويومان لأصحاب الحصص يشغلونه في أعمالهم
عاشراً : إن مات قبل أن يُحرر جميعه ورث منه مُعتِقه بقدر عتقه
الحادي عشر : وهذا القول إذا لم نقل بالاستسعاء أما إن قلنا بالاستسعاء فإنه يُقوم نصيب الآخرين ويستسعى فيه
الثاني عشر : سيأتي تعريف الاستسعاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه والكلام عليه هل يصح مرفوعاً أو أنه من قول قتادة وهذا السبب الذي جعل أكثر أهل العلم لم يقولوا به وبالله التوفيق .
الثالث عشر: تعريف العبد : العبد هو الذي يسترق في قتال بين المسلمين والكفار أو يشترى بحيث لا يعلم المشتري عدم ملك البائعين له فإن علم ذلك فهل يجب عليه أن يحرره أم لا ؟
النبي - صلى الله عليه وسلم - ملك زيد بن حارثة بالهبة وملكته زوجته بالهبة من ابن أخيها ثم بعد ذلك أعتقه وكان ولاءه منسوباً إليه بصريح القرآن الكريم ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ... .. الآية ) [ الأحزاب : 37 ]
__________
(1) صحيح ابن حبان في كتاب البيوع باب البيع المنهي عنه رقم 4950 صححه الألباني انظر إرواء الغليل برقم 1731و1738 و1668 و1695 وصحيح الجامع رقم 7157 .(5/255)
علماً بأن زيد بن حارثة كان من قصته أنه ذهب مع أمه وهو غلام من بلد أبيه إلى بلد أمه وفي أثناء الطريق لقيهم جماعة من قطاع الطرق فأخذوا زيداً من أمه واشتراه حكيم بن حزام كما اشترى مجموعة من الغلمان الأرقاء وكان يبيع ويشتري طبيعة تجار أهل مكة فلما قدم جاءت عمته خديجة بنت خويلد تزوره وتهنئه بسلامة الوصول فقال حكيم بن حزام يا عمة إذ هو ابن أخيها قال لها يا عمة انظري هؤلاء الغلمان فخذي واحداً منهم يخدمك وكان قد ذخر الله لزيد بن حارثة ما ذخر فاختارته خديجة وذهبت به وبقي معها هي وزوجها ثم وهبت ملكه لزوجها نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم جاء أبوه وعمه حين سمعا أن ابنهما في مكة فجاءا يسألان عن محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب فوصلا إليه وقالا له إن لنا ابناً فقد وبلغنا أنه عندك ونحن الآن جئنا لفدائه فاطلب ما تريد من المال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غير ذلك قالوا وما هو قال أن أرسل إليه فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء فأرسل إليه فجاء فقال من هذا فقال أبي ومن هذا فقال عمي فقال إنهما قالا لي كذا وكذا فقلت لهما كذا وكذا الكلام الذي دار بينهم وبينه فقال لا أريد أن أذهب معهما قالا عجباً تفضل الناس على أبيك وأهلك قال لقد عرفت من هذا الرجل ما يجعلني لا أختار عليه أحداً فعند ذلك أشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - الحاضرين على نفسه أن زيداً ابنه يرثه . فالله أكبر
وعلى هذا نقول الأملاك التي كانت في الجاهلية وأقرت على ما هي عليه هل أن الملك الذي لا يدري الإنسان أصله يعتبر نافذاً أم أنه لا يعتبر نافذاً ؟
لأن الفرق بين ما كان قبل الإسلام وما كان بعده حاصل فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ألا إن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدمي هاتين وأول دم أضعه دم فلان بن ربيعة وأن ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين وأول ربار أضعه ربا العباس بن عبدالمطلب .(5/256)
وقد جاء الإسلام على ولاء وأشياء كانت معروفة مشهورة في الجاهلية فأقرها على ما كانت عليه فهل يقاس على ذلك ما كان في هذا الوقت يقال عنه رق ونحن لا ندري ما أصله أم أن المسألة فيها نظر ؟
ولا يظهر لي في ذلك ما أستطيع أن أفرق به بين الحالتين والله تعالى أعلم .
الحديث الثاني : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من أعتق شقصاً من مملوك فعليه خلاصه كله في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعي العبد غير مشقوق عليه .
موضوع الحديث : أن من أعتق شقصاً من عبد له فيه شراكة ولم يكن له مال يدفع منه شراكة الشركاء فإنه يقوم المملوك قيمة عدل ثم يُستسعى غير مشقوق عليه
المفردات
شقصاً : قسطاً أو نصيباً أوحصة
قوله فعليه خلاصه : أي فعليه خلاصه من الرق بالسراية إذا كان له مال يتحمل ذلك
قوله فعليه خلاصه : أي تحريره وفكه من الرق بالكلية فإن لم يكن له مال قوم المملوك
معنى قوم : أي ثمن
ثمن عدل : أي وسط بين التفريط والإفراط والغلو والتساهل
قوله ثم استسعي العبد : بمعنى أنه يشتري نفسه بقيمة مقسطة في كل شهر كذا أو في كل عام كذا يعني كالمكاتبة
قوله غير مشقوق عليه : أي غير مضيق عليه بل يشتغل ويؤدي على حسب استطاعته
المعنى الإجمالي
أن من أعتق نصيباً له في مملوك فإن العتق يكون في الرقبة كاملة بوضع السراية الشرعية التي قررها الشارع - صلى الله عليه وسلم - هذا إذا كان له مال أي للمعتق مال يتحمل ذلك أما إذا لم يكن له مال أو له مال لا يتحمل ذلك أو يترتب عليه إضرار به فإنه في هذه الحالة يخير العبد بين أمرين إن أراد أن يبقي نفسه في الملك بقدر الحصة التي بقيت فيكون مبعضاً أي بعضه رقيق وبعضه معتق فإنه يجوز له في هذه الحالة أن يبقى مملوكاً مبعضاً وإن رغب أن يتحرر فإنه يقوم المملوك قيمة عدل ويستسعى فيما بقي فإذا أكمل السعاية تم تحرره
فقه الحديث(5/257)
في هذا الحديث اختلاف بين المحدثين فمنهم من رأى أن الحديث المرفوع هو قوله ( من أعتق شقصاً من مملوك فعليه خلاصه كله في ماله إن كان له مال )
ويجعلون زيادة الاستسعاء وهي قوله ( وإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعي غير مشقوق عليه ) فيجعلون الاستسعاء مدرجاً في الحديث من قول قتادة ومنهم من يرى أن الحديث كله مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بما فيه الاستسعاء وبذلك جزم صاحبا الصحيح البخاري ومسلم ورجحه الحافظ ابن حجر وجماعة بناءً على تصحيح البخاري لرواية الاستسعاء
فقد روى البخاري هذا الحديث من طريق جرير بن حازم سمعت قتادة قال حدثني النضر بن أنس بن مالك عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من أعتق شقيصاً له من عبد ) رقم الحديث 2526 . ورواه من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النببي - صلى الله عليه وسلم - قال ( من أعتق نصيباً أو شقيصاً في مملوك فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال وإلا قوم عليه فاستسعي به غير مشقوق عليه )
قال البخاري تابعه الحجاج بن حجاج وأبان ( قلت : هو ابن يزيد العطار ) وموسى بن خلف عن قتادة اختصرع شعبة . إلى هنا رواية البخاري
وقوله فيكون من روى الاستسعاء عن قتادة خمسة
1- جرير بن حازم في باب من أعتق نصيباً له في عبد وليس له مال استسعي غير مشقوق عليه برقم 2526
2- سعيد بن أبي عروبة رقم الحديث 2527
3- حجاج بن حجاج
4- أبان بن يزيد العطار
5- موسى بن خلف
كلهم عن قتادة برواية الاستسعاء
قلت : وقد ذهب جماعة إلى أن الاستسعاء ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو مدرج من قول قتادة صرح بذلك الإسماعيلي وابن المنذر والدارقطني والخطابي والحاكم في علوم الحديث والبيهقي والخطيب في الفصل والوصل ذكر ذلك الحافظ في الفتح وأطال ثم قال وأبى ذلك آخرون وصاحبا الصحيح
((5/258)
قلت : يعني البخاري ومسلم ). فصححا كون الجميع مرفوعاً وهو الذي رجحه ابن دقيق العيد وجماعة لأن سعيد بن أبي عروبة أعرف بحديث قتادة لكثرة ملازمته له أهـ
وقال أيضاً والذي يظهر أن الحديثين صحيحان مرفوعان لعمل صاحبي الصحيح وقال ابن المواق والإنصاف ألا نوهم الجماعة بقول واحد مع احتمال أن يكون سمع قتادة يفتي به فليس بين تحديثه به مره وفتياه أخرى منافاة أهـ . من فتح الباري ج 5 ص156 وص157 وص158 طبعة محب الدين الخطيب .
قلت : وبهذا يتبين أن الاستسعاء صحيح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد سمع من كلام قتادة وفتياه فإنه لا منافاة بينهما كما سبق .
ويؤخذ من الحديث عدة مسائل
أولاً : أن من أعتق شقصاً له في عبد لزمه خلاصه كما تقدم من حديث ابن عمر
ثانياً : يكون العبد معتقاً عليه إذا كان له مال يمكنه من أن يؤدي باقي قيمة العبد من غير مشقة عليه
ثالثاً : إذا كان له مال قليل بحيث أنه لو حمّل بباقي القيمة يشق ذلك عليه لم يُلزم بذلك لأنا لا نزيل المشقة بمشقة
رابعاً : فإن لم يكن له مال يتسع لعتق الجميع عليه فإنه في هذه الحالة يكون للعبد الخيار بين أن يبقى في ملك صاحب الشقص الباقي وبين أن يستسعى فيه
خامساً : إذا رغب في الاستسعاء فإنه ينبغي تدخل السلطة القضائية فيختار القاضي شخصين عدلين عارفين بالقيم ثم يستسعى في باقي القيمة على حسب ما يكون مريحاً له وغير شاق عليه
سادساً : أنه إذا استسعى فإن ولاءه يكون موزعاً بين أصحاب الأشقاص
سابعاً : إذا اختار البقاء تحت رق صاحب الشقص فإن كان الشقص نصفاً كان له يوم ولصاحب الشقص يوم وإن كان ثلثا كان له يومان ولصاحب الشقص يوم وهكذا(5/259)
ثامناً : أن هذا هو القول الصحيح وهو الجمع بين الحديثين وأن ذلك يعود إلى رغبة المملوك قياساً على الكتابة لقوله سبحانه وتعالى { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }[النور : 33] فالكتابة ينبغي أن تكون على رغبة المملوك والاستجابة تستحب للسيد إذا علم في العبد خيراً أي علم فيه صلاحاً وأنه سيقوم بالكسب لنفسه إن استقل . وبالله التوفيق
الحديث الثالث في المدبر : عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال دبر رجل من الأنصار غلاماً له
وفي لفظ بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً من أصحابه أعتق غلاماً له عن دبر ولم يكن له مال غيره فباعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثمانمائة درهم ثم أرسل ثمنه إليه
موضوع الحديث : التدبير وحكم بيع المدبر
المفردات
قال ابن الملقن : اسم العبد المدبر يعقوب القبطي والسيد أبو مذكور والذي اشتراه نعيم بن عبدالله النحام
غلاماً : الغلام هو المملوك ويقال للصغير من الرجال
قوله عن دبر : أي أعتقه بعد موته أي بعد إدباره عن الدنيا ولهذا يقال لمن علق عتقه على الموت يقال له مدبر
قوله فباعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل أن ذلك كان من الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظراً في مصلحة المذكور
المعنى الإجمالي
معنى هذا الحديث الإجمالي أن رجلاً من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - أعتق غلاماً له بعد موته أي علق عتقه على موت سيده ولكن لما لم يكن له مال غيره ولعله كان بحاجة إلى ثمنه باعه - صلى الله عليه وسلم - ثم أرسل ثمنه إليه .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث جواز التدبير بأن يقول الشخص هذا الغلام بعد موتي يكون معتقاً أو حراً لوجه الله فمن دبر مملوكه بأن أعتقه بعد موته كان عمله ذلك جائزاً(5/260)
ثانياً: ذكر ابن الملقن أن التدبير مجمع عليه وأنه يصح فقال وهو إجماع
ثالثاً : ذكر أيضاً ابن الملقن أن مذهب الشافعي ومالك والجمهور أنه يحسب عتقه من الثلث وخالف الليث وزفر فقالا هو من رأس المال .
رابعاً : يؤخذ من الحديث جواز بيع المدبر قبل موت سيده إذا تبين أن مصلحة سيده في بيعه سواء كان ذلك لدين عليه أو في حاجته للنفقة ما لم يمت سيده فإن مات سيده فقد أصبح حراً لأن عتقه معلق على موت سيده
وذكر ابن الملقن أن ممن ذهب إلى بيعه قبل موت سيده وجوزه عائشة رضي الله عنها وطاوس وعطاء والحسن ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود
قال ابن الملقن رحمه الله وكما يجوز بيعه تجوز هبته والوصية به وغيرهما من التصرفات المزيلة للملك
وأقول : في قول ابن الملقن هذا نظر لأن هبته والوصية به بعد عتقه يعد تصرفاً مناقضاً للتصرف الأول الذي هو التدبير فلذلك لا يجوز وإنما باعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل حاجة سيده إليه إما لقضاء دين أو نفقة وهذا هو القول الصحيح في نظري وهو يوافق الرواية الثانية عن الإمام أحمد في قوله وعن أحمد روايتان إحداهما كمذهبنا يعني أنه كما يجوز بيعه تجوز هبته والوصية به والأخرى أن له بيعه للدين فقط .
وبمنع بيع المدبر قال جمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين ومنهم أبو حنيفة ومالك وتأولوا معه على أنه عليه الصلاة والسلام إنما باعه في دين كان على سيده كما رواه النسائي والدارقطني (1) وروي أنه باعه وقضى عنه دينه ودفع الفضل إليه
قلت: وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس
خامساً : يؤخذ من الحديث نظر الإمام في مصالح رعيته وأمره إياهم بما فيه الرفق بهم وإبطال ما يضر من تصرفاتهم التي يمكن فسخها .
__________
(1) النسائي في كتاب آداب القضاة باب منع الحاكم رعيته من إتلاف أموالهم وبهم حاجة إليها رقم 5418 والدار قطني (4/137، 138 ،139 ) وصححه الألباني .(5/261)
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين وإني لأحمد الله عز وجل على إتمام شرح هذا الكتاب علماً بأني كتبت الجزء الأول في عام 1383هـ أي قبل إحدى وأربعين سنة
فله الحمد على ذلك وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وكان الفراغ منه في يوم الاثنين الموافق الثالث عشر من شهر ذي القعدة من العام ألف وأربعمائة وأربع وعشرين للهجرة النبوية .(5/262)