ملحوظة : الآن الشيخ وفقه الله بصدد شرح الجزء الأول هذا الذي أمامك مرة أخرى بصورة أوسع أسأل الله أن يعين الشيخ على إكماله .
مقدمة
الحمد لله مسدي النعم خاصها والعام وملهم المحامد كلها إطلاقاً وتقييداً على الدوام والصلاة والسلام على من جعله الله منبعاً للحق وشارعاً للأحكام محمد بن عبدالله الذي بعثه الله بنسخ الشرائع وهدم الأصنام وجعله للأنبياء مسك ختام وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وبدور الظلام صلاة وسلاماً تترى إلى يوم الجع بين الأنام يوم تذهب المناسبة ويضمحل البهرج والفخر وتعنو الوجوه للملك العلام أما بعد فإنه لما كان خير ما بحث عنه الباحثون وتنافس في معرفته المتنافسون بعد كتاب الله تعالى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي المصدر الثاني للشرع وكانت ( عمدة الأحكام ) منتقاة من أصح مصادر السنة ألزمت نفسي بكتابة شرح عليها مستعيناً بالله تعالى مع بعد الشقة وقلة الزاد وجعلته ملماً بالعناصر الأربعة الآتية وهي : (أ) الموضوع (ب) المفردات (ج) المعنى الإجمالي (د) فقه الحديث .(1/1)
وعسى أن أكون قد وفقت إلى مساعدة إخواني طلاب العلم على حل مشكلتهم العلمية وساهمت في تدعيم هذا النشأ الصاعد الذي نبتهل إلى الله جميعاً أن يلهمه رشده ويسدد خطاه حتى يخرج لأمته جيلاً منصبغاً بصبغة الدين يقود إلى الحق ويذود عن الباطل ويظهر للناس محاسن هذا الدين الحنيف ويبين لهم أنه صالح لكل جيل وكل زمن حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وأنه كفيل لكل من اعتنقه بجلب مصالح الدنيا والآخرة ودفع مضارهما مع العزة والرفعة والغلبة والتمكين والغنى والسيادة على جميع الشعوب المخالفة له غير أن هذا لا يحصل إلا لأمة تطبقه تطبيقاً فعلياً في الصغير والكبير والدقيق والجليل .(1/2)
وقد حاولت أن يكون هذا الشرح سهل العبارة مع معالجة بعض الأمور الواقعة التي تتنافى مع الشرع عند المناسبات تبيهاً عليها وإرشاداً إلى الصواب كما حاولت إصلاح بعض الأخطاء التي حصلت من ابن دقيق العيد رحمه الله في المعتقد والرد عليها بما فيه مقنع لطالب الحق وتوخيت بكل استطاعة أن أرجح ما تسنى لي فيه الترجيح على أن يكون الترجيح مؤسساً على ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير تحيز إلى مذهب خاص ممتثلاً في ذلك قول الله تعالى { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } (النساء:65) وقوله تعالى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (النساء:59) وسميته تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام وكنت قد عرضت جزءاً وهو الأول مما كتبت على فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله لطول باعه في الحديث وذلك في عام 1383هـ حينما كان فضيلته مدرساً بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية وقد تفضل الشيخ مشكوراً بتسجيل ملاحظاته المفيدة وقد أثبتها في الهامش في مواضعها من الكتاب وأشرت إليها باسمه .
وكل ما أرجوه من القارئ الكريم الدعاء لي بظهر الغيب أن سمح والتغاضي عما قد يحصل من خطأ إلا أن يتنافى مع الشريعة فإن كان ذلك وأرجو ألا يكون فالمطلوب ممن عثر على ذلك تنبيهي عليه لإعادة النظر والرجوع إلى الصواب فما الكمال إلا لله وما العصمة إلا للأنبياء وخير الصدقة جهد المقل .(1/3)
والله أسأل أن يجعله من صالح عملي الذي أعده ذخراً للمعاد ووسيلة إلى النجاة من النار يوم التناد وأن يطهره من شوائب الاحباط ويجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به طالبي الحق ورواد الحقيقة آمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
ترجمة مؤلف العمدة اختصرتها من ترجمة موسعة كتبها محب الدين الخطيب في مقدمة العدة للصنعاني.
هو الإمام حافظ الإسلام تقي الدين عبدالغني بن عبدالواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي ولد في جماعيل سنة 541هـ ولما كان في الثامنة من عمره استولى الصليبيون على البلاد المباركة فما لبث أن هاجر منها الشيخ أبو العباس أحمد بن قدامة العمري المقدسي فرحل بالأسرة كلها فاراً بدينه إلى دمشق وكان الحافظ عبد الغني أسن من ابن خالته موفق الدين عبدالله والشيخ أبي عمر بأربعة أشهر فنزلوا بدمشق وبعد سنتين انتقلوا إلى سفح قاسيون وكان عبدالغني قد بدأ في جماعيل بحفظ كتاب الله ولما وصل إلى دمشق واصل دراسته إلى أن بلغ العشرين على مشايخ دمشق وبعد 560هـ رحل إلى العراق بصحبة ابن خالته موفق الدين فأخذ عن مشايخها وذوي الفضل والعلم فيها ثم عادا بعد أربع سنوات ثم قام عبدالغني برحلته إلى مصر ثم عاد ثم قام برحلة أخرى إلى مصر ثم إلى العراق والجزيرة وإيران وأصبهان ثم الموصل ثم عاد إلى دمشق فتلقته بالبشر والحبور وأفاد شبابها من علمه الواسع وإيمانه القويم وسيرته الصالحة قال الحافظ الضياء كان شيخنا الحافظ لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا ذكره له وبينه وذكر صحته أو سقمه ولا يسأل عن رجل من رجال الروايات إلا قال هو فلان بن فلان ويذكر نسبه وقال الحافظ بن رجب وأنا أقول الحافظ عبدالغني أمير المؤمنين في الحديث وله من المؤلفات حوالي أربعين مؤلفاً .
توفي رحمه الله في 23 ربيع أول عام 600 للهجرة وترك علماً كثيراً رحمه الله .
مقدمة كتاب العمدة(1/4)
قال الشيخ الحافظ تقي الدين عبدالغني بن عبدالواحد بن علي بن سرور الجماعيلي المقدسي رحمه الله الحمد لله الملك الجبار الواحد القهار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الأخيار أما بعد فإن بعض الإخوان سألني اختصار جملة في أحاديث الأحكام مما اتفق عليه الإمامان أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري فأجبته إلى سؤاله رجاء المنفعة به وأسأل الله أن ينفعنا به ومن كتبه أو سمعه أو قرأه أو حفظه أونظر فيه وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم موجباً للفوز لديه في جنات النعيم فإنه حسبنا ونعم الوكيل .
كتاب الطهارة
[1] عن عمر بن الخطاب (1)رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسولة فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إمرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق عليه.
موضوع الحديث :النيات وارتباطها بالعمل والجزاء.
المفردات:
النية:القصد بالقلب إلى الشيئ
الهجرة:هي النقلة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ومأخذها من هجر الشيئ إذا تركة
الدنيا: تطلق على كل ما دخل من باب الشهوة أو الهوى أو الزينة و التفاخر .
المعنى الإجمالي :
__________
(1) عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي يلتقي نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدي بن كعب أسلم في السنه الخامسة ولازم النبي - صلى الله عليه وسلم - سفراً وحظراً إلا في سفر الهجرة شهد المشاهد كلها وله فضائل جمه ولي الخلا فة بعد أبي بكرٍ ومات في 25/12/23هـ طعنه أبو لؤلؤة المجوسي وهو يصلي صلاة الفجر توفي على أثرها..ت 4922 طبعة دار العاصمة الطبعة الأولى 1416هـ .(1/5)
من عدل العدل الحكيم أن وكل الجزاء إلى النيات وجعله تابعاً لها ومرتبطاً بها فمن نوى بعمله لله أثابه الله رضاه وأمنه من العذاب وأدخله الجنة ومن نوى بعمله أمراً دنيوياً كان ثوابه ذلك الشيء الذي نواه كائناً ما كان وفوق ذلك الوعيد .
فقه الحديث
أولاً : حصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأعمال المعتبرة شرعاً في النية بقوله : إنما الأعمال بالنيات فكأنه قال إنما صحة الأعمال بالنيات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا عند من جعل النية شرطاً في صحة الأعمال وهو الحق .
ثانياً : عبر بالأعمال عن السعي الذي يثاب العبد عليه أو يعاقب وهو في كل عضو بحسبه .
ثالثاً : ظاهر الحديث أن من نوى شيئاً حصل له وعلى هذا فالحديث عام مخصوص بالآية وهي قوله تعالى { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ } (الاسراء:18) حيث قيد حصول المنوي بالإرادة وبيان ذلك أن من عمل عملاً أراد به شيئاً من الدنيا قد يحصل له ذلك الشيء المنوي وقد لا يحصل أما من نوى الثواب فهو يحصل له ولا بد إن توفرت في العمل شروط القبول وسلم من المحبطات لقوله تعالى { أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ } (آل عمران:195) وقال { إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } (التوبة:120)
والأولى أن يقال : إن قوله - صلى الله عليه وسلم - ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) له مفهومان : أحدهما : الإخبار بعدم حصول غير المنوي ، الثاني : الإخبار بحصر الثواب فيما نوى كائناً ما كان .
رابعاً : النية جاءت في كلام العلماء بمعنيين :
أحدهما : تمييز العبادات عن العادات أو تمييز العبادات بعضها عن بعض وكلام الفقهاء يقع على هذا النوع
والثاني : تمييز المقصود بالعمل وهل هو الله أو غيره وكلام العارفين بالله يقع على هذا النوع(1/6)
خامساً : النية محلها القلب لأنها من أعمال القلوب ولم يأت في الشرع التلفظ بها إلا في الحج خاصة لأن التلبية ذكر الحج الخاص به . وعلى هذا فمن تلفظ بها فهو مبتدع وأعجب من هذا إثبات بعض الفقهاء المؤلفين من الشافعية ذلك في مؤلفه .
المناسبة :
أما مناسبة الحديث لكتاب الطهارة فظاهرة لأن النية شرط في صحتها كما هي شرط في صحة كل عبادة وهو مذهب الجمهور وقال أبو حنيفة والثوري بعدم اشتراطها في الوضوء وغيره من الوسائل والأول أصح لأن الوضوء ليس بوسيلة محضة ولكنه في نفس الوقت عبادة
[2] عن أبي هريرة (1) رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) متفق عليه
موضوع الحديث : أن الطهارة شرط في صحة الصلاة
المفردات
الحدث : ما أوجب غسلاً أو وضوءاً فيدخل في الحدث جميع النواقض وخص الوضوء لأنه الأغلب والأكثر وقوعاً ومعنى أحدث أي صدر منه الحدث .
المعنى الإجمالي
شرط النبي - صلى الله عليه وسلم - الطهارة في صحة الصلاة فأخبر بعدم قبول صلاة من أحدث إلا أن يتوضأ
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ منه أن الطهارة شرط في صحة الصلاة ويلحق بذلك الطواف بدليل آخر ومس المصحف مع خلاف .
ثانياً : فيه دليل أن الطهارة لا تجب لكل صلاة فإن عدم القبول ممتد إلى حين يتوضأ وهناك غايته والقبول ممتد إلى حين يحدث وهناك غايته ويدل لذلك ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن بريدة وأنس في جواز الصلوات بوضوء واحد
__________
(1) أبو هريرة اسمه عبدالرحمن بن صخر الدوسي على الأصح صحابي جليل قدم سنة سبع ولازم النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفظ حديثاً كثيراً مات سنة ثمان أو تسع وخمسين على الأصح ت 48493 الكنى(1/7)
ثالثاً : نفي القبول هنا دال على نفي الصحة للإجماع على عدم إجزاء صلاة من صلى بغير وضوء وقد جاء في بعض الأحاديث دالا على نفي القبول كحديث : ( ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة : الرجل يؤم قوماً وهم له كارهون والرجل لا يأتي الصلاة إلا دباراً ورجل اعتبد محرراً ) فلا أعرف أحداً أو جب على هؤلاء وأمثالهم القضاء
وهذا يدل على صحتها عند العلماء . والحاصل أن الصحة أعم من القبول والقبول أخص منها إذ كل مقبول صحيح وليس كل صحيح مقبولاً .
رابعاً : حد الفقهاء الحدث بأنه مانع حكمي مقدر قيامه بالأعضاء ثم رتبوا على ذلك بأن الماء المستعمل قد انتقل إليه ذلك المانع فيمتنع التطهر به وفي ذلك نظر لأنه قد روى البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد جابر بن عبدالله وهو مريض فتوضأ له وأمرهم فصبوا ماء وضوئه عليه . وفي معناه حديث أبي موسى عنده وحديث السائب بن يزيد عنده وحديث أبي جحيفة ( فمن ناضح ونائل ) . والرسول - صلى الله عليه وسلم - مساو لأمته في الحدث والطهارة والتخصيص يحتاج إلى دليل .
الجمع :
قد يقال أن بين الحديث وبين الآية – أي آية الوضوء – تعارض من جهة أن الاية أوجبت الوضوء على كل قائم إلى الصلاة والحديث جعل موجبه الحدث . والجمع بينهما أن الحديث مخصص للآية بمن قام محدثاً قال بعضهم أن الآية فيمن قام من النوم والله أعلم .
[(1/8)
3] عن أبي هريرة رضي الله عنه وعبدالله بن عمرو (1) وعائشة (2) رضي الله عنهم – قالوا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ويل للأعقاب من النار ) متفق عليه
موضوع الحديث : تعميم الأعضاء بالوضوء
المفردات
الأعقاب : جمع عقب وهو مؤخر القدم وقد روي في حديث عبدالله بن عمرو عند مسلم بلفظ العراقيب جمع عرقوب وهو عصب غليظ فوق العقب
المعنى الإجمالي
توعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعقاب المتروكة في الوضوء بالنار
فقه الحديث
أولاً : استدل بالحديث على وجوب غسل الرجلين وقد حكى النووي الإجماع عليه ممن يعتد به ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة
ثانياً : استدل به على وجوب تعميم أعضاء الوضوء بالغسل وإسباغها بالماء كما جاء مصرحاً به في رواية عبدالله بن عمرو ( إسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار ) وإنما خص الأعقاب لأنها السبب
[4] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر ومن استجمر فليوتر وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) وفي لفظ لمسلم ( فليستنشق بمنخريه من الماء ) وفي لفظ ( من توضأ فليستنشق ) متفق عليه
موضوع الحديث : طهارة الظواهر والبواطن
المفردات
الاستنشاق : جذب الماء بالنفس إلى أعلى الأنف والاستنثار دفعه بالنفس ليخرج
__________
(1) عبدالله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أحد المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء كان كثير العبادة غزير العلم توفي ليالي الحرة بالطائف على الأصح ت 3523
(2) عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها أم المؤمنين أفقه النساء مطلقاً وأفضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا خديجة ففيها خلاف . مات النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها ويومها بين سحرها ونحرها توفيت سنة سبع وخمسين على الصحيح ت 8732(1/9)
الاستجمار : استعمال الجمار أي الأحجار في المخرج للتجفيف
فليوتر : أي ليقف على وتر والوتر من واحد إلى تسعة وهو الفرد من العدد
المعنى الإجمالي
لقد أمر الشارع الحكيم بطهارة الظواهر والبواطن لما يترتب على كمال الطهارة من الفوائد الدينية والصحية والاجتماعية فقد أمر بالاستنشاق لإزالة الأوساخ التي تعلق بالخياشيم وهي منفذ إلى الدماغ فإذا نظفت دخل الهواء إلى الدماغ وسائر الجسم نقياً فأنعشه وقد صح أن الشيطان يبيت على خيشوم العبد وهو يحب القذارة وإذا نظفه العبد كان في حالة أبعد عن مقاربة الشيطان وأمر من استجمر أن يوتر لأن الاستجمار طهارة وعبادة والوتر مقصود للشرع في كثير من العبادات فمن ذلك الطواف ورمي الجمار وغسلات الوضوء إلى غير ذلك وهو إشارة إلى أن المتعبد له بهذه العبادة فرد واحد أي في ذاته وصفاته وأفعاله وأمر من قام من النوم بغسل يديه قبل إدخالهما في الإناء ثلاثاً لأن النوم مذهب للشعور والإحساس فاحتمل أن تدور اليد على محل النجاسة فشرع الغسل لهذا الاحتمال
فقه الحديث
في الحديث ثلاث مسائل
الأولى : في قوله إذا ( توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر ) دليل لما ذهب إليه أحمد وداود وأبو ثور وإسحاق من وجوب الاستنشاق لأنه أمر والأمر يقتضي الوجوب إذا لم يوجد له صارف وذهب مالك والشافعي إلى سنيته وجعلوا الصارف لهذا الأمر هو عدم الذكر في الآية والأول أرجح لأنه بيان لما يجب في الوجه المذكور في الآية أما أبو حنيفة فذهب إلى وجوبه في الغسل دون الوضوء هو والمضمضة وتخصيص الوجوب بالغسل دون الوضوء تفريق بلا فارق .(1/10)
المسألة الثانية : قوله ( ومن استجمر فليوتر ) هذه أمر والأمر يقتضي الوجوب إلا أن يصرفه صارف . والصارف هنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه : من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ) رواه أحمد وابو داود وابن ماجه قال الحافظ في الفتح هذه الزيادة حسنة الإسناد(1)
لكن لا يصلح أن يكون هذا الحديث صارفاً لحديث سلمان رضي الله عنه في النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاث أحجار ويصلح لصرف ما فوق الثلاثة وبهذا أخذ الشافعي وأحمد فقالا يشترط في الاستجمار شرطان الإنقاء وبثلاث مسحات (2) فأكثر وقال مالك وأبو حنيفة باشتراط الانقاء دون العدد فلو حصل الإنقاء بمسحة واحدة جاز عندهم .
المسألة الثالثة : قوله ( وإذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) .
اختلف الفقهاء في حكم غسل اليدين عند القيام من النوم فحمله مالك والشافعي على الندب وحمله أحمد على الوجوب وهو الأظهر لعدم الصارف ولا فرق بين نوم الليل ونوم النهار لأن العلة واحدة والبيتوتة خرجت مخرج الغالب
ثم اختلفوا في الماء الذي غمست فيه يد القائم من النوم قبل غسلها هل ينجس أم لا ؟ فقال الجمهور بطهارته لأن الطهارة متيقنة ولا يخرج عن اليقين إلا بقين مثله ونقل عن الحسن البصري نجاسته وكره الشافعي وأحمد التطهر به والله أعلم .
[5] عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه ) ولمسلم ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب )
__________
(1) قلت في هذا التحسين عندي نظر فإن مدار إسناده عند جميع مخرجيه على حصين الحميري وهو مجهول كما قال الذهبي والعسقلاني والخزرجي وغيرهم . وبه أعله الحافظ ابن حجر نفسه في تلخيص الحبير وذكر أن في سنده اختلافاً (( الألباني )) .
(2) الحديث يشترط ثلاثة أحجار ليس ثلاث مسحات فليتأمل ((الألباني)).(1/11)
موضوع الحديث :أحكام المياه
المفردات
الدائم : والراكد بمعنى واحد وهو ضد الجاري
أجاز العلماء رفع اللام من يغتسل وجزمه عطفاً على موضع (يبولن ) أما النصب فقد أجازه ابن مالك ومنعه النووي ورد الصنعاني المنع .
المعنى الإجمالي
نهى الشارع - صلى الله عليه وسلم - كل مكلف عن تعفين المياه على أبناء جنسه لأن حاجتهم إليها دائمة مستمرة والبول فيها يفسدها فتلحق أبناء جنسه الضرورة وان استعمله البائل نفسه كان قد أتى محذوراً باستعماله ما نهى الشارع عن اسنعماله
فقه الحديث
قد عرفت كلام العلماء في إعراب ( يغتسل ) ومنع بعضهم النصب لئلا يفهم منه أن النهي إنما هو عن الجمع بينهما وأياً كان فقد نهى الشارع عن البول على انفراده كما في بعض روايات مسلم وعن الغسل بانفراده كما في بعضها وعن الجمع بينهما كما في بعضها فالمنع من الثلاثة الأحوال مستفاد من هذه الروايات غير أن الجمهور حملوا النهي على التنزيه مقيداً في البول بما زاد على القلتين ومطلقاً في الغسل وقالت الظاهرية وجماعة من العلماء النهي عن البول في الماء الدائم للتحريم وهو الأولى جرياً على القاعدة الأصولية في أن النهي للتحريم إلا أن يصرفه صارف ولا صارف هنا وبالغت الظاهرية فقالوا لو بال في كوز ثم صبه في الماء لم ينجس وكان طهاراً مطهراً وهذا جود عجيب(1/12)
أما حكم الماء الذي وقع فيه البول فهو عند الشافعية نجس إن كان دون القلتين وإن كان فوقها لم ينجس إلا بتغير أحد أوصافه دليلهم حديث ابن عمر عند الخمسة بلفظ ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ) وفي تصحيحه خلاف كبير لا يتسع المقام لبسطه وفرق أحمد في الرواية المشهورة عنه بين بول الآدمي وما في معناه كعذرته المائعة فجعل البول ينجس الماء بدون فرق بين قليله وكثيره وقيد سائر النجاسات بما زاد على القلتين أما مالك ومعظم أهل الحديث فهم ذهبوا إلى أن الماء لا ينجسه شيء إلا بتغير أحد أوصافه سواء كان قليلاً أو كثيراً أخذاً بحديث أبي سعيد عند أصحاب السنن أحمد وغيرهم في قصة بئر بضاعة وهو حديث صحيح صححه أكثر الأئمة منهم الإمام أحمد ويحيى بن معين وابن حزم وغيرهم .
[6- 7 ]عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً )
ولمسلم (أولاهن بالتراب ) وله في حديث عبدالله بن مغفل (1) رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب ) متفق عليه
موضوع الحديث :الطهارة
المفردات
ولغ الكلب الماء :شربه بطرف لسانه والولغ خاص بالسباع ومن الطير بالذباب قاله في القاموس
المعنى الإجمالي
أمر من أوجب الله طاعته والذي وصفه في كتابه بأنه يعز عليه ما أعنت أمته من ولغ الكلب في إناءه أن يغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع غسلات تكون أولاها مع التراب فإن لم تكن الأولى فالثامنة ذلك لأن الكلب نجس ويباشر النجاسات بفمه وفي التراب مادة مطهرة تزيل ذلك النجس مع الغسلات السبع والله أعلم .
فقه الحديث
المستفاد من هذين الحديثين ثلاث مسائل :
الأولى :نجاسة الكلب
الثانية : تسبيع الإناء
الثالثة : تتريبه
__________
(1) عبدالله بن مغفل بن عبد نهم بن نهم المزني صحابي بايع تحت الشجرة ومات سنة 57هـ وقيل بعد ذلك ت3663(1/13)
فأما نجاسته فالجمهور قالوا بها مستدلين بما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب .. الحديث )
والطهور في عرف الشرع لا يكون إلا عن نجس أو حدث ولا حدث على الإناء فتعين النجس وخالفهم في ذلك مالك والظاهرية فقالوا بطهارته والمذهب الأول هو الصواب
أما التسبيع فقال به الجمهور أيضاً ومنهم القائلون بالطهارة إلا أن من قال بالطهارة يحمل العدد على التعبد وقال أبو حنيفة رحمه الله يغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب ثلاثاً متمسكاً بأثر موقوف على أبي هريرة معارض بأثر أقوى منه والحق أن يؤخذ بما روى الراوي لا بما رأى .
أما التتريب فقال بوجوبه الجمهور ولم توجبه الحنفية ولا المالكية والمذهب الأول هو صحيح لموافقة الدليل(1/14)
واختلفوا في موضعه والأولى أن يؤخذ بما صحت به الرواية وهي الأولى أو الثامنة أو الأخرى من السبع أما الأولى والثامنة فهي في صحيح مسلم كما ترى في المتن وأما الرواية الثالثة وهي التخيير بين الأولى والأخرى فهي عند الشافعي بسند في غاية الصحة قال في الأم أخبرنا ابن عيينة عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن أو أخراهن بتراب ) (1).والعبد مخير في ذلك . أما سائر الروايات فهي إما ضعيفة وإما مروية بالشك وإما مطلقة يجب حملها على المقيد والله أعلم .
ثم اختلفوا هل تقوم مقامه الأشياء المنظفة كالأشنان والصابون أم لا ؟
قال بالأول جماعة من العلماء وهو وجه للشافعية ورواية عن أحمد وقال بالثاني آخرون وهو رواية عن أحمد أيضاً وهو أوفق للنص .
__________
(1) قلت : في التخيير بين الأولى والسابعة نظر ، لأن مدار الحديث على أيوب وقد اختلفوا عليه في هذا الحرف على ثلاثة وجوه الأول : أولاهن ، الثاني: السابعة ، الثالث : أولاهن أو أخراهن . فإذا كان الأمر كذلك فلا يظهر أن أو في الوجه الثالث للتخيير بل هي شك من بعض الرواة ولعله ابن عيينة, فقد رواه هشام بن حسان وغيره عن أيوب على الوجه الأول فحينئذ لا بد من الترجيح وهذا الذي ضعفه الحفاظ . وقد رجح الحافظ العراقي والعسقلاني الرواية الأولى من وجهين : الأول من جهة الإسناد وذلك أن أكثر الرواة وأحفطهم على هذه الرواية . والآخر من جهة المعنى لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسله أخرى لتنظيفه . قال الحافظ وقد نص الشافعي في حرملة على أن الأولى أولى فهذا نص من الشافعي نفسه رواي الرواية الثالثة على أن أو فيها ليست للتخيير بل للشك كما ذكرنا والله أعلم ((الألباني .)) .(1/15)
أما الإراقة : فلم تذكر في رواية هذا الكتاب وهي مروية في صحيح مسلم وقال بوجوبها الجمهور غير أن الظاهرية يشترطون في الإراقة الولوغ بلسانه أما لو أدخل في الماء عضواً من أعضائه غير لسانه أو دخل فيه بأجمعه فهو عندهم طاهر مطهر قاله ابن حزم في المحلى وهو جمود عجيب .
فائدة :
لو أكل الكلب من طعام جامد لا يسري لعابه فيه فقد قال بعضهم بإراقته وحكى النووي عن بعض الشافعية أنه يؤخذ موضع فمه وما حوله قياساً على الفأرة والباقي طاهر يحل أكله والله أعلم .
[8] عن حمران مولى عثمان أنه رأى عثمان (1) دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلها ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثاً ويديه إلى المرفقين ثلاثاً ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثم قال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ نحو وضوئي هذا ثم قال ( من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه .
موضوع الحديث : كيفية الوضوء وثواب من توضأ ثم صلى ركعتين مقبلاً عليها بقلبه
المفردات
دعا بوضوء : أي بتهيئته
فأفرغ : فأكفأ
على يديه : أي كفيه
ثلاثاً : أي ثلاث مرات
الوجه : مشتق من المواجهة فكل ما واجه سمي وجهاً . واختلفوا في البياض بين العذار والأذن وما أقبل من الأذن وما استرسل من اللحية والنزعتين والتحذيف هل هي من الوجه أم لا ؟ والأحسن أن يرجع في ذلك إلى اللغة
المرفقين : تثنية مرفق وهو بكسر الميم وفتح الفاء والعكس لغتان وهو المفصل الذي بين الذراع والعضد
__________
(1) عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي أمير المؤمنين ذو النورين أحد السابقين الأولين والخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة له فضائل كثيرة تولى الخلافة بعد عمر وكانت خلافته اثنتي عشر سنة وعمره ثمانون وقيل أكثر وقيل أقل وقتل في داره سنة 35 هـ ت 4535 .(1/16)
الكعبين : هما العظمان الناتئان في المفصل الذي بين القدم والساق
نحو : أي مثل
لا يحدث : لا يوسوس
ما تقدم : ما مضى
المعنى الإجمالي
رضي الله عن صحابة رسواله الأمين لقد حملوا لأمتهم تعاليمه الرشيدة وتوجيهاته النافعة المفيدة فهذا عثمان رضي الله عنه ينقل لنا كيفية وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإخباره لهم بعد الوضوء أن كل من توضأ على هذه الصفة وصلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بحديث من أمر الدنيا غفر له ما تقدم من ذنوبه
فقه الحديث
في الحديث مسائل
الأولى : سنية التعليم بالفعل
الثانية : سنية غسل الكفين قبل الشروع خارج الإناء وهي سنة مستحبة باتفاق
الثالثة : فيه سنية الاغتراف باليمين لأنها أطهر وتباشر الطاهرات
الرابعة : فيه سنية التثليث في الأعضاء المغسولة وقال به الشافعي في الممسوح أيضاً وهو الرأس ولا تجوز الزيادة على الثلاث والواجب واحدة باتفاق
الخامسة : قد مضى تعريف الاستنشاق وحكمه أما تعريف المضمضة فهو جعل الماء في الفم بشرط الإدارة عند قوم وعدمها عند آخرين
أما حكمها : فالجمهور على أنها سنة وقال أبو حنيفة بوجوبها في الغسل أما كيفيتها ففيها أقوال : أحسنها أن يمضمض ويستنشق ثلاثاً (1) بثلاث غرفات كما في حديث عبدالله بن زيد أما حديث الفصل فضعيف
__________
(1) هذا يوهم أنه يمضمض ويستنشق ثلاث مرات من كل غرفة فيكون مجموع كل من المضمضة والاستنشاق تسع مرات وقد رجح هذا الصنعاني خلافاً لابن دقيق العيد والحافظ ابن حجر والصنعاني نفسه في العدة فذهبوا إلى أن حديث عبدالله بن زيد المشار إليه إنما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - مضمض واستنشق مرة واحدة من غرفة واحدة فعل ذلك ثلاثاً فمجموع كل من المضمضة والاستنشاق ثلاث مرات بثلاث غرفات وهو الصواب (( الألباني )) .(1/17)
السادسة : اختلفوا في ( إلى ) هل هي للغاية أو بمعنى مع ؟ وعند من يرى غائيتها هل الغاية داخلة في المغيا أو خارجة عنه ؟ والكل شائع في اللغة فاحتملت الآية معنيين أعني دخول المرفق في المغسول وعدم دخوله ولما جاءت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسله تعين دخوله في المغسول لأنه المبين لمراد الله عز وجل لهذا اتفق العلماء على وجوب غسله ولم يحك الخلاف فيه إلا عن زفر .
السابعة : مسح الرأس وهو في هذا الحديث مجمل لكن بين في حديث عبدالله بن زيد كيفيته وتفسيرها : أن يجعل أطراف أصابعه بعضها على بعض ويمسح ببطون كفيه يبدؤ من ناصيته ثم يمر بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه وقد جاء في رواية للبخاري : ( فأقبل بيديه وأدبر ) وهي تخالف روايته : ( فأدبر بيديه (1) وأقبل ) وقد جمع بينهما : بأن الاقبال والادبار من الأمور النسبيه فيحتمل أن تحكى بالنسبة إلى اليدين ويحتمل أن تحكى بالنسبة إلى الرأس وعلى هذا فتحمل رواية ( أقبل بيديه وأدبر) أنها حكيت بالنسبة إلى اليدين وبهذه الكيفية أخذ أهل الحديث ومن الأئمة مالك وأحمد وإسحاق وهو الأرجح لموافقته الدليل .
وقال بعضهم بإجزاء مسح البعض ومنهم الشافعي وأبو حنيفة ورواية عن أحمد ومالك لكن اختلفوا في تقدير هذا البعض فقال أبو حنيفة لا يجزئ إلا ربعه وقال الشافعي لو مسح بأصبع أو بعض أصبع أجزأه
__________
(1) لفظة ( بيديه ) لم ترد في رواية البخاري وإن ذكرها الحافظ وقلده الصنعاني ثم الشوكاني ولفظة : فمسح رأسه فأدبر به وأقبل ) ((الألباني ))(1/18)
أما كم يمسح فالجمهور على أنها واحدة لأن أكثر رواة صفة الوضوء رووا المسح واحدة أم التثليث فلم يرو إلا من طرق شاذة أو ضعيفة (1) قال الشوكاني والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ درحة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة فالوقوف على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما هو المتعين انتهى . ولأبي داود والبيهقي كلام قريب من هذا وخالفهم الشافعي فقال باستحباب التثليث قياساً على سائر الأعضاء والأول أرجح .
الثامنة : يؤخذ من العطف بثم المقتضية للترتيب وجوب الترتيب لكن عند من يرى أن الأفعال تقتضي الوجوب غير أنه يعضد هذا المأخذ بأمور : أحدها : حديث : ( أبدأ بما بدأ الله به ) على رواية الأمر . ثانياً : إدخال ممسوح وهو الرأس بين مغسولين وهما اليدان والرجلان. ثالثاً : جاء في حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتباً ثم قال ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) ذكره في المغتي ولم يعزه وقد بحثت عن هذا الحديث فلم أجده بهذا اللفظ إلا أن الحديث ذكره الزيلعي في نصب الراية بلفظ ( توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وطرقه كلها واهية ومع ذلك فليس فيه دليل على الترتيب
التاسعة : قوله - صلى الله عليه وسلم - ( ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه ) عام يراد به الخصوص أي بأمور الدنيا والمراد مجاراة الحديث أما إن عرض له فدفعه عن نفسه فقد حصلت له الفضيلة وإن حدث نفسه بطاعة أخرى فهو من تداخل العبادتين ويذكر فيه شيء عن عمر .
العاشرة : قوله ( غفر له ما تقدم من ذنبه) هذا عام يراد به الخصوص بالصغائر لأن الكبائر لا تكفرها إلا التوبة .
[
__________
(1) فيه نظر عندي فإنه ورد من ثلاث طرق بثلاثة أسانيد حسنة فيبعد اتفاقهم على الخطأ (( الألباني )) .(1/19)
9] عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال : شهدت عمرو بن الحسن سأل عبدالله بن زيد (1) عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكفأ على يديه من التور فغسل يديه ثلاثاً ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثاً ثم أدخل يده في التور فغسلهما مرتين إلى المرفقين ثم أدخل يده في التور فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ثم غسل رجليه . وفي رواية : بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه وفي رواية أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تور من صفر – التور شبه الطست – متفق عليه .
موضوع الحديث :صفة الوضوء
المفردات
الصفر : معدن معروف
غرفات : بإسكان الراء جمع غرفة والغرفة ما أقله الآدمي بكفه .
المعنى الإجمالي
علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كيفية الوضوء فغسل كفيه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاث مرات ثم اغترف بيده فغسل وجهه ثلاثاً ويديه مرتين مرتين ومسح رأسه مرة واحدة استوعبه بها وغسل رجليه
فقه الحديث
يؤخذ منه : جواز اختلاف العدد في غسلات الأعضاء وجواز التطهر في آنية الصفر . وسائر فقهه قد تقدم في الحديث قبله .
[10] عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله . متفق عليه
موضوع الحديث : التيمن في الوضوء والغسل وهو من سنن الوضوء
المفردات
يعجبه التيمن : أي يحب ويفضل البداءة باليمين على البداءة باليسار
في تنعله : أي لبس نعليه
وترجله : أي تسريح شعر رأسه
وطهوره : يدخل في ذلك الوضوء والغسل
__________
(1) عبدالله بن زيد بن عاصم بن كعب الأنصاري المازني أبو محمد صحابي شهير روى صفة الوضوء وغير ذلك ويقال إنه هو الذي قتل مسيلمة الكذاب واستشهد بالحرة سنة 63هـ ت 3351(1/20)
وفي شأنه : أي في أمره كله
المعنى الإجمالي
جل من يخلق ما يشاء ويختار يختص ما شاء من خلقه بما شاء من التكريم ومن ذلك أنه شرع على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - إكرام اليمين باستعمالها والبدء بها في كل طيب
فقه الحديث
أولاً : استدل المصنف بالحديث على استحباب البداءة باليمين في الوضوء قال ابن قدامة رحمه الله في المغني : وهو مجمع على استحبابه لا نعلم فيه خلافاً . قلت : حكى الصنعاني في السبل القول بالوجوب عن الهادوية أخذاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم ) قال ابن دقيق العيد هو حقيق بأن يصحح
ثانياً : في قوله ( وفي شأنه كله ) عام مخصوص بما كان من باب التكريم أما ما كان من باب الإهانة فيبدأ فيه بالشمال وقد ورد بعض ذلك في السنة كدخول الخلاء (1) والخروج من المسجد وخلع الثوب والنعل والله أعلم
[
__________
(1) لا أعرف شيئاً من ذلك في السنة أما الخروج من المسجد ففيه حديث جيد في مستدرك الحاكم ولم يطلع عليه الصنعاني كما أفاده كلامه في العدة (( الألباني )) .(1/21)
11] عن نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ) فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل (1) وفي لفظ لمسلم رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يتوضأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل ) وفي لفظ سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)
موضوع الحديث : الإخبار عما أكرم الله به هذه الأمة وهو الغرة والتحجيل وجواز الزيادة على الواجب في الوضوء
المفردات
غراً : جمع أغر والغرة البياض في الوجه
والتحجيل : البياض في اليدين والرجلين
الحلية : هي ما يتحلى به لكمال الجمال
فقه الحديث
استدل المؤلف بالحديث على استحباب إطالة الغرة والتحجيل وهو أن يغسل شيئاً من الرأس زيادة على الوجه ويغسل شيئاً من العضد فوق المرفقين وشيئاً من الساق فوق الكعب
واختلفوا في قدر الزائد وانتهت أقوالهم إلى المنكبين والركبتين أما ما ادعاه ابن بطال والقاضي عياض من اتفاق العلماء أنه لا تستحب الزيادة على المرفق والكعب فقد صرح النووي ببطلانه . والله أعلم .
باب الاستطابة
الاستطابة : هي الاستنجاء وهي تطييب المخرج أي تنقيته ويقال باب الاستنجاء وباب الاستجمار والكل بمعنى واحد
[
__________
(1) قوله في الحديث فمن استطاع ليس من كلامه - صلى الله عليه وسلم - بل هو مدرج فيه من كلام أبي هريرة كما جزم بذلك العلماء المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والعسقلاني وغيرهم وعليه فليس في الحديث ما يدل على استحباب الإطالة للغرة والتحجيل وإنما هو رأي لأبي هريرة رضي الله عنه وكذلك كان لا يصدع به كما رواه مسلم عنه في رواية (( الألباني )) .(1/22)
12] عن أنس بن مالك (1) رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء قال : ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث – بضم الخاء والباء جمع خبيث - والخبائث ) جمع خبيثة استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم
موضوع الحديث : الذكر عند دخول الخلاء
المفردات
اللهم : منادى أصله يا الله
أعوذ بك : أي ألجأ إليك وأعتصم بك من شر الخبث والخبائث
المعنى الإجمالي
لجأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه ولاذ بجانبه مستجيراً من كيد الأرواح الخبيثة وهي الشياطين
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث : استحباب الذكر عند دخول الخلاء أي عند إرادة الدخول كما جاء مصرحاً به في الأدب المفرد من رواية أنس رضي الله عنه وعند سعيد بن منصور ذكر التسمية في أوله وإسنادها على شرط مسلم قاله في الفتح فيجب قبولها والله أعلم .
[13] عن أبي أيوب الأنصاري (2) رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا ) قال أبو أيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل متفق عليه .
الغائط : المطمئن من الأرض كانوا ينتابونه للحاجة فكنوا به عن نفس الحدث كراهية لذكره باسمه الخاص والمراحيض : جمع مرحاض وهو المغتسل وهو أيضاً كناية عن موضع التخلي . قلت : سموه بذلك لأنه يزال فيه الرحض وهو الوسخ
__________
(1) أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خدمه عشر سنين صحابي مشهور مات سنة اثنين أو ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة .ت 507
(2) أبو أيوب الأنصاري واسمه خالد بن زيد بن كليب الأنصاري من كبار الصحابة نزل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة توفي بالروم غازياً سنة 50هـ وقيل بعدها ، دفن عند القسطنطينية ت1643 .(1/23)
موضوع الحديث : إكرام القبلة عن استقبالها بالفروج عند البول
المفردات
لا تستقبلوا : أي لا توجهوا نحو القبلة
لا تستدبروا أي لا تجعلوا أدباركم نحو القبلة بتوليتها ظهوركم
شرقوا أو غربوا : استقبلوا ناحية المشرق أو ناحية المغرب
فننحرف : أي نميل
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المكلفين عن التوجه إلى القبلة في حال البول والغائط وأن يجعلها الإنسان في ظهره باستدبارها وأمرهم أن يتوجهوا إلى ناحية المشرق أو المغرب
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث
أولاً : تحريم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط لأنه الأصل في المنهيات إلا أن النهي هنا معارض بحديث ابن عمر الآتي وحديث جابر عند أبي داود والترمذي وابن ماجة قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها . حسنه الترمذي وصححه ابن السكن وغيره
لهذا اختلف الناس في حكم الاستقبال والاستدبار على ثمانية أقوال ومرجع هذه الأقوال إلى أمور ثلاثة أحدها : النسخ والثاني : الجمع والثالث :التخصيص
فالقائلون بالنسخ اختلفوا فمنهم من رأى النسخ في الصحاري والبنيان وهم عروة بن الزبير وربيعة شيخ مالك وداود الظاهري ومنهم من رأى النسخ في البنيان دون الصحاري وهم مالك والشافعي ورواية عن أحمد ونسبه في الفتح إلى الجمهور قال وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة ومنهم من رأى النسخ في البنيان مقيداً بالاستدبار دون الاستقبال وهو مروي عن أبي يوسف
أما الجمع فهو حمل حديث أبي أيوب على الكراهة وحديث ابن عمر على الجواز وهو مروي عن القاسم بن إبراهيم والهادي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد ويجوز الجمع بحمل حديث أبي أيوب على الصحاري وحديث ابن عمر على البنيان كما تقدم في النسخ(1/24)
أما القائلون بالتخصيص فهم يحملون النهي في حديث أبي أيوب على التحريم ويرون أنه محكم أما حديثا ابن عمر وجابر فهم يحملونهما على الخصوصية بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
والحاصل مما تقدم خمسة أقوال : أحدها : الجواز في الصحاري والبنيان والثاني : المنع في الصحاري والجواز في البنيان والثالث : إجازة الاستدبار فقط في البنيان والرابع : كراهية الاستقبال والاستدبار في الصحاري والبنيان والخامس : تحريم الاستقبال والاستدبار في الصحاري والبنيان وأقربها إلى الحق الثاني والرابع لكن يرجح الثاني لأنه تفسير الصحابي راوي الحديث فيما رواه عنه مروان الأصفر(1)
ثانياً : يؤخذ من قوله : فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل بعد الصحابة رضي الله عنهم عن المخالفة وشدة خوفهم من الله عز وجل .
[
__________
(1) قلت في تفسير الصحابي وفهمه حجة إذا لم يعارض فهم غيره ونجد هنا أن أبا أيوب قد فهم أن النهي مطلق ولذلك كان ينحرف في البنيان ويستغفر الله ثم كيف لا يكون القول الرابع بل الخامس أقرب للصواب والقصد من النهي هو احترام الجهة التي يستقبلها المصلي في البنيان والصحراء فكما أنه لا فرق في وجوب الاستقبال في الصلاة فكذلك ينبغي أن يكون ليس هناك فرق في النهي عن الاستقبال ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التفل تجاه القبلة مطلقاً في مثل قوله ( من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه ) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه فإذا كان هذا حال من تفل إلى القبلة فكيف يكون من يبول إليها (( الألباني )) .(1/25)
14] عن ابن عمر رضي الله عنهما (1) قال : ( رقيت يوماً على بيت حفصة رضي الله عنها فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة ) متفق عليه وفي رواية ( مستقبلاً بيت المقدس )
موضوع الحديث : جواز استدبار القبلة في البول إذا كان في البنيان
المفردات
رقيت : أي صعدت
يقضي حاجته : قضاء الحاجة كناية من الكنايات عن الخارج
المعنى الإجمالي
صعد ابن عمر رضي الله عنه على بيت حفصة أخته وزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقع نظره على النبي - صلى الله عليه وسلم - مصادفة وهو يبول متوجهاً نحو بيت المقدس والكعبة وراءه
فقه الحديث
قد تقدم في الحديث قبله والله أعلم
[15] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي معي أداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء متفق عليه الأداوة : إناء صغير من جلد والعنزة الحربة الصغيرة
موضوع الحديث : سنية الاستنجاء بالماء
المفردات
يدخل الخلاء : أي المكان الخالي
وغلام نحوي : أي مثلي في السن أو الخدمة
فيستنجي بالماء : الاستنجاء إزالة النجاسة من المخرج وهو القذر بالماء أو الحجارة
المعنى الإجمالي
يخبر أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى الخلاء فيتبعه هو وغلام آخر بماء للاستنجاء والوضوء وعنزة ليجعلها سترة إن أراد الصلاة
فقه الحديث
أولاً : فيه استخدام الرجل الفاضل في أصحابه
ثانياً : فيه استخدام الصغير
__________
(1) عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبدالرحمن ولد بعد المبعث بيسير واستصغر يوم أحد وهو بن أربع عشرة سنة وهو من المكثرين في الحديث كان شديد المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - توفي سنة 73هـ ت 3514(1/26)
ثالثاً: فيه سنية الاستنجاء بالماء ويجب عند عدم الحجارة كما تجب الحجارة عند عدمه ويستحب الجمع بينهما (1) والأفضل الماء عند وجودهما وإرادة الاقتصار على أحدهما لأن كلاهما واجب مخير بينه وبين الآخر أي الماء والأحجار وهذا هو مذهب الجمهور وحكي عن سعيد بن المسيب ومالك إنكار الاستنجاء بالماء وهو مردود بالنص
رابعاً : يؤخذ من قوله : ( وعنزة ) استحباب الصلاة بعد الوضوء
خامساً : يؤخذ منه استحباب السترة في الفضاء والله أعلم
[16] عن أبي قتادة الأنصاري(2) - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ، ولا يتنفس في الإناء) متفق عليه.
موضوع الحديث: تعليم الأخلاق الفاضلة .
المفردات
يتمسح : أي يستجمر .
بيمينه : أي بيده اليمنى .
ولا يتنفس : أي لا يخرج نفسه في الإناء حال الشرب
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المكلفين أن يقاربوا بأيمانهم محل القاذورات ، وأن يقذر أحدهم على أخيه شرابه بالتنفس فيه .
فقه الحديث
__________
(1) الاستحباب حكم شرعي فما دليله هنا وحديث أهل قباء (إنا نتبع الحجارة الماء ) ضعيف والثابت من طرق أنهم كانوا يستنجون بالماء (( الألباني )) .
(2) أبو قتادة الأنصاري هو الحارث ويقال عمر أو النعمان بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة ابن بلدة السلمي شهد أحداً وما بعدها ولم يصح شهوده بدراً مات سنة أربع وخمسين وثيل سنة ثمان وثلاثين والأول أصح وأشهر ت 8375(1/27)
حمل الجمهور النهي في الثلاث المسائل على التنزيه والأدب . وحكى الحافظ في الفتح : أن أهل الظاهر ذهبوا إلى التحريم ، وعدم إجزاء الإستجمار إن وقع على هذه الصفة . قاله في الفتح . والتحريم في مس الذكر باليمين مقيد بالبول ، جريا على القاعدة الأصولية ، وهي حمل المطلق على المقيد . والقول بتحريم الثلاث المسائل هو الأرجح لوجود النهي وعدم الصارف . ويجزئ الإستجمار مع الإثم. والله أعلم.
[17] عن ابن عباس (1) رضي الله عنهما قال : مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال : ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة . فقالوا : لم فعلت هذا يارسول الله ؟ فقال : ( لعله يخفف عنهما مالم ييبسا ) متفق عليه .
موضوع الحديث: وجوب التحرز من البول ، وأن ترك ذلك والتساهل فيه موجب لعذاب القبر كالنميمة .
المفردات
الضمير في قوله ( ليعذبان ) يعود على القبرين أي من فيهما .
كبير : صفة لموصوف محذوف تقديره ذنب كبير أو شيء كبير الإحتراز منه
لا يستتر : لا يعمل الوسائل التي تمنع وصول البول إليه ، وتدل له الروايات الأخرى إذ في رواية :( لايستنزه ) وفي رواية (لايستبريء) وفي رواية (لايتوقى) .
النميمة هي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد.
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث:
أولاً:إثبات عذاب القبر وهو مذهب أهل السنة والجماعة وأنكرته المعتزلة
ثانياً: أنه في الغالب بسبب البول أوالنميمة والبول أغلب لحديث :( تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ).
__________
(1) عبدالله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات ودعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفهم في القرآن فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه وهو أحد المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء منهم توفي سنة 68هـ بالطائف .ت 3431(1/28)
أخرجه الدار قطني عن أنس مرفوعاً وقال:المحفوظ مرسل وله شاهد عن ابن عباس عند الحاكم والدارقطني بسند فيه أبو يحي القتات وهو مختلف في توثيقه وآخر عن أبي هريرة عند أحمد وابن ماجة وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه المنذري انتهى أفاده في الترغيب
ثالثاً:يؤخذ منه نجاسة بول الآدمي لرواية الاضافة وهو مجمع علية في كثير ومختلف في الرضيع
رابعاً:قال العلماء في النميمة التي يترتب عليها هذا العذاب هي ما كان على جهة الإفساد أما إذا كان في تركها ضرر بمسلم فهي من النصيحة المحمودة
خامساً:غرز الجريد على القبر خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك
سادساً : أخذ بعض العلماء من قوله ( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) أن القراءة تنفع الميت بناء على أن التخفيف بسبب تسبيح الأخضر وهو خطأ لأمور أحدها : أن التسبيح ليس خاصاً بالأخضر لقوله تعالى { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } (الاسراء:44) واليابس شيء من الأشياء
ثانياً : أن علة التخفيف ليست بمعلومة في التسبيح
ثالثاً : أن القراءة لو كانت نافعة للميت لأرشد إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لم ينقله الله إلى الدار الآخرة حتى أكمل به الدين بل نقل عنه النهي عن ذلك في قوله ( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ) فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان فمفهومه أن البيت الذي لا يقرؤ فيه القرآن مثل القبر ولو لم تكن القراءة على القبر محرمة لما كان للتشبيه فائدة .
المناسبة :
في هذا الحديث تعذيب لمن لم يتنزه من البول وفي ذلك دليل على نجاسته والله أعلم .
باب السواك
[18] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) متفق عليه
موضوع الحديث : يتعلق بحكم السواك
المفردات
لولا : حرف امتناع لوجود
أشق : من المشقة أو الثقل
المعنى الإجمالي(1/29)
كاد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوجب على أمته السواك فمنعه من ذلك وجود المشقة عليهم في الوجوب
فقه الحديث
أولاً : أخذ منه أهل الأصول أن الأمر للوجوب وذلك أن لولا تدل على امتناع الشيء لوجود غيره فامتناع الأمر المقتضي للوجوب المتحتم على المكلفين من أجل وجود المشقة الحاصلة مع الوجوب ويدل لصحة هذا المأخذ قوله - صلى الله عليه وسلم - ( لو قلتها لوجبت ) جواباً لمن قال أفي كل عام يا رسول الله ؟ يعني الحج
ثانياً : قال النووي فيه دليل على جواز الاجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما لم يرد فيه نص وفي هذا نظر لأن الله تعالى أخبر أن كل ما نطق به الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جهة التشريع وحي والوحي منه إلهام
ثالثاً : يدل الحديث على تأكد السواك لأنه - صلى الله عليه وسلم - كاد أن يوجبه لولا وجود المشقة
رابعاً : تأكده إنما هو في المواضع الآتية المأخوذة من الأحاديث وهي عند الصلاة وعند الوضوء وعند قراءة القرآن وعند القيام من النوم وعند تغير الفم وفيما عداها مستحب
خامساً : السواك مجمع على سنيته وحكى الوجوب عن داود والصحيح عنه أنه مسنون وبذلك صرح ابن حزم في المحلى
سادساً : يؤخذ من عموم هذا الحديث سنية السواك بعد الزوال للصائم ويدل لصحة هذا المأخذ حديث عامر بن ربيعة عند أبي داود والترمذي وحسنه رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا أحصي يستاك صائماً وقالت الشافعية بكراهته والحق ما تقدم والله أعلم .
[19] عن حذيفة بن اليمان (1) رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك متفق عليه
موضوع الحديث :السواك عند القيام من النوم
المفردات
يشوص : معناه يدلك أو يغسل
المعنى الإجمالي
__________
(1) حذيفة بن اليمان واسم اليمان حسل العبسي حليف الأنصار وابن أختهم صحابي جليل صاحب السر توفي سنة 36 ت1165(1/30)
النوم مقتض لتغير الفم لما يصعد عند النوم من الأبخرة إليه من المعدة فكان - صلى الله عليه وسلم - يستاك عند القيام من النوم لإذهاب هذه الرائحة
فقه الحديث
يؤخذ منه سنية الاستياك عند القيام من النوم
[20] عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا مسندته إلى صدري ومع عبدالرحمن سواك رطب يستن به فأبده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره فأخذت السواك فقضمته فطيبته ثم دفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستن به فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استناناً أحسن منه فما عدا أن فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يده أو أصبعه ثم قال :( في الرفيق الأعلى ) ثلاثاً ثم قضى وكانت تقول مات بين حاقنتي وذاقنتي وفي لفظ فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك فقلت :آخذه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم . هذا لفظ البخاري ولمسلم نحوه.
موضوع الحديث : في فضل السواك إذ جعله الله آخر عهد نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولا يختم الله حياة أفضل خلقه إلاَّ بما يحبه الله عز وجل.
المفردات
مسندته : أي مميلته .
الرطب : ضد اليابس ويصدق على الأخضر والمندى .
فأبده : أي مكن فيه النظر .
فقضمته :أي أكلته بأطراف أسناني .
فاستن به : أي إستاك به .
الحاقنة : هي المعدة أسافل البطن .
والذاقنة :قيل ما تحت الذقن ورأس الحلقوم .
الرفيق : على زنة فعيل وهو المرافق .
والأعلى صفة للرفيق وهو الأرجح لأن الرسل أعلى الخلق فضلاً ومنزلة .
المعنى الإجمالي(1/31)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب السواك محبة شديدة لذلك أدام النظر إلى عبد الرحمن حين رأى بيده سواكًا أعجبه ولما كانت زوجته عائشة رضي الله عنها تعرف ذلك منه فهمت مقصوده فأخذت السواك فأصلحته بأسنانها وجعلت فيه طيباً ثم دفعته إليه فاستاك به, فما أن قضى حتى دعى ربه أن يلحقه بالرفيق الأعلى وهم الرسل, ثم توفي في حينة ورأسة في حجر عائشة وهو في بيتها وفي يومها.
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث :
أولاً: سنية الإستياك بالرطب المنقى الذي يذهب الصفرة ( القلح )
ثانياً : فيه جواز الإستياك بسواك الغير.
ثالثاً : فيه جواز تطييب السواك وتهيئته .
رابعاً : فيه فضيلة السواك.
خامساً : فيه فضل عائشة رضي الله عنها لموت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرها وإجتماع ريقه وريقها في آخر عهدهِ بالدنيا فلتبرد قلوب الرافضه أو تصلى الحطمة التي تطلع على الأفئدة والله أعلم
[21] عن أبي موسى الأشعري (1) رضي الله عنه قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يستاك بسواك رطب قال وطرف السواك على لسانه وهو يقول أع أع والسواك في فيه كأنه يتهوع ) متفق عليه
موضوع الحديث: الاستياك على اللسان
المعنى الإجمالي
يخبر أبو موسى رضي الله عنه أنه دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يستاك على لسانه ويبالغ في ذلك إلى اللهوات لإخراج ما علق بلهواته لذلك يقول أع أع
فقه الحديث
أولاً : فيه سنية الاستياك بالرطب وقد تقدم
ثانياً:فيه سنية الاستياك على اللسان
__________
(1) أبو موسى الأشعري واسمه عبدالله بن قيس قدم وفد الأشعريين عام خيبر واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليمن واستعمله عمر على الكوفة توفي سنة 42 وقيل سنة 50 وقيل غير ذلك .ت 3566(1/32)
ثالثاً : فيه سنية المبالغة في الاستياك لإخراج ما علق باللهوات من الرطوبات قال شيخنا (1) في المبالغة فيه عند القيام من النوم أنه يصلح المعدة ويفتح الشهية
رابعاً :فيه أن الاستياك ليس هو من أفعال البذلة التي يحسن التستر بها بل يجوز إظهاره كما قال البخاري في باب استياك الإمام عند رعيته وساق الحديث والله أعلم .
باب المسح على الخفين
الخفين تثنية الخف وهو النعل التي تغطي الكعب
[22] عن المغيرة بن شعبة (2) رضي الله عنه قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ) فمسح عليهما متفق عليه
[23] عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فبال وتوضأ ومسح على خفيه – مختصراً
موضوع الحديثين : المسح على الخفين
المعنى الإجمالي
خفف الله عن هذه الأمة وأزاح عنها الحرج ومن التخفيف شرعه لهم المسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسسح عليهما لتتأسى به أمته في ذلك
فقه الحديثين
أولاً : فيهما دليل على جواز المسح على الخفين كما تواترت به الأحاديث وهو مذهب علماء الشرع كافة إلا مالك فعنه روايات بإنكاره وإثباته قال ابن عبدالبر والرواية الصحيحة عند مصرحه بإثباته أما الصحابة فقال ابن المبارك ليس بين الصحابة في المسح على الخفين اختلاف لأن كل من روي عنه إنكاره فقد روي عنه إثباته وقال ابن حزم لم يصح إنكاره عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم إلا عن ابن عمر ثم روى عنه إثباته بعد رواية إنكاره
__________
(1) هو المجدد لما اندثر من التوحيد في منطقة جازان الشيخ عبدالله بن محمد بن حمد بن نجيد من آل نجيد القرعاوي رحمه الله
(2) المغيرة بن شعبة بن مسعود بن معتق صحابي مشهور أسلم قبل الحديبية وولي أمرة البصرة ثم الكوفة مات سنة خمسين على الصحيح ت 6888(1/33)
وعلى هذا فقد أنكرته الخوارج والرافضة من الطوائف الميتدعة حتى عده علماء السنة من المعتقد
ثانياً :يؤخذ من قوله ( فإني أدخلتهما طاهرتين ) أن اللبس على طهارة شرط في صحة المسح على الخفين
لكن اختلفوا فيمن طهر قدماً ثم أدخلها في الخف ثم طهر الأخرى وأدخلها في الخف هل يصدق عليه أنه أدخلهما طاهرتين ويجوز له المسح عليهما أم لا ؟ فقالت الظاهرية والحنفية وأبو ثور يجوز له المسح على هذه الكيفية وقال الشافعي وأحمد ومالك لا يجوز له المسح إلا بعد كمال الطهارة وعبارة الحديث محتملة (1)كما ترى لكن مذهب الأئمة الثلاثة هو الأحوط للدين .
فائدة :
صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المسح لا يجزئ إلا في الحدث الأصغر دون الأكبر الموجب للغسل فيجب الخلع به .
ومدته يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر وهو مذهب الأئمة الثلاثة وخالف مالك فقال بجواز المسح من دون تحديد مستدلاً بحديث أبي بن عمارة وهو ضعيف جداً وأعله الحافظ في التقريب بالأضطراب .
ثم اختلفوا في المخرق فقال بجواز المسح عليه مالك وأبو حنيفة إذا كان الخرق يسيراً على اختلاف عندهم في حده ومنع ذلك الشافعي والله تعالى أعلم (2)
__________
(1) لكن يرفع الاحتمال قوله - صلى الله عليه وسلم - ( إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح .. ) أخرجه الدارقطني بسند قوي كما قال الحافظ ابن حجر نتائج الأفكار(1/52) وصححه الحاكم والذهبي فمذهب الثلاثة هو الصواب (( الألباني )) .
(2) قلت : والصواب جواز المسح على المخرق مطلقاً ولا دليل على تحديد الخرق بحد إلا مجرد الرأي وما أحسن قول الإمام الثوري : امسح ما دام يسمى خفاً وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مشققة ممزقة ؟ وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن علي رضي الله عنه المسح على النعلين والمسح على الخف المخروق أولى (( الألباني ))(1/34)
فائدة أخرى : اختلف أهل العلم في بدء المدة هل تكون من الحدث الذي بعد المسح أو من وقت المسح الذي بعد اللبس في الطهارة التي بعد الحدث والثاني هو الأقرب والأحوط أما نهاية المدة فهي تكون بثلاثة أمور : أما كمال يوم وليلة للمقيم أو كمال ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر أو حصول الحدث الأكبر الذي يجب به الخلع أو الخلع ولو بدون حدث أكبر أو كمال مدة
فائدة أخرى : يجوز المسح على الخفين إذا استكملت شروطه سواء كان لابس الخف محتاجاً إلى المسح أو ليس بمحتاج إليه لأن الحكم حكم إرفاق وتسهيل على الأمة فيجوز في جميع الحالات إذا وجدت الشروط المقتضية للمسح .
فائدة أخرى : ما كيفية المسح ؟
الجواب : كيفية المسح على القول الأصح أن تبل يديك في الماء وتجعل اليمين فوق أصابع القدم اليمنى واليسار على العقب ثم تمرهما إلى الساق على الأقل بثلاث أصابع واليسرى كذلك علماً بأن المسح يكون على ظاهر القدم ومؤخرها دون أسفل الخف وبالله التوفيق .
باب في المذي وغيره
المذي : فيه لغتان فتح الميم وسكون الذال وهو الأشهر وكسر الذال وتشديد الياء المذي وهو : ماء أبيض رقيق لزج يخرج عند الانعاظ وقد لا يحس به ولا يعقبه فتور
[24 ] عن علي بن أبي طالب (1) رضي الله عنه قال : كنت رجلاً مذاء فاستحييت أن أسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته مني فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال ( يغسل ذكره ويتوضأ ) وفي رواية للبخاري ( اغسل ذكرك وتوضأ ) ولمسلم ( توضأ وانضح فرجك )
موضوع الحديث : في حكم المذي والذي يجب به
المفردات
__________
(1) علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب الهاشمي ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوج ابنته ورابع الخلفاء الراشدين من السابقين أول من أسلم من الغلمان وقال الحافظ المرجح أنه أول من أسلم وهو أحد العشرة توفي في رمضان سنة أربعين قتله ابن ملجم الخارجي وهو أفضل الأحياء يومئذ .ت 4787(1/35)
مذاء : على زنة فعال صيغة مبالغة أي كثير المذي
فاستحييت : عرف العلماء الحياء بأنه ذل وانكسار يعلو المرء عند فعل ما يلام عليه وبنى بعضهم على هذا أنه مستحيل على الله عز وجل وهو خطأ فاحش لأن هذا تعريف للحياء في حق المخلوق فلا يقاس به صفة الله عز وجل .
لمكان ابنته مني : أي لأنها زوجته
وانضح : النضح رش بكثرة
المعنى الإجمالي
يخبر علي رضي الله عنه أنه كان كثير المذي في إبان شبابه فكان يكثر الاغتسال منه حتى تشقق جلده واستحيا أن يسأل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقربه من النكاح رعاية لحق المصاهرة فأمر المقداد أن يسأله ففعل فأفتاه أن عليه غسل ذكره ثم الوضوء
فقه الحديث
يؤخذ منه
أولاً : عدم مواجهة الصهر بذكر النكاح ومقدماته وأن ذلك من الأدب
ثانياً : أن المذي يوجب الوضوء
ثالثاً : أنه لا يجزئ فيه إلا الاستنجاء بالماء ولا تجزئ فيه الأحجار
رابعاً : يؤخذ من الأمر بغسل الذكر منه نجاسته وهو إجماع ممن يعتد به
خامساً : اختلف العلماء هل يغسل جميع الذكر أو المخرج قال بالأول الأوزاعي وبعض الحنابلة وبعض المالكية وقال بالثاني الجمهور (1)
سادساً : اختلفوا في المذي إذا أصاب الثوب فقال الشافعي وإسحاق بغسله وقال الجمهوربنضحه وهو الحق لحديث سهل بن حنيف عند أبي داود والترمذي وقال حسن صحيح . والله أعلم
[
__________
(1) قلت والأول هو الصواب لحديث عبدالله بن سعد الأنصاري رضي الله عنه مرفوعاً ( وكل فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وانثييك وتوضأ وضوءك للصلاة ) وإسناده صحيح كما قال النووي وقول الصنعاني أنه طعن فيه من أوهامه فإنه أعله بالانقطاع بين علي وعروة وحديث علي حديث آخر غير هذا وله إسناد صحيح أيضاً (( الألباني )) .(1/36)
25] عن عباد بن تميم عن عبدالله بن زيد بن عاصم (1) - رضي الله عنه - قال : شكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال : ( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) متفق عليه
موضوع الحديث : العمل على اليقين في الحدث وإلغاء الشكوك
المفردات
يخيل إليه : أي يتوهم الحدث
الصوت والريح : فسرهما أبو هريرة بالفساء والضراط
المعنى الإجمالي
لقد جهد الشيطان كل الجهد في عداوتنا وحرص كل الحرص على إفساد أعمالنا الخيرية فلقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الشيطان يأتي إلى المصلي فينفخ في مقعدته ويوسوس له أنه أحدث لهذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من تصديقه وأمرهم أن لا ينصرفوا إلا بعد تيقن الحدث
فقه الحديث
هذا الحديث أصل من أصول الدين وهو أن الأشياء يحكم لها بالبقاء على أصولها حتى ينقلها ناقل صحيح ومعنى ذلك أنه لا يخرج عن اليقين إلا بيقين مثله فمن شك في الحدث وتيقن الطهارة فهو طاهر ومن شك في الطهارة وتيقن الحدث فهو محدث هذا مذهب الجمهور وقال الحسن ومالك في رواية عنه إن شك في الحدث خارج الصلاة وجب عليه الوضوء وإن شك فيه وهو في الصلاة استمر ولم يخرج وله احتمال من الحديث وعن مالك رواية أخرى أنه يجب عليه الوضوء سواء كان خارج الصلاة أو داخلها وهو مصادم للنص والله أعلم
المناسبة :
اعلم أن المؤلف رحمه الله اقتصر في النسخة الموجودة بأيدينا على قوله باب في المذي وغيره فإن قصد من النواقض فالمناسبة ظاهرة وإن قصد من النجاسات ففي المناسبة غموض شديد والله أعلم .
[
__________
(1) سبقت ترجمته(1/37)
26] عن أم قيس بنت محصن الأسدية (1) رضي الله عنها أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله.متفق عليه.
[27] عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه وفي رواية فأتبعه بوله ولم يغسله .
موضوع الحديثين : كيفية الطهارة من بول الرضيع الذكر
المفردات
لم يأكل الطعام : يحتمل أنها تريد لم يكتف به ويحتمل أنها تريد لم يأكله أصلاً إلا أن الثاني أظهر
في حجره : الحجر بفتح الحاء وكسرها وإسكان الجيم هو الحضن
فنضحه : قد أشرنا في حديث المذي إلى معنى النضح على رأي بعضهم وقال في القاموس النضح هو الرش وقال بعض علماء الشافعية هو أن يغمر ما أصابه البول بالماء ويكاثره بحيث يبلغ تردد الماء وتقاطره وهو في نظري وجيه لأنه يظهر أن النضح أبلغ من الرش وكلاهما ليس فيه دلك ولا عصر
المعنى الإجمالي
خفف الله على عباده فجعل في بول الرضيع الذكر النضح طهراً بخلاف الأنثى إما لعموم البلوى بحمل الذكر أو لأمر لا نعلمه اعتبره الشرع فارقاً بين الذكور والإناث
فقه الحديثين
في الحديثين دليل لمن يرى إجزاء النضح في تطهير بول الرضيع الذكر لكن ليس فيهما الفرق بين بول الغلام وبول الجارية وقد ثبت الفرق بينهما من حديث علي بن أبي طالب وأبي السمح فيجب المصير إليه وهو مذهب الشافعي وأحمد أن بول الغلام ينضح وبول الجارية يغسل وذهب مالك وأبو حنيفة إلى وجوب الغسل فيهما قياساً على سائر النجاسات وذهب الحسن وسفيان والأوزاعي إلى إجزاء النضح فيهما والأول هو الحق لموافقته الدليل
أما اشتراط عدم الطعم في نضح بول الذكر فقد حكى النووي الإجماع عليه والله أعلم
[
__________
(1) أم قيس بنت محصن الأسدية أخت عكاشة بن محصن ويقال أن أسمها آمنة صحابية مشهورة لها أحدايث ت8855(1/38)
28] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء فأهريق عليه . متفق عليه
موضوع الحديث : كيفية تطهير النجاسة من الأرض
المفردات
أعرابي : نسبة إلى الأعراب وهم سكان البوادي
الطائفة : القطعة من الشيء وطائفة المسجد ناحيته
فزجره الناس : أي انتهروه وأغلظوا له القول
بذنوب : الذنوب الدلو المليئ فإن لم يكن فيها ماء فهي شن ودلو
فأهريق : أصلها أريق أبدلت الهمزة هاء وزيدت همزة أخرى للوصل ومعناه صبوه
المعنى الإجمالي
وصف الله رسوله في كتابه بلين الجانب والرحمة بالمؤمنين وهذه الأوصاف محل اللياقة برعاية الخلق التي مثلها واقتدى به فيها الصدر الأول من أتباعه حين حكموا معظم أوساط المعمورة فكر في هذا الحديث ترى رحمة وعلماً وحكمة وحلماً فلو ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه حين زجروه وأرادوا ضربه لانتثر بوله في غير موضع في المسجد وانقطع فأضر بجسمه وكان في ذلك تنفير لكثير من الأعراب عن الإسلام قال تعالى { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } (الحجرات:7) ولكن بحكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت النتيجة بعكس ذلك كله قال تعالى { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } (آلعمران:159) فقه الحديث
أولاً : في الحديث مثال من خلق نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - إذ نهاهم عن زجره لئلا يضر البول ببنيته إذا انقطع ولئلا يلوث المسجد إذا قام ولتكون النجاسة في محل واحد
ثانياً : فيه مشروعية ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أكبرهما إن كان لا بد من إحداهما(1/39)
ثالثاً : فيه حسن التعليم وأن يكون برفق ولين ليكون أدعى للقبول وهو من البصيرة
رابعاً : فيه أن تطهير النجاسة إذا وقعت على الأرض بالصب عليها حتى يغلب على الظن طهارة المكان المتنجس وليس في ذلك تحديد على الأصح ولا يشترط حفر الأرض لأن الحديث فيه مرسل فلا يقوى على معارضة الصحاح الموصولة (1)
خامساً : فيه وجوب تنزيه المساجد عن القاذورات
سادساً : فيه أن البول نجس والله أعلم
[29] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( الفطرة خمس : الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط )
موضوع الحديث : إزالة الزوائد التي يستقبح الإنسان بطبيعته تركها
المفردات
الفطرة : هي الجبلة أو الخلق وذلك أن الله عز وجل خلق الخلق وجبلهم على استحسان الحسن واستقباح القبيح ومن القبيح الذي تستقبحه العقول السليمة وتستوخمه الطباع المستقيمة زيادة هذه الأشياء عن حدودها المحددة لها شرعاً ومن هنا تعلم أن الذين يحفون اللحى ويعفون الشوارب معاكسون للفطرة مخالفون للشريعة عاصون لله ورسوله متعرضون للقذارة والوسخ مغيرون لخلقهم ومشوهون لزينتهم التي منحهم الله إياها مع زعمهم أو زعم آخرين منهم يحفون الجميع أنهم لا يحملهم على ذلك إلا طلب النظافة كأنهم يعتقدون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن نظيفاً حين أعفى لحيته
__________
(1) لكن له شاهدان باسنادين موصولين وشاهد ثالث مرسل ولذلك قواه الحافظ في التلخيص كما بينته في صحيح أبي داود رقم (405) (( الألباني )) .(1/40)
فإن قلت : نرى فاعلي هذه البدع يستحسنونها فكيف لا تستقبح فطرهم هذا ؟ فالجواب أن القلوب ما دامت نظيفة من درن المعاصي تكون مضيئة جذابة فترى الحق حقاً والباطل باطلاً ومتى اتسخت بالمعاصي عميت كالحديد إذا علاه الذحل فحينئذ تنعكس أمامها الحقائق فترى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق ويكون المعروف عند اصحابها منكراً والمنكر معروفاً والدليل على ذلك ما روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين قلب أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } (آل عمران:8) ومعذرة من الإطالة فالمقام مقام بيان والحاجة داعية والله الموفق .
الاستحداد : استعمال الحديد لإزالة العانة
والختان : مصدر من ختن بمعنى قطع وهو بكسر الخاء وتخفيف المثناة
وتقليم الأظافر : أي قصها مأخوذ من القلم الذي هو القطع
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الخصال من الغرائز التي جبل عليها العبد أي على استحسان فعلها واستقباح تركها
فقه الحديث
في الحديث خمس مسائل أربع متفق على سنيتها (1) وهي الاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط
__________
(1) في هذا الاتفاق نظر فإن ابن حزم قد صرح في المحلى 2/218 بأن قص الشارب فرض بل قال ابن العربي المالكي : عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة فإن المرء إذا تركها لم تبق صورته على صور الآدميين فكيف من جملة المسلمين "؟ وهذا فقه دقيق ومن تعقبه فلم يصحبه التوفيق . (( الألباني )) .(1/41)
والخامسة مختلف في وجوبها وسنيتها وهي الختان فعند مالك وأبي حنيفة أنه مسنون وذهب الشافعي وأحمد إلى وجوبه إلا أن الشافعي يرى الوجوب على الرجال والنساء وأحمد يرى الوجوب على الرجال دون النساء مستدلاً بحديث ( الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ) وهو حديث ضعيف قال الشوكاني بعد أن بين ضعف الأحاديث الدالة على الوجوب والحق أنه لم يقم دليل صحيح على الوجوب والمتيقن السنية لحديث( خمس من الفطرة ) والواجب الوقوف على المتيقن حتى يقوم دليل يوجب الانتقال عنه ومقصود الشوكاني أنه لم يرد دليل صريح في الوجوب وهو صحيح أما الصحيح غير الصريح فهو موجود
المسألة الثانية : الاستحداد وهو الأفضل ويجوز بكل ما يحصل به المقصود وهو الإزالة كالنتف والنورة وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنور
والعموم دال على مشروعية الاستحداد للرجال والنساء وحكى الحافظ في الفتح أن بعض العلماء كرهه للنساء بزعمه أنه يقوي الشعر غير أن الحديث بلفظ ( تستحد المغيبة وتمتشط الشعثاء ) يرد ذلك لأنه صريح في مشروعية الاستحداد للنساء
المسألة الثالثة : قص الشارب وقد جاء بلفظ الأمر ( قصوا ) وفي رواية ( جزوا ) وفي رواية (احفوا) والكل جائز(1/42)
لكن اختلفوا في أيها أفضل القص أم الإحفاء والأحسن القول بالتخيير ويمكن أن يقال لما كان القص يصدق على التقصير والاستئصال جاءت رواية الإحفاء فعينته للاستئصال(1)
المسألة الرابعة : قص الأظفار لئلا تفحش وتجتمع تحتها الأوساخ
المسألة الخامسة : نتف الإبط والحكمة في تعيين الشارع النتف فيه لأنه يضعف الشعر فناسب أن يؤمر به هنا من أجل أن الإبط منفذ من منافذ الجسم تخرج منه الروائح الكريهة وكثرة الشعر تزيد الروائح وقلته تخففها
المناسبة
قد يظهر في المناسبة بين الباب والحديث خفاء وبيانه أن الباب معقود لإزالة النجاسات فناسب أن يدخل فيه هذا الحديث الذي يتضمن إزالة الفضلات الموجبة للوساخة والتقذر بجامع القذارة . قاله شيخنا حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله .
باب الجنابة
[30] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال (أين كنت يا أبا هريرة ) قال:كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة .فقال: (سبحان الله إن المؤمن لاينجس ) .متفق علية.
موضوع الحديث : طهارة جسم المؤمن حيا وميتا
المفردات:
__________
(1) وهذا هو الأرجح الذي يقتضيه طريق الجمع بين الروايات ولكن بقي النظر في المراد استئصاله هل هو الشارب كله أم ما على طرف الشفة فقط ؟ وهذا شيء اختلف فيه السلف ونحن إذا تأملنا الأمور الآتية ترجح لدينا الأمر الثاني ( 1) قوله - صلى الله عليه وسلم - ( من لم يأخذ من شاربه فليس منا ) فلم يقل يأخذ شاربه (2) فعله - صلى الله عليه وسلم - يبين قوله وقد صح عنه أنه رأى المغيرة بن شعبة قد وفي شاربه فقصه على سواك بالشفرة فهذا نص في المسألة ولهذا كان مالك رحمه الله يعتبر حلق الشارب بدعة ويبالغ فيقول فيمن فعله أرى أن يوجع ضرباً (( الألباني )) .(1/43)
جنباً : مأخوذ من المجانبة وهو البعد , وقال الشافعي : مأخوذ من المخالطة يقال أجنب من امرأتة إذا خالطها.
فانخنست : الانخناس هو الانقباض والتأخر
فقال سبحان الله : التسبيح هو التنزيه ويقال عند الشيء المثير للعجب
إن المؤمن لا ينجس : أي لا يصير نجساً بحال
المعنى الإجمالي
شرع الغسل تعبداً لله وتطهيراً للجسم من اللذة الشهوانية والمتعة الجسمانية وليقوم للعبادة على أكمل حال وأليقه بمناجاة الله وليعيد على الجسم قوته ونشاطه الذي نقص بخروج المني ولم يكن عن نجاسة كما ظن أبو هريرة رضي الله تعالى عنه بل قد أفهمه النبي - صلى الله عليه وسلم - راداً لهذا الظن أن المؤمن لا يتصف بنجاسة الذات أبداً .
فقه الحديث
للفقهاء في هذا الحديث استدلالان استدلال بمنطوقه واستدلال بمفهومه فأما الاستدلال بمنطوقه فهو لمن يرى طهارة ميتة الآدمي وهم الجمهور وخالف أبو حنيفة فقال بنجاسة ميتته والمذهب الأول هو الحق لموافقته الأدلة
أما الاستدلال الثاني بمفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم - ( إن المؤمن لا ينجس ) فأخذ منه مالك وبعض أهل البيت وبعض أهل الظاهر نجاسة عين الكافر وأيدوا هذا المأخذ بقوله تعالى { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (التوبة:28)) والجمهور يحملون هذه الآية على نجاسة الاعتقاد ويقولون بطهارة عين الكافر مستدلين بإباحة نساء أهل الكتاب وطعامهم ولبس ثياب الكفار المغنومة وهو استدلال قوي والله أعلم
قال النووي وفي الحديث استحباب احترام أهل الفضل وأن يوقرهم جليسهم ومصاحبهم وقد استحب أهل العلم للطالب أن يحسن حاله عند شيخه وفيه من الآداب أن العالم إذا رأى من تابعه شيئاً يخاف عليه فيه خلاف الصواب سأله عنه وبين له صوابه انتهى باختصار
[(1/44)
31] عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم يخلل بيديه شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده وكانت تقول كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد كلانا جنب . متفق عليه
[32] عن ميمونة (1) رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وضوء الجنابة فأكفأ بيمينه على يساره مرتين أو ثلاثاً ثم غسل فرجه ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل جسده ثم تنحى فغسل رجليه فأتيته بخرقة فلم يردها وجعل ينفض الماء بيده . متفق عليه
موضوع الحديثين : صفة غسل الجنابة
المفردات
غسل يديه : المراد كفيه وهذا الغسل غير الغسل الذي بعد الاستنجاء فذاك خاص بالشمال لإزالة ما عليها من الرطوبة
يخلل : التخليل إنفاذ الأصابع مبلولة بين الشعر لإدخال الماء فيه
الضمير في بشرته : يعود على الشعر
أفاض : أي أسال
سائر : باقي
وضوء الجنابة : قال ابن دقيق العيد الوضوء بفتح الواو وهل هو اسم لمطلق الماء أو للماء مضافاً إلى الوضوء ؟ وقد يؤخذ من هذا اللفظ أنه اسم لمطلق الماء فإنها لم تضفه إلى الوضوء بل إلى الجنابة . قلت : قد قيل أن الوضوء مأخوذ من الوضاءة التي هي النظافة أو الحسن كأنه لما كان سبباً لها سمي باسمها وعلى هذا لا يكون غريباً في اللغة تسمية الماء المعد للغسل وضوءاً لأنه يجلب الوضاءة أكثر مما يجلبها الوضوء
أكفأ: أي أمال الإناء أو أصغاه
تنحى : أي تباعد عن موضعه الأول
__________
(1) ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حين قدم مكة لعمرة القضاء وبنى بها تحت شجرة بسرف وماتت سنة 51 هـ على الصحيح ت 8786(1/45)
أفاض الماء :أساله أو أفرغه
المعنى الإجمالي
لحديثي عائشة وميمونة رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ بغسل كفيه قبل الاغتراف ثلاث مرات ثم يغسل فرجه بشماله ثم يدلكها بالتراب ويغسلها مرتين أو ثلاثاً ثم يمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ويديه كما يتوضأ للصلاة ثم يحثي على رأسه الماء ويخلله بأصابعه حتى يروي بشرة رأسه ثم يغسل سائر جسده ثم يتنحى عن موضع مغتسله ويغسل رجليه وإن شاء غسلهما في المغتسل وأنه عرضت عليه ميمونة المنديل فرده وكان يغتسل مع عائشة من الجنابة من إناء واحد يغترفان منه جميعاً حتى تختلف أيديهما فيه
فقه الحديثين
أولاً : يؤخذ من هذين الحديثين صفة الغسل الكامل وعلى الكمال والاستحباب حمل الجمهور غالب الأفعال الواردة في هذين الحديثين لكن اختلفوا في وجوب مسائل من ذلك
الأولى : اختلفوا في المضمضة والاستنشاق فقال بوجوبهما أبو حنيفة وقال الجمهور بالسنية
الثانية : اختلفوا في وجوب التدليك فأوجبه مالك والجمهور على استحبابه
الثالثة والرابعة : اختلفوا في وجوب الترتيب والمولاة فقال بوجوبهما بعضهم مستدلين بحديث أم سلمة رضي الله عنها ( إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فإذا أنت قد طهرت ) لأن ثم تقتضي الترتيب ومذهب الجمهور سنيتهما ويترجح القول بسنية المولاة بحديث ميمونة ( ثم تنحى فغسل رجليه ) حيث أخر غسل الرجلين عن سائر الجسد
أما سائر ما ذكر فيهما فهو مسنون وهو غسل الكفين والاستنجاء ودلك الشمال بالأرض مع غسلها لإذهاب الرطوبة والرائحة وتقديم أعضاء الوضوء ما عدا القدمين والتثليث في الغسلات وتخليل الشعر والبدأ بالميامن وغسل القدمين بعد التنحي عن المغتسل وقال قوم بغسلها قبل الشروع حملاً للوضوء المذكور على حقيقته .(1/46)
هذا هو الغسل الكامل أما المجزئ فهو غسل جميع البدن على أي كيفية كانت ولو انغمس في ماء بنية الغسل أجزأه عند قوم وقال آخرون هو ما تضمنه حديث أم سلمة رضي الله عنها
ثانياً : يؤخذ من قول عائشة كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد كلانا جنب جواز اغتسال الرجل مع امرأته ونظر كل منهما إلى عورة الآخر
ثالثاً : يؤخذ من قول ميمونة فأتيته بخرقة فلم يردها أن التمندل خلاف الأولى والله أعلم .
[33] عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب ؟ قال : ( نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد ) متفق عليه
موضوع الحديث :حكم نوم الجنب
المفردات
إذا : حرف شرط غير جازم وجملة توضأ جملة الشرط
وفليرقد جملة الجواب اقترنت بالفاء لأن الفعل طلبي
المعنى الإجمالي
شرط النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواز النوم للجنب حصول الوضوء قبله
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث سنية الوضوء لمن أراد أن ينام وهو جنب وهذا مذهب الجمهور وقال قوم بوجوب الوضوء على من أراد أن ينام أو يأكل أو يعود وهو مذهب الظاهرية
أما حديث أبي إسحاق السبيعي فقد ضعفه الحفاظ لأن أبا إسحاق مدلس ولم يصرح بالسماع وقد خالفه إبراهيم النخعي وعبدالرحمن بن الأسود لكن ارتفعت دعوى التدليس بتصريحه بالسماع في رواية شعبة وزهير بن معاوية عنه . وارتفعت شبهة الغلط بمتابعة هشيم له في روايته عن عبد الملك عن عطاء عن عائشة وصح الحديث ومع هذا فليس بين الحديثين تعارض بل الجمع حاصل بحمل الفعل على الأفضل والترك على بيان الجواز(1/47)
ولفظ حديث أبي إسحاق السبيعي عن الأسود عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جنب ولا يمس ماءاً والتضعيف إنما هو لزيادة ولا يمس ماءاً وقد اتضح لك ثبوتها والجمع بينها وبين حديث ابن عمر ويدل لصحة هذا الجمع ما ورد في صحيح ابن حبان عن عمر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أينام أحدنا وهو جنب ؟ قال نعم ويتوضأ إن شاء (1)
ثانياً : الأمر في قوله ( فليرقد ) للإباحة لأنه جاء بعد منع وهكذا كل أمر جاء بعد المنع منه كقوله تعالى ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) (المائدة:2) وقوله { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } (البقرة:222) ) والله أعلم
[34] عن أم سلمة (2) زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت جاءت أم سليم (3) امرأة أبي طلحة رضي الله عنهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت ؟ فقال ( نعم إذا هي رأت الماء ) متفق عليه
موضوع الحديث : وجوب الغسل بالاحتلام واحتلام النساء
المفردات
__________
(1) قلت وهو في صحيح مسلم بمعناه (( الألباني ))
(2) أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها في السنة الرابعة وقيل في الثالثة بعد وفاة زوجها أبي سلمة ماتت سنة اثنتين وستين وقيل قبل ذلك ت 8835
(3) أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك صحابية مشهورة وهي زوج أبي طلحة الأنصاري ماتت في خلافة عثمان ت 8836(1/48)
تقدم تعريف الحياء في حق المخلوق أما في حق الخالق فيجب على كل مؤمن الإيمان بهذه الصفة واعتقاد معناها الذي تقتضيه في اللغة العربية التي خاطبنا الله بها على لسان رسوله العربي وإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل وقد انتحل قوم من جهابذة العلماء رأي أهل التأويل وجعلوه لهم مذهباً والسبب الذي أوقعهم في ذلك هو الاشتراك في اسم الصفة بين الخالق والمخلوق ولا يلزم من الاشتراك في الاسم الاشتراك في الحقيقة فمثلاً إذا أثبتنا لله عز وجل يداً لزم من هذا الاثبات على رأي أهل التأويل العضوية والتبعض وإن أثبتنا له صفة الحياء مثلاً لزم من هذا الاثبات الضعف والانكسار وهو غلط فاحش فحمداً لله على السلامة منه ومن أمثاله والواجب أن نعتقد كمال صفات الله عز وجل وسلامتها من النقائص كما نعتقد كمال ذاته وسلامتها من النقائص ومن لا يعلم كنه روحه التي بين جنبيه أولى به أن لا يعلم كنه ربه عز وجل .
الاحتلام : معروف وهو إلمام الذهن بصور يتراءاها في النوم
المعنى الإجمالي
سألت أم سليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء تنكره النساء لذلك بسطت العذر تمهيداً ثم سألت لتدلل على حيائها من ذكر ذلك وأنه لم يحملها على السؤال إلا قوة الإيمان وخوفاً من الله أن تقصر فيما يجب عليها فتهلك فأفتاها أنه لا يجب عليها الغسل إلا إذا رأت المني
فقه الحديث(1/49)
أولاً : أورد ابن دقيق العيد للحياء معاني وناقشها ورجح واحداً منها والكل باطل لما عرفت ولأن الله عز وجل لو أراد واحداً من التأويلات لذكره بعينه فإنه عز وجل لا يستحيل عليه أن يقول مثلاً { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ } (الأحزاب:53) والله لا يمتنع من ذكر الحق ثم إن الامتناع من ذكر الشيء لا يكون مسبباً عن الحياء فقط بل يكون أيضاً لأسباب أخر وهي كالخوف أو الكبر أو العجز أو الجهل فكل ممتنع من ذكر شيء لسبب من هذه الأسباب يصدق عليه أنه امتنع من ذكر ذلك الشيء فوقعوا في أكبر مما فروا منه والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
ثانياً : في الحديث دليل على أن مجرد الاحتلام لا يوجب الغسل بل لا بد من اعتبار خروج المني في الوجوب لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علق الغسل على رؤية الماء
ثالثاً : فيه دليل على من يرى وجوب الغسل بانتقال المني من محله الأصلي إلى غيره ولو لم يخرج لأن الوجوب مرتب على الخروج
رابعاً : فيه أن للمرأة مني وأنها تحتلم
خامساً : يؤخذ من قوله ( إذا رأت الماء ) أن المكلف يغتسل متى رأى الماء فإن رآه بعد فريضة وجب عليه إعادتها واغتسل عمر بعد أن تعالى النهار وأعاد الصبح
سادساً : هذا الحكم مختص بالاحتلام أما الجماع فقد قام الدليل على وجوب الغسل فيه بالإيلاج
[35] عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه . وفي لفظ لمسلم : لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً فيصلي فيه . رواه الجماعة إلا أحمد
موضوع الحديث : حكم المني وكيفية تطهيره من الثوب
المفردات
المراد بالجنابة المني سمي بذلك لأنه موجب لها وقد تطلق ويراد بها الحكم المترتب على المني أو الإيلاج
بقع الماء في ثوبه : أي من أثر الغسل
المعنى الإجمالي(1/50)
تخبر عائشة رضي الله عنها أنها كانت تنظف ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المني إذا وقع فيه بالغسل أحياناً إذا كان رطباً وبالفرك أحياناً إذا كان يابساً .
فقه الحديث
في الحديث دليل لمن قال بطهورية المني وهم الشافعية والحنابلة والثوري وأبو ثور ومن الصحابة علي وابن عباس وابن عمر وسعد ابن أبي وقاص وعائشة دليلهم رواية الفرك إذ لو كان نجساً لما أجزأ فيه الفرك واستدل لهم بما روي عن ابن عباس - موقوفاً – في المني إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق ورواه الدارقطني مرفوعاً من طريق إسحاق الأزرق قال ابن تيمية في كتابة المنتقى وإسحاق إمام مخرج له في الصحيحين يقبل رفعه وزيادته وقال في الخلاصة سئل أحمد عن إسحاق أثقه هو ؟ قال أي والله .
قلت : لكن في السند شريك ومحمد بن عدالرحمن وكلاهما سيء الحفظ فيترجح ما قاله البيهقي أنه موقوف غير أنه مما لا مجال فيه للاجتهاد لأن الحكم على الأشياء بالطهارة والنجاسة لا يكون إلا عن توقيف .
وقال أبو حنيفة ومالك بنجاسة المني مستندهم في ذلك رواية الغسل والقياس لأنه يجري في مجرى البول ويستقر مع النجاسات في مقر واحد لكن هؤلاء أيضاً اختلفوا في كيفية تطهيره فقال مالك لا يطهره إلا الغسل وقال أبو حنيفة يطهره الفرك والغسل والله أعلم
[36] عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل )
موضوع الحديث : وجوب الغسل بالجماع بدون إنزال
المفردات
شعبها : جمع شعبة وهي القطعة من الشيء ولا حاجة بنا إلى تعيينها إذ يفهم من الكناية المقصود
ثم جهدها : من الجهد أي بلغ مشقتها وأجهد نفسه في معالجتها وهو كناية عن الإيلاج
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته أن موجب الغسل في الجماع هو الإيلاج
فقه الحديث(1/51)
في الحديث دليل أن الإيلاج موجب للغسل سواء كان معه إنزال أو لم يكن إلا أن الإيلاج يصدق على إيلاج الكل وإبلاج البعض فلا يتعين القدر الموجب إلا من حديث عائشة رضي الله عنها ( إذا إلتقى الختانان وجب الغسل فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم اغتسلنا ) صححه الترمذي وأحمد شاكر ونقل عن ابن حجر أنه قال في التلخيص صححه ابن حبان وابن القطان والحديث في صحيح مسلم بلفظ ( إذا قعد بين شعبها الأربع ثم مس الختان الختان فقد وجب الغسل ) وإلتقاء الختانين أو محاذاتهما لا يكون إلا بعد إيلاج الحشفة فتبين مما ذكر أن الموجب الثاني للغسل بعد خروج المني هو إيلاج الحشفة في الفرج وبه قال الجمهور وبعض الظاهرية وذهب بعض الظاهرية إلى أنه لا يجب الغسل إلا بالانزال عملاً بحديث ( الماء من الماء ) وخالفهم ابن حزم فقال بقول الجمهور وهو الحق لما روى أبو أبو داود والترمذي وصححه عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نسخ .
وقد ادعى النووي وابن العربي الإجماع على وجوب الغسل بالإيلاج وهو متعقب ولا حاجة بنا إلى الإجماع ما دام هذا الحكم ثابتاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعبأ بمن خالفه كائناً من كان والله أعلم .
[(1/52)
37] عن أبي جعفر محمد (1) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين أنه كان هو وأبوه عند جابر بن عبدالله وعنده قوم فسألوه عن الغسل فقال صاع يكفيك فقال رجل ما يكفيني فقال جابر كان يكفى من هو أوفى منك شعراً وخير منك - يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أمنا في ثوب . وفي لفظ : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفرغ الماء على رأسه ثلاثاً قال رضي الله عنه الرجل الذي قال ما يكفيني هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب أبوه محمد بن الحنفية
موضوع الحديث : مقدار ماء غسل الجنابة
المفردات
صاع : الصاع أربعة أمداد والمد حفنة بكفي إنسان معتدل وهو رطل وثلث بالعراقي
أوفى منك شعراً :أي أطول
أمنا : أي صلى بنا إماما
المعنى الإجمالي
أجاب جابر بن عبدالله رضي الله عنه لما سئل عن مقدار ما يكفي الإنسان للغسل من الجنابة بأن الصاع كاف لذلك ولما قال بعض الحاضرين أنه لا يكفيه رد عليه رداً أسكته ثم صلى بهم إماماً وليس عليه إلا ثوب واحد
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل لمن استحب الصاع في الغسل وقد جاءت في ذلك أحاديث مختلفة المقادير منها صاع ومنها خمسة أمداد ومنها فرق للرجل وامرأته ومنها صاع للرجل وامرأته ومنها ثلاثة أمداد للرجل وامرأته وكلها مروية في الصحاح والسنن ومحمولة على اختلاف الحالات والواجب ما أدى اسم الغسل وعم جميع البدن ويكره الإسراف
ثانياً : فيه دليل على عدم وجوب الارتداء في الصلاة . سياتي فيه بحث إن شاء الله .
باب التيمم
التميم :في اللغة القصد ، يقال: يمم كذا إذا قصده.
[
__________
(1) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( السجاد ) أبو جعفر الباقر ثقة فاضل من الرابعة مات سنة بضع عشرة ت 6191(1/53)
38] عن عمران بن حصين (1) رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم فقال : ( يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم ) فقال : يا رسول الله أجنبت ولا ماء فقال : ( عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) رواه البخاري
موضوع الحديث : التيمم
المفردات
رأى رجلاً : قيل هو خلاد بن رافع أخو رفاعة بن رافع
معتزلاً : متنحياً
عليك : إغراء
بالصعيد : قال في القاموس الصعيد هو التراب أو ما على وجه الأرض
يكفيك : أي يجزئك
المعنى الإجمالي
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فصلى الصبح هو وأصحابه واعتزل رجل فلم يصل فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه فسأله عن السبب الذي منعه من الصلاة فأجاب بأنه جنب ولم يجد ماء للإغتسال فأرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصعيد وأخبره أنه كافيه
فقه الحديث
في الحديث دليل على مشروعية التيمم للجنب وهو مجمع عليه بين الخلف والسلف إلا ما روي (2) عن عمر وابن مسعود مع أنه قد روي رجوعهما عن ذلك وروي عن النخعي أيضاً
وقد روى تيمم الجنب عمار بن ياسر وعمرو بن العاص وأبو ذر وجابر
أما مشروعيته في الحدث الأصغر فقد نصت عليه الآية ولم يحك فيه خلاف
ثانياً : يؤخذ من قوله أصابتني جنابة ولا ماء – أي موجود – أن الطلب واجب قبل التيمم من جهة أن الإخبار بعدم الماء لم يكن إلا عن علم والعلم نتيجة الطلب وبه قال الشافعي وأحمد في رواية عنه وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى لا يجب
وأما تفسر الصعيد والاختلاف فيما يجوز به التيمم فسيأتي في حديث جابر انتهى .
[
__________
(1) عمران بن حصين الخزاعي أسلم عام خيبر وشهد ما بعده وكان فاضلاً مات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة ت 5185
(2) التعبير بلفظ ( روي ) المشعر بضعف المروي اصطلاحاً ليس بجيد لأن المروي صحيح ثابت عنهما ولينظر هل رجوعهما عن ذلك ثابت أم لا ؟ (( الألباني )) .(1/54)
39] عن عمار بن ياسر (1) رضي الله عنهما قال : بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال ( إنما كان يكفيك أن تقول بيدك هكذا ) ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه متفق عليه
موضوع الحديث :كيفية التيمم
المفردات
تمرغت : بتشديد الراء أي تقلبت
أن تقول : أي تفعل لأن في اللغة استعمال القول بمعنى الفعل الكثير
ثم مسح الشمال على اليمين : أي بالشمال على اليمين
المعنى الإجمالي
جعل الله لابن آدم عنصرين هما أصلاه اللذان خلق منهما وهما التراب والماء ثم جعل طهارته من الأحداث والأنجاس بهما ورتبهما فقدم الماء لأنه يجمع بين الطهارتين الحسية والمعنوية وأخر التراب فشرعه عند عدم الماء لأنه شقيقه وأن فيه مادة التطهير المعنوي ثم شرعه في عضوين فقط لأن في تتريب الوجه تعظيماً لله وتذللاً له وانكسار لجلاله وعظمته ثم هو تخفيف من الله وتيسير على عباده من الحرج والمشقة الحاصلين بتتريب جميع الجسم أو جميع الأعضاء لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمار بن ياسر حين أخبره أنه أجنب فتمرغ في الصعيد كتمرغ الدابة ( إنما كان يكفيك أن تقول بيدك هكذا)
فقه الحديث
أولاً : قال ابن حزم في الحديث دليل على ابطال القياس نعم فيه دليل على ابطال هذا القياس الخاص ولا يلزم من ابطال القياس الخاص ابطال القياس العام والله جل وعلا قد ذكر القياس في مواضع من كتابه منها قياس البعث بعد الموت على إحياء الأرض بالخصب بعد موتها بالجدب
__________
(1) عمار بن ياسر العنسي من السابقين الأولين إلى الإسلام عذب في الله هو وأبوه وأمه فماتا تحت العذاب وله فضائل كثيرة قتل يوم صفين وهو مع علي بن أبي طالب ت 4870(1/55)
ثانياً : فيه ذكر صفة التيمم وأنه ضربة واحدة للوجه والكفين وهو مذهب أهل الحديث كافة وأحمد وإسحاق مستدلين بهذا الحديث وهو أصح ما ورد في صفة التيمم وقال مالك والشافعي وأبوحنيفة التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين مستدلين بأحاديث ضعاف مروية عن ابن عمر وأبي ذر والأسلع وبعض روايات حديث عمار في السنن وكلها لا تقوى على معارضة حديث عمار في الصحيحين . قال الحافظ في الفتح لم يصح في صفة التيمم شيء سوى حديث عمار وأبي جهيم وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه والراجح عدم رفعه . انتهى
فالمذهب الأول ارجح لأن دليله أصح والله أعلم
ثالثاً : قال في الحديث فمسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه فقدم اليدين على الوجه إلا أنه بالواو وهي لا تقتضي الترتيب ولكن ورد في رواية للبخاري بلفظ : ثم مسح بهما وجهه بثم المقتضية للترتيب فدل ما ذكر أن الترتيب ليس بواجب والله أعلم .
[40] عن جابر بن عبد الله (1) رضي الله عنهما :أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل, وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي, وأعطيت الشفاعة , وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعث إلى الناس عامة ).متفق عليه
موضوع الحديث : خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومنها التيمم.
المفردات :
خمساً: أي خمس خصال
الرعب: الخوف
مسجد: أي مصلى
مسيرة : أي مسافة
المعنى الإجمالي
__________
(1) جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري السلمي صحابي مشهور غزا تسع عشر مرة ومات بالمدينة بعد السبعين وهو ابن أربع وتسعين سنة ت 879(1/56)
خص الله عز وجل نبينا - صلى الله عليه وسلم - بخصائص فضله بها على سائر الأنبياء منها أن الله عز وجل ينزل الرعب في قلوب أعدائه وإن كانوا في البعد عنه مسيرة شهر وجعل جميع الأرض له ولأمته مسجداً لصلاتهم وآلة طهارة يتطهرون منها عند عدم الماء فإذا حانت الصلاة على عبد من عباد الله في أي أرض من أرض الله فعنده مسجده وطهوره وأحل له ولأمته الغنائم المغنومة من الكفار وكانت حراماً على الأمم السابقة وأعطاه الشفاعة في فصل القضاء بين العباد في الموقف والشفاعة في استفتاح باب الجنة والشفاعة في تخفيف العذاب عن أبي طالب وأرسله إلى جميع الجن والإنس
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث أن هذه الخصال الخمس من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس الحصر بمراد إذ قد أوصلها الحافظ في الفتح إلى سبع عشرة وأوصلها بعضهم إلى ستين وقد نظمت ما ذكره الحافظ في أحد عشر بيتاً هي
خص النبي بخصال كان عدتها ... سبع أتت بعد عشر منه فاعتبر
تعميم بعثته للعالمين كذا ... والرعب من بعد شهر للعدو دري
والأرض كانت له طهراً لأمته ... ومسجداً لمصل جاء في الخبر
ثم الغنائم حلت وهي قد منعت ... ويوم حشر شفيعاً سيد البشر
والختم كان به الرسل أجمعهم ... جوامع القول أعطي الفصل في الخبر
وكوثر ولواء الحمد خص به ... ... والرسل تحت لواء السيد المضر
شيطانه خص بالإسلام منقبة ... ... وغفر ذنب له ماض ومؤتخر
وعفو نسياننا قد جاء مع خطيء ... ورفع أصر أتى في محكم الذكر
وفضل أمته قد جاء مكرمة ... ... عمن مضى غيرهم في سابق العصر
كذاك أعطي كنوز الأرض يفتحها ... وصف أمته كالعالم الطهر
كذاك رؤيته المأموم مقتدياً ... ... من خلفه ثم معراج به وسري
ثانياً : جاء في رواية ( مسيرة شهرين ) وهي تخالف هذه الرواية وفسرها الراوي بأنها شهر أمامه وشهر خلفه(1/57)
ثالثاً : هل المقصود بسياق الحديث هنا : أن الأرض طهور لمن عدم عليه الماء أو قل وهل الطهور جميع أجزاء الأرض من تراب ومعدن وحجر وغيره أو التراب وحده ؟ قال بالأول مالك وأبو حنيفة مستدلين بقوله تعالى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } (النساء:43) فقالوا كل ما صعد على الأرض يسمى صعيداً فيحل التيمم به . وقال بالثاني الشافعي وأحمد مستدلين برواية مسلم عن حذيفة ( وجعلت تربتها لنا طهوراً ) وفي الاستدلال بها نزاع كبير في المطولات إلا أنه يتأيد بأمرين أحدهما أن التفرقة في اللفظ دالة على التفرقة في الحكم فإنه قال ( جعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ) فعلق حكم المسجدية على الأرض وعلق حكم الطهورية على التربة ولوكان غير التراب يجزيء لعطفه عليه .
ثانيهما : أنه لما جاء بمن التبعيضية دل على أن الممسوح به يتبعض ولا يتبعض من أجزاء الأرض إلا التراب فدل على أنه المقصود
رابعاً : استدل بقوله ( فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل ) أن من لم يجد ماء ولا تراباً صلى على الحال التي تمكنه ويشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم - ( ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ) وقوله تعالى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (التغابن:16)
خامساً : في قوله ( وأحلت لي المغانم ) دليل أنها لم تحل للأنبياء قبله مع أن الجهاد وجب عليهم وجاهدوا ويذكر أنهم كانوا يجمعونها فتنزل نار من السماء فتأخذها والله أعلم
سادساً : أل في قوله ( الشفاعة ) للعهد ومعنى ذلك وأعطيت الشفاعة المعهودة عندكم المعروفة أنها من خصائصي وهي الشفاعة في إراحة الناس من الموقف بفصل القضاء وهي المقام المحمود والشفاعة في استفتاح باب الجنة والشفاعة في تخفيف العذاب عن أبي طالب بإخراجه من غمرة النار إلى ضحضاح منها والله أعلم(1/58)
سابعاً : في قوله ( وبعثت إلى الناس عامة ) أن الرسالة إلى عموم البشر لم تكن لأحد من الأنبياء قبله قال تعالى { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } (لأعراف:158) وقال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (سبأ:28) والله أعلم .
باب الحيض
الحيض :هو سيلان الدم من المرأة من موضع مخصوص في أوقات معلومة والاستحاضة : هي جريان الدم من المرأة من موضع مخصوص في أوقات غير معلومة
[41] عن عائشة رضي الله عنها : أن فاطمة بنت أبي حبيش (1) رضي الله عنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت إني استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال ( لا إنما ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي ) وفي رواية ( وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فيها فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي ) متفق عليه
موضوع الحديث : الاستحاضة ومتى يجب فيها ترك الصلاة والصوم
المفردات
فلا أطهر : كناية عن عدم انقطاع الدم وهو طهر لغوي
أن ذلك عرق : بكسر العين ويسمى العاذل أي انقطع
أقبلت : أي جاءت ويعرف إقبال الحيضة وإدبارها بأحد المعرفات الثلاث الآتية والله أعلم
المعنى الإجمالي
استفتت فاطمة بنت أبي حبيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حكم الاستحاضة هل يلزم فيها ترك الصلاة كالحيض أم لا فأفتاها بوجوب الصلاة عليها في دور الطهر الذي كان يعتادها في أيام الصحة ووجوب ترك الصلاة عليها في دور الحيض الذي كان يعتادها في أيام الصحة
فقه الحديث
__________
(1) فاطمة بنت حبيش بمهملة وموحدة مع التصغير واسمه قيس بن المطلب الأسدية صحابية اها حديث في الاستحاضة ت 8750(1/59)
اعلم أن مسألة المستحاضة من عويص مسائل الفقه ومشكلاته وقد أطال الفقهاء فيها الكلام وأكثروا الفرضيات النادرة الوقوع وأنا مبين أصول هذه المسألة وما قام عليه الدليل منها حسب استطاعتي والله المعين فأقول :
أولاً : أن المستحاضة توافق الطاهر في أربعة أمور ثلاثة متفق عليها وهي : الصلاة والصوم والاعتكاف بشرط أن تضع المستحاضة تحتها إناء لما سقط من الدم كما روى ذلك البخاري عن عائشة . ويلحق بالاعتكاف الطواف بجامع المكث والرابع : مختلف فيه وهو الجماع فأجازه الجمهور وهو رواية عن أحمد في الرواية المشهورة عنه : لا يأتيها إلا أن يخاف العنت
وقد روى أبو داود بسند رجاله كلهم ثقات عن عكرمة قال : كانت أم حبيبة تستحاض فكان زوجها يغشاها . وإعراض أحمد عن المعلى لكونه ينظر في الرأي لا يقدح في عدالته وأخرج أبو داود أيضاً عن عكرمة عن حمنة مثله بسند صالح .
فلذا يترجح مذهب الجمهور وإذا حلت لها الصلاة والصوم والاعتكاف فالوطء من باب أولى والله أعلم
ثانياً : وتخالفها في ثلاثة أمور :
أحدها : الوضوء لكل صلاة وهو مذهب الجمهور لما أخرجه البخاري من رواية أبي معاوية الضرير ( ثم توضئي لكل صلاة ) وقد تابعه كما قال ابن حجر حماد بن زيد وحماد بن سلمة ويحيى بن سليم
والثاني : أنها لا تتوضأ إلا بعد دخول الوقت
والثالث : أنها تستنجي قبل الوضوء ويستحب لها أن تحشو فرجها بقطنة وأن تستثفر
ثالثاً : يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - ( إنما ذلك عرق ) أن الاستحاضة مرض وأن من غلبه الدم من جرح أو انبثاق عرق أو كان به سلس يصلي كيفما استطاع ويعفى عما خرج منه في أوان الصلاة(1/60)
رابعاً : يؤخذ من وله - صلى الله عليه وسلم - ( ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ) إرجاع المعتادة إلى عادتها السابقة وهو مذهب أبي حنيفة وقال مالك والشافعي وأحمد تعمل بالتمييز إن كانت من أهل التمييز وحجتهم الرواية الأخرى في هذا الحديث وهي قوله - صلى الله عليه وسلم - ( وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ) لأن هذه الرواية محتملة لأن يكون المعرف بإقبال الدم وإدباره هو التمييز بالصفة واستدل لهم أيضاً بما روى أبو داود والنسائي عن فاطمة بنت أبي حبيش مرفوعاً ( إن دم الحيض أسود يعرف ) بكسر الراء أي تكون له رائحة كريهة في رواية ( يعرف ) بفتح الراء أي يفهم لكنه من رواية عدي بن ثابت عن أبيه عن جده وقد ضعف أبو حاتم هذا الحديث بجهالة جد عدي قاله الشوكاني . قلت : رأيت الحديث عند أبي داود من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش إلا أن في سنده محمد بن عمرو وقد أخرج له البخاري ومسلم في الاستشهاد ومن هنا يعلم أن للحديث أصل (1)
__________
(1) قلت هذا هو الصواب لكن ما قاله الشوكاني وهم تبع فيه الصنعاني في سبل السلام فإن الحديث الذي فيه عدي بن ثابت .. عن جده هو حديث آخر غير هذا كما هو ظاهر . وأبو حاتم إنما أعل حديث فاطمة بتفرد محمد بن عمرو .. وهو حسن الحديث ... فالأولى خلاف ما قاله الشوكاني من التعليل . (( الألباني )).(1/61)
أما من ليست لها عادة ولا هي من أهل التمييز فهي تعمل على العادة الغالبة في النساء لحديث حمنة بنت جحش ( تحيضي ستاً أو سبعاً في علم الله كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن ) رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح ثم نقل عن الإمامين في هذا الشأن وهما محمد بن إسماعيل البخاري وأحمد بن حنبل مثل قوله سواء وترك بعضهم هذا الحديث من أجل عبدالله بن محمد بن عقيل لأنه مختلف في الاحتجاج به وقال به أحمد فيمن ليست لها عادة ولا هي من أهل التمييز
خامساً : يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - ( ثم اغتسلي وصلي ) أن المستحاضة لا يجب عليها إلا غسل واحد وفي ذلك خلاف سأبينه في الحديث الآتي إن شاء الله وهو الموفق والمعين وبه الثقة .
[42] عن عائشة رضي الله عنها : أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة رواه الجماعة إلا أحمد
موضوع الحديث : الغسل من الاستحاضة
المفردات
أم حبيبة : هي بنت جحش بن رئاب الأسدي أخت عبدالله بن جحش وبنات جحش ثلاث زينب أم المؤمنين وأم حبيبة وكانت تحت عبدالرحمن بن عوف وحمنة وكانت تحت طلحة بن عبيدالله وكن كلهن مستحاضات
المعنى الإجمالي
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة حين سألته عن ما يلزمها في استحاضتها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة إما لأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلق ففهمت من إطلاقه أنه لكل صلاة أو أن ذلك تطوعاً منها
فقه الحديث(1/62)
أولاً : يؤخذ من قول عائشة فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة أن الاغتسال لكل صلاة كان اجتهاداً من أم حبيبة لم يأمرها به النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا رواية الإثبات من أصحاب الزهري كالليث بن سعد وابن أبي ذئب ويونس وعمرو بن الحارث ومعمر والأوزاعي وإبراهيم بن سعد وابن عيينة . وخالفهم محمد بن إسحاق وسليمان بن كثير فرووا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالغسل لكل صلاة ومع هذا فالواجب أن نرجع إلى الترجيح ومعلوم أن من تقدم ذكرهم أعلى فضلاً وأكثر إتقاناً من ابن إسحاق وسليمان بن كثير إلا أن الأمر بالاغتسال قد روي من طريق أخرى يظهر من صنيع الحافظ في الفتح أنه أثبتها وقد بحثت عن رجال سندها فوجدتهم كلهم ثقات ومع فرض صحتها فالجمع حاصل بحمل الأمر بالغسل على الندب وحمل رواية الصحيحين على الوجوب وأن أم حبيبة فعلت المندوب وهو ظاهر حديث حمنة المتقدم ذكره في شرح الحديث السابق حيث قال : ( سآمرك بأمرين أيها فعلت أجزأ عنك إلى أن قال فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر وتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعاً ) الحديث . فإنه أباح لها أحد الأمرين وهو الإجتزاء بالغسل الأول أو الجمع بين فريضتين بغسل واحد وأخبر بعد ذلك أنه أعجب الأمرين إليه - صلى الله عليه وسلم - وهذا مذهب الجمهور أنه لا يجب عليها الغسل إلا عند الطهر من الحيض وقال جماعة بوجوبه وهو ضعيف لما عرفت والله أعلم .
[43] عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد كلنا جنب وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إليّ وهو معتكف فأغسله وأنا حائض ) . متفق عليه
موضوع الحديث : حكم تطهر الرجل مع امرأته ومباشرته لها وخدمتها إياه وهي حائض
المفردات
أتزر : بتشديد التاء المثناة بعد الهمزة وأصله أأتزر بهمزة ساكنة بعد المفتوحة على وزن أفتعل
المراد بالمباشرة هنا : مساس البشرة(1/63)
المعنى الإجمالي
تخبر عائشة رضي الله عنها بما كانت تفعله مع زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمره لتبين للناس جواز هذه الأمور الثلاثة :
أولاً : أفادت أنها كانت تغتسل معه من الجنابة من إناء واحد تختلف أيديهما فيه في وقت واحد
ثانياً : أنها كانت إذا أراد ملاعبتها ومباشرتها وهي حائض تشد عليها إزاراً بأمره فيباشرها .
ثالثاً : أنه كان يخرج رأسه إليها من نافذة المسجد فتغسله وهي حائض لا يمنعها الحيض من خدمته - صلى الله عليه وسلم - .
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل على جواز اغتسال الرجل مع امرأته من إناء واحد في وقت واحد
ثانياً : فيه دليل على جواز نظر الرجل إلى فرج امرأته والمرأة إلى فرج زوجها
ثالثاً : قد يقال أن في الحديث دليلاً على جواز تطهر الرجل بفضل المرأة لأن اغترافه لا بد أن يعقب اغترافها فيصدق عليه أنه تطهر بفضلها . وعلى هذا فلا بد أن يحمل النهي الوارد في السنن على الكراهة
رابعاً : يؤخذ من قولها وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض . جواز مباشرة الحائض .وقد اتفق العلماء على جواز المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة واختلفوا فيما بين السرة والركبة على ثلاثة مذاهب هي ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعي أحدهما : المنع وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجماعة من السلف . والثاني : الجواز وهو مذهب أحمد وإسحاق وداود الظاهري . والثالث : التفصيل بقوة الشهوة وضعفها وقوة الورع وضعفه والذي تدل عليه السنة كحديث ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) رواه مسلم وحديث ( لك ما دون الإزار ) الجواز مطلقاً في غير الفرج وبشرط وجود حائل فيما قرب من الفرج والله أعلم
خامساً : فيه جواز استخدام الرجل امرأته وهي حائض
سادساً : يؤخذ منه أن خروج بعض جسد المعتكف لا يفسد اعتكافه قال ابن دقيق العيد ويقاس عليه من حلف لا يخرج من بيته فخرج منه بعض جسده أنه لا يحنث والله أعلم .
[(1/64)
44] عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكئ في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض .
موضوع الحديث : حكم قراءة القرآن للحائض
المفردات
يتكئ : أصل الاتكاء التحامل على الشيء وقد ورد في رواية للبخاري ( ورأسه في حجري ) قال في الفتح : فعل هذا المراد بالاتكاء وضع رأسه في حجرها والحجر قد تقدم تفسيره .
المعنى الإجمالي
شرع الله عز وجل أن لا تقرأ الحائض القرآن تنزيهاً لكلامه وتكريماً له لذلك أخبرت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن وهو متكئ في حجرها ولا تكون لهذا الخبر فائدة إلا إذا كان معلوماً عند السامع تحريم قراءة القرآن على الحائض إذ لو حلت لها القرءة لكان من باب أولى أن تحل لمن في حجرها .
فقه الحديث(1/65)
أولاً : في الحديث دليل على تحريم قراءة القرآن على الحائض قال ابن دقيق العيد رحمه الله وفيه إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن لأن قولها فيقرأ القرآن إنما يحسن التنصيص عليه إذا كان ثمة ما يوهم منه ولو كانت قراءة القرآن للحائض جائزة لكان هذا الوهم ممتنعاً والمنع هو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وابن المبارك والثوري عملاً بهذا المفهوم وبحديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ) أخرجه الترمذي واستغربه لكن حكى أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي لإسماعيل بن عياش متابعة من طريق عبدالملك بن مسلمة عن عروة بن عبدالرحمن عن نافع وفي الاحتجاج بعبد الملك خلاف (1) لكن تعتضد كل من الروايتين بالأخرى أما مالك فالمشهور عنه الجواز والأول أرجح لموافقته الدليل . والله أعلم
ثانياً : يؤخذ منه جواز قراءة القرآن في حجر الحائض
ثالثاً : فيه جواز الاستناد إلى الحائض وتوسد فخذيها
رابعاً : فيه جواز القراءة للمضطجع والله أعلم .
[
__________
(1) قلت : لا نعلم خلافاً في أن عبدالملك هذا لا يحتج به وقد ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان وابن يونس ولم يوثقه أحد البتة والدارقطني إنما وثق شيخه عروة بن عبدالرحمن فظن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله أنه أراد عبد الملك هذا وهو وهم منه لا يتسع المجال لبيانه لذلك جزم الحافظ في التلخيص بأنه ضعيف وأشار البيهقي في سننه إلى حديثه هذا وقال وليس بصحيح ثم إن الحديث ليس فيه ذكر الحائض الذي هو محل الشاهد فالمتابعة قاصرة غير تامة وعليه فلا اعتضاد إلا في الجنب لو جاز الاعتضاد بالمتفق على ضعفه . (( الألباني ))(1/66)
45] عن معاذة رضي الله عنها قالت : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت أحرورية أنت ؟ فقلت لست بحرورية ولكني أسأل . فقالت كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة متفق عليه
موضوع الحديث : وجوب قضاء الصوم الفائت بالحيض وقت الأداء وعدم وجوب قضاء الصلاة
المفردات
أحرورية : نسبة إلى حروراء موضع قرب الكوفة نزل به أول الخوارج فسموا باسمه
المعنى الإجمالي
سألت معاذة رضي الله عنها بصيغة تشعر بالاعتراض على الشرع ويفهم منه النقد لأحكامه لذلك أعرضت عائشة عن الجواب وألقت عليها سؤالاً آخر ( أحرورية أنت ) لأنهم الذين اشتهر عنهم هذا المذهب ولما علمت أنها مستفيدة أفادتها بأنهن كن يؤمرن بقضاء الصوم ولا يؤمؤن بقضاء الصلاة وكان في هذا إشارة منها إلى أن موقف المكلف الطاعة بدون بحث عن العلل في الأوامر والنواهي
فقه الحديث
في الحديث دليل على وجوب قضاء الصوم الذي يفوت بالحيض في وقت أدائه وعدم مشروعية قضاء الصلاة لأن في شرع قضائها مشقة وحرجاً وقد أزال الله المشقة والحرج عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وامتن عليهم بذلك حيث قال ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) وهذا مجمع عليه ممن يعتد به ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج ولا يعتد بخلافهم حكى الإجماع الشافعي والنووي وابن المنذر وغيرهم والله الموفق والمعين والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله له الفضل والمن بيده الخير إنه على كل شيء قدير .
كتاب الصلاة
الصلاة في اللغة : الدعاء سميت باسمه لاشتمالها عليه وفي الشرع : هي الأفعال والأقوال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم .
وهي الصلة بين العبد وربه وبها يفرق بين الكافر والمسلم وبها تجب طاعة الولاة لأنها عمود الإسلام وأعظم أركانه بعد التوحيد
[(1/67)
46] عن أبي عمرو الشيباني واسمه سعد بن إياس قال حدثني صاحب هذه الدار وأشار بيده إلى دار عبدالله بن مسعود (1) رضي الله عنه قال سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) قلت : ثم أي ؟ قال ( بر الوالدين ) قلت : ثم أي ؟ قال ( الجهاد في سبيل الله ) قال : حدثني بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو استزدته لزادني . متفق عليه
موضوع الحديث : المفاضلة بين الأعمال
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل الأعمال هذه الثلاث الخصال وأنها مرتبة في الفضل على هذا الترتيب
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل على أن أفضل الأعمال الصلاة على وقتها لكن يعارضه أحاديث منها ( ألا أخبركم بأفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ذكر الله ) ومنها حديث أبي هريرة عند مسلم : سئل رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( إيمان بالله ) قال : ثم ماذا ؟ قال (الجهاد في سبيل الله قال ثم ماذا ؟ قال: (حج مبرور ) في أحاديث أخر .
وقد سلك العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث مسالك أحسنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاطب كل إنسان بما يناسب حاله ويرى فيه قوة عليه فمن كان فيه قوة على الحفظ مثلاً كان أفضل الأعمال في حقه تعلم القرآن وتعليمه على حديث ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) ومن كان عنده مال كان أفضل الأعمال في حقه الصدقة على حديث عبدالله بن عمرو : أي الإسلام خير ؟ قال : ( أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) وهكذا وهذا من حكمة الشارع
__________
(1) عبدالله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي أبو عبدالرحمن من السابقين الأولين هاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة مناقبه جمة أمره عمر على الكوفة توفي سنة 32 وكان من أقرأ الصحابة وكبار علمائهم ت 3638(1/68)
وقد يقال : أن المفاضلة بين الأعمال انما تكون بحسب الداعي فما كانت الحاجة إليه أعظم كان أفضل ففي المجاعة مثلاً تكون الصدقة أفصل الأعمال وحين يسود الجهل يكون التعلم والتعليم أفضل الأعمال
وقد يقال أيضاً : أن التفضيل يكون بالنسبة للعضو المتصف بالعمل فمثلاً الإيمان بالله أفضل أعمال القلب وذكر الله أفضل أعمال اللسان القاصرةوالتعلم والتعليم أفضل أعمال اللسان المتعدية والصلاة أفضل الأعمال المشتركة بين جميع الجوارح والصدقة أفضل أعمال المال وهكذا .
ثانياً : رواية الصحيحين ( الصلاة على وقتها ) وفي رواية ( لوقتها ) وعلى هذا اتفق أصحاب شعبة إلا علي بن حفص فروى ( الصلاة في أول وقتها ) أخرج حديثه الحاكم والبيهقي والدارقطني وقال ما أحسبه حفظه لأنه كبر وتغير حفظه وانفرد المعمري عن أبي موسى محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة فرواه عنه بهذا اللفظ وسائر الرواة رووا عنه كرواية الصحيحين وتابعهما على ذلك عثمان بن عمر عند ابن خزيمة في صحيحه فرواه عن مالك بن مغول عن الوليد بن العيزار شيخ شعبة بهذا اللفظ والمحفوظ عن مالك كرواية الجماعة . انتهى نقلاً عن الفتح بتصرف
قلت : عثمان بن عمر بن فارس العبدي نزيل البصرة روى له الجماعة وقال في الخلاصة وثقه ابن معين فتقبل زيادته مع أن المحفوظ لا يخالفها .
وقد وافقه عليها علي بن حفص وهو صدوق أخرج له مسلم وقد صحح الحديث من طريق عثمان بن عمر الحاكم ووافقه الذهبي وراه الحاكم أيضاً من طريق أخرى نقلها أحمد شاكر وصححها فعلم من هذا أن هذه الزيادة صحيحة والله أعلم .
ثالثاً : قوله ( وبر الوالدين ) البر اسداء المعروف إليهما وخفض الجناح لهما مع ترك أذيتهما لأن حقهما آكد الحقوق عليك بعد حق الله عز وجل لحنوهما عليك في الصغر وشفقتهما بك وبذل مهجهما فيما يصلحك والله الموفق(1/69)
رابعاً : (الجهاد في سبيل الله ) وهو بذل العبد جهده في كل ما من شأنه رفع الدين وإعلاء كلمة الله وإعزاز الحق وأهل الحق وإذلال الباطل وأهل الباطل ويعم الجهاد بالسيف وما في معناه من الآلات الحربية الحديثة والجهاد باللسان كالمواعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والتعلم والتعليم للعلوم الدينية والجهاد بالقلم لتبيين الحق والدفاع عنه والتحذير من الباطل إلى غير ذلك والله أعلم
والجهاد بالسيف يخاطب به الحكام ويجب على الناس إجابتهم والجهاد معهم والله أعلم
[47] عن عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات . متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس . – قال : المروط : أكسية معلمة تكون من خز وتكون من صوف . متلفعات . ملتحفات . الغلس : اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل . متفق عليه
موضوع الحديث : التغليس بالصبح في أول وقتها
المعنى الإجمالي
تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح في أول وقتها وعلامة ذلك أن المؤمنات يصلين معه ثم ينصرفن إلى بيوتهن من المسجد والظلمة باقية مع أنه كان عادته في الصبح التطويل
فقه الحديث
في الحديث دليل لمن قال التغليس بالصبح في أول وقتها أفضل وهم الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة . وخالفهم أبو حنيفة فقال الاسفار بها أفضل مستدلاً بحديث ( أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ) أخرجه أصحاب السنن وأحمد وصححه الترمذي وابن حبان وقد اختلف العلماء في العمل بهذين الحديثين فسلك بعضهم مسلك الترجيح ورجح أحاديث التغليس
أولاً : لأنها عن جماعة من الصحابة(1/70)
ثانياً : لأنها مروية في الصحيحين وسلك قوم مسلك الجمع فحملوا حديث الاسفار على التبين حتى يتضح الفجر إذا كان ثم لبس كأن يكون في آخر الليل قمر وذلك في آخر الشهر وحملوا أحاديث التغليس على التعجيل بها بعد التبين في أول وقتها وهذا محكي عن الشافعي رحمه الله وجمع ابن القيم رحمه الله بينهما بأن يدخل في الصلاة مبكراً وينصرف منها مسفراً وذلك بأن يطيل القراءة (1) والله أعلم .
[48] عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت والعشاء أحياناً وأحياناً إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطأوا أخر والصبح كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها بغلس متفق عليه .
موضوع الحديث : بيان أوقات الصلاة وكيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها
المفردات
الهاجرة : هي اشتداد الحر في نصف النهار قيل سميت بذلك اشتقاقاً من الهجر الذي هو الترك لأن الناس يتركون التصرف حينئذ ويقيلون أما الغلس فقد تقدم
المعنى الإجمالي
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصلوات في أوائل أوقاتها إلا العشاء فإنه كان يعجلها أحياناً ويؤخرها أحياناً إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطأوا أخر
فقه الحديث
في الحديث خمس مسائل
__________
(1) قلت : وهذا الجمع هو الصواب بدليل أن الحديث عند ابن حبان ( 263) وارد بلفظ أصبحوا بالصبح فإنكم كلما أصبحتم بالصبح كان أعظم لأجوركم ولوضوح هذا الجمع لم يسع الإمام الطحاوي الحنفي إلا أن يقول به في كتابه معاني الآثار . (( الألباني))(1/71)
الأولى : في قوله ( كان يصلي الظهر بالهاجرة ) وظاهره أنه كان يقدمها في أول وقتها لكن يعارضه الأمر بالإبراد والجمع بينهما أن يحملا على اختلاف الحالات وقد دل على ذلك حديث رواه النسائي عن أنس رضي الله عنه بلفظ : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الحر أبرد وإذا كان البرد عجل وذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم ( باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة ) قال الحافظ : وصله المؤلف في الأدب المفرد والاسماعيلي والبيهقي انتهى . لكن لم يذكر الحافظ درجة الحديث ولعله اكتفى بما علم من طريقة البخاري أن ما علقه بصيغة الجزم ولم يسنده في الصحيح قد صح عنده لكن على غير شرطه . وقد بحثت عنه في الأدب المفرد بكل جهد فلم أجده فالظاهر وهم ابن حجر في عزوه إلى الأدب المفرد اللهم إلا أن تكون النسخة الموجودة بأيدينا ناقصة عن النسخة التي في زمن الحافظ ابن حجر .
أما أول وقت الظهر فهو حين تزول الشمس بالكتاب والسنة والإجماع
وأما آخر وقتها ففيه ثلاثة أقوال
أولهما : أنه ينتهي عند مصير ظل الشيء مثله وهو مذهب الشافعي وأحمد وداود وإسحاق وأبو ثور وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة حجتهم حديث عبدالله بن عمرو عند مسلم حيث قال ووقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر
والثاني : أن ينتهي بمقدار زيادة أربع ركعات بعد مصير ظل كل شيء مثله وهذا الوقت يكون صالحاً لأداء الظهر وأداء العصر وهو مذهب مالك دليله حديث جبريل حيث قال وصلى به الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى به فيه العصر في اليوم الأول
والثالث : وهو أضعفها وهو أن ينتهي عند مصير ظل الشيء مثليه وهي الرواية الثانية عنه
المسألة الثانية : اختلفوا في وقت دخول العصر فقال الجمهور يدخل بمصير ظل الشيء مثله مستدلين بحديث جبريل السابق وقال أبو حنيفة يدخل بمصير ظل الشيء مثليه مستدلاً بحديث القراريط وهو مفهوم فلا يقاوم المنطوقات(1/72)
ثم اختلفوا في خروج وقته الاختياري فقال الجمهور يخرج بمصير ظل الشيء مثليه كما في حديث جبريل : وصلى به العصر في اليوم الثاني عند مصير ظل الشيء مثليه وقال أبو حنيفة وأحمد يخرج بالاصفرار ويدل لصحة قولهما هنا : حديث عبدالله بن عمرو عند مسلم بلفظ ( ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ) وهو متأخر عن حديث جبريل إلا أنه قد روي في ذلك حديث بتوعد من أخرها عمداً هو ما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)
أما وقتها الاضطراري فيبقى إلى مقدار ركعة قبل غروب الشمس لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ) رواه الجماعة ولفظ البخاري ( سجدة ) بدل ركعة
المسألة الثالثة : قوله ( والمغرب إذا وجبت ) يدل أن وقت المغرب يدخل بسقوط الشمس وهو إجماع لكن اختلفوا هل للمغرب وقت موسع أم لا ؟ فقال بالأول أبو حنيفة وأحمد وداود وأبو ثور وهو رواية عن مالك والشافعي وهو الأرجح لحديث عبدالله بن عمرو عند مسلم بلفظ ( ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق ) وقال بالثاني مالك والشافعي في رواية عنهما دليلهم حديث جبريل حيث ذكر فيه أنه صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب في اليوم الأول والثاني في وقت واحد
ويترجح المذهب الأول لتأخر دليله فإن حديثي عبدالله بن عمرو وأبي موسى في قصة السائل وقعت بعد الهجرة وصلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت قبل الهجرة بثلاث سنين . ومما يرجحه ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بطولي الطوليين يعني الأعراف والتسمية أي تعيين الأعراف ليست في رواية الصحيحين وإنما هي من رواية النسائي(1/73)
المسألة الرابعة : قوله ( والعشاء أحياناً وأحياناً إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطأوا أخر ) هذه الجملة تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يراعي الأصلح من تعجيل العشاء في أول وقتها وتأخيرها إلى وقت الفضيلة فإن رآهم اجتمعوا عجل بها خشية المشقة عليهم وإن رآهم أبطأوا أخر ليجتمعوا وليحوزوا الفضيلة .
أما أول وقتها فيدخل بغروب الشفق الأحمر لحديث جبريل : فصلى العشاء حين غاب الشفق وحديثي بريدة وأبي موسى عند مسلم : ثم أمره فأقام العشاء حين وقع الشفق ولفظ ابي موسى حين غاب الشفق .
واختلف العلماء في الشفق المراد هنا . فحمله الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة على الشفق الأحمر وحمله أبو حنيفة على الشفق الأبيض والسبب في ذلك هو الاشتراك في اسم الشفق بين الأحمر والأبيض وقد استدل لمذهب الجمهور بما رواه الدارقطني وابن خزيمة(1) والبيهقي عن ابن عمر مرفوعاً ( الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة ) لكن صحح البيهقي وقفه ومع هذا فهو يصلح دليلاً لأنه مما لا يقال بالاجتهاد بل لا بد أن يكون مرجع ابن عمر في ذلك هو اللغة أوالتوقيف .
__________
(1) عزوه لابن خزيمة بهذا اللفظ عن ابن عمر فيه نظر فإنما أخرجه من حديث ابن عمر والذي عند مسلم في أوقات الصلاة بلفظ ( وقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق ) ولفظ مسلم ( ثور الشفق ) انظر تلخيص الحبير ( 65) . (( الألباني )) .(1/74)
أما آخره فقال الشافعي وأحمد ومالك في رواية عنهم : آخره ثلث الليل وقال أبو حنيفة وهو المشهور عند الشافعية والحنابلة آخره نصف الليل وهو رواية عن مالك وقول لإصحاب أبي حنيفة وهوالأرجح لحديث أنس عند البخاري قال : أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء إلى نصف الليل . وعن أبي سعيد عند أبي داود والنسائي نحوه . وقال داود الظاهري ينتهي بطلوع الفجر مستدلاً بحديث أبي قتادة عند مسلم بلفظ ( إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يأتي وقت الأخرى) وهو مفهوم فلا يقاوم المنطوقات ثم هو كما قال ابن حجر : عمومه مخصوص بالإجماع في الصبح
أما وقته الاضطراري فالجمهور على أنه ينتهي بطلوع الفجر لحديث أبي قتادة المتقدم والله أعلم
المسألة الخامسة : في قوله ( والصبح كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها بغلس ) دليل على تقديمها في أول وقتها وقد تقدم الكلام على ذلك في حديث عائشة أما وقت الصبح فأوله طلوع الفجر الثاني وآخره طلوع الشمس بإجماع إلا خلافاً شاذاً في آخره والله أعلم .
[49] عن أبي المنهال سيار بن سلامة قال دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي (1) فقال له أبي : كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة ؟ قال : كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية ونسيت ما قال في المغرب وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ بالستين إلى المائة . متفق عليه .
موضوع الحديث : بيان الأوقات التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها
المفردات
تدحض : تزول
__________
(1) أبي برزة الأسلمي اسمه نضلة بن عبيد صحابي مشهور بكنيته أسلم قبل الفتح وغزا سبع غزوات ثم نزل البصرة وغزا خراسان ومات سننة خمس وستين على الصحيح ت 7201(1/75)
والشمس حية : أي بيضاء ذات شعاع
ينفتل : أي ينصرف
المعنى الإجمالي
أفاد الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصلوات في أوائل أوقاتها إلا العشاء فإنه كان يحب تأخيرها إلى وقت الفضيلة ويكره أن ينام العبد قبلها أو يسمر بعدها وأنه كان يطيل القراءة في الصبح أكثر من غيرها
فقه الحديث
أما فقه الحديث فقد تقدم في الحديث قبله لكن زاد هذا الحديث بمسائل :
الأولى : أن المستحب في العشاء التأخير وسيأتي مزيد بيان لذلك
الثانية : كراهة النوم قبلها إلا لمن غلب وسيأتي في حديث ابن عباس
الثالثة : قوله ( والحديث بعدها ) ظاهره العموم في كل حديث لكن جاء في السنة ما يدل على تخصيص الحديث مع الضيف ومع الأهل وفي الأمر الديني بالجواز
الرابعة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطول القراءة في صلاة الصبح أكثر من غيرها حتى كان يقرأ في الركعة الواحدة بالستين آية إلى مائة آية وهذا يدل على أنه كان يقوم في أول وقتها والله أعلم .
[50] عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق ( ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ) وفي لفظ لمسلم ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ) ثم صلاها بين المغرب والعشاء .
[51] وله عن عبدالله بن مسعود قال : حبس المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً أو حشى الله أجوافهم وقبورهم ناراً .
موضوع الحديثين : بيان الصلاة الوسطى التي أكد الله عز وجل الأمر بحفظها في الآية
المفردات
الخندق : حفير أي أخدود حفره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه يحمون به المدينة من جيش الأحزاب وذلك في السنة الخامسة من الهجرة(1/76)
الوسطى : هي العصر سميت بذلك لأنها تقع بين فريضتين قبلها وفريضتين بعدها
حشى الله أجوافهم : بمعنى ملأ الله أجوافهم إلا أن الحشو يكون بكثرة وتراكم
ثم صلاها بين المغرب والعشاء : بين ظرف وهو مضاف إلى محذوف مقدر وتقديره إما أن يكون صلاتي المغرب والعشاء أو وقتي المغرب والعشاء
المعنى الإجمالي
لما كانت عقائد المشركين النجسة التي من أجلها عادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبغضوه وقاتلوه في قلوبهم دعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يملأ الله أجوافهم التي كانت تحوي تلك العقائد النجسة وبيوتهم التي كانت موضعاً لأعمالهم الخبيثة الناشئة عن تلك العقائد وقبورهم التي تحوي أجسادهم وجوارحهم التي ظلت طول حياتها تدأب في معصية الله ناراً بما شغلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الفريضة العظيمة النفع
فقه الحديثين
أولاً : في الحديثين دليل أن الصلاة الوسطى هي العصر وفي المسألة اختلاف كثير وأقوال متعددة وأشهرها ثلاثة
أولها : ما أفاده الحديثان وهو أنها صلاة العصر وبه قال الجمهور ومنهم الإمامان أبو حنيفة وأحمد وهو الصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه للأحاديث الصحيحة الصريحة منها هذان الحديثان وهما أصحها ومنها حديث رواه الترمذي من طريق الحسن عن سمرة وصححه ووافقه أحمد شاكر وضعفه قوم بزعمهم أن سماع الحسن من سمرة لم يصح لكن صحح سماعه منه البخاري وعلي بن المديني وإليهما المنتهى في هذا الباب وتبعهما على ذلك الحاكم والترمذي والقاعدة الأصولية ( أن المثبت مقدم على النافي) (1)
__________
(1) هذا كلام جيد لولا أن الحسن البصري معروف بالتدليس فلا بد في مثله من التصريح بالسماع كما هو معروف من علم المصلح ولذلك نجد المحققين من العلماء يعللون بعض الأحاديث المروية من طريق الحسن بعنعنته فانظر مثلاً كلام الحافظ الذي نقله السيوطي في اللالئ المصنوعة 1/389 (( الألباني )) .(1/77)
وقد صح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الصلاة الوسطى هي العصر عزاه أحمد شاكر إلى الحاكم في المستدرك ومجمع الزوائد للهيثمي والطبراني في الكبير قال ورجاله موثقون وذكره ابن حجر في الإصابة في ترجمة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة
القول الثاني : أنها الصبح حكاه الترمذي عن ابن عباس وابن عمر وبه يقول الشافعي ومالك وهو مرجوح لما تقدم
القول الثالث : أنها الظهر وهو مروي عن زيد بن ثابت وابنه أسامة وهو مرجوح أيضاً
ثانياً : في قوله ( ثم صلاها بين المغرب والعشاء ) احتمال هل المراد بين وقتي المغرب والعشاء أو بين صلاتي المغرب والعشاء ؟ ومع تقدير صحة الاحتمال الثاني يكون في الحديث دليل على عدم وجوب الترتيب في قضاء الفوائت والله أعلم .
[52] عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعشاء فخرج عمر فقال : يا رسول الله رقد النساء والصبيان فخرج رأسه يقطر يقول : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة )
موضوع الحديث : أفضلية وقت العشاء وأنها في آخره بخلاف سائر الأوقات والله أعلم
المفردات
أعتم : دخل في العتمة
المعنى الإجمالي
أخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر العشاء حتى دخل في العتمة فناداه عمر الصلاة يا رسول الله فخرج وأخبر أنه وقتها الأفضل ولولا خشية المشقة على أمته لأمرهم بذلك أمراً متحتماً
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل على جواز تسمية العشاء بالعتمة ويعارضه حديث ابن عمر ( لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا وإنها العشاء وأنهم يعتمون بالإبل ... .) الحديث وهو صحيح وفي معنى حديث ابن عباس حديث أبي هريرة عند البخاري بلفظ ( ولو يعلمون ما في العتمة والصبح .. ) الحديث والجمع بينهما أن يحمل النهي على التسمية الغالبة حتى تكون أكثر شيوعاً من اسم العشاء أما النادر فيجوز بدليل هذين الحديثين والله أعلم(1/78)
ثانياً : هذا الحديث مخصص للعشاء من بين سائر الأوقات بأفضلية آخر وقته فهو مخصص لعموم حديث ابن مسعود المتقدم
ثالثاً : في قوله ( نام النساء والصبيان ) دليل أن من غليه النوم قبل العشاء لا يأثم بخلاف من نام مختاراً فإنه يأثم لحديث أبي برزة
رابعاً : فيه أن النوم اليسير لا يكون ناقضاً للوضوء وفي المسألة خلاف
خامساً : قال ابن دقيق العيد رحمه الله فيه دليل على تنبيه الأكابر أما لاحتمال غفلة أو لاستثارة فائدة منهم في التنبيه لقول عمر ( رقد النساء والصبيان ) والله أعلم
[53] عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤا بالعشاء )
[54] وعن ابن عمر نحوه
موضوع الحديث : الأعذار المبيحة للتأخر عن صلاة الجماعة
المفردات
قال في القاموس : العشائ كسماء طعام العشية وقال العشية والعشي آخر النهار الجمع عشايا
ابدؤوا : قدموا
المعنى الإجمالي
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان جائعاً جوعاً لا يتمكن معه من استجماع قلبه في الصلاة والخشوع فيها أن يقدم الطعام على صلاة الجماعة
فقه الحديث
أولاً : حمل الجمهور هذا الأمر على الندب لكن اختلفوا في الحالة المبيحة لذلك فمنهم من قيده بما إذا كان محتاجاً إلى الطعام وهم الشافعية ومنهم من لم يقيده وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق وعند المالكية تفصيل يرده حديث ابن عمر عند البخاري بلفظ ( إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه ) ولأنس نحوه . أما ابن حزم فإنه جعل الأمر للوجوب وأبطل صلاة من قدم الصلاة على العشاء حكى ذلك عنه ابن حجر
ثانياً : خص ابن دقيق العيد هذا الحكم بالمغرب دون سائر الصلوات (أ) لمفهوم العشاء (ب) لحديث أنس عند البخاري بلفظ ( إذا قدم العشاء فابدؤا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب )(1/79)
قلت : أما العشاء فليس فيه دليل على ذلك لأنه يختص بطعام آخر النهار يسمى عشاء أيضاً لما تقدم في المفردات وقد ثبت في البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة ) والطعام يعم طعام الليل وطعام النهار
وقال في الفتح قال الفاكهاني ينبغي حمله على العموم نظراً لعموم العلة والتشويش المفضي إلى ترك الخشوع وذكر المغرب لا يقتضي حصراً فيها لأن الجائع غير الصائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصائم انتهى . وقد وافقه الحافظ على ذلك وهو الأولى لعموم العلة والله أعلم
ثالثاً : استدل به بعضهم على أن للمغرب وقتاً موسعاً وقد تقدم والله الموفق
[55] ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان )
موضوع الحديث : الخشوع في الصلاة وإزالة ما ينافيه ولو بالتأخر عن الجماعة أو عن أول الوقت
المفردات
لا : نافية للجنس صلاة اسمها وهو المنفي خبرها محذوف تقديره لا صلاة كاملة أو لا صلاة مجزئة
يدافعه : من المدافعة وهي الاشتراك في الدفع
المعنى الإجمالي
نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة وقت حضور الطعام والعبد مشتاق إليه وحين يدافعه الأخبثان للخروج أي البول والغائط فإن النفس حينئذ تكون مشغولة فلا يحصل خشوع
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل على كراهة الصلاة عند حضور الطعام وقيده كثير من العلماء بوجود التوقان كما تقدم
ثانياً : فيه دليل على عموم هذا الحكم في جميع الصلوات لعموم النفي وقد تقدم
ثالثاً : فيه دليل على كراهة الصلاة مع وجود المدافعة لأن ذلك مذهب للخشوع ومؤد إلى اشتغال القلب بالمدافعة عن الصلاة
رابعاً : يدافعه من مادة دافع الذي هو للمشاركة ففيه دليل على أن الكراهة مشروطة بالاشتراك في الدفع بين الخبث والشخص والله أعلم .
[(1/80)
56] عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب وما في معناه من الأحاديث رواه البخاري
[57] عن أبي سعيد الخدري (1) رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس )
موضوع الحديثين : كراهة الصلاة عند الشروق والغروب
المفردات
لا : نافية للجنس وهي نفي يتضمن النهي وخبرها محذوف تقديره هنا : لا صلاة جائزة أو صلاة مشروعة
تغيب : أي تغرب
المعنى الإجمالي
من القواعد الشرعية تحريم التشبة بالكفار في عباداتهم وأعيادهم وعاداتهم وأزيائهم ولما كان عباد الشمس من الكفار يسجدون لها عند الطلوع وعند الغروب نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في هذهين الوقتين أما دفعاً للتشبه بهم أو حماية لجانب التوحيد خشية أن تعبد على مرور الزمن
فقه الحديثين
أولاً : في حديث ابن عباس رد على الروافض فيما يدعونه من تفضيل أهل البيت على جميع الصحابة حتى الأكابر ومأخذ ذلك من قول ابن عباس وأرضاهم عندي عمر
ثانياً : قال ابن دقيق العيد : وصيغة النفي إذا دخلت على فعل في ألفاظ صاحب الشرع فالأولى حملها على نفي الفعل الشرعي لا على نفي الفعل الوجودي فيكون قوله : لا صلاة بعد الصبح نفياً للصلاة الشرعية لا الحسية
__________
(1) أبي سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري له ولأبيه صحبة استصغر بأحد ثم شهد ما بعدها روى الكثير من الحديث مات سنة 3 أو 4 أو 65 وقيل سنة 74 .(1/81)
ثالثاً : في الحديثين دليل على منع الصلاة في هذين الوقتين وبذلك قال الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة وقالت الظاهرية بالجواز وهو محكي عن بعض السلف ثم اختلف القائلون بالمنع في هل يستثنى من ذلك شيء أم لا ؟ فقال الشافعي باستثناء الفرائض وما له سبب من النوافل وقال أبو حنيفة يحرم الجميع سوى عصر يومه وقال مالك باستثناء الفرائض فقط وقال أحمد باستثناء الفرائض وركعتي الطواف
ولا شك أن الواجب أن نستثني ما جاءت النصوص باستثنائه وقد جاءت النصوص باستثناء ما يلي :
(أ ) صبح اليوم وعصره لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر )
(ب ) إعادة الصلاة في الجماعة لحديث يزيد بن الأسود عند الثلاثة وأحمد في قصة الرجلين اللذين لم يصليا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح بالخيف من منى فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال ما منعكما أن تصليا معنا ؟ قالا قد صلينا في رحالنا قال : ( إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ) وفي المسألة عن محجن بن الأدرع عند أحمد ومالك والحاكم وابن حبان وأبي ذر عند مسلم وأبي سعيد عند الترمذي وابن حبان والحاكم
(ج) ... عند بيت الله الحرام لما روى الخمسة وابن خزيمة وابن حبان وصححه الترمذي عن جبير بن مطعم مرفوعاً بلفظ ( يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار )
((1/82)
د) ... ركعتي الفجر لحديث قيس بن عمرو وجاء في بعض الروايات قيس بن قهد وجمع بينهما الحافظ في التلخيص أن قهداً لقب عمرو والد قيس كما حكاه العسكري - عند أبي داود والترمذي قال خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقيمت الصلاة فصليت معه ثم انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدني أصلي فقال : ( مهلاً يا قيس أصلاتان معاً ) قال يا رسول الله : إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر . قال : ( فلا إذن ) إلا أن الترمذي قال إسناد هذا الحديث ليس بمتصل . محمد بن إبراهيم لم يسمع من قيس لكن ذكر الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على الترمذي طريقاً أخرى لهذا الحديث عند الحاكم والبيهقي من طريق الربيع بن سليمان قال حدثنا أسد بن موسى قال حدثنا الليث قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي على تصحيحه انتهى .(1/83)
ثم يبقى الكلام على النوافل ذوات السبب كالكسوف وتحية المسجد وسجود التلاوة والشكر وغير ذلك وقد تعارض الأمر بها مع النهي عن الصلاة في هذه الأوقات وكل منهما يدخل في عموم الآخر من وجه فأنا أتوقف عن الحكم في ذلك (1) إلا أن سجود التلاوة والشكر لا يسمى صلاة فأختار جوازه هو وصلاة الجنازة لأنها ليس فيها ركوع ولا سجود وهذا كله ما لم تتضيف للطلوع أو للغروب فإذا تضيفت فأختار منع الجميع سوى صبح اليوم وعصره وفي المسجد الحرام لحديثي عمرو بن عبسه وابن عمر عند مسلم . أما ركعتا الظهر اللتان قضاهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر فقد ثبت أنه نهى المكلفين عن ذلك (2)
رابعاً : قد ثبت النهي عن الصلاة في وقت ثالث عند مسلم من حديث عمرو بن عبسة وعقبة بن عامر رضي الله عنهما فيجب الأخذ به وهو عندما يستقل الرمح بظله أي : وقت استواء الشمس إلى أن تزول . والله أعلم
__________
(1) قلت الذي يبدو لي أن التحية جائزة في وقت النهي لأن عموم الأمر بها أقوى من عموم النهي لأنه لم يطرأ عليه تخصيص بخلاف الآخر والأقوى يخصص الأضعف كما بينه العلماء منهم ابن تيمية رحمه الله .. وأيضاً فقد ثبت الأمر بها وقت الخطبة وهو من موضع النهي عن الصلاة بل والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هو معروف فلأن يؤمر بها في وقت النهي الذي يؤمر فيه بالمعروف أولى إن شاء الله تعالى . (( الألباني )).
(2) كلا لم يثبت ذلك بل ضعفه الأئمة كالبيهقي وابن حزم والعسقلاني وغيرهم . وعلته الانقطاع والاختلاف في متنه وسنده وليس هذا محل بيان ذلك فليراجع المحلى لابن حزم (( والتلخيص )) وأعلام أهل العصر بأحكام ركعتي الفجر . (( الألباني )) .(1/84)
قوله : قال المصنف رحمه الله تعالى وفي الباب عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وسمرة بن جندب وسلمة بن الأكوع وزيد بن ثابت ومعاذ بن عفراء وكعب بن مرة وأبي أمامة الباهلي وعمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنهم أجمعين والصنابحي ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أهـ .
أي في النهي عن الصلاة في الأوقات المذكورة بزيادة الوقت الثالث أحاديث عن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم فهو من قسم المشهور إن لم يكن متواتراً . والله أعلم .
[58] عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش وقال : يارسول الله ما كدت أصلي حتى كادت الشمس تغرب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( والله ما صليتها ) قال فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب . متفق عليه
موضوع الحديث : أهيمة الصلاة والأعذار المبيحة لتأخيرها عن وقتها المحدد
المعنى الإجمالي
كان المشروع في أول الإسلام جواز تأخير الصلاة عند القتال وقد نسخ هذا الحكم وبدل بصلاة الخوف وكان النسخ في السنة السادسة في غزوة عسفان لذلك أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر يوم الخندق سنة خمس حتى غربت الشمس ثم صلاها بعد الغروب مقدمة على المغرب كترتيبها الأصلي .
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل على وجوب الترتيب في قضاء الفوائت لكن عند من يرى أن الأفعال تقتضي الوجوب وبالوجوب قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والزهري والنخعي وربيعة والليث بن سعد وزيد بن علي وذهب الشافعي والهادي والقاسم من أهل البيت إلى عدم الوجوب لكن مذهب الأولين يترجح لأمور :
((1/85)
أحدها ) أن ابن قدامة حكى في المغني أن الإمام أحمد روى حديثاً بسنده إلى أبي جمعة حبيب بن سباع رضي الله عنه – وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الأحزاب صلى المغرب فلما فرغ قال علم أحد منكم أني صليت العصر قالوا : ما صليتها يا رسول الله فأمر بلالاً فأقام فصلى العصر ثم أمره فأقام فأعاد المغرب غير أن في سنده ابن لهيعة وفيه ضعف وإنما سقناه هنا للاستئناس .
( ثانيها ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتب في هذا الحديث الصحيح
( ثالثها ) أن الترتيب هو الفرض الأصلي فلا ينقل عنه إلا ناقل صحيح
وهذا كله مع الذكر
أما في النسيان فيعلق القول بوجوبه على صحة حديث أبي جمعة إلا أنه يستثنى في الذاكر ما إذا كانت الفوائت كثيرة لا يستطيع ترتيبها فهناك يجوز له عدم الترتيب لعدم الاستطاعة عليه وقد قال - صلى الله عليه وسلم - ( ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ) الحديث
ثانياً : فيه مشروعية قضاء الفوائت في جماعة
ثالثاً : فيه جواز سب الكفار
رابعاً : اختلفت الأحاديث في عدد الفوائت المقضية يوم الخندق ففي بعضها العصر فقط وفي بعضها الظهر والعصر وفي بعضها الظهر والعصر والمغرب وجمع بين الأحاديث بالحمل على تعدد القصة لأن أيام هذه الغزوة كانت فوق العشرين .(1/86)
خامساً : ترك الصلاة بعذر القتال إنما كان في أول الإسلام ثم نسخ بصلاة الخوف وهو مذهب الجمهور أنه لا يجوز تأخيرها بعذر القتال وقال قوم بجواز ذلك عند إلتحام الحرب وتهيؤ الفتح منهم الإمام البخاري والأوزاعي ومكحول واحتج البخاري لذلك بهذا الحديث وبما رواه عن أنس معلقاً بلفظ : حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة فلم نصل إلا بعد ارتفاع الشمس فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها لكن بعض الذين لا يرون تأخيرها يقولون يجزؤه التسبيح والتكبير والتحميد إذا تعذر الإيماء ويكون هو صلاته من غير إعادة عليه والله أعلم .
باب فضل صلاة الجماعة ووجوبها
[59] عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ) متفق عليه
موضوع الحديث : المفاضلة بين صلاة المنفرد والصلاة في الجماعة
المفردات
الفذ : هو الفرد
الدرجة : هي المرتبة في العلو
المعنى الإجمالي
يقدر الشارع لكل عمل قدره فيجعل صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفذ أي المنفرد بسبع وعشرين درجة وإنما كان هذا الفضل والتضعيف في صلاة الجماعة بسبب ما تحتوي عليه من الشعائر الإسلامية باجتماع القلوب والأبدان على فعلها ثم الاتباع لقائد واحد يتقدمهم فيها لأن هذه المظاهر من الإسلام بالمكان اللائق به ولما تحويه أيضاً من التمرين على الطاعة بالاتباع والتمرين على التواضع باستواء مقام الشريف والوضيع كما أن فيها إغاظة العدو بإظهار المجامع أمامهم
فقه الحديث(1/87)
أولاً : في الحديث دليل لمن قال بصحة صلاة الفذ وهم الجمهور وخالف في ذلك الظاهرية فقالوا ببطلان صلاة من صلى في بيته بدون عذر مستدلين بحديث ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر ) أخرجه أبو داود من طريق فيها أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي وهو ضعيف وأخرجه ابن حزم في المحلى من طريق سليمان بن حرب عن شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي : وتابع سليمان بن حرب على رفعه هشيم وقراد أبو نوح عند الدارقطني والحاكم وهما ثقتان ورواه غندر وجماعة من أصحاب شعبة موقوفاً على ابن عباس لكن الرفع زيادة علم فيؤخذ به لثقة من رفعه . أهـ . فقد صح الحديث بلا ريب غير أن الجمهور يحملون النفي في هذا الحديث على الكمال لحديث ابن عمر هذا فإن المفاضلة لا تكون إلا بين شيئين كل منهما له أصل في الفضيلة وإنما تكون المفاضلة فيما زاد على الأصل
وممايدل على صحة صلاة المنفرد حديث محجن بن الأدرع الذي تقدم في شرح حديث النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر وحديث يزيد بن الأسود الذي تقدم هناك
ثم اختلفوا في حكم الحضور هل هو فرض عيني وبه قال عطاء والأوزاعي وأحمد بن حنبل وابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر أو فرض كفاية وإليه ذهب جمهور المتقدمين من الشافعية وكثير من الحنفية والمالكية أو سنة مؤكدة وإليه ذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والمؤيد وبعض الشافعية
والذي ترجح لي بعد جمع الأدلة والتأليف بينها : أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان يأثم تاركها بدون عذر وصلاته صحيحة والله أعلم(1/88)
ثانياً : قال في هذا الحديث ( بسبع وعشرين درجة ) وفي حديث أبي هريرة ( خمسة وعشرين ضعفاً ) ولهذا سلك العلماء في توجيه اختلاف العددين مسالك متعددة وكلها تخمينات بلا دليل وأحسن ما قيل في ذلك : أن هذا مما تقصر عنه فهوم البشر وما كان كذلك فالذي يلزمنا فيه التصديق والامتثال وبالله تعالى التوفيق .
[60] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه اللهم اغفر له اللهم ارحمه ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة ) متفق عليه واللفظ للبخاري
موضوع الحديث : المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ وبيان أسباب تفضيل صلاة الجماعة
المفردات
التضعيف : هو أن يزاد على الشيء مثله أو مثليه أو ثلاثة أمثاله إلى غير حصر بشرط أن تكون كل زيادة مثل الأصل
إحسان الوضوء : هو أن تأتي به على الوجه المشروع
الدرجة : هي المرتبة إن كانت في العلو ويقال لضدها في الهبوط دركة
صلاة الملائكة : دعاؤهم للعبد وهو مفسر بقوله : اللهم اغفر له اللهم ارحمه : أي تقول كذا
المعنى الإجمالي
أفاد الحديث أن إحسان الوضوء والخروج إلى المسجد بقصد الصلاة موجب لتكثير الحسنات ووضع السيئات ورفع الدرجات وأن ذلك كائن بقدر خطوات العبد كما أفاد : أن الملائكة تدعو للعبد ما دام في مصلاه بالمغفرة والرحمة وتكتب له الصلاة ما دام ينتظرها وكل هذه الأمور مما جعل صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بهذا الفضل العظيم
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل لمن يرى صحة صلاة الفذ وقد تقدم(1/89)
ثانياً : يؤخذ من الحديث أن صلاة الجماعة لا يترتب عليها هذا الثواب إلا إذا كانت في المسجد وذلك أن هذه الأمور التي جعلها الشارع سبباً في التضعيف لا توجد في صلاة الجماعة في البيت
ثالثاً : أن صلاة الجماعة في البيت لا يتأدى بها المطلوب وهو إظهار الشعار الديني
رابعاً : استدل به من يرى تساوي الجماعات في الفضل لأن الحكم على صلاة الجماعة بأنها تضعف على صلاة الفذ بخمس وعشرين ضعفاً مع اختلاف الجماعات في القلة والكثرة يقتضي أنها متساوية في الفضيلة لكن يرد هذا الاستدلال ما رواه أبو داود عن أبي بن كعب مرفوعاً بلفظ ( وأن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى ) غير أن في إسناد هذا الحديث عبدالله بن نصير وقد قيل أنه لا يعرف لأنه لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي لكن رواه الحاكم من طريق العيزار عنه فارتفعت بذلك عنه جهالة العين وبقيت جهالة الحال وقد ارتفعت أيضاً بتوثيق ابن حبان له (1)
ولهذا صححه ابن السكن والعقيلي والحاكم وهو يقتضي أن الجمع الأكثر أفضل والله أعلم
[61] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق بيوتهم بالنار ) رواه مسلم
__________
(1) قلت الجهالة لا ترتفع بتوثيق ابن حبان وحده لأنه من قاعدته توثيق المجهولين الذين لا يعرف فيهم جرحاً كما بينه ابن عبد الهادي في الصارم المنكي والحافظ في مقدمة اللسان وغيرهما .. نعم الحديث ثابت باعتبار أن له شاهداً عن ثابت بن أشيم عند البزار والطبراني والحاكم بسند قال المنذري لا بأس به . (( الألباني )).(1/90)
موضوع الحديث : صلاة الجماعة وعظم جرم المتخلف عنها
المفردات
حبوا : أي زحفاً على الركب
هممت : من هم بالشيء إذا نواه
حزم : بالضم والكسر جمع حزمة وهو ما جمع في رباط واحد
لقد هممت : اللام جواب لقسم محذوف والهم العزم وقيل دونه
المعنى الإجمالي
أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - خبراً لا شك في صدقه أن صلاتي العشاء والصبح أشد ثقلاً على المنافقين من غيرها من الصلوات لأن استثقال العبادة من أشهر أوصافهم كما قال تعالى { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ } (النساء:142) ولما كانت هاتان الصلاتان متوفرتي الدواعي المثبطة عن الخروج وكانت المراءات فيها منتفية كانت أثقل عليهم لهذا هم النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريقهم عقاباً على عملهم الإجرامي واعتقادهم الفاسد
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل لمن قال بوجوب صلاة الجماعة على الأعيان وهو الراجح إذ لو كانت فرض كفاية لسقط الوجوب على المتخلفين بمن حضرها
ثانياً : فيه عظم جرم المتخلف عن صلاة الجماعة
ثالثاً : فيه جواز التحريق لمن عظم ذنبه كما حرق أبو بكر الفجأة
رابعاً : يؤخذ منه جواز العقاب لمن اعتاد التخلف عن صلاة الجماعة
[62] عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها ) قال فقال بلال بن عبدالله والله لنمنعهن . قال . فأقبل عليه عبدالله فسبه سباً سيئاً ما سمعته سبه مثله قط وقال : أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول والله لنمنعهن . وفي لفظ ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )
موضوع الحديث : جواز خروج النساء لأداء صلاة الجماعة في المساجد ووجوب الأذن لهن إذا أمنت الفتنة
المفردات
استأذنت : أي طلبت منه الإذن
فسبه : السب هو الشتم
قط : اسم للزمن الماضي ولا ينفي به إلا ما مضى
إماء الله : أي جواريه
المعنى الإجمالي(1/91)
أفاد الحديث وجوب إذن الرجل لامرأته إذا استأذنته إلى المسجد وتحريم منعها إذا لم تأت محظوراً يوجب المنع
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل على تحريم منع النساء من المساجد إذا استأذن إليها ووجوب الإذن لهن لكن لوجوب الإذن شروط مستفادة من أحاديث أخر إن توفرت وجب وإلا فلا
(أحدها ) أن لا تمس طيباً لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( وليخرجن وهن تفلات ) أخرجه أبو داود وأحمد من حديث أبي هريرة وله شاهد عند مسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود مرفوعاً ( إذا شهدت احداكن المسجد فلا تمس طيباً ) وذلك أن الطيب سبب الفتنة لأنه يحرك الشهوة ويلتحق به كل ما كان كذلك كاللباس الفاخر والزينة التي تلفت النظر فإن علة منع الطيب موجودة فيهما
( الثاني ) أن تخرج متسترة وهذا الشرط مستفاد من الأمر بالحجاب
( الثالث ) أن يكون بالليل لقوله في بعض روايات هذا الحديث عند مسلم ( إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن ) والقاعدة الأصولية تقضي بحمل المطلق على المقيد فيفيد وجوب افذن بالليل دون النهار
( الرابع ) الأمن من الفتنة
ثانياً : يفهم منه أن المرأة لا يجوز لها الخروج من بيت زوجها إلا بإذنه
ثالثاً : يؤخذ منه زجر المعترض على السنن برأيه
رابعاً : يؤخذ منه تأديب الرجل ولده والمعلم تلميذه إذا رأى أو سمع منه مالا يليق . والله أعلم .
[63] عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد الجمعة وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء
وفي لفظ : فأما المغرب والعشاء والجمعة ففي بيته . وفي لفظ : أن ابن عمر قال حدثتني حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما طلع الفجر وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها
[(1/92)
64] عن عائشة رضي الله عنها قالت : لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه ععلى ركعتي الفجر . وفي لفظ لمسلم : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها
موضوع الحديثين : السنن الرواتب
المفردات
سجدتين : أي ركعتين
تعاهدا : من تعهدت الشيء أي انتبت فعله ولم أتركه
المعنى الإجمالي للحديثين
أفاد الحديثان سنية هذه النوافل قبل الفرائض وبعدها وجملتها اثنتا عشرة ركعة منها ثمان يسن فعلها في البيت وأربع يسن فعلها في المسجد . كما أفاد حديث عائشة شدة محافظته - صلى الله عليه وسلم - على ركعتي الفجر أكثر من غيرها وأفضليتها
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل للجمهور فيما ذهبوا إليه وهو أن للفرائض رواتب تستحب المواظبة عليها وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا توقيت في ذلك حماية للفرائض لكن لا يمنع من تطوع بما شاء وخالفه بعض أتباعه فوافقوا الجمهور
ثانياً : فيه دليل أن الأفضل فعل النوافل الليلية في البيوت نسبه في الفتح إلى مالك والثوري واعترضه بما لا يجدي لأن الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - التشريع إلا ما كان بحكم طبيعة البشر
ثالثاً : هذه النوافل في التأكيد سواء إلا ركعتي الفجر فإنها أكثر ما سائرها لأنها ورد فيها من الحث ما لم يرد في غيرها
وقد قسم بعض الفقهاء التطوع إلى خمسة أقسام :
( الأول ) ما اختلف في وجوبه وسنيته وهو الوتر
( الثاني ) ما ورد الحث عليه أكثر من غيره وهو ركعتا الفجر وصلاة الليل
( الثالث ) ما ورد الترغيب في فعله والمواظبة عليه لكنه دون الأول وهي سائر الرواتب المذكورة هنا
( الرابع ) ما ورد الترغيب في فعله ولم يواظب عليه - صلى الله عليه وسلم - كالصلاة قبل العصر وقبل المغرب وبين العشائين والضحى وعند الزوال
( الخامس ) النفل المطلق وهو ما اندرج تحت عموم الأحاديث الدالة على فضيلة الصلاة . والله أعلم .
باب الأذان والإقامة
[(1/93)
65] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة . متفق عليه.
موضوع الحديث: الأذان وكيفيته.
المفردات
الشفع : هو ضد الوتر وهو كل عدد يقبل التصنيف كإثنين و الأربعة.
والوتر: هو الفرد وهومالا يقبل التصنيف كالواحد والثلاثة.
المعنى الإجمالي
ماكان في محيط الصحابة رضي الله عنهم فترة الرسالة آمر سوى نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فإذا قال أحدهم أمر بكذا لا يفهم منه آمر سواه , ومن ذلك قول أنس أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
فقه الحديث
أولاً : في قوله ( أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ) دليل لمن قال بفرضيتها لأن الأمر بصفة الشيء أمر به وأصرح منه في الدلالة على الوجوب حديث مالك بن الحويرث في الصحيحين قال : أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث إلى أن قال : قال ( ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي (1) فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم )
قال ابن حزم : وروينا بإسناد في غاية الصحة من طريق حمادبن زيد عن أيوب بعني السختياني أن عمرو بن سلمة الجرمي أخبره عن أبيه وكان وافد قومه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له ( صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً ) وفي حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي ( واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً ) فلهذا قال أهل الظاهر وأحمد ومالك وعطاء ومجاهد بفرضيتهما على اختلاف بينهم في كيفية الواجب وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى سنيتها والأول أرجح لأنه الأظهر من النصوص . والله أعلم
__________
(1) ليس عند مسلم قوله وصلوا كما رأيتموني أصلي . (( الألباني ))(1/94)
ثانياً : في قوله ( يشفع الأذان ) دليل أن السنة شفع ألفاظ الأذان إلا كلمة التوحيد في آخره فإنها واحدة بالإجماع ولكن اختلفوا من ذلك في مسألتين:
(الأولى ) تربيع التكبير وتثنيته وقد جاءت الأحاديث بالأمرين لكن رجح الجمهور أحاديث التربيع لكثرتها واشتمالها على زيادة . وقال مالك وزيد بن علي والهادي والقاسم والصادق بتثنية التكبير عملاً ببعض روايات حديثي عبدالله بن زيد وأبي محذورة رضي الله عنهما وبعمل أهل المدينة
( والثانية) اختلفوا في الترجيع وهو أن يأتي بالشهادتين أولاً يخفض بهما صوته ثم يعيدهما فيرفع صوته بهما فذهب إلى إثباته الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة لثبوته من حديث أبي محذورة وهو متأخر عن حديث عبدالله بن زيد وذهب أبو حنيفة والهادوية والناصر إلى عدم استحبابه تمسكاً بظاهر حديث عبدالله بن زيد . والأرجح القول بالتخيير بين تربيع التكبير وتثنيته وترجيع الشهادتين وعدمه وبذلك يحصل الجمع بين مختلف الأحاديث وهو مذهب جماعة من أجلة العلماء
ثالثاً : يؤخذ منه أن ألفاظ الإقامة فرادى إلا ( قد قامت الصلاة ) عند غير مالك ومعها عنده والأول أرجح كما روى البخاري ومسلم وأبو داود بزيادة ( إلا الإقامة ) وذهب أبو حنيفة وابن المبارك والثوري إلى أن ألفاظ الإقامة شفعاً كالأذان واحتجوا بحديث عبدالله بن زيد عند أبي داود بلفظ : كان أذان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شفعاً شفعاً في الاذان والإقامة . وأعل بانقطاعه بين عبدالله بن زيد وعبدالرحمن بن أبي ليلى . ومال الشوكاني إلى صحته ولا شك أن الشفع ثابت من حديث أبي محذورة . فالأولى القول بالتخيير بين الشفع والإفراد . والله أعلم
[(1/95)
66] عن أبي جحيفة وهب بن عبدالله السوائي (1) رضي الله عنه قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبة له حمراء من أدم قال : فخرج بلال بوضوء فمن ناضح ونائل فقال : فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه قال : فتوضأ واذن بلال قال : فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يميناً وشمالاً حي على الصلاة حي على الفلاح ثم ركزت له عنزة فتقدم وصلى الظهر ركعتين ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة
موضوع الحديث : يتكون الحديث من قصة تدخل في أبواب أخرى متفرقة من الأحكام منها الأذان ودخول الحديث فيه من ناحية الالتفات عند الحيعلتين وهذه هي المناسبة بينه وبين الباب
المفردات
القبة : البناء المخروط الذي يكون أعلاه ضيق وأسفله واسع
حمراء : صفة للقبة
الأدم : جمع أديم وهو الجلد المدبوغ
ناضح : الناضح الآخذ من ماء وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يتساقط من أعضائه
والنائل : هو الذي يأخذ من بلل يد صاحبه
الحلة : إزار ورداء من البرود اليمنية وحمراء صفة للحلة
أتتبع فاه : أي ببصري أي أنظر إليه وهو يلوي عنقه يميناً وشمالاً عند الحيعلتين
المعنى الإجمالي
__________
(1) أبي جحيفة وهب بن عبدالله السوائي صحابي معروف مشهور بكنيته ويقال له وهب الخير صحب علياً ومات سنة أربع وسبعين .(1/96)
لقد ترك الوازع الإيماني الصحابة رضي الله عنهم يلقون النبي - صلى الله عليه وسلم - بقلوب واعية وآذان مصغية وأبصار تلحظ لحظ الحريص المتلهف إلى تسجيل كل ما رآه وسمعه على صفحات قلبه ثم الاحتفاظ به كنزاً يرجع إليه ويحذوه عند الحاجة ومن هذا تسجيل أبي جحيفة لنا كل ما رآه وسمعه كصفة قبته وخروج بلال بالماء له وخروجه في الحلة الحمراء وتزاحم الصحابة رضي الله عنهم على ما تساقط من أعضائه - صلى الله عليه وسلم - من الماء يتمسحون به للتبرك والتفات بلال عند الحيعلتين من أذانه إلى جهة اليمين والشمال وركز العنزة لجعلها سترة له - صلى الله عليه وسلم - وصلاته قصراً إلى أن رجع إلى المدينة
فقه الحديث
أولاً : فيه مدى ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الإجلال والتعظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان ذلك مثار العجب من بعض المشركين يوم الحديبية إذ قال : والله يا قوم لقد قدمت على كسرى وقيصر فلم أر أحداً منهم يعظمه قومه ما يعظم أصحاب محمد محمداً والله ما يتركون له بصاقة ولا نخامة تسقط على الأرض إلا تدلكوا بها وإن توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإن أمر ابتدروا أمره .. الحديث .
ثانياً : قال ابن دقيق العيد : يؤخذ من الحديث التماس البركة بما لا بسه الصالحون بملابسته فإنه ورد في الوضوء الذي توضأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعدى بالمعنى إلى سائر ما يلابسه الصالحون . انتهى .
قلت: وهذا باطل لأمور : ( أحدها ) أن هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك بأبي بكر ولا عمر ولا سائر العشرة المشهود لهم بالجنة وهذا إجماع منهم على الخصوصية
( ثانياً ) التعدية تحتاج إلى دليل ولا دليل
( ثالثاً ) أن التبرك بالصالحين أقرب الذرائع إيصالاً إلى الشرك وبهذا توصل إبليس إلى إدخال الشرك على بني آدم في كل قرن . والله الهادي إلى سبيل الرشاد .(1/97)
ثالثاً : يؤخذ من قوله ( حلة حمراء ) جواز لبس الأحمر وعارضته أحاديث النهي عن الحمرة وعن لبس المعصفر إن صحت . وجمع بينهما ابن القيم بأن النهي عنه إنما هو عن ما كان أحمر بحتاً وأن هذا الحديث وحديث البراء فيما كان مخططاً بالحمرة مع ألوان غيرها (1)
رابعاً : في قوله ( فمن ناضح ونائل ) دليل على طهارة الماء المستعمل وقد تقدم
خامساً : في قوله ( فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا حي على الصلاة حي على الفلاح ) دليل على استحباب التفات المؤذن عند الحيعلتين من الأذان يميناً وشمالاً بوجهه
سادساً : في قوله ( فركزت له عنزة ) استحباب الصلاة إلى السترة
سابعاً : في قوله ( ثم صلى الظهر ركعتين ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة ) سنية القصر في السفر ومواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه . والله أعلم
ثامناً : يؤخذ من قوله ( كأني أنظر إلى بياض ساقيه ) أن أزرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت إلى نصف الساق
[67] عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) متفق عليه
موضوع الحديث: اتخاذ مؤذنين في مسجد والأذان للصبح قبل وقتها
المفردات
بليل : الباء ظرفية أي في ليل
حتى : حرف غاية أي إلى أن يؤذن
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن بلالاً يؤذن قبل دخول الفجر بقصد التنبيه أي لإيقاظ النائمين وإيذان المتهجدين بقرب الفجر فلا يتركن أحد سحوره لذلك ولكن ليأكل وليشرب حتى يسمع أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن إلا بعد طلوع الفجر
فقه الحديث
أولاً : فيه دليل على جواز الأذان في الفجر خاصة قبل دخول الوقت وهو مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة ومنع ذلك الثوري وابو حنيفة قياساً على سائر الأوقات
__________
(1) قلت الجمع فرع التصحيح والنهي عن الأحمر لم يصح فيه حديث فلا داعي للجمع . (( الألباني )).(1/98)
ثانياً : فيه جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد إذا دعت الحاجة
ثالثاً : فيه جواز اتخاذ مؤذن أعمى ونقل عن ابن مسعود وابن الزبير كراهته
رابعاً : فيه أن الفجر الأول يحل فيه السحور
خامساً : قد يفهم من قوله ( فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) وجوب إعادة الأذان بعد طلوع الفجر لمن أذن قبله وبه قال ابن خزيمة وابن المنذر والحسن البصري وطائفة من أهل الحديث إلا أن الحديث ليس بواضح الدلالة على ذلك ولهذا قال الجمهور : يكتفى بالأذان الذي قبل الفجر وهو الأرجح لما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد مختصراً وساقه أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي بطوله وعزاه إلى ابن عبدالحكم في فتوح مصر وأنا أذكر محل الشاهد منه فأقول : قال : ثم اعتشى أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول الليل فلزمته وكنت قوياً وكان أصحابه ينقطعون عنه ويستأخرون حتى لم يبق أحد غيري فلما كان أوان صلاة الصبح أمرني فأذنت وجعلت أقول : أقيم يا رسول الله ؟ فينظر إلى ناحية المشرق ويقول لا حتى إذا طلع الفجر نزل فتبرز ثم انصرف إلي وقد تلاحق أصحابه فقال هل من ماء يا أخا صداء ؟ فقلت لا إلا شيء يسير لا يكفيك فقال اجعله في إناء وأتني به ففعلت فوضع كفه في الإناء فرأيت بين كل أصبعين عينا تفور فقال : لولا أني استحي من ربي يا أخا صداء لسقينا واستقينا ناد في الناس من له حاجة في الماء فناديت فأخذ من أراد ثم جاء بلال فأراد أن يقيم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم .(1/99)
قال أحمد شاكر : وهذا حديث حسن صحيح ورواته كلهم ثقات إلا عبدالرحمن بن زياد بن أنعم . قلت : وقد ضعفه أحمد بن حنبل وابن عدي ووثقه يحيى بن سعيد القطان ويعقوب بن شيبة وأحمد بن صالح وقال فيه البخاري مقارب الحديث وحكى الشوكاني عن أبي بكر بن أبي داود قال : إنما تكلم الناس في الإفريقي وضعفوه لأنه روى عن مسلم بن يسار فقالوا له : أين رأيته بها ؟ قال بأفريقية فقالوا ما دخل مسلم بن يسار افريقية قط يعنون البصري ولم يعلموا أن مسلم بن يسار آخر يقال له الطنبزي روى له وحكى أحمد شاكر أيضاً أن أبا العرب التميمي أثنى عليه في كتابه طبقات علماء افريقية ورى عنه عيسى بن مسكين عن محمد بن سحنون قال قلت لسحنون أن أبا حفص الفلاس قال : ما سمعت يحيى ولا عبدالرحمن يحدثان عن عبدالرحمن بن زياد بن أنعم فقال سحنون لم يصنعا شيئاً عبدالرحمن ثقة وأهل بلد الرجل أعرف به وأعلم والذي ظهر لي بالتتبع أن كثيراً من علماء الجرح والتعديل من أهل المشرق كانوا أحياناً يخطئون في أحوال الرواة والعلماء من أهل المغرب مصر وما يليها إلى الغرب . قلت : وناهيك بما قاله سحنون فإن أهل بلد الرجل أعرف به من غيرهم وقد بين أبو بكر بن أبي داود وجه خطأ القادحين فيه فمن هنا يترجح قول من وثقه على قول من ضعفه فصح الحديث ولزم القول به .والله أعلم .(1/100)
(1)
[68] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ) .
__________
(1) قلت في هذه النتيجة نظر عندي ذلك لأن الإفريقي هذا وإن كان قد وثقه من ذكر – فقد ضعفه جماعة كبيرة من أئمة الحديث وأعلامهم مثل أحمد وابن معين ويحيى القطان والترمذي وصالح بن محمد والجوزجاني وابن خزيمة وابن خراش والساجي وابن عدي وتأتي تسمية بعضهم فيبعد جداً أن يجمع هؤلاء الأجلة على تضعيف الرجل بدون معرفة أو حجة ومن القواعد المقررة : أن الجرح مقدم على التعديل بشرط أن يكون مفسراً وهو كذلك هنا فقد ذكر بعض العلماء ما يدل على السبب الجارح وهو سوء الحفظ وكثرة الغلط مع السلامة من سوء القصد وإليك كلماتهم الدالة على ذلك فقال ابن معين : ليس به بأس وهو ضعيف وقال الجوزجاني : كان صادقاً خشناً غير محمود في الحديث وقال يعقوب بن شيبة : ضعيف الحديث وهو ثقة صدوق رجل صالح . وقال يعقوب بن سفيان : لا بأس به وفي حديثه ضعف . وقال صالح بن محمد منكر الحديث ولكن كان رجلاً صالحاً وقال أبو الحسن بن القطان : كان من أهل العلم والزهد بلا خلاف بين الناس ومن الناس من يوثقه ويربأ به عن حضيض رد الرواية . والحق فيه أنه ضعيف لكثرة روايته المنكرات وهو أمر يعتري الصالحين . فأنت ترى كلمات هؤلاء الأئمة متفقة على أن الرجل صدوق في نفسه غير كذوب فهم يلتقون مع الذين وثقوه ولكنهم يزيدون عليهم بأنهم عرفوا فيه ما فات أولئك وهو ضعف حديثه وكثرة المنكرات التي وقعت فيه وقد ذكر ابو العرب نفسه – بعد أن أثنى عليه – أنهم أنكروا عليه أحاديث منها هذا الحديث فكيف يكون حديثه صحيحاً من هذا حاله في الرواية ؟ ومن ذلك يتبين أن قول ابن أبي داود إنما تكلم الناس في الإفريقي ليس بصواب وأن كلا من التوثيق فيه ليس بصحيح على ما يقتضيه البحث العلمي المستند على القواعد الأصولية أهـ . (( الألباني )) .(1/101)
موضوع الحديث: إجابة المؤذن
المفردات
يجوز أن تجعل ما موصولة ويكون المعنى مثل الذي يقول ويجوز أن تجعلها مصدرية ويكون التقدير مثل قوله
المعنى الإجمالي
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من سمع الأذان أن يقول مثل ما يقول المؤذن متابعاً له
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من قوله ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ) أن الإجابة مشروطة بالسماع فمن لم يسمعه لصمم أو بعد لا تلزمه
ثانياً : يؤخذ من قوله ( فقولوا ) دليل للقائلين بوجوب الإجابة وهم الحنفية والظاهرية لأنه أمر ولا صارف له وقال الجمهور بالاستحباب مقتدين بما رواه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع مؤذناً فلما كبر قال ( على الفطرة ) ولما تشهد قال ( خرجت من النار ) الحديث ولا شك أنه لم يقع في هذا الحديث الرد على المؤذن وعدم ذكر الشيء لا يدل على عدم وقوعه فيحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد عليه ولم يذكر ذلك الراوي فتبين أن هذا الحديث لا يصلح لصرف حديث الباب عن ظاهره وهو الوجوب
ثالثاً : في قوله ( فقولوا ) دليل أنه يلزم السامع أن يرد كل كلمة عقب قول المؤذن بدون تريث لأن الفاء تقتضي الترتيب والتعقيب(1/102)
رابعاً : يؤخذ من قوله ( فقولوا مثل ) عموم التماثل بين ألفاظ المؤذن والراد ، والرد هو أن يرد كل كلمة كما سمعها غير أن هذا العمو مخصوص بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمداً رسول الله قال أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قبله دخل الجنة ) فهذا يقتضي أن يبدل السامع الحيعلتين بالحوقلة . والله حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على نبينا محمد .
باب استقبال القبلة
[69] عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله . وفي رواية: كان يوتر على بعيره . ولمسلم : غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة . وللبخاري : إلا الفرائض
موضوع الحديث:التطوع على الراحلة
المفردات
يسبح : أي يتنفل والتسبيح في عرف الشرع يقع على قول سبحان الله وعلى الصلاة النافلة
يومئ : أي يشير
وجهه : أي ناحيته التي يتوجه إليها
المكتوبة : هي الفرائض
المعنى الإجمالي
امتازت شريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - من بين الشرائع بالسماحة واليسر ولقد وصفها بقوله ( بعثت بالحنيفية السمحة ) فها هو الشارع يتطوع على راحلته في السفر ليتأسى به المكلفون وليكون ذلك ميسراً للاستكثار من العبادة فينالوا بذلك الأجر العظيم ويومئ بالركوع والسجود أما المكتوبة فلم يبح لهم فيها ذلك لأنها محصورة .
فقه الحديث(1/103)
أولاً : فيه دليل على مشروعية صلاة النافلة على الراحلة حيثما توجهت به وهو مجمع عليه في السفر حكى الإجماع عليه النووي وابن حجر وإنما اختلفوا في الحضر هل يجوز فيه ذلك أم لا ؟ فذهب إلى جوازه أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري من الشافعية وأهل الظاهر ومنعه الجمهور
أما النصوص فهي ترجح ما ذهب إليه الجمهور لأن ما ورد مطلقاً يجب حمله على المقيد بالسفر
ثم اختلفوا في استقبال القبلة عند البدأ أي عند تكبيرة الإحرام فاستحب ذلك أحمد وأبو ثور لما رواه أبو داود بسند لا بأس به عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث وجه ركابه .(1/104)
ثانياً : قال ابن دقيق العيد : الحديث يدل على الإيماء ومطلقه يقتضي الإيماء بالركوع والسجود . قال : والفقهاء قالوا : يكون الإيماء في السجود أخفض من الإيماء في الركوع ليكون البدل على وفق الأصل وليس في الحديث ما يدل عليه ولا ما ينفيه . قلت : وهذه غفلة منه مع جلالتة رحمه الله وسبحان من تفرد بالكمال فقد روى أبو داود بسند رجاله رجال الصحيح – إلا أن أبا الزبير مدلس وقد عنعن فيه – عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه : أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع (1)
ثالثاً:يؤخذ من قوله : وفي رواية : كان يوتر على بعيره أن الوتر سنة وليس بواجب وقد بسط الكلام عليه في بابه
رابعاً : في قوله ولمسلم غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة وللبخاري إلا الفرائض دليل أن الفريضة لا يتسامح فيها كما يتسامح في النافلة إلا أنه يستثنى من ذلك حالة المطر لحديث لكن لا يعفى في استقبال القبلة أما أحكام صلاة الخوف فسيأتي الكلام عليها إن شاء الله .وبالله التوفيق .
[
__________
(1) قلت ويمكن الجواب من طرف ابن دقيق العيد بأن كلامه إنما هو على دلالة هذا الحديث والنفي الذي في قوله : وليس في الحديث إيماء لا لنفي جنس الحديث بل للعهد وهو هذا . لكن كان عليه أن ينبه على غيره من الحديث مما يدل على ما ذهب إليه الفقهاء لتتم الفائدة كحديث جابر الذي ذكره المؤلف جزاه الله خيراً وإن كان يبدوا لأول وهلة أنه لا يحتج به من أجل عنعنة أبي الزبير بيد أنه قد صرح بالتحديث في رواية الإمام أحمد رحمه الله 3/296 و380 والبيهقي 2/5 واسناده صحيح على أن الإمام أحمد قد روى حديث الباب 2/73 بزيادة ويجعل السجود أخفض من الركوع . (( الألباني )) .(1/105)
70] عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآناً وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة .
موضوع الحديث: تحويل القبلة
المفردات
آت : اسم فاعل من أتى أصله آتي حذفت الضمة للاستثقال ثم للالتقاء الساكنين
فاستقبلوها : يروى بكسر الباء للأمر ويروى بفتحها للخبر
فاستداروا : أي انصرفوا عن جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة
المعنى الإجمالي
نأخذ من هذا الحديث درساً عن مدى طواعية الصحابة رضوان الله عليهم لله عز وجل وامتثالهم لأمره وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد استداروا عن القبلة الأولى لما بلغهم نسخها إلى القبلة الثانية وهم في صلاتهم ولم يؤجلوا ذلك إلى التمام
فقه الحديث
أولاً: في هذا الحديث دليل على جواز العمل بخبر الواحد وقد أباه قوم والأدلة على بطلان مذهبهم من الكتاب والسنة كثيرة وقد بسط القول في ذلك الشافعي رحمه الله في مقدمة كتابه ( اختلاف الحديث )
ثانياً : فيه جواز نسخ السنة بالكتاب
ثالثاً : فيه أن الأحكام الشرعية لا تلزم إلا بعد البلاغ
رابعاً:فيه المبادرة بامتثال أوامر الله عز وجل
خامساً : فيه جواز الاجتهاد في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبالقرب منه
سادساً : فيه أن اللازم على العبد العمل بالمنسوخ ما لم يبلغه الناسخ فإذا بلغه لزمه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ والله أعلم
[71] عن أنس بن سيرين رضي الله عنه قال استقبلنا أنساً حين قدم من الشام فلقيناه بعين التمر فرأيته يصلي على حمار ووجهه من ذا الجانب يعني عن يسار القبلة فقلت رأيتك تصلي لغير القبلة فقال لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ما فعلته .
موضوع الحديث : الصلاة على الدابة تطوعاً في السفر
المفردات
أنس بن سيرين أخو محمد بن سيرين(1/106)
استقبلنا أنس بن مالك : أي خرجنا للقائه
عين التمر : مدينة من مدن العراق العربي
المعنى الإجمالي
من أهداف الشرع المعاملة بما يقوي الروابط الروحية والودية ولا سيما إذا كان بين الشخصين اتصال نسب أو صهر أو ولاء أو شياخة أو مزاملة وذلك يكون بتحسين الخلق وإظهار البشر والسرور لمقدمه والخروج لاستقباله ومن هذا استقبال أنس بن سيرين لشيخه ومولاه ومع ذلك فلم يكن غافلاً بل كان بحاثاً حريصاً على الاستفادة فقد سأله عن السبب الحامل له على الصلاة إلى غير القبلة فأفاده أنه في فعله هذا متأسي بالنبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه .
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل على جواز التنفل على الدابة وقد تقدم إلا أن في هذا الحديث زيادة كون الدابة حماراً فيؤخذ منه الصلاة عليها
ثايناً : في قوله ( لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ما فعلته ) احتمال هل المراد ترك القبلة في النافلة أو الصلاة على الحمار ؟ ويترجح الأول لقوله : رأيتك تصلي إبى غير القبلة لكن يبقى الإشكال في الصلاة على الحمار هل أخذه أنس من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قاسه على الراحلة ؟
وقد حكى الحافظ في الفتح أن السراج روى من طريق يحيى بن سعيد عن سعيد بن يسار عن أنس رضي الله عنه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على حمار وهو ذاهب إلى خيبر ثم قال اسناده حسن . وله شاهد عند مسلم من طريق عمرو بن يحيى المازني عن سعيد بن يسار عن ابن عمر : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار وهو متوجه إلى خيبر قال فهذا يرجح الاحتمال الذي أشار إليه البخاري . قلت: يريد بذلك تبويب البخاري بقوله ( باب صلاة التطوع على الحمار ) والذي يظهر من عبارة أنس أنه أراد بذلك مجمل الفعل أي الصلاة على الحمار وإلى غير القبلة والله أعلم
ثالثاً : فيه تلقي المسافر
رابعاً : فيه سؤال التلميذ شيخه عن مسنده في فعله
خامساً : فيه الإجابة بالدليل(1/107)
سادساً : فيه أن أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدر للشرع كأقواله لأن البيان يعم الجميع
سابعاً : في هذا الحديث وحديث ابن عمر في الصلاة على الراحلة تخصيص للآية وهي قوله تعالى { فأينما تولوا فثم وجه الله } { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (البقرة:115) بالتطوع في السفر والله أعلم .
باب الصفوف
[72] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة ) رواه مسلم
موضوع الحديث : الصفوف
المفردات
سووا : من سوى الشيء يسويه أي اقامه على ما يليق به
تمام الصلاة : أي كمال الصلاة
المعنى الإجمالي
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسوية الصفوف أي إقامتها وتعهدها من الاعوجاج والخلل وأخبر أن ذلك من تمام الصلاة أي من مكملاتها
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل على مشروعية تسوية الصفوف والتسوية تقع على المحاذاة حتى يكون الصف مستقيماً لا عوج فيه لحديث النعمان بن بشير الآتي ، وعلى التراص والتقارب في الصف وإتمام الصفوف الأول فالأول لما رواه مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف) .
ومن التسوية أيضاً وصل الصف المنقطع لحديث ابن عمر عند أبي داود : من وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله (1) وله شاهد عن أنس عنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أتموا الصف الأول ثم الذي يليه فإن كان نقص فليكن في الصف المؤخر )
__________
(1) قلت واسناده صحيح كما قال النووي وغيره . (( الألباني )) .(1/108)
قال الشوكاني : في سنده محمد بن سليمان الأنباري وهو صدوق . قلت : ذكر في الخلاصة أنه وثقه الخطيب (1)
ثانياً : يؤخذ من قوله ( فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة ) أن التسوية تزيد في ثواب الصلاة وتركها لا يقدح في صحتها غير أن فيه وعيد كما سيأتي . والله أعلم .
[73] عن النعمان بن بشير (2) رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) ولمسلم : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى إذا رأى أن قد عقلنا عنه ثم خرج يوماً فقام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلاً بادياً صدره فقال : ( عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) رواه مسلم
موضوع الحديث : تسوية الصفوف والوعيد على تركها
المفردات
المخالفة : ضد الموافقة
أو ليخالفن الله بين وجوهكم : أي وجهكم والمراد اختلاف الاتجاهات
القداح : جمع قدح وهي الأعواد التي يقوم عليها السهم حين يبرى لأنه إذا كان معوجاً كان طائشاً وإذا قوم أصاب
المعنى الإجمالي
__________
(1) قلت: قد تابعه الإمام أحمد في مسنده 3/233 والسند صحيح واللفظ المذكور مغاير في بعض الأحرف للفظ أبي داود . ((الألباني)).
(2) النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي هو وأبوه صحابيان ولد عام الهجرة سكن الشام وولي أمرة الكوفة قتل سنة 50 هـ ت 7202(1/109)
لقد علّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه رضي الله عنهم كيفية تسوية الصفوف حتى علم أنهم قد فهموا ذلك فوكل التسوية إلى علمهم غير أنه يلحظهم لحظ المختبر فرأى رجلاً قد خرج صدره من الصف فتوعدهم على عدم الامتثال بأمر يكون له الأثر السيء في مجتمعهم ألا وهو اختلاف القلوب والمقاصد فإذا اختلفت القلوب اختلفت الكلمة وإذا اختلفت كلمتهم جُعل بأسهم بينهم وكل ذلك عقوبة لهم على ترك أوامر ربهم والتجرؤ على معاصيه (1)
__________
(1) تنبيه : أخي المسلم انظر وفكر معي تجد أن ما وقعت فيه الأمة الاسلامية اليوم وقبل اليوم من اختلاف الكلمة وضعف المعنوية والتباغض والتعادي وتبادل الشتائم والحروب الطاحنة واستحلال بعضهم لحرمات بعض سببه التخلف عن تعاليم دينهم والإعراض عن هديه الذي من اتبعه ضمنت له السعادة في الدنيا بالغلب والتمكين وفي الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار
يا أمة محمد أما آن لكم أن تفيؤا أو تفكروا في السبب الذي أوقعكم في الذلة والمهانة بعد أن تبوأ آباؤكم أوج العز وحكموا الشعوب برهة من الزمن غير قليلة ؟
يا أمة محمد والله ما أوقعكم في ذلك إلا إعراضكم عن كتاب الله وسنة نبيكم . وهيا بنا فلنناقش هذه العبارة . أليس قد أمركم بالتوحيد فأشركتم ؟ ... أليس قد أمركم بالاتحاد فتفرقتكم ؟ ... أليس قد أمركم بالتعاون على البر والتقوى فتخاذلتم . أليس قد أمركم بالتحابب فيه فتعاديتم ؟ ... أليس قد أمركم بأن تؤمنوا به وتكفروا بالطاغوت فآمنتم بالطاغوت وكفرتم به إلا من شاء الله ؟ ... أليس قد أمركم بتحكيم كتابه وسنة رسوله والرجوع إلى حكمهما عند التنازع فأعرضتم عنهما وحكمتم قوانين أعداء الله ورسوله ورجعتم إليها عند التنازع إلا القليل منكم ؟ ... أليس قد أمركم بحجاب النساء فأخرجتموهن باديات السوق والأعناق والصدور والأفخاذ ناشرات الشعور فأشركتموهن في مجالسكم ومحافلكم بل وفي جميع ميادين أعمالكم ؟ ... أليس قد أمركم بأن تتأسوا برسوله - صلى الله عليه وسلم - وتتابعوه في أعمالكم وأخلاقكم وأزيائكم فأعرضتم عن سنته وزيه وتأسيتم بالأوربيين في أعمالهم وأخلاقهم وأزيائهم بل في أعيادهم وعاداتهم حتى صار فيكم من يرى التأسي به والتزيي بزيه رجعية والتأسي بالكفار والتزيي بزيهم تقدماً وهذا هو الغالب على كثير من المسلمين إلا من رحم الله .
يا أمة محمد والله لئن رجعتم إلى ربكم وحكمتم كتابه وسنة نبيه ليرجعن الله لكم العز والنصر والتمكين الذي منحه آباؤكم من قبل فإنه قد وعد الغلب لأوليائه فقال ( وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) أترون من جنده من يرى الدين رجعية وأنه هو الذي أخر أهله عن موكب الحضارة الحديثة ؟ أو ترون من جنده من يبيت عاكفاً على الأفلام السينمائية وغيرها كالدش والانترنت وغيرها من الوسائل المرئية وهي تنشر أمامه فظائع العالم المنحرف المنحط في هوة التباب والخسار أوترون من جنده من يبيت عاكفاً على أغاني الفاجرات ، قرآن الشيطان ومنبت النفاق في القلب ؟ أو ترون من جنده من يحب الدعارة ويستبيح الفروج المحرمة ؟ أو ترون من جنده من يشرب المسكرات ؟ .. أو أو أو إلخ .
أخي المسلم انظر وفكر معي كيف تنصر أمة هذا الداء العضال كله فيها ؟ بل ومعظمه في جيلها الذي أعدته للذود عن حوزة الإسلام وأهل الإسلام وإني لأقول بدون هوادة إن عظم المسؤولية أمام الله وعلى ولاة الأمور الذين رضوا بدخول القوانين الأجنبية والدعايات الإلحادية والأجهزة المفسدة إلى بلادهم وأمتهم فنسأل الله أن يأخذ بأيديهم إلى تدارك الخرق قبل اتساعه وأن يرزقهم البطانة الصالحة ويوفقهم لكل ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين . أهـ .(1/110)
فقه الحديث
أولاً : فيه سنية التعليم بالفعل
ثانياً : فيه سنية تعديل الصفوف
ثالثاً : فيه أنه من وظيفة الإمام
رابعاً : فيه دليل أن مخالفة صاحب الشرع موجبة للعقوبة
خامساً : فيه دليل أن عقوبة هذا الذنب اختلاف الاتجاهات والمقاصد التي ينشأ عنها اختلاف الكلمة .
[74] عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن جدته مليكة دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته فأكل منه ثم قال ( قوموا فلأصلي لكم ) قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد اسودّ من طول ما لبس فنضحته بماء فقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انصرف . ولمسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى به وبأمه فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا .
اليتيم : هو ضميرة جد الحسين بن عبدالله بن ضميرة .
موضوع الحديث : موقف المرأة مع الرجال في الصلاة
المفردات
مليكة : بضم الميم وفتح اللام وقيل بفتح الميم واللام والأول أشهر
حصير : أي فراش من الحصير وهو شجر معروف له سعف كسعف النخل تعمل منه الفرش
قد اسود من طول ما لبس : أي قد علاه الدرن من طول افتراشه لأن الافتراش يسمى لبساً ومن ذلك قوله تعالى { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } (البقرة:187)
النضح : تقدم تعريفه
جدته : قيل الضمير يعود إلى إسحاق بن عبدالله ورجحه ابن عبدالبر حكى ذلك الحافظ في الإصابة ورده ورجح أنها جدة أنس من قبل أمه أي والدة أم سليم .
المعنى الإجمالي(1/111)
صلى الله وسلم على نبينا نبي الرحمة الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق فها هو الذي دوخت هيبته قلوب كسرى وقيصر في ممالكهم الواسعة وماديتهم العظيمة وأبهتهم التي تأخذ بالأبصار وتحير الأفكار يجيب دعوة عجوز من عجائز المسلمين ويأكل من طعامها ليدخل السرور على قلبها ولم يكن في مجتمعاته بالغافل عن القيام بحق ربه في العبودية له والدعوة إليه بالقول والفعل بل كان يصلي لمن دعاه في موضع من بيته ليتخذه مسجداً كما كان يأمر باتخاذ المساجد في البيوت وقد صلى لمليكة رضي الله عنها ليعلمها كيفية صلاته لأن موقف النساء متأخر فصف أنساً والغلام صفاً والعجوز وراءهم وحدها .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ منه ماكان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التواضع والخلق الحسن .
ثانياً : فيه استحباب دعوة أولى الفضل من الناس .
ثالثاً : يؤخذ من قوله : فقمت إلى حصير لنا قد اسودّ من طول ما لبس . أن الافتراش لبس ويبنى على ذلك أن ما حرم لبسه حرم افتراشه وأن من حلف أن لا يلبس شيئاً فافترشه فقد حنث أفاده ابن دقيق العيد رحمه الله .
رابعاً :فيه أن موقف الاثنين وراء الإمام قال النووي وهو مذهب العلماء كافة ما عدا ابن مسعود وصاحبيه فقالوا يكونون هم والإمام صفاً واحداً ويقف بينهما وحكى الشوكاني أنه مذهب أبي حنيفة وأهل العراق .
خامساً : فيه أن للصبي موقف من الصف
سادساً : فيه أن موقف المرأة إذا كانت وحدها وراء الصف ثم اختلفوا في صلاتها إذا وقفت إلى جنب الرجل فقيل تبطل القدوة وقيل تبطل الصلاة والأول أظهر لأن إبطال الأصل بالظن غير وجيه
سابعاً : فيه أن الأصل في البسط وما أشبهها الطهارة
ثامناً : حمل قوله فنضحته على إرادة التليين واستدلت به المالكية على استحباب نضح ما شك في نجاسته
تاسعاً : فيه جواز الجماعة في صلاة النافلة .والله أعلم .
[(1/112)
75] عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال بت عند خالتي ميمونة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل فقمت عن يساره فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه . رواه الجماعة
موضوع الحديث : موقف الواحد من الإمام
المفردات
عن يساره : من جهة شقه الأيسر
وعن يمينه : من جهة شقه الأيمن
المعنى الأجمالي
كان الصحابة رضي الله عنهم أحرص شيء على تعلم الحق من منبعه الصافي ومعينه العذب لهذا أرسلوا عبدالله بن عباس ييت عند خالته ميمونة في ليلتها كي يرى تهجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخبرهم به وقد اختاروه لذلك لقرابته من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصغر سنه وذكائه ونباهته الذي يمكن ذلك الغلام من حفظ ما رآه ونقله للأمة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وجاء ابن عباس فوقف إلى جانبه الأيسر فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأذنه فأداره من خلفه حتى أوقفه عن يمينه
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل على أن موقف المأموم إذا كان واحداً عن يمين الإمام ثم اختلفوا في صلاته إن وقف على يسار الإمام فذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي إلى أنه إن فعل ذلك خالف السنة وصحت صلاته وذهبت الحنابلة إلى أن صلاته فاسدة والأول أظهر لأن إبطال الأصل يحتاج إلى دليل ولا دليل
ثانياً : فيه جواز الجماعة في صلاة الليل
ثالثاً : فيه دليل على أن العمل لمصلحة الصلاة لا يفسدها
رابعاً : فيه دليل على جواز مبيت المحرم من المرأة عندها مع حضور الزوج وقيل أن ابن عباس تخول بمبيته فرصة لا يترتب فيها على مبيته ضرر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . والله تعالى أعلم .
باب الإمامة
[76] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار ) رواه الجماعة .
موضوع الحديث : الترهيب من مسابقة الإمام .
المفردات
أما يخشى :أما يخاف .(1/113)
أن يحول الله رأسه رأس حمار : أي يمسخه من صورته الجميله إلى صورة الحمار القبيحة بتبلدة عن مراد الله
أما: بالتخفيف أداة إستفتاح بمنزلة ألا .
المعنى الإجمالي
الصلاة عنوان الطاعة والانقياد ورمز الخضوع والعبودية فلا تتنا سب مع الفوضى لهذا أمر الشارع الحكيم المأمومين باتباع الإمام الذي جعلوه قائداً لهم في أفعال الصلاة وتوعد على مخالفتهم بالمسخ إلى صورة الحمار البليد المركوب حسماً للفوضى وحرصاً على الطاعة والاتحاد وتمريناً للمكلفين على الانقياد لكل من ولوه أمرهم ما لم تكن طاعته معصية لله .
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل على تحريم الرفع قبل الإمام لأنه توعد على فعله بالمسخ وهو من أشد العقوبات وليس التحريم خاصاً بالرفع بل الخفض له حكمه لأنه في معناه وقد ورد النهي عن مبادرة الإمام في الخفض والرفع عند البزار من طريق مليح بن عبدالله السعدي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً ( الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان ) وأخرجه عبدالرزاق من هذا الوجه موقوفاً وهو المحفوظ . أفاده الحافظ في الفتح
ثانياً : يؤخذ منه بطريق المفهوم وجوب متابعة الإمام وسيأتي فيه بحث إن شاء الله
ثالثاً : اختلف العلماء فيمن رفع قبل الإمام هل تبطل صلاته أم لا ؟ فقال ببطلانها أحمد بن حنبل في رواية عنه وأهل الظاهر وقال الجمهور تصح صلاته مع الإثم
رابعاً : يؤخذ منه أن العمل إذا وقع على خلاف الشرع كان معصية ولو كان بقصد الطاعة
خامساً : يؤخذ منه أن المسخ جائز وقوعه في هذه الأمة وقد دلت على ذلك أحايث غير هذا . والله أعلم .
[77] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( إنما جعل الإمام ليؤتم به . فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون ) . رواه مسلم
[(1/114)
78] وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( صلى رسول الله في بيته وهو شاك فصلى جالساً . وصلى وراءه قوم قياماً فأشار إليهم أن أجلسوا فلما انصرف قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال : سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون ) رواه مسلم
موضوعهما: وجوب متابعة الإمام والنهي عن مخالفته
المفردات
إنما : أداة حصر
ليؤتم به : اللام للتعليل أي لأجل الاقتداء به
فلا تختلفوا عليه : الفاء تفريعية ولا ناهية معمولها تختلفوا أي لا تخالفوه بأفعالكم
فإذا ركع : الفاء فصيحة
فاركعوا : الفاء واقعة في جواب الشرط
ربنا ولك الحمد : الواو هنا عاطفة وفيها معنى الحال أو المعية والتقدير كما قال الحافظ في الفتح : ( ربنا استجب ) أو ( ربنا أطعناك ولك الحمد ) وهي ثابتة في جميع روايات حديث عائشة وبعض روايات حديثي أنس وأبي هريرة .
شاك : من الشكاية وهي المرض وسببها أنه ركب فرساً فصرعه فانفكت قدمه
فأشار إليهم : من الإشارة وهو الإيماء ووصفها عبدالرزاق عن هشام بقوله : فأخلف بيده يومئ بها إليهم
وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً : أي على الحال التي عليها إمامكم
أجمعون : بالواو تأكيد لضمير الفاعل في صلوا
المعنى الإجمالي
ما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر أمته الاختلاف والتفرق والعصيان ويأمرهم بالاتحاد والطاعة لذلك نهى المأموم عن مخالفة إمامه وأمره باتباعه لأنه قدم لهذا الغرض وهوالاقتداء به في أفعاله ولا يكون متبوعاً إلا إذا فعل المأموم مثل فعله معقباً بفعله لفعل الإمام
فقه الحديث(1/115)
أولاً : يؤخذ من قوله ( فلا تختلفوا عليه ) تحريم مخالفة المأموم لإمامه لكن اختلف العلماء في الاقتداء مع اختلاف النية بعد اتفاقهم على منعه مع اختلاف الأفعال الظاهرة فذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه إلى جواز القدوة مع وجود الاختلاف في النيات ما لم تختلف الأفعال الظاهرة وذهب المالكية والحنفية والحنابلة في الرواية المشهورة إلى منع اقتداء المفترض بالمتنفل واستدل لهم بقوله ( فلا تختلفوا عليه ) وإن كان يلزم من استدل بهذه الجملة وترك ما عداها من النصوص أن يقول بسراية الحكم في كل ما اختلفت فيه نية الإمام والمأموم لكن لم يفعلوا .
والمذهب الأول هو الراجح لموفقته الأدلة أما اقتداء المفترض بالمتنفل فلحديث جابر المتفق عليه وسيأتي وأما عكسه فلحديث يزيد بن الأسود ومحجن بن الأدرع وقد تقدما في شرح حديث النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر أي تقدمت الإشارة إليهما .
وأما اقتداء المقيم بالمسافر فلحديث عمران بن حصين رضي الله عنه عند أحمد ولفظه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة زمن الفتح ثماني عشرة ليلة يصلي بالناس ركعتين ركعتين إلا المغرب ثم يقول : ( يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين أخريين فإنا قوم سفر ) .
غير أنه من رواية علي بن زيد بن جدعان قال فيه أحمد وابو زرعة ليس بالقوي وقال ابن خزيمة : سيء الحفظ وقال يعقوب بن شيبة ثقة وقال الترمذي صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره . قلت : القاعدة الاصطلاحية أن من كان ضعفه من قبل حفظه كهذا يتوقف فيما تفرد به إلى أن يوجد له شاهد فيرفعه إما إلى الحسن لغيره وإما إلى درجة الصحيح لغيره وقد وجد لهذا الحديث شاهد عن عمر أنه كان إذا قدم مكة صلى ركعتين ثم قال : يا أهل مكة أتموا فإنا قوم سفر . وسنده من أصح الأسانيد فصح الحديث ولزم القول به(1/116)
أما عكسه ففيه أثر عن ابن عباس عند أحمد : أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا أتم بمقيم ؟ قال تلك السنة . قال الشوكاني : أورد الحافظ هذا الحديث في التلخيص وسكت عليه . انتهى
أما أنا فلا أملك وسائل تمحيصه في الحالة الراهنة (1) وإذا صح لزم القول به لأن الاتمام هو الفرض الأصلي .
أما اقتداء المتوضئ بالمتيمم فلحديث عمرو بن العاص في تيممه في غزوة ذات السلاسل بعذر البرد وصلاته بأهل سريته . الحديث أخرجه أبو داود والحاكم وذكره البخاري معلقاً بصيغة التمريض لأنه اختصره . انتهى . ومما يؤيده الأثر المروي عن ابن عباس
وأما اقتداء القاضي بالمؤدي وعكسه فلم أر فيه شيئاً
وبالجملة فهذه الأحاديث تعطي طالب الحق المعافى من مرض التقليد دلالة واضحة أن اختلاف النيات لا يمنع القدوة أيا كان نوعه ومن الممكن أن نستدل على ذلك من نفس الحديث لأن قوله : فإذا ركع فاركعوا .. إلخ تفسير لما منعت فيه المخالفة وتأكيده للنهي عن المخالفة بالأمر بالمتابعة والله أعلم
ثانياً : يؤخذ من قوله ( فإذا ركعوا فاركعوا ) أن نقل المأموم لا بد أن يكون عقب نقل الإمام من غير مهلة ولا يجوز أن يتقدمه أو يساويه . وهل يشرع في النقل بعد شروع الإمام فيه أو بعد فراغه منه ؟ ربما ترجح الثاني للحديث الذي بعد هذا والله أعلم
__________
(1) قلت هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند بألفاظ أقربها إلى هذا ما أخرجه رقم 1862 عن موسى بن سلمة قال : كنا مع ابن عباس بمكة فقلت : أنا إذا كنا معكم صلينا أربعاً وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين ؟ قال تلك سنة أبي القاسم وسنده صحيح (( الألباني )) .(1/117)
ثالثاً: قوله ( إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون ) ظاهره وجوب متابعة المأموم للإمام في الجلوس مع القدرة على القيام وقد عورض هذان الحديثان بحديث عائشة في الصحيحين في صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالناس في مرض موته وهو قاعد وأبو بكر إلى جنبه قائم والناس وراءه وللعلماء في العمل بهذه الأحاديث ثلاثة مسالك :
(أولها ) مسلك الجمع وهو حمل الأمر بالجلوس على ما إذا ابتدأ الصلاة جالساً في مرض يرجى برؤه كما جرى في مرضه الأول وحمل وجوب القيام على ما إذا ابتدأ الصلاة قائماً ثم طرأ عليه الجلوس أو كان في مرض لا يرجى برؤه كما جرى في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - وبهذا قال أحمد رحمه الله وجماعة من محدثي الشافعية كابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر رحمهم الله .
( الثاني ) مسلك النسخ وهو القول بوجوب القيام خلف الإمام القاعد لأن تقريره - صلى الله عليه وسلم - للصحابة على القيام في مرض موته نسخ الحكم الأول وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف والأوزاعي رحمهم الله
( الثالث ) مسلك الخصوصية وهو مذهب المالكية وهو أنه لا يجوز لأحد أن يؤم جالساً غير النبي - صلى الله عليه وسلم - واستدلوا بأثر مرسل من طريق الجعفي وهو متروك ومن طريق مجالد وقد تكلموا فيه وهو مع أن روايه متكلم فيه مرسل معارض بفعل الصحابة الذين أموا جالسين والأصل عدم الخصوصية وحكى الحافظ في الفتح أن ابن العربي المالكي قال : لا جواب لأصحابنا يخلص عند السبك واتباع السنة أولى والتخصيص لا يثبت بالاحتمال .
إذا علم هذا فالجمع أقوى هذه الثلاثة المسالك من جهة النظر لأنه لا يرجع إلى النسخ إلا بعد تعذره وقد حصل والله أعلم أهـ .
[(1/118)
79] وعن عبدالله بن يزيد الخطمي الأنصاري رضي الله عنه قال : حدثني البراء(1) وهو غير كذوب – قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال : ( سمع الله لمن حمده ) لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجداً ثم نقع سجوداً بعده . رواه مسلم
موضوع الحديث : كيفية اتباع المأموم لإمامه في التنقل في الأركان
المفردات
اختلف العلماء في الضمير في قوله وهو غير كذوب هل يعود على على عبدالله بن يزيد الخطمي ويكون قائل ذلك هو أبو إسحاق السبيعي الراوي عنه رجح هذا ابن معين والحميدي وغيرهم أو يعود على البراء ويكون القائل لذلك هو عبدالله بن يزيد الخطمي وحذف المؤلف لأبي إسحاق يدل على ترجيحه للثاني
لم يحن : من حنا الشيء إذا قوسه أي لم يشرع أحد منا في الهبوط للسجود
المعنى الإجمالي
أفاد الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتأخرون بفعلهم عند التنقل في الأركان عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتلبس بالركن الذي ينتقل إليه
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث كيفية المتابعة وهي أن المأموم لا يشرع في الانتقال إلا بعد تلبس الإمام بالركن الذي انتقل إليه وهو يعين الاحتمال الذي في حديثي عائشة وأبي هريرة إذ أن قوله ( وإذا ركع فاركعوا ..) إلخ محتمل لأن يكون شروع المأمومين في الانتقال بعد فراغ الإمام منه أو بعد شروعه فيه ويتعين الأول لهذا الحديث غير أن هذا لا يتأتى إلا في حق الإمام الذي يطول أركان الصلاة كالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه في هذه السنة
ثانياً : يؤخذ منه سنية تطويل الركوع والسجود والاعتدال وقد ترك الأئمة هذه السنة إلا من رحم ربك والله أعلم
[
__________
(1) البراء بن عازب بن الحارث بن عدي الأنصاري الأوسي صحابي استصغر يوم بدر نزل الكوفة ومات سنة 72 هـ ت654(1/119)
80] وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه إن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه )
موضوع الحديث: التأمين في الصلاة
المفردات
إذا أمن الإمام : أي قال آمين وآمين بالمد والتخفيف ومعناه اللهم استجب وقيل آمين بالتثقيل ومعناه قاصدين والأول أصح وأشهر
وقوله فأمنوا : الفاء واقعة في جواب الشرط لأنه طلب
وقوله غفر له ما تقدم من ذنبه : أي الذي تقدم من ذنبه
المعنى الإجمالي
لما كانت الفاتحة تشتمل على الحمد والثناء والتفويض والدعاء شرع الله عز وجل على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - التأمين للمأمومين مع إمامهم لأنهم بالتأمين يكونون قد شاركوه فيما احتوت عليه هذه السورة من المعاني العظيمة
فقه الحديث
أولاً : في الحديث دليل على مشروعية التأمين وفيه أربعة مذاهب
المذهب الأول : مشروعية الجهر به للإمام والمأموم والمنفرد حكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق وهو الأرجح لما عليه من الأدلة التي لا سبيل إلى ردها
المذهب الثاني : مشروعيته سراً في الجهرية وبه يقول أبو حنيفة وهو رواية عن مالك إلا أن مفهوم حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على الجهر بالتأمين وبذلك بوب البخاري على الحديث وأصرح منه في الدلالة على الجهر ما رواه النسائي وصححه (1) وابن خزيمة وابن حبان من طريق نعيم المجمر قال صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين فقال آمين وقال الناس آمين فذكر الحديث وفي آخره ويقول إذا سلّم والذي نفسي بيده إني لأشبهكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) لعل الواو هنا سبق قلم فإن الحديث عند النسائي ( 1/144) ولم يصححه وفي السند سعيد بن أبي هلال وكان اختلط كما قال أحمد ثم هو ليس صريح الدلالة على الجهر لأنه لم ينص عليه فيه بل لو قال القائل ليس ظاهر في ذلك لما أبعد . (( الألباني )) .(1/120)
وأصرح من حديث نعيم أيضاً ما رواه الترمذي عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) فقال آمين ومد بها صوته ورجال إسناده رجال الصحيحين إلا حجر بن عنبس فقد حكى الحافظ في التلخيص أن ابن القطان أعل الحديث به وقال أنه لا يعرف وخطأ الحافظ ابن القطان ووثقه وصحح حديثه ثم نقل عن الدارقطني أنه صححه أيضاً وعن ابن معين أنه وثق حجراً المذكور وقد تابع حجراً على هذا الحديث عن وائل بن حجر عبدالجبار بن وائل بن حجر ومن هنا نعلم أن المذهب الأول هو الصحيح لهذه الأدلة والله أعلم
المذهب الثالث : أن التأمين يشرع للمأمومين دون الإمام وبه قال مالك . والعجب أنه هو الراوي لحديث أبي هريرة وقد اعتذر من تمذهب له عن الحديث بأعذار كلها واهية والحق أحق أن يتبع
المذهب الرابع : أنه لا يشرع لا سراً ولا جهراً وأن فعله بدعة بهذا قالت العترة ولا ينظر إليه لمصادمته النصوص والله أعلم
ثانياً : يؤخذ منه أن الملائكة تؤمن على دعاء بني آدم
ثالثاً : يؤخذ منه التأمين وأنه من موجبات الغفران
رابعاً : قوله ( غفر له ما تقدم من ذنبه) محمول على الصغائر دون الكبائر .
[81] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء )
[82] عن أبي مسعود الأنصاري (1)رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا قال فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال : ( يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن من وراءه الكبير والصغير وذا الحاجة )
__________
(1) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري أبو مسعود البدري صحابي جليل مات قبل الأربعين وقيل بعدها ت 4681(1/121)
موضوع الحديثين: ندب الأئمة إلى التخفيف في الصلاة على المأمومين تخفيفاً في تمام
المفردات
فليخفف : اللام للأمر والمأمور به التخفيف
السقيم : المريض
ذا الحاجة : صاحب الحاجة
قط : ظرف يقصد به النفي لما مضى من الزمن
منفرين : من نفر الشيء إذا تسبب في طرده وتشريده
الكبير : الشيخ الطاعن في السن الذي تغلب عليه الضعف . يعم من كان ضعفه بسبب طارئ كالمرض ومن كان ضعفه من أصل الخلقة
من أجل فلان : هو أبي بن كعب أفاده الحافظ في الفتح والله أعلم
المعنى الإجمالي
من المقاصد التي يؤسس الإسلام عليها دعوته ليبني مجتمعاً مكوناً من عناصر مختلفة حتى يكون ذلك المجتمع صرحاً شامخاً متيناً يستعصي على قوة التفرقة والتبديد من تلك المقاصد التأليف والتيسير والتباعد عن كل ما فيه تعسير للعبادة حتى تكون في نظر من لا يفهم الحقيقة صعبة بعيدة عن متناول كثير من الناس فيكون ذلك سبباً للتنفير عن الدين إلا أن التأليف لا يجوز أو يستحب إلا بما ليس فيه إخلال بحق العبادة في صحتها أو كمالها أما إذا صلى الإنسان وحده فله أن يطول كيف شاء ما لم يخرجه التطويل عن الوقت .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ منه سنية تخفيف الإمام بالمأمومين في صلاة الجماعة لأن في ذلك مصالح منها : الرفق والرحمة بالمأمومين ، ومنها التألف لهم بعدم التشديد عليهم ومنها دعوة بلسان الحال إلى المواظبة على الجماعة(1/122)
إلا أن معرفة التخفيف المطلوب فيها شيء من الصعوبة بمكان لأنه كما قال العلامة ابن دقيق العيد : أمر نسبي يختلف باختلاف أحوال الناس وعاداتهم فقد يكون الشيء ثقيلاً بالنسبة إلى عادة قوم خفيفاً بالنسبة إلى عادة آخرين وأنت إذا نظرت إلى السبب الذي قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - من أجله هذا الحديث والسبب الذي من أجله غضب على معاذ رضي الله عنه يمكنك أن تقول : أن التطويل المنهي عنه هو القراءة بسورة البقرة وما شابهها من السور الطوال لا سيما إذا قرنته بقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي وصفتها السنة فقد صح أنه كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المائة في الركعة الواحدة وكان يقوم في الظهر بقدر ما يذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يرجع فيتوضأ ثم يأتي إلى المسجد فيجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قائماً في الركعة الأولى وأنه قرأ في المغرب بطول الطوليين يعني الأعراف وأنه قرأ في الصبح بالمؤمنين والمغرب أيضاً بالطور والمرسلات وفي الظهر أيضاً بلقمان والسجدة إلى غير ذلك .
وعندما ترجع إلى الموازنة بين حال الصحابة وحال المسلمين في هذه الأزمنة المتأخرة تعرف أنما يسمى في عرف الصحابة تخفيفاً يسمى في عرف الناس اليوم تطويلاً .
والقول الفصل في هذه المسألة : أنه يجب على الإمام أن يكون حكيماً يضع الأمور موضعها فيطول تطويلاً لا يخرج إلى حد التنفير تارات ويخفف تخفيفاً لا يخرج إلى حد الإخلال بحق الصلاة تارات ويغلب جانب التخفيف على جانب التطويل ويكون ذلك متمشياً طوع المصلحة التي يفرضها الوقت وتمليها المناسبات بالنظر إلى أحوال المأمومين . والله أعلم
ثانياً : يؤخذ منه أن التطويل خلاف الأولى مع وجود الدواعي المقتضية للتخفيف
ثالثاً : يؤخذ منه الغضب في الموعظة وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمر وجهه وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول : صبحكم و مساكم(1/123)
رابعاً : يؤخذ منه أن التعمق في العبادة الذي يوجب تنفير الناس عنها وكراهتم لها خطأ يوجب الاستنكار
خامساً : فيه مثال من عدالة الشارع الحكيم ورحمته بالضعفاء حيث جعل حالهم هو المؤثر في الحكم وإن كانوا هم القلة والأقوياء هم الكثرة
سادساً : يؤخذ منه أنه إذا تعارض مصلحتان ولم يمكن الجمع بينهما يعمل بأعمهما نفعاً والله أعلم
وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله رب العالمين . تم الجزء الأول ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله ومنه العون وبه الثقة(1/124)
باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -
[83] : عن أبي هريرة(1) - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبّر سكت هُنيهة قبل أن يقرأ . فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أرايت سكوتك بين التكبير والقراءة ، ما تقول ؟ . قال : { أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللّهم نقني من خطاياي كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرَد }(2) .
موضوع الحديث :
الاستقتاح في الصلاة ، والاستفتاحات على أنواع ثلاثة : دعاء كهذا وثناء كحديث أبي سعيد الخدري : { سبحانك اللهم وبحمدك }(3) ، ومزيج من الثناء والدعاء كحديث علي(4) ، وابن عباس(5) عند مسلم(6) .
المفردات :
هنيهة : مصغر هنة أي وقت يسير .
بأبي وأمي : أي أفديك بأبي وأمي .
نقني : طهرني حتى أكون نقياً .
الدرن : الوسخ .
الثلج : هو الماء المتجمد بالطبع لا بالصناعة .
البرد : قطع بيض تنزل مع المطر تشبه الملح الذكر .
المعنى الإجمالي :
__________
(1) ... أبو هريرة تقدمت ترجمته في الجزء الأول (ص9) .
(2) ... أخرجه البخاري ، باب ما يقول بعد التكبير ، وأخرجه مسلم ، باب : ما يقول : بين تكبيرة الإحرام والقراءة ، وأخرجه أبو داود رقم (7819) ، وابن ماجة رقم (805) ، والنسائي ، باب : الدعاء بين التكبير والقراءة .
(3) ... سيأتي تخريجه .
(4) ... سيأتي تخريجه .
(5) ... في باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل .
(6) ... صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص44 .(2/1)
سأل أبو هريرة - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يقوله في سكتته بين التكبير والقراءة ، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يقول هذا الدعاء الجامع النافع المقتضي للمباعدة بينه وبين خطاياه بعداً لا لقاء بعده ، كالبعد الذي بين المشرق والمغرب ، وأن ينقيه من خطاياه ، أي ينظفه منها كتنظيف الثوب الأبيض الذي غسل بالمنظفات ، وأن يغسله بالماء والثلج والبَرَد .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ من قوله : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبّر سكت هنيهة قبل أن يقرأ . دليل أنه داوم على هذه السكتة ؛ لأن (كان) تفيد الاستمرار غالباً ، وهو متعقب بما لا ينتهض هنا .
ثانياً : فيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من استحباب هذا الذكر وغيره من الأذكار الواردة في الاستفتاح بين التكبير والقراءة خلافاً للمالكية القائلين بكراهة ذلك .
وخلافاً للهادوية بأن التوجيه محله قبل التكبير ، ففي هذا الحديث وحديث علي عند مسلم ردٌّ عليهم بما ثبت عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، والشرُّ في مخالفته واتباع أقوال الرجال .
ثالثاً : في قوله : " ما تقول ؟ " إشعار بأنه كان يقول شيئاً في هذه السكتة ولعله استدل على ذلك باضطراب لحيته كما قال ابن دقيق العيد(1) .
رابعاً : يؤخذ منه حرص الصحابة – - رضي الله عنهم - على تعلّم الدين وتتبعهم لأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله .
__________
(1) ... هو الشيخ محمد بن علي بن دقيق العيد القشيري ولد في يوم السبت 25/8/625 وتوفي في يوم الجمعة 11/2/702 رحمه الله .(2/2)
خامساً : يؤخذ من قوله : " أقول ...الخ " استحباب الدعاء بما ورد فيه بين التكبير والقراءة وهو الذي يسمى الاستفتاح ، وهذا الحديث هو أصح ما ورد في الاستفتاح لأنه متفق عليه ، وقد روى مسلم من حديث علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة قال : { وجهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونئسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ...}(1) الحديث .
وفي رواية غير يوسف بن الماجشون(2) وهما :
__________
(1) ... أخرجه مسلم في باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل .
(2) ... يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون ، أبو سلمة المدني ، ثقة من الثامنة ، روى له (خ، ت ، س ، ق ، م ) مات سنة خمس وثمانين ، وقيل قبل ذلك . انظر : التقريب (7895) .(2/3)
عبد الرحمن بن مهدي(1) وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشُون(2) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصلاة كبّر ثم قال : وجهتُ وجهي .. الحديث . ورواه ابن خزيمة(3) ، والشافعي(4) في "الأم" وقيّداه بالمكتوبة .
__________
(1) ... عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري ، مولاهم ، أبو سعيد البصري ، ثقة ثبت ، حافظ عارف بالرجال والحديث ، قال ابن المديني : ما رأيت أعلم منه ، من التاسعة ، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة ، روى له الجماعة . انظر : التقريب (4018) .
(2) ... عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون بكسر الجيم بعدها معجمة مضمومة ، المدني ، نزيل بغداد ، مولى آل الهدير ، ثقة فقيه ، مصنف من السابعة ، مات سنة أربع وستين ، روى له الجماعة . انظر التقريب : (4104) .
(3) ... هو محمد بن إسحاق بن المغيرة شيخ الإسلام وإمام الأئمة ، أبو بكر النيسابوري ، ولد سنة 223هـ ، وتوفي سنة 311هـ ، كان آية في الحفظ ، حتى كان يقول : " ما كتبت سواداً في بياض إلا وأنا أعرفه " اهـ . التذكرة (2/720) رقم (734) .
(4) ... محمد بن إدريس بن العباس ، عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب المطلبي ، الإمام ، أبو عبد الله الشافعي ، المكي ، نزيل مصر ، رأس الطبقة التاسعة ، وهو المجدد أمر الدين على رأس المائتين ، مات سنة 204هـ ، وله أربعٌ وخمسون سنة . التقريب رقم (5717) .(2/4)
وذكر الحافظ في الفتح (2/23) وتبعه الشوكاني(1) أن مسلماًَ قيّده بصلاة الليل ، وتعقبه(2) الشيخ عبد العزيز بن باز(3) – رحمه الله – ونسب ذلك إلى الوهم ، وعندي أن نسبة الحافظ إلى الوهم في هذا ليس بجيد فلعله أخذ ذلك من وضع مسلم له في صلاة الليل أو أن زيادة "من جوف الليل" كان في نسخته ، والمهم أن الشافعي أخذ بهذا التوجيه واختار أحمد بن حنبل(4) دعاء { سبحانك اللهم وبحمد وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ولا إله غيرك } رواه أبو داود(5)
__________
(1) ... محمد بن علي الشوكاني المتوفي سنة 1250 صاحب نيل الأوطار وشرح منتقى الأخبار .
(2) ... أي استنكر ما قاله ورد عليه فيه .
(3) ... هو الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء ، ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي ، العالم العابد ، الورع الزاهد ، له مناقب جمة ، وفضائل كثيرة ، ومشاركة في الخير واسعة تدل على إخلاصه وعزوفه عن الدنيا ، ولد سنة 1330هـ وكف بصره وهو صغير ، لازم الدراسة على مشائخ عصره ، وأكثر من ملازمة الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي الأسبق للملكة ، ولي القضاء ثم التدريس في كلية الشريعة ، ثم عين رئيساً للجامعة الإسلامية أولاً بالنيابة ، وبعد وفاة شيخه محمد بن إبراهيم عين رئيساً لها ، ثم عين رئيساً للإفتاء ، له صراحة في قول الحق مع حكمة وروية ، توفي – رحمه رحمة واسعة – سنة عشرين وأربعمائة وله تسعون سنة . اهـ التقريب (96) .
(4) ... أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني المروزي ، نزيل بغداد ، أبو عبد الله ، أحد الأئمة ، ثقة حافظ ، فقيه حجة ، وهو رأس الطبقة العاشرة ، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة . اهـ. التقريب (96) . ولو قيل أنه المجدد لما اندرس من الدين في زمنه لما كان بعيد لثباته في محنة القول بخلق القرآن لذلك فهو إمام أهل السنة بحق .
(5) ... رواه أبو داود رقم (776) .(2/5)
عن عائشة رضي الله عنها ، وفي سنده مقال . وأخرجه الخمسة عن أبي سعيد(1) ، وفي سنده علي بن علي الرفاعي(2) متكلم فيه أيضاً ، ووثقه يحيى بن معين(3) .
ورواه مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب(4) - رضي الله عنه - موقوفاً عليه ، وقد اختاره الإمام أحمد – رحمه الله – بأنه ثناء محض ، والثناء على الله أفضل من الدعاء ، أما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فهو دعاء محض وسنده أصح من كل الاستفتاحات ، وحديث علي مزيج من الثناء والدعاء ، ولعل الأولى أن يعمل الإنسان بكل هذه الاستفتاحات ، يعمل بهذا تارة ، وبهذا تارة ، لأنها كلها صحيحة وإن كان حديث أبي هريرة أصح . والله أعلم .
سادساً : استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء بالمباعدة للعصمة في المستقبل والغسل والتنقية لما قد حصل في الماضي وبهذا يعتبر أنه قد سأل الله أن يقيه شر الذنوب الماضية بمحوها وإزالتها والآتية بالمباعدة عنها وعن أسبابها .
__________
(1) ... أخرجه أبو داود – أيضاً – رقم (775) .
(2) ... علي بن علي بن نجاد – بنون وجيم خفيفتين – الرفاعي ، اليشكري بتحتانية مفتوحة ومعجمة ساكنة ، إبو إسماعيل البصري ، لا بأس به ، رمُي بالقدر ، وكان عابداً ، ويقال كان يشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من السابعة ، روى له الأربعة . التقريب (4773) .
(3) ... يحيى بن معين بن عون الغطفاني مولاهم ، أبو زكريا ، البغدادي ، ثقة ، حافظ ، مشهور ، إمام الجرح والتعديل ، من العاشرة ، مات سنة 233هـ بالمدينة وله بضع وسبعون سنة اهـ. التقريب (7651) .
(4) ... سبقت ترجمته في الجزء الأول .(2/6)
سابعاً : في الجمع بين الماء والثلج والبَرد لطيفة وهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار بالمطهرات الحسية إلى المطهرات المعنوية ، وهي العفو والمغفرة والرحمة كما يقول بعض العلماء ،فالماء والثلج والبَرد مطهرات حسية للدنس الحسي والعفو والمغفرة والرحمة مطهرات معنوية للدنس المعنوي ، ومع أن هذه المطهرات قد جمعت بين التبريد والتنظيف والمعاصي من صفاتها الحرارة والوساخة لذلك طلب ما يزيل هذه الصفات بأضدادها . والله أعلم .
[84] : عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك ، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً ، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعداً ، وكان يقول في كل ركعتين التحية ، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى ، وكان ينهى عن عقبة الشيطان ، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع ، وكان يختم الصلاة بالتسليم "(1) .
موضوع الحديث :
بيان كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليأخذ المكلف منها القدوة والأسوة ويعمل جاهداً على تطبقيها في صلاته امتثالاً لقوله : {صلوا كما رأيتموني أصلي } .
المفردات :
يشخص رأسه : يرفعه .
يصوبه : يخفضه عن ظهره .
التحية : هي اسم للتشهد (التحيات) .
يفرش رجله اليسرى : أي يجعلها تحت مقعدته مبسوطة ظاهر القدم إلى الأرض وباطنها تحت المقعدة . وينصب اليمنى : أي عن يمينه بأن يستقبل بأطراف أصابعه القبلة والقدم منصوبة .
__________
(1) ... أخرجه مسلم ، باب : ما يفتتح به ويختتم به من آخر صفة الصلاة ، أما البخاري فلم يخرجه وأخرجه أبو داود برقم (783) ، وابن ماجة برقم (812) باب ما يفتتح به الصلاة ، مختصراً .(2/7)
عُقْبة الشيطان : هي بضم العين وإسكان القاف وإضافتها إلى الشيطان يدل على قبحها ، وصورتها أن يفرش الرجل قدميه ويجعلها عن يمينه وعن يساره ويفضي بعقبه إلى الأرض بينهما .
افتراش الشبع : أي افتراشاً كافتراش الشبع ، وهو وضع المصلي لذراعيه مع كفيه .
المعنى الإجمالي :
وصفت عائشة رضي الله عنها صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرت أنه يدخل في الصلاة بالتكبير أي بلفظ "الله أكبر" ، ويفتتح بالقراءة بـ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي أنه يقرأ الفاتحة قبل السورة ، أو أنه لا يجهر بالبسملة قبل الفاتحة ، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يعتدل قائماً ، وإذا رفع رأسه من السجدة الأولى لم يسجد ثانية حتى يطمئن قاعداً ، وكان يقول في كل ركعتين التحية أي يتشهد بعد كل ركعتين ، وكان يجلس جلسة الافتراش في التشهد وكان ينهى عن الجلسة التي تسمى بعقبة الشيطان ، وينهى عن بسط الذراعين في السجود ويخرج من الصلاة بالتسليم .
فقه الحديث :(2/8)
قال ابن دقيق العيد : سهى المصنف في إيراد هذا الحديث في هذا الكتاب ، فإنه مما انفرد به مسلم عن البخاري ، فرواه من حديث حسين المعلم(1) ، عن بديل بن ميسرة(2) ، عن أبي الجوزاء(3) ، عن عائشة رضي الله عنها ، وشرط الكتاب تخريج الشيخين للحديث . قال ابن حجر : وله علة ، لأنه أخرجه مسلم من رواية أبي الجوزاء عن عائشة ولم يسمع منها . اهـ
قلت : وإخراج مسلم له يدل على صحته عنده ، وفيه عشر مسائل :
الأولى : تعيين التكبير في التحريمة بلفظة "الله أكبر" وهو مذهب الثلاثة : مالك والشافعي وأحمد ، وأجاز أبو حنيفة(4) إبدال اسم أكبر بما دل على معناه كأجل وأعظم .
وأوجب ابن حزم هذا الاسم وأجاز إبدال لفظ الجلالة بالرحمن أو الرحيم ، أو غيرهما من الأسماء مستدلاً بقوله تعالى : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } (الإسراء: من الآية111) .
__________
(1) ... حسين المعلّم : هو الحسين بن ذكوان المعلم ، المكُتِب العوْذي – بفتح المهلمة وسكون الواو بعدها معجمة – البصري ، ثقة ربما وَهِمَ ، من السادسة ، مات سنة خمس وأربعين ومائة . التقريب (1320) .
(2) ... بديل بن ميسرة العُقْيلي البصري ، ثقة ، من الخامسة ، مات سنة خمس وعشرين ومائة ، أو ثلاثين ، أخرج له مسلم والأربعة ، التقريب (646) .
(3) ... أبو الجوزاء هو : أوس بن عبد لله الرَّبعي – بفتح الموحدة – أبو الجوزاء – بالجيم والزاي – بصري يرسل كثيراً ، ثقة ، من الثالثة ، مات سنة ثلاث وثمانين . التقريب (577) .
(4) ... أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، الإمام ، يقال أصله من فارس ، ويقال : مولى بني تميم ، فقيه مشهور ، من السادسة ، مات سنة خمسين ومائة على الصحيح ، وله سبعون سنة . التقريب (7145) .(2/9)
لكن يترجح مذهب الثلاثة ، للعمل المتداول المنقول جيلاً عن جيل من عصر النبوة إلى يومنا هذا على هذا اللفظ في التحريمة ، ولما روى ابن ماجة من حديث أبي حميد الساعدي(1) - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً وقال : الله أكبر (2) ، قال الحافظ : رجاله ثقات ، لكن فيه إرسال . قال : وروى البزار من حديث علي بسند صححه ابن القطان ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة من الليل قال : "الله أكبر ، وجهت وجهي ... الخ " . قال ابن القطان : وهذا يعني تعيين لفظ "الله أكبر" عزيز الوجود غريب في الحديث لا يكاد يوجد حتى لقد أنكره ابن حزم وقال : ما عرف قط . وهو في مسند البزار وإسناده من الصحة بمكان ، قال الحافظ : قلت : هو على شرط مسلم(3) . اهـ
الثانية : استدل بقول عائشة والقراءة بـ { الحمد لله رب العالمين } من لم يرَ البسملة من الفاتحة وهم المالكية ، ومن يرى الإسرار بها وهم الحنفية والحنابلة ، أما الشافعي فقال : إنما معنى الحديث أنه يبدأ بالفاتحة قبل السورة(4) .
كما يقال قرأت تبارك الذي بيده الملك وأنت تريد السورة بأكملها والبسملة منها ، وسيأتي مزيد بيان لذلك – إن شاء الله – والله أعلم .
__________
(1) ... أبو حمبد الساعدي المنذر بن سعد بن المنذر ، أو ابن مالك ، قيل : اسمه عبد الرحمن ، وقيل : عمرو ، شهد أُحداً وما بعدها ، وعاش إلى خلافة يزيد سنة ستين . التقريب (8065) .
(2) ... هكذا نقلته من الفتح ، وعند مراجعة سنن ابن ماجة وجدت الحديث بلفظ : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة ورفع يديه وقال : "الله أكبر" أي : بدون ذكر اعتدل قائماً . وهو في ابن ماجة ، باب : افتتاح الصلاة ، رقم الحديث (803) .
(3) ... انظر : الفتح (2/217) .
(4) ... انظر : شرح النووي على صحيح مسلم (4/214) .(2/10)
الثالثة : يؤخذ من قولها : " وكان إذا ركع .... الخ " ، سنية المحاذاة بين الرأس والظهر وكراهة التشخيص والتصويب الذي سبق بيانه ، بل السنة أن يَهصُرَ المصلي ظهره ويجعل رأسه محاذياً لظهره لا أرفع منه ولا أنزل .
الرابعة : يؤخذ من قولها : " وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً " وجوب الاعتدال بين الركوع والسجود وهو مذهب الأئمة الثلاثة ولم يوجبه أبو حنيفة تمشياً على أصله وهو تقديم المطلق على المقيد مستدلاً بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( } (الحج:77) .
قال : إن الله أمر في هذه الآية بمطلق الركوع والسجود فإذا حصل ما يسمى ركوعاً وسجوداً لغوياً كفى . ويجيب الأئمة الثلاثة والجمهور بأن الأمر المطلق الوارد في القرآن بالركوع والسجود وعموم الصلاة قد بيّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله وقوله ، وقال : { صلوا كما رأيتموني أصلي } وأنكر على من صلى ولم يتم الركوع والسجود وأمر بالإعادة ونفى عنه الصلاة الشرعية بقوله : { ارجع فصل فإنك لم تُصل } . وكان قد حصل منه ما يسمى صلاة في اللغة فاتجه النفي إليها ، وتبين بأن الصلاة لا تسمى صلاة في الشرع ولا تبرأ بها الذمة إلا إذا وقعت على النحو الذي بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تبين بهذا ضعف ما ذهب إليه هذا الإمام – رحمه الله –(1) والله أعلم .
__________
(1) ... وقد تقرر في الأصول أنه : إذا تعارضت حقيقة لغوية وحقيقة شرعية قُدمت الحقيقة الشرعية ، ونزيد هنا بأن الحقيقة اللغوية قد نفاها الشارع - صلى الله عليه وسلم - وأبطلها بقوله : { ارجع فصل ، فإنك من لم تصل } مع أنه كان قد صلى صلاة لغوية بركوع وسجود غير تامين .(2/11)
الخامسة : يؤخذ من قوله :" وكان إذا رفع رأسه من السجود ...الحديث " وجوب الطمأنينة فيه والبحث فيه وفي الركوع والسجود والاعتدال بين الركوع والسجود واحد .
السادسة : يؤخذ من قولها : " وكان يقول في كل ركعتين التحية ..." وجوب التشهد الأول وهو مذهب الإمام أحمد ، وقال مالك وأبو حنيفة بسنية التشهدين جميعاً وقال الشافعي بسنية الأول وفرضية الثاني ، وسأستوفي البحث في بابه – إن شاء الله - .
السابعة : يؤخذ من قولها : "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى .." حجة لمذهب أبي حنيفة ، أن جلسة التشهد الافتراش سواء كان أولاً أو أخيراً ، وقال مالك بعكسه ، وهو سنية التورك فيهما ، وقال الشافعي وأحمد بالفرق بين الأول والأخير ، فالأول جلسته الافتراش ، والثاني جلسته التورك كما ورد في حديث أبي حميد(1)، وهو الراجح الذي يؤكده الأدلة .
الثامنة : يؤخذ من قولها : "وكان ينهى عن عُقبة الشيطان" كراهية هذه الهيئة ، وفسرت بتفسيرين :
أحدهما : أن يفرش قدميه على الأرض ويجلس بعقبه عليهما .
الثاني : أن ينصب قدميه ويفضي بعقبه إلى الأرض بينهما .
وقد تعقب الصنعاني ابن دقيق العيد في الصورة الأولى بأنها هي الواردة في حديث ابن عباس عند مسلم وأخبر أنها هي السنة أي في الجلسة بين السجدتين ، وجعل الصورة الثانية أن يجلس بإليتيه على الأرض وينصب ساقيه .
__________
(1) ... أخرجه أبو داود في أبواب التشهد ، باب : من ذكر التورك في الرابعة ، رقم (963) ، وقال المنذري : أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجة والنسائي بنحوه .
قلت : أخرجه البخاري برقم (828 فتح) (طبع محب الدين الخطيب ، نشر رئاسة البحوث) في باب سنة الجلوس في التشهد ، ولفظه : " فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى ، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدّم رجله اليسرى ونصب الأخرى ، وقعد على مقعدته . اهـ.(2/12)
قلت : هذه الصورة هي التي فسر بها الإقعاء وهو مكروه باتفاق ، إلا أن الإقعاء غير عُقبة الشيطان ، والأقرب أنها هي الصورة الثانية التي يفضي فيها المصلي بعقبه إلى الأرض بين قدميه ، وهذا هو الأقرب إلى تسميتها عقبة(1) والله أعلم .
التاسعة : يؤخذ من قولها : " وكان ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه " كراهية افتراش الذراعين في السجود ، وتتأكد الكراهية بمشابهة السبع .
__________
(1) ... راجع العدة على شرح العمدة للصنعاني (2/292، 293) .(2/13)
العاشرة : يؤخذ من قولها : " وكان يختم الصلاة بالتسليم " دليل لمن قال بوجوب السلام وهم الجمهور ، وقال أبو حنيفة : لا يجب ، مستدلاً بحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً بلفظ : { إذا جلس في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته } وفي سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وهو ضعيف(1) ، ومذهب الجمهور هو الأرجح ، لما عليه من الأدلة الكثيرة التي لا سبيل إلى ردها ، منها هذا الحديث ومنها حديث علي : " وتحليلها السلام " وهو حديث صحيح صححه الترمذي وابن عبد البر وأحمد شاكر(2) وضعفه بعضهم بعبد الله بن محمد بن عقيل(3) ،
__________
(1) ... عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ، تقدمت ترجمته في الجزء الأول ص: 141 .
(2) ... أحمد شاكر هو : أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر من آل علباء الحسيني ، شمس الدين أبو الأشبال ، محدّث مفسر ، فقيه أديب ، ولد بمنزل والده بدرب الآنسية بقسم الدرب الأحمر بالقاهرة ، ورحل مع والده إلى السودان ، فألحقه بكلية غردون ، ثم بمعهد الإسكندرية ، فأخذ فيه عن محمود أبي دقيقة ، وكان لوالده أثر في حياته العلمية ، فقد قرأ له ولإخوانه التفسير والحديث والأصول ، ثم التحق بالأزهر وحاز الشهادة العالمية منه ، وعين مدرساً بمدرسة ماهر ، ثم موظفاً قضائياً ، فقاضياً ، فعضواً ، بالمحكمة العليا ، وحقق ونشر عدداً من كتب الحديث والفقه والأدب ، وتوفي بالقاهرة في 2/11/1377هـ معجم المؤلفين لعمر كحالة (13/368) .
(3) ... عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي ، أبو محمد المدني ، أمه زينب بنت علي بن أبي طالب ، صدوق ، في حديثه لين ، ويقال تغير بآخره ن من الرابعة ، مات بعد الأربعين . اهـ التقريب (3552) .
قلت : والذي يترجح لي أن حديثه من قسم الحسن على الأقل .(2/14)
والطعن فيه من قبل حفظه ، لكن حكى الترمذي عن محمد بن إسماعيل البخاري أنه قال فيه : مقارب الحديث كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجزن بحديثه ، والأحاديث الدالة على السلام كثيرة ولكن أغلبها وردت من الفعل وفي الإيجاب به نزاع عند أهل الأصول غير أنه هنا يفيد الوجوب لأمور ثلاثة :
أحدها : أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت بياناً للمجمل الوارد في القرآن أعني الأمر بالصلاة فقد بينه - صلى الله عليه وسلم - بفعله .
ثانيها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { صلوا كما رأيتموني أصلي } فأمره هذا أمر بأفعاله الواردة في الصلاة ومن لازم ذلك أنها واجبة .
ثالثها : أنه لم يعرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من صلاته بغير سلام ، ومواظبته عليه طول عمره تدل على الوجوب . والله أعلم .
فائدة :(2/15)
في قول عائشة رضي الله عنها : " وكان يختم الصلاة بالتسليم " دليل لمن قال بوجوب التسليمتين باعتبار أن (أل) للعهد الذهني ، أي التسليم المعهود في الذهن ، ويؤيد هذا المفهوم بأدلة كثيرة ، فيها الصحيح والحسن والضعيف ، ومن أصحها حديث عامر بن سعد عن أبيه عند مسلم قال : كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده(1) ، وعزاه في المنتقى إلى أحمد والنسائي ، وحديث ابن مسعود عند أحمد والأربعة بسند صحيح ولفظه عند أبي داود ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده "السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله(2)
__________
(1) ... أخرجه مسلم ، باب : السلام التحليل من الصلاة وكيفية فراغها ن رقم (592/2582) ، وأخرجه النسائي في باب السلام (2/61) .
(2) ... أخرجه الترمذي ، باب : ما جاء في التسليم ، رقم (295) ، تحقيق أحمد شاكر ، وسنده على شرط مسلم ، ورواه النسائي من طريق زهير بن حرب ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن الأسود وعلقمة ، عن عبد الله ، وسنده على شرط الشيخين . وأخرجه أبو داود رقم (996) من طريق أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، وعن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه وعلقمة ، عن عبد الله مرفوعاً . وبالجملة فحديث عبد الله بن مسعود في التسليمتين صحيح ثابت ، صححه الحافظ في "التلخيص" وقال : اصله في مسلم من حديث أبي معمر ، وقال العقيلي : والأسانيد صحاح ثابتة في حديث ابن مسعود في تسليمتين ، ولا يصح في تسليمة واحدة شيء = =اهـ (التلخيص 1/270) . ونقل المنذري عن الترمذي تصحيحه وأقره ، وقد ذكر الحافظ في "التلخيص" أيضاً أن التسليمتين في الصلاةرويت من طريق عمار بن ياسر والبراء بن عازب وسهل بن سعد وحذيفة وعدي بن عميرة وطلق بن علي والمغيرة بن شعبة وواثلة بن الأسقع ووائل بن حجر ، ويعقوب بن الحصين ، وأبي رمثة ..اهـ بالإضافة إلى ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وجابر بن سمرة الذين روينا أحاديثهم هنا .(2/16)
" ، وحديث أبي معمر عند مسلم ، وحديث جابر بن سمرة رواه مسلم ، وفي آخر حديثه : " علام تؤمئون بأيديكم " الخ(1) ، أما الاكتفاء بتسليمة واحدة فقد وردت فيه أحاديث كلها ضعيفة إلا ما رواه الترمذي من طريق أبي حفص التنيسي(2) ، عن زهير بن محمد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه يميل إلى الشق الأيمن شيئاً ، ورواه الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي ، وتكلم البخاري في زهير بن محمد فقال : أهل الشام يروون عنه مناكير ، ورواية أهل العراق عنه أشبه وأوضح .
وقال أبو حاتم : هو حديث منكر .
وضعفه الطحاوي وصوب ابن معين والنووي وابن عبد البر عدم رفعه ورجحوا أنه موقوف على عائشة ، لكن وجد الحديث مرفوعاً من طريق أخرى عزاها الحافظ في التلخيص إلى بن حبان والسراج(3) في مسنده ، وقال هو على شرط مسلم غير أنه يدل على أن وقوع ذلك إنما كان في قيام الليل ، وعلى هذا فجواز الاكتفاء بالتسليمة والواحدة إنما كان في النافلة لثبوت الحديث بذلك ، وقد اختلف القائلون بالتسليمتين في حكمها هل هي واجبة كلها أم لا ؟
__________
(1) ... صحيح مسلم رقم (431) باب : الأمر بالسكون في الصلاة .
(2) ... أبو حفص التنيسي : هو عمرو بن أبي سلمة الدمشقي ورواية الشاميين عن زهير بن محمد ضعيفة وقال في "الفتح" : ذكر العقيلي وابن عبد البر أن حديث التسليمة الواحدة معلول . اهـ من " تحفة الأحوذي " (2/188) .
(3) ... هو محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران ، الإمام الحافظ الثقة ، شيخ الإسلام ، محمد بن إسحاق ، أبو العباس الثقفي مولاهم ، الخراساني النيسابوري ، صاحب المسند على الأبواب ، ولد سنة 216هـ وتوفي سنة 313هـ عن سبع وتسعين سنة . اهـ سير أعلام النبلاء (14/388) .(2/17)
فقال بوجوب التسليمتين الإمام أحمد – رحمه الله – بل ذهب في المشهور عنه إلى أن التسليمتين ركن من أركان الصلاة .
وذهب الشافعي – رحمه الله – إلى وجوب الأولى ، وسنية الثانية .
وذهب أبو حنيفة ومالك – رحمهما الله – إلى سنيتها .
وما ذهب إليه الإمام أحمد هو الأرجح ؛ لمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعلها وقوله : { صلوا كما رأيتموني أصلي } وما ورد من إطلاق في بعض الأحاديث ، فهو محمول على المقيد . والله أعلم .
* * *
[85] : عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع ، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال : "سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد" ، وكان لا يفعل ذلك في السجود . متفق عليه(1) .
موضوع الحديث :
بيان مواضع الرفع في الصلاة وصفته .
المفردات :
حذو : الحذو والحذاء المقابلة والمساواة ، أي جعل يديه مساوية لمنكبيه في الارتفاع .
المكنبين : هما الكتفان .
افتتح الصلاة : أي دخل فيها بالتكبير .
المعنى الإجمالي :
__________
(1) ... أخرجه البخاري رقم (735) و (736) و (738) و (739) في باب رفع اليدين في تكبيرة الإحرام ، ومسلم في باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين رقم الحديث (390) ، وأبو داود باب رفع اليدين في الصلاة رقم الحديث
(721) ، وابن ماجة ، باب رفع اليدين إذا ركع رقم الحديث (858) ، وأخرجه أحمد في مسنده (1/147) .(2/18)
شرعت الصلاة لذكر الله والتذلل لعظمته والخضوع لجلاله ، ومن أجل ذلك كان افتتاحها بإسناد الكبرياء له وحده لا شريك له والمتضمن لعلو القدر "الله أكبر" ، أي مصحوباً برفع اليدين المتضمن لعلو القهر وعلو الذات ، فكان المشرَّع - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه إلى أن تحاذي منكبيه حين يكبر للإحرام ، وحين يكبر للركوع ، وحين يسمعل رافعاً من الركوع ، أما السجود فلم يحفظ ابن عمر الرفع فيه ـ وقد حفظه غيره كما سيأتي إن شاء الله . والله أعلم .
فقه الحديث :
يؤخذ من الحديث مشروعية الرفع في المواضع الثلاثة وهي عند تكبيرة الإحرام ، وعند التكبير للركوع ، وعند الرفع من الركوع .
فأما عند تكبيرة الإحرام فقد أجمعت الأمة على مشروعيته إلا ما روي عن الإمام الهادي من أهل البيت لأنه ثبت بالتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال البيهقي عن شيخه أبو عبد الله الحاكم أنه قال : لا نعلم سنة اتفق على روايتها الأربعة الخلفاء ، ثم العشرة المشهود لهم بالجنة فمن بعدهم من أكابر الصحابة مع تفرقهم في البلدان الشاسعة غير هذه السنة ، قال البيهقي : وهو كما قال أستاذنا .(2/19)
ثم اختلفوا فيما عداه ، فذهب الإمام أحمد – رحمه الله – إلى إثباته في هذه الثلاثة المواضع وفي القيام من التشهد الأول لحديث ابن عمر عند البخاري بلفظ : " وإذا قام من الركعتين رفع يديه " ، وعن علي نحوه عند الترمذي(1) ، وصححه ، وهو عند أبي داود من حديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ادعى مذهباً للشافعي – رحمه الله – مضافاً إلى المواضع الثلاثة المذكورة في حديث ابن عمر ؛ لأنه قال : إذا صح الحديث فهو مذهبي .
قلت : ينبغي لقائل ذلك أن يطّرده في كل مسألة خالف فيها مذهب الشافعي حديثاً صحيحاً ، وهو نص في المسألة لا يحتمل التأويل كهذا . والله أعلم .
وذهب الإمام مالك(2) إلى إثبات الرفع في الثلاثة المواضع وعنه رواية ثانية بقصره على تكبيرة الإحرام والمشهور عنه الأول .
وذهب أبو حنيفة وأهل الكوفة إلى قصر الرفع على تكبيرة الإحرام فقط .
__________
(1) ... محمد بن عيسى ، أبو عيسى الترمذي ، الحافظ الضرير ، قيل : ولد أكمه ، سمع قتيبة وأبا مصعب وتتلمذ للبخاري ، وعنه المحبوبي والهيثم بن كليب وخلق ، مات في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين . اهـ كاشف (ت : 185هـ) ، وترجمه الحافظ في التقريب ونسبه ، فقال : السلمي ، ثم قال : صاحب الجامع ، أحد الأئمة ، ثقة حافظ ، من الثانية عشرة .
(2) ... مالك بن أنس الأصبحي ، أبو عبد الله ، روى عن نافع والزهري ، وعنه ابن مهدي وابن القاسم ومعن وأبو مصعب ، ولد سنة ثلاث وتسعين ، توفي في ربيع الأول سنة مائة وتسعةٍ وسبعين ، ومناقبة أفردتها . اهـ الكاشف (5333) .(2/20)
وقال الحافظ في الفتح : " وأما الحنفية فعولوا أي في ترك الرفع في غير تكبيرة الإحرام على رواية مجاهد(1) أنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك .
وأجيب بالطعن في إسناده ؛ لأن أبا بكر بن عياش(2) راويه ساء حفظه بأخره ، وعلى تقدير صحته فقد أسند ذلك سالم(3) ونافع(4) وغيرهما عنه ، والعدد الكثير أولى من واحد ، لا سيما وهم مثبتون وهو نافٍ مع أن الجمع بين الروايتين ممكن وهو أنه لم يره واجباً ففعله تارة وتركه أخرى " اهـ فتح (2/22) .
__________
(1) ... مجاهد بن جبر ، أبو الحجاج ، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي ، عن أبي هريرة وابن عباس وسعد ، وعنه قتادة وابن عون وسيف بن سليمان ، وحديثه عن عائشة في (خ ، م ) وابن معين يقول : لم يسمعها ، مات سنة مائة وأربع ، وقد رأى هاروت وماروت فكاد يتلف ، إمام في القراءة والتفسير الكاشف (6387) .
(2) ... أبو بكر بن عياش الأسدي الكوفي ، الحناط المقرئ ، أحد الأعلام ، عن حبيب ابن أبي ثابت وعاصم وأبي إسحاق ، وعنه علي وأحمد وإسحاق وابن معين والعطاردي ، قال أحمد : صدوق ثقة ربما غلط ، وقال أبو حاتم : هو وشريك في الحفظ سواء . مات سنة ثلاث وتسعين ومائة في جمادى الأولى عن ست وتسعين سنة . اهـ الكاشف (58) كنى .
(3) ... سالم بن عبد الله بن عمر ، أحد فقهاء التابعين ، عن أبيه وأبي هريرة وعنه الزهري وصالح بن كيسان ، قال مالك : لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى في الزهد والفضل والعيش الخشن منه . توفي سنة ست ومائة . الكاشف
(1791) .
(4) ... نافع أبو عبد الله الفقيه ، عن مولاه ابن عمر وأبي هريرة وعائشة ، وعنه أيوب ومالك والليث ، من أئمة التابعين وأعلامهم ، مات سنة سبع عشرة ومائة . الكاشف (5893) .(2/21)
قلت : روى أبو داود حديثاً عن ابن مسعود - رضي الله عنه - من طريق عاصم بن كليب ، عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة قال : قال : عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : ألا أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة .
قال أبو داود : هذا حديث مختصر من حديث طويل ، وليس بصحيح(1) .
__________
(1) ... أخرجه أبو داود في صفة الصلاة ، رقم (748) باب : من لم يذكر الرفع عند الركوع .(2/22)
وأسند الترمذي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : ثبت حديث من يرفع يديه ولم يثبت حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع يديه إلا في أول مرة(1) ، وروى أبو داود(2) من طريق يزيد بن أبي زياد(3) ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى(4) ، عن البراء بن عازب(5) - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود(6) .
__________
(1) ... راجع تحفة الأحوذي (2/102) .
(2) ... أبو داود هو : سليمان بن الأشعث الحافظ ، صاحب السنن ، عن مسلم بن إبراهيم وأبي الجماهر ، وعنه (ت) وروى (س) عن أبي داود عن سليمان بن حرب والنفيلي وأبي الوليد وهو هو – إن شاء الله – وإلا فالحراني ، وحدث عنه بالسنن ابن الأعرابي وابن داسه واللؤلي وآخرون ، ثبتٌ حجة ، إمام عامل ، مات في شوال سنة خمس وسبعين ومائتين . اهـ كاشف (2089) .
(3) ... يزيد بن أبي زياد الهاشمي مولاهم ، الكوفي ، ضعيف ، كبر وصار يتلقن ، وكان شيعياً من الخامسة ، مات سنة ستٍ وثلاثين ، التقريب (7717) .
(4) ... عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني ، ثم الكوفي ، ثقة من الثانية ، اختلف في سماعه من عمر ، مات بوقعة الجماجم سنة ثلاث وثمانين ، قيل : أنه غرق . التقريب (3993) .
(5) ... البراء بن عازب بن الحارث بن عدي الأنصاري الأوسي ، صحابي ابن صحابي ، نزل الكوفة ، استصغر يوم بدر ، وكان هو وابن عمر لدة . مات سنة ثنتين وسبعين . التقريب (648) .
(6) ... أخرجه أبو داود برقم (749) .(2/23)
حدثنا عبد الله بن محمد الزهري(1) ، حدثنا سفيان(2) ، عن يزيد نحو حديث شريك – يعني السابق – لم يقل : ثم لا يعود ، قال سفيان ، قال لنا بالكوفة : بعد ثم لا يعود ، قال أبو داود : روى هذا الحديث هشيم(3) وخالد(4) ، وابن إدريس(5) عن يزيد لم يذكروا : ثم لا يعود(6) .
__________
(1) ... عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري البصري ، صدوق ، من صغار العاشرة ، مات سنة ست وخمسين ومائتين . التقريب (3589) .
(2) ... سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، أبو عبد الله ، الكوفي ، ثقة حافظ ، فقيه عابد ، إمام حجة ، من رؤوس الطبقة السابعة ، وكان ربما دلس ، مات سنة إحدى وستين ومائة ، وله أربع وستون سنة . التقريب (2445) .
(3) ... هشيم – بالتصغير – بن بشير – بوزن عظيم – بن القاسم بن دينار السلمي ، أبو معاوية ، ابن أبي خازم – بمعجمتين – الواسطي ، ثقة ثبت ، كثير الإرسال الخفي ، من السابعة ، مات سنة ثلاثة وثمانين ومائة ، وقارب الثمانين . التقريب (7312) .
(4) ... خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحان ، الواسطي المزني ، مولاهم ، ثقة ثبت ، من الثامنة ، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة ، وكان مولده سنة عشرة ومائة . التقريب (1647) .
(5) ... عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي ، بسكون الواو ، أبو محمد الكوفي ، ثقة فقيه عابد ، من الثامنة ، مات سنة ثنتين وتسعين ، وله بضع وسبعون سنة . التقريب (3207) .
(6) ... أبو داود رقم (750) ، باب : من لم يذكر الرفع عند الركوع .(2/24)
قال الحافظ في لتلخيص (1/221-222) : واتفق الحُفاظ على أن قوله : " ثم لم يعد " مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد ، ورواه عنه بدونها شعبة(1) والثوري وخالد الطحان وزهير(2)
__________
(1) ... شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم ، أبو بسطام الواسطي ، ثم البصري ، ثقة حافظ متقن ، كان النووي يقول : هو أمير المؤمنين في الحديث ، وهو أول من فتش عن الرجال بالعراق ، وذبّ عن السنة ، وكان عابداً ، من السابعة ، مات سنة ستين ومائة . التقريب (2790) .
(2) ... زهير بن معاوية بن حديج أبو خيثمة الجعفي الكوفي ، نزيل الجزيرة ، ثقة ثبت إلا أن سماعه من أبي إسحاق بأخره ، من السابعة ، مات سنة ثنتين أو ثلاث أو أربع وسبعين ومائة ، وكان مولده سنة مائة . التقريب
(
2051) .(2/25)
وغيرهم من الحفاظ وحكى تضعيفه عن أحمد بن حنبل والبخاري(1) ويحيى(2) والدارمي(3) والحميدي(4) وغير واحد .
ومما احتجت به الحنفية حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - عند مسلم : ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمس ، اسكنوا في الصلاة . وليس فيه دليل على ذلك ؛ لأنه مختصر من حديث طويل تبين من سياقه أن النهي إنما هو عن رفع الأيدي مع السلام ، وبذلك صرّح ابن حبان ، حكاه الحافظ في التلخيص (1/221) .
__________
(1) ... محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي ، أبو عبد الله ، البخاري ، جبل الحفظ ، وإمام الدنيا في فقه الحديث ، من الحادية عشرة ، مات سنة ست وخمسين ومائتين في شوال وله ثنتين وستين سنة . التقريب (5727) ، وترجمه في الكاشف (4790) .
(2) ... يحيى بن معين أبو زكريا المري البغدادي ، الحافظ ، إمام المحدثين ، عن عباد وهشيم ، وعنه : خ ، م ، د ، والفرياني والصوفي وهو أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ، وفضائله كثيرة ، ولد سنة ثمان وخمسين ومائة ، مات طالب الحج بالمدينة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين . الكاشف (6362) . التقريب (7651) .
(3) ... الدارمي هو : عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل ، أبو محمد الدارمي ، الحافظ ، عالم سمرقند ، عن يزيد والنضر بن شميل ، وعنه : م ، د ، ت ، وعمر البحيري والفرياني ، قال أبو حاتم : هو إمام أهل زمانه . ولد سنة إحدى وثمانين ومائة . ومات سنة خمس وخمسين ومائتين . الكاشف (2854) .
(4) ... الحميدي هو : عبد الله بن الزبير أبو بكر الحميدي القرشي المكي ، الفقيه ، أحد الأعلام ، وصاحب ابن عيينة ، سمع مسلماً الزنجي وإبراهيم بن سعد ، عبد الله بن المؤمل ، وعنه : أبو زرعة وأبو حاتم وخلق ، قال الفسوي : ما لقيت أنصح للإسلام وأهله منه . مات سنة تسع عشرة ومائتين . الكاشف (2749) .(2/26)
واحتجوا أيضاً بما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه كلما ركع ، وكلما رفع ، ثم صار إلى افتتاح الصلاة وترك ما سوى ذلك ، قال فيه ابن الجوزي(1) لا أصل له والمعروف عن ابن عباس خلافه ، وقد تبين للقارئ من هذا العرض عدم انتهاض شيء من أدلة الحنفية التي اعتمدوا عليها في ترك الرفع فيما عدا تكبيرة الإحرام لو كان خالياً عن المعارضة فضلاً عن أن تعارض به الأحاديث الصحيحة .
ومن هنا تعلم أن المحاماة عن المذاهب قد تأصلت في الناس ، نحمد الله على السلامة(2) .
__________
(1) ... ابن الجوزي : هو عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي ، يتصل نسبه بأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، الشيخ الإمام العالم ، أبو الفرج ابن الجوزي ، صاحب الوعظ المؤثر والتآليف النافعة ، ولد سنة تسع أو عشر وخمسمائة ، له مؤلفات كثيرة = = توفي في رمضان سنة (597هـ) ، ترجمه في سير أعلام النبلاء (21/365) ، وابن كثير في البداية (13/21) ، وابن الأثير في الكامل (12/71) ، والذهبي في التذكرة (4/1342) .
(2) ... قال الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله – في تعليقه على الترمذي (2/41) : وهذا الحديث – يعني حديث ابن مسعود – من طريق عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة الذي تقدم أن أبا داود ضعفه ، صححه ابن حزم وغيره من الحفاظ ، وهو حديث صحيح ، وما قالوه في تعليله ليس بعلة ولكن لا يدل على ترك الرفع في المواضع الأخرى لأنه نفي ، والأحاديث الدالة على الرفع إثبات ، والإثبات مقدم ، ولأن الرفع سنة وقد يتركها مرة أو مراراً ولكن الفعل الأغلب والأكثر هو السنة وهو الرفع عند الركوع والرفع منه .
وقد جعل العلماء الحفاظ المتقدمون هذه المسألة – مسألة رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه – من الخلاف العويصة ، وألف بعضهم أجزاء مستقلة ، ثم تبعهم من بعدهم في خلافهم ، وتعصب كل فريق لقوله حتى خرجوا بها عن حد البحث إلى حد العصبية والتراشق بالكلام ، وذهبوا يصححون بعض الأسانيد ، أو يضعفون انتصاراً لمذهبهم وتركوا أو كثير منهم الإنصاف والتحقيق ، والمسألة أقرب من هذا كله . اهـ.
قلت : أما أصحاب الحديث الذين ضعفوا حديث ابن مسعود باللفظ الذي استدلت به الحنفية فهم بريئون من العصبية إن شاء الله ، من أمثال الثوري وابن المبارك وأبي داود والبخاري والحميدي والدارمي وأحمد بن حنبل وغيرهم ، ولكن العصبية عند من يحاول تصحيح الضعيف كحديث عبد الله ابن مسعود بتلك الزيادة وتضعيف الصحيح الذي لا مجال للشك في صحته كحديث عبد الله بن عمر النتفق عليه ، وحديث أبي حمدي الذي رواه البخاري وأصحاب السنن وغيرهما لينزل النصوص على مذهب إمامه .
ومن سلك سبيل الإنصاف وتجرد عن الهوى علم أنه على فرض صحة حديث ابن مسعود فإنه لا يقوى على دفع حديث ابن عمر وحديث أبي حميد لأمور :
الأول : أن أحاديث الرفع عند الركوع والرفع منه مثبتة ، وحديث ابن مسعود نافٍ ، والمثبت مقدم على النافي .
الثاني : أن ما روي عن ابن مسعود من ترك الرفع عند الركوع والرفع منه محمول على أنه رآه سنة ففعله مرة وتركه أخرى ، وليس في الترك دليل على رد ما ثبت ، وعلى فرض صحته مرفوعاً فإنه يُحمل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله أحياناً وتركه أحياناً ليبيّن للناس أنه مستحب وليس بواجب . =
= الأمر الثالث : أن القاعدة الاصطلاحية أن يرجع إلى الترجيح عند التعارض وعدم إمكان الجمع ، وقد أمكن الجمع كما تقدم ولو لم يمكن الجمع لكان الواجب أن يقدم حديث ابن عمر وأبي حميد لصحتهما على حديث ابن مسعود الذي تكلم فيه جهابذة هذا الفن ونُقاده الذين يرجع إلى قولهم عند التنازع في التصحيح والتضعيف . والله أعلم .(2/27)
ثانياً : يؤخذ منه أن غاية الرفع إلى حذاء المنكبين أي ما يقابلها . قال ابن دقيق العيد – رحمه الله – هو اختيار الشافعي في منتهى الرفع ، وأبو حنيفة اختار الرفع إلى حذو الأذنين ، وفيه حديث آخر يدل عليه .
قلت : هو حديث مالك بن الحويرث عند مسلم بلفظ : " كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه(1) " .
وقال : ورجح مذهب الشافعي بقوة السند لحديث ابن عمر وبكثرة الرواة لهذا المعنى ،فروى عن الشافعي أنه قال : روى هذا الخير بضعة عشرة نفساً من الصحابة ، وربما سلك طريق الجمع – أي الشافعي – فحمل خبر ابن عمر على أنه رفع يديه حتى حاذت كفاه منكبيه ، والخبر الآخر على أنه رفع يديه حتى حاذت أطراف أصابعه أذنيه .
قال الصنعاني : هو جمع حسن(2) .
قلت : ويؤيده حديث عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه عند أبي داود بلفظ : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ويحاذي بإبهاميه أذنيه(3) " . ثم كبر . رجاله رجال الصحيح إلا أن عبد الجبار لم يسمع من أبيه كما ذكر الأئمة . والله أعلم .
أما ترتيب التكبير مع الرفع ففيه أقوال ، أحدها تقديم الرفع على التكبير دليله حديث ابن عمر عند مسلم بلفظ : " رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ثم كبّر(4) " .
أما حديث عبد الجبار المتقدم فهو منقطع كما عرفت .
__________
(1) ... أخرجه مسلم ،باب : استحباب رفع اليدين حذو المنكبين برقم (391) .
(2) ... سبل السلام (1/383) .
(3) ... أخرجه أبو داود ، باب " رفع اليدين في الصلاة برقم (724) .
(4) ... أخرجه مسلم في باب : استحباب رفع اليدين حذو المنكبين برقم (390) .(2/28)
الثاني : تقديم التكبير على الرفع دليله حديث مالك بن الحويرث عنده – أيضاً – بلفظ إذا صلى كبر ثم رفع يديه(1) ، وفي آخره وحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل هكذا . قال الحافظ : ولم أر من قال بتقديم التكبير على الرفع .
قلت : إذا ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يهمنا ، قال به أحد أم لا ، ما لم يعلم له ناسخ ، ولا ناسخ هنا ، بل الذي يظهر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز الجميع ، نعم إذا ثبت الإجماع على ترك العلم بحديث فإنه يدل على نسخه وإن لم يعلم الناسخ كما قال الشيخ حافظ – رحمه الله - :
وليس الإجماع على ترك العمل ** بناسخ لكن على الناسخ دل
الثالث : يرفع مع التكبير يبتدئ معه وينتهي معه ، دليله حديث عبد الجبار بن وائل عند أبي داود(2) : حدثني أهل بيتي عن أبي مرفوعاً بلفظ : يرفع يديه مع التكبير . وهو منقطع ، وفي سنده مجهول إلا أنه يعتضد بحديث
عبد الرحمن بن عامر اليحصبي(3) عند البيهقي(4) نحو حديث عبد الجبار(5) ذكر ذلك الحافظ في التلخيص(6) واستنبطه البخاري من حديث ابن عمر .
__________
(1) ... أخرجه مسلم في باب : استحباب رفع اليدين حذو المنكبين برقم (391) .
(2) ... أخرجه أبو داود رقم (725) .
(3) ... عبد الرحمن بن عامر اليحصبي الشامي من أهل دمشق ، وهو أخو عبد الله بن عامر المقري ، ترجمه في التهذيب (6/203) وقال ذكره أبو زرعة في الطبقات في نفر ثقات وفي التابعين من ثقات ابن حبان عبد الرحمن اليحصبي .
(4) ... البيهقي (2/26) .
(5) ... عبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي الكوفي عن أبيه وأخيه علقمة ، قال ابن معين : ثقة لم يسمع من أبيه ، وقال غيره سمع ، توفي سنة ثنتي عشرة ومائة ، الكاشف (3128) .
(6) ... التلخيص الحبير (1/218) .(2/29)
الرابع : يرفع غير مكبر ثم يكبر ويداه قارتان ثم يرسلهما دليله حديث ابن عمر عند أبي داود مرفوعاً بلفظ : " رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ثم كبر وهما كذلك(1) " . غير أن في إسناده محمد بن المصفي الحمصي ، قال فيه ابن حجر : صدوق له أوهام وكان يدلس(2) ، وبقية بن الوليد وهو مدلس أيضاً(3) ، ولكنهما قد صرحا بالتحديث هنا .
الجمع : قد رأيت أن كلا من الأقوال الأربعة يستند إلى دليل يظهر معارضته لغيره ، والأولى الجمع بجواز الجميع . والله أعلم .
__________
(1) ... أخرجه أبو داود في باب رفع اليدين في الصلاة برقم (722) .
(2) ... ترجم له في التقريب رقم (6304) ، وقال من العاشرة ، مات سنة ست وأربعين ومائتين ، وترجم له في الكاشف برقم (5243) ، وقال : ثقة يغرب ، يعني محمد بن المصفي .
(3) ... ترجم لبقية في التقريب برقم (734) وقال : كثير التدليس عن الضعفاء ، من الثامنة ، مات سنة سبع وتسعين ومائة ، وله سبع وثمانون سنة ، وترجم له في الكاشف الذهبي برقم (626) وقال النسائي : إذا قال حدثنا فهو ثقة .(2/30)
ثالثاً : يؤخذ من قوله " رفعهما كذلك ، وقال سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد " سنية الجمع بين التسميع والتحميد للمأموم لقوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وبه يقول الشافعي وعطاء وابن سيرين ، لكن يعارضه حديث أبي هريرة المتفق عليه : { إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده }(1) ، وبحديث أيضاً عند البخاري والترمذي مرفوعاً بلفظ :{ إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا ولك الحمد ، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه }(2) ، وهما نصان في أن المأموم ذكره التحميد دون التسميع في الاعتدال ، وبذلك أخذ الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – في المأموم وأخذ بحديث ابن عمر في الإمام والمنفرد وهو الأرجح لما علم من القواعد الأصولية أن القول مقدم على الفعل لا سيما وهذا أمر مرتب على التسميع ، أما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده فليقل من وراءه سمع الله لمن حمده " . أخرجه الدارقطني في باب نسخ التطبيق (1/339 ، 340) .
وأخرج بعده اللفظ الآخر : " فليقل من وراءه اللهم ربنا ولك الحمد " ، وقال : هذا هو المحفوظ بهذا الإسناد . والله أعلم .
__________
(1) ... أخرجه البخاري برقم (689) باب : إنما جعل الإمام ليؤتم به . وأخرجه مسلم في باب : إتمام المأموم بالإمام ، من حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما .
(2) ... أخرجه البخاري برقم (796) باب : فضل اللهم ربنا ولك الحمد . وأبو داود برقم (848) باب : ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع . والترمذي برقم (267) تحقيق أحمد شاكر .(2/31)
نقله الحافظ في الفتح وقال – أيضاً – بعد ذكر الخلاف في المسألة : وزاد الشافعي أن المأموم يجمع بينهما أيضاً ، لكن لم يصح في ذلك شيء(1) .
أما ما ذهب إليه مالك وأبو حنيفة – رحمهما الله تعالى – من أن الإمام لا يقول : ربنا ولك الحمد . فهو مذهب ضعيف ، ولعدم استناده إلى حجة قوية ، أما المنفرد فحكى الطحاوي وابن عبد البر الإجماع على أنه يجمع بينهما . والله أعلم .
__________
(1) ... راجع الفتح (2/282 ، 284) وبالرجوع إلى نسخة الدارقطني المطبوعة في حديث أبي هريرة وجد لفظه فيه مخالفاً لما هو في الفتح ، فأثبت الحديث من الدارقطني ولعلّ الحافظ نقل اللفظ الذي عنده من نسخة أخرى . والله أعلم .(2/32)
رابعاً : يؤخذ من قوله : " وكان لا يفعل ذلك في السجود " عدم مشروعية الرفع في السجود ، وإليه ذهب الجمهور ، ولكن روى ابن حزم(1) في المحلى حديثاً بسنده إلى محمد بن بشار(2) ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي(3) ، عن عبيد الله بن عمر(4) ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرفع يديه إذا دخل في الصلاة ، وإذا ركع ، وإذا قال سمع الله لمن حمده ، وإذا سجد ، وبين الركعتين يرفعهما إلى ثدييه ، ثم قال : قال علي : هذا الإسناد لا داخلة فيه ، وما كان ابن عمر ليرجع إلى خلاف ما روى من ترك الرفع عند السجود إلا وقد صح عنده فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك(5) .
__________
(1) ... أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأموي مولاهم ، الفارسي الأصل ، الأندلسي الظاهري ، كان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن وسعة العلم ، إلا أنه عرف بالوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد أحد يسلم من لسانه ، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة مشرداً عن بلده من قبل الدولة .
(2) ... محمد بن بشار بن عثمان أبو بكر العبدي ملاهم ، الحافظ بندار ، عن معتمر وغندر وعنه الجماعة وابن خزيمة وابن صاعد ، توفي في رجب سنة ثنتين وخمسين ومائتين . الكاشف (4812) ، التقريب (5754) .
(3) ... عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، أبو محمد البصري الحافظ ، أحد الأشراف ، عن أيوب ويونس وحميد ، وعنه أحمد وإسحاق وابن عرفة والجماعة ، وثقه ابن معين وقال : اختلط بآخره ، مات سنة أربع وتسعين ومائة وله ست وثمانون سنة . الكاشف (3567) ، التقريب (4261) .
(4) ... عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني ، الفقيه الثبت ، عن أبيه والقاسم وسالم ، يقال إنه أدرك أم خالد بنت خالد الصحابية ، وعنه شعبة والقطان وأبو أسامة وعبد الرزاق ، روى له الجماعة ، مات سنة سبع وأربعين ومائة . الكاشف (3627) ، التقريب (4324) .
(5) ... المحلى (4/93، 94) . ط ..المنبرية .(2/33)
اهـ.
وروى الطحاوي في "المشكل" الرفع في السجود عن ابن عمر مرفوعاً(1) ، حكاه الحافظ في الفتح (2/223) وحكم عليه بالشذوذ ، وقال - أيضاً - : وأغرب الشيخ أبو حامد في تعليقه فنقل الإجماع على أنه لا يشرع الرفع في غير المواضع الثلاثة ، وتعقب بصحة ذلك عن ابن عمر وابن عباس وطاووس ونافع وعطاء ، كما أخرجه عبد الرازق وغيره عنهم بأسانيد قوية(2) .
وقد قال به من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر(3) ، وأبو علي الطبري(4) ، والبيهقي ، والبغوي(5) ، وحكاه ابن خويز منداد(6) عن مالك وهو شاذ ،
__________
(1) ... بمراجعة "مشكل الآثار" لم أجد الحديث ، ولعله من المفقود من النسخة .
(2) ... قلت : هذه العبارة تدل على صحة الحديث عنده .
(3) ... هو محمد بن إبراهيم الحافظ الأوحد العلامة أبو بكر بن المنذر النيسابوري ، شيخ الحرم ومفتيه ، ثقة مجتهد فقيه ، له تآليف حسان ، توفي سنة ثمانية عشر وثلاثمائة . شذرات الذهب (2/280) .
(4) ... أبو علي الطبري ، الحسن بن القاسم الطبري الشافعي ، أبو علي ، فقيه أصولي متكلم ، سكن بغداد ودرس فيها ، توفي بها كهلاً ، من تصانيفه : "الإفصاح" في فروع الفقه الشافعي وغيره ، توفي سنة خمسين وثلاثمائة . اهـ معجم المؤلفين لعمر كحالة (3/270) ، وترجمته في شذرات الذهب (3/3) .
(5) ... هو محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفراء ، المحدث المفسر ، صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان ، كان سيداً زاهداً قانعاً ، قال ابن الأهدل : هو صاحب الفنون الجامعة والمصنفات النافعة مع الزهد والورع والقناعة ، توفي في شوال سنة عشر وخمسمائة . اهـ شذرات الذهب (4/48،49) .
(6) ... هو محمد بن أحمد بن عبد الله خويز المالكي العراقي ، فقيه أصولي ، من آثاره كتاب كبير في الخلاف وكتاب في أصول الفقه ، توفي سنة تسعين وثلاثمائة . معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة (8/280) .(2/34)
وأصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع من السجود ما رواه النسائي من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في صلاته إذا ركع ، وإذا رفع رأسه من ركوعه ، وإذا سجد ، وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما أذنيه(1) .
__________
(1) ... الفتح (2/223) ط. رئاسة البحوث وتحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - ، والحديث الذي أشار إليه في الفتح أخرجه النسائي في باب : رفع اليدين في السجود ، من ثلاث طرق ، عن قتادة الأولى منها : أخبرنا محمد بن المثنى ، قال حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن قتادة . والثانية من طريق محمد بن المثنى ، قال حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . والثالثة من طريق محمد بن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، عن أبيه ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث . وأورد النسائي حديثاً عن وائل بن حجر ، باب : مكان اليدين من السجود بسند لا بأس به ، قال : قدمتُ المدينة فقلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الرفع ، وفي آخره : ثم كبر وسجد فكانت يداه من أذنيه على الموضع الذي استقبل به الصلاة .(2/35)
قال : وقد أخرج مسلم بهذا الإسناد طرفه الأخير كما ذكرناه في أول الباب قبل هذا ، ولم ينفرد سعيد أي ابن أبي عروبة(1) بروايته ، فقد تابعه همام(2) ، عن قتادة(3) عند أبي عوانة(4) في صحيحة (5). اهـ.
__________
(1) ... سعيد بن أبي عروبة مهران أبو النضر اليشكري مولاهم ، أحد الأعلام ، عن الحسن ومحمد وأبي رجاء العطاردي وقتادة ، وعنه شعبة والقطان وغندر ، قال أحمد كان يحفظ لم يكن له كتاب ، قال ابن معين : كان أثبتهم في قتادة ، قال أبو حاتم : هو قبل أن يختلط ، ثقة ، توفي سنة ست وخمسين ومائة . الكاشف (1952) ، روى له الجماعة ، التقريب (2365) .
(2) ... همام بن منبه الأبناوي الصنعاني ، عن أبي هريرة ومعاوية ، وعنه ابن أخيه عقيل بن معقل ، توفي سنة ثنتين وثلاثين ومائة ، روى له الجماعة . الكاشف (6090) وقال : صدوق . التقريب (7317) .
(3) ... قتادة بن دعامة أبو الخطاب السدوسي ، الأعمى الحافظ المفسر ، عن عبد الله بن سَرْجَسْ وأنس ، وعنه أيوب وشعبة وأبو عوانة ، مات كهلاً سنة ثمانية عشر ومائة ، وقيل : سنة سبعة عشر ومائة ، روى له الجماعة . الكاشف (4621) .
(4) ... أبو عوانة هو : وضاح بن عبد الله اليشكري ، الحافظ ، مولى يزيد بن عطاء ، سمع قتادة وابن المنكدر ، وعنه عفان وقتيبة ، ثقة متقن لكتابه ، توفي سنة ست وسبعين ومائة ن روى له الجماعة ، الكاشف (6157) ، التقريب
(7407) .
(5) ... الفتح (2/223) .(2/36)
وروى ابن حزم في "المحلى" بسنده إلى ابن أبي شيبة(1) قال : حدثنا عبد الوهاب ابن عبد المجيد الثقفي ، عن حميد(2) ، عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه في الركوع والسجود .
قال الشيخ أحمد شاكر(3) – رحمه الله – في تعليقه على المحلى : هذا إسناد صحيح جداً (4)، وهو كما قال . فإن رواته كلهم أئمة ، أخرج لهم الجماعة .
وروى أبو داود من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - بسند رجاله رجال مسلم قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر للصلاة جعل يديه حذاء منكبيه ، وإذا ركع فعل مثل ذلك ، وإذا وقع للسجود فعل مثل ذلك ، وإذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك(5) . ذكر الحافظ في "التلخيص" وقال : رجاله رجال الصحيح(6) .
وفي الباب عن وائل بن حجر عند أبي داود إلا أنه منقطع ؛ لأن علقمة لم يسمع من أبيه ولكن يتأيد بهذه الأحاديث الثابتة .
والحاصل أن الرفع في السجود قد ثبت من رواية ثلاثة من الصحابة هم :
1- مالك بن الحويرث . 2- أنس بن مالك . 3- أبو هريرة – - رضي الله عنهم - بأسانيد صحيحة .
__________
(1) ... عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الحافظ ، أبو بكر العبسي مولاهم ، الكوفي ، صاحب التصانيف ،عن شريك وابن المبارك وهشيم ، وعنه خ ، م ، د ، ق ، وأبو يعلى والباغندي ، قال صالح : احفظ من أدركنا عند المذاكرة ، وقال الفلاس : ما رأيت أحفظ منه . توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين . الكاشف (2984) .
(2) ... حميد : هو حميد بن تير الطويل ، أبو عبيدة البصري ن مولى طلحة الطلحات الخزاعي ، عن أنس والحسن ، وعنه شعبة والقطان ، مات وهو قائم يصلي سنة ثنتين وأربعين ومائة ، وثقوه ، يدلس عن أنس. الكاشف (1257) .
(3) ... ترجم سابقاً ص186 .
(4) ... أخرجه في "المحلى" (4/92) .
(5) ... أخرجه أبو داود في باب : ما يفتتح به الصلاة ، رقم (738) .
(6) ... التلخيص الحبير (1/219) رقم الحديث (328) .(2/37)
وإنما تركه الجمهور لأنهم رجحوا حديث ابن عمر ومذهب الذين اثبتوه أرجح لأمور ثلاثة :
أولها : أن القاعدة الاصطلاحية أن المثبت مقدم على النافي ، لأنه معه زيادة علم ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ .
ثانيها : أن النافي واحد والمثبتين ثلاثة ، واحتمال الخطأ والنسيان في حق الواحد أقرب منه في حق الاثنين ، فكيف إذا كانوا ثلاثة ، فإن احتماله عليهم أبعد .
ثالثها : أن ابن عمر نفسه قد ثبت عنه الرفع في السجود بسند في غاية الصحة ، ولا يعود إليه إلا وقد ثبت له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1).
* * *
[86] : عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { أُمرتُ أن أسجد على سبعة أعظم ؛ على الجبهة – وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين } متفق عليه(2) .
موضوع الحديث :
أعضاء السجود في الصلاة .
المفردات :
أُمرت : مبنى للمجهول ، وحذف الآمر للعلم به وهو الله – عز وجل - .
أعظُم : جمع عظم ، وهي الأعضاء المذكورة في الحديث .
__________
(1) ... راجع للرفع المحلى (4/93، 94) ، وتعليق أحمد شاكر على الترمذي أيضاً (2/41، 42) ونقل عن ابن حزم الظاهري أنه قال : إن أحاديث رفع اليدين في كل خفض ورفع متواترة توجب يقين العلم ، ونقل هذا المذهب عن ابن عمر وابن عباس والحسن البصري وطاووس وابنه عبد الله ونافع مولى ابن عمر وأيوب السختياني وعطاء بن أبي رباح ، وقال به ابن المنذر وأبو علي الطبري ، وهو قول عن مالك والشافعي ... الخ . اهـ.
(2) ... حديث ابن عباس أخرجه البخاري في مواضع ، أقربها إلى هذا اللفظ ما أخرجه برقم (812) وزاد فيه : " ولا نكفت الثياب ولا الشعر " ، أخرجه مسلم (4/206 ، 207) نووي . وأخرجه الترمذي في باب : ما جاء في السجود على سبعة أعضاء . وأبو داود رقم (889) . والنسائي باب : النهي عن كف الشعر في السجود (2/208) ، وابن ماجة برقم (883/884) .(2/38)
الجبهة : بدل من سبعة وهي مقدم الناصية .
أشار : أي أومأ .
اليدين : المراد بهما الكفين .
أطراف القدمين : أي مقدمها .
المعنى الإجمالي :
خلق الله الخلق للعبادة ، والعبادة الطاعة مع خضوع وتذلل ، وإن من أبرز سمات الخضوع وأوضح علامات التذلل أن تعفّر أشرف عضو فيك وهو الوجه بالتراب ، وتلصقه بالرغام طاعة وتعبداً وتذللاً لجلال ذي الجلال والكمال ، ومن أجل ذلك كان الساجد موصوفاً بالقرب من ربه في السجود ، وناسب أن يكون ذكره التسبيح المستلزم للكمال ليكون مقراً بنقص نفسه بلسان الحال ومثنياً بكمال ربه بلسان المقال ، وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالسجود على هذه الأعضاء جميعاً لتحصل الهيئة المطلوبة وليكون لجميع هذه الأعضاء حظ في العبادة . والله أعلم .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ من قوله : " أمرت أن أسجد " الخ . وجوب السجود على هذه الأعضاء كلها ، ووجه الدلالة منه أن الأمر يقتضي الوجوب إلا أن يصرفه صارف ولا صارف هنا ، فكان وجوب الجمع هو الظاهر ، ولا يختص الوجوب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الأمر له أمرٌ لأمته .(2/39)
بل وقد ورد في بعض روايات البخاري "أمرنا"(1)، وبالوجوب أخذ الإمام أحمد وإسحاق وطاووس ، وهو أحد قولي الشافعي ، ورجحه النووي في شرح مسلم على القول الآخر(2) ، وقال مالك وأبو حنيفة وهو القول الثاني للشافعي بوجوب السجود على الجبهة فقط إلا أن أبا حنيفة يرى أن الواجب هو الجبهة والأنف وكلاهما يجزئ عن الآخر ، وقال الشافعي باستحباب السجود على الأنف ولم يوجبه ، وأوجب أحمد والأوزاعي وابن حبيب من المالكية الجميع بينهما وهو الأرجح ؛ لأن النص جعلهما كالعضو الواحد حيث قال : الجبهة وأشار بيده إلى أنفه ، وقد استنبط منه البخاري ذلك فقال : باب السجود على الأنف ، وأورد الحديث وأصرح منه في الدلالة على الوجوب ما أخرجه الدارقطني عن أبي قتبة(3) حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم الأحول(4) ، عن عكرمة(5) ،
__________
(1) ... البخاري ، باب : السجود على سبعة أعظم ، برقم (810) .
(2) ... شرح النووي على صحيح مسلم (4/208) .
(3) ... أبو قتيبة هو مسلم بن قتيبة الشعيري – بفتح المعجمة – الخراساني ، نزيل البصرة ن صدوق من التاسعة ، مات سنة مائتين أو بعدها ، روى له البخاري والأربعة . التقريب (2471) .
(4) ... عاصم بن سليمان الأحول ، أبو عبد الرحمن البصري ، ثقة من الرابعة ، لم يتكلم فيه إلا القطان ، وكأنه بسبب دخوله في الولاية ، مات بعد سنة أربعين ومائة ، عن الجماعة . اهـ . التقريب (3060) .
(5) ... عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عباس ، أصله بربري ، ثقة ثبت عالم بالتفسير ، لم يثبت أن ابن عمر كذبه ، ولا تثبت عنه بدعة ، من الثالثة ، مات سنة أربع ومائة ، وقيل بعد ذلك ، روى له الجماعة . التقريب (4673) ..(2/40)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين } أخرجه الدارقطني(1) ، قال لنا أبو بكر : لم يسنده عن سفيان وشعبة إلا أبو قتيبة ، والصواب عن عاصم عن عكرمة مرسل .
وقال في "نصب الراية" بعد ذكر كلام الدارقطني : قال ابن الجوزي في التحقيق وأبو قتيبة ثقة أخرج عنه البخاري ، والرفع زيادة وهي من الثقة مقبولة . وذكر المعلق على نصب الراية نقلاً عن "الزوائد" (2/126) عن ابن عباس - رضي الله عنهما – عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من لم يلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته " . رواه الطبراني في الكبير والأوسط ن ورجاله موثقون . اهـ.
قال : واخرجه الحاكم في المستدرك (1/270) ، وقال : صحيح على شرط البخاري وقال : وقد وقفه شعبة عن عاصم .
قلت : في تصحيح ابن الجوزي للحديث مع ما عرف به من التشدد في التصحيح وتوثيق الهيثمي(2) لرجال الحديث الثاني . وظاهر حديث ابن عباس المتفق عليه دلالة بينة على وجوب السجود على الأنف ، وبهذا تعلم أن مذهب القائلين بالوجوب فيه وفي عموم الأعضاء السبعة وهو الراجح ، لموافقة النصوص . والله أعلم .
__________
(1) ... الدارقطني نسبة إلى دار قطن محلة ببغداد ، هو : أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود البغدادي ، الإمام الحافظ الكبير ، شيخ الإسلام ، الحافظ المشهور ، صاحب التصانيف ، إليه المنتهى في معرفة الحديث وعلومه ، كان يدعى فيه أمير المؤمنين ، توفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة . اهـ. من شذرات الذهب .
(2) ... هو نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان بن أبي بكر الهيثمي الشافعي الحافظ ، ولد سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ، وصحب الشيخ زين الدين العراقي والميدومي وغيرهما حتى برع ، من مؤلفاته مجمع الزوائد ، توفي في تسعة عشرة من رمضان سنة سبع وثمانمائة .(2/41)
ثانياً : اختلف العلماء في وجوب مباشرة هذه الأعضاء لموضع السجود وعدم مباشرتها فقال الجمهور بعدم الوجوب ، ومنهم الأئمة الثلاثة ، وقال الشافعي بوجوب مباشرة الجبهة واختلفت عنه الرواية فيما عداها وهذا الاختلاف فيما إذا كان الحائل ثوباً متصلاً بالمصلي متحركاً بحركته ولم تكن ثم ضرورة ، أما في الضرورة فيجوز لحديث أنس بن مالك الآتي : كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه . قال النووي في شرح مسلم : فيه دليل لمن أجاز السجود على طرف ثوبه المتصل به ، وبه قال أبو حنيفة والجمهور(1) ، ولم يجوز الشافعي وتأوّل الحديث وشبهه على السجود على منفصل .
أما أحاديث السجود على كور العمامة فكلها ضعيفة لا تقوم بها حجة ، أما على الثوب المنفصل فيستدل لجوازه بأحاديث منها حديث أنس في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الحصير ، وقد مضى في الجزء الأول (ص132 ، الطبعة الأولى الحديث رقم 74 ) . ومنها حديث ميمونة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على الخمرة . أخرجه البخاري رقم (381) .
ومنها حديث عائشة رضي الله عنها الذي سيأتي في باب السترة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي ينامان عليه ، وفي لفظ : " ورجلي في قبلته ، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي ، فإذا قام بسطتها " وبهذا يتبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى على الحصير وعلى الخمرة وعلى الفراش وفي حكم ذلك كل ما بسط على الأرض كائناً ما كان مادام يتصف بالطهارة . والله أعلم .
* * *
[
__________
(1) ... وانظر : الإفصاح لابن هبيرة (1/141) فقد ذكر عن الإمام أحمد روايتين ، رواية وافق فيها الجمهور ، ورواية وافق فيها الشافعي .(2/42)
87] : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبّر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول : سمع الله لمن حمده ، حين يرفع صلبه من الركوع ، ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد ، ثم يكبر حين يهوي ، ثم يكبر حين يرفع رأسه ، ثم يكبر حين يسجد ، ثم يكبر حين يرفع رأسه ، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها ، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس . متفق عليه(1) .
موضوع الحديث :
تكبير الانتفال وأنه في كل خفض ورفع ماعدا الرفع من الركوع فذكر التسميع .
المفردات :
حين يقوم : أي حين يقف .
حين يرفع صلبه : الصلب هو عمود الظهر الفقري الذي تحيط به الأضلاع .
حين يهوي : أي حين ينحط من القيام إلى السجود حتى يقضيها أي يكملها .
المعنى الإجمالي :
للصلاة هيئات وأذكار ، ولكل هيئة من تلك الهيئات ذكر يختص به ، وقد خص الشارع - صلى الله عليه وسلم - الانتقال بالتكبير فجعله ذكراً له فشرع التكبير في كل انتقال سواء كان من خفض إلى رفع ، أو من رفعٍ إلى خفض إلا الرفع من الركوع فإنه جعل التسميع والتحميد ذكراً له . والله أعلم .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ من قوله : يكبر حين يقوم . أن تكبيرة الإحرام لا تجزئ إلا من قيام للقادر عليه ، فكل انحناء يبطل اسم القيام عند التكبير فإنه يبطل التحريم ويقتضي عدم انعقاد الصلاة فرضاً . أفاده ابن دقيق العيد – رحمه الله(2) - .
__________
(1) ... أخرجه البخاري برقم (789) في باب : التكبير إذا قام من السجود ، وهو أقربها إلى هذا اللفظ . وأخرجه مسلم في باب : إثبات التكبير في كل خفض ورفع برقم (392) . وأخرجه أبو داود برقم (836) في باب : إتمام التكبير . وأخرجه الإمام أحمد في المسند (2/454) . وأخرجه النسائي في باب : التكبير للركوع من صفة الصلاة (2/233) .
(2) ... العدة (2/315) .(2/43)
ثانياً : فيه دليل على إتمام التكبير وأنه مشروع في كل خفض ورفع مع التسميع في الرفع من الركوع ، وقد أجمع عليه بعد أن كان فيه خلاف بين القدماء ، وفي عدم الإتمام حديث رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن أبزى أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان لا يتم التكبير . لكن ذكر الصنعاني في العدة أن البخاري نقل في التاريخ عن أبي داود الطيالسي أنه قال : هو حديث باطل(1) .
__________
(1) ... العدة (2/315) .(2/44)
ثالثاً : اختلف العلماء في حكم تكبير الانتقال بعد الإجماع على مشروعيته فقال الجمهور بسنيته ، وذهب الإمام أحمد وداود الظاهري(1) ، وإسحاق إلى وجوبه وهو الأرجح لحديث خلاد بن رافع(2) – يعني المسي في صلاته – عند أبي داود بلفظ : " إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء – يعني مواضعه – ثم يكبر الله - جل وعز – ويثني عليه ، ويقرأ بما تيسر من القرآن ، ثم يقول الله أكبر ، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله ثم يقول سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائماً ثم يقول الله أكبر ثم يسجد ، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ، ثم يقول : " الله أكبر ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً ، ثم يقول الله أكبر ، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ، ثم يرفع رأسه فيكبر ، فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته " . ورجاله رجال الصحيح . والله أعلم .
تنبيه : إذا حكمتُ على حديث بصحة أو ضعف ، ولم أعزُ ذلك إلى أحد فاعلم أنه بعد بحث واستقراء . والله أعلم .
* * *
[
__________
(1) ... هو : داود بن علي إمام الظاهرية ، أبو سليمان الأصبهاني ثم البغدادي الفقيه ، صاحب التصانيف ، تفقه على أبي ثور وإسحاق بن راهويه وكان ناسكاً زاهداً حافظاً مجتهداً ، وتكلم فيه أبو الفتح الأزدي وغيره ، ومنعه أحمد بن حنبل من الدخول عليه لقوله في القرآن ، توفي سنة سبعين ومائتين في رمضان وله سبعون سنة . اهـ . من شذرات الذهب (2/158) ، وترجمته في التذكرة (597) .
(2) ... خلاد بن رافع بن مالك بن العجلان الأنصاري ، شهد بدراً وأحداً ، ترجمه ابن سعد (3/597) ولم يذكر وفاته ، وترجمه في الإصابة (1/448) ، وذكر أنه هو المسيء وأن أخاه رافع هو الذي روى القصة ، لأنه استشهد ببدر ، فالقصة قبل بدر .(2/45)
88] : عن مطرف بن عبد الله قال : صليتُ أنا وعمران بن حصين - رضي الله عنه - خلف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فكان إذا سجد كبر ، وإذا رفع كّبر ، وإذا نهض من الركعتين كبّر ، فلما قضى أخذ بيدي عمران بن حصين وقال : قد ذكرني هذا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو قال : صلى بنا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم - (1).
موضوع الحديث :
إتمام التكبير .
المفردات :
نهض : أي قام .
قضى : أي أكمل صلاته .
المعنى الإجمالي :
صلى مطرف(2) وعمران بن حصين الصحابي المشهور(3) وراء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فكان يكبر في الانتقال ، إذا خفض ، وإذا رفع ، فلما انقضت الصلاة أقبل عمران على مطرف وقال : لقد ذكرني هذا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم - أي أن صلاته كانت تشبه صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فقه الحديث :
__________
(1) ... حديث مطرف أخرجه البخاري في باب : إتمام التكبير في الركوع برقم (784) ، وفي باب : إتمام التكير في السجود برقم (786) ، وهو اللفظ الذي أورده صاحب العمدة ، ومسلم في صحيحه كتاب الصلاة ، باب استحباب القول ، مثل قول المؤذن رقم (33/393) .
(2) ... مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي العمري أبو عبد الله ، أحد الأعلام ، عن أبيه وأُبي وعلي ، وعنه أخوه يزيد وقتادة وأبو التياح ، مات سنة خمس وتسعين . الكاشف (3/132) .
(3) ... عمران بن حصين الخزاعي أبو نجيد ، أسلم مع أبي هريرة ، وعنه مطرف بن عبد الله بن الشخير وأخوه يزيد وجماعة ، بعثه عمر إلى البصرة ليفقههم ، وكانت الملائكة تسلم عليه ، مات سنة ثنتين وخمسين اهـ. الكاشف (2/299) .(2/46)
أولاً : في الحديث دليل على إتمام التكبير ، وقد كان فيه خلاف في آخر عهد الصحابة – رضوان الله عليهم – وذلك لأن بني أمية تركوا التكبير في بعض الانتقالات في الأركان ، وفيه حديث عند أبي داود ذكرته في شرح الحديث السابق ، وذكرنا ما نقله البخاري عن الطيالسي فيه أنه حديث باطل ، وفي سنده عند أبي داود الحسن بن عمران العسقلاني وثقه ابن حبان وقال : يغرب ، ولا شك أن ابن حبان فيه تساهل معروف ، وطريقته توثيق من لم يعلم فيه قدحاً ، وقد وثق رجالاً في كتاب "الثقات" ، ثم ضعفهم في "الضعفاء" ، وهنا قد خالفه إمامان عظيمان في هذا الشأن هما محمد بن إسماعيل البخاري ، أمير المؤمنين في الحديث ، وأبو داود الطيالسي ، وعلى فرض صحة سنده ، فهو شاذ مقابل بالمحفوظ ، وقد انعقد الإجماع مؤخراً على إتمام التكبير عملاً بالأحاديث الصحيحة والمشهورة . والله أعلم .
ثانياً : يؤخذ منها ما كان عليه الصحابة من المحافظة على السنن وبيان ما يخالفها .
* * *
[89] : عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : رمقتُ الصلاة مع محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريباً من السواء . وفي رواية البخاري : ما خلا القيام والقعود قريباً من السواء (1).
موضوع الحديث :
تساوي الأركان مع ركن القيام للقراءة والجلوس للتشهد أو دونهما .
المفردات :
رمقتُ : لحظتُ لحظاً خفيفاً .
قريباً من السواء : أي كانت قريبة التساوي في المقدار الزماني .
المعنى الإجمالي :
__________
(1) ... أخرجه البخاري برقم (792 و 801 و 820) . نسخة الفتح المطبعة السلفية ، ومسلم في صحيحه برقم (471) في باب : اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام ، وأبو داود برقم (854) في باب : طول القيام من الركوع وبين السجدتين .(2/47)
يخبر البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه لحظ صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراراً وقدرها ليعلمها ويعمل بها في صلاته ، فكانت على النحو التالي :
1- يطول الركوع والسجود والاعتدال .
2- يخفف القراءة والتشهدد حتى تكون هذه الأركان قريبة التساوي في المقدار الزماني ، وقد يطول القراءة والتشهد فتكون ما عداها قريبة من السواء .
فقه الحديث :
هذا الحديث أخرجه البخاري في الصحيح في ثلاثة مواضع (792)
و(801) و(820) من نسخة الفتح بتحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز ، كلها من طريق الحكم ابن عتيبة عن أبي ليلى عن البراء - رضي الله عنه - ، وكلها متقاربة اللفظ إلا ما زاده بدل بن المحبر في روايته من استثناء القيام والقعود كما في الرواية الثانية ، وقد رواه أبو الوليد ، عن شعبة عن الحكم ومحمد بن عبد الرحيم ، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله الزبيري ، عن مسعر ، عن الحَكَم .
وجعلا المحكوم عليه بالتقارب هو الركوع والسجود والاعتدال ، أما الرواية الأولى التي ساقها صاحب العمدة وفيها ذكر القيام والقعود من جملة المحكوم عليه بالتقارب في المقدار فهي من رواية هلال بن أبي حميد عن ابن أبي ليلى ، ولم أرها في صحيح البخاري ، بل هي في صحيح مسلم فقط ، وعلى هذا فهي ليست من شرطه ولم ينبه على ذلك ابن دقيق العيد ولا ابن حجر ن لكن نبه عليه الصنعاني في العدة .(2/48)
ومن هنا يظهر لك التعارض بين رواية الحكم ورواية هلال ، وبينهما فرق كبير في الحفظ والإتقان ، فالحكم(1) أحفظ من هلال(2) عند أهل هذا الشأن .
وهلال وإن أخرج له البخاري ومسلم فقد تكلم فيه ابن معين ، وعلى هذا فلم يبعد من نسب روايته إلى الوهم ، والذي يظهر لي ترجيح رواية الحكم على روايته لأمور :
أولها : أن الحكم أحفظ من هلال عند أهل هذا الشان .
__________
(1) ... الحكم بن عتيبة – بالمثناة ثم الموحدة مصغراً – أبو محمد الكندي الكوفي ، ثقة ثبت فقيه ، إلا أنه ربما دلس ، مات سنة ثلاثة عشرة ومائة ، وقيل بعدها وله نيف وسبعون سنة . اهـ التقريب (1453) ، التهذيب (2/432) .
(2) ... هلال بن أبي حميد أو ابن حميد أو ابن مقلاص ، أو ابن عبد الله الجهني مولاهم أبو الجهم ، ويقال غير ذلك في اسم أبيه وفي كنيته ، الصيرفي ، الوزان الكوفي ، ثقة من السادسة (خ ، م ، د ، ت ، س ) اهـ. التقريب (7333) ، التهذيب (11/77) ، وترجمه في الخلاصة (ص353) وقال : وثقه ابن معين والنسائي ، وقال مرّة : ضعيف ، وقال ابن معين : ليس بشيء ، ووثقه ابن حبان .
قلت : لم يذكر في التهذيب عن ابن معين إلا توثيقه ، ولكن ذكر عن أبي داود أنه قال لا بأس به ، وفي كتاب يحيى ابن معين (2/623) قال عنه : ثقة ، بهذا يتبين الفرق بينه وبين الحكم .(2/49)
ثانياً : أن روابته توافق ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق أنه كان يطيل القراءة غلباً في الظهر والفجر وأحياناً في غيرها كما تقدم من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة في كل ركعة وكان ينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه ومن حديث عائشة رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها معه نساء من المؤمنات ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمد في سائر الأركان كما يمد في القراءة أو قريباً من ذلك لما انصرف من صلاة الصبح إلا بعد طلوع الشمس .
ثانياً : أن مخرج الحديث متحد فمداره في جميع طرقه على ابن أبي ليلى فدل ذلك على أن الاختلاف إنما هو ممن دونه .
أما ابن دقيق العيد فقد مال إلى تصحيح رواية هلال وجمع بين الروايتين بالحمل على تعدد الحالات ففي بعضها تستوي ماعدا القيام والقعود .
وحكى الحافظ عن بعض العلماء أنه جعل معنى قوله قريباً من السواء أنه كان إذا أطالها أطال بقية الأركان وإذا خففها خفف بقية الأركان ومثله بين السجدتين .
ثالثاً : يؤخذ منه مشروعية تطويل ركن الاعتدال من الركوع كتطويل الركوع والسجود ونقل الحافظ في الفتح أن المرجح عند الشافعية عدم تطويله وإليه أشار الشافعي في الأم ولكن نص على كراهته فقط .(2/50)
وبالغ بعض أصحابه فأبطل الصلاة بالتطويل فيه زاعماً أنه يقطع الموالاة وخالفهم النووي فأجاز التطويل لما عليه من الأدلة الصحيحة الصريحة منها هذا الحديث والذي بعده ومنها حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقرأ سورة البقرة والنساء وآل عمران ثم ركع فجعل يقول : سبحان ربي العظيم ، فكان ركوعه نحواً من قيامه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ثم قام طويلاً(1)قريباً مما ركع . قال النووي الجواب عن هذا الحديث صعب وهو كما قال ، فإن قلت لعل في حديث حذيفة المذكور دليل على صحة رواية هلال ، فالجواب : أن حديث البراء في المكتوبة ، وحديث حذيفة في النافلة . والله أعلم .
* * *
[90] : عن ثابت البناني(2) عن أنس - رضي الله عنه - قال : إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا ، قال ثابت : كان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه ، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً ، حتى يقول القائل قد نسي ، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل قد نسي ، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل قد نسي(3) .
موضوع الحديث :
مشروعية تطويل ركن الاعتدال من الركوع وبين السجدتين .
المفردات :
لا آلو : لا أقصر .
انتصب قائماً : أي وقف .
مكث : أي أبطأ جالساً .
__________
(1) ... أخرجه مسلم في صلاة الليل من صحيحه ، باب : استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل برقم (772) .
(2) ... ثابت بن أسلم البناني ، أبو محمد ، عن ابن عمر وابن الزبير وخلق ، وعنه الحمادان وأمم وكان رأساً في العلم والعمل ، يلبس الثياب الفاخرة ، يقال لم يكن في وقته أعبد منه ، عاش ستاً وثمانين سنة ، ومات سنة سبع وعشرين ومائة . اهـ . من الكاشف 1/ص115 .
(3) ... أخرجه البخاري في صحيحه في باب : المكث بين السجدتين برقم (821) ، ومسلم برقم 472 باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام .(2/51)
حتى يقول القائل : يظن المأموم أنه قد نسي .
المعنى الإجمالي :
مسوؤلية الصحابة رضوان الله عليهم بعد نبيهم نشر الدين وتبليغ أحكامه التي أخذوها عنه - صلى الله عليه وسلم - ، ولإحساس أنس - رضي الله عنه - بهذه المسؤولية قال لأصحابه : إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا ، فكان من صفة صلاته أن يمكث بعد الرفع من الركوع والرفع من السجود طويلاً ، حتى يظن بعضهم من طول مكثه أنه قد نسي .
فقه الحديث :
أما فقه الحديث فقد تقدم في الحديث قبله فلا داعي لإعادته .
* * *
[91] : عن أنس - رضي الله عنه - قال : ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
موضوع الحديث :
تخفيف الصلاة مع إتمامها .
المفردات :
قط : اسم يُنفى به ما مضى من الزمان .
المعنى الإجمالي :
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالتيسير ويدعو إليه بالقول والفعل امتثالاً لقوله تعالى
: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج } (الحج: من الآية78) . ومن التيسير التخفيف في الصلاة مع إعطاء العبادة حقها من الكمال والتمام ، لذلك كانت صلاته – عليه الصلاة والسلام – خفيفة في تمام .
فقه الحديث :
__________
(1) ... أخرجه البخاري (708) ، ومسلم في باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام رقم (469) بألفاظ هذا أحدها .(2/52)
تكلم العلامة ابن دقيق العيد – رحمه الله – على هذا الحديث بكلام حسن رأيت أن أنقله برمته ، فقال : حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - يدل على طلب أمرين : التخفيف في حق الإمام مع الإتمام ، وعدم التقصير ، وذلك هو الوسط العدل والميل إلى أحد الطرفين خروج عنه – أي العدل – أما التطويل في حق الإمام فإضرار المأمومين وقد تقدم ذلك ، والتصريح بعلته . – يريد قوله : " فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة " – وأما التقصير عن الإتمام فبخس لحق العبادة ، ولا يراد بالتقصير هاهنا التقصير في ترك الواجبات الذي يرفع حقيقة الصلاة وإنما المراد – والله أعلم – التقصير عن المسنونات والتمام بفعلها . اهـ.
قلت : الأظهر – والله أعلم – أن المراد بالتخفيف القراءة كما أخرج ذلك مسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال أنس : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة ، فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة . والاقتصار في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات أو قريباً من ذلك ، وفي الاعتدال على الذكر الوارد فيه وفي التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والتعوذ من أربع ، وبذلك يحصل التخفيف والتمام . والله أعلم .
[(2/53)
92] : عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرْمي البصري قال : جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا ، فقال : إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة ، أصلي كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي . فقلت لأبي قلابة : كيف كان يصلي ؟ قال : مثل صلاة شيخنا هذا ، وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض(1) .
موضوع الحديث :
مشروعية جلسة الاستراحة وهي جلسة خفيفة عند القيام من الركعة الأولى إلى الثانية ومن الثالثة إلى الرابعة .
المفردات :
ينهض : أي يقوم .
المعنى الإجمالي :
يخبر أبو قلابة(2) – رحمه الله – أن مالك بن الحويرث(3)
__________
(1) ... أخرجه البخاري في صحيحه رقم (802) باب الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع وفي باب كيف يعتمد على الأرض رقم (824) ولم أره في صحيح مسلم ولا عزاه في التلخيص الحبير إلا إلى البخاري وعزاه في المنتقى إلى الجماعة عدا مسلماً وابن ماجة . وأخرجه النسائي في باب الاستواء للجلوس عند الرفع من السجدتين وأخرجه أبو داود في باب النهوض في رقم 842/843/844 .
(2) ... أبو قلابة الجرمي عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر البصري ، ثقة فاضل كثير الإرسال ، قال العجلي فيه نصب يسير من الثالثة ، مات بالشام هارباً من القضاء سنة مائة وأربع . اهـ التقريب (3333) والكاشف (2762) وقال حديثه عن عمر وأبي هريرة وعائشة ومعاوية وسمرة في سنن النسائي وتلك مراسيل وعن ثابت بن الضحاك ومالك بن الحويرث وانس وذلك في الصحاح .
(3) ... مالك بن الحويرث بالتصغير أبو سليمان الليثي ، صحابي نزل البصرة مات سنة 74هـ تقريب (6433) والكاشف (5340) ، وقال : وعنه أبو قلابة ونصر بن عاصم .(2/54)
الصحابي جاءهم في مسجدهم فصلى بهم تطوعاً قصد تعليمهم كيفية صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولما سئل أبو قلابة عن صلاته التي علمهم إياه أخبر أنها كصلاة شيخهم وهو عمرو بن سلمة الجرمي(1) ثم وصف صلاة شيخهم المذكور أنه كان يجلس إذا رفع من السجدة الثانية في الركعة الأولى والثالثة قبل أن يقوم إلى الثانية والرابعة وهي التي تسمى بجلسة الاستراحة .
فقه الحديث :
في الحديث دليل لمن قال بسنية جلسة الاستراحة وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد ، قال قوم : لا تشرع . منهم مالك وأبو حنيفة وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد أيضاً ، مستدلين بحديث وائل بن حجر عند البزار بلفظ : " فكان إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى والثالثة قام كما هو ولم يجلس ". حكاه الصنعاني في السبل ، وقال ضعفه النووي .
قلت : وعلى فرض صحته لا يدل على عدم مشروعية هذه الجلسة الثابتة بالأحاديث الصحيحة ، ونفي وائل بن حجر لها لا يدل على عدم مشروعيتها ولا عدم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها ، بل غاية ما فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعلها أحياناً ويتركها أحياناً ، فالفعل لبيان السنية ، والترك لبيان الجواز ، ومن هنا تعلم أن المذهب الأول هو الراجح ، لقوة دليله . والله أعلم .
ثانياً : يؤخذ منه ما كان عليه الصحابة من فهم المسؤولية الملقاة عليهم إزاء من بعدهم ، حيث كانوا يشعرون بهذه المسؤولية فنقلوا الدين الذي أخذوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى من بعدهم بالقول والفعل ، وهذه هي مسؤولية كل جيل بالنسبة إلى من بعده . والله أعلم .
* * *
[
__________
(1) ... عمرو بن سلمة الجرمي ، أمَّ قومه زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وله عن أبيه وعنه عاصم الأحول وأيوب وجماعة . الكاشف
(4231) . وفي التقريب (5042) : وكناه أبو بريد بالموحدة والراء ويقال بالتحتانية والزاي ، نزل البصرة ، صحابي صغير .(2/55)
93] : عن عبد الله بن مالك بن بحينة(1) - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى فرّج بين يديه حتى يبدو بياض أبطيه(2) .
موضوع الحديث :
التجافي في السجود .
المفردات :
فرّج : باعد .
حتى يبدو : أي يظهر .
بياض إبطيه : أي لون جلدهما من شدة المجافاة ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على بطيه شعر .
المعنى الإجمالي : خلق الله الإنسان بما فيه من حواس وأعضاء ثم أمره أن يعملها جميعاً في عبادته جل وعلا ، لينال كل عضو حظه من عبادة ربه سبحانه وتعالى ، لذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى فرج بين يديه أي نحاهما عن جنبيه ووضع كفيه ورفع مرفقيه ، حتى يبدو بياض إبطيه ، ويرفع بطنه عن فخذيه ، وبذلك يكون قد أعمل جميع جوارحه في عبادة ربه ، بل في أفضل العبادة وهو السجود ، وهذه الهيئة يسميها الفقهاء التخوية .
فقه الحديث :
__________
(1) ... عبد الله بن مالك بن القشب بكسر القاف وإسكان الشين بعدها باء موحدة الأزدي أبو محمد ، حليف بني المطلب ن يعرف بابن بحينة ، صحابي معروف ، مات بعد الخمسين اهـ. التقريب (3567) .
(2) ... أخرجه البخاري في باب يبدي ضبعيه ويجافي في السجود رقم الحديث (390 و 807) وأخرجه مسلم في باب ما يجمع صفة الصلاة رقم (495) .(2/56)
في الحديث دليل على سنية التجافي في السجود ؛ لإظهار النشاط في العبادة الذي هو ضد الكسل وهيئة الكسالى ، وقد ورد في صحيح مسلم عن ميمونة رضي الله عنها : "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجافي يديه حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر من تحته لمرت "(1) ، إلا أن هذه الهيئة محمولة على الاستحباب ، لما روى أبو داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ : " شكا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا فقال : " استعينوا بالرُكب "(2) ، قال ابن عجلان أحد رواته : وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا أطال السجود وأعيا ، أفاده في الفتح وسكت عن الحديث ، فلم يحكم عليه بصحة أو ضعف ن وعند رجوعي لسنن أبي داود رأيت الحديث فيه بسند رجاله رجال الصحيح .
ثانياً : قصر بعض الفقهاء حكم التجافي على الرجال دون النساء ، بحجة أن المطلوب من النساء التستر ، والتجافي تبديد للأعضاء وإبراز لها ، فكان منافياً لما طلب منهن ، وعندي في ذلك تفصيل ، وهو : أن النساء داخلات بلا شك في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صلوا كما رأيتموني أصلي " فلا يخرجن عنه إلا بدليل يخصهن ، ولا دليل فيما أعلم ، إلا الحكم العام القاضي بوجوب التستر على المرأة إذا خرجت أو كانت المرأة في بيتها بحيث تأمن تسرب أبصار الرجال إليها فالأفضل في حقها التجافي ، وإن كانت في مكان لا تأمن فيه تسرب الأبصار إليها ، فالأفضل في حقها الضم . والله أعلم .
* * *
[
__________
(1) ... أخرجه مسلم في باب ما يجمع صفة الصلاة . رقم 496 .
(2) ... أخرجه أبو داود في أبواب السجود باب الرخصة في ذلك للضرورة ، أي الرخصة في ترك التجافي للضرورة رقم الحديث (902) ورجاله رجال الصحيحين ماعدا محمد بن عجلان فهو من رجال مسلم ترجم له في التقريب
(6136) . وقال محمد بن عجلان المدني صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة .
انظر الحواشي (ص32) من النسخة الأصل .(2/57)
94] : عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال سألت أنس بن مالك : أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه قال : نعم(1) .
موضوع الحديث :
الصلاة في النعلين .
المعنى الإجمالي :
لما كان من المقاصد الشرعية مخالفة أهل الكتاب وإزالة كل شيء فيه مشقة وحرج على المسلم ، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة في النعال وصلى فيها .
فقه الحديث :
في الحديث دليل على مشروعية الصلاة في النعلين ، واختلف العلماء في حكمه فقال قوم بإباحته ، وقال قوم باستحبابه واستحبابه هو المفهوم من الأحاديث الواردة بالأمر كحديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - عند أبي داود مرفوعاً بلفظ : " خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم "(2) . قال الشوكاني لا مطعن في إسناده وحديث أبي سعيد الخدري عنده أيضاً مرفوعاً بلفظ : " إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ، فإن رأى قذراً فليمسحه وليصل فيهما "(3) . وإسناده حسن .
فإن قلت : الأمر يقتضي الوجوب فلم لا يكون الصلاة في النعال واجباً لهذا الأمر؟ .
فالجواب يصرف هذا الأمر من الوجوب إلى الندبية بالإجماع على عدم الوجوب ، وبما روى أبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً : " إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحداً ليجعلهما بين رجليه ، أو ليصل فيهما "(4) .
قال العراقي : صحيح الإسناد ، وروى نحوه عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في أوائل الصلاة باب الصلاة في النعلين رقم 486 و 5850، وأخرجه مسلم رقم (555) في باب جواز الصلاة في النعلين من أبواب المساجد ومواضع الصلاة .
(2) ... أخرجه أبو داود في الصلاة باب الصلاة في النعل ، رقم الحديث (652) وسكت عنه المنذري وهو محتمل للتحسين .
(3) ... أخرجه أبو داود في السنن رقم (650) .
(4) ... أخرجه أبو داود ، باب : المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما رقم الحديث (655) .(2/58)
وقال الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله - : وقد زعم الجاهلون أن هذا خاص بأرض أو زمن ، وهو زعم يدل على فساد الفطرة ، وتدسس النفس في مزابل التقليد الأعمى ، وانتكاس العقول وغلبة الهوى في محاربة النصوص .
* * *
[95] عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس : فإذا سجد وضعها ، وإذا قام حملها(1) .
موضوع الحديث :
العمل في الصلاة وأن حمل الصبي من العمل الجائز في الصلاة إذا كان لحاجة .
المفردات :
__________
(1) ... حديث أبي قتادة أخرجه البخاري في سترة المصلي ، باب : إذا حمل جارية صغيرة على عنقه رقم الحديث (516) ، وأخرجه في الأدب رقم (5996) ، وأخرجه مسلم في المساجد ، باب : جواز حمل الصبيان في الصلاة . رقم (543) ، وأخرجه مالك أيضاً في الموطأ ، باب : جامع الصلاة (1/170) ، وأبو داود في الصلاة ، باب : العمل في الصلاة (917) ، والنسائي في المساجد باب : إدخال الصبيان في المساجد .(2/59)
ولأبي العاص بن الربيع : أي أن أمامة(1) بنت زينب بنت(2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زوجها أبي العاص(3) بن الربيع .
المعنى الإجمالي :
__________
(1) ... أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أبي العاص بن الربيع ، تزوج بها علي بن أبي طالب في خلافة عمر ، وبقيت عنده مدة وجاءته الأولاد منها ، وعاشت بعده حتى تزوج بها المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي فتوفيت عنده بعد أن ولدت له يحيى بن المغيرة ، ماتت في دولة معاوية ولم ترو شيئاً . اهـ سير أعلام النبلاء (1/335) ت(71) .
(2) ... زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي أكبر بناته ، توفيت سنة ثمان من الهجرة ، وغسلتها أم عطية فأعطاهن حقوه وقال أشعرنها إياه وكان - صلى الله عليه وسلم - يحبها ويثني عليها رضي الله عنها ، عاشت نحو ثلاثين سنة . اهـ سير أعلام النبلاء (1/334) ت(70) .
(3) ... أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف العبشمي صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، اسمه لقيط ، أسلم قبل الحديبية بخمسة أشهر ، أثنى عليه - صلى الله عليه وسلم - في صهره فقال : حدثني فصدقني ، ووعدني فوفي لي ، مات سنة اثنتي عشرة في خلافة الصديق . اهـ. سير أعلام النبلاء رقم (1/330) ت (69) إلا تاريخ الوفاة فمن (ص335) .(2/60)
صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب ليعلم الناس أن مثل هذا العمل سائغ في الصلاة إذا كان لحاجة ، وليطعن في الأنفة الجاهلية المبنية على التغطرس والكبرياء والعظمة الجوفاء ؛ لأن العرب كانوا يأنفون من حمل البنات بل ويئدونهن . فسحقاً ثم سحقاً لمن زعم أن شريعته تهضم المرأة حقها ، مع أنه ينتمي إلى دينه ، فليت شعري من يُفهمهم أن دين الحق والعدل وحفظ المصالح والحقوق للأفراد والجماعات هو الإسلام ، وأن ما ملأوا به أجوافهم وقلوبهم ، وأسماعهم وأبصارهم ، من مبادئ الشرق أو الغرب ، ما هي إلا فضلات عقول مريضة وقلوب منكوسة ، وأذهان منحرفة ، فليس لها قائد إلا الهوى ، ولا سائق إلا الشيطان .
فقه الحديث :
أولاً : في الحديث دليل على جواز حمل الصبي في الصلاة ، وأن ذلك ليس بمبطل لها ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وحمله مالك في رواية عنه على الضرورة ، وفي رواية عنه أنه محمول على النافلة ، وعنه رواية ثالثة أنه منسوخ ، ولكنه لم يظهر مستند النسخ ، أما القائلون به فهم حملوه على أنه عمل غير متوال .
ثانياً : أخذ منه أن ثياب الأطفال محمولة على الطهارة ؛ لأنها الأصل ، ولا تخرج عن الطهارة إلا بتيقن النجاسة . والله أعلم .
ثالثاً : أخذ من الحديث جواز إدخال الأطفال في المساجد ، ومثله في ذلك حديث أبي هريرة عند أحمد بن حنبل – رحمه الله – في ركوب الحسن والحسين على ظهره - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد ، وحديث أبي بكرة عند البخاري رقم (3746) بلفظ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر والحسن إلى جنبه يقول : " ابني هذا سيد ..." الحديث .
وكانت ولادة الحسن في السنة الثالثة من الهجرة .(2/61)
أما حديث معاوية عند الطبراني بلفظ : " جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم " فهو ضعيف ، وعند ابن ماجة من حديث واثلة بن الأسقع نحوه ، وهو ضعيف أيضاً ، وعلى فرض صحتهما يحمل النهي على من لا يؤمن إحداثه في المسجد ، أو على التنزيه ، ويحمل الفعل على بيان الجواز والله أعلم .
رابعاً : أن الحركات التي للحاجة لا تبطل الصلاة ولو كثرت ، إذا قد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - فتح الباب ، وأمر بقتل الحية والعقرب ، ورقى المنبر ونزل عنه ، وهو يعلمهم الصلاة . والله أعلم .
* * *
[96] : عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " اعتدلوا في السجود ، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب "(1).
موضوع الحديث :
الهيئة المطلوبة في السجود .
المفردات :
بسط الذراعين : وضعهما على الأرض مع الكفين .
المعنى الإجمالي :
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاعتدال في السجود على وفق الهيئة المطلوبة شرعاً وهي ارتفاع الأسافل على الأعالي ، ووضع الكفين ورفع المرفقين ومجافاة الذراعين عن الجنبين ، والبطن عن الفخذين ، والنهي عن بسط الذراعين داخل تحت حيز الأمر بالاعتدال .
فقه الحديث :
في الحديث دليل على وجوب الاعتدال في السجود ، ومعنى الاعتدال الإتيان بالهيئة المطلوبة شرعاً ، وذلك لا يتم إلا بأمور :
أولاً : أن يكون السجود على جميع الأعضاء السبعة الواردة في حديث ابن عباس كما تقدم .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في باب : لا يفترش ذراعيه في السجود رقم (822) ، وأخرجه مسلم في باب : الاعتدال في السجود رقم (493) .(2/62)
ثانياً : أن يضع كفيه ويرفع مرفقيه ويجافي ضبعيه عن جنبيه ، ويتحامل علىجبهته ويجافي بطنه عن فخذيه ، وقد صح عن ميمونة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد تجافى حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر من تحت يده مرت . رواه عبد الرزاق بسند صحيح وأصله في البخاري(1) وهذه الهيئة هي الأصل ورخص في الاعتماد بالأيدي على الركب لمن وجد مشقة في التجافي كما روى عبد الرزاق عن الثوري عن سمي قال : حدثنا النعمان ابن أبي عياش الزرقي قال : شكا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاعتماد بأيديهم في السجود فرخص أن يستعينوا بأيديهم على ركبهم في السجود(2) فقال سفيان وهي رخصة للمتهجد .
ثالثاً : أن ترتفع الأسافل على الأعالي فلو تساوت ففي بطلان الصلاة وجهان لأصحاب الشافعي قاله ابن دقيق العيد .
وعلى هذا فإنه لابد أن يكون محل السجود مساوياً لمحل القيام حتى ترتفع الأسافل عند السجود ، أما إذا كان موضع السجود مرتفعاً بحيث يكون رأس الساجد محاذياً لوركه فذلك هو المحظور لأنه ينافي الخضوع الذي شرع السجود من أجله .
* * *
باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود
[
__________
(1) ... وأخرجه مسلم في الصلاة باب ما يجمع صفة الصلاة رقم (496) وأبو داود رقم (898) في باب صفة السجود أما البخاري فقد أخرج نحوه من حديث عبد الله بن بحينة .
(2) ... مصنف عبد الرزاق (1/17) ، رقم الحديث (2928) .(2/63)
97] : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد ، فدخل رجل فصلى ، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : "ارجع فصل فإنك لم تصل " فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ارجع فصل فإنك لم تصل " ثلاثاً . فقال : والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره فعلمني . فقال : "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تعتدل جالساً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداًَ ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها "(1) .
موضوع الحديث :
وجوب الطمأنينة في الصلاة وأنه لا تتم صلاة أحد إلا بها .
المفردات :
الرجل المذكور : هو خلاد بن رافع .
ارجع فصل فإنك لم تصل : النفي للصلاة الشرعية أي أن الصلاة التي صلاها لا تسمى صلاة في الشريعة .
والذي بعثك بالحق : أي أرسلك بالحق .
فما أحسن غيره : الضمير يعود إلى الفعل المتقدم .
ما تيسر : ما سهل عليك .
ثم افعل ذلك في صلاتك كلها : أي في ركعات صلاتك كلها .
المعنى الإجمالي :
وفيه جمع الطرق التي بلغت درجة الصحة بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد دخل رجل فصلى صلاة لم يتم ركوعها ولا سجودها ، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه السلام ثم قال له : " ارجع فصل فإنك لم تصل " ، فعل ذلك ثلاث مرات والنبي - صلى الله عليه وسلم - يأمره بالإعادة كلما صلى ، ثم قال : والذي بعثك بالحق لا أحسن غيره فعلمني ، فعلمه الكيفية المذكورة .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لم يتم ركوعه بالإعادة ، رقم الحديث (793) ، وأخرجه أيضاً في الاستئذان .
وأخرجه مسلم في باب : وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من كتاب الصلاة ، رقم الحديث (397) .(2/64)
قوله : " والذي بعثك بالحق لا أحسن غيره فعلمني " . وفي رواية : فقال الرجل : فأرني وعلمني فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ ، فقال : " إذا قمت إلى الصلاة فكبر " ، وفي رواية : " فتوضأ كما أمرك الله ، ثم تشهد وقم " ، وفي رواية : " إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله ، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ثم يمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ، ثم يكبر الله ويمجده ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " ، وفي رواية : " إن كان معك من القرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وكبره وهلله " ، وفي رواية :
" ثم اقرأ بأم القرآن ، ثم اقرأ بما شئت ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً " ، وفي رواية : " ثم يقول الله أكبر فيركع حتى تطمئن مفاصله ويسترخي " ، وفي رواية : " فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك وتمكن لركوعك ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً " ، وفي رواية : " حتى تطمئن قائماً " ، وفي لفظ : " فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً " ، وفي رواية : " ثم يكبر فيسجد حتى يمكن وجهه أو جبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ثم ارفع حتى تطمئن جالساً " ، وفي روية : " ثم يكبر فيرفع حتى يستوي قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه" ، وفي رواية : " فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى " ، وفي رواية :
" فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن جالساً ، ثم افترش فخذك اليسرى ثم تشهد ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " ، وفي رواية : " ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً " .
قال ابن حجر : وقد قال بعضهم هذا دليل على إيجاب جلسة الاستراحة ، ولم يقل به أحد ، وأشار البخاري إلى أن هذه اللفظة وَهْمٌ ، فإنه عقبه بقوله : قال أبو أسامة في الأخير تستوي قائماً ، وحكى عن البيهقي قريباً من ذلك ، قال : ويمكن أن يحمل – إن كان محفوظاً – على الجلوس للتشهد ، وتقوى به رواية إسحاق . اهـ.(2/65)
ويعني برواية إسحاق الرواية السابقة ما رواه في مسنده عن أبي أسامة كما قال ابن نمير بلفظ :" ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم اقعد حتى تطمئن قاعداً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم اقعد حتى تطمئن قاعداً ، ثم افعل ذلك في كل ركعة " .
ويعني برواية إسحاق الرواية السابقة بلفظ : " فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن جالساً " إلى أن قال : فهذا مجموع الروايات القوية في حديث أبي هريرة ورفاعة(1) . اهـ. نقلاً عن الفتح بتصرف .
فقه الحديث :
جاء استدلال الفقهاء بهذا الحديث على وجهين :
الأول : الاستدلال بما ذكر فيه على الوجوب .
الثاني : الاستدلال بعدم الذكر فيه على عدم الوجوب . قال : ابن دقيق العيد تكرر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه وعدم وجوب ما لم يذكر فيه ، فأما وجوب ما ذكر فيه فلتعلق الأمر به وأما عدم وجوب غيره فليس ذلك لمجرد كون الأصل عدم الوجوب ؛ بل لأمر زائد على ذلك ، وهو أن الموضع موضع تعليم وبيان للجاهل وتعريف بواجبات الصلاة وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر إلى أن قال : إن على طالب التحقيق ثلاث وظائف :
أحدها : أن يجمع طرق هذا الحديث . ويحصي الأمور المذكورة فيه ، ويأخذ بالزائد ؛ لأن الأخذ بالزائد واجب(2). اهـ.
قال الحافظ في الفتح بعد نقل كلام ابن دقيق العيد : قلت : امتثلت ما أشار إليه وجمعت طرقه القوية من رواية أبي هريرة ورفاعة ، وقد أمليت
الزيادات التي اشتملت عليها . اهـ.
قلت : قد نقلت ما أملاه من الزيادات فتخلص منها المسائل الآتية :
أولها : الوضوء كما أمر الله ، وفيه دليل على وجوب الترتيب .
ثانيها : الشهادتين بعد الوضوء لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فتوضأ كما أمرك الله ، ثم تشهد وأقم " . ولا أعرف أحداً قال بوجوبها .
ثالثها : الإقامة ، وفي حكمها خلاف تقدم مع الآذان في بابه .
__________
(1) ... الفتح 1/279 .
(2) ... العدة شرح العمدة 2/358 .(2/66)
رابعها : الاستقبال وهو شرط في صحة الصلاة بلا خلاف أعلمه .
خامسها : التكبير للإحرام وهو ركن من أركان الصلاة بل شرط في انعقادها ، وفيه دليل على تعيين لفظ التكبير ، وقد تقدم الكلام فيه .
سادسها : الاستفتاح ومأخذه من قوله : "ثم يكبر الله ويحمده ويمجده" ولا أعرف من قال بوجوبه . وذكره في هذا الحديث يدل للوجوب ، اللهم إلا أن يقال ما صح الإجماع على عدم وجوبه مما ذكر في هذا الحديث كان – أي الإجماع – صارفاً له عن الوجوب إلى الندبية ويكون الاستفتاح واحداً منها .
سابعها : قراءة الفاتحة وما تيسر في كل ركعة ، وفي ذلك بحث سيأتي .
ثامنها : التكبير والتحميد والتسبيح لمن لم يستطع قراءة الفاتحة ، وسيأتي فيه بحث .
تاسعها : جعل الراحتين على الركبتين ومد الظهر .
عاشرها : التمكين فيه حتى تطمئن المفاصل وتسترخي .
الحادي عشر : الاطمئنان في الرفع من الركوع حتى ترجع العظام إلى مفاصلها .
الثاني عشر : تمكين الجبهة في السجود والتحامل عليها حتى تطمئن المفاصل وتسترخي .
الثالث عشر : الاعتدال بين السجدتين والطمأنينة فيه .(2/67)
الرابع عشر : الافتراش في الجلسة بين السجدتين ، ويعارضه حديث طاووس عن ابن عباس عند مسلم أنه قال في الإقعاء ، أنه من السنة فقال طاووس(1) : إنا لنراه جفاء بالرجل ، فقال : إنه من سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، والإقعاء هو جلوس المصلي بإليتيه على عقبيه أي على أعقاب قدميه وهما منصوبتان ، وهذا الإقعاء هو غير الإقعاء المنهي عنه ، فذاك صفته أن يجلس المصلي بعقبه على الأرض وينصب ساقيه ، وعلى هذا فيكون حديث ابن عباس صارفاً للأمر بالافتراش بين السجدتين الوارد في بعض الروايات في حديث المسيء كما تقدم عن الوجوب إلى الاستحباب ، وعن تعيين الافتراش إلى التخيير بينه وبين الإقعاء الوارد في حديث ابن عباس مع ترجيح الافتراش على الإقعاء للأمر به ، وحمل بعضهم رواية الأمر بالافتراش وهو قوله : " فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى " حملوه على الجلوس للتشهد .
الخامس عشر : الطمأنينة في السجود الثاني كالأول ، واستدل الجمهور بذكر الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال منهما على وجوبها في الكل ، وللحنفية في ذلك خلاف مرجوح كما تقدم .
السادس عشر : وجوب تكبير النقل والجمهور على سنيته كما تقدم والحديث دليل لما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله من الوجوب .
السابع عشر : جلسة الاستراحة إن صحت بها الرواية ، وقد تقدم أن البخاري رحمه الله حكم عليها بالوهم .
الثامن عشر : وجوب التشهد الأول ، وفي وجوبه خلاف ، سيأتي في بابه إن شاء الله .
التاسع عشر : الجلوس له ، وسيأتي فيه بحث أيضاً .
العشرون : الافتراش في التشهد ، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه . والله أعلم .
الحادي والعشرون : وجوب الإعادة على من أخل بالطمأنينة .
__________
(1) ... طاووس بن كيسان اليماني ، أبو عبد الرحمن الحميري مولاهم ، الفارسي ، يقال : اسمه ذكوان وطاووس لقب ن ثقة فاضل من الثالثة ، مات سنة ست ومائة ، وقيل بعد ذلك ، روى له الجماعة اهـ. التقريب (3009) .(2/68)
الوجه الثاني : الاستدلال بما لم يذكر فيه على عدم الوجوب وفيه مسائل :
أحدها : النية وهي فرض باتفاق ، كذا عدها منها النووي والحافظ في الفتح ، وعندي في ذلك نظر ، فإن قوله : " فإذا قمت إلى الصلاة " مشعر بالقصد وهو النية .
الثانية : القعود الأخير وهو متفق على وجوبه .
الثالثة : التشهد الأخير ، وسيأتي الخلاف فيه في بابه إن شاء الله .
الرابعة : الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، سيأتي .
الخامسة : التسليم من الصلاة ، وقد تقدم البحث فيه وتبين أن الراجح وجوبه .
السادسة : وضع اليمنى على اليسرى على الصدر ، والأرجح وجوبه لحديث أبي حازم(1) عن سهل بن سعد عند البخاري بلفظ : كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة . قال أبو حازم : لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا حكمه الرفع إذ لا آمر للصحابة سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، والأمر يقتضي الوجوب إلا أن يصرفه صارف ، ولا أعلم ما يصلح لصرفه ، والله أعلم .
السابعة : إذا استدل على عدم وجوب شيء بعدم ذكره في هذا الحديث ثم جاء الأمر به في حديث آخر ، قدم الأمر به على عدم الذكر في هذا الحديث ؛ لأنه أقوى . والله أعلم .
تنبيه : كل ما تقدم من المسائل فيما يتعلق بأفعال الصلاة من حيث الوجوب وعدمه ، وإليك مسائل أخرى تؤخذ من هذا الحديث :
الأولى : تكرير السلام ولو لم يطل الفصل أو الفراق ولم يبعد .
الثانية : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالثة : حسن التعليم بغير تعنيف .
__________
(1) ... أبو حازم هو سلمة بن دينار الأعرج الأفزر التمار المدني القاص ، مولى الأسود بن سفيان ، ثقة عابد ، من الخامسة ، مات في خلافة المنصور ، روى له الجماعة .
(2) ... أخرجه البخاري في الأذان باب وضع اليمنى على اليسرى من طريق عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن أبي حازم رقم الحديث (740) .(2/69)
الرابعة : الاعتراف بالتقصير لقوله : " لا أحسن غيره فعلمني " .
الخامسة : طلب المتعلم من العالم أن يعلمه .
السادسة : ملازمة جواز الخطأ لحكم البشرية وهو إقرار .
السابعة : حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - ولطفه وحسن معاشرته .
الثامنة : استحباب التعليم بكل ما له تعلق بما وقع فيه الإخلال لقوله : "إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء كما أمرك الله ثم استقبل القبلة فكبر " والله أعلم .
* * *
[98] : عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "(1) .
موضوع الحديث :
أهمية فاتحة الكتاب في الصلاة وبطلان صلاة من لم يقرأ بها .
المفردات :
لا صلاة : لا نافية للجنس ، والنفي هنا يتوجه على الصلاة الشرعية المعتد بها التي يترتب على فعلها حصول الثواب وانتفاء العقاب ، والمعنى لا صلاة صحيحة ، ومن موصولة في محل جر باللام والباء زائدة للتأكيد ، والله أعلم .
المعنى الإجمالي :
__________
(1) ... أخرجه البخاري في الأذان ، باب : وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها ، قم الحديث (756) ، وأخرجه مسلم في الصلاة باب : وجوب قراءة في كل ركعة رقم الحديث (394) .(2/70)
فاتحة الكتاب سورة عظيمة تتضمن الثناء على الله بما هو أهله من الكمالات ، ثم إفراده بالعبادة لأنه لا يستحق العبادة شرعاً وعقلاً إلا صاحب هذه الكمالات ، التي نقص فيها بوجه من الوجوه ، ثم إقرار العبد بالعجز والقصور عن الاستقلال بمصالح نفسه وذلك بطلبه العون من الله بارئه وخالقه والمتصرف فيه ثم سؤاله الهداية إلى الطريق المستقيم طريق المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن يجنبه الطرق المنحرفة المعوجة ، وهذه الصفة بارزة في العقيدة النصرانية والوثنية الضالة ، أو ناشئاً عن العناد والمكابرة مع معرفة الحق ، وهذا الصفة بارزة في اليهود ، ومن هدي إلى الطريق المستقيم فقد أصاب الخير كله لأنها هي الطريق الجامعة لخيري الدنيا والآخرة ولما كانت كذلك أمر الشارع بقراءتها في كل صلاة ، ونَزل الصلاة التي لا يقرأ فيها بفاتحة الكتابة منزلة العدم فقال :
" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " . والله أعلم .
فقه الحديث :
في الحديث دليل لما ذهب إليه الجمهور من فرضية قراءة فاتحة الكتاب على كل مصل سواء كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً ، إلا أن الحنابلة والمالكية خصوا الفرضية بالسرية في حق المأموم ، وما لم يسمع فيها قراءة الإمام من الجهرية . وذهبت الحنفية فيما نقل عنهم إلى عدم الوجوب ، مستدلين بقوله سبحانه وتعالى : { فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } (المزمل: من الآية20) .
لكن رد ذلك الحافظ في "الفتح" ورجح أنهم يقولون بالوجوب ، ولكن لا يقولون بالشرطية ، وتبعه على ذلك الشوكاني ، أما الذين قالوا بعدم وجوبها على المأموم في الجهرية المسموعة كالحنابلة والمالكية أو في الجميع كالحنفية ، فاستدلوا بحديث : "من صلى خلف إمام فقراءة الإمام له قراءة". إلا أنه حديث ضعيف ضعفه الحافظ في الفتح وحكى تضعيفه عن الحفاظ وقال في التلخيص .(2/71)
فائدة : حديث " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " مشهور من حديث جابر وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلولة (1).
قلت : وعلى هذا فإنه لا ينتهض للاستدلال به ، واستدلوا أيضاً بقوله سبحانه : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } (الأعراف:204) . ولا حجة لهم في الآية ؛ لأن الأمر بالإنصات عام مخصوص بالأحاديث الدالة على وجوب قراءة فاتحة الكتاب من غير فرق بين إمام ومأموم ، كهذا الحديث ، وعلى وجوبها على المأموم نصاً كحديث ابن حبان في صحيحه ، أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ، حدثنا محمد بن يحيى الذهلي ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا شعبة ، عن العلا بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " .
قلت : وإن كنت خلف الإمام ؟ ، قال : فأخذ بيدي وقال : " اقرأ بها في نفسك " قال الزيلعي في نصب الراية : ورواه ابن خزيمة في صحيحة كما تراه . قاله النووي في "الخلاصة" .
__________
(1) ... التلخيص الحبير (1/232) ، وقد أخرجه ابن أبي شيبة (1/376) من طريقر أبي الزبير عن جابر ورجاله ثقات إلا أن أبا الزبير مدلس ، وقد عنعن ، وأخرجه أيضاً من حديث عبد الله بن شداد مرسلاً من طريق شريك النخعي ، وهو سيئ الحفظ ، والمهم أنه لو صح فهو عام في كل قراءة ، وقد خصص الأمر بقراءة فاتحة الكتاب وراء الإمام كما ستراه .(2/72)
قلت : أخرجه ابن خزيمة برقم (490) كما تراه هنا سنداً ومتناً وزاد في آخره : " يا فارسي " ، وأخرجه برقم (489) من طريق يعقوب الدروقي حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، أخبرني العلاء بن عبد الرحمن ، أن أبا السائب أخبره سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام " . فقلت : يا أبا هريرة إني أكون أحياناً وراء الإمام ، قال : فغمز ذراعي وقال : يا فارسي اقرأ بها في نفسك .
وأخرجه مسلم من طريق إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ولفظه قريب من لفظ الحديث الماضي(1) وزاد في آخره : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قال الله تعالى : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ..." الحديث ، وهذه الأحاديث كلها صحاح ، رجالها كلهم أئمة مخرج لهم في الصحيحين وغيرهما ، ولذلك فهي حجة على من خالفها .
__________
(1) ... أخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب : وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة رقم الحديث (395) بدون قوله " يا فارسي " ، ولفظه : إنا نكون أحياناً وراء الإمام ، فقال : اقرأ بها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث ، وأخرجه أبو دود في باب : من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب رقم الحديث (821) ، ولفظه كلفظ مسلم إلا أنه زاد : " فغمز ذراعي وقال : اقرأ بها يا فارسي في نفسك " وجال سنده رجال الصحيحين .(2/73)
ومن أدلة وجوب قراءة فاتحة الكتاب على المأموم في الجهرية والسرية على السواء حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : صلى رسول - صلى الله عليه وسلم - الصبح فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : "إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم" ، قلنا : يا رسول الله ، إي والله ، قال : " لا تفعلوا إلا بأم القرآن ، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها " ، وفي لفظ : " فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن " . أخرجه أبو داود والنسائي والدارقطني(1) وقال : رجاله كلهم ثقات . ورواه البخاري في جزء القراءة ، وصححه وأخرجه ابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي من طريق ابن إسحاق قال : حدثني مكحول ، عن محمود بن الربيع ، عن عبادة وتابعه زيد بن واقد عن مكحول .
قلت : ابن إسحاق مختلف في تصحيح حديثه والراجح أن حديثه من قبيل الحسن وقد ذكرت الخلاف فيه في الجزء الأول ، أما ما يخشى من تدليسه فإنه قد صرح بالتحديث به ، كما أفاده ابن مفلح المقدسي في النكت على المحرر ، ويرتفع بمتابعة زيد بن واقد له إلى درجة الصحة .
__________
(1) ... أخرجه النسائي في أبواب الافتتاح ، باب : قراءة أم القرآن خلف الإمام فيما جهر به (2/141) ، واخرجه أبو داود باب : من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب رقم الحديث (822) .(2/74)
قال الحافظ في التلخيص : ومن شواهد ما رواه أحمد من طريق خالد الحذاء(1) ، عن أبي قلابة(2) ، عن محمد بن أبي عائشة(3) ، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لعلكم تقرأون والإمام يقرأ " قالوا : إنا لنفعل ، قال : " لا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب ". إسناده حسن .
ورواه ابن حبان من طريق أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس ، وزعم أن الطريقين محفوظان ، وخالفه البيهقي فقال : إن طريق أبي قلابة عن أنس غير محفوظ اهـ(4) .
__________
(1) ... خالد بن مهران البصري أبو المنازل الحذاء ، الحافظ ، عن أبي عثمان النهدي ويزيد بن الشخير ، وعنه شعبة وابن علية ثقة إمام توفي سنة إحدى وأربعين ومائة ، الكاشف (3366) .
(2) ... أبو قلابة إمام سبقت ترجمته ص28 .
(3) ... محمد بن أبي عائشة ، عن أبي هريرة ، وعنه حسان بن عطية وجماعة ، وثقه ابن معين م د س ق . الكاشف (5007) .
(4) ... التلخيص 1/131 السطر الأخير والذي قبله .(2/75)
قلت : فهذه ثلاثة أحاديث عن ثلاثة من الصحابة وإن كان طريق أنس محفوظاً فهي أربعة أحاديث عن أربعة من الصحابة ، وكل منها يصلح أن يكون حجة ، فكيف بها مجتمعة وكلها تخص عموم الأمر بالإنصات بما عدا فاتحة الكتاب ؟ ، ومخالفوها يقولون بتقديم الخاص على العام إلا الحنفية فيلزمهم على أصلهم القول بها ، أما حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : " قرأ معي أحد منكم آنفاً " ، فقال رجل : نعم يا رسول - صلى الله عليه وسلم - قال : " فإني أقول ما لي أنازع القرآن ؟ " ، قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر به ، فقد ذكر الحافظ في التلخيص أن قوله : " انتهى الناس ... إلى آخر الحديث " مدرج من كلام الزهري كما بينه الخطيب قال : واتفق عليه البخاري وأبو داود ويعقوب بن سفيان والذهلي والخطابي وغيرهم ، وتبع الحافظ في ذلك الشوكاني فنقله كما هنا ، قال النووي : وهذا مما لا خلاف فيه بينهم . انتهى(1) .
وبهذا يتبين أنه لا حجة فيه لمن قال بعدم الوجوب على المأموم وعلى فرض أن قوله : " فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " محفوظاً عن الصحابي ، فإنه يحمل على الانتهاء عما عدا فاتحة الكتاب فلا يخالف المحفوظ . والله أعلم .
__________
(1) ... التلخيص 1/231 ط. عبد الله هاشم اليماني المدني 1384 .(2/76)
ثانياً : اختلف القائلون بوجوبها ، هل تجب في كل ركعة من الصلاة أو في أكثرها أو في ركعة واحدة منها ؟ ، فذهب الشافعية والحنابلة إلى الأول وهي رواية عن مالك وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والناصر إلى قراءتها في الأوليين فقط مع الاختلاف السابق عن أبي حنيفة في تعيين الفاتحة ، وذهب الحسن البصري(1) وهو رواية عن مالك وبه قال داود الظاهري وإسحاق(2) إلى وجوبها في ركعة واحدة ، والمذهب الأول أرجح لقوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث المسيء : " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي : " ثم افعل ذلك في كل ركعة " بعد أن أمره بالقراءة ولحديث أبي سعيد : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة ، عزاه الحافظ في التلخيص إلى ابن الجوزي في التحقيق ، قال : فقال روى أصحابنا من حديث عبادة وأبي سعيد قالا فذكره ، قال : وما عرفت هذا الحديث (3).
__________
(1) ... الحسن بن أبي الحسن البصري الإمام أبو سعيد مولى زيد بن ثابت ، وقيل مولى جميل بن قطبة ، وقيل غير ذلك وأبوه يسار من سبي ميسان أعتقته الربيع بنت النضر ، وُلِد الحسن زمن عمر شهد الدار ابن أربع عشرة سنة ، روى عن عمران بن حصين وأبي موسى وابن عباس وجندب ، وعنه ابن عون ويونس وأمم ، كان كبير الشأن ، رفيع الذكر ، رأساً في العلم والعمل ، مات في رجب سنة عشر ومائة ، الكاشف (1029) .
(2) ... إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الإمام أبو يعقوب المروزي ، ابن راهويه ، عالم خراسان ، عن جرير والدراوردي ومعتمر ، وعنه : خ م د ت س ، وبقية شيخه وأبو العباس السراج ، أملى المسند من حفظه ، مات في شعبان سنة ثمان وثلاثين ومائتين ، وعاش سبعاً وسبعين سنة اهـ. الكاشف (275) .
(3) ... التلخيص (1/232) وفي سطر 7 : ولأبي داود عن أبي سعيد من طريق همام ، عن قتادة ، عن أبي نضرة عنه أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر ..إسناده صحيح .(2/77)
اهـ.
قال : وفي سنن ابن ماجة معناه ، وهو ضعيف الإسناد .
قلت : يستأنس به وإن كان ضعيفاً مع الرواية السابقة " وافعل ذلك في صلاتك كلها " ، ومع حديث أبي قتادة الذي سيأتي بعد هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب ، فإذا ضممنا هذا إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - " صلوا كما رأيتموني أصلي " تكونت منها حجة على وجوب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة . والله أعلم .
ثالثاً : اختلفوا في المسبوق إذا لحق الإمام راكعاًَ هل يعتد بالركعة ويعفى عنه من القراءة أم لا ؟ .
فذهب الجمهور إلى أنه يعتد بها مستدلين بحديث أبي بكرة عند الشيخين أنه دخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " زادك الله حرصاً ولا تعد "(1) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في الأذان باب إذا ركع دون الصف رقم الباب 114 ورقم الحديث 783 وأخرجه النسائي في أواخر الإمامة باب إذا ركع دون الصف 2/118 وأخرجه أحمد 5/29/42/45/46/50 .(2/78)
وهو صحيح غير صريح في الاعتداد إذْ لم يذكر أنه أنه اعتد بتلك الركعة ، واستدلوا أيضاً بما رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعاً من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة من صلاته يوم الجمعة فليضف إليها أخرى ، وفي سنده ياسين بن معاذ وهو متروك ، وأخرجه الدارقطني بلفظ آخر من طريق فيها سليمان بن داود الحراني وهو متروك أيضاً ، ومن طريق آخر فيها صالح بن أبي الأخضر وهو ضعيف ، ذكر ذلك الشوكاني في نيل الأوطار ، وقال ورد حديث من أدرك ركعة من صلاة الجمعة بألفاظ لا تخلو طرقها من مقال حتى قال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه لا أصل لهذا الحديث ، إنما المتن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها ، وكذا قال الدارقطني والعقيلي ، وأخرجه ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه(1). اهـ.
قلت : أخرجه البيهقي بهذا اللفظ ، وقال بعد إخراجه : قال أبو حمد : هذه الزيادة قبل أن يقيم الإمام صلبه يقولها يحيى بن حميد عن قرة وهو مصري ، قال أبو أحمد : سمعت ابن حماد يقول : قال البخاري : يحيى بن حميد عن قرة عن ابن شهاب سمع من ابن وهب مصري لا يتابع في حديثه(2) .
واحتجوا أيضاً بما رواه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ : " إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوا شيئاً ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة " ، وفي سنده يحيى بن أبي سليمان المدني وهو منكر الحديث قاله البخاري(3) .
__________
(1) ... نيل الأوطار (2/219) ط. عثمان خليفة (1357) .
(2) ... سنن البيهقي (2/89) .
(3) ... وأخرجه البيهقي في "السنن" وقال : ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة ، وقال : تفرد به يحيى بن أبي سليمان المدني وقد روى بإسناد آخر أضعف . اهـ سنن البيهقي (2/80) .(2/79)
فقد ترى أن هذه الأحاديث ليس فيها دليل لمن قال بالاعتداد ، أما حديث أبي بكرة فلاحتماله ، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال كما يقولون ، وأما سائر الأحاديث فلعدم انتهاض شيء منها للاحتجاج والأصل وجوب قراءة الفاتحة والقيام بقدر قراءتها ، ولا يسقطان إلا بدليل صحيح ، وإلى ذلك ذهب البخاري في جزء القراءة وإليه ذهب الشوكاني وحكاه عن ابن خزيمة وابن السبكي من محدثي الشافعية ، وحكاه البخاري في جزئه عن كل من يرى وجوب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من الصحابة .
هذا ما كتبته وكنت أعتقده برهة من الزمن ، ثم ترجح لدي بعد ذلك الاعتداد لأمور :
أحدها : مارواه الدارمي(1) في سننه بقوله أخبرنا مسدد(2) ، حدثنا يزيد
__________
(1) ... عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل أبو محمد الدارمي الحافظ ، عالم سمرقند ، عن يزيد والنضر بن شميل وعنه د ت ، وعمر البجيري والفرياني ، قال أبو حاتم : إمام أهل زمانه ولد سنة181 ، ومات سنة 255هـ الكاشف (2854).
(2) ... مسدد بن مسرهد بن مسربل الأسدي البصري الحافظ أبو الحسن عن جويرية بن أسماء وحماد بن زيد وأبي عوانة وعنه خ د ، وأبو حاتم وأبو خليفة مات سنة 228 هـ.(2/80)
بن زريع(1) ، حدثنا حميد الطويل ، حدثنا بكر بن عبد الله المزني(2) ، عن حمزة بن المغيرة ، عن أبيه(3) ، أنه قال : فانتهينا إلى القوم وقد قاموا يصلي بهم عبد الرحمن ابن عوف وقد ركع بهم ، فلما أحس النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب يتأخر ، فأومأ إليه بيده فصلى بهم فلما سلم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقمت فركعنا الركعة التي سبقتنا(4) .
والحديث رجاله كلهم ثقات أئمة مخرج لهم في الصحيحين إلا حمزة بن المغيرة فإنه من رجال مسلم ، فإن قيل حميد الطويل مدلس .
__________
(1) ... يزيد بن زريع الحافظ أبو معاوية البصري ، عن أيوب ويونس وعنه علي ومسدد قال أحمد : إليه المنتهى من التثبت بالبصرة ، عاش إحدى وثمانين سنة ، مات في شوال سنة 182 رمز له ع . اهـ. الكاشف (6413) .
(2) ... بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عباس وابن عمر ، وعنه سليمان التيمي ومبارك وخلق ثقة إمام ، توفي 108هـ روى له الجماعة . كاشف (635) .
(3) ... حمزة بن المغيرة بن شعبة ، عن أبيه وعن بكر المزني وإسماعيل بن محمد بن سعد ، ثقة ، الكاشف (1251) ، رمز له م س ق .
(4) ... الدارمي (1/307) .(2/81)
فالجواب : أنه قد صرح بالتحديث في هذا الحديث ، فإذا ضممنا إلى هذا الحديث حديث عروة(1) بن المغيرة بن شعبة في القصة نفسها حيث قال – أي المغيرة بن شعبة - : ثم أقبل فأقبلت معه يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم ، فأدرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة ، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف(2) قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتم صلاته ، ورواه الدارمي من طريق فيها عبد الله بن صالح كاتب الليث ، وهو صدوق ثبت في كتابه إلا أنه أكثر الغلط ، وفي روايته : فصلى بهم عبد الرحمن ركعة من صلاة الفجر قبل أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصف مع الناس وراء عبد الرحمن في الركعة الثانية(3) .
__________
(1) ... عروة بن المغيرة أمير الكوفة ، عن أبيه وعائشة ، وعنه الشعبي وبكر بن عبد الله . اهـ الكاشف (3837) وقال المعلق : عده من الثقات الشعبي والعجلي وقال خليفة تولى الكوفة زمن الحجاج سنة 75هـ. روى له الجماعة .
(2) ... عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب أبو محمد ، أحد العشرة ، وأمه زهرة أيضاً ، عنهم بنوه إبراهيم وحميد ومصعب وأبو سلمة ، صلى نبينا خلفه ، في غزوة تبوك تصدق بأربعين ألف دينار ، وحمل على خمسمائة فرس في سبيل الله وعلى خمسمائة راحلة ، وعامة ماله من التجارة ، ورد أن عثمان مرض فكتب بالخلافة بعده له ، فدعا الله أن يتوفاه قبل عثمان ، فتوفاه بعد ستة أشهر سنة اثنتين وثلاثين .
(3) ... أخرجه الدارمي في الصلاة باب : السنة فيمن سبق ببعض الصلاة (1/307) .(2/82)
وأخرجه أبو داود من طريق أحمد بن صالح المصري ، عن ابن وهب وأحمد بن صالح من رجال البخاري ، وفي روايته : فوجدنا عبد الرحمن قد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر(1) ، فإذا ضممنا هذه الأحاديث بعضها إلى بعض ، تكون لنا منها دليل على الاعتداد بالركعة لمن لحق الركوع .
وجه الاستدلال :
وجه الاستدلال منها أن هذه الأحاديث كلها متفقة أن عبد الرحمن بن عوف والناس صلوا ركعة قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدرك الركعة الثانية معهم ، أما على أي حال أدركهم في الركعة الثانية فهذا لم يذكر إلا في رواية حمزة عند الدارمي فقد ذكر فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدركهم في الركوع وأنه لم يقض إلا ركعة واحدة وسنده صحيح على شرط مسلم ، فتبين أنه اعتد بها وهذا مما فتح الله به عليَّ ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
الأمر الثاني : تبين لي أخيراً أن أبا بكرة - رضي الله عنه - إنما ركع قبل أن يصل إلى الصف حرصاً على أن يلحق الركوع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يكن يحتسب تلك الركعة التي لحق ركوعها ما حرص على الركوع ذلك الحرص ، ولهذا فقد قال أبو بكر البيهقي في كتابه السنن الكبرى ، باب : من ركع دون الصف ، وفي ذلك دليل على إدراك الركعة ولولا ذلك ما تكلفوه(2) .
__________
(1) ... أخرجه الدارمي في باب : السنة فيمن سبق ببعض الصلاة (1/307) .
(2) ... سنن البيهقي (2/90) ، وقد أخرج البيهقي من الباب نفسه عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود بأسانيد صحيحة : أنهم ركعوا قبل الصف ولا يفعلون ذلك إلا حرصاً على احتساب الركعة ، ولولا ذلك ما تكلفوه ، كما قال البيهقي ، فإن قلت فكيف ساغ لهؤلاء الصحابة الأفاضل أن يفعلوا ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أحرص الناس على المتابعة .
فالجواب : إن كانوا علموا النهي فلابد أنهم قد حملوه على التنزيه ،وإن كانوا لم يعلموه ، فلهم عذرهم ، إلا أنهم لم يفعلوا ذلك إلا وقد استقر في نفوسهم أن من أدرك الركوع مع الإمام قبل أن يرتفع رأسه احتسب له تلك الركعة ، ولولا ذلك ما تكلفوه ، كما قال البيهقي ، والله أعلم .(2/83)
الأمر الثالث : أخرج البيهقي بسند صحيح وهو مرسل عن عبد العزيز بن رفيع عن رجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا جئتم والإمام راكع فاركعوا وإن كان ساجداً فاسجدوا ، ولا تعتدوا بالسجود إذا لم يكن معه الركوع "(1) .
وأخرج عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت الاعتداد بالركعة لمن لحق الركوع وأخرج عن مالك بلغه أن أبا هريرة كان يقول من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة ، ومن فاتته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير .
الأمر الرابع : أن الاعتداد يناسب يسر الشريعة وسماحتها ، فقد يقال أنه يُعفى عن المسبوق في قراءة الفاتحة تيسيراً عليه ، وقد كان هذا الترجيح بعد استخارة تبعها مواصلة أبحاث ، ولله الحمد والمنة وهو الهادي إلى سواء السبيل .
__________
(1) ... سنن البيهقي (2/89) باب : إدراك الإمام في الركوع .(2/84)
رابعاً : يؤخذ من قوله : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " أن من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فلا صلاة له ويعارضه حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني لا أستطيع أن أتعلم شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني في صلاتي ، قال : " قل سبحان الله والحمد لله .. الخ " رواه أحمد وأبو داود والنسائي(1) عن إبراهيم السكسكي وابن حبان والحاكم من طريق أبي خالد الدالاني وقد وثقه أبو حاتم ، وقال النسائي : لا بأس به .
وقال إبراهيم السكسكي : ضعفه شعبة . وقال ابن عدي استشهد به البخاري . وقال ابن القطان : ضعفه قوم فلم يأتوا بحجة . وله شاهد ضعيف عند الطبراني ، وعلى هذا فالحديث فيه ضعف مقارب ويصح أن يكون من ما لا بأس به غير أنه لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة ، اللهم إلا أن يقال أنه محمول على الحالة الراهنة ، بمعنى أنه لا يستطيع التعلم في تلك الساعة لعسر فهمه وضعف حفظه ، فأرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الذكر حتى يتعلم ، وبهذا يحصل التوفيق بين الأدلة . والله أعلم .
* * *
[
__________
(1) ... أخرجه أحمد (4/382) من طريق يزيد بن زريع عن المسعودي عن إبراهيم السكسكي شيخ أبي خالد فيه وهي متابعة لأبي خالد ، فإن كان يزيد قد سمع من المسعودي قبل الاختلاط ، فالحديث صحيح ورواه أبو داود برقم (382) ، باب : ما يجزئ الأمي ، ورواه النسائي (2/142) باب : ما يجزئ من القرآن لمن لم يحسن القرآن من طريق الفضل بن موسى السيناني ، عن مسعر عن السكسكي ، وهو صدوق ضعيف الحفظ كما قال في التقريب (204) ، والتحقيق : أن الضعف فيه من قبل السكسكي ؛ لأن مدار الحديث عليه ، أما أبو خالد فقه تابعه المسعودي ومسعر .(2/85)
99] : عن أبي قتادة - رضي الله عنه - (1) قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية ، وفي الأخريين بأم الكتاب وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية(2) .
موضوع الحديث :
القراءة في الصلاة .
المفردات :
الأوليين : تثنية أولى .
والأخريين : تثنية أخرى .
المعنى الإجمالي :
يخبر أبو قتادة - رضي الله عنه - في هذا الحديث عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أنه يقرأ في الأولى والثانية بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة منها ، وفي الثالثة والرابعة بفاتحة الكتاب فقط لا يقرأ معها شيئاً ، وأنه يطول في الأول ويقصر في الثانية من أجل أن يلحق المتأخر ، وأنه يسمعهم الآية أحياناً أي يجهر بها في السرية .
فقه الحديث :
أولاً : في الحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ، وقد تقدم بحث ذلك بما فيه الكفاية .
ثانياً : فيه دليل على مشروعية قراءة سورة مع فاتحة الكتاب في الركعتين الأوليين . قال ابن دقيق العيد : وهو متفق عليه ، والعمل به متصل من الأمة ، وإنما اختلفوا في الوجوب وعدمه .
__________
(1) ... أبو قتادة الحارث ، ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي الأنصاري السلمي ، شهد أُحداً وما بعدها ، ولم يصح شهوده بدراً ، مات سنة أربع وخمسين وقيل سنة 37 والأول أصح وأشهر ، تقريب (8311 ) .
(2) ... أخرجه البخاري في الجماعة باب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب القراءة في الظهر والقراءة في العصر ، وفي باب إذا أسمع الإمام الآية أحياناً (776) ، وأخرجه مسلم في باب القراءة في الظهر والعصر رقم الحديث
(451) .(2/86)
ثالثاًً : يؤخذ من تطويل الركعة الأولى على الثانية حتى يلحق المتأخر ، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع ، فيقضي حاجته ، ثم يتوضأ ، ثم يأتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى مما يطيلها(1) .
رابعاً : يؤخذ منه الإسرار في موضع الجهر والجهر في موضع الإسرار لا يوجب سجود السهو ، ولا يخل بصحة الصلاة .
خامساً : يؤخذ من قوله وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ، أن الزيادة على فاتحة الكتاب في الركعتين الأخريين لا تشرع ، ويعارضه حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة بقدر ثلاثين آية ، وفي الركعتين الأخريين قدر خمس عشرة آية ، أو قال النصف من ذلك ...... الحديث(2) . والجمع بينه وبين حديث أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل هذا ، وأن الكل جائز . والله أعلم .
* * *
[
__________
(1) ... أخرجه مسلم في باب : القراءة في الظهر والعصر رقم الحديث (454) .
(2) ... أخرجه مسلم في باب القراءة في الظهر والعصر رقم الحديث (452) ، وفي رواية كنا نحزر قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الظهر والعصر فحزرنا قيامه من الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة ألم التنزيل ، السجدة ، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك ، وحزَرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر قدر قيامه في الأخريين من الظهر .(2/87)
100] : عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - (1) قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور(2) .
[101] : عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فصلى العشاء والذاريات(3) . إلى غير ذلك . أما التوسط في العصر فيدل له حديثا أبي سعيد عند مسلم أنهم حزروا قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر قدر ثلاثين آية وفي العصر قدر النصف من ذلك ، وفي حديثه الثاني أنهم حزروا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر { ألم ، السجدة } ، وفي الأخريين قدر النصف من ذلك وفي الأوليين من العصر قدر قيامه في الركعتين الأخريين من الظهر(4) ، وأما التوسط في العشاء فيدل له حديث جابر في قصة معاذ عند الشيخين حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى " وما ذكر هو الغالب وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يخالف ذلك .
__________
(1) ... جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي ، صحابي عارف بالأنساب ، مات سنة ثمان أو تسع وخمسين التقريب (903) .
(2) ... رواه البخاري في كتاب صفة الصلاة ، باب : الجهر من المغرب (765) ، وفي الجهاد ، باب : فداء المشركين ، وأخرجه مسلم في الصلاة باب القراءة في الصبح رقم (463) ، وأخرجه في الموطأ باب القراءة في المغرب والعشاء
(1/78) رقم (23) ، وأبو داود باب قصر الصلاة في السفر (811) والترمذي ، والنسائي (2/169) .
(3) ... أخرجه النسائي في الافتتاح باب : القراءة في الظهر . وحديثه حسن .
(4) ... مضى تخريجه برقم (4) ص58 .(2/88)
فقد روى النسائي بسند جيد عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرا في الصبح بالمعوذتين(1) ، وروى النسائي أيضاً عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالأعراف(2) ، ورجاله رجال مسلم وأصله في البخاري ، وله شاهد من حديث عائشة عنده – أي النسائي – إلا أن في سنده بقية بن الوليد مدلس ، وقد عنعن . والله أعلم .
* * *
[102] : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سرية ، فكان يقرأ في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد ، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " سلوه لأي شيء يصنع ذلك " ، فسألوه ، فقال : لأنها صفة الرحمن عز وجل ، فأنا أحب أن أقرأ بها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أخبروه أن الله تعالى يحبه "(3) .
موضوع الحديث :
جواز تكرار سورة بعينها في جميع ركعات الصلاة .
المفردات :
المحبة : في اللغة الوداد وكل ما قيل في المحبة من تفسير فالمراد به محبة المخلوق للمخلوق أما محبة الله للعبد فهي صفة من صفاته تحمل على ما تقضيه في اللغة من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تأويل ولا تعطيل .
__________
(1) ... أخرجه النسائي في الافتتاح باب : القراءة في الصبح بالمعوذتين (2/158) .
(2) ... أخرجه البخاري في صفة الصلاة ، باب : القراءة في المغرب ، وأبو داود في الصلاة ، باب : قدر القراءة في المغرب رقم (812) ، والنسائي في الافتتاح ، باب : القراءة في المغرب بـ { المص } .
(3) ... أخرجه البخاري في التوحيد ، باب : ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى (7375) ، ومسلم رقم (813) في صلاة المسافرين ، باب : فضل قراءة قل هو الله أحد ، والنسائي من الافتتاح ، باب : الفضل في قراءة قل هو الله أحد .(2/89)
السرية : الفرقة القليلة تغزو ، سميت بذلك لأن غالب سيرهم يكون بالليل ، إما لأن ذلك أرفق بهم أو بقصد التخفي لقلتهم ، أما في اصطلاح أهل المغازي والسير ، فهم يطلقون السرية والبعث على ما لم يخرج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - والغزوة على ما خرج فيها .
وقد يسمون السرية غزوة إذا كثر عدد جيشها وبعد وجههم كما قالوا غزوة مؤتة . والله أعلم .
المعنى الإجمالي :
المحبة دافع يتحكم بإرادة العبد فيضطرها إلى التوجه إلى جهة المحبوب فيحصل المحب على الراحة بملابسة محبوبه ، والملابسة تحصل بذكر المحبوب والتحدث عن صفاته حتى قيل من أحب شيئاً أكثر من ذكره ، لهذا تحكمت محبة هذا الصحابي لربه ولصفات ربه التي ملكت عليه قلبه ومشاعره تحكمت في إرادته حتى جعلته لا يستطيع ترك قراءة سورة الإخلاص التي تشتمل على صفة الله عز وجل حتى شكاه أصحابه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لجهلهم بما في قلبه ، ولكنهم ذهبوا شاكين متزمتين وحاسدين ثم رجعوا حامدين ومُكبرين (أخبروه أن الله تعالى يحبه) .
فقه الحديث :
أولاً : فيه جواز القراءة في الركعة الواحدة بسورتين فأكثر وقد روى البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : إني لأعرف القرائن ، أي السور التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينها في الركعة ثم عد سوراً(1) ، وروى مسلم عن حذيفة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاة الليل بسورة البقرة ثم النساء ثم آل عمران(2) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في الأذان ، باب : الجمع بين السورتين في ركعة رقم (775) ، وأخرجه النسائي في الافتتاح ، باب : قراءة سورتين في ركعة .
(2) ... أخرجه مسلم في آخر صلاة الليل باب : استحباب تطويل القراءة من صلاة الليل رقم (772) .(2/90)
ثانياً : فيه فضل سورة الإخلاص وأنها صفة الرحمن ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما ، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً سماه " جواب أهل العلم والإيمان أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن " .
ثالثاً : فيه أن محبة هذه السورة موجبة لمحبة الله لأنها صفة الله ، ومن أحب صفة الله أحبه الله .
رابعاً : قول ابن دقيق العيد يحتمل أن يريد بمحبته قراءة هذه السورة(1) خطأ لأنه لو كانت محبة الله للعبد هي قراءة هذه السورة لما كان لهذا الصحابي مزية ، بل يلزم من ذلك أن كل من قرأ هذه السورة يحبه الله ولو كان منافقاً أو كافراً ، فإذا فسرت المحبة بأنها مجرد القراءة لزم منه ذلك .
وقوله : ويحتمل أن يكون لما شهد به كلامه من محبته لذكر صفات الرب وصحة اعتقاده خطأ أيضاً ، لأنه تفسير لمحبة الله عز وجل التي هي صفة من صفاته بخلقه سبحانه وتعالى محبة الذكر في قلب العبد ، فهو تفسير لصفة الله تعالى بفعله في غيره ، والصفة معنى قائم بالذات وخلقه محبة الذكر في قلب العبد أثر من آثار اسمه الخالق ، واسمه الرحمن وآثار الأسماء ظهور مقتضياتها في غير المسمى بها ، وهو الله جل شأنه ، فالخلق أثر من آثار اسمه الخالق يطلق على المخلوق وعلى الخلق الذي هو فعل الاسم المقدس في غيره ، وكذلك يقال في الصفة . فعلم من هذا بطلان ما فسر به ابن دقيق العيد – رحمه الله – .
والذي حمل الشيخ – رحمه الله – على هذه المجازفة هو الفرار من التجسيم لأن إثبات الصفة يقتضي ذلك على حد زعمه .
والحق ما ذهب إليه السلف الصالح – رحمهم الله – وهو أن إثبات الصفة إثبات وجود لا إثبات كيفية ، قال الإمام مالك – رحمه الله :
" الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " .
__________
(1) ... شرح العمدة مع العدة للصنعاني (2/407) .(2/91)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " وأما ما سألت عنه من الصفات ، وما جاء منها بالكتاب والسنة ، فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ، ونفي الكيفية ، والتشبيه عنها " ، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله ، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه ، والتكييف ، وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين ، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه ، والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله ، فإذا كان معلوماً أن إثبات ذات الباري تعالى إنما هو إثبات وجود ، لا إثبات كيفية فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود ، لا إثبات تحديد وتكييف . اهـ نقلاً من الحموية (1).
ولا نبطل بأكثر من هذا فلاستقصاء البحث في ذلك كتب تختص به وهي كتب العقائد ، وخلاصة القول أن المحبة صفة من صفات الله – عز وجل – ثابتة بالكتاب والسنة كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا } (الصف: من الآية4) ، وقال : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } (التوبة: من الآية108) ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (التوبة: من الآية4) . إلى غير ذلك ، ويجب إثباتها ، واعتقاد معناها الذي تقتضيه على وجه الكمال الذي يليق بجلاله تعالى ، والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد .
* * *
[103] : عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لمعاذ : " فلولا صليت بـ { سبح اسم ربك الأعلى } ، { والشمس وضحاها } ، { والليل إذا يغشى } ، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة "(2).
موضوع الحديث :
__________
(1) ... الحموية الكبرى (ص ) .
(2) ... أخرجه البخاري في الأذان ، باب : من شكا من إمامه إذا طول ، رقم الحديث (705) وهو بعض من حديث طويل هذا آخره ، ومسلم في كتاب الصلاة (465) .(2/92)
القراءة في الصلاة ومشروعية التخفيف فيها .
المفردات :
فلولا : بمعنى هلا ومعناها التحضيض .
الكبير : الطاعن في السن الذي استولى عليه الضعف لكبره .
الضعيف : يدخل فيه الضعيف خلقة ومن عرض له الضعف لمرض أو شبهه .
ذو الحاجة : صاحب الحاجة .
المعنى الإجمالي :
الشرع الإسلامي يتصف بالسماحة واليسر وعدم الشديد ، لأن التشديد والتعسير من مساوئهما التنفير ، لذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أم الناس أن يخفف مراعاة لحالة الضعفاء وذوي الحاجة ، فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ من الحديث مشروعية التخفيف والتيسير في الصلاة لمن أم الناس .
ثانياً : يؤخذ منه أن قراءة هذه السور تخفيف .
ثالثاً : يؤخذ منه عناية الشرع بالضعفاء ومراعاة أحوالهم ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بن أبي العاص حين قال : اجعلني إمام قومي ، قال له :" أنت إمامهم واقتد بأضعفهم " .
رابعاً : يؤخذ منه مشروعية التخفيف في صلاة العشاء ، لأنها هي السبب وقد تقدم تقريباً بحث القراءة في الصلاة واختلاف مقاديرها ، وأن المقصود منه التوسعة .
باب ترك الجهر بـ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ِ }
[104] : عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ، وعمر كانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين(1) ، وفي رواية : صليت مع أبي بكر ، وعمر ، وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم(2) .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في باب : ما يقوله بعد التكبير رقم الحديث (743) .
(2) ... أخرجه مسلم في الصلاة باب : حجة من قال لا يجهر بالبسملة رقم الحديث (399) .(2/93)
ولمسلم : صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان فكانوا يستفتحون بـ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، لا يذكرون { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } في أول قراءة ولا في آخرها(1) .
موضوع الحديث :
إسرار البسملة في الصلاة الجهرية .
المفردات :
يستفتحون : يدخلون أو يبدؤون الصلاة على حذف مضاف أي القراءة في الصلاة بالحمد لله رب العالمين ، ويجوز في الحمد الرفع على الحكاية إذا كان المعنى أنه يبدأ بهذا اللفظ ، ويجوز فيه الجر إذا كان المعنى يبدؤون بالفاتحة قبل السورة ، والحمد لله رب العالمين : اسم لها في أول قراءة هي الفاتحة ولا في آخرها هي السورة .
المعنى الإجمالي :
يخبر أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ، وعمر ، وعثمان كانوا يدخلون في قراءة الصلاة بالحمد لله رب العالمين أي يبدؤون بهذا اللفظ دون ذكر البسملة ، أو دون إسماعها ، وعلى الوجه الثالث تحمل الروايتان الأخيرتان .
فقه الحديث :
اعلم أن بحث الإسرار بالبسملة بحث كبير وهام ، ولذلك فقد أفرده جماعة من العلماء بالتأليف ، كابن عبد البر(2) ، والدارقطني(3) ، والمقدسي ، وغيرهم ، ومدار البحث في هذا الموضوع يرتكز على أمرين :
الأمر الأول : قرآنية البسملة .
__________
(1) ... هذه الرواية أخرجها مسلم في نفس الباب المذكور سابقاً بلفظ : وعن قتادة أنه إليه يخبره عن أنس الخ (ص299) رقم الحديث (399) .
(2) ... ابن عبد البر هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي علامة المغرب في زمنه ، ولد سنة 368 وتوفي سنة 463 عن خمس وتسعين سنة له مؤلفات كثيرة من أعظمها كتاب التمهيد وغير ، وترجمته في شذرات الذهب (3/314) .
(3) ... الدارقطني هو أبو الحسن علي بن عمر أحمد مهدي بن مسعود البغدادي الحافظ الكبير صاحب التصانيف توفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة . شذرات (3/116) .(2/94)
الأمر الثاني : قراءتها في الصلاة ، وهل تسر أو تجهر ؟ .
فأما الأمر الأول : وهو قرآنية البسملة ، فقد اختلف العلماء فيه .
فذهب مالك في المشهور عنه أنها ليست قرآناً إلا من سورة النمل ، ونقل هذا القول عن الأوزاعي ، وابن جرير الطبري(1) ، وداود الظاهري وحكاه الطحاوي(2) عن أبي حنيفة وأبي يوسف(3) ومحمد(4) ، وهو رواية عن أحمد ، وقول لبعض أصحابه ، واختاره ابن قدامة في "المغني" ، وذهب أحمد إلى أنها آية من الفاتحة وليست قرآناً من باقي السور ، وهو قول إسحاق ، وأبي عبيد(5) ،
__________
(1) ... محمد بن جرير بن يزيد الطبري الآملي أبو جعفر صاحب التصانيف البديعة ولد سنة أربع وعشرين ومائتين ، وتوفي سنة عشر وثلاثمائة وله كتب كثيرة نافعة منها التفسير ، سير أعلام النبلاء (14/267) .
(2) ... الطحاوي هو أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي الحجري المصري شيخ الحنفية بمصر سمع هارون بن سعيد الأيلي وغيره عنه الحسّاب والطبراني وغيرهما توفي سنة 321 .
(3) ... أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الكوفي القاضي صاحب أبي حنيفة روى عنه أنه قال عند موته كل ما أفتيت به رجعت عنه إلا ما وافق السنة توفي سنة 182 . شذرات (1/198) . وفي معجم المؤلفين لكحالة (13/240) .
(4) ... محمد بن حسن بن فرقد الشيباني الكوفي أبو عبد الله ودلد بواسط سنة 132 ثم نزل الكوفة ولازم أبا حنيفة وحمل عنه الفقه وسمع من سفيان الثوري ومالك وغيرهم وعنه الشافعي وأحمد وغيرهم وثقه الشافعي وقال ابن المديني صدوق ولينه النسائي وابن معين . تعجيل المنفعة 361 .
(5) ... أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي مولى الأزد ذو التصانيف ، عن إسماعيل بن عياش وإسماعيل بن جعفر وشريك ، وعنه الدارمي وعلي البغوي وابن أبي الدنيا ، عاش 68 سنة وكان ثقة علامة ، مات سنة 224هـ . كاشف ت4581 ..(2/95)
وأهل الكوفة وأهل مكة وأهل العراق ، قال : وهو أيضاً رواية عن الشافعي ، وقال الشافعي هي آية من كل سورة سوى براءة ، قال : وحكاه ابن عبد البر عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعطاء(1) وطاووس ومكحول(2) قال : وحكاه ابن كثير عن أبي هريرة وعلي وسعيد بن جبير(3) والزهري وهو رواية عن أحمد . اهـ نقلاً من تعليقات أحمد شاكر على الترمذي .
وإذ قد سردنا مذاهب العلماء فسنستعرض الأدلة ونؤيد ما تؤيده فنقول وبالله التوفيق :
__________
(1) ... عطاء بن أبي رباح أسلم أبو محمد القرشي مولاهم المكي أحد الأعلام عن عائشة وأبي هريرة وعنه الأوزاعي وابن جرير وأبو حنيفة والليث ، عاش ثمانين سنة ، مات سنة 144 وقيل سنة 115هـ . الكاشف ت3852 .
(2) ... مكحول فقيه الشام عن عائشة وأبي هريرة مرسلاً وعن واثلة وأبي أمامة وكثير بن قرة وجبير بن نفير وعنه الزبيدي والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ، وتوفي سنة 113 . الكاشف ت/5720 .
(3) ... سعيد بن جبير الوالبي مولاهم أبو محمد وأبو عبد الله أحد الأعلام عن ابن عباس وعبد الله بن مغفل وعنه الأعمش وأبو بشر وأمم ، قتل في شعبان شهيداً سنة 95هـ. ، الكاشف (1879) .(2/96)
روى مسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال : بينا رسول الله بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه فضحك . فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ فقال : " أنزلت عليّ آنفا سورة " فقرأ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } " الحديث ، وعزاه في المنتقى للنسائي وأحمد(1) ، فهذا يدل على أن البسملة من السورة حيث قال : أنزلت عليّ سورة ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم منها ، وهذا دليل واضح على قرآنيتها ، ويضاف إلى ذلك إجماع الصحابة على كتابتها في أول كل سورة ماعدا براءة ، وزعم القرطبي أن ذلك لا يدل على قرآنيتها فقال : فإن قيل إنها تثبت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت نقله كما نقلت في النمل وذلك متواتر عنهم . قلنا : ما ذكرتموه صحيح ولكن لكونها قرآناً ولكونها فاصلة بين السور ... أو للتبرك (94/95) .
قلت : ما قرر القرطبي(2) مردود ؛ لأن الأمة أجمعت على أنه لم يدخل المصحف شيء سوى القرآن ، حتى لقد استبعدوا حين كتبوا المصاحف في عهد عثمان - رضي الله عنه - ما كتب على المصاحف من تفسير وإيضاح ، فلو كانت البسملة من غير القرآن لاستبعدوها ، ومن هنا تبين ضعف ما ذهب إليه مالك ومن نحى منحاه من قولهم أن البسملة غير قرآن إلا في سورة النمل فقط .
__________
(1) ... أخرجه مسلم في الصلاة باب : حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة ، رقم الحديث (400) . والنسائي في الصلاة أيضاً باب من قال يجهر بالبسملة (2/133) وأحمد (3/102) .
(2) ... القرطبي محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي نسبة إلى قرطبة في الأندلس ، أبو عبد الله صاحب التفسير والتذكرة بأمور الآخرة ، توفي سنة 671هـ ، شذرات الذهب (5/235) .(2/97)
أما كونها من الفاتحة فقد دل عليه مارواه الدارقطني والبيهقي(1) ، من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا قرأتم { الحمد لله } فاقرأوا { بسم الله الرحمن الرحيم } فإنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني { وبسم الله الرحمن الرحيم } إحدى آياتها " . ذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (742) وقال : صحيح ، وأومأ أنه في الأحاديث الصحيحة (1183) .
وقال الحافظ في التلخيص : وهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات وصححه غير واحد من الأئمة ورجح وقفه على رفعه ، وأعله ابن القطان بتردد نوح فيه ، فإنه رفعه تارة ووقفه أخرى . قال : وأعله ابن الجوزي من أجل عبد الحميد بن جعفر فإن فيه مقالاً ومتابعة نوح له مما يقويه . اهـ(2).
__________
(1) ... البيهقي هو أبو بكر أحمد بن الحسين الشافعي صاحب التصانيف المفيدة ، ولد في شعبان سنة 384 وتوفي في العاشر من جمادي الأولى سنة ثمان وخمسين وأربع مائة ، التذكرة (1132) .
(2) ... التلخيص (1/233) .(2/98)
قلت : يظهر لي من إسناده أن نوح بن أبي بلال شيخه فيه وليس بمتابع ، وقد اقتنيت سنن الدارقطني بعد فرأيت الحديث فيه (1/312) ونوح بن أبي بلال(1) شيخ عبد الحميد بن جعفر(2) فيه وفي آخره قال أبو بكر الحنفي ثم لقيت نوحاً فحدثني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بمثله ولم يرفعه وقال الحافظ ويؤيده رواية الدارقطني من طريق أبي أويس عن العلائي عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم قال أبو هريرة هي الآية السابعة .
__________
(1) ... نوح بن أبي بلال عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عنه زيد بن الحباب وأبو بكر الحنفي ثقة اهـ الكاشف (5990) .
(2) ... عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الأنصاري الحكم بن رافع الأوسي المدني صدوق رمي بالقدر وربما وهم من السادسة مات سنة مئة ثلاث وخمسين . البخاري تعليقاً ومسلم والأربعة ترجمة رقم 3756 .(2/99)
قلت : رواه الدارقطني عن منصور بن أبي مزاحم(1) عن أبي أويس(2) من طريقين الأول من طريق أبي طالب أحمد بن نصر(3) حدثنا أحمد بن محمد(4) ابن منصور بن أبي مزاحم حدثنا جدي حدثنا أبو أويس والطريق الثاني حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الفارسي(5)
__________
(1) ... منصور بن أبي مزاحم بشير التركي أبو نصر البغدادي الكاتب ثقة من العاشرة مات سنة خمس وثلاثين وهو ابن ثمانين سنة . مسلم أبو داود والنسائي ترجمة 6907 .
(2) ... أبو أويس الأصبحي عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو أويس المدني قريب مالك وصهره صدوق يهم من السابعة مات سنة 67 . مسلم والأربعة ترجمة 3412 .
(3) ... أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي أبو عبد الله ثقة من العاشرة قتل ظلماً سنة 31 ترجمة 199 .
(4) ... ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد (ج5 ص96) فقال أحمد بن محمد بن منصر بن أبي مزاحم أبو طالب ، نزل الرافقة وحدث بها عن جده ، روى عنه ابو طالب أحمد بن نصر بن طالب ، وذكر حديثه الذي أخرجه الدارقطني عن أبي الطيب الطبري عن الدارقطني به ولم يذكره بجرح ولا تعديل (ص120) . نقلاً عن كتاب "تراجم رجال الدارقطني في سننه الذين لم يترجم لهم في التقريب ولا في رجال الحاكم " للشيخ مقبل الوادعي .
(5) ... محمد ابن إسماعيل بن إسحاق : ترجمه الخطيب (ج2 ص50 ) فقال : محمد بن إسماعيل بن إسحاق بن بحر أبو عبد الله الفارسي كان يتفقه على مذهب الشافعي ، وذكر من مشائخه إسحاق الدبري – ثم قال روى عنه أبو الحسن الدراقطني فأكثر – إلى أن قال : وكان ثقة ثبتاً فاضلاً ، قال أبو عبد الله الفارسي : ولدت في سنة ثمان أو تسع وأربعين ومائتين وقال طلحة بن محمد بن جعفر وابن قانع : مات في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة . قال غير الصفار : عن ابن قانع في شوال (ص373) ..(2/100)
حدثنا عثمان ابن خُرّزاذ(1) حدثنا منصور بن مزاحم .
وقال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي في التلعيق المغني على الدارقطني (ص306) علىالحديث : أبو أويس وثقه جماعة وضعفه آخرون ، وممن ضعفه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم الرازي ، وممن وثقه الدارقطني وأبو زرعة ، وقال ابن عدي : يكتب حديثه ، وروى له مسلم في صحيحه ومجرد الكلام في الرجل لا يسقط حديثه ، ولو اعتبرنا ذلك لذهب معظم السنة إذا لم يسلم من كلام الناس إلا من عصمه الله . قاله الزيلعي . اهـ(2)
وحديث أم سلمة أنه - صلى الله عليه وسلم - : كان إذا قرأ القرآن بدأ بسم الله الرحمن الرحيم ، فعدها آية ثم قرأ الحمد لله رب العالمين فعدها ست آيات . أخرجه الشافعي من رواية البويطي أخبرني غير واحد عن حفص بن غياث والطحاوي وابن خزيمة والدارقطني والحاكم من طريق عمر بن حفص عن أبيه(3) .
وأما الأمر الثاني : وهو قراءة البسملة في الصلاة فقد اختلف العلماء فيه ، فذهب مالك في المشهور عنه إلى عدم قراءتها في الصلاة أصلاً لا سراً ولا جهراً ، وذهب أحمد بن حنبل وأبو حنيفة إلى قراءتها سراً في الجهرية والسرية ، وهو مروي عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود مع اختلاف عن بعضهم .
__________
(1) ... عثمان بن عبد الله بن خرزاذ البصري ثم الأبطالي الحافظ عن أبي الوليد وعفان وعنه النسائي وخيثمة وطائفة توفي سنة 281هـ كاشف 3768 ، وفي التقريب من صغار الحادية عشرة .
(2) ... الدارقطني 1/306 .
(3) ... ضعف بعضهم الحديث بعمر بن حفص هذا ، ورمز له في التقريب (خ) م د ، ت س وقال : ثقة ربما وهم .
قلت : ومثل هذا لا يرد حديثه بل يكون من قبيل الحسن ، وأعله الطحاوي بأن ابن أبي مليكة لم يسمعه من أم سلمة وردَّ ذلك الحافظ في التلخيص رقم 364 ، وهو الصواب ؛ لأن ابن أبي مليكة قد ثبت سماعه من أم سلمة فلا مطعن بمجيئه من طريق أخرى بواسطة .(2/101)
وذهب الشافعي إلى أنها تبع للسورة فيسر بها في السرية ويجهر بها في الجهرية وهو مروي عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبي بن كعب بأسانيد صحيحة ، وقال به من التابعين مجاهد وسعيد بن جبير ومعمر والزهري وسليمان التيمي ، حكى ذلك عنهم عبد الرزاق والشافعي .
استدل القائلون بالإسرار بحديث أنس هذا وهو مروي في الصحاح والسنن والمسانيد بألفاظ مختلفة ، ذكر المصنف أصولها غير أن اللفظ المتفق عليه منها " كانوا يستفتحون أو يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين " .
ولهذا فقد ادعى جماعة من العلماء منهم ابن عبد البر والخطيب أن ماعداه من الألفاظ مضطرب ، وأنها رويت بالمعنى ، واستدلوا على ذلك بإعراض البخاري عنها وإلى ذلك أشار الحازمي في الناسخ والمنسوخ ، وقد تصدى الحافظ بن حجر لهذه الدعوى فردها وأثبت صحة جميع ألفاظه بما ثبت له من الطرق والمتابعات في جميع أدوار السند من بدايته إلى نهايته ، ومن أراد الوقوف على ذلك فليرجع إلى فتح الباري (ج2) أبواب صفة الصلاة ، باب : ما يقال بعد التكبير ، واستدلوا أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها الذي سبق معنا في أول هذا الجزء بلفظ : "كان يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين "(1) .
__________
(1) ... سبق في رقم 84 .(2/102)
وتأول الشافعي هذين الحديثين بأن المراد منها أنه كان يبدأ بالفاتحة قبل السورة وذلك لا ينفي قراءة البسملة وهذا التأويل يتمشى في حديث عائشة وفي اللفظ المتفق عليه من حديث أنس ، أما سائر الألفاظ فلا يتمشى فيها . واستدلوا أيضاً بما رواه الخمسة إلا أبا داود عن ابن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال : سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : أي بني محدث .. الحديث(1) .
وقد ضُعف بسعد الجريري ، فإنه قد اختلط في آخر عمره ، ضعف أيضاً بجهالة ابن عبد الله بن مغفل ، أما الإسرار فهو ثابت من حديث أنس بألفاظ لا تحتمل التأويل ، ولا يجوز أن ننتحل التأويلات المتعسفة ولا أن نتمسك بأوهى الأسباب لتضعيف ما صح لا لشيء سوى أنه لم يوافق مذهب إمام معين ، فالله لم يكلفنا باتباع فلان ولا علان وإنما كلفنا باتباع عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (النساء:65) ، ولسنا بمثابة سرد الأدلة على وجوب التسليم لأمره فذلك شيء لا يحتمل الشك ، ولكن العجيب أن ترى باحثاً يتحامل على بعض النصوص فيردها لا لشيء سوى أنها لم توافق مذهب إمامه .
__________
(1) ... رواه الترمذي في الصلاة باب : ما جاء في ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم . والنسائي في الافتتاح باب : ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وابن عبد الله بن مغفل مجهول .(2/103)
والذي ينبغي أن تعلمه أيها القارئ الكريم أن الجهر ثابت كما أن الإسرار ثابت ، وأنه لا ينبغي الإنكار على من فعل واحداً منها . قال الشوكاني في "نيل الأوطار" : وأكثر ما في المقام الاختلاف في مستحب ومسنون وليس شيء من الجهر وتركه يقدح في الصلاة ببطلان ، بالإجماع ، فلا يهولنك تعظيم جماعة من العلماء لهذه المسألة والخلاف فيها . اهـ(1)
ولعلك تلاحظ أني قد تعجلت بإثبات أحاديث الجهر قبل سبرها وتطلب مني ذلك فأقول : وردت في الجهر أحاديث كثيرة غير أن الكثير منها لم يسلم من الطعن وسأذكر منها ما بلغ درجة الصحة أو قاربها .
وأولها ما رواه النسائي(2)
__________
(1) ... نيل الأوطار / 2/205 ط عثمان خليفة .
(2) ... أخرجه النسائي في الافتتاح باب : قراءة بسم الله الرحمن الرحيم (2/134) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/232) وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي فقال : علىشرطهما . وأخرجه البيهقي في السنن (2/46) في باب افتتاح القراءة في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم وقال : وهو إسناد صحيح وله شواهد . وقال في التعليق المغني على الدارقطني قال بعد ذكر قول البيهقي في السنن أنه صحيح ، وقال في الخلافيات : رواته كلهم ثقات مجمع على عدالتهم محتج بهم في الصحيح . اهـ.
وإذا علمت بأنه قد صححه الحاكم والبيهقي والذهبي والدارقطني وأبو الطيب شمس الحق العظيم أبادي وابن حجر وغيرهم تبين لك بطلان قول من ضعفه ، أما دعوى أنه غير صريح فهي مردودة أيضاً بأنه لا يتصور بأن يقسم الصحابي على صلاته أنها أشبه بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ابتدع فيها بدعة ، هذا محال في حق الصحابة عموماً وفي حق أبي هريرة خاصة ؛ لأنه كان أحفظ القوم . نسأل الله أن يلهمنا الحق ويجنبنا التعصب .(2/104)
بسنده عن نعيم المجمر قال : صليت وراء أبي هريرة - رضي الله عنه - فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قرأ بأم القرآن ... الحديث وفي آخره يقول : والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ورواه ابن خزيمة (1/251) في باب ذكر الدليل على أن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والمخافتة جميعاً مباح ليس واحد منها محظور ، وهذا من اختلاف المباح .
وقد ادعى بعضهم عدم صراحته ويبعد جداً أن يقسم صحابي أنه أشبههم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي صلاته شيء يخالف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا ضم إلى ذلك أن صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت متأخرة وأنه كان أحفظ القوم للسنن كان أبين في الدلالة .
وقد ضعف الشيخ الألباني – رحمه الله – الحديث بسعيد بن أبي هلال لأنه اختلط تبعاً لابن حزم . قلت : قال الحافظ : لم أر لابن حزم سلفاً في تضعيفه إلا أن الساجي حكى عن(1) أنه اختلط(2) وروى البخاري في صحيحه من طريق قتادة قال : سالت أنس بن مالك كيف كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : كانت مداً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم(3) ، وهو أعم من كونه خارج الصلاة .
__________
(1) ... بياض الأصل .
(2) ... وقال في تعليقه على صحيح بن خزيمة إسناده صحيح لولا أن ابن أبي هلال قد اختلط .
قلت : نفي الحافظ ابن حجر العسقلاني لهذا الزعم يدل على صحة الحديث .
(3) ... أخرجه البخاري في فضائل القرآن من صحيحه باب : مد القراءة .(2/105)
ثالثاً : ما رواه الشافعي في "الأم" فقال أخبرنا إبراهيم بن محمد(1) قال :
حدثني عبد الله بن عثمان بن خيثم(2) عن إسماعيل بن عبيد(3) أو ابن عبيد الله بن رفاعة عن أبيه(4) أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يكبر إذا خفض وإذا رفع ، فناداه المهاجرون حين سلم الأنصار : أن يا معاوية سرقت صلاتك ، أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير ؟ . ورجال إسناده كلهم ثقات . ورواه الشافعي أيضاً من طريق يحيى بن سليم(5) وقال أحسبه أحفظ(6) .
__________
(1) ... إبراهيم بن محمد بن العباس المطلبي الشافعي الشافعي ،صدوق من العاشرة . اهـ التقريب (235) وقال : مات سنة سبع أو ثمان وثلاثيين وقال في التهذيب ترجمة (276) : قال حرب الكرماني : سمعت أحمد بن جحنبل يحسن الثناء عليه ، وقال أبوحاتم : صدوق ، وقال النسائي والدارقطني : ثقة .
(2) ... عبد الله بن عثمان بن خيثم بالمعجمة والمثلثة مصغر القارئ المكي أبو عثمان صدوق من الخامسة مات سنة 132 البخاري تعليقاً ومسلم والأربعة . اهـ. تقريب (3466) .
(3) ... إسماعيل بن عبيد الله بن رفاعة بن رافع العجلاني ويقال بن عبيد بلا إضافة مقبول من السادسة بخ ن ق اهـ. تقريب (467) .
(4) ... عبيد ويقال عبيد الله بن رفاعة بن رافع بن مالك الأنصاري الزرقي ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وثقه العجلي بخ ع . اهـ تقريب (4372) .
(5) ... يحيى بن سليم الطائفي نزيل مكة صدوق سيئ الحفظ من التاسعة مات سنة ثلاث وتسعين ومائة أو بعدها ، روى له الجماعة . اهـ تقريب (7563) .
(6) ... راجع الأم للشافعي باب القراءة بعد التعوذ (93/94) .(2/106)
ورواه أيضاً من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد(1) عن ابن جريج عن عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن أبي بكر بن حفص بن عمر(2) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - وهو شاهد لحديث عبيد الله بن رفاعة ، ورواه الحاكم من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم(3) عن الربيع بن سليمان(4) عن الشافعي بالسند المذكور وقال : صحيح على شرط مسلم ، فقد احتج بعبد المجيد وسائر رواته متفق على عدالتهم . ووافقه على ذلك الذهبي(5) .
__________
(1) ... عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، صدوق يخطئ وكان مرجئاً ، أفرط ابن حبان فقال : متروك ، من التاسعة مات سنة 206 . اهـ التقريب (4160) .
(2) ... أبو بكر بن حفص هو عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري المدني ، مشهور بكنيته ، ثقة ، من الخامسة . اهـ التقريب (3277) .
(3) ... أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم الأموي النيسابوري الحافظ في الشذرات حدث له الصمم بعد الرحلة ثم استحكم به ، وكان يحدث من لفظه ، حدث في الإسلام نيفاً وسبعين سنة وأذّن سبعين سنة وتوفي سبع وأربعين وثلاثمائة ، وله مئة إلا سنة واحدة اهـ . شذرات (2/373) .
(4) ... الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي أبو محمد المصري ، المؤذن صاحب الشافعي ، ثقة من الحادية عشرة مات سنة سبعين وله ست وتسعون سنة اهـ. تقريب (1894) .
(5) ... المستدرك (1/233) ، وقال الذهبي : وهو علة لحديث قتادة عن أنس صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر فلم يجهروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، فإن قتادة يدلس .(2/107)
رابعاً : ما رواه الحاكم قال : ومنها ما حدثناه أبو محمد عبد الرحمن بن حمدان الجلاب(1) بهمذان قال : حدثنا عثمان بن خرزاذ الأنطاكي ، قال : حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني(2) قال : صليت خلف المعتمر بن سليمان مالا أحصي صلاة الصبح والمغرب ، فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ، وسمعت المعتمر يقول : ما آلو أن اقتدي بصلاة أبي وقال أبي : ما آلو أن اقتدي بصلاة أنس ، وقال أنس : ما آلو أن اقتدي بصلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وقال الحاكم : رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات . ووافقه الذهبي(3) وأشار ابن دقيق العيد في شرح العمدة(4) إلى تصحيحه ، وهو كما قالوا .
__________
(1) ... أبو محمد عبد الرحمن بن حمدان الجلاب الهمذاني ، أحد أئمة السنة بهمذان ، رحل وطوف وعني بالأثر توفي سنة 342 . اهـ شذرات (2/362) .
(2) ... محمد بن المتوكل بن عبد الرحمن الهاشمي مولاهم العسقلاني ، المعروف بابن أبي السري صدوق عارف له أوهام كثيرة ، من العاشرة ، مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين . د . اهـ تقريب (6263) .
(3) ... المستدرك (1/234) .
(4) ... العدة مع شرح العمدة (2/411) .(2/108)
خامساً : ما رواه الحاكم أيضاً قال ومنها ما حدثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ(1) قال : حدثنا علي بن أحمد بن سليمان(2) حدثنا سليمان بن داود المهري(3) قال : حدثنا أصبغ بن الفرج(4) ، قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل(5) عن شريك بن عبد الله ابن أبي نمر(6) ، عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم .
قال الحاكم رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات ووافقه الذهبي(7) .
__________
(1) ... أبو علي بن الحسين بن علي بن داود النيسابوري ، الثقة أحد الأعلام ، توفي في جمادي الأولى تسع وأربعين وثلاثمائة وله اثنتان وسبعون سنة ، قال الحاكم : كان واحد عصره في الحفظ والإتقان والورع . اهـ شذرات (2/380) .
(2) ... علي بن أحمد بن سليمان لم أجد له ترجمة ، وموافقة الذهبي للحاكم على رجال السند يدل على أنه ثقة .
(3) ... سليمان بن داود أبو الربيع المهري المصري ابن وهب وعدة وعنه د/س وابن أبي داود ثقة فقيه توفي 253 عاشرة ، وله 85 سنة اهـ كاشف (2103) .
(4) ... أصبغ بن الفرج بن سعيد الأموي الفقيه المصري ، أبو عبد الله ، ثقة ، مات مستتراً أيام المحنة سنة خمس وعشرين ومائتين ، خ د ت س (536) التقريب .
(5) ... حاتم بن إسماعيل المدني أبو إسماعيل الحارثي مولاهم ، أصله من الكوفة ، صحيح الكتاب ، صدوق يهم ، مات سنة 86 أو 87 . روى له الجماعة (994) تقريب .
(6) ... شريك بن عبد الله بن أبي نمر أبو عبد الله المدني ، صدوق يخطئ ، من الخامسة ، مات في حدود 140 خ م ت س ق اهـ تقريب (2788) .
(7) ... انظر المستدرك (1/233) .(2/109)
سادساً : ما رواه الدارقطني من طريق العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم اله الرحمن الرحيم " رواه الدارقطني (1/306) من طريق أبي أويس ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة وأبو أويس قال عنه في التقريب : قريب مالك وصهره ، صدوق يهم . وقال في التعليق المغني على الدارقطني على الحديث : أبو أويس وثقه جماعة وضعفه آخرون .
وممن ضعفه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم ، وممن وثقه الدارقطني وأبو زرعة وقال ابن عدي : يُكتب حديثه .
وروى له مسلم في صحيحه ، ومجرد الكلام في الرجل لا يسقط حديثه ، ولو اعتبرنا ذلك لذهب معظم السنة ، إذ لم يسلم من كلام الناس إلا من عصمه الله قاله الزيلعي .
قلت : ترجم له في التهذيب (5/477) (ص280و81 و82) ترجمة مطولة ورأيت كلام الأئمة حوله يدور حول عبارات صالح مقارب ، ليس بالقوي ، يحتمل حديثه ، يكتب حديثه ، وقليل من صرح بتضعيفه ، وهذا يدل على أن ضعفه من قبل حفظه فقط ، ومثل هذا يرتفع بالشواهد إلى رتبة الحسن لغيره .
سابعاً : ما رواه الدارقطني والبيهقي(1) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري(2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قرأتم { الحمد لله } فاقرأوا : { بسم الله الرحمن الرحيم } إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني ، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها ". وقد تقدم الكلام عليه ، وأن الألباني – رحمه الله- صححه ، وحكى الحافظ تصحيحه موقوفاً عن جماعة من أهل العلم بالحديث وائمة هذا الشأن فارجع إليه (1/233) .
__________
(1) ... انظر سنن البيهقي (2/45) .
(2) ... سعيد بن أبي سعيد كيسان المقبري أبو سعيد المدني ثقة من الثالثة ، تغير قبل موته بأربع سنين ، وروايته عن عائشة وأم سلمة مرسلة ، مات في حدود العشرين ، وقيل قبلها ، وقيل بعدها ج . تقريب (2321) .(2/110)
ثامناً : حديث أم سلمة عند الحاكم أنها قالت :كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يقطعها حرفاً حرفا ، قال الحاكم : هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، وقد تقدم .
تاسعاً : حديث ابن عباس عند الترمذي قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم . قال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بذاك ، وأبو خالد هو الوالبي . اهـ.
قلت : قال الحافظ : اسمه هرمز ويقال هَرِم ، مقبول من الثانية وفد على عمر اهـ.
وذكر الزيلعي في "نصب الراية" أن العقيلي وابن عدي ضّعفا هذا الحديث بجهالة أبي خالد ، إذ زعم بعضهم أنه مجهول .
قلت : هذا زعم لا يثبت عن البحث العلمي ، فهاهو الترمذي قد عرفه ، وقال الحافظ في التهذيب : وعنه الأعمش ومنصور وفطر بن خليفة وإسماعيل بن حماد ابن أبي سليمان وزائدة بن نشيط ، وقال ابن أبي حاتم : صالح الحديث ، وذكره ابن حبان في الثقات ، فتبين بهذا أنه غير مجهول ؛ لأن الجهالة تنتفي عن الشخص إذا روى عنه اثنان فأكثر كما تقرر في علم المصطلح ، وهذا قد روى عنه خمسة وزيادة يقال أن قول الترمذي هو الوالبي يغلب على ظني أنها مقحمة .
وخلاصة القول أن هذا الحديث مما يحتج به في المتابعات وسنده مقارب وقد احتج أهل العلم بمثله في المتابعات .(2/111)
أما هنا فالأحاديث عشرة ، منها ما هو صحيح ، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما هو مقارب يرتفع بالشواهد إلى رتبة الحسن لغيره ، وهي بمجموعها تكون حجة قوية لا يجوز إطراحها بل يجب الأخذ بها ، ومن أجل ذلك أقول : أن الجهر ثابت كما أن الإسرار ثابت ، ولا يلام من أخذ بواحد منهما ، فمن جهر فبسنة أخذ ، ومن أسر فبسنة أخذ ، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين من العلماء كابن القيم – رحمه الله –(1) .
__________
(1) ... ابن القيم هو شيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ، إمام الجوزية وابن قيمها ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة ، وسمع الحديث واشتغل بالعلم وبرع في علوم متعددة لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين ، ولما عاد الشيخ ابن تيمية من الديار المصرية في سنة 712 لازمه إلى أن توفي الشيخ ، فأخذ عنه علماً جماً مع ما سبق له من الاشتغال فصار فريداً في بابه في فنون كثيرة مع كثرة الطلب ليلاً ونهاراً وكثرة الابتهال ، وكان حسن القراءة والتودد لا يحسد أحداً ، ولا يستعيبه ولا يؤذيه ولا يحقد عليه ، وكان متصدياً للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين وجرت فصول يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين بن السبكي وغيره ، توفي في 13رجب إحدى وخمسين وسبعمائة ، وقد بلغ من العمر ستين سنة ، وكانت جنازته حافلة – رحمه الله – اهـ. من البداية لابن كثير (14/246) .(2/112)
وبه أخذ شيخنا عبد الله بن محمد القرعاوي(1) ،
__________
(1) ... هو الإمام الأوحد والعلم الأرشد والداعية المجدد الزاهد الورع الشيخ عبد الله بن محمد بن حمد القرعاوي من آل نجيد والقرعاوي لقب لأحد أجداده الذي سكن مكاناً يقال له القرعاء فنسب إليه ، ولد رحمه الله في عام 1315هـ ، كما سمعته منه عدة مرات ونشأ يتيماً حيث مات أبوه وهو حمل ربته أمه وكانت امرأة صالحة كما ذكر لنا ونشأ أيضاً تحت رعاية عمه فباشر التجارة في أول أمره ثم ترك التجارة وأقبل على الطلب يعد أن بلغ الثلاثين من عمره ، وسافر إلى الهند ودرس بها ثم عاد ودرس على شيوخ بلده ، ثم سافر إلى الهند سفرته الأخيرة فسمع الأمهات الست ونخبة الفكر وشرحها ، والآجرومية وبعض الألفية ، وتصريف العزي وغيرها ، وكان يحفظ المتون غيباً ، وكان يتردد إلى الذي كان يدرسه فيها إلى مكان بعيد على قدميه كما أخبرنا غير مرة ، وجد واجتهد وثابر حتى بلغ الدرجة المرموقة والرتبة القصوى وحاز الإجازة في فن الحديث من شيخه أحمد الله بن أمير القرشي بالسند المتصل بمؤلفي الكتب= = الستة في سنة سبع وخمسين وثلاث مائة ، ثم عاد إلى بلده ولقي بعض مشائخها ثم جاور بمكة وأقبل على المطالعة والتحصيل وعرضت عليه وظائف في بلده منها إدارة مدرسة المجمعة ، وأن يكون مدرساً في دار الحديث وغير ذلك فأباها كلها واتجه في شهر صفر إلى مقاطعة جازان بعد أن استشار شيخه المفتي الأكبر – سابقاً – الشيخ محمد بن إبراهيم ، ولما وصل صامطة استأجر دكاناً وعمل له فيه بضاعة وكان يجذب إليه بعض الناس الذين يتوسم فيهم الرغبة في طلب العلم ثم سافر إلى بلده ليصل أولاده ، فوصل إليهم في نصف ذي العقدة وبقي عندهم إلى نصف ذي الحجة ثم كر راجعاً إلى الجنوب واشترى كتباً من مكة ، وبعد وصوله عمر عريشاً في دار الشيخ ناصر خلوفة رحمه الله ، وافتتح فيه المدرسة السلفية في يوم 2 صفر سنة 1359هـ وكنت ممن زاره في عام 59 مع عمي حسن بن محمد نجمي وحسين بن محمد نجمي رحمهما الله ولم أواصل في ذلك العام ، ثم انقطعت للدراسة في أول عام 1360هـ وهو العام الذي ازدهرت فيه المدرسة وكثر فيه الطلاب ، وقد بدأ الشيخ بفتح بعض المدارس وتعيين النابهين فيها عام 62 ، ولما أصيبت منطقة صامطة بقحط شديد في الأعوام 62، 63 ، 64 ، وذهب كثير من طلابه إلى البلاد الخصبة من البلدان المجاورة للبحث عن لقمة العيش ، فتح الشيخ رحمه الله في تلك البلاد مدارس كمدرسة الخضراء ، والبيض ، ومدرسة ضمد ، وبيش ، وغير ذلك ، وما زال يتوسع في المدارس حتى عمت مدارسه مقاطعة جازان وأبها وغير ذلك رحمه الله . ولم يزل جاهداً في نشر الدعوة من خلال بث المدارس والتعليم حتى صدر قرار بإلغاء مدراسه في عام 1379هـ لأسباب الله أعلم بها ، فجلس في بيته يتلو القرآن ، واتجه إلى بناء المساجد وحفر الآبار حتى وافاه الأجل في عام 1389هـ عن عمر يبلغ 74 سنة ، ولقد أحيا الله أمماً من الجهل بعلمه ودعوته ومثابرته ولا ننسى أنه ما نال الذي ناله إلا بعون من الله ثم بتأييد الدولة وعطائها المتواصل ولم يزل بعد إلغاء مدارسه يلهج بالثناء على المسئولين والدعاء لهم رحمه الله رحمة واسعة ورفع درجته في الفردوس الأعلى ، فلقد كان من الرجال الأفذاذ والدعاة المصلحين والأئمة المهذبين .(2/113)
وتلميذه حافظ بن
أحمد الحكمي(1)
__________
(1) ... حافظ بن أحمد بن علي الحكمي : حافظ العصر ، ونابغة الدهر ، وأعجوبة الزمان في الذكاء ، ولد في 1342هـ بقرية السلام قرية من قرى الحكامية تسمى الآن بالخمس ، يأتي عليها الزفلت إلى صامطة ، نشأ عند أبويه وكان يرعى لهما الغنم ، وكانوا ينزلون الجاضع لقرابة لهم فيه ، ولأسباب معيشية ، فسمع حافظ بالشيخ الذي نزل المنطقة ، فكتب إليه فذهب إلى الجاضع هو وطلبته ، وقابله فرأى فيه موهبة الذكاء العظيم ، وذلك أن الشيخ أملى عليه وعلى زملائه تحفة الأطفال وشرحها لهم فحفظها من مجلس واحد ، فطلب من أبويه تفريغه للدراسة ، ولكنهما لم يتمكنا في ذلك الوقت ، وكان ذلك في عام 1359هـ ، وقد فرغه والده في أول عام الستين فدرس وبزّ الأقران وصار أعجوبة الزمان ، وبعد سنة بدأ يعيد الدرس الذي يلقيه الشيخ وبعد سنتين تقريباً بدأ يدرس زملائه وذلك في عام 61 وأول اثنتين وستين تقريباً ،وفي عام 1362هـ نظم كتابه سلم الوصول في التوحيد ، ثم بعد ذلك تابع التأليف ، وقد بقي في صامطة إلى نهاية عام 1366هـ في ذلك العريش ، جاثماً بين دولابين من الكتب ، يقرأ ويؤلف ويدرس ، وقد أعتمد عليه شيخه أخيراً في التدريس وانشغل هو بالتجول على المدارس التي فتحها مؤخراً ، وألف في هذه الفترة معظم مؤلفاته كنيل السول في تاريخ الأمم وسيرة الرسول ، ووسيلة الحصول من علم الأصول ، اللؤلؤ المكنون في المصطلح ، والنور الفائض في علم الفرائض ، ودليل أرباب الفلاح في علم المصطلح ، ومعارج= =القبول شرح سلم الوصول ، والقاتية والرد على من رد عليها وغير ذلك ، وفي نهاية عام 1366هـ حج الشيخ عبد الله – رحمه الله – وارسل لأولاده فحجوا حج بهم عمه ، فزوج ابنته الصغرى على الشيخ حافظ بمكة بعد نهاية الحج ، وحج معه في ذلك العام الشيخ حسين بن عبد الله حكمي ابن عم الشيخ حافظ ، وأخوه الشيخ محمد ، والشيخ حسن زيد والشيخ محمد القرني ..وفي عودتهم في عام 1367هـ كلفه الشيخ عبد الله أن يبقى في بيش فبقي في السلامة فترة ، ثم انتقل إلى مدينة بيش وبقي فيها يؤمه طلاب العلم من كل مكان من أهل المنطقة حتى عام 1373هـ فعين مدرساً في المدرسة الثانوية بجيزان وبقي في جيزان عاماً ، ثم عين مديراً لمعهد صامطة عند إنشائه في غرة عام 1374هـ ، وبقي يعمل فيه إلى توفي في 18/12/1377هـ ولقد كان – رحمه الله – شعلة في الذكاء ، أذكر أن الشيخ – رحمه الله – كلفني أنا وإياه بحفظ القرآن ، فحفظت في اليوم الأول ثمناً وهو حفظ جزءاً ، وفي اليوم الثاني كذلك وفي اليوم الثالث ، وفي كل هذه الثلاثة أيام أنا أحرس له فيما حفظ وهو يحرس لي فيما حفظت ، فرحمه الله رحمة واسعة ورفع درجته في عليين .
ملحوظة : أخبرت بعض من كتب عنه – رحمه الله – أنه كان ينام مبكراً ، فأنكر ذلك وكأنه يقول لا يعقل أن يكسب هذا العلم من ينام مبكراً ، وأجيب على ذلك بأمرين :
أولاً : إني أقصد بمبكر أنه لا يسهر كثيراً ، فقد كنت ألاحظ أيام كنا ننام سواء في المدرسة أنه لا يتجاوز الرابعة أو الرابعة والنصف بالتوقيت الغروبي في ذلك الحين .
وثانياً : أنه كان سريع الحفظ بطئ النسيان ، ولقد حدثني الشيخ حسن زيد وهو من أخص أصدقائه أنه قال له : إني بحمد الله إذا راجعت الدرس مرة لا أحتاج إلى مراجعته سنة . فرحمه الله .(2/114)
رحمهما الله تعالى وعليه مشى حافظ في نظم " السبل
السوية " حيث قال :
وجاء في البسملة الإسرار ... كذاك في الجهر أتت أخبار
وقد أسرها النبي وقد جهر ... بها وكل قد روى لما حضر
وأنس قد شاهد الحالين ... ثم رواهما مفصلين
وإليه مال الشيخ عبد العزيز بن باز(1) في تعليقة على الفتح مع ترجيح الإسرار على الجهر كما سيأتي .
فإن قيل أحاديث الإسرار رواها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم فلذلك تكون ارجح لشهرتها وصحتها .
فالجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن حديث الإسرار عن أنس وحده وقد عارضه روايته هو ورواية غيره كما مضى .
الوجه الثاني : أن الرواية عن أنس مختلفة فتارة يروي الإسرار وتارة أخرى يروي الجهر وتارة يخبر بأنه قد نسي الجميع .
والجمع حاصل بين هذه الروايات وذلك أن أنساً طال عمره حتى نيف على المائة ، ومن طال عمره هذا الطول فإنه لابد أن ينسى كثيراً .
__________
(1) ... تقدمت ترجمة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – في أول هذا الجزء .(2/115)
وسليمان بن طرخان التيمي(1) والد المعتمر(2) توفي في 143 بعد أن عاش سبعاً وتسعين سنة فيكون قد عاش في القرن الأول أربعاً وخمسين سنة منها سبع وأربعون في حياة أنس ، وعلى هذا فإنه قد أخذ عنه الجهر قبل أن يطرقه الكبر وحين كان يؤم الناس ثم نسي فسأله أبو مسلمة سعيد بن يزيد(3) فأجابه بأنه قد نسي ثم تذكر الإسرار فأجاب به قتادة بحضرة جماعة من أقرانه الذين تتلمذوا على أنس بن مالك ثم تذكر الجهر أيضاً فأجاب به قتادة أيضاً .
وبقريب من هذا الجمع جمع الحافظ في الفتح ج2ص228 حيث قال وغايته أن أنساً أجاب قتادة بالحكم دون أبي مسلمة فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية أبي مسلمة ما سألني عنه أحد قبلك أو قاله لهما فحفظه قتادة دون أبي مسلمة فإن قتادة أحفظ من أبي مسلمة بلا نزاع اهـ.
قلت : أما سليمان التيمي فقد أخذ الجهر من فعل أنس لا من قوله .
__________
(1) ... سليمان بن طرخان التيمي أبو المعتمر البصري نزل في التيم فنسب إليهم ، ثقة عابد من الرابعة ، مات سنة 143 وله 97 سنة ، اهـ تقريب ، ت 2575 .
(2) ... معتمر بن سليمان التيمي أبو محمد البصري يلقب الطفيل ، ثقة من كبار التاسعة ، مات سنة 187 وقد جاوز الثمانين ، اهـ تقريب 6785 .
(3) ... أبو مسلمة سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزدي ثم الطاحي أبو مسلمة البصري القصير ، ثقة من الرابعة ، روى له الجماعة ، اهـ تقريب ، ت 2419 .(2/116)
ثم قال الحافظ : وإذا انتهى البحث إلى أن محصل حديث أنس نفي الجهر بالبسملة على ما ظهر من طريق الجمع بين الروايات ، فمتى وجدت رواية فيها إثبات قدمت على نفيه لا لمجرد تقديم رواية المثبت على النافي ، بل لأن أنساً يبعد أن يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ثم أبا بكر وعمر وعثمان خمساً وعشرين سنة فلم يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة ، بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا كأنه لبعد عهده به ثم تذكر منه الافتتاح بها سراً ولم يستحضر الجهر بالبسملة فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر اهـ.
وتعقبه الشيخ عبد العزيز بن باز فقال : هذا فيه نظر ، والصواب تقديم ما دل عليه حديث أنس من شرعية الإسرار بالبسملة لصحته وصراحته في هذه المسألة وكونه نسي ذلك ثم ذكره لا يقدح في روايته كما علم ذلك في الأصول والمصطلح وتحمل رواية من روى الجهر بالبسملة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر في بعض الأحيان ليعلم من وراءه أنه يقرأها وبهذا تجتمع الأدلة . اهـ.
الوجه الثالث : أن الجهر قد ثبت من رواية غيره ولم يختلف عنهم فثبت من رواية أبي هريرة مرفوعاً كما تقدم ، وعنه موقوفاً وهو أحفظ القوم وصحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - متأخرة .
وثبت عن ابن عمر من فعله وهو معروف بحرصه الشديد على متابعة السنن .
وثبت عن ابن عباس من فعله ومرفوعاً يحتمل الصحة ورواه عبد الرازق عن أبي ابن كعب أيضاً ، وليست رواية أنس وحده بأولى بالاتباع من روايته مع غيره .
الوجه الرابع : أن البسملة آية من الفاتحة ، وكونها من الفاتحة يلزم منه أن تكون تبعاً لها في الإسرار والجهر ، فتُسر فيما تُسر فيه الفاتحة والسورة ، وتجهر فيما نُجهر فيه الفاتحة والسورة ، ولولا أن الإسرار ثابت لاتجه عدم جواز إسرارها فيما تجهر فيه الفاتحة والسورة . والله أعلم .(2/117)
الوجه الخامس : أن الإسرار دائماً يؤدي إلى ترك البسملة عند كثير من الناس ، ومن وترك البسملة ترك آية من الفاتحة ، ومن ترك آية من الفاتحة فصلاته باطلة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } .
وقد صح أن البسملة آية من الفاتحة كما تقدم ويلزم من ذلك بطلان صلاة من لم يقرأها مع الفاتحة وهذا أمر يجب التنبه له والتنبيه عليه . والله أعلم ، ومعذرة عن الإطالة ، فالمقام مقام بيان ، والحاجة داعية . والله المستعان .
* * *
باب سجود السهو
[104] : عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي – قال ابن سيرين : سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا – قال فصلى بنا ركعتين ثم سلم ، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبّك بين أصابعه ، وخرجت السَّرعان من أبواب المسجد فقالوا : قصرت الصلاة ، وفي القوم أبو بكر وعمر ، فهابا أن يكلماه ، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله ! أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ . قال : لم أنس ولم تُقصر فقال : بل نسيت ، فقال : أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم . فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه فكبر ن ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبر ، فربما سألوه ثم سلم ، قال : نبئت أن عمران بن الحصين ، قال : ثم سلم(1) .
موضوع الحديث :
سجود السهو إذا سلم على نقص .
المفردات :
__________
(1) ... أخرجه البخاري في المساجد ، باب : تشبيك الأصابع في المسجد رقم (482) ، وكرره في الجماعة باب : إذا شك يأخذ بقول غيره رقم (714 ، 715) وكرر برقم (1227 ، 1228 ، 1229) . وأخرجه مسلم في باب : السهو في الصلاة والسجود له (5/67) بشرح النووي .(2/118)
إحدى صلاتي العشي : العشي هو ما بعد الزوال ، وقد وردت الروايات في تعيينها مختلفة فتارة بالشك ، وتارة بالجزم بالظهر ، وتارة بالجزم بالعصر ، والجمع بين هذه الروايات حاصل بأن الراوي تردد مرة فروى بالشك ، وجزم بالظهر مرة ، وبالعصر مرة .
اتكأ : استند عليها .
كأنه غضبان : فعلان من الغضب .
شبك بين أصابعه : أدخل بعضها بين بعض .
وخرجت السَّرعان : بفتح السين المشددة وفتح الراء المهملة ويجوز إسكانها ، أي المسارعون للخروج والمتعجلون فيه .
قُصرت : بضم القاف وكسر الصاد مبني للمجهول وبفتحها وضم الصاد مبني للمعلوم والصلاة على الوجه الأول نائب فاعل ، وعلى الوجه الثاني فاعل .
هابا : من الهيبة وهي الخشية ، أي خوف يصحبه تعظيم .
ذو اليدين : صاحب اليدين .
لم أنسَ ولم تقصر : أي حسب علمي .
نبئت : أخبرت .
المعنى الإجمالي :
الرسل أكمل الناس عقولاً ، وأثبتهم قلوباً ، وأحسنهم تحملاً ، وأقومهم بحق الله تعالى ومع هذا فإنهم لم يخرجوا عند حدود البشرية ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكمل الرسل في هذه الصفات ، ومع ذلك فقد طرأ عليه النسيان بحكم بشريته ليشرع الله لعباده أحكام السهو ، فقد صلى بهم إحدى صلاتي العشي التي هي الظهر أو العصر فسلم على ركعتين ، وسكت الصحابة ظناً منهم أن الصلاة قصرت واستبعاداً للنسيان منه - صلى الله عليه وسلم - ، فقام ذو اليدين وسأله : أقصرت الصلاة أن نسيت يا رسول الله ؟! فأجاب بنفي الجميع حسب علمه ، وبعد ذلك استثبت من الصحابة ، فأخبروه أنه قد نسي ، فصلى ما ترك ، ثم سلم ، ثم سجد للسهو سجدتين يكبر في كل انتقال ، ولم يحفظ ابن سيرين السلام من حديث أبي هريرة ، وحفظه عن عمران بن حصين بواسطة .
فقه الحديث :
أولاً : اختلفت الرواية في الشك ، هل هو من أبي هريرة أو من ابن سيرين ؟ وهل هي الظهر أو العصر ؟.
والحقيقة أن مثل هذا الشك لا يضر لا سيما ومحل الحكم محفوظ .(2/119)
ثانياً : اختلف العلماء في جواز النسيان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقيل لا يجوز النسيان عليه مطلقاً وإنما يتعمد صورة النسيان ليسنّ . قال ابن دقيق العيد : وهذا باطلٌ قطعاً ؛ لإخباره - صلى الله عليه وسلم - أنه نسى .
قلت : ليت قائل هذا القول استحيا من الله ! إذ يكذب رسوله - صلى الله عليه وسلم - من حيث يزعم أنه ينزهه ، وينتقصه من حيث يزعم أنه يغالي فيه ويرفع من قدره ، وقد فرق جماعة من العلماء بين الأقوال التبليغية ، والأفعال ، وأجازوا النسيان في الثاني دون الأول .
قال ابن دقيق العيد : وهو مذهب عامة العلماء والنظار . وهذا الحديث مما يدل عليه ، وأهل هذا القول قالوا إنه لا يقر على النسيان في الأفعال التبليغية احترازاً عما فعله بحكم الجبلة .
وأجاز آخرون النسيان في الجميع – أي الأقوال والأفعال – أما القاضي عياض فقد نقل الإجماع على عدم جوازه في الأقوال التبلغية ، وتعقبه الحافظ في الفتح .
قلت : الذي دلت عليه الآيات القرآنية جوازه في الأقوال التبليغية مقيداً بالمشيئة الشرعية كما في قوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } (الأعلى:6،7) . وقوله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } (البقرة: من الآية106) . من النسيان في { نُنْسِهَا } لا من النسأ وهو التأخير .
والذي يجب أن يتفطن له المسلم أن الرسل بشر ، ولكن الله منحهم أعلى درجات الكمال البشري ، بل وزيادة على ذلك أن الله حرسهم من الغفلة حتى في النوم ، وهذا شيء يختصون به دون غيرهم .(2/120)
وفي الحديث : أن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، وهذا يطّرد فيما إذا لم تكن مصلحة التشريع في النسيان ، فإذا كانت مصلحة التشريع في النسيان ردّهم الله إلى الطبع البشري لكي يحقق بذلك حكماً لولا النسيان لم يتحقق على الوجه المطلوب ؛ لأنه لو قال لهم : إذا نسيتم كذا فافعلوا كذا ما كان له الأثر الكامل الذي يحصل بالصورة الفعلية ، وذلك لا يكون إلا بنسيانه - صلى الله عليه وسلم - ، والله سبحانه أعلم بالصواب .
ولهذا قال في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - : "إني بشر أنسى كما تنسون" وأقرّ ذا اليدين حين قال له : "بلى قد نسيت" ، أما حديث : "لا أنسى بل أُنسي" فهو لم يثبت ؛ لأنه من بلاغات مالك ، ولم يوجد ذلك مسنداً كما نص على ذلك أصحاب الحديث . والله أعلم .
ثالثاً : يؤخذ من قوله : "وصلى ما ترك" جواز البناء على ما تقدم بعد السلام والكلام ، وإليه ذهب الجمهور ، ونقل عن سحنون أنه لا يجيز البناء إلا إذا سلم على اثنتين ، ونقل الشوكاني عن الهادوية أنهم لا يجيزون البناء فيما خرج منه المصلي بسلامين ، والحديث دليل عليهم إلا أنهم قد ادعوا نسخ ذلك ، ورد أنه قد روى البناء عمران بن حصين وإسلامه كان متأخراً .
رابعاً : اختلف القائلون بالبناء في جوازه هل يتحدد بوقت أم لا ؟ .
فقال الجمهور ما لم يطل الفصل ، والأوْلَى أن يرجع في ذلك إلا العرف فيما زاد على الوارد في هذا الحديث فإن فيه السَّرعان خرجوا من باب المسجد وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إلى خشبة في المسجد فاتكأ عليها ، وفي رواية : قد دخل بيته ، ومع هذا فقد بنى على الركعتين الأوليين وأتم الباقي ، فإذا زاد على ذلك وفحش الفصل أو تلبس بعبادة أخرى أعاد الصلاة من جديد ، والله أعلم .(2/121)
خامساً : يؤخذ من الحديث أن السجود لا يتعدد بتعدد السهو ، فقد سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام ومشى واتكأ على الخشبة وراجع ذا اليدين واستثبت من الباقين ، ولم يسجد إلا سجدتين ، وهذا هو مذهب الجمهور وهو أن سجود السهو يتداخل ، وحكى عن الأوزاعي وابن أبي ليلى أن السجود يتعدد بتعدد السهو ، وقيل : إن كان السهوان من جنس واحد سجد لهما سجدتين ، وإن كان كل واحد من جنس كأن يكون أحدهما زيادة والآخر نقصاً ، سجد لكل واحد سجدتين ، وهو رواية عن أحمد واستدلوا بحديث : " لكل سهو سجدتان " رواه أبو داود من طريق إسماعيل بن عياش ، وفيه كلام إذا روى عن غير الشاميين ، وهذا الحديث رواه عن عبيد الله بن عبيد أبو وهب الكلاعي الدمشقي أحد الشاميين ، وثّقه عثمان الدارمي ودحيم ، وقال ابن معين : لا بأس به ، وتابعهم الهيثم بن حميد الغساني(1) عند ابن أبي شيبة في المصنف(2) ، والمهم أن الحديث بسنده هذا ليس مما يطرح ، ولا سيما وله شواهد ، وتأويل الحديث أولى من اطراحه ، وقد تأوله بعضهم أن المعنى : لكل ساهٍ سجدتان ، جمعاً بينه وبين سائر الأحاديث . والله أعلم .
سادساً : يؤخذ منه أن تعدد الأفعال المنافية للصلاة سهواً أو بظن التمام لا تبطل الصلاة ، وفرق في هذا مذهب الشافعي بين الأفعال الكثيرة والقليلة ، فأبطلوا بالكثيرة دون القليلة ، واستدل لعدم البطلان بما ذكر في الحديث ، أفاده ابن دقيق العيد – رحمه الله - .
سابعاً : يؤخذ منه دليل على مشروعية سجود السهو .
ثامناً : يؤخذ منه دليل على أنه سجدتان .
__________
(1) ... الهيثم بن حميد الغساني مولاهم أبو أحمد أو أبو الحارث ، رمي بالقدر صدوق من السابعة . اهـ التقريب ترجمة
(7362) .
(2) ... مصنف بن أبي شيبة (2/33) رواه الهيثم عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي عن زهير الحمصي عن ثوبان .(2/122)
تاسعاًَ : يؤخذ منه دليل على أنه في آخر الصلاة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله إلا في آخرها ، والحكمة في ذلك احتمال وجود سهو آخر فيكون جابراً للكل ، وفرع الفقهاء على ذلك أنه لو سجد ثم تبين له أنه لم يكن في آخرها لزمه إعادته في آخر الصلاة . ذكر ذلك ابن دقيق العيد(1) .
قلت : وعلى هذا فإنه يلزم المسبوق إذا سجد مع إمامه في أثناء صلاته أن يعيده في آخرها إذا انفرد . والله أعلم (2).
عاشراً : يؤخذ منه أن السجود في مثل هذه الصورة محله بعد السلام ، وقد اختلف العلماء في ذلك .
فذهب الشافعي إلى أن سجود السهو كله قبل السلام . وذهب أبو حنيفة إلى أنه كله بعد السلام ، وذهب مالك إلى أنه إذا كان لنقص فهو قبل السلام ، وإن كان لزيادة فهو بعد السلام ، ذهب أحمد إلى أنه يسجد في المواضع التي سجد فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما سجد ، فما سجد فيه قبل السلام نسجد فيه قبل السلام ، وما سجد فيه بعد السلام نسجد فيه بعد السلام .
هذا ما نقله أهل الحديث عن مذهب الإمام أحمد ، والمشهور في المذهب التخيير .
قال في المحرر : ويجوز السجود للسهو قبل السلام وبعده ، وقبله أفضل ، وقد أوصل الشوكاني الأقوال في موضع سجود السهو إلى ثمانية ، ولعل الراجح منها أن يسجد العارف بمواضع سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سجدها ، ويخير من لا علم عنده بين السجود قبل السلام وبعده ، وإلى التخيير ذهب جماعة من المحققين ، وهو الذي رجحه البيهقي – رحمه الله - .
__________
(1) ... انظر العدة على شرح العمدة (2/473) .
(2) ... لأن موضع سجود السهو في آخر الصلاة ولو كان قد سجد مع إمامه قبل السلام وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وقول الإمام الشافعي رحمهما الله . انظر المغني (2/440) . طبع سمو الأمير تركي بن عبد العزيز .(2/123)
الحادي عشر : يؤخذ منه وجوب سجود السهو على المأمومين مع إمامهم وإن لم يحصل منهم سهو لأن جميع المأمومين سجدوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحصل منهم سهو واستدل لذلك بما رواه الدارقطني بلفظ : " ليس على من خلف الإمام سهو فإن سهى الإمام فعليه ، وعلى من خلفه " وفي سنده خارجة بن مصعب وهو ضعيف ، وفي الباب عن ابن عباس رواه أبو أحمد بن عدي(1) في ترجمة عمر بن أبي عمر العسقلاني وهو متروك . اهـ فتح .
قلت : الحديث الأول له مفهومان :
المفهوم الأول : أنه ليس على من خلف الإمام سهو ، ومقتضاه أن سهو المأموم لا يوجب سجوداً لا عليه ولا على إمامه .
المفهوم الثاني : إيجاب السجود على المأموم مع إمامه وإن لم يسه ، وهذا تؤخذ دلالته من حديث الباب لا من هذا الحديث الضعيف .
الثاني عشر : يؤخذ منه مشروعية التشهد لسجود السهو إذا كان بعد السلام ، وبه قال أحمد وإسحاق وبعض الشافعية وبعض المالكية ، أما إذا كان السجود قبل السلام فالجمهور على أنه لا يعيد التشهد بعده ، وحكي عن الليث إعادته وهو رأي شاذ ، والقول في مشروعيته في السجود الذي بعد السلام هو الأرجح ؛ لما روى الترمذي من طريق محمد بن يحيى النيسابوري ، عن محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن أشعث بن عبد الملك ، عن ابن سيرين ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم فسهى ، فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم .
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب ، وفي بعض النسخ الاقتصار على التحسين فقط .
__________
(1) ... هو الإمام الحافظ الكبير والناقد الخبير أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني ، ولد سنة 277 وتوفي سنة 365 وله كتاب الكامل في الضعفاء الذي يقول فيه ابن تيمية لم يصنف في الضعفاء مثله .(2/124)
قال أحمد شاكر – رحمه الله - : والذي نقله العلماء عن الترمذي التحسين فقط . ورواه أبو داود وسكت عليه ولا يسكت إلا على ما هو صحيح أو مقارب ، ورواه الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ، وقال الحافظ في الفتح : ضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما ووهموا أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين ، فإن المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد ، قال : وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة قلت لابن سيرين : التشهد ، قال : لم أسمع شيئاً في التشهد ... إلى أن قال : وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد من حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد ، كما أخرجه مسلم فصارت زسادة أشعث شاذة ، ولهذا قال ابن المنذر : لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت ، لكن ورد التشهد عن ابن مسعود عند أبي داود ، والنسائي ، وعن المغيرة بن شعبة عند البيهقي ، وفي إسنادهما ضعف .
فقد يقال أن الأحاديث الثلاثة ترتفع إلى درجة الحسن ، قال العلائي : وليس ذلك ببعيد ، وقد صح عن ابن مسعود من قوله أخرجه ابن أبي شيبة اهـ. فتح .
قلت : والقول بتحسينه هو الأولى ؛ بل هو أقل ما يقال فيه لما يأتي :
أولاً : أن زيادة الثقة مقبولة كما تقرر في علم المصطلح ، وأشعث بن عبد الملك الحمراني قال فيه الحافظ : ثقة ثبت ، ورمز له "خ" أي : روى له البخاري ، وتوهيم الثقة خلاف الأصل .
ثانياً : أن هذه الزيادة لا تعارض رواية الجماعة حتى يحكم بشذوذها ؛ لأن رواية الجماعة لم تتعرض للتشهد بنفي ولا إثبات ، وإذا كان كذلك فإن هذه الزيادة تعد بمثابة حديث مستقبل .
ثالثاً : أن نفي محمد بن سيرين يحمل على حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أي أنه لم يسمع في التشهد شيئاً من حديث أبي هريرة كما ثبت ذلك في صحيح البخاري ، حيث قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد ، عن سلمة بن علقمة ، قال : لمحمد : في سجدتي السهو تشهد ؟ قال : ليس في حديث أبي هريرة .(2/125)
قلت : بل إن هذا النفي يشعرك أن هناك رواية عن غيره ، والله أعلم .
الرابع عشر : يؤخذ من قول محمد بن سيرين : فنبئت أن عمران بن حصين قال : ثم سلم مشروعية السلام من سجود السهو إذا كان بعد السلام ، وهو ثابت من حديث عمران - رضي الله عنه - عند مسلم – رحمه الله – فيجب المصير إليه لثبوته ، والله أعلم .
تنبيه :
ورد في هذا الحديث أن الصحابة – رضوان الله عليهم – تابعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في تسليمه على نقص لاحتمال النسخ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك قال ذو اليدين : أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ . فأجاب بقوله :" لم أنس ، ولم تقصر الصلاة " ، أي حسب علمي ، فقال ذو اليدين : بل نسيت ، ومن هنا ينبغي التنبيه على أنه لا يجوز للمأمومين أن يسحبوا ، فإن تنبه وإلا فارقوه ، ولا يجوز لهم أن يسلموا معه على نقص مع علمهم بالسهو ، ومن سلم معه وهو يعلم بطلت صلاته ، وعليه أن يعيد من جديد ، وإن قام الإمام لخامسة وجب عليهم أن يسبحوا له ولا يجوز لهم أن يتابعوه على القيام ، فمن تابعه على القيام وهو يعلم بطلت صلاته ، وإن سبحوا له ولم يرجع وجب عليهم أحد أمرين : إما مفارقته ، وإما انتظاره حتى يكمل ، فيسلم ويسلمون معه . والله أعلم وبالله التوفيق .
ملحق : وفي الحديث من المسائل غير ما يتعلق بالسهو ما يأتي :
أولاً : فيه جواز التشبيك بين الأصابع بعد تمام الصلاة لقوله : وشبك بين أصابعه ، فيخصص النهي الوارد في ذلك بما قبل الصلاة جمعاً بين الحديثين ، والله أعلم .
ثانياً : فيه فضيلة أبي بكر وعمر في الصحابة ، وأنهما أفضل الصحابة ؛ بل أفضل الأمة على الإطلاق ، ويرد فيه على الشيعة في تقديمهم لعلي بن أبي طالب عليهما ، رضوان الله عليهم أجمعين .
ثالثاً : فيه ما كان عليه الصحابة من إجلال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(2/126)
رابعاً : يؤخذ منه أن من أنكر شيئاً بناء على ما في ظنه لا يعد كاذباً ولا آثماً وإن تبين خلاف ذلك ، ويفرع عليه أن من حلف على شيء بحسب علمه ثم تبين خلاف ذلك ، فإنه لا يعد آثماً ، ولا تكون يمينه فاجرة ، ولا يلزمه حنث . والله أعلم .
* * *
[105] : وعن عبد الله بن بحينة - رضي الله عنه - ، وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس ، فقام الناس معه ، حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبّر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلّم (1).
موضوع الحديث :
مشروعية سجود السهو لمن ترك التشهد الأول سهواً .
المفردات :
فقام من الركعتين الأوليين : أي بعد تمام الركعتين .
ولم يجلس : أي لم يجلس للتشهد الأول ، وجملة لم يجلس تأكيد للفعل قام .
قضي الصلاة : أي أكملها .
وانتظر الناس تسليمه : أي توقعوا أن يسلم .
المعنى الإجمالي :
سهى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - عن التشهد الأول فقام وتركه وتابعه الناس في القيام حتى إذا أكمل الصلاة ولم يبق سوى السلام كبر وهو جالس ، وسجد سجدتين قبل السلام ، ثم سلم ، وكان ذلك السجود جبراً للتشهد المتروك .
فقه الحديث :
يؤخذ من الحديث دليل لمن قال أن السجود إذا كان من نقص فهو قبل السلام ، وهو قول مالك – رحمه الله – وليس فيه دليل على مطلق السجود عن النقص أنه قبل السلام ، فقد ثبت من حديث أبي هريرة الماضي وعمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بعد السلام ، وكان سهوه عن نقص ، اللهم إلا أن يقال بالفرق بين نقص ينجبر بالسجود ، ونقص لا ينجبر إلا بالإتيان به .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في صفة الصلاة ، باب : من لم ير التشهد الأول واجباً ، رقم الحديث (829) ، وباب : التشهد في الأول (830) ، وفي (1224/1225) ، وأخرجه مسلم في السهو (5/58) بشرح النووي .(2/127)
نعم فيه دليل على من قال إن سجود السهو كله بعد السلام ، وهم الحنفية والله أعلم .
ثانياً : يؤخذ منه أن التشهد الأول والجلوس له غير واجبين ، قال ابن دقيق العيد من حيث أنه جبر بالسجود ، ولا يجبر الواجب إلا بتداركه وفعله .
قلت : هذا يتمشى على مذهب من يرى أن الواجب نظير الفرض كالشافعية ، أما على مذهب من يفرق بينهما كالحنابلة والحنفية فإن الواجب عندهم يجبر بسجود السهو والركن لا يجبر إلا بالإتيان به . والله أعلم .
ثالثاً : يؤخذ منه أن سجود السهو لا يتعدد بتعدد السهو ، فإنه هنا ترك التشهد الأول والجلوس له وسجد لهما سجدتين ، وقد تقدم فيه بحث في الحديث السابق .
رابعاً : يؤخذ منه وجوب متابعة المأمومين للإمام على القيام عن هذا الجلوس إذا استمر .
خامساً : إذا تذكر الإمام قبل أن يستتم قائماً ، فعليه أن يعود ، وهل عليه سجود سهو أم لا ؟ في ذلك خلاف :
ذهب النخعي ، وعلقمة ، والأسود ، والشافعي إلى أنه لا سهو عليه ، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود ، وابن ماجة ، وأحمد عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائماً فليجلس " ، وفي رواية : " ولا سهو عليه ، وإن استتم قائماً فلا يجلس وسجد سجدتي السهو " ، ومداره على جابر الجعفي وهو متروك ، قال أبو داود بعد إخراج هذا الحديث من طريقه : لم أخرج في كتابي عن جابر الجعفي غير هذا الحديث .
وذهب الإمام أحمد والعترة إلى أنه يجب السجود وإن لم يستتم لفعل القيام ، لما رواه البيهقي والدارقطني عن أنس موقوفاً عليه : أنه تحرك للقيام في الركعتين الأخيرتين من العصر على جهة السهو فسبحوا له فقعد ، ثم سجد للسهو . وفي بعض طرقه قال : هذه السنة ، قال الحافظ في التلخيص : تفرد به سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن أنس ، ورجاله ثقات .
قلت : وبهذا يظهر رجحان مذهب الإمام أحمد ومن معه ، لأمور ثلاثة :(2/128)
أولها : أن أنساً قال في بعض طرق الحديث : وهذه السنة ، وما كان كذلك فهو في حكم الرفع كما تقرر من علم المصطلح .
ثانيها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في حديث الباب ولم يفصل .
ثالثها : أن التحرك للقيام على سبيل النسيان والوهم سهو ، وكل سهو يجب أن يجبر بالسجود كما أفاده حديث : "لكل سهو سجدتان" وغيره .
أما حديث جابر الجعفي فهو مع ضعفه مخالف للنصوص الصحيحة ، وكذلك حديث ابن عمر عند الحاكم والبيهقي والدارقطني : " لا سهو إلا من قيام عن جلوس ، أو جلوس عن قيام " . فهو ضعيف أيضاً ، في سنده أبو بكر العنسي ، مجهول ، وإن كان ابن أبي مريم فهو ضعيف ، رغم أن الذهبي قد وافق الحاكم على تصحيحه ، وجلَّ من لا يغفل . والله أعلم .
* * *
باب المرور بين يدي المصلي
[106] : عن أبي جهيم الحارث بن الصمة الأنصاري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم ، لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه "(1).
قال أبو النضر : لا أدري أربعين يوماً ، أو شهر ، أو سنة .
ترجمة الصحابي أبو جهميم قال ابن دقيق العيد : عبد الله بن جهيم(2) وقال في الكاشف للذهبي أبو جهيم بن الحارث بن الأنصاري له صحبة عن يسر بن سعيد وعبد الله بن يسار .
موضوع الحديث :
__________
(1) ... أخرجه البخاري في أبواب السترة ، باب : إثم المار بين يدي المصلي ، رقم الحديث (510) ، ومسلم (2/224) في باب : سترة المصلي . ولم يذكر في شيء من الأصول كلمة "من الإثم" ، قال الحافظ في الفتح (1/585) : لكن في مصنف ابن أبي شيبة يعني من الإثم .
(2) ... قال ابن دقيق العيد : عبد الله بن جهيم ، وقال الحافظ : قيل عبد الله بن جهيم بن الحارث بن الصمة ، وقيل : اسمه الحارث بن الصمة صحابي معروف ، ابن أخت أبي بن كعب - رضي الله عنه - ، بقي إلى خلافة معاوية - رضي الله عنه - .(2/129)
بيان إثم المار بين يدي المصلي وأنه أعظم من الوقوف مدة طويلة من الزمن .
المفردات :
بين يدي المصلي : أي أمامه .
ماذا عليه : أي شيء عليه والاستفهام للتفخيم .
من الإثم : من لبيان الجنس .
لكان : جواب لو .
أن يقف : إن وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسم كان ، وخيراً خبرها ، أي لكان الوقوف أربعين خيراً له من المرور بين يديه .
المعنى الإجمالي :
بيَّن الشارع الحكيم أن أعظم مشقة تحصل على العبد في الدنيا هي أيسر على العبد من يسير الإثم على ما يظنه العبد سهلاً كالمرور بين يدي المصلي ، فمشقة الوقوف أربعين يوماً الذي هو أقل احتمالاً في تفسير الأربعين أخف من إثم المرور بين يديه .
فقه الحديث :
أولاً : الرواية المشهورة أن زيد بن خالد الجهني أرسل بُسر بن سعيد إلى أبي جهيم يسأله ، وهذه رواية مالك بن أنس ، وتابعه سفيان الثوري عن أبي النضر عند مسلم وابن ماجة وغيرهما ، وخالفهما ابن عيينة فرواه عن أبي النضر فقال عن بسر ابن سعيد قال : أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله ، كما رواه ابن أبي خيثمة وخطأه يحيى بن معين وقال : الصواب رواية مالك . اهـ ويمثل به لمقلوب السند .
ثانياً : عِيبَ على صاحب العمدة أنه أثبت جملة من الإثم في كتابه مع أنها ليست ثابتة ، فلم ترد في شيء من الصحاح والسنن والمسانيد ، وإنما وردت في رواية للكشميهني وحده "من الإثم" وخالفه جميع رواة البخاري فرووه بدونها ، وورد في رواية لابن أبي شيبة يعني من الإثم .
ثالثاً : مميز أربعين غير متعين أي مشكوك فيه ، وكذلك هو في رواية غير ابن عيينة رواية واحدة ، وكذلك رواه الحافظ عن ابن عيينة ، كما أخرجه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور وغيرهم ، وورد في رواية في مسند البزار بالجزم فقال : "لكان أن يقف أربعين خريفاً" وأشار الحافظ إلى ضعفها ، فقال : ويبعد أن يكون الجزم والشك من راوٍ واحدٍ في حالة واحدة .(2/130)
رابعاً : يؤخذ منه تحريم المرور بين يدي المصلي ، وأن المار قد عرض نفسه لإثم كبير وخطر عظيم إذا كان المصلي بدون سترة أو كانت له سترة ومرّ بينه وبينها ، وقد قسّم ابن دقيق العيد المرور إلى أربعة أقسام ، وأربع حالا :
الأولى : أن يكون للمار مندوحة والمصلي لم يتعرض ، أي كانت له سترة فيختص المار بالإثم .
الثانية : عكس ذلك وهو أن لا يكون للمار مندوحة والمصلي قد تعرض ، أي ترك السترة فيختص المصلي بالإثم .
الثالثة :أن لا يكون للمار مندوحة ولم يتعرض المصلي ، فلا يأثمان معاً .
الرابعة : أن يكون للمار مندوحة والمصلي قد تعرض ، فيأثمان معاً .
قال الحافظ بعد أن ساق كلام ابن دقيق العيد : وظاهر الحديث يدل على المنع من المرور مطلقاً ، ولو لم يجد مسلكاً ؛ بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته .(1)
قلت : وهذا هو الحق ؛ لأن الحديث علق الإثم على المرور ولم يفصل ؛ بل جعل الوقوف مدة طويلة خيرٌ من المرور . والله أعلم .
خامساً : يؤخذ منه أن الإثم المترتب على المعصية في الآخرة وإن قل فهو أعظم من أي مشقة في الدنيا مهما كانت شديدة وفظيعة . والله أعلم .
* * *
[107] : عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه ، فليدفعه ، فإن أبى فليقاتله ، فإنما هو شيطان "(2) .
موضوع الحديث :
سترة المصلي ومشروعية دفع من أراد أن يمر بين يدي المصلي وبين سترته .
المفردات :
إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس : أي يمنع قطع صلاته .
فليدفعه : أي يمنعه من المرور أمامه .
فليقاتله : أي ليدفعه دفعاً شديداً .
__________
(1) ... راجع الفتح (1/586) .
(2) ... اخرجه البخاري في أبواب السترة ، باب : يرد المصلي من مر بين يديه ، رقم الحديث (509/1/581) وفيه قصة . وأخره مسلم في أبواب السترة (4/223) نووي .(2/131)
فإنما هو شيطان : أي مدفوع بأمر الشيطان فصار لذلك شيطاناً ، والشيطان مأخوذ من شَطَنَ ، بمعنى بعُدَ أي بعيد عن الله وعن رحمته .
المعنى الإجمالي :
يأمر الشرع باتخاذ الحزم والحيطة في الأمور كلها ، وأهم أمور الدين والدنيا الصلاة ، لذل حث الشارع الحكيم على العناية بها واتخاذ السترة لها قبل الدخول فيها والدنو من السترة ومنع من أراد قطع صلاته بالمرور بينه وبينها ، ومقاتلته إن أصر على ذلك بالدفع الشديد ، فإنما هو شيطان ، فالشيطان هو الذي يحرص على قطع أعمال الخير وأهمها الصلاة .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ من قوله : " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فليدفعه ..." يؤخذ منه أن الدفع لا يجوز إلا إذا صلى إلى سترة معتبرة شرعاً ، وقد ورد تقييد جواز الدفع بوجود السترة من رواية سليمان بن المغيرة وهو هذا اللفظ ، وورد من رواية يونس غير مقيد أخرجها البخاري في بدء الخلق ، نبَّه على ذلك الحافظ ، وذكر عن الإسماعيلي أن سليم بن حيان تابع يونس على عدم التقييد عن حميد بن هلال قال : والمطلق محمول على المقيد .
قلت : وهي القاعدة الأصولية ، ولكن الذي يظهر لي أن التقييد إنما هو لوجوب الدفع أو استحبابه .
وإذا قصر بترك السترة فإنه لا يستحب له الدفع مع تقصيره ، وهل يجوز للمار أن يمر بين يديه ؟ في هذه الحالة لا يحرم والأولى تركه ، هذا هو ظاهر كلام الحافظ فيما نقله عن الشافعية في الروضة ، وتعقبه الشيخ عبد العزيز بن باز وقال : اللهم إلا أن يضطر المار إلى ذلك لعدم وجود متسع إلا ما بين يديه .
قلت : الظاهر من حديث أبي جهيم السابق عدم جواز المرور وإن لم يجد متسعاً ، وهو الذي فهمه راوي الحديث أبو سعيد الخدري كما يتضح من قصته مع الشاب .
وماذا يضير المار لو وقف حتى يسلم المصلي والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه " .(2/132)
ثانياً : يؤخذ من قوله : " إلى شيء يستره من الناس " أن الدفع لا يجوز إلا عند وجود السترة المعتبرة شرعاً وهي قدر مؤخر الرَّحل ، كما ثبت عند مسلم من طريق عائشة وطلحة بن عبيد الله وأبي ذر رضي الله عنهم أجمعين ، ولفظ حديث عائشة : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي لفظ : في غزوة تبوك عن سترة المصلي فقال : " مثل مؤخرة الرَّحل " والرَّحْل : بالراء المشددة والحاء المهملة هو الذي يوضع على ظهر الجمل للركوب عليه .
وبهذه الأحاديث أخذ الجمهور فقالوا أقل ما يجزئ في سترة المصلي مثل مؤخرة الرحل ، وذلك ذراع أو ثلثي ذراع على خلاف .
واختلفوا في جلة هذه السترة ، فقال مالك : كجلة الرمح ، وروى عبد الرازق عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يجزئ من السترة مثل مؤخرة الرحل في دقة الشعرة " . قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين وليس عندهما آخره ، وهو يدل على عدم التحديد في الجلة . والله أعلم .
وقد ذهب الإمام أحمد وإسحاق إلى حديث الخط الذي رواه أبو داود وفيه : " فمن لم يجد فليخط خطا " وقد ضُعَّف هذا الحديث بجهالة حريث بن عمار الراوي له عن أبي هريرة وحفيده أبي محمد بن عمرو بن حريث ، أو أبي عمرو بن محمد بن حريث ، ورواه عبد الرازق في المصنف من طريق ابن جريج قال : أخبرني إسماعيل بن أمية عن حريث بن عمار عن أبي هريرة فأسقط الواسطة وهو ابن حريث ، ورجح ابن خزيمة رواية بشر بن المفضل وسماه أبي عمرو بن حريث عن أبيه ، وضعفه الألباني وقال : إنه مضطرب ، ونقل الحافظ في التهذيب عن الطحاوي أنه قال :مجهول ، ونقل الخلال عن أحمد أنه قال : حديث الخط ضعيف . وقال الدارقطني : لا يصح ولا يثبت ، وقال الشافعي في سنن حرملة : ولا يخط المصلي بين يديه إلا أن يكون في حديث ثابت فيتبع . اهـ تهذيب (12/181) .(2/133)
وسئل الإمام أحمد عن الخط فوصفه مقوساً كالمحراب ، وهو أولى من قول من قال يكون مستقيماً عن يمين المصلي ، ألا أن دليله ضعيف كما تقدم .
ثالثاً : يؤخذ منه مشروعية المدافعة لمن أراد المرور بينه وبين سترته ، وهل تجب أو تُسنّ ؟
ذهبت الظاهرية إلى الوجوب ، وذهب الجمهور إلى السنية ، حتى قال النووي : لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع ، وتعقبه الحافظ بأن المعروف عن الظاهرية القول بالوجوب .
قلت : الوجوب أظهر هنا لورود الأمر ، ولا صارف ، وعلى هذا فيأثم المصلي إن قصر فيه ، فإن قيل الإجماع على عدم الوجوب يصلح لصرفة من الوجوب إلى الندبية ، قلنا : وأين الإجماع والظاهرية تقول بالوجوب ؟ والله أعلم .
رابعاً : يؤخذ من قوله : "فإن أبى فليقاتله ، فإنما هو شيطان " جواز المقاتلة بدفع أشد من الدفع الأول كما فسره فعل الراوي في صدر هذا الحديث عند البخاري ، وحاصل القصة : أن أبا سعيد كان في يوم الجمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس ، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه فدفع أبو سعيد في صدره ، فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه فعاد ليجتاز ، فدفعه أبو سعيد أشدّ من الأولى ، فنال من أبي سعيد ، ودخل على مروان فشكى إليه ما لقي من أبي سعيد ، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان ، فقال مالك : ولابن أخيك يا أبا سعيد قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "... الحديث " ، وتتمة حديث الباب ، ولم يصب من حمل المقاتلة على ظاهرها فإن ذلك يتنافى مع خشوع الصلاة . والله أعلم .(2/134)
خامساً : يؤخذ من قوله : "فإنما هو شيطان" جواز هذه التسمية لكل من حاول قطع عمل خيري ، أو فتح باب شر ، وإن هذا الاسم لا يختص بالشيطان الجني والله تعالى يقول : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } (الأنعام:112) .
سادساً : يؤخذ منه مشروعية الدفع في الحرم المكي لعموم حديث أبي سعيد ، وبه أخذ جماعة من السلف ، وحكى عن ابن عمر أنه دفع في الكعبة أي عندها .
وقد ذهب آخرون إلى سقوط الدفع والسترة في الحرم المكي ، وأن ذلك عفو وممن قال بهذا القول ابن الزبير وطاووس وابن جريج ومحمد بن الحنفية ، مستدلين بما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وعبد الرازق في المصنف من طريق كثير بن كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة عن أبيه عن جده قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في المسجد الحرام ، والناس يطوفون بالبيت بينه وبين القبلة بين يديه ، ليس بينه وبينهم سترة . هذا لفظ عبد الرزاق ، ولفظ النسائي : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت سبعاً ، ثم صلى ركعتين بحذائه في حاشية المقام ، وليس بينه وبين الطواف أحد .
وقد أشار محقق المصنف حبيب الأعظمي إلى أن فيه علة ، وقال الشوكاني في النيل الحديث من رواية كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن بعض أهله عن جده ، وفي سنده مجهول .(2/135)
قلت : الروايات التي رأيتها كلها متفقة على أن الحديث عن كثير بن أبي كثير ، عن أبيه ، عن جده ، ألا رواية عند أبي داود قال فيها : عن بعض أهله ، عن جده ، وقد اتفق على الرواية الأولى ثلاثة من الحفاظ هم سفيان بن عيينة وعمرو بن قيس الملائي عند عبد الرزاق(1) ، وابن جريج عند النسائي وابن ماجة ، وهؤلاء الثلاثة كلهم ثقاة أئمة مخرج لهم في الصحيحين وغيرهما ، وكثير بن كثير ثقة ، وأبوه مقبول ، وجده صحابي من مسلمة الفتح .
فتبين بهذا صحة الحديث ، وإن كان قد ورد في بعض الروايات عن بعض أهله كما في سنن أبي داود فإن ذلك البعض قد تعين بالرواية الآخرى أنه أبوه ، وإن كان غير أبيه فإن ذلك يحمل على أن الحديث كان مشهوراً عند أهل بيت المطلب فحمله عن أبيه وعن غيره ، وحدَّث به تارة عن أبيه ، وتارة عن بعض أهله ، والذي يخشى منه تدليس ابن جريج ، وبالمتابعة له قد زال ، علماً بأن ابن جريج وكثير مكيّان وقد عاشا في زمن واحد ، وبلد واحد ، فاتضح بذلك صحة الحديث ، وتعين الأخذ به ولعل السبب في العفو عن ذلك في الحرم ؛ لأنه مثابة المسلمين ومجتمعهم ، فيقع فيه من الزحام ما يصعب الاحتراز معه(2) ، والله أعلم .
* * *
[108] : وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : أقبلتُ راكباً على حمار أتانٍ وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررتُ بين يدي بعض الصف فلم ينكر ذلك علي أحدٌ(3) .
موضوع الحديث :
المرور بين يدي المصلي ، وهل يقطع صلاته مرور الحمار بين يديه ؟
المفردات :
__________
(1) ... أخرج ذلك في باب لا يقطع الصلاة شيء بمكة (2/35) .
(2) ... حكى ذلك عبد الرزاق عن ابن الزبير وطاووس ومحمد بن الحنفية وابن جريج .
(3) ... أخرجه البخاري في كتاب العلم ، باب : متى يصح سماع الصغير . رقم (76) وأطرافه في : (493/861/1857/4412) ، وأخرجه مسلم في باب سترة المصلي (4/221) .(2/136)
أتان : هي الأنثى من الحمر ولا يقال فيها أتانة .
ناهزت : قاربت الاحتلام .
إلى غير جدار : كأنه يشير إلى أنه كان يصلي إلى غير سترة ، وقيل : لا يلزم من عدم الجدار عدم السترة .
المعنى الإجمالي :
يخبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه أقبل إلى مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس ، فمر بالأتان بين يدي بعض الصف ثم أرسلها ودخل في الصف يصلي ، فلو كان مرور الحمار بين يدي المصلي يبطل الصلاة لأنكروا ذلك عليه ، ولكن عدم الإنكار يدل على عدم الإبطال .
* * *
[109] : وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني ، فقبضت رجلي ، فإذا قام بسطتهما ، والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح (1).
موضوع الحديث :
سترة المصلي ، وأن الاضطجاع أمام المصلي لا يعد قطعاً ولو كان من امرأة .
المفردات :
بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي أمامه .
ورجلاي في قِبلته : أي في محل سجوده .
فقبضت رجلي : سحبتها من محل سجوده .
بسطتهما : أي أعدتهما إلى مكانهما الأول .
المعنى الإجمالي :
تخبر عائشة رضي الله عنها أنها كانت تنام أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي صلاة الليل ، وليس له مكان يسجد فيه إلا موضع رجليهما ولم يَعُدُّه النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعاً .
فقه حديثي عائشة وابن عباس رضي الله عنهما :
__________
(1) ... حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه البخاري في المرور بين يدي المصلي باب : الصلاة إلى السرير ، رقم (508) ، ورقم (511) ، ورقم (513) ، ورقم (515) وكلها في باب المرور . وأخرجه مسلم (4/218) .(2/137)
أولاً : يؤخذ من الحديث أن المرأة والحمار لا يقطعان الصلاة ، وهو معارض لحديث أبي ذر عند مسلم بلفظ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره من الناس إذا كان بين يديه مثل آخرة الرَّحل ، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته المرأة والحمار والكلب الأسود " . قلت : يا أبا ذر : ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر ؟ ، قال : يا ابن أخي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني ، فقال : "الكلب الأسود شيطان" .
وحديث أبي هريرة عنده أيضاً بلفظ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل ".
وقد ورد تقييد المرأة بالحائض عند أبي داود من طريق ابن عباس ، قال الزيلعي في "نصب الراية" : قال يحيى بن سعيد لم يرفعه غير شعبة ، وقال أبو داود : وقفه سعيد وهشام وهمام ، عن قتادة ، عن ابن عباس .
قلت : وإذ قد صح موقوفاً فإنه مما لا مجال للرأي فيه ، فله حكم الرفع والله أعلم .
وقد اختلف العلماء في القطع المنصوص هنا هل المراد به نقص الأجر أو الإبطال .
فذهب الجمهور إلى أن المراد به نقص الأجر ، وممن قال بذلك الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي .
وذهب داود الظاهري إلى أن المراد بالقطع الإبطال بالكلية ، فمن مرت واحدة من هذه الثلاث بين يديه وهو بدون سترة ، أو كانت له سترة فمرت بينه وبين سترته بطلت صلاته ، ماعدا المرأة المضطجعة ، صرح بذلك ابن حزم في المحلى ، وذهب الإمام أحمد إلى الإبطال بالكلب الأسود ، واختلف قوله في المرأة والحمار .
وقد استدل الجمهور على عدم الإبطال بأحاديث :
1-2: منها هذان الحديثان واعتذر القائلون بالقطع عن الحديثين بما يلي :
قالوا حديث عائشة ليس فيه حجة ؛ لأنه لم يكن فيه مرور ، والقطع مقيد بالمرور لأنه يحصل به شدة التشويش دون الاضطجاع أمام المصلي .(2/138)
أما حديث ابن عباس فإنه ليس فيه حجة أيضاً ؛ لأنه لم يقطع بين الإمام وبين سترته ، ولا بين المأمومين والإمام ؛ بل كان مروره بين يدي بعض الصف ، وهذا المرور لا يقطع الصلاة .
موقفه ................................................
3- ومنها حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود بلفظ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقطع الصلاة شيء ، وادرؤوا ما استطعتم فإنما هو شيطان " . وفي سنده مجالد بن سعيد الهمداني أخرج له مسلم مقروناً ، وقال الحافظ : ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره ، وأبو الوداك جبر بن نوف البكالي أخرج له مسلم أيضاً ، وقال فيه الحافظ : صدوق يهم .
قلت : مثل هؤلاء لا يطرح حديثهم بل يرتفع بالشواهد لدرجة الصحيح لغيره .
4- ومنها حديث أبي أمامة عند الطبراني في "الكبير" من طريق عفير بن معدان ، عن سليم بن عامر ، عن أبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقطع الصلاة شيء" ، وقد نقل الشيخ أحمد شاكر في تعليقة على الترمذي أن الهيثمي قال في مجمع الزوائد : إسناده حسن وضعفه ابن الجوزي بعفير بن معدان ، وقال الحافظ في التقريب : عفير بن معدان الحمصي المؤذن ضعيف من السابعة .
5- ومنها حديث أنس قال في "نصب الراية" : وأما حديث أنس فأخرجه الدارقطني عن صخر بن عبد الله بن حرملة ؛ أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس فمر بين أيديهم حمار ، فقال عياش ابن أبي ربيعة : سبحان الله ، سبحان الله ، فلما سلّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من المسبح آنفاً ؟ قال : أنا يا رسول الله ، إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة . قال : "لا يقطع الصلاة شيء" .(2/139)
وضعفه ابن الجوزي بصخر بن عبد الله ، وقال ابن عدي : يحدث عن الثقات بالأباطيل ، عامة ما يرويه منكراً ومن موضوعاته ... وقال ابن حبان : لا تحل الرواية عنه قال الزيلعي وتعقبه صاحب التنقيح وقال : إنه وهم في صخر هذا ، فإن صخر بن عبد الله بن حرملة الراوي عن عمر بن عبد العزيز لم يتكلم فيه ابن عدي ولا ابن حبان بل ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال النسائي : هو صالح .
وإنما ضعف ابن عدي صخر بن عبد الله الكوفي المعروف بالحاجبي وهو متأخر عن ابن حرملة روى عن مالك والليث وغيرهما . اهـ.
وقال الحافظ : صخر بن عبد الله بن حرملة المدلجي ،حجازي مقبول ، غلط ابن الجوزي فنقل عن ابن عدي أنه اتهمه وإنما المتهم صخر بن عبد الله الحاجبي(1) .
وبهذا يتبين أن الحديث من قبيل الحسن إن شاء الله .
__________
(1) ... التقريب رقم الترجمة (2907) .(2/140)
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر(1) – رحمه الله – في تعليقه على المحلى والترمذي – بعد أن ساق الكلام المتقدم : ثم إن الباغندي قال من مسند عمر بن عبد العزيز(2) : حدثنا هشام بن خالد الأزرق(3) ، أنبأنا الوليد بن مسلم(4) ، عن بكر بن مضر المصري(5) ، عن صخر بن عبد الله المدلجي ، قال سمعت عمر بن عبد العزيز يحدث عن عياش بن ربيعة قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي يوماً بأصحابه .. الحديث .
__________
(1) ... الشيخ أحمد محمد شاكر عالم معاصر .
(2) ... عمر بن عبد العزيز بن مروان ، الإمام العادل الذي عد خامس الخلفاء الأربعة ، تولى الخلافة بعد سليمان وتوفي سنة إحدى ومائة في شهر رجب . ترجمه في التقريب رقم (4940) .
(3) ... هشام بن خالد بن زيد بن مروان الأزرق ، أبو مروان الدمشقي ، صدوق من العاشرة ، مات سنة تسع وأربعين ومائتين . التقريب رقم (7291) .
(4) ... الوليد بن مسلم القرشي مولاهم ، أبو العباس الدمشقي ، ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية ، من الثامنة مات آخر سنة أربع – أو أول سنة خمس – وتسعين . اهـ. التقريب (7456) والتهذيب (11/151) .
(5) ... بكر بن مضر بن محمد بن حكيم المصري أبو محمد أو أبو عبد الملك ، ثقة ثبت من الثامنة توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة ، وله نيف وسبعون . التقريب (751) .(2/141)
مثل ما تقدم ، قال : وهذا إسناد صحيح ، إلا أن عمر بن عبد العزيز لم يسمع من عياش بن ربيعة فقد مات سنة 15هـ ، ولكنه محمول على الرواية الأخرى عن أنس ، وكأن عمر لما سمعه من أنس صار مرة يرويه عن أنس ، ومرة يرسله عن عياش يريد بذلك رواية القصة لا ذكر الإسناد ، وهذا كثير عند رواة الحديث وخصوصاً القدماء ، وهو صريح في أن الأحاديث التي فيها الحكم بقطع الصلاة بالمرأة والحمار والكلب منسوخة فقد سمع عياش أن الحمار يقطع الصلاة ، وعياش من السابقين الأولين هاجر الهجرتين ثم حبس بمكة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو له كما ثبت في الصحيحين ، فعلم الحكم الأول ثم غاب عن نسخه ، فأعلمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة لا يقطعها شيء ، وهذا تحقيق دقيق واستدلال طريف لم أر من سبقني إليه . اهـ. من تعليق أحمد شاكر على المحلى والترمذي .(2/142)
6- ومنها ما رواه أبو داود والنسائي من طريق عبد الملك(1) بن شعيب(2) بن الليث(3) قال : حدثني أبي ، عن جدي ، عن يحيى بن أيوب(4) ، عن محمد بن عمر بن علي(5) ، عن العباس بن عبيد الله بن عباس(6) ، عن الفضل بن عباس - رضي الله عنه - (7) قال : أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية لنا ومعه العباس ، فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة ، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه ، فما بالى ذلك .
سند هذا الحديث رجاله كلهم ثقات . ولهذا فإن ابن حزم الظاهري لم يجد شيئاً يضعفه به غير أنه أعله بالانقطاع بين عباس بن عبيد الله وبين عمه الفضل بن العباس .
__________
(1) ... عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد الفهمي مولاهم المصري أبو عبد الله ، ثقة من الحادية عشر ، مات سنة 248، التقريب (4185) .
(2) ... شعيب بن الليث بن سعد الفهمي مولاهم أبو عبد الله المصري ، ثقة نبيل فقيه ، من كبار العاشرة ، مات سنة 199 اهـ التقريب (2085) .
(3) ... الليث بن سعد الفهمي مولاهم ، أبو الحارث المصري ، ثقة ثبت ، فقيه إمام مشهور ، من السابعة مات في سنة 175 اهـ. التقريب (5684) .
(4) ... يحيى بن أيوب الفافقي بمعجمة ثم فاء بعدها قاف ، أبو العباس المصري ، صدوق ربما أخطأ ، من السابعة ، مات سنة 168 . التقريب (7511) .
(5) ... محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب صدوق من السادسة ، وروايته عن جده مرسلة ، مات بعد الثلاثين . اهـ التقريب 6171 .
(6) ... العباس بن عبيد الله بن عباس مقبول من الرابعة تقريب ترجمة رقم 3178 .
(7) ... الفضل بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي أكبر ولد العباس ، استشهد في خلافة عمر رضي الله عنهما .(2/143)
وقد ذكر الحافظ بن حجر في الإصابة عباساً ممن روى عن عمه الفضل وكذلك قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل عن أبيه أن عباساً سمع من عمه الفضل ، وقال في تهذيب التهذيب (5/123) ، قال أعله ابن حزم بالانقطاع ، قال : لأن عباساً لم يدرك عمه الفضل ، وهو كما قال ، وقرر في المصدر نفسه (5/280) في ترجمة الفضل أن رواية العباس عن عمة مرسلة .
7- ومنها حديث الشيطان الذي عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته ، وفي لفظ صححه الألباني في صفة الصلاة وعزاه إلى أحمد والدارقطني والطبراني ولفظه : " وصلى صلاة مكتوبة فضم يده ، فلما صلى ، قالوا يا رسول الله ، أحدث في الصلاة شيء ؟ قال : لا ، إلا أن الشيطان أراد أن يمر بين يدي فخنقته .." الحديث ، والمروي في الصحيحين أنه في صلاة الليل .
قلت : هذه الأحاديث يعضد بعضها بعضاً ، وتبلغ بمجموعها درجة الصحة التي لا سبيل إلى ردها وهي تفيد مفاداً واحداً هو عدم القطع الذي هو الإبطال سواء سلكنا مسلك الجمع ، وقلنا المراد بالقطع الوارد في حديثيي أبي ذر وأبي هريرة النقص بما يحصل للعبد من التشويش كما هو مذهب الجمهور ، أو سلكنا مسلك النسخ الذي مال إليه الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله – وبه يقول بعض العلماء . والله أعلم .
ثانياً : يؤخذ من قوله : "فمررت بين يدي بعض الصف .." الحديث ، أن سترة الإمام سترة لمن خلفه ، أو أن الإمام سترة لمن خلفه .
أما حديث " سترة الإمام سترة لمن خلفه " عزاه في جمع الفوائد إلى الطبراني في الأوسط بضعف ، وقال في أعذب الموارد : في سنده سويد بن عبد العزيز وهو ضعيف ، كذا في مجمع الزوائد .
ثالثاً : يؤخذ منه أن لمس المرأة لا يبطل الوضوء إلا إذا كان بشهوة ، وذهب الشافعي إلى الإبطال بمطلق اللمس مستدلاً بآية التيمم { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } ويرده تفسير ابن عباس للملامسة بالجماع .(2/144)
وفي الحديث دليل واضح على أن مطلق اللمس لا يبطل الوضوء ، فالحق ما ذهب إليه الإمام أحمد أن اللمس لا يبطل الوضوء ، إلا إذا كان بشهوة وذلك والله أعلم لا يكون إلا بدون حائل ، ومع وجود الحائل لا تحصل الشهوة .
رابعاً : يؤخذ منه ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التقلل من الدنيا ، حتى أن بيته لا يتسع لمكان يصلي فيه غير مضجع زوجته ، والله أعلم .
خامساً : يؤخذ منه أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح في باب الجمعة ، والله أعلم .
* * *
باب جامع
[110] : عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين "(1) .
موضوع الحديث :
تحية المسجد .
المفردات :
إذا دخل : إذا ظرفية شرطية ، ودخل فعل الشرط .
فلا يجلس : جواب الشرط وجزاؤه .
حتى يصلي ركعتين : حتى غاية للنهي عن الجلوس قبل الركوع .
المعنى الإجمالي :
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - كل داخل للمسجد أن يجلس قبل أن يصلي ركعتين ؛ لأن المساجد بيوت الله ، ومن دخل على الملك بيته لابد أن يقدم له التحية ، وتحية ملك الملوك ورب الأرباب وجبار السموات والأرض ومبدعهما أن تخضع لجلاله وتحني جبهتك لعزته بأن تصلي له ركعتين ، وقد أشار إلى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول : " أعطوا المساجد حقها " (2).
فقه الحديث :
__________
(1) ... أخرجه البخاري في المساجد ، باب : إذا دخل المسجد فليركع ركعتين ، رقم الحديث (444) ، وكرره في (1163) ، وأخرجه مسلم (5/225) باب : استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما ، رقم الحديث (714) .
(2) ... ابن خزيمة ، رقم (824) ، الكنز (20774) .(2/145)
أولاً : اختلف العلماء في حكم هاتين الركعتين فذهب الجمهور إلى أنها سنة وحكاه الحافظ في الفتح إجماعاً فقال واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب ونقله ابن بطال عن أهل الظاهر والذي صرح به ابن حزم عدمه .(1) اهـ.
وجنح ابن دقيق العيد في شرح العمدة إلى الوجوب فقال : " ونقل عن بعض الناس أنهما واجبتان تمسكاً بالنهي عن الجلوس قبل الركوع وعلى الرواية الأخرى التي وردت بصيغة الأمر يكون التمسك بصيغة الأمر ولا شك أن ظاهر الأمر بالوجوب وظاهر النهي التحريم ومن أزالهما عن الظاهر فهو محتاج إلى دليل "(2) . اهـ.
وقال الصنعاني في العدة تعليقاً على قول ابن دقيق العيد هذا ، أقول هذا هو الصواب وإيجابهما هو الجاري على مقتضى الأوامر والنواهي ، وهذا الاعتذار الذي ذكره الشارح قد أبان وجه ضعفه وظهر من كلامه قوة القول بوجوبهما وهو الذي نختار ، وقد قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبته وأمر من رآه دخل المسجد وهو يخطب ولم يصلهما ، أمره بصلاتهما وهو من مؤكدات الإيجاب وكذلك الشوكاني صرح بالوجوب في النيل حيث قال : " إذا عرفت هذا لاح لك أن الظاهر ما قال أهل الظاهر من الوجوب " .
قلت : القول بالوجوب هو الأولى لوجود الأمر ولا صارف ، أما صرفه بحديث " خمس صلوات كتبهن الله .." ، وحديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أخبرني ما فرض الله عليَّ من صلاة ، قال :
" الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئاً " وفي آخره قال : والذي أكرمك لا أطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئاً . فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " أفلح إن صدق أو دخل الجنةة إن صدق " .
أقول : صرف الأمر عن الوجوب إلى الندبية بهذين الحديثين ليس بجيد لما يأتي :
أولاً : أن هذين الحديثين وردا في الصلوات المتكررة في اليوم والليلة .
__________
(1) ... فتح 1/537/538 .
(2) ... شرح العمدة (2/468) .(2/146)
ثانياً : الأظهر الفرق بين الواجب والفرض ، وأن درجات الوجوب متفاوتة فأعلى درجات الوجوب وآكدها ما يسمى فرضاً وركناً ، والركن ما لا يصح الشيء بدونه كأركان الإسلام الخمسة ، والركن في العبادة ما لا تصح بدونه كالركوع والسجود في الصلاة فلا تصح الصلاة إلا بالإتيان بهما والركن في العقد ما لا يصح العقد إلا به كأركان النكاح ، فهذه الأركان هي في الأصل واجبات لكنها امتازت بزيادة تأكيد في الوجوب ، ولذلك كانت تعتبر ركناً ، أي جزءاً مما هي فيه ولا يصح بدونها ، ولكن لا ينفي ذلك وجود واجبات أخرى هي أقل منها في الوجوب ، وفرقوا بينهما بأن الركن في الصلاة مثلاً مالا ينجبر بسجود السهو بدون الإتيان به ، أما الواجب فهو ما ينجبر بالسجود من الإيتان بالمتروك كالتشهد الأول مثلاً وتكبير النقل عند من يرى وجوبه .
ومثل ذلك قالوا في الحج فقالوا : الركن في الحج ما لا يصح الحج إلا به ولا يجبره الدم ، كالوقوف بعرفة والطواف والسعي ، الواجب ما يجبره الدم كالجمع بين الليل والنهار بعرفة ورمي الجمار والمبيت بمنى وما أشبه ذلك .
وهنا نقول : وجود واجبات أو فرائض الإسلام تعتبر أركاناً فيه لا يصح بدونها لا ينفي وجود واجبات أخرى هي أقل من الأولى في التأكيد والأهمية ، والتفريق بين الفرض والواجب هو الحق كما هو رأى الحنفية والحنابلة(1).
__________
(1) ... قال في العدة في أصول الفقه للقاضي أبو يعلى الحنبلي المتوفي سنة 457هـ - رحمه الله – تحقيق الدكتور أحمد سير مباركي (2/380) : وقد بينا أن الوجوب تتفاوت منازله ، فوجب أن يخص اسم الفرض الذي وضع للمبالغة في التأثير عما كان في أعلى المنازل وما دونه خص باسم الواجب ، وفرقت الحنفية أيضاً بين الفرض والواجب ، ولهذا قال في المصدر المذكور في مسألة الفرق بين الفرض والواجب وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة .
وقال المحقق : راجع في أصول السرخسي (1/110/113) ، وتيسير التحرير (2/135) وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت (1/58) .
أما الشافعية فقد جعلوا الواجب نظير الفرض في التسمية ، إلا أنهم قد قالوا بالتفريق بين مراتب الوجوب فجعلوا بعضها آكد من بعض وإن أطلقوا على كثير منها بأنه سنة مؤكدة ، والقول الأول هو الحق . والله أعلم .(2/147)
ثالثاً : أن الذين حصروا الوجوب في الصلوات الخمس قد أوجبوا صلوات غيرها كالعيدين والجنازة والوتر عند من يرى وجوبه ، وركعتي الطواف عند من يرى وجوبها .
رابعاً : أن قوله : " أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق " بعد قوله : والذي أكرمك لا أطوع شيئاً معناه – والله أعلم – أن من أتى بالصلوات سيكون مآله الفلاح ونهايته الجنة ، ولكن ذلك لا ينفي وقوع اللوم والعذاب عليه قبل ذلك إن قصر في شيء من الواجبات الأخرى ، أو ارتكب شيئاً من المحرمات .
كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقواماً من الموحدين يدخلون النار ويعذبون فيها ، فإذا أتى إليهم الشافعون ليخرجوهم من النار يجدونهم قد امتحشوا ، فلا يعرفونهم إلا بمواضع السجود وحرام على مواضع السجود أن تأكلها النار(1).
والمهم أن إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفلاح هو إخبار عن المآل بقطع النظر عن كون العبد يدخل الجنة أولاً أو بعد العذاب ، والله أعلم .
خامساً : يحمل قوله : إلا أن تطوع ، على ما هو واجب بدون سبب كالصلوات الخمس أما ما يجب بسبب يترتب عليه كتحية المسجد سببها دخول المسجد ، وركعتي الطواف سببها الطواف ، وصلاة الجنازة سببها الموت ، فذلك ليس بمقصود ، والله أعلم .
__________
(1) ... انظر الحديث في صحيح البخاري من كتاب صفة الصلاة ، باب : فضل السجود ، رقم الحديث (806) وهو حديث طويل وفيه : " حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم من آثار السجود ، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ، فيخرجون من النار وكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود فيخرجون من النار وقد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة ، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل .. " الحديث .(2/148)
وبهذا يتضح أن تحية المسجد واجبة لوجود الأمر الشرعي بها ، فالذي أمر بصلاة الجنائز وصلاة العيدين وركعتي الطواف هو الذي أمر بها ، ولا يكون الأمر الشرعي في تلك المذكورات بأولى من الأمر الشرعي في التحية ، فكلاهما أمر وكلاهما صحيح وكلاهما صادر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والله
أعلم .
ثانياً : اختلف العلماء في جواز فعل التحية في أوقات الكراهة ، فقالت الشافعية بجواز فعلها ما لم تصفر الشمس ، والمشهور عن الحنفية والمالكية المنع ، وهو مذهب الحنابلة ، واختار بعض علماء المذهب جواز التحية وما له سبب في أوقات الكراهة ، وبه يقول ابن القيم ورجحه البليهي في السلسبيل ، وحكاه عن شيخه .
وقد تَوَقّفتُ عن الحكم على هذه المسألة فيما مضى من شرحي هذا ؛ لتعارض الأمر بالتحية لمن دخل المسجد والنهي عن الصلاة في الأوقات المذكورة ، وكل واحد منهما يعم الآخر من وجه كما بين ذلك ابن دقيق العيد حيث يقول : " وهذا الخلاف في هذه المسألة ينبني على مسألة أصولية مشكلة ، وهو ما إذا تعارض نصان كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عام من وجه خاص من وجه آخر " اهـ.
ورجح الشيخ الألباني جواز التحية في وقت النهي ، قال : " لأن عموم الأمر بها أقوى من عموم النهي ، لأنه لم يطرأ عليه تخصيص بخلاف الآخر والأقوى يخصص الأضعف كما بينه العلماء منهم ابن تيمية رحمه الله وايضاً فقد ثبت الأمر بها في حال الخطبة وهو من مواضع النهي عن الصلاة " اهـ.(1)
قلت : قد ظهر لي أن الصواب هو ما رجحه هؤلاء العلماء من ترجيح الأمر بالتحية على النهي عن الصلاة في الأوقات المذكورة إلا عند الطلوع والغروب فالحق منع جميع النفل فيه والله أعلم .
ثالثاً : يؤخذ من قوله : "فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" أن من جلس ولم يصل ركعتين مع عدم المانع فقد عصى ، وهل تفوت بالجلوس أم لا ؟.
__________
(1) ... انظر : ص .(2/149)
الحق أنها لا تفوت لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أنه دخل المسجد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أركعت ركعتين" ، قال : لا ، قال : "قم فاركعهما" ومثله قصة سليك ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالركوع بعد ما جلس أفاد ذلك الحافظ بن حجر وتبعه الشوكاني وحكى عن الطبراني أنه قال : يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز أو يقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء .
قال الحافظ : ويحتمل أن تحمل مشروعيتها بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل .
رابعاً : يؤخذ من قوله : " فلا يجلس حتى يركع ركعتين " ومن قوله : "فليركع ركعتين قبل أن يجلس" أن الركوع لا يطلب إلا ممن أراد الجلوس .
قال ابن دقيق العيد : إذا دخل مجتازاً فهل يؤمر بالركوع ؟ خفف ذلك مالك قال وعندي أن دلالة هذا الحديث لا تتناول هذه المسألة .
قلت : الذي يظهر لي أن الأمر بالركوع معلقاً على العزم على الجلوس ، فإن عزم على الجلوس وجب عليه الركوع وإلا فلا . وحكى الصنعاني في العدة أن البروماوي قال : إن الجلوس بخصوصه ليس هو المعلق عليه النهي وإنما ذكر للتنبيه على أنه لا يشغله شيء قبل الصلاة بدليل أنه لو دخل واستمر قائماً كره له ذلك .
قلت : ظاهر الحديث أن من لم يجلس لا يتجه عليه شيء من كراهة ولا تحريم والله أعلم .
خامساً : من تكرر دخوله إلى المسجد هل يؤمر بتكرار الركوع كلما دخل أم يسقط عنه قياساً على الحطابين والفكاهين والمترددين إلى مكة في سقوط الإحرام عنهم ؟ .
قال ابن دقيق العيد والحديث يقتضي تكرار الركوع بتكرار الدخول .(2/150)
قلت : الفرق حاصل بين هذا وذاك ، فهنا علق الأمر بالركوع على مجرد الدخول أما في الإحرام فإن الأمر به معلق على إرادة الحج والعمرة قال - صلى الله عليه وسلم - : " هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة " . ولهذا قال الصنعاني – رحمه الله – الأولى أن هذه الصورة وجهها غير صبيح وبين الجامع بين عدم التحية وعدم الطواف بون فسيح .
قلت : وما صرح به ابن دقيق العيد والصنعاني هو الأولى إن شاء الله والله أعلم .
سادساً : إذا صلى العبد في المسجد هل يركع أم لا ؟ لأنه جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصل قبل العيد ولا بعدها ، ذكر ذلك ابن دقيق العيد ، وقال والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل العيد في المسجد .
قلت : كونه لم يصل قبلها في الصحراء لا يمنع من فعل التحية في المسجد إذا وقعت صلاة العيد فيه . والله أعلم .
سابعاً : إذا ركع ركعتي الفجر في بيته ثم أتى المسجد ولم تقم الصلاة فيه يركع ركعتي التحية ؟
الأظهر أنه يركع لأن الأمر بها في حال الخطبة يدل على طلب فعلها فيما هو أقل منه شأناً من باب أولى . والله أعلم .
* * *
[111] : عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال : كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام (1).
الراوي : زيد بن أرقم الخزرجي صحابي جليل غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع عشرة غزوة ، وهو الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلام عبد الله بن أبي بن سلول المنافق فحلف ما قال فأنزل الله تصديق زيد في سورة المنافقين .
موضوع الحديث :
تحريم الكلام في الصلاة ما عدا الذكر وقراءة القرآن والدعاء .
المفردات :
وهو إلى جنبه : أي قريباً منه .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة باب : ما ينهى من الكلام في الصلاة رقم الحديث 1200 وطرفه في 4534 ، وأخرجه مسلم (539) .(2/151)
وقوموا لله قانتين : أي خاشعين أو ساكتين ، وللقنوت عدة معان ، وهي : الخشوع ، والسكوت ، والدعاء ، وطول القيام ، ودوام الطاعة ، والإقرار بالعبودية .
المعنى الإجمالي :
يخبر زيد بن أرقم أن الكلام في الصلاة كان مباحاً في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } ، فأمروا بالسكوت عن كلام الناس وقصر الكلام في الصلاة على ذكر الله وقراءة القرآن والدعاء .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ من الحديث دليل على النسخ وهو إجماع ممن يعتد به .
ثانياً : يؤخذ منه أن القنوت المذكور في هذه الآية المراد به السكوت عن الكلام وهو قصر اللفظ المشترك على بعض معانيه وتعيينه لواحد منها وهو كالنص فيه لأن قول الصحابي حتى نزل قوله تعالى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ، يدل على أن المراد بالقنوت في هذه الآية السكوت ولا يقال أن هذا حصل من الصحابي بطريق اجتهادي بل هذا الحكم من الصحابي لا يخلو عن أحد أمرين :
إما أن يكون الصحابي أخذه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي أن المراد بالقنوت السكوت وعلى هذا فهو مرفوع ويتعين هذا المعنى لكلمة القنوت هنا .
والثاني : أن يكون الصحابي أخذه من قرائن الأحوال التي احتفت بالآية وقت نزولها كمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكلام بعد نزولها وعلى هذا فإنه مقدم على غيره(1) .
قال ابن دقيق العيد : والأرجح في هذا كله حمله على ما أشعر به كلام الراوي فإن المشاهدين للوحي والتنزيل يعلمون بسبب التنزيل والقرائن المحتفة به ما يرشدهم إلى تعيين المحتملات وبيان المجملات ، فهم في ذلك كله كالناقلين للفظ يدل على التعليل والتسبيب ، وقد قالوا : إن قول الصحابي في الآية نزلت في كذا يتنزل منزلة المسند .
__________
(1) ... انظر العدة للصنعاني على شرح العمدة (2/478) .(2/152)
وقال الصنعاني في العدة في تعليقه على الكلام الآنف الذكر : " أقول : بل المقطوع به أن لا يطلق الراوي في مقال الاحتمال إلا ما صار عنده قطعاً لا يبقى معه احتمال كما قرر في أصول الحديث . اهـ.(1)
ثانياً : اختلف الفقهاء في أشياء هل تبطل الصلاة أم لا ؟ وهي النحنحة والبكاء والنفخ .
فأما النحنحة فإن الشوكاني حكى عن أبي حنيفة ومحمد والهادوية أنها مفسدة ، وقد ذهب إلى ذلك الإمام يحيى والشافعي وأبي يوسف كذا في البحر النيل 2/323 .
قلت : المشهور عند الشافعية أنها تفسد الصلاة بناء على أن النحنحة يبين فيها حرفان قال في المهذب : فإن تنحنح أو تنفس أو نفخ أو بكى أو تبسم عامداً ، ولم يبن منه حرفان لم تبطل صلاته . وبعدم البطلان والفساد قالت الحنابلة في الثلاثة اعتماداً على الأحاديث الواردة في ذلك ، ولعله هو الأقرب . ففي النحنحة ما رواه النسائي بسند رجاله كلهم ثقات عن عبد الله بن نجي ، عن علي - رضي الله عنه - قال : كان لي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة آتيه فيها ، فإذا أتيته استأذنت إن وجدته يصلي فتنحنح دخلت وإن وجدته فارغاً أذن لي . إلا أنه قد اختلف فيه على عبد الله بن نجي فتارة قال عن علي وتارة قال عن أبيه عن علي وصله أبو أسامة ، عن شرحبيل بن مدرك . ورواه مرسلاً جرير وإسماعيل بن عياش كلاهما ، عن مغيرة بن مقسم ، عن الحارث العكلي عن ابن نجي ، عن عليّ .
ووراه ابن خزيمة في صحيحه (2/54) وقال : قال أبو بكر : قد اختلفوا في هذا الخبر عن عبد الله نجي فلست أحفظ أحداً قال عن أبيه غير شرحبيل بن مدرك هذا ، ورواه عمارة بن القعقاع ومغيرة بن مقسم جميعاً ، عن الحارث العكلي ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن عبد الله بن نجي ، عن عليّ . وقال جرير ، عن المغيرة ، عن الحارث وعمارة ، عن الحارث يسبح . وقال أبو بكر بن عياش ، عن المغيرة يتنحنح . اهـ.
__________
(1) ... انظر العدة 2/479 .(2/153)
قلت : ينحصر الخلاف في هذا في ثلاث نقط : واحدة في المتن ، واثنتان في السند ، فأما التي في المتن فهي إبدال "يتنحنح" بـ"يسبح" ، وكلا اللفظين ثابت والجمع بينهما ممكن وهو أن يحمل على أنه كان أحياناً يسبح ، وأحياناً يتنحنح ، فيبقى الاستدلال بالحديث على جواز النحنحة قائم كما هو ، وأما النقطتان اللتان في السند فهما زيادة نجي بين عبد الله بن نجي وعلي ، وزيادة أبي زرعة عمرو بن جرير بين الحارث العكلي وعبد الله بن نجي . والنقطة الثانية بسيطة ؛ فإنه يحمل على أن الحارث العكلي سمع الحديث من عبد الله بن نجي بواسطة ، وسمعه منه بدون واسطة ، ثم إن الواسطة وهو أبو زرعة بن عمرو بن جرير ثقة متفق على الإخراج له وهو وعبد الله بن نجي من الطبقة الثالثة والحارث من السادسة .
أما النقطة الأولى وهو إثبات واسطة بين عبد الله بن نجي وعلي بن أبي طالب والواسطة هو نجي وبإسقاط نجي يكون السند منقطعاً على ما ذكره الألباني – رحمه الله – وبإثباته يضعف الحديث بجهالة نجي .
والحاصل أن الألباني أعلّ الحديث بعلتين هما الانقطاع والجهالة ، أما الانقطاع فبناء على أن عبد الله بن نجي لم يسمع من علي ابن أبي طالب ، وقد قال ابن حجر : روى عن أبيه ، وكان على مطهرة علي وعمار وحذيفة والحسين بن علي وغيرهم .(2/154)
قلت : إذا كان قد روى عن حذيفة وعمار وقد توفيا قبل علي بأعوام وكان أبوه نجي على مطهرة علي رضي الله عنهم أجمعين فما الذي يمنعه من سماع علي وإذ قد وثقه النسائي ، وقال البزار : سمع هو وأبوه من علي ، فإن الحديث محمول على الاتصال لتوفر الدواعي على ذلك بالمعاصرة واللقي ، فيبعد جداً أن يكون أبوه على مطهرة علي ولا يلقى علياً ، مع أن الخلفاء الراشدين كانوا لا يحتجبون من الناس ، وقد ذكر ابن ماكولا أن نجياً كان له عشرة أولاد قُتل منهم سبعة مع علي - رضي الله عنه - ، أما نجي فقد وثقه العجلي فقال : تابعي ثقة ، فالحديث في رأيي لا يبعد أن يكون حسناً . والله أعلم .
ثم إن النحنحة ليست كلاماً حتى تبطل الصلاة فهي لا تسمى كلاماً في العرف اللغوي ، والحديث دال على المنع من الكلام .
قال ابن دقيق العيد رحمه الله : "والأقرب أن ينظر إلى مواقع الإجماع والخلاف حيث لا يسمى الملفوظ به كلاماً ، فما أجمع على إلحاقه بالكلام ألحقناه ، وما لم يجمع عليه مع كونه لا يسمى كلاماً فيقوى فيه عدم الإبطال ، قالوا من هذا استبعد القول بإلحاق النفخ بالكلام ، ومن ضعف التعليل فيه قول من علل البطلان به بأنه يشبه الكلام وهذا ركيك مع ثبوت السنة الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفخ في صلاة الكسوف في سجوده .
وقال الصنعاني : واعلم أن الكلام المنهي عنه هو المخاطبة كما قال الراوي يخاطب بعضنا بعضاً ، ثم قال : ونهينا عن الكلام ، أي الذي نهي عنه وهو المخاطبة ، وكذلك حديث "لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" المراد به من مخاطباتهم ، والتنحنح والأنين والتأوه ليست من الكلام ، فإنه ما تركب من حرفين ولا مركب فيما ذكر " اهـ.(1)
__________
(1) ... انظر صفحة 480 من العدة حواشي شرح العمدة ج2 .(2/155)
قلت : وكذلك البكاء ، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل ، وأقر عائشة لما قالت : " إن أبا بكر رجل رقيق ، إذا قرأ غلبه البكاء " . وكان عمر يُسمع نشيجه من مؤخر الصفوف ، ومما ذكر تبين أنه ليس شيء منها يبطل الصلاة ويكره فعل شيء منها لغير حاجة . والله أعلم .
رابعاً : نشأ من هذا الحديث إشكال وهو أن ظاهر حديث زيد بن أرقم أن نسخ الكلام كان بعد الهجرة ؛ لأن زيد بن أرقم أنصاري حديث السِنّ ، لم يسلم إلا بعد الهجرة مع أن الآية مكية ، وحديث ابن مسعود حين قدم من الحبشة سلّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فلم يرد عليه وقال بعد ذلك : "إن الله يحدث في أمره ما يشاء وإن الله أحدث أن لا تكلموا في الصلاة" .
والجواب عنه صعب ، إلا أن يقال : إن إباحة الكلام في الصلاة تكررت وتكرر بذلك التحريم والله أعلم . اهـ. نقلاً عن ابن دقيق العيد .
* * *
[112] : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم "(1).
موضوع الحديث :
الإبراد بالظهر في شدة الحر .
المفردات :
أبردوا : أخروا حتى تدخلوا في البرد .
شدة الحر : أي قوته وفورانه .
من فيح جهنم : أي ما تفوح به من فائض حرها وسمومها الذي أذن الله لها به أن ترسله إلى أهل الأرض ليستدلوا به على ما وراءه من حرارتها التي لا يطيقها البشر وقانا الله حرها ، وصرف عنها عذابها ، إن عذابها كان غراماً .
المعنى الإجمالي :
__________
(1) ... أخرجه البخاري في المواقيت باب الإبراد بالظهر عند شدة الحر ، رقم الحديث (533/534) ،وأخرجه مسلم (5/117) ، ويلاحظ أن مسلم لم يخرجه من حديث عبد الله بن عمر بل من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي ذر رضي الله عنهم .(2/156)
اشتداد الحر في الهواجر حين تسامت الشمس الرؤوس في الصيف يثير القلق وعدم الإطمئنان ، مما يمتنع معه أداء الصلاة على الوجه الأكمل ، فلذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تؤخر الظهر في اشتداد الحر حتى ينكسر الحر وتخف حدته لكي تؤدى الصلاة بخشوع ، وذلك لأن اشتداد الحر من فيح جهنم أي مما أذن الله لها أن تقذف به إلى الأرض من فائض حرارتها ، نعوذ بالله من ذلك .
فقه الحديث :
أولاً : اختلف العلماء في الإبراد هل هو سنة أو رخصة وبنوا على ذلك أن الإبراد لا يشرع لمن يصلي في بيته إذا كان الإبراد رخصة ويشرع في حقه الإبراد إذا كان سنة .
قال ابن دقيق العيد : إنه سنة لورود الأمر به مع ما اقترن به من العلة ، وهو أن شدة الحر من فيح جهنم .
ثانياً : يؤخذ من قوله : " إذا اشتد الحر فابردوا " أن الإبراد لا يسن إلا عند الحر ، لأنه علق عليه بإذا الشرطية ، ومفهومه أن الإبراد لا يسن في الربيع وهو لفظ حديث رواه النسائي عن أنس - رضي الله عنه - بلفظ : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الحر أبرد " ، وإذا كان البرد عجّل ، وقد أوردته في شرح الحديث رقم 47 ، ورجاله خرّج لهم البخاري وقد ذكره البخاري معلقاً كما سبق إلا أن أبا خلدة الراوي له عن أنس من الطبقة الخامسة وقد رواه عن أنس بلا واسطة وصرح بسماعه منه وهو ثقة وحديثه مؤيد بمفهوم هذا الحديث والله أعلم .
ثالثاً : نقل الصنعاني في العدة عن الكرماني الإجماع على عدم وجوب الإبراد .
ونقل عن القاضي عياض القول بالوجوب عن قوم ، والذي يظهر لي أن القول بالسنية أقرب ؛ وذلك أن أحاديث الإبراد تعارضت مع الأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت ، فأفادت الإباحة للتأخير من دون إثم . والله أعلم .
رابعاً : يؤخذ منه أن الخشوع وأسبابه أولى بأن يحرص عليها من أول الوقت ومثل هذا قوله : " لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان " .(2/157)
خامساً : التعليل بشدة الحر من فيح جهنم ، هل هو على حقيقته أنه من فيح جهنم ، أو أنه من جنس فيح جهنم ، وحمله على الحقيقة أولى كما هو مذهب الجمهور ، وأيده القاضي عياض وابن حجر واستدل له بحديث :
" اشتكت النار إلى ربها فأذن لها في كل عام بنفسين ، نفسٌ في الشتاء ، ونفسٌ في الصيف ، فهو أشد ما تجدون من الحرارة ، وأشد ما تجدون من البرد " .
سادساً : أن الإبراد هو إلى أن تنكسر حدة الحر قليلاً وليس معنى الحديث إلى أن يذهب الحر بالكلية ، بدليل حديث خباب عند مسلم : " شكونا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شدة الرمضاء ف جباهنا وأكفنا فلم يشكنا " ، وفي معناه حديث أنس الآتي رقم (113) وليس بينهما وبين حديث الباب تعارض كما توهمه بعضهم ، إذ إن حديث الباب لا يقتضي التأخير إلى أن يذهب الحر بالكلية ولكن إلى أن تخف حدته قليلاً ، وإذا كان كذلك فإن الصلاة رغم الإبراد تقع في وقت لا يستطيع الإنسان فيه أن يضع جبهته ولا كفيه على الأرض دون حائل يمنع الحرارة ، وكل من عرف المدينة وما حولها في أيام الحر يعلم بالضرورة أنه يدخل أول وقت العصر في أيام الصيف والحر موجود ، فكيف إذا صليت الظهر في أوسط وقتها .
ومن هذا تبين أن الإبراد ليس معناه إلى أن يذهب الحر بالكلية ؛ إذ لو قال بذلك قائل لزم من قوله أن يخرج الوقت قبل أن تصلي الظهر . والله أعلم .
* * *
[113] : عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من نسي صلاة فليصليها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك قال تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } .
ولمسلم : " مَن نسي صلاة أو نام عنها ، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها "(1).
موضوع الحديث :
وجوب قضاء الفوائت التي فاتت بعذر النوم أو النسيان عند الذكر أو الاستيقاظ .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في المواقيت باب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها رقم (597) ، وأخرجه مسلم في باب قضاء الفائتة 5/193.(2/158)
المفردات :
مَنْ : اسم شرط .
نسي : فعل الشرط .
وصلاة : مفعول .
فليصلها : جواب الشرط ، وجزائه إذا ذكرها أي متى ذكرها ، والضمير في يصليها وذكرها يعود على الصلاة المنسية .
لا كفارة : لا نافية للجنس ، وكفارة اسمها .
إلا ذلك : أي إلا صلاتها عند الذكر أو الاستيقاظ .
المعنى الإجمالي :
من عدالة الشرع الإسلامي الحكيم في أحكامه وتكاليفه أنه أسقط التبعة عن العبد في حالة النوم والنسيان { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وألزمه بقضاء الفائتة بعد زمن هذين العذرين عند زواله فمتى ذكر الناسي أو استيقظ النائم وجب عليه أن يقضي ما فاته ، وهذا ما لم يكن النوم مقصوداً ومعتمداً ، فمن اعتاد مثلاً أن ينام عن الصبح يومياً إلى أن تطلع الشمس أو تكاد ، لا يكون النوم في حقه عذراً وكذا من تعمد السهر إلى وقت السحر مثلاً أو استيقظ عند دخول الوقت أو قربه ونام أو سمع النداء واستثقل به النوم ، كل هؤلاء لا يكون النوم في حقهم عذراً . والله أعلم .
فقه الحديث :
أولاً : اختلف في الاستشهاد بالآية هل هو من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مدرج من كلام قتادة والراجح الأخير لأنه قد ورد في رواية لمسلم بلفظ قال قتادة { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } .
ثانياً : القراءة المشهورة في الآية { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } بإضافة ذكري إلى الضمير المعظم ، وقرأها ابن شهاب { للذكرى } على زنة فُعلى مشددة الفاء ، واختلف في معناها فقيل : معناها للتذكر بها أو فيها ، وقيل : المراد أقم الصلاة حين تذكرها ، وقيل المراد لأذكرك بالمدح أي أمدحك على ذلك ، وقيل : المراد عند تذكيري لك إياها ، قال الحافظ : وهذا يعضد قراءة من قرأ { للذكرى } .
وقد رجح ابن جرير القول الأول وهو ظاهر الآية ، غير أنه لا ينفي احتمال الآية للمعاني الأخرى .(2/159)
ثالثاً : يجب قضاء الصلاة إذا فاتت بالنوم أو النسيان . قال ابن دقيق العيد : وهو منطوقه ولا خلاف فيه .
رابعاً : أن اللفظ يقتضي توجه الأمر بقضائها عند ذكرها ؛ لأنه جعل الذكر ظرفاً للمأمور به وهو القضاء فيلزم فعله عند وجوده ، وهل يلزم على الفور أو على التراخي ؟ في ذلك خلاف .
فمن قال على التراخي : استدل بقصة نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن الصبح حيث أمرهم ، فاقتادوا الرواحل شيئاً ثم نزلوا فتوضأوا ، وفي لفظ من حديث عمران بن حصين : " فلما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه ورأى الشمس قد بزغت قال ارتحلوا وسار بنا حتى ابيضت الشمس نزل فصلى الغداة . قالوا : فاقتياد الرواحل وخروجهم من الوادي يدل على أن القضاء ليس على الفور .
والجواب عن هذا : أنه عمل لمصلحة الصلاة فلم يمنع ، يدل على ذلك قوله : " إن هذا منزل حضَرَنَا فيه الشيطان " . فكان الخروج والابتعاد عن ذلك المنزل من مصلحة الصلاة فلذلك لا يعد تأخيراً ، ولا يكون مانعاً من الفورية . ولا يشرع الخروج من كل مكان وقعت فيه المعصية أو وقع فيه التفريط أو الغفلة استدلالاً بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن هذا أمر لا يعرفه إلا نبي .(2/160)
خامساً : اختلف العلماء في قضاء المتروكة عمداً ، فذهب الجمهور إلى قضائها مستدلين بهذا الحديث ، قال النووي(1) : فيه وجوب قضاء الفريضة الفائتة سواء تركها بعذر كنوم ونسيان أو بغير عذر ، وإنما قيد في الحديث بالنسيان لخروجه على سبب لأنه إذا وجب القضاء على المعذور فغيره أولى بالوجوب ، وهي من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى .. إلى أن قال : وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يجب قضاء بغير عذر ، وزعم أنها أعظم من أن يخرج من وبال معصيتها بالقضاء ، وهذا خطأ من قائله وجهله (2).
__________
(1) ... النووي يحيى بن شرف بن مري بن حسن النووي أبو زكريا محي الدين ، ولد في محرم سنة 631هـ ، وقرأ القرآن ببلده ثم قدم به أبوه إلى دمشق بعد تسع عشرة من عمره فأقام بالمدرسة الرواحية وجد واجتهد وأكثر المثابرة حتى برز ، له عدة مؤلفات ، من مؤلفاته : رياض الصالحين والمجموع لم يكمل ، والمصباح المنير ، وتهذيب الأسماء واللغات وغير ذلك . توفي في سنة676 وله من العمر 45سنة . اهـ شذرات 5/354 .
(2) ... انظر شرح النووي على مسلم 5/183 .(2/161)
وقال العلامة ابن رشد(1) في كتابه بداية المجتهد (1/176) : ومن رأى أن الناسي والعامد ضدان والأضداد لا يقاس بعضها على بعض ، إذ أحكامها مختلفة وإنما تقاس الأشباه ؛ لم يجز قياس العامد على الناسي ، والحق في هذا أنه إذا جعل الوجوب من باب التغليظ كان القياس سائغاً ، وأما من جعل من باب الرفق بالناسي العذر له ، وأن لا يفوته ذلك الخير فالعامد في هذا ضد الناسي ، والقياس غير سائغ ؛ لأن الناسي معذور والعامد غير معذور ، والأصل أن القضاء لا يجب بأمر الأداء ، وإنما يجب بأمر مجدد على ما قال المتكلمون ؛ لأن القاضي قد فاته أحد شروط التمكن من وقوع الفعل على صحته ، وهو الوقت إذا كان شرطاً من شروط الصحة . والتأخير عن الوقت في قياس التقديم عليه ، لكن قد ورد الأثر بالناسي والنائم وتردد العامد بين أن يكون شبيهاً أو غير شبيه . والله الموفق للحق .
أما المغمى عليه فإن قوماً أسقطوا عنه القضاء فيما ذهب وقته ، وقوم أوجبوا عليه القضاء ومن هؤلاء من اشترط عليه القضاء في عدد معلوم ، وقالوا يقضي في الخمس فما دونها ، والسبب في اختلافهم تردده بين النائم والمجنون ، فمن شبهه بالنائم أوجب عليه القضاء ، ومن شبهه بالمجنون أسقط عنه الوجوب . اهـ.
واستدل المانعون من القضاء بأن حقوق الله المؤقتة لا تقبل في غير أوقاتها ، فكما لا تقبل قبل دخول وقتها فكذلك لا تقبل بعد خروجه ، وأن العبادة إن فسرت بموافقة الأمر فهذه لم توافق الأمر ، وإن فسرت بما أبرأ الذمة فهذه لم تبرأ بها الذمة .
قالوا في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً : " من أفطر يوماً من رمضان بغير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر " . اهـ فكيف يقال يقضيه عنه يوم مثله .
__________
(1) ... محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الشهير بالحضير من أهل قرطية ، وقاضي الجماعة بها ، ولد سنة 520 بالحفيد وتوفي سنة 595 . من مؤلفاته : بداية المجتهد . اهـ شذرات 4/320 .(2/162)
قلت : الذي يظهر لي أن الترك عمداً ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن يترك الصلاة محتملاً لعذر أو متأولاً لتأويل ، فمثل هذا يناظر ويعرف بالحق فإن رجع جاز له القضاء .
القسم الثاني : من تركها من دون عذر ولا تأويل فإن الأحاديث مصرحة بكفره لحديث جابر عند مسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة " . وحديث بريدة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " . رواه الخمسة وصححه النسائي والعراقي .
أما الفقهاء فقد اختلفوا في كفر تارك الصلاة ، فذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد أنه لا يكفر ولكن يُقتل حداً ، وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر وهو مروي عن علي بن أبي طالب وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل ، وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه ، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي .
وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني إلى أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي ، أفاده الشوكاني ورجح القول بكفره – إن شاء الله – لصحة دليله .(2/163)
أما حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - مرفوعاً بلفظ : " خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن مات ولم يأت بهن فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " . فإنه متأول على احتمال صحته على ما جاء في الشطر الأول فإن فيه من أتى بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له ..الخ فكان دخول الجنة مشروط بالإتيان بها كاملة ويحمل النفي في قوله ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له محمول على المنتقص منها استخفافاً عكس الشطر الأول من الحديث ، وهذا على احتمال صحته كما قلت فإن في حديثي المدلجي حكم عليه القشيري بالجهل ، وذكره ابن حبان في الثقات وهو معروف بتساهله ، وصحح الحديث الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم 3237
و3238 ولفظ الرقم الأول فيه بعض المخالفة للفظ الحديث الآنف الذكر وكلاهما عن عبادة وهو مؤيد ما جمعت به هنا فإن لفظه : " خمس صلوات افترضهن الله عز وجل من أحسن وضوئهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد ، إن شاء غفر وإن شاء عذبه " ، وبهذا يتبين أن الأدلة ليس بينها تعارض وأن الصواب القول بكفر تارك الصلاة . وبالله التوفيق .
فإن قال قائل : أنا مؤمن بوجوب الصلوات ولكن لا أريد أن أصلي .
قلنا له : كذبتَ ، لو كنت مؤمناً بوجوبها لدفعك الإيمان إلى أداء الصلاة ؛ لأن الله ركز في طبع كل إنسان أن يطلب ما يؤمن بجدواه عنه ومنفعته له ، ويجتنب ويترك ما يؤمن بضرره عليه .(2/164)
فلو كنت مؤمناً بأن الصلاة فريضة إلهية يترتب على فعلها الفلاح والفوز برضى الله ودخول الجنة لكان ذلك حافزاً لك على أدائها ، لأنا نراك تحرص على ما ينفعك في الدنيا وتتفانى في تحصيله ، فتتعب فيه جسمك وتفني فيه وقتك ، والسبب في ذلك أنك اقتنعت بأنه ينفعك فحرصت عليه ، فلو كنت مؤمناً بجدوى الصلاة عنك ومنفعتها لك لحرصت عليها كما تحرص على أمور دنياك مع العلم أن صلاة واحدة نفعها أعظم من الدنيا كلها فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " فإذا كان هذا في النافلة فكيف به في الفريضة .
ومن جهة أخرى فإن الشر المترتب على تركها أعظم من كل شر يحذره الإنسان ، فمثلاً الإنسان يؤمن بأن النار محرقة فلذلك يفر منها ويحذر الوقوع فيها ، والإنسان يؤمن بأن الثعبان قاتل فلذلك يفر منه ، وأن الأسد قاتل فلذلك يفر منه فراره من النار والثعبان والأسد ففراره من هذه الأشياء ناشئ عن إيمانه بضررها ، فمن آمن بأن ترك الصلاة موجب للنار ولذلك فإن ضرره أشد من الوقوع في النار الدنيوية ، أو الإقدام على مسك الأسد أو الحية فإن هذا الإيمان سيحمله على أدائها ، وقد تبين بأن من زعم أنه مؤمن بفريضة الصلاة ولم يؤدها فإنه كاذب في دعواه بل كافر جاحد بلسان حاله وإن لم يسم جاحداً بلسان مقاله وبالله التوفيق .
سادساً : يؤخذ من قوله فليصلها إذا ذكرها ، أن من ذكر صلاة منسية وهو في صلاة واجبة الترتيب مع المنسية فإنه يقطع التي هو فيها أو يحولها إلى تطوع وفي ذلك خلاف يدل على وجوب القضاء عند الذكر وذلك يعم من ذكرها وهو في الصلاة .(2/165)
قال ابن دقيق العيد : وحيث يقال بالقطع فوجه الدليل منه أنه يقتضي الأمر بالقضاء عند الذكر ومن ضرورة ذلك قطع ما هو فيه ومن أراد إخراج شيء من ذلك فعليه أن يبين مانعاً من إعمال اللفظ في الصورة التي يخرجها ولا يخلو هذا التصرف من نوع جدل ، وقال الصنعاني : وهو دليل على الفورية فيلزم خروجه مما هو فيه وقطعه والإتيان بما ذكره وهو عام في كل أوقات الذكرى فلا يخرج عنها شيء إلا بدليل ولم يقم هنا دليل وبوب الحافظ البيهقي في السنن باب من ذكر صلاة وهو في أخرى .. الخ .
قلت : الذي يظهر لي أن المضي في الصلاة التي هو فيها وتحويلها إلى تطوع أولى ولا يتنافى مع الفورية فإن من ذكر فائتة وهو حاقن له أن يقضي حاجته ويتوضأ ولا يكون في ذلك منافاة للفورية والله قد نهى عن إبطال الأعمال والله أعلم .
سابعاً : يؤخذ من قوله : " لا كفارة لها إلا ذلك " أن كفارة المتروكة بنوم أو نسيان هو قضائها لا يكفرها شيء سوى ذلك ، ومن هنا يقال أن المتروكة عمداً لا يكفرها شيء إلا التوبة والدخول في الإسلام من جديد ، أما الجمهور فيقولون أن من ترك واجباً حتى فات وقته ترتب في ذمته ولزمه قضائه والذي يظهر لي أن هذه القاعدة تتمشى في غير الصلاة أما الصلاة فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - تركها كفراً والله تعالى يقول عن أهل النار المخلدين فيها : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } (المدثر:24-44) . والله أعلم .
فإن قال قائل يمكن أن تحمل هذه الأحاديث التي أوردتموها في كفر تارك الصلاة على أن ذلك من بابا كفر دون كفر كحديث سباب المسلم فسوق وقتاله كفر .
والجواب عليه من وجهين :
أولاً : أن إطلاق اسم الكفر في السنة إنما ورد على الأفعال أما التروك فلم يرد في شيء منها فيما أعلم ولهذا ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا لا يرون شيئاً من الدين تركه كفر غير الصلاة .(2/166)
ثانياً : أن الله عز وجل أخبر عن أهل النار أنهم لما سئلوا عما أدخلهم النار أجابوا بأربعة أشياء ، أولها : ترك الصلاة ، حيث قالوا : { لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (المدثر:43-48) . فدل على أن ترك الصلاة كفر أو ناشئ عن الكفر كما تقدم ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المصلين الموحدين الذين يدخلون النار بكبائر إذا أذن الله في إخراجهم منها بشفاعة الشافعين أو برحمة أرحم الراحمين تدخل عليهم الملائكة ليخرجونهم فيجدونهم قد امتحشوا إلا موضع السجود منهم وحرام على مواضع السجود أن تأكلها النار فدل على أن من ترك الصلاة حرم من الشفاعة وخلد في النار . والله أعلم .
* * *
[114] : عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشاء الآخرة ، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة(1).
ترجمة الراوي : أما جابر بن عبد الله فقد تقدمت ترجمته ، ولكن سأكتب ترجمة لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - لكونه صاحب القصة ، فهو : معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عابد بن عدي بن كعب الخزرجي الأنصاري ، المقدم في علم الحلال والحرام قال ابن حجر في الإصابة ، وفي الحديث :
" وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " ، قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو شاب في التاسعة عشرة من عمره وحضر بدراً وهو ابن إحدى وعشرين ، وتوفي في طاعون عمواس في السنة 18هـ على قول الأكثر .
موضوع الحديث :
اقتداء المفترض بالمتنفل .
المفردات :
__________
(1) ... أخرجه البخاري في عدة مواضع مطولاً ومختصراً ، وأقربها إلى هذا اللفظ ما أخرجه في باب إذا صلى ثم أم قوماً ، رقم الحديث (711) ، وأخرجه مسلم (4/181) نووي .(2/167)
عشاء الآخرة : الوصف بالآخرة خرج على اعتبار أنها إحدى صلاتي العشي .
المعنى الإجمالي :
كان قوم معاذ يعدونه أفضلهم فيحبون أن يقدموه إماماً لهم ، وكان هو يحب أن يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حرصاً منه على الفضل المترتب على ذلك فيصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مفترضاً ويعود إلى قومه فيصلي بهم نفلاً .
فقه الحديث :
أولاً : في الحديث دليل على جواز اختلاف نية الإمام والمأموم ويعارضه حديث إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه والجمع بينهما أن يحمل النهي على الاختلاف في الأفعال كما فسره آخر الحديث .
أما الاختلاف في النيات فقد دلت الأدلة الشرعية على جوازه كما مضى في الجزء الأول ص138، 139 فقد أوردت الأدلة هناك على جواز اختلاف النيات بما أغنى عن إعادته ومنها هذا الحديث حيث يدل على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل واعتذر عنه من منع ذلك كالأحناف والمالكية والحنابلة في الراوية المشهورة بأعذار تتلخص فيما يلي :
أولها : أن الاحتجاج من باب ترك الإنكار به من النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك من شرطه العلم به .
ثانياً : أن النية أمر باطن لا يطلع عليه إلا بالإخبار من الناوي فجاز أن تكون نيته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الفرض وجاز أن تكون النفل ولم يرد عن معاذ ما يدل على أحدهما .
ثالثاً : ادعاء أن تكون قصة معاذ منسوخة .
رابعاً : أن الضرورة دعت إلى ذلك لقلة القراء ولم يكن لهم غنى عن معاذ ولم يكن لمعاذ غنى عن صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
هذا ملخص ما اعتذروا به عن الحديث ، وحاصل ما يجاب به عن هذه الاعتذارات الآتي فيجاب عن الاعتذار الأول بثلاثة أجوبة :(2/168)
أولها : أن علم النبي - صلى الله عليه وسلم - : ليس بمشروط إذا علم أن الله لا يقر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باطل إبان تنزل الوحي لأنه سبحانه يقول : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } (التوبة: من الآية115) . وإذا لم يعلم رسول الله فالله يعلم ، ولا يتصور أن يضل معاذ زمناً طويلاً يصلي بقومه صلاة باطلة في الشرع ولا ينبه الله رسوله على ذلك ، إذ من لازمه أن الله أقرهم على باطل في زمن حياة الرسول وتنزل الوحي عليه وذلك محال ، وإذا علمنا أن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتقي الانبساط مع نسائنا خشية أن ينزل فينا قرآن ، حتى مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانبسطنا إلى نسائنا(1) .
إذا علم هذا فإنه يعطينا دلالة واضحة على مدى الحذر الذي كان يحذره أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوفاً من تنزل القرآن فيهم .
أفيعقل بعد هذا أن يقر الله معاذاً وجماعة مسجده على الباطل زمناً طويلاً لا ينكره عليهم ؟ ما هذا إلا محال .
ثانياً : يبعد جداً أن يصلي معاذ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كل يوم خمس مرات ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلوات يبقى على ذلك زمناً طويلاً ولا يسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من هو في حرصه على العلم والفقه في الدين حتى ورد في الحديث وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ .
ثالثاً : أنه قد ورد في شكوى من شكاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب التطويل ، ما يدل على علمه بذلك ومن أول ذلك لم يصحبه التوفيق .
أما ما يجاب عن الاعتذار الثاني فهو شيئان :
أولها : أنه لا يظن بمعاذ أن يترك الفريضة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصليها مع غيره .
__________
(1) ... قائل ذلك هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، ذكر ذلك الحافظ في الفتح .(2/169)
ثانيها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فهل يظن بمعاذ أن يترك ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ويفعل غيره , ويجاب عن الاعتذار بالنسخ أنه دعوى بلا دليل أما النهي عن الصلاة في اليوم مرتين إن ثبت فهو لا يدل على أن الصلاة في اليوم مرتين كان مشروعاً بنص شرعي ثابت قبل النهي والنسخ هو رفع حكم شرعي بنص شرعي متأخر عنه ولم يكن هنالك حكم سابق حتى ينسخ .
ويجاب عن الاعتذار الرابع أن دعوى قلة القراءة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوى باطلة بل الثابت خلاف ذلك فالقراء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا غير قليلين قطعاً فكل الرجال والنساء والولدان قد قرأوا شيئاً من القرآن الذي يؤدون به صلاتهم أو زيادة ولكن الذين جمعوا القرآن كله في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا قليلين فعلاً أما مجرد قراءة القرآن فذلك لا يخلو منه أحد وكيف يتصور أن يقل القراء في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن قد امتزج بحياتهم ولحومهم ودمائهم فهو يصوغ واقعهم ويسيطر على حياتهم سيطرة تامة ، فمنه يتعلمون الصلة بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ومنه يتعلمون صياغة العلاقات الأسرية والاجتماعية والاقتصادية في السلم وفي الحرب وفي كل شيء ، أفيعقل بعد هذا أن يكون القراء في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا قليلين ؟ وقد تبين بما سبرناه من الأجوبة إن هذه الاعتذارات ما كانت إلا دفاعاً عن المذاهب ومحاماة عنها . نسأل الله السلامة .
ثالثاً : يؤخذ منه مشروعية انتظار الإمام الراتب ولو تأخر عن أول الوقت لأن مدة صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الانتظار يأخذ شيئاً من الوقت .
رابعاً : يؤخذ منه إعادة الصلاة نفلاً إذا اقتضت المصلحة ذلك .
* * *
[(2/170)
115] : عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه(1) .
موضوع الحديث :
جواز سجود المصلي على الثوب المتصل به المتحرك بحركته .
المفردات :
في شدة الحر : أي منتهى قوته .
أن يمكن جبهته : أي يثبتها على الأرض في السجود من شدة الحر .
بسط ثوبه : أي طرحه على الأرض فسجد عليه .
المعنى الإجمالي :
يخبر أنس - رضي الله عنه - أنهم كانوا يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر في شدة الحر فكانوا يسجدون على الثياب اتقاء للحر حين لا يستطيعون ملاقاته بجباههم .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقدم الظهر في أول وقتها ويعارضه الأمر بالإبراد والجمع حاصل بحمل حديث الأمر بالإبراد أنه إلى أن تنكسر شدة الحر قليلاً وبذلك تجتمع الأدلة انظر شرح الحديث رقم 112 .
ثانياً : اختلف العلماء في الإبراد هل هو سنة أو رخصة فمن قال إن الإبراد رخصة فلا إشكال عليه لأن التقديم حينئذٍ يكون سنة والإبراد جائز ومن قال إن الإبراد سنة فقد ردد بعضهم القول في أن يكون منسوخاً أعني التقديم في شدة الحر قال ابن دقيق العيد قلت : بما تقدم من الجمع تبين أنه لا تعارض كما أشار إليه بقوله ويحتمل عندي أن يكون ثمة تعارض لأنا إن جعلنا الإبراد إلى حيث يبقى ظل يمشي فيه أو إلى ما زاد على الذراع فلا يبعد أن يبقى مع ذلك حر يحتاج معه إلى بسط الثوب فلا تعارض .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة والسجود عليه برقم 1208، وأخرجه مسلم في المساجد باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت وأبو داود في الصلاة باب الصلاة على الحصير والترمذي في الصلاة باب ما ذكر في الرخصة في السجود على الثوب في شدة الحر والنسائي في الافتتاح باب السجود على الثياب .(2/171)
ثالثاً : فيه دليل على جواز استعمال الثياب وغيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض . قاله ابن دقيق العيد رحمه الله .
قلت : هذا يحتمل أمرين :
أحدهما : وضع الثوب على الأرض بحيث يكون كالخمرة والفراش وما أشبه ذلك ، وهذا لا أعلم في جوازه خلافاً .
والثاني : الثوب المتصل بالمصلي والمتحرك بحركته الذي ذكره في المأخذ الرابع وهذا فيه خلاف بين العلماء أجازه الجمهور ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ، ورواية عن أحمد ، ومنعه الشافعي وهو رواية عن أحمد ذكرها صاحب المغني عن الأثرم (1/517) .
قلت : هذا القول هو الأرجح في رأيي كما روى مسلم عن خباب - رضي الله عنه - (1) قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء في جباهنا واكفنا فلم يشكنا(2) .قال في المغني ولأنه سجد على ما هو حامل له أشبه ما إذا سجد على يديه اهـ.
قلت : ويجمع بين حديث خباب وحديث أنس بوجهين :
أحدهما : أن يحمل حديث أنس على الثوب المنفصل عن المصلي وحديث خباب على السجود على الثوب المتصل بالمصلي حيث أذن لهم في الأول ولم يأذن في الثاني وهو الذي يقصده كلام النووي فيما نقله عن الشافعي وكلام الشافعي نفسه في الأم .
__________
(1) ... خباب بن الأرت التميمي حليف بني زهرة بدري . عنه علقمة وقيس بن أبي حازم توفي سنة سبع وثلاثين وصلى عليه رضي الله عنهما اهـ. كاشف 1384 .
(2) ... أخرجه مسلم في باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير مشقة الحر من كتاب المساجد برقم 619 .(2/172)
والثاني : أن يحمل حديث أنس على ما لا يمكن تحمله وحديث خباب على الحر الذي يكمن تحمله مع مشقة وبذلك تجمع الأدلة ويزول التعارض ، أما أحاديث السجود على كور العمامة فهي ضعاف لم يصح فيها شيء وإلى ذلك أشار ابن قدامة في المغني والبيهقي في السنن ولكن صح في ذلك حديث مرسل عن الحسن والجمهور على تضعيف مراسيل الحسن كما علم في الأصول ، أما ما قرره ابن دقيق العيد في المأخذ الرابع ترشيحاً لصحة استدلال من استدل بحديث أنس على جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي المتحرك بحركته أخذاً من قلة ثياب الصحابة بحيث يكون بعض الثوب على المصلي وبعضه في محل السجود لا يتحرك بحركة لابسه .
وأقول : ليس في الأمر ما يدعو إلى مثل هذه التأويلات في رأي لأمور :
أولاً : أن نسبة الثوب إلى المصلي لا يلزم منه كونه لابساً له في وقت الصلاة بل الإضافة إضافة تمليك أو اختصاص .
ثانياً : أن الصحابة وإن كانت حالتهم الاقتصادية يغلب عليها الضيق غير أن كثير منهم وأكثرهم يلبسون الأردية مع الأزر وقد يلبسون القميص ولعل في حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة الذي رواه الشيخان أن القليل منهم من له ثوب واحد وذلك من قوله ما له ثوب غيره وقد يشعر بالجانب الآخر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لكلكم ثوبان .
ثالثاً : أن الفاء في قوله بسط ثوبه فسجد عليه المقتضية للتعقيب لا يلزم منها أن يكون الثوب محمولاً للمصلي فلو طرحه على الأرض عند سجوده في أول كل ركعة صدق عليه التعقيب بقطع النظر عما بعدها من الركعات .(2/173)
رابعاً : أن الجمع بين الحديثين ممكن كما سبق فلا داعي لتأويل متعسف واحتمال بعيد والله أعلم والذي يتلخص من هذا البحث أن الإفضاء بالجبهة والكفين إلى محل السجود واجب إلا في حالة الضرورة من حر لا يطاق أو برد لا يحتمل فيجوز اتقاؤه بثوب منفصل يطرح على الأرض فإن لم يكن فبثوب متصل فبثوب متصل ليحصل بذلك الاستقرار النفسي الذي به يتم الخشوع في الصلاة . والله أعلم .
* * *
[116] : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء "(1) .
موضوع الحديث :
النهي عن الصلاة في الثوب الواحد إلا أن يجعل على منكبيه منه شيء أو النهي عن الصلاة وهو مكشوف المنكبين .
المفردات :
لا يصلي : قال الحافظ بن كثير كذا هو في الصحيحين بإثبات الياء وجَههُ أنّ لا نافية وهو خبر بمعنى النهي قال : ورواه الدارقطني في غرائب مالك بلفظ بغير ياء ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء(2) عن مالك لا يصلين .
المعنى الإجمالي :
مقابلة الملوك ولقاء الأشراف والسادة يتطلب من الإنسان أن يكون على أكمل الأحوال وأحسن الهيئات فكيف بمقابلة ملك الملوك وسيد السادات ؟ فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل ذلك أن يستر المصلي منكبيه في الصلاة ليكون على أكمل الأحوال عند مناجاة ربه تعالى .
فقه الحديث :
__________
(1) ... أخرجه البخاري باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه من أوائل كتاب الصلاة رقم الحديث 359 ولفظه لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء وأخرجه مسلم في باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه ولفظه ليس على عاتقيه منه شيء .
(2) ... عبد الوهاب بن عطاء الخفاف أبو نصر مولاهم العجلي البصري نزيل بغداد صدوق ربما أخطأ أنكروا عليه حديثاً في العباس يقال دليه عن ثور من التاسعة مات سنة 400 أو 600 ومائتين اهـ تقريب 4262 .(2/174)
يؤخذ من الحديث مشروعية ستر المنكبين في الصلاة لمن قدر على ذلك وهل ذلك واجب أو مندوب فيه خلاف بين العلماء فالجمهور حملوا النهي الوارد في هذا الحديث على التنزيه والأمر في الحديث بلفظ من صلى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه ومن طريق معمر(1) عن يحيى عند أحمد فليخالف بين طرفيه على عاتقيه على الندب وذهب الإمام أحمد إلى الوجوب مع القدرة وهل هو شرط في صحة الصلاة أم لا ، عنه روايتان أحدهما لا تصح صلاة من قدر على ذلك والثانية يأثم يترك ذلك مع القدرة وصلاته صحيحة ولا شك أن الوجوب هو المتعين مع القدرة لوجود الأمر ولا صارف إلا أن القول بالشرط وإبطال صلاة من قدر على ذلك ولم يفعل مبالغة لا دليل عليها ولا يجوز أن تبطل صلاة عبد إلا بمستند شرعي والقول بالتأثيم مع صحة الصلاة هو الأولى ، والتأثيم مقيد بوجود ثوب آخر أو إزار واسع لما رواه البخاري في الصحيح رقم (361) عن سعيد بن الحارث(2)
__________
(1) ... معمر بن راشد أبو عروة الأزدي مولاهم عالم اليمن عن الزهري وهمام وعنه غندر وابن المبارك وعبد الرزاق قال معمر طلبت العلم سنة مات الحسن ولي أربع عشرة سنة ، وقال أحمد لانضم معمرا إلى أحد إلا وجدته يتقدمه كان من أطلب أهل زمانه للعلم وقال عبد الرزاق سمعت منه عشرة آلاف توفي في رمضان سنة 153 اهـ. الكاشف 5666 .
(2) ... سعيد بن الحارث قاضي المدينة عن أبي هريرة وابن عمرو وعنه عمرو بن الحارث وفليح ولم يذكر وفاته الكاشف 1881 ..(2/175)
قال سألنا جابر بن عبد الله عن الصلاة في الثوب الواحد فقال خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فجئت ليلة لبعض أمري فوجدته يصلي وعلي ثوب واحد فاشتملت به وصليت إلى جانبه فلما انصرف قال ما السرى يا جابر فأخبرته بحاجتي فلما فرغت قال ما هذا الاشتمال الذي رأيت قلت كان ثوب – يعني ضاق – قال فإن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به وعنده عن أبي هريرة رقم 358 أن سائلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أو لكلكم ثوبان وعنده من حديث عمر بن أبي سلمة(1) وأم هاني(2) رقم 354 و 357 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه وفي لفظ على عاتقيه وعنده من حديث سهل رقم 362 قال كان رجال يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان ومن الأحاديث نأخذ ما يلي :
1- أن كل مصل واجب عليه أن يستر عاتقيه إلا أن يعجز عن ذلك امتثالاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
2- فإن لم يفعل مع القدرة على ذلك فهو آثم وصلاته صحيحة .
__________
(1) ... عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابي صغير أمه أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره على البحرين مات سنة 83 على الصحيح .
(2) ... أم هاني بنت أبي طالب الهاشمية فاخته وقيل هند عنها ابنها جعده وحفيدها يحيى بن جعده وعروة وطائفة بقيت إلى بعد الخمسين اهـ كاشف ت 213 في تراجم النساء وقال في التقريب لها صحية وأحاديث ماتت في خلافة معاوية اهـ. تقريب ت 95 كنى النساء .(2/176)
3- من لم يجد إلا ثوباً واحداً صلى فيه وخالف بين طرفيه إن كان واسعاً فإن كان ضيقاً اتزر به وليس عليه في ذلك ولم يصب من جعل حديث جابر صارفاً للنهي من التحريم إلى الكراهة والأمر من الوجوب إلى الندبية كما أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد والصنعاني (2/510) لأنه مقيد في حديث جابر بحالة ضيق الثوب أما في حالة اتساعه فيبقى الأمر بلا صارف بل إن حديث جابر زاده تأكيداً حيث قال فإن كان واسعاً فالتحف به ومذهب الإمام مقيد بالقدرة كما مضى والله أعلم .
4- يلزم من صلى في ثوب واحد مخالفاً بين طرفيه أن يشد على بطنه شيئاً يحفظه كهيمان أو منطقة أوصل حتى لا تنكشف عورته بانفراج الثوب عند الركوع والسجود ويعقد طرفيه على عاتقيه والله أعلم .
* * *
[117] : عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته وأتى بقدر فيه خضروات من بقُوْلٍ فوجد لها ريحاً فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال : قربوها إلى بعض أصحابي فلما رآه كره أكلها قال : فإني أناجي من لا تناجي(1) .
موضوع الحديث :
الرخصة لمن أكل الثوم والبصل والكرات في ترك صلاة الجماعة ما لم يجعل ذلك وسيلة مقصودة لترك الجمعة فإن فعل ذلك قاصداً به الاعتذار عن الجماعة كان فعله حراماً وهو آثم .
المفردات :
الثوم والبصل : شجرتان معروفتان ينشأ عن أكلها رائحة كريهة في فم الآكل وتذهب الرائحة أو تخف إذا أميتا طبخاً وذكر أهل الطب أن الشذاب إذا مضغ بعد أكلها يقضي على رائحتها .
__________
(1) ... أخرجه البخاري رحمه الله في باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكرات رقم الحديث 153/854/855 وأخرجه مسلم 5/49/50 من طريق ابن شهاب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - .(2/177)
فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا : إذن في التخلف عن الجماعة أو تهديد بحرمان ثواب الجماعة ، بقدر : القدر هو إناء يطبخ فيه الطعام ، فيه خضروات : بضم الأولى وفتح الثانية أو فتح الأولى وكسر الثانية أفاده الصنعاني في العدة ولم يذكر ابن الأثير في النهاية سوى فتح الخاء وكسر الضاد وهو أشهر قوله فأخبر بما فيها من البقول : وهو جمع بقل والمراد بالبقل ما يأكله الإنسان نيئاً من ورق الأشجار .
قوله : قال كل فإني أناجي من لا تناجي : المراد بذلك مناجاة الملك ، والمناجاة : هي المفاهمة سراً والأمر هنا أمر إباحة .
المعنى الإجمالي :
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل الثوم والبصل والكرات نيئاً أن يدخل المسجد وأمره بإعتزاله والجلوس في بيته وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بطعام في قدر مطبوخ فيه ثوم فتركه - صلى الله عليه وسلم - وقال قربوها إلى بعض أصحابي ولكن الصحابي كره ذلك حين رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تركها فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كل فإني أناجي من لا تناجي أي أنه يكلم الملك .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ منه كراهية أكل هذه البقول ذوات الروائح الكريهة لمن تلزمه صلاة الجماعة إلا إذا كان في وقت يمكنه أن لا يذهب إلى المسجد إلا بعد أن تذهب الرائحة من فمه كأن يأكلها بعد العشاء أو بعد صلاة الصبح لمارواه ابن خزيمة في صحيحه (3/85) من حديث أبي سعيد وفيه ومن أكله منكم فلا يقرب هذا المسجد حتى يذهب ريحه(1).
__________
(1) ... وله شاهد عن مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - 5/48 .(2/178)
ثانياً : أن الكراهة مقصودة على النيئ منها أما ما يطبخ حتى يذهب ريحه فلا كراهة فيه وعلى هذا يحمل قوله كل فإني أناجي من لا تناجي ويزيده وضوحاً قوله أتى بقدر فيه خضروات فكونها في القدر يدل على أنها مطبوخة أما قوله فوجد لها ريحاً فالمراد به ريح البقول مطبوخة يختلف عن رائحتها بعد الأكل وأما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لها فهو تنزهاً لكونه يناجي جبريل ويدل له ما رواه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أم أيوب قالت نزل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتكلفنا له طعاماً فيه بعض البقول فذكر الحديث وفيه كلوا فإني لست كأحد منكم إني أخاف أن أوذي صاحبي(1) ومما يدل له أيضاً ما رواه مسلم وابن خزيمة أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب الناس يوم الجمعة ثم قال أيها الناس إنكم تأكلون شجرتين ما أرهما إلا خبيثتين هذا الثوم وهذا البصل وقد كنت أرى الرجل يوجد منه ريحه فيؤخذ بيده فيخرج إلى البقيع ، ومن كان أكلها فليمتها طبخاً(2)وأخرج أبو عوانة من حديث جابر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل من هذه الشجرة – يعني الثوم – فلا يغشنا في مسجدنا ، قال ما يعني قال ما أراه إلا نَيَّئة(3) وعلى ذلك حمله البخاري فقال في صحيحه باب ما جاء في الثوم النيئ .
__________
(1) ... أخرجه ابن خزيمة 3ص86 طبع المكتب الإسلامي وعلق عليه الألباني بقوله أبو يزيد المكي لم يوثقه غير ابن حبان لكن الحديث قوي بما قبله وأخرجه مسلم والنسائي في المساجد .
(2) ... أخرجه ابن خزيمة 3/84 ومسلم والنسائي في المساجد 5/53 .
(3) ... أخرجه أبو عوانة 1/412 وأخرجه البخاري في باب ما جاء في الثوم النيئ والبصل والكرات من كتاب الأذان رقم الحديث 853 وما بعده وقالت قلت ما يعني به قال ما أراه يعني إلا نَيَّة وقال مخلد بن يزيد إلا نيئة .(2/179)
ثالثاً : يؤخذ منه كراهة دخول المساجد بهذه الريح يكون قد تعرض لأذية الملائكة والصالحين من عباد الله وعلى هذا يحمل النهي في قوله فلا يقربن مساجدنا واستدل به بعضهم على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين ورده ابن دقيق العيد والحافظ في الفتح وعبد العزيز بن باز تعليقاً (1).
رابعاً : ورد في رواية أحمد بن صالح عن ابن وهب عند الشيخين ببدر وخالفه سعيد بن عفير عند البخاري وأبو الطاهر وحرملة بن يحي عند مسلم فقالوا كلهم بقدر ورجح بعضهم الراوية الأولى بأن ابن وهب فسر البدر بأنه طبق ورجح الحافظ رواية الجماعة وهو الذي يظهر من صنيع البخاري في تخصيصه النهي بالنيئ وبه يحصل الجمع بين الأدلة أما امتناعه - صلى الله عليه وسلم - من أكله مطبوخاً فذاك من خصائصه كما أشار إليه ابن خزيمة في قوله ذكر ما خص الله به نبيه من ترك أكل الثوم ونحوه مطبوخاً .
خامساً : خص بعضهم مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي واستدل بما ورد بلفظ فلا يقربن مسجدنا وهو مرجوح لأمرين :
أولها : أن العلة ليست خاصة بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل هي عامة في جميع المساجد(2).
والثاني : قد ورد بلفظ المساجد وبلفظ المسجد وذلك يدل على العموم ؛ بل قد ورد أن سبب الحديث الآتي كان في غزوة خيبر ، وبذلك يتضح المراد به المصلي أياً كان . والله أعلم .
* * *
[118] : عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أكل الثوم والبصل والكرات فلا يقربن مسجدنا ، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان "(3).
__________
(1) ... انظر العدة على شرح العمدة (2/514) والفتح (2/343) .
(2) ... أخرجه مسلم عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أكل من هذه الشجرة يعني الثوم فلا يأتين المساجد " .
(5/48) .
(3) ... أخرجه البخاري بدون ذكر الكراتْ وبدون ذكر التعليل في آخره في الأطعمة رقم 5452 باب ما يكره من أكل الثوم والبقول .(2/180)
فقه الحديث :
قد سبق في شرح الحديث السابق ما يغني عن إعادته هنا وقد زاد في هذا الحديث الكراتْ وهو في معنى البصل والثوم وقد ذكرته في شرح الحديث الذي مضى والعلة فيها واحدة قال ابن دقيق العيد وقد توسع القائسون في هذا حتى ذهب بعضهم إلى أن من كان به بخر أو جرح له ريح كريه يجري هذا المجرى . قلت : ومن ما يلتحق بذلك ويأخذ حكمه بلا شك ولا مرية الدخان أي التتن بجميع أنواعه سواء منه المحرق كالسجائر والشيشة بالجراك أو التتن المطعون وهو ما يسمى بالشمة أو البردقان أو المشموم وهو العنجر كل هذه الأشياء تلتحق بالبصل والثوم في العلة المانعة من دخول المساجد وهي التتن أو الخبث الذي يؤذي الملائكة وصالحي بني آدم بل هي أشد نتناً وخبثاً وبينها وبين البصل والثوم فوارق منها أن البصل والثوم حلال بنص الحديث وبإجماع المسلمين على حلها ومن حكي عنه من الظاهرية أنه حرمها فليس ذلك لذاتها عنده ولكن لأنها تمنع من صلاة الجماعة وهي واجبة على الأعيان والمشهور عن الظاهرية خلافه .
ومنها أن البصل والثوم من المأكولات النافعة لجسم الإنسان بإجماع الأطباء ، أما الدخان فهو ضار للجسم أشد الضرر بإجماع الأطباء وقد أعلنت هيئة الصحة العالمية سنة 1975 أن التدخين أشد خطراً على صحة الإنسان من أمراض السل والجذام والطاعون والجدري مجتمعة(1) .
__________
(1) ... كتاب التدخين وأثره على الصحة للدكتور محمد علي البار .(2/181)
وتقول مجلة HEXAUON مجلد رقم 3 عام 1978 والصادرة من سويسرا إن شركات التبغ تنتج سيجارتين يومياً لكل إنسان على وجه الأرض ولو أخذت هذه الكمية دفعة واحدة (أي في الوريد) لاستطاعت السجائر أن تبيد الجنس البشري في ساعات وبالمقارنة فإن القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما في 16/ أغسطس 1945 فتكت بـ(260.000) ألف من الناس بينما تفتك السجائر في كل عام بعشرة في المائة على الأقل من جميع الوفيات في البلاد المتقدمة(1) وقد ذكر الأطباء أن التدخين يسبب عشرين نوعاً من الأمراض القاتلة وتقسيمها كالآتي :
أ- الجهاز التنفسي ، وفيه أربعة أمراض :
1. سرطان الرئة . 2. سرطان الحنجرة .
3. الالتهاب الشعبي المزمن . 4. الأمغزيما .
ب- القلب والجهاز الدوري ، وفيه ثلاثة أمراض :
1. جلطات القلب وموت الفجأة . 2. جلطات الأوعية الدومية للمخ وما ينتج عنها من شلل . 3. اضطراب الدورة الدموية في الأطراف وجلطاتها .
ج- الجهاز الهضمى ، وفيه خمسة أمراض :
1. سرطان الشفة . 2. سرطان الفم والبلعوم . 3. سرطان المرئ .
4. قرحة المعدة والاثنا عشر . 5. سرطان البنكرياس .
د- الجهاز البولي ، وفيه ثلاثة أمراض :
1. أورام المثانة الحميد . 2. سرطان المثانة . 3. سرطان الكلى .
__________
(1) ... المصدر نفسه 23 .(2/182)
فهذه خمسة عشر مرضاً وهناك خمسة أمراض تقع للمرأة الحامل والأطفال وأمراض نادرة ، هذا عدا ما يسببه من مضاعفات لأمراض كثيرة كالربو والتهاب الجلد وأمراض الأنف والأذن والحنجرة(1) وإذ قد ثبت ضرره فإنه يحرم تناوله لأن الله تعالى يقول : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } (النساء: من الآية29) . ونحن نقول للناس عامة والمدرسين خاصة اتقوا الله في أنفسكم واتقوا الله فيمن تحت أيديكم . ومنها أنه أشد خبثاً من البصل والثوم وأشد إيذاء للملائكة وصالحي بني آدم فينبغي أن يمنع متعاطيه من دخول المساجد بل يجب أن يمنع الناس من شربه بالكلية لأنه حرام قطعاً لما سبرته آنفاً من انعدام النفع فيه وثبوت الضرر البالغ وثبوت الخبث أيضاً والله تعال يقول : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } (الأعراف: من الآية157) . ولأن الإنفاق فيه إسراف وتبذير والله تعالى يقول : { وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } (الأعراف: من الآية31) . ويقول : { وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } (غافر: من الآية43) . ويقول : { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } (الإسراء: من الآية27) . ولو أن إنساناً كسب شيئاً من المال ثم أحرقه لعد مجنوناً مع أن إحراق المال خارج الجسم فيه مصيبة واحدة أما إحراقه بالدخان داخل الجسم ففيه مصيبتان إتلاف المال وضرر الجسم وخلاصة القول أن الدخان حرام لما يأتي :
1- لانعدام النفع فيه فهو لا منفعة فيه أصلاً .
2- لثبوت ضرره لما فيه من مواد سامة وقاتلة كالنيكوتين والقار أي القطران .
__________
(1) ... المصدر السابق ص43 .(2/183)
3- لثبوت خبثه ، وخبثه أجمع عليه العقلاء ولا عبرة بالمدخنين لأن نفوسهم مريضة .
4- لأنه إسراف وتبذير وإنفاق للمال في غير مصلحة .
5- لأنه مخدر ومفتر وقد ثبت في السنة النهي عن كل مخدر ومفتر . ولعل بعض الجاهلين يقول مالي ولي أن أفعل به ما أشاء ونقول لهؤلاء إن المال أمانة في يدك وأنت مسؤول عن كسبه ومسؤول عن تصريفه وفي الحديث : " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع منها وماله من أين اكتسبه وفيم انفقه "(1) . وبالله التوفيق .
* * *
باب التشهد
[119] : عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفي بين كفيه – كما يعلمني السورة من القرآن : " التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " وفي لفظ " إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل : التحيات لله " وذكره وفيه فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض وفيه فليتخير من الدعاء ما شاء "(2) .
موضوع الحديث :
التشهد في الصلاة .
المفردات :
__________
(1) ... تمام الحديث : " حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن علمه ماذا عمل فيه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه " .
(2) ... اللفظ الأول أخرجه البخاري في الاستئذان برقم 6265 ، واللفظ الأخير أخرجه في آخر صفة الصلاة رقم 835 ، ومسلم في الصلاة باب التشهد في الصلاة ، والنسائي في الافتتاح باب كيف التشهد الأول وأبوداود رقم 968/969 باب التشهد ، والترمذي في الصلاة باب ما جاء في التشهد .(2/184)
التشهد تفعل سمي بذلك لاشتماله على التلفظ بالشهادتين تغليباً على ما سواهما من الأذكار لشرفها ، التحيات : جمع تحية : وهي كل ما يحيا به الملوك من الألفاظ الدالة على التعظيم وكلها مستحقة لله عز وجل ، الصلوات : جمع صلاة وهي الصلاة المعهودة على الأرجح دون سواه ، الطيبات : وهي الأقوال والأفعال والأوصاف الطيبة والدالة على الكمال كلها مستحقة لله تعالى ، السلام عليك أيها النبي : هذا دعاء على الأصح وكذلك ما بعده إلى قوله "وعلى عباد الله الصالحين" .
المعنى الإجمالي :
يخبر عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّمه التشهد كفه بين كفي النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : قابضاً على كف ابن مسعود بكفيه معاً وذلك من كمال الاعتناء وشدة الحرص فصلى الله وسلم على المعلم الهادي معلم الخير والهادي إلى طريق السلامة .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ من قوله : "فليقل" أن التشهد واجب وفي ذلك خلاف بين العلماء فذهب الشافعي وأحمد إلى أن الأخير ركن ، واختلفا في التشهد الأول فذهب الشافعي وأحمد إلى أن الأخير ركن ، واختلفا في التشهد الأول فذهب الشافعي إلى أنه سنة . وذهب أحمد إلى أنه واجب ، وفي رأيي أن الخلاف بين المذهبين هنا لفظي ، وعند الشافعية الواجب والفرض مترادفان دليلهم حديث ابن بحينة السابق في سجود السهو والمنقول عن الحنفية والمالكية القول بسنيتهما وعن أبي حنيفة رواية أن الأخير واجب كالإمامين وحكى النووي الوجوب رواية عن مالك . والقول بالوجوب هو الأولى إن شاء الله لإطلاق الأمر وعدم تفسيره . والله أعلم .(2/185)
ثانياً : اختلف الأئمة في المختار من ألفاظ التشهد فذهب أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله إلى اختيار تشهد ابن مسعود هذا ؛ لأنه أصح ما روي في التشهد وقال الترمذي بعد إيراده : " قال أبو عيسى حديث ابن مسعود وقد روى عنه من غير وجه وهو أصح حديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين ، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق " اهـ. (2/84) .
وذهب الشافعي إلى ترجيح حديث ابن عباس الذي رواه مسلم وغيره(1) ولفظه : " التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " . بناء على أن حديث ابن عباس أكثر ألفاظ الثناء لزيادة المباركات فيه .
واختار مالك التشهد المروي عن عمر وفيه زيادة " الزاكيات" وزيادة "لله" بعد كل لفظ ثناء ، وزيادة "بسم الله" في أول التشهد في بعض ألفاظه أخرجه في الموطأ ص87.86 عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر وعن نافع عن عبد الله بن عمر وفيه زيادة التسمية وعن عائشة نحوه إلا أن لفظ الجلالة لم يذكر إلا في آخر الثناء .
وقد ورد ذكر التسمية من رواية أيمن بن نابل عن أبي الزبير عن جابر لكن أشار الترمذي إلى تضعيفه فقال : وروى أيمن بن نابل المكي عن أبي الزبير عن جابر وهو غير محفوظ .
__________
(1) ... أخرجه مسلم (430) ، وأبو داود رقم 974 ، والترمذي ج2 ص58 إلا أنه نكر السلام ، وكذلك النسائي رواه بالتنكير وزاد "عبده ورسوله" بدلاً عن قوله "رسول الله" أي قال : "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" بدلاً عن قوله : "وأشهد أن محمداً رسول الله" 1/138 . طبعة لاهور ، وأخرجه ابن ماجة رقم 900 .(2/186)
قلت : حديث أيمن عن أبي الزبير عن جابر الذي أشار إليه أخرجه النسائي ص138 وابن ماجة رقم 903 ولفظه يشبه لفظ حديث ابن مسعود إلا أنه زاد في أوله "بسم الله" وفي آخره " أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار " وأيمن ثقة روى له البخاري(1) .
وقد ورد ذكر التسمية في تشهد زيد بن علي ولفظه كما ذكره الشوكاني : " بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلها لله أشهد أن لا إله إلا الله ... " الخ .
واختار هذا اللفظ الهادوية إلا أني لا أعرف مدى صحته وقد سكت عليه الشوكاني ، والذي يتبين جواز التشهد بكل لفظ ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد حكى الاتفاق على ذلك النووي(2) وأبو الطيب الطبري(3) ويترجح تشهد ابن مسعود لأمور :
(1) لصحته فهو أصح حديث ورد في التشهد واتفق عليه الشيخان .
(2) لاتفاق ألفاظه ، فهو على كثرة طرقه ألفاظه متفقة .
(
__________
(1) ... ورغم أنه ثقة إلا أن كثيراً من المحققين خطأوه فقال الترمذي بعد رواية حديث ابن عباس : وروى أيمن ابن نابل المكي هنا الحديث عن أبي الزبير عن جابر وهو غير محفوظ . وقال النسائي : لا نعلم أحداً تابعه وهو لا بأس به لكن الحديث خطأ ، وكما خطأوه في المتن خطأوه في السند أيضاً فقال الحافظ : رجاله ثقات إلا أن أيمن بن نابل راويه عن أبي الزبير أخطأ في إسناده (يعني فقال عن أبي الزبير عن جابر) وخالفه الليث وهو من أوثق الناس في أبي الزبير فقال عن أبي الزبير عن طاووس وسعيد بن جبير عن ابن عباس وقال حمزة الكناني عن جابر خطأ اهـ. تلخيص الحبير 1/266 ط. مدين .
(2) ... انظر شرح النووي على مسلم ج4/115/ ونيل الأطار ج2/281 .
(3) ... أبو الطيب الطبري طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري البغدادي أبو الطيب فقيه أصولي جدلي ، ولد بآمل طبرستان سنة 348هـ وسمع الحديث بجرجان ونيسابور وبغداد ، وتولى القضاء توفي ببغداد سنة 450هـ. اهـ من معجم المؤلفين لعمر كحالة .(2/187)
3) لأن ألفاظ الثناء فيه معطوف بعضها على بعض والعطف يفيد التغاير ، فهو لذلك يُعد كل لفظ فيه ثناء مستقلاً أما غيره من التشهدات فذكرت بدون عطف فصارت كاللفظ المؤكد . والله أعلم .
ثالثاً : يؤخذ من قوله : " فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض " أن الألف واللام التي لاستغراق الجنس تعم أهل السماء والأرض إذا وجدت في وصف كهذا .
رابعاً : يؤخذ من أن هذا الدعاء يشمل جميع الملائكة وجميع المؤمنين الأولين منهم والآخرين الموجودين منهم والميتين ومن سيوجد من المؤمنين إلى يوم القيامة ، وفيه تنويه بأهل الصلاح وما لهم من الفضل المدخر بدعوة كل مصلَّ منذ بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة .
خامساً : ويؤخذ منه بطريق المفهوم العكسي أي مفهوم المخالفة عظيم حرمان الفساق والكفار والمنافقين حيث حرموا من دعوات المصلين واستغفار الملائكة ، فالويل لهم ما أفظع خسارتهم وأفدح مصيبتهم لو علموا والله أعلم .
سادساً : ويؤخذ من قوله : " ثم ليتخير من المسألة ما شاء " أنه يجوز كل سؤال يتعلق بالدنيا والآخرة . قال ابن دقيق العيد رحمه الله : إلا أن بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي استثنى بعض صور من الدعاء تقبح ...
قلت : الدعاء جائز ما لم يخرج الداعي عن آداب الدعاء وفي الحديث عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور "(1) .
* * *
[
__________
(1) ... أخرجه في المسند للإمام أحمد بن حنبل بسند رجاله رجال الصحيح .(2/188)
120] : عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لقيني كعب بن عُجرة - رضي الله عنه - فقال : ألا أهدي لك هدية إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا فقلنا : يا رسول الله ، قد علمنا الله كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ فقال : " قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آله محمد ، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد "(1).
ترجمة الصحابي : كعبُ بن عُجرة – بضم أوله وإسكان الجيم – ابن أمين بن عدي البلوي ، ويقال القضاعي حليف الأنصار .
قال الحافظ في الإصابة : وزعم الواقدي أنه أنصاري من أنفسهم ورده كاتبه محمد بن سعد بأن قال : طلبت نسبه في الأنصار فلم أجده . حضر الحديبية ونزلت فيه آية الفدية : { أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ } ، توفي في خلافة معاوية سنة إحدى أو اثنين أو ثلاث وخمسين روى أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
موضوع الحديث :
الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد من الصلاة .
المفردات :
أهدي لك هدية : أتحفك تحفة ثمينة .
فكيف نصلي عليك : أي ندعو لك .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ، رقم الحديث 3370 ، وفي التفسير تفسير سورة الأحزاب باب : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } (الأحزاب: من الآية56) . رقم الحديث 4797 ، وفي الدعوات باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم الحديث 6357 ، وأخرجه مسلم في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد والترمذي في الصلاة باب صفة الصلاة على النبي رقم 405 ، وأبو داود في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 980 ، والنسائي في السهو باب نوع آخر من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - 3/45 .(2/189)
والصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى ، ومن الآدميين الدعاء ، الآل يطلق على معان منها الأتباع عامة قال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } (غافر: من الآية46) . ومنها القرابة كما في قوله تعالى : { إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ } (الحجر:59-60) .
وكما في حديث زيد بن أرقم عند مسلم وذكر الحديث في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غدير خم وفيه الوصية بكتاب الله والحث على التمسك به واتباعه وقال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " . فقال حصين بن سبرة : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته وأهل بيته من حرم الصدقة بعده ، قال : من هم ؟ قال : آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس(1) .
ومنها : أن الآل هم المتقون من أتباعه ويدل له حديث : " ليس آل فلان لي بأولياء إنما أوليائي منكم المتقون"(2) .
ومنها : أن الآل هم الذرية خاصة واستدل له بحديث عائشة عند مسلم وأم سلمة عند الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل علياً وفاطمة والحسن والحسين في كساء كان معه وقال : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (3) (الأحزاب: من الآية33) .
__________
(1) ... أخرجه مسلم في كتاب الفضائل باب من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - رقم الحديث 2408 ورقم الصفحة 1873 .
(2) ... أخرجه البخاري في الأدب أن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء وإنما ولي الله وصالح المؤمنين زاد وفي رواية : " لكن لهم رحم أبلها ببلالها " .
(3) ... أخرجه مسلم في الفضائل باب فضائل أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم الحديث 2424 .(2/190)
قوله :إنك حميد مجيد : حميد صيغة مبالغة بمعنى محمود أي كثير الصفات المقتضية للحمد أو المحمود من خلقه كثيراً ، أو المستحمد إلى عباده بمعنى أنه يحمد لهم لقليل من العمل مع التوحيد والإخلاص فيباركه وينميه ، والكل سائغ فيه ، فهو الموصوف بهذه الصفات كلها ، وهو في الأول بمعنى المستحق للثناء ، وفي الثاني الذي اتجه جميع العباد إليه بالثناء لما له من الكمالات ولما أسداه وأولاه من النعم ، وفي الثالث بمعنى الشكور لعباده القليل من العمل ويعطي عليه الثواب الكثير .
ومعنى مجيد : صيغة مبالغة من المجد وهو الشرف والعظمة والسؤدد ، أي أنك المستحق لكل صفات الشرف والسؤدد ، وأتى بأن المكسورة الدالة على التعليل قبل هاتين الصفتين لتكون تعليلاً لما سبق له من الكمالات وألفاظ التعظيم في التشهد والصلاة وأنه المستحق لذلك دون غيره . والله أعلم .
المعنى الإجمالي :
للنبي الكريم – الذي أنقذنا الله به من الضلالة وعلمنا به من الجهالة وبصرنا به من العمى ونجانا به من النار ؛ بل نلنا باتباعه أعظم فوز في جنة الخلد وفي جوار الله رب العالمين – حقوقٌ على أتباعه أهمها : امتثال أمره ، وتصديق خبره ، والصلاة عليه إذا ذكر ، وأن يذكر إذا ذكر الله تنويها بعلو مكانته وسمو درجته ، وأنه هو المثل البشري الأعلى للقدوة والأسوة والحب والمتابعة ؛ لذلك قرن الله اسمه باسمه في الأذان والإقامة ، ويشرع الصلاة والتسليم عليه في كل صلاة ن فألهم الله أصحابه أن يسألوه بهذا السؤال : قد علمنا الله كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ؟ فقال : " قولوا اللهم صل على محمد .. الخ " ، فصلى الله وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون وصلى عليه المصلون .
فقه الحديث :(2/191)
أولاً : اختلف العلماء في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - هل هي واجبة في الصلاة أم لا ؟ فذهب الشافعية وأحمد في الرواية المشهورة عنه وإسحاق وحكاه في النيل عن عمر وابنه وابن مسعود من الصحابة وجابر بن زيد(1) والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وأبو جعفر الباقر(2) والهادي(3) والقاسم(4) قال : واختاره أبو بكر بن العربي(5) – رحمه الله – من المالكية .
وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب منهم مالك وأبو حنيفة والثوري وهو رواية عن أحمد قال في المغني(6) وعن أحمد أنها غير واجية .
__________
(1) ... أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي ثم الجوفي بفتح الجيم وسكون الواو بعدها فاء البصري مشهور بكنيته ثقة فقيه من الثالثة مات سنة 93 ويقال سنة 103اهـ. تقريب ت رقم 865 .
(2) ... محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب السجاد أبو جعفر الباقر ثقة فاضل من الرابعة مات سنة بضع عشرة ومائة رقم الترجمة 6191 .
(3) ... الهادي عز الدين بن الحسن بن علي بن المؤيد اليمني من أئمة الزيدية من مؤلفاته شرح البحر الزخار وكنز الرشاد وغير ذلك اهـ. معجم المؤلفين للشيخ عمر كحالة 6/280 .
(4) ... لم أجد له ترجمة .
(5) ... أبو بكر بن العربي محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله المعافري الأندلسي الأشبيلي المالكي عالم مشارك في الحديث والفقه والأصول وعلوم القرآن والأدب والنحو والتاريخ وغير ذلك ولد سنة 468 وتوفي في 543 من مصنفاته شرح الترمذي المسمى عارضة الأحوذي والعواصم من القواصم اهـ. معجم المؤلفين لعمر كحالة 10/242 .
(6) ... المغني ج1 ص542 .(2/192)
استدل القائلون بالوجوب بالأمر في قوله تعالى : " قولوا اللهم صل على محمد .. الخ " ولا يخفى أن هذا الأمر كان جواباً على سؤال السائل عن الكيفية ، ولقائل أن يقول : إن الجواب بالكيفية لا يفيد وجوب الماهية ، وإلى ذلك جنح الشوكاني في النيل (1/286) حيث قال : ويمكن الاعتذار عن القول بالوجوب بأن الأوامر المذكورة في الأحاديث تعليم كيفية وهي لا تفيد الوجوب ، فإنه لا يشك من له ذوق أن من قال لغيره : إذا أعطيتك درهماً هل أعطيك سراً أو جهراً فقال له : أعطنيه سراً كان ذلك أمراً بالكيفية التي هي السرية لا أمر بالإعطاء وتبادر هذا المعنى لغة وشرعاً وعرفاً لا يُدفع .
قلت : وللقائلين بالوجوب أن يجيبوا بأن أصل الإيجاب مستفاد من الآية : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (الأحزاب:56) .
ولهذا فإن الصحابة لم يسألوا عنه ولكن سألوا عن الكيفية التي يؤدون بها هذا الواجب ، علمنا الله كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك ؟ فأجابهم بقوله : " قولوا اللهم صلى على محمد .. الخ " ، فكان الجواب تقرير للوجوب المستفاد من الآية وبيان الكيفية التي يؤدي بها .(2/193)
ومما يدل على الوجوب في الصلاة ما رواه ابن خزيمة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الألباني في تحقيقه لصحيح ابن خزيمة من حديث أبي مسعود عقبة بن عامر - رضي الله عنه - بلفظ أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده فقال : يا رسول الله ، أما السلام فقد عرفناه . فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا ؟ صلى الله عليك ؟ قال : فصمت حتى أحببنا أن الرجل لم يسأله ثم قال : " إذا أنتم صليتم عليّ فقولوا اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد "(1).
__________
(1) ... أخرجه ابن خزيمة ج1ص351 والحاكم ج1 ص268 .(2/194)
ومما يدل على الوجوب أيضاً الوعيد على من ترك الصلاة عليه إذا ذكر والدعاء عليه بإرغام أنفه وبالبعد من رحمة الله وتسميته بخيلاً ، فقد روى الترمذي من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ ، ورغم أنف رجل دخل رمضان ثم انسلخ ولم يغفر له ، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة " . ثم قال وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه(1) ، وحديث أنس عند النسائي مرفوعاً : " من ذكرت عنده فليصل عليّ فإنه من صلى عليّ " الحديث سنده صحيح ، وروى الترمذي بسنده إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ " ، وقال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب(2) .
فإن قيل : هذه الأحاديث مقيدة لوجوب الذكر وهو أعم من كونه داخل الصلاة فأين الدليل على الوجوب في الصلاة وبعد التشهد بالذات ؟
فالجواب : أما حديث أبي مسعود البدري فهو مقيد للوجوب داخل الصلاة وإن لم يعين موضع الوجوب منها .
__________
(1) ... أخرجه الترمذي في الدعوات رقم الباب 110 مائة وعشرة قال في تحفة الأحوذي : أخرجه ابن حبان في صحيحه ، والبزار في مسنده ، والحاكم وقال : صحيح ، وقال على قول الترمذي ، وفي الباب عن جابر وأنس . أما حديث جابر يعني أبي سمرة فأخرجه الطبراني بأسانيد أحدها حسن ، وأما حديث أنس فأخرجه أحمد والنسائي والطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه .
(2) ... حديث علي بن أبي طالب أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات الباب 110 بعد الحديث الذي قبله ، وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح . والحكم عليه بالصحة فيه بعد ؛ لأنه من رواية عيد الله بن علي بن الحسين بن علي وهو مقبول من الخامسة كما قال في التقريب ، ولعله قال في ذلك على سبيل التردد ، والمتن له شواهد .(2/195)
وأما حديثا أبي هريرة وعلي فهما قيدا الوجوب بالذكر سواء حصل داخل الصلاة أو خارجها ، وأما تحديد موضوع الوجوب بما بعد التشهد فذلك يؤخذ باستنباط فقهي دقيق وهو أنه : لما شرع في التشهد الثناء على الله والتسليم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى كل عبد صالح في السماء والأرض وختم بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فختم التشهد بذكره ناسب أن يصلي عليه بعد ذلك بالكيفية التي علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ، لتكون هذه الصلاة خاتمة للتشهد وفاتحة للدعاء المشروع بعد التشهد ، وبهذا التقرير يتضح رجحان ما ذهب إليه الإمامان أحمد بن حنبل والشافعي من وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير ، وهل تبطل صلاة من تركه عمداً ؟ هذا الذي يظهر لي .
وقال بذلك الشافعي وإسحاق وعن أحمد روايتان ، قال في المغني : قال المروزي : قيل لأبي عبد الله : إن ابن راهويه يقول لو أن رجلاً ترك الصلاة على النبي في التشهد بطلت صلاته . قال : ما أجترأ أن أقول هذا ، وقال في موضع آخر : هذا شذوذ ، إلى أن قال : وظاهر مذهب احمد وجوبه . فإن أبا زرعة الدمشقي نقل عن أحمد أنه قال : كنت أتهيب ذلك ثم تبيَّنتُ فإذا الصلاة
واجبة .
واستدل القائلون بعدم الوجوب بأدلة لا تنتهض للاستدلال على محل النزاع . منها حديث : " إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع "(1) رواه مسلم . عن أبي هريرة ؟
وجه الاستدلال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاستعاذة من هذه الأربع بعد التشهد ، وذلك ينفي وجود واجب بينها .
والجواب : أن يقال : أولاً : أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسمى التشهد فهي تتميم له .
ثانياً : أن الأمر بالاستعاذة لا ينفي وجود ذكر آخر ، وغاية ما يدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يكون هذا مما يقال بعد التشهد .
__________
(1) ... سيأتي تخريجه وشرحه .(2/196)
واستدلوا أيضاً بحديث ابن مسعود عند أبي داود من رواية الحسن بن الحر(1) عن القاسم بن مخيمرة(2) عن علقمة عن عبد الله في التشهد وفيه :
" إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد " . ورواه أحمد والدارقطني(3) وقال فأدرجه بعضهم عن زهير في الحديث ووصله بكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وفصله شبابه عن زهير وجعله من كلام عبد الله بن مسعود ، وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن ابن ثوبان رواه عن الحسن بن الحر كذلك وجعل آخره من قول ابن مسعود ولاتفاق حسين الجعفي وابن عجلان ومحمد بن أبان من روايتهم على ترك ذكره في آخر الحديث . مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وعن غيره عن عبد الله بن مسعود على ذلك والله أعلم .
وبهذا تعلم أن هذه الزيادة مدرجة وليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس فيها حجة وقد تبين بهذا أن وجوب الصلاة لا مدفع له والله أعلم .
__________
(1) ... الحسن بن الحر بن الحكم الجعفي أو النخعي أبو محمد ، نزيل دمشق ثقة فاضل ، من الخامسة مات سنة 133هـ. أهـ تقريب ت1224 .
(2) ... القاسم بن مخيمرة بالمعجمة مصغر أبو عروة الهمداني بالسكون نزيل الشام ثقة فاضل من الثالثة مات سنة مائة . اهـ التقريب ت 5530 .
(3) ... سنن الدارقطني مع التعليق المغني 1/353 .(2/197)
ثم إن القائلين بالوجوب في الصلاة خصوه بالتشهد الأخير مستدلين بحديث الرضف رواه النسائي من طريق الهيثم بن أيوب الطالقاني(1) ، عن إبراهيم(2) بن سعد بن إبراهيم(3) ابن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن أبي عبيدة(4) ، عن عبد الله بن مسعود ، رجال الحديث كلهم ثقات ، مخرَّج لهم في الصحيحين أو أحدهما إلا أبا عبيدة فقد أخرج له أصحاب السنن ، والجمهور على أنه لم يسمع من أبيه وإلا الهيثم أخرج له النسائي فقط وهو ثقة وعزاه في المغني لأبي داود ، ولم أره فيه ، بل هو في النسائي ولفظه : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين كأنه على الرضف .
قلت : حتى يقوم . قال ذلك يريد ، والرضف : وهو الحجارة المحماة .
__________
(1) ... الهيثم بن أيوب السلمي الطالقاني أبو عمران ثقة من العاشرة مات سنة 238اهـ. تقريب ترجمة 7358 .
(2) ... إبراهيم بن سعد الزهري العوفي أبو إسحاق المدني عن أبيه والزهري وعنه ابن مهدي وأحمد ولوين وخلق توفي سنة 183 وكان من كبار العلماء اهـ كاشف ت 137 .
(3) ... سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قاضي المدينة عن أنس وأبي أمامة بن سهل وعنه ابنه إبراهيم وشعبة وابن عيينة ثقة إمام يصوم الدهر ويختم كل يوم توفي في سنة 125 اهـ كاشف ت1836 .
(4) ... أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته والأشهر أنه لا اسم له غيرها ، ويقال اسمه عامر ، كوفي ثقة من كبار الثالثة والراجح أن لا يصح سماعه من أبيه مات قبل المائة بعد الثمانين اهـ التقريب (8294) وسماه الذهبي في الكاشف عامر وقال : سماعه عن أبيه في السنن وله عن أبي موسى وعائشة وعن عمرو بن مرة أبو إسحاق وخصيف مات سنة 83 ليلة دحيل اهـ. كاشف ت2564 .(2/198)
وذكر في تعليق على سنن النسائي أن الإمام أحمد روى في المسند عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في وسط الصلاة وآخرها ، فإذا كان في وسط الصلاة نهض إذا فرغ من التشهد ... الحديث قال الهيثمي : رجاله موثوقون . وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح . وذكره الحافظ في التلخيص ، والزيلعي في نصب الراية وحكى في المغني أن الإمام أحمد روى عن مسروق(1) قال كذا إذا جلسنا مع أبي بكر كأنه على الرضف حتى يقوم وحكى عن الإمام أحمد أنه كان يفعل ذلك فهذا يدل على أنه صحيح عنده .
ثانياً : اختلف العلماء في وجوب الصلاة على الآل وهما وجهان لأصحاب الشافعي ، وظاهر مذهب الإمام أحمد أن الوجوب مقصور على الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده دون الآل . ذكره في المغني وقال قال بعض أصحابنا : تجب الصلاة على الوجه الذي في خبر كعب ؛ لأنه أمر ، والأمر يقتضي الوجوب . والأول أولى اهـ.
قلت : بل القول بوجوب الكيفية الواردة في حديث كعب أولى ؛ لأنها بيان للواجب ، ثم هي مأمور بها أيضاً كما تقدم بيانه وأيده الصنعاني في العدة (3/22) .
ثالثاً : اختلفوا في الآل من هم ؟ فقيل :
الأول : من حرمت عليهم الصدقة . وهذا منصوص الشافعي وأحمد والأكثر من العلماء ، قال الصنعاني في العدة وقالت الحنفية : هم بنو هاشم خاصة .
الثاني : أن آله هم أزواجه وذريته خاصة ؛ لوروده في حديث أبي حميد : "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته ".
__________
(1) ... مسروق بن الأجدع أبو عائشة الهمداني أحد الأعلام عن أبي بكر ومعاذ وعنه إبراهيم وأبو إسحاق ويحيى بن وثاب قال مرة الطيب ما ولدت همدانية قبل مسروق وقالت زوجة مسروق كان يصلي حتى تتورم قدماه اهـ. كاشف ت5488 .(2/199)
الثالث : أنهم أتباعه إلى يوم القيامة . قال حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم واقدم من روى هذا عنه جابر بن عبد الله ذكره البيهقي ، ورواه عن سفيان الثوري قال : ورجحه النووي في شرح مسلم واختار الأزهري اهـ.
الرابع : أنه الأتقياء من أمته . حكاه جماعة من الشافعية .
قلت : وهو الأرجح في رأيي لما يأتي :
أولاً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما وراه البخاري ومسلم من طريق عمرو بن العاص - رضي الله عنه - : " إن آل فلان ليسوا لي بأولياء ، إنما وليي الله وصالح المؤمنين ، ولكن لهم رحم ابلها ببلالها " ، والله تعالى يقول : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } (التحريم: من الآية4) . وفي حديث عبد الله بن عمر عند أبي داود في الفتن بسند يحتمل الصحة ؛ لأن رجال سنده كلهم ثقات موصوفون بالصدق وفيه :
" ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني ، إنما أوليائي المتقون ". الحديث رقم 4242 .
ثانياً : أن السلام في أول التشهد شرع مختصاً بالصالحين فيحسن أن يكون الآل في الصلاة هم أهل الصلاح والتقوى ليناسب المشروع في التشهد ولا ينافي تقييد الولاية في هذين الحديثين بأهل الصلاح والتقوى . والله أعلم .
رابعاً : قال ابن دقيق العيد رحمه الله : اشتهر بين المتأخرين سؤال وهو أن المشبه به فكيف يطلب للنبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة تشبه بالصلاة على إبراهيم – أي مع أنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من إبراهيم ومن جميع الرسل ؟ اهـ.(2/200)
وقد أجيب على هذا الإشكال بأجوبة لم يخل شيء منها عن إيرادات ، ولا أرى من وراء هذا البحث طائل يوجب التحرير ، لكن نزولاً على رغبة بعض الباحثين يمكن أن يقال : إن أحسن الأجوبة المسبورة هو أن آل إبراهيم معظمهم أنبياء ورسل فيأخذون حظوظهم على قدر منازلهم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - معهم ، ثم يطلب للنبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة مثل الصلاة التي حصلت لإبراهيم وآله وليس في آل النبي - صلى الله عليه وسلم - نبي ، فيأخذون حظوظهم بقدر منازلهم ، فيبقى الفاضل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون المتحصل له أكثر من المتحصل لإبراهيم . والله أعلم .
* * *
[121] : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو : "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وعذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال" وفي لفظ لمسلم : " إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربعٍ : يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم .." ثم ذكر نحوه .
موضوع الحديث :
الدعاء بعد التشهد .
المفردات :
أعوذ : بمعنى ألجأ واعتصم بك يا رب مما ذكر من عذاب القبر .
العذاب : هو تعرض الإنسان لما يؤلمه بحرارته كالنار ، أو بثقله كالصدمات بالأثقال ، أو التردي من الشواهق ، أو بضيقه كالسجون الضيقة تحت الارض ، أو بغوصه في البدن كغرز إبرة في الجسم ولهذا قال تعالى : { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } (المطففين:7) . وهذا بالنسبة لعذاب الدنيا ، أما عذاب البرزخ وعذاب الآخرة فهو شيء لا يستطاع وصفه .(2/201)
فتنة المحيا : هي البلوى التي يختبر بها العبد ليُرى ثباته على الحق أو تحوله عنه متأثراً بها أي بالفتنة التي يتعرض لها كما قال تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } (الأنبياء: من الآية35) . { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (الكهف:7) . { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } (آل عمران: من الآية186) .
المحيا : أي الحياة وفتنة المحيا ما يتعرض له الإنسان في حياته من تقلبات قد توقعه في المعصية تارة ، والكفر تارة والشرك أخرى ، والفتنة تكون إما بالغنى ، وإما بالفقر والحاجة ، وإما بالمرض ، وإما بتقلبات السياسة ، وإما بضغوط المجتمع ، وإما بحب الأهل والولد ، وإما بالرغبة في الدنيا والطمع فيها ، وإما بالرهبة من عدو أو غير ذلك مما يتعرض له العبد في حياته .
فتنة الممات : يحتمل أن يكون المراد به ما يكون عند الموت من أمر الخاتمة إذ قد ورد أن الشيطان يتعرض للإنسان ليحوله عن الإيمان حتى في آخر لحظة من عمره كالحكاية التي حكيت عن الإمام أحمد عند موته وإما أن يكون المراد به بعد الموت عند نزول القبر من تعرض العبد لفتنة السؤال من قبل الملكين نكير ومنكر وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أحاديث لا أطيل بذكرها وفي ذلك يقول الله عز وجل : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } (إبراهيم:27) . اللهم ثبتنا يا رب .(2/202)
المسيح : بالسين المهملة والحاء المهملة أيضاً وقيل بالخاء من المسخ والثابت الأول ، وهذا اللفظ يطلق على الدجال وعلى نبي الله عيسى - عليه السلام - فإذا أريد به الدجال قيد به ، أما عيسى - عليه السلام - فلقب له لأنه لا يمسح ذا عاهة إلا برئ أو لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً أي مدهوناً وأما الدجال : فلأنه يمسح الأرض كلها إلا مكة والمدينة وقيل لأنه ممسوح العين اليمنى .
والدجال : من الدجل وهو التضليل وذلك لأنه يضلل الناس فيقول لهم هو ربهم ويأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتنة من الله لعباده والعياذ بالله .
المعنى الإجمالي :
شرع الله عز وجل لعباده على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يستعيذوا به في دفع الفتن عنهم وأن يقيهم عذاب القبر وعذاب النار لأنه لا قبل لهم بدفع ذلك ولا طاقة لهم بصرف ضرر هذه الأمور الضارة عن أنفسهم إن لم يكن لهم عون وهداية وتوفيق من الله وشرع بعد التشهد ليكون ذلك في آخر الصلاة التي هي أفضل قربة إلى الله ؛ لأن ذلك أحرى للإجابة . والله أعلم .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ من الحديث مشروعية التعوذ بالله من هذه الخصال لشدة خطورتها وضررها على العبد .
ثانياً : يؤخذ منه أنها بعد التشهد لأنه أقرب للإجابة .
ثالثاً : يؤخذ منه أن المشروع للعبد أن يتقرب أولاً إلى الله بفعل ما أمره ثم يسأله بعد ذلك فهو أولى بأن يجاب وذلك أن إجابة الله لعبده مشروطة باستجابة العبد له بفعل أوامره واجتناب نواهيه كما أشار إلى ذلك القرآن حيث يقول الله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (البقرة:186) .
رابعاً : يؤخذ منه شدة خطر الفتن التي يتعرض لها العبد في حياته وبعد موته وأنه لا يستطيع الخلوص منها إلا بحول وقوة من الله .(2/203)
خامساً : يؤخذ منه شدة خطر الدجال وعظم فتنته ، مما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر أمته ويأمرهم بالاستعاذة بالله من شره .
سادساً : الاستعاذة من عذاب القبر وعذاب النار استعاذة من أسباب العذاب المؤدية إليه .
سابعاً : أن الموافقة في الاسم بين المؤمن والكافر لا تضر وذلك لأن نبي الله عيسى - عليه السلام - سمي المسيح ، والدجال سمي المسيح وإذا أريد الدجال بين بالوصف والله أعلم .
ثامناً : خص الفقهاء هذا الدعاء وغيره بالتشهد الأخير ، قال ابن دقيق العيد : وليعلم أن قوله - عليه السلام - إذا تشهد أحدكم عام في التشهد الأول والأخير معاً ، وقد اشتهر بين الفقهاء استحباب التخفيف في التشهد الأول وعدم استحباب الدعاء بعده حتى تسامح بعضهم في الصلاة على الآل فيه إلى أن قال والعموم الذي ذكرنا يقتضي الطلب بهذا الدعاء فمن خصه فلابد من دليل راجح وإن كان نصاً فلابد من صحته . قلت : النص هو حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وقد علمت أنه قد أعل بعدم سماع أبي عبيدة من أبيه ولكن يتأيد بحديث ابن مسعود عند أحمد رحمه الله علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في وسط الصلاة وآخرها فإذا كان في وسط الصلاة نهض إذا فرغ من التشهد قال الهيثمي رجاله موثقون وصححه أحمد شاكر(1) وبهذا يتبين رجحان ما ذهب إليه الفقهاء ، والله أعلم .
* * *
[122] : وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمني دعاء أدعو به في صلاتي ، قال : قل : " اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم " .
موضوع الحديث :
__________
(1) ... وأخرجه ابن خزيمة رقم 708 وحسنه الألباني لأن في سنده محمد بن إسحاق وهو مختلف في تصحيح حديثه كما تقدم والأقرب أنه من قبيل الحسن .(2/204)
الدعاء في الصلاة وهذا الحديث من جوامع الأدعية والإستغفارات .
المفردات :
دعاء أدعو به في صلاتي : الدعاء هو طلب العبد من ربه سبحانه طلب يصحبه خضوع وافتقار ومسألة .
ظلمت نفسي ظلماً كثيراً : إخبار أن الذنوب ما هي إلا ظلم من الإنسان لنفسه بإيقاعها فيما لا طاقة لها به ، أما الرب عز وجل فهو في غنى عن طاعة المطيعين ويتنزه أن تضره معصية العاصين وفي الحديث القدسي : " يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني " .
ظلماً كثيراً : فيه إخبار بكثرة وقوع الإنسان في الذنوب والظلم للنفس وذلك بالتقصير في الواجبات إما بالتأخير وعدم المسارعة أو بعدم تأديتها على الوجه المطلوب وإما بدخول الرياء والعجب فيها وإما بترك بعضها والتهاون فيه إيثار الراحة أو خوفاً من الملامة من بعض الجاهلين أو غير ذلك ، أما المعاصي فكثير ما يقع فيها العبد بدافع الطمع أو بدافع الهوى أو رضا المخلوق أو طاعة للشيطان ولهذا فإن العبد لا يخلو في كل لحظة من عمره من تقصير في واجب أو وقوع في ذنب ؛ فلهذا قال ظلماً كثيراً . والله
أعلم .
من عندك : أي تفضلاً منك عليّ وإن كنت لا استوجبه تفضلاً محضاً .
المعنى الإجمالي : طلب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته فعلمه هذا الدعاء الجامع النافع المتضمن لمغفرة كل ظلم بدر من العبد بحكم بشريته وبحكم دنياه التي يتقلب فيها والتي لا يخلو فيها أحد من ظلم وقد تضمن هذا الدعاء على قلته عدة أمور هي أساس في العقيدة :
أولها : اعتراف العبد بالتقصير في حق ربه .
ثانيها : إفراد الله بالألوهية في قوله "ولا يغفر الذنب إلا أنت".
ثالثها : تفويضه إليه وتخليه عن السببية في قوله "فاغفره لي مغفرة من عندك " .
رابعها : استكانة العبد لربه وتذلله له وافتقاره إليه بطلب التفضل المحض .
خامسها : وصف العبد لربه بالمغفرة والرحمة .
فقه الحديث :(2/205)
يؤخذ من هذا الحديث سنية هذا الدعاء في الصلاة أما في أي مكان فيها فهذا لم يرد بالتحديد ومواضع الدعاء في الصلاة موضعان .
قال ابن دقيق العيد رحمه الله : هذا الحديث يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين لمحله ولو فعل فيها حيث لا يكره الدعاء في أي الأماكن كان ، ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين إما السجود وإما بعد التشهد اهـ.
وقال في العدة : أما محلات الدعاء في الصلاة التي ورد أنه كان يدعو فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي سبعة مواضع كما ذكره ابن القيم في زاد المعاد ويجمعها قولنا مواضع كانت في الصلاة لأحمد إذا ما دعا قد خصصوها بسبعة :
مواضع كانت في الصلاة لأحمد إذا ما وعاقد خصوصها بسبعة
عقيب افتتاح ثم بعد قراءة وحال ركوع واعتدال وسجدة
وبينهما بعد التشهد هذه مواضع تروى عن ثقات بصحة
وتحريرها :
1- دعاء الاستفتاح .
2- بعد القراءة كما ورد أنه كان إذا قرأ فمر بآية رحمة سأل أو آية عذاب استعاذ .
3- في الركوع .
4- في الاعتدال من الركوع .
5- في السجود .
6- في الاعتدال بين السجدتين .
7- بعد التشهد .
قلت : أكثر هذه المواضع لها أذكار معينة كالاستفتاح وذكر الاعتدال من الركوع وبين السجدتين ، فينبغي المثابرة على الوارد إلا إذا أطال فلا مانع أن يدعو بغير ما ورد ، والذي ثبت الحث على الدعاء فيه هو السجود لحديث أما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ، وبعد التشهد لقوله - صلى الله عليه وسلم - ثم ليتخير من الدعاء أعجبه أو من المسألة ما شاء .(2/206)
ثانياً : فيه دليل على أن الإنسان لا يخلو من ذنب أو تقصير في واجب دائماً ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " استقيموا ولن تحصوا ، وأعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ". عزاه في الجامع الكبير إلى أحمد والحاكم والبيهقي من حديث ثوبان والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو وسلمة ابن الأكوع ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم 963 ، وحديث : " كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " عزاه في تخريج الجامع الصغير إلى أحمد والترمذي والحاكم وقال حسن وهو برقم 4391 .
ثالثاً : يؤخذ منه أن الأليق بالعبد التخلي عن الاعتماد على الأسباب لا لأنها ليس لها تأثير بل ما أمر الله بها إلا لربط مسبباتها بها كربط دخول الجنة بالإيمان والعمل الصالح وربط عصمة الدم والمال بالشهادتين وما من شيء إلا ربط مسببه بسبب كربط المغفرة بالتوبة ولكن لا يكون مدلياً بها على الله وينص الحديث أن توفيق الله للعبد للعمل الصالح تفضل من الله وقبول العمل على ما فيه من آفات النقص والخلل تفضل منه وثوابه على العمل الصالح تفضل منه مع أن العمل الصالح مغمور في جانب النعم الكثيرة والمتعددة الثابتة منها والمتجددة وعلى هذا فليس للعبد شيء يوجب إدلاله بالعمل مع ما ذكر . والله أعلم .
رابعاً : يؤخذ منه رد على المعتزلة في قولهم أن الأعمال الصالحة موجبة للثواب وجوباً عقلياً إذ لو كان كما قالوا لقال فاغفر لي باستغفاري ولا يخفى أن هذا إلزام للباري تعالى من قبل عباده وفي ذلك من سوء الأدب مع الله ما فيه .
والحق أن الله لا يلزم بشيء من قبل خلقه ولا يجب عليه شيء لخلقه ولكنه وعد ووعده الحق أن يثيب المطيعين ويرحم المؤمنين لا إلزاماً ووجوباً ولكن رحمة منه وفضلا والله لا يخلف الميعاد .
* * *
[(2/207)
123] : عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة بعد أن نزلت عليه { إذا جاء نصر والفتح } إلا يقول فيها سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ، وفي لفظ : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي .
موضوع الحديث :
الذكر في الركوع والسجود .
المفردات :
ما صلى : ما نافية وإلا استثناء بعدها وصلاة مفعول صلى .
إلا يقول فيها : أي إلا قال سبحانك بمعنى أسبحك أي أنزهك والمصدر ناب عن الفعل .
وبحمدك : يحتمل أن تكون الباء سببية أي بسبب إنعامك علي بالتوفيق أسبحك ، ويحتمل أن تكون للملابسة أي حال كوني متلبساً بحمدك ورجح هذا المعنى الصنعاني في العدة (3/44) لجمعه - صلى الله عليه وسلم - بين التسبيح والتحميد في الحديث وفائدة الجمع بين هذه الثلاث أن التسبيح تنزيه الله عن النقائص والعيوب والحمد اعتراف له بالكمالات المقتضية للمحامد كلها اللهم اغفر لي إقرار بالنقص واعتراف بالذنب وتوحيد لله بطلب المغفرة منه تعالى دون سواه .
المعنى الإجمالي :
جعل الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - علامة تدل على دنو أجله وهي دخول الناس في دين الله أفواجاً أي جماعات بعد أن كانوا يدخلون فيه واحداً واحدا فإذا رأى ذلك أكثر من التسبيح والتحميد وطلب المغفرة وقد نفذ ذلك بعد نزول السورة ورأى العلامة وجعل ذلك ذكراً للركوع والسجود .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ منه مشروعية هذا الذكر في الركوع والسجود ، سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي ، أو سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ، أو سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي .(2/208)
ثانياً : يؤخذ منه مشروعية ضم التحميد إلى التسبيح من الذكر الآخر سبحانك ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى ، وقد ورد بذلك نص عن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - أخرجه أبو داود برقم (870) وفيه رجل مجهول ولفظه : فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثاً ، وإذا سجد قال سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثاً ، وقال قال أبو دواد : وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون محفوظة .
وأصل الحديث لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم أخرجه الحاكم (1/245) فسمى المبهم إياس بن عامر وقال صحيح وقد اتفقا على الاحتجاج برواته كلهم إلا إياس بن عامر وهو مستقيم الإسناد ، ورده الذهبي بقوله اياس ليس بالمعروف ، وأيده الألباني ؛ لأنه لم يرو عنه غير ابن أخيه موسى بن أيوب وقال لم يورده الذهبي في الميزان . قلت : ولا الحافظ في اللسان وأخرجه ابن ماجة رقم 887 باب التسبيح في الركوع والسجود بدون الزيادة أيضاً وترجم في التهذيب لاياس بن عامر رقم 717 ونقل عن العجلي أنه قال لا بأس به قال وذكره ابن حبان في الثقات ، قلت : ابن حبان يوثق من لا يعلم فيه جرحاً قال وصحح له ابن خزيمة ، قلت : وابن خزيمة يتساهل في التصحيح وبهذا تعلم أن الحديث ضعيف إلا أنه يتأيد بهذا الحديث الصحيح وإن تقيد باللفظ الوارد فحسن والله أعلم .
ثالثاً : يؤخذ منه ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المتابعة للقرآن ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت كان خلقه
القرآن .(2/209)
رابعاً : يؤخذ من قوله اللهم اغفر لي دليل لمن قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس معصوماً من الصغائر وفي ذلك خلاف بين أهل العلم ليس هذا محل بسطه ولعل الأقرب في هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من قصد المعصية سواء كانت صغيرة أو كبيرة وقد يقع فيما يعد من اللمم من قبيل اجتهاد يخطئ ولكن لعلو مقامه يعتبر منه كذنب كقوله تعالى : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ } (التوبة: من الآية43) . وقوله : { وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } (النساء: من الآية107) . وكقوله تعالى { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } (آل عمران: من الآية128) . أما الأقوال التشريعية فهو معصوم فيها قال تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم:3-4) . والله أعلم .
* * *
باب الوتر
[124] : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ما ترى في صلاة الليل ؟ قال : " مثنى ، مثنى ، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة ، فأوترت له ما صلى " . وإنه كان يقول : " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ".
موضوع الحديث :
صلاة الليل والوتر .
المفردات :
وهو على المنبر : جملة حالية أي سأله حال وجوده على المنبر .
ما ترى في صلاة الليل : ما استفهامية .
قال مثنى مثنى : أي هي مثنى مثنى أي اثنتين اثنتين ، فالضمير مبتدأ ومثنى خبر وهو معدول عن اثنين واثنتين .
فإذا خشي أحدكم الصبح : أي خاف أن يدركه الفجر قبل أن يوتر .
صل واحدة فأوترت له ما صلى : أي صلى ركعة واحدة .
فأوترت له ما صلى : أي صيرته وتراً .
الوتر : هو الفرد من العدد وهو ما لا ينقسم على اثنين بدون انكسار .
اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً : أي اجعلوا الوتر خاتمة لها .
فقه الحديث :(2/210)
أولاً : يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الليل مثنى ، مثنى . أن الأفضل في صلاة الليل أن تكون مثنى ، مثنى . أي يسلم من كل ركعتين وبه أخذ مالك فمنع الزيادة على ركعتين في النافلة(1) وزعم بعض الحنفية أن يتشهد بعد كل ركعتين ورد بأنه قد ورد تفسير مثنى عن راوي الحديث عبد الله بن عمر من طريق عقبة بن حريث عن مسلم قال قلت لابن عمر - رضي الله عنه - ما مثنى مثنى قال تسلم من كل ركعتين . أما الشافعية فقد أجازوا الزيادة على اثنتين مطلقاً بشرط أن لا يزيد على تشهد في الشفع ولا على ركعة في الوتر(2) .
قلت : وقد صرح في المهذب بتفضيل الصلاة مثنى على الزيادة على ذلك .
وهو المصرح به في مذهب الحنابلة كما أفاده في الكشاف(3) وإنما فضل أهل العلم الصلاة مثنى في صلاة الليل لأنها وردت من القول والفعل أما الزيادة على اثنتين فقد وردت من الفعل فقط .
ثانياً : أنها وردت بصيغة تشبه الحصر قال ابن دقيق العيد رحمه الله ، وإنما قلنا إنه ظاهر اللفظ لأن المبتدأ محصور في الخبر فيقتضي ذلك حصر صلاة الليل فيما هو مثنى وقال في العدة لأنه معرف بالإضافة وتعريفه يفيد قصره على الخبر(4) .
ثالثاً : أن الصلاة مثنى أيسر على العبد لأنه يسلم بعد كل ركعتين فيقضي حاجته إن كان له حاجة(5) .
__________
(1) ... شرح العمدة لابن دقيق العيد ج3 مع العدة ص50 .
(2) ... الفتح (2/479) .
(3) ... الكشاف (1/416) .
(4) ... شرح العمدة مع العدة (3/51) .
(5) ... انظر الفتح (2/479) .(2/211)
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى أربعاً وأربعاً وثلاثاً(1)، وصح عنه أنه صلى خمساً بتشهد وسلام وأنه صلى سبعاً بتشهدين وسلام ، وأنه صلى سبعاً بتشهدين وسلام يجلس على السادسة ثم يتشهد ثم يقوم فيأتي بالسابعة ثم يتشهد ويسلم وأنه صلى تسعاً بتشهدين وسلام يجلس على الثامنة فيتشهد ثم يقوم فيأتي بالتاسعة ويتشهد ويسلم(2).
فهذه الأحاديث تدل على أن الأمر في ذلك واسع وكل ذلك جائز إلا أن الصلاة مثنى مثنى أفضل لما ذكرنا والله أعلم .
رابعاً : يؤخذ منه أن وصف المثنوية بصلاة الليل دون صلاة النهار إلا أنه قد وردت رواية عن أصحاب السنن وابن خزيمة في صحيحه وأحمد وغيرهم من طريق علي بن عبد الله البارقي عن ابن عمر بلفظ صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وقد رد قوم هذه الرواية وحكموا على راويها بالوهم لأن الأثبات من أصحاب ابن عمر رووا عنه هذا الحديث بدون زيادة والنهار ، وهم نافع وسالم بن عبد الله بن عمر وعبد الله بن دينار وحميد بن عبد الرحمن بن عوف وطاووس وعبد الله بن شقيق . ولهذا قال يحيى بن معين ومن علي الأزدي حتى أقبل منه ، أي من يكون إلى جانب هؤلاء الأئمة الأثبات ، وحكم النسائي على راويها بالخطأ .
__________
(1) ... أخرجه البخاري رقم 1147 من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة ، وأخرجه مسلم برقم 738 .
(2) ... أخرجه مسلم من طريق سعد بن هشام بن عامر عن عائشة برقم 746 .(2/212)
قال في الفتح(1) لكن روى ابن وهب بإسناد قوي عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" ، أخرجه بن عبد البر م طريقه فلعل الأزدي اختلط عليه الموقوف بالمرفوع فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذاً . قال وقد روى ابن أبي شيبة من وجه آخر أن ابن عمر كان يصلي بالنهار أربعاً(2)اهـ.
وقد احتج يحيى بن سعيد الأنصاري على بطلان هذه الزيادة بأن ابن عمر كان يصلي في النهار أربعاً أربعاً فلو كانت صحيحة لم يخالفها(3).
ورغم شذوذ هذه الزيادة ومخالفة راويها لمن هم أعلى منه ثقة وأفضل منه حفظاً وأكثر منه ملازمة لعبد الله بن عمر وهم عدد وهو واحد ، ومع مخالفتها أيضاً لما صح عن الراوي رغم هذا كله فإن بعضهم قد صححها .
ومن المعاصرين الشيخ محمد ناصر الدين الألباني فإنه قال في تعليقه على صحيح ابن خزيمة الحديث رقم 1210 : قلت : إسناده صحيح ، كما حققته في صحيح أبي داود رقم 1172 وغيره . ناصر .
وحكى الحافظ في التلخيص تصحيحه عن ابن خزيمة وابن حبان والحاكم(4) .
__________
(1) ... الفتح ج2ص479 .
(2) ... أخرج هذا الأثر ابن أبي شيبة في المصنف ج2/274 في صلاة النهار كم هي بسند في غاية الصحة .
(3) ... التلخيص الحبير ج2ص22 .
(4) ... التلخيص ج2/22 .(2/213)
ومن صححه فقد أيده بإطلاق حديث عبد الله بن الحارث عند أبي داود(1) وفي سنده عبد الله بن نافع بن العمياء وهو ضعيف وأخرج الترمذي نحوه عن ربيعة بن الحارث عن الفضل بن عباس مرفوعاً بلفظ الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن(2) وفي سنده أيضاً عبد الله بن نافع المذكور(3) قال الحافظ في التلخيص وله طرق أخرى منها ما أخرجه الطبراني في الأوسط والدارقطني في غرائب مالك . وقال به الحنيني عن مالك عن نافع عن ابن عمر .
قلت : الحنيني هو إسحاق بن إبراهيم الحنيني . قال في التقريب ضعيف(4) ، قال الذهبي في الكاشف ضعفوه(5)، ومنها ما أخرجه الدارقطني من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، وفي إسناده نظر(6).
قلت : تبين من هذا الاستعراض لطرقه أنها كلها ضعيفة وأن تصحيحه لا يعدو أن يكون تساهلاً والله أعلم .
ثالثاً : قال ابن دقيق العيد كما يقتضي ظاهره "أي حديث صلاة الليل مثنى مثنى" عدم الزيادة على الركعتين فكذلك يقتضي عدم النقصان منها ، وقد اختلفوا في التنفل بركعة مفردة والمذكور في مذهب الشافعي جوازه وعن أبي حنيفة منعه(7) .
قلت : المعروف عن مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز الإيتار بركعة ولو صلى قبلها مثنى ، أما غير الحنفية فقد جوزوا الإيتار بركعة إذا تقدمتها صلاة ومنعوا التنفل بركعة مفردة لم تتقدمها صلاة إلا ما ذكر عن مذهب الشافعي أنه يجيز ذلك .
__________
(1) ... أبوداود رقم 1296 .
(2) ... أخرجه الترمذي ج2 باب ما جاء في التخشع في الصلاة .
(3) ... عبد الله بن نافع بن العمياء مجهول كما قال الحافظ في التقريب ج1/456 وقال الذهبي في الكشاف : عبد الله بن نافع بن أبي العمياء عن ابن الحارث ، وعنه ابن أبي أنس قال البخاري لم يصح حديثه الكشاف ج2/121 .
(4) ... التقريب ج1/55 .
(5) ... الكاشف ج1/60 .
(6) ... التلخيص ج2/22 .
(7) ... العدة مع العمدة للصنعاني (3/53) .(2/214)
وقال في المغني : قال بعض أصحابنا : ولا يصح التطوع بركعة ولا بثلاث ، وهذا كلام الخرقي .
وقال أبو الخطاب في صحة التطوع بركعة روايتان أحدهما يجوز كما روى سعيد قال جرير عن قابوس عن أبيه قال دخل عمر المسجد فصلى ركعة ثم خرج فتبعه رجل فقال يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة فقال هو تطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص ، ولنا أن هذا خلاف قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الليل مثنى مثنى ولأنه لم يرد الشرع بمثله والأحكام إنما تتلقى من الشارع(1) اهـ.
واستدل الشافعية لجواز التطوع بركعة مفردة بحديث الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر عزاه الألباني في تخريج الجامع الصغير 3764 للطبراني في الأوسط وقال حسن وذكره الصنعاني في العدة بلفظ فمن شاء استكثر ومن شاء استقل(2) وقال صححه ابن حبان .
قلت : وعلى تقدير صحته فليس فيه دليل على موضع النزاع لأن أل في الصلاة للعهد الذهني ولم يعهد عن الشارع - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى ركعة مفردة لم يتقدمها شيء ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " صلوا كما رأيتموني أصلي "(3) .
وهل يصح الإيتار بركعة مفردة لم تتقدمها صلاة .
يقال في هذا ما قيل في سابقه اللهم إلا أن ينام عن وتره فيقوم متأخراً قد طرقه الفجر أو كاد فيوتر بواحدة مبادرة للفجر وقد فعله عبد الله بن مسعود وحذيفة(4) .
__________
(1) ... المغني لابن قدامة (2/125) .
(2) ... العدة ج3/53 .
(3) ... أخرجه البخاري رقم 631 ورقم الباب 18 أذان من حديث مالك بن الحويرث وأخرجه د س 42 صلاة وأخرجه أحمد 5/52 .
(4) ... أخرجه عبد الرزاق في المصنف ج3/25 رقم الأثر 4658 من طريق إسماعيل بن عبد الله عن ابن عوف عن ابن سيرين قال سمر عبد الله بن مسعود وحذيفة ابن اليمان عند الوليد بن عقبة بن أبي معيط ثم خرجا من عنده فقاما يتحدثات حتى رأيا تباشير الفجر فأوتر كل واحدٍ منهما بركعة ورجال سنده إلى ابن سيرين مخرج لهم في الصحيحين .(2/215)
وأما الحنفية فقد خصصوا الإيتار بواحدة بحالة الضرورة كهذه الصورة واستدلوا على ذلك بقوله فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة(1) .
رابعاً : يؤخذ من قوله : " فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى ". وفي رواية عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عند البخاري(2) رقم 993 : " فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت " ، دليل على مشروعية الإيتار بركعة وإلى ذلك ذهب الجمهور ومنعت ذلك الحنفية فقالوا لا يصح الوتر إلا بثلاث وقد نقل الإيتار بركعة عن جماعة من الصحابة منهم عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وحذيفة ، أخرج ذلك عنهم عبد الرزاق في المصنف بأسانيد صحيحة(3) .
وروى محمد بن نصر في قيام الليل الإيتار بركعة عن ابن عمر ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وأبي هريرة ، وفضالة بن عبيد وأبي موسى ، ومن التابعين عن عطاء ومحمد بن سيرين والحسن البصري وبن شهاب الزهري ، وحكاه أيضاً عن مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه(4) ، وهو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله وفعله ، فأما القول ففي حديث عبد الله بن عمر الثابت في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها وفيه فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة توتر له ما قد صلى ، وفي لفظ عبد الرحمن بن القاسم الذي ذكرته في هذا البحث فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت .
__________
(1) ... ذكر ذلك الصنعاني في العدة على العمدة ج3/55 .
(2) ... البخاري رقم 993 .
(3) ... انظر مصنف عبد الرزاق ج3/19 وما بعدها .
(4) ... انظر مختصر قيام الليل للمقريزي باب الأخبار المروية عن السلف في الوتر .(2/216)
وأما الفعل فقد ثبت إيتاره بركعة من حديث ابن عباس عند البخاري(1) ومسلم(2) من حديث عائشة عند مسلم(3) ومن حديث ابن عمر عن البخاري ومسلم (4).
وقال الشوكاني في السيل الجرار (1/326) : أما الإيتار بركعة فقد ثبت ثبوتاً متواتر وذلك واضح ظاهر لمن له أدنى اطلاع على السنة المطهرة اهـ.
وروى الطحاوي في معاني الآثار بسند في غاية الصحة من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة . وهذه الأحاديث الصحاح كلها أدلة ساطعة تدل على سنية الإيتار بركعة وترد على من كره ذلك .
__________
(1) ... راجع صحيح البخاري باب إذا قام عن يسار الإمام فحوله رقم 698 وتفسير سورة آل عمران الحديث رقم 4570 و4571 و4572 .
(2) ... انظر الحديث رقم 753 من صحيح مسلم باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل .
(3) ... راجع صحيح مسلم باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة رقم الحديث العام 736 والخاص 121 و122 ورقم 738 عام رقم 128 خاص .
(4) ... راجع صحيح مسلم رقم 157 و 158 كتاب صلاة المسافرين والرقم العام 749 من حديث أنس بن سيرين عنه البخاري . أيضاً في باب ساعات الوتر 995 .(2/217)
والله يعلم أنه ضاق صدري حينما قرأت باب الوتر في معاني الآثار للطحاوي فرأيته- رحمنا الله وإياه – على كثرة ما أورد من أحاديث وآثار تدل على سنية الإيتار بواحدة أو بثلاث متصلة بتشهد وسلام ، أو بثلاث يفصل شفعها عن وترها بتشهد وسلام ، فتعود إلى الإيتار بواحدة ، يدعى إجماعاً على خلاف ما دلت عليه هذه الأحاديث والآثار(1) ، ويتأول الأحاديث والآثار بتأويلات متعسفة لكي توافق رأي إمامه(2) .
وكم ترى من جهبذ في العلم كهذا يحاول التخلص من سنة ثابتة لكي ينزل على رأي إمامه كأن رأي الإمام هو الأصل وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الفرع وفي هذا من شرك التحكيم ما فيه .
خامساً : يؤخذ من قوله " فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة " وفي رواية فليركع ركعة توتر له ما صلى أن وقت الوتر ينتهي بطلوع الفجر ، قال ابن دقيق العيد وفي مذهب الشافعي وجهان أحدهما أنه ينتهي بطلوع الفجر والثاني أنه ينتهي بصلاة الصبح .(3) اهـ.
__________
(1) ... راجع معاني الآثار (1/292) حيث قال فدل إجماعهم على نسخ ما تقدمه من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله لم يكن ليجمعهم على ضلال اهـ. فأين الإجماع وقد رأيت صحة ما نقلته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإيتار بركعة ولم يصح عنه شيء ينقضه وعمل به اثنا عشر رجلاً من الصحابة حتى ما توا توخياً منهم لسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ومحافظة عليها فنعوذ بالله من الهوى .
(2) ... وقال أيضاً في نفس الصفحة من الكتاب المذكور ، وقد ثبت بهذه الآثار التي رويناها أن الوتر أكثر من ركعة ولم يرو في الركعة شيء اهـ. فانظر إلى هذه المجازفة بعد أن روى الحديث الذي قدمته عن عروة عن عائشة ، فنسأل الله أن يعفو عنا وعنه .
(3) ... العدة على شرح العمدة (3/55) .(2/218)
قلت : وفي المذهب الحنبلي أن وقته ينتهي بطلوع الفجر قال في المغني ، ووقته ما بين العشاء وطلوع الفجر الثاني فلو أوتر قبل العشاء لم يصح وتره ، وقال الثوري وأبو حنيفة إن صلاها قبل العشاء ناسياً لم يعده وخالفه صاحباه فقالا يعيد ، وكذلك قال مالك والشافعي (1)اهـ. وهذا القول هو الذي تؤيده الأدلة وعليه الإجماع .
قال المقريزي في مختصر قيام الليل والوتر للمروزي في باب وقت الوتر والذي اتفق عليه أهل العلم أن ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر وقت للوتر ، واختلفوا فيما بعد ذلك إلى أن يصلي الفجر وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالوتر قبل طلوع للفجر(2). اهـ.
قلت : وحديث عائشة الآتي بلفظ من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهى وتره إلى السحر . يدل دلالة واضحة أن وقت الوتر ينتهي بانقضاء وقت السحر ، ووقت السحر ينقضي بطلوع الفجر الثاني . ومما يدل على انقضاء وقت الوتر بطلوع الفجر القاني حديث أبي سعيد عند مسلم أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوتر فقال أوتر قبل الصبح(3) وفي لفظ له أوتر قبل أن تصبحوا .
وقد أخذنا بما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما انعقد عليه الإجماع من أمته وتركنا ماعدا ذلك لأنه اجتهاد من غير معصوم والله أعلم .
__________
(1) ... المغني لابن قدامة (2/161) .
(2) ... مختصر قيام الليل (ص255) .
(3) ... صحيح مسلم باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل رقم الحديث العام 754 .(2/219)
سادساً : يؤخذ من قوله فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت . دليل على وجوب الوتر إلا أن في الاستدلال بهذا الحديث على الوجوب نظر لأنه كان جواباً على سؤال واستدل القائلون بالوجوب أيضاً بحديث إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن(1) ، وليس فيه دليل على الوجوب العام وإن صح واستدل للوجوب أيضاً بحديث أن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر قال في نصب الراية روى من حديث خارجة بن حذافة(2) ومن حديث عمرو بن العاص وعقبة بن عامر(3) ومن حديث ابن عباس(4) ومن حديث أبي بصرة الغفاري ، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .
__________
(1) ... أخرجه أبو داود عن علي من طريق عاصم بن ضمرة في باب استحباب الوتر ورواه الترمذي باب ما جاء أن الوتر ليس بحتم وزاد من طريق سفيان عن علي أنه قال الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنها نبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخرجه أيضاً ابن ماجة 1/1169 من طريق أبي بكر بن عياش ووصل الموقوف بالمرفوع فقال ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتر ثم قال يا أهل القرآن أتروا الحديث . وعلى هذا فليس فيه دليل على الوجوب أصلاً .
(2) ... حديث خارجة بن حذافة أخرجه ابن ماجة رقم 1168 وأخرجه الترمذي رقم 451 وأبو داود رقم (1418) ، وفي سنده عبد الله بن راشد الزوفي فيه ضعف .
(3) ... أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده وفي سنده سويد بن عبد العزيز السلمي لين الحديث وقرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل له مناكير .
(4) ... أخرجه الدارقطني وفي سننه وفي سنده النضر أبو عمر الخزاز وهو ضعيف كما قال الدارقطني وبالجملة فطرق هذا الحديث كلها معلولة كما قال البزار وقال ابن حبان إسناد منقطع ومتن باطل وضعفه البخاري وضعف جميع طرقه الحافظ في التلخيص الحبير الحديث رقم 523 .(2/220)
ومن حديث ابن عمر ومن حديث أبي سعيد(1) ثم ساقها ، ونقل عن البزار أنه قال في مسنده : وقد روى في هذا المعنى أحاديث كلها معلولة ونقل عن ابن الجوزي في التنقيح أنه قال لا يلزم أن يكون المزاد من جنس المزاد فيه(2) .
قلت : وعلى تقدير صحة هذا الحديث فليس فيه دليل على الوجوب بل غاية ما فيه أنه يدل على الفضيلة ؛ لأن كلمة الإمداد والزيادة لا تفيد الوجوب . والله أعلم .
واستدل للوجوب أيضاً بحديث ابن بريدة " الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا " . أخرجه أحمد في مسنده(3) وأبو داود(4) وابن أبي شيبة(5) وأخرج ابن أبي شيبة من طريق معاوية بن قرة عن أبي هريرة(6) نحو حديث ابن بريدة ، وفي سنده خليل بن مرة الضبعي البصري ضعيف من السابعة قاله في التقريب(7) وهو منقطع بين معاوية وأبي هريرة(8) واستدل للوجوب أيضاً بحديث اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا أخرجه الشيخان وتعقب بأن صلاة الليل ليست بواجبة فكذا آخره . وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليل على الوجوب(9)اهـ.
__________
(1) ... نصب الراية باب صلاة الوتر 2/108و109 .
(2) ... نصب الراية 2/111 المجلس العلمي بالهند .
(3) ... أخرجه أحمد 2/344 و 5/357 .
(4) ... أخرجه أبو داود رقم 1419 .
(5) ... أخرجه بن أبي شيبة في المصنف 2/297 وفي إسناده عبيد الله أبو المنيب العتكي وثقه ابن معين ، وقال أبو حاتم صالح وقال البخاري عنده مناكير وقال ابن حبان يتفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات وقال البيهقي لا يحتج به وقال النسائي ضعيف وقال في موضع آخر ثقة .
(6) ... أخرجه في المصنف 2/297 .
(7) ... التقريب 1/228 .
(8) ... التلخيص 2/21 .
(9) ... فتح الباري 2/488 .(2/221)
قال الشيخ مباركفوري في تحفة الأحوذي . قلت : هذا الحديث إنما يدل على وجوب جعل آخر صلاة الليل وتراً لا على وجوب نفس الوتر المطلوب هذا لا ذا فالاستدلال به على وجوب الوتر غير صحيح ، وكذا الاستدلال بحديث جابر أوتروا قبل أن تصبحوا رواه الجماعة إلا البخاري ليس بصحيح فإنه إنما يدل على وجوب الإيتار قبل الإصباح لا على وجوب نفس الإيتار(1) .
واستدل أيضاً بحديث أبي أيوب عند أبي داود والنسائي وابن ماجة مرفوعاً بلفظ الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل الحديث(2) .
قال في مختصر السنن وقد وقفه بعضهم ولم يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة مرفوعاً كما ذكرناه من رواية بكر بن وائل عن الزهري وتابعه على رفعه الإمام أبو عمرو الأوزاعي وسفيان بن حسن ومحمد بن أبي حفصة وغيرهم ويحتمل أن يكون يرويه مرة من فتياه ومرة من روايته(3)اهـ.
وقال في معالم السنن وقد دلت الأخبار الصحيحة أنه لم يرد بالحق الوجوب الذي لا يسع غيره ومنها خبر عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - لما بلغه أن أبا محمد "رجلاً من الأنصار" يقول الوتر حق فقال كذب أبو محمد ثم روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة الحديث(4)اهـ.
__________
(1) ... تحفة الأحوذي 2/538 .
(2) ... أبو داود باب كم الوتر 1422 والنسائي 3/238 باب ذكر الاختلاف علىالزهري في حديث أبي أيوب في الوتر وابن ماجة رقم 1190 باب ما جاء في الوتر بثلاث وخمس وسبع .
(3) ... مختصر السنن للمنذري 2/124 .
(4) ... معالم السنن للخطابي 2/122 .(2/222)
وبهذا تعلم أن كل ما أجلب به الحنفية لا ينتهض للوجوب ولا يصلح دليلاً عليه ، نعم هذه الأحاديث تفيد الحث على الوتر والمبالغة في تأكيده ولذلك فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الوتر سنة وليس بواجب ولهم أدلة على ما ذهبوا إليه منها الصحيح ومنها الضعيف وأصح تلك الأدلة وأبينها في الدلالة على ما ذهبوا إليه ما رواه الشيخان عن ابن عمر بلفظ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبح على الراحلة قِبَل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة(1) ، وهذا لفظ مسلم ، وأخرج البخاري هذا اللفظ عن الليث معلقاً من طريق يونس عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه(2) وقال الحافظ وصله الإسماعيلي بالإسنادين المذكورين قبل ببابين وقد أخرجه جماعة غيرهم(3) قال النووي في شرح مسلم على قوله ويوتر على الراحلة ، فيه دليل لمذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور أنه يجوز الوتر على الراحلة في السفر حيث توجه وأنه سنة وليس بواجب . وقال أبو حنيفة رحمه الله هو واجب ولا يجوز على الراحلة .
__________
(1) ... انظر صحيح مسلم باب :صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت رقم الحديث العام 700 ورقم الحديث من صلاة المسافرين 38 و 39 .
(2) ... راجع صحيح البخاري باب ينزل للمكتوبة رقم الحديث 1098 وأخرجه أيضاً في الوتر نحو رقم 1000 من طريق نافع عنه .
(3) ... أخرجه أيضاً أبو داود باب : التطوع على الراحلة من أبواب صلاة المسافرين ، رقم 1224 وأخرج الترمذي عن سعيد بن يسار عن ابن عمر الإيتار على الراحلة دون ذكر المكتوبة باب ما جاء في الوتر على الراحلة رقم الحديث 470 تحفة الأحوذي ، وأخرجه أيضاً ابن ماجة رقم 1200 عن سعيد بن يسار عن ابن عمر وأخرجه أيضاً النسائي عن سعيد بن يسار عن ابن عمر باب الوتر على الراحلة 3/232 .(2/223)
ومما يدل على عدم الوجوب حديث علي المتقدم الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحديث عبادة الذي سبقت الإشارة إليه أنه قال حين أخبر عن أبي محمد أنه يقول الوتر حق فقال كذب أبو محمد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول خمس صلوات كتبهن الله على العباد الحديث . ومما يدل على عدم الوجوب ما أخرجه مسلم عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس الحديث وفيه فلما أصبح قال قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم(1) ، وأخرج ابن نضر في قيام الليل والوتر من طريق عيسى بن جارية وفيه لين عن جابر بمعنى حديث عائشة وفيه فقلنا يا رسول الله رجونا أن تخرج فتصلي بنا فقال إني كرهت أو خشيت أن يكتب عليكم الوتر(2) .
أما حديث : "ثلاث هن على فرائض ولكم تطوع النحر والوتر وركعتا الضحى" . فهو ضعيف ؛ لأنه من رواية أبي جنّاب الكلبي وهو ضعيف ، وتابعه جابر الجعفي وهو أضعف منه وتابعهما أيضاً وضاح بن يحيى ، عن مندل بن علي ، عن يحيى بن سعيد عن عكرمة وهو ضعيف أيضاً ، قال ابن حبان : لا يحتج به كان يروي الأحاديث التي كأنها معلولة ومندل أيضاً ضعيف ، ولهذا فقد أطلق الأئمة على هذا الحديث الضعف كأحمد وابن الصلاح وابن الجوزي والبيهقي والنووي وروى الدارقطني له شاهداً من حديث أنس وفيه عبد الله بن محرر وهو ضعيف جداً(3)اهـ.
ومن ما سبرته تعلم أن الوتر سنة مؤكدة وليس بواجب ، وفيما ذكرته مقنع لمن أراد الحق وتجرد عن الهوى . والله أعلم .
__________
(1) ... مسلم باب الترغيب في قيام الليل 761 .
(2) ... مختصر قيام الليل (ص118) .
(3) ... التلخيص الحبير (2/18) .(2/224)
سابعاً : يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - : وأنه كان يقول : " اجعلوا آخر صلاتكم باليل وتراً " وجوب ختم صلاة الليل بالوتر وجعله في آخرها ، وقد اختلفوا في ذلك هل هو على الإيجاب أم على الندب ؟ .
فذهب جماعة إلى وجوب جعل الصلاة من آخر الليل وتراً واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً " ، حكى ذلك عنهم المروزي في قيام الليل ، وقال : منهم إسحاق بن إبراهيم وجماعة من أصحابنا يذهبون إلى هذا(1) اهـ.
وهؤلاء يأمرون من أوتر من أول الليل ثم قام آخره أن يشفع وتره بركعة ثم يصلي مثنى ، فإذا كان آخر صلاته أوتر ، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة منهم عثمان بن عفان قال : إني إذا أردت أن أقوم من الليل أوترت بركعة فإذا قمت ضممت إليها ركعة ، فما شبهتها إلا بالغريبة من الإبل تضم إلى الإبل(2) .
وفعله عبد الله بن عمر وأخبر أنه من رأيه لا رواية(3) وهو مروي أيضاً – أي الشفع بركعة – عن أبي سعيد الخدري وعروة بن الزبير ، وأسامة بن زيد(4) .
__________
(1) ... انظر مختصر قيام الليل باب : الرجل يوتر بركعة ثم ينام ثم يقوم من الليل ليصلي ، قال : اختلف أصحابنا فذهبت طائفة إلى أنه إذا قام من الليل شفع وتره بركعة أخرى ثم صلى ركعتين ركعتين ثم أوتر في آخر صلاته بركعة واحتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " فقالوا إذا هو قام من الليل فلم يشفع وتره وصلى مثنى مثنى ثم لم يوتر من آخر صلاته كان قد جعل آخر صلاته من الليل شفعا لا وترا وترك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " اجعلوا ... الحديث اهـ. مختصر قيام الليل (ص131) .
(2) ... مختصر قيام الليل (ص131) .
(3) ... مختصر قيام الليل (ص132) .
(4) ... مختصر قيام الليل (ص132) .(2/225)
وأبى ذلك الأكثرون وقالوا : إذا أوتر أول الليل ثم قام آخر الليل فصلى ركعة أخرى لتشفع وتره الأول بعد السلام والكلام والحدث والنوم لم تشفعه بعد ما ذُكر بل تكون وتراً آخراً ، فإذا أوتر من آخر صلاته كان قد صلى ثلاثة أوتار وخالفوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا وتران في ليلة(1) وعن ابن عباس أنه لما بلغه فعل ابن عمر لم يعجبه وقال ابن عمر يوتر في ليلة ثلاثة أوتار .
وهؤلاء يقولون إن أوتر ثم قام من آخر الليل صلى شفعاً حتى يصبح فإنه إذا صلى شفعاً إلى الوتر يكون قد قطع صلاته على الوتر وممن قال بهذا القول عبد الله بن عباس وعائشة وأبو هريرة ورافع بن خديج وأبو بكر الصديق وعمار بن ياسر وعائذ ابن عمرو ومن التابعين سعيد بن جبير وسعبد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن قال محمد بن نصر وهذا مذهب الشافعي وأحمد وهو أحب إليّ وإن شفع وتره إتباعاً للأخبار التي رويناها رأيته جائزاً .
وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن الشعبي أنه سئل عن نقص الوتر فقال إنما أمرنا بالإبرام ولم نؤمر بالنقص وروى عدم النقض عمن ذكروا سابقاً وعن سعد بن أبي وقاص وعلقمة والحسن وإبراهيم النخعي ومكحول وقال الترمذي وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد وابن المبارك وهذا أصح لأنه روى من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى بعد الوتر ركعتين .
__________
(1) ... رواه في قيام الليل عن قيس بن طلق عم أبيه ، والترمذي باب ما جاء لا وتران في ليلة 468 ، وأبو داود في نقض الوتر رقم 1439 ، والنسائي في باب نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوتر في ليلة 3/229/230 وقد حسنه الترمذي والحافظ في الفتح 2/399 صححه ابن حبان وغيره وقال المنذري في مختصر السنن تكلم في قيس بن طلق غير واحد وخرج لا وتران على أنه لا يجتمع وتران أو لا يجوز وتران وقيل أنه على لغة بالحارث الذين يجرون المثنى الألف .(2/226)
قلت : الصلاة بعد الوتر قد أخرجها مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي في حديث سعد بن هشام عن عائشة(1) رضي الله عنها وأخرجه أبو داود من طريق علقمة بن وقاص عن عائشة(2) وأخرج الترمذي وأحمد وابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الوتر ركعتين زاد ابن ماجة وهو جالس من طريق الحسن عن أمه عن أم سلمة(3) وحكى الساعاتي تصحيحه عن الدارقطني وأخرج أحمد أيضاً عن أبي أمامة - رضي الله عنه - الركعتين بعد الوتر وهو جالس وقال فقرأ بـ { إذا زلزلت } و { قل يا أيها الكافرون } (4)وإذ قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد الوتر ركعتين فالجمع بين هذه الأحاديث وبين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " ، أن هذه الأحاديث التي أثبتت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد الوتر ركعتين صرفت الأمر في قوله اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً من الإيجاب إلى الندبية إذ أن فعله كان بياناً للجواز .
__________
(1) ... انظر صحيح مسلم باب جامع الصلاة في الليل رقم الحديث العام 746 والخاص 139 كتاب صلاة المسافرين وأحمد 6/54 وأبو داود في باب صلاة الليل رقم 1342 ورقم 1352 والنسائي باب الوتر بسبع وباب كيف الوتر بتسع .
(2) ... أبو داود رقم 1351 .
(3) ... الترمذي في باب ما جاء لا وتران في ليلة رقم الحديث 469 وابن ماجة رقم 1195 وأحمد وأخرجه في الفتح الرباني رقم 1089 صلاة في الوتر بسبع وتسع .
(4) ... الفتح الرباني رقم (1085) صلاة وحكى في بلوغ الأماني عن الهيثمي أنه قال رجال أحمد ثقات (4/297) .(2/227)
هذا هو رأي الجمهور قال النووي الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما - صلى الله عليه وسلم - بعد الوتر جالساً لبيان الجواز ولم يواظب على ذلك وأبى ذلك الشوكاني في النيل فقال أما الأحاديث التي فيها الأمر للأمة بجعل آخر صلاة الليل وترا فلا معارضة بينها وبين فعله - صلى الله عليه وسلم - للركعتين بعد الوتر لما تقرر في الأصول أن فعله لا يعارض القول الخاص بالأمة بلا معنى للاستنكار .(1)اهـ.
وأقول : الحق أن الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - التشريع إلا ما دل الدليل على خصوصيته به ولا دليل على الخصوصية هنا فلم يبق سوى التشريع وبذلك يترجح قول من قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها لبيان الجواز وخلاصة هذا البحث أن حديث "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" محمول على الاستحباب وأن الأفضل في الوتر أن يكون آخر صلاة الليل شفعاً ، وأن من أوتر أول الليل وقام في آخره تشرع له الصلاة شفعً ، وأن نقض الوتر لا يمكن ولا يشرع بل هو اجتهاد من غير معصوم خالف النص . والله أعلم .
[124] : عن عائشة رضي الله عنها قال : من كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من أول الليل ، وأوسطه ، وآخره ، وانتهى وتره إلى السَحَر(2) .
موضوع الحديث :
وقت الوتر .
المفردات :
من كل الليل أوتر : أي صلى وتره في أول الليل ، وصلى وتره في أوسط الليل وصلاه في آخر الليل .
وانتهى وتره : أي وصل وقت وتره إلى السحر أي وقت السحور .
المعنى الإجمالي :
__________
(1) ... نيل الأوطار 3/38 .
(2) ... أخرجه البخاري في كتاب الوتر باب ساعات الوتر مختصراً رقم 996 ، وأخرجه مسلم في باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل رقم 745 واللفظ له ، وأخرجه أبو داود في الوتر باب 8 رقم 8 والترمذي في الوتر رقم الباب 4 ورقم الحديث 456 ، والنسائي في قيام الليل باب 31 ، وابن ماجة إقامة باب
121 .(2/228)
تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنقل بوتره في كل الليل ليشرّع لأمته جواز الوتر في كل الليل وحتى لا يكون على أحد من أمته حرج إذا صلاه في أي وقت من الليل وانتهى وقت أداء وتره إلى السحر .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ من الحديث أن كل الليل وقت للوتر ويبدأ من بعد صلاة العشاء إلى وقت السحر .
ثانياً : يؤخذ منه أن الأفضل في الوتر أن يكون في آخر الليل ، وذلك إذا فسرنا وانتهى وتره إلى السحر أي انتهى عمله لوتره في آخر عمره إلى السحر ولكن هذا يعكر عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان مشدداً على نفسه في قيام الليل منذ نبوته حتى أنزل الله عليه { طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } (طه:1-2) ، فهو قول مرجوح والراجح أن المعنى وانتهى وتره إلى السحر بالنسبة إلى الليل وليس بالنسبة إلى عمره ولكن أفضلية تأخير الوتر تؤخذ من الآيات القرآنية التي تحث على قيام الليل مع قوله "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً"(1).
ثالثاً : يؤخذ منه أن وقت الوتر ينتهي بطلوع الفجر الثاني وقد تقدم في الحديث الذي قبله بحث هذه المسألة والخلاف فيها والترجيح .
__________
(1) ... رواه مسلم في صلاة المسافرين باب ءصلاة الليل مثنى مثنى رقم 751 ، والترمذي في الصلاة باب مبادرة الصبح بالوتر بلفظ بادروا الصبح بالوتر ، وأبو داود في الصلاة باب وقت الوتر رقم 1436 .(2/229)
رابعاً : يؤخذ منه أن الوتر أول الليل أفضل لمن لا يثق من نفسه بالقيام ، وقد ورد في ذلك حديث رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة بلفظ من خاف ألا يقوم ولأحمد من ظن منكم ألا يستيقظ آخر الليل فليوتر أوله(1) ، الحديث وفي آخره للجميع فإن قراءة آخر الليل مشهودة وفي رواية محضورة وذلك أفضل .
خامساً : إذا أوتر العبد أول الليل ثم استيقظ من آخره فهل يشفع وتره أو يصلي شفعاً حتى يصبح سبق بحث هذه المسألة مستوف ولله الحمد
والمنة .
سادساً : إذا فات وقت الوتر بنوم أو نسيان فهل يقضيه أم لا ؟
__________
(1) ... أخرجه مسلم في باب من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله رقم 755 ، والترمذي رقم الحديث 455 ولفظه من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله الحديث ، وأخرجه أحمد بلفظ من ظن منكم ألا يستيقظ آخر الليل فليوتر أوله الفتح الرباني رقم 1073 ، وابن ماجة رقم 1187 .(2/230)
ذهب إلى قضائه جماعة من أهل العلم مستدلين بحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكر أو استيقظ ، أخرجه الترمذي وابن ماجة(1) في سنده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم متروك(2) ورواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، وأخرجه أبو داود بسند صحيح صححه العراقي وغيره كما ذكر ذلك الشوكاني في النيل وبحديث أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي . وبحديث أبي نهيك أن أبا الدرداء خطب الناس فقال : " لا وتر لمن أدركه الصبح " فانطلق رجال إلى عائشة فأخبروها فقالت كذب أبو الدرداء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح فيوتر ، أخرجه المروزي وسنده حسن . وبحديث معاوية بن قرة قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني لم أوتر حتى أصبحت فقال إنما الوتر من الليل فأعاد عليه فأمره أن يوتر وفي سنده خالد بن أبي كريمة صدوق يخطئ ويرسل كثيراً ، وبحديث ابن عمر عند الدارقطني مرفوعاً من فاته وتره من الليل فليقضه من الغد ، وفي سنده أبو عصام رواد وفيه مقال ونهشل بن سعيد الورداني وهو متروك وكذبه إسحاق .
__________
(1) ... أخرجه أبو داود في الصلاة رقم 1431 والترمذي رقم 464 وج2 ص568 تحفة الأحوذي .
(2) ... ورواه الترمذي من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم أخو عبد الرحمن ، وقال : هذا أصح وحكى عن أبي داود والبخاري وابن المديني أنهم قالوا : حديث عبد الله بن زيد أصح ولفظه من نام عن وتره فليصل إذا أصبح ، انظر تحفة الأحوذي 2/568/569 .(2/231)
وهذه الأحاديث بمجموعها تكون حجة للقائلين بالقضاء ولهذا فقد قال بالقضاء جماعة من الصحابة والتابعين منهم عبد الله بن عمر وعبادة بن الصامت وعامر بن ربيعة وأبو الدرداء ومن التابعين القاسم بن محمد وسعيد بن جبير وعطاء وأبي نضرة وطاووس وغيرهم وحكاه الشوكاني عن الأئمة الأربعة إلا أنهم اختلفوا في الوقت الذي يقضي فيه فقال بعضهم يقضيه ما لم يصل الصبح وقال بعضهم يقضيه ما لم تطلع الشمس وقال بعضهم يقضيه ما لم يصل الظهر أو ما لم تزل الشمس ، وهذا القول الأخير هو الأسعد بالدليل لحديث عمر بن الخطاب مرفوعاً من نام عن حزبه من الليل(1) وعن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل . رواه الجماعة إلا البخاري ومعلوم أن ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس غير مقصود لأنه وقت نهي بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وعليه يحمل فعل الصحابة للوتر بعد طلوع الفجر أنهم فعلوا قضاء ولم يفعلوا أداء وبهذا تجتمع الأدلة . فإن قيل فكيف تجمع بين الأحاديث الدالة على قضاء الوتر وبين حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم وغيره كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة .
فأقول : الجمع بينهما أن حديث عائشة فيمن كان له ورد من الليل لا يتركه فمتى نام عنه أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة وأحاديث قضاء الوتر فيمن فاته الوتر وحده . والله أعلم .
__________
(1) ... أخرجه مسلم باب : جامع صلاة الليل من نام عنه أو مرض ، رقم الحديث (747) .(2/232)
وقد ذهب قوم إلى عدم فضاء الوتر وهو مروي عن ابن عباس وابن شهاب ونافع والحسن والبصري وقتادة ومكحول وإبراهيم النخعي والشعبي ومالك بن أنس والشافعي في رواية الزعفراني عنه والإمام أحمد بن حنبل وأيوب وأبو خيثمة وإسحاق وذكر ذلك عنهم ابن نصر المروزي في قيام الليل واحتج لهم بما رواه الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل طلوع الفجر وقال سليمان بن موسى قد تفرد به على هذا اللفظ قال وهو قول غير واحد من أهل العلم وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق لا يرون الوتر بعد صلاة الصبح .
قلت : سليمان بن موسى الأموي الأشدق قال في التقريب صدوق فقيه في حديثه بعض لين وخلط قبل موته بقليل . واحتج لهم أيضاً بما رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق أبي سعيد الخدري مرفوعاً بلفظ من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له وإسناده صحيح وأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا وتر بعد الفجر " إلا أنه في سنده أبا هارون العبدي وهو متروك ، وقد كذبه بعضهم ولكن حديث ابن خزيمة صحيح صححه الألباني – رحمه الله – وهو كما قال ، وإذ قد صح حديثا ابن عمر وابي سعيد وظاهرهما المنع من الإيتار بعد الصبح مطلقاً .(2/233)
والقاعدة الاصطلاحية أن ينظر بين الحديثين المتعارضين فإن أمكن الجمع بينهما عمل به وإلا رجع إلى الترجيح وهنا يمكن الجمع بأن يحمل حديث ابن عمر على أنه إذا طلع الفجر الثاني فقد ذهب وقت الأداء ويحمل حديث ابن عمر على أنه إذا طلع الفجر الثاني فقد ذهب وقت الأداء ويحمل حديث أبي سعيد أن من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له أداء ويحمل ما عدا ذلك من الأحاديث الدالة على الأمر بفعله بعد الفجر محمول على القضاء وكذلك فعل الصحابة له بعد طلوع الفجر يحمل على أنهم فعلوه قضاء وبهذا تجتمع الأدلة ويعمل بكل حديث في موضعه من غير تصادم بين الأدلة الشرعية ولا إطراح لبعضها . والله أعلم .
* * *
[126] : عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشر ركعة ، يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها(1) .
موضوع الحديث :
عدد ركعات صلاة الليل .
المفردات :
يوتر من ذلك بخمس : أي يجعلها وتراً لكونها متصلة بسلام وتشهد واحد .
المعنى الإجمالي :
تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بخمس متصلة لا يفصل بينها بتشهد ولا سلام .
فقه الحديث :
__________
(1) ... هذا الحديث ليس من شرط الكتاب ، فإن شرطه أن يكون من المتفق عليه وهذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه مسلم في باب : صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل رقم الحديث (737) ، وأما البخاري فقد أخرج قولها كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة دون قوله يوتر من ذلك بخمس .. الخ . برقم (1170) من طريق هشام بن عروة راوي هذا الحديث ، برقم
(1140) من طريق القاسم بن محمد عنها .(2/234)
أولاً : اختلفت الروايات عن عائشة رضي الله عنها في عدد صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل فرواية تقول كان يصلي إحدى عشرة ركعة أربعاً وأربعاً وثلاثاً ولا يزيد عليها لا في رمضان ولا في غيره وهي رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عنها(1) ، والرواية الثانية تقول كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر وهي رواية القاسم بن محمد عنها(2) .
والرواية الثالثة تقول كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ثم يصلي إذا سمع النداء الصبح ركعتين خفيفتين فتكون الثلاث عشرة من غير ركعتي الفجر ، وهذه الرواية توافق الحديث الذي نحن بصدد شرحه وهي رواية هشام بن عروة عنها(3) .
ومن أجل ذلك فقد أُدعى الاضطراب في حديثها في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل ونفى القرطبي ذلك وقال : وهذا – أي الاضطراب – إنما يتم لو كان الراوي عنها واحد أو أخبرت عن وقت الصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز(4) .
__________
(1) ... أخرجها البخاري في كتاب التهجد باب : قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان وغيره ، رقم الحديث 1147/2013/3569 فتح ، وأخرجه مسلم رقم 738 .
(2) ... أخرجها البخاري في كتاب التهجد باب : كيف كان صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكم كان يصلي من الليل ؟ ، رقم الحديث 1140 وأخرج مسلم نحوه من حديث عروة عنها رقم 124 صلاة المسافرين .
(3) ... أخرجها البخاري في كتاب التهجد باب : ما يقرأ في ركعتي الفجر رقم الحديث 1170 وأخرجها مسلم برقم 737 و 123 صلاة المسافرين وهي حديث الباب .
(4) ... الفتح (3/21) .(2/235)
قلت : الذي يظهر لي في الجمع بين هذه الروايتين أن عائشة رضي الله عنها أخبرت أبا سلمة بما علمته من فعله في بيتها في صلاة الليل وحدها ثم ضمت إليها ركعتي الفجر كما في الرواية الأخرى ثم علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيت ميمونة ثلاث عشرة من غير ركعتي الفجر فحدثت به كما في الرواية الثالثة والله أعلم .
ثانياً : يؤخذ منه عدد صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل وأنها لم تزد على ثلاث عشرة وإذا كان هذا عدد صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان وغيره فما حكم الزيادة على ذلك في التراويح ، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جمع الناس في خلافته على قارئ وأنهم كانوا يصلون إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين .
وإليك تفصيل القول في هذه المسألة مع بيان مذاهب العلماء فيها ، وبيان الراجح مؤيداً بالأدلة ، فأقول ومن الله أستمد العون وأسأله أن يلهمني الصواب :
أولاً : ينبغي أن نعلم أن النفل المطلق لم يرد في الشرع حصره في عدد معين ففي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن عمرو : " ألم أُخبر أنك تقوم الليل وصوم النهار " قال : إني أفعل ذلك ، قال : " فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينيك ، ونفهت نفسك ، وإن لنفسك حقاً ، ولأهلك حقاً ن فصم وأفطر ، وقم ونم "(1).
فلم يحده على عدد معين في قيام الليل ، ولم ينهه عن قيام كل الليل من أجل ذلك ، ولكن من أجل أن ذلك يؤدي إلى ضعف القوى وتلف الجسم ثم يؤدي بعد ذلك إلى الإخلال بالحقوق الواجبة لله أو للنفس أو الناس .
__________
(1) ... الفتح رقم 1153 (3/38) .(2/236)
ومثل ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت عندي امرأة من بني أسد فدخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : من هذه ؟ قلت : فلانة لا تنام الليل – تذكر من صلاتها - ، فقال : " مَهْ ! عليكم ما تطيقون من الأعمال ، فإن الله لا يملّ حتى تملوا "(1) .
فقوله :" عليكم ما تطيقون من الأعمال " تحديد للعمل بالطاقة وليس بالعدد وهو إن كان عاماً في جميع الأعمال إلا أن نوافل الصلاة تدخل في ذلك دخولاً أولياً ؛ لأنها السبب في صدور هذا القول من النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : "فإن الله لا يمل حتى تملوا" أي : أن الله لا يمل من إعطاء الثواب والأجر حتى تملوا من العمل .
ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر "(2)، وفي هذا كله دليل أن النفل المطلق لا يحدد بعدد معين بل يترك لكل إنسان فيه طاقته وجهده .
ومما يدل على ذلك أيضاً حديث عمرو بن عبسة الذي رواه مسلم في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها وفيه : فقلت : يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة ، قال : " صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذٍ يسجد لها الكفار ، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذٍ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس "(3).
__________
(1) ... فتح الباري . طبع الرئاسة العامة لإدارات البحوث (3/36) رقم الحديث (1151) .
(2) ... أخرجه الألباني في صحيح الجامع رقم الحديث 3764 وفي آخره : " فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر " .
(3) ... أخرجه مسلم في صحيحه باب : الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها .(2/237)
فقوله :" ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة أمر إباحة لا تحديد فيه ، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فصل واحدة .. " الحديث(1) يدل على إباحة الصلاة بدون عدد معين ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } (البقرة: من الآية148) . فالأمر بالتسابق إلى الخيرات عام يشمل النفل في الصلاة وغيره .
ثانياً : أن الناس كانوا يصلون في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر متفرقين ، هذا يصلي في بيته ، وهذا يصلي في المسجد ، وهذا يصلي وحده وهذا يصلي بصلاته الجماعة ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً منهم بعدد لا يتجاوزه .
فقد روى البخاري من طريق عبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه "(2) قال بان شهاب : فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس على ذلك ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما .
وعن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاعاً متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاة الرهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب ، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال : " نعم البدعة هذه " ، والتي ينامون عنها أفضل(3).
__________
(1) ... تقدم تخريجه في الباب .
(2) ... البخاري في باب التراويح ،رقم الحديث (2009) .
(3) ... البخاري في باب التراويح رقم الحديث (2010) .(2/238)
ثالثاً : أن تسمية أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - لجمع الناس على قارئ واحد بدعة وإنما هو من باب التجوّز لهضم نفسه وإلا فصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس الذين حضروا معه أتموا به فيها ثلاث ليال كافية لشرعية الجماعة في التراويح ولا ينافي الشرعية امتناعه عن الخروج إليهم في الليلة الرابعة لأنه قد بين السبب في عدم خروجه وهو خشية أن تكتب عليهم(1) .
رابعاً : قد صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أمر أبي بن كعب وتميم الداري أن يصليا بالناس التراويح إحدى وعشرين ركعة ، فكانوا يقرؤون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر (2).
وأخرج عبد الرزاق أيضاً عن السائب بن يزيد - رضي الله عنه - قال : كنا ننصرف من القيام على عهد عمر - رضي الله عنه - وقد دنا فروع الفجر ، وكان القيام على عهد عمر ثلاثة وعشرون ركعة(3) .
وأخرج ابن نصر في قيام الليل عن السائب بن يزيد أنهم كانوا يقومون في رمضان بعشرين ركعة ويقرؤون بالمئين من القرآن وأنهم كانوا يعتمدون على العصي في زمان عمر بن الخطاب .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في كتاب صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان رقم الحديث (2012) .
(2) ... أخرجه عبد الرزاق في المصنف من طريق داود بن قيس الفراء وهو ثقة حافظ من رجال مسلم عن محمد يوسف الكندي الاعرج وهو ثقة ثبت من رجال الشيخين عن السائب بن يزيد صحابي صغير حج به في حجة الوداع وهو ابن سبع سنين رقم الأثر 7730 .
(3) ... أخرجه في المصنف برقم 7733 من طريق الأسلمي عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن السائب بن يزيد والحارث بن عبد الرحمن صدوق يهم أخرج له مسلم أما الأسلمي فلم أعرفه ولفظه ثلاثة وعشرين ركعة هكذا وجدته في المصنف .(2/239)
والجمع بين هذه الآثار : أنهم كانوا أحياناً يوترون بواحدة فتكون إحدى وعشرين ، وأحياناً يوترون بثلاث فتكون ثلاثاً وعشرين ، وأحياناً يحكي التراويح بدون وتر ، ولا يعكر عليه ما رواه محمد بن نصر عن السائب بن يزيد .
أمر عمر ن الخطاب - رضي الله عنه - أبي بن كعب وتميم الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة ، وفي رواية : كنا نصلي في زمن عمر بن الخطاب في رمضان ثلاث عشرة ركعة ولكن والله ما كنا نخرج إلا في وجاه الصبح .
فالجمع بين هذه الآثار ممكن بحمل هذا الأثر والذي قبله على البدء والآثار المتقدمة على النهاية وتوضيح ذلك والله أعلم أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمرهم أن يقوموا بإحدى عشرة أو ثلاث عشرة يطيلون فيها القيام والركوع والسجود اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته ، وكانوا يصلون معظم الليل فطال عليهم ذلك وهذا ما يوحي به قوله : " وكانوا يعتمدون على العصي من طول القيام " فلعله قد اشتكى بعضهم إلى عمر فأمرهم أن يضعفوا عدد الركعات ليخف عليهم القيام فبدلاً من عشر وركعة أو ثمان وثلاث أو عشر وثلاث يصلون عشرين وركعة أو عشرين وثلاثاً ليكون في ذلك دفعاً لهمة الضعيف وإشباعاً لنهمة الراغب في العبادة وجمعاً بين مصلحة هؤلاء وهؤلاء فلو أبقى الأمر على ما كان عليه أولا من طول القيام والركوع والسجود مع عدد الركعات لا نقطع ضعيف الهمة ولو التزم تقصير القيام الركوع والسجود مع عدد الركعات التي علمت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي الإحدى عشرة والثلاث عشرة لبقي قوي الإيمان الراغب في العبادة المطبق لها يطلب الزيادة فكان في زيادة عدد الركعات وتخفيف القيام والقعود والركوع والسجود علاج حكيم يجمع بين رغبة الفريقين ولا يفوت على أحد منهم شيئاً ، وهذا إنما يكون حسناً في حق من احتاج إلى تكثير عدد الركعات ليشغل وقتاً طويلاً من الليل في العبادة من دون مشقة تحصل له بطول القيام .(2/240)
أما من كان يصلي عشرين ركعة بجزء أو نصف جزء مثلاً فالأفضل له أن يصلي ثمان ركعات بجزء أو نصف جزء مثلاً ويوتر بثلاث فإن أدى الأمر بالمصلي إلى الاستعجال المخل مع التزام عدد الركعات عشرين أو ثلاثين ، أو غير ذلك يرى أنه لزاماً عليه أن يأتي بها ولو بالإخلال بالركوع والسجود والاعتدال فأخشى على مثل هذا أن يكون آثماً لا مثاباً ، ومأزوراً لا مأجوراً ، فالله قد خاطب عباده باتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - دون غيره ، وأمرهم بطاعته دون سواه .
ولسنا ننكر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطاعتهم واتباع سنتهم حيث يقول عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ . إلا أن عمر - رضي الله عنه - لم يأمر بزيادة الركعات التي زادها إلا للعلة التي سبرناها سابقاً وهي المشقة الحاصلة بطول القيام لأنهم ما كانوا يخرجون من الصلاة إلا في وجاه الصبح أي الصبح الأول الذي يحل فيه السحور كما في الأثر السابق وورد في بعض الروايات أنهم كانوا إذا خرجوا يستعجلون الخدم بالسحور خوف الفوات بطلوع الفجر الثاني .
ومن ما فصلته تعلم أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الأكمل والأفضل وأن الزيادة عليه داخلة تحت عمومات القول فلا مكان للتبديع ، وأن من التزم عدداً معيناً كالعشرين أو ست وثلاثين أو غير ذلك كالتزام الفريضة ولو أخل بالقراءة أو الركوع والسجود فإنه قد أساء ويخشى عليه أن يبلغ به ذلك إلى شرك التحكيم .
وقد زعم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله – في صلاة التراويح له وهي الرسالة الثانية من كتاب تسديد الإصابة له ، أن التراويح لم يثبت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلاها عشرين ثم قال : تحقيق الأخبار الواردة في ذلك وبيان ضفعها ... ثم ساق الآثار الواردة في ذلك وضعفها جميعاً بتحامل شديد .(2/241)
وأنا مع احترامي للشيخ الألباني – رحمه الله – وحبي إياه ؛ أرى أنه قد جازف في ذلك ، إذ أن الأمر بالعشرين قد ثبت بنقل العدل عن العدل المؤيد بالعمل المستمر على ذلك الذي تؤكده الآثار المستفيضة التي تدل أن السلف قد فهموا أن النفل المطلق لا تحديد فيه ؛ بل يترك لكل إنسان فيه طاقته وجهده ، وأن ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإحدى عشرة والثلاث عشرة مع طول القيام والركوع والسجود هو الأفضل وأن من خفف القيام والركوع والسجود وكثر عدد الركعات فإن ذلك جائز له ما لم يصل التخفيف إلى حد الإخلال الممقوت .
أما كون العدد الذي صلاه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو اللازم الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه أو يقصر عنه فهذا مردود بأمور :
أولاً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحداً بالتزام ذلك العدد الذي كان يصليه صلوات الله وسلامه عليه فلا يزيد عليه ولا يقصر عنه ولو فعل لتحول التطوع إلى فرض وهذا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذره على أمته .
ثانياً : أنا قد قدمنا نقل أحاديث صحاح تدل على أن النفل المطلق لا تحديد فيه بل هو موكول إلى الطاقة والجهد والرغبة في العبادة .
ثالثاً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ بالأفضل مع التوسط في العدد واليسير الذي يلائم الكثرة الكاثرة من أمته من دون مشقة تحصل عليهم وقد كان صلوات الله وسلامه عليه يحب اليسر وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما .
رابعاً : أنه لا يختلف اثنان فيما أعلم أنه لو قام أحد الليل كله بركعتين أو أربع لاعتبر قد قامه ولا يستطيع أحد أن يقول أنه مبتدع أو مخالف للسنة أو عاص لله ، وقد ورد عن بعض السلف أنهم قرأوا القرآن كله في ليلة وفي ركعة(1) أو ركعتين .
__________
(1) ... أخرج ذلك الطحاوي في معاني الآثار 1/294 طبع بيروت 1399 عن عثمان رضي الله عنه وأخرجه المقريزي في مختصر قيام الليل .(2/242)
خامساً : أن أهل العلم قد اختلفوا هل الأفضل طول القيام والركوع والسجود مع قلة الركعات أو تكثير الركعات مع تخفيف القيام والركوع والسجود ، وفي ذلك حديثان مختلفان(1) وقد نقل محمد بن نصر عن الشافعي أنه فضل طول القيام والركوع والسجود ، وأما الإمام أحمد فقد نقل عنه التوقف(2) .
سادساً : من المعلوم أن طاقات الناس تختلف في القوة والضعف وفي شرعية الوجهين تيسير على أمة محمد ليعمل كل واحد أو كل جماعة على قدر حالهم فالذين يشق عليهم طول القيام ويريدون مع ذلك أن يشغلوا وقتاً طويلاً في العبادة ، فلا شيء عليهم أن يكثروا عدد الركعات ويقصروا القيام ، وهذا في رأيي هو الذي حمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يأمر بإضعاف عدد الركعات من عشر إلى عشرين مع الوتر ليجمع بين المصلحتين فيكون في ذلك دفعاً لهمة الضعف وإشباعاً لنهمة الراغب في العبادة .
__________
(1) ... أحدهما : حديث جابر عند الترمذي رقم 385 باب ما جاء في طول القيام مرفوعاً : أي الصلاة أفضل ؟ قال : طول القيام . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .
والثاني : حديث ثوبان وأبي الدرداء رقم 368 : " ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة ، وحط عنه بها خطية " . وقال : حسن صحيح .
(2) ... مختصر قيام الليل للمقريزي 96 ، والترمذي باب ما جاء في كثرة الركوع والسجود ونقل أيضاً عن إسحاق أنه فضل تكثير الركعات في النهار وفضل طول القيام في الليل ، لأنه ورد وصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل ولم يرد وصفها في النهار .
قلت : وفي ذلك دلالة على اتفاقهم على جواز الزيادة على ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل وإنما اختلفوا في الأفضل .(2/243)
سابعاً : أن حديث " صلوا كما رأيتموني أصلي " يحمل على الكيف والكم في الفرائض والسنن الرواتب ، وأعنى بالكيف والكم أي كيف نصليها وكم نصليها ؟ فلا يجوز أن نصلي المغرب أربعاً ، ولا أن نصليها ثلاثاً بتشهد واحد وسلام .
أما النفل المطلق كصلاة الليل فيحمل فيه حديث " صلوا كما رأيتموني أصلي " أن المراد به الكيف لا الكم ، أي فالأمر فيه محمول على الكيفية لا على العدد ؛ لأن الأحاديث الدالة على عدم التحديد فيه مخصصة لهذا الحديث على وجوب التأسي في الكيفية لا في العدد ، ولا مانع أن يكون الأفضل التأسي به أيضاً في العدد فيكون صارفاً له من الوجوب إلى الندبية . والله أعلم .
ثامناً : أنه لا منافاة بين المرفوع والموقوف إذ الجمع ممكن بحمل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإحدى عشرة والثلاث عشرة على الأفضل ، وما ثبت عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - من الأمر بالعشرين على جواز الزيادة على ذلك إذا دعت الحاجة .
وقد عُلم من القاعدة الأصولية أنه لا يجوز الانتقال إلى الترجيح إلا عند تعذر الجمع(1) ؛ ذلك لأن الجمع يعمل فيه بالنصين معاً ، أما الترجيح لأحدهما فلابد فيه من إلغاء أحد النصين بتضعيفه ، أو الحكم بشذوذه ، أو نسخه .
ومن هنا نعلم أن تضعيف هذه الآثار وتلمس القدح في رواتها العدول أمر لا ينبغي .
تاسعاً : وإلى القارئ الكريم رد ما قدح به الشيخ الألباني – رحمه الله – في رواية العشرين ، والله يعلم أني لم أكتب هذا الرد انتصاراً لمذهب ولا تحيزاً إلى أحد ، ولكن كتبته بياناً للحق الذي ظهر لي بعد البحث والتأمل للنصوص ، مع أني قد كنت برهة من الزمن أعتقد ما اعتقده الشيخ الألباني في هذه المسألة .
__________
(1) ... ممن نص على عدم جواز الانتقال إلى النسخ أو الترجيح ابن الصلاح في المقدمة ، النوع 36 ، والشيخ حافظ بن احمد الحكمي في دليل أرباب الفلاح ص36 .(2/244)
فأقول : روى مالك في الموطأ من طريق محمد بن يوسف الكندي عن السائب ابن يزيد الكندي أنه قال : أمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أبيّ بن كعب وتميماً الداري – رضي الله عنهما – أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة ، قال : وقد كان القارئ يقرأ حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام ، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر(1) .
قال الشيخ الألباني في صلاة التراويح (ص52) : قلت : إسناده صحيح جداً ، فإن محمد بن يوسف شيخ مالك ثقة اتفاقاً واحتج به الشيخان(2) ، والسائب بن يزيد صحابي حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير .
وقد تابع مالكاً على الإحدى عشرة ركعة يحيى بن سعيد القطان(3) عند أبي شيبة ، وإسماعيل بن أمية وأسامة بن زيد ومحمد بن إسحاق عند النيسابوري ، وإسماعيل بن جعفر المدني عند ابن خزيمة ، كلهم قالوا عن محمد بن يوسف به إلا ابن إسحاق ، فإنه قال ثلاث عشرة . اهـ.
وقلت : فإذا كان مالك قد روى عن محمد بن يوسف الإحدى عشرة وتابعه جماعة من الثقات على ذلك ، فقد خالفه داود بن قيس الفراء أبو سليمان القرشي مولاهم المدني عند عبد الرزاق في المصنف (4/260) فقال عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة يقرؤون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر .
__________
(1) ... صلاة التراويح للألباني (ص52) عزاه للموطأ في قيام الليل .
(2) ... محمد بن يوسف بن عبد الله الكندي المدني الأعرج ، ثقة ثبت من الخامسة ، مات في حدود الأربعين ورمز له خ م ت س . التقريب (2/221) ، وقال الذهبي في الكاشف عنه : صدوق مقل . الكاشف(5322) .
(3) ... يحيى بن سعيد بن فروخ الحافظ الكبير ، أبو سعيد التميمي مولاهم البصري .(2/245)
وإذا كان مالك مجمع على توثيقه محتج به في الصحيحين فإن داود بن قيس مجمع على توثيقه محتج به في الصحيحين ، وقد أثنى عليه أئمة هذا الشأن ووثقوه(1) .
أما قوله – رحمه الله - : ولا يجوز أن تعارض هذه الرواية – يعني رواية مالك المتقدمة – الصحيحة بما رواه عبد الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف بلفظ إحدى وعشرين لظهور خطأ هذه الرواية من وجهين :
الأول : مخالفته لرواية الثقة المتقدمة بلفظ إحدى عشرة .
الثاني : أن عبد الرزاق قد تفرد بروايته على هذا اللفظ ،فإن سلم ممن بينه وبين محمد بن يوسف فالعلة منه – أعني عبد الرزاق - لأنه وإن كان ثقة حافظاً ومصنفاً مشهوراً فقد كان عمي في آخر عمره ، فتغير(2) .
والجواب على هذا سهل : فإن عبد الرزاق ثقة مخرّج له في الصحيحين ، وقد خرج هذا الأثر في أول كتابه المصنف الذي هو أكثر من عشر مجلدات ضخام ، فهل يستطيع الشيخ أن يقول إنه ألف كتابه هذا بعد أن عمي ؟ لا إخاله يقول ذلك ، والذي يقطع به أنه قد ألف كتابه هذا في وقت قوته وصحته والاختلاط إنما حصل له بعد أن عمي في آخر عمره الذي بلغ خمساً وثمانين سنة(3) .
__________
(1) ... فقال عنه الشافعي ثقة حافظ ، وقال أبو طالب عن أحمد ثقة وقال يحيى بن معين كان صالح الحديث وهو أحب إلى هشام وقال أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي ثقة زاد أبو حاتم وهو أحب إلينا من هشام بن سعد وكان القعنبي يثني عليه وقال ابن سعد عن القعنبي : ما رأيت بالمدينة رجلين كانا أفضل من داود بن قيس ومن الحجاج بن صفوان ، وقال ابن المديني : داود بن قيس ثقة اهـ . التهذيب 3/198 .
(2) ... صلاة التراويح له (ص55) .
(3) ... عبد الرزاق بن هشام بن نافع الحميري مولاهم ، أبو بكر الصنعاني ، ثقة حافظ ، ومصنف شهير ،عمي في آخر عمره فتغير ، وكان يتشيع ، من التاسعة مات سنة 211هـ. وله خمس وثمانون سنة ، روى له الجماعة . القريب (4064) ، وترجمه في التهذيب (6/310) ، وفي سير أعلام (9/563) .
قال أحمد بن صالح المصري : قلت لأحمد بن حنبل : رأيت أحداً أحسن من عبد الرزاق ؟ قال : لا . وقال الذهبي آدم بن موسى سمعت البخاري يقول : عبد الرزاق ما حدث من كتابه فهو أصح ، وقال يحيى بن معين لمحمد بن إسماعيل الصراري في قصة ... عبد الرزاق : ما تركنا حديثه . قلت : لا أشك أنه قد أودع مصنفه خلاصة ما كتب وجمع ، والله أعلم .(2/246)
ومن جهة أخرى فإن كان عبد الرزاق قد تفرد بهذا الرواية عن داود بن قيس فإن داود بن قيس لم يتفرد بها عن محمد بن يوسف ، والدلالة على ذلك قول عبد الرزاق – رحمه الله – في هذا السند عن داود بن قيس وغيره ، وكأنه لم يذكر أسماء الذين شاركوا داود بن قيس للاختصار ، واكتفى بعدالة داود بن قيس لشهرتها .
ثانياً : أن محمد بن يوسف قد تفرد براوية الإحدى عشر التي رواها مالك عنه عن السائب ولم يتفرد برواية الإحدى والعشرين التي رواها عنه داود بن قيس بل رواها معه يزيد بن عبد الله بن خصيفة والحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذياب ، عن السائب - رضي الله عنه - ، فكيف نحكم بالشذوذ على روايته التي وافق فيها ثقتين ، ونجعل المحفوظ ما انفرد به ؟ لا أشك أن مثل هذا التصرف يتنافى مع القواعد الحديثية (1).
__________
(1) ... لأن القاعدة أن ما انفرد به الثقة هو الذي يكون شاذاً لا ما وافق فيه الثقات ، ومحمد بن يوسف قد انفرد بالإحدى عشرة ووافق الثقات في العشرين ، إلا أنه لا ينبغي الحكم على إحدى عشر بالشذوذ كما قلت : لأن الجمع بينهما ممكن كما سبق ، وبه جمع البيهقي (2/496) .(2/247)
فقد روى البيهقي في السنن من طريق يزيد بن خصيفة(1) عن السائب بن يزيد - رضي الله عنه - قال : كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في شهر رمضان بعشرين ركعة ، قال : وكانوا يقرأون بالمئين ، وكانوا يتوكأون على عصيهم في عهد عثمان - رضي الله عنه - من شدة القيام .
وأخرج عبد الرزاق في المصنف من طريق الأسلمي عن الحارث بن عبد الرحمن(2) بن أبي ذياب عن السائب بن يزيد - رضي الله عنه - قال : كنا ننصرف من القيام على عهد عمر وقد دنا فروع الفجر ، وكان القيام على عهد عمر ثلاثة وعشرين ركعة .
قلت : ولا تنافي بين رواية العشرين ورواية الإحدى وعشرين ورواية الثلاث والعشرين ، فرواية العشرين بحذف الوتر ورواية الإحدى وعشرين باعتبار الوتر ركعة ، ورواية الثلاث والعشرين باعتبار الوتر ثلاث ركعات .
__________
(1) ... يزيد بن عبد الله بن خصيفة وخصيفة هو أخو السائب ابن يزيد بن سعيد بن أخت نمر الكندي المدني الفقيه ، وثقه يحيى بن معين ، وقال ابن سعد : كان ثبتاً عابداً ناسكاً ، كثير الحديث . سير أعلام النبلاء (6/157) ، التقريب ترجمة (7738) ، وترجمه في التهذيب (11/340) ، نقل الأثرم عن أحمد وأبي حاتم والنسائي أنهم قالوا ثقة ، وقال ابن معين : ثقة حجة ، وعن أحمد أنه قال : منكر الحديث . قلت : قول أحمد مع الجماعة خير من قوله وحده . والله أعلم .
(2) ... الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذياب الدوسي المدني ، صدوق يهم ، من الخامسة م ت س ق . التقريب (1030) ، وترجمه في التهذيب .(2/248)
ثالثاً : أن القاعدة في رواية الثقة إذا خالفت الثقات أنها إما تكون منافية لرواية من هو أوثق بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، ففي هذه الحالة يحكم بشذوذها(1) ، وإما أن تكون غير منافية فيكون حكمها حكم حديث مستقل ، فتقبل سواء كانت مقيدة لإطلاق المحفوظ أو مخصصة لعمومه ، أو تفيد حكماً مستقلاً ، وقد قبل أهل العلم زيادة مالك – رحمه الله – في حديث زكاة الفطر حيث قال غيره : على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير ، وزاد هو : من المسلمين ، فكانت مقيدة لإطلاق المحفوظ ، فلم يوجبوا الزكاة إلا على المسلمين من الأرقاء(2).
فإذا قلنا أن داود بن قيس قد تفرد بهذه الزيادة وهي رواية الإحدى وعشرين فإن تفرده لا يعتبر شذوذاً ولو كان وحده ؛ لأن روايته لاتنافي المحفوظ ، وقد قالوا : زيادة الثقة مقبولة ، أما وقد وافقه غير محمد بن يوسف وعضدت هذه الرواية عن محمد بن يوسف رواية يزيد بن خصيفة وهو ثقة مخرج له في الصحيحين ، والحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذياب وهو ثقة خرّج له مسلم فكيف نحكم عليها بالشذوذ ؟ .
__________
(1) ... قال في دليل أرباب الفلاح (ص33) : حكمها أي زيادة راوي الحسن والصحيح القبول ما لم تقع منافية لرواية من هو أرجح بحيث يلزم من قبولها رد الأخرى ، فإن كانت منافية بحيث يلزم من قبولها رد الأخرى رجع إلى الترجيح . اهـ.
(2) ... مقدمة ابن الصلاح ، النوع السادس عشر : زيادات الثقات .(2/249)
رابعاً : فإن قيل أن محمد بن يوسف ابن أخب السائب فتقدم روايته لأنه أضبط لحديث خاله ، قلنا : ورواية يزيد بن عبد الله خصيفة أيضاً لا تقل عن رواية محمد بن يوسف في الضبط ؛ لأنه ابن ابن أخيه فخصيفة جد يزيد هو أخو السائب كما جزم بذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء(1)، وذكر الحافظ في التهذيب عن ابن عبد البر غير مجزوم به(2) ، وعلى هذا فلا يكون أحدهما أولى من الآخر بالضبط لحديثه .
__________
(1) ... النبلاء (6/157) .
(2) ... التهذيب (11/340) وسماه يزيد بن عبد الله بن خصيفة .(2/250)
خامساً : ولرواية العشرين شاهدٌ من حديث أبي جعفر الرازي عيسى بن عبد الله بن ماهان(1) ، عن الربيع بن أنس(2) ، عن أبي العالية الرياحي(3) ، عن أبي ابن كعب أن عمر أمر أبيّاً أن يصلي بالناس في رمضان فقال إن الناس يصومون ولا يحسنون أن يقرأوا فلو قرأت القرآن عليهم بالليل ، فقال يا أمير المؤمنين هذا شيء لم يكن ، فقال قد علمت ولكنه أحسن فصلى بهم عشرين ركعة .
__________
(1) ... أبو جعفر الرازي عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان الرازي التميمي مولاهم ، مشهور بكنيته ، صدوق سيئ الحفظ خصوصاً عن مغيرة ، مات في حدود 160هـ.
(2) ... الربيع بن أنس البكري أو الحنفي بصري نزل خراسان ، صدوق له أوهام ، مات 140هـ.
(3) ... أبو العالية الرياحي رفيع بن مهران ، ثقة كثير الإرسال ، من الثانية روى له الجماعة ، أدرك زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو شاب ، وأسلم في خلافة أبي بكر وسمع من عمر وعلي وأُبيّ وأبي ذر وابن مسعود وزيد وعائشة وحفظ القرآن على أبي ، وتصدر لإفادة العلم وبَعُد صيتُه ، قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء فيما قيل وما ذاك ببعيد ، قال : كنا عبيداً مملوكين ، منا من يؤدي الضرائب ومنا من يخدم أهله ، فكنا نختم كل ليلة فشق علينا ، فلقينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلمونا أن نختم كل جمعة ، فصلينا ونمنا فلم يشق علينا . اهـ التقريب رقم (1953) ، النبلاء (4/207) .(2/251)
ولكن هذا الأثر ضعفه الألباني بأبي جعفر الرازي عيسى بن ماهان وهو وإن كان فيه كلام إلا أن الكلام فيه كله يدور حول سوء حفظه وكثرة وهمه ، ولم يقدح أحد من علماء الجرح والتعديل في عدالته ، ومثل هذا لا يوجب رد روايته ولكن يوجب التوقف فيما يرويه حتى يوجد له شاهد ، فإن وجد له شاهد علم أنه مما حفظه ولم يخطئ فيه كما هو معلوم من علم المصطلح(1) .
سادساً : أن رواية العشرين قد أيدتها آثار كثيرة فمنها أثر عن علي من طريق عبد الله بن قيس عن شُتير بن شكل(2) وكان من أصحاب علي - رضي الله عنه - أنه كان يؤمهم في شهر رمضان بعشرين ركعة ويوتر بثلاث ، وفي ذلك قوة(3) .
ومنها أثر عن أبي الحسناء عن علي بمعناه وأبو الحسناء مجهول ، فإن كانت جهالته جهالة حال فقد تقوى بالآثار الأخرى ، ورواه عنه أبو سعد البقال سعيد بن المرزبان عند البيهقي وهو ضعيف ، وعمرو بن قيس لعله الملائي عند ابن أبي شيبة ، وعمرو بن قيس ثقة خرّج له مسلم(4) .
ومنها أثر عن علي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي ، وفي سنده عطاء الخراساني(5) ، قال في التقريب صدوق يهم ويرسل ويدلس كثيراً .
__________
(1) ... قال ابن حجر في شرح النخبة : الحسن لغيره هو رواية المستور والمرسل والمدلس وسيئ الحفظ إذا اعتضد بمعتبر ؛ لأن كلا من الطرق الموصوفة بذلك يحتمل كونه صواباً أو غير صواب ، فيتوقف فيه حتى توجد قرينة ترجح أحد الاحتمالين اهـ. قلت : وحديث أبي جعفر من هذا القبيل . دليل أرباب الفلاح 31/ نزهة النظر . وانظر مقدمة ابن الصلاح ، قسم الحسن . النوع الثالث .
(2) ... شُتير بن شكل مصغراً العبسي الكوفي يقال إنه أدرك الجاهلية ، ثقة من الثالثة 62/27 التقريب رقم 2762 . روى له الأربعة ومسلم والبخاري في خلق أفعال العباد .
(3) ... البيهقي في السنن (2/496) ، طبع دار الفكر .
(4) ... انظر : الجوهر النقي لابن التركمان بذيل سنن البيهقي (2/496) .
(5) ... انظر : البيهقي (2/496) .(2/252)
ومنها أثر عن عبد الله بن مسعود من طريق زيد بن وهب ولفظه : كان يصلي بنا في شهر رمضان فينصرف وعليه ليل ، قال الأعمش : كان يصلي عشرين ركعة ويوتر بثلاث وسنده صحيح(1) .
ومنهما أثر عن يزيد بن رومان : كان الناس يقومون في رمضان بعشرين ركعة ويوترون بثلاث ، رواه في الموطأ وسنده صحيح .
ومنها أثر عن سويد بن غفلة من طريق أبي الخصيب قال : كان يؤمنا سويد بن غفلة في رمضان فيصلي خمس ترويحات عشرين ركعة ، وسنده صحيح(2).
وآثار أخرى عن محمد بن سيرين ، ووهب بن كيسان ، وصالح مولى التوأمة ، ونافع ، وسعيد بن جبير ، وزرارة بن أوفى ، والحسن البصري ، وأبي مجلز وغيرهم .
والخلاصة : فإن هذه الآثار وإن كان في بعضها ضعفٌ ، وفي بعضها انقطاع إلا أنها كلها مروية عن التابيعن ، إما من فعلهم أو حكاية فعل عن قدماء الصحابة كعمر وعلي وأبيّ وعبد الله بن مسعود ومجموعة يعطي دلالة قوية على صحة ما نقل عن عمر - رضي الله عنه - للأمور الآتية :
الأول : أن الانقطاع بين الصحابي والتابعي فيه احتمال أن يكون الواسطة صحابي لذلك فهو في حكم المرسل ، وقد قالوا عن المرسل هو مرفوع التابعي وجعلوه مما يجب التوقف فيه ، حتى يوجد له عاضد مثله في القوة يرفعه من وهدة التوقف إلى أدنى درجات القبول .
الثاني : أن القدماء كان الإرسال في غير الحديث النبوي عندهم كثير ، لأنهم كانوا يقصدون به حكاية الفعل لا الرواية فيروى كذلك .
الثالث : أن هؤلاء التابعين الأخيار الذين صح عنهم أنهم صلوا التراويح عشرين أو أكثر ، لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن صح عندهم عن الصحابة إما بالمشاهدة أو بالنقل .
__________
(1) ??? ... قدح الألباني في قول الأعمش "كان يصلي عشرين ركعة" بأنه منقطع .
قلت : المرسل إذا تقوى بمرسل بلغ درجة القبول وهذا مرسل .
(2) ... ورواه البيهقي أيضاً (2/496) .(2/253)
الرابع : وهو الذي سوغ هذه الزيادة عند الجميع في اعتقادي ، وهو عدم التحديد في النفل المطلق ومنه قيام الليل في رمضان أو في غيره قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } (المزمل:1-4) . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " فعلقه بمجرد القيام من غير تحديد بعدد ، وقد تقدم الاستدلال على هذه الفقرة بما فيه كفاية .
الخامس : أن صلاة التراويح عشرين ركعة أو أكثر كان عند التابعين ومن بعدهم أمراً مشاهداً ، لا يحتاج إلى دليل ، فإن حكى أحدٌ شيئاً من ذلك فإنما يحكون ابتداء الجماعة في التراويح وابتداء القيام بعشرين أو أكثر ، ومما يدل علىذلك ما حكاه بعض من ألف في الآثار كعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن نصر في قيام الليل ومالك في الموطأ عن داود بن قيس قال : أدركت أهل المدينة(1) في زمان أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز يصلون ستاً وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث .
ومالك يروي عن يزيد بن رومان المتوفى في سنة 113هـ أن الناس كانوا يقومون بعشرين ركعة ويوترون بثلاث ، وابن نصر يروي عن مالك من طريق ابن القاسم أن جعفر بن سليمان سأله – يعني سأل مالكاً - : أننقص من قيام رمضان ؟ فنهاه عن ذلك ، فقيل له : قد كره ذلك ؟ قال : نعم ، وقد قام الناس هذا القيام قديماً ، قيل له : فكم القيام ؟ قال : تسع وثلاثون ركعة بالوتر(2) .
وروى محمد بن نصر أيضاً من طريق الزعفراني عن الشافعي : رأيت الناس يقومون بالمدينة تسعاً وثلاثين ركعة ، وأحب أليّ عشرون ، وكذلك يقومون بمكة .
__________
(1) ... كذا في مختصر المقريزي ولعله : أدركت أهل المدينة . مختصر قيام الليل ص95 .
(2) ... مختصر قيام الليل للمقريزي ص96 .(2/254)
قال : وليس في شيء من هذا ضيق ولا حد ينتهي إليه ، لأنه نافلة ، فإن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن ، وهو أحب إليّ ، وإن أكثروا الركوع والسجود فحسن(1).
قال الشافعي في الأم(2) : فأما قيام رمضان فصلاه المنفرد أحب إليّ منه ، ورايتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين ، وعشرون أحبّ إليّ ، وكذلك يقومون بمكة ويوترون بثلاث .
وأخيراً : فقد حققت هذا الموضوع واطلعت فيه كثيراً نظراً للخلاف المستمر فيه والحاجة إليه ، فإن كنت قد أصبت فذلك بتوفيق الله ، وإن كنت قد أخطأت فذلك مني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان من خطئي .
إلا أني أعتب كثيراً على الذين اتخذوا هذا البحث تُكئة للنيل من عرض الشيخ الألباني – رحمه الله – هذا العالم الجليل الذي أفنى عمره في خدمة السنة المطهرة واتهامه بالانحراف عن منهج الإسلام السوي ، والتصدي للزعامة ، وأنه أخذه الغرور بنفسه ، وأنه يدعي العبقرية الفذة وبلوغ مرتبة الاجتهاد ، وأنه يعتني بالأمور الفرعية الجزئية ويترك أمور العقيدة(3) ، إلى غير ذلك مما قالوه فيه زوراً وبهتاناً .
وأقول : إذا كان الشيخ – رحمه الله – قد أدى به اجتهاده إلى أن يحكم بالبدعة على صلاة التراويح عشرين ركعة أو أكثر ، وعلى التسبيح بالسبحة ، وعلى الوقوف للقادم ، والذكر جماعة وغير ذلك ، فإن له أن يقول ما يعتقد ويعلن رأيه كعالم بالشريعة له حق القول بما ظهر له من الأدلة الشرعية(4) .
__________
(1) ... مختصر قيام الليل 96 .
(2) ... الأم للشافعي (1/125) .
(3) ... انظر : مقدمة الهدي النبوي الصحيح للصابوني .
(4) ... والحق معه في بعض هذه الأحكام ، وقد قال بذلك غير واحد من أهل العلم .(2/255)
وإن كان قد يشذ في الحكم أحياناً فإنه ليس بمعصوم ، وهو كغيره من الناس الذين يجوز عليهم الخطأ ، وعلى الآخرين أن يبينوا الخطأ إن حصل بأدب واحترام وبدون تهجم على عرضه ورميه بما ليس فيه ، بل بالمناظرة الهادئة التي يتوصل بها إلى الحق من غير إثارة(1) .
ولقد قرأتُ مقدمة الكتاب المسمى بـ" الهدي النبوي الصحيح " فرأيت مؤلفه تهجم على عرض الألباني – رحمه الله – من غير أن يصرح باسمه ، ورأيته يذم أسباب الخلاف وهو يثيرها ، ويعيب أموراً وهو واقع فيما هو أعظم منها ، وما أراه فعل ذلك إلا متأثراً بأشعريته التي ما زالت تغلي في عروقه رغم التقائه بعلماء السنة في المملكة العربية السعودية ، ورغم أنه قد وُجه إليه النصح ولابد فيما نظن ، إلا أنه قد بقي منها بقايا وضعها في تفسيره "صفوة التفاسير" كتفسير الوجه بالذات والساق بالشدة(2) دأب الأشاعرة .
علماً بأن الخلاف في الأحكام الفرعية قد حصل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده بين الصحابة ، فلم يوجب ذلك عتباً ولا مشاتمة ولا وقوعاً في الأعراض ، فقد صح أن الصحابة كانوا يسافرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنهم من يصوم ، ومنهم من يفطر ، ولا يعيب أحدٌ منهم على أحدٍ(3) ،
__________
(1) ... كما فعل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله وجزاه الله خيراً – في رده على الألباني في القول ببدعية وضع اليدين على الصدر بعد الركوع .
(2) ... وانظر إلى تفسير قوله تعالى { يد الله فوق أيديهم } في سورة الفتح وتفسير قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } .
(3) ... أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/50) عن أبي سعيد الخدري وأخرجه مسلم (1116/1117) ، وأبو داود رقم
(
2406) في الصوم ، والترمذي في الصوم (713/713) ، والنسائي .(2/256)
وكانوا معه في حجة الوداع فمنهم الملبي ، ومنهم المسبَّح ومنهم المكبَّر ، ولم يعب أحدٌ منهم على أحدٍ(1) ، ونادى منادي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه من غزوة الخندق أن لا يصلينَّ أحدٌ منكم العصر إلا في بني قريظة ، فمنهم من صلى العصر في الطريق ، ومنهم من أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة ولم يصلها إلا بعد المغرب ، ولم يصل العصر إلا بعد المغرب ، فلم يعنف النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً منهم ، وهذا الحديث هو الدليل على إمكان الاجتهاد وعدم إحالته ، وفيه ردٌ على من يزعم إحالة الاجتهاد بعد الأئمة الأربعة ، وقد حصل الخلاف بين الصحابة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يوجب عتباً من بعضهم ، ولا شتماً من بعضهم لبعض ، ولا تقاطعاً ولا تدابراً بينهم ، ولو ذهبنا نستعرض الأحاديث الدالة على ذلك لطال علينا ، ولكني سأذكر قصة واحدة تدل على ما ورائها .
ذكر البيهقي في السنن الكبرى وابن قدامة في المغني بصيغة التمريض ، أن عبد الله ابن مسعود قال لسعد بن أبي وقاص : لم توتر بواحدة ؟ فقال له سعد : وأنت ألست تورث ثلاث جدات فهلا ورثت حواء امرأة آدم(2)، فهذا يدل على أنهم أثاروا هذا الخلاف وقلوبهم مليئة بالحب والإخاء ، أما الخلاف في العقيدة فلم يكن بينهم شيء منه .
__________
(1) ... أخرجه البخاري في العيدين باب : التكبير أيام منى وإذا غدى إلى عرفة عن أنس رقم (970) .
(2) ... البيهقي في السنن (6/235) بلفظ وروى عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : أنتم الذين تفرضون لثلاث جدات ؟ كأنه ينكر ذلك ، وفي رواية أخرى : ورثت حواء من بعلها وإسناده ليس بذاك ، وقال ابن قدامة في المغني (9/56تحقيق التركي) : وحكى عن سعد بن أبي وقاص أنه أوتر بركعة فعابه ابن مسعود قال سعد : أتعيرني وأنت تورث ثلاث جدات ؟ اهـ.(2/257)
وعندما حدثت بدعة القدر التي أول من قال بها معبد الجهني ، وبلغ عبد الله بن عمر قال لمبلغه : أخبر أولئك أني منهم براء وأنهم براءآء مني ، ثم أنشأ يحدث بحديث أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصول الإيمان ، ولقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يثورون ويغضبون كأشد ما تكون الثورة والغضب على من ردّ السنة أو استهان بها .
ففي صحيح مسلم وغيره أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " فقال ابنه بلال : والله لنمنعهن . قال : فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبّاً سيئاً ما سمعته سبّه مثله قط وقال : أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول والله لنمنعهن ؟(1) . وقال في الفتح : وقع في رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عند أحمد : فما كلمه حتى مات .
وفي مسند الإمام أحمد – رحمه الله – عن ثابت أن أبا بكرة قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخذف ، فأخذ ابن عم له فقال : عن هذا ؟ وخذف ، فقال : ألا أراني أخبرك عن رسول الله نهى عنه ، وأنت تخذف ؟! والله لا أكلمك عزمه ما عشت أو ما بقيت ، أو نحو هذا (2).
__________
(1) ... رواه مسلم بلفظ : "لا تمنعوا نسائكم المساجد إذا استأذنكم إليها" ، في باب : خروج النساء إلى المساجد (4/161) ، ورواه البخاري بدون هذه الزيادة ، ورواه أبو داود رقم (568) باب : ما جاء في خروج النساء إلى المسجد ،ولم يسم إلا الذي قال تلك المقالة .
(2) ... مسند الإمام أحمد (5/46) .(2/258)
وفي المسند أيضاً من طريق أيوب عن سعيد بن جبير أن قريباً لعبد الله بن مغفل خذف فنهاه وقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف ، وقال : إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً ، ولكنها تكسر السن ، وتفقأ العين " ، قال : فعاد ، قال حدثتك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها ثم عدتَ ، لا أكلمك أبداً(1) .
وبذلك تعلم أن الصابوني تدفعه أشعريته وبدعته إلى رمي الشيخ الألباني بما ليس فيه ، وقبله أبو غدة قد رماه بحب الزعامة والتطلع إلى الشهرة ، ولم يكن لهؤلاء هدف سوى التنقص لمن يمكنهم تنقصه والقول فيه من أهل السنة تنفيساً عما في قلوبهم من الغيظ على أهل السنة ، شأنهم شأن من قبلهم في التهجم على أهل السنة كما فعل الكوثري في تهجمه على علماء السنة عامة وعلى شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم خاصة ، انظر "التنكيل" للمعلمي فترى أنه تكلم في أحمد بن حنبل والشافعي وسفيان الثوري وحماد بن سلمة وغيرهم انتصاراً لأشعريته أولاً ولحنفيته ثانياً ، ظن أن ذلك يشفي غليله ، وكم وكم من الأشاعرة من تكلم في أهل السنة وسماهم حشوية ومجسمة ؟! فإلى الله المشتكى وعنده الملتقى .
ثالثاً : يؤخذ من هذا الحديث كيفية من كيفيات الوتر وهي ثلاث عشرة ركعة ، منهن خمس متصلة بتشهد وسلام ، ويحتمل أن تكون الثمان التي قبلها مثنى مثنى أو أربعاً أربعاً فيحصل من ذلك صورتان .
أما الخمس فالحديث صريح أنه لا يجلس إلا في آخرها ، وهذه صورة من صور الوتر وكيفية من كيفياته ، وقد ذكر ابن حزم في المحلى أن للوتر ثلاث عشر وجهاً أيها فعل المصلي أجزأه :
__________
(1) ... مسند الإمام أحمد (5/55) .(2/259)
الأول : قال : وأحبها إلينا وأفضلها أن نصلي ثنتي عشرة ركعة ، نسلم من كل ركعتين ، ثم نصلي ركعة ونسلّم(1) .
الثاني : قال : والثاني أن يصلي ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين ثم يصلي خمس ركعات متصلات ، لا يجلس إلا في آخرهن(2).
الثالث : أن يصلي عشر ركعات يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة(3) .
الرابع : أن يصلي ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة(4) .
الخامس : أن يصلي ثمان ركعات لا يجلس في شيء منها جلوس تشهد إلا في آخرها فإذا تشهد قام فأتى بركعة ثم تشهد وسلم(5) .
السادس : أن يصلي : ست ركعات يسلم في آخر كل ركعتين منها ويوتر بسابعة(6) .
__________
(1) ... دليله حديث ابن عباس في صحيح البخاري رقم (992) في كتاب الوتر ، باب : ما جاء في الوتر وفيه : فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر . مسلم رقم (765) .
(2) ... دليله حديث عائشة هذا الذي نحن في شرحه .
(3) ... دليله حديث عائشة عند مسلم رقم (736) ولفظه كان يصلي فيما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة ، يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة ، وأخرجه في المحلى من طريق شهاب عن عروة بت الزبير عن عائشة 3/43) .
(4) ... دليله حديث ابن عمر : صلاة الليل مثنى ، مثنى . الحديث وفي بعض روايات حديث عائشة عند مسلم : يصلي ثمان ركعات ويوتر ويصلي ركعتين وهو جالس .
(5) ... دليله حديث سعد بن هشام الطويل عن عائشة عند مسلم رقم (746) في باب جامع صلاة الليل ، وفيه قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات ، لا يجلس فيها إلا في الثامنة ... الحديث .
(6) ... دليله : صلاة الليل مثنى ، مثنى .(2/260)
السابع : أن يصلي ست ركعات لا يجلس ولا يتشهد إلا في آخر السادسة ، ثم يقوم دون أن يسلم فيأتي بسابعة ثم يتشهد ويسلم(1) .
الثامن : أن يصلي سبع ركعات لا يجلس ولا يتشهد إلا في آخرهن ، فإذا كان في آخرهن جلس وتشهد وسلم(2) .
التاسع : أن يصلي أربع ركعات يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة(3) .
العاشر : أن يوتر بخمس لا يجلس ولا يتشهد إلا في الخامسة ثم يسلم(4) .
الحادي عشر : أن يوتر بثلاث مفصولة يصلي ركعتين ويتشهد ويسلم ثم يصلي ركعة ويتشهد ويسلم ، قال : وهذا قول مالك .
قلت : وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وهو يعود إلى الإيتار بركعة(5) .
__________
(1) ... دليله حديث سعد بن هشام عن عائشة (746) وفيه : فلما أسنَّ نبي الله وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول .
(2) ... دليله ما رواه في المحلى من طريق النسائي عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسن وأخذه اللحم صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن . اهـ. المحلى (3/240) باب : كيف الوتر بسبع .
(3) ... دليله حديث صلاة الليل مثنى مثنى .
(4) ... دليله ما رواه النسائي وابن حزم في المحلى من طريقه بسند صحيح عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن ، ويشهد له حديث عائشة هذا الذي نحن بصدد شرحه . المحلى (3/46) ، والنسائي (3/240) .
(5) ... دليله ما رواه الطحاوي في معاني الآثار عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة ، وأخبر ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يفعل ذلك هكذا هو في معاني الآثار بإسقاط عن أبيه وفي سنده الوليد بن مسلم وهو مدلس ، والوضين بن عطاء وهو سيئ الحفظ ، ومن طريق آخر فيها المطلب ابن عبد الله المخزومي كثير الإرسال والتدليس .(2/261)
الثاني عشر : أن يصلي ثلاث ركعات يجلس بعد الثانية ويتشهد دون تسليم ، ثم يقوم فيأتي بالركعة الثالثة ويتشهد ويسلم ، قال : وهو اختيار أبي حنيفة(1) .
الثالث عشر : أن يركع ركعة واحدة – أي يوتر بواحدة فقط – قال : وهو قول الشافعي(2) . انتهى من المحلى (3/42) بتصرف .
قلت : وقد ترك كيفية ثابتة في الإحدى عشرة وهو أربع وأربع وثلاث ، وهذا هو الوجه الرابع عشر ، كما روى ذلك البخاري باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان وغيره من كتاب التهجد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فقالت : ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً ، فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثاً . اهـ.
وثانياً : أنه ترك صورة أخرى وهي إحدى صور الإيتار بثلاث ، وهي ثلاث متصلة بتشهد واحد وسلام وهذا هو الوجه الخامس عشر .
والدليل على الإيتار بثلاث متصلة حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عند الشيخين الذي ذكرته آنفاً وفي آخره : ثم يصلي ثلاثاً ، فالثلاث هي الوتر ، وظاهره أن يصليها متصلة بتشهد وسلام .
ومما يستدل به للإيتار بثلاث متصلة ما رواه الحاكم في المستدرك(3) من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن ، صححه الحافظ في الفتح راداً به على من زعم أنه لم يجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبراً ثابتاً صريحاً أنه أوتر بثلاث موصولة ، وقال : نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث ، لكن لم يبّين الراوي أنها موصولة أو مفصولة . اهـ
__________
(1) ... ورد عن بعض الصحابة وكأنه لم يبلغهم النهي .
(2) ... دليله حديث ابن عمر وفيه إذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى المحلى (3/42) .
(3) ... فتح رقم (1147) وأخرجه مسلم رقم (738) .(2/262)
قال : فيرد عليه بما رواه الحاكم من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقعد إلا في آخرهن ، وروى النسائي من حديث أُبي بن كعب نحوه ولفظه : يوتر بسبح اسم ربك الأعلى ، وقل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد ، ولا يسلم إلا في آخرهن ، وبيّن في عدة طرق أن السور الثلاث في ثلاث ركعات(1) اهـ.
قلت : وأخرج الحاكم حديث أبي بن كعب في التفسير(2) وقال : صحيح الإسناد ، وقال الذهبي قلت : محمد رازي تفرد بأحاديث وأخرج النسائي حديث أبي من طرق أصرحها ما أورده في باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر أبي في الوتر من طرق رجال واحدة منها رجال الصحيحين ، ولفظ الأولى : كان يوتر بثلاث ركعات كان يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى ... الخ ، ورجالها رجال الصحيحين إلا علي بن ميمون الرقي قال في التقريب : ثقة من العاشرة ، ولفظ الطريق الثانية ورجال إسنادها رجال الصحيحين كما تقدم : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بسبح اسم ربك الأعلى ، وفي الثانية : قل يا أيها الكافرون ، وفي الثالثة بقل هو الله أحد(3) .
ومما تقدم يتبين أن الإيتار بثلاث متصلة ثابت لا شك في ثبوته كما قرره الحافظ في الفتح . والله أعلم .
ثالثاً : يلاحظ على ابن حزم – رحمه الله وإيانا – أنه عدّ الإيتار بثلاث متصلة بتشهدين وسلام من الأوجه التي سبرتها وذكر أنها مشروعة كلها ، ويرد بأن النهي عن تشبيه الوتر بالمغرب ثابت من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بسند صحيح على شرط الشيخين بلفظ : " لا توتروا بثلاث ولا تشبهوا بصلاة المغرب أوتروا بخمس أو بسبع " وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي فقال : على شرطهما ، ونقل الحافظ في الفتح تصحيحه عن محمد بن نصر وأقره ، وإلى عدم مشروعية الثلاث بتشهدين ذهب الجمهور مستدلين بهذا الحديث .
__________
(1) ... فتح (2/481) .
(2) ... فتح (2/257) .
(3) ... فتح (3/235) .(2/263)
وخالفت الحنفية فأجازوا الثلاث بتشهدين وسلام بل زعم بعضهم أنه إجماع ، وهذه دعوى باطلة ، فالنصوص المثبتة للإيتار بثلاث بتشهد واحد وسلام موجودة وصحيحة ، والخلاف موجود والدليل أولى بالاتباع من غيره ، فالله أمرنا باتباع رسوله ولم يأمرنا باتباع أحد سواه ، أما الصحابة والتابعون الذين ثبت عنهم أنهم أوتروا بثلاث بتشهدين وسلام فيحمل ذلك على أنهم لم يبلغهم النهي ، ولو بلغهم ما خالفوه ، ولكن اللوم على من بلغه النهي الشرعي من المعصوم فتركه ليتبع مذهب إمام معين ، اللهم ارزقنا تعظيم سنة نبيك واتباعها .
وبهذا تعلم أن صور الوتر الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة صورة ؛ لأنا بينا بطلان واحدة من الثلاث عشرة ، وأثبتنا اثنتين فكانت أربع عشرة .
ثم اعلم مرة أخرى ، أن هذا من الاختلاف المباح أو الاختلاف في الأفضل ، وأن الأمر في ذلك واسع ، فلا لوم ولا عقاب – إن شاء الله – على من خالف شيئاً من هذه الكيفيات ما لم يكن مخالفاً لنهي من منهيات الشارع - صلى الله عليه وسلم - كالوتر في ليلة مرتين أو التشبيه بصلاة المغرب . والله أعلم .
أما القراءة في الوتر فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى ، وفي الركعة الثانية بقل يا أيها الكافرون ، وفي الثالثة بقل هو الله أحد(1) .
أما زيادة المعوذتين فقد ضعفهما الحافظ في التلخيص (2).
* * *
باب الذكر عقب الصلاة
[
__________
(1) ... أخرجه النسائي عن أبيّ بن كعب بسند رجاله رجال الصحيحين ، وأخرجه الدارقطني (2/31) وأخرجه أحمد أيضاً ، والحاكم (2/257) ، وأخرجه النسائي أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً وعن عبد الرحمن بن أبزى ، وصحح العراقي حديثي أبيّ بن كعب ، وعبد الرحمن بن أبزى عند النسائي نقل ذلك في التعليق المغنى على الدارقطني لأبي الطيب شمس الحق (2/32) .
(2) ... التلخيص (2/19) .(2/264)
127] : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته(1) .
قال ابن عباس : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته ، وفي لفظ : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالتكبير .
موضوع الحديث :
مشروعية الذكر عقب الصلاة المكتوبة واستحباب رفع الصوت به .
المفردات :
حين ينصرف الناس : أي يسلمون .
من المكتوبة : أي الصلاة المفروضة .
ما كنا نعرف انقضاء : أي انتهاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
إلا بالتكبير : أي إلا بسماع التكبير .
المعنى الإجمالي :
__________
(1) ... أخرجه البخاري باب الذكر بعد الصلاة رقم (841/842فتح) ، وأخرجه مسلم باب : الذكر بعد الصلاة وزاد ، قال عمرو – يعني ابن دينار - : فذكرت ذلك لأبي معبد فأنكره وقال : لم أحدثك بهذا ، قال عمرو : بلى ، وقد أخبرتنيه قبل ذلك ، قال الحافظ في الفتح : وهذا يدل أن مسلماً كان يرى صحة الحديث ولو أنكره راويه إذا كان الناقل عنه عدلاً ، قال : ولأهل الحديث تفصيل ، قالوا : إما أن يجزم برده أو لا ، وإذا جزم برده ، فأما أن يصرح بتكذيب الراوي عنه أو لا ، فإن لم يجزم بالرد كأن قال لا أذكره . فهو متفق عندهم على قبوله ، لأن الفرع ثقة والأصل لم يطعن فيه ، وإن جزم برده وصرح بتكذيب راويه فهو متفق عندهم على رده ، وإن جزم بالرد ولم يصرح بالتكذيب فالراجح عندهم قبوله .
قلت : وهذا الحديث من هذا النوع ، ثم ذكر الخلاف عند الفقهاء . وقال : ومحصل كلامه أنهما إن تساويا فالرد ، وإن رجح أحدهما عمل به ، وهذا الحديث من أمثلته . اهـ. فتح بتصرف (2/326) .(2/265)
يخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن رفع الصوت بذكر الله عز وجل حين يسلم الناس من الصلاة المكتوبة كان موجوداً في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لذلك فهو شعيرة من شعائر الإسلام وسنة من سننه ، وذلك بأن يرفع كل واحد من المصلين صوته بالذكر الوارد بعد السلام بمفرده ، لا يتقيد بأحد(1) ، فيحصل من ذلك ضجة في المسجد بذكر الله هي محبوبة إلى الله تعالى .
وقد ورد وصف أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في بعض الكتب السابقة ، أن لهم دوي في مساجدهم كدوي النحل .
أما رفع الصوت بالذكر بصورة جماعية بصوت واحد ونغمة واحدة فهو بدعة من البدع ، فيجب أن نحذر منها وأن تحارب .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ منه رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة وباستحبابه ، قال ابن حزم الظاهري : وذهب الجمهور إلى عدم استحباب رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة ، وحمل الشافعي هذا الحديث على أنه جهر وقتاً يسيراً حتى يعلمهم صفة الذكر لا أنهم جهروا دائماً ، قال : واختار للإمام والمأموم أن يذكر الله تعالى بعد الفراغ من الصلاة ويخفيان ذلك(2) .
قلت : وإذ قد صح فعله في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالقول باستحبابه بعد السلام أولى . والله أعلم .
ثانياً : المراد برفع الصوت أن كل واحد من المصلين يذكر الله وحده غير متقيد بأحد ، أما ما يفعله كثير من الناس اليوم من اشتراك جماعة المسجد كلهم في الذكر بصوت ونغمة واحدة فهذا بدعة ، يجب أن تمنع وتحارب .
__________
(1) ... شرح النووي على مسلم (5/84) .(2/266)
ثالثاً : (ال) في الذكر للعهد ، والمراد به الذكر المعهود ، والذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله والذي علمه أصحابه فيكون من العام الذي يراد به الخاص ، والذي حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعله ويداوم عليه بعد السلام من الصلاة المكتوبة أنه كان يقول بعد السلام : "استغفر الله ، استغفر الله ، استغفر الله " . ثم يقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام "(1) . ثم يقول : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير "(2) . عشر مرات أو خمس مرات ، ثم يقول : " لا إله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، وله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون "(3) ، ثم يقول :" اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد "(4) ، ثم يقول :
" سبحان الله والحمد لله والله أكبر " من مجموعهن ثلاثاً وثلاثين مرة أو من كل واحدة ثلاثاً وثلاثين مرة ويقول تمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شي قدير . وفي رواية : وأربع وثلاثين تكبيرة .
__________
(1) ... أخرجه مسلم في باب استحباب الذكر عقب الصلاة وبيان صفته رقم الحديث (591 و 592) عن ثوبان وعائشة رضي الله عنهما .
(2) ... رواه مسلم من حديث المغيرة بدون ذكر العدد رقم 593 .
(3) ... رواه مسلم من حديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - ، رقم الحديث (594) .
(4) ... رواه مسلم من حديث المغيرة - رضي الله عنه - ، رقم الحديث (593) .(2/267)
رابعاً : يؤخذ من الحديث جواز إطلاق اسم الجزء على الكل ؛ لأنه أطلق اسم التكبير على الذكر الذي هو أعم من التكبير ، وقيل يؤخذ منه سنية التكبير بعد السلام وهو ضعيف ؛ لأنه قد علم من القواعد الأصولية أنه إذا تعارض نصان أحدهما قطعي الدلالة والثاني ظنيها ، قد م القطعي على الظني ، فمثلاً : يقدم النص على الظاهر ، والمنطوق على المفهوم ، لأن قوله : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالتكبير محتمل أن المراد بالتكبير هو الذي يكون مع التسبيح والتحميد ، ومحتمل أنه تكبير غيره يكون بعد السلام مباشرة ، إلا أنه يعارض الاحتمال الأخير الأحاديث الواردة في الذكر بعد السلام التي قد سبقت الإشارة إلى بعضها وهي نصوص في المسألة لا يتطرق إليها احتمال ، لذلك فهي مقدمة على مفهوم هذا الحديث . وبالله التوفيق . في حين أن حديث الباب من قول ابن عباس وتلك الأحاديث من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
خامساً : استدل الطبري – رحمه الله – بهذا الحديث على صحة ما كان يفعله أمراء الأجناد والعساكر المرابطون في الثغور من التكبير بعد العشاء وبعد الفجر ثلاثاً بصوت عال ، وعن مالك أنه محدث وهو الأقرب . والله أعلم .
[128] : وعن وراد مولى المغيرة بن شعبة(1) قال أملى عليّ المغيرة بن شعبة من كتاب معاوية رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " ، ثم وفدت بعد ذلك على معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك .
__________
(1) ... ورّاد بتشديد الراء الثقفي أبو سعيد أو أبو الورد الكوفي كاتب المغيرة ومولاه ثقة من الثالثة التقريب رقم 7451 .(2/268)
وفي لفظ كان ينهى عن : قيل وقال : وإضاعة المال ، وكثرة السؤال ، وكان ينهى عن عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنعٍ وهات .
موضوع الحديث :
فضيلة الذكر بعد السلام من الصلاة المفروضة .
المفردات :
دبر الصلاة : دبر كل شيء آخره ، والمراد به هنا ما بعد لسلام من الصلاة المفروضة .
مكتوبة : أي مفروضة .
لا إله : لا معبود بحق في الوجود .
إلا الله : تثبت الألوهية لله رب العالمين وحده لا شريك له .
لا شريك له : لا مشارك له في ملكه ولا نضير له في أسمائه وصفاته .
له الملك والحمد : أي هو المنفرد بهما دون سواه .
وهو على كل شيء قدير : أي لا يفوت قدرته شيء فكل مستحيل عليه سهل وكل عسير عليه يسير .
لا مانع لما أعطيت : لا حابس لما أردت إيصاله ولا موصل لما أردت حبسه .
ذا الجد : لا ينفع ذا الحظ لا ينفعه منك حظه .
قيل وقال : كثرة نقل الكلام .
إضاعة المال : إتلافه فيما لا ينفع .
كثرة السؤال : سؤال المال وطلبه من الناس استكثاراً .
عقوق الأمهات : عصيانهن .
وأد البنات : دفنهن أحياء .
ومنعٍ وهات : إمساك ما في يدك بخلاً ، وطلب ما في أيدي الناس جشعاً .
المعنى الإجمالي :
يخبر المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر الله بعد كل صلاة بهذا الذكر المتضمن لكمال التوحيد وأنه كان ينهى عن هذه الست الخصال لما فيها من صفات الذم والمقت والإثم والعار . والله أعلم .
فقه الحديث :(2/269)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث مشروعية هذا الذكر لما تضمنه من الاعتراف لله تعالى بالوحدانية وإفراده بالألوهية دون من سواه ، لتوحده بصفات الكمال والجلال ، وانفراده بالملك والتصرف ، وتفضله بالنعم ، واتصافه بجمع الكمالات ، فلا يستطيع أحد منع ما أعطى ، أو إعطاء ما منع ؛ لأن له مطلق التصرف ، فلا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، بيده الإعزاز والإذلال ، والإعطاء والمنع ، والخفض والرفع ، والتمليك والسلب ، ومن أجل تضمن هذا الدعاء لأعلى مقامات التوحيد شرع بعد كل صلاة مكتوبة . الله أعلم .
ثانياً : معنى قوله : " لا ينفع ذا الجد منك الجد " أي لا ينفع ذا الحظ منك حظه ، سواء كان ذلك الحظ ملكاً وسلطاناً ، أو كنوز وأعوانا ، أو نسباً وشرفا أو غير ذلك ، فلم يُغْنِ عن فرعون ملكه ، ولا عن قارون ماله وأعوانه ، ولا عن أبي جهل شعبيته وشرفه ، ولا عن قوم عاد قوتهم وضخامة أجسامهم ، بل قال الله فيهم : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ } (فصلت:15-16) .(2/270)
ثالثاً : يؤخذ من قوله : " وكان ينهى عن قيل وقال " كراهة نقل الإنسان لكل ما يسمعه ، فإنه يدخل في ذلك الحق والباطل ، والصدق والكذب ، قال ابن دقيق العيد – رحمه الله - : الأشهر فيه فتح اللام على سبيل الحكاية ، وهذا النهي لابد من تقييده بالكثرة التي لا يؤمن معها الخلط والخطأ ، والتسبب في وقوع المفاسد من غير تعيين والإخبار بالأمور الباطلة ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع " . اهـ
وقال الصنعاني في العدة : دليل التقييد ما علم من الإجماع على وقوع نقل أقاويل الناس ، بل قد وقع في التنزيل من نقل مقالات الأمم وأنبيائهم ما لا يحصى كثره . اهـ
قلت : إنما يتجه النهي على ما لا مصلحة في نقله ، وهو ثلاثة أنواع :
ما تحققت فيه المفسدة أو رجحت فيحرم نقله ، وما كان احتمال المفسدة فيه مرجوحاً فيكره نقله ، وما خلا من المفسدة ولم يكن في نقله مصلحة فيكره الإكثار من نقله ، أما ما تحققت في نقله المصلحة أو رجحت فيجب نقله أو يستحب تبعاً لتلك المصلحة ، ومن هذا ما ذكره الله في القرآن من نقل أقاويل الأمم ، إما لبيان فسادها والرد عليها ، أو لبيان ما فيها من حق ونشره والدعوة إليه . والله أعلم .
رابعاً : يؤخذ من قوله : " وإضاعة المال " عطفاً على ما كان ينهى عنه نهي تحريم وهو إضاعة المال بأي وجه من وجوه الإضاعة ، ذلك لأن الله – جل شأنه – جعل الأموال قياماً لمصالح العباد وفي تبذيرها تفويت لتلك المصالح ، إما في حق مضيعها أو في حق غيره بإنفاق المال فيما لا نفع فيه لا في الدين ولا في الدنيا ، لا بالنسبة للفرد ولا بالنسبة للمجتمع يعد إسرافاً وتضييعاً للمال ، ووضعاً له في غير موضعه .(2/271)
وكذلك الإنفاق فيما ثبت ضرره وانعدم نفعه ، كالقات والدخان بجميع أنواعه كالشيشة والسيجارة والغليون ومطحون التبغ كالبردقان وما يسمى بالعنجر أو النشوق ، وأشد من ذلك ما سبب انتشار الفساد في المجتمعات الإسلامية كأفلام المسارح الغنائية ، وتمثيليات الحب والعشق الهابطة ، والكتب القصصية سواء في ذلك قصص العشق والغرام ، أو قصص المغامرات في السرقة والنهي والغصب وسفك الدماء ومثل ذلك الجرائد والمجلات التي تحمل الصورة الخليعة وأشرطة الفيديو والسينما الخليعة وما استجد من ذلك أيضاً في هذا الزمن كالدش والإنترنت التي تنشر الفساد والدعارة وتجرد الناس من الإيمان والحياء ، وَتُعَوِدهُم على الخلاعة ، والوقاحة وعدم المبالاة بارتكاب الفواحش ، والانحدار في حمأة الفساد بعد أن تقضي على بقية الإيمان والحياء الموجودين في القلوب حتى تصبح القلوب عاطلة من كل خير ، متصفة بكل شر .
ومن ذلك أيضاً الإسراف في المباحات والإنفاق فيها أكثر من الحاجة . والله أعلم .
أما قوله : " وكثرة السؤال " فهو يحتمل أمرين :
الأمر الأول : أن يكون المقصود به السؤال عن العلم ، فإن كان كذلك فلابد أن يحمل على نوع مخصوص من السؤال ؛ لأن الله تعالى أمر بسؤال أهل الذكر فقال : { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (النحل: من الآية43) . وعلى هذا فإن كان النهي عن السؤال هنا يراد به السؤال عن العلم فهو يحتمل على ما قصد به التعجيز أو المعايات أو الاشتهار أو التعمية والتشكيك .
الأمر الثاني : أن يكون المقصود به سؤال المال ، إلا أن طلب العطاء من الناس قد ذم كثيره وقليله إلا ما لابد منه كحديث : " إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة .." الحديث . أما إن دخل فيه غير العطاء : كناولني السفرة يا غلام ، وما أشبه ذلك ، فلابد أن يحمل الحديث على سؤال المال وتقييده بالكثرة احترازاً عما فيه ضرر . والله أعلم .(2/272)
وأما قوله : " وكان ينهى عن عقوق الأمهات " فالعقوق مأخوذ من العق وهو القطع ، ولا يختص النهي عن العقوق بالأمهات بل أن عقوق الآباء محرم أيضاً كعقوق الأمهات ، ولكن في هذا التخصيص تنبيه على عظيم حق الأمهات وأن عقوقهن أفظع وأعظم بشاعة لعظم حقهن ، وقد نبه القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } (الأحقاف: من الآية15) .
أما "وأد البنات" فهو دفنهن أحياء ، وهذا الصنيع رغم فحشه فقد فعله كثير من أهل الجاهلية وعابهم الله به فقال : { .. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } (النحل: من الآية59) . وقد جاء الإسلام باجتثاث هذه العادة المنكرة وقلعها من أصلها ، بل بذر في قلوب أتباعه المودة والرحمة للبنات ووعد على ذلك الخير كله ، فقد روى أحمد وابن ماجة عن عقبة بن عامر مرفوعاً : " من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جِدَته ، كن له حجاباً من النار يوم القيامة "(1) .
ثم إن الواجب على الولي التأدب بالآداب الإسلامية وتأديب البنات بأدب الإسلام لكي يكنّ أعضاء صالحات في المجتمع ، وهنا التعليم والتأديب لا يقل وجوبه عن وجوب النفقة والكسوة والمسكن الذي يطالب به كل ولي لموليته ، والمقصود تعليم ما لابد منه من أمور الدين ، أما التوغل في التعليم لأخذ الشهادة العالية لتعمل موظفة وتترك الزواج والذرية والقيام بشؤون البيت الذي كلفت بالاستقرار فيه لتكون سكناً للزوج ومربية للأولاد فهذا ليس بمحمود ؛ لأنه ترك للوظيفة الإسلامية التي خلقت لها المرأة وفيه عدة محاذير :
__________
(1) ... صحيح الجامع الصغير وزياداته رقم (6364) .(2/273)
المحذور الأول : أن ذلك تركٌ للوظيفة الأساسية التي خلقت لها المرأة وهيئت لها وهي أن تكون سكناً للزوج يسكن إليها وتسكن إليه قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (الروم:21) .
وإن هذه الآية لأكبر شاهد بأن الرجل لا يستقيم حاله ولا يذوق لذة العيش إلا بالحياة الزوجية الكريمة ، وكذلك المرأة .
المحذور الثاني : ترك النسل والذرية ، والنسل وهم الأولاد لا تطيب الحياة الزوجية إلا بهم ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم " ، فالمرأة مهما حصل لها من شهادات فإن الحياة لا تطيب لها إلا بالبنين والبنات ، ولقد سمعت أن امرأة درست وتدرجت في الشهادات حتى أخذت أعلاها وفي النهاية قالت : خذوا شهادتي كلها وأعطوني طفلاً ألاعبه .
ولقد خلق الله النساء ليكن أمهات مربيات وحاضنات ماهرات ، فإذا خرجت عن هذه الوظيفة وتركتها ندمت بعد ذلك وحنت إليها بعد أن ذهب الزمن وبلي الشباب . فالله المستعان .
المحذور الثالث : ترك البيت بدون حارس أمين وسائس حكيم يجلب إليه وإلى أهله الصلاح ويدفع عنه الفساد ، فالله سبحانه أمر النساء بالاستقرار في البيوت ولا تكون المرأة سكناً للزوج إلا إذا كانت مستقرة في البيت ، تربي الأولاد ، وتحفظ البيت ، وتنظفه وتقوم بشؤونه وترصد حاجة الزوج فيه .(2/274)
المحذور الرابع : أنه تنكر للفطرة والجبلية التي خلق الله عليها الأنثى لحكمة يعلمها هو تعالى ، فهي مهيئة خلقة لبيت ومحضن الزوجية ، فإذا أخرجت نفسها عن هذا المحضن فإنها تكون قد عصت خالقها ، وجنت على مجتمعها وكانت نشازاً فيه بإعراضها عن الأمر الذي خلقت له ، ولهذا جاء في الحديث : " لعن الله المترجلات من النساء ، والمخنثين من الرجال " لأن كلا منهما خرج عن فطرته التي هُيأ لها ، وأراد أن يجعل لنفسه فطرة غير ما اختار الله له .
وأخيراً ، فإن من منع ابنته من النكاح الشرعي فقد جنى عليها جناية عظيمة ، وعرضها للوقوع في الفاحشة ، وحرمها لذة الزوج والبيت والأولاد ، ولا ينتظر إلا المقت من الله والفضيحة في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معاً . وبالله التوفيق .
ومعنى قوله : "ومنعٍ وهات" أن يمنع العبد ما في يديه بخلاً ، ويطلب ما في يد غيره جشعاً ، وكفى بهذا ذماً .
وهذا يتضمن شيئين :
أولها : البخل وهو ما عبر عنه بالمنع ، والمنع يكون مذموماً إذا كان منعاً عن الواجبات ، فهذا يسمى بخلاً ، قال الله تعالى : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } (الحديد:24) .وقال تعالى : { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } (محمد: من الآية38) .
والثاني : الطلب والسؤال وهو المعبر عنه بقوله "وهات" وهذا مذموم أشد الذم ، وقد جاء في الحديث : " لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم " .
وفي الحديث أيضاً : " من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمر جهنم ، فليستقل منه أو ليستكثر"(1).
__________
(1) ... صحيح الجامع رقم (6154) (3/298) ، وفي معناه أحاديث صحيحة أوردها الألباني بعده .(2/275)
الحديث الثالث : في بيان الذكر عقب الصلاة
[129] : عن سُمَيّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، قال : " وما ذاك ؟ " قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أفلا أعلمكم شيئاً تدركون من سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع كما صنعتم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة" .
قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" قال سُميّ : فحدثت بعض أهلي بهذا الحديث . فقال وهمت إنما قال :
" تسبح الله ثلاثاً وثلاثين ، وتحمد الله ثلاثاً وثلاثين ، وتكبر الله ثلاثاً وثلاثين " ، فرجعت إلى أبي صالح فقلت له ذلك ، فقال : قل الله أكبر وسبحان الله والحمد لله حتى تبلغ من جميعهن ثلاثاً وثلاثين(1) .
موضوع الحديث :
الذكر بعد الصلاة وفضله .
المفردات :
أهل الدثور : أهل الأموال .
بالدرجات العلى : أي في الجنة . والنعيم المقيم : أي فيها .
ويتصدقون بفضول أموالهم : أي بما فضل عن حاجتهم . وفي هذه الرواية "ويتصدقون ولا نتصدق" .
ويعتقون ولا نعتق : العتق هو تحرير الرقاب المرققة .
المعنى الإجمالي :
__________
(1) ... أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب : الذكر عقب الصلاة ، رقم الحديث (843) بدون قوله : "فرجع فقراء المهاجرين" . وأخرجه أيضاً في الدعوات باب : الدعاء بعد الصلاة ، رقم الحديث (6329) إلا أنه قال : تسبحون في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون عشرا وتكبرون عشرا .(2/276)
فهم الصحابة أن التسابق والتنافس إنما يكون في الأعمال التي تقرب من الله وترفع الدرجات في الجنة ، لا في الدنيا الفانية وحطامها الزائل أو جاهها المشوب بالأخطاء والممزوج بالأكدار ، فذهبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاكين سبق الأغنياء لهم لا بالمال ، ولكن بما يكسبونه من أجر بسبب ما أوتوا من المال ؛ لأنهم يساوونهم في الصلاة والصوم ويزيدون عليهم بالصدقة والعتق ، فأعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الذكر الذي يدركون به من سبقهم ويسبقون به من بعدهم ، ولا يكون أحد أفضل منهم إلا من عمل كعملهم ، لكن أصحاب الأموال حينما سمعوا بهذه الفضيلة بادروا إليها فعملوا بها ، فبقي الفضل لهم على الفقراء ، فجاء الفقراء شاكين مرة أخرى لكي يجدوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حلاً آخر يساوونهم به ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " .
فقه الحديث :
أولاً : في هذا الحديث مسألة المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر ، وهي مسألة مشهورة تكلم الناس فيها وألّف فيها بعضهم ، وممن علمناه ألّف في هذه المسألة كتاباً مستقلاً العلامة ابن القيم – رحمه الله – ألف فيها كتاب "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" ، وألف الصنعاني – رحمه الله- أيضاً كتاباً سماه "السيف الباتر في المفاضلة بين الفقير الصابر والغني الشاكر" ذكره في العدة ، وذكر أنه اختصره من كتاب ابن القيم وقال : وهو كتاب بديع ليس له نظير ألّفناه في مكة سنة 1135هـ.
ومما احتج به لتفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر قوله تعالى :
{ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا } (الفرقان: من الآية75) . قال محمد بن علي بن الحسين : الغرفة الجنة ، بما صبروا : على الفقر في الدنيا .(2/277)
ومنها أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو مقدار خمسمائة سنة ، وورد بأربعين خريفاً حتى يتمنى الأغنياء من المسلمين أنهم كانوا فقراء ، ومنها أن الله ما ذكر الدنيا إلا على سبيل الذم فتارة يذكر المال أنه سبب للطغيان كقوله تعالى : { كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } (العلق:6-7) . وتارة يذكر أنه سبب للبغي قال تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ } (الشورى: من الآية27) ، وتارة يذكر المال بأنه فتنة { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَة } (التغابن: من الآية15) ، وتارة يذكر بأن الأموال والأولاد لا تقرب إلى الله تعالى : { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } (سبأ: من الآية37) .
ومما استدل به أيضاً على تفضيل الفقير الصابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار الله له أن يكون فقيراً ، فقد عرضت عليه مفاتيح خزائن الأرض فأباها وقال : "بل أجوع يوماً وأشبع يوماً ، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك" .
هذا خلاصة ما استدل به من فضل الفقير الصابر .
وقد أجاب من فضل الغني الشاكر على أدلة من فضل الفقير الصابر فقالوا : أما الآية فلا دليل لكم فيها ؛ لأن الصبر فيها عام في جميع أنواع الصبر فهو يعم الصبر عن المحارم لمن هو قادر عليها بالمال والصبر على أداء الطاعة والصبر على الابتلااءت بأنواعها كالأمراض والأوصاب والفقر والحاجة وغير ذلك .(2/278)
وأما دخول الفقراء إلى الجنة فلا يلزم من ذلك نقص درجة الغني ، بل ربما كان الغني الذي يدخل الجنة متأخراً أعلى درجة من الفقير الذي سبقه بالدخول ، وأما ما ذمّ الله به الدنيا والمال فإنما تكون مذمومة في حق من أنفق المال في معصية الله ، أما من أنفقه في طاعة الله فهو محمود قال سبحانه وتعالى : { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } (المعارج:24-25) ، وقال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } (الليل:5-7) .
وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد جمع الله له بين درجتي الغني الشاكر والفقير الصابر فكم قد أتاه من المال فأباه وأنفقه في طاعة مولاه – عليه الصلاة والسلام – ومن الأدلة على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهز كل الوفود على كثرتهم في السنوات الأخيرة بعد فتح مكة ، ومع ذلك فقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير أخذها نفقة لأهله ، ومن الأدلة على تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر ، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " في هذا الحديث .
قال الصنعاني في العدة : قال من فضل الغني الشاكر على الفقير الصابر لنا أدلة واسعة وكلمات للخير جامعة : الأول أن الله أثنى على أعمال في كتابة لا تتم إلا للأغنياء ، كالزكاة والإنفاق في وجوه البر والجهاد في سبيل الله بالمال وتجهيز الغزاة ورعاية المحاويج وفك الرقاب والإطعام في يوم المسغبة ، وأين يقع صبر الفقير من فرحة المضطر الملهوف المشرف على الهلاك ، وأين يقع صبره من نفع الغني بماله في نصرة دين الله وإعلاء كلمته وكسر أعدائه ؟ وأين يقع صبر أهل الصفة من إنفاق عثمان - رضي الله عنه - تلك النفقات حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم " ؟ .(2/279)
قالوا : والأغنياء الشاكرون سبب لطاعة الفقراء الصابرين إياهم بالصدقة عليهم والإحسان إليهم ورعايتهم على طاعتهم ، فلهم نصيب وافر من أجور الفقراء زيادة على أجورهم بالإنفاق وطاعتهم التي تخصهم ، كما يفيده ما أخرجه ابن خزيمة – رحمه الله – من حديث سلمان - رضي الله عنه - مرفوعاً : " من فطر صائماً كان مغفرة لذنوبه ، وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء " فقد حاز الغني الشاكر بضيافة هذا مثل أجل الفقير الذي فطره .
قالوا : وفضائل الصدقة معلومة ، وفوائدها لا تحصى ، وهي ثمرة من ثمرات الغني الشاكر . اهـ من العدة للصنعاني (3/88) بتصرف قليل .
وهذه خلاصة ما احتج به الفريقان ، وتبين مما ذكرناه رجحان الغني الشاكر على الفقير الصابر ، ومعلوم أنه لا مكان للفقير غير الصابر ولا للغني غير الشاكر في هذه المفاضلة .
ثانياً : يؤخذ من الحديث مشروعية هذا الذكر عقب الصلاة المفروضة ، وأن من سبح الله وحمده وكبره ثلاثاً وثلاثين مرة فتلك تسع وتسعون كلمة ، وقال تمام المائة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير" عقب كل فريضة مخلصاً فيها فإنه قد أصاب خيراً كثيراً , وحاز أجراً وفيراً .
ثالثاً : اختلف في كيفية هذا الذكر ، هل يكون بإفراد التسبيح حتى يبلغ من مجموعه ثلاثاً وثلاثين ، ومثل ذلك التحميد والتكبير ؟ أو يقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يبلغ من مجموعهن ثلاثاً وثلاثين ، ثم يقول تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ؟.
والذي يظهر لي جواز الجميع ، وإن كان أبو صالح – رحمه الله – قد فضل الجمع . والله أعلم .
رابعاً : أن درجات الجنة لا تنال إلا بالعمل لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم .." الحديث .(2/280)
خامساً : يؤخذ منه ما كان عليه الصحابة – رضوان الله عليهم – من المنافسة على أعمال الخير التي تقرب من الله عز وجل .
سادساً : أن المنافسة في أعمال الآخرة محمودة ؛ بل مطلوبة ومأمور بها ، بخلاف المنافسة في الدنيا فإنها مذمومة .
* * *
الحديث الرابع : في باب الذكر عقب الصلاة
[130] : عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال : "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم(1) وأتوني بأنبجانية أبي جهم ، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي "(2) .
موضوع الحديث :
استحباب إزالة ما يلهي عن الصلاة ويشغل القلب عن الخشوع فيها .
المفردات :
الخميصة : كساء مربع له أعلام .
الأنجانية : كساء غليظ ، وقيل منبجانية .
فلما انصرف : أي سَلَّمَ من صلاته .
ألهتني : أشغلتني .
آنفا : الوقت الذي قبل قول ذلك .
__________
(1) ... أبو جهم حذيفة بن عامر القرشي الصحابي الجليل هكذا سماه الصنعاني في العدة على شرح العمدة له ، وسماه النووي عامر بن حذيفة أو عبيد بن حذيفة ، ولم أجد له ترجمة في التهذيب ولا في التقريب ، ولا في الكاشف للذهبي ؛ لأنه ليس له رواية فيما يظهر في الصحيحين ، ولا في السنن ، لكن ترجمه في حرف الجيم من الكنى في الإصابة فقال : أبو الجهم بن حذيفة ونسبه في بني عدي ، وقال : قال البخاري وجماعة اسمه عامر وقيل اسمه عبيد ، قال الزبير بن بكار وابن سعد : ونقل عن البغوي أنه كان من المعمرين ، حضر بناء الكعبة في الجاهلية وفي زمن ابن الزبير ، ثم قال ثبت ذكره في الصحيحين ، ثم أورد حديث الخميصة هذا ، وفي حديث فاطمة بنت قيس : "وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " وهو من مسلمة الفتح ، وهو غير أبي جهم الحارث بن الصمة الأنصاري . اهـ. بتصرف .
(2) ... أخرجه البخاري (1/104) ، (7/190) ، وأخرجه مسلم في باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام ، وأبو داود برقم (4052) ، والبيهقي (2/423) .(2/281)
المعنى الإجمالي :
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد الاهتمام بأمر الصلاة وإزالة كل ما يشغل أو ينقص الخشوع فيها ،لذلك نهى عن الصلاة مع الاحتقان ، وعند حضور الطعام ووجود التوقان إليه ، وهنا كره الصلاة في الخميصة لما فيها من الأعلام التي تلهي عن الخشوع فيها فتذهبه أو تنقصه .
فقه الحديث :
أولاً : يؤخذ من الحديث دليل على طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها وإزالة كل ما يذهبه أو ينقصه ، ومن ثم نهى عن زخرفة المساجد ، فأخرج أبو داود في باب بناء المساجد وصححه الألباني عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أمرت بتشييد المساجد " ، قال ابن عباس : لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى .
وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " وصححه الألباني .
وروى ابن ماجة في باب تشييد المساجد عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد" صححه الألباني .
* * *
باب الجمع بين الصلاتين في السفر
[131] : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع في السفر بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء .
موضوع الحديث :
الجمع بين الصلاتين في السفر .
المفردات :
على ظهر سير : أي إذا كان جاداً في السفر ، قال ابن حجر – رحمه الله – ولفظ الظهر يقع في مثل هذا اتساعاً في الكلام كأن السير كان مستنداً إلى ظهر قوي .
المعنى الإجمالي :(2/282)
تمتاز شريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر الشرائع السماوية بالسماحة واليسر وإزاحة كل حرج ومشقة عن المكلفين أو تخفيفهما ، ومن التخفيفات المرموقة في شريعتنا الجمع في السفر بين الصلاتين المشتركتين في الوقت وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً في وقت إحداهما مقصورتين ، فهذا ابن عباس - رضي الله عنه - يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إذا كان على ظهر سير .
فقه الحديث :
أولاً : في قوله : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع في السفر بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ، ويجمع بين المغرب والعشاء ، دليل لمن قال إن الجمع في السفر مشروع وهم الجمهور ، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد ؛ لأن كان تقتضي في الغالب الاستمرار على الشيء ومعاودته مرة بعد مرة .
وذهب الحسن وابن سيرين وأبو حنيفة وصاحباه إلى أن الجمع لا يشرع إلا في عرفة ومزدلفة فقط ، وحملوا ما ورد في الجمع من نصوص على الجمع الصوري وهو تأخير الأولى إلى آخر وقتها ، وتقديم الأخرى في أول وقتها ، ورُدَّ عليهم بأن الجمع شرع لإزالة المشقة والحرج عن الأمة ، وهذا أكثر مشقة من جمع الصلاتين في وقت إحداهما لأمور :
أولاً : لأن معرفة أوائل الأوقات وأواخرها لا يتسنى لكثير من الخاصة ، فكيف بالعامة ؟ .
ثانياً : لأن ذلك يوجب تكرار النزول لكي يعرف أوائل الأوقات وأواخرها بالظل ، وفي هذا مشقة أكثر من النزول لأداء الصلاة في وقت إحداهما ، وذلك ينافي رفع الحرج الذي امتن الله به على عباده حيث يقول : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج } (الحج: من الآية78) .
ثالثاً : أن الأحاديث الواردة في الجمع في السفر صحيحة وصريحة ، وحملها على ما ذكر تعطيل لسنة ثابتة لا يعذر أحد عن الأخذ بها والعمل بموجبها .(2/283)
ومن هذا تعلم أن مذهب الجمهور هو الحق ؛ لأن الجمع بين الصلاتين في السفر صح من حديث ابن عباس وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل .
ثانياً : يؤخذ من قوله : يجمع في السفر بين صلاة الظهر والعصر ..الخ ، دليلٌ لمن قال بجواز الجمع مطلقاً ، سواء كان تقديماً أو تأخيراً ، لأن حديث ابن عباس مطلق فيدخل تحته التقديم لكن قيد في حديث أنس بما إذا جمع تأخيراً ولفظه عند البخاري : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما ، وإذا زاغت صلى الظهر ثم ركب ، أي وإذا زاغت ولم يرتحل صلى الظهر ثم ركب ، قال الحافظ في الفتح : وهو المحفوظ عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس ، لكن روى الإسماعيلي عن جعفر الفرياني عن إسحاق بن راهويه عن شبابة فقال : إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل .
ورواه الحاكم في الأربعين قال : حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، قال حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني أحد شيوخ مسلم ، قال حدثنا محمد بن عبد الله(1) الواسطي فذكر الحديث ، وفيه : فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب ، قال صلاح الدين العلائي : جيد اهـ. نقلاً عن الفتح بتصرف .
__________
(1) ... هكذا هو في الفتح محمد بن عبد الله الواسطي والصواب حسان بن عبد الله الواسطي عن مفضل بن فضالة عن الليث بن سعد عن عقيل والتصويب من سنن البيهقي وتهذيب الكمال وإرواء الغليل .(2/284)
قلت : القاعدة الاصطلاحية أن زيادة الثقة مقبولة ، وإسحاق إمام فتقبل زيادته وجعفر المتفرد عنه إمام أيضاً وقد حصلت له المتابعة بما في سند الحاكم وع هذا فليس المعول في جمع التقديم على حديث أنس فقط ، بل قد صح جمع التقديم من حديث أبي جحيفة المتفق عليه من طريق عون بن أبي جحيفة والحكم بن عتبة ولفظ رواية عون : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة ، فأتى بوضوء فتوضأ ، فصلى بنا الظهر والعصر وبين يديه عنزة ، والمرأة والحمار يمرون من ورائهما .
ومن حديث معاذ بن جبل عند أبي داود بلفظ : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليها جميعاً ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب(1) .
وروى الترمذي عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك بمثل حديث أبي داود إلا أن فيه : وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل ، وقال في المغرب مثل ذلك ، صحيح سنن الترمذي (455) ، وصحيح أبي داود (1106) ، وصحيح الإرواء (785) ، وذكر في الإرواء تحت الرقم المذكور (3/28) وقال : صحيح ، وعزاه لأبي داود والترمذي وأحمد (5/241، 242) وكلهم قالوا : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك ... الحديث . إلى أن قال : وقال الترمذي حديث حسن غريب ، تفرد به قتيبة ، لا نعرف أحداً رواه عن الليث غيره ، وقال في مكان آخر من الصفحة الأخرى : حديث حسن صحيح .
__________
(1) ... صحيح سنن أبي داود للألباني ، رقم (1080) ، وقال : صحيح .(2/285)
قلت – يعني الألباني - : وأنا أرى أن الحديث صحيح ، رجاله كلهم ثقات رجال الستة ، وقد أعله الحاكم بما لا يقدح في صحته ، فراجع كلامه في ذلك مع الرد عليه في زاد المعاد (1/187، 188) ، ولذلك قال في أعلام الموقعين (3/25) : وإسناده صحيح ، وعلته واهية ، وغاية ما أعل به علتان :
الأولى : تفرد قتيبة به أو وهمه فيه ، والأخرى : عنعنة يزيد بن أبي حبيب .
والجواب عن الأولى أن قتيبة ثقة ثبت فلا يضر تفرده كما هو مقرر في علم الحديث ، وأما الوهم فمردود ؛ إذ لا دليل عليه إلا الظن ، والظن لا يغني من الحق شيئاً ، ولا يرد به حديث الثقة ولو فتح هذا الباب لم يسلم لنا حديث .
والجواب عن العلة الأخرى : فهو أن يزيد بن أبي حبيب غير معروف بالتدليس وقد أدرك أبا الطفيل حتماً لأنه ولد سنة 53هـ وتوفي سنة 128هـ وتوفي أبو الطفيل سنة مائة أو بعدها وعمر يزيد حينئذٍ 47هـ سنة .
وقد أطال – رحمه الله – في تصحيح حديث قتيبة هذا بما لا مزيد عليه.
ثم قال : قلت : وليس في شيء من هذه الطرق عن أبي الزبير ذكر لجمع التقديم الوارد في حديث قتيبة ولا يضره لما تقرر أن زيادة الثقة مقبولة لا سيما ولم ينفرد به بل تابعه الرملي وإن خالفه في إسناده كما سبق ، على أن لهذه الزيادات شاهداًَ قوياً في بعض حديث أنس - رضي الله عنه - .
قلت : هي رواية الفرياني عن إسحاق بن راهويه عن شبابة بن سوار بزيادة : صلى الظهر والعصر ثم ركب ، ثم أورد لهما شاهداً من حديث ابن عباس ولفظه : ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر ؟ قال : قلنا : بلى ، قال : كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب ... الخ ،مثل حديث معاذ وعزاه للشافعي (1/116) ، وأحمد (1/367/368) ، والدراقطني (149) ، والبيهقي (3/163/164) ، من طريق حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة وكريب كلاهما عن ابن عباس ثم قال : قلت وحسين هذا ضعيف .(2/286)
قال الحافظ في التلخيص (2/48) : واختلف عليه فيه ، وجمع الدارقطني في سننه بين وجوه الاختلاف فيه ، إلا أن علته ضعف حسين ، ويقال أن الترمذي حسنه وكأنه باعتبار المتابعة وغفل ابن العربي فصحح إسناده .
لكن طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده ، عن أبي خالد الأحمر ، عن الحجاج عن الحكم ، عن مقسم عن ابن عباس - رضي الله عنه - وروى إسماعيل القاضي في الأحكام عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنه نحوه .
قلت – يعني الألباني - : فالحديث صحيح عن ابن عباس بهذه المتابعات والطرق ، وقواه البيهقي بشواهده ، فهو شاهد آخر لحديث معاذ من رواية قتيبة ، وهي تدل على حفظه وقوة حديثه .
قلت : وعلى هذا فقد صح جمع التقديم من رواية ثلاثة من الصحابة وهم :
1- أنس بن مالك عند الإسماعيلي من طريق جعفر الفرياني ، حدثنا إسحاق ابن راهويه ، أنبأنا شبابة بن سوار ، عن عقيل ، عن ابن شهاب الزهري ، عن أنس وفيه : وإذا زالت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ارتحل .
وله متابع رواه الحاكم في الأربعين من طريق محمد بن يعقوب أبي العباس الأصم عن محمد بن إسحاق الصنعاني ، عن حسان بن عبد الله ، عن المفضل بن فضالة ، عن عقيل وفيه : وإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ارتحل .
2- من طريق معاذ بن جبل كما تقدم بيانه بشواهده التي تؤكد أن قتيبة ابن سعيد قد حفظ الحديث سنداً ومتناً .
3- من طريق ابن عباس وصح بالمتابعات ، ولذلك فإنه قد وجب المصير إلى جمع التقديم لصحته عن نبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - وإلى جواز جمع التقديم ، ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل في المشهور عنه ، وهو رواية عن مالك .(2/287)
ثالثاً : يؤخذ من قوله : إذا كان على ظهر سير دليل ، لمن خصص الجمع بالسائر دون النازل وهو مروي عن ابن حبيب من المالكية ، ورواية عن مالك ، لكن روى أبو داود بإسناد رجاله رجال الصحيحين عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً .
قال الشافعي في الأم : قوله ثم خرج فصلى ثم دخل ، ثم خرج فصلى ، لا يكون إلا وهو نازل فللمسافر أن يجمع سائراً ونازلاً ، وحكى الحافظ عن ابن عبد البر أنه قال : في هذا أوضح دليل على الرد على من قال : لا يجمع إلا من جدَّ به السير ، وهو قاطع اللالتباس .(1)اهـ.
ويجوز الجمع بين الصلاتين في السفر سائراً ونازلاً قال عطاء وجمهور أهل المدينة والشافعي وإسحاق وابن المنذر ورواية عن أحمد ، وهو المشهور عند أصحابه والمرجح عندهم .
قال في المغنى : وروى عن أحمد جواز جمع الصلاة الثانية إلى الأولى ، وهذا هو الصحيح وعليه أكثر الأصحاب .
قال القاضي : الأول هو الفضيلة والاستحباب ، وإن أحب أن يجمع بين الصلاتين في وقت الأولى منهما نازلاً كان أو سائراً أو مقيماً في بلد إقامة لا تمنع القصر ، وهذا قول عطاء وجمهور علماء المدينة والشافعي وإسحاق وابن المنذر لما روى معاذ بن جبل ، ثم أورد حديثي معاذ بن جبل وابن عباس السابقين في جمع التقديم .
__________
(1) ... التمهيد لابن عبد البر (12/196) .(2/288)
ثم قال : وروى مالك في الموطأ عن أبي الزبير عن أبي الطفيل أن معاذ بن جبل أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال فأخر الصلاة يوماً ، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ، ثم دخل ، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً(1).
قال ابن عبد البر : هذا حديث صحيح الإسناد ، وفيه أوضح الدلائل وأقوى الحجج في الرد على من قال لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جَدَّ به السير ؛ لأنه كان يجمع وهو نازل غير سائر ماكث في خبائه ، يخرج فيصلي الصلاتين جميعاً ، ثم ينصرف إلى خبائه ، ثم يخرج فيقيمها ويجمع بين الصلاتين من غير أن يجد به السير(2) .
وقال ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية : ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر ، لمصلحة الوقوف ولا يقطعه بالنزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بلا مشقة بالجمع كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى .(3) اهـ.
رابعاً : في قوله : " كان يجمع في السفر " الحديث ، دليل على جواز الجمع في كل ما يسمى سفراً ، وسيأتي الاختلاف في السفر الذي يجوز فيه الجمع والقصر ، ومنع ذلك أبو حنيفة وأصحابه كما تقدم .
قال ابن عبد البر في كتابه التمهيد (12/198) : وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجمع أحد بين الصلاتين في سفر ولا حضر ، لا صحيح ولا مريض ، في صحو ولا في مطر ، إلا أن للمسافر أن يؤخر الظهر إلى آخر وقتها ، ثم ينزل فيصليها في آخر وقتها ، ثم يمكث قليلاً ويصلي العصر في أول وقتها ، وكذلك المريض .
__________
(1) ... المغنى (2/272/273) .
(2) ... انظر بحث الجمع في التمهيد لابن عبد البر (12/193) إلى نهاية (ص220) ، وانظر بحث الجمع في الهدي النبوي (1/477) تحقيق الأرناؤوط ، وانظر بحث الجمع أيضاً في فتح الباري (2/528) وما بعدها نشر وتوزيع رئاسة البحوث .
(3) ... الهدي (1/480) .(2/289)
قالوا : فأما أن يصلي صلاة في وقت الأخرى فلا إلا بعرفة والمزدلفة لا غير(1) .
وأجازت الهادوية التي تقمصت الزيدية واشتهرت بها على ما جمعت في مذهبها من الرفض والاعتزال قالت بجواز الجمع في الحضر لكل مشغول بطاعة أو مباح ينفعه تقديماً أو تأخيراً ، وعلى هذا يجري العمل في مساجد الزيدية دائماً من غير نكير ناسين أو متناسين قول الله تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } (النساء: من الآية103) . وتاركين ما ثبت في السنن الصحيحة الصريحة في المواقيت إلى ما قرره شيوخهم وقادتهم وكبراؤهم ، وحق عليهم قول الله تعالى : { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا } (الأحزاب:67) .
قال في كتاب "الأزهار" الذي هو الكتاب المعتمد لديهم في الأحكام : وللمريض المتوضئ ، والمسافر ولو لمعصية ، والخائف والمشغول بطاعة أو مباح ينفعه وينقصه التوقيت جمع التقديم والتأخير بأذان لهما وإقامتين ، ولا يسقط الترتيب وإن نسي ويصح التنفل بينهما .
قال الشوكاني – رحمه الله – في السيل الجرار (1/192) رداً على ما ورد في الفقرة السابقة : وأثبت لمن عداهم جمع المشاركة وهذا كله ظلمات بعضها فوق بعض وخبط يتعجب الناظر فيه إذا كان له أدنى تمييز ، والحاصل أن هذا القول لم يسمع في أيام النبوة ، وقد كان فيهم المريض وأهل العلل الكثيرة ، وفيهم من قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب " .
__________
(1) ... التمهيد لابن عبد البر (12/198) .(2/290)
ولم يسمع بأنه أمر أحداً منهم بتأخير الصلاة عن وقتها ، ولا جاء في ذلك حرف واحد من كتاب ولا سنة ، وهكذا لم يسمع شيء من ذلك في عصر الصحابة بعد موته - صلى الله عليه وسلم - ولا في عصر من بعدهم ، ولم يقل بذلك أحد من أهل المذاهب الأربعة ، ولا من سائر أهل الأرض ، فمثل هذه المسائل من عجائب الرأي الذي اختص به أهل أرضنا اللهم غفراً ... إلى أن قال : وأما ما ذكره المصنف من جواز الجمع لمشغول بطاعة ، فليت شعري ما هي هذه الطاعة التي يجب تأثيرها على الصلاة ؟ التي هي رأس الطاعات وهي أحد أركان الإسلام ، والتي ليس بين العبد وبين الكفر إلا مجرد تركها ، وأعجب من هذا وأغرب تجويزهم الجمع للمشغول بمباح ينفعه وينقص في التوقيت ، فإن جميع الناس إلا النادر يدأبون في أعمال المعاش العائد لهم بمنفعة وإذا وقتوا فقد تركوا ذلك العمل وقت طهارتهم وصلاتهم ومشيهم إلى المساجد – ومعنى وقتوا : صلوا الصلاة في أوقاتها - .
قال : فعلى هذا هم معذورون عن التوقيت طول أعمارهم ، ولهم جمع الصلاة ما داموا على قيد الحياة ، وهذا تفريط عظيم وتساهل بجانب هذه العبادة العظيمة ، وإفراط في مراعاة جانب الأعمال الدنيوية على الأعمال الأخروية ، وقد كان الصحابة – - رضي الله عنهم - في أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشتغلون بالأعمال التي يقوم بها ما يحتاجون إليه ، فمنهم من هو في الأسواق ، ومنهم من هو في عمل الحرث ونحوه ، ومنهم من هو في تحصيل علف ماشيته ، ولم يسمع عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه عذر أحداً عن حضور الصلاة في أوقاتها ، ولا بلغنا أن أحداً منهم طلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له ، لعلمهم أن هذا لا يسوغه الشرع .(2/291)
قلت : من سوّغ الجمع دائماً وأبداً من غير عذر من أعذار الجمع الثلاثة التي هي السفر والمرض والمطر استناداً إلى قول شخص بعينه ، فقد اتخذه مشرعاً ودخل في هذه الآية { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ } (الشورى: من الآية21) . وليعد للسؤال جواباً ، لأنه رفض النصوص الشرعية الدالة على التوقيت من كتاب وسنة ، وما أكثرها ، وأخذ بقول من ليس بمعصوم ، فإلى الله المشتكى ، وبين يديه الملتقى ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
قال الشوكاني – رحمه الله - : وأما التمسك بحديث جمعه - صلى الله عليه وسلم - في المدينة فهذا وقع مرة واحدة ، وتأوله كثير من الراوين للحديث ، وحمله بعضهم على الجمع الصوري لتصريح جماعة من رواته بذلك ، وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة وذكرنا في شرح المنتقى ما ينتفع به طالب الحق . اهـ.
قلت : حديث ابن عباس قال راويه لما سُئل : لم فعل ذلك ؟ قال : أراد ألا يحرج أمته . ومعنى ذلك – والله أعلم - : أنه صلوات الله وسلامه عليه أراد أن يشرع لأمته شرعاً للضرورات ، كأن يقع مثلاً حريق والناس يدأبون على إطفائه وإنقاذ من يمكن إنقاذه ، أو دهمهم سيل أو فيضان والناس في إنقاذ الأرواح والأموال ، أو حصل زلزال تهدمت بسببه أبنية والناس يدأبون في إنقاذ من تحت الأبنية لعلهم يجدون بعضهم أحياء ، أو يكون للإنسان مريض لا يوجد له أحد غيره فإذا تركه تضرر ، فهذا يجوز له الجمع لتمريض مريضه .
ومما سبق يتبين أن مذهب الجمهور وسط بين الإفراط والتفريط .
فالإفراط في مذهب الحنفية : الذين منعوا الجمع في غير عرفة ومزدلفة .
والتفريط في مذهب الهادوية : الذين أجازوا الجمع لأي عمل من أعمال الدنيا ، بل قد اتخذه أتباع هذا المذهب ديدناً بل قد أسقطوا وقت العصر والعشاء من الحساب ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .(2/292)
قال ابن عبد البر في التمهيد – رحمه الله(1) - : وقد تقدم القول في جمع الصلاتين في السفر ، وأما في الحضر لغير عذر فإنه لا يجوز على أي حال البتة إلا طائفة شذت ، سنورد ما إليه ذهبوا إن شاء الله .
وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس أنه قال الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر من الكبائر وهو حديث ضعيف .
ثم اختلف أهل العلم في الجمع من أجل المطر ، فأجازه مالك في الليل أي بين المغرب والعشاء ومنعه في النهار أي بين الظهر والعصر ، وإن كان المطر نازلاً .
قال ابن عبد البر في التمهيد (12/210) : واختلفوا في عذر المرض والمطر ، فقال مالك وأصحابه : جائز أن يجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر ، قال : ولا يجمع بين الظهر والعصر في حال المطر .
قلت : ويجمع بين المغرب والعشاء وإن لم يكن مطر إذا كان طيناً وظلمة ، هذا هو المشهور من مذهب مالك في مساجد الجماعات في الحضر .
وهذا القول هو جواز الجمع لعذر المطر بين المغرب والعشاء هو المشهور عن الإمام أحمد ، قال في المغني : ويجوز الجمع بين المغرب والعشاء لأجل المطر ، ويروى ذلك عن ابن عمر وفعله أبان بن عثمان في أهل المدينة ، وهو قول الفقهاء السبعة ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق ، وروى عن مروان وعمر بن عبد العزيز .. إلى أن قال : فأما الجمع بين الظهر والعصر فغير جائز ، قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : يجمع بين الظهر والعصر في المطر ؟ قال : لا ، ما سمعت بهذا ، وهذا اختيار أبي بكر ابن حامد وقول مالك .
__________
(1) ... التمهيد 12/210 .(2/293)
وقال أبو الحسن التميمي فيه قولان ، أحدهما : أنه لا بأس به وهو قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي لما روى يحيى بن واضح ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في المدينة بين الظهر والعصر في المطر ، قال : ولأنه معنى أباح الجمع بين الظهر والعصر كالسفر(1)اهـ.
واختلفوا في مشروعية الجمع للمريض بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية إلى جواز الجمع للمريض ومنع ذلك الشافعي ، وقال الليث بن سعد : يجمع المريض والمبطون ، وقال مالك : إذا خاف المريض أن يغلب على عقله جمع جمع تقديم ، أما إذا لم يخف على عقله أن يغلب ولكن كان الجمع أرفق به فإنه يجوز له أن يجمع بينهما في وسط الأولى وأخرها .
أما إذا جمع وليس بمضطر فإنه يعيد مادام في الأولى ، فإن خرج الوقت ولم يعد فلا شيء عليه .
وقال أبو حنيفة يجوز أن يجمع المريض كجمع المسافر(2) أي في أخر وقت الأولى وأول وقت الثانية .
هذه مذاهب الفقهاء في مشروعية الجمع للمريض ، والأشبه بالحق عندي أنه يجوز الجمع للمريض سواء كان تقديماً أو تأخيراً ؛ وذلك أن المشقة الحاصلة بالمرض أعظم من المشقة الحاصلة بالسفر ، وقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمع للمستحاضة بل أمرها به في قوله : فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلين العصر وتغتسلين لهما غسلاً واحداً يعني فافعلي .
والاستحاضة مرض وحديثها دليل على جواز الجمع للمريض ، علماً بأن المشقة الحاصلة على المريض بأداء كل صلاة في وقتها معلومة لدى الجميع لا يختلف فيها اثنان . وبالله التوفيق .
باب قصر الصلاة في السفر
[
__________
(1) ... المغني رئاسة البحوث ج2/274 .
(2) ... التمهيد لابن عبد البر ج12 ص218/219 .(2/294)
133] : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك .
موضوع الحديث :
القصر في السفر .
المفردات :
فكان لا يزيد في السفر على ركعتين : كان تفيد الاستمرار غالباً .
قوله وأبا بكر وعمر وعثمان : تقديره وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان فلم يزيدوا على ركعتين في السفر .
المعنى الإجمالي :
يخبر عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أنه صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الثلاثة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم فلم يزيدوا في السفر على ركعتين في الرباعية وأنهم لم يصلوا السنن الرواتب في السفر .
فقه الحديث :
يؤخذ من الحديث مسائل :
المسألة الأولى : مشروعية القصر في السفر وهو أمر مجمع عليه قال في الإفصاح لابن هبيرة اتفقوا على القصر في السفر ، ثم اختلفوا هل هو رخصة أو عزيمة فقال أبو حنيفة هو عزيمة وشدد فيه حتى قال إذا صلى الظهر أربعاً ولم يجلس بعد الركعتين بطل ظهره وقال مالك والشافعي وأحمد هو رخصة وعن مالك أنه عزيمة كمذهب أبي حنيفة اهـ. إفصاح
1/165 .(2/295)
قلت : يرد على من زعم أن القصر عزيمة بما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها من طريق الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : " الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأُتمت صلاة الحضر قال الزهري فقلت لعروة ما بال عائشة تُتمُ قال تأولت ما تأول عثمان "(1)
فأقول : لو كان القصر عزيمة لما تأولت عائشة في تركه فلما تأولت في تركه دل على أنه رخصة وليس بعزيمة .
ثانياً : أن قوله جل وعلا : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً } (النساء:101) .
مفهوم هذه الآية أن الإتمام هو الأصل وأن القصر رخصة من عزيمة وأن العزيمة هي الأصل وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة وقال مالك إذا صلى تماماً أعاد في الوقت لذلك قال بعضهم أن مذهبه كمذهب أبي حنيفة ونفي الجناح عمن قصر دال على أن الأصل هو الإتمام .
__________
(1) ... البخاري كتاب الجمعة باب يقصر إذا خرج من موضعه رقم 1090 ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب صلاة المسافرين وقصرها رقم 685 والنسائي في كتاب الصلاة باب كيف فرضت الصلاة رقم 453 ورقم 454 وأبو داود في كتاب الصلاة باب صلاة المسافر رقم 1198 وأحمد في باقي مسند الأنصار ومالك في كتاب النداء للصلاة باب قصر الصلاة في السفر رقم 337 والدارمي في كتاب الصلاة باب قصر الصلاة في السفر رقم 1509(2/296)
وقد رد القرطبي في تفسير الآية على من قال القصر هو الأصل واستدل بحديث عائشة بقوله ولا حجة فيه لمخالفتها له فإنها كانت تتم في السفر وذلك يوهنه وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم يعني أن المسافر إذا إئتم بمقيم وجب عليه الإتمام وهذا دال على أن الإتمام هو الأصل ونفي الجناح عمن قصر يدل عليه ومما يدل على ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة "(1). والقرطبي قد أعل حديث عائشة أيضاً بالاضطراب فقال ثم إن حديث عائشة رضي الله عنها قد رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قال : " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ركعتين ركعتين " وقال فيه الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : " فرض الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ركعتين " الحديث . وهذا اضطراب . اهـ.
المسألة الثانية : أن مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - على القصر في السفر وعمل الخلفاء الراشدين به من بعده يدل على رجحانه على الإتمام فالعمل به أفضل .
المسألة الثالثة : اتفق العلماء على أنه لا تقصير في صلاة الفجر ولا في صلاة المغرب . قال الحافظ ابن حجر نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا تقصير في صلاة الفجر ولا في صلاة المغرب . اهـ.
المسألة الرابعة : أنه يجوز القصر في كل سفر مباح ، قال النووي ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر .
__________
(1) ... مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب صلاة المسافرين وقصرها والنسائي في كتاب الصلاة باب كيف فرضت الصلاة وفي كتاب تقصير الصلاة في السفر وفي كتاب صلاة الخوف في كتاب الصلاة باب من قال يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون .(2/297)
قلت : يرد على هؤلاء بحديث يعلى ابن أمية رضي الله عنها قال قلت لعمر بن الخطاب أرأيت قول الله { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقد ذهب الخوف قال سألت رسول الله عما سألتني عنه فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته(1) " .
ثم قال : وذهب بعضهم إلى أن السفر المبيح للرخص وهو للحج أو العمرة أو الجهاد .
وقال بعضهم كل سفر في طاعة . وعن أبي حنيفة والثوري أنه يجوز القصر في كل سفر سواء كان طاعة أو معصية . وأقول : أرجو أن تكون الرخص جارية في كل سفر مباح أما المعاصي فلا يعان على معصيته بوضع شيء من الواجبات عنه وبالله التوفيق .
المسألة الخامسة : اختلف أهل العلم في السفر الموجب للقصر ما هو فذهب الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك إلى أنه أربعة برد . قلت : وهي على تقدير الميل بألف وستمائة متر 1600م تكون الأربعة برد بالكيلو ستة وسبعين (76) كيلو وثمان مائة متر أما إن قلنا أن الميل ألفي خطوة للجمل كما في التقدير القديم فإنه يكون أكثر من ذلك وقد قدره محقق كتاب الاستذكار أي قدر الثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً بواحد وثمانين كيلاً (81) وهو سير يومين للجمل والرِجل أي يومان بدون لليالي أو ليلتان بدون أيام أو يوماً وليلة متصلة .
__________
(1) ... مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها والترمذي في كتاب تفسير القرآن سورة النساء والنسائي في كتاب الخوف 1، وأبو داود في كتاب الصلاة باب صلاة المسافرين وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة باب تقصير الصلاة في السفر وأحمد في مسند العشرة والدرامي في كتاب الصلاة باب قصر الصلاة في السفر .(2/298)
وقالت الحنفية لا يقصر إلا في سفر يكون مسافة ثلاثة أيام من أقصر أيام السنة وقالت الظاهرية من خرج مسافة ثلاثة أميال قصر هذه مذاهب الناس في المسافة التي يجوز للمسافر أن يقصر فيها وليس في ذلك عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - نص صريح أن من سافر كذا جاز له القصر ولكن عنه - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح سمى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مسافة يوم منفرد وليلة منفردة سماها سفراً وذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صحيح مسلم رقم 1339 من طريق قتيبة بن سعيد حدثنا الليث (يعني ابن سعد) عن سعيد ابن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحل لامرأة مسلمةٍ تسافر مسيرة ليلةٍ إلا ومعها رجلٌ ذو محرم منها "(1).
__________
(1)
(
1) ... مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 1339 وأبو داود في كتاب المناسك باب في المرأة تحج بغير محرم رقم 1723 .(2/299)
ومن طريق زهير بن حرب حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ إلا مع ذي محرم"(1) . وقد روى أبو هريرة مسيرة "يوم وليلة"(2) "وأن تسافر ثلاثاً"(3) وروى أبو سعيد الخدري في نفس الكتاب والباب " مسيرة يومين "(4) "وثلاث"(5) "وفوق ثلاث"(6) . وروى ابن عمر أيضاً "ثلاث ليال"(7) .
__________
(1) ... مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 1339 ابن ماجة في كتاب المناسك باب المرأة تحج بغير ولي رقم 2899 .
(2) ... البخاري في كتاب الجمعة باب في كم يقصر الصلاة رقم 1088 ومسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 1339 والترمذي في كتاب الرضاع باب ما جاء في كراهية أن تسافر المرأة وحدها رقم 1170 وأبو داود في كتاب المناسك باب المرأة تحج بغير محرم رقم 1723 ومالك في كتاب الجامع باب ما جاء في الوحدة في السفر للرجال والنساء رقم 1833
(3) ... البخاري في كتاب الجمعة باب في كم يقصر الصلاة رقم 1087 ومسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 1338ورقم 1339 وأبو داود في كتاب المناسك باب المرأة تحج بغير محرم رقم 1727 .
(4) ... البخاري في كتاب الجمعة باب مسجد بيت المقدس رقم 1197 وفي كتاب الحج باب حج النساء رقم 1864 وفي كتاب الصوم باب صوم يوم النحر رقم 1996 ومسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 827 .
(5) ... مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 827 .
(6) ... مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 827 .
(7) ... مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 1338 .(2/300)
والاستدلال من هذا الحديث من حيث تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المسافات المذكورات في هذه الأحاديث سفراً وقد وجدنا أقل ما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سفراً هو مسافة يوم منفرد أو ليلة منفردة سمى ذلك سفراً وهو مسيرة يوم تام للجمل والرِجل وذلك يقدر بنحو بريدين أربعة وعشرون ميلاً ونحو أربعين كيلو وقد ورد في رواية لأبي داود بريداً ذكرها المنذري برقم 1651 وسكت عليها والذي أعلمه أنها من طريق سهيل بن أبي صالح وفيه كلام من قبل حفظه ورواية اليوم المنفرد والليلة المنفردة هي التي صحت لنا من غير قادح كما تقدم وهذا التحديد هو الحق لأمور :
الأمر الأول : أنها هي عمل الصحابي راوي الحديث قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في كتابه الاستذكار ج6 ص83 : " وقد اختلف عن ابن عمر في أدنى ما يقصر إليه الصلاة وأصح ما في ذلك عنه ما رواه عنه ابنه سالم ومولاه نافع أنه لا يقصر إلا في مسيرة اليوم التام أربعة برد " . ذكره ذلك برقم 8013 وقد روى مالك عن نافع أنه كان يسافر مع عبد الله بن عمر البريد ولا يقصر .(2/301)
وأقول : الأصل في ذلك تسمية مسيرة اليوم سفراً من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن ذلك يختلف باختلاف اليوم في الطول والقصر واختلاف الليل أيضاً في الطول والقصر كذلك فمن سافر يوماً من أيام الربيع القصيرة جاز له القصر وكذلك من سار ليلة من ليالي الصيف القصيرة جاز له القصر لأنه وقع عليه اسم اليوم واسم الليلة كما أنه يختلف باختلاف سرعة السير وبطئه فسير القافلة والمشي المعتدل بين السرعة والبطيء الشديد يختلف عن المشي السريع وأذكر أنا كنا نرتحل بالقافلة من قريتنا إلى مدينة جازان بعد صلاة العصر في أول وقتها في أيام الصيف مع أنه يكون ما بين دخول وقت العصر والمغرب ثلاث ساعات أو ما يقاربها ومع طريق مختصر وسير الليل كله ونصل إلى جازان ضحوة وذلك في الستينات وإذا أردنا أن نسرع في الرجوع وكان في القافلة ناقة باهل ترك صاحبها ولدها في البيت قدمناها فنمشي بعد المغرب ونصلي الصبح حول القرية والمسافة هي المسافة سبعون كيلو متر تقريباً وعلى هذا يحمل تفسير اليوم التام بمسيرة أربعة برد أما السير المعتدل للقافلة والأقدام فهو بريدان ومن كذب جرب . إن اسم اليوم والليلة اسم مجمل يقع على اليوم الطويل والقصير والمشي السريع والبطيء وترك تقييده من الشارع إنما كان رحمة بنا وما كان ربك نسيا فمن سار مسافة يوم ولحقته مشقة السفر فله القصر والفطر سواء سار بريدين أو أربعة برد ولعل السلف قدروه بأربعة برد بالسير السريع احتياطاً للدين .(2/302)
وقد روى عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه عن مالك عن ابن شهاب عن سالم أن ابن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام وإن المشقة اللاحقة بسفر يوم بسير الرجل والجمل مبيحة للقصر والفطر كما يباح ذلك في حق من قطع أربعة برد على دابة نجيبة وبسير سريع لأن كلاً منهما قد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سفراً ولأن كلاً منهما موجب للمشقة وإنما اختلفت اجتهادات الصحابة ومن بعدهم من السلف لأن بعضهم رأى أن الأحوط هو الأخذ بالتحديد الأعلى ثلاث فما فوقها وهذا قد ترك رواية اليومين واليوم والليلة وبعضهم رأى أن الواجب هو الأحوط في حق المكلف فأخذ برواية اليوم المنفرد أو الليلة المنفردة ويؤيد هذا المأخذ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بن أبي العاص الثقفي أنت إمامهم واقتد بأضعفهم فما صاحب الدابة الفارهة والقوة بأولى بالتخفيف من صاحب الدابة الضعيفة والجهد الضعيف مع أني لا أعنف أحداً أخذ بالرأي الآخر إلا أن تحديد الظاهرية بثلاثة أميال لإباحة القصر والفطر وتسميتهم لهذه المسافة سفراً فهذا قول ظاهر البطلان وحديث أنس في الصحيحين إنما قصد به ابتداء القصر في سفر طويل . وبالله تعالى التوفيق .
المسألة السادسة : متى يبدأ المسافر في السفر الطويل بالقصر ؟(2/303)
قال البخاري باب يقصر إذا خرج من موضعه قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري(1) يعني إذا قصد سفراً تقصر في مثله الصلاة وهي من المسائل المختلف فيها أيضاً قال ابن المنذر أجمعوا على أن لمن يريد السفر أن يقصر إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها واختلفوا فيما قبل الخروج عن البيوت فذهب الجمهور إلى أنه لا بد من مفارقة جميع البيوت وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو كان في منزله ومنهم من قال إذا ركب قصر إن شاء ورجح ابن المنذر الأول أنهم اتفقوا أنه يقصر إذا فارق البيوت . اهـ.
قلت : وأثر علي الذي أورده البخاري بعد الترجمة دليل للقول المرجح وهو قوله ، وخرج علي - رضي الله عنه - فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة قال لا حتى ندخلها . وأرود البخاري حديث أنس - رضي الله عنه - برقم 1089 من طريق أبي نعيم قال حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة عن أنس - رضي الله عنه - قال صليت الظهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين هكذا لفظ البخاري قال الحافظ وفي رواية الكشميهني والعصر بذي الحليفة ركعتين وهي ثابتة في رواية مسلم وكذا في رواية أبي قلابة عند المصنف في الحج وذكر الحافظ أن بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال . ومقتضى كلام الحافظ أنها أول منزلة نزلها من المدينة .
قلت : فعل علي - رضي الله عنه - الذي هو أحد الخلفاء الراشدين دال لما قرره الجمهور أن يبتدأ القصر بعد خروج المسافر من أعمال قريته ويستمر فيه حتى يدخلها .
المسألة السابعة : إلى كم يستمر في القصر إذا نزل بأرض له فيها حاجة ؟
اعلم أن من نزل بأرض له فيها حاجة إما أن يكون منتظراً قضاء حاجته متى قضيت ارتحل وإما أن يكون عنده علم أنه لابد له من إقامة معينة .
__________
(1) ... فتح الباري ج3/569 ط رئاسة البحوث .(2/304)
فأما من كان منتظراً قضاء حاجته متى قضيت ارتحل إلا أنه لا يدري متى تقضى وبقي متردداً فهذا يجوز له القصر وإن بقي مدة طويلة ، دليله فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أقام بعد الفتح في مكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة فقد روى البخاري في تقصير الصلاة رقم 1080 من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا .
وقد ذكر الحافظ أنه ورد في رواية سبعة عشر يوماً عند أبي داود وورد عنده أيضاً من طريق عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين . وذكر البيهقي أنه جمع بين هذه الروايات أن من قال تسعة عشر حسب يومي الدخول والخروج ومن قال سبعة عشر أسقطهما ومن قال ثماني عشرة أسقط أحدهما وقد ورد خمسة عشر يوماً وقد ورد أنه أقام بتبوك عشرين يوماً فمنهم من قال نقصر إلى هذا العدد ثم نتم ومنهم من قال يقصر ما لم يجمع مكثا وإن طال . وفي مصنف ابن أبي شيبة آثار كثيرة عن السلف أنهم قصروا مدة طويلة إلا أنهم كانوا في الغزو ومثل هذه الآثار تحمل على التردد أو أنهم فعلوا ذلك باعتبارهم في الغزو وفي هذه المسألة خلاف كثير يدل على أنهم كانوا مجتهدين .
وأما من عزم على إقامة معينة فقد اختلف فيه أيضاً فأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يوماً يقصر فنحن إذا أقمنا تسعة عشر قصرنا وإذا زدنا أتممنا . وفي رواية حفص سبع عشرة قال أبو عمر حفص أحفظ من أبي عوانة إلا أن عباد بن منصور قد تابع أبا عوانة .(2/305)
وقد نقل عن السلف أقوال بلغها ابن عبد البر في الاستذكار إلى أحد عشر قولاً والقول الصحيح فيما يظهر لي أن من عزم على إقامة أربع غير يوم نزوله أتم الصلاة لحديث العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للمهاجر مقام ثلاثة أيام بعد قضاء نسكه عزاه في الاستذكار إلى البخاري في مناقب الأنصار الحديث رقم 3933 ومسلم في الحج برقم 3239 .
قلت : ودلالة الحديث على هذه المسألة أن الزيادة على ثلاثة أيام يسمى إقامة فيلزم فيه الإتمام وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي والإمام أحمد بن حنبل وقال الشافعي ولا يحسب من ذلك يوم نزوله ولا يوم ارتحاله وقال به أتباع الأئمة الثلاثة فيما أعلم وقال في مسائل الخرقي مسألة رقم 277 وإذا نوى المسافر أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم .
قال في المغني المشهور عن أحمد رحمه الله أن المدة التي تلزم المسافر الإتمام بنية الإقامة فيها هي ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة رواه الأثرم والمروذي وغيرهما . وعنه أنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإذا نوى دونها قصر وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور لأن الثلاثة حد القلة إلى أن قال ، وقال الثوري وأصحاب الرأي إن أقام خمسة عشر يوماً مع اليوم الذي يخرج فيه أتم وإن نوى دون ذلك قصر وقال قتادة من نوى إقامة أربع صلى أربعاً .(2/306)
المسألة الثامنة : إذا اقتدى المسافر بمقيم صلى صلاة مقيم والدليل عليه ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا إئتم بمقيم قال تلك السنة . وفي لفظ أنه قال له موسى بن سلمة إنا إذا كنا معكم صلينا أربعاً وإذا رجعنا صلينا ركعتين فقال تلك سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال الشوكاني وقد أورد الحافظ هذا الحديث في التلخيص ولم يتكلم عليه وقال إن أصله في مسلم والنسائي بلفظ قلت لابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلي مع الإمام قال ركعتين سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - اهـ. من نيل الأوطار باب اقتداء المقيم بالمسافر ج3 ص166 ط دار المعرفة . وبالله التوفيق .
الشيخ / أحمد بن يحيى النجمي(2/307)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :-
فإن أولى ما شمّر في تحصيله المشمرون وأفضل ما بحث عنه الباحثون وسعى إليه المتسابقون هو العلم الشرعي المأخوذ من نصوص الشرع الأصيلة كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لكي تؤيد كل مسألة بدليلها ويرد كل قول فقهي إلى مأخذه من كتاب الله و من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .(3/1)
وما من شك أن هذا هو الواجب على كل شخص باحث عن الأحكام الشرعية امتثالاً لأمره عز وجل حيث يقول { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [الشورى:10]وقوله { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء :83] وقوله { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [النساء :65] وقوله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً } [ الأحزاب: 36 ] إلى غير ذلك من الآيات وفي الحديث ( ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ) فلا بد أن يكون مرتكز الأقوال الفقهية على الأدلة فما أيده الدليل منها أخذ إذا كان الدليل صحيحاً صريحاً بمنطوقه أو ظاهره وكان محكماً أي لم يكن منسوخاً وما لم يكن عليه دليل أو دليله ضعيف أو صحيح لكنه غير واضح الدلالة فإنه يستبعد إلا إذا أيده قول صاحب غير معارض بمثله .(3/2)
ومن أجل ما قد سبق سبره فقد ساهمت بجهد المقل فكتبت شرحاً مبسطاً على عمدة الأحكام سميته ( تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام ) كتبت منه الجزء الأول في عامي 82/1383هـ وأرسلته إلى الشيخ الألباني رحمه الله حين كان في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في ذلك الوقت فحققه وبعد استقالتي من التدريس في عام 1384هـ وتعييني في الدعوة انشغلت بالجولات الدعوية وكتبت في أوقات فراغي على بضعة أحاديث كتابة وافية نوعاً ما وبعد عودتي إلى التدريس توقفت عن الكتابة زمناً لوضعي الصحي وانشغالي بحلقات الدروس في المساجد بالإضافة إلى التدريس النظامي في المعهد العلمي حتى عام 1419هـ كلمني بعض طلاب العلم في إكمال هذا الشرح ولكن لعجزي عن الكتابة على سبيل التأليف فقد عرضت على الطلبة أن أقرر لهم درساً أسبوعياً في عمدة الأحكام وأملي عليهم ما يسره الله ليكون شرحاً مكملاً لهذا الكتاب .
وأنا ملتزم فيه بالطريقة التي التزمتها في أوله من حيث الموضوع ثم المفردات ثم المعنى الإجمالي ثم فقه الحديث وأن يكون الترجيح فيه مبنياً على الدليل من غير تحيز إلى مذهب خاص فكان المرجع في هذه الإملاءات شرح ابن دقيق العيد وحواشي ابن الأمير الصنعاني عليه المسمى العدة رحم الله الجميع وفي أثناء الجزء الرابع اقتنيت كتاب الإعلام لابن الملقن رحمه الله الذي شرح به العمدة فكان هو المرجع في الجزء الخامس وبعض من الرابع وقد أعانني الله على إكماله على الطريقة التي التزمتها والحمد لله وله الفضل في ذلك وفي غيره
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً . ... ...
...
كتبه أحمد بن يحيى النجمي
في 13/8/1425هـ
بسم الله الرحمن الرحيم(3/3)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:70-71) أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبدالله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
أما بعد فإن من المعلوم أن الله عز وجل قد فضل العلم بشرعه وجعله من أشرف ما تسابق إليه المتسابقون وأجل ما حصله المحصلون ونفى التسوية بين أهله وبين غيرهم بقوله تعالى ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9) ومن فضل أولي العلم أن الله استشهد بهم على أجلّ مشهود عليه وهو توحيده فقال تعالى (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18)
ومن فضلهم أن الله أثنى عليهم بحفظ كتابه(3/4)
وشرفهم بأن جعل صدورهم أوعية لآياته وهذه خاصية ومنقبة لهم دون سواهم فقال تعالى ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (العنكبوت:49) وشهد الله سبحانه وتعالى لمن آتاه العلم بأنه قد آتاه خيراً كثيراً فقال تعالى ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة:269) ووصف الله العلماء العاملين بطاعته المستقيمين على شرعه بأنهم أشد خشية له من غيرهم فقال تعالى ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر:28) وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ) رواه الترمذي إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على فضل العلم وتعلمه وتعليمه ، ولا يحصل تعلم العلم إلا بطلبه على أيدي العلماء الراسخين فيه وهم حملة العلم الشرعي المستمد من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فهم سلف الأمة ومن أجل ذلك فقد قام العلماء بنشر هذا العلم بين الناس ومن هؤلاء العلماء الذين قاموا بنشر العلم بين الناس فضيلة شيخنا العلامة / أحمد بن يحيى النجمي حفظه الله فقد قام بنشر هذا العلم عن طريق التدريس والتأليف منذ أن كان طالباً في حلقة شيخه عبدالله القرعاوي رحمه الله حيث كان يرسلهم الشيخ للدعوة والتعليم في القرى لنشر العقيدة الصحيحة وتعليم الناس أمور دينهم .(3/5)
واستمر الشيخ على هذه الطريقة ولما عين بالمعهد العلمي بصامطة لم يمنعه العمل الوظيفي على التقصير بالدعوة بل استمر على طريقته بالتدريس والتأليف والتعليم حتى أحيل على التقاعد ولما أحيل على التقاعد كثف العمل في حلقات المساجد فاستمر يعمل ذلك ابتغاء وجه الله عز وجل
نحسبه كذلك والله حسيبه .
ومن الكتب التي قام الشيخ بتدريسها كتاب عمدة الأحكام في مسجده بقرية النجامية في درس أسبوعي مع وجود دروس غيرها ومن خلال هذه الدروس التي كان يلقيها علينا الشيخ تكونت الأجزاء الثلاثة الأخيرة ( الثالث والرابع والخامس )
وذلك لأن الجزء الأول كان قد كتب قبل ذلك في عامي 82/1383هـ وأرسله الشيخ حفظه الله إلى الشيخ الألباني رحمه الله حين كان في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ثم كتب بعد ذلك الجزء الثاني الذي توسع فيه الشيخ توسعاً أكثر بخلاف الجزء الأول وسماها ( تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام ) والشيخ حفظه الله من العلماء الذين لا يتقيدون بمذهب معين و لا يتعصبون للمذاهب بل يسير مع الدليل ويرجح ما رجحه الدليل كما هي طريقة شيخه عبدالله القرعاوي رحمه الله نسأل الله أن يوفقه لكل خير ، وأن يكتب ذلك في ميزان حسناته إنه سميع مجيب .
أما بالنسبة لعملي مع هذه الأجزاء فهي كالتالي :
بالنسبة للجزء الأول فقد قمت بنقله مرة أخرى على جهاز الكمبيوتر ليطبع مع بقية الأجزاء مرة أخرى وذلك لأن الطبعة الثانية منه بها أغلاط كثيرة فاعتمدت على الطبعة الأولى التي قد تكاد تكون مفقودة التداول من السوق . وبالنسبة للجزء الثاني فلم أنقله بنفسي بل أن هناك شخصاً آخر قام بنقله على الحاسب وإن كنت قد شاركت في نقله وتبييضه باليد مع بعض الأخوة(3/6)
أما بقية الأجزاء وهي الثالث والرابع والخامس فبعد إلقاء الدرس علينا من الشيخ أرجع إلى البيت وأقوم بنقله على جهاز الكمبيوتر وأخرج الآيات والأحاديث من خلال الحاسب الآلي وذلك لسهولة الأمر في ذلك ويسره وبعض الأحاديث خرجها الشيخ بنفسه وقد رمزت لها باسم (النجمي) بين قوسين للدلالة على تخريجه وبالنسبة للتراجم فقد ترجمها الشيخ بنفسه
وقد اعتمدت على تصحيح وتضعيف الألباني رحمه الله وقد أجد بعض الأحاديث قد خرجت في بعض الكتب فأنقل ذلك التخريج وهذا نادر جداً وبعد نقلها وتخريجها أقوم بعرضها على الشيخ ليقوم بمراجعتها مرة أخرى وهكذا حتى اكتملت ولله الحمد ثم إنه بعد ذلك قمنا بمراجعتها مع الشيخ مرة أخرى قبل إرسالها للطبع .
نسال الله العلي القدير أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم وأنه يكتبه في ميزان حسناتنا يوم نلقاه إنه سميع مجيب
وأخيراً أطلب من إخواني من وجد خطئاً في تخريج أي حديث أن ينبهنا عليه لنصلحه وسنكون له من الشاكرين ونسأل الله أن يوفق مشايخنا لكل خير وأن يجمعنا بهم ومن نحب في جناته جنات النعيم إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه إبراهيم بن علي حنتول
11/8/1425هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
باب الجمعة(3/7)
الجمعة بضم الجيم والميم على الأشهر وبه قرأ الجمهور وقرئ بإسكان الميم وهذا اليوم كانت العرب تسميه يوم العروبة فصار في الإسلام اسمه يوم الجمعة فالجمعة اسم إسلامي له وفيه من الفضائل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه اهبط من الجنة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه ) (1) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فيه تقوم الساعة وأنه هو اليوم الذي كتب على من قبلنا من أهل الكتاب فأضلهم الله عنه وهدانا إليه فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد فنحن الآخرون السابقون يوم القيامة .
[133] الحديث الأول : عن سهل بن سعد الساعدي (2) رضي الله عنه قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال ((أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي )) .
وفي لفظ : صلى عليها ثم كبر عليها ثم ركع وهو عليها فنزل القهقرى
__________
(1) البخاري في كتاب الجمعة باب الساعة التي في يوم الجمعة رقم 935 ومسلم في كتاب الجمعة باب في الساعة التي في يوم الجمعة رقم 852 والترمذي في كتاب الجمعة باب ما جاء في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة رقم 491 والنسائي في كتاب الجمعة باب ذكر الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة رقم 1431 ، 1432وابن ماجة في كتاب الصلاة باب فيما جاء في الساعة التي ترجى في الجمعة بنحوه رقم 1137.
(2) هو أبو العباس سهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري وبنوا ساعدة من الأنصار متفق على إخراج حديثه مات سنة 91 وهو ابن مائة سنة وقيل سنة ثمان وثمانين وعلى هذا يكون قد مات وهو ابن سبع وتسعين وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3/8)
موضوع الحديث : مشروعية اتخاذ المنبر الذي يقف عليه الخطيب يوم الجمعة
المفردات
قام : أي وقف
فكبر : أي تكبيرة الإحرام
ثم رفع : أي من الركوع
فنزل القهقرى : يعني يمشي على وراء
حتى سجد في أصل المنبر : يعني أنه مشى إلى الوراء حتى تمكن من السجود في أصل المنبر
ثم أقبل على الناس :أي بوجهه
فقال إنما صنعت هذا : يعني الصلاة على المنبر لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي
المعنى الإجمالي
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما بنى مسجده إذا خطب استند إلى جذع فخطب وهو مستند عليه فأرسلت إليه امرأة من الأنصار كان لها غلام نجار فأرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول هل تحب أن آمر غلامي يصنع لك أعواداً تقف عليها حين تكلم الناس قال نعم فصنع له ذلك الغلام منبراً من طرفاء الغابة مكوناً من ثلاث درجات فلما أتي به ووضع في المسجد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه وكبر تكبيرة الإحرام وهو عليه وقرأ وهو عليه وركع وهو عليه ورفع وهو عليه ثم نزل القهقرى يمشي إلى الوراء حتى نزل عن المنبر وتمكن من السجود فسجد ثم قام فرقى على المنبر وصنع كذلك حتى تمت صلاته ثم أقبل على الناس فقال إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي .
فقه الحديث(3/9)
أولاً: يؤخذ من الحديث جواز وقوف الإمام على مكان أرفع من مكان المأموم وعارضه ما رواه أبو داود أن حذيفة رضي الله عنه أمّ الناس بالمدائن على دكان والمراد بالدكان – الدكة التي تجعل للجلوس عليها – فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه فلما فرغ من صلاته قال ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك قال بلى قد ذكرت حين مددتني )(1)وروي عن عمار قصة قريبة من ذلك وفي سندها مجهول . وأخرج الدار قطني من حديث ابن مسعود ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم الإمام فوق والناس خلفه أسفل منه )(2)والجمع بين هذه الأحاديث وحديث سهل بن سعد ممكن بحمل النهي على الكراهة وحمل حديث سهل بن سعد على جواز ذلك إن كان لحاجة وعلى الكراهة حمل النهي بعض الفقهاء وفهم مالك وأصحاب الرأي وهو المشهور عند الحنابلة أفاد ذلك في المغني . وحكاه ابن دقيق العيد عن المالكية وذكر أنهم زادوا أنه إن قصد التكبر بطلت صلاته . ونقل الصنعاني في العدة عن الهادوية أنهم قالوا بعدم جواز ارتفاع الإمام على المأموم بما فوق القامة لا دونها وأجاز ذلك الشافعي للتعليم وعن أحمد ما يدل على أنه لا يكره لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه وقيد بعضهم الكراهة بما إذا قصد التكبر والله أعلم .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة باب الإمام يقوم مكاناً أرفع من مكان القوم رقم 597 ( صحيح )
(2) أخرجه الدارقطني في آخر باب من الصلاة وفي سنده زياد البكائي وروايته عن غير ابن إسحاق فيها لين وهو عن أبي مسعود الأنصاري وليس ابن مسعود (( النجمي))(3/10)
ثانياً :فيه دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة لكن فيه إشكال على من حد العمل الكثير بثلاث خطوات فإن منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ثلاث درجات والصلاة كانت على العليا منها ومن ضرورة ذلك أن يقع ما أوقعه من الفعل على الأرض بعد ثلاث خطوات والذي يعتذر به عن هذا أن يدّعى عدم التوالي بين الخطوات فإن التوالي شرط في الإبطال أهـ .هذا كلام ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام . وقال الصنعاني في العدة أقول لأنه ينزل من الدرجة العليا إلى الثانية ومن الثانية إلى الثالثة ثم منها إلى الأرض فلا بد من خطوة في الأرض يتباعد بها عن آخر درجة ليتسع سجوده فأقلها أربع . انتهى قلت : من المعلوم أن الخطوات إلى وراء غير واسعة إذاً فلا بد من خمس خطوات لكي يتمكن من السجود بعد أن ينزل ولا بد أن تكون هذه الخطوات متوالية لأنها في الاعتدال بين الركوع والسجود وهو وقت يسير وبهذا تعلم أن التحديد بثلاث خطوات للإبطال تحديد لا دليل عليه لا سيما وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه (فتح الباب ) (1)
__________
(1) يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها قالت :(جئت يوماً من خارج ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في البيت والباب عليه مغلق فاستفتحت فتقدم وفتح لي ثم رجع القهقرى إلى مصلاه فأتم صلاته ) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب العمل في الصلاة رقم 922والترمذي في كتاب الجمعة باب كيف تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار رقم 601والنسائي في كتاب السهو باب المشي أمام القبلة خطاً يسيرة رقم 1206 حسنه الألباني في سنن أبي داود ..(3/11)
وهذا يحتاج إلى أنه يمشي إلى الباب خطوات ويرجع بخطوات وصح أنه ( حمل الصبية وهو يصلي ) (1) فكان يحملها إذا قام ويضعها على الأرض إذا ركع وسجد وهذا يحتاج إلى حركات وأنه ( أمر بقتل الحية والعقرب في الصلاة ) (2) وهذا لا تنظبط فيه الحركات ومن ذلك إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن شيطاناً اعترضه في صلاته وأن الله أمكنه منه قال (فذعته حتى وجدت برد لعابه على يدي ) (3)
__________
(1) كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب جواز حمل الصبيان في الصلاة رقم 543 والنسائي في كتاب الإمامة باب ما يجوز من العمل في الصلاة رقم 827 والدارمي في كتاب الصلاة باب العمل في الصلاة رقم (1359،1360).
(2) كما في حديث أبي هريرة رضي الله قال (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الأسودين في الصلاة الحية والعقرب) رواه الترمذي في أبواب الصلاة باب ما جاء في قتل الحية العقرب في الصلاة رقم 390 كما رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب العمل في الصلاة رقم 921 والدارمي في كتاب الصلاة باب قتل الحية العقرب في الصلاة رقم 1504 والنسائي في كتاب السهو باب قتل الحية والعقرب في الصلاة رقم 1202ورقم 1203وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة رقم 1245 ( صحيح )
(3) البخاري في كتاب الجمعة باب ما يجوز من العمل في الصلاة رقم 1210ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه وجواز العمل القليل رقم 541 وأحمد في باقي مسند الأنصار ..(3/12)
ومن ذلك ما رواه البخاري في كتاب الكسوف من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت ( أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي فقلت ما للناس ؟ فأشارت بيدها إلى السماء وقالت سبحان الله فقلت آية ؟ قالت نعم - يعني : بالإشارة - فقمت حتى تجلاني الغشي فجعلت أصب فوق رأسي الماء ) (1) وكل هذه وغيرها أدلة أن العمل الذي يكون في الصلاة لحاجة لا يبطل الصلاة وإنما يبطلها العبث الذي يكون من الإنسان لغير حاجة ويمكن أن يقال أن التحديد بثلاث في الإبطال لما كان من الحركات لغير حاجة وهذا يحصل كثيراً من بعض المصلين فتجده يكبر ثم يهيئ غترته أو يحرك ساعته أو ما أشبه ذلك من الحركات التي تحصل عبثاً لغير حاجة وقد عدّ الحنابلة من مبطلات الصلاة العبث الكثير نسأل الله الهداية للجميع
ثالثاً :قال ابن دقيق العيد وفيه دليل على جواز إقامة الصلاة أو الجماعة لغرض التعليم . قلت :في هذا نظر لأن الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى الفرض وفعل ذلك فيه ليعلمهم فتكون الصلاة قد أقيمت لشيئين : أولهما وهو الأهم أداء الفرض .
وثانيهما التعليم وليس التعليم فقط .
رابعاً : وفيه مشروعية اتخاذ المنبر للجمعة وغيرها إذا أراد أن يكلم الناس ليشرف عليهم ويراهم جميعاً ويرونه
خامساً :وفيه أنه ثلاث درجات
سادساً:وفيه أنه من طرفاء الغابة وهذا يؤخذ من مجموع ألفاظ الحديث
[
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس رقم 86 وفي كتاب الجمعة باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف رقم 1053 وفي كتاب الوضوء باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل رقم 184 ومسلم في كتاب الكسوف باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار رقم 905 ومالك في كتاب النداء للصلاة باب ما جاء في صلاة الكسوف رقم 447 .(3/13)
134] الحديث الثاني :عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (من جاء منكم الجمعة فليغتسل ) .
موضوع الحديث : الأمر بالغسل للجمعة على من يأتيها .
المفردات
من : اسم شرط جازم
جاء : فعل ماضي وهو في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير فيه يعود على من وجملة فليغتسل جواب الشرط وجزاءه والفاء رابطة بين الفعل والجواب .
المعنى الإجمالي
كان الصحابة رضوان الله عليهم في أول الإسلام يعانون من الفقر والحاجة يلبسون الصوف ويخدمون أنفسهم فيأتون إلى الجمعة عليهم الغبار وفيهم العرق وكان المسجد ضيقاً فيزيد عليهم العرق في المسجد ويؤذي بعضهم بعضاً بالروائح الكريهة لذلك فقد أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث بدين الحق والطهر وأنزل الله عليه (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) [المدثر آية 4] فأمرهم بالغسل للجمعة والتنظف لها وأن يصيب الرجل من طيب بيته حتى يكون على أكمل حال وأحسن هيئة نظراً لأن الجمعة عيد المسلمين لذلك فقد قال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - (من جاء منكم الجمعة فليغتسل ) .
فقه الحديث(3/14)
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث أن الغسل مشروع لكل من أتى الجمعة سواء كان من أهل وجوبها أم لا وذلك أن من الشرطية تفيد العموم فهي تعم الذكر والأنثى والبالغ وغير البالغ وقد ورد في ذلك حديث عند ابن خزيمة في صحيحه بوب عليه بقوله باب أمر النساء بالغسل لشهود الجمعة أورده من طريق زيد بن حباب حدثني عثمان بن واقد العمري حدثني نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء ) رقم الحديث 1752 قال المحقق إسناده صحيح وأشار الحافظ في الفتح 2/358 إلى رواية ابن خزيمة هذه وقال ففي رواية عثمان بن واقد عن نافع عند أبي عوانة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهم . قلت: في إسناده ضعف .أنظر الضعيفة رقم 3958 قلت : قال الحافظ بعد سياق هذه الرواية ورجاله ثقات لكن قال البزار أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه وعثمان بن واقد صدوق ربما وهم قاله في التقريب .
وأقول إن ما ورد في هذا اللفظ صريحاً قد أفاده لفظ العموم المتفق عليه من جاء منكم الجمعة فليغتسل . وهذا يدل على ما دل عليه ذلك الحديث ويكون مؤيداً له وبالله التوفيق .
ثانياً :اختلف أهل العلم في هذا الأمر هل هو للوجوب أو للندب فذهب أهل الظاهر إلى وجوب الغسل يوم الجمعة متمسكين بظاهر هذا الحديث وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد المتفق عليه ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم ) وحكاه ابن حزم عن عمر وجمع من الصحابة .وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار إلى أنه سنة مؤكدة . أهـ من العدة للصنعاني .(3/15)
وقال ابن عبد البر في التمهيد 10/79 (أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب وفي ذلك ما يكفي ويغني عن الإكثار ولا يجوز على الأمة بأسرها جهل معنى السنة ومعنى الكتاب وهذا مفهوم عند ذوي الألباب إلا أن العلماء مع إجماعهم على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب اختلفوا فيه هل هو مسنون للأمة أم هو استحباب وفضل أو كان لعلة فارتفعت وليس بفرض ، فذهب مالك والثوري وجماعة من أهل العلم إلى أنه سنة مؤكدة لأنها قد عمل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده والمسلمون فاستحبوها وندبوا إليها وهذا سبيل السنن المذكروة فمن حجة من ذهب إلى هذا المذهب حديث أبي هريرة رضي الله عنه (من أغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ..إلخ الحديث ) أهـ .عزاه المحقق للتمهيد إلى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في المصنف .
قلت : وقع في بعض روايات الصحيحين غسل الجنابة وهذه الرواية وقعت للبخاري في باب فضل الجمعة بلفظ (من أغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ) والظاهر أن وجه الاستدلال من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتب عليه فضلاً ومن لم يفعل ذلك حرم الفضل فقط ولم يرتب عليه إثماً في تركه .(3/16)
ومما يستدل به على عدم الوجوب ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من إنكار عمر رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه التأخر فقال ( إني شغلت فلم انقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد على أن توضأت فقال عمر والوضوء أيضاً وقد علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل ) (1) أما وجه الدلالة منه فالذي يظهر أن عمر رضي الله عنه إنما احتج على عثمان رضي الله عنه في ترك سنة مع أنه من السابقين ولم يحتج عليه في ترك فرض قال النووي : وفيه إشارة إلى أنه إنما ترك الغسل لأنه يستحب فرأى اشتغاله بقصد الجمعة أولى من أن يجلس للغسل بعد النداء ولهذا لم يأمره عمر رضي الله عنه بالرجوع للغسل . وقال أيضاً واحتج الجمهور بأحاديث صحيحة منها حديث الرجل الذي دخل وعمر يخطب وقد ترك الغسل وقد ذكره مسلم وهذا الرجل هو عثمان بن عفان ووجه الدلالة أن عثمان فعله وأقره عمر وحاضروا الجمعة وهم أهل الحل والعقد ولو كان واجباً لما تركه ولألزموه أهـ يعني لألزموه بالرجوع للاغتسال ومن هذا يتبين للناظر أن غسل الجمعة ليس فرضاً ولا شرطاً في صحة الجمعة وإنما هو سنة يثاب من فعلها ولا يعاقب من تركها وبالله التوفيق .
[135] الحديث الثالث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم الجمعة فقال : (صليت يا فلان ؟ ) قال : لا قال : ( قم فاركع ركعتين ) .وفي رواية ( فصل ركعتين )
موضوع الحديث :التحية في وقت الخطبة
المفردات
جاء رجل : هو سليك الغطفاني
__________
(1) البخاري في كتاب الجمعة باب فضل الغسل يوم الجمعة رقم 878 ومسلم في كتاب الجمعة رقم 845 والترمذي في كتاب الجمعة باب ما جاء في الاغتسال يوم الجمعة رقم 494 وأبو داود في كتاب الطهارة باب في الغسل يوم الجمعة رقم 340 ومالك في كتاب النداء للصلاة باب العمل في الغسل يوم الجمعة رقم 229 والدارمي في الصلاة باب الغسل يوم الجمعة رقم 1539 .(3/17)
صليت يا فلان : استفهام بحذف الأداة أي أداة الاستفهام
قال لا : جواب الاستفهام يعني أنه لم يصل حين دخوله المسجد
قال قم فاركع ركعتين : أمر وقد ورد في بعض ألفاظه وتجوز فيهما
المعنى الإجمالي
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من دخل يوم الجمعة والإمام يخطب أن يركع ركعتين قبل أن يجلس وأن يتجوز فيهما بمعنى أن يخففهما
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث أن من دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يلزمه أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس وهذا هو قول الشافعي وأحمد وأكثر أصحاب الحديث لهذا الحديث وغيره مما هو أصرح منه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - ( إذا جاء أحدكم المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ) (1) وذهب مالك وأبو حنيفة إلى عدم جواز ركوع تحية المسجد لمن دخل والإمام يخطب وتأولوا هذه الأحاديث الصريحة الصحيحة بتأويلات متعسفة : أولها :أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر سليكاً سكت عن خطبته حتى قضى سليك صلاته وردّ هذا بأن الدار قطني ضعف هذا الحديث فليس فيه حجة حتى ترد به الأحاديث الصحيحة .الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تشاغل بمخاطبة سليك سقط فرض الاستماع عنه يعني عن سليك وردّ بأن ذلك انقضى حين انقضت مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى خطبته وتشاغل سليك بامتثال ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - . (2)
الثالث: أن هذه القصة قبل شروعه في الخطبة وردّ بأن ذلك ليس بصحيح بل قد دخل والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب .
__________
(1) مسلم في كتاب الجمعة باب التحية والإمام يخطب رقم 875 وأبو داود في كتاب الصلاة باب إذا دخل الرجل والإمام يخطب رقم 1116 وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء فيمن دخل المسجد والإمام يخطب بنحو حديث مسلم برقم 1114 .
(2) شرح العمدة لابن دقيق العيد مع العدة للصنعاني 3/122 والحديث أخرجه مسلم برقم 875 (( النجمي))(3/18)
الرابع :أن ذلك كان قبل تحريم الكلام في الصلاة وهذا مردود أيضاً بأن الكلام في الصلاة حرم قديماً بل قد قال بعضهم أن تحريم الكلام في الصلاة نزل بمكة .
الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر سليكاً بالركوع إنما فعل ذلك ليري الناس بذّته فيتصدقوا عليه لأنه كان رجلاً فقيراً وقد رد أيضاً والمهم أن الحافظ ابن حجر أوصل الاعتذارات عن العمل بهذا الحديث في الفتح إلى عشرة كلها واهية وإنما حمل على مثل هذه الاعتذارات التعصب المذهبي وتقديم أقوال الشيوخ والأئمة على النصوص التي جاءت عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - والحق ما أيده الدليل وهو المذهب الأول . ومن هنا تعلم أن التعصب للمذاهب داء عضال نسأل الله العافية منه وأقصد بذلك من يرد الدليل ويعتذر عن العمل به لأنه خالف رأي إمامه وبالله التوفيق .
ثانياً:يؤخذ من الحديث أن الخطبة لا تمنع أداء التحية فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - سليكاً بأداء التحية وهو يخطب .
ثالثاً : يؤخذ من هذا الحديث وما في معناه أن تحية المسجد واجبة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها أمراً إلزامياً في حال أداء الخطبة .
رابعاً :يؤخذ منه أنه يجب فعل تحية المسجد ولو في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
خامساً :يؤخذ منه أن التحية لا تفوت بالجلوس ولكن يكون فعلها قبل الجلوس أداءً وبعده قضاء
سادساً : يؤخذ منه أنه يجوز للخطيب أن يكلم بعض المأمومين ويكلمونه
سابعاً : يؤخذ منه أن المأموم يجوز له أن يكلم الإمام ومن ذلك حديث أنس رضي الله عنه قال ( دخل رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فقال يا رسول الله هلكت الأموال وجاع العيال فادع الله أن يسقينا ... الحديث )
[136] الحديث الرابع:عن جابر رضي الله عنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس .
موضوع الحديث :القيام في الخطبة والجلوس بين الخطبتين
المفردات(3/19)
وهو قائم : الواو واو الحال والجملة بعده حالية
قوله يفصل بينهما بجلوس : أي يفصل بين الخطبتين بجلوس
المعنى الإجمالي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب خطبتين يعظ الناس فيهما ويذكرهم ويرغبهم فيما عند الله ويرهبهم مما عنده يفصل بين الخطبتين بجلوس أي بقعدة خفيفة بين الخطبتين .
فقه الحديث
أولاً: أن هذا الحديث ليس من شرط المؤلف وهو أنه يخرج في هذا الكتاب ما اتفق عليه البخاري ومسلم وهذا الحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن جابر وهو ابن سمرة قال في المنتقى أخرجه الجماعة ما عدا البخاري والترمذي وقال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام وهذا اللفظ الذي ذكره المصنف لم أقف عليه بهذه الصيغة في الصحيحين فمن أراد تصحيحه فعليه إبرازه وقال الصنعاني في العدة قلت : وهذا اللفظ الذي أتى به المصنف هو لفظ الشافعي والنسائي والدار قطني كذا قال الحلبي في شرحه . وقال الزركشي لفظ النسائي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين قائماً وكان يفصل بينهما بجلوس أهـ العدة شرح العمدة 3/128 .(3/20)
ثانياً: يؤخذ من الحديث أن الخطبتين واجبتان وبه قال جمهور الفقهاء وقال الصنعاني في العدة قوله عند الجمهور أقول إشارة إلى ما نقل عن الحسن البصري والظاهري أي داود الظاهري أن الجمعة تصح بلا خطبة وحكي عن مالك .. وقال أبو حنيفة تجزيء خطبة واحدة . وقال الجمهور إنهما شرط لصحة الصلاة . أهـ من العدة 3/128 وقد نازع في ذلك بعض الفقهاء فقال ليس هناك ما يدل على الوجوب إلا مجرد الفعل ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب فضلاً عن الشرطية . قال ابن دقيق العيد فإن استدل بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهما مع قوله ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) (1) ففي ذلك نظر يتوقف على أن يكون إقامة الخطبتين داخلاً تحت كيفية الصلاة فإنه إن لم يكن كذلك كان استدلالاً بمجرد الفعل . وقال الصنعاني وأقول ومجرده لا يدل على الإيجاب كما عرف في الأصول وقال الحلبي بعد أن نقل كلام الشارح إن مجرد الفعل هنا كاف لأنه لم ينقل إنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها بلا خطبة ولو كان جائزاً لفعله ولو مرة
واحدة لبيان الجواز على أنه بيان لمجمل الكتاب العزيز أهـ. قال الصنعاني يريد به قوله تعالى ( فاسعوا إلى ذكر الله ) فإنه أمر بالسعي إلى ذكره وهو مجمل بينه فعله - صلى الله عليه وسلم - بالخطبتين والصلاة قلت : إن مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على الخطبتين منذ فرضت الجمعة إلى أن مات دال على أن تلك هي صفة الجمعة التي لا تصح بدونها .
__________
(1) البخاري في كتاب الأذان باب الأذان للمسافر رقم 631 وفي كتاب الأدب باب رحمة الناس بالبهائم رقم 6008 وفي كتاب أخبار الآحاد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد رقم 7246 والدارمي في كتاب الصلاة باب من أحق بالإمامة رقم 1253 .(3/21)
ثالثاً: يؤخذ من هذا الحديث أن الخطيب يخطب قائماً واستدل على ذلك بفعله - صلى الله عليه وسلم - وبقوله تعالى { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } [الجمعة آية 11] وترجم البخاري بقوله باب الخطبة قائماً قال في الفتح قال ابن المنذر عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار ونقل عن أبي حنيفة أن القيام في الخطبة سنة وليس بواجب وعن مالك أنه واجب فإن تركه أساء وصحت صلاته. وعند الباقين أن القيام للخطبة شرط للقادر كالصلاة فإنه ما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قائماً . وقد أخرج ابن أبي شيبة عن طاووس قال : (خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً وأبو بكر وعمر وعثمان وأول من جلس على المنبر معاوية ) وبحديث كعب بن عجرة : ( أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن الحكم يخطب قاعداً فأنكر عليه وتلا قوله تعالى (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) (1) وفي رواية ابن خزيمة ( ما رأيت كاليوم قط إماماً يؤم المسلمين يخطب وهو جالس يقول ذلك مرتين ) (2)
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى ج 3/ ص 196 ) رقم 5495 في كتاب الجمعة باب الخطبة قائماً ومسلم في كتاب الجمعة باب في قوله وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً من رواية محمد بن بشار وغيره إلا أنه قال عبدالرحمن بن أم الحكم رقم الحديث 864 والنسائي في كتاب الجمعة باب قيام الإمام في الخطبة رقم 1397 .
(2) رواه ابن خزيمة وذكره الحافظ في الفتح وسكت عنه .(3/22)
قلت : الذي يظهر من هذا البحث أن القيام في الخطبة واجب فإن تركه أساء وأثم وصحت صلاته لأن ذلك فعل في عهد الصحابة والصحابة متوافرون وذلك على عهد معاوية فلو كانت الصلاة باطلة لنقل ذلك عنهم . أما الجلوس فقد ورد واشتهر أن أول من فعله معاوية وقيل مروان والظاهر أن أول من فعله بالشام معاوية وأول من فعله بالمدينة مروان تأسياً بمعاوية . وقد ذكر أن معاوية لما كثر شحم بطنه لم يستطع القيام فخطب جالساً وتأسى به عماله وكانت سنة في بني أمية لم تتغير إلا عندما قامت دولة العباسيين . أما القعدة بين الخطبتين فقال ابن دقيق العيد وفي الحديث دليل على الجلوس بين الخطبتين ولا خلاف فيه وقد قيل بركنيته وهو منقول عن أصحاب الشافعي .قال الصنعاني أقول نقلوا عن الشافعي أن القعود بين الخطبتين ركن لأنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الأربعة بعده خلافه . قال وخالفه الجمهور في القعود بينهما يعني الخطبتين فقالوا إنه سنة وبه قال الهادوية . أما مقداره فقالت الشافعية يطمئن فيه بمقدار سورة الإخلاص أما من قال تجزيء السكتة قائماً عن القعود فليس لهم دليل إلا القياس على السكتة بعد القراءة . وبالله التوفيق .
[137] الحديث الخامس :عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا قلت لصاحبك : أنصت – يوم الجمعة والإمام يخطب – فقد لغوت )
موضوع الحديث :منع الكلام في وقت الخطبة
المفردات(3/23)
قوله فقد لغوت : يقال لغا يلغو من باب دخل يدخل ونصر ينصر ولغي يلغى من باب أثم يأثم ويمكن أن يقال لغا يلغي من باب رمى يرمي .ويأتي لمعنيين يأتي لغا بمعنى سكت ويأتي لغا بمعنى تكلم ومجرى الكلام يقرر المعنى المقصود والظاهر أن معنى لغوت معناه تكلمت وحينئذ تكون قد أبطلت جمعتك ويمكن أن يقال معنى لغوت يعني أبطلت جمعتك لكن الأول أشهر لأن الخطاب للمصلين ولو كان المقصود منه إبطال جمعتك لكان أن يقول فقد لغت جمعتك أي سقطت . ويطلق اللغو على الكلام الذي لا خير فيه قال تعالى { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } [الفرقان آية 72]
المعنى الإجمالي
للخطبة احترام في وقتها وتفريغ الذهني للاستماع لها لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من قال لأخيه أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له .
فقه الحديث
قال الزين بن المنير اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام وقال النضر بن شميل معنى لغوت خليت من الأجر وقيل بطلت فضيلة جمعتك ولعل الأقرب هذا من قول من قال صارت جمعتك ظهراً . لكن ورد حديث عند أبي داود وابن خزيمة من حديث عبدالله بن عمر مرفوعاً ( ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً ) قال ابن وهب أحد رواته معناه أجزأت عنه الصلاة وحرم فضيلة الجمعة .ولأحمد والبزار من حديث ابن عباس مرفوعاً ( من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له أنصت ليس له جمعة ) قال وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفاً.قال العلماء لا جمعة كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه أهـ.(3/24)
ويؤخذ من الحديث وجوب الإنصات في الخطبة وقد حدده الشافعي بالأربعين وفيما عداهم قولان أي أن الشافعي لا يرى وجوب الإنصات إلا إذا بلغ الحاضرون أربعين وهذا مبني على أن الجمعة لا تصح إلا بهذا العدد . والقول بعدم صحة جمعة من دون هذا العدد قول لا ينبني على دليل إلا (حديث كعب بن مالك وأنهم كانوا في أول جمعة جمعوها نحو أربعين) (1) وهذا لا يفيد إبطال جمعة من دون هذا العدد والقول أن الجمعة تنعقد بما أطلق عليه اسم الجماعة وهم( ثلاثة والإمام) (2)
__________
(1) إشارة إلى ما رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب الجمعة في القرى رقم 1069 وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة باب فرض الجمعة رقم 1082 والحاكم في المستدرك ج1 / ص281 والبيهقي ج3/ ص176 قال الألباني سنده حسن .
(2) الحديث هو ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية ) رواه الإمام أحمد في مسند أبي الدرداء 5/196 و6/446 ورواه أبو داود في الصلاة باب التشديد بترك الجماعة رقم 547 وحسنه الألباني وأخرجه النسائي في الإمامة باب التشديد في ترك الجمعة رقم 847 وأخرجه في السنن الكبرى 1/296 رقم 920 والبيهقي في السنن الكبرى 3/54 رقم 4708 وابن حبان في صحيحه 5/458 رقم 21101 والحاكم في المستدرك 2/524 رقم 3796 وقال صحيح الإسناد ..(3/25)
وسائر الأقوال لا تنبني على دليل صريح صحيح فمالك يرى أنها تنعقد باثني عشر والشافعي وأحمد يريان أنها تنعقد بأربعين وأبو حنيفة يرى رأياً غير رأيهم ولكن هذه الأقوال لا تنبني على دليل يمنع ما دونها والصحيح من أقوال أهل العلم هو ما ذكرته قبل قليل وعلى هذا فإن الإنصات واجب في كل عدد تنعقد به الجمعة وهل الكلام حرام أو مكروه في هذا خلاف والقول الصحيح هو القول بالتحريم ومن أجاز الكلام في الخطبة فإنه قد أساء وخالف الأدلة علماً بأن ابن عبد البر ذكر الاتفاق على وجوب الإنصات على من حضر الجمعة إذا سمعها واختلفوا فيمن لم يسمع الخطبة لبعد أو صمم وهل يجوز له أن يذكر الله أو يقرأ هذا محل خلاف ونظر والذي يظهر لي عدم الجواز ولو كان ذاكراً لأن من كان ذاكراً فقد تكلم ومن تكلم فقد لغا كما في الحديث . واختلفوا في أربعة أشياء رد السلام وتشميت العاطس والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر والتأمين على الدعاء . وقد علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن من قال لأخيه أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب أن جمعته لاغية فإذا كان قد مُنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فغيره من باب أولى .
وقد استدل أصحاب مالك بهذا الحديث على منع تحية المسجد في حال الخطبة ولا دليل لهم في ذلك فقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها في حال الخطبة وليس للعقول ولا الأقيسة دخل في الأحكام الشرعية لأنها مأخوذة عمن عصمه الله من الخطأ وأخبر أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ومعلوم أن من قال بالمنع فقد قال برأيه وخالف الدليل الصحيح الصريح أو تابع من قال برأيه وجعل قوله مقدماً على ما صح عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - . وقد مضى معنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسليك قم فاركع ركعتين وأوجز فيهما وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل كما يقال . وبالله التوفيق .
[(3/26)
138]الحديث السادس : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :(من اغتسل يوم الجمعة [ غسل الجنابة ] ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر )
موضوع الحديث :فضيلة التبكير إلى الجمعة
المفردات
راح : هو الذهاب في وقت الرواح وهو بعد الزوال وقد يطلق ويراد به مجرد الذهاب ؟
بدنة : هي الواحدة من الإبل
بقرة : هي الواحدة من البقر أي كأنما أهداها لتنحر في مكة
كبشاً أقرن : أي له قرون والدجاجة والبيضة معروفة
قرب : معناها إما أن يكون المقصود منه اهدي أو تصدق
حضرت الملائكة : يعني لتسمع خطبة الإمام والمراد بالذكر الخطبة
أما الساعة فسيأتي البحث فيها .
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تفاوت الناس في السعي إلى الجمعة بحسب التبكير وأخبر أن كل قوم اشتركوا في ساعة فلهم الفضل المذكور وأن هذه الساعات تنتهي بجلوس الإمام على المنبر وأن الملائكة الموكلون بكتابة الناس على حسب حالهم في التقدم والتأخر يطوون صحفهم إذا خرج الإمام .
فقه الحديث
أولاً :يؤخذ من هذا الحديث تأكيد الغسل يوم الجمعة وأن هذه الفضيلة لا تنال إلا بذلك لقوله من اغتسل يوم الجمعة ثم راح ..إلخ . قال الصنعاني في العدة أقول وقع في بعض طرقه في الصحيحين زيادة بلفظ غسل الجنابة وهو نعت لمصدر محذوف أي غسلاً كغسل الجنابة ويؤيده ما وقع في بعض طرقه عند عبد الرزاق فاغتسل أحدكم كما يغتسل للجنابة .(3/27)
ثانياً:يؤخذ من قوله يوم الجمعة أي من اغتسل يوم الجمعة ثم راح أن الغسل شرع للرواح إلى الجمعة ولم يشرع لليوم خلافاً للظاهرية القائلين بأن الغسل شرع لليوم لا للصلاة وعندهم لو اغتسل بعد صلاة الجمعة جاز ويرد قولهم ما رواه البخاري في باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس من حديث عمرة عن عائشة بلفظ (كان الناس مهنة أنفسهم وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم فقيل لهم لو اغتسلتم)(1) فدل هذا على أن الاغتسال لصلاة الجمعة لا ليوم الجمعة .
ثالثاً: يؤخذ منه استحباب التبكير للجمعة وأن فيه فضل عظيم .
رابعاً :اختلف في التبكير ما هو هل هو الذهاب من أول وقت الرواح إلى الجمعة أو هو الذهاب من بعد طلوع الشمس وفي هذا خلاف مبني على الخلاف في الساعات .
خامساً :اختلف في الساعات ما هي هل هي الساعات التوقيتية التي ينقسم فيها اليوم إلى اثنتي عشرة ساعة أو هي أجزاء زمانية ينقسم فيها وقت الرواح إلى خمس ساعات .ذهب إلى الأول الظاهرية وذهب إلى الثاني الجمهور فالظاهرية يقولون التبكير يكون من أول النهار والجمهور يقولون التبكير يكون من أول وقت الرواح ومذهب الجمهور هو الأصح .
سادساً : يرد على الظاهرية في قولهم هذا بأمور :-
أولها :أن كلمة راح لا تستعمل إلا في وقت الرواح أو ما هو قريب منه فلو كان التبكير من طلوع الشمس لقال غدا ولم يقل راح .
__________
(1) البخاري في كتاب الجمعة باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس رقم 903 ورواه في كتاب البيوع باب كسب الرجل وعمله بيده رقم 2071 ومسلم في كتاب الجمعة باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال رقم 847 وأبو داود في كتاب الطهارة باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة رقم 352 وأحمد في باقي مسند الأنصار .(3/28)
ثانيها: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يذهبون لأعمالهم في أول النهار ثم يأتون إلى الجمعة وقد علاهم العرق والغبار والدليل على ذلك ما رواه البخاري في باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس من حديث عمرة عن عائشة بلفظ ( كان الناس مهنة أنفسهم وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم فقيل لهم لو اغتسلتم). ومعنى مهنة أنفسهم أي يباشرون أشغالهم بأنفسهم ليس لهم خدم .
ثالثها :أن الله عز وجل أمر بالسعي بعد النداء والنداء لا يكون إلا بعد الزوال .
رابعها:أنه ورد في حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً .... الحديث ) (1).والمهجر هو الذاهب في الهاجرة والهاجرة هي نصف النهار .
خامسها :أنا لو اعتبرنا الساعات أنها هي الساعات التوقيتية لكان الإمام يخرج بعد الساعة الخامسة وهذا يكون فيه تقدم على وقت الجمعة بساعة لأن الزوال لا يكون إلا بعد الساعة السادسة التي هي نصف النهار .
__________
(1) البخاري في كتاب الجمعة باب الاستماع إلى الخطبة رقم 929 ومسلم في كتاب الجمعة باب فضل التهجير يوم الجمعة رقم 850 والنسائي في كتاب الإمامة باب التهجير إلى الصلاة برقم 864 وفي كتاب الجمعة باب التبكير إلى الجمعة رقم 1385وابن ماجة في كتاب الجمعة باب ما جاء في التهجير إلى الجمعة رقم 1092 والدارمي في كتاب الصلاة باب فضل التهجير إلى الجمعة بلفظ ( المتهجر ) رقم 1543 .(3/29)
سادسها : أن كلمة التبكير لا يراد منها هنا الذهاب في البكور وإنما يراد منه التقدم في أول وقت الرواح وبناء على هذه الأدلة فالقول الأرجح أن المراد بالساعات أجزاء زمانية قليلة تبدأ من أول وقت الرواح حتى يجلس الإمام على المنبر وهذا هو قول الجمهور وقد تبين أن قول الظاهرية قول ضعيف ترده الأدلة .
سابعاً : يؤخذ من الحديث أن وقت الجمعة هو وقت الزوال لهذه الأدلة الصحيحة راح (1) ، والمهجر، وما أشبه ذلك لأن هذه الكلمات لا تقال غالباً إلا في وقت الزوال وما يقاربه وعلى هذا فهذه الأحاديث ترد قول من قال أن وقت الجمعة يجوز قبل الزوال اعتماداً على (حديث عبدالله بن سيدان)(2) وهو حديث متكلم فيه فلا يقاوم هذه الأحاديث الصحيحة ومما يؤيد هذا المأخذ أن صلاة الجمعة هي بدل من صلاة الظهر وصلاة الظهر لا تجوز إلا بعد الزوال بالنصوص الشرعية والإجماع .
ثامناً :يؤخذ منه فضيلة المبكر وأنه كمن أهدى بدنة ثم ما بعده على الترتيب .
تاسعاً :يؤخذ منه أن المشتركين في كل ساعة ثوابهم سواء حسب ظاهر الحديث فكل من جاء في الساعة الأولى كأنما قرب بدنة ومن جاء في الساعة الثانية كأنما قرب بقرة ... ... ... .إلخ الحديث .
عاشراً :أن هذه الساعات تنتهي بجلوس الإمام على المنبر لقوله فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر .
الحادي عشر: أن الملائكة يستمعون الذكر بعد أن يطووا صحفهم .
__________
(1) راح تطلق غالباً على الذهاب وقت الرواح وهو ما بعد الزوال وقد تطلق على مطلق الذهاب في أي وقت كان (( النجمي))
(2) إشارة إلى ما رواه الدار قطني عن عبدالله بن سيدان السلمي قال ( شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول انتصف النهار ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد زال النهار فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره ) رواه الدارقطني 2/17 .(3/30)
الثاني عشر : أن من جاء بعد جلوس الإمام على المنبر فلا فضل له .
الثالث عشر: أن البيضة تقرب وتكتب في العمل إذا كانت في سبيل خير وأنه لا يستهان بشيء من أعمال الخير والشر كيف لا وقد قال الله تعالى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة 7-8]
[139] الحديث السابع :عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه – وكان من أصحاب الشجرة قال : كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به .
وفي لفظ : كنا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس ثم نرجع فنتتبع الفيء .
موضوع الحديث :وقت الجمعة
المفردات
قوله وكان من أصحاب الشجرة :هي شجرة الحديبية التي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه تحتها وقد بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم ثلاث مرات في أول المبايعة وأوسطها وآخرها وكان شجاعاً فاضلاً صالحاً رامياً وكان يسبق الفرس جرياً ويقال إنه هو الذي كلمه الذئب فروي أنه قال رأيت الذئب أخذ ظبياً فطلبته حتى أنتزعته منه فقال ويحك مالك ومالي عمدت إلى رزق رزقنيه الله ليس من مالك فمالك تنتزعه مني قال فقلت يا عباد الله إن هذا لعجب ذئب يتكلم فقال الذئب أعجب من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصول النخل يدعوكم إلى عبادة الله فتأبون إلا عبادة الأوثان قال فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت وغزا سلمة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات وتوفي سنة 74هـ بالمدينة
ثم ننصرف : أي نعود من الصلاة .
وليس للحيطان ظل نستظل به : أي ليس لها ظل كاف للاستظلال به
قوله إذا زالت الشمس : إذا ظرف لفعل نجمع أي نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تزول الشمس وهو شبه صريح أن الجمعة تصلى بعد الزوال وهو الراجح .(3/31)
الفيء :هو الظل الذي يكون بعد الزوال وليس كل ظل فيء وإنما يقال للظل الذي بعد الزوال فيءٌ لأنه فاء بمعنى رجع والفيء الرجوع قاله ابن قتيبة في أول كتاب أدب الكاتب وقال والعامة يذهبون إلى أن الظل والفيء بمعنى واحد وليس كذلك بل الظل يكون غدوة وعشية في أول النهار وآخره . أهـ من العدة للصنعاني ومفهوم كلام ابن قتيبة أن الفيء خاص بالظل الذي بعد الزوال .
المعنى الإجمالي
يخبر سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنهم كانوا يصلون الجمعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس ثم يعودون إلى بيوتهم وليس للحيطان ظل يكفي للاستظلال به .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث أن وقت الجمعة هو وقت الظهر أي بعد الزوال وإلى ذلك ذهب جمهور أهل العلم .وادعى ابن العربي الإجماع على أن وقتها بعد الزوال إلا ما نقل عن أحمد بن حنبل أنه إن صلاها قبل الزوال أجزأته ، قال الحافظ ابن حجر قد نقله أي صحة وقوعها قبل الزوال ابن قدامه وغيره عن جماعة من السلف .
قلت : ذكر ابن قدامة في المغني أنه قد روي فعلها قبل الزوال عن ابن مسعود ومعاوية وجابر وعن مجاهد وعطاء أن كل عيد في أول النهار وعدوا الجمعة من الأعياد وليس هذا أي كونها عيداً بمبيح لأدائها قبل الزوال فالراجح أن وقتها وقت الظهر لأمور :- أولاً : أنها بدل من الظهر فلا يصح أن تصلى إلا في وقت الظهر وهو بعد الزوال بإجماع المسلمين .
ثانياً : أن حديث سلمة بن الأكوع في الصحيحين وهو الحديث الذي نحن بصدد شرحه الآن يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعلها عند الزوال لقوله كنا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس ثم نرجع فنتتبع الفيء فهذه الرواية صحيحة وصريحة أن وقت الجمعة بعد الزوال وإذا تعارض هذا مع غيره رجح عليه لصحته وصراحته .(3/32)
ثالثاً: أما قوله وليس للحيطان ظل نستظل به فهذا النفي متوجه على القدر الكافي للاستظلال وليس متوجهاً على مجرد الظل إذا علم هذا فإن الفيء الذي يكفي للاستظلال إنما يكون بعد وقت الزوال وليس بعد الزوال مباشرة .
رابعاً : أن هذا الحديث يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسرع بها بعد الزوال مباشرة ومما يدل على ذلك حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة )(1)وحديث جابر رضي الله عنه قال (كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نرجع فنريح نواضحنا )(2).
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجمعة باب قول الله تعالى ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) رقم 939 وفي كتاب المزارعة باب ما جاء في الفرس رقم 2349 وفي كتاب الأطعمة باب السلق والشعير رقم 5403 وفي كتاب الاستئذان باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال رقم 6248 ومسلم في كتاب الجمعة باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس رقم 859 وأبو داود في كتاب الصلاة باب وقت الجمعة رقم 1086 والترمذي في أبواب الصلاة باب ما جاء في القائلة بعد الجمعة رقم525 وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في وقت صلاة الجمعة رقم 1099.
(2) مسلم في كتاب الجمعة باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس رقم 858 والنسائي في كتاب الجمعة في وقت الجمعة رقم 1390وأحمد في باقي مسند المكثرين .(3/33)
خامساً: ومما يدل على أن الجمعة بعد الزوال ما رواه مالك في الموطأ وهو أثر( أن طنفسة كانت لعقيل بن أبي طالب توضع عند جدار المسجد فإذا غشيها الظل خرج عمر رضي الله عنه فصلى الجمعة )(1)، وهذا معناه أن الطنفسة كانت توضع إلى جانب جدار المسجد الغربي من الجهة الشرقية فإذا أمتد عليها الظل خرج عمر بل هذا الأثر يدل على أن عمر كان يتأخر بعد الزوال قليلاً ولعله من أجل أن يجتمع الناس فإن الناس كثروا في المدينة في زمنه .
سادساً :أن القاعدة الأصولية أنه إذا تعارض نصان فإما أن يكونا متكافئين في الصحة فيجمع بينهما وإن لم يكونا متكافئين رجح أحدهما على الآخر أي يرجح الصحيح على الضعيف أو المنطوق على المفهوم أو النص على الظاهر والآثار الواردة في تقديم الجمعة قبل الزوال كلها آثار عمن دون النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تتعارض مع الثابت عنه صلوات الله وسلامه عليه ومع ذلك ففيها ضعف أو في بعضها ورواية الصحيحين مقدمة على غيرها لصحتها وصراحتها . وبالله التوفيق .
[140] الحديث الثامن : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ( آلم تنزيل ) السجدة و ( هل أتى على الإنسان ) .
موضوع الحديث :ما يقرأ به في صلاة الفجر يوم الجمعة .
المفردات
آلم تنزيل السجدة : اسم للسورة ويقال لها سورة الجمعة
وهل أتى على الإنسان : يقال لها سورة الإنسان
المعنى الإجمالي
شرع الله عز وجل على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - قراءة هاتين السورتين في صلاة الفجر من يوم الجمعة لأن فيهما ذكر خلق آدم وذكر يوم القيامة والجنة والنار فناسب قراءتهما في هذا اليوم تذكيراً لما قد وقع فيه من خلق آدم وبما سيقع فيه من بعث الأجساد والقيام للجزاء
فقه الحديث
__________
(1) مالك في كتاب وقوت الصلاة باب وقت الجمعة رقم 13 .(3/34)
يؤخذ من هذا الحديث استحباب قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة وكره مالك قراءة السجدة في صلاة الفرض خشية التخليط على المأمومين وخص بعض أصحابه الكراهة في صلاة السر أي التي تسر فيها القراءة قال ابن دقيق العيد فعلى هذا لا يكون مخالفاً لمقتضى هذا الحديث ، وفي المواظبة على ذلك دائماً وهو أنه ربما أدى الجهال إلى اعتقاد أن ذلك فرض في هذه الصلاة وفي مذهب مالك حسم مادة هذه الذريعة .
قلت : ترك السنة المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل احتمالات قد تقع وقد لا تقع لا يجوز بل يجب علينا أن نعمل بالسنة وأن نعلم الجهال ما خفي عليهم وبالله التوفيق .
باب العيدين
العيدين تثنية عيد والعيد هو ما عاد وتكرر فإما أن يعود عليك وإما أن تعود عليه والأعياد الزمانية تعود على الناس كعيد الفطر وعيد الأضحى والجمعة أما الأعياد المكانية فالناس يعودون عليها وهي في الإسلام الأماكن المقدسة كالمسجد الحرام ومنى وعرفة ومزدلفة ورمي الجمار وما أشبه ذلك هذه تعد أعياد مكانية يعود عليها الناس وهي في نفس الوقت أعياد زمانية تعود وتتكرر يعني أن تلك العبادات لا تصح إلا في تلك الأماكن وفي الأزمنة المحددة لها إلا العمرة والطواف بالبيت فهي مكانية فقط وتصح في جميع الأزمة بدون استثناء .
[141] الحديث الأول: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة .
موضوع الحديث: تقديم الصلاة في العيدين قبل الخطبة
المفردات
كان: فعل ماضي ناقص يدل على الاستمرار وجملة يصلون خبر كان أما اسمها فهو لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر .
المعنى الإجمالي
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العيدين وكل نافلة تشرع فيها الجماعة كالخسوف والكسوف وصلاة الاستسقاء يصليها قبل الخطبة وقد كانت الجمعة في أول الإسلام كذلك .
فقه الحديث(3/35)
أولاً :سبب مشروعية العيدين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة ولأهلها يومان يظهرون فيهما الزينة فأبدلهما الله من تلك اليومين بيومين خير منهما وهما عيد الفطر وعيد الأضحى شرع الله لعباده أن يظهروا فيهما الزينة وأن يذكروه ويكبروه على ما أتم عليهم من النعم ففي الفطر صلاة العيد تشرع شكراً لله على ما أتمه على عباده وأعانهم عليه من إتمام شهر رمضان بصيامه وقيامه وأما عيد الأضحى فقد شرع شكراً لله على ما أتمه على عباده من نعمة الحج والعبادة في عشر ذي الحجة ولهذا قال بعضهم
أعيادنا ثلاثة فاثنان في سنة فطر وأضحى الثاني
وثالث يعتاد أسبوعياً خصيصة في ديننا تهيأ
فضيلة خص بها نبينا كم أمة عنها أضلت قبلنا
ولم تكن أعياد لهو وطرب وصرف أوقات بغير مكتسب
ثانياً :حكمها أما حكم صلاة العيدين فقد اختلف فيه الفقهاء فذهب الجمهور إلى أنها سنة مؤكدة وذهب بعض أهل العلم إلى أنها فرض عين وممن ذهب إلى وجوبها عيناً أبو حنيفة والأوزاعي والليث ورواية عن مالك .وعن بعض الشافعية أنها فرض كفاية وهو مذهب أحمد ولعل القول بأنها فرض عين أو واجب عيني هو الأقرب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أمر بإخراج الحيض إلى المصلى ) وذلك يدل على أهمية هذه الشعيرة وعناية الإسلام بها .
ثالثاً: يؤخذ منه أن صلاة العيدين مشروعة قبل الخطبة والدليل على ذلك استفاضة النقل بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعلها قبل الخطبة ومن ذلك هذا الحديث .(3/36)
رابعاً : حصل في عهد بني أمية تقديم الخطبة على الصلاة وأنكر عليهم ذلك فلم يرجعوا فقيل أن أول من فعل ذلك معاوية وقيل مروان بن الحكم وقيل زياد في العراق وقيل عثمان بن عفان في أخر عمره لما رأى كثيراً من الناس يأتون بعد الصلاة . والمهم أن هذه السنة تركت زمناً ثم أعيدت في دولة بني العباس والسبب في ذلك أنّ بني أمية جعلوا في صميم الخطبة سب من لا يستحق السب فكان الناس يتركون الخطبة ويذهبون كراهية أن يسمعوا ما يذكر فيها من السب لبعض أفاضل الصحابة ومن أجل ذلك قدموا الخطبة على الصلاة وخالفوا هذه السنة .
[(3/37)
142] الحديث الثاني: عن البراء بن عازب رضي الله عنه (1) قال : خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى بعد الصلاة فقال : ( من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له ) قال أبو بردة بن نيار (2) – خال البراء بن عازب – يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي فذبحت شاتي وتغديت قبل أن آتي الصلاة فقال : (شاتك شاة لحم ) قال : يا رسول الله فإن عندنا عناقاً هي أحب إليّ من شاتين أفتجزي عنّي ؟ قال نعم ولن تجزي عن أحد بعدك )
موضوع الحديث: أن الصلاة قبل الخطبة وأن الذبح لا يصح إلا بعد الصلاة
المفردات
يوم الأضحى : المراد به يوم عيد الأضحى
__________
(1) البراء بن عازب بن الحارث بن عدي أبو عمارة ويقال أبو عمر أنصاري أوسي نزل الكوفة ومات بها في زمن مصعب بن الزبير ترجمه في التقريب برقم 648 وقال صحابي ابن صحابي نزل الكوفة استصغر يوم بدر وكان هو وابن عمر لدة مات سنة 72 هـ
(2) أبو بردة بن نيار اسمه هانئ بن نيار وقيل هانئ بن عمرو وقيل الحارث بن عمرو وقيل مالك بن زهير ولم يختلفوا أنه من بلي وينسبونه هانئ بن عمرو بن نيار كان عقبياً بدرياً شهد العقبة الثانية مع السبعين في قول جماعة من أهل السير وقال الواقدي أنه توفي في خلافة معاوية ترجمه في التقريب رقم 7953 وقال فيه البلوي حليف الأنصار صحابي اسمه هانئ وقيل الحارث بن عمرو وقيل مالك بن هبيرة مات سنة 41 وقيل بعدها روى له الجماعة .(3/38)
ونسك نسكنا : المراد بالنسك هنا الذبيحة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل قال تعالى { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لا شَرِيكَ لَهُ } [الأنعام آية 162 – 163] فقرن النسك بالصلاة أي أن المسلم لا يذبح لغير الله كما يفعل المشركون ولا يصلي لغيره ولا يطلب من غيره جلب نفع ولا دفع ضر بل ذلك كله يجعله لله وعلى هذا فلا يدخل فيه ما ذبح للحم أو للبيع ويدخل فيه ما ذبح لإكرام الضيف إحياءً لسنة الضيافة وما أشبه ذلك .
قوله فقد أصاب النسك : أي قد أصاب النسك الصحيح
قوله فلا نسك له : أي لا ضحية له
قوله فذبحت شاتي وتغديت قبل أن آتي الصلاة : يدل هذا اللفظ على أن الأكل الواقع في البكور يسمى غداء لأن هذا الوقت يسمى غدواً كقوله تعالى { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [ الأعراف : 205 - النور : 36] (1) ولتسمية صلاة الصبح صلاة الغداة
قوله - صلى الله عليه وسلم - شاتك شاة لحم : أي لا شاة نسك .
قوله فإن عندنا عناقاً :العناق الأنثى من ولد المعز إذا قويت ولم تبلغ الحول .
قوله أفتجزي عني : استفهام طلبي
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم ولن تجزئ عن أحد بعدك : يعني أنها خصيصة لأبي بردة يعني هذه الرخصة
المعنى الإجمالي
تضمن هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه عيد الأضحى ثم خطبهم معلنا في خطبته أن من صلى صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسك نسكه فقد أصاب النسك أي فإن ضحيته مجزئة ومقبولة ومن نسك قبل الصلاة أي ذبح قبل الصلاة فلا نسك له وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر العناق مجزأة عن أبي بردة خصيصة له وأنها لا تجزي عن أحد بعده .
فقه الحديث
__________
(1) وفي سورة الرعد قوله تعالى ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) [الرعد:15](3/39)
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث مشروعية الخطبة للعيدين ولا خلاف في مشروعيتها فيما أعلم لكن اختلفوا في موضعها والصحيح أنها بعد الصلاة وما فعل في زمن بني أمية لم يكن مبنياً على اجتهاد فقهي وإنما كان مبنياً على هوى فإن كان من فعله صحابي فله من السابقة ما يغفر الله له به ذلك ونحن نعتقد فضل الصحابة وأنهم ليسوا معصومين وإن كان من غيرهم فنسأل الله أن يتجاوز عنا وعنه ولكنه خالف السنة والأدلة على كون الخطبة في العيدين وما شابهها من السنن التي تشرع لها الجماعة بعد الصلاة الأدلة على ذلك متوافرة ومتواترة وإن لم تكن متواترة فهي مستفيضة ومن الأدلة على ذلك حديث ابن عمر السابق وحديث البراء هذا . فقوله خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى بعد الصلاة دليل على ذلك .
ثانياً :يؤخذ من هذا الحديث أن من نسك قبل الصلاة أي صلاة العيد فلا نسك له .
وقد اختلف أهل العلم هل المراد صلاة المرء نفسه أي المضحي أو صلاة الإمام قال ابن دقيق العيد قوله من نسك قبل الصلاة فلا نسك له يقتضي أن ما ذبح قبل الصلاة لا يقع مجزياً عن الأضحية ولا شك أن الظاهر من اللفظ أن المراد قبل فعل الصلاة فإن إطلاق لفظ الصلاة وإرادة وقتها خلاف الظاهر ومذهب الشافعي اعتبار وقت الصلاة فإذا مضى ذلك دخل وقت الأضحية . قال الصنعاني على قوله ومذهب الشافعي اعتبار وقت الصلاة أقول - يعني الصنعاني – وقال الشافعي وداود وابن المنذر وآخرون يدخل وقتها إذا طلعت الشمس ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين فإذا ذبح بعد هذا الوقت أجزأه سواء صلى مع الإمام أم لا وسواء كان من أهل الأمصار أم من أهل القرى والبوادي والمسافرين وسواء ذبح الإمام ضحيته أم لا والعجب أنه لم يذكر دليلاً للشافعية على هذا الاختيار المخالف لظاهر حديث البراء وحديث جابر أهـ .
قال ابن دقيق العيد ومذهب غيره اعتبار فعل الصلاة والخطبتين وقد ذكرنا أنه الظاهر أهـ(3/40)
قلت :من اختار أن قوله وصلى صلاتنا أن المراد بالصلاة هنا فعل المضحي للصلاة قبل أن يضحي من قال بهذا القول فقد جعل صلاة العيد شرطاً في صحة الأضحية من المضحي لأنهم علقوا صحة الأضحية بفعله لصلاة العيد وقد يكون ممن لا تجب عليه صلاة العيد وقد يكون ممن تجب عليه فقصر فيها فهذا القول هو خلاف الظاهر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك فدل هذا على أن صلاة المضحي ليست شرطاً في صحة أضحيته ولكن مضي وقت الصلاة هو الشرط لصحتها وعلى هذا فمذهب الشافعي عندي وجيه .(3/41)
ثالثاً : يؤخذ من قوله شاتك شاة لحم دليل على إبطال كونها نسكاً وأن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر فيها بالجهل ومثلوا لذلك بحديث ( المسيء في صلاته) (1) حيث أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادتها وكذلك هنا من نحر قبل وقت النحر فنحره باطل غير مجزئ قال ابن دقيق العيد وقد فرقوا في ذلك بين المأمورات والمنهيات فعذروا في المنهيات بالنسيان والجهل واستدلوا على ذلك ( بحديث معاوية بن الحكم حين تكلم في الصلاة فلم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة) (2)
__________
(1) البخاري في كتاب الأذان باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر رقم 757 وفي كتاب الاستئذان باب من رد فقال عليك السلام رقم 6251وفي كتاب الأيمان والنذور باب إذا حنث ناسياً في الأيمان رقم 6667 ومسلم في كتاب الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة رقم 397 والترمذي في كتاب الصلاة باب ما جاء في وصف الصلاة رقم 303 وفي كتاب الاستئذان والآداب باب ما جاء كيف رد السلام رقم 2692 والنسائي في كتاب الافتتاح باب فرض التكبيرة الأولى رقم 884 وفي كتاب التطبيق باب الرخصة في ترك الذكر في الركوع رقم 1053 وفي كتاب السهو باب أقل ما يجزئ من عمل الصلاة رقم 1313 و1314 وأبو داود في كتاب الصلاة باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود رقم 856 وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب إتمام الصلاة رقم 1060 والدارمي في كتاب الصلاة باب في الذي لا يتم الركوع والسجود رقم 1329 .
(2) مسلم في كتاب المساجد باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من الإباحة رقم 537 وأبو داود في كتاب الصلاة باب تشميت العاطس في الصلاة رقم 930 والنسائي في كتاب السهو باب الكلام في الصلاة رقم 1218 والدارمي في كتاب الصلاة باب النهي عن الكلام في الصلاة رقم 1502 ..(3/42)
ومثل ذلك أيضاً حديث يعلى بن أمية في (الرجل الذي جاء يسأل عن العمرة وقد لبس جبة وتضمخ بالطيب حيث أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلع الجبة وغسل الخلوق ولم يأمره بدم (1) فيما مضى قالوا هذا الفرق بينهما لأن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها وذلك لا يحصل إلا بفعلها أما المنهيات فهي مزجور عنها بسبب مفاسدها امتحاناً للمكلف بالانكفاف عنها وذلك إنما يكون بالتعمد لارتكابها ومع النسيان والجهل لم يكن قاصداً مخالفة النهي فعذر فيه بالجهل والنسيان .
رابعاً : قوله ولن تجزئ عن أحد بعدك قال ابن دقيق العيد ولن تجزئ أي أن ذلك بفتح التاء بمعنى تقضي يقال جزى عن كذا أي قضى حكاه الصنعاني عن الجوهري وقال بنو تميم يقولون أجزأت عنك شاة بالهمز أهـ . ويجوز أن يكون بضم التاء أي تجزي من أجزأ يجزي قال الزمخشري في أساس البلاغة بنو تميم يقولون البدنة تجزئ عن سبعة وأهل الحجاز يقولون تجزي وبهما قرئ ( لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ) وقال النووي الرواية بالفتح في جميع الطرق وجوز ابن الأثير وابن بري وغيرهما الوجهين . قوله ولن تجزي عن أحد بعدك فيه تخصيص لأبي بردة في التضحية بالجذعة من المعز وعلى هذا فلا يقاس عليه غيره وبالله التوفيق
[143]الحديث الثالث: عن جندب بن عبدالله البجلي(2) رضي الله عنه قال : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ثم خطب ثم ذبح وقال : ( من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها ومن لم يذبح فليذبح باسم الله )
__________
(1) البخاري في كتاب الحج باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج رقم 1789 ومسلم في كتاب الحج باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه رقم 1180وأبو داود في كتاب المناسك باب الرجل يحرم في ثيابه رقم 1819 .
(2) جندب بن عبدالله بن سفيان البجلي من بجيلة علقي أي أنه ينسب إلى علقة بطن من بجيلة ويقال فيه جندب الخير وقيل أنه غيره يقال مات سنة 64هـ(3/43)
موضوع الحديث :أن من ذبح قبل الصلاة فإن نسكه باطل وشاته تكون شاة لحم كما في حديث البراء والظاهر أن هذا الحديث يعلق صحة فعل الذبح على فعل الصلاة قبله وهذا قد يكون متعيناً في حق من تجب عليه صلاة العيد أما من لم تجب عليه لسفر أو يكون من أهل البادية فالظاهر أن ذلك يتعلق بفعل الإمام والكلام عن هذه المسألة قد تقدم في الحديث الذي قبل هذا فلا داعي لإعادته مرة أخرى .
قد يستدل بصيغة الأمر في قوله فليذبح من يرى أن الأضحية واجبة كالحنفية وقد يقال أنها تتعين بالتعيين سواء كان التعيين بشراء أو بالتنصيص عليها أو غير ذلك وعلى هذا فلا يتمحض الأمر هنا بأنه دال على الوجوب وبالله التوفيق .
[144]الحديث الرابع :عن جابر رضي الله عنه قال : شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله تعالى وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال : يا معشر النساء تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت لم يا رسول الله ؟ فقال : لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير قال : فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن .
موضوع الحديث :الصلاة قبل الخطبة
المفردات
قوله شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد قال الصنعاني حذف مفعوله أي الصلاة وصرحت به رواية مسلم بلفظ شهدت الصلاة والمراد بالشهود الحضور والعيد عيد الفطر
قوله فبدأ : من البداءة وهو الابتداء في الشيء وتقديمه على غيره
متوكئاً : أي مستنداً ومتحاملاً على بلال أي معتمداً عليه
قوله وحث : أي حرض وترك مفعوله ليعم قاله الصنعاني
ثم مضى : أي مشى حتى أتى النساء
قوله فوعظهن :الوعظ هو النصح والتذكير(3/44)
فقامت امرأة قال الصنعاني يختلج في خاطري أنها أسماء بنت يزيد بن السكن المعروفة بخطيبة النساء لأنها روت أصل القصة في حديث آخر أخرجه الطبراني والبيهقي أنها قالت فناديته وكنت جريئة لم يا رسول الله قال لأنكن ... .الخ
قوله تكثرن الشكاة : أي الشكاية أصلها شكوت فقلبت واوها ألفاً
قوله من حليهن :هو ما تتحلى به المرأة من الذهب أو الفضة أو غيرهما
قوله من أقراطهن : جمع قرط وهو ما يجعل في الأذن
وخواتيمهن : هي ما يجعل في الأصابع
المعنى الإجمالي
يخبر جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه حضر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة وصلى العيد بلا أذان ولا إقامة وأنه قام للخطبة أي ودخلها متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى إلى النساء فوعظهن وذكرهن وقال يا معشر النساء تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم فقامت امرأة من سطة النساء أي من وسط النساء سعفاء الخدين والسفع هو اللون المخالف للون الوجه فقالت لم يا رسول الله قال لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير فجعلن يتصدقن من حليهن
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث مسائل
المسالة الأولى :أن السنة في صلاة العيدين أن يبدأ فيها بالصلاة قبل الخطبتين وقد تقدم بحث هذه المسألة بما فيه الكفاية .
المسألة الثانية : أن صلاة العيدين وكذلك جميع الصلوات النوافل التي تشرع فيها الجماعة لا يشرع لها أذان ولا إقامة قال ابن دقيق العيد أما عدم الأذان والإقامة لصلاة العيد فمتفق عليه وكان سببه تخصيص الفرائض بالأذان تمييز لها بذلك وإظهاراً لشرفها
المسألة الثالثة : تخصيص النساء بالموعظة دون الرجال إذا أمنت الفتنة
المسألة الرابعة :إخباره - صلى الله عليه وسلم - أن النساء حطب جهنم أي أكثر أهل النار(3/45)
المسألة الخامسة :في قوله فقامت امرأة من سطة النساء يحتمل أنه من الوسط المكاني أي وسط ذلك المكان ويحتمل أن المراد بالوسط الخيار ويحتمل أن المراد الوسط السن أي ليست كبيرة و لا صغيرة ولا شابة ولا عجوزاً والمهم أن الوسط يحمل على معاني متعددة .
المسألة السادسة : في قوله سعفاء الخدين والسفع هو لون فيه سواد والأسفع والسفعاء من أصاب خده لون يخالف لونه الأصلي وقد استدل بهذه الفقرة من هذا الحديث بعض العلماء على أنه لا يجب ستر الوجه وعضدوا هذا المأخذ للحديث الذي في الحج حين كان (الفضل رديفاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - )(1)
__________
(1) البخاري في كتاب الحج باب وجوب الحج وفضله رقم 1513وفي باب حج المرأة عن الرجل رقم1855 وفي كتاب الاستئذان باب قول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا ) رقم 6228 ومسلم في كتاب الحج باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت رقم 1334 والنسائي في كتاب مناسك الحج باب حج المرأة عن الرجل رقم 2641 وفي كتاب آداب القضاة باب الحكم بالتشبيه والتمثيل رقم5391 وأبو داود في كتاب المناسك باب الرجل يحج عن غيره رقم 1809 والدارمي في كتاب المناسك باب في سنة الحاج رقم 1850 ومالك في الموطأ في كتاب الحج باب الحج عمن يحج عنه رقم 806 ..(3/46)
فجاءت امرأة تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه وقد ذهب الجمهور إلى أن ستر الوجه واجب مستدلين بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب : 59 ] ومعنى يدنين عليهن من جلابيبهن أي من الإدناء وهو الاستتار وهو الإرخاء بتغطية الوجه بفضل الخمار وبحديث عائشة في الحج (وأنهن كن إذا قابلن الركبان يسدلن خمرهن على وجوههن) (1) ( والذي يظهر لي أن هذا هو القول الحق وفي المسألة خلاف مذكور في كتب الحجاب فليراجع .
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب المناسك باب المحرمة تغطي وجهها رقم 1833وابن ماجة في كتاب المناسك باب المحرمة تسدل الثوب على وجهها بنحوه رقم 2935 هذا الحديث من قبيل الحسن لأن ضعف يزيد بن أبي زياد من قبل حفظه علماً بأن الآية تدل على تغطية الوجه وهي قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } [الأحزاب : 59 ](3/47)
المسالة السابعة :قوله تصدقن فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم هذا إخبار عن مغيب وهو وحي من الله إلى رسوله قال تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم : 3-4]وعلى هذا فيجب علينا تصديق ذلك ولما سألت تلك المرأة عن السبب في كونهن أكثر حطب جهنم قال لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير فجعل هذين السببين موجبان لدخول النار وهو كثرة التشكي لأحوالهن وما يعانين في بيوتهن وهذا أمر ملموس في النساء فكونهن يشتكين حالهن يكون في هذه الشكوى تسخط لقضاء الله وقدره وعدم الرضا بما يقضيه الله عز وجل لذلك كان موجباً لسخط الله سبحانه وتعالى .
المسألة الثامنة: قوله تكفرن العشير المراد به الزوج وليس يراد بالكفر الكفر المقابل للإسلام ولكن المراد به كفر الجحود وهو كفر دون كفر وبالله التوفيق.
المسألة التاسعة :أن الصدقة تخفف وقع العذاب إن حصل وقد ترفعه وأنها سبب في إرضاء الله عز وجل
المسألة العاشرة :يؤخذ منه أن للمرأة أن تتصدق من حليها بما لا يضر الزوج أو يخل بالعشرة لها وقد عارض هذا حديث ورد فيه أنه ليس للمرأة أن تتصدق من مالها إلا بإذن زوجها ولكن ترك العمل بذلك الحديث وعمل بهذا لأن لكل عبد راشد التصرف في ماله وبالله التوفيق .
ملحوظة : قال ابن دقيق العيد في حاشية العمدة اختلف العلماء في جواز تصدق المرأة من مالها بغير إذن زوجها فقال الجمهور يجوز ولا يتوقف على مقدار معين من ثلث أو غيره واستدلوا بهذا الحديث قالوا فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسألهن هل أستأذن أزواجهن أم لا وهل هو خارج من الثلث أم لا ولو اختلف الحكم بذلك لسأل وقال مالك لا يجوز الزيادة على ثلث مالها إلا برضاء زوجها والشارح المحقق أشار إلى أنه لا دليل في الحديث على شئ من ذلك ووجه ما قاله أن الذي في الحديث الأمر بمطلق الصدقة والذي وقع به الامتثال إلقاء القرط والخاتم ومعلوم أنه ليس مال المتصدقة كله أهـ(3/48)
قلت : ولم يعلم هل هو الثلث أو أقل أو أكثر ولو كان الأمر يتوقف على التصدق بالثلث لأخبر الشارع - صلى الله عليه وسلم - بذلك وعدم الإخبار من الشارع دليل على عدم التقييد بالثلث والله الموفق
[145] الحديث الخامس :عن أم عطية (1)– نسيبه الأنصارية – رضي الله عنها قالت :أمرنا – تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين
وفي لفظ : كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها وحتى نخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته .
موضوع الحديث : مشروعية خروج النساء لصلاة العيد حتى تخرج الحيض والعواتق وذوات الخدور .
المفردات
العواتق : جمع عاتق وهي الجارية حين تدرك أي تقارب البلوغ فيعتقها أهلها من الخدمة خارج المنزل قال ابن دريد هي التي قاربت البلوغ وقال غيره هي ما بين أن تبلغ إلى أن تعنس ما لم تتزوج .
ذوات الخدور : أي صاحبات الخدور والخدور جمع خدر وهو الستر الذي يكون في ناحية البيت تجلس فيه البكر .قلت: هذا كان يعمله الناس حين كانت البيوت ضيقة وليس لأهل البيت إلا بيت واحد يجعلون على سرير البكر ستراً حتى لا يشاهدها من حضر إلى البيت .
__________
(1) أم عطية وهي نسيبه الأنصارية اختلف في اسمها فقيل نسيبة بالنون ثم السين المهملة ثم الياء ثم الباء الموحدة وقيل نبيشة بنون بعدها باء وشين معجمة وكلاهما على صيغة التصغير واختلف في اسم أبيها فقيل نسيبة بنت الحارث وقيل نسيبة بنت كعب قاله أحمد ويحيى أي أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأنكر ابن عبد البر أنها بنت كعب حيث قال وفي هذا نظر الأنصارية صحابية مشهورة مدنية سكنت البصرة روى لها الجماعة قاله في التقريب ولم يذكر وفاتها وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء نسيبة بنت الحارث وقيل بنت كعب من فقهاء الصحابة عاشت إلى حدود سنة سبعين لها عدة أحاديث .(3/49)
وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى : أي يكن على جانب فلا يكن مع المصليات .
الحيض : جمع حائض وهي التي تكون في وقت نوبة الحيض .
قولها فيكبرن بتكبيرهم : أي الحيض يكبرن بتكبير المصلين ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم والبركة هنا المراد بها زيادة الأجر فيه والله تعالى أعلم
المعنى الإجمالي
تخبر أم عطية رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر النساء بالخروج إلى مصلى العيد حتى الحيض والعواتق وذوات الخدور يأمرهن بالخروج لذلك على أن يعتزل الحيض المصلى
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث مشروعية إخراج النساء لصلاة العيد وفي ذلك خلاف بين أهل العلم هل هذه السنة ينبغي استمرارها والعمل عليها أم أن ذلك يكون متوقفاً على أمن الفتنة ومتى لم تؤمن فإن بقائهن في بيوتهن أولى فذهب جماعة إلى أن الخروج حق عليهن وممن ذهب إلى ذلك أم عطية راوية الحديث وذهب جماعة منهم عروة بن الزبير والقاسم بن محمد ويحيى بن سعيد ورواية عن ابن عمر إلى منعهن وقال به الثوري ومالك وأبو يوسف . واختلف فيه قول أبي حنيفة تارة بالجواز وتارة بالمنع وقيد المنع مالك وأبو يوسف بالشابة دون غيرها وقال الشافعي أحب شهود العجائز دون ذوات الهيئات وأنا في الأعياد أشد استحباباً لخروجهن . وأجاب المانع عن الحديث بأن المفسدة كانت مأمونة في ذلك الزمان دون اليوم وأنكر الصنعاني على من قال بأن المفسدة كانت مأمونة في ذلك الزمان فقال هذا غير صحيح إذ كل زمان فيه صالحون وغيرهم وقد وقع في عصر النبوة ما وقع في غيره من ارتكاب فاحشة الزنا والسرقة وغيرهما نعم لا تخرج المرأة إلى الصلاة في ثياب زينة ولا متطيبة متعطرة بل تخرج متبذلة لورود النهي عن ذلك أهـ نقلا عن حاشية الصنعاني بتصرف.(3/50)
قلت: أمن المفسدة في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين كان أكثر والاطمئنان إلى أهل ذلك الزمان كان أعظم ولو نسبت المفاسد التي وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يقع في زمننا لكانت تساوي نسبة ضئيلة جداً فالذين اعترفوا بالزنا بعد أن قارفوه لا يتعدون أصابع اليد الواحدة وكذلك السرقة وذلك في عشر سنين ولو حصر ما يقع من المناكر في زماننا في شهر واحد لزاد على ما وقع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي العشر السنوات كلها فالقول بأن الفتنة كانت مأمونة في ذلك الزمان قول صحيح فنقول إن ما حصل في ذلك الزمان كان نادراً والنادر لا حكم له والمهم أن أمن الفتنة لا بد أن يكون من الجانبين من جانب النساء فلا يتعدين الشرع في لباسهن ولا في تعاطيهن ما يثير الشهوة كالطيب وما شابهه وأن يتسترن التستر الكامل وأن يجتنبن أماكن كثرة الرجال ومن ناحية الذكور أن يغضوا أبصارهم وألا يتعرضوا للنساء ولا يحبوا الكشف عنهن أو النظر إليهن ولا شك أن ذلك كان متوفراً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين من حيث وفرة الإيمان وجدته ومن حيث قلة الكماليات في ذلك العهد أما الآن فقد ضعف الإيمان وكثرت المغريات وكثر المال وحصل من النساء ومن الشباب من الخروج عن الأعراف الشرعية والآداب الإسلامية ما الله به عليم لذلك فإني أرى أن القول بمنع خروجهن في هذا الزمان لهذه العلل هو الأولى فإن وجد في بعض الأماكن توفر الأسباب التي تؤمن معها الفتنة فينبغي لهم أن يعملوا بهذا الحديث والله أعلم .
ويؤخذ من الحديث أي من قوله ويعتزل الحيض المصلى يؤخذ منه أن الحيض لا يجوز لهن المكوث في المساجد وأن مصلى العيد يختلف عن المساجد التي يصلى فيها كل يوم وليلة خمس مرات لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز للحيض أن يجلسن في مصلى العيد لكنهن يتميزن عن المصليات والله تعالى أعلم .
باب صلاة الكسوف(3/51)
الكسوف لغة : التغير إلى سواد ومنه كسف وجهه وكسفت حاله وكسفت الشمس اسودت وذهب شعاعها ويستعمل قاصراً ومتعدياً وكذلك الخسوف بالخاء المعجمة وهو النقصان قاله الأصمعي أهـ من العدة للصنعاني
ويطلق الكسوف والخسوف على كل من الشمس والقمر على القول الأصح وقد وردت بذلك النصوص الشرعية في الكتاب والسنة ومن زعم أن الكسوف يختص بالشمس والخسوف بالقمر أو العكس فإن زعمه هذا لا دليل عليه ويذكر أهل الهيئة أن كسوف الشمس والقمر هي الحيلولة بينهما بالأرض وأن ذلك باعتبار أن القمر يحجب عن الشمس التي يستقي ضوءه من نورها وأن الشمس عندما تنكسف تحول الأرض بينها وبين القمر وهذا كلام فيه نظر فلا نصدقه جميعاً ولا نكذبه جميعاً .
فالعلوم الفلكية خاضعة للتجربة وقد تكون صواباً وقد تكون خطأ والعلم عند الله في ذلك ولا شك أن للكسوف والخسوف فوائد من أهمها :
إيقاظ أهل الغفلة وتخويف العباد بتغيير هذين الكوكبين العظيمين وأن الله أقدر على غيرهما فالذي حول حالهما من النور إلى الظلمة قادر على أن يحول حال الناس من الرخاء إلى الشدة ومن العافية إلى العذاب والعكس ففي ذلك إيقاظ لأصحاب العقول لعلهم أن ينيبوا ويرتدعوا عن كثير من الأعمال التي تغضب الله عز وجل وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك في الحديث الثاني بقوله إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده وأنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم . قال الصنعاني ذكر ابن حبان في أول كتاب النفقات أن الشمس كسفت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين مرة في السنة السادسة ومرة في السنة العاشرة(3/52)
قلت : في ثبوت كسوفها قبل العاشرة نظر فإن الأحاديث المشهورة تدل على أن الكسوف يوم مات إبراهيم عليه السلام أول كسوف وقع في حياته - صلى الله عليه وسلم - قال وأن القمر خسف في جمادى الآخرة من السنة الخامسة فجعلت اليهود تضرب بالطياس ويرمون بالشهب ويقولون سحر القمر ... إلخ ما قال وقد أورد في الباب أحاديث .
[146] الحديث الأول : عن عائشة رضي الله عنها أن الشمس خسفت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث منادياً ينادي : الصلاة جامعة فاجتمعوا وتقدم فكبر وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات .
موضوع الحديث: النداء لصلاة الكسوف بلفظ الصلاة جامعة
المفردات
الصلاة جامعة يجوز نصبهما على أن الأول منصوب على الإغراء أي احضروا الصلاة والثاني على الحال أي حال كونها جامعة ورفعهما على أنهما مبتدأ وخبر أي الصلاة ذات جماعة.
المعنى الإجمالي
تخبر عائشة رضي الله عنها أن الشمس خسفت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكونها تأتي مفاجئة أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - منادياً يدعو الناس إلى حضورها بقوله الصلاة جامعة وأنهم حضروا وصلى بهم ركعتين في كل ركعة قيامان وركوعان وسجدتان
فقه الحديث
أولاً: ذكر ابن دقيق العيد الخلاف في الخسوف والكسوف وإطلاقهما على الشمس والقمر وهل يختص أحدهما بأحد اللفظين أو يطلقان جميعاً عليهما .
قلت: قد تقدم أن الأصح إطلاقهما أي اللفظين على الشمس والقمر لأن ذلك ورد في أحاديث تارة بتسميته خسوفاً وتارة بتسميته كسوفاً والذين أطلقوه هم من العرب الذين يعتبر كلامهم لغة . وعلى هذا فإن الصحيح إن شاء الله جواز إطلاق اللفظين على الشمس والقمر وبالله التوفيق.
ثانياً :يؤخذ من قوله فبعث منادياً ينادي : أن السنة في الكسوف والخسوف سواء كان في الشمس أو القمر أن ينادى لهما وقد يقول قائل لِمَ لَم يشرع الأذان ولا هذا النداء للعيدين ولا لصلاة الاستسقاء وشرع للكسوف والخسوف فقط ؟(3/53)
والجواب : أن الكسوف والخسوف يأتيان مفاجأة فلذلك أمرنا بالنداء لهما أما العيد والاستسقاء فإنهما يأتيان على موعد فلا يحتاجان إلى نداء .
ثالثاً : أن النداء للكسوف بلفظ الصلاة جامعة وهذا اللفظ يعتبر إعلاماً بحضور الصلاة للكسوف وهو في مقام الأذان بالنسبة للفرائض .
رابعاً : الأصح في إعراب الصلاة جامعة وجهان :-
الوجه الأول : أن تكون الصلاة منصوبة على الإغراء وجامعة منصوب على الحال أي احضروا الصلاة حال كونها جامعة .
الوجه الثاني : أن تكون جملة الصلاة جامعة مبتدأ وخبر فالصلاة مبتدأ وجامعة خبر
وذكر الصنعاني وجهاً ثالثاً وهو أن تكون الصلاة منصوبة على الإغراء كما تقدم وجامعة خبر لمبتدأ مقدر والتقدير احضروا الصلاة فهي جامعة والكل جائز فيما أرى
خامساً : يؤخذ من قوله فاجتمعوا : امتثال الصحابة وتركهم لأعمالهم وذهابهم إلى المسجد استجابة للنداء ورغبة فيما يقرب من الله وذلك دال على فضيلتهم حتى الصغار الذين كانوا يلعبون كما في حديث سمرة بن جندب أنه كان ينتضل وبعد ذلك ذهب لصلاة الكسوف .
سادساً :ذكر ابن دقيق العيد أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة بالاتفاق وتعقبه الصنعاني فقال ونقل النووي في شرح مسلم الإجماع على أنها سنة وفيه نظر وقد صرح أبو عوانة في صحيحه بأنها واجبة وفي صلاة التطوع من الحاوي الكبير للماوردي وجه أنها فرض كفاية وبه جزم الخفاف أهـ العدة للصنعاني جـ3/178/179/180 .
قلت: القول بأنها سنة مؤكدة بالاتفاق ونقل الإجماع من النووي على ذلك يدل على أنهما لم يعتبرا خلاف المخالف خارقاً للإجماع لا سيما وهو واحد وقد جاء في وقت متأخر بعد انعقاد الإجماع والله أعلم .
سابعاً : التفريق في الحكم بين كسوف الشمس وخسوف القمر كما هو قول في مذهب مالك وأصحابه تفريق بلا فارق وإذا كان السبب قد ورد في الشمس فإن الحكم يشملهما أي الشمس والقمر بجامع التغير وإلى هذا ذهب الجمهور والله أعلم .(3/54)
ثامناً : قول ابن دقيق العيد سنتها الاجتماع للحديث المذكور وفائدة هذا هل تسن في الانفراد أو لا تسن محل نظر والذي يظهر من قوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فصلوا وادعوا أنه خطاب للجميع فمن كان بإمكانهم الاجتماع سن لهم ذلك ومن لم يكن بإمكانهم الاجتماع كأن يكون شخص في مكان منفرد فالظاهر أنه يعمل بما أمره به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن أئمة المذاهب قد ذهب أكثرهم إلى مشروعية الجماعة في صلاة الكسوف وهم الشافعي ومالك وأحمد وجمهور العلماء . وقال أبو حنيفة وطائفة تفعل فرادى وظاهر هذا القول أنها لا تشرع فيها الجماعة بالكلية وهو قول يناقض الدليل ويخالفه والحق ما ذهب إليه الثلاثة لموافقته الأدلة . والله الموفق .(3/55)
تاسعاً : قوله وقد اختلفت الأحاديث في كيفيتها واختلف العلماء في ذلك فالذي اختاره مالك والشافعي رحمهما الله ما دل عليه حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما من أنها ركعتان في كل ركعة قيامان وركوعان وسجودان . قال الصنعاني أقول واختار أحمد والليث وأبو ثور وجمهور علماء الحجاز وغيرهم أي أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان وهذا بناء على أن الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب متفقة على ذلك وإن خالفت بعض الأحاديث هذا فقد ذهب البيهقي وابن عبد البر إلى أن الصحيح من هذه الأحاديث هو رواية ركعتان في كل ركعة ركوعان وما عدا ذلك فهو معلل وضعيف على أن بعض أهل العلم قد ذهب إلى مشروعية الزيادة على ركوعين في كل ركعة . أما الحنفية فقد ذهبوا إلى أن صلاة الكسوف تصلى صلاة عادية وإنّ تعدد الركوع لا يشرع فيها بل زعم بعض أهل هذا المذهب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يركع بل كان يرفع رأسه لينظر هل انجلت الشمس أم لا ؟ قال ابن دقيق العيد واعتذروا عن الحديث أي حديث عائشة وما في معناه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس هل انجلت أم لا فلما لم يرها انجلت ركع . قال الصنعاني على قوله فلما لم يرها انجلت ركع أي استمر في ركوعه قلت : أي الصنعاني والذي في كتاب معاني الآثار للطحاوي من الأعذار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين ويسلم ويسأل كما روى ذلك النعمان بن بشير وهذا مردود وإنما هي اعتذارات واهية بل سخيفة يريد أصحابها من وراء ذلك رد النصوص والقول بمذهب الإمام كأن الله أرسل إليهم أبا حنيفة ولم يرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - وهذا أمر يؤسف له أن يصدر من قوم يبحثون العلم وينظرون فيه وعند الله الملتقى.(3/56)
والحق ما ذهب إليه الجمهور أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان وقيامان وسجدتان وأنه يسن فيها تطويل القراءة وأن تكون القراءة الأولى أطول من التي تليها والتي تليها أطول من التي تليها وهكذا ... .. إلخ فإذا رفع من الركوع الأول سن له أن يقرا الفاتحة في القيام الثاني ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح وذكر الإجماع عليه وبالله التوفيق .
[147] الحديث الثاني :عن أبي مسعود – عقبة بن عمرو الأنصاري البدري ـ رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم .
موضوع الحديث :الكسوف وما ذا يجب على من رآه
المفردات
قوله وإنهما لا ينكسفان : قد تقدم معنى الكسوف والانكساف وفي هذا اللفظ إطلاق لاسم الكسوف عليهما معاً
قوله فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا : قوله فصلوا جواب الشرط وجزاءه والشرط هو إذا ورأيتم فعل الشرط وجوابه فصلوا
قوله حتى ينكشف ما بكم : أي حتى يزول أمر الآية التي نزلت بكم وما هنا موصولة بمعنى الذي .
المعنى الإجمالي
يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده أي يجعل فيهما من التغير من النور إلى الظلمة ومن البياض إلى السواد ما يكون فيه تخويف للعباد وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يكون فيه استرضاء لله من فعل الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله والخوف منه وبالله التوفيق .
فقه الحديث(3/57)
أولاً :يؤخذ من هذا الحديث أن الشمس والقمر لا ينخسفان أو لا ينكسفان لموت أحد من الناس فانتفى بهذه الجملة أمران : الأمر الأول أنه لا علاقة بين إنكساف الشمس والقمر وبين موت أو حياة العظماء كما زعمته الجاهلية الأمر الثاني أن الانكساف ليس إليهما ولا يفعلانه هما أي الشمس والقمر وإنما يفعله الله بهما وفي نفي الأمرين نفي لما كان أهل الجاهلية يتوهمونه ويظنونه والله تعالى أعلم
ثانياً :يؤخذ من قوله آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده أن الانكساف الحاصل من الشمس تارة والقمر تارة أخرى إنما يفعله الله من أجل أن يخوف الله بهما عباده وليس كما يظن أهل الجاهلية
ثالثاً :يؤخذ من قوله فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا الأمر بالصلاة والدعاء والتضرع عند وجود هذه الآية .
رابعاً :قوله فصلوا أمر من الشارع يوضحه فعله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن هذا الأمر يكون امتثاله بإقامة صلاة على الهيئة المخصوصة التي وردت عنه في هذه المناسبة فيكون من العام المراد به الخصوص وهي الصلاة ذات الركوعات التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذه المناسبة
خامساً :وعلى هذا فلا يكون فيه دليل للحنفية القائلين بأن الصلاة المأمور بها هي مطلق الصلاة
سادساً :يؤخذ من قوله حتى ينكشف ما بكم أن الأمر بالصلاة الطارئة لطروء هذا الحدث تنتهي بانكشاف الكاسف منهما سواء كان هو الشمس أو القمر
سابعاً :إذا علم انكشاف الكسوف وهو في الصلاة أتمها خفيفة على الصفة المشروعة في صلاة الكسوف
[(3/58)
148] الحديث الثالث :عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام – وهو دون القيام الأول – ثم ركع فأطال الركوع – وهو دون الركوع الأول ثم سجد فأطال السجود ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الركعة الأولى ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ثم قال : يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
وفي لفظ فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات .
موضوع الحديث :صفة صلاة الكسوف
المفردات
على عهد رسول الله : أي في زمنه
قوله فأطال القيام وهو دون القيام الأول وكذلك فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول هل المراد بالأول أي الأول في الركعة الأولى أو الذي قبل الموصوف والظاهر أن عائشة تقصد أن كل ركن يكون أقل من الذي قبله فالقيام الثاني من الركعة الأولى أقل من القيام الأول فيهما والقيام الأول من الركعة الثانية أقل من القيام الثاني من الركعة الأولى وهكذا .
ومعنى قوله انصرف أي سلم
تجلت الشمس : أي رجعت إلى عادتها
قوله فحمد الله وأثنى عليه : المراد بالثناء المدح الجميل والله هو المستحق للمدح والثناء لما له من الكمالات ولما اسبغه على عباده من النعم
قوله والله ما من أحد أغير من الله : يعني أكثر غيرة من الله على محارمه
قوله أن يزني عبده أو تزني أمته : الزنا هو الاتصال الجنسي بين الذكر والأنثى بغير حل .
المعنى الإجمالي(3/59)
وصفت عائشة رضي الله عنها صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كسفت الشمس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها بقيامين وقرائتين وركوعين وأن كل ركن أقل من الركن الذي قبله وأن النبي خطب الناس بعد نهاية الصلاة وأنه أمرهم عند تغير هذه الآيات أن يفزعوا إلى الدعاء والصلاة والتكبير والتصدق .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من حديث عائشة رضي الله عنها مشروعية تطويل الصلاة في الكسوف
ثانياً : يؤخذ منه مشروعية تطويل القيام وتطويل الركوع بعده ثم تطويل القيام الثاني
وهو دون القيام الأول ثم تطويل الركوع الثاني وهو دون الركوع الأول
ثالثاً : ويؤخذ منه رد على من زعم أن صلاة الكسوف هي مثل سائر الصلوات كالحنفية
رابعاً : ويؤخذ منه أن الاعتدال بعد الركوع الثاني وبين السجود لا يطول لأن عائشة رضي الله عنها قالت سجد فأطال السجود وكذلك بين السجدة الأولى والثانية ولعله لم يكن فيه زيادة على ما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفريضة وقد علم من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجعل الأركان قريبة من بعضها إلا القيام للقراءة والتشهد وقد يجعلها سواء أو قريبة من السواء إذا قصر القراءة ولم يطولها ويؤخذ من قولها ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الركعة الأولى أي أنه صلاها بقيامين وقراءتين وركوعين وسجودين .
خامساً :يؤخذ من حديثها أيضاً مشروعية الخطبة للكسوف خطبة يذكر الخطيب فيها الناس بآيات الله عز وجل وقد اختلف في مشروعيتها .فذكر بعض أهل العلم أن خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت لأعلامهم بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فكان المقصود منها استئصال الاعتقاد الجاهلي الذي كانوا يعتقدونه والحق إن شاء الله مشروعية الخطبة للكسوف خطبة يذكر فيها الناس بربهم ويحذرهم مغبة المعاصي وهذا هو قول الجمهور .(3/60)
سادساً :و يؤخذ منه من قوله فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا أنه يشرع عند الكسوف الدعاء والتكبير والصلاة والتصدق .
سابعاً : ويؤخذ منه أيضاً أن تغير هذه الآيات وانطماسها وذهاب ضوءها يجعله الله عز وجل تخويفاً لعباده يخوفهم به فإن تغير هذه الآيات دليل على قدرة الله عز وجل على تغير الحال الذي يكون فيه العبد إذا عصى الله عز وجل من عافية إلى ابتلاء ومن نعمة إلى عذاب ومن سرور إلى حزن ومن ضحك إلى بكاء فليتدارك العبد نفسه وليذكر الله ربه يذكره في حال العافية حتى يستجيب له عند البلاء ويعفو عنه عند النقم والعذاب ثم قال يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته الزنا واحد من الآثام الكبيرة التي توجب غضب الله وقد ذكر بعض أهل العلم المناسبة بين ذكر الزنا والكسوف وأن المناسبة بينهما أن الكسوف يذهب معه ضوء هذه الآية وتذهب منفعتها ويكون العبد في حالة تخوف من الله عز وجل بمفارقة نورها لها بالكسوف وأن الزنا يفارق العبد فيه إيمانه كما تفارق الشمس ضوءها والقمر ضوءه كما جاء في الحديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وجاء أنه يفارقه إيمانه فيكون فوقه كالظلة .
سبق أن بينا أن الركوع الثاني يقرأ فيه بالفاتحة وسورة أو سور ولكن يجعل القيام الثاني أقل من القيام الأول .
[149] الحديث الرابع :عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال خسفت الشمس على زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام فزعاً يخشى أن تكون الساعة حتى أتى المسجد فقام فصلى بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيته يفعله في صلاته قط ثم قال : إن هذه الآيات التي يرسلها الله عز وجل لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يرسلها يخوف بها عباده فإذا رأيتم منها شيئاً فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره .
موضوع الحديث :كسوف الشمس وما ينبغي أن يفعله فيه المكلف تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -
المفردات(3/61)
فقام فزعاً :أي خائفاً
يخشى أن تكون الساعة : أي يخاف أن تكون الساعة حضرت
قوله إن هذه الآيات التي يرسلها الله عز وجل : إشارة إلى الكسوف والخسوف وما في معناها وكم لله من آية قد ظهرت في هذا الزمان ولكن من لا يعقلون يربطون تلك الآيات بأسباب طبيعية ويغفلون عن الحكمة التي يريدها الله منها فتارة بالأعاصير وتارة بالفيضانات وتارة بالزلازل وتارة بالبراكين وتارة بالحروب وكل ذلك عقوبات من الله عز وجل وآيات يريها عباده ليتعظوا فليس ببعيد عن الذاكرة البركان الذي ذكر في الفلبين وأنه كان يرمي بالشرر إلى خمسين كيلو في الجو إلى غير ذلك مما هو معلوم لمن تتبع الأخبار في هذه الأزمنة قوله فافزعوا إلى ذكر الله ودعاءه هذا التعبير يدل على أن القيام إلى الذكر يكون بخوف ووجل وخشوع .
المعنى الإجمالي
في هذا الحديث أخبر أبو موسى الأشعري رضي الله عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انخسفت الشمس في زمنه قام فزعاً يخشى أن تكون الساعة وأنه صلاها بأطول قيام وركوع وسجود رآه أبو موسى وأنه خطبهم بما ذكر في هذا الحديث وغيره
فقه الحديث
فقه الحديث قد تقدم في الأحاديث المتقدمة ولا حاجة إلى إعادته وكل الأحكام التي تتعلق بصلاة الكسوف قد وضحناها فيما سبق ولا داعي لأعادتها .
قال ابن دقيق العيد في قوله فافزعوا إلى ذكر الله ودعاءه إشارة إلى المبادرة إلى ما أمر به الشارع وتنبيهاً إلى الالتجاء إلى الله عند المخاوف بالدعاء والاستغفار وإشارة إلى أن الذنوب سبب للبلايا والعقوبات العاجلة وأن الاستغفار والتوبة سبب لمحو الذنوب وإزالتها ويرجى من وراء ذلك زوال المخاوف .(3/62)
وقد ذكر في التأريخ أن أهل المدينة لما خرجت النار من حول المدينة التي جاء الحديث بها تخرج نار بالحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى وبصرى بلد قريب من دمشق وأن أهل المدينة اجتمعوا وعطلوا الأعمال ودخلوا المسجد أي مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعلوا يذكرون الله ويدعون ويبكون لكن تلك الآية قد دامت قريباً من شهر وهي ظهرت في عام 556هـ وكانت تذيب الصخور ولا تحرق الشجر والله تعالى أعلم .
باب الاستسقاء
الاستسقاء في اللغة : طلب سقيا الماء من الغير للنفس أو للغير
وشرعاً : طلبه من الله تعالى عند حصول الجدب على هيئة مخصوصة .
[150] الحديث الأول : عن عبدالله بن زيد بن عاصم المازني (1)رضي الله عنه قال : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة (2).
وفي لفظ إلى المصلى .
موضوع الحديث: الاستسقاء وما ينبغي أن يفعله فيه الإمام والناس وكيف تصلى صلاته
المفردات
يستسقي : يطلب السقيا من الله تعالى
فتوجه إلى القبلة يدعو: أي استقبلها وجعل يدعو
قوله وحول رداءه :الرداء هو ما يجعله الرجل على كتفيه وتحويله قلبه ليكون الظهر بطناً والبطن ظهراً واليمين شمالاً والشمال يميناً
__________
(1) هو عبدالله بن زيد بن عاصم المازني وذكر البخاري أن سفيان بن عيينة كان يقول هو راوي الأذان ثم قال وهو وهم بل هو عبدالله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري ..
(2) قال الصنعاني في تعليقه المسمى بالعدة قوله جهر فيهما بالقراءة أقول هذا اللفظ ليس في البخاري فهو من أفراد مسلم فكان ينبغي للمصنف التنبيه عليه أهـ قلت : بل أخرجه البخاري في باب الجهر بالقراءة من الاستسقاء رقم الحديث ( 1024- فتح ) وفي باب كيف حول ظهره إلى الناس رقم ( 1025 )لكنه قال عن عباد بن تميم عن عمه وعمه هو عبدالله بن زيد (( النجمي)) .(3/63)
قوله ثم صلى ركعتين : مجيئه بثم التي عطف بها الصلاة على الدعاء والتحويل دليل على جواز الدعاء والتحويل قبل الصلاة وإن كان المشهور خلافه
قوله جهر فيهما بالقراءة : بمعنى أنه أسمعهم القراءة ولم يسرها
المعنى الإجمالي
يبتلي الله عز وجل عباده بأنواع من الابتلاء من أجل أن يدعوه وأن يذكروه وإن الابتلاء بالقحط وعدم نزول المطر موجب لأن يتوجه الناس إلى ربهم ويدعونه لكشف ما بهم ويطلبون منه أن يسقيهم الماء الذي يعيشون عليه هم وأنعامهم وكذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أجدبت المدينة وما حولها فخرج يستسقي وتوجه إلى القبلة يدعو وحوّل رداءه تفاؤلاً بتحويل الحال ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث دليل على استحباب الصلاة للاستسقاء وهو مذهب جمهور الفقهاء وعند أبي حنيفة لا يصلى للاستسقاء ولكن يدعو وخالفه أصحابه فوافقوا الجماعة قال الطحاوي في معاني الآثار بعد أن ساق أحاديث استسقاءه - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء ما لفظه ذهب قوم إلى أن سنة الاستسقاء هي الابتهال إلى الله عز وجل والتضرع إليه كما في هذه الآثار وليس في ذلك صلاة وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وخالفه في ذلك آخرون منهم أبو يوسف فقال بل السنة في الاستسقاء أن يخرج الإمام بالناس إلى المصلى ويصلي بهم هنالك ركعتين يجهر فيهما بالقراءة ثم يخطب ويحول رداءه فيجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه(3/64)
ثانياً :ويؤخذ من هذا الحديث أن السنة في الاستسقاء البروز إلى المصلى كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد علمت أن أبا حنيفة لا يرى الصلاة ولا الخروج لها علماً بأن الأحاديث الصحيحة دالة على ذلك وقد استدل لمذهب أبي حنيفة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى في خطبة الجمعة ولم يخرج ويرد الجمهور على قائل هذا القول بأن استسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة وقع مرة ووقع مرة أخرى أو مرات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعد الناس بالخروج لصلاة الاستسقاء فخرج لها وصلى بالناس .ونفي أبو حنيفة لا يدل على أن الصلاة خلاف السنة بل السنة ثابتة وإن جهلها أبو حنيفة بنقل العدل عن العدل فإذا كان أبو حنيفة قد نفى شيئاً ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق متعددة وبألفاظ صريحة وأسانيد صحيحة أنترك سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لرأي فلان وفلان لا والله فالحق أحق أن يتبع وما كلفنا الله باتباع أحد غير محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ثالثاً : يؤخذ من هذا الحديث استحباب تحويل الرداء وخالف أبو حنيفة في ذلك كما قد سبق وقيل أن سبب التحويل التفاؤل بتغير الحال وقال من احتج لأبي حنيفة إنما قلب رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع اليدين في الدعاء أو عرف من طريق الوحي تغير الحال عند تغيير رداءه . وأقول هذه محاماة عن المذهب ورد للدليل وإن هذا لأمر يؤسف له أن يصدر من عالم يريد اتباع شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا به يتحايل لإبطالها والأخذ بأقوال الرجال نسأل الله أن يرزقنا ثباتاً على الحق وأخذاً به ورفضاً لما سواه وبالله التوفيق .(3/65)
رابعاً : تحويل الرداء هو أن يقلبه الإمام فيجعل اليمين شمالاً والشمال يميناً والبطن ظهراً والظهر بطناً وقد قيل في علة ذلك أنه تفاؤل بتحويل الحال ونقول إن من حق المكلف بل الواجب عليه المتابعة لنبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - وقائد الأمة إلى ربها صلوات ربي وسلامه عليه من حقنا نحن المكلفين أو من الحق علينا بالأحرى أن نتبع ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرفنا علته أو لم نعرفها فأنت عبد مأمور بالاتباع وربك يقول (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : 3 ] ويقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم - (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران : 31](3/66)
خامساً : يؤخذ منه مشروعية الدعاء في الاستسقاء وظاهر هذا الحديث أنه يدعو قبل الصلاة وقد ورد في غير هذا الحديث أن الدعاء بعد الصلاة (1) وعلى هذا فنأخذ من هذا الحديث جواز الدعاء قبل الصلاة وبعدها بل وفي أثناء الخطبة فقد علم من خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء أنه قال فيها اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً عاجلاً غير رائث ... ألخ ما ذكر وعلى هذا فالاستسقاء كله مقصود للدعاء سواء قبل الصلاة أوفي أثنائها أو في حال الخطبة أو بعد الصلاة كل ذلك جائز إن شاء الله
سادساً :يؤخذ من هذا الحديث أن السنة في دعاء الاستسقاء أن يستقبل القبلة وقد ورد في حديث أنس (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا وهو في خطبته مستدبراً للقبلة) (2) فدل على أن هذا الاستحباب إنما يكون إذا جعل للاستسقاء صلاة خاصة فالمستحب أن يستقبل القبلة في حال الدعاء .
سابعاً : يؤخذ من قوله ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة أن السنة أن يصلي للاستسقاء ركعتين كما تقدم وإلى ذلك ذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة وأخذاً بالدليل
__________
(1) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (خرج نبي الله يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله عز وجل وحوّل وجهه نحو القبلة رافعاً يديه ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن ) رواه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في صلاة الاستسقاء رقم 1268وأخرجه الإمام أحمد 2/3268 والبيهقي 3/347 ونقل الحافظ في التلخيص 720 عن البيهقي في الخلافيات أنه قال رواته ثقات وقال البوصيري في زوائد ابن ماجة إسناده صحيح .
(2) كما في الحديث الثاني من أحاديث الباب .(3/67)
ثامناً : لم يذكر هنا كيف تكون صلاة الركعتين وقد ذكر في حديث ابن عباس (1) أنها كصلاة العيد ولذلك فقد رأى جماعة من أهل العلم أنها تصلى كصلاة العيد بالتكبير في أول كل ركعة وأن يبدأ الخطبة بالتكبير كما يفعل في صلاة العيد . وذهب آخرون إلى أنها تصلى ركعتين بدون تكبير فيها .
تاسعاً : قوله جهر فيهما بالقراءة دليل على أن صلاة الاستسقاء يستحب الجهر فيها بالقراءة كسائر الصلوات المسنونة التي تشرع لها الجماعة كالعيدين وغيرها أما ما لم تشرع فيه الجماعة من صلوات النهار فالسنة فيها الإسرار .
عاشراً : لم تذكر الخطبة هنا وقد ذكرت الخطبة في غير هذا الحديث (2) وعلى هذا فالقول بسنيتها هو الحق إن شاء الله وقد ذهب إلى ذلك الجمهور .
__________
(1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه ) رواه أبو داود في كتاب الصلاة رقم1165وابن ماجة في كِتَاب إِقَامَةِ الصَّلاةِ وَالسُّنَّةِ فِيهَا بَاب مَا جَاءَ فِي صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ رقم1266والترمذي في كِتَاب الْجُمُعَةِ بَاب مَا جَاءَ فِي صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ رقم 558 والنسائي في كتاب الاستسقاء باب الحال التي يستحب للإمام أن يكون عليها إذا خرج رقم 1506 وفي كتاب الاستسقاء باب جلوس الإمام على المنبر للاستسقاء رقم 1508 و في كتاب الاستسقاء باب كيف صلاة الاستسقاء رقم 1521 ( قال الألباني : حديث حسن )
(2) تقدم تخريجه(3/68)
الحادي عشر : أن صلاة الاستسقاء يجوز أن تصلى قبل الخطبة والدعاء (1) أو بعد الخطبة والدعاء (2) أما صلاة العيدين وصلاة الكسوف فيبدأ فيها بالصلاة ولما اختلفت الروايات في صلاة الاستسقاء جاز أن تكون قبل الخطبة أو بعدها هذا والله أعلم .
الثاني عشر : يؤخذ من هذا الحديث أيضاً أن التحويل يكون وهو مستقبلاً القبلة (3) مستدبراً للمأمومين ويدعو بعد التحويل سراً ولكن إلى الآن لم أر الدليل على هذا .
الثالث عشر : يسن الخروج لصلاة الاستسقاء في ثياب المهنة ولا يتزين لها كما يتزين للعيد ويخرج متبذلاً خاشعاً ذاكراً داعياً هذه هي السنة في صفة الخروج لصلاة الاستسقاء ويكون ذلك بعد طلوع الشمس لقوله في بعض الروايات خرج حين بدا حاجب الشمس .
[
__________
(1) كما في حديث أبي هريرة السابق ( خرج نبي الله يستسقي ... .) تقدم قريبا
(2) كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت ( ... فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله عز وجل ثم قال إنكم شكوتم جدب دياركم ... . ونزل فصلى ركعتين ... ) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب رفع اليدين في الاستسقاء رقم 1173 حسنه الألباني .
(3) تقدم تخريجه .(3/69)
151] الحديث الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً ثم قال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا قال : فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال : اللهم أغثنا اللهم أغثنا قال أنس : فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال : فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً قال : ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فاستقبله قائماً وقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يمسكها عنا فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر قال فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس.
قال شريك : فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول ؟ قال لا أدري .
موضوع الحديث :الاستسقاء في خطبة الجمعة
المفردات
أن رجلاً دخل المسجد : لم يعرف من هو
قوله نحو دار القضاء : ربما تبادر إلى الفهم أنها كانت دار للقضاة الذين يقضون بين الناس والحقيقة أنها إنما سميت بذلك لأنها بيعت في قضاء دين عمر بن الخطاب الذي كتبه على نفسه وأوصى به ابنه عبدالله وابنته حفصة فكان يقال لها دار قضاء دين عمر ثم اختصروا فقالوا دار القضاء .
قوله أن رجلا دخل المسجد ورسول الله قائم يخطب : الواو واو الحال والجملة بعدها حالية أي والحال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قائماً يخطب .
هلكت الأموال : المراد بها الأموال الحيوانية من المركوبات وبهيمة الأنعام(3/70)
قوله وانقطعت السبل : المراد بانقطاعها هنا كناية عن ضعف المركوبات وعدم استطاعتها على السير من أجل المجاعة .
فادع الله يغثنا : ورد في يغثنا روايتان رواية بالجزم على أنه جواب الطلب ورواية بالرفع يغيثنا على الاستئناف بمعنى ادع الله أن يغيثنا .
قوله فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه : الفاء هنا فاء فصيحة والله أعلم وربما قيل أنها سببيه أي بسبب ذلك رفع يديه ثم قال اللهم أغثنا مرتين معنى أغثنا أنزل علينا الغيث
قوله ولا قزعة : القزعة السحابة الصغيرة أو السحاب المتقطع والمراد بذلك أن الله أنشأ سحابة في ذلك الحين فلم يخرجوا إلا في المطر .
سلع : هو جبل في المدينة في الشمال الغربي منها على طريق الجامعة الإسلامية
فطلعت من وراءه سحابة مثل الترس :المراد بالترس هو ما يسمى بالدرقة وهو الذي كانوا يستعملونه ليتقوا به ضرب السيوف أو رد السهام عنهم والمراد أن السحابة طلعت صغيرة ثم انتشرت وفي هذا معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم -
قوله فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً : المراد به أسبوعاً
قوله فادع الله يمسكها عنا : أي أنهم سئموا المطر وأرادوا أن يرفع عنهم لكونه كان أسبوعاً نازلاً عليهم
اللهم حوالينا : أي على ما حولنا
ولا علينا : يعني ارفع المطر عنا
اللهم على الآكام : جمع أكمة وهو المرتفع من التراب .
والظراب : جمع ظرب وهي الجبال الصغيرة المنبطحة
وبطون الأودية : بطن الوادي هو ما يجري فيه الماء
ومنابت الشجر : التي تنفع الناس لمواشيهم
قوله فأقلعت : أي انقطع المطر فخرجنا نمشي في الشمس وهذا فيه معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم -
المعنى الإجمالي(3/71)
في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما كان يخطب أصحابه في يوم الجمعة إذ أقبل رجل فشكا إليه كثرة القحط وضعف المواشي عن السير وجوع العيال فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم دعا وليس في السماء سحاب فانشأ الله سحابة وانبسطت في السماء فلم يخرجوا إلا في المطر ومكث المطر أسبوعاً وفي الجمعة التي بعدها دخل رجل من ذلك الباب فشكا إليه شدة المطر وتهدم المنازل وانقطاع السبل فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - برفع المطر عن المدينة وإبقائه على ما حولها من بطون الأودية ومنابت الشجر فانجاب السحاب عن المدينة ثم خرجوا يمشون
فقه الحديث
أولاً :استدل بهذا الحديث على عدم مشروعية الصلاة للاستسقاء كما رأى ذلك أبو حنيفة وقد تقدم الكلام على ذلك وأن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا في الخطبة مرة فإنه لا ينفي مشروعية الصلاة للاستسقاء مرة أخرى كما حصل
ثانياً : يؤخذ منه مشروعية رفع اليدين في الدعاء .
ثالثاً :يؤخذ منه أن مخاطبة الخطيب والكلام عليه جائز بخلاف أن يكلم المأموم غير الخطيب فهذا ممنوع كما جاء في هذا الحديث .
رابعاً : يؤخذ منه معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث استجاب الله دعائه في نفس اللحظة واستمر المطر أسبوعاً كاملاً ثم في الأسبوع الثاني طلب منه الدعاء لرفع المطر عن المدينة فدعا وانجاب السحاب عن المدينة أي تحول منها إلى غيرها .
خامساً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدع بانقطاع المطر بالكلية ولكن دعا بانقطاع المطر عن المدينة وإبقائه على ما حولها فاستجاب الله دعائه في الحال أيضاً
سادساً :يؤخذ من هذا الحديث رفع اليدين عند الدعاء وهل هو مشروع في كل دعاء أو خاص بدعاء الاستسقاء فيه خلاف
سابعاً : الكلام على ما يتعلق بصلاة الاستسقاء قد تقدم في الحديث قبل هذا وبالله التوفيق .
باب صلاة الخوف(3/72)
قال الصنعاني : الخوف غم على ما سيكون والحزن غم على ما مضى قال وليس المراد من قولهم صلاة الخوف أن الخوف يقتضي صلاة كقولنا صلاة العيد ولا أنه يؤثر في تغيير قدر الصلاة أو وقتها كقولنا صلاة السفر وإنما المراد أن الخوف يؤثر في كيفية إقامة الفرائض بل في إقامتها بالجماعة كما ذكره الرافعي وغيره .
واختلف في وقت شرعيتها فقال ابن بزيزة اتفق أهل العلم بالآثار على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي صلاة الخوف حتى نزل قوله تعالى ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) فلما نزلت صلاها وهذه الآية نزلت بعسفان سنة ست بعد رمضان حين همّ المشركون أن يثبوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في صلاة العصر فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف أخرجه أحمد وأصحاب السنن عن أبي عياش الزرقي أهـ من العدة على شرح ابن دقيق العيد للعمدة .
[152] الحديث الأول :عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة وقضت الطائفتان ركعة ركعة
موضوع الحديث : صلاة الخوف
المفردات
قوله في بعض أيامه : أي في بعض حروبه والعرب تسمى الحرب يوماً وإن كان لعدة أيام كما قالوا يوم ذي قار ويوم كذا .
قوله فقامت طائفة معه : أي صلت معه .
الطائفة : الجماعة من الناس وهل يطلق على الواحد طائفة الأظهر أنه لا يطلق على الواحد طائفة إلا إذا كان يمثل المنهج الحق كما قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أن إبراهيم ( كان أمة قانتاً لله )(3/73)
إزاء العدو : أي تجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا وجاء الآخرون أي أنهم ذهبوا فوقفوا أمام العدو وهم محرمون ثم جاءت الطائفة الثانية وصلى بهم ركعة ثم ذهبوا ووقفوا أمام العدو وجاءت الطائفة الأولى فأتموا لأنفسهم ركعة وسلموا ثم جاءت الطائفة الثانية فأتموا لأنفسهم ركعة فتم لكل طائفة ركعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعة باستقلالهم أي قضوها وحدهم .
المعنى الإجمالي
لقد شرع الله صلاة الخوف للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته محافظة على الجماعة وعناية بها إذ لو لم يكن المقصود المحافظة على الجماعة لصلى كل شخص وحده ولم يكن فيه هذه المشقة والله أعلم
مجمل هذا حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أصحابه إلى قسمين قسم يحرس العدو وقسم يصلي معه فصلى بالطائفة التي معه ركعة ثم ذهبوا إلى الحراسة وهم على إحرامهم ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة فذهبوا ووقفوا أمام العدو وجاءت الطائفة الثانية وقضت لنفسها ركعة فكانت لكل طائفة ركعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعة قضوها لأنفسهم وبالله التوفيق
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث مشروعية صلاة الخوف وبذلك قال الجمهور وإن حكم صلاة الخوف باق إلى يوم القيامة ونقل عن أبي يوسف أن صلاة الخوف لا تصلى إلا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها لا تفعل من بعده قال الصنعاني هي إحدى الروايتين عنه ونقل مثله عن الحسن بن زياد اللؤلؤي والمزني ومذهب الجمهور هو الصحيح لأن الأصل في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التأسي ولا تخرج أفعاله عن ذلك إلا بدليل ولا دليل .(3/74)
ثانياً : يؤخذ منه أن صلاة الخوف لها عدة صور ثبتت في السنة ذلك لأن العدو إما أن يكون بين المسلمين وبين قبلتهم وإما أن يكون العدو في غير جهة القبلة وهذه الصفة التي وردت في حديث ابن عمر كان العدو فيها في غير جهة القبلة فصلى بكل طائفة من أصحابه ركعة وأتموا لأنفسهم ركعة ركعة هذه صورة من صور صلاة الخوف فيما إذا كان العدو في غير جهة القبلة ويتضح من هذه الصورة أنهم قد اتجهوا إلى غير القبلة وذهبوا يحرسون وهم في إحرام صلاتهم وإنما أبيح ذلك أي انحرافهم عن القبلة ومواجهتهم للعدو إنما أبيحت من أجل صلاة الخوف وإلا فالأصل أن من انحرف عن القبلة عامداً بطلت صلاته وقد اختلف أهل العلم هل تفعل هذه الصور كلها أو يفعل بعضها دون بعض . قال ابن دقيق العيد فإذا ثبت جوازها بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الذي فعله فقد وردت عنه فيها وجوه مختلفة في كيفية أدائها تزيد على العشرة فمن الناس من أجاز الكل واعتقد أنه عمل بالكل ومن الفقهاء من رجح بعض الصفات المنقولة فأبو حنيفة ذهب إلى حديث ابن عمر هذا واختار الشافعي رواية صالح بن خوات عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف واختار مالك ترجيح الصفة التي ذكرها سهل بن أبي حثمة والتي رواها عنه في الموطأ موقوفاً أما أحمد فلم يذكر ابن دقيق العيد رأيه في المسألة وذكر ذلك الصنعاني في العدة فقال وأما أحمد فقال ابن القيم قال الإمام أحمد كل حديث يروى في صلاة الخوف فالعمل به جائز وقال فيها ستة أو سبعة أوجه كلها جائزة وهذا القول لعله هو الأولى حتى يختار الإمام الهيئة التي تناسب وقته ووضعه والله أعلم
[(3/75)
153] الحديث الثاني :عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات بن جبير عمّن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم .
الرجل الذي صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو سهل بن أبي حثمة .
موضوع الحديث :صلاة الخوف
المفردات
ذات الرقاع : هي اسم لغزوة كانت في جهة نجد قيل أنها بعد خيبر وقيل قبلها
وجاه العدو : أي واقفون أمامه
ثم ثبت قائماً : أي حال كونه قائماً .
حتى أتموا لأنفسهم : أي أتموا لأنفسهم الركعة الباقية
ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم
الطائفة الأخرى : هي الفرقة التي لم تدخل معه في الصلاة أولاً فصلى بهم الركعة التي بقيت أي بالنسبة له
ثم ثبت جالساً :أي مكث جالساً حتى أتموا لأنفسهم ثم سلم بهم
المعنى الإجمالي(3/76)
في هذا الحديث صفة من صفات صلاة الخوف إذا كان العدو في غير جهة القبلة وهذه الصفة هو أن قائد الجماعة المسلمين يقسم الجماعة الذين معه إلى فرقتين فرقة تحرس العدو وفرقة تصلي معه ويصلي بهم الركعة الأولى فإذا قام للثانية أكملوا لأنفسهم ثم انصرفوا فوقفوا تجاه العدو وهو ما زال قائماً ثم تأتي الفرقة الأخرى ويصلي بهم الركعة الثانية فإذا جلس للتشهد أتموا لأنفسهم الركعة الثانية بالنسبة لهم ثم يتشهدون ويسلم بهم فتحوز الفرقة الأولى مع الإمام تكبيرة الإحرام وركعة وتحوز الفرقة الثانية ركعة والسلام مع الإمام وبهذا يكون قد حصل بينهم التعادل بحيازة الفضل مع الإمام وامتازت هذه الصفة أن كل فرقة تكمل لنفسها قبل أن تتفرق والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظر الفرقة الثانية في الركعة الثانية حتى تأتي بعد أن تسلم الفرقة الأولى من الصلاة ثم تقف تجاه العدو ويثبت في التشهد أي يطيل الانتظار حتى تكمل الفرقة الثانية الركعة التي بقيت عليهم ويتشهدون ثم يسلم بهم
فقه الحديث
أولاً : أن هذه الصفة فيما إذا كان العدو في غير جهة القبلة
ثانياً : أنه يقسم الجماعة الذين معه إلى فرقتين قلوا أو كثروا
ثالثاً : أن الفرقة الأولى تصيب مع الإمام تكبيرة الإحرام وركعة
رابعاً :أنهم يتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون والإمام واقف ينتظر الفرقة الثانية
خامساً : أن الفرقة الأولى بعد أن تتم لنفسها تذهب فتقف تجاه العدو ثم تأتي الفرقة الثانية فتصف وراء الإمام فإذا ظن أنهم قد أدوا ركن القراءة ركع بهم وسجد وانتظرهم جالساً ثم أكملوا لأنفسهم فإذا ظن أنهم قد أدوا ركن التشهد سلم بهم(3/77)
سادساً : ربما ظن ظان أن هذا الحديث منقطع باعتبار سهل بن أبي حثمة مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير وليس كذلك ولكنه نقل عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أي صالح بن خوات بن جبير نقل عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذات الرقاع ولعل الصواب أنه خوات بن جبير والد صالح وكيف ما كان فإن الجهل بالصحابي لا يغير شيئاً وهو هنا صريح في أنه عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين صحبوه وصلوا معه في ذات الرقاع إذاً فالحديث صحيح ولا يحتاج إلى كلام أكثر من هذا
سابعاً : قال ابن دقيق العيد هذا الحديث هو اختيار الشافعي في صلاة الخوف إذا كان العدو في غير جهة القبلة ومقتضاه أن الإمام ينتظر الطائفة الثانية قائماً في الثانية وهذا في الصلاة المقصورة أو الثنائية في أصل الشرع يعني كصلاة الفجر أما الرباعية فهل ينتظرهم قائماً في الثالثة أو قبل قيامه فيه اختلاف للفقهاء في مذهب مالك وإذا قيل أنه ينتظرهم قبل قيامه فهل تفارقه الطائفة الأولى قبل تشهده وبعد رفعه من السجود أو بعد التشهد اختلف الفقهاء فيه وليس في الحديث دلالة لفظية على أحد المذهبين وإنما يؤخذ بطريق الاستنباط منه ومقتضى الحديث أيضاً أن الطائفة الأولى تتم لنفسها مع بقاء صلاة الإمام وفيه مخالفة للأصول في غير هذه الصلاة قال الصنعاني أقول من حيث خروجهم قبل الإمام كما نبه عليه الشارح آنفاً إلا أنه رجحها من حيث المعنى المراد من صلاة الخوف .
قلت : الذي يظهر أن صلاة الخوف ما دام قد أبيح فيها ترك استقبال القبلة وهو شرط في صحة الصلاة فخروجهم قبل الإمام بأمر من الشارع لا اعتراض عليه .
[(3/78)
154] الحديث الثالث : عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما قال : شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف فصففنا صفين خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعدو بيننا وبين القبلة وكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبرنا جميعاً ثم ركع وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه – الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى – فقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعاً .
قال جابر : كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم وذكره مسلم بتمامه .
وذكر البخاري طرفاً منه وأنه صلى صلاة الخوف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغزوة السابعة غزوة ذات الرقاع
موضوع الحديث :صلاة الخوف إذا كان العدو في جهة القبلة
المفردات
شهدت : حضرت .
فصففنا صفين : أي جعلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفين .
والعدو بيننا وبين القبلة : أي كان العدو في جهة القبلة
قوله وكبرنا جميعاً ثم ركع وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً : أي الصفين جميعاً اشتركوا في التكبير والقراءة والركوع والرفع منه .
قال ثم انحدر بالسجود : أي هبط بالسجود .
والصف الذي يليه : أي الذي إلى جهته وهو الصف المقدم وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود أي أكمله .(3/79)
وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود :أي سجدوا بعدما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - والصف الذي معه ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم بأن دخل كل واحد بين اثنين الصف المؤخر يتقدمون والصف المقدم يتأخرون حتى إذا وقف الصف المؤخر في مكان المقدم ووقف الصف المقدم في مكان المؤخر ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم جميعاً ثم رفع بهم جميعاً ثم سجد هو والصف الذي يليه ... إلى كمال الحديث
المعنى الإجمالي
في هذا الحديث صفة من صفات صلاة الخوف وهذه الصفة فيما إذا كان العدو في جهة القبلة فإن الإمام أو قائد الجيش يقسم الجيش فرقتين فرقة تكون صفاً مقدماً وفرقة تكون صفاً ثانياً ثم يصلي بهم فيكبر بهم جميعاً ويقرئون جميعاً ويركعون جميعاً ويرفعون من الركوع جميعاً ثم يسجد ويسجد معه الصف الذي يليه ثم إذا قام للركعة الثانية سجد الصف المؤخر الذي كان يحرس العدو فإذا قاموا تقدم المؤخر وتأخر المقدم وفعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى وتشهد بهم جميعاً وسلم بهم جميعاً .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث صفة صلاة الخوف إذا كان العدو في جهة القبلة
ثانياً : أنه يقسمهم نصفين بحيث يكونوا نصفين .
ثالثاً :يشتركون معه جميعاً في تكبيرة الإحرام وفي القراءة وفي الركوع وفي الرفع من الركوع لأن حراسة العدو وهم ركوع متيسرة .
رابعاً : إذا رفع رأسه من الركوع سجد وسجد الصف الذي معه فإذا أكمل السجود هو والصف الذي يليه قام للركعة الثانية ثم سجد الصف المؤخر فإذا سجدوا وقاموا للركعة الثانية تقدم المؤخر وتأخر المقدم بحيث يرجع الصف المقدم إلى وراء ويتقدم الصف المؤخر حتى يقفوا في مكان الصف المقدم ويقف الصف المقدم في مكان الصف المؤخر .
خامساً : أما كيفية عمله في ذلك فهو أن يدخل كل رجل من الصف المؤخر بين رجلين من الصف المقدم
سادساً : يعمل بهم في الركعة الثانية كما عمل في الركعة الأولى(3/80)
سابعاً : إذا جلسوا جميعاً للتشهد انتظرهم حتى يلحق الصف المؤخر ويتشهدوا ثم يسلم بهم جميعاً
ثامناً : في هذه الصفة والصفات المتقدمة يبرز للمتأمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرص على التعادل بينهم في حيازة الفضل مع الإمام وفي الحراسة
تاسعاً : أنهم يشتركون جميعاً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع الإمام غيره في تكبيرة الإحرام والقراءة والركوع والرفع منه وفي التشهد الأخير والسلام
عاشراً : هل يمكن في هذا الزمن تطبيق صلاة الخوف إذا كان العدو في مكان بارز ؟ الجواب لا لأنهم لو اجتمعوا استغل العدو اجتماعهم فضربهم بالصواريخ والمدافع وقتلهم جميعاً .
الحادي عشر : ما هو الوضع المناسب للحرب في هذا الزمن ؟ الوضع المناسب للحرب في هذا الزمن أن كل واحد يصلي على حده في مخبئه أو على مصفحته أو دبابته والمهم أن كل واحد يصلي بحسب وضعه الذي وضع فيه من قبل القيادة .
الثاني عشر : إنما عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف من أجل الجماعة ومن هنا تعلم أن صلاة الجماعة لها أهمية عظيمة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتركها في حال الحرب ومبارزة الأعداء
الثالث عشر : إذا علمنا هذا فإن الواجب علينا أن نحرص على إقامة الجماعة وعدم التأخر عنها مهما كان الأمر إلا لعذر لا يمكن الإنسان معه الإتيان إلى المسجد كالمرض الشديد وما إلى ذلك .(3/81)
الرابع عشر : إذا كانت الصلاة رباعية والخوف حاصل في الحضر أو هناك مبرر بأن يصلي صلاة الخوف كما سبق أن مثلنا بأن يحصل زلزال تتهدم معه المنازل أو فيضانات تغرق منه منازل بعض الناس أو حريق نسأل الله العافية من ذلك كله فإنهم يعذرون بأن يؤدوا صلاة الخوف أو يحيط بهم عدو في بلدهم فإذا صلوا رباعية فهو بالخيار أن يصلي بجماعة ثم تذهب وتأتي جماعة أخرى ويصلي بهم صلاة ثانية تكون لهم فرضاً وله نفل وهذا قد حصل وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على ذلك . وإما أن يصلي بفرقة ركعتين ويتمون لأنفسهم ويصلي بالفرقة الثانية ركعتين ويتمون لأنفسهم ركعتين ومن جهة أخرى إذا كانت صلاة الخوف في المغرب فليصل بالفرقة الأولى ركعتين وبالفرقة الثانية ركعة وينتظر على كمال الركعتين حتى تتم الفرقة الأولى وتنصرف تجاه العدو ثم تأتي الفرقة الثانية فيصلي بهم ركعة ثم ينتظر جالساً وهم يتمون لأنفسهم فتصلي الفرقة الثانية ركعة ثم تجلس للتشهد ثم يقومون ويأتون بالركعة الثانية ويتشهدون ويسلم بهم الإمام .
الخامس عشر : كيف يصلي المسلمون إذا جاء عليهم الوقت في حال منازلتهم للعدو ؟ ورد في هذا حديث عند البخاري في صحيحه يقول أنس بن مالك رضي الله عنه شهدت فتح تستر فتهيأ لنا الفتح عند إضاءة الفجر فأخرنا الصلاة إلى أن انتهينا من الفتح وصلينا صلاة الصبح ضحى وما أحب أن لي بتلك الصلاة الدنيا وما عليها .
ومن أجل هذا الحديث قال قوم إذا تهيأ الفتح للمسلمين مع دخول الوقت فلهم أن يؤخروا الصلاة حتى يفتح لهم ، وقال قوم بل يصلون في حال المنازلة والمسايفة يصلي كل واحد منهم ركعة يكتفي فيها بالإيماء إيماء الركوع والسجود ويتوجه أينما توجه يعني أنه يسقط عنه استقبال القبلة استدلوا على ذلك بحديث ابن عباس قال فرض الله الصلاة أربعاً وصلاة السفر ركعتين وصلاة الخوف ركعة وقالوا يصلي كل واحد ركعة كيفما تهيأ له ويومي بالركوع والسجود وبالله التوفيق .(3/82)
كتاب الجنائز
عن أبي هريرة رضي الله عنه نعى النجاشي ............ الخ
قال الصنعاني أقول جمع جنازة مشتق من جنز إذا ستر قاله ابن فارس وغيره ، المضارع يجنز بكسر النون والجنازة بكسر الجيم وفتحها والكسر أفصح ويقال إنها للميت ويكسر للنعش عليه الميت ويقال عكسه فإن لم يكن عليه ميت فهو سرير أو نعش والجمع بالفتح لا غير .
[155] الحديث الأول:عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعاً .
موضوع الحديث:الصلاة على الغائب
المفردات
نعى : ينعى إذا أخبر بموت الميت وقد يقال أن النعي هو الأخبار بموت الميت على صفة مخصوصة لكن ظاهر الحديث يدل على أنه مجرد الأخبار
النجاشي : هو اسم أعجمي لكل من ملك الحبشة كما أن المقوقس اسم لمن ملك مصر وكسرى اسم لمن ملك فارس وقيصر اسم لمن ملك الروم وهكذا .
في اليوم الذي مات فيه : أي في نفس اليوم
وخرج بهم إلى المصلى: الظاهر أنه مصلى العيد
وكبر أربعاً : أي أربع تكبيرات
المعنى الإجمالي
يخبر أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أصحابه بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصلى عليه صلاة الغائب
فقه الحديث(3/83)
يؤخذ من هذا الحديث أولاً : جواز النعي وهو الإخبار بموت الميت وقد ورد النهي عن ذلك فعن حذيفة رضي الله عنه( قال إذا مت فلا تؤذنوا بي إني أخاف أن يكون نعياً فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن النعي ) (1) والظاهر أن النهي عن النعي يتجه على حالة مخصوصة وهو ما كان يعمله أهل الجاهلية فإنهم كانوا يرسلون راكباً ينادي في الناس بقوله إني أنعى إليكم فلاناً وذلك إما على سبيل المفاخرة والتكبر أو ما أشبه ذلك .
أما النعي الجائز فهو ما كان لمقصد شرعي صحيح كإعلام أهل الصلاح والخير بموته ليحضروا تشييعه والصلاة عليه ودفنه تحصيلاً لكثرة الشفعاء في ذلك الميت وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه ) (2) وأخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ( ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعوا فيه ) (3)
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في كراهية النعي رقم 986 ورواه ابن ماجه في الجنائز باب ما جاء في النهي عن النعي رقم 1476والإمام أحمد في باقي مسند الأنصار ، حسنه الألباني .
(2) مسلم في كتاب الجنائز باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه رقم 947 والترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت رقم 1029 والنسائي في كتاب الجنائز باب فضل من صلى عليه مائة رقم 1991 ورواه الإمام أحمد وابن ماجة في كِتَاب مَا جَاءَ فِي الْجَنَائِزِ باب ما جاء في من صلى عليه جماعة من المسلمين بنحوه رقم 1488 .
(3) مسلم في كتاب الجنائز باب من صلى عليه أربعون شفعوا فيه رقم 948 ورواه أبو داود في الجنائز باب الصفوف على الجنازة رقم 3170 والإمام أحمد .(3/84)
فإذا كان النعي لهذا الغرض فهو صحيح أما إن كان المقصود منه المباهاة فذلك هو الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ثانياً :قوله نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه ،فيه معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أخبر بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه مع البعد الكبير الذي بين المدينة والحبشة في ذلك الزمن الذي لم يكن فيه اتصال ولا برق ولا هاتف ولا طائرات ولا شيء .
ثالثاً:قوله وخرج بهم إلى المصلى أخذ منه من يرى عدم جواز صلاة الجنازة على الميت في المسجد وقد ذهب إلى ذلك المالكية والحنفية زاعمين أو بعضهم أن ميتة الآدمي نجسة كسائر الميتات وأنه لا يجوز إدخالها في المسجد ، علماً بأن عائشة رضي الله عنها لما أمرت أن يُدخل سعد بن أبي وقاص إلى المسجد لتصلي عليه ضمن المصلين أنكروا عليها فقالت ( والله ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد ) (1) وقد وردت آثار أن أبا بكر رضي الله عنه صُلي عليه في المسجد وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صُلي عليه في المسجد ، وقد ذهبت الشافعية والحنابلة وأهل الحديث إلى جواز الصلاة على الميت في المسجد وهو الحق إن شاء الله .
__________
(1) رواه ابن ماجة في كِتَاب مَا جَاءَ فِي الْجَنَائِزِ باب ما جاء في الصلاة على الجنائز في المسجد رقم 1518 والنسائي في كتاب الجنائز باب الصلاة على الجنازة في المسجد رقم 1967ورقم 1968 ( صححه الألباني )(3/85)
رابعاً :أخذ من هذا الحديث الصلاة على الغائب فقد صف النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وصلى على النجاشي صلاة الغائب وهذا هو قول الشافعي وأحمد وعموم المحدثين وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة وقالا لا يُصلى على الغائب مع أن الحديث صريح في هذا لكنهم اعتذروا عن الحديث باعتذارات ، منها أن النجاشي لم يصل عليه في أرض الحبشة فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم عليه فرض الصلاة ، ومنها أنه رفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - فرآه فتكون حينئذ صلاته عليه كالصلاة على ميت يراه الإمام ولا يراه المأموم ، قال
الصنعاني وأنّى ذلك كما قال الشارح ذكروا أعذاراً أخر لا تساوي سماعها فلا يشتغل بها .
ويجاب على الاعتذارين السابقين بأن دعوى أن النجاشي لم تقم عليه صلاة الميت في بلده فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إقامتها تخصيص بلا دليل بل بمجرد الظن ، وأما أن جنازته رفعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فرآه فهذا أبعد من الأول ومثل هذا لا يثبت بالاحتمال .
خامساً: في قوله فصف بهم دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صفهم صفوفاً ويأتي في حديث جابر كنت في الصف الثاني أو الثالث يوم صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي ، وقد استحب بعض أهل العلم أن تكون الصفوف ثلاثاً وإن كانوا قليلين .(3/86)
سادساً : في قوله وكبر أربعاً دليل لمن قال أن التكبير على الميت أربع تكبيرات وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة ، منها ما جعل التكبير فيه أربعاً (1) ومنها ما جاء التكبير فيه خمساً (2) ومنها ما جاء التكبير فيه ستاً (3) ومنها ما جاء التكبير فيه سبعاً (4) وقد ورد عن ابن عباس أنه كبر ثلاثاً (5) وكل ذلك سائغ في ذلك الزمن فقد قيل أنهم كانوا يكبرون على أهل بدر أكثر من غيرهم والذي استقر عليه الآمر أربعاً وهو الذي تشير إليه أكثر الأحاديث .
__________
(1) كما في حديث الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) لما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ( كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعاً وإنه كبر على جنازة خمساً فسألته فقال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرها [ فلا أتركها لأحد بعده ] أبداً ]) أخرجه مسلم 3/53 وأبو داود 2/67و68 والنسائي 1/281 والترمذي 2/140 وابن ماجة 1/458 والطحاوي 1/285 والبيهقي 4/36 والطيالسي 674 وأحمد 4/367و368و372 عنه . من كتاب الجنائز للألباني ص 142
(3) الست فيها بعض الآثار الموقوفة منها ما رواه عبدالله بن مغفل ( أن علي بن أبي طالب صلّى على سهل بن حنيف فكبر عليه ستاً ... الحديث ) أخرجه ابن حزم في المحلى 2/126 وقال وهذا إسناد في غاية الصحة .
(4) ما رواه موسى بن عبدالله بن يزيد: (أن علياً صلّى على أبي قتادة فكبّر عليه سبعاً وكان بدرياً ) أخرجه الطحاوي والبيهقي 4/36 بسند صحيح على شرط مسلم . الجنائز ص144
(5) نيل الأوطار ج 4 ص 98 في باب عد تكبير صلاة الجنائز .(3/87)
وذلك أن التكبيرة الأولى تكون بعدها القراءة وهي بالفاتحة والتكبيرة الثانية تكون بعدها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الصلاة الابراهيمية كما في التشهد والتكبيرة الثالثة يكون بعدها الدعاء وينبغي أن يخلص للميت فيدعو أولاً دعاء عاماً كما أثر وهو أن يقول اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الأيمان بعد قوله اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وذكرنا وانثانا ثم يخصص الدعاء للميت فيقول اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه واكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد إلى آخر ما هو مذكور ثم يكبر الرابعة ويسلم .(3/88)
سابعاً :لم يذكر السلام هاهنا وقد أختلف أهل العلم فيه هل هو تسليمة واحدة أو تسليمتان فذهب أحمد بن حنبل في الرواية المشهورة عنه إلى أنه يسلم من صلاة الميت بتسليمة واحدة وذكر أنه ثبت ذلك عن ستة من الصحابة وذكر صاحب المغني أنه رأي كثير من التابعين وذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة أن الواجب تسليمة وأن المستحب تسليمتان كالصلاة(1)
[156] الحديث الثاني:عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث .
موضوع الحديث : الصفوف في صلاة الجنازة
المفردات
النجاشي :قد تقدم ذكره
المعنى الإجمالي
__________
(1) وردت تسليمتان كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال (( ثلاث خلال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلهن تركهن الناس إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة )) أخرجه البيهقي 4/34 وقال النووي في المجموع 8/239 :إسناده جيد وقال في مجمع الزوائد 3/34 رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات ) وحسنه الألباني في الجنائز ص (127) وورد أيضاً أنه تسليمة واحدة كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة فكبر عليها أربعاً وسلم تسليمة واحدة )) . أخرجه الدارقطني 2/72 والحاكم 1/360 والبيهقي 4/43 وسكت عنه الحاكم والذهبي وحسنه الألباني ص (129) في الجنائز قال الحاكم : ( قد صحت الرواية فيه عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وجابر بن عبدالله وعبدالله بن أبي أوفى وأبي هريرة أنهم كانوا يسلمون على الجنازة تسليمة واحدة ). وانظر هذه الآثار في الموطأ 1/230 وعبد الرزاق (6449) وابن أبي شيبة 3/307 والبيهقي 4/34 والحاكم 1/360 . نقلاً من حاشية كتاب الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد الخامس ص (424 و 425).(3/89)
يخبر جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي صلاة الغائب وأنه كان ممن صلى إلا أنه لا يذكر هل كان في الصف الثاني أو الثالث هذا إذا كان الشك منه .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن المستحب أن يصف المصلون على الجنازة ثلاثة صفوف
ثانياً :يؤخذ من الحديث أن الصفوف التي كانت في تلك الصلاة ثلاثة إلا أنه شك في موقعه هل كان في الثاني أو الثالث .
ثالثاً: ويستفاد من هذا الحديث استحباب جعل المصلين ثلاثة صفوف وإن كان عددهم قليلاً ولا يمنع الزائد إذا كثر المصلون . أما كيفية الصلاة والتكبيرات فقد سبق ذكرها في الحديث الأول وربما أن تكون هناك حاجة إلى شئ من التوضيح وهو ما دليل تخصيص التكبيرة الأولى بقراءة الفاتحة والثانية بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والثالثة بالدعاء والرابعة بالسلام .والجواب قد بوب البخاري بقراءة الفاتحة فيها وذكر حديث ابن عباس وأنه جهر بقراءة الفاتحة فيها وقال لتعلموا أنها السنة (1) وقول الصحابي أن من السنة كذا أو أنها السنة أو هذا هو السنة معتبر له حكم الرفع بل ذكر الحاكم أنهم أجمعوا أن قول الصحابي من السنة كذا حديث مسند. قال الحافظ ابن حجر كذا نقل الإجماع مع أن الخلاف مع أهل الحديث والأصوليين شهير . وأخرج الشافعي والنسائي والحاكم وأبو يعلى من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها يعني صلاة الجنازة بأم القرآن ) (2) زاد النسائي وأبو يعلى وسورة (3) قال النووي إسنادهما صحيح .
__________
(1) البخاري في كتاب الجنائز باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة رقم 1335 والترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في القراءة على الجنازة رقم 1027والنسائي في كتاب الجنائز باب الدعاء للميت رقم 1987ورقم 1988 .
(2) النسائي في كتاب الجنائز باب الدعاء .
(3) النسائي في كتاب الجنائز باب الدعاء رقم 1987(3/90)
أما كون الصلاة بعد التكبيرة الثانية وهي الصلاة الابراهيمية فذلك أيضاً منقول عن السلف وهو منا سب لما تقرر في الشرع من الثناء على الله قبل الدعاء ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم بعد ذلك الدعاء .
وأما السلام فذكر الصنعاني دليله بقوله وقد أخرج النسائي بسند صحيح عن أبي أمامه أنه من السنة وروي عن إبراهيم الهجري أنه قال (أمنا عبد الله بن أبي أوفى على جنازة ابنته فكبر أربعا فمكث ساعة حتى ظننا أنه سيكبر خمسا ثم سلم عن يمينه وعن شماله فلما انصرف قلنا له ما هذا قال إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع أو هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1). وهذا الحديث إن صح فهو دليل على من قال بالاكتفاء بالتسليمة الواحدة وقد سبق أن الشافعي وبعض العلماء جمعوا بين الوارد في السلام واحدة أو اثنتين أن الواحدة واجبة والثانية كمال ومن أكتفي بالواحدة كفاه ذلك ومن أراد الكمال سلم التسليمتين اهـ. من العدة للصنعاني بتصرف وبالله التوفيق.
[157] الحديث الثالث : عن عبدالله بن عباس رضى الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر بعدما دفن فكبر عليه أربعاً .
موضوع الحديث : مشروعية الصلاة على القبر
المفردات
قوله بعدما دفن : أي بعدما دفن صاحبه فيه
قوله كبر أربعاً : أي أربع تكبيرات
المعنى الإجمالي
يخبر عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر بعدما دفن فيه صاحبه فكبر أربعاً وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - نور وقد ورد ( أن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم ) (2)
فقه الحديث
__________
(1) أخرجه البيهقي (4/43)
(2) مسلم في كتاب الجنائز باب الصلاة على القبر رقم 956 ومسند الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين .(3/91)
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث جواز الصلاة على القبر لمن لم يصل على الجنازة قبل دفنها وقد أجاز ذلك قوم إتباعاً لهذا الحديث وغيره ومنع ذلك آخرون والحديث حجة عليهم فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد وأنها ماتت فدفنوها ليلاً فلما أصبح سأل عنها فأخبروه أنها ماتت فقال هلا آذنتموني قالوا كنت نائماً وخشينا أن نوقظك والليل ظلمة فقال دلوني على قبرها فدلوه على قبرها فصلى عليها ) (1). قال ابن حجر إن صاحب القبر السوداء التي كانت تقم المسجد وقد ورد آن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر أم سعد ابن عبادة وكانت دفنت وهو في الغزو فصلى عليها بعدما قدم وورد أنه ( صلى على قبر رجل آخر) (2)
__________
(1) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه ( أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد فماتت ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قوله فأتى قبرها فصلى عليها .. الحديث) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان رقم 458 ومسلم في كتاب الجنائز باب الصلاة على القبر رقم 956 وأبو داود في كتاب الجنائز باب الصلاة على القبر رقم 3203 وابن ماجة في كتاب ما جاء في الجنائز باب ما جاء في الصلاة على القبر رقم 1527 ورقم 1529
(2) الحديث هو عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال ( مات رجل وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده فدفنوه ليلاً إلى قوله فأتى قبره فصلى عليه )..رواه البخاري في كتاب الجنائز باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن رقم 1247 وابن ماجه في كتاب ما جاء في الجنائز باب الصلاة على القبر رقم 1530(3/92)
فهذه الأحاديث تدل على جواز الصلاة على القبر وقد اختلف من أجاز ذلك في المدة التي يٌصلى على القبر فيها فقال بعضهم إلى ثلاث وقال بعضهم إلى شهر أما ما ورد في هذا الحديث فقد ورد أنه في صبيحة دفنها ودليل من قال إلى شهر ما ورد (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على أم سعد بعد شهر من دفنها ) (1)
ثانياً : قوله فكبر عليها أربعاً فيه دليل لمن قال أن التكبير على الجنازة أربعاً وهم الجمهوركما تقدم .
ثالثاً :يؤخذ منه أن صلاة الجنازة جائزة في المقبرة لأنها ليس فيها ركوع ولا سجود وأن النهي عن الصلاة في المقبرة مخصص بالصلاة المعروفة وهي ذات الركوع والسجود
[158] الحديث الرابع: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُفن في ثلاثة أثواب بيض يمانية ليس فيها قميص ولاعمامة.
موضوع الحديث : التكفين
المفردات
قوله يمانية:نسبة إلى اليمن وفي بعض الروايات سحولية وفي بعضها يمانية سحولية. قال الصنعاني في العدة وهي بضم السين المهملة منسوبة إلى السحول قرية باليمن تعمل فيها ويقال بفتح السين أهـ قلت الفتح أشهر وسمعته من بعض أهل تلك الجهة بفتح السين وهي قرية من قرى إب معروفة إلى الآن فهذه الأثواب تنسب إليها ، قولها ليس فيها قميص ولاعمامة يحتمل أنه لم يكفن في قميص ولاعمامة ويحتمل أن الثلاثة الأثواب خارجة عن القميص والعمامة . لكن قولها كفن في ثلاثة أثواب مفهومه أنه لم يكفن في غيرها وهذا هو الذي رجحه ابن دقيق العيد وتبعه على ذلك الصنعاني ببيان أوضح وأظهر.
المعنى الإجمالي
__________
(1) الحديث هو عن ابن المسيب أن أم سعد ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر والحديث ضعفه الألباني في الإرواء رقم 3/183و186[برقم 736/1 و737] ورواه الترمذي في الجنائز باب ما جاء في الصلاة على القبر رقم 1038 .(3/93)
الكفن هو ما يزود به العبد من الدنيا تستر به عورته حتى تواريه الأرض.والأصل فيه هو ما يستر عورة الإنسان إكراماً له لأن الله يقول (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ... )[لإسراء : 70 ]
ولقد أختار الله لرسوله أنه كفن في ثلاثة أثواب كلها لفائف بيض وإذاً فهذا أفضل الكفن لأن الله عز وجل لا يختار لرسوله إلا الأفضل .
فقه الحديث
أولاً :يؤخذ من هذا الحديث إختيار أن يكون الكفن أبيض وقد جاء في الحديث عن ابن عباس قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ألبسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ) (1)
ثانياً: يؤخذ منه أن أفضل الكفن ثلاث لفائف ولم يذكر إلا كونه كفن في ثلاثة أثواب بيض غير أن التكفين في اللفافة لابد أن تكون اللفافة كافية لتغطية الجسد جميعاً بأن
يكون الثوب عريضاً ويستحب أن يخالف بينها بأن تكون مجمع اللفافة الأولى على الجانب الأيمن واللفافة الثانية مجمعها على الجانب الأيسر واللفافة الثالثة مجمعها في الوسط.
__________
(1) الترمذي في كتاب الجنائز باب ما يستحب من الأكفان رقم 994 وفي كتاب الأدب باب ما جاء في لبس البياض رقم 2810 والنسائي في كتاب الجنائز باب أي الكفن خير رقم1896 وفي كتاب الزينة باب الأمر بلبس البيض من الثياب رقم 5322 وأبو داود في كتاب الطب باب الأمر بالكحل رقم 3878 وفي كتاب اللباس باب في البياض رقم 4061 وابن ماجة في كتاب الجنائز باب ما جاء فيما يستحب من الكفن رقم 1472 وفي كتاب اللباس باب البياض من الثياب رقم 3566والإمام أحمد في مسند بني هاشم ومسند البصريين (صححه الألباني) .(3/94)
ثالثاً:هل المراد أنه كفن في ثلاثة أثواب بدون قميص ولاعمامة أو أنه كفن في ثلاثة أثواب ما عدا القميص والعمامة ؟ وقد سبق أن قلت أن ابن دقيق العيد رجح الاحتمال الأول وجعله هو الأظهر وتبعه على ذلك الصنعاني وهو الحق فيما أرى لأن جملة كفن في ثلاثة أثواب المفهوم منها أنه لم يكفن في غيرها وذهب قوم إلى الاحتمال الثاني زاعمين أن الثلاثة الأثواب ما عدا القميص والعمامة .
قلت هذا اختلاف في الأفضل وإذاً فإن الواجب ما يستر البدن وما زاد يعتبر جائزاً ما لم يخرج إلى حد الإسراف وهنا يمكن أن نقول أن الإسراف إما أن يكون في نوع الكفن أو في كميته والكل مكروه فلا تجوز المبالغة العظيمة في ثمن الكفن ولافي تكثيره وينبغي أن أنبه أن حديث ( حسنوا أكفان موتاكم فإنهم يتزاورون فيها ) حديث لا يصح وبالله التوفيق .
[159] الحديث الخامس :عن أم عطية الأنصارية قالت دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفيت ابنته فقال (( أغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك -إن رأيتن ذلك -بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه وقال أشعرنها به )) تعني إزاره
وفي رواية سبعاً
وقال ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها
وأن أم عطية قالت : وجعلنا رأسها ثلاثة قرون .
موضوع الحديث:كيفية غسل الميت
المفردات
حين توفيت ابنته : المشهور أن هذه البنت هي زينب بنت محمد رضي الله عنها و - صلى الله عليه وسلم - على أبيها وزوجة أبي العاص بن الربيع توفيت سنة ثمان من الهجرة وقيل أنها أم كلثوم
قوله أغسلنها ثلاثاً أو خمساً: أي ثلاث غسلات أو خمس غسلات
قوله بماء وسدر: بأن يخلط السدر مع الماء لكن لايطغى عليه بالأسمية فلا يقال سدر ولكن يقال ماء مخلوط بسدر
قوله واجعلن في الأخيرة : أي في الغسلة الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافورهو بذر شجر له رائحة طيبة وخاصية في حفظ البدن(3/95)
فإذا فرغتن فآذنني :أي أخبرنني
قالت فلما فرغنا آذناه أي أخبرناه
فأعطانا حقوه : بالفتح للحاء المهملة وورد بالكسر أما القاف فهي ساكنة على كلا الحالين بعدها واو مفتوحة والضمير يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد بالحقو أو الحقوفي الأصل هو مربط الفخذين في الجسد والأصل أن هذه التسمية لموضع معقد الإزار ثم نقلت إلى الإزار فسمي الإزار حقواً آو حقواً بالموضع الذي يربط فيه .
قوله أشعرنها إياه : أي اجعلنه شعاراً لها ، والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار حين جمعهم بعد حنين من أجل مقالة قالها بعض سفهائهم وقال لهم ( الأنصار شعار والناس دثار ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ولو سلك الناس واديا وشعباًً وسلك الأنصار وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) (1)
قوله الأنصار شعار أي مثل الثوب الذي يلي الجسد والذي لا يستغنى عنه قط .
المعنى الإجمالي
تعبد الله عز وجل عباده بأن يغسلوا موتاهم إكراماً لهم وتعبداً لربهم فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغسل الموتى بماء وسدر وأمر أن تكون الغسلات وتراً وأمر أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - غاسلات ابنته بأن يخبرنه عند الفراغ من الغسل فلما أخبرنه أعطاهن إزاره ليشعرن به ابنته رضي الله عنها تبركاً بما لامس جسده صلوات الله وسلامه عليه ولا يجوز التبرك بأي أحد سواه مهما بلغ صلاحه وبلغت عبادته فلو كان ذلك جائزاً لفعله الصحابة بأفضلهم أبي بكر رضي الله عنه .
فقه الحديث
__________
(1) البخاري في كتاب المغازي باب غزوة الطائف في شوال رقم 4330 ومسلم في كتاب الزكاة باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه رقم 1061 وابن ماجة في المقدمة باب في فضائل الأنصار رقم 164وأحمد في مسند المدنيين .(3/96)
أولاً:يؤخذ من قولها فقال أغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك ........الحديث يؤخذ منه وجوب غسل الميت استدلالاً بصيغة الأمر والأمر يقتضي الوجوب لقوله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ..) [النساء : رقم 59 ] وقوله سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) [الأنفال : رقم 24 ] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .(1)
ثانياً :هل الأمر هنا يكون وجوبه في مطلق الغسل أو أنه لا بد أن يكون على الهيئة التي أمر بها الشارع حيث يقول أغسلنها ثلاثاً أو خمساً ....الخ الحديث . وقد أشار ابن دقيق العيد إلى الخلاف الواقع عند الأصوليين فيما إذا أمر الشارع بشيئين هل يكون في كليهما على الوجوب وهو هنا مطلق الغسل والإيتار فمطلق الغسل لا خلاف في كونه للوجوب فيما يظهر ولكن هل يتناول الوجوب الصفة التي عينه عليها وهو الإيتار الظاهر أن ذلك يشمله ويكون الأمر للوجوب فيهما معاً لأن الشارع قال أغسلنها ثلاثاً أو خمساً فجعل الثلاث مقصودة في الأمر وإن لم تكف انتقل الغاسل إلى الخمس وأشار الصنعاني إلى أن إيجاب الثلاث قال به الظاهرية
__________
(1) البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب الإقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقم 7288 ومسلم في كتاب الفضائل باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - رقم 1337 وفي كتاب الحج باب فرض الحج مرة في العمر رقم 1337 والنسائي في كتاب مناسك الحج باب وجوب الحج رقم 2619 ومسند الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين .(3/97)
والكوفيون والمزني. والحق فيما أرى مع من قال بذلك لأن الشارع حين قال أغسلنها ثلاثاً أمر بمطلق الغسل والصفة التي يكون عليها فيكون أدنى ما قيدت به الثلاث فهي واجبة وما بعدها مندوب إلا أن يكون الحال مقتضيا ًللزيادة .وبالله التوفيق
ثالثاً:يؤخذ من ذلك أيضاً جواز الزيادة على ثلاث ولكن الإيتار مطلوب فإن انقي جسد الميت بأربع وجب الإتيان بخامسة وإن انقي بست وجب الإتيان بسابعة لقوله إن رأيتن ذلك فقيد الزيادة بما إذا كانت الحالة مقتضية لذلك حسب رأي الغاسل ولا يزيد على السابعة لأن الإمام أحمد كره الزيادة عليها وقال ابن عبد البر لا أعلم أحد اً قال بمجاوزة السبع وقال الماوردي إنها سرف .
رابعاً:قوله بماء وسدر هذا من الصفة التي أمر بها الشارع وقلنا أنها داخلة في الوجوب لاتجاه الطلب عليها وهل يكون السدر في الغسلة الأولى والثانية معاً أو تكون الغسلة الأولى بماءٍ قراح والثانية بماءٍ وسدر والثالثة بماءٍ وكافور .
خامساً: يؤخذ منه أن السدر المخلوط بالماء لا يسلب الماء طهوريته بل الماء يكون باقٍ على طهوريته لأنه لم يغلب على أسميته فأفاد ذلك أن الماء الممزوج بشيء قليل لا يزيل عنه اسم الماء ولا يضره بل يبقى على طهوريته .
سادساً:يؤخذ منه استحباب الكافور في الغسلة الأخيرة لأن الكافور له خاصية في حفظ البدن وتجفيفه وطرد الهوام عنه ومنع إسراع الفساد إليه وعلى هذا فلا يقوم المسك وغيره من أنواع الطيب مقامه إلا إذا لم يوجد .
سابعاً: يؤخذ من قوله إبدأن بيامينها ومواضع الوضوء منها أن البدأ يكون بمواضع الوضوء ثم يكون بالميامن عند الغسل وذلك تشريف لمواضع الوضوء وللميامن .(3/98)
ثامناً:يؤخذ من قولها وجعلنا رأسها ثلاثة قرون أن ذلك شرع وسنة أن يُسرح شعر الميتة فيجعل ثلاث ضفائر وتسدل خلفها وإلى ذلك ذهب الجمهور وذهب الأحناف إلى أن شعر المرأة يسدل ولا يضفر أي يسدل على جوانب وجهها ومؤخر رأسها ولكنه قول بلا دليل والدليل هو مع من ذهب إلى تسريح شعر المرأة وضفره .
تاسعاً:أختلف أهل العلم في قول أم عطية وجعلنا رأسها ثلاثة قرون هل يكون له حكم الرفع لأن الظاهر أن ذلك كان من فعلهن وليس بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي يظهر أن ذلك له حكم الرفع بمعنى إذا كان من فعلهن فلا بد أن يكون إقراراً من النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن على ما فعلن ولا يتصور أن يفعلن خطئاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي تجهيز ابنته ولا ينبه عليه بل الظاهر خلاف ذلك وأنهن لا يفعلن ذلك إلا بأمر من الشارع أو بتقرير منه .
عاشراً: يؤخذ من قولها فلما فرغن آذناه فأعطانا حقوه وقال أشعرنها به تعني إزاره ومعنى ذلك اجعلنه شعاراً لها والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد كما تقدم تفسيره وذلك كما قال أهل العلم تبركاً بما لامس جسده يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الحادي عشر :هل يجوز التبرك بغيره صلوات الله وسلامه عليه الجواب لا يجوز التبرك بغيره لأنه لو كان جائزاً لفعله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيرهم بعده وهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ولفعله التابعون بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل على اختصاصه به صلوات الله وسلامه عليه وذلك إجماع منهم .(3/99)
الثاني عشر : إذا علم هذا فإن قول من قال من المتأخرين بجواز التبرك بغير النبي - صلى الله عليه وسلم - قول بلا دليل وخروج عن الإجماع بعد انعقاده فلا ينظر إلي من قال به وإن كان القائلون به كثير لأن الشرع قد كمل في حياته - صلى الله عليه وسلم - ومن استحدث حكماً بعد إجماع الصحابة يغاير إجماعهم فإنه قد فتح باب شر أراد الله عز وجل إغلاقه على يد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبإجماعهم فكم رأى الناس من أمور شركية وبدعية حصلت بسبب القول بجواز التبرك فأدى ذلك إلى الشرك الأكبر فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولنسمع ما قاله العلامة الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله في باب الزيارة المشروعة والتحذير من الزيارة المبتدعة وهو خاتمة كتاب الجنائز
أما اتخاذ القبر مسجداً وأن ... يجعله عيداً كعابد الوثن
والذبح والنذر على القبور ... وهتف ذا الزائر بالمقبور
كقول يا باهوت يا جيلاني ... أدرك أجب أغث لذا اللهفان
يريد منه دفع شر دهماً ... أو جلب خير دون خالق السماء
فذي هي المصيبة العظمى التي ... لم يجن مثلها على ذي الملة
وذلك الشرك الصريح الأكبر ... فاعله بدون شك يكفر
لكنه في هذه الأعصار ... قد أصبح المألوف للزوار
وأصبح الدين بغاية الخفا ... فحسبنا الله تعالى وكفى
فيا أولي العقول والأحلام ... هل ذا أتى في ملة الإسلام
هل في كتاب الله قد وجدتموا ... ذا أم بسنة النبي بل حدتموا
عنها إلى وساوس الشيطان ... وزخرف الغرور والبهتان
أما نهاكم ربكم عن ذا أما ... بيِن ما أحل مما حرما
أما إليكم الرسول أرسلا ... مبيناً كتابه المنزلا
أغير دين الله تبغون ألا ... حياءً من رب السموات العلى
تدعون من لا يستجيبكم ولا ... لنفسه يملك لا نفعاً ولا
ضراً فأنى يملكونه لكم ... وهم عباد كلفوا أمثالكم
فلا وربي أبداً لا تفلحوا ... ما دمتم التوحيد لم تصححوا
يا قوم بادروا إلى الخلاص ... وحققوا شهادة الإخلاص
وبالكتاب المستقيم اعتصموا ... كلاً وسنة الرسول إلتزموا(3/100)
وما تنازعتم فردوه إلى ... هذين لا تبغون عنها حولا
ويا أولي العلم ألم يبقى بكم ... من غيرة لنصرة دين ربكم
قوموا بعزم صادق مبين ... وبينوا للناس أمر الدين
إلى آخر ما قال رحمه الله.
والذي أريد أن أقوله أن كل ما حصل على القبور من بدع وشركيات كان سببها هو إباحة التبرك بغير الرسول - صلى الله عليه وسلم - فبالغ الناس في ذلك حتى استحلوا دعوة المقبورين فإنا لله وإنا إليه راجعون .
[160] الحديث السادس:عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته -أو قال فأوقصته- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً .
وفي رواية ولا تخمروا وجهه ولا رأسه .
موضوع الحديث :موت المحرم في حال إحرامه هل يقطع عنه حكم الإحرام أم لا
المفردات
فوقصته أو قال أوقصته أو قال أقصعته والكل بمعنى واحد والمراد أنها كسرت عنقه
قوله اغسلوه بماء وسدر: يعني بأن يوضع السدر بالماء ويغسل بهما معاً من أجل التنظيف
قوله كفنوه في ثوبيه وفي رواية ثوبين :بمعنى أنه يكفن في ثوبي إحرامه
قوله ولا تحنطوه :نهي عن جعل الحنوط فيه وهو الطيب الذي يجعل في الميت فيمنع عن المحرم لكونه باقياً له حكم الإحرام
قوله ولا تخمروا رأسه وفي رواية عند مسلم ولا تخمروا وجهه ولا رأسه : يؤخذ منه عدم جواز تغطية الرأس لمن مات على إحرامه وكذلك الوجه.
قوله فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً:هذه الجملة تعليلية لما سبق من كونه يمنع عنه الحنوط وتخمير الرأس والوجه
المعنى الإجمالي
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن مات محرماً أن يغسل بالماء والسدر وأن يكفن في ثوبين ونهى عن تحنيطه وتخمير رأسه ووجهه من أجل أنه يبعث يوم القيامة ملبياً .
فقه الحديث(3/101)
أولاً:يؤخذ من هذا الحديث أن من مات محرماً يبقى على حكم الإحرام فيغسل بالماء والسدر ويمنع عنه الطيب ويكفن في ثوبيه ولا يغطى رأسه ولا وجهه لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً وبذلك أخذ الحنابلة والشافعية وذهبت الحنفية والمالكية إلى أنه يعامل معاملة غير المحرم وجعلوا الموت سبباً في انقطاع الإحرام وهو مخالفة للدليل فإن الحكم علل بأنه يبعث يوم القيامة ملبياً والمرجع فيما بعد الموت وفي سائر الأحكام إلى الشارع والقياس لا يعارض به النص فوجب المصير إلى النص أما اعتذار بعض الحنفية بأن هذا في هذا الشخص وحده ولا يعلم وقوعه في غيره فهو اعتذار باطل يعرف ذلك كل من له إلمام بعلم الشريعة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما علل بقوله بأنه يبعث يوم القيامة ملبياً بما سبق من الأحكام وهو تكفينه في ثوبيه والنهي عن تحنيطه وعن تخمير رأسه ووجهه هذا هو القول الصحيح وبالله التوفيق .
ثانياً:يؤخذ من هذا الحديث أن تغطية الوجه للمحرم لا تجوز وقد اختلف في ذلك أهل العلم لكن رواية مسلم قاضية بذلك ولا تخمروا وجهه ولا رأسه.
ثالثاُ :يؤخذ منه أن هذه الأحكام إنما ثبتت من أجل وجود الإحرام .
رابعاً: يؤخذ منه مشروعية الحنوط في الميت لأن مفهوم قوله ولا تحنطوه أن النهي إنما هو باعتبار كونه محرماً.
[161] الحديث السابع : عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا .
موضوع الحديث: هو النهي للنساء عن اتباع الجنائز أما نهي كراهة وأما نهي تحريم وكونه نهي كراهة يدل عليه هذا الحديث.
المفردات
قولها نهينا : مبني للمجهول بحذف الفاعل للعلم به وهو في حق صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قال الصحابي أَمرنا أو نَهينا فالمراد بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو الآمر والناهي لهم دون غيره(3/102)
قولها ولم يعزم علينا :العزم في اللغة هو الإلزام أو التأكيد على الشئ وهنا نفت أم عطية العزم فدل على أنه لم يكن ذلك النهي مؤكداً وهذا هو القول المختار .
المعنى الإجمالي
الشرع من الله ومن رسوله - صلى الله عليه وسلم - مبنياً على ما يعلمه جل وعلا من المصالح ودرء المفاسد التي يعلمها الله دون غيره ورسوله مبلغ عنه وفي هذا الحديث دليل على أن الله عزوجل لما علم ما تنطوي عليه طبيعة النساء من الضعف وعدم التحمل نهاهن عن اتباع الجنائز نهياً غير مؤكد المنع فكأنه يؤخذ منه كراهة ذلك للنساء للعلة التي أشرنا إليها سابقاً وبالله التوفيق .
فقه الحديث
أولاً:يؤخذ من هذا الحديث أن قول الصحابي نهينا أو أمرنا أنه محمول على أن الآمر أو الناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو القول المختار عند أهل المصطلح والأصول
ثانياً:يؤخذ من قولها نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا دليل على أن النهي حصل ولكنه لم يكن عزيمة بالمنع وهذا الحديث قد عارضته أحاديث تفيد المنع وأحاديث تفيد الجواز فمن الأحاديث التي تفيد المنع ما ورد عن ابن عباس قال ( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )(1)حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود والترمذي قلت: وصحح الألباني رحمه الله – هذا الحديث بلفظ ( لعن الله زوارات القبور ) في صحيح الجامع برقم 4985 وحسنه من حديث حسان بن ثابت وابن عباس وأبي هريرة رقم 1281 ، 1280 ، 1279 ) وأشار في حديث ابن عباس إلى ضعف رواية ( زائرات ) .
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجداً رقم320 والنسائي في الجنائز باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور رقم 2043 وأبو داود في كتاب الجنائز باب في زيارة النساء للقبور رقم 3236 وأحمد في مسند بني هاشم(3/103)
ومنها قوله لفاطمة لما رآها مقبلة قال : لها ما الذي أخرجك من بيتك قالت ذهبت إلى أهل هذا الميت لأترحم لهم على ميتهم فقال لها أبلغت معهم الكدى قالت لا قال لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة )(1)رواية أبي داود وذكر فيه تشديداً ولفظه عند النسائي والحاكم لو بلغت معهم الكدى ( يعني المقابر) ( ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك)(2)وهذه الرواية الأخيرة فيها نظر لأن مدارها على ربيعه بن يوسف وهو صدوق له مناكير كما قال في التقريب وبربيعة ضعفها الألباني رغم أن الحاكم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي على ذلك فقال على شرطهما مع أن ربيعة لم يخرج له أحد من الشيخين وإنما خرج له في السنن أما الأحاديث الدالة على الجواز فمنها عن أنس رضي الله عنه قال مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإمرأةٍ تبكي عند قبر فقال ( اتقي الله واصبري قالت إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فقيل لها إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين فقالت لم أعرفك يا رسول الله فقال إنما الصبر عند الصدمة الأولى )(3)كذلك أيضاً ما ورد أن عائشة زارت قبر أخيها عبد الرحمن وتمثلت ببيت تميم بن نويرة
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً(4)
__________
(1) أبو داود في كتاب الجنائز باب في التعزية رقم 3123 .
(2) النسائي في كتاب الجنائز باب النعي رقم1880 والإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (ضعفه الألباني ) .
(3) البخاري في كتاب الجنائز باب زيارة القبور رقم 1283ومسلم في كتاب الجنائز باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى رقم 926 وأبو داود في كتاب الجنائز باب الصبر عند الصدمة رقم 3124 والإمام أحمد في باقي مسند المكثرين .
(4) الترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور رقم 1055 .(3/104)
وهذا يدل على أن عائشة لا تعلم في زيارة القبور الزيارة السنية منعاً باتاً. وكذلك الحديث الذي أشار إليه هنا وهو أن عمر ابن الخطاب رأى امرأة في جنازة فصاح بها فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أجل ذلك فقد اختلف أهل العلم في الجمع بين هذه الأحاديث فمنهم من قال أن ذلك جائز لغير الشواب وهو مروي عن مالك وهذا القول نظر فيه إلى علة الافتتان بالنساء ومنهم من قال بأن النهي عن اتباع الجنائز نهي كراهة لا تحريم وعليه يدل حديث أم عطية حيث قالت نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا والكراهة هنا كراهة تنزيه فقط أما حديث ( لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) فهذا مقصود به النساء اللاتي يذهبن إلى المقابر لقصد الزيارة البدعية أو الشركية لاقترانه باتخاذ المساجد على القبور وهو محرم واتخاذ السرج عليها وهو محرم وهذا هو القول الصحيح وكون الصيغة مبالغة لذلك فإن المقصود به كثيرات الزيارة للقبور بقصد مبتدع أو قصد شركي
فالمبتدع أن تأتي إليه المرأة للتبرك ولاعتقادها أن الدعاء عنده مستجاب والقصد الشركي أن تدعوا صاحب القبر في حاجتها وذلك شرك أكبر مخرج من الملة . وعلى هذا فلا تعارض بين ذلك الحديث أي حديث ابن عباس في السنن بلفظ ( لعن الله زائرات القبور..الخ ) وحديث أم عطية فتلك الأحاديث تحمل على الزيارة الشركية والبدعية وحديث أم عطية يحمل على الزيارة السنية وأن النهي فيه نهي تنزيه لا تحريم وهذا هو القول الراجح إن شاء الله ، وبالله التوفيق.
[162] الحديث الثامن:عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أسرعوا بالجنازة فإنها إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم .
موضوع الحديث :الإسراع بالجنازة في التجهيز والمشي إلى القبر
المفردات
أسرعوا بالجنازة :الإسراع معروف وهو يكون بسرعة التجهيز للميت وبسرعة الذهاب بها أو المشي بها إلى المقبرة(3/105)
بالجنازة :بالفتح اسم للميت وبالكسر اسم للنعش الذي يحمل عليه لذا قالوا الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل أي أن الفتح للميت والكسر للآلة أو للسرير الذي يحمل عليه ولهذا قال الشاعر:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... *** ... يوماً على آلة حدباء محمول
وعلى هذا فإن الإسراع يكون بالميت إذ هو المقصود وإلا فما معنى الإسراع بالآلة
قوله فإنها إن تك صالحة: أي أن الجنازة إذا كانت من أهل الصلاح والخير فأنتم تقدمونها إلى خير قال فخير تقدمونها إليه وإن كانت من أهل الفساد والشر فشر تضعونه عن رقابكم . ولهذا جاء في الحديث أن الجنازة إذا حملت تقول بصوت يسمعه كل من خلق الله إلا الجن والإنس( فإن كانت صالحة قالت قدموني وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين يذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه صعق ) (1)
المعنى الإجمالي
أمر الشارع - صلى الله عليه وسلم - بالإسراع بتجهيز الجنازة والذهاب بها إلى مثواها إذ لافائدة في بقائها ولهذا قال فإنها إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم
فقه الحديث
أولاً: أختلف أهل العلم في المراد بالإسراع هل المراد به الإسراع بالتجهيز أو المراد به الإسراع بالمشي والظاهر أن المشرع - صلى الله عليه وسلم - يريد كلا الأمرين وقد ذهب إلى أن المراد الإسراع بالمشي ابن حزم الظاهري وحمله على الوجوب وكذلك رجح النووي أن المراد بالإسراع الإسراع بالمشي لقوله فشر تضعونه عن رقابكم . وقال القرطبي لا يبعد أن يكون كلاً منهما مطلوباً . قلت وهو الصواب إن شاء الله .
ثانياً:هل الأمر بالإسراع للوجوب أو للندب حمله الجمهور على الندب وحمله ابن حزم على الوجوب .
__________
(1) البخاري في كتاب الجنائز باب حمل الرجال الجنازة دون النساء رقم 1314والنسائي في كتاب الجنائز باب السرعة بالجنازة رقم 1909 وأحمد في باقي مسند المكثرين.(3/106)
ثالثاً: قد ورد في الإسراع بالجنازة حين حملها ما رواه أبو داود عن ابن مسعود قال (سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المشي مع الجنازة قال مادون الخبب ) (1) وأخرج أحمد من حديث أبى بردة بن أبي موسى عن أبيه أنه قال( مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة تمخض مخض الزق قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليكم القصد)(2)والمراد بالقصد السرعة التي تكون معقولة ولهذا قال ابن دقيق العيد وذلك بحيث لا ينتهي الإسراع إلى شدة يخاف منها حدوث مفسدة بالميت وقد جعل الله لكل شيء قدراً . أما قوله فإنها إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه أي فأنتم تقدمونها إلى خير وإن تك غير ذلك أو سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم فهذه العلة التي من أجلها أمر بالإسراع وهو أن بقاء الميت بين أهله بعد وفاته ليس فيه فائدة ولامعنى معقول لذلك فإن الحكمة حينئذ هو الإسراع بتجهيزها والذهاب بها إلى مثواها وقد جاء في الحديث عن على بن أبى طالب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال له ياعلي ثلاث لاتؤخرها الصلاة إذا آنت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفؤاً) (3) إلا أن في سنده كلام غير أنه لايبلغ بالحديث إلى درجة الترك . وبالله التوفيق.
[
__________
(1) الترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في المشي خلف الجنازة رقم 1011 وأبو داود في كتاب الجنائز باب الإسراع بالجنازة رقم3184 والإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة ضعفه الألباني رحمه الله في الترمذي .
(2) مسند الإمام أحمد في مسند الكوفيين الفتح الرباني الجنائز ج 8 ص90
(3) الترمذي في كتاب الصلاة باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل رقم171 وفي الجنائز باب ما جاء في تعجيل الجنازة رقم 1075 وابن ماجة في كتاب الجنائز باب ما جاء في الجنازة لا تؤخر إذا حضرت ولا تتبع بنار بنحوه رقم 1486والإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة (الحديث ضعفه الألباني ).(3/107)
163] الحديث التاسع:عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها فقام في وسطها .
موضوع الحديث :موقف الإمام من الجنازة
المفردات
قوله ماتت في نفاسها:أي بسببه والنفاس قيل أنه الدم الذي يخرج من المرأة بعد ولادتها
فقام في وسطها :قد اختلف في فتح السين وإسكانها هل بينهما فرق فرق بينهما بأن السكون للمكان الذي بين شيئين يقال جلس وسطاً بين الساريتين وجلس وسط الدار وقد أطال الصنعاني في العدة الكلام على هذه المسألة فليراجع.
المعنى الإجمالي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما صلى على امرأة ماتت قام في وسطها يعني حذاء وسطها وأن هذه هي السنة كما ورد أنه يقف إذا صلى على الرجل عند رأسه
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث أن موقف الإمام إذا صلى على رجل يكون عند رأسه وإذا صلى على امرأة يكون حذاء وسطها وقد علل ذلك بأن المقصود به أن يكون الإمام سترةً من النظر إلى حجم المرأة لأن النساء في ذلك الوقت لم يكن يسترن هكذا قالوا وهل المراد إذا كان قد وقعت هذه العلة أنه ينتفي بانتفائها ؟ الجواب لا بل يتبع ما نطقت به الأدلة ،والأدلة تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقف عند رأس الرجل وعجز المرأة أو وسط المرأة فهذه هي السنة سواء علمنا الحكمة في ذلك أو لم نعلمها فعلينا الامتثال لأمر الشارع صلوات الله وسلامه عليه .
[164] الحديث العاشر:عن أبى موسى -عبدالله بن قيس-الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة .
موضوع الحديث:النهي عن هذه الأمور والبراءة من فاعليها
المفردات(3/108)
الصالقة:بالصاد ويقال بالسين من الصلق وهو رفع الصوت رفعاً يكون فيه إزعاج هذا هو ما يظهر لي لأن الصلق هو الإحراق بالنار أو بماء حار ولهذا قال تعالى (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ... ) [الأحزاب : 19 ] بمعنى أنهم تكلموا فيكم كلاماً موجعاً لاذعاً
والحالقة: هي التي تحلق رأسها عند المصيبة
والشاقة :هي التي تشق ثوبها عند المصيبة أيضًا . وقد كانت هذه الأمور مفعولة في الجاهلية ولما جاء الإسلام نهى عنها وحذر منها .
قوله برئ :من البراءة والتبري هوأن يقصد به التبري إلى الله عز وجل من فعل من برئ منه كما قال عن نبي الله إبراهيم أنه قال لقومه ( إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... ) [الممتحنة : 4 ] والقصد من التبري عدم الموافقة وإظهار الغضب من المتبرئ منه
المعنى الإجمالي
تبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن تسخط المصيبة .مصيبة الموت وعمل فيها شيئاً من هذه الأمور التي هي الصلق بالصوت وحلق الشعر وشق الثوب .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث تحريم هذه الأمور التي هي الصلق والحلق والشق تسخطاً للمصيبة التي وقعت بقدر الله عز وجل والمطلوب من المؤمن الرضا بالقدر فإن لم يكن رضا فليكن صبراً والرضا مرتبة أعلى من الصبر لأن الصبر سكوت مع لوعة وحرق من المصيبة .أما الرضا فهو بخلاف ذلك بحيث يرى أنه لو خير بين الثواب وبين إرجاع ما فقد منه لاختار الثواب على ذلك فهو أي الرضا درجة عالية والصبر على الابتلاء فيه أجر عظيم فكيف بالرضا وقد جاء في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط) (1)
__________
(1) الترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في الصبر على البلاء رقم 2396 وابن ماجة في كتاب الفتن باب الصبر على البلاء رقم 4031 والإمام أحمد في باقي مسند الأنصار ( حسنه الألباني )(3/109)
علماً بأن التسخط لا يرد من المصيبة شيئاً .
[165] الحديث الحادي عشر:عن عائشة رضي الله عنها قالت لما اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها ماريه وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه - صلى الله عليه وسلم - وقال (( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله )).
موضوع الحديث:تحريم البناء على القبور والإخبار بأن الذين يفعلون ذلك هم شرار الخلق عند الله تعالى
المفردات
الكنيسة:هي معبد النصارى جمعها كنائس
رأينها:فيه التعبير بالجمع عن المثنى وهذا موجود في اللغة.
بأرض الحبشة :أي بلادهم يقال لها ماريه أي تسمى بهذا الاسم وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة أما أم سلمة فقد تقدمت ترجمتها في الجزء الأول وأما أم حبيبة فهي بنت أبي سفيان بن حرب هاجرت مع زوجها عبيدالله بن جحش إلى الحبشة فتنصر زوجها ومات نصرانياً ثم أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري بكتاب إلى جعفر بن أبى طالب وإلى النجاشي يخطبها ووكل جعفر في قبول النكاح عنه وعقد بها ابن عمها سعيد بن العاص ثم نقلت إليه بعد أن امهرها عنه النجاشي
قولها أتتا أرض الحبشة :هي في هجرتهن مع أزواجهن
فذكرتا من حسنها:أي جمال ظاهرها وكثرة التصاوير فيها
فرفع رأسه : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال أولئك أي بالخطاب للمؤنث إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله
المعنى الإجمالي(3/110)
لم يشغل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو فيه من المرض عن النصح والتوجيه ورد الباطل وذم أهله بما يستحقونه من الذم والإخبار بما لهم عند الله تعالى من سوء العاقبة وشر المنقلب فقد سمع زوجتيه أم سلمة بنت أبي أمية المخزومية وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموية العبشمية حين ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة وأطرتا في ذكر حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه مخبراً ًبأن ذلك الحسن المظهري يصحبه القبح المخبري وذلك أن أولئك القوم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ولكون ذلك بدعة ومن ذرائع الشرك بالله فقد ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك العمل وذم أصحابه لكونهم يصورون فيه تلك الصور ليعبدوها وينسون خالقهم ورازقهم الذي أحياهم وسيميتهم ويبعثهم ويجازيهم بأعمالهم لذلك فهم شرار الخلق عند الله تعالى جزاءً لهم على سوء صنيعهم وقبح عملهم .وبالله التوفيق.
فقه الحديث(3/111)
أولاً:يؤخذ من الحديث تحريم البناء على القبور وقد ورد في ذلك نهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث نهى عن البناء على القبر والكتابة عليه وأن يزاد فيه على ترابه وأن يرفع أكثر من شبر وأن يجصص فعن جابر رضي الله عنه قال( نهى - صلى الله عليه وسلم - أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ ) (1) وفي لفظ للنسائي( نهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص زاد سليمان بن موسى أو يكتب عليه ) (2) ووردت أحاديث بلعن من يتخذ عليها المساجد والسرج فروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) (3) . وهذه الأمور تعد من البدع العظيمة المفضية إلى الشرك بالله لأنهم إذا بنوا على القبر اتخذوه مزاراً وزاروه وطلبوا من صاحبه الحوائج من جلب المنافع ودفع المضار.
__________
(1) مسلم في كتاب الجنائز باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه رقم 970 والترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها رقم 1052 وأحمد باقي مسند المكثرين والنسائي في كتاب الجنائز باب البناء على القبر رقم 2028 وأبو داود في الجنائز باب في البناء على القبر رقم 3225 .
(2) النسائي في كتاب الجنائز باب الزيادة على القبر رقم 2027 والنهي عن الكتابة على القبور أيضاً (صحيح) وورد عند ابن ماجه ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب على القبر شيء) الجنائز باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها رقم 1563 والترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها رقم 1052 صححه الألباني .
(3) تقدم تخريجه.(3/112)
ثانياً :يؤخذ من الحديث تحريم بناء المساجد على القبور والمراد بالمساجد المعابد ولهذا عبر الشارع - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بقوله (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرا ر الخلق عند الله) وكما في الحديث الآتي لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .
ثالثاً: يؤخذ منه أن هذا العمل من أفظع الأعمال وأقبحها وأن الذين يعملون أو يسكتون عمن يفعله سكوت الراضي لا يصلحون أن يسموا دعاة ولا يجوز أن يتخذوا أئمة بل من فعل ذلك فهو من شرار الخلق وإن زعم أنه يتبنى دعوةً إلى الله فأي دعوة لا تنبني على التوحيد فهي دعوة باطلة وصاحبها صاحب ضلال ومن هنا تعلم أن المنهج الإخواني والمنهج التبليغي منهجين خاطئين يشتملان على ضلال
فحسن البناء حاضر في مشهد السيدة زينب وكان يرى من يتطوفون بالقبور ولم يعرف أنه نهى عن ذلك في موقف من مواقفه ولا خطبة من خطبه بل وقع الشرك منه حين قال
هذا الحبيب مع الأحباب قد حضرا ... ... ... وسامح الكل فيما قد مضى وجرى
أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حضر معهم حفل المولد وسامحهم وغفر ذنوبهم وهذا شرك أكبر.
أما جماعة التبليغ فمسجدهم الذي انطلقت منه دعوتهم فيه خمسة قبور ومؤسس ذلك المنهج محمد إلياس كان قبورياً وكان يجاور عند القبور يلتمس بركتها والله الشاهد أني لا أريد الوقوع في عرض أحد ولا الكلام في أحد إلا أن يكون في ذلك مصلحة للدين ونصح للمسلمين ولم يلجئني على الكلام في هؤلاء إلا بيان الحق لمن يعتقدون فيهم الإمامة والصلاح
رابعاً:يؤخذ منه أيضاً بطلان الصلاة في المسجد الذي بني على قبر كما سيأتي في الحديث بعد هذا(3/113)
خامساً:يؤخذ منه تحريم الصور وذلك يؤخذ من قوله بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور . وقد اختلف أهل العلم في جواز تصوير ما لا ظل له بعد اتفاقهم على تحريم الصور التي لها ظل فذهب قوم إلى تحريم ذلك مطلقاً وذهب قوم إلى جوازه مطلقاً وذهب قوم إلى أن التحريم يتعلق بما إذا كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل وإن قطع الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز ذلك قال وهذا هو الأصح حكى ذلك الصنعاني عن الحافظ ابن حجر . والقول الرابع إن كان فيما يمتهن جاز وإن كان معلقأ حرم . أهـ .(3/114)
قلت : هناك فرق بين التصوير الذي هو الفعل وبين الاستعمال فأما التصوير فيحرم كله على القول الأصح إلا فيما يعمله الآدمي كالسيوف والخناجر والبيوت والسيارات وكل ما يعمله بنوا آدم من الآلات وغيرها . وقد اختلف السلف فيما لا روح فيه من المخلوقات كالشجر وما أشبه ذلك فذهب قوم إلى جواز تصوير الشجر وغيره مما لا روح فيه وممن قال ذلك ابن عباس فقد ورد أنه استفتاه شخص وقال إنه لا يعيش إلا من التصوير فقال له إن كنت فاعلاً ولابد فعليك بهذا الشجر وما لا روح فيه ورد هذا القول بأنه اجتهاد من ابن عباس وأن الحديث النبوي يدل على منعه كما جاء في الحديث القدسي (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة) (1) فأشار في الذرة إلى ما فيه روح وأشار بالشعيرة إلى ما لا روح فيه . قالوا ونحن لا نصدق بأن الشجر لا روح فيه بل الشجر فيه روح بحسبه وله حياة بحسبه وقد قال الله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمْ الأَْرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) [يس : 33] وهذا قول مجاهد وهو الحق الذي تؤيده الأدلة أن الفعل أي فعل التصوير لا يجوز مطلقاً إلا فيما يعمله بنوا آدم كالأبنية وآلات المراكب المحدثة كالسيارات والطائرات وآلات الحرب المحدثة كالدبابات والمصفحات وما أشبه ذلك وما لم يكن من عمل ابن آدم فلا يجوز تصويره حتى ولو كان مما لا روح فيه وقد أخبر الله عز وجل عن الجماد بأنه يسبح فقال ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) [الإسراء : 44 ]
__________
(1) البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى ( والله خلقكم وما تعملون ) رقم 7559 ومسلم في كتاب اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم ما فيه صورة غير ممتهنة رقم 2111 وأحمد في باقي مسند المكثرين .(3/115)
وقال في سورة البقرة ( وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة 74 ] فأخبر أن بعض الحجارة تهبط من خشية الله وذلك دليل على ما فيها من الإحساس الذي خلقه الله عز وجل فيها.(3/116)
أما الاستعمال فهو أيضاً فيه تفصيل فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصور وأمر بطمسها وإزالتها وأخذ على بعض أصحابه ألا يجد صورة إلا طمسها ولا قبراً مشرفاً إلا سواه ففي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال :قال لي علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته )(1) وفي لفظ آخر(ولا صورة إلا طمستها)(2) (وجذب قرام عائشة التي كانت قد سترت به سهوتها وفيه صورة )(3)
__________
(1) مسلم في كتاب الجنائز باب الأمر بتسوية القبر رقم 969 والترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في تسوية القبور رقم 1049 والنسائي في كتاب الجنائز باب تسوية القبور إذا رفعت نحوه رقم 2030وأبو داود في الجنائز باب في تسوية القبر رقم 3218 والإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة .
(2) مسلم في كتاب الجنائز باب في الأمر بتسوية القبر رقم 969 والنسائي في كتاب الجنائز باب تسوية القبور إذا رفعت رقم 2031
(3) البخاري في كتاب البيوع باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء رقم 2105 وفي كتاب النكاح باب هل يرجع إذا رأى منكراً في الدعوة رقم 5181 وكتاب اللباس باب ما وطيء من التصاوير رقم 5954 ومسلم في كتاب اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان رقم 2107 والنسائي في كتاب القبلة في الصلاة إلى ثوب فيه تصاوير رقم 761 ..(3/117)
وهذا يدل على أن الصور التي ليس فيها ظل أنها محرمة أيضاً لأن الصور التي في القرام إنما كانت منقوشة نقشاً وقد استثنى منه جواز الاستعمال ما كان في ثوب يمتهن كالأزر الذي تستر به العورة والصورة إذا كانت في الوسادة أو الفراش فإنها تمتهن وتداس لذلك جاز استعمالها من أجل أنها تهان كذلك أيضاً يستثنى ما قطع رأسه وقطعت أجزاؤه فإنه يجوز استعماله كما دل على ذلك حديث الترمذي ( أن جبريل وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيه ثم لم يأت وبعد ذلك جاء إليه وأخبره بأنه جاء ومنعه من الدخول أن في البيت كلباً وأن فيه صوراً فأمر بالكلب فأخرج أو قال له فأمر بالكلب فيخرج وأمر بالصور فتقطع رؤوسها حتى تكون كالشجر ) (1)
[166] الحديث الثاني عشر :عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه :- (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )).
قالت :ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً
موضوع الحديث: تحريم بناء المساجد على القبور
المفردات
قوله في مرضه الذي لم يقم منه : المقصود به المرض الذي توفي فيه - صلى الله عليه وسلم -
لعن الله اليهود والنصارى: اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله أو الدعاء على اليهود والنصارى بأن يبعدهم الله ويطردهم من رحمته فهو إما إخبار عن طرد الله إياهم من رحمته وإما دعاء عليهم بذلك .
__________
(1) مسند الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين والترمذي في كتاب الأدب باب ما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة ولا كلب رقم 2806 وأبو داود في كتاب اللباس باب في الصور رقم 4157 ورقم 4158 (صحيح )(3/118)
قوله اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد:هذه الجملة تعليل للعن الذي سبقه أي لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد أي جعلوها معابد يتعبدون فيها .قالت ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً الرواية الصحيحة خٌشي بضم الخاء وكسر الشين المعجمة أي خشيت عائشة رضي الله عنها وخشي الصحابة أن يتخذ مسجداً فكان ذلك مانعاً لهم من إبرازه .
فقه الحديث
أولاً:يؤخذ من هذا الحديث تحريم بناء المساجد على القبور سواء كانت تلك القبور قبور أنبياء أو غيرهم ويستفاد التحريم من لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن يفعلون ذلك لأن عملهم هذا ذريعة إلى الشرك بالله فلذلك كانوا ملعونين بفعل هذه الذريعة.
ثانياً: قرر أهل العلم أن المسجد إذا أحدث على القبر وجب هدم المسجد وإذا جعل القبر في المسجد وجب إخراج رفات القبر من المسجد
ثالثاً:بناء المساجد على القبور بدعة محرمة وليست شركاً بذاتها ولكن لكونه يكون ذريعة إلى الشرك فلذلك حرم من أجل ما يتوصل به إليه
رابعاً: يؤخذ منه تحريم الصلاة في المسجد الذي بني على القبر أو جٌعل فيه قبر وهذا يؤدي إلى بطلان الصلاة في ذلك المسجد سواء كان القبر سابقاً على المسجد أو وضع فيه بعد بناءه وسواء كان القبر في قبلة المسجد أو في غيرها ولعل هذا الحكم هو الأحوط . وذهب بعض أهل العلم إلى أن المحرم الذي يؤدي إلى بطلان الصلاة هو ما إذا كان القبر في قبلة المسجد وإلى هذا مال بعض أهل العلم ولكن الأحوط القول بالبطلان سواء كان القبر في قبلة المسجد أو غيرها لقوله - صلى الله عليه وسلم - (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)(3/119)
خامساً:الأمر المنهي عنه هو الصلاة ذات الركوع والسجود أما صلاة الجنائز فليست مقصودة ولا يمنع منها على القول الصحيح بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على المرأة التي كانت تقم المسجد وصلى على قبر أم سعد ابن عبادة وهذا يدل على أن صلاة الجنازة ليست داخلة في النهي لأنها ليس فيها ركوع ولا سجود ومن هنا نعلم خطأ من أدخل صلاة الجنازة في النهي وهو ما يظهر من كلام ابن دقيق العيد رحمه الله
سادساً:لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود والنصارى بسبب اتخاذهم لقبور أنبيائهم مساجد وذلك لما يؤدي إليه من الشرك الأكبر فكم قد رأى الناس من قبور أنشئت عليها مساجد أو أدخلت في المساجد بعد ما بنيت فصار الناس يتطوفون بها ويصلون إليها ويسألون أصحابها ما لا يسأل إلا من الله عز وجل.
سابعاً:لا فرق بين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبر غيره فلقد اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الأمر وخاف أن يتخذ قبره عيداً وقال اللهم لا تجعل قبري عيداً اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد خوفاً من أن تقع أمته في الشرك الذي حذر الله منه وأرسل الرسل للتحذير منه .
ثامناً:لقد استجاب الله دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - فألهم القائمين على بناء المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك أن يبنوا على قبره وقبري صاحبيه مثلثاً يمنع من استقباله وجعله مسجداً لذلك يقول ابن القيم
فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة جدران(3/120)
تاسعاً:أما إدخال قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه المسجد فهذا حصل في عهد الوليد بن عبد الملك وغضب منه خيار التابعين ومنهم سعيد بن المسيب وغيره ولم يكن برضى أهل العلم هذا التصرف إلا أنه لم يكن أحد يستقبل الحجر فلما صارت التوسعة في عهد الأتراك جٌعل ما وراء الحجر داخلاً في المسجد ولكنه بعيد عن القبور جداً وأما إنشاء القبة التي فوق القبر فقد أنشئت في القرن السابع وكذلك أيضاً أنها لم تكن برضا أهل العلم وإنما كانت من فعل قوم بعيدين عن العلم وبعيدين عن الحق والعقيدة الصحيحة وقد حصل ما حصل ومنذ دخلت الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز وبالأحرى استولت على الحرمين وهي دائبة والحمد لله في نشر عقيدة التوحيد ومنع المتمسحين والمتبركين .
وقد تبين من هذا العرض أنه لا حجة لأحد في كون القبور أدخلت في جانب المسجد فقد علم أنها لم تكن عن مشورة من أهل العلم وإنما كانت من تصرفات أقوام إلتزامهم بالعقيدة ضعيف وبالله التوفيق.
[167] الحديث الثالث عشر: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية )).
موضوع الحديث:تحريم هذه الأفعال عند نزول مصيبة الموت
المفردات
ضرب الخدود:المقصود منه الذي يحصل عندما يموت الميت فإن كثيراً من النساء يضربن خدودهن ويخمشن وجوههن ويشققن جيوبهن
قوله وشق الجيوب :الجيب هو الفتحة التي يدخل منها الرأس فإذا وقعت المصيبة فإن بعض النساء تشق ثوبها حتى تخرج منه وتحثي على رأسها التراب وتصيح وتولول
قوله ودعا بدعوى الجاهلية: هو ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من قولهم واجبلاه
وا ناصراه واسنداه وما أشبه ذلك.
المعنى الإجمالي
تبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية لأن ذلك تسخط لقضاء الله وقدره فقال ليس منا من ضرب الخدود .............ألخ
فقه الحديث(3/121)
أولاً:يؤخذ من هذا الحديث تحريم هذه الخصال التي ذكرت في الحديث من ضرب الخدود وشق الجيوب ونتف الشعور وحثي التراب على الرأس وما إلى ذلك من الأمور التي تنبئٌ عن التسخط بالقدر فالإسلام حرم النياحة وحرم ما شاكلها من هذه الأمور التي تنبئٌ عن التسخط وعدم الرضا بالمقدور بل وعدم الصبر على قضاء الله وقدره .
ثانياً: هذه الأعمال من الكبائر هي والنياحة وقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم (النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ) (1)
__________
(1) مسلم في كتاب الجنائز باب التشديد في النياحة رقم 934 وابن ماجة في كتاب الجنائز باب في النهي عن النياحة بنحوه برقم1581 ورقم 1582 وأحمد في باقي مسند الأنصار .(3/122)
ثالثاً: إنما حرمت هذه الأمور لأنها تسخط لقدر الله عز وجل وعدم رضي به والواجب على المسلم أن يرضى بقدر الله عز وجل وقد قال( - صلى الله عليه وسلم - لابنته حينما أرسلت إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً لها في الموت فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب ) (1) فأمره لها وأمره للمرأة التي مر بها وهي تبكي على القبر فقال لها يا هذه اتق الله واصبري فقالت إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي فلما قيل لها إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهبت إلى بيته لتعتذر فلم تجد عند بيته بوابين فقالت يا رسول الله إني لم أعرفك فقال إنما الصبر عند الصدمة الأولى هو أمر لجميع أمته . وجاء في الحديث أن الملائكة تؤمن على ما يقوله أهل الميت عند الموت أي من خير أو شر وعلى هذا فالأولى بالإنسان الرضا فإن لم يكن الرضا فالصبر فالصابر موعود بالأجر والعوض من المصيبة أما المتسخط والداعي بدعوى الجاهلية فإنه لا يرد من قدر الله شيئاً فإن قدر الله نافذ على رغم أنفه وعلى ذلك فهو يحرم من أجر المصيبة الموعودة للصابرين.
__________
(1) البخاري في كتاب الجنائز باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه رقم 1284وفي كتاب القدر باب (وكان أمر الله قدراً مقدوراً ) رقم 6602 وفي كتاب التوحيد باب قول الله تعالى ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ..) رقم 7377 ومسلم في كتاب الجنائز باب البكاء على الميت رقم 923 والنسائي في كتاب الجنائز باب في الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة رقم 1868 وأبو داود في الجنائز باب في البكاء على الميت بمعناه رقم 3125 وابن ماجه في الجنائز باب ما جاء في البكاء على الميت رقم 1588والإمام أحمد في مسند الأنصار.(3/123)
وفي الحديث ( قال إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد) (1) فهذا ثواب الصابرين وذاك عقاب المتسخطين وعلى العبد المسلم أن يسأل الله عز وجل التوفيق لما فيه الخير والسداد وألا يفوت على نفسه ثواب المصيبة بعد أن أصيب بها فيجمع على نفسه مصيبتين.
[168] الحديث الرابع عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول - صلى الله عليه وسلم - (( من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان )) قيل : وما القيراطان ؟ قال : (( مثل الجبلين العظيمين )) .
ولمسلم (( أصغرهما مثل أحد )).
موضوع الحديث :فضل اتباع الجنازة
المفردات
من شهد الجنازة:أي حضرها والجنازة هي جثة الميت المنقولة إلى القبر وقد تقدم ذلك في أول كتاب الجنائز.
قوله حتى تدفن : الدفن يكون بتسوية التراب عليها .
__________
(1) الترمذي في كتاب الجنائز باب فضل المصيبة إذا احتسب رقم 1021 والإمام أحمد في مسند الكوفيين . (حسنه الألباني)(3/124)
القيراطان : جزءان من الأجر الله أعلم بهما لكن ورد في الحديث أنهما مثل الجبلين العظيمين وهذا يدل على أن أمور الآخرة في الثواب والعقاب فوق ما يتصور الإنسان من أمور الدنيا ومثل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو يعلم المار بين يدي المصلي ما ذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) (1) وذكر في بعض الروايات أربعين خريفاً .
المعنى الإجمالي
المعنى الإجمالي في هذا الحديث الترغيب في متابعة الجنازة أي جنازة المسلم حتى يصلى عليها وحتى تدفن لما فيه من الأجر العظيم .
فقه الحديث
أولاً:يؤخذ من هذا الحديث أن من تبع الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط واحد ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان وهما جزءان من الأجر وقد مثل بالجبلين العظيمين .
ثانياً: أن هذا الأجر حاصل لمن تبع الجنازة إيماناً واحتساباً ليس إلا أما من تبعها مجاملة لأهلها فهذا لا يدرى هل يحصل له الأجر أم لا ؟ .
__________
(1) البخاري في كتاب الصلاة باب أثم المار بين يدي المصلي رقم 510 ومسلم في الصلاة باب منع المار بين يدي المصلي رقم 507 والترمذي في الصلاة باب ما جاء في كراهية المرور بين يدي المصلي رقم 336 والنسائي في كتاب القبلة باب في التشديد في المرور بين يدي المصلي وبين سترته رقم 756 وأبو داود في الصلاة باب ما ينهى عنه من المرور بين يدي المصلي رقم 701 وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب المرور بين يدي المصلي رقم 945وموطأ الإمام مالك في كتاب النداء للصلاة باب التشديد في أن يمر أحد بين يدي المصلي رقم 365 والدارمي في كتاب الصلاة باب كراهية المرور بين يدي المصلي رقم 1417والإمام أحمد في مسند الشاميين .(3/125)
ثالثاً: المعروف الآن أن الناس يحشدون في جنائز الأشراف والكبراء دون غيرهم من الفقراء وخاملي الذكر وهذا أمر لا ينبغي بل ينبغي أن يكون اتباع الجنازة مقصود به الاحتساب وحصول الأجر الموعود ونعوذ بالله من نزغات الشيطان ونزوات الإنسان ونسأل الله أن تكون أعمالنا خالصة لوجهه مقصوداً بها ما عنده وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتاب الزكاة
تعريف الزكاة هي الحق المفروض في المال المعين من الشارع الواجب إعطاءه عند تعلق الوجوب ومعناها يأخذ شيئين : النماء الذي هو الزيادة والطهرة التي هي التطهير من دنس المعاصي والله سبحانه وتعالى يقول (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [التوبة : 103 ] ويقول( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) )[ الشمس : 9 ] أي طهرها من المعاصي (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس : 10 ] أي دنّسها بها .(3/126)
فالزكاة بمعنى النماء قد اعترض عليه بقول القائل إني حينما يكون عندي ألف ريال (1000) ريال فأتصدق منها بخمسة وعشرين ريال (25) ريال فإنها تكون قد نقصت فكيف يقال أنها بمعنى النماء وأقول إن إخبار الشارع - صلى الله عليه وسلم - بأمر لا يتخلف إلا عند تخلف سببه أو وجود مانع من موانعه ولا شك أن الصدقة سبب في زيادة المال إذا كانت على الوجه المطلوب شرعاً فالله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالإنفاق إنفاقاً باعتدال ونهانا عن التبذير فإن نحن أنفقنا على الوجه المشروع قاصدين بذلك وجه الله عز وجل فإننا قد عملنا السبب الذي به يزيد المال حساً ومعنى وإن نحن منعنا ذلك فإنا قد عملنا السبب الذي يوجب التلف ونقص المال وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول ( ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه قال ما نقص مال عبد من صدقة ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا ... )(1) فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المال المتصدق منه يجعل الله فيه البركة فينمو ويزيد وأن المال الذي لا تؤدى زكاته يوجب الله فيه المحق ويسلط عليه الآفات ويسلط على صاحبه المصائب التي تجتاح ماله نسأل الله العفو والعافية .
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر رقم 2325 والإمام أحمد في مسند الشاميين ( صحيح ) .(3/127)
هذا في الزيادة الدنيوية أما في الزيادة الأخروية فهي قد أخبر عنها الشارع أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل ) (1) هذا لفظ البخاري رقم 1410 وقد تبين من هذا أن معنى النماء الذي دل عليه اسم الزكاة حاصل فيها إذا كان صاحبها قد أنفق على الوجه المشروع مبتغياً بذلك وجه الله تعالى . أما كونها طهرة فهو يلاحظ من جهتين من جهة تطهيرها للمال الباقي بعد الزكاة يبقى حلالاً طيباً نقياً ومن ناحية أخرى فهي تطهر معطيها تطهره من رذيلة البخل التي ذم الله بها أقواماً وتجعله في صفوف الباذلين المتصدقين لله رب العالمين وقد اتضح ما يتعلق بهذا الاسم من المعاني والحمد لله وضوحاً بدون تعقيد .
[
__________
(1) رواه البخاري في الزكاة باب الصدقة في كسب طيب رقم 1410طبع المطبعة السلفية ومسلم في الزكاة باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها رقم 1014 وأحمد في باقي مسند المكثرين ورواه الترمذي في كتاب الزكاة باب ما جاء في فضل الصدقة رقم 661 والنسائي في الزكاة باب الصدقة من غلول رقم 2525 وابن ماجه في الزكاة باب فضل الصدقة رقم 1842والدارمي في الزكاة باب في فضل الصدقة رقم 1675 ومالك في كتاب الجامع باب الترغيب في الصدقة رقم 1874 .(3/128)
169] الحديث الأول :عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : (( إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فاخبرهم : أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فاخبرهم : أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ))(1)
موضوع الحديث : أصول الدعوة وبيان البدأ بالأهم فالمهم
المفردات
قوله لمعاذ بن جبل : أقول معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن مشهور من أعيان الصحابة شهد بدراً وما بعدها وكان إليه المنتهى في الأحكام والقرآن مات بالشام سنة ثماني عشرة تقريب ترجمة 6771
قوله حين بعثه إلى اليمن : اختلف في وقت بعثه إلى اليمن ولعله بعد الفتح وقال بعض أهل العلم هو بعد غزوة تبوك وقيل بعد حجة الوداع والصحيح أنه قبل ذلك .
إنك ستأتي قوماً أهل كتاب : إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بهذا من أجل أن يأخذ أهبته لمناظرتهم .
__________
(1) البخاري في كتاب الزكاة رقم 1395 و1458 و1496 وذكر أرقاماً أخرى وأقربها إلى هذا اللفظ ما ذكره في رقم 1496 باب أخذ الصدقة من الأغنياء فترد إلى الفقراء وأخرجه مسلم في أول كتابه باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام ج 1 /228 ورقم الحديث 29و30 و31 وللحديث ألفاظ متعددة وكلها تؤدي المعنى وكلها واردة .(3/129)
قال فإذا جئتهم فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله : هذا يدل على أن هاتين الشهادتين هي أول ما يدعى إليه فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم إلى أن قال فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم .
الكرائم : جمع كريمه وهي الطيبة المحبوبة من المال ذات اللبن من الماشية .
قوله واتق دعوة المظلوم : أي اجتنب أسبابها في ترك الظلم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب .
المعنى الإجمالي
أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل إلى جهة من اليمن وهي جهة خولان وصنعاء وتعز إلى عدن كما أرسل أبا موسى على الناحية الغربية المحاذية للبحر وقد أوصى معاذ بن جبل بأن يستعد لدعوه أهل الكتاب فإن دعوتهم تحتاج إلى استعداد وأمره أن يبدأ بالشهادتين ثم الصلاة ثم الزكاة ونهاه عن أخذ كرائم الأموال لأن أخذها نوع من الظلم والمظلوم له عند الله دعوة مستجابة وأن دعوته تخرق الحجب لذلك فإنها ينبغي أن تتقى وبالله التوفيق .
فقه الحديث
أولاً :يؤخذ منه عناية الإمام بالدعوة إلى الله تعالى وإرسال الدعاة ولا يختص ذلك بإلإرسال إلى القوم الكفار بل يجب إرسال الدعاة إلى المجتمعات التي يكثر فيها الجهل والظلم وعدم التقيد بالأحكام الإسلامية حتى ولو كانوا مسلمين في الاسم والهوية .
ثانياً: وصية الإمام لمن أرسله للدعوة إلى الله وأن ينبهه لما يجب الاستعداد له لقوله ( إنك ستأتي قوماً أهل كتاب )
ثالثاً:الوصية بتقديم الأهم على المهم وهذا عام في الدعوة بأن يقدم فيها الأهم وهي العقائد التي لا يصح إسلام العبد إلا بها كتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات وتعريف ما يناقض الشهادتين .(3/130)
رابعاً :أن أهم شيء ينبغي أن يدعى إليه هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهذه الشهادة لا تقبل من قائلها إلا أن يكفر بما يعبد من دون الله من الطواغيت فإن قالها وهو يعبد مع الله غيره لم تنفعه ولو قالها في اليوم مائة ألف مرة
خامساً:لا بد أن يعرف الداعي معنى لا إله إلا الله وهو النفي والإثبات ويعلمها المدعوين ليمتثلوها ظاهراً وباطناً والله سبحانه وتعالى يقول ( إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف : 86 ] ومن العلم بمعناها معرفة شروطها السبعة التي ذكرها أهل العلم .
سادساً: مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله الإذعان لأمره ونهيه وتصديق خبره والإيمان بما أخبر عنه من المغيبات الماضية والآتية وإنها حق وصدق ليست ألغازاً ولا تورية ولا أموراً وهمية وأن يبتعد المكلف عن التأويلات التي يرد بها خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - والله سبحانه وتعالى يقول ( ... . وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء : 135]
سابعاً : يؤخذ من قوله فإن هم أطاعوا لك بذلك أنه لا يدعى للصلاة إلا من أذعن للشهادتين وقام بما تقتضيه كل واحدة منهما .
ثامناً :يؤخذ منه فرضية الصلوات الخمس في كل يوم وليلة .
تاسعاً : يؤخذ من حصرها بخمس أنه ليس هناك فرض في الصلاة غيرها أما أن يكون هناك واجب من الصلوات فالظاهر أنها لا تنفيه والفرق بين الفرض والواجب أن الفرض هو ما لا يتم الإسلام إلا بفعله والواجب ما يأثم تاركه وإسلامه باق على حاله أي أن تركه لا يناقض الإسلام مثل الوتر عند الحنفية وتحية المسجد عند قوم وهو الصحيح للأمر بها وقت المنع .وصلاة العيدين عند من يرى أنها فرض كفاية(3/131)
عاشراً: أنه يجب على من أذعن للصلوات الخمس أن يأتي بها على ما شرعها الله من وقت وأعداد ركعات وتكبير وهيئات وتقدم شروط كالطهارة من الحدث الأكبر والأصغر ومن النجاسات وطهارة البقعة والثوب .
الحادي عشر :قد صح أن ترك الصلاة كفر من حديث أنس (1) وبريدة (2) وصح عن عبدالله بن شقيق (3) ( أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ) وعلى هذا فإن من ترك الصلاة بالكلية كفر كفراً مخرجاً من الملة يستتاب فإن تاب وإلا قتل ولا يعاد إذا مرض ولا تتبع جنازته إذا مات ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه وارثه المصلي ولا يرث هو من مورثه المصلي .
__________
(1) البخاري في كتاب الصلاة باب فضل استقبال القبلة رقم 391 ورقم 393 والنسائي في كتاب تحريم الدم رقم 3966 والترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرت بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة رقم 2608وأبو داود في كتاب الجهاد باب على ما يقاتل المشركون رقم 2641 وأحمد بنحوه .
(2) رواه الترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في ترك الصلاة رقم 2621والنسائي في كتاب الصلاة باب الحكم في تارك الصلاة رقم 463وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء فيمن ترك الصلاة رقم 1079 وأحمد ( صححه الألباني )
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في ترك الصلاة من حديث عبدالله بن شقيق العقيلي موقوفاً رقم 2622 ووصله الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة وسكت عنه وقال الذهبي لم يتكلم عليه وإسناده صالح وصحيح الترغيب والترهيب رقم 565 .(3/132)
الثاني عشر: يؤخذ من قوله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم إن الزكاة لا يدعى إليها ولا تطلب إلا ممّن أذعن للصلاة وعمل بها وقد جاءت النصوص في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مرتبة للزكاة على الصلاة كقوله تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة : 5]
الثالث عشر:إن الزكاة مبينة بينتها السنة وهي في 1- النقدين وما عمل منهما كالحلي بواقع ربع العشر ويلحق بذلك عروض التجارة 2- وفي ما أخرجت الأرض من الثمار المقتاتة المدخرة بواقع العشر إذا سقيت بماء السماء وبواقع نصف العشر إذا سقيت بالآلات 3- زكاة بهيمة الأنعام وهي مبينة في كتب الفقه وسيأتي بيان بعضها. فهذه ثلاثة أشياء تجب فيها الزكاة . الرابع عشر: إن الصدقة المعينة من الشارع تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء . الخامس عشر: كل من أخذت منه الزكاة فهو غني فلا يعطى منها وهذا قول جمهور العلماء لظاهر الأدلة ومنها هذا الحديث ( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وقال قوم إن ذلك لا يمنع من إعطاء الزكاة لمن يكون ما عنده لا يفي بحاجته وهو ما يسمى بالمسكين الذي ليس عنده غناً يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولعل هذا الأخير هو الأرجح . وذلك يكون بالنظر إلى حال من وجبت عليه زكاة قليلة وكان ماله المزكى لا يفي بحاجته والله أعلم .
السادس عشر :هل الضمير في أغنيائهم وفقرائهم يعود على كل جماعة بعينها أو يعود على عموم المسلمين فمن قال أن الضمير يعود على عموم المسلمين أجاز نقل الزكاة ومن قال أن الضمير يعود على أهل بلدة بعينها منع من نقل الزكاة إلا بعد استغناء فقراء ذلك البلد .(3/133)
السابع عشر:يؤخذ من قوله فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم إن كريمة المال ممنوعة في الصدقة إلا أن يشاء المتصدق المعطي . وكريمة المال هي التي يحرزها صاحب المال وينظر إليها نظرة إعجاب وهي الفاخرة من ماله كالحلوبة والحامل والربى وهي المرباة وفحل الغنم وما أشبه ذلك .
الثامن عشر:إذا كان أخذ الكرائم في الزكاة محرم فإن في ذلك دليل على بطلان ما يزعمه أهل الإشتركية من أخذ بعض الأموال الزائدة عن حاجة صاحبها والله سبحانه وتعالى يقول (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِْثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : 188 ] والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته في حجة الوداع (... إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ... ..).(1)
__________
(1) البخاري في كتاب العلم باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - رب مبلغ .. رقم 67 وفي باب ليبلغ الشاهد الغائب رقم 105 وفي كتاب الحج باب الخطبة أيام منى رقم 1739 ورقم 1742ومسلم في كتاب القسامة باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال رقم 1679 وفي كتاب الحج باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 1218 والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة التوبة رقم 3087 وفي كتاب الفتن باب ما جاء في دمائكم وأموالكم عليكم حرام رقم 2159 وأبو داود في كتاب المناسك باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 1905 والدارمي في كتاب المناسك باب في الخطبة يوم النحر رقم 1850وأحمد في مسند الكوفيين وابن ماجه في كتاب المناسك باب الخطبة يوم النحر رقم 3055 .(3/134)
التاسع عشر: يؤخذ منه أن الزكاة مصرفها هو بيت مال المسلمين وقابضها ومتوليها والناظر فيها هو إمام المسلمين فلا يجوز أن توزع من دون إذنه فمن فعل ذلك ضمن أي بأن يضمنها لبيت مال المسلمين إلا الزكاة السرية أي زكاة المال السري وهي النقود التي لا يعلمها أحد ولكن إذا كانت مودعة في البنوك أو الشركات التجارية فإن الزكاة فيها تلزم لبيت مال المسلمين لأنها خرجت من السر إلى العلن فكانت كسائر الزكوات .
العشرون :يؤخذ من قوله واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب يؤخذ من هذا النص أن الظلم موجب لاستجابة دعوة صاحبه ولو كان فاجراً أو كافراً وقد جاء في الحديث أن دعوة المظلوم تخرق الحجب فينبغي للمسلم أن يتجنبها وأن لا يكون متسبباً في دعوة المظلوم عليه لأنه إذا فعل ذلك فقد أساء إلى نفسه واستوجب غضب ربه وفي الحديث ( الظلم ظلمات يوم القيامة )(1) وبالله التوفيق .
[170] الحديث الثاني من أحاديث الزكاة
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال : رسول - صلى الله عليه وسلم - ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة ).
موضوع الحديث : بيان أنصبة ما ذكر فيه وأنه لا زكاة فيما دونها .
المفردات
الأواق :جمع أوقية يقال أوقية بضم الهمزة وكسر القاف وتشديد الياء آخرها تاء مربوطة وكثير من الناس ينطقها بدون همزة وبالأخص العامية وجمع الاوقية أواقي كسرية وسراري وتجمع أيضاً على وقايا والأوقية اسم لعدد من الدراهم وهي أربعون درهماً
__________
(1) البخاري في كتاب المظالم والغصب باب الظلم يوم القيامة رقم 2447 ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم رقم 2578 ورقم 2579 والترمذي في كتاب البر والصلة باب ما جاء في الظلم رقم 2030وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة وباقي مسند المكثرين والدارمي في كتاب السير باب في النهي عن الظلم رقم 2516 .(3/135)
فالخمس الأواق مائتي درهم وقد كانت الدراهم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعان بغلية وطبرية فالبغلية نسبة إلى ملك يقال له رأس البغل وهي السود وكل درهم منها ثمانية دوانق والطبرية نسبة إلى طبرية الشام والدرهم منها أربعة دوانق فلما كان عهد عبد الملك جمع العلماء وضرب دراهم إسلامية كل منها ستة دوانق وقد نوزع في هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحل على مجهول ومضمون كلام القائل أن الشارع أحال على مجهول وهو خطأ قلت : الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحال على كل شئ بحسبه فالدراهم البغلية تزكى بحسبها لكن يبقى النصاب متردداً بين درهم ثمانية دوانق ودرهم أربعة فإن قلنا بالحيطة للفقراء جعلنا النصاب في مائتي درهم طبرية وإن قلنا بالحيطة لأصحاب الأموال جعلنا النصاب معتبراً بالدراهم البغلية لكن لما جاء عبد الملك وضرب الدراهم الإسلامية المتوسطة اعتبرت هي المقصودة بالنصاب فيكون النصاب مائتي درهم وباعتبار أن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل فيكون نصاب الفضة مائة وأربعون مثقالاً أما بالنسبة للجرامات فإن المائتي درهم خمسمائة وخمسة وتسعون جراماً (595) جرام والتحقيق بالدقة أن المائتي درهم تكون بالجرامات خمسمائة جرام وأربعة وتسعون جراماً (594) جراماً أي ستمائة جرام تنقص ستة جرامات .
قوله ذود : الذود اسم للواحدة من الإبل إذا كانت فوق ثلاث ودون عشر ويقال أنه لا واحداً له من لفظه أما الخمسة أوسق فهي جمع وسق والوسق ستون صاعاً نبوياً فالخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي والصاع النبوي أربعة أمداد والمد ما أقله رجل متوسط بكفيه .(3/136)
قلت : لعل هذا التعريف بالمد أعتبر في ذلك الزمان فلعل المتوسط الحجم من الرجال في ذلك الزمن يساوي الكبير الجسم في هذا الزمن ولأهل العلم كلام في مقدار المد لعله أدق لا نطيل فيه فليرجع إليه في كتاب الإيضاح والتبيان بمعرفة المكيال والميزان لابن الرفعة وتحقيق محمد الخاروق دكتور في جامعة أم القرى والثلاثمائة الصاع النبوي تعدل خمسة وسبعون صاعاً بالصاع المعروف في منطقتنا منطقة جازان وبالله التوفيق .
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته في هذا الحديث حديث أبي سعيد أنه لا زكاة في ما دون خمس ذود من الإبل ولا زكاة فيما دون خمس أواق من الورق أي الفضة ولا زكاة فيما دون خمسة أوسق من الحبوب وهذه رحمة من الله بعباده يجب أن يعرفوا مقدار ما للشرع من حكم فيكون ذلك سبباً لزيادة الإيمان وبالله التوفيق .
فقه الحديث
أولاً: أنه لا زكاة فيما دون ما ذكر من الإبل والورق والحبوب واختلف أهل العلم فيما إذا كان النقص يسيراً هل يجبر وتجب الزكاة فذهب مالك إلى أن النقص البسيط لا يعتبر مانعاًَ من وجوب الزكاة وذهب البعض الآخر إلى أن النقص يمنع الوجوب سواء كان قليلاً أو كثيراً .
ثانياً: علم من قوله ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) أن الصدقة في الفضة وعروض التجارة تجب في مائتي درهم فما فوقها بشرط أن يحول عليها الحول فلا تنقص في مدة الحول عن النصاب فإن نقصت في أثناء الحول ثم جبرت في آخره لم تجب الزكاة في ذلك وإنما تعتبر من الوقت الذي جبرت فيه فيبدأ الحول من حين حصل الجبر .
ثالثاً : نصاب الورق مائتي درهم أما الزكاة التي تجب في المائتين فهي ربع العشر أي في كل مائتين خمسة دراهم وما زاد فهو بحسابه والمائتي درهم هي خمسون ريالاً بالريال السعودي لأن الريال السعودي أربعة دراهم(3/137)
رابعاً : لم يذكر في هذا الحديث نصاب الذهب وقد قال بعض أهل العلم أن نصاب الذهب ليس فيه حديث صحيح وممن قال هذا ابن عبد البر وتبعه في ذلك جماعة من أهل العلم إلا أن ابن عبد البر نفسه قد نقل الإجماع على أن نصاب الذهب عشرون مثقالاً إلا ما روي عن الحسن البصري والزهري أنه أربعون مثقالاً وهو قول شاذ لا يعتد به وقد أخرج أبو داود صحيفة عمرو بن حزم من طريق حفيده أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وفيها بيان أنصبة الزكاة وبين فيها نصاب الذهب بإسناد لا مطعن فيه وأقره المنذري قلت : تتعاضد الأحاديث الواردة في ذلك على شئ من الضعف بها مع الإجماع الحاصل على أن نصاب الذهب عشرون مثقالاً وقد بين في كتاب الإيضاح والتبيان أن المثقال زنته بالدقة أربعة جرامات وثلاثة وعشرون بالمائة من الجرام .
خامساً : وقد جبر ذلك بزيادة اثنين في المائة فصار المثقال أربعة جرامات وربع وعلى هذا فيكون نصاب الذهب خمسة وثمانون جراماً بضرب أربعة وربع في عشرين مثقال وإذا قلنا بالدقة فإنه ينقص أربعين بالمائة من الخامس والثمانين وذلك اعتباراً بالذهب الخالص أما إذا كان الذهب مخلوطاً بشيء كعيار واحد وعشرين الذي يكون الخلط فيه بنسبة الثمن فإن النصاب فيه يكون ستة وتسعين جراماً تقريباً أما إذا كان الذهب من عيار ثمانية عشر فيزاد ربع الكمية ، وربعها واحد وعشرون جراماً وخمسة عشر بالمائة من الجرام الثاني والعشرون يضاف على أربعة وثمانين وستين بالمائة يكون بالدقة مائة وخمسة جرامات وخمسة وسبعين بالمائة فيقال عيار واحد وعشرين نصابه ستة وتسعون جراماً من الذهب المخلط وعيار ثمانية عشر نصابه مائة وستة جرامات من الذهب المخلط فإنه حينئذ بهذه المقادير يكون في كل منهما الذهب الصافي خمسة وثمانون جراماً وذلك هو النصاب الذي تجب فيه الزكاة بشرط أن لا ينقص أثناء الحول وبالله التوفيق.(3/138)
فائدة : اختلف أهل العلم في الحلي الملبوس سواء كان من الذهب أو الفضة هل تجب فيه الزكاة أم لا فذهب الجمهور من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الذهب الملبوس لا زكاة فيه قياساً على البقر العوامل وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وذهب قوم إلى وجوب الزكاة في الحلي سواء كان ملبوساً أو غير ملبوس منهم جماعة من الصحابة وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة وبعض أهل العلم في زماننا هذا منهم الشيخ عبد العزيز بن باز وابن عثيمين وهذا هو القول الصحيح فيما أرى وأدين الله به لأنه قد صحت به ثلاثة أحاديث أحدها حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما في المرأة اليمنية التي أتت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ( وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال أتؤدين زكاة هذا قالت لا قال أيسرك أن يسورك الله عز وجل بهما يوم القيامة سوارين من نار قال فخلعتهما فألقتهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت هما لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - )(1) وقد صح في ذلك حديثان آخران حديث عن أم سلمة (2)
__________
(1) النسائي في كتاب الزكاة باب زكاة الحلي رقم 2479 وأبو داود في الزكاة باب الكنز ما هو وزكاة الحلي رقم 1563 والترمذي في الزكاة باب ما جاء في زكاة الحلي رقم 637 ولكن بلفظ ( امرأتان ) والإمام أحمد في مسند المكثرين والقبائل بلفظ امرأتان أيضاً (حسنه الألباني ) .
(2) حديث أم سلمة رضي الله عنها قال : كنت ألبس أوضاحاً من ذهب فقلت : يا رسول الله أكنز هو ؟ فقال : ما بلغ أن تؤدي زكاته فليس بكنز ) أخرجه أبو داود 1564 والحاكم 1/390 والدارقطني 2/105 والبيهقي 4/139 وصححه الحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي ..(3/139)
وحديث عن عائشة (1) رضي الله عنهما وكل هذه الأحاديث تفيد وجوب الزكاة في الحلي الملبوس سواءً كان ذهباً أو فضة وقد صححها الألباني في صحيح سنن أبي داود باب الكنز ما هو وزكاة الحلي رقم ( 1382و1383 و1384 ) .
أما الاستدلال بالآية الكريمة ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) [الزخرف : 18 ] على عدم وجوب الزكاة في الحلي الملبوس فهو استدلال في غير محله إذ أن الامتنان بذلك لا يمنع وجوب الزكاة في الحلي والله تعالى أعلم .
قوله : (ولا فيما دون خمس ذود صدقة ) تفيد هذه الجملة أن أقل نصاب من الإبل تجب فيه الصدقة هو خمس من الإبل وما دونها فليس فيه شئ فإذا بلغت خمساً ففيها شاة إلى تسع فإذا بلغت عشراً ففيها شاتان فإذا بلغت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه فإذا بلغت عشرين ففيها أربع شياه فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض أي ما أكملت سنة وطعنت في الثانية ( أو ابن لبون ) إلى خمس وثلاثين فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون وهي ما أكملت سنتان وطعنت في الثالثة إلى خمس وأربعين فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة طروقة الجمل وهي ما أكملت ثلاث سنين وطعنت في الرابعة إلى أن تبلغ ستين ، فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة وهي ما أكملت
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها قالت : دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى في يدي فتخات من ورق فقال : ما هذا يا عائشة ؟ فقلت : صنعتهن أتزين لك يا رسول الله فقال : أتؤدين زكاتهن ؟ قلت لا أو ما شاء الله قال : حسبك من النار ) أخرجه أبو داود 1565 والحاكم 1/389 والدارقطني 2/105 والبيهقي 4/139 وابن حزم 6/98 وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ونقل الزيلعي في نصب الراية 2/271عن ابن دقيق العيد أنه قال الحديث على شرط مسلم .(3/140)
أربع سنين وطعنت في الخامسة إلى أن تبلغ خمساً وسبعين ، فإذا بلغت ستاً وسبعين ففيها بنتا لبون إلى أن تبلغ تسعين ، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان ، (إلى مائة وعشرين فإذا زادت ففي كل اربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ) .
قوله : ( ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة ) تقدم توضيح الوسق لغة ومقداره ،(3/141)
والخمسة الأوسق هي ثلاثمائة صاع نبوي ، وخمسة وسبعون بالمكيال المحلي الذي يمثل الصاع منه أربعة آصع بالصاع النبوي ، وقد اختلف أهل العلم فيما إذا كانت الحبوب دون خمسة أوسق بشيء قليل هل يجبر هذا القليل وتجب الزكاة هذا محل نظر وخلاف بين أهل العلم والأظهر أن الزكاة لا تجب إلا إذا بلغت الحبوب هذه الكمية ثم أن الواجب هو العشر فيما سقت السماء ، ونصف العشر فيما سقي بمؤنة كالنضح على الإبل سابقاً وكالآبار الارتوازية التي تروى منها الأراضي الزراعية بواسطة الضخ بالمكائن ، ثم اختلفوا في الأنواع التي تجب فيها الزكاة فذهب الجمهور إلى أن الزكاة تجب في كل مدخر ومقتات من الحبوب كالبر والشعير والتمر والزبيب وهذه الأربعة الأنواع هي المذكورة في الأحاديث وما عدا ذلك من الحبوب المدخرة والمقتاتة كالأرز والذرة والدخن والكناب وما أشبه ذلك فإن كان مدخراً ولم يكن مقتاتاً إلا في حالة الضرورة كالقطنيات فهذه فيها خلاف ضعيف وقد ذهبت الظاهرية إلى أن الزكاة لا تجب إلا في الأربعة المذكورة في الحديث وهي البر والشعير والتمر والزبيب وفي مقابل ذلك ذهب أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة في كل ما يقصد من زراعته نماء الأرض من الثمار والرياحين والخضراوات إلا الحطب والقصب والحشيش والشجر الذي ليس له ثمر وذهبت الهادوية إلى وجوب الزكاة في الخضراوات والقصب وكل ما أخرجت الأرض إلا أنهم خالفوا أبا حنيفة فاعتبروا الأوسق فيما يكال عملا بحديث أبي سعيد رضي الله عنه واعتبروا نصاب الورق في الخضراوات وما أشبهها فجعلوا الزكاة فيما لم يكن معتبراً بالقيمة فإذا بلغت قيمته مائتي درهم وجبت فيه الزكاة والذي يظهر لي أن مذهب الجمهور هو الصحيح وهو أن الزكاة واجبة في كل ثمر يقتات ويدخر وما عدا ذلك فقد ورد فيه العفو من الشارع - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك حديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وبالله التوفيق .
[(3/142)
171] الحديث الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة )) .
وفي لفظ (( إلا زكاة الفطر في الرقيق )).
موضوع الحديث :عدم وجوب الزكاة في العبيد والخيل أي في أعيانهم بخلاف ما إذا كان شئ من ذلك للتجارة .
المفردات
ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة :أي ليس فيها زكاة والمقصود بالصدقة هنا الزكاة المفروضة .
قوله إلا زكاة الفطر في الرقيق : وهم العبيد
المعنى الإجمالي
شرع الله يسر وقد نفى الله عز وجل الحرج فيه كما قال تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا ... )الآية [الحج : 78 ] . ومن عدم الحرج في الإسلام أن الله سبحانه وتعالى عفا عن الزكاة فيما يحتاجه العبد من الضروريات كالعبد المستخدم في الخدمة لسيده والفرس المركوب والبقر العوامل ومنيحة البيت والمرباة للأكل كل هذه معفو عنها فلا تجب فيها الزكاة اللهم إلا ما اشترى عرضاً للتجارة وكان المقصود منه استحصال الربح فيه وبالله التوفيق .
فقه الحديث
قال ابن دقيق العيد الجمهور على عدم وجوب الزكاة في عين الخيل واحترزنا بقولنا في عين الخيل عن وجوبها في قيمتها إذا كانت للتجارة .(3/143)
قوله الجمهور على عدم وجوب الزكاة في عين الخيل يفهم من هذا أن هناك خلاف في وجوبها في عين الخيل والخلاف لأبي حنيفة كما ذكره في قوله وأوجب أبو حنيفة في الخيل الزكاة وحاصل مذهبه أنه إذا اجتمع الذكور والإناث وجبت الزكاة فيها عنده قولاً واحداً وإن انفردت الذكور أو الإناث فعنه في ذلك روايتان من حيث أن النماء بالنسل لا يحصل إلا باجتماع الذكور والإناث وإذا وجبت فهو مخير بين أن يخرج عن كل فرس دينار أو يقوم يعني يُثَمّن الخيل ويخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم . قلت : قول أبي حنيفة هذا مصادم للنص الشرعي في عدم وجوب الزكاة في الخيل إذا كانت للقنية كما أنه قد عفا عما دون أربعين من الغنم وعما دون خمس من الإبل وعما دون عشرين من البقر وعفا عن العوامل وهي البقر التي يحرث عليها فكذلك عفا الشارع عن الخيل فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة فكيف يقال أن عليه في فرسه صدقة ولعل أبا حنيفة كان معذوراً لعدم بلوغ الحديث إليه أو لأنه فهم من الحديث أن العفو عما كان مركوباً لصاحبه من الخيل وما كان مستخدماً لسيده من العبيد ولكن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على كل رأي . قول الشارح رحمه الله تعالى واحترزنا بقولنا لعين الخيل عن وجوبها في قيمتها إذا كانت للتجارة ثم قال وقد استدل الظاهرية بهذا الحديث على عدم وجوب زكاة التجارة وقيل أنه قول للشافعي في القديم من حيث الحديث يقتضي عدم الزكاة(3/144)
الخيل والعبيد مطلقاً ويجيب الجمهور عن استدلاله بوجهين . قلت : المقصود من هذا أن الجمهور يجيبون عن استدلال الظاهرية في هذا الحديث على عدم وجوب زكاة العروض بوجهين ثم قال أحدهما القول بالموجب وأن زكاة التجارة متعلقها القيمة لا العين فالحديث يدل على عدم التعلق بالعين . قلت : يعني أن الشارع عفا عن الزكاة في عين الخيل إذا كانت للقنية فإن اشتريت الخيل أو العبيد للتجارة بأن كان المقصود بها البيع لتحصيل الربح فإن الزكاة تكون متعلقة بالقيمة لا بالعين فإن نوى المشتري للخيل التجارة ثم بعد ذلك حول نيته إلى القنية سقطت الزكاة لتحول النية عنها . قال والثاني أن الحديث عام في العبيد والخيل فإذا أقام الدليل على عدم وجوب زكاة التجارة كان هذا الدليل أخص من ذلك العام من كل وجه فيقدم عليه إن لم يكن فيه عموم من وجه إلى آخره وأقول : إن قول المؤلف هذا يقصد به أن الدليل الخاص على عدم وجوب الزكاة في التجارة مقدم على الدليل العام وهو كذلك وإذا نظرنا في الأدلة على وجوب الزكاة في التجارة نجد أن فيها ما هو مفهوم ومنها ما هو منطوق فمن المفهوم قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) [البقرة : 267 ] قال مجاهد نزلت في التجارة .
قلت : الكسب يعم التجارة وغيرها فلو كسب الإنسان مالاً من أجره أو تجارة أو حرث أو غير ذلك ثم بقي عنده حولاً وكان المال يبلغ نصاباً وجبت فيه الزكاة وعلى هذا فإن الآية عامة في الكسب إلا أن تفسير مجاهد يجعل الكسب في التجارة داخل في عمومها .(3/145)
ثانياً :الأدلة الصريحة منها ما هو ضعيف ومنها ما هو مقارب فالحديث الذي رواه الحاكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته ) (1) والبز بالباء والزاي المعجمة ما يبيعه البزازون كذا ضبطه الدارقطني والبيهقي . قال ابن عبد البر وروي والبر (2) بضم الباء والراء المهملة وفي البر صدقته وعلى هذا فالدليل لا يكون صالحاً للاستدلال على عروض التجارة إلا إذا كان الراجح هو اللفظ الأول . وفي سنن أبى داود عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع ) (3) إلا أن الحديث ضعيف ضعفه الألباني وغيره وهناك حديث عن عبدالله بن عمر وعائشة وهو ضعيف أيضاً. وأخرج الشافعي وأحمد وعبد الرزاق والدارقطني عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه أنه قال ( كنت أبيع الأدم فمر بي عمر بن الخطاب فقال لي أدّ صدقة مالك فقلت يا أمير المؤمنين إنما هو في الأدم قال قوّمه وأخرج صدقته ) (4)
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك 1/388 من حديث أبي ذر والدارقطني في السنن عن عمران مرفوعاً .
(2) الحديث الذي ورد فيه لفظ البر أخرجه الإمام أحمد عن أبي ذر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( في الإبل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البر صدقته }
(3) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة رقم 1562 ( ضعفه الألباني )
(4) أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 384 رقم 1179) وهذا سند ضعيف أبو عمرو بن حماس مجهول كما قال الذهبي في الميزان ومن طريقة الشافعي في بدائع المنن والبيهقي وغيرهما والأثر ضعيف أنظر الإرواء ( رقم 828) .(3/146)
قلت : حديث حماس أخرجه أبو عبيد بن القاسم بن سلاّم في كتاب الأموال ( أن عمر قوّم بضاعته التي كانت معه فجاءت قيمتها عشرون ديناراّ فأخذ منه نصف دينار صدقة عنها ) (1) وهذا الأثر صحيح
وروى البيهقي عن ابن عمر قال ( ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة ) (2) قال ابن المنذر الإجماع قائم على وجوب الزكاة في مال التجارة وممن قال بوجوبها الفقهاء السبعة قال لكن لا يكفر جاحدها للاختلاف فيها . قلت : إثباته للاختلاف دال على عدم صحة الإجماع إلا أن يقال أن الخلاف للظاهرية ولم يعتد ابن المنذر بقولهم فالله تعالى أعلم والمهم أن جماهير أهل العلم أطبقوا على وجوب الزكاة في عروض التجارة وإن كانت الأحاديث المرفوعة التي تدل على وجوبها فيها لا تخلوا من مقال واحتمال مع قلتها ولكن هناك آثار صحيحة تسندها مع مفهوم الآية ولذلك فإن ما ذهب إليه الجماهير هو الحق إن شاء الله ويبقى معنا الكلام على وجوب زكاة الفطر في الرقيق كما في الرواية الثانية وقد حقق الصنعاني في العدة أن هذه الرواية ليست في الصحيحين وإنما هي من إفراد مسلم والجمهور على أن زكاة الفطر المتعلقة بأعيان العبيد متجهة على أسيادهم الذين يستغلونهم في الخدمة . وقال قوم أن الزكاة عليهم أي على العبيد وعلى السيد إن لم يؤد الزكاة عن عبيده بأن يمكنهم من الكسب من أجل أدائها وحكي هذا القول عن مالك قال الصنعاني وحكاه القاضي عن أبي ثور
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال باب الصدقة في التجارات رقم الأثر 1179/1180 .
(2) وفي كتاب الأموال لأبي عبيد رقم الأثر 1181 قال ابن عمر ما كان من رقيق أو بر يراد به التجارة ففيه الزكاة .(3/147)
قلت : القول بوجوبها على الأسياد هذا هو القول الصحيح كما أنه يجب على صاحب البيت ومعيل العائلة زكاة الفطر عن نسائه وأولاده كما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ( فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ) (1)
وقد تبين أن وجوب الزكاة أي زكاة الفطر التي تتعلق بأعيان العبيد أنها على أسيادهم وبالله التوفيق .
[172] الحديث الرابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس )).
موضوع الحديث : إسقاط المؤاخذة بما جنته العجماء من بعضها على بعض وكذلك لو سقطت بئر على حافرها أو بانيها وكذلك لو سقط المعدن على من يشتغل فيه فإنها كلها لا دية فيها ولا جناية مأخوذة على صاحبها .
المفردات
العجماء : هي الدابة المستعملة من ذوات الأربع التي أباح الله لحمها ولبنها أو أباح ركوبها والحمل عليها
قوله جبار : أي هدر لا شئ فيما جنته .
__________
(1) البخاري في كتاب الزكاة باب فرض صدقة الفطر رقم 1503 وباب صدقة الفطر صاعاً من تمر رقم 1504 وفي باب صدقة الفطر على الصغير والكبير رقم 1512ومسلم في كتاب الزكاة باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير رقم 984 والترمذي في كتاب الزكاة باب ما جاء في صدقة الفطر رقم 675 والنسائي في كتاب الزكاة باب في فرض زكاة الفطر في رمضان على المسلمين دون المعاهدين رقم 2504 وأحمد في مسند بني هاشم ومالك في كتاب الزكاة باب مكيلة زكاة الفطر رقم 627 والدارمي في كتاب الزكاة باب في زكاة الفطر رقم 1661 وأبو داود في كتاب الزكاة باب كم يؤدى في صدقة الفطر رقم 1611وابن ماجة في كتاب الزكاة باب صدقة الفطر رقم 1826 .(3/148)
والبئر : هي التي تحفر لأخذ الماء منها وهي جبار لو سقطت على حافرها أو بانيها أو سقط فيها أحد فإنه لا دية فيها ولا جناية إلا أن يكون الحافر متسبباً لذلك وكذلك المعدن إذا سقط على من يشتغل فيه
الركاز :هو المال المركوز في الأرض من دفن الجاهلية .
قوله في الركاز الخمس :أي إذا وجد ذلك في الأرض ليست لأحد ولا عليها ملك .
المعنى الإجمالي
شرع الله عز وجل أن ما جرحته العجماء التي لا سيطرة عليها لأحد وما حصل في البئر من شئ من غير سبب أو المعدن بغير سبب مالكه فإنه عفو من الله عز وجل لا شئ فيه ولا ضمان وأنه إذا وجد مال مدفون في الأرض من دفن الجاهلية فإن فيه الخمس وهذه الأحكام شرعها الله عز وجل لما فيها من المصلحة والعدل .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث أن ما جرحته العجماء من بعضها على بعض فإنه يعتبر هدراً لأنه ليس لصاحبها سيطرة عليها وهل هذا خاص بجنايتها على الأبدان فقط أو عام بجنايتها على الأبدان والأموال
ثانياً : هل يقيد ذلك بما جرح قال الصنعاني أقول لفظ الجرح ليس في الرواية التي ساقها المصنف وإنما هو ثابت في بعض ألفاظ الصحيحين وفي بعضه العجماء جبار جرحها وفي لفظ البخاري جبار قال عياض والنووي وآخرون ليس ذكر الجرح في هذه الرواية قيداً وإنما المراد إتلافها بأي وجه كان سواء حصل بجرح أو غيره .
ثالثاً:قال ابن دقيق العيد وأما جناياتها على الأموال فقد فصل في المزارع بين الليل والنهار وأوجب على المالك ضمان ما أتلفته بالليل دون النهار وفي حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي ذلك(3/149)
قلت : قول الله تعالى (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ... . ) الآية [الأنبياء : 78-79] ذكر المفسرون أن النفش هو إفساد الماشية للزرع ليلاً وقد ورد في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر على أهل المزارع بحفظها في النهار وعلى أهل المواشي بحفظها بالليل) (1) وهذا الحديث يوافق ما ذكر في الآية على تفسير النفش بأنه إفساد الماشية للمزارع في الليل وعلى هذا فيكون على صاحب الماشية ضمان ما أفسدته ماشيته بالليل دون النهار وفي المسألة خلاف فيما يجب على أهل المزارع حفظه وهو ما كان في فلاةٍ من العادة أن ترسل فيه المواشي بدون راعي أما إذا كانت المزارع منتشرة وكثيرة فعلى صاحب الماشية حفظها وأن يرسلها مع راع يحفظها ويكون مسؤولاً عنها هذا هو الأقرب والله تعالى أعلم. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ) (2)
__________
(1) أبو داود في كتاب البيوع باب المواشي تفسد زرع قوم رقم 3570 وابن ماجه في كتاب الأحكام باب الحكم فيما أفسدت المواشي رقم 2332 ( صححه الألباني )
(2) البخاري في كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه رقم 52 ومسلم في كتاب المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات رقم 1599 والنسائي في كتاب البيوع باب اجتناب الشبهات في الكسب رقم 4453 وفي كتاب الأشربة باب الحث على ترك الشبهات رقم 5710 وابن ماجه في كتاب الفتن باب الوقوف عند الشبهات رقم 3984 وأحمد في مسند الكوفيين والدارمي في كتاب البيوع باب الحلال بين والحرام بين رقم 2531 والترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء في ترك الشبهات رقم 1205 وأبو داود في البيوع باب في اجتناب الشبهات رقم 3329 ..(3/150)
أما القصة المشار إليها في الآية فخلاصتها أن رجلاً له عنب أو بستان من عنب والآخر له غنم فذهب الغنم ودخل في بستان العنب فأفسده فتحاكما إلى داود ثم مرّا على سليمان فحكم سليمان أن يأخذ صاحب الغنم البستان ويسقيه ويقوم عليه حتى يعود كما كان ويأخذ صاحب البستان الغنم ليأخذ ما يجئ منه حتى يعود البستان كما كان ويعيد كل منهما ما عنده من حق إلى صاحبه وهو يؤيد ما جاء في حديث البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قَالَ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ فَكُلِّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ ) (1)
المسألة الثانية : قوله والبئر جبار أي أن البئر إذا سقطت على حافرها أو على بانيها وإن كان مستأجراً فإن ما حصل فيها لا يضمنه صاحبها إلا أن يكون متسبباً بحفرها في طريق الناس ولم يجعل عليها علامات تمنع من السقوط فيها .
المسألة الثالثة : والمعدن جبار المعدن هو ما خلقه الله في الأرض من الخامات النافعة كالذهب والفضة وغير ذلك فإذا سقط على الذي يشتغل فيه فإن ذلك لا ضمان فيه لقوله - صلى الله عليه وسلم - والمعدن جبار وفي هذا الحديث وهذه الفقرة بالذات ردّ على ما قرر في نظام الشركات أن من أصيب وهو يعمل في شركة بأي حادث فيها ترتب عليها إزهاق نفسه أو قطع عضو من أعضائه أن الشركة تكون ضامنة لذلك بالدية فما دونها وهذا الحديث يدل على بطلان هذا النظام والله تعالى أعلم.
__________
(1) أبو داود في كتاب البيوع باب المواشي تفسد زرع قوم رقم 3570 قال الشيخ أحمد النجمي وسند أبي داود صحيح ورواه ابن ماجه في كتاب الأحكام باب الحكم فيما أفسدت المواشي رقم 2332 .(3/151)
قوله وفي الركاز الخمس تقدم أن الركاز هو المال الذي يوجد مدفوناً في الأرض من ضرب الجاهلية فمن وجده فعليه فيه الخمس والباقي يكون ملكاً له أما إذا وجد مال من ضرب الإسلام ولا يعرف الذي دفنه فهو يعتبر لقطة والله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء وهل يعرف بهذه اللقطة لمدة سنة الظاهر أنه كذلك أما إن كانت في دار معروف صاحبها وقد مات أو انتقل فهي تعاد إلى ورثته إذا علم أنه كان صاحب مال والمسألة فيها تفصيل عند الفقهاء هذه خلاصته وبالله التوفيق .
[173] الحديث الخامس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول - صلى الله عليه وسلم - عمر رضي الله عنه على الصدقة فقيل : منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله وأما خالد : فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله وأما العباس : فهي عليّ ومثلها )) ثم قال: (( يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه ؟ )).
موضوع الحديث : بعث الجابي على الصدقة
المفردات
ابن جميل : ذكر ابن الأمير في التعليقات المسمى على العدة عن ابن منده أنه قال لا يعرف اسمه وذكره ابن الجوزي فيمن لا يعرف إلا بالنسبة إلى أبيه فقط قال واتفقوا أنه من الأنصار
قوله خالد بن الوليد : أي المخزومي الصحابي الجليل صاحب الجهاد العظيم والفتوحات الكثيرة.
أما العباس : فهو عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكما جاء في الحديث أما علمت يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه .
قوله ما ينقم : كأن معنى الكلام أنه ليس له شئ ينقمه إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله وهذه نعمة من حقها أن تشكر إذاً فلا شئ ينقمه ابن جميل ولكن المنع كان يدل على أنه كان منافقاً ولكن يقال أنه تاب وحسنت توبته .
قوله احتبس : أي أوقف أدراعه وأعتاده في سبيل الله جعلها وقفاً على المجاهدين .(3/152)
قوله أما العباس فهي عليّ ومثلها : أي أنها دين على النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتاج مالاً فأخذ من العباس زكاة عامين مقدماً .
قوله أما شعرت : أما علمت وعرفت أن عم الرجل صنو أبيه .
الصنو : هو الأخ تشبيهاً بالنخلة التي يكون أصلها واحد ويتفرع منها جذعان قال الله عز وجل ( ... صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ .. )الآية[الرعد : 4 ]
المعنى الإجمالي
أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب متصدقاً أي قابضاً للصدقة فلما رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره بأن ابن جميل منع زكاته وكذلك خالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب لذلك فقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن جميل صنيعه وذمه بذلك فقال ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله وقد اعتذر لخالد بأنه لا يصدر منه المنع طالما وهو قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله ومن يفعل المندوب طلباً للأجر والثواب لا يمكن أن يمنع الواجب ويحتمل أن يكون خالد ليس له شئ يؤدي زكاته رضي الله عنه ثم اعتذر للعباس بأنه قد أخذها منه صلوات الله وسلامه عليه .
فقه الحديث
أولاً: قول ابن دقيق العيد في بعث عمر على الصدقة هل هي الواجبة أو المندوبة واستظهر ابن دقيق العيد رحمه الله أنها الواجبة قلت: وهو الحق لأن ذم ابن جميل على المنع يدل على أنها الصدقة الواجبة فلو كانت الصدقة المندوبة ما ترتب على ذلك ذم لابن جميل وبالله التوفيق . كذلك من المعروف أن بعث الجابي إنما يكون في الصدقة المفروضة دون الصدقة التطوعية .
ثانياً : يؤخذ من قوله وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً الدفاع عمن عرف بالخير إذا ادعي عليه بأنه منع واجباً .(3/153)
ثالثاً :قوله وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله في ذلك كلام كثير حول احتباس الأدراع والأعتاد هل هي جعلت في مقابل الصدقة أو جعلت قيمتها وكل هذا في نظري غير وجيه والحق فيما أرى هو ما ذكر سابقاً وهو أن خالد بن الوليد أوقف دروعه وعتاده على المجاهدين في سبيل الله تقرباً إلى الله وطلباً للمثوبة عنده ومن يفعل ذلك لا يمنع الواجب .(3/154)
رابعاً : في قوله احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله دليل لمن قال بتحبيس المنقول أي بإيقافه وجعله وقفاً في ما ينتفع به قال الأمير الصنعاني في العدة قوله واختلف الفقهاء في ذلك أي في تحبيس المنقولات ووقفها فقال مالك لا يصح وقف المنقول مطلقاً وقال أبو حنيفة لا يصح وقف الحيوان وعنه ولا وقف الكتب وقال بصحة ذلك الشافعية وغيرهم قال المحقق قلت : وهي رواية عن الإمام أحمد أختارها جمع من أصحابه وهي المذهب قال الصنعاني قالوا لإجماع المسلمين على صحة وقف الحصر والمصابيح في المساجد من غير نكير أهـ . قال ابن الأمير قلت ولا يخفى عدم نهوضه دليلاً فإنه لا نكير في أنه مختلف فيه فلا دلالة على رضا الساكت حتى يكون إجماعاً سكوتياً لكن الدليل حديث الباب وقوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده أهـ . قلت : وما احتج به القائل من عدم الإنكار لعله ينتهض دليلاً مع وجود الدليل الذي يؤيده وكأنهم اتفقوا على العمل بذلك في كل زمان ومكان لم ينكره أحد من العلماء لوجود الدليل عليه من إقرار المعصوم - صلى الله عليه وسلم - لفعل خالد والظاهر أن خالداً لم يفعله إلا بعد استشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستفتائه ومن ذلك إيقاف الكتب والمصاحف وآلات النعش وما أشبه ذلك مما اعتاد الناس أن يعملوه والأصل فيه إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على تحبيس المنقول وإذا كان أهل الجاهلية كان الأغنياء منهم يستعدون بمثل ذلك للحاجة كما دل عليه استعارة النبي - صلى الله عليه وسلم - من صفوان بن أمية لامة الحرب من الدروع والسيوف فإن أهل الإسلام قد جعلوا ذلك تعبدا لله سبحانه وتعالى بإجازة من الشارع بذلك وإقراراً لهم عليه والله تعالى أعلم .(3/155)
خامساً : يؤخذ من قوله في سبيل الله أن عملهم هذا كان عدةً للمجاهدين في سبيل الله الذين يجاهدون لإعلاء كلمة الله ويؤخذ من هذا أنه لا يجوز الوقف ولا الحبس في نصرة حزب أو قبيلة أو شخص وإن فعل فهو لا يكون في سبيل الله ولا يعد من العمل الصالح لأن فيه تفريق للأمة التي أمرها الله أن تكون واحدة والله تعالى يقول (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين ) [الحجرات : 9] ومن هذا نقول أن قتال أهل البغي والمحاربين يعد من الجهاد في سبيل الله والله تعالى أعلم .(3/156)
سادساً : يؤخذ من قوله وأما العباس فهي عليّ ومثلها أن هذه العبارة يتردد معناها بين شيئين إما أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - تحملها عن عمه ويظهر لي أن هذا بعيد فإذا كان العباس عنده مال يوجب الزكاة فلا يمكن أن يتحملها النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه ويتركه لا يؤدي زكاته فإن ذلك قد يعتبر إعانة على ترك الأداء مع وجود ما يوجب المقتضي للواجب وهو وجود النصاب عنده والشارع يعود الناس ويحملهم على أداء الواجبات بطيب نفس . والاحتمال الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذها أي أخذ الزكاة مقدماً لعامين من العباس وهذا هو اللائق الذي يتعين توجيهاً لهذه العبارة وإن كانت الأحاديث الواردة في ذلك فيها ضعف فمنها ما أخرجه الترمذي من حديث علي بلفظ ( هي عندي قرض لأني استسلفت منه صدقة عامين ) (1) قال الحافظ ابن حجر في إسناده مقال ومثله عند الدار قطني إلا أن فيه ضعف والحاصل أن روايات أنه - صلى الله عليه وسلم - تقدم منه زكاة عامين ضعيف أهـ . قلت : وإن كانت هذه الروايات ضعيفة ضعفاً مقارباً إلا أن هذا هو الأنسب والأليق فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحتاج المال في تجهيز الغزاة وفي إجازة الوفود فلعله قد احتاج مالاً فاستسلفها من العباس وهذا هو أحسن ما يحمل عليه الحديث فيما أرى .
__________
(1) أخرجه أبو داود من حديث علي بلفظ أن العباس رضي الله عنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك وسنده لا بأس به وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الطبراني في الكبير والأوسط وفي سنده محمد بن ذكوان بن أبي صالح السمان صدوق يهم من السادسة وشاهد آخر عن أبي رافع عند الطبراني في الأوسط وفيه إسماعيل وفيه كلام كثير وقد وثق أهـ الثاني والثالث بواسطة بلوغ الأماني شرح الفتح الرباني للساعاتي وأنا استخير الله وأحكم بأنه حسن لغيره . (( النجمي))(3/157)
سابعاً : يؤخذ من قوله أما علمت يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه يؤخذ من هذا فضيلة للعباس في كونه عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا القول كأنه صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - درءاً للقالة في العباس بأنه منع لا سيما وهو عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكونه ممن تبعه وآمن به فله فضل الإيمان وفضل القرابة وبذلك لا ينبغي القول فيه بأنه منع وبالله التوفيق .
[174] الحديث السادس: عن عبدالله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه قال لما أفاء الله على رسوله يوم حنين قسم في الناس وفي المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئاً فكأنهم وجدوا في أنفسهم إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال : (( يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟ ))- كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمّن قال : (( ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله ؟ )) قالوا :الله ورسوله أمّن قال : (( لو شئتم لقلتم : جئتنا كذا وكذا ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم ؟ لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ولو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها الأنصار شعار والناس دثار إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض )).
موضوع الحديث : إعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنائم
المفردات
قال لما أفاء الله على رسوله :الفيء لغة الرجوع من فاء بمعنى رجع والفئ اسم لما يؤخذ من أموال الكفار بدون قتال وهنا المقصود به الغنيمة ففيه تسامح بالتسمية .
يوم حنين :أي يوم غزوة حنين .
قوله وفي المؤلفة قلوبهم : بمعنى أنه أعطاهم مع أن الأصل أنهم ليس لهم شئ في الغنيمة وإنما وهبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما وهبهم تأليفاً لأن لهم نفوذ فيمن ورائهم .
قوله وجدوا في أنفسهم : قال الصنعاني أقول من الموجدة وهي الغضب .(3/158)
قوله إذ لم يصبهم ما أصاب الناس : أي لكونهم لم يعطوا شيئاً خلاف القسمة التي أصابت المجاهدين منهم فخطبهم فقال يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً من الوجود
قوله ضلالا: أي كنتم على باطل تعبدون غير الله وتمنعون الحقوق ويقتل بعضكم بعضاً ليغنم ماله لا تعرفون شيئاً من الدين الذي أتيتكم به .
فهداكم الله بي :أي بسببي .
وكنتم متفرقين : من التفرق وهو الاختلاف وقد كان الأنصار بينهم عداوة يقتل الأوسي الخزرجي والعكس
فألفكم الله بي :أي جمعكم على يدي وبسببي .
عالة فقراء فأغناكم الله بي : أي بما أعطاكم من الغنائم التي أصبتموها على يدي .
الله ورسوله أمّن :أي أكثر مناً .
قوله لو شئتم لقلتم جئنا كذا وكذا :ما كنى عنه هنا قد صرح به في رواية أخرى أتيتنا مخذولا فنصرناك ومكذباً فصدقناك ومطروداً فآويناك .
ألا ترضون : أداة عرض أن يذهب الناس بالشاة والبعير إلى رحالهم وتذهبون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم .
الرحال : محل الإقامة ومعنى ذلك أن الذي تأخذونه أفضل مما أخذوه .
الوادي : هو مجتمع السيول والشعب كذلك لكن الشعب أصغر من الوادي .
الأنصار شعار : الشعار هو الثوب الذي يلي الجسد .
الدثار : الذي يكون من أعلى .
قوله ستجدون بعدي أثرة : أي استأثاراً بالمال عنكم فاصبروا حتى تلقوني على الحوض .
المعنى الإجمالي(3/159)
لما فتح الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من الغنائم الكثيرة في موقعة حنين وبعد أن ترك حصار الطائف عاد إليها أي إلى الغنائم وكان أكثرها من المواشي إذ اجتمع أكثر من أربعين ألفاً من الإبل ومائة وعشرين من الغنم فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - أقواماً حديثوا عهد بالإسلام ليتألفهم فأنكر ذلك بعض الأنصار أما خيارهم فإنهم يعلمون أن تصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصرف بحق فلما بلغته مقالتهم حيث قال بعض سفهائهم يعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغنائم لأقوام تقطر سيوفنا من دمائهم ويدعنا فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بجمعهم له في قبة فاجتمعوا فقال ما مقالة بلغتني عنكم .. ألخ ما ذكر . فعاتبهم معاتبة خفيفة واعترف لهم بما قدموه من نصرة له وللإسلام الذي جاء به فطابت نفوسهم وعرفوا بذلك عظيم ما ذخر الله لهم من صحبة رسوله ورجوعهم به إلى رحالهم بالإضافة إلى ما ادخره الله لهم في الدار الأخرى على ما قدموه وبذلوه فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ما سيلقونه بعده من الأثرة فصلوات الله وسلامه على نبيه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم القيامة.
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث تسمية الغنيمة فيئاً .
ثانياً : يؤخذ منه إعطاء المؤلفة قلوبهم .
ثالثاً : أن التأليف يعطى فيه ضعاف الإيمان من أجل أن يكونوا قوة للإسلام .
رابعاً : يؤخذ من هذا الحديث أن أصحاب الإيمان القوي العميق يوكلون إلى إيمانهم باعتبار أنهم لا يهتمون لأمر الدنيا .
خامساً : إنما فعل الصحابة ذلك لأنهم يعرفون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الخطأ وأنه لا يتصرف إلا بما فيه مصلحة الحق ونصرته .
سادساً: فيه معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار على ما بلغه عنهم من القالة فيشرع فيه العتاب بمن وثقت من إيمانه وصدق نيته .(3/160)
سابعاً : فيه اعتراف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما للأنصار من فضل في نصرتهم له .
ثامناً : يؤخذ من قول الأنصار الله ورسوله أمّن أن المنة لله ثم لرسوله عليهم .
تاسعاً : يؤخذ من قوله ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم فيه دلاله على ضآلة ما أخذ الناس وعظيم ما أخذوا .
عاشراً: لقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سبق بقوله لو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها .
الحادي عشر : يؤخذ من قوله الأنصار شعار والناس دثار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتبرهم خاصة دون الناس .
الثاني عشر : قوله إنكم ستلقون بعدي أثرة أي استأثاراً بالمال دونكم فاصبروا أمرهم بالصبر
الثالث عشر : يؤخذ من ذلك أيضاً تحريم الخروج على الولاة وإن جاروا واستأثروا بالمال دون غيرهم لقوله ستلقون من بعدي أثرة فاصبروا ولم يقل فثوروا .
الرابع عشر : قوله اصبروا حتى تلقوني على الحوض هذا وعد من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار أنه سيثيبهم على نصرتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشرهم لدينه وإعلائهم لكلمته وبالله التوفيق .
باب صدقة الفطر
صدقة الفطر وزكاة الفطر كلاهما جاء به الحديث الصحيح هكذا قال الصنعاني رحمه الله في العدة وأقول : إن كلا اللفظين يطلق على هذا الواجب إلا أن لفظ صدقة أعم من زكاة لأن الزكاة إنما يراد بها المفروض والصدقة تشمل المفروض وغير المفروض وإضافتها إلى الفطر من إظافة الشيء إلى سببه وذلك أن هذه الصدقة أوجبها الله شكراً على إتمام الصوم وجبراً لما فيه من النقص إن كان وإغناءً للفقراء عن العمل في يوم العيد أو التجول من أجل الحصول على قوت اليوم وبالله التوفيق.
[(3/161)
175] الحديث الأول: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر- أو قال : رمضان - على الذكر والأنثى والحر والمملوك : صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير قال : فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير والكبير .
وفي لفظ أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة .
موضوع الحديث : زكاة الفطر
المفردات
الزكاة : تطلق ويراد بها الواجب المالي سواء تعلق بالأنصبة أو تعلق بالفطر وهل المراد بها الطهرة أو يراد بها النماء فقد ورد اللفظ في المعنيين فمن النماء قولهم زكى الحب إذا بلغ غايته ومن الطهرة قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس : 9-10]
قوله فرض : هل المراد بالفرض القطع أو المراد به التقدير وكلاهما قد ورد لكن اشتهار اللفظ في القطع الذي هو الوجوب أكثر .
قوله صدقة الفطر : أي التي تجب به والمراد به الفطر من رمضان أي نهايته .
قوله على الذكر والأنثى والحر والمملوك :أي على كل واحد منهم صاعاً من الأجناس المذكورة من تمر أو من شعير وقد ورد لفظ الزبيب والبر والأقط أي من كل منها صاع ومن هنا لبيان الجنس .
قال فعدل الناس به نصف صاع من بر :أي جعلوه عدل صاع أي نضيره إذا كان نصف صاع من البر فإنه يعدل صاعاً من غيره .
قوله تؤدى : أي تعطى قبل خروج الناس إلى الصلاة
المعنى الإجمالي
ما أعظم شرع الله وما أبلغ حكمته في شرعه فقد جعل في يوم عيد الفطر صدقة الفطر حقاً واجباً على الأغنياء يدفعونه إلى الفقراء ليستغنوا به في يومهم ذلك وليكون دليلا على البذل والمواساة في حق أغنياء المسلمين ففرض زكاة الفطر وجعل هذا الفرض متجهاً على رئيس الأسرة وكافل العائلة يقوم به عمن تحت يده من النساء والأطفال والمماليك وبالله التوفيق .
فقه الحديث(3/162)
أولاً : حكم هذه الصدقة استدل الجمهور بقول الصحابي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر على أن هذه الزكاة فرض واجب على من وجدها مع قوت يومه بل قد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على وجوبها قال الصنعاني لكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرض على قاعدتهم من التفرقة بين الفرض والواجب قال وفي نقل الإجماع في ذلك نظر لأن إبراهيم بن عليّة وأبا بكر ابن كيسان الأصم قالا إن وجوبها نسخ واستدلوا على ذلك بحديث قيس بن سعد بن عبادة قال : ( أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله ) (1). وتعقب بأن في إسناده راوياً مجهولاً وقد وضعه الألباني في الصحيحة ولم يقل صحيح . قلت : أولا: أن هذا الحديث لا يعتمد عليه لضعفه ، ثانياً :لأنه تعارضه أحاديث صحيحة تدل على استمرار الفرضية وعمل الصحابة بها ومن بعدهم إلى يومنا هذا .
ثالثاً: أن قولهم بعدم الوجوب لا يكون خارقاً للإجماع لعدم الدليل الذي يستند إليه والإجماع لا بد أن يكون مستنداً إلى دليل رابعاً: أن الإجماع مستند إلى أدلة صحيحة وصريحة . أما قول الحنفية بالوجوب وأنه دون الفرض في قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب وأقول إن قول الحنفية هذا لا يدل على عدم الوجوب بل يدل على عدم الفرضية وإذاً فإنها واجب يأثم تاركه ولا يقاتل عليه ومن قال بخلاف ذلك فقد شذ والشاذ لا حكم له .
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الزكاة باب فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة رقم 2507 وابن ماجه في كتاب الزكاة باب صدقة الفطر رقم 1828 ورواه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار (صححه الألباني )(3/163)
ثانياً : يؤخذ من هذا الحديث وما في معناه أن هذه الصدقة تتعلق بالفطر وهل تجب بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان أو بطلوع الفجر أو بطلوع الشمس من يوم العيد وكل من هذه الأقوال قد قيل وأقواها أن الوجوب يتعلق بمن هو عليه بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان لأنه هو الفطر الحقيقي فلا واجب ينتظر بعده وأنها تؤدى في ليلة العيد ويومه قبل الخروج إلى الصلاة وأحسن وقتها وأفضله ما بين صلاة الصبح من يوم العيد والخروج إلى الصلاة وقد ورد في ذلك حديث حسنه الألباني (1)
ثالثاً :اختلف في جواز تقديمها ووجوب قضاءها بعد الصلاة إن فرط حتى صلى الإمام والكلام في جواز التقديم يتوقف على صحة الحديث الوارد فيه وكذلك أداؤها بعد الصلاة هل تكون قضاءً أو صدقة من الصدقات .
رابعاً :قوله صاعاً من تمر ...إلخ هذا هو المقرر في الشرع أنه صاع من الأجناس المذكورة والكلام في هذه المسألة يتعلق بأمرين هل يجوز أن تعطى من غير الأجناس المذكورة إذا كان ذلك الجنس مقتاتاً للناس وهل يجوز أن يعطى من البر نصف صاع بدلاً عن الصاع فأما كونه يتوقف على الأجناس المذكورة فالظاهر أن تلك الأجناس هي التي كانت معروفة في المدينة إلا أن لفظ الطعام يشمل كل مقتات وهذا هو الظاهر لقوله في بعض الألفاظ أو صاعاً من طعام وإن كان الطعام في الغالب يطلق على البر إلا أنه يشمل ما كان مقتاتا في غير الضرورة كالأرز والذرة والدخن وما أشبه ذلك .
__________
(1) الحديث: عن ابن عباس قال : ( فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب زكاة الفطر رقم 1609وابن ماجة في كتاب الزكاة باب صدقة الفطر رقم 1827 ( حسنه الألباني ) .(3/164)
أما كون البر نصف صاع منه يعدل صاعاً من غيره فهذا سيأتي في الحديث الثاني والقول بأنه يخرج من غالب قوت البلد هذا هو الحق فيما أرى .
خامساً :الصاع أربعة أمداد والمد رطل وثلث بالبغدادي وخالف في ذلك أبو حنيفة
وجعل الصاع ثمانية أرطال واستدل مالك بنقل الخلف عن السلف في المدينة وهو استدلال صحيح قوي في مثل هذا ولما ناظر مالك بن أنس إمام دار الهجرة أبا يوسف صاحب أبي حنيفة بحضرة الرشيد في المسألة رجع أبو يوسف إلى قوله وذلك أن مالكاً قال لمن حضره من أهل المدينة قم يا فلان فأت بصاع جدك وقم يا فلان فأت بصاع جدتك حتى اجتمع عنده آصع فحزرت تلك الآصع فوجد كل واحد منها خمسة أرطال وثلث وكل واحد من هؤلاء قال حدثني أبي عن جدي أنه أدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الصاع وذلك يقول حدثني أبي عن جدتي وهكذا . قال المحقق وهذه القصة تؤيد رأي من يرى أن بلاغات مالك موصولة وهو الصحيح .
سادساً : اختلف أهل العلم في الأقط هل هو واجب كالذي ذكر معه من الحبوب المقتاتة أو الثمار ذلك لأن الأقط هو لبن مجفف يكون قطعاً بعد الصنعة لم يخرج دهنه وكون هذا يكون عند أهل البادية فهو أرفق بهم وهل يجزئ عمن أداه من الحواضر هنا حصل خلاف بين أهل العلم فمنهم من رآه مجزئاً بذكره في الحديث ومنهم من علق أجزاؤه على عدم وجود غيره ولعل هذا هو الأقرب والله أعلم .
سابعاً : في قوله على الذكر والأنثى والحر والمملوك والصغير والكبير من المسلمين دلالة على عموم هذا الواجب حتى على من ولد قبل خروج الناس إلى المصلى من يوم العيد أما من ولد بعد ذلك فلم يلحقه الوجوب في الظاهر واختلف أهل العلم في إخراجها عن الحمل فأثر عن عثمان بن عفان فعله والظاهر أنه اجتهاد منه فيكون مباحاً لمن أراد ذلك لا واجباً .(3/165)
ثامناً: اختلف في المملوك هل الوجوب متجه عليه أو على سيده فذهب الجمهور إلى أن الوجوب متجه على سيده وذهب داود الظاهري إلى أن الوجوب متجه عليه ويمكنه سيده من الكسب لذلك .
تاسعاً: يؤخذ من قوله من المسلمين أن العبيد الكفار لا تجب الفطرة عنهم وإنما تجب عن المسلمين وبالله التوفيق .
[176] الحديث الثاني : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كنا نعطيها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال : أرى مداً من هذه يعدل مدين قال أبو سعيد : أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
موضوع الحديث : زكاة الفطر وأن نصف صاع من البر يعدل صاعاً من غيره
المفردات
تقدم الكلام على حديث ابن عمر وفيه شرح كثير من مفردات هذا الحديث .
قوله وجاءت السمراء : هي نوع من البر (الحنطة) وإنما رأى معاوية هذا الرأي لأن هذا النوع من الحنطة يربو ويزيد إذا طحن .
المد : هو ربع صاع بالآصع النبوية .
المعنى الإجمالي
يخبر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه بأنهم كانوا يعطونها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من جميع الأجناس وأنه في زمن معاوية جاء معاوية إلى المدينة حاجاً أو معتمراً وقال أرى إن نصف صاع من السمراء يعدل صاعاً من غيرها فأخذ الناس به أما أبو سعيد فقد استمر على ما كان يخرجه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فقه الحديث(3/166)
تقدم الكلام على حكم زكاة الفطر ومقدارها وعلى من تجب ومتى تجب وهنا سأبين ما جاء عن معاوية في جعله نصف صاع من بر يعدل صاعاً من غيره فأقول: أولاً: اختلف أهل العلم في هذه المسألة فقال أبو حنيفة نصف صاع من البر يعدل صاعاً من غيره وذهب الجمهور إلى أن الواجب أداء صاع من كل جنس من الأجناس المذكورة في هذا الحديث وغيرها مما لم يذكر وهذا هو القول الحق إن شاء الله وذلك لأن جعل نصف الصاع من البر يعدل صاعاً من غيره هو رأي لمعاوية رضي الله عنه خالفه في ذلك أبو سعيد الخدري وهو صحابي جليل أقدم صحبة من معاوية وأكثر ملازمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - منه .
ثانياً :إذا تعارض قول الصحابي مع قول صحابي آخر ففي هذه الحالة يقدم أقربها إلى الحق وأشبهها بالصواب وأحسنها ملائمة للأدلة التوقيفية هذا بقطع النظر عن كون أحد القولين يعارض نصاً صريحاً عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - إذا علمنا هذا فإن رأي معاوية عارض الدليل الشرعي عن الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وبهذا يجب علينا أن نقدم النص الصريح على رأي الصحابي لا سيما وقد نصص فيه على الطعام وقد كانت لفظة الطعام تستعمل في البر عند الإطلاق أما المعنى اللغوي فإن الطعام يطلق على كل ما أقتاته الناس وعلى هذا فيشمل الأطعمة المقتاتة التي لم تذكر هنا كما قد سبق ترجيحه في الحديث الأول ويدخل فيها البر دخولاً أولياً لأنه أفضل الأقوات وأحسنها بالإضافة إلى أن الله تعالى خاطبنا باتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - دون سواه وبالله التوفيق .
كتاب الصيام(3/167)
الصيام في اللغة الإمساك ويعرف بأنه إمساك المسلم العاقل أو المسلمة العاقلة الخالية من الحيض والنفاس عن الطعام والشراب والشهوة الجنسية من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس بنية التعبد هذا أحسن ما قيل في تعريفه .وإذا كان الصيام يراد به الإمساك عن المذكورات فإن الإمساك عن أي شئ يسمى صياماً في اللغة ومن ذلك قوله تعالى في قصة مريم ( فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم : 26] أي إمساكاً عن الكلام . والصيام فرضه الله عز وجل على عباده المسلمين في السنة الثانية من الهجرة وجعله أحد أركان الإسلام وفيه حكم كثيرة منها الرياضة للنفس على حبسها عن شهواتها ومحبوباتها ومنها أن ترك الطعام والشراب والشهوة الجنسية في هذا الوقت تعبداً لله عز وجل يورث الإنسان زيادة في إيمانه وقوة في توقيه للمحرمات وامتناعه عن الشهوات غير المباحة .
ثالثاً: أن التقليل من الطعام والشراب بالامتناع عنه في ذلك الوقت المحدد يمرن الإنسان على مراقبة ربه والخوف منه وإجلاله سبحانه وتعالى .
رابعاً:أن من الحكم أن يتمرن على ترك الشهوات مع وجودها وحاجته إليها رغبة فيما عند الله عز وجل له أثر في قوة الإيمان وإلى ذلك أشار بقوله( لعلكم تتقون )
خامساً:أنه إذا ذاق الجوع والعطش يفكر بالناس الذين لا يجدون ما يأكلون ولا ما يشربون فيحمله ذلك على العطف عليهم والمواساة لهم وبالجملة فإن الصوم يحوي حكماً منها ما عرفه الناس ومنها ما لم يعرفوه .
[177] الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه )).
موضوع الحديث : النهي عن صيام يوم الشك
المفردات
لا تقدموا :أي لا تستقبلوه قبل دخوله بصوم فإن الله إنما فرض صوم الشهر نفسه ولا يكون ذلك قبل دخوله .(3/168)
قوله إلا رجلا كان يصوم صوماً فليصمه : يعني إذا كنت تصوم الاثنين ووافق يوم الشك يوم الاثنين فصمه أي ذلك اليوم بنية تلك العبادة لا بنية استقبال رمضان فإنه لا شئ في ذلك .
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم الشك وهو اليوم الذي يكون ثلاثين من شهر شعبان فيحتمل أن يكون من الشهر القادم ويكون الشهر تسعاً وعشرين ويحتمل أن يكون من الشهر الماضي ويكون الشهر ثلاثين فلذلك نهى عن صومه لعدم التحقق لكونه من رمضان أم لا ؟
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من الحديث أنه لا يجوز صيام يوم الشك بنية الاستقبال لرمضان وهل يحمل ذلك على الكراهة أو على التحريم هذا محل نظر وخلاف بين أهل العلم والقول بأنه محرم هذا هو الأقرب للصواب
ثانياً: يؤخذ من هذا الحديث أن من صام يوم الشك على مقتضى عادة كان يعملها فإنه لا يكون داخلا في النهي لقوله إلا رجلا كان يصوم صوماً فليصمه .
ثالثاً: إذا دخلت في صيام يوم الشك بنية عادة كنت تعتادها ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فعليك أن تمضي في صومك وأن تقضي ذلك اليوم لأنك دخلت فيه بغير نية رمضان وبالله التوفيق.
[178] الحديث الثاني :عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له))
موضوع الحديث: ما يوجب صيام رمضان وما يوجب الفطر منه وما هو الحكم في حالة الاشتباه
المفردات
إذا رأيتموه : الضمير يعود إلى الهلال وواو الجماعة لجميع المسلمين .
قوله فصوموا : هذا جواب الشرط وجزاؤه وهو إذا ومثل ذلك وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم : أي بأن حال بينكم وبين رؤيته قتر أو سحاب فاقدروا له أي كملوا العدة ثلاثين .
المعنى الإجمالي(3/169)
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بأن يصوموا لرؤية الهلال وبان يفطروا لرؤيته وهذا الخطاب لجميع الأمة فإذا رآه واحدٌ لزم الصوم على الجميع إذا كان الرائي مسلماً وإن رآه اثنان فأكثر عند دخول شوال وخروج رمضان لزم الفطر وإظهار العيد كما دلت على ذلك الأدلة .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث تعليق الحكم بالرؤية والمقصود بالرؤية هي الرؤية العادية لكل فرد من أفراد الأمة ولهذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال( إنا أمّة أميّة لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا ...ألخ ) (1) فقوله إنا أمّة أميّة يدل على نفي ما ذكره بعضهم من الاعتماد على النجوم أو على المنازل أو ما أشبه ذلك
ثانياً : يؤخذ من قوله إذا رأيتموه أن الاعتماد على الرؤية البصرية فلا يعتمد على الميكروسكوب (المنظار الفلكي ) ولا على الرؤية الدقيقة التي تكون بصناعة ما فالخطاب للامة أجمع وما كان معروفاً في ذلك الزمن أنه طريق للرؤية فهو المعتمد للحكم الشرعي .
__________
(1) البخاري في كتاب الصوم باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نكتب ولا نحسب رقم 1913 ومسلم في كتاب الصيام باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال رقم 1080 والنسائي في كتاب الصيام باب في كم الشهر رقم 2140 وأبو داود في كتاب الصيام باب الشهر يكون تسعاً وعشرين رقم 2319 .(3/170)
ثالثاً : يؤخذ من قوله فصوموا الذي هو جواب الشرط أن الرؤية التي يلزم بها الصوم هي الرؤية البصرية العادية وقد اختلف أهل العلم فيما يلزم بها الصوم من الشهادة فجاء في الحديث عن ابن عباس قال جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني رأيت الهلال ( قال أتشهد أن لا إله إلا الله أتشهد أن محمداً رسول الله قال نعم قال يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غداً ) (1)
__________
(1) الترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في الصوم بالشهادة رقم 691 والنسائي في كتاب الصيام باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان رقم 2112 ورقم 2113 وأبو داود في كتاب الصوم باب شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان رقم 2340 وابن ماجه في كتاب الصيام باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال رقم 1652 والدارمي في كتاب الصوم باب الشهادة على رؤية هلال رمضان رقم 1692 (ضعفه الألباني )..(3/171)
كما أنه قد ورد أنه لخروج الشهر يلزم شهادة اثنين (1)
أما عدالة الشهود في دخول رمضان أو دخول شوال فيكفي في ذلك كونه مسلماً
رابعاً: قوله وإذا رأيتموه فافطروا إذا رأيتم هلال شوال فافطروا ويؤخذ من هذا انه يترتب الفطر على الرؤية أو إكمال العدة .
__________
(1) وردت أحاديث في هذا منها 1- عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله لأهلا الهلال أمس عشية فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس أن يفطروا ) رواه أحمد وأبو داود وزاد ( وأن يغدوا إلى مصلاهم ) رقم 2339 2- وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ( أنه خطب في اليوم الذي يشك فيه فقال ألا إني جالست أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وساءلتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوماً فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا ) رواه أحمد في مسند الكوفيين ورواه النسائي في الصيام باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان رقم 1997 ولم يقل فيه مسلمان 3- وعن أمير مكة الحرث بن حاطب قال : ( عهد إلينا رسول - صلى الله عليه وسلم - أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما ) رواه أبو داود في الصيام رقم 2338 والدارقطني وقال هذا إسناد متصل . ( الأحاديث الثلاثة صححها الألباني رحمه الله ) .(3/172)
خامساً : يتردد المفهوم من قوله صوموا وافطروا بين أن يكون الخطاب لجميع الأمة فتكفيهم رؤية واحدة أو لكل قوم رؤيتهم وعلى هذا فقد اختلف أهل العلم هل تلزم الرؤية إذا وجدت جميع المسلمين أو لا يلزم إلا أهل البلد ومن حولهم ؟ فمن أهل العلم من قال تلزمهم جميعاً واستدلوا بأن الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدين ما كان معروفاً أن لكل قوم رؤيتهم بل الظاهر أنها تلزمهم رؤية واحدة.
قلت: وعلى هذا القول ملاحظة
أولا: لأن عدم النقل لا يدل على عدم الوقوع فالناس في ذلك الزمن لا يتواصلون إلا على وسائل النقل القديمة وهذه الوسائل تجعل أهل كل بلد منقطعين عن الآخرين فلهم رؤيتهم وصومهم وفطرهم ومما يدل على ذلك قصة كريب حين هلّ عليه الهلال وهو في دمشق ثم قدم المدينة في آخر الشهر واخبر ابن عباس أنهم رأوا الهلال ليلة الجمعة فقال ابن عباس أما نحن فقد رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نراه أو نكمل العدة ثلاثين ) (1) وبهذا يتبين أنهم لم تكن الرؤية تحكمهم جميعاً .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصيام باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم رقم 1087 ورواه النسائي في كتاب الصيام باب اختلاف أهل الآفاق في الرؤية رقم 2111 والترمذي في كتاب الصيام باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم رقم 693 وأبو داود كتاب الصيام باب إذا رئي الهلال في بلد قبل الآخرين بليلة رقم 2332 .(3/173)
ثانياً : أنه لم يكن في ذلك الوقت وسيلة إعلام توصل الخبر إلى الجميع عند وجود الرؤية ومن أجل هذا نقول أن الأرجح أن الناس في ذلك الوقت يكون أهل كل بلد يعملون برؤيتهم أو إكمال العدة بالصوم والفطر والذي يظهر لي في هذه المسالة وفي هذا الزمن الذي قد تبين فيه واتضح وضوحاً لا مزيد عليه أن البلدان مختلفة باختلاف مطالعها وعلى هذا فانه لو رئي الهلال في مشرق الأرض لزم من بعده من باب أولى فمثلا لو رئي الهلال في باكستان لزم من بعد هذه الدولة من الدول الأخرى التي يأتي وقت مغيب الشمس فيها بعد باكستان تلزمهم جميعاً لأنه إذا تقدمت الشمس على القمر في الباكستان مثلا لزم أن تتقدم عليه أكثر فيما بعدها وكذلك لو وجدت الرؤية في السعودية مثلا فإنه يلزم الصوم على من بعدها ولا يلزم على من قبلها فمثلا إذا ثبتت الرؤية في السعودية كما قلنا مثلا لزم السودان ومصر ومن بعدهم من دول إفريقيا وأوربا التي يأتي مغيب الشمس فيها بعد السعودية ولا يلزم من قبلها كالباكستان وأفغانستان والعراق وما أشبه ذلك . لأنه قد علم الآن بأن ما بعد كل بلد أي ما كان بعدها إلى جهة المغرب فإن الغروب يكون فيه بعد البلد الذي قبله من جهة الشرق وهذا أمر أصبح معروفاً لا يتمارى به اثنان لأنه أصبح من المحسوس وهذا هو القول الفصل في هذه المسألة وبالله التوفيق .
[179] الحديث الثالث: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((تسحروا فإن في السحور بركة )).
موضوع الحديث :فضيلة السحور
المفردات
قوله تسحروا : هذا أمر والفاء في فإن في السحور بركة تعليلية والسحور يأتي بفتح السين المشددة ويكون اسماً للطعام الذي يتسحر به ويأتي بضم السين فيكون اسماً للفعل والتلازم بينهما حاصل .
بركة: خبر إن والبركة قد تكون حسية وقد تكون معنوية ولعلها هنا شاملة للجميع
المعنى الإجمالي(3/174)
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بالتسحر والتسحر هو الأكل في وقت السحر لأن في طعام هذا الوقت لآكله فيه بركة من حيث مخالفة أهل الكتاب ومن حيث العمل بالسنة ومن القوة الحاصلة للبدن ومن حيث أن المتسحر لا تتوق نفسه إلى الطعام ومن فوائد السحور الاستيقاظ في وقت الإجابة الذي ينزل فيه ربنا إلى السماء الدنيا فيقول هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فاغفر له ومن فوائده أيضاً صلاة من الملائكة على المتسحرين الذين يعملون بهذه السنة .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث استحباب السحور للصائم وقد يجب على من يتأثر بعدم السحور وإنما قيل بالاستحباب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل بأصحابه وقد أباح في الوصال بقوله ( ومن كان مواصلا فليواصل إلى السحر ). وذلك وجبة الإفطار وجعل وجبة السحور هي الوجبة التي يتقوى بها الصائم .
ثانياً: إنما قلت بأن السحور يجب على من يتأثر بتركه لأنه من المعلوم أن بدن الإنسان لا يقوم إلا على الطعام والشراب فإذا ترك وجبة السحر قد يتأثر بعض الناس وبعضهم لا يتأثر لوجود قوة بدنية تغنيه ويتبين من هذا أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أمر بما فيه صلاح البدن وصلاح الدين والعقل .
ثالثاً: يؤخذ من هذا أيضاً بأن الإنسان إذا قام للسحور ربما صلى وربما تصدق على بعض المحاويج الذين يعلمهم وهذا من بركة السحور بل وربما قرأ شيئاً من القرآن ومن أعظم الفوائد فيه الاستيقاظ لصلاة الفجر ولهذا أمر بتأخير السحور حتى لا ينام بعده فتفوت عليه صلاة الفجر .
[180] الحديث الرابع : عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال تسحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام إلى الصلاة قال أنس قلت لزيد كم كان بين الأذان والسحور قال قدر خمسين آية .
موضوع الحديث : ما هو المقدار الذي يكون بين السحور والأذان
المفردات(3/175)
قوله كم كان بين الأذان والسحور : أي المدة التي يمكن أن تكون بينهما .
قال قدر خمسين آية : أي قدر قرآئتها وقدر هنا مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو قدر أو يكون خبراً لكان المقدرة فيكون منصوباً ولا بد أن يكون هناك مقدر قبل خمسين أي قدر قراءة خمسين آية .
المعنى الإجمالي
أخبر أنس بن مالك عن زيد بن ثابت أنه تسحر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته وأنه كان بين انتهائه من السحور والأذان قدر قراءة خمسين آية وسبق أن قلت أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا لانسجامهم مع القرآن يقدرون بقراءة آيات والظاهر أن هذا التقدير يكون من الآيات الوسط التي هي بين مفرطة الطول كما في آخر سورة البقرة وأول سورة المائدة ومفرطة القصر كما في سورة الشعراء والصافات والواقعة وما أشبه ذلك .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث استحباب تأخير السحور وتقريبه من الفجر لأنه إذا أخر كانت منفعة البدن منه أعظم وكان نفعه له في اليوم أكثر .
ثانياً : أن التأخير يحصل به إقامة صلاة الفجر وإن كثيراً من الناس في هذا الزمن يبيتون في لعب ولهو وفي آخر الليل قبل الفجر بساعة أو أكثر يتسحرون ثم ينامون فيضيعون صلاة الفجر ثم إن تقدم السحور يجعل المنفعة به أقل فصلوات الله وسلامه على نبينا محمد الذي ما ترك خيراً إلا دلنا عليه ولا شراً إلا حذرنا منه .
[181] الحديث الخامس : عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم
موضوع الحديث :أن من أصبح جنباً أغتسل وصام ولا يؤثر ذلك في صومه
المفردات
كان يدركه الفجر : يعني يطلع عليه الفجر وهو جنب من أهله أي من جماع أهله ثم يغتسل ويصوم
المعنى الإجمالي
تخبر عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يطلع عليه الفجر وهو جنب من جماع أهله ثم يغتسل ويصوم
فقه الحديث(3/176)
أولاً : حصل خلاف في هذه المسالة في عهد الصحابة رضوان الله عليهم وذلك أن أبا هريرة كان يفتي بأن من أدركه الفجر وهو جنب فلا صوم له ثم إن مروان لما كان أميراً على المدينة أرسل إلى عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما يسألهما فقالتا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم فلما أخبر أبو هريرة رضي الله عنه بما قالتا رجع عن قوله ذلك وذكر أنه حدثه به الفضل بن العباس أو أسامة بن زيد ثم صار الإجماع على ذلك أي على ما أفاد هذا الحديث وهو أي هذا الحديث حديث عائشة وأم سلمة يترجح على حديث أبي هريرة بعدة مرجحات أولها :أنه روي هذا الحديث من طرق متعددة في الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم بلفظ واحد بخلاف حديث أبي هريرة .
ثانيها :أن الأمور الداخلية التي تتعلق بعلاقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته مقدم فيها خبر زوجاته لأنهن أعلم بذلك من غيرهن لملابستهن لتلك الأمور من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ثالثها :لأن ما حدثتا به يشهد به القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُن) إلى قوله ( فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : 187] وفي هذا إباحة للجماع إلى آخر لحظة من الليل فإن من لازم ذلك أن التطهر لا يتم إلا بعد طلوع الفجر ومن هنا يتبين أن هذا شاهد ومؤيد لحديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن من أصبح جنباً اغتسل وصام وهذا ما يسمى بدلالة الإشارة عند الأصوليين وقد ذكر جماعة من أهل العلم الإجماع على ذلك فيما بعد .(3/177)
ثانياً : ويؤخذ من قولها جنباً من أهله رفع شك وهو أنه ربما قيل لعله كانت جنابته تلك من احتلام فرفعتا الشك بأن ذلك من جماع أهله ويؤخذ هذا أيضاً من مسألة أخرى وهو أن الاحتلام من تلاعب الشيطان وليس له سبيل على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم .
ثالثاً :وقد اختلف العلماء أيضاً في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح فجمهورهم على وجوب تمام الصوم عليها وإجزاءه عنها سواء تركته عمداً أو سهوا وشذ محمد بن مسلمة فقال لا يجزئها وعليها القضاء والكفارة وهذا كله في المفرطة المتوانية فأما التي رأت الطهر فبادرت فطلع عليها الفجر قبل تمامه فقد قال مالك هذه كمن طلع عليها وهي حائض يومها يوم فطر أهـ. من العدة قلت: الصحيح أنها إذا رأت علامة الطهر قبل طلوع الفجر فهي بمنزلة المجامع قبل الفجر إن طلع الفجر ولم يتم طهورها فالحق أنها تتطهر وتصوم أما إذا كانت لم تر علامة الطهر إلا بعد طلوع الفجر فهذه يومها يوم فطر كالحائض . وبالله التوفيق
[182] الحديث السادس : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( قال من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )).
موضوع الحديث : الأكل والشرب ناسياً وأنه لا يبطل الصوم
المفردات
فأكل أو شرب :أو هنا للتنويع ويحتمل أن تكون عاطفة وقد ورد الحديث باللفظين .
فليتم صومه :هذا أمر من الشارع - صلى الله عليه وسلم - وهو رحمة من الله بالمكلفين أشار إلى ذلك بقوله فإنما أطعمه الله وسقاه أي ساق إليه رزقاً لم يكن في حسبانه .
المعنى الإجمالي
المعنى الإجمالي للحديث هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن من نسي وهو صائم فأكل أو شرب أو جمعهما فأكل وشرب وهو صائم فليتم صومه ولا يعتقد بطلانه فإنما أطعمه الله بذلك الأكل وسقاه بذلك الشراب فما فعله الإنسان ناسياً من غير نية فهو لا يقدح في الصوم ولا يؤثر فيه
فقه الحديث(3/178)
أولاً:يؤخذ من هذا الحديث دليل على أن أكل الناسي وشربه إذا أكل وشرب وهو ناسياً لصومه فإن أكله وشربه لا يؤثر على صومه ولا يبطله ولا يفسده وإلى مقتضى الحديث ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد وذهب مالك إلى إيجاب القضاء قال ابن دقيق العيد وهو القياس فإن الصوم قد فاته ركنه وهو من باب المأمورات والقاعدة تقتضي أن النسيان لا يؤثر في طلب المأمورات وعمدة من لم يوجب القضاء هذا الحديث وما في معناه أو ما يقاربه فإنه أمر بالإتمام وسمي الذي يتم صوماً وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية أ هـ .قلت : هذا هو الحق وإذا كان الإمساك هو الركن الأعظم من الصوم ولكن خرقه الصائم على سبيل النسيان فإن خرقه للامساك لا يعد خرقاً للصوم فالقواعد التي يبنى عليها الفقه مستقاة من النصوص الشرعية والنص هنا قد أمر بإتمام الصوم إذا فهو قاعدة مستقلة لا يقاس على الصلاة في ترك ركن من أركانها بل إن هذه قاعدة مستقلة وتلك قاعدة مستقلة ولا يجوز أن نترك النص ونعود إلى القياس بل الواجب أن نعمل بكل نص في محله إذا كان الدليل قد دل على أن الأكل والشرب ناسياً لا يؤثر في الصوم فذلك بشرط ألا يبتلع شيئاً بعد تذكره فإن ابتلع شيئاً بعد تذكره بطل صومه ووجب عليه القضاء .(3/179)
ثانياً : هل للجماع من الناسي حكم الأكل والشرب كما دل عليه الحديث هذا محل نظر وخلاف وذلك لأن الأكل والشرب يختلف على الجماع فيمكن أن يتصور فيه النسيان أما الجماع فتصور النسيان فيه أبعد لأنه يستلزم أموراً قد لا يتصور معها النسيان كالتستر والبعد عن أعين الناس وإغلاق الأبواب وكون العملية مشتركة بين اثنين فإن نسي أحدهما ذكّره الآخر وما أشبه ذلك من الأمور التي لا يتصور معها النسيان لذلك فقد أشار الشارح رحمه الله تعالى بقوله ومدار الكل على قصور حالة المجامع ناسياً عن حالة الأكل ناسياً فيما يتعلق بالعذر والنسيان قلت:وهذا هو الصواب وإليه ذهب الجمهور مع أن الجماع يوجب الكفارة والأكل والشرب لا يوجب الكفارة على الأصح . وبالله التوفيق
[183] الحديث السابع :من كتاب الصيام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت قال مالك ؟ قال: وقعت على إمرأتي وأنا صائم -وفي رواية : أصبت أهلي في رمضان - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال : لا قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا قال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال : لا قال : فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما نحن على ذلك أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر- والعرق : المكتل - قال : أين السائل ؟ قال : أنا قال : خذ هذا فتصدق به فقال الرجل :على أفقر مني يا رسول الله ؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه ثم قال : (( أطعمه أهلك )).
موضوع الحديث :كفارة الجماع في نهار رمضان
المفردات
الحرة: أرض تركبها حجارة سود(3/180)
بينما : ظرف زمان يلازمه الاظافة إلى جملة اسمية غالباً وتلتقي بإذا تارة وبإذ أخرى اللتين للمفاجأة فإذا لم تلحقهما ما فلا تلتقي بواحدة منها قاله الصنعاني في العدة قوله إذ جاءه رجل :إذ هي الفجائية التي تكون للمفاجأة .
هلكت وفي رواية احترقت والمراد أنه وقع في ذنب يوجب له الهلكة والاحتراق .
قوله قال مالك : استفهام قال وقعت على امرأتي ( وأنا صائم ) جملة حالية أي حال كوني صائم وفي رواية أصبت أهلي في رمضان .
هل تجد رقبة : الرقبة هنا مطلقة وتعم الذكر والأنثى والصغير والكبير والسليم والناقص إلا أن السنة دلت على أن الرقبة الكافرة لا تجزئ وكذلك الرقبة غير الصحيحة .
قوله شهرين متتابعين : متتابعين وصف للشهرين أي لا يكون بينهما انقطاع اختياري
قوله بعرق : العرق هو المكتل .
قوله خذ هذا فتصدق به : هذا أمر لكن قال الرجل على أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لابتيها ...إلى آخر الحديث .
أفقر : اسم تفضيل من الفقر والمعنى أكثر فقراً.
قوله فضحك رسول الله : الفاء هنا سببية وكأنه بسبب التعجب من حاله حتى بدت أنيابه وحتى للغاية ثم قال أطعمه أهلك .
قوله الحرة : أرض تركبها حجارة سود هذا تفسير للحرة وهي واحدة حرتين .
المعنى الإجمالي
وقع هذا الصحابي على امرأته وهو صائم فتوقع الهلكة لنفسه وأهله فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو حاله فسأله هل تستطيع أن تعتق رقبة فقال لا فقال أتستطيع أن تصوم شهرين قال لا فقال أتستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا فمكث الرجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - منتظراً جوابه فجاء رجل بعرق فيه تمر والظاهر أنه من الصدقة فقال خذ هذا فتصدق به فقال على أفقر مني أو من أهل بيتي فوا الله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي فعند ذلك ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متعجباً من حاله ثم قال أطعمه أهلك .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث عدة مسائل(3/181)
المسألة الأولى : أن من أرتكب معصية لا حدّ فيها وجاء مستفتياً أنه لا يعاقب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية . المسألة الثانية : أن المعاقبة فيما لم يكن حداً تكون تعزيراً والتعزير استصلاح ولا استصلاح مع الصلاح بمعنى أن إظهار الندم دال على صلاح المستفتي فلا داعي للاستصلاح المسألة الثالثة: أنه لو عوقب لكانت المعاقبة سبباً في ترك أناس للاستفتاء وهذه مفسدة عظيمة يجب دفعها .
المسألة الرابعة : جمهور الأمة على إيجاب الكفارة على من جامع عامداً في نهار رمضان وقد نقل عن بعض السلف أنها لا تجب وهو قول شاذ ولا يعول عليه .
المسألة الخامسة : اختلفوا في جماع الناسي هل يقتضي الكفارة أم لا ؟ قال ابن دقيق العيد ولأصحاب مالك قولان ويحتج من يوجبها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل هذا السائل هل فعل ذلك عامداً أو ناسياً هكذا قال ابن دقيق العيد . وأقول : الظاهر من حال هذا المستفتي ومن فحوى سؤاله أنه فعل ذلك عامداً لأنه صدر سؤاله فقوله هلكت أو احترقت ولا يكون كذلك إلا إذا كان قد فعل ذلك عمداً . الأمر الثاني : أن حالة النسيان بالنسبة إلى الجماع فيها بعد لكونها تقع بين شخصين إذا نسي أحدهما ذكره الآخر ولكونها تحتاج إلى ستر وبعد عن أنظار الناس وما أشبه ذلك .(3/182)
المسألة السادسة: الظاهر من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال لا قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال لا قال فهل تجد إطعام ستين مسكيناً ؟ قال لا أن هذا الترتيب واجب وانه لا يجوز الانتقال من الأمر الأول إلى الثاني إلا بعد العجز عن الأول وهذا أي القول بالترتيب هو مذهب الشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء وذهب مالك إلى أن هذه الخصال على التخيير لا على الترتيب وهذه مخالفة للنص قال ابن العربي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقله من أمر بعد عدمه إلى أمر آخر وليس هذا شأن التخيير وللاختلاف في ذلك دليل آخر وهي الرواية قد وردت بالتخيير وبعدمه فرجح القائلون بالترتيب روايته لأن الرواية به أكثر فإن الذين رووا الترتيب عن الزهري ثلاثون نفساً قلت : وإذا كانت قد وردت رواية مطلقة فهي تحمل على المقيدة وذلك تمشياً على قول الجمهور القائلين بحمل المطلق على المقيد وهذا هو الحق إن شاء الله .
المسألة السابعة : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هل تجد رقبة تعتقها يدل على أن الواجب الأول في هذه الكفارة هو عتق الرقبة .
المسألة الثامنة : أنه يشترط في الرقبة المعتقة شروطاً أولها : أن يكون سبب الملك سبب شرعي صحيح . وثانيها : أن تكون الرقبة المعتقة سليمة من العيوب المخلة .
وثالثها :أنه يشترط الإيمان في الرقبة المعتقة عند الجمهور وذهبت الحنفية إلى عدم إعتبار شرط الإيمان وتمسكوا بإطلاقات في بعض النصوص جاءت مقيدة في غيرها ومن ذلك قوله هنا هل تجد رقبة ؟ وقالوا إن اسم الرقبة يقع على الرقبة المؤمنة والكافرة على حد سواء جرياً على أصل الحنفية وهو العمل بالمطلق وتقديمه على المقيد وقول الجمهور هو الحق إن شاء الله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل(أعتقها فإنها مؤمنة )(3/183)
المسألة التاسعة : قوله فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا ويتنين من هذا أن الانتقال من الصوم إلى الإطعام لا يكون إلا عند العجز عن الصوم .
المسالة العاشرة :يؤخذ من هذا أنه يؤخذ بقول المستفتي في نفي الاستطاعة وكذلك يجب على المفتي أن يراجعه حتى يتبين ما إذا كان السبب عنده سبباً شرعياً أم لا لأن المفارقات بين زمن الصحابة وزماننا عظيماً في الالتزام بالصدق وغير ذلك .
المسألة الحادية عشرة :قد ورد في بعض روايات هذا الحديث فهل أوقعني في ذلك إلا الصيام أو قال وهل أوتيت إلا من الصوم قال الصنعاني فاقتضى ذلك عدم الاستطاعة بسبب شدة الشبق وهو عدم الصبر عن الجماع في الصوم فنشأ لأصحاب الشافعي نظر في أن هذا هل يكون عذراً مرخصاً للانتقال إلى الإطعام قلت : الظاهر من الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قبل عذره بذلك واعتبره مبيحاً لانتقاله من الصوم إلى الإطعام . ويقاس على ذلك من لا يستطيع الصيام لبعض الأمور التي يترتب عليها عدم استطاعة أو مشقة شديدة كأن يكون كاسباً على أهله وإذا ترك الكسب وجلس للصوم أضّر بأهله ولا يمكنه الجمع بينهما .(3/184)
المسالة الثانية عشرة :قوله فهل تجد إطعام ستين مسكيناً يدل على وجوب إطعام هذا العدد وهل يجب العدد أو يجب طعام ستين مسكيناً وقد ذهبت الحنفية إلى إطعام الستين مسكيناً مؤول بأن المراد إطعام طعام ستين مسكيناً وكأن الحنفية رجعوا في ذلك إلى أمر معقول وهو أنه قد يتعذر وجود ستين مسكيناً فأدى ذلك إلى أن الواجب هو الكمية المقدرة وليس عدد المساكين . قلت : وأنا أقول أن قول الحنفية هنا وجيه لا لقياسهم العقلي ولكن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى ذلك المستفتي جميع الكفارة وعدد أهل بيته في أغلب الأحوال لا يزيدون على العشرة ولم يستفصل عن عددهم فدل على أن الواجب هو الكمية لا عدد المساكين علماً بأن تلك الكمية التي هي خمسة عشر صاعاً لو صرفت إلى عشرة كفتهم ستة أيام أو إلى خمسة كفتهم اثني عشر يوماً وهكذا فدل على أن المقصود الكمية التي تكفي لإطعام هذا العدد وليس العدد
المسالة الثالثة عشرة :عندما أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل أن يطعم أهله بطعام الكفارة هل كان ذلك منه إلغاء للكفارة عن ذلك الرجل أو أنها باقية في ذمته لذلك قال ابن دقيق العيد قوله عليه السلام أطعمه أهلك تباينت المذاهب فيه فمن قائل يقول هو دليل على إسقاط الكفارة عنه بسبب الإعسار المقارن كما تسقط صدقة الفطر بالإعسار المقارن لاستهلال الهلال قال وهذا قول الشافعي ومن قائل يقول لا تسقط الكفارة بالإعسار المقارن وهو مالك والصحيح مذهب الشافعي أهـ . وعلى هذا فهل تبقى في ذمته أو تسقط عنه بالكلية قولان والذي يظهر لي أن القول بسقوطها بالكلية هو الحق لأنها لو بقيت في ذمته لبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما قالوا فدل على أنها تسقط عنه .(3/185)
المسألة الرابعة عشرة :هل يجوز للمكفر أن يأكل كفارته إذا كان حاله كحال ذلك الرجل وقد إدعى قوم خصوصيتة بذلك الرجل وهذه الدعوى لا دليل عليها لعدم الدليل وادعى آخرون بأن ذلك منسوخ وهذا القول أيضاً ضعيف لعدم ما يدل على النسخ فيتبين بأنه إذا كان المكفر هو أشد أهل تلك الحاضرة فقراً كما قال ذلك الرجل ( ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي) جاز له أكل كفارته .(3/186)
المسألة الخامسة عشرة: أن المسلم إذا عجز عن الكفارة أو غيرها من الواجبات فإنها تلزم في بيت مال المسلمين لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ... أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفى من المؤمنين فترك دينا فعلى قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته ) (1) وفي رواية ( ... ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلىّ وعلىّ ) (2)
__________
(1) البخاري في كتاب الحوالة باب من تكفل عن ميت ديناً رقم 2297 وفي كتاب الفرائض باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترك مالاً فلأهله رقم 6731 وفي كتاب النفقات باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترك دينا رقم 5371 ومسلم في كتاب الفرائض باب من ترك مالاً فلورثته رقم 1619 والترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في الصلاة على المديون رقم 1070 وأبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في أرزاق الذرية رقم 2956 وفي كتاب البيوع باب في التشديد في الدين رقم 3343 والنسائي في كتاب الجنائز باب في الصلاة على من عليه دين رقم 1963وأحمد في باقي مسند المكثرين وابن ماجه في كتاب الأحكام باب من ترك ديناً أو ضياعاً فعلى الله ورسوله رقم 2415 .
(2) مسلم في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة رقم 867 والنسائي في كتاب صلاة العيدين باب في كيف الخطبة رقم 1578 وأبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في أرزاق الذرية رقم 2954 وابن ماجه في المقدمة باب اجتناب البدع والجدل رقم 45 وفي كتاب الأحكام باب من ترك ديناً أو ضياعاً فعلى الله وعلى رسوله رقم 2416 وأحمد في باقي مسند المكثرين .(3/187)
المسألة السادسة عشرة : جمهور الأمة على وجوب القضاء على من أفسد صومه بالجماع وذهب بعضهم إلى عدم وجوبه لسكوته عليه الصلاة والسلام وعدم إخباره لذلك المستفتي بأن عليه القضاء والخلاف في ذلك جار بين أهل العلم وذهب بعضهم إلى أنه إن كفّر بالصيام أجزأه عن القضاء قال الصنعاني : أقول هذا الوجه قاله الأوزاعي وقد روي أنه ذكر في حديث عمرو بن شعيب الذي أخرجه أحمد وفيه (وأمره أن يصوم يوماً مكانه ) (1) وفيه الحجاج بن أرطأة وفيه كلام معروف قال في الفتح وقد ورد الأمر بالقضاء في هذا الحديث في رواية أبي أويس وعبد الجبار وهشام بن سعد كلهم عن الزهري نفسه بغير هذه الزيادة وحديث الليث عن الزهري في الصحيحين بدونها . والكلام في هذا يتوقف على صحة الدليل فينظر .
المسألة السابعة العشرة : اختلفوا في وجوب الكفارة على المرأة إذا مكّنت طائعة فوطئها الزوج هل تجب عليها الكفارة أم لا ؟ قال ابن دقيق العيد وللشافعي قولان أحدهما الوجوب وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصح الروايتين عند أصحاب أحمد والثاني عدم الوجوب عليها واختصاص الزوج بلزوم الكفارة وهو المنصور عند أصحاب الشافعي من قوليه . قلت : القول بعدم الوجوب على المرأة هو الأقرب لأن هذه العملية وهي عملية الجماع أمر مشترك بين الرجل والمرأة والمتعة حاصلة لهما إلا أن الشرع جعل الزوج مسؤولاً عن كل ما يتعلق بذلك فأوجب عليه المهر والنفقة والكسوة والمسكن وما إلى ذلك وهذا فيما يظهر لي أنه يلتحق بتلك الواجبات إلا أن تكون المرأة هي المتسببة في الجماع فحينئذ تلحقها الكفارة والذي يدل عليه عدم سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك المستفتي هل طاوعته امرأته أم لا .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة رقم 6650 .(3/188)
المسألة الثامنة عشرة : إيجاب التتابع في الصيام أي صيام الشهرين وللفقهاء كلام فيما إذا انتقض التتابع بأمر قهري هل ينتقض التتابع بذلك ؟ أما الاختياري فمجمع عليه أنه ينقض التتابع ويجب عليه العود من جديد والظاهر أن القول الصحيح انه ما كان قهرياً كمرض شديد أو جاء العيد ووجب عليه الفطر فيه أن ذلك لا ينقض التتابع . وبالله التوفيق .
المسألة التاسعة عشرة : إذا تكرر الجماع في أيام متعددة قبل التكفير فهل يكفي في ذلك كفارة واحدة أو تجب الكفارة بعدد الأيام ؟ والقول الصحيح أنها تجب بعدد الأيام لأن كل يوم له حرمة مستقلة أما إذا تعدد الجماع في يوم واحد عدة مرات فلا تلزم فيه إلا كفارة واحدة . وبالله التوفيق .
باب الصوم في السفر
من رحمة الله عز وجل بعباده أنه أذن لهم بالفطر في المرض والسفر وقال جل من قائل(أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة 184 ] أي فصيام عدة من أيام أخر غير رمضان وهذا يدل على سماحة الإسلام ويسره قال تعالى(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [الحج : 78 ] وقال تعالى(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : 16]وعلى هذا فإن الفطر في السفر رخصة من الله لعباده ينبغي لهم أن يتمتعوا بها وقد اختلف أهل العلم في حكم الفطر هل هو واجب أو مستحب وفي حكم الصيام هل هو صحيح أو غير صحيح وسيأتي ذلك في مواضعه مبيناً إن شاء الله .
[184] الحديث الأول : عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أصوم في السفر؟- وكان كثير الصيام- فقال : (( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر)).
موضوع الحديث : الصوم في السفر
المفردات
أأصوم في السفر :الهمزة الأولى للاستفهام الطلبي .
قوله وكان كثير الصيام : جملة اعتراضية .
قوله إن شئت فصم وإن شئت فافطر : شرط وجوابه يستفاد منهما التخيير .(3/189)
المعنى الإجمالي
سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصيام في السفر فخيره بين الصيام والفطر
فقه الحديث
قال ابن دقيق العيد في الحديث دليل على التخيير بين الصوم والفطر في السفر وليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان ونقل الصنعاني في العدة عن الحافظ ابن حجر أنه قال بعد كلام الشارح وهو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب لكن في رواية مراوح التي ذكرها مسلم عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّهُ قَالَ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ )(1) وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام الفريضة وذلك أن الرخصة إنما تطلق في مقابل ما هو واجب وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم من طريق مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ يَذْكُرُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي صَاحِبُ ظَهْرٍ أُعَالِجُهُ أُسَافِرُ عَلَيْهِ وَأَكْرِيهِ وَإِنَّهُ رُبَّمَا صَادَفَنِي هَذَا الشَّهْرُ يَعْنِي رَمَضَانَ وَأَنَا أَجِدُ الْقُوَّةَ وَأَنَا شَابٌّ وَأَجِدُ بِأَنْ أَصُومَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤَخِّرَهُ فَيَكُونُ دَيْنًا أَفَأَصُومُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْظَمُ لأَجْرِي أَوْ أُفْطِرُ قَالَ أَيُّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزَةُ ) (2) أهـ .
__________
(1) مسلم في كتاب الصيام باب التخيير في الصوم والفطر في السفر رقم 1121 والنسائي في كتاب الصيام باب في ذكر الاختلاف على عروة في حديث حمزة فيه رقم 2303 .
(2) أبو داود في كتاب الصوم باب الصوم في السفر رقم 2403 ( صححه الألباني )(3/190)
قلت : ومن هذا يتبين أن الصوم في السفر رخصة من الله فمن أخذ بالرخصة أصاب ومن صام جاز له ذلك واعتبر صيامه مؤدياً للواجب عليه وبالله التوفيق .
[185] الحديث الثاني : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم .
موضوع الحديث:حكم الصوم في السفر
المفردات
قوله كنا نسافر : هذه الجملة تدل على الاستمرار على ذلك وكثرة وقوعه .
قوله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - :بيان لما قد يتوهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم ذلك أو لم يكن في زمنه .
قوله فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم: لم نافية للفعل يعب أي لم يعب هذا على هذا ولا هذا على ذاك.
المعنى الإجمالي
يخبر أنس بن مالك رضي الله عنه أنهم كانوا يسافرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فمنهم من يصوم في حال سفره ومنهم من يفطر ولم يعب أحد منهم على أحد أي ولا عاب ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث دليل على جواز صوم رمضان في السفر قال ابن دقيق العيد من حيث أنه جعل الصوم في السفر بعرض كونه يعاب على عدمه أي بجانب كونه يعاب على عدمه . قال الصنعاني أقول يشير بالجواز إلى خلاف بين الصحابة فقال جماعة لا يجوز وإن صام رمضان في السفر قضاه في الحضر فعن محرز بن أبي هريرة قال صمت رمضان في السفر فامرني أبو هريرة أن أعيد في أهلي وعن عمرو بن دينار قال سمعت رجلاً من بني تميم يحدث عن أبيه أنه صام رمضان في السفر فأمره عمر أن يقضيه قال وعن مولى بني هاشم عن ابن عباس من صام رمضان في السفر لا يجزيه رواه أبو إسحاق الشالنجي ذكره ابن تيمية في شرح العمدة كتاب فقه الحنابلة.(3/191)
قلت : ما ذكر عن بعض الصحابة إن صح عنهم فهو اجتهاد منهم يعارضه الصحيح الصريح من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذنه وتقريره وهذا هو الأرجح إن شاء الله تعالى .
ويؤخذ منه أنه إذا جاز ذلك في رمضان جاز في غير رمضان من صيام النافلة وبالله التوفيق .
[186] الحديث الثالث: عن أبي الدرداء (1) رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبدالله بن رواحة .
موضوع الحديث : الصوم في السفر أي صوم رمضان في السفر
المفردات
قوله في شهر رمضان هذه الجملة أو شبه الجملة بيان أن ذلك وقع في رمضان حتى لا يتوهم خلاف ذلك
قوله في حر شديد :أي في زمن حر شديد وجملة حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر حتى للغاية وفيها إيذان بشدة الحر كثيراً
قوله وما فينا صائم وما هنا نافية بمعنى ليس أي ليس فينا أحد صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبدالله بن رواحة.
المعنى الإجمالي
يخبر أبو الدرداء رضي الله عنه أنهم خرجوا في سفر في شهر رمضان وكان ذلك في حر شديد حتى إنه من شدة الحر ليضع الرجل يده على رأسه ليقي رأسه بيده من شدة الحر وما فيهم صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبدالله بن رواحة .
فقه الحديث
__________
(1) أبو الدرداء اشتهر بكنيته واختلف في اسمه والأكثر أنه عويمر وهل ابن عامر أو ابن عبد الله أو غير ذلك فيه خلاف وهو أنصاري خزرجي أسلم يوم بدر وتوفي بالشام سنة 32 وكان قاضياً في دمشق وهو أول قاض قضى فيه الكاشف (4391) التقريب 5263 .(3/192)
يؤخذ من الحديث جواز صوم رمضان في السفر وفي هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام في رمضان في السفر فاجتمع منه فعل الصوم كما في هذا الحديث وإجازته له كما في حديث حمزة الأسلمي حيث قال إن شئت فصم وتقريره عليه كما في حديث أنس فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم فتبين من هذا أن الصوم جائز ولكن تقييده بالقدرة وعدم المشقة هذا هو الأولى للحديث الآتي (..َ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ )
وقد ذهب إلى جواز الصيام في السفر الجمهور وخالف في ذلك الظاهرية كما خالفوا في الإتمام وقالوا أن من صلى تماماً في السفر بطلت صلاته وهنا قالوا بأن صيام رمضان في السفر لا يصح وخالفهم عامة أهل العلم والقول بالجواز مقيداً بالقدرة وعدم المشقة هذا هو الحق إن شاء الله إلا أن الفطر أفضل كما أن القصر أفضل أخذاً برخصة الله عز وجل وفي حديث يعلى بن أمية (.. صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ..) (1) وبالله التوفيق . ملحوظة : اختلف في رمضان المذكور في هذا الحديث إذ أنه لم يعرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر في رمضان إلا مرتين مرة في غزوة بدر ومرة في غزوة الفتح وذكر عبد الله بن رواحة في هذا الحديث يعينها لغزوة بدر ذلك لأن غزوة الفتح كانت بعد استشهاد عبدالله بن رواحة حيث قتل في غزوة مؤته وهي قبل الفتح اتفاقا وبالله التوفيق .
[
__________
(1) مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب صلاة المسافرين وقصرها رقم 686 والترمذي في كتاب تفسير القرآن سورة النساء رقم 3034 والنسائي في كتاب تقصير الصلاة في السفر باب تقصير الصلاة في السفر 1433 وأبو داود في كتاب الصلاة باب صلاة المسافر رقم 1199 وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة باب تقصير الصلاة في السفر رقم 1065 وأحمد في مسند العشرة والدارمي في كتاب الصلاة باب قصر الصلاة في السفر .(3/193)
187] الحديث الرابع: عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : صائم قال : (( ليس من البر الصوم في السفر)).
وفي لفظ لمسلم : ((عليكم برخصة الله التي رخص لكم )).
موضوع الحديث : حكم الصوم في السفر
المفردات
فرأى زحاماً :أي أناساً قد اجتمعوا في مكان فتزاحموا فيه .
قوله ورجلاً قد ظلل عليه : أي جعل عليه شيئاً من الظل بثوب أو نحوه لفرط المشقة عليه من حرارة الشمس وكثرة العطش
فقال : الضمير يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هذا استفهام عن الزحام الذي حصل قالوا صائم :أي صائم شق عليه الصيام فسقط
قال ليس من البر الصيام في السفر وفي لفظ لمسلم عليكم برخصة الله التي رخص لكم أي الفطر في السفر
المعنى الإجمالي
يروي جابر بن عبدالله أنهم كانوا في سفر فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فسأل عنه فأخبر بأنه صائم قد سقط من شدة الصيام عليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس من البر الصيام في السفر وأنه قال عليكم برخصة الله التي رخص لكم أي فخذوها واغتنموها .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث أولاً : جواز الصيام في السفر لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه
ثانياً: يؤخذ منه أن الصيام في السفر يكون له حكم الكراهة إذا شق على صاحبه مشقة لا تبلغ به إلى حد الخطر ويشعر بهذا قوله ليس من البر الصيام في السفر .
ثالثاً : يؤخذ من هذا الحديث بطريقة المفهوم أنه إذا بلغت المشقة بالصائم في السفر حد الخطورة فانه يحرم عليه الاستمرار في الصوم ويجب عليه وجوباً أن يفطر .(3/194)
رابعاً :يؤخذ من قوله عليكم برخصة الله التي رخص لكم أن الفطر في السفر يستحب لأن كلمة عليكم إغراء بالرخصة وإن الأخذ بها واغتنامها أفضل من الصوم فهي تيسير من الله ورحمة بعباده وأن الأخذ برخص الله التي شرعها أفضل من الأخذ بالعزيمة لأن من أخذ بالعزيمة وترك الرخصة كأنه قد ردّ يسر الله ورحمته وقال لا حاجة لي فيه وفي ذلك ما فيه وقد قال تعالى (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) [الحج : 78 ] أما تعريف الرخصة فقد عرفت أنها ما أبيح للعذر مع بقاء الحكم فمثلاً الفطر في السفر رخصة والصيام عزيمة فالعزيمة باقية وهو وجوب الصوم على من لم يكن مسافراً وأبيح الفطر للمسافر رحمة من الله بعباده وتيسيراً عليهم وبالله التوفيق .
[188] الحديث الخامس :عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر قال : فنزلنا منزلاً في يوم حار وأكثرنا ظلا صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده قال : فسقط الصّوّام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ذهب المفطرون اليوم بالأجر )) .
موضوع الحديث :الصيام في السفر
المفردات
قوله وأكثرنا ظلاً صاحب الكساء : المراد بالكساء هنا الثياب وما في معناها من البسط وغيرها التي يستظل بها عند الحاجة وتتخذ فراشاً في الليل
قوله ومنا من يتقي الشمس بيده : أي يجعل يده على رأسه لعدم وجود الثياب معه
فسقط الصّوام : السقوط عبارة عن عدم الاستطاعة لمزاولة أعمالهم
قوله وقام المفطرون وضربوا الأبنية :الأبنية هي ما يجعله المسافر خباء ليتقي به حرارة الشمس وسقوا الركاب أي الإبل وما في معناها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ذهب المفطرون اليوم بالأجر ) أي حازوه اكثر من الصوام بقيامهم بخدمة الصوام
المعنى الإجمالي(3/195)
شرع الله الرخص في الأحكام التي يترتب عليها مشقة رحمة بعباده فمن أخذ بهذه الرخص حاز الفضيلة لأنه أخذ بالأحكام الشرعية كل حكم في موضعه ولما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصاحبونه في السفر وشدة رغبتهم في العبادة تحملهم على الصوم فيه وقد يؤدي بهم ذلك إلى المشقة فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن المفطرين الذين يقومون بخدمة الصوام يحوزون الأجر أكثر وهذا فيه الحث على الأخذ بالرخص .
فقه الحديث
أولاً : تقدم في الحديث قبله أن الصوم في السفر له أحكام فإن كان شاقاً على صاحبه مشقة تمنعه عن مزاولة أعماله بالكلية ولا تعرضه للخطورة فهو جائز مع الكراهة أما إن بلغت المشقة بالصائم في السفر إلى حد الخطورة على نفسه فانه يجب عليه حينئذ أن يفطر وإلا فإنه يعد قد قتل نفسه ويبقى معنا فيما إذا كان الصيام غير شاق على المسافر كالمسافر في الطائرة أو السيارة مع وجود المكيف فهذا يكون الحكم فيه بالأفضلية هل الأفضل الصوم أو الفطر فإن كان يشق عليه التأخير أكثر من مشقة الصيام استوى الصوم والفطر وإن كان لا يشق عليه التأخير كان الفطر أفضل أخذا بالرخص
ثانياً :يؤخذ من هذا الحديث أن خدمة النفس أفضل من العبادات التطوعية لقوله ذهب المفطرون اليوم بالأجر لا سيما والخدمة في السفر لها قيمة عظيمة وقد كان بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأظنه أبو أيوب الأنصاري كان إذا صحب رفقة في السفر شرط عليهم أن يخدمهم وقد جاء في الحديث ( سيد القوم خادمهم ) (1)
ثالثاً :يؤخذ من هذا الحديث ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفقر والحاجة والتقلل من الدنيا وحب العبادة . وبالله التوفيق.
__________
(1) الحاوي للفتاوى للسيوطي 2/101 مشكاة المصابيح 392 كنز العمال 17516/17518 كشف الخفاء 561/562 وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة برقم 1502 وفي ضعيف الجامع الصغير رقم 3323 ورقم 3324 .(3/196)
ملحوظة : باعتبار أنّا قد تعرضنا لحكم الصوم في السفر وبينا أحكامه فانه يبقى معنا موضوع واحد وهو متى يجب الفطر على الصائم في السفر ؟ والجواب يجب عليه الفطر في حالتين أما إحداهما فهي عند تعرضه للخطورة كما قد مضى وأما الحالة الثانية فإنه يجب على من سافر للجهاد يجب عليه أن يفطر إذا دنا لقاء العدو وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْهمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ ) (1) فهذه هي الحالة الثانية.
[189] الحديث السادس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يكون علىّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان .
موضوع الحديث : قضاء الفائت من رمضان وأن وقته موسع
المفردات
قولها يكون علىّ الصوم من رمضان : أي ديناً لما يفوت بعذر الحيض
قولها فما أستطيع : ما نافية وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول لم أستطع أي فما أستطيع قضائه إلا في شعبان.
إلا : استثنائية
المعنى الإجمالي
تخبر عائشة رضي الله عنها أنه يكون عليها الصوم أي قضائه فما تستطيع القضاء إلا في شعبان من أجل اشتغالها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث مسائل
__________
(1) مسلم في كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية رقم 1114 والترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في كراهية الصوم في السفر رقم 710 والنسائي في كتاب الصيام باب في ذكر اسم الرجل رقم 2263 .(3/197)
أولاً : أن القضاء وقته موسع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم تأخير عائشة فيقرها عليه وذلك دليل على أن القضاء لا يتضايق وقته إلا إذا قرب رمضان
ثانياً :يؤخذ منه أن ما كان موسعاً قبل شعبان فانه يكون مضيقاً فيه وبالأخص إذا لم يبق من شعبان إلا قدر عدة الفائت
ثالثاً :إذا أخر المكلف إلى أن يدخل رمضان آخر بدون عذر ومع وجود الاستطاعة فانه في هذه الحالة يأثم وهل عليه إطعام إذا قضى بعد رمضان الثاني هذا محل خلاف بين أهل العلم فمنهم من أوجب الإطعام أخذاً بفتاوى لبعض الصحابة في الموضوع ومنهم من قال لا يصح فيه شئ ولا يلزم المكلف شئ في ذلك .
قلت : أن التهاون والتفريط مع وجود الاستطاعة حتى يدخل رمضان آخر يكون موجباً فيما نظن ولعل الذين أفتوا بالإطعام نظروا من هذا الناحية ليكون هذا الإطعام ساداً للنقص الذي حصل بالتأخير والله تعالى أعلم
رابعاً : يؤخذ من الحديث أن المرأة يجب عليها أن تستأذن زوجها في القضاء إذا كان وقته ما زال موسعاً نظراً إلى أن عائشة كانت تؤخر الصوم من أجل الشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالله التوفيق .
[190] الحديث السابع :عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )).
وأخرجه أبو داود وقال هذا في النذر وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله
موضوع الحديث :النيابة في الصوم
المفردات
من مات : من: من أدوات العموم .
قوله وعليه صيام :أي صيام واجب
صام عنه وليه: أي قضى عنه ثم ذكر مؤلف العمدة أنه أخرجه أبو داود وقال هذا في النذر وهو قول أحمد بن حنبل
المعنى الإجمالي
تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يصوم الولي عن الذي عليه شئ من رمضان أو كفارة أو نذر لأنه يعمه الواجب
فقه الحديث(3/198)
يؤخذ من هذا الحديث أن من مات وعليه صوم واجب لزم وليه أن يصوم عنه قال الحافظ وإلى ذلك ذهب أصحاب الحديث وعلق الشافعي القول في القديم على صحة الحديث كما نقله البيهقي عنه في المعرفة وهو قول أبي ثور وجماعة من محدثي الشافعية وقال البيهقي في الخلافيات هذه المسالة ثابتة ولا أعلم بين أهل الحديث خلافاً في صحتها فوجب العمل بها . قلت : وإذا كان الحديث قد ثبت فليس هناك عذر لأحد من المسلمين عن الأخذ به وقد ذهب الجمهور إلى أن الواجب الإطعام وعللوا ذلك بأن الصوم عبادة بدنية فلا تدخلها النيابة كالصلاة وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى تخصيص الحديث بالنذر دون غيره وهو يوافق سائر الفقهاء في الإطعام عما فات من رمضان إلا أن الحديث عام في هذه المسألة فيدخل فيه كل صوم واجب لإشعار كلمة عليه بالوجوب فيدخل في ذلك الفائت من رمضان والكفارة والنذر وهذا القول هو الذي ينبغي الأخذ به فإن تعذر صوم الولي رُجِعَ إلى الإطعام وللفقهاء في هذه المسالة كلام كثير وأخذ ورد والصحيح في نظري هو ما دونته هاهنا أما قول الفقهاء بأن الصوم عبادة بدنية فلا تدخلها النيابة فهذا كان ينبغي أن يقال لو أن القائل لهذا القول هو من ليس بمعصوم أما إذا كان قائل هذا هو المشرع فكيف نتجرأ أن نقول أن الصوم عبادة بدنية إلا أن يكون هذا سوء أدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أنه كذلك فليس لأحد مع قوله قول ولا مع سنته رأي . وبالله التوفيق(3/199)
ملحوظة:أولاً: الولي المذكور في الحديث هو الوارث على القول الأصح أي من يباشر الإرث من الميت لأنه هو المقدم في الميراث فكذلك يقدم في الالتزام وأداء ما وجب على المورث فإن وجد ابن أو أخ والابن بالغ عاقل ليس عنده ما يمنع من قيامه بالأداء أدى عن وليه وهكذا يقال عند تزاحم الأولياء يقدم المباشر للإرث فإن كان المباشر للإرث جماعة وتشاحوا أقرع بينهم أو وزع الصوم عليهم إذا كان كثيراً فإن وزع عليهم الصوم لزم أن يصوم كل واحد منهم تلو الآخر لأن القضاء يحكي الأداء أي كما أنه لا يمكن لو كان حياً أن يصوم يومين فكذلك لا يمكن أن يصوم يعني في يوم عن الولي الهالك في يوم واحد اثنان فأكثر
ثانياً : الصوم الذي يجب قضاءه هو الذي يفوت بالمرض ثم يصح هذا المريض بعد رمضان فلا يقضيه حتى يموت أما إن استمر به المرض في رمضان وبعد رمضان ولم يقلع عنه حتى مات ففي هذه الحالة لا يلزم على الولي قضاء . وبالله التوفيق.
[191] الحديث الثامن: عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ قال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم قال: ((فدين الله أحق أن يقضى )).
وفي رواية جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ فقال : (( أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان ذلك يؤدي عنها ))؟ فقالت : نعم قال : (( فصومي عن أمك )).
موضوع الحديث :قضاء الصوم الواجب عن الميت
المفردات
قوله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر :الجملة في قوله وعليها صوم شهر حالية لأن الواو واو الحال فكأنه قال والحال أنها عليها صوم شهر .(3/200)
قوله أفأقضيه عنها الهمزة هنا للاستفهام الطلبي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضى وفي رواية المرأة أن الميتة عليها صوم نذر قالت إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفاصوم عنها والاستفهام هنا كذلك طلبي فقال أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته أو فقضيتيه أكان ذلك يؤدي عنها فقالت نعم قال فصومي عن أمك .
المعنى الإجمالي
هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل من قبل رجل أو امرأة أن أم السائل ماتت وعليها صوم شهر وفي الرواية الأخرى نذر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه يؤدي ذلك عنها وكانت النتيجة أنه أمر السائل بقضاء ما وجب على أمه قياساً لحق الله على حق الآدمي .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث أولاً :أنه يجب على ولي الميت الذي مات وعليه صوم لله رب العالمين أنه يلزم الولي قضاءه كما يلزمه قضاء الدين الذي وجب للمخلوقين .(3/201)
ثانياً: اختلف أهل العلم في هذا هل يلزم الولي قضاء الصوم أو يلزمه الإطعام فذهب الجمهور إلى أنه لا يلزم الولي القضاء ولكن يجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً كما هو المعلوم في حق الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة اللذان لا يستطيعان الصوم أنه يطعم عنهما فكذلك يطعم عن الميت وذهب الإمام أحمد إلى تقييد ذلك بالنذر وأنه يلزم الولي القضاء إذا كان الصوم نذراً ولا يلزمه إذا كان قضاء للفريضة أو كان كفارة أما الشافعي فقد علق القول بالحديث على صحته ولما صح أخذ به أصحابه وقالوا أنه يلزم الولي قضاء كل صوم واجب واستدل على ذلك بأن ترك الإستفصال في قضايا الأحوال مع وجود الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال وهذا القول هو الصحيح في نظري لأن التقييد بالنذر لا يلزم منه منع غيره وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال للسائل أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي عنها قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضى ولم يستفصل هل كان ذلك الصوم من رمضان أو كان نذراً أو كان كفارة فعدم استفصاله - صلى الله عليه وسلم - عن نوعية الوجوب مع استدلاله بأن دين المخلوقين إذا قضاه الولي يقضي وأن النتيجة أنه أمر السائل بالقضاء من غير أن يسأله عن نوعية الوجوب فدل على أنه يلزم الولي قضاء كل صوم واجب لأن الشارع لم يستفصل هل كان نذراً أو غير نذر وهل كان ذلك الواجب من رمضان أو كان كفارة وهذا معنى قوله في هذه القاعدة أن عدم الاستفصال في قضايا الأحوال مع وجود الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ومثل ذلك عدم استفصاله - صلى الله عليه وسلم - للسائل الذي وقع على امرأته في رمضان هل هي كانت مطاوعة أم لا إذ لو سأل لكان في ذلك دليل على أن الكفارة للصوم تلزم المرأة إذا كانت مطاوعة أما كونه لم يسال هذا السؤال فانه يدل على التعميم في هذا الحكم وأن الكفارة واقعة عن الاثنين لأن العملية لا تتم إلا بالاشتراك بينهما وكانت النتيجة أن ما كان كذلك من(3/202)
القضايا ينزل منه عدم الاستفصال منزلة العموم ولهذا يتضح على أن قول الشافعي رحمه الله أو بالأحرى قول الشافعية وهو العمل بهذا الحديث وأن من مات وعليه صيام يقضي عنه وليه سواء كان الصوم من رمضان أو كفارة أو نذر وبالله التوفيق.
[192] الحديث التاسع :عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)) .
موضوع الحديث :أفضلية تعجيل الفطر
المفردات
لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر: الخيرية هنا متعلقة بتعجيل الفطر أي ما داموا متصفين بتعجيل الفطر
المعنى الإجمالي
يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن المحافظة على هذه السنة وهي تعجيل الفطر بعد تيقن الغروب هي السبب في خيرية من فعل ذلك من هذه الأمة وهو تمسكهم بالسنة التي ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها أمته وأمرهم بالمحافظة عليها .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ منه أفضلية تعجيل الفطر على تأخيره .
ثانياً :يؤخذ منه أن تأخير الفطر سواء كان التأخير إلى أن يظهر النجم أو إلى السحر أنه خلاف الأفضل إلا إذا كان التأخير بنية المواصلة المأذون فيها .
ثالثاً :فيه رد على الشيعة في قولهم بأن الفطر ينبغي أن يؤخر إلى أن تظهر النجوم .
رابعاً :يؤخذ منه أن المواصلة إلى السحر التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فمن كان منكم مواصلاً فليواصل إلى السحر) أنها خلاف الأفضل وأن الأفضل للمسلم الفطر عند الغروب والتسحر في وقت السحر ليبقى الإنسان محتفظاً بقوته الجسمية والعقلية لكي يؤدي دوره في هذه الحياة ويكون نشيطاً في أداء جميع الوظائف المتعلقة به .
[193] الحديث العاشر :عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - ((إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا [وغربت الشمس ] فقد أفطر الصائم )).
موضوع الحديث : ما يكون الإنسان به مفطراً أو ما يجوز به الفطر(3/203)
المفردات
إذا أقبل الليل من هاهنا :إذا حرف شرط غير جازم وجملة أقبل الليل من هاهنا فعل الشرط وأدبر النهار معطوف عليه
قوله فقد أفطر الصائم أي قد حل له الفطر بدخول وقته أو قد أفطر حكماً وان لم يفطر شرعاً وهو جواب الشرط .
المعنى الإجمالي
علق النبي - صلى الله عليه وسلم - فطر الصائم على إقبال الليل وإدبار النهار وذلك يكون بمغيب الشمس أما لو وقعت الظلمة لسبب يندر وقوعه فإنه لا يكون مفطراً بذلك
فقه الحديث
أخذ من هذا الحديث أن الفطر للصائم يكون بإقبال الليل وإدبار النهار وغروب الشمس وذلك موافق لقوله تعالى (.. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ .. ) [البقرة : 187 ] وعلى هذا فإن رواية وغربت الشمس تكون مقيدة للإقبال والإدبار بالغروب فلو حصل ما يشبه الليل من الظلمة بتراكم سحاب أو وجود ريح أو ما أشبه ذلك ففي هذه الحالة لا ينبغي للصائم الإفطار إلا بعد أن يتيقن الغروب وفي وقتنا الحاضر فقد منّ الله على الناس بالساعات التي تضبط الوقت ويعرف بها حقيقة الأوقات وقد ذهب قوم إلى أن قوله وقد أفطر الصائم أنه يفطر حكماً ولو لم يفطر فعلاً إلا أن هذا القول يضعف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل ونهى عن الوصال فلما أبى أصحابه إلا أن يواصلوا واصل بهم يومين كالمنكل بهم ثم رأوا الهلال فلو كان من غربت عليه الشمس أفطر حكماً لما كان للوصال معنى ومن هذا يتبين ضعف هذا القول لذلك فقد ذهب الجمهور إلى أن الفطر لا يكون إلا بالفعل ومثل ذلك قول ابن عباس (أن من طاف بالبيت فقد حل) (1)
__________
(1) البخاري في كتاب المغازي باب حجة الوداع رقم 4396 ومسلم في كتاب الحج باب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام رقم 1244.(3/204)
يعني أن من كان قارناً أو مفرداً وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فإنه يعتبر قد حل من إحرامه وإن لم يحل فعلاً وهذا خلاف ما جرى عليه الجمهور الذين يعتبرون الحل بالحلق والتقصير بعد كمال الطواف والسعي فهذه المسألة شبيه بتلك ومذهب الجمهور في المسألتين هو الصحيح إن شاء الله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من طاف وسعى ولم يسق الهدي بالتحلل فلو كان مجرد الطواف والسعي لمن لم يسق الهدي حلاً لأخبرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اتضح ضعف قول من قال أن غروب الشمس يكون مُفَطِّراً للصائم ولو لم يفطر وبالله التوفيق
[194] الحديث الحادي عشر: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال قالوا : إنك تواصل ؟ قال : (( إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقى)).
ورواه أبو هريرة وعائشة وانس بن مالك .
ولمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (( فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر )).
موضوع الحديث : النهي عن الوصال
المفردات
الوصال لغة : مأخوذ من الوصل وهو الوصل بين شيئين ولما كان الصوم مشروعاً بالنهار فإذا صام الليل الذي يفصل بين اليومين مع صيام اليوم الثاني فقد واصل الصيام
قوله قالوا إنك تواصل : أي قال الصحابة لما نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال قالوا إنك تواصل قال إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقى فاخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعلة الفارقة بينه وبينهم .
قوله فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر : هذا أمر من الشارع - صلى الله عليه وسلم - أي إذا أراد أحد منكم الوصال فله أن يواصل إلى السحر ولا يكون في ذلك عاصياً ولا داخلا في النهي .
المعنى الإجمالي(3/205)
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عن الوصال رحمة بهم وإشفاقاً عليهم ولكن الصحابة لمحبتهم للفضل وحرصهم على ما يقرب من الله رغبوا في الوصال تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في كونه يواصل وقالوا إنك تواصل فأخبرهم بأنه له مطعم يطعمه وساق يسقيه بما يعوضه عن الطعام والشراب ولكن من أراد منكم الوصال فله أن يواصل إلى السحر
فقه الحديث
يؤخذ من هذا النهي كراهة الوصال وقد اختلف أهل العلم في ذلك فنقل عن بعضهم التحريم ونقل عن بعضهم الكراهة وفرق بعض أهل العلم بين من شق عليه ومن لم يشق عليه فجعلوه مع المشقة حراماً ومع عدم المشقة مكروهاً ولعل هذا هو الأقرب ولما كان العبد مكلفاً بأوامر ونواهي يجب عليه أن يؤديها فإن الوصال يترتب عليه ضعف الجسم عن أداء هذه الواجبات بل أن مواصلة الصوم يترتب عليه هذا الضعف الشديد الذي يمنعه أداء تلك الواجبات أو الإخلال بها فلذلك كره .(3/206)
ومما يدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه عن عبدالله بن عمرو أنه يقوم الليل ويصوم النهار ذهب إليه وسأله عن صحة ما بلغه فقال نعم فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تفعل إنك إذا فعلت نفهت النفس وهجمت العين وإن لزوجك عليك حقاً ولزورك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه ) (1) ومعلوم أن الوصال أشد من مواصلة الصوم مع الإفطار في الليل والأكل والشرب فيه وعلى هذا فإن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال نهي لهم عما يشق عليهم ويعنتهم فأداء الحقوق الزوجية وأداء الحقوق الأسرية وأداء الحقوق التي تلزم بالجوار وغيرها كلها مترتبة على اكتمال القوة الجسمية والعقلية معاً فإذا أجهد الإنسان نفسه في جانب وكانت قوته محدودة أخل بالجوانب الأخرى فكان الشارع حكيماً في نهيه وليس ببعيد عنا ما حصل لأبي الأسلت أو أبي أنس قيس بن أبي صرمة حين كان من نام بعد المغرب حرم عليه الطعام وأنه لما رجع من مزرعته قال لامرأته هل عندك من طعام قالت ألتمس فذهبت تعد له الطعام ورجعت وإذا به قد نام فقالت لك الخيبة حرم عليك فواصل صومه وفي اليوم الثاني عند انتصاف النهار واشتداد الحر أغمي عليه (2)
__________
(1) البخاري في كتاب الصوم باب حق الجسم في الصوم رقم 1975 وفي باب حق الأهل في الصوم رقم 1977 ورواه مسلم في كتاب الصوم باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به رقم 1159 والنسائي في كتاب الصيام باب صوم يوم وإفطار يوم رقم 2391 .
(2) رواه البخاري في كتاب الصوم باب قول الله عز وجل ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) رقم 1915 والترمذي في كتاب تفسير القرآن في باب ومن سورة البقرة رقم 2968 وأبو داود في كتاب الصوم باب مبدأ فرض الصوم رقم 2314 والنسائي في كتاب الصيام باب تأويل قول الله تعالى ( وكلوا واشربوا حتى يتبين ...) رقم 2168 وأحمد في مسند الكوفيين والدارمي في كتاب الصوم باب متى يمسك المتسحر عن الطعام والشراب رقم 1693 .(3/207)
وإذا كان الأمر كذلك فإن رحمة الله بنا خير مما نريده لأنفسنا فإذا صام الإنسان إلى المغرب فإذا غربت الشمس أفطر فأكل وشرب أخذ قوته بتغذية جسمه ثم أعاد الأكل والشرب عند السحر وحينئذ يكون قد تقوى بأخذ الزاد في هذه المحطات ويكون العبد قد أتى بهذه العبادة وأدّى الواجبات الأخرى من غير إخلال بها ولا نقص فيها أما ما يروى عن عبدالله بن الزبير والإمام أحمد بن حنبل أنهم واصلوا سبعة أيام أو ثمانية أو أكثر فهذه حالات نادرة بالنسبة لأناس قد يكون أن أجسامهم تتحمل ذلك وأما الأنبياء فشأنهم في ذلك غير شأننا لأن لهم قوة على العبادة أكثر منا وأن الله يعينهم بما أعطاهم من كمال القوى الجسمية والعقلية وعلى ذلك يحمل قوله إني أبيت عند ربي لي طاعم يطعمني وساق يسقيني فلو كان الطعام طعاما عادياً أو شراباً عادياً لما كان للوصال معنى ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقى) وفي رواية ( أبيت يطعمني ربي ويسقيني)(1) ويذكر عن موسى عليه السلام أنه صام شهراً فلما قرب الميعاد تناول شيئاً من حشائش الأرض حتى لا يناجي ربه ورائحة فمه كريهة فأمره ربه أن يعود وأن يواصل عشرة أيام ثم يأتي وقال يا موسى أما تعلم أن رائحة فم الصائم عندي أطيب من المسك ، وإن كانت القصة اسرائيلية إلا أن الآية ربما تدل عليها حيث يقول تعالى (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف : 142 ]
__________
(1) البخاري باب الوصال رقم 1961/1962/1963/1964 ورواه مسلم في باب النهي عن الوصال رقم 1102 /1103/1104/1105 (( النجمي))(3/208)
فهل يستطيع أحد من البشر أن يصوم ثلاثين يوماً مواصلة إلا أن يجعل الله فيه ما يعينه على ذلك بإعطائه قوة جسمية وعقليه وإلى هذا أشار بقوله - صلى الله عليه وسلم - إني أطعم وأسقى والذي يتلخص لنا من هذا أن الوصال مكروه وتزيد الكراهة شدة في حق من لا يحتمل الوصال أو كان يشق عليه أكثر وأن الوصال إلى السحر جائز من غير كراهة وإنما قلنا هذا مع وجود النهي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل بأصحابه يومين بعد النهي فكان فعله صارفاً للنهي من التحريم إلى الكراهة . وبالله التوفيق .
باب أفضل الصيام وغيره
[195] الحديث الأول : عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أقول :والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أنت الذي قلت ذلك ؟ )) فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي قال : (( فانك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر وقم ونم وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر)) قلت : إني لأطيق أفضل من
ذلك قال : (( فصم يوماً وأفطر يومين )) قلت : أطيق أفضل من ذلك قال : ((فصم يوماً وأفطر يوماً فذلك مثل صيام داود وهو أفضل الصيام)) فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال : ((لا أفضل من ذلك )).
وفي رواية قال : ((لا صوم فوق صوم أخي داود - شطر الدهر - صم يوماً وأفطر يوماً))
موضوع الحديث :أفضل الصيام وهل الأفضل هو كثرة العمل أو إصابة السنة
المفردات
قوله أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أقول ...الخ المخبر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أبو عبدالله وهو عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
قوله والله لأصومن النهار ولأقومن الليل هذا قسم يؤكد به على نفسه صيام النهار وقيام الليل ما عاش فهذا يكون كالنذر .
قوله أنت الذي قلت ذلك : هذا خطاب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن عمرو .(3/209)
قوله قد قلته : هذا إعتراف من عبدالله بن عمرو بما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قوله بأبي أنت وأمي : أي أفديك بأبي وأمي
قوله فانك لا تستطيع ذلك : أي لا تستطيع الوفاء به .
فصم وأفطر : الفاء لعلها تعليلية أي فمن أجل عدم الاستطاعة على ما ألتزمت به صم وأفطر
قوله فإن الحسنة بعشر أمثالها : الفاء هنا تعليلية وذلك مثل صيام الدهر أي بدون تضعيف قلت فإني أطيق أفضل من ذلك أي أتحمله وأقدر عليه .
قوله وهو أفضل الصيام : يدل على تفضيله على غيره
فقلت إني أطيق أفضل من ذلك : قال لا أفضل من ذلك نفي للأفضلية وأكده بقوله لا صوم فوق صوم أخي داود أي لا صوم أفضل .
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن عبدالله بن عمرو ألزم نفسه بقيام الليل وصيام النهار ما عاش فذهب إليه وقبل أن ينهاه قرره بما قال فأقر وبعد أن أقر وجهه إلى ما هو أفضل لأنه إنما فعل ذلك طلباً للأفضل .
فقه الحديث(3/210)
المسالة الأولى : يؤخذ من هذا الحديث النهي عن صيام الدهر وقد اختلف فيه أهل العلم فمنعته الظاهرية أي قالت بتحريمه للأحاديث الواردة في ذلك كقوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا صام من صام الأبد )(1) أو (من صام الأبد فلا صام ولا أفطر) (2) وقال بجوازه مالك والشافعي والمسألة فيها خلاف وأخذ ورد بين الفريقين وكل يحتج على قوله بحجج ربما كانت مقنعة في نظره والذي ظهر لي : بعد قراءة أقوالهم وأدلتهم أن صوم الدهر منهي عنه وما نهى عنه متردد بين الكراهة والتحريم فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن صيام الدهر قال لا صام ولا أفطر أو ما صام ولا أفطر وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن عمرو لما حصلت بينهما المراجعة والمحاورة إلى صيام يوم وإفطار يوم فقال عبدالله بن عمرو وأطيق أفضل من ذلك فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أفضل من ذلك ومن هنا يقال هل الأفضلية معتبرة بكثرة الصوم أو معتبرة بإصابة الحق ومتابعة الشارع - صلى
__________
(1) البخاري في كتاب الصوم باب حق الأهل في الصوم رقم 1977 ومسلم في كتاب الصوم باب النهي عن صوم الدهر رقم 1159 والنسائي في كتاب الصيام باب في ذكر الاختلاف على عطاء في الخبر فيه رقم 2373 وابن ماجه في كتاب الصيام باب ما جاء في صيام الدهر رقم 1706
(2) بهذا اللفظ رواه النسائي في كتاب الصيام باب النهي عن صيام الدهر رقم 2374 ورقم 2377وابن ماجه في كتاب الصوم باب ما جاء في صيام الدهر رقم 1705 ومسلم بلفظ ( فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ قَالَ لا صَامَ وَلا أَفْطَر) رواه في كتاب الصيام باب النهي عن صوم الدهر والترمذي في كتاب الصيام باب ما جاء في صوم الدهر رقم 767 وأبو داود في كتاب الصوم باب في صوم الدهر تطوعاً رقم 2425 وأحمد في مسند المدنيين والدارمي في كتاب الصوم باب النهي عن صيام الدهر رقم 1744 بنحوه (صححه الألباني)(3/211)
الله عليه وسلم - الذي وصفه الله بقوله تعالى(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : 128] والحق أن الأفضلية هي في متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست بكثرة العمل ولا شك أن الشارع حكيم في إيراده وإصداره وأمره ونهيه وأن الخير هو فيما أمر به ودل عليه وإن التشديد على النفس في فضائل العبادات منهي عنه في الشرع ففي الحديث ( المنبت لا سيراً قطع ولا ظهراً أبقى) (1)
__________
(1) ذكره الحافظ في الفتح بلفظ (لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ) ج 9 ص 105 سطر 24 ولم يعزه وما ذكرته رواية أحفظها من زمن (( النجمي))(3/212)
ولما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت عائشة ووجد عندها امرأة فقال من هذه قالت فلانه تذكر من صلاتها قال ( مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا ... ) (1) وبهذا يتبين أن الأفضلية ليست في كثرة العمل ولكن في إصابة السنة والله تعالى أعلم وقد تبين من ما ذكرت أن الشارع حكيم في النهي عن صوم الدهر وأن من صام الدهر استفرغ قوته في جانب واحد وأخل بالجوانب الأخرى وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن عمرو ( فإنك لا تستطيع ذلك ...) وذلك أن من قام الليل وصام النهار لا بد له من سهر الليل كله ويحتاج إلى جزء كبير من النهار ينام فيه وبذلك ستتعطل مصالح الشخص والله قد جعل النهار للمعاش والليل للراحة فإن فعل ذلك شخص تتوفر له الراحة بسبب الغنى فانه لا يستطيع الآخرون على فعله وأحب الدين إلى الله أيسره وأفضل العمل ما دوم عليه وإن قل . ثم إن هذا الغنى المخدوم لو أراد أن يفعل ذلك فانه سيخل بالسنن فيجعل الليل يقظة والنهار نوماً وانقطاعاً .
__________
(1) البخاري في كتاب الأيمان باب أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه رقم 43 وفي كتاب الجمعة باب ما يكره من التشديد في العبادة رقم 1151 وفي كتاب الصوم باب صوم شعبان رقم 1970 واللباس باب الجلوس على الحصير ونحوه رقم 5862 ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره رقم 782 ورقم 785 والنسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار في الاختلاف على عائشة في قيام الليل رقم 1642 وفي كتاب الإيمان وشرائعه أحب الدين إلى الله رقم 5035 وفي كتاب القبلة باب المصلي يكون بينه وبين الإمام ستره رقم 762 وابن ماجه في كتاب الزهد باب المداومة على العمل رقم 4238 وأحمد باقي مسند الأنصار .(3/213)
وستأتي عليه أزمنة يحتاج فيها إلى الشغل في النهار ولو كان جهاداً في سبيل الله فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فإنك لا تستطيع ذلك) إخبار عن المشقة الحاصلة على من فعل ذلك مشقة ليست بهينة ودين الله الذي أوحاه إلى رسله هو ما جمع فيه العبد بين عبادة ربه وحظوظ نفسه وذلك يحصل بثلاثة أيام من الشهر وقيام جزء من الليل وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرهط الذين قال بعضهم إني أصوم فلا أفطر وقال بعضهم إني أصلي فلا أنام وقال بعضهم إني لا أتزوج النساء أو لا أنام على فراش أو لا آكل اللحم فلما بلغه - صلى الله عليه وسلم - قام في أصحابه خطيباً فقال ما بال أقوام يتنزهون عن العمل أعمله فوالله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له وإني لأصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء وفي رواية وأنام على الفراش وفي رواية وآكل اللحم ومن رغب عن سنتي فليس مني وبهذا يتبين على أن الأفضلية هي بمتابعة هديه - صلى الله عليه وسلم - والتأسي بسنته وليست بكثرة العمل هذا هو القول الفصل فيما أرى في هذه المسالة التي اختلفت فيها أنظار العلماء وكثر فيها الأخذ والرد وأرجو أن ذلك هو الصواب لما يحتف به من الأدلة وبالله التوفيق .(3/214)
المسألة الثانية : قال ابن دقيق العيد كره جماعة قيام كل الليل لرد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك على من أراده وأقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ذلك على عبدالله بن عمرو في هذا الحديث وما في معناه وأيضاً إن رده على الرهط الذين قال أحدهم إنه يصلي فلا ينام وقال بعضهم أنه يصوم فلا يفطر ..الحديث فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيباً فحمد الله وأثنى عليه فقال (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) (1)
وفي حديث عائشة قالت ( دخل علىّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندي امرأة فقال من هذه قلت فلانه وسميت في بعض الروايات الحولاء بنت تويت تذكر من صلاتها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا ) (2)
__________
(1) البخاري في كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح رقم 5063 ومسلم في كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه رقم 1401 والنسائي في كتاب النكاح باب النهي عن التبتل رقم 3217 والدارمي في كتاب النكاح باب النهي عن التبتل بنحوه رقم 2169 .
(2) سبق تخريجه(3/215)
وفي قصة سلمان مع أبي الدرداء إلى غير ذلك كل هذا يدل على أن التشديد على النفس زيادة على اللازم أنه لا ينبغي للمسلم وكما تقدم أن العبد مطالب بواجبات أخرى فلنفسه عليه حق الراحة ولعياله عليه حق طلب الرزق ولزوجته عليه حق المعاشرة ولزواره عليه حق الانبساط والجلوس معهم وكل هذه الحقوق لا يستطيع الإنسان على أدائها إذا أخذ نفسه في العبادة بالشدة المتناهية التي تقطعه عما يجب عليه ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن عمرو( إنك إذا فعلت ذلك نفهت النفس وهجمت العين ) وإن الله سبحانه وتعالى عاب الرهبانية على أهل الكتاب فلا ينبغي للمسلمين أن يكونوا كذلك وقد تبين أن أخذ الإنسان نفسه بشيء من الجد حيث يجمع بين قيام جزء من الليل لا يمنعه عن الوظائف الأخرى وبين أداء ما يجب عليه هذا هو الحق إن شاء الله وبالله التوفيق.(3/216)
المسألة الثالثة :قوله إنك لا تستطيع ذلك يطلق عدم الاستطاعة بالنسبة إلى الشاق على الفاعل في قوله وعليها ذكر الاحتمال في قوله ( وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) [البقرة : 83] فحمله بعضهم على المستحيل حتى أخذ منه جواز تكليف المحال وحمله بعضهم على ما يشق وهو الأقرب أهـ . قلت : إن نفي الاستطاعة هنا إما أن يقصد به المحال الذي لا يتصور وقوعه كتكليف الإنسان بأن يطير في الهواء بدون آلة تحمله والأمر الثاني التكليف بما يشق فأما التكليف بالمحال مطلقاً فالظاهر أنه لا يجوز في الشرع لأن الله أرحم بعباده من أن يكلفهم بالمحال وأما الثاني فإن الله عز وجل قد استجاب لأصحاب نبيه لما حصل منهم من الإيمان فأنزل الرحمة في قوله ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) [البقرة : 83 ]ومن هنا يتبين أن الله عز وجل رحم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يكلفهم بما يشق عليهم مشقة تؤثر في حياتهم فمثلاً التكليف بما فيه مشقة أو عدم استطاعة تارة تكون عدم الاستطاعة ذاتية كتكليف المريض أن يصلي قائماً وتارة تكون عدم الاستطاعة مالية فلم يكلف الله الفقير بالحج عند العجز عن أدائه لعدم وجود المال الذي يستطيع به الأداء وتارة تكون عدم الاستطاعة لوجود المعارض الذي تحصل به المشقة الكبيرة على العبد وهذا أي ما هو مقصود هنا وهو قيام الليل كله منع لوجود المشقة فيه وعدم الاستطاعة عليه باعتبار أن الله سبحانه وتعالى جعل الناس مختلفين فهذا يحتاج إلى كسب وهذا يحتاج إلى النوم في الليل ليتقوى به فمن أجل ذلك أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على من كلف نفسه بهذه المشقة التي قد عوفي منها ويكفي فيها قيام جزء من الليل ولو قليلاً وصيام جزء من الزمن وليس هناك أفضل مما أرشد إليه بصيام ثلاثة أيام وقيام ما لا يمنع العبد عن متطلباته الأخرى وبالله التوفيق
المسألة الرابعة:يؤخذ منه استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر .(3/217)
المسألة الخامسة :في قوله إن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر هذا متأول على التضعيف وهو تضعيف الحسنة بعشر أمثالها وهو أن التضعيف في حق أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيحصل للإنسان ثواب صيام الدهر من دون أن يكلف نفسه بما يشق عليها
المسالة السادسة :أن من ترك رخصة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بد أن يندم فهذا عبدالله بن عمرو مع إصراره على الإكثار من الصلاة والصيام وعدم قبوله للرخصة التي عرضها له النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه قد ندم على ذلك حين كبرت سنه وضعف جسمه فينبغي للمسلم أن يقبل رخصة الله عز وجل التي جعلها لعباده وبالله التوفيق
[196] الحديث الثاني : عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن أحب الصيام إلى الله صيام داود وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوماً ويفطر يوما )).
موضوع الحديث :أفضلية الصيام
المفردات
إن أحب الصيام إلى الله صيام داود :جملة إن أحب الصيام إلى الله جملة خبرية مؤكدة بإن وخبرها صيام داود وهو خبر إن وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كذلك جملة خبرية مؤكدة بإن لأنها معطوفة على التي قبلها .
قوله كان يقوم نصف الليل هل المراد به نصف الليل كله أو ما بعد العشاء لأن ما قبل العشاء لا يعد محلاً للقيام فلا يحسب منه وإذا كان الأمر كذلك فإن الإعتبار في النصف والثلث والسدس إنما هو لما كان بعد العشاء
قوله وكان يصوم يوما ويفطر يوما بمعنى أنه يصوم نصف الدهر
المعنى الإجمالي
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن أحب الصيام إلى الله وأحب القيام إليه فجعل أحب الصيام إلى الله صيام يوم وإفطار يوم وأحب القيام إلى الله قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه ونوم سدسه بعد قيامه .
فقه الحديث(3/218)
أولاً: يؤخذ من هذا الحديث أن أحب الصيام إلى الله صيام داود وهو صيام نصف الدهر بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً .
ثانياً : وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل القيام قيام ثلث الليل وهو أن ينام نصفه ويقوم ثلثه وينام سدسه .
ثالثاً : أن الأفضلية معتبرة بخبر الشارع لا بكثرة العمل على الأصح إذ أن الفضيلة حكم شرعي لا طريق إلى الوصول إليه بالعقل أما كثرة العمل مع مخالفة السنة فهي لا تعد فضيلة على الأصح والله سبحانه وتعالى قد أخبر عن قوم أنهم يتعبون أنفسهم في العمل ومع ذلك يكونون يوم القيامة من أهل النار قال تعالى (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ - عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ - تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً - تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) [الغاشية : 1-5 ]
فإن قيل إن هذه الآيات نزلت في أقوام يعملون على غير شرع قلنا إن من يريد أن يصل إلى معرفة الفضيلة بعقله له من هذه الآيات نصيب إذ أنه قد حصل منه شئ من الخطأ وعلى هذا فإن الواجب علينا أن نسلم الأفضلية للشرع سواء كانت هذه الأفضلية في الكمية أو الكيفية هذا ما يظهر لي من هذا النص والله تعالى أعلم وقد أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد في قوله والكلام فيه كالكلام في الصوم من تفويض مقادير المصالح والمفاسد إلى صاحب الشرع قال الصنعاني بعد نقله أقول هذا حسن جداً فإنه إذا نص الشارع على أفضلية شيء فليس لنا أن نعارضه بالرأي بأن في غيره مصلحة أو أنه أكثر أجراً لزيادة المشقة أهـ .
رابعاً : يؤخذ من كونه ينام سدس الليل الأخير أنه يكون أبعد عن الرياء وأنشط للعبد حتى يستقبل صلاة الفجر والأذكار بعدها بنشاط قلت : وهذا استنباط حسن والله أعلم
[197] الحديث الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث :صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام(3/219)
موضوع الحديث: أفضلية صيام ثلاثة أيام من كل شهر .
المفردات
أوصاني : الوصية هي كلام جميل يحث به الموصي من أوصاه على شيء ما والوصية مأخوذة من الوصي وهو الوصل إذ أن الموصي وصل حياته بموته لأنه أمر الموصى إليه بأن يعمل بتلك الوصية بعد الموت فهو من وصيت الحبل بمعنى وصلته لأنه أراد بهذه الوصية وصل حياته بموته
قوله خليلي : أوضح صاحب الحاشية أن الخلة المرادة هنا من جانب واحد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تنصل من كل خلة للمخلوقين لتكون خلته خالصة لربه فقال (لو كنت متخذا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخي وصاحبي) (1)
قوله صيام ثلاثة أيام من كل شهر : هذا حث على أقل ما يمكن ومثله ركعتي الضحى والوتر قبل النوم
المعنى الإجمالي
أخبر أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصاه بثلاث خصال وهي صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى والوتر قبل النوم .
فقه الحديث
__________
(1) البخاري في كتاب الصلاة باب الخوخة والممر في المسجد رقم 466 ورقم 467 وفي كتاب المناقب باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر رقم 3654 ورقم 3656 ورقم 3657 ورقم 3658 ورقم 3904 باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور رقم 532 وفي كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بكر رقم 2382 ورقم 2383 والترمذي في كتاب المناقب باب مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه رقم 3660 وابن ماجه في المقدمة باب في فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقم 93 والدارمي في كتاب الفرائض باب قول أبي بكر في الجد بنحوه رقم 2910 .(3/220)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث مشروعية صيام ثلاثة أيام من كل شهر وهو مخير بين أن يجعلها في الأيام البيض وبين أن يصوم الثلاثة الأيام أحياناً مبتدأً بالأربعاء ثم الخميس ثم الجمعة أو مبتدأً بالأحد ثم الاثنين ثم الثلاثاء والكل قد ورد وبين أن يصومها على حسب ما يتهيأ له كل ذلك جائز .
ثانياً: قوله وركعتي الضحى الخلاف في مشروعية سبحة الضحى كثير فاخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يسبح الضحى قالت وإني لأسبحها فنفي عائشة رضي الله عنها هذا قد يدل على عدم الاستحباب ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في هذا الحديث يدل على الشرعية أما نفي عائشة رضي الله عنها فيمكن أن يحمل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يسبحها في البيت بل كان يخرج إلى أصحابه في المسجد فيسبحها فيه وعائشة لا تعلم وبهذا تجتمع الأدلة ومما يدل على مشروعيتها قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ) (1)
أما كم تشرع فالأقل ركعتين كما في هذا الحديث وأكثرها ثمان استدلالاً بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة ونزل في بيت أم هانئ فصلى ثمان ركعات ومن قال أكثرها اثنتي عشر ركعة فقد اعتمد على أحاديث ضعيفة .
__________
(1) مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب صلاة الأوابين حين ترمض الفصال رقم 748 وأحمد في مسند الكوفيين والدارمي في كتاب الصلاة باب صلاة الأوابين رقم 1457 .(3/221)
ثالثاً : يؤخذ من قوله وأن أوتر قبل أن أنام استحباب الوتر قبل النوم ولكنه محمول على حالة خاصة وهو أن يكون العبد ممن لا يستطيع القيام آخر الليل فالمستحب له أن يوتر قبل النوم أما إن كان ممن يثق من نفسه بالقيام فالأفضل له التأخير لأن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على الذين يقومون الليل في آيات كثيرة كما في قوله تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون ) [السجدة : 16 ] وكما في قوله تعالى ( كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) [الذاريات : 17] إلى غير ذلك وبالله التوفيق .
[198] الحديث الرابع :عن محمد بن عباد بن جعفر قال : سألت جابر بن عبدالله أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة ؟ قال : نعم .
وزاد مسلم : ورب الكعبة .
موضوع الحديث: النهي عن صوم يوم الجمعة
المفردات
قوله أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا استفهام طلبي عن صوم يوم الجمعة قال نعم أي نهى عن صومه وزاد مسلم ورب الكعبة وهذا اليمين تأكيد أكد به ما سئل عنه
المعنى الإجمالي
لما كان يوم الجمعة يوم عيد للمسلمين نهى الشارع عن تخصيصه بصيام أو قيام إلا أن يصوم يوماً معه قبله أو بعده .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ منه كراهة تخصيص يوم الجمعة بصيام وجواز صومه إذا صام معه يوماً قبله أو بعده .(3/222)
ثانياً : ليس هناك ما يدعو إلى البحث عن علة النهي فيما أرى بل يجب على المكلف الامتثال وقبول ما جاء به الشارع بدون بحث عن العلل لأنّا نؤمن أن الشارع مبلغ عن الله عز وجل وإذا علمنا أن هذه الأوامر والنواهي هي من الله إبتداء ومن رسوله تبليغاً وأداءً فإن الواجب علينا امتثال ما ورد سواء عرفنا علة ذلك أو لم نعرفها فما على المكلف إلا الامتثال والإيمان بأن الشارع لا ينهى إلا عن ما فيه شر ولا يأمر إلا بما فيه خير للمكلفين وكفى بذلك إيماناً ووقوفاً مع النصوص .
ثالثاً :ذهب الجمهور إلى كراهة تخصيص يوم الجمعة بالصيام وليلة الجمعة بالقيام وإن اختلفوا في العلة وممن حكي عنه هذا المذهب من الصحابة علي بن أبي طالب وأبو هريرة وسلمان الفارسي وأبو ذر رضي الله عنهم أجمعين . قال الصنعاني في العدة بعد نقل كلام ابن المنذر ولا مخالف لهم من الصحابة وذهب الجمهور إلى أن النهي للتنزيه وعن مالك وأبي حنيفة أنه لا يكره صومه ولعل هذين الإمامين لم يبلغهما النص في النهي عن ذلك أو بلغهما وكانا متأولين إلا أننا نقطع ببطلان ما ذهبا إليه لمخالفته للنصوص والله تعالى أعلم .
رابعاً :إذا وافق يوم الجمعة يوماً ندب الشارع إلى صومه كيوم عرفة ويوم عاشوراء فإنه حينئذٍ يكون صومه جائزاً بلا كراهة بل مستحباً لأنه إذا صامه المكلف لسبب من هذه الأسباب انتفى التخصيص الذي هو منهي عنه وبانتفائه تنتفي الكراهة سواءً قلنا هي كراهة تحريم أو تنزيه والله تعالى أعلم .
[199] الحديث الخامس :عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده .
موضوع الحديث :النهي عن تخصيص الجمعة بصيام .
المفردات
لا يصومن : لا ناهية ويصومن فعل النهي في محل جزم مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وأحدكم فاعل يصومن ويوم الجمعة مفعول .(3/223)
إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده : الاستثناء هنا هو استثناء من النهي وبه يتخصص النهي بما إذا أفرد يوم الجمعة وقد تقدم الكلام على معنى هذا الحديث في الحديث السابق قبله وبالله التوفيق .
[200] الحديث السادس :عن أبي عبيد مولى ابن أزهر - واسمه سعد بن عبيد- قال : شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما : يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر : تأكلون من نسككم .
موضوع الحديث: النهي عن صيام يومي العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى
المفردات
شهدت العيد مع عمر بن الخطاب : أي حضرت والقائل هو أبو عبيد سعد بن عبيد فقال الضمير يعود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما : هذان تثنية الإشارة ورفع على الابتداء واليومان مضافان إليه وجملة نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما خبر للمبتدأ
يوم فطركم : بدل من اليومين من صيامكم واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم والمقصود بالأول يوم عيد الفطر وبالثاني يوم عيد الأضحى .
المعنى الإجمالي
جعل الله عز وجل للمسلمين يومين هما عيدان للمسلمين وكل منهما مرتبط بشعيرة دينية فيوم عيد الفطر مرتبط بتمام الصيام فكان الواجب على المسلم أن يفطر هذا اليوم شكراً لله عز وجل على تمام نعمة الصوم وإظهاراً لنعمة الفطر التي أمر الله بها بعد الصوم قال تعالى ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الذاريات : 17] وأما اليوم الثاني فهو يوم عيد الأضحى وهو مرتبط بشعيرة الحج فمتى أفاض الناس من عرفات إلى مزدلفة في ليلة العاشر ثم انتقلوا من مزدلفة إلى منى كان هذا اليوم يوم عيد شكراً لله على تمام أغلب مناسك الحج وأفضلها وهو يوم عرفة فوجب على المسلم إفطار هذين اليومين وحرم عليه صومهما .
فقه الحديث(3/224)
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث تحريم صوم العيدين والجمهور يقولون بتحريم صوم هذين اليومين حتى ولو كان نذراً تعلق موجبه في ذلك اليوم كمن نذر أن يصوم يوم قدوم زيد أو صبيحة يوم قدوم زيد فقدم زيد في ليلة العيد فالجمهور يقولون وجب النذر ويصوم يوماً بدل يوم العيد وأبو حنيفة يرى صيام يومي العيد إذا خصهما بالنذر وقوله هذا مصادم للنصوص لذلك فإنه يجب علينا أن نعتقد بطلان هذا القول وأن نعتقد تحريم صوم العيد ومتى وجب بالنذر انتقل الصوم من يوم العيد إلى يوم آخر وكان المكلف بذلك مؤدياً وبالله التوفيق .
ثانياً : قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما يؤخذ من هذا أن العيدين يوما أكل وشرب وفرح فلا يكون فيهما صيام ويؤخذ منه أن الأعياد في الإسلام المتعلقة بالسنة هما الفطر والأضحى لا غير وأن ما ابتدعه الناس من أعياد فهي أعياد باطلة لا يجوز للمسلم التجاوب معها بل الواجب على المسلم أن يخصص الأعياد بهذين اليومين فقط مهما انتحل لها من مسميات كعيد النصر وعيد الثورة ...إلخ ما يقال فهذه كلها أعياد باطلة وقد سبق أن أمليت عليكم شيئاً من منظومة صيحة حق .
وهو قول الناظم
أعيادنا ثلاثة فاثنان لسنة فطر وأضحى الثاني
وثالث يعتاد أسبوعياً خصيصة في ديننا تهيا
إلخ ما كتب هناك فليرجع إليه من شاء عند الحاجة وبالله التوفيق.
ثالثاً : إّذا دخل يوم العيد في صيام كفارة ككفارة الظهار أو الجماع في نهار رمضان أو قتل الخطأ فالأظهر من أقوال العلماء أنه يجب على المُكفِر فطر يوم العيد ويبدأ من بعده ولا يعد فطره للعيد إخلالاً بالتتابع نظراً لأنه خارج عن إرادة المُكفِر هذا هو القول الحق إن شاء الله في هذه المسألة وبالله التوفيق .
[(3/225)
201] الحديث السابع : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يومين الفطر والنحر وعن الصماء وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد وعن الصلاة بعد الصبح والعصر .أخرجه مسلم بتمامه وأخرج البخاري الصوم فقط
موضوع الحديث: موضوعه يدخل في باب الصوم من ناحية النهي عن صوم عيد الفطر وعيد النحر ويدخل في كتاب الصلاة والتستر لها وفي الآداب وفي النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر .
المفردات
الصماء :هي لبسة تشمل جميع الجسم فلا يظهر منه شئ . والصماء المنهي عنها أن يشتمل بثوب واحد يغطي به جميع جسده وفي هذه الحالة تكون يديه من داخل الثوب فإما أن يفضي بيده إلى عورته وهو في الصلاة وإما أنه يحتاج إلى رفع اليدين في الصلاة فتنكشف عورته إذا رفع يديه .
والإحتباء هو أن يجلس الرجل على مقعدته وينصب ساقيه ويجمع بينهما بثوب واحد والنهي عن الاحتباء بالثوب الواحد فقط من أجل أنه يفضي بفرجه إلى السماء .
المعنى الإجمالي
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الأربعة الأشياء لما في ذلك من المصلحة والأدب والتعامل الصحيح مع الله ثم مع خلقه .
فقه الحديث
أولاً:يؤخذ من هذا الحديث تحريم صوم يومي العيدين وقد تقدم الكلام على ذلك .
ثانياً :يؤخذ منه النهي عن اشتمال الصماء وقد سبق بيان الصماء وأنه التغطي بثوب واحد لجميع الجسم وأن النهي فيه من أجل أنه ثوب واحد وإذا كانت اليدين من داخله فلا يؤمن أن تفضي إلى فرجه والأمر الثاني أنه إذا أراد أن يرفع يديه انكشفت عورته إذاً فالنهي فيما إذا كان الاشتمال بثوب واحد فقط .
ثالثاً:النهي عن الإحتباء وقد تقدم تفسيره والعلة في النهي خشية أن يفضي بفرجه إلى السماء
رابعاً :النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر لأنهما وقت كراهة فينهى عن الصلاة فيهما وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في الجزء الأول بما أغنى عن إعادته هنا .
[(3/226)
202] الحديث الثامن:عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً )).
موضوع الحديث: فضيلة صوم التطوع
المفردات
قوله في سبيل الله : يحتمل أن المراد به صيام يوم تطوعاً أي ليس بواجب مع الإخلاص ، ويحتمل أن المراد به أن يكون في الغزو للكفار وهو الذي يطلق عليه في سبيل الله لكن يظهر أن هذه الفضيلة إن كان المراد بها في سبيل الله أي الجهاد فإنه يكون مقيداً بما لم يدن القتال لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عزم على المجاهدين حين اقترب من العدو أن يفطروا .
المعنى الإجمالي
فيه فضيلة لصيام التطوع إذا كان في الجهاد في سبيل الله .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ منه فضيلة الصيام تطوعاً إذا كان في الغزو أي في غزو الكفار .
ثانياً :يؤخذ منه أن العمل الذي يراد به وجه الله يكون له فضل عظيم وتأثير كبير فالمباعدة بين وجه الصائم وبين النار مسافة سبعين خريفاً هذا فضل عظيم وثواب كبير .
باب ليلة القدر
سميت ليلة القدر بهذا الاسم إما لأن تلك الليلة لها قدر وفضل ، وإما لأن مقادير أعمال العباد تقدر فيها ، وإما لأن من أحيا ليلها وصام نهارها صار ذا قدر عند الله وإما من التضييق لأن الملائكة في تلك الليلة تنزل إلى الأرض حتى تملأ الأرض ويحتمل أنها سميت بذلك ملاحظة لهذه الأمور كلها .
[203] الحديث الأول : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أُ روا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان منكم متحريها فليتحرها في السبع الأواخر).
موضوع الحديث: تعيين ليلة القدر
المفردات(3/227)
قوله أن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أُروا ليلة القدر: أي في النوم وذلك يدل على اعتنائهم بها وتعظيمهم لها وكثرة ارتباط عقولهم بذلك .
في السبع الأواخر : أي في السبع الأواخر من العشر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ومعنى قد تواطأت توافقت .
فمن كان منكم متحريها : التحري هو طلب الشيء بالنظر فيما يرجو به إصابة الحق.
المعنى الإجمالي
كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتبطون بالقرآن ومرتبطون بالقضايا الإسلامية ارتباطاً كلياً حتى تصير تلك القضايا جزءاً من حياتهم يتفكرون فيها في يقظتهم ويتراءونها في منامهم لا كما هو الحال في أهل زماننا في بعدهم عن القضايا الإيمانية وارتباطهم بالحياة الدنيا وملاذها وشهواتها لذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى رؤياهم قد توافقت على السبع الأواخر قال لهم من كان منكم متحريها فليتحرها في السبع الأواخر أما تفسير الرؤيا فهو أن الله سبحانه وتعالى يصور في قلب النائم تصورات يخلقها فيه بقدرة وحكمة لا نعلمها فهي الرؤيا التي يراها في النوم وقد اتضح من النصوص أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي :-
1- رؤيا من الله بواسطة الملك وهي المحمودة والممدوحة .
2- وحلم من الشيطان يصوره الشيطان .
3- وسوسة في اليقظة تجري على القلب في المنام .
فهذه أنواع الرؤيا وقد جاء في الحديث ( أن النبوة ستة وأربعون جزءاً وأن الرؤيا الصالحة منها ) (1) وفي الحديث أيضاً ذهبت النبوة ولم يبق إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له .
فقه الحديث
__________
(1) البخاري في كتاب التعبير باب الرؤيا من حديث أبي هريرة رقم 6988 بلفظ ( رؤيا المؤمن جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة ) وفي حديث أبي سعيد ( الرؤيا الصالحة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة ) أخرجه بعده برقم 6989 .(3/228)
أولاً:يؤخذ من هذا الحديث أن السبع الأواخر من العشر الأخيرة من رمضان هي أرجى ما يكون لليلة القدر وقد ورد ما يدل على أنها تتحرى في العشر الأواخر وفي الوتر منها وهذا أخص إذ أن السبع الأواخر تبدأ من ليلة أربع وعشرين لكن إذا قلنا أنها تتحرى في الوتر فهل الوتر معتبر بما مضى أو بما بقي فإن كان الوتر معتبراً بما مضى فإن ليالي رجاءها إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين . وإن قلنا أنها تعتبر بما بقي فإن ليلة اثنين وعشرين تاسعة تبقى وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى وست وعشرين خامسة تبقى وثمان وعشرين ثالثة تبقى . والخلاف في ليلة القدر هل هي في رمضان أو في الحول كاملاً وإذا قلنا أنها في رمضان فهل لها ليلة معينة أو أنها تنتقل في ليالي العشر وقد ذهب الجمهور إلى أنها في رمضان واختلفوا في مضنتها فمنهم من قال هي ليلة سبعة عشر التي في صبيحتها وقعت موقعة بدر ومنهم من قال هي ليلة إحدى وعشرين ومنهم من قال هي ليلة ثلاث وعشرين ومنهم من قال هي ليلة خمس وعشرين ومنهم من قال هي ليلة سبع وعشرين . وقد كان أبي بن كعب يقول أنها ليلة سبع وعشرين وعن ابن مسعود أن من قام الحول أصاب ليلة القدر وقد ذكر الحافظ ابن حجر الأقوال فيها وأوصلها إلى فوق الأربعين ثم اختلفوا هل هي معينة كما أشرنا في الخلاف سابقاً أو أنها تنتقل في ليالي رمضان وقد مال بعض أهل العلم إلى كونها تنتقل جمعاً للأدلة . والحديث في ذلك مختلف في التنصيص على بعض الليالي ولهذا رأى بعض هؤلاء أنها تنتقل في السبع الأواخر أو في العشر الأواخر جمعاً بين الأدلة .(3/229)
والقول الصحيح فيما يظهر أنها ليلة بعينها إذ لو كانت تنتقل لما كان لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أُريت هذه الليلة ثم أُنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين في صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر ) أي ما كان لقوله أُريت هذه الليلة ثم أُنسيتها فائدة لو كانت متنقلة وعلى هذا فالصحيح أنها معينة وأنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر بل في السبع الأواخر هذا ما تقتضيه الأدلة . وبالله التوفيق .
[204] الحديث الثاني :عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر )) .
أقول هذا الحديث شرحه وموضوعه قد دخل في شرح الحديث قبله إلا أن هذا الحديث أعم وذلك الحديث أخص والأخص مقدم على الأعم ولقائل أن يقول قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الوسطى من رمضان طلباً ليلة القدر وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحسبها في العشر الأوسط لعله تفقهاً من قوله تعالى ( ... يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ..) [الأنفال : 41 ] والتقاء الجمعين كان في يوم سبعة عشر من رمضان ثم إن الله عز وجل أخبره بأنها في العشر الأواخر بما أري من تواطئ رؤيا أصحابه فأمر بتحريها في العشر الأواخر ثم أمر بتحريها في السبع الأواخر.
والعمل على الأخص لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر بها عيناً أو أنه قد أخبر بها مؤخراً ثم أُنسيها لحكمة أرادها الله ولهذا قال في الحديث السابق أرى رؤياكم قد تواطأت على السبع الأواخر فمن كان متحرياً لها فليتحرها في السبع الأواخر .
[(3/230)
205] الحديث الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاماً حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين – وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه – قال : من اعتكف معي فليعتكف في العشر الأواخر فقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر . فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين .
موضوع الحديث :طلب ليلة القدر وأنها تطلب في العشر الأواخر وفي الوتر منها
المفردات
الاعتكاف : الاحتباس قال الله تعالى (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي محبوساً وفي الشرع هو لزوم المسجد للعبادة على وجه خاص .
قوله كان يعتكف : كان تدل على الاستمرار على ذلك عدة أعوام .
العشر الأوسط : كان الأولى أن يقول الوسطى والأوسط وصف للعشر بمجموعه ومجيئه بلسان الصحابة يدل على جواز ذلك في اللغة فهم أهلها والقرآن نزل بلغتهم
فالتمسوها :أي اطلبوها في العشر الأواخر التي يتم بها الشهر .
قوله والتمسوها في كل وتر : الوتر هو ضد الشفع وهو ما لا ينقسم على اثنين إلا بالكسر .
قوله فوكف المسجد : أي قطر الماء من سقفه يقال وكف الدمع إذا نزل .
قوله على جبهته : الجبهة هي أعلى الوجه وفي رواية وأرنبته وهي طرف الأنف الأعلى .
قوله أثر الماء والطين : أي مختلطاً مع بعضه .
المعنى الإجمالي:(3/231)
يخبر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان طلباً لليلة القدر وأنه اعتكف ذات مرة فلما كاد أن يخرج خطبهم وأخبرهم بأنه أتاه خبر من الله عز وجل بأن الذي تطلب أمامك فاستمر في الاعتكاف فاعتكف العشر الأواخر وأمر بالتماس ليلة القدر في العشر الأواخر بل في كل وتر منها وأنه قال إنه اعلم بتلك الليلة ثم أنسيها وأنه أري في رؤياه ورؤا الأنبياء حق أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين وأنه في ليلة إحدى وعشرين نزل المطر ووكف المسجد فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجد بين الماء والطين يقول أبو سعيد فلقد رأيت أثر الطين على أرنبته .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ من الحديث مشروعية الاعتكاف .
ثانياً : يؤخذ منه تأكده في رمضان لمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه .
ثالثاً :يؤخذ منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الوسطى من رمضان وكأنه كان يظن أن ليلة القدر فيها أخذاً من قوله تعالى ( ... يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ..) (1) والمراد به يوم بدر فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم من هذه الآية أن يوم بدر وقع في صبيحتها وكان في يوم 17 من رمضان .
رابعاً : يؤخذ منه أنه لما أراد أن يخرج من اعتكافه بتمام العشر الوسطى أتي فقيل له ما تطلب أمامك يعني ليلة القدر .
خامساً : أنه قال لأصحابه ( من اعتكف معي يعني في العشر الوسطى فليعتكف معي يعني في العشر الأواخر ) والمقصود فليواصل .
سادساً : يؤخذ من قوله فلقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها أن المصلحة الدينية في نسيانها ليجتهد الناس في طلبها فيكثروا من العبادة والأجر على قدر النصب .
سابعاً :يؤخذ من قوله ( ولقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين ) استدل به من رأى أنها ليلة إحدى وعشرين .
__________
(1) سبق تخريجه(3/232)
ثامناً : يؤخذ من قوله ( فالتمسوها في العشر الأواخر ) أن ليلة القدر في العشر الأواخر ويؤخذ منه بطلان القول بأنها في غيرها .
تاسعاً : يؤخذ من قوله والتمسوها في الوتر منها أنه تخصيص بعد تخصيص أي أن ليلة القدر في العشر الأواخر خاصة وفي الوتر من العشر الأواخر خاصة وهي ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين .
عاشراً : قال بعض أهل العلم الوتر يعتبر بما مضى فيكون ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين وهذا هو المتبادر إلى الذهن من كل الوتر ويعتبر بما بقي فيقال ليلة اثنتين وعشرين لأنها تاسعة تبقى وليلة أربع وعشرين لأنها سابعة تبقى وليلة ست وعشرين لأنها خامسة تبقى وليلة ثمان وعشرين لأنها ثالثة تبقى وأقول أنه لو كان الأمر على ذلك ما كان لقوله - صلى الله عليه وسلم - والتمسوها في الوتر منها فائدة إذ أن الوتر ضد الشفع والذي هو ضد الشفع واحد وثلاثة وخمسة ... إلخ . أما ما زعمه هذا القائل فهو يقع على الذي يعتبر شفعاً لأن العبرة بما مضى لا بما بقي . وبالله التوفيق .
باب الاعتكاف
[206] الحديث الأول : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده .
وفي لفظ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه
موضوع الحديث :الاعتكاف
المفردات
الاعتكاف : هو الاحتباس واللزوم للشيء فمن الاحتباس قول الله تعالى ( وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح : 25 ] أي محبوساً ومن اللزوم قول الله تعالى عن بني إسرائيل (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ) [طه : 91 ] وفي هذه الآية إخبار منهم بأنهم سيلازمون عبادة العجل إلى أن يرجع إليهم موسى عليه السلام .(3/233)
أما معنى الاعتكاف شرعاً : فهو لزوم المسجد بقصد العبادة فيه .
قولها حتى توفاه الله عز وجل : أي حتى مات .
ثم اعتكف أزواجه بعده : أي بعد موته .
قولها فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه : التعبير باعتكف هنا يدل على أنه كان بعد صلاة الغداة يدخل معتكفه لينفرد فيه لأن لفظ الماضي دال على ذلك .
المعنى الإجمالي
تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان إلتماساً لليلة القدر واجتهاداً في العبادة وأنه لازم ذلك حتى توفاه الله تعالى وأن أزواجه لازمن ذلك أيضاً بعد وفاته وأنه كان إذا صلى الفجر جاء مكانه الذي اعتكف وانفرد فيه للعبادة .
فقه الحديث
أولاً: يؤخذ منه مشروعية الاعتكاف في الجملة وهو أمر متفق عليه لكن اختلفوا من ذلك في مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا هل من شرط الاعتكاف أن يكون في المسجد الذي تصلى فيه الجمعة والجماعة أم ليس من شرطه ذلك فذهب الجمهور إلى أن من شرط الاعتكاف أن يكون في مسجد لكن خصصه جماعة قليلة بمساجد الأنبياء الثلاثة وهي مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس وخالفهم الجمهور فقالوا بجوازه في كل مسجد تصلى فيه الجمعة والجماعة واشترط بعضهم أن يكون في مسجد فيه جمعة وأجاز بعضهم الاعتكاف في مسجد جماعة وأجاز قوم للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهذا القول ضعيف والذي يترجح لي أنه إن دخل في اعتكاف الرجل الجمعة وجب في مسجد تقام فيه الجمعة وإن لم تدخل الجمعة في اعتكافه جاز في مسجد جماعة .(3/234)
المسألة الثانية : اختلفوا في جواز الاعتكاف للمرأة فذهب قوم إلى جوازه إذا أمنت الفتنة وذهب قوم إلى جوازه بشرط أن تكون المرأة مع زوجها ولكن هذا القول يرده ما ورد في الرواية الثانية من قولها ثم اعتكف أزواجه بعده والذي يترجح لي أن المرأة تمنع من الاعتكاف في المسجد وحدها إلا أن يكون معها محرم وبشرط ألا تضيق على الرجال المصلين في المسجد لأن المرأة مأمورة بالاحتجاب وعدم التبرج واعتكافها في المسجد وحدها أو مع محرمها أو زوجها مع الإضرار بالرجال المصلين في المسجد ومضايقتهم أن ذلك يختلف عما أمرت به ويعرضها للفتنة . أما زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمكانتهن في المجتمع الذي كن فيه انتفت الفتنة في حقهن لأنهن كلهن أمهات للمؤمنين والشرط الثالث أن تكون متسترة حتى لا يؤدي ذلك إلى افتتانها أو الافتتان بها .
المسألة الثالثة: اختلف أهل العلم هل من شرط الاعتكاف أن يتقدمه صوم أو يكون معه صوم فذهب قوم إلى أنه لا يصح الاعتكاف إلا بالصوم وذهب قوم إلى أنه ليس من شرط الاعتكاف الصوم بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يوفي بنذره والليل ليس محلاً للصوم فدل على أنه لا يشترط له الصوم .
المسألة الرابعة:اختلفوا في جواز قطع الاعتكاف إذا أراد قطعه بعد أن يدخل فيه فالجمهور أجازوه من دون إيجاب للقضاء وذهب جماعة إلى أنه يجوز بنية القضاء بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع اعتكافه بعد أن بدأ فيه ثم اعتكف العشر الأول من شوال. إلا أنه يعكر عليه كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى اعتكاف العشر الذي تركه والله أعلم .(3/235)
المسألة الخامسة : اختلف أهل العلم أيضاً في دخول المعتكف متى يكون فذهب الجمهور إلى أن من أراد أن يعتكف العشر يجب عليه أن يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من يوم العشرين لأن الليالي هي سابقة للأيام ومحسوبة منها وبذلك أخذ فقهاء الفتوى وذهب قوم إلى أن المعتكف يدخل معتكفه بعد صلاة الفجر من يوم إحدى وعشرين كما في رواية عائشة فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه إلا أن التعبير باعتكف الذي هو صيغة الماضي يدل على تأويل من قال أن المراد أنه يدخل معتكفه الذي اعتكف فيه لينفرد به فهذه العبارة لا تدل على أن دخوله هذا هو الدخول الأول في الاعتكاف وفرق بعضهم بين من نوى شهراً وبين من نوى يوماً والاحتمال وارد وبالله التوفيق.
المسألة السادسة :اختلف أهل العلم هل يجوز للمعتكف أن يعود المريض ويتبع الجنازة أم لا يجوز والظاهر عدم الجواز لهذه الأشياء إلا إذا اشترط المعتكف ذلك أما إذا لم يشترط فإن ذلك لا يجوز له بدليل قول عائشة رضي الله عنها وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان وقولها إني لأدخل البيت والمريض فيه وأنا معتكفه فلا أسأل عنه إلا وأنا مارة .
المسألة السابعة :قال الله تعالى ( وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) [البقرة : 187] وقد اختلف أهل العلم في المباشرة المقصودة في الآية هل هي الجماع فقط أو أنه يلتحق بالجماع غيره من أنواع التلذذ والظاهر أن الآية شاملة للجماع ومقدماته وقد ذكر بعض أهل العلم أن المسلمين كانوا في أول الإسلام الواحد منهم يذهب إلى بيته وهو معتكف فإذا لقي امرأته جامعها فنهاهم الله عز وجل عن ذلك وأخبر أن المباشرة تحرم بالاعتكاف بأي لون من ألوانها أي سواء كان جماعاً أو قبلة أوضمة وما إلى ذلك .(3/236)
ثانياً : ويؤخذ من حديث عائشة رضي الله عنها هذا أي من قولها كان يعتكف في العشر الأواخر أن هذا الأمر تكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى صار عادة مستمرة ولهذا قالت حتى توفاه الله عز وجل .
ثالثاً : ويؤخذ من قولها أيضاً ثم اعتكف أزواجه من بعده جواز الاعتكاف للنساء وقد تقدم الكلام على ذلك بما يغني عن إعادته .
رابعاً : يؤخذ من قولها في العشر الأواخر من رمضان أن الاعتكاف في رمضان سنة مؤكدة وفي غير رمضان سنة مستحبة وبالله التوفيق .
[207] الحديث الثاني :عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه . وفي رواية وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . وفي رواية : أن عائشة رضي الله عنها قالت إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة .
موضوع الحديث : أن الاعتكاف لا يبطل بخروج بعض البدن
المفردات
ترجل : الترجيل تسريح الشعر والتسريح يكون باليد أحياناً ويكون بالمشط أحياناً أخرى .
وهي حائض : الواو واو الحال وجملة وهي حائض جملة حالية أي والحال أنها في الحيض وكذلك وهو معتكف أيضاً الجملة حالية
قوله وهي في حجرتها :أي في المكان المحتجر لها وهو دارها لكونه يجاور المسجد
قوله يناولها رأسه : معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدلي إليها رأسه من الطاقة حتى ترجله أو تغسله أو تسرحه .
وقولها في الرواية الأخرى وكان لا يدخل البيت : أي في حال اعتكافه .
إلا لحاجة الإنسان : مستثنى وهو كناية عن المخرج للتبرز .
قولها إن كنت لأدخل البيت للحاجة : المقصود بالحاجة هنا ما كني عنه أولا .
والمريض فيه : الجملة حالية أي والحال أن المريض فيه .
فما أسال عنه : ما هنا نافية والجملة تساوي فلا أسأل عنه إلا وأنا مارة .
المعنى الإجمالي(3/237)
تخبر عائشة رضي الله عنها أنها كانت تخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض فترجل رأسه بحيث أنه يخرج رأسه إليها فترجله وهو في المسجد وهي في دارها لأنه ممنوع عليه الخروج من المسجد بالاعتكاف وممنوع عليها الدخول للمسجد بالحيض وتخبر أيضاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما يكون معتكفاً لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان وهو التبرز وأنها كانت تمر لحاجتها فلا تسال عن المريض إلا وهي مارة بمعنى أنها لا تتشاغل بالدخول عليه والزيارة له وبالله التوفيق.
فقه الحديث
أولاً:يؤخذ من هذا الحديث أن المعتكف لا يبطل اعتكافه بخروج بعض بدنه .
ثانياً :قيس عليه ما إذا كان العبد قد نذر ألا يدخل مكاناً ما فأدخل فيه بعض بدنه أنه لا يترتب عليه حنث ولا تجب عليه كفارة .
ثالثاً :أن الاعتكاف موجب لعدم الخروج من المسجد وأنه خروج بعضه لا يترتب عليه ما يترتب على خروج جميعه .
رابعاً :يؤخذ منه سنية اتخاذ الشعر للمسلم لكنه بشرط ألا يكون ذلك تشبهاً بغير المسلمين بل اتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
خامساً :فإن قيل كيف يعرف ذلك نقول يعرف بالقرائن فإذا ربى الإنسان شعراً وفرق من الوسط وأعفى لحيته وقص شاربه عرفنا أنه يريد السنة ومن أهل السنة والعكس بالعكس.
سادساً :يؤخذ من هذا الحديث أن من اتخذ شعراً ينبغي له أن يكرمه بالترجيل والدهن وما إلى ذلك .
سابعاً : يؤخذ من قولها وهي حائض جواز استخدام النساء في الحيض وأنه لا يمنع ذلك على المسلمين كما منع على بني إسرائيل .
ثامناً:يؤخذ من قولها وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان أنه يجوز خروج المعتكف من المسجد لقضاء حاجته في بيته وإن كان بعيداً عن المسجد .
تاسعاً : يؤخذ من هذا الاستثناء الحصر وأنه لا يجوز للمعتكف أن يذهب إلى البيت للأكل والشرب بل يؤتى به إليه .(3/238)
عاشراً :يؤخذ من قولها إلا لحاجة الإنسان أنه يجوز خروج المعتكف لما دعت إليه الضرورة من الحاجات التي لا تصح فيها الاستنابة أو ما أشبه ذلك .
الحادي عشر :إذا كان هذا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدم وجود مراحيض داخل حوائط المساجد أما الآن فبوجود هذه المراحيض ينتفي كون قضاء الحاجة لا يمكن أن يتمكن منها الإنسان إلا في بيته فإنه سيتمكن من قضاء الحاجة في مرحاض المسجد وعلى هذا فلا يجوز له الخروج إلى بيته .
الثاني عشر : في قولها إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فلا أسأل عنه إلا وأنا مارة يؤخذ من ذلك عدم مشروعية عيادة المريض للمعتكف ويقال أيضاً هذا في تشييع الجنائز إلا إذا اشترط كما تقدم وهذا رأي ابن تيمية رحمه الله تعالى قياساً على الاشتراط في الإحرام وبالله التوفيق .
[208] الحديث الثالث: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية : أن أعتكف ليلة – وفي رواية : يوماً – في المسجد الحرام؟ قال : (فأوف بنذرك).
ولم يذكر بعض الرواة ( يوماً) ولا ( ليلة) .
موضوع الحديث : هل يشترط للاعتكاف صوم أم لا
المفردات
إني كنت نذرت في الجاهلية :المراد بالجاهلية ما قبل الإسلام وعلى هذا فإن نذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا كان قبل إسلامه .
أن أعتكف ليلة : قد مرّ معنا الاعتكاف ليلة : أي في ليلة وفي رواية يوماً : أي في يوم في المسجد الحرام :المسجد الحرام ظرف مكان للاعتكاف واليوم أو الليلة ظرف زمان فيه .
قال فأوف بنذرك : المقصود أوف بمنذورك والنذر يطلق ويراد به المنذور .
المعنى الإجمالي
استفتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان نذر اعتكاف ليلة في المسجد الحرام في زمن الجاهلية وأنه أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوف بنذره .
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث مسائل(3/239)
أولاً : صحة النذر من الكافر إذ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نذر هذا النذر في الجاهلية ولم يوف به فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوفيَ بنذره وعلى هذا فيؤخذ من هذا الحديث صحة النذر من الكافر وهذا محل خلاف .
ثانياً :وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى أصولية وهو هل أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة كما هم مخاطبون بأصولها في هذه المسألة خلاف أيضاً والراجح أنهم مخاطبون بالفروع والأصول لأن الله أخبر عن الكافرين أنهم يسألون مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر : 42 - 43 ] الآيات وإطعام المسكين يعد من الفروع لا من الأصول وكذلك الصلاة على رأي من لا يرى تركها كفراً .
ثالثاً : إذا صح النذر من الكافر فهل يجب عليه الوفاء به وهل يصح منه الوفاء بالنذر الجواب لا يصح منه الوفاء به ما دام كافراً ويصح بعد الإسلام كما هو الحال في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .(3/240)
رابعاً : الرواية المشهورة ( أن أعتكف ليلة ) (1) وورد في رواية لمسلم يوماً ومن أجل الرواية الأولى استدل بالحديث على أن الصيام ليس شرطاً في الاعتكاف وقد اختلف الأئمة في هذه المسألة فذهب الشافعي وأحمد إلى أن الصيام ليس بشرط في الاعتكاف مستدلين على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى الاعتكاف في شوال (2)
__________
(1) البخاري في كتاب الإعتكاف باب الإعتكاف ليلاً برقم 2032 وفي باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم رقم 2043 وفي كتاب الأيمان والنذور باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنساناً في الجاهلية برقم 6697 كلها بلفظ ( ليلة ) ورواه في كتاب فرض الخمس باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من فرض الخمس ونحوه رقم 3144 بلفظ ( يوماً ) وفي كتاب المغازي باب قول الله تعالى ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً برقم 4320 ولم يقيد بيوم ولا ليلة .
(2) البخاري في كتاب الاعتكاف باب اعتكاف النساء رقم 2033 وفي باب الاعتكاف في شوال رقم 2041 وفي باب ضرب الأخبية في المسجد رقم 2034 وفي باب من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج رقم 2045 ومسلم في كتاب الاعتكاف باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه رقم 1173 والترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في الاعتكاف إذا خرج منه رقم 803 والنسائي في كتاب المساجد ضرب الخباء في المساجد رقم 709 وابن ماجة في كتاب الصيام باب ما جاء فيمن يبتديء الاعتكاف وقضاء الاعتكاف رقم 1771 ومالك في كتاب الاعتكاف باب قضاء الاعتكاف رقم 699 وأبو داود في كتاب الصوم باب الاعتكاف رقم 2464 ..(3/241)
ولم يرد أنه صام تلك الأيام التي قضى فيها الاعتكاف وفي حديث ابن عباس الذي رواه الحاكم في الاعتكاف ( قال ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ) (1)
خامساً :وقال مالك وأبو حنيفة يشترط للاعتكاف الصيام واستدل لهذا المذهب بحديث (اعتكف وصم يوماً ) وهو حديث ضعيف لأن في سنده عبدالله بن بديل بن ورقاء ويقال له ابن بديل بن بشر الخزاعي ويقال الليثي صدوق يخطئ من الثامنة .
وبحديث ( لا اعتكاف إلا بصيام ) وهو حديث ضعيف أيضاً لأن في سنده سفيان بن حسين بن حسن أبو محمد أو أبو الحسن ثقة في غير الزهري باتفاقهم من السابعة مات بالري مع المهدي وقيل في أول خلافة الرشيد روى له مسلم والأربعة أهـ.تقريب رقم 2437 . قلت : وإذا كان ثقة في غير الزهري فإنه في حديثه عن الزهري ضعف قال الحافظ باتفاق وحديثه هذا عن الزهري وعلى هذا فإن هذا الحديث ضعيف أيضاً أما حديث ابن عباس السابق فسنده على شرط مسلم كما قال الحاكم ووافقه الذهبي وعلى هذا فإنه لا يشترط للاعتكاف صيام على القول الصحيح
__________
(1) مستدرك الحاكم 1/439 وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ولفقهاء الكوفة حديثان لا يقاومان هذا الخبر في عدالة الرواة ورمز له الذهبي علامة مسلم (م) وقال وعارض هذا ما لم يصح (( النجمي)) .(3/242)
سادساً : يؤخذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ( أوف بنذرك ) وجوب الوفاء بالنذر حتى ولو كان قد حصل من كافر في حال كفره فإنه يجب عليه الوفاء بعد الإسلام وتقاس على ذلك القرب بل وفي ذلك حديث وهو حديث حكيم بن حزام أنه قال ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْر) (1) فإن قيل هذا في طاعات قدمها في حال كفره أما هذه المسألة فهي طاعة التزم فعلها في حال كفره وأسلم قبل الإتيان بها وأقول : إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب أوف بنذرك يدل على إنفاذ ما التزم به في حال كفره لكنه لو أنفذه في حال كفره لم يصح منه لأن من شرط الصحة الإسلام وكذلك القبول .
سابعاً : اختلف أهل العلم في جواز الاعتكاف أقل من يوم كامل ومن ليلة كاملة فأجازه بعضهم بالنية لأنه إذا جلس في المسجد ونوى اعتكاف ساعة اعتبر ذلك عباده
وخالف في ذلك آخرون ومنعوه والقول الأول فيما أرى هو الأصح لأن ما شرع أصله بيوم أو أكثر فلا مانع من شرعيته بأقل من يوم وبالله التوفيق .
[
__________
(1) البخاري في كتاب الزكاة باب من تصدق في الشرك ثم أسلم رقم 1436 وفي كتاب البيوع باب شراء المملوك الحربي وهبته وعتقه رقم 2220 وفي كتاب العتق باب عتق المشرك رقم 2538 وفي كتاب الأدب باب من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم رقم 5992 ومسلم في كتاب الأيمان باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده وأحمد رقم 123 .(3/243)
209] الحدث الرابع:عن صفية بنت حييّ (1)رضي الله عنها قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني – وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد – فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرعا في المشي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (على رسلكما إنها صفية بنت حييّ ) فقالا : سبحان الله يا رسول الله فقال : ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراَ ) أو قال (شيئاً ) .
__________
(1) صفية بنت حييّ : هي صفية بنت حييّ بن أخطب رضي الله عنها من شعب بني إسرائيل ومن ذرية هارون بن عمران عليه السلام الدليل على ذلك أنها لما تخاصمت مع إحدى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - فافتخرت تلك عليها فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - قولي أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليهم وسلم أراد الله بها خيراَ فسبيت يوم خيبر وكانت قد تزوجت بابن عم لها وقبل أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر فأصبحت تقص على زوجها فقالت له رأيت البارحة أن القمر سقط في حجري فلطمها حتى شج وجهها بالخاتم وقال تتمنين محمداً ملك العرب فلم تلبث إلا قليلا حتى أصبح الجيش على الأبواب فسبيت من جملة من سبي ويذكر أن دحية الكلبي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب جارية من السبي فقال اذهب فخذ واحدة أو أنها خرجت في نصيبه فقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حييّ لا تصلح إلا لك فأمر به فدعي له وقال دع هذه وخذ غيرها ثم أعتقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها وجعل عتقها صداقها توفيت في زمن معاوية رضي الله عنه .(3/244)
وفي رواية أنها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة ثم ذكره بمعناه .
موضوع الحديث: زيارة المرأة للمعتكف وخروجه معها ليؤنسها
المفردات
حييّ : بيائين مع ضم المهملة وفتح الياء الأولى وتشديد الثانية وهو كان رئيس بني النضير .
ثم قمت لأنقلب : أي لأعود
فقام معي ليقلبني : أي ليرجعني إلى بيتي
فلما رأيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرعا : أي حياءً من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه قائماً معه امرأته فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - على رسلكما : يعني على هينتكما امشيا بالرفق والتأني فأنها صفية بنت حييّ يعني زوجته .فقالا سبحان الله : تعجب يعني وهل يمكن أن يسبق إلى الوهم ظن السوء بك .فقال إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم : أي أن الله مكنه من ابن آدم فهو يدخل إلى القلب وإلى العروق .
وإني خشيت : أي خفت أن يقذف في قلبكما شراَ أي ظن سوء بي فتهلكان بسببي .
المعنى الإجمالي
تخبر صفية بنت حييّ رضي الله عنها أنها جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف في المسجد فتحدثت معه ساعة ثم قامت لتعود إلى بيتها فقام معها يشيعها ويؤنسها فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرعا فقال لهما على رسلكما أي تأنيا في المشي فإنما هي زوجتي صفية فقالا سبحان الله وهل يتطرق إلى الوهم ظن السوء بك فقال إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شراً فتهلكان بسببي .
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث
أولاً : جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف .
ثانياً : يؤخذ منه جواز التحدث معه وتحدثه معها .
ثالثاً : يؤخذ منه جواز تشييع المعتكف للزائر وتأنيسه بالكلام معه .(3/245)
رابعاً : يؤخذ منه الاحتراز عن هجوم الخواطر الشيطانية ذلك لأن الشيطان قد مكنه الله من الإنسان فهو يجري منه مجرى الدم بمعنى أنه يدخل في العروق أما دخوله في القلب وتمكنه منه ووسوسته إليه فذلك مما نطق به القرآن الكريم حيث يقول تعالى بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) [الناس : 1-6 ]
خامساً :يؤخذ منه أن الوسوسة الشيطانية لا تؤمن على العبد فإذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمن عليهم منها فغيرهم من باب أولى .
سادساً :أن الوساوس تنقسم إلى قسمين :1-وساوس عابرة فهذه لا يحاسب عليها العبد 2-وساوس ثابتة قد تؤدي بالإنسان إلى الشك فهذه الوساوس يجب على الإنسان أن يحاول قطعها عن نفسه بذكر الله عز وجل فإن الشيطان يخنس إذا ذكر الله فمن أحس بشيء من ذلك فليكثر من ذكر الله وقراءة القرآن وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولينفث عن يساره ثلاثاً ثم ليسال ربه أن يعيذه من الشيطان الرجيم والشاهد من الحديث لباب الاعتكاف زيارة المرأة للمعتكف وخروجه معها ليشيعها . وبالله التوفيق.
كتاب الحج
الحج لغة القصد(3/246)
وشرعاً : قصد مخصوص إلى محل مخصوص على وجه مخصوص أي قصد الكعبة والمناسك حولها لأداء فريضة الحج أو العمرة في أشهر الحج والعمرة داخلة في اسم الحج فإذا كان الحج هو القصد إلى بيت الله الحرام على وجه مخصوص بأن يتجرد من المخيط ويلبي فإن العمرة داخلة في ذلك بمعنى أن هذا الحد يشملها إلا أن الحج له زمن محدد والعمرة ليس لها زمن محدد بل كل الزمن وقت لها وقد اختلف في وقت فرضية الحج متى كانت على أقوال أرجحها عند الجمهور أنه فرض في سنة ست وقيل بعد ذلك وقد دندن الصنعاني رحمه الله على هذا الموضوع مما يدل أنه يرى أن فرضية الحج كانت متأخرة عن السنة السادسة وأقول : لا تنافي فإذا قلنا بأن الحج فرض في السنة السادسة وكانت مكة في ذلك الوقت تحت سيطرة الكفار فقد امتنع أداء الحج بعد الفرضية مباشرة لعدم تمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أداء الحج في ذلك الوقت وبعد فتح مكة فقد كانت العرب غيرت بالحج عما شرع الله على لسان إبراهيم عليه السلام فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطهر البيت من عوائد المشركين فأرسل أبا بكر في السنة التاسعة أميراً على الحج وفيه إشعار بولايته بعده على سبيل الإيماء لا التنصيص ثم أرسل على بن أبي طالب رضي الله عنه لينبذ عهد من له عهد من المشركين وليمنع المشركين من حج بيت الله الحرام وليمنعهم من الطواف بالبيت عراة وكانت من عادة العرب أن الذي يؤدي عن الرئيس أو الملك أو الأمير هو أقرب الناس إليه فأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك فلما تطهرت المناسك من المشركين وما أحدثوه وتهيأت الأمور حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عليه بعرفات (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًاْ) [المائدة : 3 ] ولم يعش بعد ذلك إلا بضعة وتسعين يوماً فقط ثم انتقل إلى جوار ربه صلوات الله وسلامه عليه والمهم أن كون فرضية الحج(3/247)
في سنة ست والتنفيذ في سنة عشر لا تنافي بينهما فقد تأخر التنفيذ لعدم إمكانه قبل ذلك لما يوجد من الموانع فلما أزيلت بادر - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج . وبالله التوفيق
باب المواقيت
[210] الحديث الأول : عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم. هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أوالعمرة .ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة .
موضوع الحديث: المواقيت المكانية
المفردات
قوله وقت : أي حدد فالتوقيت هو تحديد الشيء بالوقت سواء الوقت المكاني أو الزماني والمراد هنا المواقيت المكانية بالنسبة للحج والعمرة
ذا الحليفة : مكان يبعد عن المدينة ستة أميال وهو ما يشتهر باسم أبيار علي
قوله الجحفة : مكان قريب من رابغ وسميت الجحفة لأن السيل إجتحف أهلها في بعض الأزمنة وهي مهيعة وأهل العلم يقولون أنها تبعد عن مكة ثلاث مراحل .
قال ولأهل نجد قرن المنازل : قرن المنازل ويقال قرن الثعالب جبل ومكان معروف يشتهر اليوم بالسيل أو وادي السيل ويحاذيه وادي محرم لمن يأتي على طريق الهدى(3/248)
ولأهل اليمن يلملم : يلملم واد ينزل من جبال الطائف وبني سعد ويمر غرباً حتى يصب في البحر الأحمر وهل الاسم لهذا الوادي أو لجبل كان فيه في مكان يسمى بالسعدية ولقد بحثنا مع أهل تلك الجهة وسألنا فوجدناهم جميعاً يذكرون أن اسم يلملم هو اسم للوادي وليس للمكان الذي كان معروفاً من قديم الزمان ولقد كان قرر المفتي العام الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله قرر بأن يحاذى المكان المذكور بما يحاذيه على خط الإسفلت المعبد وخرجت لجنة وقررت مكاناً وعمل فيه مسجد ثم بعد ذلك اقتنع الشيخ حفظه الله بأن الوادي هو الميقات وأمر أن يعمل المسجد جنوبه وفعلاً نفذ هذا وكان بين التحديد الأول والثاني ما يزيد على عشرة كيلوات ذلك لأن الوادي يتعرج بعد السعدية إلى جهة الجنوب ثم يعتدل غرباً وأهل تلك المنطقة يسمون الوادي لملم بدون ياء وأخبرنا كثير منهم أن هذا الاسم لهذا الوادي من ضلوع الطائف كما يقولون إلى البحر .
قوله هن لهن : أي هذه المواقيت لأهل تلك الجهات ولقد أنكر ابن دقيق العيد رحمه الله لحوق ضمير المؤنث في لهن وقال الأصل أن يقال هن لهم أي لأهل تلك الجهات قال وقد ورد ذلك في بعض الروايات
قلت: وللرواية المشهورة محمل صحيح وهو أن يقال هن ضمير للمواقيت ولهن ضمير للجهات والمراد به أهلها
قوله ولمن أتى عليهن من غير أهلهن :أي أن تلك المواقيت لا تختص بأهل تلك الجهات والنواحي فقط بل لو أتى غيرهم عليها لزمه الإحرام منها .
قوله ممن أراد الحج أو العمرة : هذا تقييد للإطلاق للحج أو العمرة وأنه لا يلزم الإحرام إلا من أراد النسك .
قوله ومن كان دون ذلك : أي دون المواقيت وهو ما يكون بين المواقيت وبين مكة
فمن حيث أنشأ :أي فمن حيث خرج في سفره .
حتى : الظاهر أنها للغاية
أهل مكة : يحرمون من مكة .
المعنى الإجمالي(3/249)
لقد يسر الله على عباده فجعل للإحرام مواقيت مكانية وهذا بالنسبة للعمرة لا حد فيه ولا تحديد بزمن أما بالنسبة للحج فهو مقيد أيضاً بالمواقيت الزمانية وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه المواقيت لأهل تلك الجهات ولمن أتى عليها من غير أهلها ممن يريد الحج والعمرة أما من كان منزله من وراء المواقيت فيما بينها وبين مكة فميقات كل منهم منزله حتى أهل مكة يحرمون من بيوتهم إذا أرادوا الحج أما إن أرادوا العمرة فهم يحرمون من الحل وبالله التوفيق .
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من هذا الحديث ومن قوله وقت أن الإحرام مرتبط بمواقيت مكانية وهذا بالنسبة للحج والعمرة معاً وهي الأماكن المذكورة ذا الحليفة والجحفة وقرن المنازل ويلملم وذات عرق لأهل العراق وهل وقتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو وقتها عمر على خلاف في ذلك ينبني على صحة الحديث المرفوع أو عدم صحته (1) .
ثانياً : المواقيت الزمانية وهي مأخوذة من قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) [البقرة : 197]وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة أي عشر من ذي الحجة وهذا بالنسبة للحج فلا يصح الإحرام بالحج في غير هذه الأوقات ومن أحرم بالحج فيها ولم يصل إلى مكة إلا في صباح يوم النحر فإنه يتحلل بعمرة وعليه الحج من قابل كما أفتى به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لأبي أيوب وهبار بن الأسود ويدخل في التوقيت أوقات زمانية ومكانية وهي يوم عرفة وليلة مزدلفة وأيام منى .
__________
(1) النسائي في كتاب مناسك الحج باب ميقات أهل مصر رقم 2653 وفي باب ميقات أهل العراق رقم 2656 وابن ماجة في كتاب المناسك باب مواقيت أهل الآفاق رقم 2915 وأبو داود في كتاب المناسك باب في المواقيت رقم 1739 ورقم 1742 قال الألباني رحمه الله صحيح الإرواء (999) .(3/250)
ثالثاً : من مر على هذه المواقيت من غير أهلها وهو يقصد الحج أو العمرة لزمه أن يحرم من الميقات الذي مر عليه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن .
رابعاً : من تجاوز الميقات بدون إحرام وهو يريد الحج أوالعمرة فإنه يلزمه واحد من أمرين 1- إما أن يعود إلى الميقات 2- أو يحرم من مكانه وعليه دم .
وللأئمة خلاف في هذه المسألة وهذا هو الراجح من أقوالهم الذي تؤيده الأدلة
خامساً : يؤخذ من قوله ممن أراد الحج أو العمرة أن من أتى إلى مكة ولم يرد حجاً ولا عمرة فإنه لا يلزمه الإحرام وقد اختلف السلف في الحطابين والحشاشين والفكاهين الذين يدخلون إلى الحرم يومياً من خارجه يأتون ببضائع يبيعونها ثم يعودون إلى منازلهم والقول الصحيح أنه لا يلزمهم إحرام لأنهم لم يقصدوا الحج ولا العمرة وقد علق الشارع - صلى الله عليه وسلم - وجوب الإحرام بإرادة الحج والعمرة .
سادساً : يؤخذ من قوله ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ أن من كان بين المواقيت وبين مكة أن ميقاته منزله هذا إذا كان خارج الحرم
سابعاً : يؤخذ من قوله حتى أهل مكة من مكة أن من كان داخل الحرم فميقاته للحج من منزله أما للعمرة فأهل الحرم يحرمون لها من الحل كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة حيث قال لأخيها عبد الرحمن أخرج بأختك إلى الحل ودعها تحرم من هناك بعمرة .
ثامناً : اختلف أهل العلم في أهل مكة بالنسبة للعمرة هل يحرمون لها من بيوتهم أو من الحل فالجمهور على أنه يجب عليهم أن يحرموا للعمرة من الحل كما سبق بيانه وخالف في ذلك بعض أهل العلم واستدلوا بحديث ابن عباس هذا في قوله حتى أهل مكة من مكة وجعلوه عاماً للحج والعمرة والجمهور يجعلون ذلك للحج أما بالنسبة للعمرة فيجعلون الإحرام لها من الحل ليجمعوا بين الحل والحرم وبالله التوفيق .
[(3/251)
211] الحديث الثاني :عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن
قال: وبلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ويهل أهل اليمن من يلملم .
موضوع الحديث: المواقيت المكانية
المفردات
قوله يهل أهل المدينة من ذي الحليفة : يهل هنا جملة خبرية عطف عليها ما بعدها أي ويهل أهل الشام من الجحفة ويهل أهل نجد من قرن المنازل ويهل أهل اليمن من يلملم والتعبير بالجملة الخبرية فيما يراد منه الأمر وارد في القرآن كثيراً فمن ذلك قول الله تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) [البقرة : 233] فقوله يرضعن خبر يراد به الأمر أي يجب عليهن أن يرضعن أولادهن وكقوله تعالى (الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [النور : 3 ] فقوله لا ينكحها إلا زان أو مشرك خبر يراد به الأمر ولهذا قال
الجمهور أن الزاني المحدود لا يجوز أن ينكح العفيفة والزانية المحدودة لا يجوز أن ينكحها العفيف ومنازعة من نازع في هذا كما كتب عنه الصنعاني منازعة في غير محلها ومعنى يهل يلبي بالحج أو العمرة .
أما ذي الحليفة والجحفة وقرن المنازل ويلملم فقد تقدم الكلام على هذه في حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما .
المعنى الإجمالي(3/252)
المعنى الإجمالي قد تقدم في حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن الحكمة في وضع هذه المواقيت أنها رحمة من الله لعباده إذ لم يوجب عليهم الإحرام من بيوتهم لأن هذا تكليف بما لا يطاق لو حصل فكلفهم الله بما يطيقون . وأبعد المواقيت عن مكة ميقات ذي الحليفة وربما كان أقربها وادي السيل أو ما يسمى بقرن المنازل وأن الله من رحمته علق الإحرام بإرادة الحج والعمرة وأن من أتى على ميقات ليس ميقاته فإنه يجوز له أن يحرم منه لقوله هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ومن كان دون المواقيت فيحرم من مكانه .
فقه الحديث
قد تقدم فقه هذا الحديث في الذي قبله فلا حاجة للإعادة هنا وبالله التوفيق .
باب ما يلبس المحرم من الثياب
[212] الحديث الأول :عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً قال : يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس . وللبخاري ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين
موضوع الحديث : ما يحرم على المحرم لبسه
المفردات
ما يلبس المحرم من الثياب :استفهام طلبي فأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لا يلبس المحرم لأنه محصور
قوله لا يلبس : يصح أن تكون لا نافية والصيغة صيغة خبر مقصود به الأمر ويصح أن تكون لا ناهية وعلى هذا فيكون يلبس مجزوم ومثل ذلك ما عطف عليه ومثله أيضاً ولا تنتقب المرأة يصح أن تكون لا ناهية ويكون تنتقب فعل مجزوم بلا الناهية ويصح أن تكون لا نافية ويكون الفعل مرفوعاً وهو خبر مقصود به النهي .
قوله القمص : جمع قميص وهو ما غطى جميع البدن ما عدا الرأس والحلق والقدمين إذا لم يكن مفرجاً من الأمام فإن كان مفرجاً من الأمام قيل له جبة إذا كانت طويلة وإذا كان قصيراً فهو قباء أو كوت أو مدرعة(3/253)
قوله ولا العمائم : العمائم جمع عمامة وهو ما لفّ على الرأس لفات ولم يكن مخيطاً
قوله ولا السراويلات : جمع سراويل ويذكر ويؤنث لأنه اسم أعجمي إلى أن قال ومن النحويين من لا يصرفه في النكرة ويزعم أنه جمع سروال وسروالة أهـ من مختار الصحاح والسراويل هو ما غطى نصف البدن الأسفل بأن يكون له كمان فإن كان بدون أكمام قيل له فوطة .
قوله برانس : جمع برنس وهو ثوب رأسه منه
قوله ولا الخفاف : جمع خف وهو ما غطى الكعبين
الورس والزعفران : هما نبتان لكل واحد منهما لون ورائحة
لا تنتقب المرأة : النقاب هو ما غطى الوجه وهو كل ما نسج أو خيط مقصوداً به تغطية الوجه خاصة وفيه فتحات للعينين والفم والأنف .
قوله ولا تلبس القفازين : القفازان تثنية قفاز وهي شراب الكفين سواء غطيت بمحشو أو بغير محشو
المعنى الإجمالي
سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يلبس المحرم فأجابه صلوات الله وسلامه عليه بما لا يلبس المحرم باعتبار أن الممنوع محصور والمباح غير محصور وكان في هذا الجواب غاية الإيجاز والحكمة ممن أوتي جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم -
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث عدة مسائل
أولاً : أنه يجوز للمفتي أن يعدل في الجواب عن السؤال المطروح ويجيب عمّا يرى فيه المصلحة إذا كان متضمناً لها أحسن من السؤال المطروح فقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يلبس المحرم من الثياب فأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لا يلبس من الثياب
ثانياً : كان عدول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صريح السؤال إلى عكسه لأن صريح السؤال عن شيء غير محصور فأجاب بما تتضمن المصلحة للسائل وللمكلفين معاً وهو الإفادة بما لا يلبس المحرم .
ثالثاً : قال ابن دقيق العيد اتفقوا على المنع من لبس ما ذكر في الحديث أي ما هو مصرح به والخلاف فيما يقاس على ذلك كما أشار إليه بقوله والفقهاء القياسيون عدّوه إلى ما رأوه في معناه(3/254)
رابعاً : نبه بالقميص على كل ثوب مخيط محيط بالبدن كله أو معظمه فيؤخذ منه تحريم الفنايل المنسوجة التي تغطي بعض البدن محيطةً به ولو كانت غير مخيطة إذاً فكل ما أحاط بعضو أو بالبدن أجمع أو ببعض البدن فهو محرم في حال الإحرام فكل ما أحاط بعضو أو بالبدن منسوجاً أو مخيطاً فهو ممنوع في حال الإحرام .
خامساً : نبه بالعمائم على كل ما غطى الرأس سواءً كان مخيطاً أو غير مخيط أو منسوجاً أو غير منسوج فالرأس لا تجوز تغطيته لا بالكوفية ولا بالطاقية ولا بالعمامة ولا بالطربوش ولا بغير ذلك .
سادساً : المقصود من النهي كل ما لبس وهي ما ذكر أما ما رفع على الرأس للحمل ولو كان ملامساً له فإنه غير ممنوع فيجوز للحاج أن يحمل متاعه (عفشه) على رأسه وما لم يلامسه مما قصد به التظليل على الرأس فهو جائز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وأسامة بن زيد وبلال كانا يظلانه (1) بثوب مرفوع فوق رأسه من الشمس فيؤخذ من هذا أن ما لم يلامس الرأس مما قصد به الاستظلال كالمظلة وسقف السيارة فإن ذلك جائز
سابعاً : نبه بقوله والسراويلات على كل مخيط أحاط ببعض البدن فما يسمى بالدكة أو الفوطة مما هو مخيط ومحيط فإنه ممنوع في حال الإحرام .
ثامناً : ويؤخذ منه منع البرانس وما في معناها من الأثواب التي يكون غطاء الرأس منها
تاسعاً : يؤخذ من قوله ولا الخفاف تحريم ومنع ما غطى القدمين من الخفاف والجوارب والجراميق وغير ذلك إلا ما كان منها أسفل من الكعبين فهذا لا يكون له حكم الخف ولكن له حكم النعل .
__________
(1) مسلم في كتاب الحج باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً رقم 1298 وأبو داود في كتاب المناسك باب في المحرم يظلل رقم 1834 والنسائي في كتاب مناسك الحج باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم رقم 3060 .(3/255)
عاشراً : قوله إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين اختلف أهل العلم في هذه المسالة هل يجب القطع لمن لم يجد النعلين هل يجب قطع الخفين كما جاء في حديث ابن عمر أو لا يجب ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بالقطع حين خطب الناس بعرفات بل أجاز لبس الخفين من دون قطع وعلى هذا فهل يحمل الحديث الأخير الذي كان بعرفات والذي ذكر مطلقاً يحمل على المقيد فيجب قطع الخفين لمن لم يجد نعلين أم لا ؟ بالأول قال الجمهور وبالثاني قالت الحنابلة وهي الرواية المشهورة عن الإمام أحمد لأنه رأى أن الحديث الثاني ناسخ للأول والمسألة فيها أخذ ورد وإذا نظرنا في نصوص الشريعة نجد أن بعضها ورد مقيداً وبعضها ورد مطلقاً والغالب أن المطلق محمول على المقيد إذا كان الحكم في ذلك واحد لأن الشارع إذا بيّن في موضع بقيد أو شرط وسكت عنه في الموضع الآخر فهل يحمل سكوته في الموضع الثاني على أنه نسخ للأول فيؤخذ بالأخير أو غير نسخ وقصد به الإحالة على القيد فلا يكون نسخاً والمسألة فيها خلاف واحتمال كما ترى .
الحادي عشر : ويؤخذ أيضاً من الحديث أن من لم يجد إزاراً يجوز له أن يلبس السراويل بدون فدية بل بإذن من الشارع - صلى الله عليه وسلم - .(3/256)
الثاني عشر :يؤخذ من قوله ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس وقد علمنا أن الزعفران والورس نبتان لهما لون ورائحة فهل المنع من أجل اللون أو من أجل الرائحة أو من أجلهما والظاهر أن ما اجتمعت فيه هاتان العلتان منع وما لم تجتمع فيه لا يمنع إلا أنه يظهر أنه قد نبه بهذين النبتين على كل ما فيه طيب والطيب متفق على تحريمه في حال الإحرام وقد اختلف أهل العلم في استدامته فأجاز الجمهور استدامة الطيب وقالت بذلك عائشة رضي الله عنها وذكرت أنها كانت تطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت وأنها كانت ترى وبيص المسك في مفارق رأسه - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ) (1) وكره عمر رضي الله عنه وابنه استدامة الطيب وقال بعض أهل العلم بجوازه في البدن ومنعه في الثياب جمعاً بين حديث عائشة رضي الله عنها وحديث يعلى ابن أمية رضي الله عنه في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة يسأله ماذا يفعل في إحرامه وقد لبس جبة وتضمخ بخلوق فنزل الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما سري عنه قال له أنزع عنك الجبة واغسل عنك الخلوق واصنع في حجك ما تصنع في عمرتك) (2)
__________
(1) البخاري في كتاب الحج باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم رقم 1538 ومسلم في كتاب الحج باب الطيب للمحرم عند الإحرام رقم 1190 والنسائي في كتاب مناسك الحج باب في إباحة الطيب عند الإحرام رقم 2693 ورقم 2694 وفي باب موضع الطيب رقم 2695 – 2701 وأبو داود في المناسك باب الطيب عند الإحرام رقم 1746 وابن ماجة في كتاب المناسك باب الطيب عند الإحرام رقم 2927 ورقم 2928 .
(2) البخاري في كتاب الحج باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج رقم 1789 ومسلم في كتاب الحج باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح رقم 1180 وأبو داود في كتاب المناسك باب الرجل يحرم في ثيابه رقم 1819 ..(3/257)
وبهذا الحديث استدل من يرى عدم استدامة الطيب في الثياب إذا كان يظهر لونه ولكن إذا نظرنا وتأملنا في النصوص نجد أن هذا حصل بعد موقعة الفتح حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة وأن استدامة الطيب حصلت من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وقد روت بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قَالَتْ كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالسُّكِّ الْمُطَيَّبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ فَإِذَا عَرِقَتْ إِحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلا يَنْهَاهَا) (1) أما قول عائشة (بأنها كانت ترى وبيص المسك في مفارق النبي - صلى الله عليه وسلم - ) فهذا في الصحيحين أو أحدهما إلا أن الحنابلة رحمهم الله رأوا أن هذا نسخاً للأمر بغسل الخلوق للبدن دون الثوب وبالله التوفيق .
الثالث عشر : علماً أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب المصبوغ بالورس أو الزعفران عام في حق الرجال والنساء فلا يجوز لبسه للمرأة أيضاً لعموم النهي
__________
(1) أبو داود في كتاب المناسك باب ما يلبس المحرم رقم 1830 ( قال الألباني صحيح )(3/258)
الرابع عشر : يؤخذ من قوله ولا تنتقب المرأة تحريم النقاب والنقاب شيء منسوج بقدر الوجه فيه فتحات للفم والعينين والمنخرين وهذا محرم في حال الإحرام لا يجوز لبسه للمرأة المحرمة ومن أجل هذا فقد قال بعض الفقهاء إن إحرام المرأة في وجهها ومنعوا من تغطية الوجه في حال الإحرام سواء كان ذلك بالنقاب أو البرقع أو بفضل الخمار وقال بعض أهل العلم من المحدثين وغيرهم أن النهي عن النقاب وما في معناه كالبرقع فهو عما هو مفصل أو منسوج بقدر الوجه أما أن تغطي المرأة وجهها بفضل خمارها فهذا لا مانع منه بل هو واجب وقد روت عائشة رضي الله عنها (فقالت كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه ) (1) وهذا الحديث صحيح وهو يدل على أمرين :
الأمر الأول : وجوب تغطية الوجه على المرأة إذا قابلت الرجال الأجانب
الأمر الثاني :أن التغطية بفضل الخمار ليس فيها مناقضة للإحرام وهذا هو القول الصحيح الذي تطمئن إليه النفس
الخامس عشر : يؤخذ من قوله ولا تلبس القفازين تحريم لبس القفازين على المرأة في حال الإحرام والقفازان هما شرّاب اليدين سواءً كانت محشوة كما كان يفعل ذلك في الأزمنة السابقة أو غير محشوة كل ذلك ممنوع .
السادس عشر :المنهي عنه هو اللبس المعتاد فمن ارتدى بقميص أو سراويلاً أو غير ذلك فإنه لا ينكر عليه لأن هذا اللبس لا يدخل في النهي وإنما الذي يدخل في النهي هو لبس كل شيء على عادته المعروفة
__________
(1) أبو داود في كتاب المناسك باب في المحرمة تغطي وجهها رقم 1833 وابن ماجة بنحوه في كتاب المناسك باب الخروج إلى الحج رقم 2935.(3/259)
السابع عشر : من انتهك شيئاً من هذه المحضورات كأن يلبس قميصاً أو عمامة أو يغطي رأسه من غير ضرورة فقد أساء ووجبت عليه الفدية لأنها إذا وجبت الفدية في حالة الضرورة فمن باب أولى أنها تجب في غير الضرورة والله تعالى يقول (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : 196 ]
ولأهل العلم في هذه المسالة خلاف فيما إذا حصل ذلك عن جهل أو نسيان فمنهم من قال أن الجاهل والناسي لا تجب عليه فدية ومنهم من قال بوجوب الفدية مطلقاً ومنهم من قال بوجوب الفدية في الإتلافات كحلق الشعر ونتفه وتقليم الأظافر دون ما لم يكن فيه إتلاف كالطيب واللبس وبالله التوفيق
[213] الحديث الثاني :عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات : من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل للمحرم .
موضوع الحديث : جواز لبس الخفين لمن لم يجد نعلين ولبس السراويل لمن لم يجد إزاراً
المفردات
قد تقدمت في الحديث الذي قبله
المعنى الإجمالي
المعنى الإجمالي لهذا الحديث فهو إباحة الشارع - صلى الله عليه وسلم - لبس الخفين لمن لم يجد نعلين بغير قطع ولبس السراويل لمن لم يجد إزاراً بغير شق .
فقه الحديث
أولاً : قد تقدم الكلام على فقه هذا الحديث باعتبار أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - خطب بالمدينة وسئل فأجاز لبس الخفين لمن لم يجد نعلين بشرط أن يقطعهما أسفل من الكعبين(3/260)
وخطب بعرفات فأجاز لبس الخفين لمن لم يجد نعلين بدون قطع ومن أجل ذلك فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة هل يعد سكوته عن القطع في الخطبة بعرفات نسخاً للحديث الأول أو يكون من باب حمل المطلق على المقيد ويعتبر من إحالة المكلفين على ما ورد في النص الآخر وقد قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) [التحريم : 1-2] فأحال على كفارة اليمين كما أنه قد ورد تقييد الرقبة بالإيمان في قتل الخطأ ولم يقيد في آية الظهار التي في المجادلة ولا في حديث من وقع على امرأته في نهار رمضان ولكن الجمهور ذهبوا إلى حمل المطلق على المقيد فهل يكون هذا من هذا القبيل أم يكون من قبيل النسخ والمسألة فيها أخذ ورد .
ثانياً :هل يسمى الخف بعد قطعه خفاً أم لا يسمى خفاً وإنما هو يكون ممن انتقلت اسميته فيقال نعل أو خف مقطوع وعلى هذا فإن الشارع - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بذلك وإذا قلنا ببقاء التسمية فإن ذلك باعتبار ما كان أو بإطلاق الخف المقيد بالقطع والذي يظهر لي أن حمل المطلق على المقيد أولى ولا يعاب من أخذ بالجانب الآخر كما تقرر في المسائل الفرعية يعني غير العقائدية أن كلاً يعمل على ما فهم ولا يعيب أحد على أحد وعلى هذا فنقول في مسألتنا هذه من اقتنع بواحد من الوجهين عمل عليه وأفتى به و لا يعيب على من اقتنع بضده وبالله التوفيق(3/261)
ثالثاً : أما السراويل فقد أجاز النبي لبسه - صلى الله عليه وسلم - لبسه لمن لم يجد الإزار بدون قطع ولا شق والقول بذلك يقتضي الأخذ برخصة الشارع - صلى الله عليه وسلم - أما من أوجب الشق فإنه قد أتى زائد عما ورد وهو يعد مخطئاً لإيجابه ما لم يوجبه الشارع - صلى الله عليه وسلم - فنقول الخلاصة أن السراويل تلبس بدون شق وبالله التوفيق .
[214] الحديث الثالث :عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك قال وكان عبدالله بن عمر يزيد فيها : لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل
موضوع الحديث: التلبية في الحج
المفردات
لبيك :معنى التلبية الاجابة أي ألبي أمرك بالفعل ونهيك بالترك سمعاً وطاعة لجلالك وامتثالاً لأمرك وفسره قوم بالإقامة على الطاعة أخذاً من قولهم ألب بالمكان أي لزمه وأقام فيه والمعنى على هذا التفسير أنا ملازم لطاعتك مقيم عليها لا أحيد عنها ولا أتركها ولعل المعنى الأول أوضح لكونه أسرع مبادرة إلى الذهن وهو إجابة لنداء إبراهيم عليه السلام حين أكمل بناء البيت فأمره الله عز وجل أن يؤذن في الناس بالحج فقال يا رب كيف أؤذن ولا يسمعني أحد فقال له ربه عليك الأذان وعليّ البلاغ فوقف على حجر المقام وقيل على جبل أبي قبيس ونادى يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فيقال أنهم أجابوه من أصلاب الرجال وأرحام النساء والمهم أن معنى لبيك إجابة لك بعد إجابة فالتثنية للتكرار الغير متناهي أي أجيب دعوتك كل ما دعوت .
قوله لبيك لا شريك لك : هذا تقرير للتوحيد وتبرأُ وتنصل مما زاده المشركون الجاهليون بقولهم إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك(3/262)
قوله إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك : هذا فيه خلاف من أهل العلم من كسر همزة إن وتكون الجملة ابتدائية ومن أهل العلم من فتحها وتكون الجملة تعليليه فكأنه قال لأن الحمد بجميع أنواعه وأسبابه وموجباته سواء كان على الكمالات أو النعم فهو مستحق لك دون غيرك والنعمة اسم جنس كما أن الحمد اسم جنس أيضاً لك وحدك والملك ملك جميع الكون الملك المطلق والملك المقيد كله لك لا شريك لك وقد انتظمت هذه الثلاثة الألفاظ جميع أجناس الكمالات لله سبحانه وتعالى دون غيره فله الحمد المطلق وكل هذه هو مختص بها دون غيره ولهذا قال لا شريك لك .
قوله لبيك وسعديك : القول في سعديك كالقول في لبيك بمعنى إني أُسعدك في أمرك ونهيك وتصديق خبرك إسعاداً بعد إسعاد ومتابعة بعد متابعة وطاعة بعد طاعة
قوله والخير بيديك : أي الخير كله في يديك وهذا كقوله ( يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ) (1) وكقوله ( أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده ... .) (2)
قوله والرغباء إليك والعمل :أي الرغبة في الثواب وفيما عندك من الخزائن في الدنيا والآخرة كلها إليك والعمل متوجه إليك ومقصود به إياك كقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : 5 ]
المعنى الإجمالي
__________
(1) مسلم في كتاب التوبة باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة رقم 2759 وأحمد في مسند المكثرين .
(2) البخاري في كتاب تفسير القرآن باب قوله ( وكان عرشه على الماء ) رقم 4684 وفي كتاب التوحيد باب قول الله تعالى ( لما خلقت بيدى ) رقم 7411 ومسلم في كتاب الزكاة باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف بمعناه رقم 993والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة المائدة بنحوه رقم 3045 وأحمد في باقي مسند المكثرين .(3/263)
أمر الله سبحانه وتعالى عباده على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - معلم الخير وهادي البشرية أن يقرر الحاج تلبيته بالإحرام بقوله لبيك اللهم لبيك هذه التلبية المتظمنة للتوحيد والتي تقرر العبودية لله وحده لا شريك له فقد جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الموجبة للدخول في الإحرام .
فقه الحديث
أولاً:يؤخذ من هذا الحديث وجوب الطاعة لله رب العالمين في كل ما أمر ونهى وهذا هو ما يقرره الحاج على نفسه بقوله لبيك اللهم لبيك ابتداءً بالتوحيد وانتهاءً بكل طاعة .
ثانياً :اختلف أهل العلم في حكم التلبية فذهب قوم إلى أنها سنة من السنن لا يجب بتركها شيء نسبه الصنعاني إلى الشافعي وأحمد(3/264)
قلت: أولاً : المعروف عند الحنابلة أنهم يجعلون التلبية من واجبات الحج ويجب بتركها دم . ثانياً: أن التلبية واجبة يجب بتركها دم قال حكاه الماوردي عن ابن أبي هريرة من الشافعية وقال إنه وجد للشافعي نصاً يدل عليه . قال وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية والخطابي عن مالك وأبي حنيفة . ثالثاً :أنها واجبة لكن يقوم مقامها فعل يتعلق بالحج كالتوجه إلى الطريق وحكى ابن المنذر عن الحنفية إن كبر أو هلل أو سبح ينوي بذلك الإحرام فهو محرم . رابعاً : أنها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها حكاه ابن عبد البر عن المنذري وأبي حنيفة وأهل الظاهر قالوا هي نظيرة تكبيرة الإحرام في الصلاة وهو قول عطاء أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه قال التلبية فرض الحج وحكاه ابن المنذر عن عطاء وطاووس وعكرمة وحكى النووي عن داود أنه لا بد من رفع الصوت قال الصنعاني وما أجود قول داود مع صحة رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بها وقوله (الحج العج والثج ) (1) وقوله ( لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ) (2)
__________
(1) الترمذي في كِتَاب الْحَجِّ بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ التَّلْبِيَةِ وَالنَّحْرِ رقم 827 وابن ماجة في كِتَاب الْمَنَاسِكِ بَاب الْخُرُوجِ إِلَى الْحَجِّ رقم2924 والدارمي في كتاب المناسك باب أي الحج أفضل رقم 1797 ( قال الألباني صحيح )
(2) مسلم في كتاب الحج باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً وبيان قوله - صلى الله عليه وسلم - لتأخذوا مناسككم رقم 1297 والنسائي في كتاب مناسك الحج باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم رقم 3062 وأبو داود في كتاب المناسك باب في رمي الجمار رقم 1970 وأحمد باقي مسند المكثرين .(3/265)
قلت :الاستدلال على وجوب رفع الصوت بهذا الحديث فيه نظر لأنه يصح أن يقدر الحج الكامل العج والثج ويصح أن يقدر الحج الصحيح العج والثج ولوجود هذا الاحتمال فإنه لا يتعين المطلوب إلا إذا وجد ما يدل عليه من كلام المعصوم - صلى الله عليه وسلم - علماً بأن النية للحج هي ركن أما التلفظ بالتلبية فالظاهر منه الوجوب لأول مره وبعد ذلك يكون سنة هذا ما يترجح لي والله أعلم بالصواب .
[215] الحديث الرابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها حرمة .
وفي لفظ للبخاري لا تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم
موضوع الحديث: تحريم السفر مع غير محرم وجوازه مع المحرم أو الزوج
المفردات
قوله لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر :لفظ امرأة نكرة يعم كل امرأة وجملة تؤمن بالله واليوم الآخر جملة مخصصة أي متصفة بالإيمان بالله واليوم الآخر والمقصود به المسلمة
جملة أن تسافر : هي الجملة التي ينصب عليها النهي أي لا يحل لها السفر هذه المسافة إلا ومعها من هو حرمة عليها(3/266)
قوله إلا ومعها حرمة : المراد بالحرمة هنا المحرم ويدخل فيه الزوج دخول أغلبية والمحرم الذي يحل لها السفر معه هو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب فيحل للرجل أن يسافر بأمه وأخته وبنته وبنت أخيه وبنت أخته وعمته وخالته وهؤلاء هن المحارم السبع اللاتي يحرمن بالنسب وأما السبب فهو إما نكاح أو رضاع فالبنكاح تحرم أم الزوجة وبنت الزوجة المدخول بها على التأبيد وتحرم زوجة الأب ومن له عليه ولادة من الأجداد وكذلك زوجة الابن فهؤلاء يحرمن بالنكاح فيجوز للمرأة أن تسافر مع واحد من هؤلاء ومنع الإمام مالك السفر مع ابن الزوج قال لوجود الفساد في هذه الأزمنة وأقول إن هذا الحكم سارٍ في المسلمين إلى يوم القيامة وينبغي أن ينظر في الرجل الذي يسافر بالمرأة فإن كان متهتكاً فينبغي ألا تسافر معه حتى أخته من الرضاع لأنه لا يؤمن عليها أما المسلم الظاهر العدالة والمستور الحال فيجوز ذلك والثالث سبب الرضاع بشروطه بأن تكون الرضعات خمساً فأكثر في الحولين .
المعنى الإجمالي
إن العليم الخبير نهى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن تسافر المرأة المسافة المشار إليها إلا مع ذي محرم أو زوج حماية للأعراض أن تستباح وللأخلاق أن تفسد حتى يكون المجتمع مجتمعاً نظيفاً سليماً من الفساد وبالله التوفيق .
فقه الحديث
يؤخذ من هذا الحديث عدة مسائل
أولاً :تحريم سفر المرأة بدون زوج أو محرم المسافة المحددة في الأحاديث .(3/267)
ثانياً :قد وردت الأحاديث بمقادير مختلفة ففي بعضها (ثلاثة أيام)(1) وفي بعضها (يومان ) (2) وفي بعضها (يوم وليلة)(3) وفي بعضها (يوم) (4) وفي بعضها (ليلة) (5)
__________
(1) البخاري في كتاب الجمعة باب في كم يقصر الصلاة رقم 1086 ومسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 1339 ورقم 1340 وابن ماجة في كتاب المناسك باب المرأة تحج بغير ولي رقم 2898 والدارمي في كتاب الاستئذان باب لا تسافر المرأة إلا ومعها محرم رقم (2678 ) والترمذي في كتاب الرضاع باب ما جاء في كراهية أن تسافر المرأة وحدها رقم (1169 ) وأبو داود في كتاب المناسك باب المرأة تحج بغير محرم رقم (1726) .
(2) البخاري في كتاب الجمعة باب مسجد بيت المقدس رقم 1197 وفي كتاب الحج باب حج النساء رقم 1864 وفي كتاب الصوم باب صوم يوم النحر رقم 1996 ومسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 827 .
(3) البخاري في كتاب الجمعة باب في كم يقصر الصلاة رقم 1088 ومسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 1339 والترمذي في كتاب الرضاع باب ما جاء في كراهية أن تسافر المرأة وحدها رقم 1170 وأبي داود في كتاب المناسك باب المرأة تحج بغير محرم رقم 1723 ومالك في كتاب الجامع باب ما جاء في الوحدة في السفر للرجال والنساء رقم 1833 .
(4) مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 1339 وابن ماجة في كتاب المناسك باب المرأة تحج بغير ولي رقم 2899
(5) مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 1339 وأبي داود في كتاب المناسك باب في المرأة تحج بغير محرم رقم 1723 ..(3/268)
وهذه الأحاديث التي وردت فيها المقادير منها ما هو في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم معاً ومنها ما هو في صحيح مسلم وهي رواية اليوم المستقل ورواية الليلة المستقلة وهناك رواية عند أبي داود فيها التحديد (ببريد) (1) ولكنها من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة وسهيل بن أبي صالح ثقة إلا أن في حفظه شيء وعلى هذا فإن أقل ما صح به الحديث صحة يطمئن إليها اليوم المستقل والليلة المستقلة . ومسافة اليوم بالسير القديم بريدين غالباً والبريدان أربعة وعشرون ميلاً وهي أربعون كيلو وهذه الروايات يعتمد عليها في هذا الباب وفي باب القصر والجمع وما يسمى سفراً
ثالثاً :تبين مما سبق أنه لا يجوز لامرأة أن تسافر هذه المسافة إلا مع زوج أو ذي محرم وقد تبين لنا مما سبق من هو المحرم
رابعاً :قد ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز للمرأة أن تحج مع رفقة من النساء الأمينات أو الرجال المأمونين ورد عليهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما قال له ذلك الرجل ( إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ) (2) ولم يستفصل هل معها رفقة مأمونة أم لا ؟ وفي عدم الاستفصال دليل على أن هذه الآراء مخالفة للنص وعلى طالب العلم أن يتمشى مع النص .
__________
(1) أبو داود في كتاب المناسك باب المرأة تحج بغير محرم رقم 1725 ( قال الألباني شاذ )
(2) البخاري في كتاب الجهاد والسير باب كتابة الإمام الناس رقم 3061 وفي باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة رقم 3006 ومسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم 1341 وسنن ابن ماجة في كتاب المناسك باب المرأة تحج بغير ولي بمعناه رقم 2900 وأحمد مسند بني هاشم .(3/269)
خامساً :ربما استدل بعض أهل العلم بالحديث الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ( والذي نفسي بيده ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى تخرج المرأة من الحيرة حتى تأتي هذا البيت فتطوف به لا تخاف إلا الله ) (1). والجواب أن هذا الحديث إخبار عن أمر يقع ولم يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - إباحة سفر المرأة وحدها .
سادساً :يؤخذ من هذا الحديث أن وجود الزوج أو المحرم تحريماً مؤبداً شرط في وجوب الحج على المرأة وأنها إذا لم تجد محرماً وكانت واجدة للنفقة فإنه لا يجوز لها أن تحج بل يجوز لها أن تستنيب من يؤدي عنها فريضة الحج في هذه الحالة وهذا القول هو القول الصحيح الذي تطمئن إليه النفس سواء كانت فتية أو كبيرة السن لعموم الحديث الوارد بالنهي ولأنه كما قيل لكل ساقطة لاقطة .
سابعاً :يؤخذ من قوله لا يحل تحريم سفر المرأة بدون محرم ولو كانت مع رفقة مأمونة لأن هذه العبارة لا تتناول الكراهة وإنما تتناول التحريم .
ثامناً :إنما شرع الله عز وجل هذا الحكم وأمثاله من الأحكام التي يترتب عليها نزاهة المجتمع الإسلامي حماية للمسلمين من أسباب الوقوع فيما حرم الله عز وجل .
تاسعاً :ما يسمى بنكاح الجلالة أو عقد الجلالة وهو العقد الذي لا يقصد منه العقدة الزوجية كما يفعله بعض الناس إذا كانت المرأة ليس لها محرم تستدعي رجلاً وتعطيه أجرة ويعقد عليها عقد جلالة كما يقولون ثم يحج بها وإذا انتهى الحج طلقها وأقول إن هذا العقد غير صحيح ولا يترتب عليه إباحة السفر بها بل هي أجنبية منه لأن العقد باطل غير صحيح وبالله التوفيق .
باب الفدية
[
__________
(1) البخاري في كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام رقم 3595 ومسند الإمام أحمد في مسند الكوفيين .(3/270)
216] عن عبد الله بن معقل (1) قال :جلست إلى كعب بن عجرة (2) فسألته عن الفدية ؟ فقال : نزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال : ( ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أرى – أو ما كنت أٌرى الجهد بلغ بك ما أرى – أتجد شاة ؟ فقلت :لا فقال ( صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع )
وفي رواية فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطعم فرقاً بين ستة أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام )
موضوع الحديث : مشروعية الفدية لمن اضطر إلى فعل شيء من محظورات الإحرام
المفردات
فسألته عن الفدية فقال نزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة يعني أن قصته التي حصلت له في غزوة الحديبية كانت هي سبب النزول وهذا يؤيد ما قاله أهل الأصول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن قوله وهي لكم عامة يدل على أن عمومات الكتاب والسنة لا تختص بمن نزلت فيه بل تكون لجميع الأمة .
قوله حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي : الواو واو الحال يعني أن حالته المرضية كانت كذلك حيث كان القمل يتناثر من رأسه على وجهه فقال ما كنت أٌرى بضم الهمزة وفتح الراء بمعنى أظن وأحسب ما كنت أرى الوجع أي ما كنت أظن الوجع بلغ بك ما أرى أي بلغ بك الحالة التي اراها وارى الثانية بفتح الهمزة والراء بعدها ألف مطوية وهي يعبر بها عن الرؤية البصرية والرأى أي ويعبر بها عن الرأى
__________
(1) عبدالله بن معقل بفتح أوله وسكون المهملة بعدها قاف ابن مقرن المزني أبو الوليد الكوفي ثقة من كبار الثالثة مات سنة 88 روى له الجماعة ، التقريب ترجمة 3634 .
(2) كعب بن عجرة الأنصاري المدني أبو محمد صحابي مشهور مات بعد الخمسين وله نيف وسبعون سنة روى له الجماعة ترجمه تقريب 5643 .(3/271)
الجَهد :بالفتح المقصود به المشقة والجهد بالضم المقصود به الطاقة يقول العبد أعمل جُهدي أي طاقتي وتجوز الحالتين الفتح والضم وقرئ بهما في قوله تعالى ( وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) (1)
قوله أتجد شاة : الهمزة للاستفهام الطلبي قال لا قال صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع وفي الرواية الأخيرة فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطعم فرقاً بين ستة أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام . الفرق مكيال يسع ثلاثة آصع نبوي.
المعنى الإجمالي
يخبر كعب بن عجرة أنه حمل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مريض والقمل يتناثر على وجهه فأنزل الله في قصته آية الفدية وهي قوله تعالى { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }[البقرة : 196 ]
فقه الحديث
أولاً:يؤخذ من الحديث أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب حيث قال هذا الصحابي الجليل نزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة .
ثانياً :يؤخذ من هذا الحديث أن من احتاج إلى فعل محظور كما حصل لكعب بن عجرة رضي الله عنه حيث احتاج إلى حلق رأسه فإنه يجوز له أن يستحل هذا المحظور في مقابل فدية يقوم بدفعها كما هو موضح في الآية ففدية من صيام أو صدقة أو نسك .
ثالثاً : أن هذه القصة يقاس عليها كل ما في معناها فمن احتاج إلى تغطية رأسه لضرر به جاز له ذلك وفعل الفدية على حسب المستطاع ومثل ذلك من احتاج إلى لبس السروال لوجود ضرر يحصل له من المشي وهكذا يقال في سائر المحظورات
رابعاً : ذكر الله عز وجل الفدية مجملة حيث قال (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)
خامساً : بيّنت السنة الصيام والصدقة والنسك فالصوم ثلاثة أيام والصدقة إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع والنسك شاة على الأقل .
__________
(1) مختار الصحاح ص114 مع تغيير يسير .(3/272)
سادساً :هذه الفدية مخير فيها المحرم إن شاء نسك شاة وإن شاء أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع وإن شاء صام ثلاثة أيام .
سابعاً :الدليل على كونها مخيرة أنها رتبت بأو في قوله تعالى (مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) وهذا يدل على أن مثل ذلك لا يكون مرتباً وقد حكى بعض أهل العلم الإجماع على أن فدية المحرم إذا احتاج إلى استباحة شيء من المحظورات أنها مخيرة وليست مرتبة .
ثامناً :ومما يدل على أنها مخيرة أن الله بدأ بالأقل أو الأخف كلفة وهو صوم ثلاثة أيام وذلك يدل على أنها مخيرة
تاسعاً: استشكل التخيير مع قوله أتجد شاة وقد ذكر في ذلك أوجه من التأويل والأقرب أن يقال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يأمره بالأفضل أو يحثه عليه فلما نفى قدرته على نسك شاة أمره بأن يفعل واحداً من الاثنين التي هي الصيام أو الإطعام
عاشراً :يشترط في الشاة التي تقدم في الفدية أن تكون صالحة لأن يضحى بها من حيث السن وعدم العيوب .
الحادي عشر : قد وضح في الحديث مقدار الإطعام أنه لكل مسكين نصف صاع وذلك يكون ثلاثة آصع منقسمة على ستة مساكين والثلاثة آصع هي فرق .(3/273)
الثاني عشر : أن بعض أهل العلم أجرى هذا المقدار في كل إطعام يجب كإطعام الستين مسكيناً وكذلك العشرة مساكين فجعلوا للمسكين الواحد نصف صاع وهو كيلو ونصف عند بعض أهل العلم أما بعضهم فإنه يجعل الصاع كيلوين وربع والتقدير الأول على جعل الصاع ثلاثة كيلوات ولعل التقدير الثاني هو الأقرب إلى الصواب لأنه أدق أي أكثر دقة وذهب بعض أهل العلم وهو الصواب في نظري إلى أن هذا المقدار في الإطعام إنما يكون في فدية استباحة المحظور من محظورات الإحرام أما غيره ففيه مد واحد والمد على أكبر تقدير يكون كيلو إلا ربع لأنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى ذلك الرجل الذي وقع على امرأته في رمضان (1) مكتلاً يسع خمسة عشر صاعاً وإذا قسمنا خمسة عشر صاعاً على ستين مسكيناً يكون لكل مسكين مد وقد ورد مثل ذلك عن أربعة من الصحابة رواه مالك في الموطأ .
__________
(1) البخاري في كتاب الصوم باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء وتصدق عليه فليكفر رقم 1936 وفي كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها باب إذا وهب هبة فقبضها الآخر رقم 2600 وفي كتاب الأدب باب التبسم والضحك رقم 6087 وفي كتاب كفارات الأيمان باب قوله تعالى ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) رقم 6709 وفي باب من أعان المعسر في الكفارة رقم 6710 ومسلم في كتاب الصيام باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم رقم 1111 والترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان رقم 724 وأبو داود في كتاب الصوم باب كفارة من أتى أهله في رمضان رقم 2390 والدارمي في كتاب الصوم باب في الذي يقع على امرأته في شهر رمضان نهاراً رقم 1716 وابن ماجة في كتاب الصيام باب ما جاء في كفارة من أفطر يوماً من رمضان رقم 1671 ومالك في الموطأ في كتاب الصوم باب كفارة من أفطر في رمضان رقم 660 ورقم 661 .(3/274)
الثالث عشر: نوعية الطعام الذي يقدم في مثل هذه الحالة هو الطعام الجيد الشائع في البلد والذي يعتبره معظم الناس قوتاً في وقت الاختيار .
الرابع عشر :جعل الشارع - صلى الله عليه وسلم - الصيام ثلاثة أيام بدلاً عن ثلاثة آصع فجعل اليوم بدلاً عن صاع أما في الإطعام عن صيام رمضان فإنه جعل مقدار الإطعام الذي هو بدل اليوم مداً وهذا يدل على أن هذا الأمر يرجع فيه إلى التوقيف عن الشارع - صلى الله عليه وسلم - .
باب حرمة مكة
[217] الحديث الأول : عن أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي العدوي رضي الله عنه أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال إن مكة حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب فقيل لأبي شريح : ما قال لك قال أنا أعلم بذلك منك يا ابا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة .
موضوع الحديث : بيان حرمة مكة
المفردات(3/275)
أولاً :أبو شريح صحابي أسلم قبل الفتح ولما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان في الجاهلية يكنى أبا الحكم فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبب التكنية بأبي الحكم فقال إن قومي يختلفون فأحكم بينهم فيرضون بحكمي فكنوني بأبي الحكم فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - هل لك من أبناء قال نعم لي ثلاثة أبناء شريح وفلان وفلان فقال من أكبرهم قال شريح فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنت أبو شريح أما اسمه فقد اختلف فيه على أقوال ذكرها ابن دقيق العيد وقال إنه توفي في المدينة سنة ثمان وستين أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص قلت: عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق ولي الإمارة على المدينة لمعاوية وابنه يزيد ثم طلب الخلافة لنفسه وغلب على دمشق فتلطف به عبد الملك ثم قتله غدراً
البعوث : جمع بعث وهو إرسال الجيش للقتال
قوله ائذن لي أيها الأمير : طلب الإذن من الأمير بالكلام من باب التلطف
قوله الغدَ من يوم الفتح : أي اليوم الثاني بعد يوم الفتح
قوله فسمعته أذناي : أسند السمع إلى الأذن وإنما هو لطبلة الأذن والأذن وعاء للسمع
قوله ووعاه قلبي : أي فهمه
وأبصرته عيناي حين تكلم به : هذا للتأكيد أي لتأكيد السماع ومباشرته له
أنه حمد الله وأثنى عليه : وهذا ما تستفتح به الخطب
قوله أن يسفك بها دماً : أي يريقه بالاعتداء علي صاحبه
ولا يعضد بها شجرة : العضد القطع
قوله وإنما أذن لي ساعة من نهار : أي وقتاً محدداً
قوله وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس : يعني أن الأذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى وعادت الحرمة إلى مكة بانتهائه
قوله فليبلغ الشاهد الغائب : أي من حضر يبلغ من لم يحضر
فقيل لأبي شريح ما قال لك : أي بعد أن قلت له ما قلت
قال أنا أعلم بذلك منك : الأصل أن يكون قال أبو شريح قال عمرو أنا أعلم بذلك منك فحذف أحدهما وبقي الآخر(3/276)
لا يعيذ عاصياً : لا يمنعه ولا يجيره من إقامة الحد عليه لو وجب وكذلك من فرّ بدم أو فرّ بخربة قال الصنعاني أقول بخاء معجمة مفتوحة وكسر الراء وقال النووي هي بفتح الخاء المعجمة وإسكان الراء هذا هو المشهور ويقال بضم الخاء أيضاً حكاها القاضي وصاحب المطالع وآخرون وأصلها سرقة الإبل وتطلق على كل خيانة وفي صحيح البخاري أنها البلية وقال الخليل هي الفساد في الدين من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض وقيل هي العيب أ هـ من صحيح مسلم بشرح النووي جـ9 ص 137 .
المعنى الإجمالي
بينما كان عمرو بن سعيد بن العاص يبعث البعوث من المدينة إلى مكة في خلافة يزيد بن معاوية لقتال ابن الزبير أتاه أبو شريح الكعبي الصحابي الجليل واستأذن بأن يحدثه ما قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة أي بعد ذلك بيوم وأنه قال إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ولا يعضد بها شجراً فكان رد عمرو بن سعيد بن العاص عليه بأن قال أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح فعارض الحديث برأيه ولم يمتنع عن إرسال البعوث لقتال ابن الزبير بل استمر على ذلك .
فقه الحديث
يؤخذ من الحديث عدة مسائل
أولاً: في قوله وهو يبعث البعوث إلى مكة يؤخذ منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتنبيه الغافل وتذكير الناسي وتعليم الجاهل وقد كان أبو شريح يريد أن يمنع عمرو بن سعيد أو ينهاه عن بعث البعوث لقتال ابن الزبير في الحرم .
ثانياً : يؤخذ من قوله ائذن لي أيها الأمير مشروعية التلطف للأمراء والكبراء في الكلام ليكون أدعى للقبول
ثالثاً : يؤخذ من قوله سمعته أذناي ووعاه قلبي ... ألخ تأكيد حفظه لتلك الخطبة وما حوته من أوامر ونواهي
رابعاً :يؤخذ من قوله حمد الله وأثنى عليه أن الخطبة ينبغي أن تبدأ بحمد الله والثناء عليه(3/277)
خامساً :يؤخذ من قوله ثم قال إن مكة حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس يؤخذ منه أن تحريم مكة كان أمراً من الله قضاءً منه يوم خلق السموات والأرض وأن إبراهيم عليه السلام إنما نسب إليه تحريمها لأنه كان المظهر له والمشيع له في الناس
سادساً: في قوله ولم يحرمها الناس تأكيد لما قبله
سابعاً :في قوله ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً وهذا هو المناسب لما كان يعمله عمرو بن سعيد لأن إرسال الجيش لقتال ابن الزبير في نفس الحرم يدل على استهانته لسفك الدماء في هذا البلد المحرم
ثامناً :يؤخذ منه تحريم القتال في حرم مكة وقد اختلف أهل العلم فيما إذا بغى باغ وعاذ بمكة أو خرج بها أصلاً أو جاء أناس من الكفار فاحتلوها هل يجوز قتالهم أم لا ؟ فمن أهل العلم من أجاز ذلك ومنهم من منعه وقال لا يقاتلون ولكن يضيق عليهم والجمهور على جواز قتالهم إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك
تاسعاً :قوله ولا يعضد بها شجره يؤخذ منه تحريم قطع شجر الحرم وهو مجمع عليه فيما نبت بنفسه ولم يكن شوكاً واختلف فيما استنبته الآدمي فأجاز الجمهور قطعه ومنع ذلك بعض أهل العلم واختلفوا أيضاً في الشوك وسيأتي في الحديث الذي بعد هذا
عاشراً : في قوله وإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم فيؤخذ من هذا أنه لا يجوز الترخص قياساً على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم -(3/278)
الحادي عشر : يؤخذ منه أن مكة فتحت عنوة وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وقال الشافعي إنها فتحت صلحاً وهذا خلاف ما ثبت في المغازي والسير وفي الأحاديث الصحيحة حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ) (1)
الثاني عشر :يؤخذ من قوله وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس أن حرمتها عادت بعد فتحها ذلك اليوم وكان الحكم رفع ساعات من نهار ثم عاد إليها فهي حرام إلى يوم القيامة
الثالث عشر :يؤخذ من قوله فليبلغ الشاهد الغائب وجوب إبلاغ الأحكام الشرعية على من علمها وأنه يبلغ من لم يعلمها وهذا الخطاب عام في كل أحكام الشريعة .
[218] الحديث الثاني : عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة – (( لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا )) وقال يوم فتح مكة : (( إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه )) فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال إلا الإذخر .
موضوع الحديث : حرمة مكة
المفردات
لا هجرة : أي بعد الفتح من مكة إلى المدينة لأن مكة صارت بالفتح دار إسلام كما أن المدينة دار إسلام
قوله ولكن جهاد ونية : أي جهاد للكفار ونية خالصة لإعلاء كلمة الله
قوله وإذا استنفرتم فانفروا : أي إذا طلب منكم النفر فانفروا وإنما يتعين بتعيين الإمام
__________
(1) مسلم في كتاب الجهاد والسير باب فتح مكة رقم 1780 وأبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء باب ما جاء في خبر مكة رقم 3021 ورقم 3022 وأحمد في باقي مسند المكثرين .(3/279)
قوله إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض : بيان حرمته أنها قديمة منذ أوجد الله الكون
قوله وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي : أي الحل الشرعي بالقتال فيه لم يكن لأحد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولن يكون لأحد بعده
قوله لا يعضد شوكه : العضد القطع
ولا ينفر صيده : أي لا يزعج صيده حتى ينفر من مكانه
ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها : التعريف هو أن يقول من له ضالة
قوله ولا يختلى خلاه : أي يؤخذ العلف الذي يكون فيه والخلى هو الحشيش الأخضر
قوله إلا الإذخر : الإذخر هو نوع من الحشيش له رائحة طيبة
فإنه لقينهم : المراد بالقين الحداد والصواغ
قوله وبيوتهم : أي أنه يوضع على السقوف فوق الخشب وتحت الطين .
المعنى الإجمالي
المعنى الإجمالي لحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام خطيباً يوم فتح مكة فقال لا هجرة أي من مكة إلى المدينة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا ثم ذكر حرمة مكة وأن ذلك منذ خلق الله السموات والأرض وأنها لم تحل لأحد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولن تحل لأحد بعده وإنما أحلت له ساعة من نهار ثم عادت حرمتها ثم ذكر حرمة مكة وأن لا يعضد شوك الحرم ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يؤخذ خلاه وهو العلف والحشيش واستثني من ذلك الإذخر لمصلحة أهل مكة
فقه الحديث
أولاً : يؤخذ من قوله لا هجرة أي بعد الفتح من مكة إلى المدينة لأن مكة صارت دار إسلام كما أن المدينة دار إسلام.
ثانياً :اللام في قوله لا هجرة نافية للجنس فهي تعم كل هجرة من مكة إلى المدينة ولكن الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فهي مشروعة وباقية إلى قيام الساعة فمتى وجد المقتضي للهجرة شرعت إلى المكان الذي يأمن فيه المسلم على دينه وعلى نفسه(3/280)