|
تم استيراده من نسخة: أ/علي عبد الباقي
قلت : وأشبه ما ذكر في ذلك : الوجه الثاني ؛ مع أنَّه لم تَثْلَجُ النفسُ به ، ولا طاب لها . وقد ظهر لي وجة خامس - وأنا أستخير الله في ذكره - وهو : أن النبوَّة معناها : أن يُطلع الله من يشاء من خلقه على ما يشاء من أحكامه ووحيه : إما بالمشافهة ، وإما بواسطة ملك ، أو بإلقاء في القلب ، لكن هذا المعنى المسمَّى بالنبوَّة لا يخلق الله به إلا من خصَّه بصفات كمال نوعه من المعارف ، والعلوم ، والفضائل ، والآداب ، ونزهه عن نقائص ذلك . ولذلك قال سبحانه : { الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس } ، وقال : { الله أعلم حيث يجعل رسالته} ، وقال تعالى لما ذكر الأنبياء : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده } ، وقال : { كُلاً هدينا } ، وقال لنبيِّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : { وإنَّك لعلى خلق عظيم } ، فقد حصل من هذا : أن النبوَّة لم يخلق الله بها إلا أكمل خلقه ، وأبعدهم عن النقائص . ثم : إنه لما شرفهم بالنبوَّة حصلت لهم بذلك على جميع نوعهم الخصوصية ، فلما كانت النبوَّة لا يخلق الله بها إلا من حصلت له خصال الكمال أطلق على تلك الخصال : نبوة ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( التؤدة والاقتصاد ، والسَّمت الحسن جزء من النبوة )) ؛ أي : من خصال الأنبياء ، لكن الأنبياء في هذه الخصال متفاضلون ، كما قال تعالى : { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } ، وقال : { تلك الرُّسل فضلنا بعضهم على بعض } ، فتفاضلهم بحسب ما وهب لكل واحد منهم من تلك الصفات ، وشرَّف به من تلك الحالات ، وكل منهم الصدق أعظم صفته في نومه ويقظته ، وكانوا تنام أعينهم ، ولا تنام قلوبهم ، فنائمهم يقظان ، ووحيهم في النوم واليقظة سيَّان ؛ فمن ناسبَهُم في الصِّدق حصل من رؤياه على الحق ؛ غير أنه لما كان الأنبياء في مقاماتهم وأحوالهم متفاضلين ، وكان كذلك أتباعهم من الصَّادقين ، وكان أقل خصال كمال الأنبياء ما إذا اعتُبر كان ستًّا وعشرين جزءًا ،
(8/147)
وأكثر ما يكون ذلك سبعين ، وبين العددين مراتب مختلفة بحسب ما
---
اختلفت ألفاظ تلك الأحاديث . وعلى هذا : فمن كان من غير الأنبياء في صلاحه وصدقه على رتبة تناسب كمال نبيٍّ من الأنبياء ، كانت رؤياه جزءًا من نبوة ذلك النبي ، وكمالاتهم متفاضلة كما قرَّرناه ، فنسبة أجزاء منامات الصَّادقين متفاوتة على ما فصلناه . وبهذا الذي أظهر لنا يرتفع الاضطراب . والله تعالى الموفق للصَّواب .
وقوله : (( الرؤيا ثلاثة : بشرى من الله )) ؛ أي : مُبشرة بخير ، ومحذرة عن شرٍّ ، فإن التحذير عن الشرِّ خيرٌ ، فتتضمَّنه البشرى . وإنَّما قلنا ذلك هنا لأنَّه قد قال في حديث الترمذي المتقدِّم : (( الرؤيا ثلاثة : رؤيا من الله )) مكان : (( بشرى من الله )) ، فأراد بذلك - والله أعلم - الرؤيا الصادقة المبشرة والمحذرة .
وقوله : (( ورؤيا تحزين )) ؛ ويلحق بالرؤيا المحزنة المفزعات ، والمهوِّلات ، وأضغاث الأحلام ؛ إذ كل ذلك مذموم ؛ لأنها من آثار الشيطان ، وكل ما ينسب إليه مذموم .
وقوله : (( ورؤيا مِمَّا يحدِّث المرء به نفسه )) ؛ يدخل فيه ما يلازمه المرء في يقظته من الأعمال ، والعلوم ، والأقوال ، وما يقوله الأطباء : من أن الرؤيا تكون عن خلطٍ غالب على الرائي ، فيرى في نومه ما يناسب ذلك الخلط ؛ فمن يغلب عليه البلغم رأى الشباحة في الماء وما أشبهه ، لمناسبة الماء طبيعة البلغم . ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الارتفاع ؛ لمناسبة النَّار في الطبيعة طبيعة الصفراء . وهكذا يقولون في بقية الأخلاط ، ونحن ننازعهم في موضعين :
أحدهما : في أصل تأثير الطبيعة ؛ فإنَّ قالوا : إن الطبيعة سببٌ عادي ، والله تعالى هو الفاعل بالحقيقة . وهو مذهب المسلمين ؛ فهو الحق. وإن قالوا : إن الطبيعة تفعل ذلك بذاتها ؛ حكمنا بتكفيرهم ، وانتقل الكلام إلى علم الكلام .
---
(8/148)
والثاني : أن من أراد منهم أن الرؤبا لا تكون إلا عن الأخلاط ؛ فهو باطل بما قد ثبت عن الصادق فيما ذكرناه من الأحاديث : أن الرؤيا منها ما يكون من الله ، وهي المبشرة ، والمحذرة . وهذا من باب الخير ، وليس في قوة الطبيعة أن تطلع على الغيب بالإخبار عن أمور مستقبلة تقع في المستقبل على نحو ما اقتضته الرؤيا بالاتفاق بين العقلاء . ومن أراد منهم : أن الأخلاط قد تكون سببًا لبعض المنامات ، فقد يسلم ذلك على ما قرَّرناه ، ثمَّ يبقى نظر آخر ، وهو أنه لو كان ما قالوه صحيحًا للزم عليه ألا يرى من غلب عليه خلط من تلك الأخلاط إلا ما يناسبه ، ونحن نشاهد خلافه ، فيرى البلغمي النيران ، والصعود في الارتفاعات ، وعكس ذلك في الصفراوي ، فبطل ما قالوه بالمشاهدة ، والله وليُّ المعاضدة .
وقوله : (( فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل )) ؛ ليس هذا مخالفًا لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرواية الأخرى : (( فلينفث عن يساره ثلاثًا ، وليتعوَّذ بالله من شرِّها ، وليتحوَّل عن جنبه الذى كان عليه )) ؛ وإنما الأمر بالصلاة زيادة فينبغي أن تزاد على ما في هذه الرواية ، فيفعل الجميع. ويحتمل أن يقال : إنما اقتصر في هذا الموضع على ذكر الصلاة وحدها ؛ لأنَّه إذا صلَّى تضمَّن فعله للصلاة جميع تلك الأمور ؛ لأنَّه إذا قام إلى الصلاة تحوَّل عن جنبه ، وإذا تمضمض نفث وبصق ، وإذا قام إلى الصلاة تعوَّذ ودعا ، وتفرغ لله تعالى في ذلك في حالٍ هي أقرب الأحوال إجابة ، كما قدَّمناه ، والله تعالى أعلم .
---
(8/149)
وقوله : (( ولا يخبر بها أحدًا )) ؛ أي : لا يعلق نفسه بتأويلها ؛ إذ لا تأويل لها ، فإنها من ألقيات الشيطان التي يقصد بها التشويش على المؤمن ، إما بتحزين ، وإما بترويع ، أو ما أشبه ذلك . وفعل ما ذكر كاف في دفع ذلك ، ومانع من أن يعود الشيطان لمثل ذلك ، وهذا هو الذي فهمه أبو سلمة من الحديث ، والله تعالى أعلم ، فقال : إن كنت لأرى الرؤيا أثقل عليَّ من الجبل ، فما أباليها . وفي أصل كتاب مسلم قال : كنت لأرى الرؤيا أعرى لها ، غير أني لا أزَّمَّل ؛ أي : تصيبي العرواء ، وهي الرعدة . وقال في رواية أخرى : إن كنت لأرى الرؤيا فتمرضني غير أنِّي لا ازَّمَّل لها. والتزميل : اللف ، والتَّدثير ؛ يعني : أنها ما كانت تدوم عليه فيحتاج إلى أن يدَّثَّر ، لكنه بنفس ما كان يفعل ما أمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النفث والتعوُّذ وغيره يزول عنه ذلك ، ببركة الصدق ، والتصديق ، والامتثال . وفائدة هذا : ألا يشغل الرائي نفسه بما يكره في نومه ، وأن يعرض عنه ، ولا يلتفت إليه ؛ فإنَّه لا أصل له . هذا هو الظاهر من الأحاديث ، والله تعالى أعلم .
---
(8/150)
وقوله : (( وأحبُّ القيد ، وأكره الغُلَّ ... )) إلى آخره ؛ ظاهره : أنه من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير أن أيوب السختياني هو الذي روى هذا الحديث عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، وقد أخبر عن نفسه : أنه شكَّ هل هو من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ أو من قول ابن سيرين ؟ فلا يعوَّل على ذلك الظاهر ، غير أن هذا المعنى صحيح في العبارة لأن القيد في الرجلين ، وهو يُثبِّت الإنسان في مكانه ، فإذا رآه من هو على حال ما على رجليه كان ذلك دليلاً على ثبوته على تلك الحالة ، فإذا راه من هو من أهل الدين والعلم كان ثباتًا على تلك الحال. ولو رأى المريض قيدًا في رجليه كان ذلك دليلاً على دوام مرضه . وإنما كره الغل لأنَّه لا يُجعل إلا في الأعناق نكاية ، وعقوبة ، وقهرًا ، وإذلالاً . فيسحب علي وجهه ، ويجر على قفاه ، كما قال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحبون في الحيم ثم في النار يُسحبون } ، ومنه قوله تعالى : { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } ، و{ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهى إلى الإذقان فهم مقمحون }. وعلى الجملة : فهو مذموم شرعًا وعادة . فرؤيته في النوم دليلٌ على وقوع حالة سيئة بالرائي تلازمه ، ولا ينفك عنها ، وقد يكون ذلك في دينه ، كواجبات فرَّط فيها ، أو معاصٍ ارتكبها ، أو ديونٍ ، وحقوقٍ لازمة له . وقد يكون ذلك في دنياه من شدائد تصيبه ، أو أنكاد تلازمه . وبالجملة : فالمعتبر في أعظم أصول العبارة النظر إلى أحوال حوال الرائي واختلافها ، فقد يرى الرائيان شيئًا واحدًا ، ويدل في حق أحدهما على خلاف ما يدل عليه في حق الآخر.
ومن باب رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المنام
---
(8/151)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من رآني في المنام فقد رآني فإنَّ الشيطان لا يتمثل بي )) ، وفي أخرى : (( فإنَّ الشيطان لا ينبغي له أن يتشبه بي )) ، وفي أخرى : (( لا ينبغي أن يتمثل في صورتي )) ، وفي غير كتاب مسلم : (( لا يتكوَّنُني )). اختلف في معنى هذا الحديث ؛ فقالت طائفة من القاصرين : هو على ظاهره ، فمن رآه في النوم رأى حقيقته ، كما يرى في اليقظة . وهو قول يُدرَك فساده بأوائل العقول ؛ فإنَّه يلزم عليه ألا يراه أحدٌ إلا على صورته التي توفي عليها ، ويلزم عليه ألا يراه رائيان في وقت واحد في مكانين ، ويلزم عليه أن يحيا الآن ، ويخرج من قبره ، ويمشي في الناس ، ويخاطبهم ، ويخاطبونه كحالته الأولى التي كان عليها ، ويخلو قبره عنه ، وعن جسده ، فلا يبقى منه فيه شيء فيزار غير جدث ، ويُسلَّم على غائب ؛ لأنَّه يُرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته ، في غير قبره . وهذه جهالات لا يبوء بالتزام شيء منها من له أدنى مسكة من المعقول ، وملتزم شيء من ذلك مختل مخبول .
وقالت طائفة أخرى : إنما معناه : أن من رآه على صفته التي كان عليها في الدنيا فمنامه ذلك هو الصحيح ، ورؤيته له حق ؟ فإنَّ الشيطان لا يتصوَّر بصورته التي كان عليها.
---
(8/152)
قلت : وهذا يلزم منه : أن من راه على غير صفته التي كان عليها ألا تكون رؤيته حقًّا ، وتكون من باب أضغاث الأحلام . ومن المعلوم : أنه يجوز أن يرى في النوم على حالة تخالف ما كان عليها في الوجود من الأحوال اللائقة به ، ومع ذلك : فتقع تلك الرؤيا حقًّا كما إذا رئي قد ملأ بلدة ، أو دارًا بجسمه ؛ فإنَّه يدلّ على امتلاء تلك البلدة بالحق والشرع ، وتلك الدار بالبركة . وكثيرًا ما وقع نحو هذا ، وأيضًا : فلو تمكَّن الشيطان من التمثُّل في شيء مما كان عليه ، أو نسب إليه لما صدق مطلقًا قوله : (( فإنَّ الشيطان لا يتمثل بي )) ، فإنَّه إذا تمثل ببعض صفاته وأحواله فقد تمثل به ، فالأولى أن تنزه رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو رؤية شيء من أحواله ، أو مما ينسب إليه عن تمكُّن الشيطان من شيء منه . وفي جميع ذلك مطلقًا أبلغ في الحرمة ، وأليق بالعصمة ، وكما عصم من الشيطان في يقظته في كل أوقاته ، كذلك عصم منه في منامه ، مع اختلاف حالاته . فالصحيح في معنى هذا الحديث - إن شاء الله تعالى - أن يقال : إن مقصوده الشهادة منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن رؤيته في النوم على أي حال كان ليست باطلة ، ولا من أضغاث الأحلام ؛ بل هي حق في نفسها ، وإن تصوير تلك الصورة ، وتمثيل ذلك المثال ليس من قبل الشيطان ؛ إذ لا سبيل له إلى ذلك ، وإنما ذلك من يعل الله تعالى . وهذا مذهب القاضي أبي بكر وغيره من المحققين. وقد شهد لذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من رآني فقد رأى الحق )) ؛ أي : الحق الذي قصد إعلام الرائي به ، وإذا كانت تلك حقًّا فينبغي أن يبحث عن تأويلها ، ولا يُهمل أمرها ، فإنَّ الله تعالى إنما مثَّل ذلك للرائي بشرى ، فينبسط للخير ، أو إنذارًا لينزجر عن الشر . أو تنبيهًا على خير يحصل له في دين ، أو دنيا . والله تعالى أعلم .
---
(8/153)
تنبيه : قد قررنا أن المدرك في المنام أمثلة للمرئيات لا أنفس المرئيات ، غير أن تلك الأمثلة تارة تكون مطابقة لحقيقة المرئن ، وقد لا تكون مطابقة . ثم المطابقة قد تظهر في اليقظة على نحو ما أدركت في النوم ، كما قد صح عنه ؛ أنه قال لعائشة : (( أريتك في المنام في سَرَقَةٍ من حرير ، فإذا هي أنت )) ، ومعناه : أنه رآها في نومه على نحو ما رآها في يقظته .
قلت : وقد وقع لي هذا مرات . منها : أني لما وصلت إلى تونس قاصدًا إلى الحج سمعت أخبارًا سيِّئةٍ عن البلاد المصرية من جهة العدو الذي غلب على دمياط ، فعزمت على المقام بتونس إلى أن ينجلي أمر العدو ، فأُريت في النوم كأني في مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا جالس قريبًا من منبره ، وأُناس يسلمون على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فجاءني بعض من سلَّم عليه ، فانتهرني وقال : قم فسلِّم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقمت فشرعت في السلام على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فاستيقظت ، وأنا أسلِّم عليه ، فجدَّد الله تعالى لي عزمًا ، ويَسَّر عليَّ فيما كان قد صعب من أسبابي ، وأزال عني ما كنت أتخوَّفه من أمر العدو ، وسافرت إلى أن وصلت إلى الإسكندرية عن مدة مقدارها ثلاثون يومًا في كنف السلامة ، فوجدتها والديار المصرية على أشد خوف ، وأعظم كرب ، والعدو قد استفحل أمره ، وعظمت شوكته ، فلم أكمل في الإسكندرية عشرة أيام حتى كسر الله العدو ، ومنهن منه من غير صُنع أحد من المخلوقين ، بل : بلطف أكرم الأكرمين ، وأرحم الراحمين . ثم : إن الله تعالى كمَّل عليَّ إحسانه ، وإنعامه ، وأوصلني بعد حجِّ بيته إلى قبر نبيه ومسجده ، فرأيته والله في اليقظة على النحو الذي رأيته في المنام من غير زيادة ولا نقصان .
(8/154)
ومنها : أني تزوجت امرأة ، وقبل الدخول بها حذثت عن صفتها ما أوقع في قلبي نُفرة ، فاريتها في النوم على الصفة التي كانت عليها في بيتها ، ثم إنن لما اجتمعت بها وجدتها هي التي أريتها في النوم . ونحو هذا كثير .
---
وأما إذا لم يظهر في اليقظة كذلك ؛ فيعلم أن المقصود بتلك الصورة معناها لا عينها ، وكذلك الحكم إذا خالف ذلك المثال صورة المرئي نفسه إما بزيادة ، أو نقصان ، أو تغيُّر لون ، أو حدوث عيب ، أو زيادة عضو ، أو عين ، أو غير ذلك . فالمقصود بذلك أيضًا : التنبيه على معاني تلك الأمور ، وإذا تقرر هذا فيجوز أن يرى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النوم على صفته التي كان عليها في الوجود ، ويكون من فوائد ذلك : تسكين شوق الرائي ، لكونه مُستهتِرًا بمحبته ، وليعمل على مشاهدته وهذا هو الذي أشار إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمَّا قال : (( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة )) ؛ أي : من رآني رؤية معظِّمٍ لحرمتي ، ومُشتاقٍ لمشاهدتي ؛ وصل إلى رؤية محبوبه ، وظفر بكل مطلوبه .
ويجوز أن يكون مقصود ذلك المنام معنى صورته ، وهو دينه وشريعته ، فيعبَّر بحسب ما رآه الرائي من زيادة ، أو نقصان ، أو إساءة ، أو إحسان ، وكذلك الحكم إذا رئي على خلاف الصورة التي كان عليها مما يجوز عليه .
(8/155)
فأمَّا رؤية الله تعالى في النوم : فقد قال القاضي عياض : لم يختلف العلماء في جواز صحة رؤية الله تعالى في المنام . وإن رئي على صفة لا تليق بجلاله من صفات الأجسام ؛ لتحقق أن ذلك المرئي غير ذات الله تعالى ؛ إذ لا يجوز عليه التجسيم ، ولا اختلاف الحالات ، بخلاف رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانت رؤيته تبارك وتعالى في النوم من باب التمثيل والتخييل . وقال القاضي أبو بكر - رحمه الله - : رؤية الله تعالى في النوم أوهام وخواطر في القلب بأمثال لا تليق به بالحقيقة ، ويتعالى سبحانه وتعالى عنها ، وهي دلالات للرائي على أمر مما كان أو يكون ، كسائر المرئيات. وقال غيره : رؤية الله في المنام حقٌّ وصدقٌ لا كذب فيها ؛ لا في قول ولا في فعل .
---
وقوله : (( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة )) ، أو : (( كأنما رآني في اليقظة )) ؛ هذا شكٌّ من الراوي ، فإنَّ كان اللفظ الأول هو الصحيح ، فتأويله ما ذكرناه . وإن كان الثاني هو الصحيح ، فمعناه : أن رؤيته حق وصدق كما قدمناه . والله تعالى أعلم .
ومن باب لا يخبر بتلعب الشيطان به
(8/156)
وقوله للأعرابي الذى أخبره : أنه رأى أن رأسه قد قطع : (( لا تخبر بتلعب الشيطان بك في منامك )) ؛ دليلٌ على منع أن يخبر الإنسان بما يراه في منامه مما يكرهه ، مما يظن أنه من الشيطان . وقد تقدَّم بيان ذلك. وهذه المنام على مساق هذا الحديث ليس في ظاهرها ما يدلّ على أنها من الشيطان ؛ غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم أنها من الشيطان بطريض آخر غير ظاهرها ، فأمَّا أن يكون ذكر الرائي ما يدلّ على ذلك ، ولم ينقله الراوي ، وإمَّا أن يكون ذلك من باب الوحي وهو الظاهر. وقد ذكر أهل العلم بالعبارة قطع الرأس في النوم ، وذكروا : أنه يدل على زوال نعم الرائي ، أو سلطانه ، أو تغيُّر حاله ، أو مفارقة من هو فوقه ، فإنَّ كان عبدًا دلَّ على عتقه ، أو مريضًا فعلى شفائه ، أو مِدْيانًا فعلى قضاء دينه ، أو صرورة فعلى حَجِّه ، أو مغمومًا فعلى فرجه ، أو خائفًا فعلى أمنه ، إلى غير ذلك مما وسَّعوا القول فيه . وقد ذكر ابن قتيبة في كتاب "أصول العبارة" أن رجلاً قال : يا رسول الله ! رأيت فيما يرى النائم كأن رأسي قطع فجعلت أنظر إليه بإحدى عيني ! فضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : (( بأيتهما كنت تنظر إليه ؟ )) فلبث ما شاء الله ، ثم قُبِض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعبَّر الناس : أن الرأس كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن النظر إليه كان اتباع السُّنَّة .
ومن باب استدعاء العابر ما يعبر
قوله : (( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا صلَّى الصبح أقبل علينا بوجهه )) ؛ فيه دليل على أن الإمام لا يمكث في موضع صلاته إذا فرغ منها ، وقد تقدَّم ذلك.
---
(8/157)
وقوله : (( هل رأى منكم أحدٌ البارحة رؤيا ؟ )) إنما كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألهم عن ذلك لما كانوا عليه من الصلاح ، والصدق ، فكان قد علم أن رؤياهم صحيحة ، وأنها يستفاد منها الاطلاع على كثير من علم الغيب ، وليبين لهم بالفعل الاعتناء بالرؤيا ، والتشوُّف لفوائدها ، وليعلمهم كيفية التعبير ، وليستكثر من الاطلاع على علم الغيب .
وقوله : (( البارحة )) ؛ يعني به : الليلة البارحة ؛ أي : الذاهبة ، اسم فاعل من برح الشيء : إذا ذهب. ومنه قولهم : برح الخفاء ؛ أي : ذهب . وإذا دخل حرف الش على برح صار من أخوات كان التي ترفع الاسم ، وتنصب الخبر . ووقع هذا اللفظ في غير كتاب مسلم : (( هل رأى أحذ منكم الليلة رؤيا )) بدل : (( البارحة )). واستدل به بعض الناس على أن ما بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس هو من الليل ، وليس بصحيح ؛ لأنَّه : إنما أشار لليَّلة البارحة ، لا للساعة الحاضرة بدليل هذه الرواية الصحيحة التي قال فيها : (( البارحة )). ومعناها : الماضية بالاتفاق ، فكانه قال : الليلة الماضية ، أو المنصرمة . ولما كانت قريبة الانصرام أشار إليها ، ولما كان هذا معلومًا اكتفي بذكر الليلة عن صفتها ، ولما كانت (( البارحة )) صفة معلومة لليله استعملها غير تابعة استعمال الأسماء ، وكان الأصل الجمع بين التابع والمتبوع ، فيقال : الليلة البارحة . لكن جاز ذلك لما ذكرناه .
وقوله : (( كان مما يقول لأصحابه )) ؛ قال القاضي أبو الفضل : معنى ((مما )) ها هنا عندهم : كثيرًا ما كان يفعل كذا . قال ثابت في مثل هذا : كأنه يقول : هذا من شأنه ، ودأبه ، فجعل (( ما )) كناية عن ذلك . يريد : ثم أدغم (( من )) فقال : مما يقول. وقال غيره : معنى (( ما )) ها هنا : ربما ؛ لأنَّ ربما تأتي للتكثير .
---
(8/158)
قلت : وهذا كلاتم جملض لم يحصل به بيان تفصيلي ؛ فإنَّ هذا الكلام من السهل جملة الممتنع تفصيلاً . وييانه بالإعراب ، وذلك : أن اسم كان مستتر فيها يعود على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وخبرها في الجملة التي بعدها ، وذلك : أن (( ما )) من (( مما )) بمعنى : الذي ، وهي مجرورة بـ (( من )) وصلتها : يقول ، والعائد محذوف . وهذا المجرور : خبر المبتدأ الذي هو : من رأى منكم رؤيا ؛ فإنَّه كلام محكي معمول للقول ، تقديره : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جملة القول الذي يقوله هذا القول . ويجوز أن تكون مصدرية ، ويكون تقديرها : كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جملة قوله : (( من رأى منكم رؤيا )) و((مَنْ )) في كلا الوجهين : استفهام محكي . والله تعالى أعلم. وأبعد ما قيل فيها : قول من قال : إن (( من ما )) بمعنى : ربما ؛ إذ لا يساعده اللسان ، ولا يلتئم مع تكلُّفه الكلام .
وقوله : (( فليقصَّها أَعْبُرها )) ؛ أي : ليذكر قصتها وليتتبع جزئياتها حتى لا يترك منها شيئًا ، مأخوذ من : قصصت الأثر : إذا تتبعته . و(( أعبرها )) ؛ أي : أعتبرها وأفسرها . ومنه قوله تعالى : { إن كنتم للرءيا تعبرون }. وأصله من عبرت النهر : إذا جُزْتُ من إحدى عُدوتيه إلى الأخرى . و(( الظُّلة )) : السَّحابة التي تظلل من تحتها. و(( تنطف )) : تقطر. والنطفة : القطرة من المائع . و(( يتكففون )) : يأخذون بأكفهم ، ويحتمل أن يكون معناه : يأخذون من ذلك كفايتهم . وهذا أليق بقوله : فالمستكثر من ذلك والمستقل . و(( السبب )) : الحبل .
وقوله : (( بأبي أنت وأمي )) ؛ أي : مَفْدِيٌّ من المكاره والمساويء .
وقوله : (( والله لتدعني فلأعبرها )) ؛ هذه الفاء : زائدة . و(( أعبرها )) منصوب بلام كي ، ويصح أن تكون لام الأمر فتجزم ، ولا تكون لام القسم لما يلزم من فتحها ، ومن دخول النون في فعلها .
---
(8/159)
وفيه من الفقه : جواز الحلف على الغير ، وإبرار الحالف ، فإنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجاب طَلِبَتَه ، وأبرَّ قسمه ، فقال له : (( اعبُر )). ويدل على تمكُّن أبي بكر من علم عبارة الرؤيا . ووجه عبارة أبي بكر لهذه الرؤيا واضحة ، ومناسباتها واقعه ، غير أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قال له : (( أصبت بعضًا ، وأخطأت بعضًا )) ، ولم يبيِّن له ما الذي أخطأ فيه . اختلف الناس فيه ؛ فقيل : معناه : أنه قصَّر في ترك بعض أجزاء الرؤيا غير مفسَّرة ، وذلك أنه ردَّ شيئين لشيءٍ واحد ، فإنَّه ردَّ السَّمن والعسل للقرآن ، ولو ردَّ الحلاوة للقرآن والسَّمن للسُّنَّة ، لكان أليق ، وأنسب . وإلى هذا أشار الطحاوي.
قلت : وفي هذا بُعد ، ويرد عليه مؤاخذات يطول تتبعها . وقال بعضهم : إن المنام يدلّ على خلع عثمان ، لأنه الثالث الذي أخذ بالسبب فانقطع به ؛ غير أنه لم يُوصل له بِعَودِ الخلافة ، فإنَّه قتل ، وإنما وصل لغيره ، وهو علي رضي الله عنهما .
---
(8/160)
قلت : وهذا إنما يصحُّ إذا لم يرو في الحديث : (( له )) من (( وصل له )) على ما نبَّه عليه القاضي فإنَّه قال : ليس فيها (( له )). وإنما هو : (( وصل )) فقط . وعلى هذا يمكن أن ينسب الخطأ إلى هذا المعنى ؛ لأنَّه تأوَّل الوصل له وهو لغيره ، لكن الرواية الصحيحة والموجود في الأصول التي وقفت عليها ثبوت (( له )) ، وعلى هذا فإنما وصل له بالشهادة والكرامة التي أعدَّها الله تعالى له في الدار الآخرة ، وتأوَّلها أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ على الخلافة . والله تعالى أعلم . وبعد هذا فأقول : إن تكلُّف إبداء ذلك الخطأ الذي سكت عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يعلمه أبو بكر ، ولا من كان هناك من أكابر الصحابة وعلمائهم ـ رضى الله عنهم ـ جرأة نستغفر الله تعالى منها ، وإنما لم يعيِّن ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه ليى من الأحكام التي أمر بتبليغها ، ولا أرهقت إليه حاجة ، ولعلَّه لو عيَّن ما أخطأ فيه لأفضى ذلك إلى الكلام في الخلافة ، ومن تتتم له ، ومن لا تتم له ، فتنفر لذلك نفوس ، وتتألم قلوبٌ ، وتطرأ منه مفاسد ، فسدَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك الباب . والله تعالى أعلم بالصواب .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر ـ رضى الله عنه ـ : (( لا تُقسم )) مع أنه قد أقسم . معناه : لا تعد للقسم . ففيه : ما يدلّ على أن أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإبرار المقسم ليس بواجب ، وإنما هو مندوب إليه إذا لم يعارضه ما هو أولى منه .
ومن باب ما رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نومه
حديث أنس ـ رضى الله عنه ـ هذا وتأويله دليل : على أن تعبير الرؤيا قد يؤخذ من اشتقاق كلماتها ، فإنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ من عقبة : حسن العاقبة ، ومن رافع : الرفعة . ومن رطب بن طاب : لذاذة الدين وكماله . وقد قال علماء أهل العبارة أن لها أربعة طرق :
أحدها : ما يشتق من الأسماء كما ذكرناه آنفًا .
(8/161)
وثانيها : ما يعتبر مثاله ، ويميز شكله كدلالة معلم الكتاب على القاضي ، والسلطان ، وصاحب السجن ، ورايس السفينة ، وعلى الوصي والوالد .
---
وثالثها : ما يعبره المعنى المقصود من ذلك الشيء المرئي ، كدلالة فعل السَّفر على السَّفر ، وفعل السوق على المعيشة ، وفعل الدار على الزوجة والجارية .
ورابعها : التعبير بما تقدم له ذكر في القرآن والسُّنة أو الشعر ، أو كلام العرب وأمثالها . وكلام الناس وأمثالهم ، أو خبر معروف ، أو كلمة حكمة ، وذلك كنحو تعبير الخشب بالمنافق ، لقوله تعالى : {كأنهم خُشُب مسندة } ، وكتعبير الفأر بفاسق ؛ لأنَّه في سماه : فويسقًا. وكتعبير القارورة بالمرأة ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( رفقًا بالقوارير )) ؛ يعني : ضعفة النساء ، وتتبع أمثلة ما ذكر يطول .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أريت في المنام أني أهاجر إلى أرض بها نخل )) ؛ هذا يدلُّ على أن هذه الرؤيا وقعت له وهو بمكة قبل الهجرة ، وأن الله تعالى أطلعه بها على ما يكون من حاله وحال أصحابه يوم أحد ، وبأنهم يصاب من صدورهم معه ، وأن الله تعالى يثبتهم بعد ذلك ، ويجمع كلمتهم ، ويقيم أمرهم ، ويعزُّ دينهم ، وقد كمَّل الله تعالى له ذلك بعد بدر الثانية . وهي المرادة في هذا الحديث على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
---
(8/162)
وقوله : (( فذهب وَهَلي إلى أنها اليمامة ، أو هجر ، فإذا هي المدينة )) ؛ أي : ذهب وهمي وظني . والوهل - بفتح الهاء - : ما يقع في خاطر الإنسان ، ويهتم به . وقد يكون في موضع آخر : الغلط ، وليس مرادًا هنا بوجه ؛ لأنَّه لم يجزم بأنها واحدة منهما ، وإنما جوَّز ذلك ؛ إذ ليس في المنام ما يدلّ على التعيين ، وإنما أري أرضًا ذات نخل ، فخطر له ذانك الموضعان ، لكونهما من أكثر البلاد نخلاً ، ثم إنه لما هاجر إلى المدينة تعيَّنت له تلك الأرض ، فأخبر عنها بعد هجرته إليها بقوله : (( فإذا هي المدينة )). ففيه ما يدلّ : على أن الرؤيا قد تقع موافقة لظاهرها من غير تأويل. وأن قد الرؤيا قبل وقوعها لا يقطع الإنسان بتأويلها ، وإنما هو : ظن وحدس ؛ إلا فيما كان منها وحيًا للأنبياء ، كما وقع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله لابنه : { إني أرى في المنام أني أذبحك } ، فإنَّ ذلك لا يكون إلا عن يقين يحصل لهم قطعًا ، خلافًا لمن قال من أهل البدع : إن ذلك منه كان ظنًّا وحسبانًا . وهو قول باطل ؛ لأنَّه لم يكن ليقدم على معصوم الدم - قطعًا - محبوب شرعًا وطبعًا بمنام لا أصل له ولا تحقيق فيه .
---
(8/163)
وقوله : (( ورأيت في رؤياي هذه : أني هززت سيفًا فانقطع صدره )) ؛ هذا نصٌّ في أن رؤيته لدار هجرته ، ولهذه الحالة الدالة على قضية يوم أحد كانت منامًا واحدًا ، وقد تأوَّل ـ صلى الله عليه وسلم ـ السيف هنا بالقوم الذين كانوا معه ، الناصرين له أخذًا من معنى السيف لأنه به ينتصر على الأعداء ، ويعتضد في اللقاء ، كما يعتضد بالأنصار والأولياء . وقد يُتأوَّل على وجوه متعددة في غير هذا الموضع ، فقد يدلّ على الولد ، والوالد ، والعم ، والعصبة ، والزوجة ، والسلطان ، والحجَّة القاطعة ، وذلك بحسب ما يظهر من أحوال الرائي والمرئي ، ووقت الرؤيا . وإنما تأوَّل انقطاع صدر السيف بقتل من قتل يوم أحد ؛ لأنَّهم كانوا معظم صدر عسكره ؛ إذ كان فيهم : عمه حمزة ، وغيره من أشراف المهاجرين والأنصار ، فاقتبس صدر القوم من صدر السيف ، والقطع الذي رأى فيه قطع أعمار المقتولين . وهزِّه للسيف : هو حمله إياهم على الجهاد ، وحثهم عليه . والرواية الصحيحة الفصيحة هي : (( هززته )) بزايمن ، وتاء مثناة من فوقها. وقد قاله بعض الرواة بزاي واحدة مشدَّدة ، وياء مخففة ، فيقول : ((هزَّيتُه)) ، وقيل : هي لغة بكر بن وائل .
---
(8/164)
وقوله : (( ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان ، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح ، واجتماع المؤمنين )) ؛ يعني به - والله أعلم - ما صنع الله لهم بعد أحد ، وذلك : أنهم لم ينكلوا عن الجهاد ، ولا ضعفوا ، ولا استكانوا لما أصابهم يوم أحد ، لكن جدَّدوا نياتهم ، وقوَّوْا إيمانهم وعزماتهم ، واجتمعت على ذلك جماعاتهم ، وصحَّت في ذلك رغباتهم ، فخرجوا على ما بهم من الضعف والجراح فغزوا غزوة حمراء الأسد مستظهرين على عدوهم بالقوة والجلد ، ثم فتح الله تعالى عليهم ، ونصرهم في غزوة بني النضير ، ثم في غزوة ذات الرِّقاع ، ثم لم يزل الله تعالى يجمع المؤمنين ، ويكثرهم ، ويفتح عليهم إلى بدر الثانية ، وكانت في شعبان في السنة الرابعة من الهجرة ، وبعد تسعة أشهر ونصف شهر من أحد ، فما فتح الله عليه به في هذه المدة هو المراد هنا كما يأتي .
وقوله : (( ورأيت أيضًا فيها بقرًا ، والله خيرٌ )) ؛ الضمير في (( فيها )) عائد على الرؤيا المذكورة . والرواية المشهورة برفع (( الله - و- خير )) على الإبتداء والخبر ؛ أي : وثواب الله خيرٌ للنفر المقتولين بالشهادة ، ولس أصيب بهم بأجر المصيبة ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : ورأيت والله بقرًا تنحر . على إعمال (( رأيت )) في (( بقرًا )) ، وعلى خفض اسم الله تعالى على القسم . وهكذا روى الخبر ابن هشام . وسمِّي ذلك خيرًا على جهة التفاؤل .
قلت : والأول أوضح ، وأبعد من الاعتراض .
---
(8/165)
وقوله : (( فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد )) ؛ يحتمل أن يكون أخذ النفر من لفظ : بقر- مصحفًا - ؛ إذ لفظهما واحد ، وليس بينهما إلا اختلاف النقط ، فيكون هذا تنبيهًا على طريق خامس في طرق العبارة المتقدِّمة . ويحتمل أن يكون أخذ ذلك من أن الرجال المقاتلة في الحرب يشبهون بالبقر ؛ لما معها من أسلحتها التي هي قرونها ، ولمدافعتها بها ، ومناطحتها بعضها لبعضٍ بها ، وقد كانت العرب تستعمل القرون في الرماح عند عدم الأسنة . والله تعالى أعلم ، وكان هؤلاء المؤمنين الذين عبر عنهم بالبقر غير المؤمنين الذين عبر عنهم بصدر السيف . فكان أولئك صدر الكتيبة ، وهؤلاء مقاتلتها ، والكل من خير الشهداء ، وأفضل الفضلاء .
وقوله : (( فإذا هو ما جاء الله به من الخير بعد )) ؛ هكذا صحَّت الرواية بضم (( بعد )) على قطعه عن الإضافة . ويعني به ما أصيبوا به يوم أحد . والعامل فيه (( جاء )) و(( الخير )) : هو الذي ذكرناه آنفًا .
---
(8/166)
وقوله : (( وثواب الصِّدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر )) ؛ كذا صحت الرواية : (( بعد )) منصوبًا على الظرف المعرب المضاف إلى (( يوم بدر )) ، أوالعامل فيه : (( آتانا )). فهذان أمران مختلفان أوتيهما في وقتين مختلفين . أحدهما : بعد أحد ، والثاني : بعد بدر ؛ مع أنهما مرتبان على ما جرى في أحد ، فيستحيل أن يكون يوم بدر هنا هو يوم غزوة بدر الكبرى ؛ لتقدُّم بدر الكبرى على أحد بزمان طويل ؛ لأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج إلى بدر الأولى في شهر رمضان في السَّنة الثانية من الهجرة . وكانت أحد في السنة الثالثة في النصف من شوَّالها ، ولذلك قال علماؤنا : إن يوم بدر في هذا الحديث هو يوم بدر الثاني ، وكان من أمرها : أن قريشًا لما أصابت في أحد من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أصابت ، وأخذوا في الرُّجوع نادى أبو سفيان يُسمِعُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال : موعدكم يوم بدر في العام المقبل . فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض أصحابه أن يجيبه بنعم ، فلمَّا كان العام المقبل - وهي السنة الرابعة من الهجرة - ؛ خرج في شعبانها إلى بدر الثانية ، فوصل إلى بدر ، وأقام هناك ينتظر أبا سفيان ، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى بلغ عسفان . ثمَّ : إنهم غلبهم الخوف ، فرجعوا ، واعتذروا بأن العام عام جدب . وكان عذرًا محتاجًا إلى عذر ، فأخزى الله المشركين ، ونصر المؤمنين . ثمَّ : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يزل منصورًا ، وبما يفتح الله عليه مسرورًا ، إلى أن أظهر الله تعالى دينه على الأديان ، وأخمد كلمة الكفر والطغيان . وقول ابن عباس رضي الله عنهما : (( قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة ، فجعل يقول : إن جعل لي محمدٌ الأمر من بعده تبعته )). مسيلمة هذا هو : ابن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبدالحارث بن عثمان بن الحارث بن ذُهل بن الذُّؤل بن حنيفة . قال ابن
(8/167)
إسحاق : وكان من شأنه : أنه تنبأ على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنة عشر ، وكان يشهد : أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ، ويزعم : أنَّه شريك
---
معه في نبوَّته . وقال سعيد بن المسيب : إنه كان قد تسمَّى بالرحمن قبل أن يولد عبدالله بن عبدالمطلب - أبو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ - ، وأنَّه قتل وهو ابن خمسين ومائة سنة . قال سعيد بن جبير : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قال :
{ بسم الله الرحمن الرحيم }
، قالت قريش : إنما يعني : مسيلمة. قال ابن إسحاق : وإنَّه تسارع إليه بنو حنيفة ، وإنَّه بعث برجلين من قومه بكتاب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك ، أما بعد : فإني أُشركت معك في الأمر ، فلي نصف الأرض ، ولك نصفها ، ولكن قريش قومٌ لا يعدلون . فلمَّا قرأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكتاب ؛ قال للرَّسولين : (( ما تقولان أنتما ؟ )) قالا : نقول ما قال صاحبنا . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لولا أن الرُّسل لا تُقتل ، لقتلتكما )) ، ثم كتب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، سلام على من اتَّبع الهدى ، أما بعد : فـ{ إن الله لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } )) ، فلما انتهى الكتاب إليه انكسر بعض الانكسار ، وقالت بنو حنيفة : لا نرى محمدًا أقرَّ بشركة صاحبنا في الأمر .
---
(8/168)
قال ابن إسحاق : تنبأ على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسيلمة ، وصاحب صنعاء : الأسود بن عزة العنسي ، وطليحة ، وسجاح التميمية جاءت إلى مسيلمة فقالت له : ما أوحي إليك ؟ قال : أوحي إلي : ألم تر إلى ربِّك كيف خلق الْحُبلى ، أخرج منها نسمةً تسعى بين صفاقٍ وحشًا. قالت : وماذا ؟ فقال : ألم تر أن الله خلق للنساء أفراجًا ، وخلق الرجال لهن أزواجًا ، فيولج فيهنَّ قَعْسًا إيلاجًا ، ثمَّ يخرجه إذا استمنى إخراجًا . فقالت : أشهد أنَّك نبي ! قال : هل لك أن أتزوَّجك ، فآكل بقومي وقومك العرب ؟ فتزوَّجته ، فنادى مناديها : ألا إنَّا أصبنا الدِّين في بني حنيفة. ونادى منادي بني حنيفة : ألا إن نبيَّنا تزوج نبيتكم . وقالت له : يا أبا ثمامة ! ضع عن قومي هاتين الطويلتين ؛ صلاة الفجر ، وصلاة العشاء الآخرة . فخرج مناديه فنادى بذلك . فقال شيخ من بني تميم : جزى الله أبا ثمامة عنا خيرًا ، فوالله : لقد كاد ثقلهما علينا يوتغنا عن ديننا .
قال غير ابن إسحاق : ولما استفحل أمر مسيلمة قدم المدينة في بشر كثير ، ونزل على عبدالله بن أُبي ، فجاءه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر ابن عباس ، وفي غير حديث ابن عباس : أن مسيلمة جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وفي حديث آخر : مسيلمة كان في ظهر القوم ، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سأل عنه(3).
---
(8/169)
قلت : فيحتمل أن يكون هذا اختلاف أحوال في قَدْمةٍ واحدة قِدِمها مسيلمة المدينة ، وعند بلوغ قدومه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سأل عنه ، ثمَّ بعد ذلك جاء كل واحد منهما إلى الآخر ، فاجتمعا في موضع غير موضعيهما. وهذا الإحتمال أقرب من احتمال أن يكون مسيلمة قدم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاث مرات . ثم إن مسيلمة رجع إلى اليمامة على حالته تلك ، إلى أن توفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فعظم أمر مسيلمة ، وأطبق أهل اليمامة عليه ، وارتدُّوا عن الإسلام ، وانضاف إليهم بشرٌ كثير من أهل الردَّة ، وقويت شوكتهم ، فكاتبهم أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ كُتبًا كثيرة يعظهم ، ويذكرهم ، ويحذرهم ، وينذرهم إلى أن بعث لهم كتابًا مع حبيب بن عبدالله الأنصاري ، فقتله مسيلمة ، فعند ذلك عزم أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ على قتالهم والمسلمون ، فأمر أبو بكر خالد بن الوليد رضي الله عنهما ، وتجهز الناس ، وعقد الراية لخالد ، وصاروا إلى اليمامة ، فاجتمع لمسيلمة جيش عظيم ، وخرج إلى المسلمين ، فالتقوا ، وكانت بينهم حروب عظيمة لم يسمع بمثلها ، واستشهد فيها من قرَّاء القرآن خلق كثير ، حتى خاف أبوبكر ، وعمر رضي الله عنهما أن يذهب من القرآن شيء لكثرة من قتل هناك من القراء ، ثم إن الله تعالى ثبَّت المسلمين ، وقتل الله تعالى مسيلمة اللعين على يدي وحشي قاتل حمزة ، ورماه بالحربة التي قتل بها حمزة ، ثم دفَّف عليه رجل من الأنصار ، فاحتزَّ رأسه ، وهزم اللهُ جيشَه ، وأهلكهم ، وفتح اللهُ اليمامة ، فدخلها خالد ـ رضى الله عنه ـ واستولى على جميع ما حوته من النساء ، والولدان ، والأموال ، وأظهر الله الدين ، وجعل العاقبة للمتقين ، فالحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيءَ بعده ، وإنما جاء النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مسيلمة ليبلغه الدعوة ، وليسمع قولَه بالمشافهة.
---
(8/170)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ولن أتعدَّى أمر الله فيك )) ؛ كذا في جميع نسخ كتاب مسلم ، وفي البخاري : (( ولن تعدوَ أمر الله فيك )) ، وكلاهما صحيح. ومعنى الأول : أن الله تعالى أمر نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يغلِّظ القولَ لمسيلمة ، وأن يُصرِّح بتكذيبه ، وأن يخبره بأنه لا يبلغ أمله مما يريده من التشريك في الرسالة ، ولا في الأرض ، فلم يتعدَّ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ؛ إذ قد فعل كل ذلك. ويحتمل أن يريدُ بالأمر : ما كتب الله تعالى عليه من الشِّقوة ، وما وسمه به من الكذب والتكذيب ، والأفعال القبيحة ؛ أي : لا أقدر أن أردَّ ما كتب الله عليك من ذلك ؛ غير أن هذا المعنى أظهر من لفظ البخاري منه من لفظ كتاب مسلم .
وقوله : (( ولئن أدبرتَ ليعقرنك الله )) ؛ أي : لَيُهلِكَنَّك بالعقر - وهو
القتل - إن لم تتَّبعني . وكذلك كان كما ذكرناه . فكان هذا من دلائل نبوة نبيِّنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحة رسالته .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وهذا ثابث يجيبك عني )) ؛ يعني : ثابت بن قيس بن شماس ، خطيب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجد على مسيلمة في نفسه ، فأعرض عنه إعراض المحتقر له ، المصغر لشأنه ، وأحال على ثابت لعلمه بأنه يقوم عنه بجواب كل ما يسألونه عنه ، إذ كان من أفضل الناس ، وأكملهم عقلاً ، وأفصحهم لسانًا ، وكان مع ذلك جهوري الصوت ، حسن النغمة ، فكان يقوم بالحجة ، ويبالغ في إيراد الخطبة .
(8/171)
وقوله : (( إني لأراك الذي أريت فيه ما أريت )) ؛ الرواية (( أراك )) بضم الهمزة ؛ بمعنى أظنك ، على ما قد حصل لهذه الصيغة من غلبة عرف الاستعمال ، وقد قررنا : أن أصل (( أُرِى )) من (( رأى )) بمعنى : علم ، أو أبصر ، أدخلت عليه همزة التعدية ، وبنيت لما لم يسم فاعله ، وعلى هذا فيصح أن تكون هنا بمعنى العلم . فيكون معناه : إني لأعلم أنك الذي أريت فيه ما أريت ، وهذا أولى بحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنَّ رؤياه حق ، وتأويله لا يجوز عليه الغلط ، بخلاف غيره ، والله تعالى أعلم.
---
وقوله : (( بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب ، فأهمني شأنهما )) ؛ السوار : ما تجعله المرأة في ذراعيها مما تتحلَّى به من الذهب والفضة ، وفيه ثلاث لغات : كسر الشين ، وضمها ، وبهمزة مضمومة ، فيقال : أُسوار ويجمع أساورة ، فأمَّا أساورة الفُرْسِ فقُوَّادهم . وإنَّما أهمَّه شأنهما ؛ أعني : السوارين ؛ لأنهما من حلية النساء ، ومما يحرم على الرجال .
وقوله : (( فأوحي إلي : أن انفخهما . فنفختُهما ، فطارا )) ؛ ظاهره : أن هذا وفي من جهة الملك على غالب عادته . ويحتمل أن يكون ذلك إلهامًا .
---
(8/172)
وقوله : (( فأوَّلتهما : كذَّابَيْن يخرجان بعدي )) ؛ أي : يظهران ويغلبان بعد موتي ، وإلا فقد كانا موجودين في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد دلَّ على هذا قوله في الرواية الأخرى : (( فأوَّلتهما الكذَّابَيْن اللذين أنا بينهما )). ووجه مناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا : أن أهل صنعاء وأهل اليمامة كانا قد أسلما ، وكانا كالسَّاعدين للإسلام ، فلما ظهر فيهما هذان الكذَّابان ، وتبهرجا لهما بترَّهاتهما ، وزخرفا أقوالهما ، فانخدع الفريقان بتلك البهرجة ، فكان البلدان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمنزلة يديه ؛ لأنَّه كان يعتضد بهما. والسِّواران فيهما هما : مسيلمة ، وصاحب صنعاء بما زخرفا من أقوالهما. ونفخ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هو أن الله أهلكهما على أيدي أهل دينه ، كما ذكرناه في شأن مسيلمة. وأما صاحب صنعاء فهو الأسود بن كعب ، ويلقب بذي حمار ، وسبب هذا اللقب -على ما قاله ابن إسحاق - : أنه لقيه حمار ، فعثر ، فسقط لوجهه ، فقال : سجد لي الحمار . فارتد َّ عن الإسلام ، وادَّعى النبوة ، ومخرق على الجهُّال فاتبعوه ، وغلب على صنعاء ، وأخرج منها المهاجر بن أسد المخزومي ، وكان عاملاً لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها ، وانتشر أمره ، وغلب على امرأة مُسلمة من الأساورة ، فتزوجها فدسَّت إلى قوم من الأساورة : أني قد صنعت سربًا يوصل منه إلى مرقد الأسود فدلتهم على ذلك ، فدخل منه قوم ، منهم فيروز الديلمي ، وقيس بن مكشوح ، فقتلوه ، وجاؤوا برأسه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، على ما قاله ابن إسحاق .
وقال وثيمة : ومنهم من يقول : كان ذلك في خلافة أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ .
قلت : وهذا هو الصحيح - إن شاء الله تعالى ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يخرجان بعدي ؛ أي :
بعد وفاتي ، والله أعلم .
---
كتاب النِّبُوَّات
ومن باب كونه مختارًا من خيار الناس
(8/173)
قد تقدَّم الكلام في النبوة غير ما مرَّة .
قوله : (( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل )) ؛ اصطفى : اختار. وصفوة الشيء : خياره . ووزنه : افتعل . والطاء فيه بدل من التاء لقرب مخرجيهما. ومعنى اختيار الله تعالى لمن شاء من خلقه : تخصيصه إياه بصفات كمال نوعه ، وجعله إياه أصلاً لذلك النوع ، وإكرامه له على ما سبق في علمه ، ونافذ حكمه من غير وجوب عليه ، ولا إجبار ، بل على ما قال : { يخلق الله ما يشاء ويختار } ، وقد اصطفى الله تعالى من هذا الجنس الحيواني نوع بني آدم ، كما قال تعالى : { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً }. ويكفيك من ذلك كله : أن الله تعالى خلق العالم كلَّه لأجله ، كما قد صرح بذلك عنه لما قال تعالى : {وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعًا منه }. ثم إن الله تعالى اختار من هذا النوع الإنساني من جعله معدن نبوته ، ومحل رسالته ، فأولهم : آدم عليه الصلاة والسلام ، ثم إن الله تعالى اختار من نطفته نطفة كريمة ، فلم يزل ينقلها من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة ، فكان منها الأنبياء والرسل ، كما قال تعالى : { إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم}. ثم إن الله تعالى اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل وإسحاق كما قال : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } ، ثم إن الله تعالى اصطفى من ولد إسماعيل كنانة كما ذكرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث . ثم إن الله تعالى ختمهم بختامهم ، وأمَّهم بإمامهم ، وشرَّفهم بصدر كتيبتهم ، وبيت قصيدتهم ، شمس ضحاها ، هلال ليلتها ، درِّ تقاصيِرها ، زبرجدها ، وهو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أخره عن الأنبياء زمانًا ، وقدمه عليهم رتبة ومكانًا . جعله الله واسطة النظام ، وكمَّل
(8/174)
بكماله أولئك الملأ الكرام ، وخصَّه من بينهم بالمقام المحمود ، في اليوم المشهود ، فهو شفيعهم إذا
---
استشفعوا ، وقائدهم إذا وفدوا ، وخطيبهم إذا جُمِعُوا ، وسيِّدهم إذا ذُكِروا ، فاقتبس من الخير عيونه ، فبيده لواء الحمد ، تحته آدمُ شد فمن دونه ، ويكفيك أُثْرَةً وكرامة : (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة )). والسيد : اسم فاعل ، من ساد قومه ؛ إذا تقدَّمهم بما فيه من خصال الكمال ، وبما يوليهم من الإحسان والإفضال ، وأصله : سَيْوِد ؛ لأنَّ : ألف ساد منقلبة عن واو ، بدليل : أن مضارعه يسود ، فقلبوا الواو يا ، وأدغموها في الياء ، فقالوا : سيِّد . وهذا كما فعلوا في : ميِّت . وقد تبين للعقل والعيان ما به كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيد نوع الإنسان .
وقد ثبت بصحيح الأخبار ما له من السؤدد في تلك الدار ، فمنها أنه قال : (( أنا سيد ولد آدم )). قال : (( وقد رون بم ذاك ؟ )) قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : (( إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد )) ، وذكر حديث الشفاعة المتقدم. ومضمونه : أن الناس كلهم إذا جمعهم موقف القيامة ، وطال عليهم ، وعظم كربهم طلبوا من يشفع لهم إلى الله تعالى في إراحتهم من موقفهم ، فيبدؤون بآدم عليه السلام ، فيسألونه الشفاعة ، فيقول : نفسي ، نفسي ، لست لها ، وهكذا يقول من سُئِلها من الأنبياء ، حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول : (( أنا لها )) ، فيقوم في أرفع مقام ، ويخصُّ بما لا يُحصى من المعارف والإلهام ، وينادى بألطف خطاب وأعظم إكرام : يا محمد ! قل تسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . وهذا مقام لم ينله أحدٌ من الأنام ، ولا سمع بمثله لأحد من الملائكة الكرام ، فنسأل الله تعالى باسمه العظيم ، وبوجهه الكريم أن يحيينا على شريعته ، ويميتنا على ملته ، ويحشرنا في زمرته ، ولا يجعلنا ممن ذيد عنه ، وبُعِّدَ منه .
---
(8/175)
وقوله : (( أنا أوَّل من ينشق عنه القبر )) ؛ يعني : أنه أول من يعجل إحياؤه مبالغة في إكرامه ، وتخصيصًا له بتعجيل جزيل إنعامه . ويعارض هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث آخر : (( أنه أول من يبعث ، فيجد موسى متعلِّقًا بساق العرش )). وسيأتي هذا مبيَّنًا في باب : ذكر موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن شاء الله تعالى.
وقوله : (( وأول شافع ، وأول مشفع )) ؛ قد تقدَّم القول في الشفاعة وأقسامها في الإيمان. ومقصود هذا الحديث أن يُبيَّن أنه لا يتقدَّمه شافع ؛ لا من الملائكة ، ولا من النبيين ، ولا من المؤمنين ، في جميع أقسام الشفاعات ، على أن الشفاعة العامة لأهل الموقف خاصَّة لا تكون لغيره . وهذه المنزلة أعظم المراتب وأشرف المناقب ، وهذه الخصائص والفضائل التي حدَّث بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نفسه ؛ إنما كان ذلك منه لأنها من جملة ما أمر بتبليغه ؛ لما يترتب عليها من وجوب اعتقاد ذلك ، وأنه حق في نفسه ، وليرغب في الدخول في دينه ، وليتمسك به من دخل فيه ، وليعلم قدر نعمة الله عليه في أن جعله من أمَّة من هذا حاله ، ولتعظم محبَّته في قلوب مُتَّبعيه ، فتكثر أعمالهم ، وتطيب أحوالهم ، فيحشرون في زمرته ، وينالون الحظَّ الأكبر من كرامته . وعلى الجملة فيحصل بذلك شرف الدنيا ، وشرف الآخرة ؛ لأنَّ شرف المتبوع متعدٍّ لشرف التابع على كل حال .
فإن قيل : كل هذا راجع للاعتقاد ، وكيف يحصل القطع بذلك من أخبار الآحاد ؛ فالجواب : أن من سمع شيئًا من تلك الأمور من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشافهة حصل له العلم بذلك ، كما حصل للصحابة السامعين منه ، ومن لم يشاففه ، فقد حصل له العلم بذلك من جهة التواتر المعنوي ؛ إذ قد كثرث بذلك الظواهر ، وأخبار الآحاد حتى حصل لسامعها العلم القطعي بذلك المراد.
---
(8/176)
وقوله : (( ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، إنَّما كان الذي أوتيته وحيًا )) ؛ يعني : أن كل رسول أُيِّد بمعجزة تدل على صحة رسالته ، فيظهر صدقه ، وتثبت حجَّته ، كما قد علم من أحوالهم ؛ بما أخبرنا الله به ونَبِيُّه عنهم ؛ غير أن معجزاتهم تنقرض بانقراضهم ، فلا يبقى منها بعدهم إلا الإخبار بها ، وذلك قد يخفى مع توالي الأعصار .
ونبيُّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان قد أعطي من كل نوع من أنواع معجزات الأنبياء قبله ، كما قد أوضحناه في كتابنا المسمَّى بـ" الإعلام بصحة نبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام" ، لكنه فضل على جميعهم بالمعجزة العظمى الباقية ما بقيت الدنيا ، وهي : الكتاب العزيز الذي أعجزت السورة منه الجن والإنس أيَّ تعجيير ، فإعجازه مشاهد بالعيان ؛ متجدد ما تعَاقَب الجديدان ، فمن ارتاب الآن في صدق قوله ، قيل له : فائت بسورة من مثله ، ولما كانت هذه المعجزة قاطعة الظهور ، مستمرة مدى الدهور ، اشترك في معرفتها المتقدِّمون والمتأخرون ، واستوى في معرفة صدق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : السَّابقون واللاحقون ، فدخل العقلاء في دينه دخولاً متتابعًا ، وحقق الله تعالى له رجاءه ، فكان أكثر الأنبياء تابعًا .
ومن باب شواهد نبوة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ
---
(8/177)
قوله : (( إني لأعرف حجرًا كان يسلِّم عليَّ قبل أن أبعث )) ؛ يعني : أنه كان يسلِّم عليه بالنبوة والرسالة قبل أن يشافهه الملك بالرسالة . ذكر العلماء بسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحواله : أنه كان من لطف الله بنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن قدَّم له مقدِّمات ، وخصَّه ببشائر وكرامات ، درَّجَهُ بذلك في أطوارٍ ؛ لينقطع بذلك عن مألوفات الأغمار ، ويتأهل على تدريج لقبول ما يُلقى إليه ، ولتسهُل مشافهة الملك عليه ، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى ضياءً وأنوارًا ، وسمع تسليمًا وكلامًا ، ولا يرى أشخاصًا ، فيسمع الحجارة والشجر تناديه ، ولا يرى أحدًا يناديه ؛ إلى أن استوحش من الخلق ، ففرَّ إلى الحق ، فحُبِّبت إليه الخلوة ، فكان سبب هذه الحبوة ، مشافهه الملك فقبل فملك ، وقد قدَّمنا : أن الصحيح من مذاهب أئمتنا : أن كلام الجمادات راجع إلى أن الله تعالى يخلق فيها أصواتًا مقطعة من غير مخارج يفهم منها ما يفهم من الأصوات الخارجة من مخارج الفم ، وذلك ممكن في نفسه. والقدرة القديمة لا تصور فيها ، فقد أخبر بها الصادق ، فيجب له التصديق . كيف لا ، وقد سمع من حضر تسبيح الحصى في كفه ، وحنين الجذع(5) إليه والمسجد قد غصَّ بأهله .
وقوله : (( إني لأعرفه الآن )) ؛ يعني : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان وقت حدَّثهم بهذا الحديث يعرف الحجر معرفة من كان يشاهده . وقيل : إن ذلك الحجر : هو الحجر الأسود ، والله أعلم .
وقوله : (( أُتي بقدح رحراح )) ؛ أي : واسع . ويقال : رحرح - بغير ألف - ، وإناءٌ أرح ، وآنية رحَّاء ؛ كل ذلك بمعنى الواسع . قال ابن الأنباري : ويكون ذلك قصير الجدار .
---
(8/178)
وقوله : (( فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه )) ؛ هذه المعجزة تكررت من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّات عديدة في مشاهد عظيمة ، وجموع كثيرة ، بلغتنا بطرق صحيحة من رواية أنس ، وعبد الله بن مسعود ، وجابر ، وعمران بن حصين ، وغيرهم ممن يحصل بمجموع أخبارهم العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي . وبهذا الطريق ؛ حصل لنا العلم بأكثر معجزاته الدالة على صدق رسالاته ، كما قد ذكرنا جملة ذلك في كتاب "الإعلام". وهذه المعجزة أبلغ من معجزة موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نبع الماء من الحجر عند ضربه بالعصا ؛ إذ من المألوف نبع الماء من بعض الحجارة ، فأما نبعه من بين عظم ولحم وعصب ودم فشيء لم يُسمع بمثله ، ولا يُتحدَّث به عن غيره .
وقوله : (( كانوا زهاء ثلاثمائة )) ؛ أي : قدرها . يقال : هم زهاء كذا ، ولهاء كذا - باللام - ؛ أي : قدره . وفي الحديث الأول : فحزرت ما بين الستين إلى الثمانين . هذا يدلّ على أن ذلك كان في موضعين : أحدهما : بالزوراء ، وهي سوق بالمدينة . والآخر : روي في بعض طرقه ما يدلّ على أنه كان بغير الزوراء . وقد وقع منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل هذا في غزوة الحديبية على ما رواه جابر ، وفي غزوة بواط من حديث غيره .
---
(8/179)
و (( العكة )) للسمن ، وهي أصغر من القربة . و(( الوَسْق )) : سبئ ستون صاعآ كما تقدم في الزكاة ، ونماء سمن العكة ، وشطر وسق الشعير(4) كل ذلك تكثبر ببركة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما لمسه ، أو تناوله ، أو تهمَّم به ، أو برَّك عليه ، وكم له منها ، وكم ! ورفع النماء من ذلك عند العصر والكيل سببه - والله أعلم - الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله تعالى ، ومواهب كراماته ، وكثرة بركاته ، والغفلة عن الشكر عليها ، والثقة بالذي وهبها ، والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة ، وهذا نحو مما جرى لبني إسرائيل في التيه ، لما أنزل عليهم المن والسلوى . وقيل لهم : { كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله } ، فأطاعوا حرص النفس ، فادخروا للأيام ، فخنز اللحم ، وفسد الطعام .
وقوله لصاحبة العكة : (( لو تركتيها ما زال قائمًا )) ، ولصاحب الشطر : (( لو لم تكله لقام بكم )) ؛ يستفاد منه : أن من أُدِرَّ عليه رزق ، أو أُكرم بكرامة ، أو لُطِف به في أمر ما ، فالمتعيَّن عليه : موالاة الشكر ، ورؤية المنة لله تعالى ، ولا يحدث مغيِّرًا في تلك الحالة ، ويتركها على حالها . ومعنى رؤية المنة : أن يعلم أن ذلك بمحض فضل الله تعالى ، وكرمه ، لا بحولنا ، ولا بقوتنا ، ولا استحقاقنا .
وقوله : (( خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام تبوك )) ؛ هي موضع معروف بطريق الشام فيه ماء ، وهذه الغزوة : هي آخر غزوة غزاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد غزو الروم ، فخرج فيها في شهر رجب سنة تسع من الهجرة في حرٍّ شديد لسفرٍ بعيد ، وخرج معه أهل الصدق من المسلمين ، وتخلَّف عنه جميع المنافقين ، وكانت غزوة أظهر الله فيها من معجزات نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكراماته ، ما زاد الله المؤمنين به إيمانًا ، وأقام بذلك على الكافرين حجَّة وبرهانًا .
---
(8/180)
وقوله : (( فكان يجمع الصلاة فصذ الظهر والعصر جميعًا ، والمغرب والعشاء جميعًا )) ؛ ظاهر هذا المساق أنه أوقع الظهر والعصر في أول الوقت مجموعتين ، وكذلك المغرب والعشاء ؛ لأنَّه قال بعد ذلك : (( حتى إذا كان يوم آخر أخر الصلاة ، ثم خرج ، فصلى الظهر والعصر جميعًا ، ثم دخل ، ثم خرج بعد ذلك ، فصلَّى المغرب والعشاء جميعًا . وظاهره أنه أخر الصلاتين إلى آخر وقتهما المشترك . وهو حجَّة لمالك ، فإنَّه يقول بجواز كل ذلك ، على تفصيل له في الأفضل من ذلك ، كما قدَّمناه ، وهو أيضًا حجة للشافعي عليه في اشتراطه في جواز الجمع بين الصلاتين استعجال السير ، والشافعي لا يشترطه ، وقد تقدَّم كل ذلك في كتاب الصلاة.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنكم ستأتون غدًا - إن شاء الله - عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار )) ؛ ظاهره : أن هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إخبار عن غيب بوحى ، ويحتمل غير ذلك .
وقوله : (( فمن جاءها منكم فلا يمسَّ من ماءها شيئًا )) ؛ إنما نهاهم عن ذلك ؛ ليظهر انفراده بالمعجزة ، وتتحقق نسبتها إليه ، واختصاصه بها ، فإنَّه إذا شاركه غيره في مسِّ مائها ، لم يتمحض اختصاصه بها ، ولذلك لما وجد الرجلين عليها ؛ أمر أن يغرف له من مائها ، وكأنه كان أراد أن يباشر الماء وهو في موضعه ، لكن لما سبقه غيره إليها ، جمعوا له من مائها ، فغسل فيه يديه ووجهه ، ثم أمر أن يعاد ذلك الماء فيها ، فلما فعلوا ذلك جاءت العين بماء منهمر ، وسمع له حس كحس الصواعق .
---
(8/181)
وقوله : (( والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء )) ؛ الرواية المشهورة : (( تبضُّ )) ، بالضاد المعجمة ؛ أي : تسيل بماء قليل رقيق مثل شراك النعل ، وقد روي بالصاد المهملة ، وكذلك وقع في البخاري ؛ أي : تبرق . يقال : بصَّ يبصُّ بصيصًا ، ووبص يبص وبيصًا بمعناه . وسبُّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السابقين للماء يحتمل أن يكون : لأنهما كانا منافقين قصدا المخالفة ، فصادف السبُّ محلَّه . ويحتمل أن كانا غير منافقين ، ولم يعلما بنهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويكون سبَّه لهما لم يصادف محلاً ، فيكون ذلك لهما رحمة وزكاة ، كما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم من لعنته ، أو سببته وليس لذلك بأهل ، فاجعل ذلك له زكاة ، ورحمة ، وقربة تقرِّبه بها إليك يوم القيامة )).
و (( المنهمر )) : الكثير الانصباب ، و(( يوشك )) : يجيء ويسرع . وقد تقدم الكلام عليها ، و(( الجنان )) : البستان من النخل وغيره ، سمي بذلك لأنه يجن أرضه وما تحته ؛ أي : يستر ذلك .
وقد اشتمل هذا الحديث على معجزتين عظيمتين ؛ إحداهما : نبع الماء المذكور. والثانية : تعريفه بكثير من علم الغيب ، فإنَّ تبوك من ذلك الوقت سكنت لأجل ذلك الماء ، وغرست بساتين ، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
---
(8/182)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه حين مرَّ على حديقة المرأة : (( اخرصوها )) ؛ دليلٌ على جواز الخرص إذا احتيج إليه ، وأنه طريق معتبر شرعًا . وخروج ثمرة هذه الحديقة جوازالخرص على مقدار ما خرصه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دليل على صحة حدسه ، وقوة إدراكه ، وإصابته وجه الصواب فيما كان يحاوله ، ولا يعارض هذا بحديث إبار النخل ، فإنَّ الله تعالى قد أجرى عادة ثابتة متكررة في إبار النخل لم يعلمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال : (( ما أرى هذا يعني شيئًا )) ؛ يعني الإبار ، وصدق ، فإنَّ الله تعالى هو الذي يمسك الثمرة ويطيبها إذا شاء ، لا الإبار ، ولا غيره ، بخلاف الوصول إلى المقادير بالخرص ، فإنَّ الغالب فيه من الممارسين له التقريب لا التحقيق . وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمقدار ذلك على التحقيق ، فوجد كما أخبر ، فإنَّ كان هذا مائه عن حدس وتخمين ، كان دليلاً : على أنه قد خصَّ من ذلك بشيء لم يصل إليه غيره ، وإن كان ذلك بالوحي ، كان ذلك من شواهد نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( ستهبُّ عليكم ريحٌ شديدةٌ )) ؛ من المعجزات الغيبية ، وهي من معجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكثرة بحيث لا تحصى ، يحصل بمجموعها العلم القطعي بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعلم كثيرًا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ، أو من ارتضاه من الرسل فأطلعه الله عليه ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أطلعه الله عليه ، فهو رسول من أفضل الرسل.
(8/183)
وقوله : (( فلا يقم فيها أحدٌ ، ومن كان له بعير فليشد عقاله )) ؛ دليل على الأخذ بالحزم ، والحذر في النفوس ، والأموال ، ومن أهمل شيئًا من الأسباب المعتادة ، زاعمًا أنه متوكل ، فقد غلط ، فإنَّ التوكل لا يناقض التحرز ، بل : حقيقته لا تتم إلا لمن جمع بين الاجتهاد في العمل على سنة الله ، وبين التفويض إلى اللة تعالى ، كما فعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وابن العَلماء : هو بفتح العين المهملة وسكون اللام ، والمد ، وهو تأنيث الأعلم ، وهو المشقوق الشفة العليا ، والأفلح : هو المشقوق الشفة السفلى .
---
وصاحب أيلة ؛ يعني به : ملكها . وأيلة : بلد معروف بالشام ، وإليه تنسب عقبة أيلة .
وقوله : (( وأهدى له بغلة بيضاء )) ؛ هذه البغلة قبلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبقيت عنده زمانًا طويلاً ، ولم تكن له بغلة غيرها ، وكانت تسمَّى : الدُّلْدُل ، وفيه دليل على قبول هدية الكتابي ، وقد تقدَّم القول فيه ، وفي قوله : ((هذا جبل يحبنا ونحبه )) ، وفي (( طابة )).
وقوله : (( فكتب له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببحرهم ، وأهدى له بردًا )) ؛ البحر هنا ؛ يراد به البلد ، والبحار : القرى ، وقد تقدم . وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقطعه بعض تلك البلاد ، كما قد أقطع تميمًا الداري ـ رضى الله عنه ـ بلد الخليل ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل فتحه. ويظهر من حال ابن العَلماء أنه استشعر ، أو علم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيظهر ، ويغلب على ما تحت يده هو من البلاد ، فسأله أن يقطعه بعضها . والله تعالى أعلم . وأما إهداؤه البرد ؛ فمكافأة ، ومواصلة ، واستئلاف ليدخل في دين الإسلام ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحضره في ذلك الوقت إلا ذلك البرد ، والله أعلم .
(8/184)
وقوله : (( إن خير دور الأنصار : دار بني النجار ، ثم دار بني عبدالأشهل ... )) الحديث إلى آخره يدلُّ على جواز تفضيل بعض المعينين على بعض من غير الأنبياء ، وإن سمع ذلك المفضول ، وقد تقدَّم القول في تفضيل على بعض الأنبياء .
---
و (( الدُّرر )) : جمع دار ، وهو في الأصل : المحلة والمنزل ، وعبر به هنا عن القبائل ، وهذا نحو قوله : أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببناء المساجد في الدور ؛ أي : في القبائل والمحلات . وفيه ما يدلّ على جواز المدح إذا قصد به الإخبار بالحق ، ودعت إلى ذلك حاجة ، وأمنت الفتنة على الممدوح . وفيه دليل على جواز المنافسة في الخير ، والدين ، والثواب ، كما قال سعد : (( يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيرت جواز المنافسة دور الأنصار فجعلتنا آخرًا )). طلب أن يلحقهم بالطبقة الأولى . فأجابه بأن قال : (( أو ليس حسبكم أن تكونوا من الخيار ؟ )) وإنما يعني بذلك : أن تفضيلهم إنما هو بحسب سبقهم إلى الإسلام ، وظهور آثارهم فيه ، وتلك الأمور وقعت في الوجود مرتبة على حسب ما شاء الله تعالى في الأزل ، وإذا كان كذلك لم يتقدَّم متأخر منهم على منزلته ، كما لا يتأخر متقدِّم منهم عن مرتبته ؛ إذ تلك مراتب معلومة على قسم مقسومة ، وقد سبق لسعادتهم القضاء { يختص برحمته من يشاء }.
وقوله : (( ثم دار بني عبد الحارث )) ؛ كذا وقع للعذري ، والفارسي ، وهو وَهْمٌ . والصواب : بني الحارث ، بإسقاط عبد ، والله أعلم .
(8/185)
وقوله : (( وجعلنا آخرًا )) ؛ وقع في بعض النسخ آخر بغير تنوين ولا ألف . جعله غير منصرف ، وليس بصحيح الرواية ، ولا المعنى ؛ إذ لا مانع من صرفه ؛ لأنَّ آخرًا هنا : هو الذي يقابل : أولاً ، وكلاهما مصروف ، وهو منصوبٌ على أنه المفعول الثاني لجعل ؛ لأنَّها بمعنى : صيَّر. ويحتمل أن يتأوَّل في معنى جعل : معنى أنزل ، فيكون ظرفًا ؛ أى : أنزلتنا منزلاً متأخرًا . وعلى الوجهين فلا بدَّ من صرفه ، وكذا وجدنا من تقييد المحققين .
وقوله : (( أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار )) ، ويروى : (( من الأخيار )) ، وكلاهما صحيح .
ومن باب عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِمَّن يريد قتله
---
قوله : (( غزونا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غزوة قبل نجد )) ؛ النجد : المرتفع من الأرض ، والغور : المنخفض منها ، هذا أصلها ، ثم قد صارا بحكم العرف اسمين لجهتين مخصوصتين معروفتين . وصحيح الرواية ومشهورها : (( نجد )) ، ووقع للعذري : (( أحد )).
وقوله : (( فأدركنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وادي كثير العضاه )) ؛ هذا اللفظ ذُكِر فيه : (( أدركَنَا ))- بفتح الكاف - (( رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) بالرفع على الفاعل ، وعليه فيكونون قد تقدموه للوادي لمصلحة من مصالحهم ككونهم طليعة ، أو صيانة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يخشى عليه ، أو غير ذلك . ويحتمل أن يقيد : فأدركْنَا رسولَ اللهِ - بسكون الكاف ، ونصب ((رسول )) على المفعول ، فيكون فيه ما يدلُّ على شجاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويكون كنحو ما اتفق له لما وقع الفزع بالمدينة ، فركب فرسًا ، فسبقهم ، فاستبرأ الخبر ، ثم رجع ، فلقي أصحابه خروجًا ، فقال لهم : (( لم تراعوا )).
والعضاه : كل شجر من شجر البادية له شوك .
(8/186)
وقوله : (( فتفرَّق الناس في الوادي يستظلُّون )) ؛ فيه جواز افتراق العسكر في النزول إذا أمنوا على أنفسهم ، وكأنهم قد أجهدهم التعب والحر ، فقالوا مستظلين بالشجر .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن رجلاً أتاني وأنا نائم فأخذ السَّيف )) ؛ هذا يدلّ : على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في هذا الوقت لا يحرسه أحدٌ من الناس ، بخلاف ما كان عليه في أول أمره ، فإنَّه كان يُحرس حتى أنزل الله تعالى عليه : {والله يعصمك من الناس } ، فقال لمن كان يحرسه : ((اذهبوا فإنَّ الله تعالى قد عصمني من الناس )). فمن ذلك الوقت لم يحرسه أحدٌ منهم ، ثقة منه بوعد الله ، وتوكلاً عليه .
وفيه : جواز نوم المسافر إذا أمن على نفسه ، وأما مع الخوف ، فالواجب : التحرز والحذر .
---
وقوله : (( فاستيقظت وهو قائمٌ على رأسي والسيف صَلْتٌ في يده )) ؛ روي برفع (( صلت )) ونصبه . فمن رفعه جعله خبر المبتدأ ؛ الذي هو السيف ، و(( في يده )) متعلّق به . ومن نصبه ؛ جعل الخبر في المجرور ، ونصبت صَلْتًا على الحال ؛ أي : مُصلتًا . وهو المجرَّد من غمده . والمشهور بفتح الصاد من : (( صَلَتَ )). وذكر القتبي : أنها تكسر في لغة.
(8/187)
وقول الرجل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من يمنعك مني ؟ )) استفهام مشرب بالنفي ؛ كأنه قال : لا مانع لك مني ! فلم يبال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله ، ولا عرَّج عليه ؟ ثقة منه بوعد الله وتوكلاً عليه ، وعلمًا منه : بأنه ليس في الوجود فعل إلا لله تعالى ، فإنَّه أعلم الناس بالله تعالى وأشدُّهم له خشية . فأجابه بقوله : (( الله ! )) ثانية ، وثالثة ، فلما سمع الرَّجُل ذلك ، وشاهد تلك القوة التي فارق بها عادة الناس في مثل تلك الحال ؛ تحقق صدقه ، وعلم : أنه لا يصل إليه بضرر . وهذا من أعظم الخوارق للعادة ، فإنَّه عدوٌّ ، متمكِّن ، بيده سيفٌ شاهرٌ ، وموتٌ حاضرٌ ، ولا حال تغيّرت ، ولا روعة حصلت . هذا محال في العادات ، فوقوعه من أبلغ الكرامات ، ومع اقتران التحدِّي به يكون من أوضح المعجزات .
وقوله : (( فشام السَّيف )) ؛ أي : أغمده هنا ، وهو من الأضداد . يقال : شام السيف : جرَّده ، وشامه : أغمده .
وقوله : (( فها هو ذا جالس )) ؛ هكذا وجدته بخط شيخنا أبي الصَّبر أيوب في نسخته ، ووجدته في نسخة أخرى : (( فشام السيف ، ها هو ذا هو جالس )) بإسقاط الفاء ، وزيادة هو ، والأول أحسن ؛ لأنَّ الفاء رابطة ، و(( هو )) لا يحتاج إليها ، فهي زائدة . ومعنى هذا الكلام أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبَّه على ذلك الرجل ، وأخبر عنه ، وأشار إليه ، فكأنه قال : تنبَّهوا لهذا الرجل إذ مُنِع مِمَّا همَّ به ، واستسلم لما يُفعَلُ فيه ، ثم تلافاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعفوه وحلمه ، وعاد عليه بعوائده الكريمة وصفحه ، فلم يعرض له على ما كان منه .
---
ومن باب ذكر بعض كرامات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
الرَّحل للبعير : كالسرج للفرس ، والإكاف للحمار . و(( سرى )) و((أسرى )) لغتان ، وقد جمع بينهما في هذا الحديث ، وهو : سير الليل .
(8/188)
وقوله : (( أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة )) ؛ أي : اتصل سيرهم من الليل إلى أن قاربوا نصف النهار . و(( قائم الظهيرة )) : هو وهج حرِّها وشِدَّتُه .
وقوله : (( رفعت لنا صخرة طويله )) ؛ أي : رفعها السراب فرأوها .
وقوله : (( وأنا أنفض لك ما حولك )) ؛ أي : أنظر وأبحث فيما حولنا هل فيه ما يكره ، يقال : إذا تكلَّمت بالليل فاخفض ، وإذا تكلمت بالنهار فانفض ؛ أي : التفت إلى ما حولك .
وقوله للراعي : (( لمن أنت ؟ )) فقال : (( لرجل من أهل المدينة )) ؛ يعني بالمدينة هنا : مكة ، لوجهين :
أحدهما : أنه إنما كانت هذه القصة في سفر هجرتهم ، وإن هذا إنما كان في مبدأ سفرهم . ألا ترى قوله : (( أسرينا ليلتنا إلى أن قام قائم الظهيرة ؟! فكانهم إنما لقوا هذا الراعي بعد ليلة ونصف يوم من خروجهم من الغار . وذكر حديث سراقة في نفس هذا الحديث . يدل على أنه كان قريبًا من مكة .
وثانيهما : أنه قد روي من طريق أخرى عن البراء أنه قال للراعي : لمن أنت ؟ قال : لرجل من أهل مكة ، وسماها مدينة ؛ لأنَّ كل بلد يسمى مدينة ، ومنه قوله تعالى : { وكان في المدينة تسعة رهطٍ }. ولم يرد به دار الهجرة بالاتفاق ؛ وإنَّما سُمِّي البلد مدينة ، لأن أهله يدينون لمتوليه ؛ أي يطيعون . وقيل : من الدين ، وهو الملك .
و (( الكثبة )) من اللبن وغيره : القليل المجتمع منه . و(( ارتوى )) : افتعل من (( الري )) ؛ أي : أعدَّ فيها من الشراب ما يروي . و(( القعب )) : وعاء من خشب . و(( الإداوة )) من جلد .
وقوله : (( وكرهت أن أوقظه )) ؛ إنما كره ذلك ؛ لأنَّ نومه ذلك كان راحة من تعب ، ولأنهم كانوا يتوقعون أنه يوحى إليه في نومه ، فإيقاظه يخاف أن يكون قطعًا للوحي .
---
(8/189)
وقوله : (( فصببت على اللَّبن من الماء حتى برد أسفله )) ؛ يعني : أنه صبَّ على إناء اللبن من الماء ليبرد اللبن ، فإنَّه يخرج من الضرع حارًّا ، وكان الوقت شديد الحرِّ . وعلى هذا فالمراد بأسفله : أسفل الإناء . ويحتمل أن يكون المراد به : أنه صبَّ الماء في اللبن ومزجه به . وخصَّ أسفل اللَّبن لأنه إذا برد أسفله برد أعلاه .
وشُرْب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك اللَّبن مع علمه بأن الرَّاعي ليس بمالك - إذ قد صرَّح الراعي بذلك - مشكل ؛ إذ الورع يقتضي التوقف ، وقد اختلف فيه على أوجه :
أحدها : أنَّه علم عين المالك ، وأنَّه كان ممن تطيب نفسه بذلك ، وقد دل على ذلك : أن أحمد بن حنبل روى هذا الحديث في "مسنده" ؛ فقال فيه : فقلت : لمن أنت يا غلام ؟ فقال : لرجل من قريش ؛ فسمَّاه ، فعرفتُه .
وثانيها : ذلك محمول على ما جرت به عوائد العرب في إباحة ذلك القدر في مثل تلك الحال .
وثالثها : أن من احتاج في سفره ، ومرَّ على غنم أو ثمر - وقد جاع أو عطش - ، فله أن يسدَّ جوعته ، ويروي عطشه منها ؛ وإن لم يأذن المالك ، وإن لم ينته الحال إلى الضرورة . وإليه ذهب الحسن ، والزهري . والجمهور : على أن ذلك إنَّما يجوز لمن اضطر إلى ذلك .
ورابعها : أن ذلك مال كان ليس له عهد ، فيحل لمن ظفر به .
قلت : وفي هذا بُعد ؛ لأن تحليل الغنائم لم يكن شرع بعد وأشبهها : الأول والثاني .
وقوله : (( ألم يأن للرحيل )) ؛ أي : قد حان وقته .
و (( الجلد من الأرض )) : الموضع الصَّلب الغليظ منها .
وقول أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ : (( أُتينا )) ؛ أي : وُصل إلينا ، وأحيط بنا . ومنه قوله تعالى : { أتاها أمرنا ليلاً أو نهارًا }. وهذا من أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ التفاتٌ إلى الأسباب العادية ، ومقتضى الجبلَّة البشرية .
(8/190)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تحزن إن الله معنا )) ؛ أي : بالحفظ والنصرة . وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثقة بالوعد الصادق ، وتفويضٌ إلى الواحد الخالق .
---
وقوله : (( ارتطمت فرسه إلى بطنها )) ؛ أي : غاصت قوائمها حتى وصل بطنها إلى الأرض . يقال : ارتطم الرَّجل في الوحل : إذا ثبت فيه.
وقوله : (( أرى )) بضم الهمزة ؛ أي : أظن أنها وصل بطنها إلى الأرض .
وقول سراقة : (( قد علمت أنكما دعوتما عليّ ، فادعوا لي )) ؛ يدل على ما كان في نفوسهم من تعظيمهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأصحابه ، وإن كانوا مخالفين لهم .
وقوله : (( فالله لكما أن أردَّ عنكما الطلب )) ؛ الرواية الصحيحة : نصب (( الله )) ولا يجوز غير ذلك ؛ لأنَّه قسم حذف حرف جره ، فتعدَّى الفعل الْمَنْوِيُّ فنَصَب ؛ فكأنه قال : فأقسم بالله لكما عليَّ أن أُعمِّي خبركما ، وأردّ عنكما من يطلبكما .
وقوله : (( فدعا الله فنجا )) ؛ هذه من بعض دعوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المعجلة الإجابة ، وهي من الكثرة بحيث تفوق الحصر ، ويحصل بمجموعها القطع ، بأن الله تعالى قد أكرم محمدًا بإجابة دعواته ، وأسعفه في كثير من طلباته ، وكل ذلك يدل على مكانته ، وصدق رسالته .
وقوله : (( فقدمنا المدينة ليلاً )) ؛ يعني : أنهم وصلوا إليها ليلاً ، إلا أنهم أقاموا خارجًا منها ، ثم دخلوها نهارًا ، وهذا مبيَّن في حديث عائشة رضي الله عنها .
وقد أطبق أهل السِّير على : أنه دخل المدينة يوم الإثنين ، وأكثرهم يقول : لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ضحى ذلك اليوم ، وقيل : عند استواء الشمس .
---
(8/191)
وقوله : (( أُنْزِل على أخوال عبدالمطلب )) ، إنما كانت الأنصار أخوال عبد المطلب ؛ لأنَّ أباه هاشِمًا تزوَّج سلمى ابنة زيد بن خداش من بني النجار ، فولدت له عبدالمطلب ، فبنو النجار أخوال جدِّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فلذلك أكرمهم الله تعالى بنزول نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهم. وقد صحَّ في كتب السِّير وغيرها أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نزل في قباء ، فأقام فيهم أيامًا ، وأسَّس مسجدها ، ثم خرج منها راكبًا ناقته متوجهًا حيث أمره الله تعالى ، فأدركته الجمعة في بني سالم ، فصلاَّها في بطن الوادي ، ثم إنه توجه إلى دخول المدينة ، فتعرضت له سادات قبائلها ؛ كلهم يعرض عليه النزول ، ويأخذ بخطام ناقته وهو يقول : (( دعوها ، فإنَّها مأمورة )) ، فلم تزل ناقته كذلك حتى وصلت إلى دار أبي أيوب فبركت عنده ، فنزل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أبي أيوب ـ رضى الله عنه ـ ، وهذا هو الذي عبَّر عنه في هذا الحديث بقوله : (( فتنازعوا أيهم ينزل عليه )) ؛ أي : تجاذبوا ذلك ، وحرصوا عليه .
وقوله : (( فصعد الرجال والنساء فوق البيوت ، والغلمان والخدم في الطرق )) ، هذا عطفٌ على المعنى نحو قوله :
يا لَيتَ زَوجَكِ قَد غَدا مُتقَلِّدًا سَيفًا وَرُمْحًا
و : .................... عَلَفتُها تبنًا وماءً باردًا
لأن الطرق لا يصعد فيها ، فكأنه قال : وتفرَّق الغلمان والخدم في الطرق ، والكل ينادون : يا محمد ! يا رسول الله ! كلُّ ذلك فرحٌ وسرور بقدوم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(8/192)
حديث أبي اليَسَر ؛ واسمه : كعب بن عمرو بن عريبٍ من بني سلمة. شهد العقبة وبدرًا ، فهو عَقَبِيٌّ ، بدريٌّ ، وهو الذي أسر العباس بن عبدالمطلب يوم بدرٍ ، وكان رجلاً قصيرًا ، والعباس طويل ضخم ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لقد أعانك عليه مَلَكٌ )) ، وهو الذي انتزع راية المشركين من يد أبي عزيز يوم بدرٍ . شهد صفين مع عليّ رضي الله عنهما ، يُعَدُّ في أهل المدينة ، وبها توفي سنة خمس وخمسين.
---
وقول عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت : (( خرجت أنا وأبي نطلبُ العلمَ في هذا الحي من الأنصار ، قبل أن يهلكوا )) ؛ دليل على ما كان عليه أهلُ ذلك الصدر من حرصهم على طلب علم الحديث ، والرحلة إلى أهله ، والاجتهاد في تحصيله ، كل ذلك منهم سعي في تحقيق الدِّين ، وإظهاره ، ونقله ، وإبلاغه ، جدد الله عليهم الرحمة ، فلقد سلكوا طريقًا أفضت بهم إلى الجنة .
غريب هذا الحديث : الحي : القبيل . وضِمامة من صحف : هو بكسر الضاد بغير ألف ، كذا وقع في كتاب مسلم ، وصوابه : إضمامةٌ ، وهي الإضبارة أيضًا. وجمعها أضاميم ، وكل شيء ضممت بعضه إلى بعض فهو إضمامةٌ . والصحف : جمع صحيفة ، وهي الورقة من الكتب ، وكل ما انبسط فهو صحيفة . ومنه : صحفة الطعام . والبرد : الشملة المخططة ، وجمعها : برد وبرود . ومَعافِري : بفتح الميم ، ثوب منسوب إلى معافر ، وهي محلة بالفسطاط ، قاله أبو الفرج . وقيل : هو رجل كان يعملها. والسُّفعة : تغيُّر اللون بسواد مشرب بحمرة ، قاله الخليل . والجفر من الغلمان : الذي قوي منهم في نفسه ، وقوي في أكله . يقال منه : استجفر الصبي : إذا صار كذلك ، وأصله في أولاد الغنم ، فإذا أتى عليه أربعة أشهر ، وفصل عن أمه ، وأخذ في الرعي ؛ قيل عليه جفر ، والأنثى جفرة . والأريكة : واحدة الأرائك ، وهي : السرير الذي عليه كِلَّة ، وهي : الْحَجَلَة .
(8/193)
وقول المدين : (( خشيت والله أن أحدثك فأكذبك ، وأعدك فأخلفك ، وكنت صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ كان هذا الغريم صادقًا في حاله ، متقيًّا على دينه ، محترمًا لأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما علم منه ربُّ الدَّين ذلك كلَّه محا عنه صحيفته ، وأنظره إلى الميسرة ، كما قال تعالى .
وفيه ما يدلّ على أن ربَّ الدَّين إذا علم بعُسْرة غريمه ، أو ظنَّها حرمت عليه مطالبته ، وإن لم تثبت عسرته عند الحاكم .
---
وقوله : (( آلله ؟ قال : الله )) هو ممدود لأنها همزة الاستفهام دخلت على الهمزة المعوضة من باء القسم .
وقوله : (( فاشهد بصر عيني هاتين ، وسمع أذني هاتين )) ؛ هكذا رواية العذري بفتح الصاد ، ورفع الراء على المصدر المضاف إلى ما بعده ، وكذلك (( سمع أذني )) بتسكين الميم ، ورواهما الطبري (( بصُرَ ))- بضم الصاد ، وفتح الراء - على الفعل الماضي ، وعيناي مرفوع على الفاعل ، وكذلك : (( سَمِع أذناي )) ؛ غير أنه كسر الميم ، وكذا عند أبي علي الغساني ، ورواية الطبري أوضح ، وأقل كلفة ، فإنَّ رواية العذري يحتاج فيها إلى إضمار خبر للمبتدأ الذي هو : بصر . تقديره : بصر عيني حاصل ، أو متعلق ، ثم إنه بعد هذا يعطف على هذه الجملة الإسمية جملة فعليَّة التي هي قوله : (( ووعاه قلبي )) ، والأحسن في عطف الجمل مراعاة المجانسة في المعطوف ، والمعطوف عليه ، فرواية الطبري أولى .
(8/194)
وقوله : (( ووعاه قلبي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ الضمير في وعاه : عائد على غير مذكور قبله ، فهو مما تفسره الحال والمشاهدة . وأبدل منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للبيان ؛ فهو بدل الظاهر من المضمر . ونياط القلب : هو معلَّقه ، ويروى : (( مناط )) ، وهو موضع تعلُّقه . وانظار المعسر : تأخيره إلى أن يوسر ، والوضع عنه : إسقاط الدَّين عن ذمه ، وقد جمع هو بينهما لهذا المعسر حيث محا عنه الصحيفة ، وقال له : إن وجدت قضاء فاقض ، وإلا فأنت في حل . وقد مضى تفسير الْحُلَّة ، وأنها ثوبان من جنس واحد ، ليسا بلِفْقَيْن .
وقوله : (( أطعموهم مما تأكلون ، واكسوهم مما تلبسون )) ؛ ظاهر هذا : حسن معاملة وجوب تشريك السيِّد عبده في نوع ما يأكله ، ويلبسه ، وهو ليس بواجب اتفاقًا ، وقد بيَّنَّا ذلك فيما تقدم. لكن خاف أبو اليَسَر أن يكون ترك ذلك منقصًا من حسناته ، فسوَّى بينه وبين عبده في اللباس ، وكذلك فعل أبو ذر ـ رضى الله عنه ـ ، كما تقدم (2).
---
والاشتمال : الالتفاف بالشملة . وهذا الاشتمال الذي اشتمله جابر هو الذي أذن له فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تقدَّم في كتاب : الصلاة ، وهو أن يضع وسط الشملة على ظهره ، ويخرجها من تحت ضِبْعَيه ، ويخالف بين طرفيها ، ويعقدها على قفاه . ووضه يده على صدره ؛ إنما كان ليوقظه من غفلته ، ويستحضر فهمه .
وقوله : (( إنما فعلته ليراني أحمق مثلك )) ؛ إنما شافهه بهذا اللفظ الجافي مقابلة له على ما صدر منه من الحركة الجافية ، والسؤال الذي أورده مورد الإنكار ، فلو تلطف في السؤال لما سمع هذا المقال .
و (( العرجون )) واحد العراجين : وهي الشماريخ ، وتسمى أيضًا : الكباسة . و(( رطب ابن طاب )) : نوع من الرطب . وقد تقدم القول على البزاق في المسجد.
(8/195)
وقوله : (( أيكم يحبُّ أن يُعرض الله عنه )) ؛ أي : يعامله معاملة المعرض عنه فلا يثيبه إن قلنا : إن البزاق في المسجد مكروه ، وإن تنزلنا : على أن البزاق في المسجد محرَّم -كما تقدم - كان الإعراض كغاية عن تعذيبه على ذلك ، وترك رحمته إياه في وقت العذاب ، والله تعالى أعلم.
وقوله : (( فخشعنا )) ؛ الرواية الصحيحة فيه بالخاء المعجمة. من الخشوع ، وهو الخضوع والتذلل ؛ يعني : أنهم ظهرت عليهم أحوال المنكسرين الخائفين ، ومن قيده بالجيم فقد أبعد ؛ إذ ليس هذا موضع الجشع ؛ لأنَّه عبارة عن أشد الحرص . يقال منه : جشع الرجل -بكسر الشين - وتجشَّع : إذا اشتدَّ حرصه .
---
و (( الخلوق والعبير )) : ضروب من الطيب يجمع بالزعفران . و(( ثار الفتى )) ؛ أي : وثب يجري . و(( النخامة والنخاعة )) : ما يخرج من أقصى الفم . و(( بواط )) : موضع من ناحية رضوى . وكانت هذه الغزوة على رأس سنة من مقدمة المدينة ، خرج فيها يطلب المجديَّ بن عمرو ، ثم رجع إلى المدينة ، ولم ينق حربا . و(( تلدَّن )) : تثبط وتلكأ ، ولم ينبعث. و(( شَأ )) : صوت تزجر به الإبل . و(( اللعن )) : الطرد والبعد. ولما دعا هذا الرجل على بعيره باللعنة أجيب ، فأُبعد البعير عنه ، وحيل بينه وبينه ، وهذا من باب العقوبة في المال لربه ، لا من باب عقوبة ما لا يعقل ، وفيه ما يدل : على أن الدعاء في حالة الضجر والغضب قد يستجاب .
و (( عشيشية )) : تصغير عشية على غير قياس ، و(( يمدر الحوض )) : يُطيِّنه ويسدُّ خلله ليمسك الماء . و(( نزعنا )) : استقينا . و(( السَّجْل )) : الدلو. و(( أفهقناه )) : ملأناه .
وقوله : (( أتذنان )) ؛ دليل على أن من حاز شيئًا من المباح ملكه ، وأن الماء المحوز يملك . وفيه دليلٌ على أنه لا يكتفى في إباحة ملك الغير بالسكوت . بل لا بدَّ من إذن المالك .
و (( شنق لها الزمام )) ؛ أي : قبضه إليه لتنقطع عن الشرب .
(8/196)
و (( شجت ))- مخففة الجيم - : قطعت الشرب . يقال : شججت المفازة ؛ أي : قطعتها بالسير . و(( الذباذب )) : الأطراف ، سُمِّيت بذلك لتذبذبها ؛ أي : تحركها ، وكل شيء معلَّق فحركته : ذبذبته.
وقوله : (( وتواقَضْتُ )) ؛ أي : أمسكت عليها بعنقي لئلا تسقط ؛ أي : حنى عليها بعنقه . وقد تقدَّم القول على مواقف المأموم مع الإمام ، وهذا الحديث يدلُّ على أن المشروع في حق الإمام : إذا قام رجل عن يمينه ، ثم جاء آخر أن يدفعهما خلفه ، لا يتقدم ويتركهما ، فإنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل ذلك بجابر وجبَّار رضي الله عنهما .
---
و (( الْحَقْو )) : معقد الإزار من الوسط ، وقد سُمِّي الإزار حَقْوًا ، كما تقدم في قول أم عطية : فأعطانا حقوه ؛ أي : إزاره .
و (( نختبط )) : نفتعل ، من الخبط ، وهو ضرب الورق بالعصا ليسقط. و(( القرح )) : الجراح. و(( تقرحت )) : انجرحت. و(( الشدق )) : جانب الفم.
وهذا الحديث يدلُّ على صبرهم ، وعظيم جلدهم ، وعلى أن الله تعالى خرق لهم العادة إكرامًا لهم ؛ لأنَّ إمساك القوة على السفر ، والسير مع الاغتذاء س بتمرة في كل يومٍ أمرٌ خارق للعادة ؛ وقد وضح ذلك في الرجل الذي أخطأته التمرة فسقط ، ثم إنه لما أعطيها قوي في الحال . والعادة قاضية بأن من سقطت قواه لا ترجع إليه إلا بعد معالجة وترتيب ، واستدامة ذلك على تدريج .
(( ونَنْعَشُه )) : نرفعه وندعمه ليقوم ، وكأنه سقط من الضعف . وقد فسَّر بعض الشارحين ننعشه بـ : نسعي في رفعه بالشهادة له في أنه ما أُعطي التمرة ، وما ذكرناه أولى ، لأنه قال بعد ذلك : فأعطيها فقام ، فيعني : أنه سقط من الضعف ، فحاولوا رفعه فلم يقدروا حتى أكل التمرة ، فقوي وقام . فتأمله .
(8/197)
و (( الأفيح )) : الواسع المنبطح ، و(( شاطيء الوادي )) : جانبه . و((المخشوش )) : هو الذي جعل في أنفه الخشاش - بكسر الخاء - : وهو عود ، أو وتر ليذل . و(( المتصف )) : ملتقى النصفين . وحديث الشجرتين هذا يدلّ على أن الله تعالى مكَّن نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من انخراق ما شاء من العادات ، وأن الجمادات كانت سخرت له ، فيتصرف فيها كيف شاء ، وهذا من ذا أكمل الكرامات ، وأعظم الذلالات .
و (( حشرته ))- بالحاء المهملة- : رققته ، وحدَّدته ، وحكى الأخفش : سهم حشر ، وسهام حشر ؛ أي : محدَّدة .
وقوله : (( فعمَّ ذاك ؟ )) وروي : (( فلم ذاك ؟ )) هو استفهام ، وذاك إشارة إلى ما أمره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ به من غرس الغصنين .
وفيه دليلٌ على جواز السؤال عن العلل والحكم ، وقد تقدَّم القول على القبرين المعذبين في كتاب : الطهارة .
---
و (( الأشجاب )) : جمع شجب ، وهو ما خلق من الأسقية ، وقدم ، وهي أشدُّ تبريدًا للماء من الْجُدَد .
وقوله : (( على حِمَارة من جريد )) ؛ صحيح الرواية فيه بكسر الحاء المهملة وتخفيف الميم ، وهي جرائد ، أو عيدان يجمع أعلاها بالربط ، ويفتح أسفلها ، تُعلَّق فيها الأسقية ، وقد رواها بعض الرواة : (( جبارة )) بجيم مضمومة ، وميم مشددة ، وفيه بُعد . و(( العَزْلاء )) : مخرج الماء من الراوية أو القربة .
وقوله : (( لو أني أفرغه لشربه يابسه )) ؛ أي : لقلَّته ، وأعاد الضمير مذكَّرًا على معنى العزلاء ، لا على لفظها ، أراد به المخرج ، أو الجلد. يعني : أن الماء كان قليلاً ، فلو صُبَّ لذهب ، ويغمزه : يعضه. والغمز : العض والطعن .
و (( جفنة الركب )) : هي قصعة كبيرة يستصحبها أصحاب الإبل يأكلون فيها مجتمعين .
(8/198)
وقوله : (( فرأيت الماء يفور من بين أصابعه )) ؛ أي : فجَّر الله تعالى من أصول الأصابع الماء ، كما يفجِّره من الحجر ، وقد بيَّنَّا أن هذه المعجزة أبلغ من معجزة موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نبع الماء من الحجر .
و (( سِيفُ البحر )) : ساحله. و(( زخر البحر )) : هاج وارتجَّ. و(( أَوْرَينا )) : أوقدنا. و(( الشق )) : الجانب . و(( حجاج العين )) بكسر الحاء وفتحها : هو العظم الذي فيه المقلة ، وعلى طرفه الأعلى ، هو الحاجب . و(( يطأطئ رأسه )) : يخفضه .
ومن باب مثل ما بعث به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(( الغيث )) : المطر . و(( الطائفة من الأرض )) : القطعة منها ، ومن الناس : الجماعة . و(( الطئبة )) : المنبتة . و(( قبلت )) : لم يختلف رواة مسلم في هذا الحرف أنه بالباء بواحدة من القبول ؛ أي : شربت الماء فانتفعت به ، وقيَّده بعض رواة البخاري : قيَّلت - باثنتين من تحتها-. وقال الأصيلي : إنه تصحيف ، وقال غيره : ليس كذلك ، ومعناه : جمعت ، تقول العرب : تقيَّل الماء في الموضع المنخفض : إذا اجتمع فيه .
---
قلت : وهذا ليس بشيء ؛ لأنَّه قد ذكر بعد هذا الطائفة الممسكة الماء ، الجامعة له ، فعلى ما قاله تكون الطائفتان واحدة ، ويفسد معنى الخبر والتشبيه ، وقيل : يكون معنى : قيلت : شربت . قال : والقيل : شرب نصف النهار ، وقيلت الإبل : إذا شربت قائلة .
قلت : وهذا أيضًا ليس بشيء ؛ لأنَّ مقصود الحديث لا يخص شرب القائلة من غيرها . والأظهر : ما قاله الأصيلي . و(( الكلأ )) : المرعى ، وهو العشب . والرَّطب : يسمى : الخلى . واليابس يسمى : الحشيش .
(8/199)
وقوله : (( وكانت منها أجادب )) ؛ لم أرو هذا الحرف إلا بالجيم ، والدال المهملة ، وهو الصحيح . قال الأصمعي : الأجادب من الأرض : ما لا ينبت الكلأ. ومعناه : أنها جردة بارزة لا يسترها شيء ، وقد رواها بعضهم أجاذب - بالذال المعجمة -. وقال بعضهم : إنما هي أخاذات بالخاء والذال المعجمتين ، جمع أخاذة ، وهي الماسكة للماء ، وقد قالها بعضهم : أحازب - بالحاء المهملة والزاي - وليس بشيء . وبعضهم قالها : أجارد بالجيم والراء ، جمع أجرد ، وهو الذي لا نبات فيه .
---
(8/200)
قلت : والصحيح الواضح : الأول رواية ومعنى - إن شاء الله تعالى - ، ومقصود هذا الحديث : ضرب مثل لما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العلم والدِّين ، ولمن جاءهم بذلك ، فشبَّه ما جاء به بالمطر العام الذي يأتي الناس في حال إشرافهم على الهلاك يحييهم ، ويغيثهم . ثم شبَّه السامعين له : بالأرض المختلفة ؛ فمنهم : العالم العامل المعلِّم ، فهذا بمنزلة الأرض الطيبة شربت ، فانتفعت في نفسها ، وأنبتت ، فنفعت غيرها . ومنهم الجامع للعلم ، الحافظ له ، المستغرق لزمانه في جمعه ووعيه ؛ غير أنه لم يتفرغ للعمل بنوافله ، ولا ليتفقه فيما جمع ، لكنه أدَّاه لغيره كما سمعه ، فهذا بمنزلة الأرض الصَّلبة التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس بذلك الماء ، فيشربون ويسقون ، وهذا القسم : هو الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نضَّر الله امرأً سمع مني حديثًا ، فبلَّغه غيره ، فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه ، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه )). لا يقال : فتشبيه هذا القسم بهذه الأرض التي أمسكت على غيرها ، ولم تشرب في نفسها يقتضي ألا تكون عملت بما لزمها من العلم ولا من الدِّين ، ومن لم يقم بما وجب عليه من أمور الدِّين ، فلا ينسب للعلماء ، ولا للمسلمين ؛ لأنَّا نقول : القيام بالواجبات ليس خاصًّا بالعلماء . بل : يستوي فيها العلماء ، وغيرهم . ومن لم يقم بواجبات علمه كان من الطائفة الثالثة التي لم تشرب ، ولم تمسك ؛ لأنَّه لما لم يعمل بما وجب عليه لم ينتفع بعلمه ، ولأنه عاص فلا يصلح للأخذ عنه .
وقوله : (( وأصاب طائفة أخرى )) ؛ هذا مثل للطائفة الثالثة التي بلغها الشرع فلم تؤمن ، ولم تقبل ، وشتهها بالقيعان . السَّبخة التي لا تقبل الماء في نفسها وتفسده على غيرها ، فلا يكون منها إنبات ، ولا يحصل بما حصل فيها نفع .
---
(8/201)
و (( القيعان )) جمع قاع ، وهو ما انخفض من الأرض ، وهو المستنقع أيضًا . وهذا يعم ما يفسد فيه الماء ، وما لا يفسد ، لكن مقصود الحديث : ما يفسد فيه الماء.
وقوله : (( وسقوا ورعوا )) ؛ يقال : سقى وأسقى بمعنى واحد . وقيل : سقيته : ناولته ما يشرب ، وأسقيته : جعلت له سقيا . ورعوا : من الرعي ، وقد رويته عن بعض المقيَّدين : زرعوا ، من الزرع وكلاهما صحيح .
وقوله : (( فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني الله به فعلم وعلَّم )) ؛ هذا مثال الطائفة الأولى .
وقوله : (( ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به )) ؛ مثال الطائفة الثالثة ، وسكت عن الثانية إما لأنها قد دخلت في الأولى بوجه ؛ لأنَّها قد حصل منها نفع في الدين ، وإمَّا لأنه أخبر بالأهم فالأهم ، وهما الطائفتان المتقابلتان : العليا ، والسفلى . والله تعالى أعلم .
وقوله في الحديث الآخر : (( إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه ، فقال : يا قوم ! إني رأيت الجيش بعيني )) ؛ هذا ضرب مثل لحاله في الإنذار ، ولأحوال السَّامعين لإنذاره ، فإنَّه أنذرهم بما علمه من عقاب الله ، وبما يتخوف عليهم من فجأته ، فمن صدَّقه نجا ، ومن أعرض عنه هلك . وهذا بخلاف التمثيل في الحديث الأوَّل ، فإنَّ ذلك بالنسبة إلى تحصيل العلم والانتفاع به ، وإلى الإعراض عنه ، فهما مثلان مختلفان .
وقوله : (( وإنِّي أنا النذير العُرْيان )) ؛ هذا مثل ؛ قيل : كان أصله : أن رجلاً مُعيَّنًا سلبه العدو ، فانفلت منهم ، فأنذر قومه عريانًا . وقيل : كان الرَّجُل من العرب إذا رأى ما يوجب إنذار قومه تجرَّد من ثيابه ، وأشار إليهم ليعلمهم بما دهمهم ، وهذا أشبه ، وأليق بمقصود الحديث .
و (( النجاء )) : السرعة ، وهو منصوب على المصدر ، وهو بالمد ، وقيل : بالقصر. حكاه أبو زيد ، ولو تكرر لفظه لوجب نصبه .
---
(8/202)
و (( أدلجوا )) : ساروا من أول الليل إدلاجًا ، والاسم : الدَّلج ، والدَّلجة - بفتح الدال - والإدلاج : الخروج من آخر الليل ، والمصدر : الإدلاج ، والاسم : الدُّلجة - بضم الذال - قال ابن قتيبة : ومن الناس من يجيز الوجهين في كل واحد منهما ، كما يقال : بَرْهةً من الدَّهر ، وبُرْهة .
و (( اجتاحهم )) : أهلكهم ، واستأصلهم . يقال : جاحَتْهُم السَّنَهُ ، تجوحهم جَوْحًا ، وجياحة . واجتاحتهم ، تجتاحهم ، اجتياحة .
وقوله : (( استوقد نارًا )) ؛ أي : أوقدها ، والسِّين والتاء زائدتان .
و (( الْجَنَادِب )) : جمع جُنْدَب -بفتح الدَّال وضمها - وهي : الجرادة . هذا هو المعروف من اللغة . وقال أبو حاتم : الجندب على خلقة الجرادة ، له أربعة أجنحة يصرر بالليل صرًّا شديدًا .
و (( الفراش )) قال الفراء : هو غوغاء الجراد التي تنفرش وتتراكب . وقال غيره : هو الطير الذي يتساقط في النار وفي السراج .
قلت : وهذا أشبه بما في الحديث .
و (( الحجز )) جمع حجزة ، وهي معقد الإزار والسراويل . ويقال : تحاجز القوم ؛ إذا أخذ بعضهم بحجزة بعض ، وإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه .
والتقحُّم : هو التهجُّم على الشيء من غير تروٍّ ، ولا تبصُّر ، وهذا مثل لاجتهاد نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نجاتنا ، وحرصه على تخليصنا من الهلكات التي بين أيدينا ، ولجهلنا بقدر ذلك ، وغلبة شهواتنا علينا ، وظفر عدوِّنا اللعين بنا ؛ حتى صرنا أحقر من الفراش والجنادب ، وأذل من الطين اللاَّزب .
ومن باب : مثل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الأنبياء
(8/203)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارًا ، فأتَمَّها وأكملها ، إلا موضع لبنه )) ؛ اللَّبنة الطوبة التي يبنى بها ، وفيها لغتان : إحداهما : فتح اللام وكسر الباء ، وتجمع : لبن ، غير أنك تسقط الهاء من الجمع . كنبقة ونبق . والثانية : كسر اللام وسكون الباء ، وتجمع : لبن - بكسر اللام وفتح الباء ، كسدرة وسدر .
---
ومقصود هذا المثل : أن يبيِّن به ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله تعالى ختم به النبيين والمرسلين ، وتَمَّم به ما سبق في علمه إظهاره من مكارم الأخلاق ، وشرائع الرسل ، فيه كمل النظام ، وهو ختم الأنبياء ، والرسل الكرام ، صلى الله عليه وعلى آله أفضل صلاة ، وسلَّم عليه أبلغ سلام .
ومن باب : إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها
إنما كان موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أمته رحمة لأمته ؛ لأنَّ الموجب لبقائهم بعده إيمانهم به ، واتباعهم لشريعته ، ثم إنهم يصابون بموته ، فتعظم أجورهم بذلك ؛ إذ لا مصيبة أعظم من فقد الأنبياء ، فلا أجر أعظم من أجر من أصيب بذلك ، ثم يحصل لهم أجر التمسك بشريعته بعده ، فتتضاعف الأجور ، فتعظم الرحمة ، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( حياتي لكم رحمة ، ومماتي لكم رحمة )) ، وأما إذا أهلكها قبله فذلك لا يكون إلا لأنهم لم يؤمنوا به ، وخالفوه ، وعصوا أمره ، فإذا استمروا على ذلك من عصيانهم ، وتمرُّدهم أبغضهم نبيهم ، فربما دعا عليهم فأجاب الله دعوته فأهلكهم ، فاقرَّ عينه فيهم ، كما فعل بقوم نوح وغيره من الأنبياء ، وقد تقدَّم القول في الفرط ؛ وأنه المتقدِّم .
قلت : وحديث أبي موسى : هو من الأربعة عشر حديثًا المنقطعة . الواقعة في كتاب مسلم ؛ لأنَّه قال في أول سنده : حُدِّثت عن أبي أسامة ، وممن روى عنه : إبراهيم بن سعيد الجوهري . قال : حدثنا أبو أسامة ، ثم ذكر السند متصلاً إلى أبي موسى ـ رضى الله عنه ـ .
(8/204)
ومن باب أحاديث حوض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأوانيه
---
قد تقدَّم القول على كثير من معاني أحاديث هذا الباب في كتاب الطهارة . ومما يجب على كل مكتف أن يعلمه ، ويصدِّق به : أن الله تعالى قد خصَّ نبيه محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالكوثر الذي هو الحوض المصرَّح باسمه ، وصفته ، وشرابه وآنيته في الأحاديث الكثيرة الصحيحة الشهيرة ؛ التي يحصل بمجموعها العلم القطعي ، واليقين التواتري ؛ إذ قد روى ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الصحابة نيفًا على الثلاثين. في الصحيحين منهم نيف على العشرين ، وباقيهم في غيرهما ، مما صح نقله ، واشتهرت روايته ، ثم قد رواها عن الصحابة من التابعين أمثالُهم ، ثم لم تزل تلك الأحاديث مع توالي الأعصار ، وكثرة الرواة لها في جميع الأقطار ، تتوفر همم الناقلين لها على روايتها وتخليدها في الأمهات ، وقد وينها ، إلى أن انتهى ذلك إلينا ، وقامت به حجة الله علينا ، فلزمنا الإيمان بذلك ، والتصديق به ، كما أجمع عليه السلف ، وأهل السنه من الخلف ، وقد أنكرته طائفة من المبتدعة ، وأحالوه عن ظاهره ، وغلوا في تأويله من غير إحالة عقلية ، ولا عادية ، تلزم من إقراره على ظاهره ، ولا منازعة حية ، ولا نقلية تدعو إلى تأويله ، فتأويله تحريف صدر عن عقل سخيف خرق به إجماع السلف ، وفارق به مذهب أئمة الخلف .
والحوض : مجتمع الماء . يقال : استحوض الماء ؛ إذا اجتمع . ويجمع : أحواضًا وحياضًا .
(8/205)
وقوله : (( من شرب منه لم يظمأ أبدًا )) ؛ أي : لم يعطش آخر ما عليه. وظاهر هذا وغيره من الأحاديث : أن الورود على هذا الحوض ، والشرب منه ؛ إنما يكون بعد النجاة من النار ، وأهوال القيامة ؛ لأنَّ الوصول إلى ذلك المحل الشريف ، والشرب منه ، والوصول إلى موضع يكون فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يمنع عنه ، من أعظم الإكرام ، وأجل الإنعام ، ومن انتهى إلى مثل هذا كيف يعاد إلى حساب ، أو يذوق بعد ذلك تنكيل خزي وعذاب ؟! فالقول بذلك أوهى من ا لسراب.
---
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( حوضي مسيرة شهر ، وزواياه سواء )) ؛ أي : أركانه معتدلة ؛ يعني : أن ما بين الأركان متساوٍ ، فهو معتدل التربيع ، وقد اختلفت الألفاظ الدَّالة على مقدار الحوض ، كما هو مبيَّن في الروايات المذكورة في الأصل . وقد ظن بعض القاصرين : أن ذلك اضطراب ، وليس كذلك ؛ وإنما تحدَّث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحديث الحوض مرات عديدة ، وذكر فيها تلك الألفاظ المختلفة إشعارًا بأن ذلك تقدير ، لا تحقيق ، وكلها تفيد : أنه كبير متسع ، متباعد الجوانب والزوايا ، ولعل سبب ذكره للجهات المختلفة في تقدير الحوض : أن ذلك إنما كان بحسب من حضره مس يعرف تلك الجهات ، فيخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( ماؤه أبيض من الورق )) ؛ جاء أبيض - ها هنا - في هذا الحديث على الأصل المرفوض ؛ كما قد جاء في قولهم :
..................... فأنت أبْيَضُهم سِرْبال طَبَّاخ
(8/206)
وكما قد جاء قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( توافون سبعين أمَّة أنتم أخيرهم )) ؛ أي : خيرهم ، وكما قد جاء عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات )) ، وكل ذلك جاء منبهة على الأصل المرفوض . والمستعمل الفصيح كما جاء في الرواية الأخرى : (( أشد بياضًا من الثلج )) ، ولا معنى لقول من قال من مُتعسِّفة النحاة : لا يجوز التلفظ بهذه الأصول المرفوضة ؛ مع صحَّة هذه الروايات ، وشهرة تلك الكلمات.
وقول عقبة : (( إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج فصلى على أهل أحد صلاته على الميت )) ؛ أي : دعا لهم بدعاء الموتى ، وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قد استقبل القبلة ، ودعا لهم ، واستغفر ، وهذا كما فعل حيث أمره الله تعالى أن يستغفر لأهل البقيع ، فقام عليهم ليلاً ، واستغفر لهم ، ثم انصرف ، كما تقدم في الجنائز.
---
وقوله : (( أعطيت مفاتيح خزائن الأرض )) ؛ أي : بُشر بفتح البلاد ، وإظهار الدين ، وإعلاء كلمة المسلمين ، وتمليكه جميع ما كان في أيدي ملوكها من الصفراء ، والبيضاء ، والنفائس ، والذخائر ، فقد ملَّكه الله تعالى ديارهم ، ورقابهم ، وأرضهم ، وأموالهم . كل ذلك وفاءً بمضمون : { ليظهره على الدين كله }.
(8/207)
وقوله : (( إني والله لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي )) ؛ يعني : أنه قد أمن على جملة أصحابه أن يُبدِّلوا دين الإسلام بدين الشرك. ولا يلزم من ذلك ألا يقع ذلك من آحادٍ منهم ؛ فإنَّ الخبر عن الجملة لا يلزم صدقه على كل واحد من آحادها دائمًا ؛ كيف لا ؟! وهو الذي أخبر بأن منهم من يرتد بعد موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما جاء نصًّا في غير ما موضع من أحاديث الحوض وغيرها ، وقد ظهر في الوجود ردَّة كثيرٍ ممن صحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصلَّى معه ، وجاهد ، ثم كفر بعد موته . وقد تقدم قول ابن إسحاق وحكايته : أنه لم يبق بعد موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسجد من مساجد المسلمين إلا كان في أهله ردَّة ، إلا ما كان من ثلاثة مساجد. وقتال أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ لأهل الردة معلوم متواتر ، وإذا كان كذلك فيتعيَّن حمل هذا الحديث على ما ذكرناه .
ويحتمل أن يكون هذا خبرًا عن خصوص أصحابه الذين أعلمه الله تعالى بمآل حالهم ، وأنهم لا يزالون على هدي الإسلام وشرعه إلى أن يلقوا الله ورسوله على هديه ؛ إذ قد شهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكثير منهم بذلك ، وشوهدت استقامة أحوالهم حتى توفاهم الله تعالى عليه ، ويحتمل أن يحمل هذا الخبر على جميع الأمة ، فيكون معناه : الإخبار عن دوام الدين ، واتصال ظهوره إلى قيام الساعة ، وأنه لا ينقطع بغلبة الشرك على جميع أهله ، ولا بارتدادهم ، كما قد شهد بذلك الكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة . والأول أظهر من الحديث ، والله أعلم .
---
وقوله : (( ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوا فيها ، وتقتتلوا فتهلكوا )) ؛ هذا الذي توقعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي وقع بعده ؛ فعمَّت الفتن ، وعظمت المحن ، ولم ينج منها إلا من عصم ، ولا يزال الهرج إلى يوم القيامة ، فنسأل الله تعالى عاقبة خير وسلامة .
ومن باب عظم حوض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومقداره وكبره وآنيته
(8/208)
وجرباء : صحيح روايته بفتح الجيم وسكون الراء والمد ، وقد وقع عند بعض رواة البخاري بالقصر وهو خطأ ، وأدرح ؛ بفتح الهمزة ، وذال معجمة ساكنة ، وراء مضمومة ، وحاء مهملة ، هو الصواب . ووقع في رواية العذري بالجيم ، وهو خطأ ، وقد فسَّرهما في الأصل : بأنهما قريتان من قرى الشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام ، وقال ابن وضاح في أَذْرُح : أنها فلسطين ؛ وهذا يدل على صحة ما قلناه : إنه كان يقذر الحوض لكل طائفة بما كانت تعرف من مسافات مواضعها ، فيقول هذا لأهل الشام ، ويقول لأهل اليمن : من صنعاء إلى عدن . وتارة أخرى يقدره بالزمان ، فيقول مسيرة شهر .
وعَمَّان : بفتح العين ، وتشديد الميم ، وهي قرية من عمل دمشق ، وهي من البلقاء ، وقد جاء في الترمذي : من عدن إلى عمَّان البلقاء ، وقيل فيها : عمان : بضم العين ، وتخفيف الميم وليس بصحيح ؛ وإنما التي هي كذلك : عمان التي باليمن ؛ بلا خلاف فيها وهي مدينة كبيرة .
وقوله : (( إني لَبِعُقْرِ حوضي )) ؛ هو بضم العين ، وسكون القاف ، وهو مؤخره حيث تقف الإبل إذا وردته ، وتُسكَّن قافه وتضم ، فيقال : عُقْر وعُقُر ، كعُسْر وعُسُر ، قاله في الصحاح . قال غيره : عُقْر الدار : أصلها - بفتح العين وقد تضم -.
وقوله : (( أذود الناس لأهل اليمن )) ؛ يعني : السابقين من أهل اليمن الذين نصره الله بهم في حياته ، وأظهر الدِّين بهم بعد وفاته ، وقد تقدَّم أن المدينة من اليمن ، وأنهم أحق بهذا الإكرام من غيرهم ، لما ثبت لهم من سابق النُّصرة ، والأثرة ؛ ولذلك قال للأنصار : (( اصبروا حتى تلقوني على الحوض )).
---
(8/209)
وأذود : أدفع ؛ فكانه يطرِّق لهم مبالغة في إكرامهم حتى يكونوا أوَّل شارب ، كما يفعل بفقراء المهاجرين ؛ إذ ينطلق بهم إلى الجنة ، فيدخلهم الجنة قبل الناس كلهم ؛ كما قد ثبت في الأحاديث ، ولا يظن : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلازم المقام عند الحوض دائمًا ، بل يكون عند الحوض تارة ، وعند الميزان أخرى ، وعند الصراط أخرى ، كما قد صحَّ عنه : أن رجلاً قال : أين أجدك يا رسول الله يوم القيامة ؟ قال : (( عند الحوض ، فإنَّ لم تجدني ، فعند الميزان ، فإنَّ لم تجدني ، فعند الصراط ، فإني لا أخطيء هذه المواطن الثلاث )). وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يفارق أصحابه ، ولا أمته في تلك الشدائد سعيًا في تخليصهم منها ، وشفقة عليهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا حالَ بيننا وبينه في تلك المواطن !
وقوله : (( أضرب بعصاي حتى يرفضَّ )) ؛ بالمثناة من تحت ؛ أي : يضرب من أراد من الناس الشرب من الحوض قبل أهل اليمن ، ويدفعهم عنه حتى يصل أهل اليمن ، فيرفضُّ الحوض عليهم ؛ أي : يسيل ، يقال : ارفضَّ الدمع : إذا سال .
وقوله : (( يشخب فيه ميزابان من الجنة )) ؛ أي : يسيل ، وهو بالشين والخاء المعجمتين ، والشخب - بالفتح في الشين - المصدر ، وهو السيلان ، وبالضم : الاسم . يقال في المثل : شُخب في الأرض وشُخب في الإناء . وأصل ذلك في الحالب المفرط. وفي الرواية الأخرى : (( يَغُبُّ )) بالغين المعجمة ، وبالمثناة فوق ؛ هي الرواية المشهورة ، ومعناه : الصبُّ المتوالي ، المتتابع . وأصله : إتباع الشيء الشيء ؛ يعني : أنه يصب دائمًا متتابعًا صبًا شديدًا سريعًا ، وقد رواه العذري : (( يَعُبُّ )) بالعين المهملة ، وبالموحدة ، وكذا ذكره الحربي ، وفسَّره بالعَبِّ ، وهو شرب الماء جرعة بعد جرعة ، ورواه ابن ماهان : (( يثعب )) بثاء مثلثة قبل العين المهملة ، ومعناه : يتفجَّر ويسيل ، ومنه : وجرحه يثعب دمًا .
---
(8/210)
وقوله : (( يَمُدَّانه من الجنة )) ؛ فصيحه : يمدانه بفتح الياء ، وضم الميم ثلاثيًّا من مدَّ النهر ، ومدَّه نهرٌ آخر . فأمَّا الرباعي فقولهم : أمددت الجيش بمدد ، وقد جاء الرباعي في الأول . ومعناه : الزيادة على الأول فيهما .
واختُلِجُوا : أخرجوا من بين الواردين . وأصيحابي : تصغير أصحاب على غير قياس . ولابتا الحوض : جانباه اللذان من خارجه حيث يكون شدَّة الحر والعطش ، وأصل اللابة : الْحَرَّة ؛ وهي أرض ألبست حجارة سودًا ، ومنه : لابتا المدينة ، كما تقدَّم . وسُحقًا سُحقًا : بُعدًا بُعدًا . والسحيق : المكان البعيد .
ومن باب : شجاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجوده وحُسن خلقه
قوله : (( فزع أهل المدينة )) ؛ أي : ذعروا من عدوٍّ دهمهم ، وقد قدمنا أن الفزع يقال على أوجه متعددة ، و(( لم تراعوا )) ؛ أي : لم يصبكم روعٌ ، أو لا روع عليكم .
وقوله : (( وجدناه بحرًا )) ؛ يعني : الفرس ؛ أي : وجدناه يجري كثيرًا جريًا متتابعًا كالبحر . وقد تقدَّم : أن أصل البحر : السَّعة ، والكثرة. ويقال : فرس سحبٌ ، وبحرٌ ، وسكب وسحَّ ، وفيض ، وغمر : إذا كان سريعًا ، كثير الجري ، شديد العدو .
وقوله : (( وكان فرسًا يُبَطَّأ )) ؛ أي : يُنسب البطء إليه ، ويعرف به ، فلما ركبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أدركته بركته ؛ فسابق الجياد ، وصار نعم العتاد . والرواية المشهورة : يبطأ بالمثناة تحت والموحدة ، من البطء : ضد السرعة ، وعند الطبري : (( ثبطا )) ؛ أي : ثقيلاً . وهو بمعنى الأول . والفرس العري الذي لا سرج عليه ، يقال : فرس عري وخيل أعراء . ويقال : رجل عريان ، ورجال عرايًا .
---
(8/211)
وفي هذا الحديث ما يدلُّ على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قد جمع له من جودة ركوب الخيل ، والشجاعة ، والشهامة ، والانتهاض الغائي في الحروب ، والفروسية وأهوالها ، ما لم يكن عند أحد من الناس ، ولذلك قال أصحابه عنه : إنه كان أشجع الناس ، وأجرأ الناس في حال الباس ، ولذلك(2) قالوا : إن الشجاع منهم كان الذي يلوذ بجنابه إذا التحمت الحروب ، وناهيك به ؛ فإنَّه ما ولَّى قطٌّ منهزمًا ، ولا تحدَّث أحد عنه قط بفرار .
ومندوب : اسم علم لذلك الفرس . وقيل : إنه سُمِّي بذلك لأنه كان يعسبق ، فيجوز النَّدب ، وهو : الخطر الذي يجعل للسابق ، وكأنه إنما حدث له هذا الاسم بعد أن ركبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد ذكر أنه كان لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرس يسمى مندوبًا ، فيحتمل أن يكون هذا الفرس انتقل من ملك أبي طلحة إلى ملك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إما بالهبة ، وإما بالابتياع ، ويحتمل أن يكون فرسًا آخر وافقه في ذلك الاسم ، والله أعلم .
---
(8/212)
وقول سعد : (( رأيت عن يمين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن شماله رجلين يوم أحد رجلين عليهما ثياب بياض ، يقاتلان عليه كاشدِّ القتال )). قال ، يعني : جبريل وميكائيل صلَّى الله عليهما وسلم . رؤية سعد ـ رضى الله عنه ـ لهذين الملكين في ذلك اليوم : كرامة من الله تعالى خصَّه بها ، كما قد خصَّ عمران بن حصين بتسليم الملائكة عليه ، وأسيد بن حضير برؤية الملائكة الذين تنزلوا لقراءة القرآن ، وقتال الملائكة للكفار يوم بدر ، ويوم أحد لم يخرج عن عادة القتال المعتاد بين الناس ، ولو أذن الله تعالى لملك من أولئك الملائكة بأن يصيح صيحة واحدة في عسكر العدو لهلكوا في لحظة واحدة ، أو لخسف بهم موضعهم ، أو أسقط عليهم قطعة من الجبل المطل عليهم ، لكن لو كان ذلك : لصار الخبر عيانًا ، والإيمان بالغيب مشاهدة ، فيبطل في التكليف ، فلا يتوجَّه لوم ، ولا تعنيف ، كما قد صرَّح الله تعالى بذلك قولاً وذكرًا ؛ إذ قال : { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا }.
ومن باب كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود الناس ، وأحسن الناس خُلُقًا
وقوله : (( إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أجود الناس )) ؛ أي : أكثرهم جودًا وسخاءً . هذا هو المعلوم من خُلُقِه ؟ فإنَّه ما سئل شيئًا فمنعه إذا كان مما يصح بذله وإعطاؤه .
وقوله : (( وكان أجود ما يكون في رمضان )) ؛ إنما كان ذلك لأوجه :
---
(8/213)
أحدها : رغبته في ثواب شهر رمضان ، فإنَّ أعمال الخير فيه مضاعفة الأجر ، وليعين الصائمين على صومهم ، وليفطرهم ، فيحصل له مثل أجورهم كما قال ، ولأنه كان يلقى فيه جبريل لمدارسة القرآن ، فكان يتجدد إيمانه ، ويقينه ، وتعلو مقاماته ، وتظهر عليه بركاته ، فيا له من لقاء ما أكرمه ، ومن مشهد ما أعظمه ! وقيل : إنما كانت عطاياه تكثر في رمضان ؛ لأنَّه كان يقدَّم الصدقات بين يدي مناجاة الرسول لقوله تعالى : { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } ، وفيه بُعد ؛ لأنه قد كان نسخ ذلك ، ولاستبعاد دخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا }. ويبُعد دخول جبريل في قوله تعالى : { إذا ناجيتم الرسول }.
و (( أجود )) : قيل بالنصب على أنه خبر كان ، وفيه بُعد ؛ لأنَّه يلزم منه : أن يكون خبرها هو اسمها ، وذلك : لا يصح إلا بتأويل بعيد ، والرفع أولى ؛ لأنَّه يكون مبتدأ مضافًا إلى المصدر ، وخبره : في رمضان ، وتقديره : أجود أكوانه في رمضان ، ويعني بأكوان : الأحوال ، والله أعلم .
وقوله : (( إن جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يلقاه في كل سنة في رمضان )) ؛ يصلح الكسرفي (( إن )) على الابتداء ، والفتح فيه أولى ، فيكون تعليلاً لجود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رمضان ، وكان هذا الوجه أولى . والله أعلم . ولا أذكر الآن كيف قيَّدتها على من قرأتُه عليه .
وقوله : (( كان أجود من الريح المرسلة )) ؛ أي : بالمطر ، وفيه جواز المبالغة ، والإغياء في الكلام . و(( أف )) كلمة ذم وتحقير واستقذار ، وأصل الأفِّ والتفِّ : وسخ الأظفار ، وفيها : عشر لغات : أفّ بغير تنوين بالفتح والضم والكسر ، وبالتنوين للتنكير مع الأوجه الثلاثة ، وبكسر الهمزة وفتحها ، ويقال : أُفِّي وأُفِّه . وفي الصحاح ، يقال : كان ذلك على إفّ ذلك ، وإفَّانِه- بكسرهما - ؛ أي : في حينه ، وأوانه .
---
(8/214)
وقول أنس : (( والله لا أذهب! وفي نفسي أن أذهب )) ؛ هذا القول : صدر عن أنس في حال صغره ، وعدم كمال تمييزه ؛ إذ لا يصدر مثله ممن كمل تمييزه . وذلك : أنه حلف بالله على الامتناع من فعل ما أمره به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشافهة ، وهو عازمٌ على فعله ، فجمع بين مخالفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين الإخبار بامتناعه ، والحلف بالله على نفي ذلك مع العزم على أنه كان يفعله ، وفيه ما فيه ، ومع ذلك فلم يلتفت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لشيء من ذلك ، ولا عرَّج عليه ، ولا أذبه . بل داعبه ، وأخذ بقفاه ، وهو يضحك رفقًا به ، واستلطافًا له ، ثم قال : (( يا أنيس ! اذهب حيث أمرتك )) ، فقال له : أنا أذهب . وهذا كله مقتضى خلقه الكريم ، وحلمه العظيم .
وقد اختلفت الروايات في مدَّة خدمة أنس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقيل : عشر . وقيل : تسع ، وذلك بحسب اختلافهم في سَنَةِ مقدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة. فقال الزهري : عن أنس ـ رضى الله عنه ـ قال : قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة وأنا ابن عشر ، وتوفي وأنا ابن عشرين سنة .
قلت : فعلى هذا خدمه عشر سنين ، إن قلنا : أنه خدمه من أول مقدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة ، ويحتمل : أن تكون تأخرت خدمته عن ذلك سنة فتكون مدة خدمته له : تسع سنين . وقيل : قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنس ابن ثماني سنين .
وقوله : (( فأعطاه غنمًا بين جبلين )) ؛ يعني : ملء ما بين جبلين كانا هنالك ، وكان هذا - والله أعلم - يوم حنين لكثرة ماكان هنالك من غنائم الإبل ، والبقر ، والغنم ، والذراري ، ولأن هذا الذي اغطي هذا القدر كان من المؤئفة قلوبهم ؛ ألا ترى أنه رجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام لأجل العطاء .
(8/215)
وقوله : (( إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا )) ؛ يعني : أنهم كان منهم من ينقادُ فيدخلُ في الإسلام لكثرة ما كان يعطي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يتألفه على الدخول فيه ، فيكون قصده بالدخول فيه الدنيا ، وهذا كان حال الطلقاء يوم حنين على ما مرَّ .
---
وقوله : (( فما يسلم حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها )) ؛ ظاهر مساق هذا الكلام أن إسلامه الأول لم يكن إسلامًا صحيحًا ؛ لأنَّه كان يبتغي به الدنيا ؛ وإنما يصحُّ له الإسلام إذا استقر الإسلام بقلبه ، فكان آثر عنده ، وأحبّ إليه من الدنيا وما عليها ، كما قال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسواه وجهاد في سبيله فتربصوا }. وهذا معنى صحيح ، ولكنه ليس بمقصود الحديث ؛ وإنما مقصود أنس من الحديث : أن الرجل كان يدخل في دين الإسلام رغبة في كثرة العطاء ، فلا يزال يُعطى حتى ينشرح صدره للإسلام ، ويستقر فيه ، ويتنور بأنواره ، حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما فيها ، كما صرَّح بذلك صفوان حيث قال : والله لقد أعطاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أعطاني ، وإنه لأبغض الناس إليَّ ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليَّ . وهكذا اتفق لمعظم المؤلفة قلوبهم.
(8/216)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجابر : (( لو قد جاءنا مال البحرين لأعطيناك هكذا ، وهكذا ، وهكذا )) وقال بيديه جميعًا ؛ هذا يدلّ على سخاوة نفس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمال ، وأنه ما كان لنفسه به تعلق ، فإنَّه كان لا يعدُّه بعدد ، ولا يقدره بمقدار ، لا عند أخذه ، ولا عند بذله . وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان وعدًا لجابر ـ رضى الله عنه ـ ، وكان المعلوم من خلقه الوفاء بالوعد ، ولذلك نفذه له أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ بعد موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وهكذا كان خلق أبي بكر ، وخلق الخلفاء الأربعة ـ رضى الله عنهم ـ ، ألا ترى أبا بكر كيف نفذ عدة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجابر بقول جابر ، ثم إنه دفعها له على نحو ما قال من غير تقدير ؟ ! وأخبارهم في ذلك معروفة ، وأحوالهم موصوفة ، وكفى بذلك ما سار مسير المثل الذي لم يزل يجري على قول علي ـ رضى الله عنه ـ : يا صفراء ويا بيضاء غري غيري .
ومن باب : رحمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصبيان والعيال
---
(8/217)
قوله : (( وأملك أن كان الله نزع الرَّحمة من قلبك ؟! )) كذا وقع هذا اللفظ محذوف همزة الاستفهام ، وهي مرادة ، تقديره : أو أملك ؟ وكذا جاء هذا اللفظ في البخاري بإثباتها ، وهو الأحسن ؛ لقلة حذف همزة الاستفهام . و(( أن )) مفتوحة ، وهي مع الفعل بتأويل المصدر ، تقديرها : أو أملك كون الله نزع الرَّحمة من قلبك ؟! وقد أبعد من كسرها ، ولم تصح رواية الكسر . ومعنى الكلام : نفي قدرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإتيان بما نزع الله من قلبه من الرحمة . والرحمة في حقِّنا : هي رقَّة وحُنُوّ يجده الإنسان في نفسه عند مشاهدة مبتلى ، أو ضعيف ، أو صغير ، يحمله على الإحسان إليه ، واللطف به ، والرفق ، والسعي في كشف ما به . وقد جعل الله تعالى هذه حق الرمة في الحيوان كل - عاقله وغير عاقله - فبها تعطف الحيوانات على نوعها ، وأولادها ، فتحنو عليها ، وتلطف بها في حال ضعها وصغرها. وحكمة هذه الرمة تسخير القوي للضيف ، والكبير للصغير حتى ينحفظ نوعه ، وتتم مصلحته ، وذلك تدبير اللطيف الخبير . وهذه الرحمة التي جعلها الله في القلوب في هذه الدار ، وتحصل عنها هذه المصلحة العظيمة هي رحمة واحدة من مائة رحمة ادَّخرها الله تعالى ليوم القيامة ؛ فيرحم بها عباده المؤمنين وقت أهوالها ، وشدائدها حتى يخصَّهم منها ، ويدخلهم في جنته ، وكرامته . ولا يفهم من هذا أن الرحمة التي وصف الحق ُ بها نفسه هي رقَّة وحُنُو ، كما هي في حقِّنا ؛ لأنَّ ذلك تغيُّر يوجب للمتصف به الحدوث ، والله تعالى منزه ومقدَّس عن ذلك ، وعن نقيضه الذي هو القسوة ، والغلظ ؛ وإنما ذلك راجعٌ في حقِّنا إلى ثمرة تلك الرأفة ، وفائدتها ، وهي : اللطف بالمبتلى ، والضيف ، والإحسان إليه ، وكشف ما هو فيه من البلاء ، فإذا هي في حقه سبحانه وتعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات ، وهذا كما تقدَّم في غضبه تعالى ورضاه في غير موطن . وإذا تقرر هذا ؛ فمن خلق الله تعالى فى قلبه
(8/218)
هذه الرحمة الحاملة له
---
على الرفق ، وكشف ضر المبتلى ، فقد رحمه الله سبحانه وتعالى بذلك في الحال ، وجعل ذلك علامة على رحمته إياه في المآل ، ومن سلب الله ذلك المعنى منه ، وابتلاه بنقيض ذلك من القسوة والغلظ ، ولم يلطف بضعيف ، ولا أشفق على مبتلى ، فقد أشقاه في الحال ، وجعل ذلك علمًا على شقوته في المآل ، نعوذ بالله من ذلك ، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الراحمون يرحمهم الرحمن )). وقال : (( لا يرحم الله من عباده إلا الرحماء )). وقال : (( لا تتزع الرحمة إلا من شقي )) ، وقال : (( من لا يَرحم لا يُرحم )).
(8/219)
وفي هذه الأحاديث ما يدلّ على جواز تقبيل الصغير على جهة الرحمة. والشفقة ، وكراهة الامتناع من ذلك على جهة الأنفة . وهذه القبلة هي على الفم ، ويكره مثل ذلك في الكبار ؛ إذ لم يكن ذلك معروفًا في الصدر الأول ، ولا يدل على شفقة . فإما تقبيل الرأس فإكرام عند من جرت عادتهم بذلك كالأب والأم . وأما تقبيل اليد فكرهه مالك ، ورآه من باب الكبر ، وإذا كان ذلك مكروهًا في اليد كان أحرى وأولى في الرِّجْل ، وقد أجاز تقبيل اليد والرِّجل بعض الناس ، مستدلاً بأن اليهود قبَّلوا يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجليه حين سألوه عن مسائل ، فأخبرهم بها ، ولا حجة في ذلك ؛ لأنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نزهه الله عن الكبر ، وأمن ذلك عليه ، وليس كذلك غيره ؛ ولأن ذلك أظهر من اليهود تعظيمه ، واعتقادهم صدقه ، فأقرَّهم على ذلك ليبيِّن للحاضرين - بإذلالهم أنفسهم له - ما عندهم من معرفتهم بصدقه ، وأن كفرهم بذلك عناد وجحد . ولو فهمت الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ جواز تقبيل يده ورجله لكانوا أوَّل سابق إلى ذلك ، فيفعلون ذلك به دائمًا وفي كل وقت ، كما كانوا يتبركون ببزاقه ، ونخامته ، ويدلكون بذلك وجوههم ، ويتطيبون بعرقه ، ويقتتلون على وضوئه(2) ، ولم يرو قطُّ عن واحد منهم بطريق صحيح أنه قتل له يدًا ولا رجلاً ؛ فصحَّ ما قلناه ، والله ولي التوفيق .
---
(8/220)
وقوله : (( وكان ظئره قينا )) ؛ الظئر : أصله اسم للمرضعة . ثم قد يقال على زوجها صاحب اللَّبن ذلك . قال الخليل : ويقال للمذكر والمؤنث. وقال أبو حاتم : الظُئْر من الناس والإبل : إذا عَطَفَت على ولد غيرها ، والجمع : ظُؤَار . وقال ابن السكيت : لم يأت فُعال بضم الفاء جمعًا إلا تُؤام جمع تَوْءَم ، وظؤار جمع ظئر ، وعراق جمع عرق ، ورُخال جمع رِخْل ، وفُرارٌ جمع فَرِير : وهو ولد الظبية . وغنمٌ رُبابٌ : جمع شاة رُبَّى. قال ابن ولاد : وهي حديثة عهد بنتاج . وقال ابن الأنباري : تجمع الظئر : ظُؤَارًا ، أظؤرًا ، ولا يقال : ظؤرة . وحكى أبو زيد في جمعه : ظؤرة . قال الهروي : ولا يجمع على فُعْلةٍ إلا أربعة أحرف : ظِئْرٌ ، وظُؤرة ، وصاحبٌ ، وصحبة ، وفارِةٌ وفُرْهةٌ ، ورائق وروقة . وفي الصحاح : الظئر - مهموز - والجمع ظُؤار على فعال بالضم . وظؤور وأظآر .
و (( القين )) : الحداد . و(( القَيْن )) : العبد. و(( القيْنة )) : الأمة ؛ مغنية كانت أو غير مغنية . وقد غلط من ظنها : المغنية فقط . والجمع : القيان. قال زهير :
ردَّ القِيانُ جِمال الحيِّ فاحتَمَلُوا إلى الظَّهِيرة أَمر بينهم لَبِكُ
قلت : وأصل هذه اللفظة من : اقتان النبت اقتنانًا ؛ أي : حَسُنَ ، واقتانت الروضة : أخذت زخرفها ، ومنه قيل للماشطة : قينة ، ومُقيِّنَة ؛ لأنَّها تزيِّن النساءَ ، شُبهت بالأمة ؛ لأنَّها تُصلح البيت وتزينه.
وقوله : (( إن إبراهيم ابني قد مات في الثدي )) ؛ أي : في حال رضاعه ؛ أي : لم يكمل مدَّة رضاعه . قيل : إنه مات وهو ابن ستة عشر شهرًا ، وهذا القول : أخرجه فَرْط الشفقة والرحمة والحزن .
---
(8/221)
وقوله : (( إن له لظئرين يُكملان رضاعه في الجنة )) ؛ هذا يدلُّ على أن حكمه حكم الشهيد ؛ فإنَّ الله تعالى قد أجرى عليه رزقه بعد موته ، كما قد أجرى ذلك على الشهيد ؛ حيث قال : { بل أحياء عند ربهم يرزقون} ، وعلى هذا : فمن مات من صغار المسلمين بوجه من تلك الوجوه السبعة التي ذكرنا أنها أسباب الشهادة كان شهيدًا ، ويلحق بالشهداء الكبار بفضل الله ورحمته إياهم ؛ وإن لم يبلغوا أسنانهم ، ولم يُكلَّفوا تكليفهم ، فمن قتل من الصغار في الحرب كان حكمه : حكم الكبير فلا يغسَّل ، ولا يصلَّى عليه ، ويدفن بثيابه كما يفعل بالكبير. وموافقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن يطلب منه غمس يده في الماء ، وللجارية التي كلَّمته : دليل على كمال حسن خلقه وتواضعه ، وإسعاف منه لمن طلب منه ما يجوز طلبه ، وإن شق ذلك عليه ، وليحصل لهم أجرٌ على نيَّاتهم ، وبركة في أطعماتهم ، وقضاء حاجاتهم ، وقد كانت الأَمَة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت من المدينة ، وهذا كمالٌ لا يعرفه إلا الذي خصَّه به.
وقوله لأنجشة : (( رويدك )) ؛ أي : رفقك ، وهو منصوب نصب المصدر ؛ أي : ارفق رفقَكَ .
وقوله في "الأم" : (( ويحك يا أنجشة ! رويدًا سوقَكَ بالقوارير )) ؛ ويحَ ؛ قال سيبويه : ويحك : زجر لمن أشرف على الهلاك . و(( ويل )) : لمن وقع فيه . وقال الفراء : ويح ووشى بمعنى : ويل. وقال غيرهما : ويح : كلمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيرثى له ويرحم . وويل بضدِّه : وويس : تصغير .
---
(8/222)
قلت : وهي كلمات منصوبة بأفعال مقدَّرة لا يستعمل إظهارها . ويصح أن تكون رويدًا هنا : اسم فعل الأمر ؛ أي : ارود ، بمعنى : ارفق. و(( سوقك )) : مفعول به ، أو بإسقاط حرف الجر ؛ أي : في سوقك ، وقد قال بعض الناس : إن القوارير يراد بها هنا الإبل ؛ أمره بالرفق بها لئلا يعنف عليها في السير بطيب صوته فيهلكها ، وتفسير الراوي أولى من تفسير هذا المتأخر ، فإنه وقد تقدَّم أن الصحابي قال : يعني به صفة النساء ، وشبَّهَهُنَّ بالقوارير لسرعة تأثرهنَّ ، ولعدم تجلدهن ، فخاف عليهن من حث السير وسرعته سقوط بعضهن ، أو تألمهن بكثرة الحركة ، والاضطراب الذي يكون عن السرعة والاستعجال . وقيل : إنه خاف عليهن الفتنة ، وحسن الحدو وطيبه ، كما قد قال سليمان بن عبدالملك : يا بني أمية ! إياكم والغناء ، فإنَّه رُقْية الزنى ، فإنَّ كنتم ولا بدَّ فاعليه فجنبوه النساء .
ومن باب شدَّة حياء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحُسن خُلُقه
---
(8/223)
(( الحياء ))- ممدود - : انقباضن يجده الانسان من نفسه يحمله على الامتناع من ملابسة ما يعاب عليه ، ويُستقبح منه ، ونقيضه الصَّلَفُ : وهو التَّصَلُّفُ في الأمور ، وعدم المبالاة بما يستقبح ويعاب عليه منها ، وكلاهما جبلي ومكتسب ؛ غير أن الناس منقسمون في القدر الحاصل منهما ، فمن الناس من جبل على الكثير من الحياء ، ومنهم من جبل على القليل منه ، ومن الناس من جبل على الكثير من الصلف ، ومنهم من جبل على القليل منه ، ثم إن أهل الكثير من النوعين على مراتب ، وكذلك أهل القليل ، فقد يكثر أحد النوعين حتى يصير نقيضه كالمعدوم . ثم هذا الجبلِّي سبب في تحصيل المكتسب ، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد جبل من الحياء فى على الحظ الأوفر ، والنصيب الأكثر ، ولذلك قيل فيه : إنه كان أشد حياءً من العذراء في خدرها ، ثم إنه كان يأخذ نفسه بالحياء ويستعمله ، ويأمر به ، ويحضُّ عليه ، فيقول : (( الحياء من الإيمان )). و(( الحياء لا يأتي إلا بخير )). و(( الحياء خير كله ))(2). ويقول لأصحابه : (( استحيوا من الله حق الحياء )). وكان يُعرف الحياء في وجهه لما يظهر عليه من الخفر والخجل . وكان إذا أراد أن يَعتِب رجلاً معينًا أعرض عنه ، ويقول : (( ما بال رجال يفعلون كذا )) ؛ ومع هذا كله فكان لا يمنعه الحياء من حقٍّ يقوله ، أو أمر ديني يفعله ، تمسُّكًا بقول الحق : { والله لا يستحيي من الحق }. وهذا هو نهاية الحياء ، وكماله ، وحسنه ، واعتداله ، فإنَّ من يفرط عليه الحياء حتى يمنعه من الحق فقد ترك الحياء من الخالق ، واستحيا من الخلق ، ومن كان هكذا فقد حرم نافع الحياء ، واتصف بالنفاق والرياء ، والحياء من الله هو الأصل والأساس ، فإنَّ الله تعالى أحق أن يستحيا منه من الناس .
(8/224)
و (( العذراء )) : البكر التي لم تنتزع عذرتها . و(( الخدر )) : أصله الهودج ، وهو هنا : كناية عن بيتها الذي هي ملازمة له إلى أن تخرج منه إلى بيت زوجها .
---
و (( الفاحش )) : المجبول على الفحش ؛ وهو : الجفاء في الأقوال والأفعال . و(( المتفحش )) : هو المتعاطي لذلك ، والمستعمل له . وقد برأ الله تعالى نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن جميع ذلك ونزَّهه ، فإنَّه كان رحيمًا ، رفيقًا ، لطيفًا ، سهلاً ، متواضعًا ، طَلِقًا ، برًّا ، وصولاً ، محبوبًا ، لا تقتحمه عين ، ولا تمُّجه نفسٌ ، ولا يصدر عنه شيء يكره ؛ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشرَّف ، وكرَّم.
وقوله : (( إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا )) ؛ هو جمع أحسن على وزن أفعل التي للتفضيل ، وهي إن قرنت بـ (( من )) كانت للمذكر ، والمؤنث ، والاثنين ، والجمع ، بلفظ واحد . وإن لم تقترن بـ (( من )) وعرفتها بالألف واللام ذكرت ، وأنثت وثثيت ، وجمعت . وإذا أضيفت : ساغ فيها الأمران ؛ كما جاء هنا : (( أحاسنكم )) ، وكما قال تعالى : { أكابر مجرميها } ، وقد قال تعالى : { ولتجدنَّهم أحرص الناس على حياة}. وقد روي هذا الحديث : (( أحسنكم )) موحَّدًا . و(( الأخلاق )) : جمع خُلُق ، وهي عبارة عن أوصاف الإنسان التي بها يعامل غيره ، ويخالطه ، وهي منقسمة : إلى محمود ومذموم . فالمحمود منها : صفات الأنبياء ، والأولياء ، والفضلاء ، كالصبر عند المكاره ، والحلم عند الجفاء ، وتحمل الأذى ، والإحسان للنَّاس ، والتودُّد لهم ، والمسارعة في حوائجهم ، والرحمة ، والشفقة ، واللطف في المجادلة ، والسبت في الأمور ، ومجانبة المفاسد والشرور .
وعلى الجملة : فاعتدالها أن تكون مع غيرك على نفسك ، فتنصف منها ، ولا تنتصف لها ، فتعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك . والمذموم منها : نقيض ذلك كله .
(8/225)
وقد جاء هذا الحديث في غير كتاب مسلم بزيادة حسنة ، فقال : ((خياركم أحاسنكم أخلاقًا ، الموطَّؤون أكنافًا ، الذين يألفون ويؤلفون )). فهذه الخلق ، وهؤلاء المتخلقون .
---
وقد قدَّمنا في غير موضع : أن أصل الخلق جبلَّة في نوع الإنسان ، غير أن الناس في ذلك متفاوتون ، فمن الناس من يغلب عليه بعضها ويقف عن بعضها ، وهذا هو المأمور بالرِّياضة والمجاهدة حتى يقوى ضعيفها ، ويعتدل شاذُّها ، كما هو مفضل في كتب الرياضات.
وقد تقدَّم الكلام على كونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يجلس في مصلاَّه حتى تطلع الشمس .
ومن باب : بُعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإثم وقيامه لمحارم الله عز وجل
قول عائشة : (( ما خُيِّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا اختار أيسرهما )) ؛ تعني : أنه كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خيَّره أحد في شيئين يجوز له فعل كل واحد منهما ، أو عرضت عليه مصلحتان ؛ مال للأيسر منهما ، وترك الأثقل ؛ أخذًا بالسُّهولة لنفسه ، وتعليمًا لأمَّته . فإذا كان في أحد الشيئين إثم تركه ، وأخذ الآخر ، وإن كان الأثقل .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سقط إلى الأرض لما جعل إزاره على عنقه ؛ يدلّ : على أن من الله تعالى حفظه من صغره ، وتولى تأديبه بنفسه ، ولم يكله في شيء من ذلك لغيره ، ولم يزل الله يفعل ذلك به حتى كره له أحوال الجاهلية ، وحماه عنها ، حتى لم يجر عليه شيء منها . كل ذلك لطفٌ به ، وعطفٌ عليه ، وجمع للمحاسن لديه .
---
(8/226)
وقولها : (( ما انتقم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى )) ؛ يعني : أنه كان يصبر على جهل من جهل عليه ، ويحتمل جفاه ، ويصفح عمَّن أذاه في خاصة نفسه ، كصفحه عمَّن قال : يا محمد ! اعدل ، فإنَّ هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى ، وما عدلت منذ اليوم! وكصفحه عن الذي جبذ رداءه عليه حتى شقَّه ، وأثر في عنقه. فإنَّ قيل : فاذاه انتهاك حرمتن من حرم الله ، فكيف يترك الانتقام لله تعالى فيها ؟ وكيف وقد قال الله تعالى : { والذين يؤذون رسول الله لهم عذابٌ أليم } ؛ فالجواب : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترك الانتقام مِمَّن آذاه استئلافًا وتركًا لما ينفِّر عن الدخول في دينه ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لئلا يتحدث الناس أن محمَّدًا يقتل أصحابه )). وقد قال مالك : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعفو عمَّن شتمه ؛ مشيرًا إلى ما ذكرنا . وإذا تقرر هذا فمراد عائشة رضي الله عنها بقولها : إلا أن تنتهك حرمة الله : الحرمة التي لا ترجع لحق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ كحرمة الله ، وحرمة محارمه ، فإنَّه كان يقيم حدود الله على من انتهك شيئًا منها ، ولا يعفو عنها ، كما قال في حديث السَّارقة : (( لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها )) ، لكن ينبغي أن يفهم : أن صفحه عمَّن آذاه كان مخصوصًا به وبزمانه لما ذكرناه ، وأما بعد ذلك فلا يُعفى عنه بوجه .
(8/227)
قال القاضي عياض رحمه الله : أجمع العلماء على أن من سُبَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كفر . واختلفوا ؛ هل حكمه حكم المرتد يُستتاب ؟ أو حكم الزنديق لا يُستتاب ؟ وهل قتله للكفر أو للحدِّ ؟ فجمهورهم : على أن حكمه حكم الزنديق ، لا تقبل توبته . وهو مشهور مذهب مالك ، وقول الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . ورأوا : أن قتله للحدِّ ، ولا ترفعه التوبة ، لكن تنفعه عند الله تعالى ولا يسقط حد القتل عنه . وقال أبو حنيفة والثوري : هي كفر وردَّة ، وتقبل توبته إذا تاب . وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك .
---
واختلفوا في الذمِّي إذا سبَّه بغير الوجه الذي به كَفَر ؛ فعامَّة العلماء : على أنه يقتل لحق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وأبو حنيفة ، والثوري ، والكوفيون : لا يرون قتله . قالوا : ما هو عليه من الكفر أشد .
واختلف أهل المدينة وأصحاب مالك في قتله إذا سبه بالوجه الذي به كَفَرَ ؛ من تكذيبه ، وجَحْد نبوَّته ؟ والأصح الأشهر قتله . واختلفوا في إسلام الكافر بعد سبِّه ؟ هل يسقط ذلك القتل عنه أم لا ؟ والأشهر عندنا : سقوطه ؛ لأنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله . وحكى أبومحمد بن نصر في درء القتل عنه روايتين .
ويستفاد من حديث عائشة رضي الله عنها ترغيب الحكام ، وولاة الأمور في الصفح عمن جهل عليهم ، وجفاهم ، والصبر على أذاهم ، كما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل ، وأن الحاكم لا يحكم لنفسه . وقد أجمع العلماء : على أن القاضي لا يحكم فسه لنفسه ، ولا لمن لا تجوز شهادته له ؛ على ما حكاه عياض رحمه الله .
ومن باب طيب رائحة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،
وحسن شعره وشيبه ، وحسن خَلْقِه
(8/228)
قول جابر ـ رضى الله عنه ـ : (( صليت مع رسول الله في صلاة الأولى )) ؛ هذا من باب إضافة الاسم إلى صفته ، كما قالوا : مسجد الجامع . وقد تقدم القول فيه ، يعني بالصلاة الأولى : صلاة الظهر ؛ فإنَّها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ويحتمل أن يريد بها صلاة الصبح ؛ لأنَّها أول صلاة النهار .
وقوله : (( فوجدت ليده بردًا أو ريحًا )) ؛ هذه (( أو )) الأَوْلَى أن تكون بمعنى الواو لا للشك ؛ لأنَّها لو كانت شكًّا ، فإذًا قدرنا إسقاط (( أو ريحًا )) لم يستقم تشبيه برودة يده بإخراجها من جُونة عطار ؛ فإنَّ ذلك إنما هو تشبية للرائحة ، فإذا حملت (( أو )) على معنى الواو الجامعة استقام التشبيه للرائحة ، والإخبار عن وجدان برودة اليد التي تكون عن صحة العضو ، ويحتمل أن يريد بالبرودة برودة الطيب ، فإنَّهم يصفونه بالبرودة ، كما قال الشاعر :
وتَبْرُدُ بَرْدَ رِداءِ العَرُوسِ بالصَّيفِ رَقْرَقت فيه العَبِيرا
---
و (( الجونة )) : بضم الجيم ، وفتح النون : هي سفط يُحمل فيه العطار متاعه ، قاله الحربي ، وهو مهموز وقد يسفل ، وقال صاحب العين : هو سُليلةٌ مستديرة مُغشَّاة أُذمًا .
وقوله : (( ما شممت عنبرًا ، ولا مسكًا ، ولا شيئًا أطيب من ريح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ هذا يدلّ على أنه كان طيِّب الريح وإن لم يتطيب ، ثم إنه كان يستعمل الطيب ، ويعجبه رائحته ؛ لأنَّه كان يناجي الملائكة ؛ ولأنه مُستلذٌ لحس الشمِّ كالحلاوة لحسِّ الذوق ؛ ولأنه مقوٍّ للدماغ ، ومحرِّك لشهوة الجماع ؛ ولأنه مما يرضي الله تعالى إذا قصد به القربة ، والتهيؤ للصلاة .
وقوله : (( كان أزهر اللون )) ؛ يعني : أبيض اللون في صفاء ، كما قال في الرواية الأخرى : (( ليس بالأبيض الأمهق )) ؛ أي : المتألق البياض الذي صفته تشبه بياض الثلج ، والجصِّ .
(8/229)
وقوله : (( إذا مشى مشى تكفؤًا )) ؛ مهموزًا . قال شمر : أي : مال يمينًا وشمالاً . قال الأزهري : هذا خطأ ، وهذه صفة المختال . ولم تكن صفته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وإنما معناه : أنه يميل إلى سمته ، ويقصد في مشيته ؛ كما قال في الرواية الأخرى : (( كأنما ينحط من صبب )).
قلت : ويبيِّنه ما قد جاء في رواية ثالثةٍ : (( يمشي تقلعًا )).
وقولها : (( دخل عليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال عندنا )) ؛ أي : نام عندهم في القائلة ؛ وفيه دليلٌ على دخول الرجل على ذوات محارمه في القائلة ، وتبسُّطه معهنَّ ، ونومه على فراشهنَّ ، وكانت أمُّ سليم ذات محرم له من الرَّضاعة . قاله القاضي عياض .
وقولها : فجعلت أسلتُ العرق فيها )) ؛ أي : تجمعه في القارورة ، كما قد جاء في الرواية الأخرى .
وقولها : (( أدوف به طيبي )) بالدال المهملة ثلاثيًّا ؛ أي : أخلطه ، وهكذا صحيح الرواية فيه ، وهو المشهور عند أهل اللغة ، وحكي فيه : الذال المعجمة ، ثلاثيًّا ورباعيًّا ، وقد استوفيناه في كتاب الإيمان .
ومن باب في شعر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكيفيته
---
(8/230)
وقوله : (( كان أهل الكتاب يَسْدلون أشعارهم ، وكان المشركون يَفْرُقُون رؤوسهم )) ؛ قال القاضي : سدل الشعر : إرساله ، والمراد به هنا عند العلماء : إرساله على الجبين واتخاذه كالقَصَّة . يقال : سدل شعره وثوبه : إذا أرسله ، ولم يضم جوانبه . والفرق : تفريق الشعر بعضه عن بعض. والفرق : تفريقك بين كل شيئين . قال الحربي : والمفرق : موضع الفرق ، والفرق في الشعر سُنَّة ؛ لأنَّه الذي رجع إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والظاهر أنه بوحي ، لقول أنس : (( أنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء )) ؛ فسدل ، ثم فرق بَعْدُ ، فظاهره : أنه لأمر من الله تعالى ، حتى جعله بعضهم نسخًا ، وعلى هذا لا يجوز السَّدل ، ولا اتِّخاذ الناصية والْجُمَّة . وقد روي : أن عمر بن عبد العزيز ـ رضى الله عنه ـ كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسًا يجزون كل من لم يفرق شعره.
قلت : وفيما قاله القاضي رحمه الله وحكاه نظر . بل : الظاهر من مساق الحديث أن السَّدل إنما كان يفعله لأجل محبته استئلاف أهل الكتاب بموافقتهم ، لكنه كان يوافقهم فيما لم يشرع له فيه ، فلما استمروا على عنادهم ، ولم ينتفعوا بالموافقة ، أحبَّ مخالفتهم أيضًا فيما لم يشرع له ، فصارت مخالفتهم محبوبة له لا واجبة عليه كما كانت موافقتهم .
---
(8/231)
وقوله : (( فيما لم يؤمر)) ؛ يعني : فيما لم يطلب منه ، والطلب يشمل الواجب والمندوب كما قررناه في الأصول . وأما توهُّم النسخ في هذا ، فلا يلتفت إليه لإمكان الجمع ، كما قررناه ، وهذا بعد تسليم أن محبة موافقتهم ومخالفتهم حكم شرعي ، فإنَّه يحتمل أن يكون ذلك أمرًا مصلحيًّا ، هذا مع إنه لو كان السَّدل منسوخًا بوجوب الفرق لصار الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ إليه ، أو بعضهم ، وغاية ما روي عنهم : أنه كان منهم من فرق ، ومنهم من سدل ، فلم يعب السَّادل على الفارق ، ولا الفارق على السَّادل ، وقد صحَّ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان له لِمَّةٌ ، فإنَّ انفرقت فرقها ، وإلا تركها . وهذا يدلُّ على أن هذا كان غالب حاله ؛ لأنَّ ذلك ذكره مع جملة أوصافه الدائمة ، وحِليته التي كان موصوفًا معروفًا بها ، فالصحيح : أن الفرق مستحبٌّ لا واجب ، وهذا الذي اختاره مالك . وهو قول جل أهل المذاهب. والله تعالى أعلم .
---
(8/232)
وقوله : (( كان يحبُّ موافقة أهل الكتاب )) ؛ قد قلنا : إن ذلك كان في أوَّل الأمر عند قدومه على المدينة في الوقت الذي كان يستقبل قبلتهم ، وإن ذلك كله كانت حكمته التأنيس لأهل الكتاب حتى يصغوا إلى ما جاء به ، فيتبين لهم أنه الحق ، والاستئلاف لهم ليدخلوا في الدين ، فلما غلبت عليهم الشقوة ، ولم ينفع معهم ذلك نسخ الله تعالى استقبال قبلتهم بالتوتجه نحو الكعبة ، وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمخالفتهم في غير شيء ، كقوله : (( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم )). وذكر أبو عمر في "التمهيد" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اخضبوا وفرقوا ، خالفوا اليهود )). قال : إسناده حسن ، ورجاله كلهم ثقات ؛ وكقوله في الحائض : (( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )). حتى قالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه . فاستقر آخر أمره على مخالفتهم فيما لم يحكم عليه فيه بحكم ، فإذا ثبت هذا فلا حجَّة في قول عائشة رضي الله عنها : (( كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحب موافقة أهل الكتاب على أن شرعهم شرع له )) ، فتأمَّل ذلك . واختلاف هذه الأحاديث في كيفية شعر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو اختلاف أحوال ؛ إذ قد فعل ذلك كله ، فقد سدل ، وفرق ، وكان شعره لِمَّة ، ووفرة ، وجُمَّة .
وقد روى الترمذي من حديث أم هانئ رضي الله عنها قالت : قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة وله أربع غدائر . قال : هذا حديث حسن صحيح .
قلت : والغدائر : الضفائر . قال امرؤ القيس :
غدائره مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلا تَضِلُّ المدارى في مُثَنًّى ومُرْسَلِ
(8/233)
وقول البراء ـ رضى الله عنه ـ : (( ما رأيت من ذي لِمَّةٍ في حلة حمراء أحسن . من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )). قال شمر : الْجُمَّة أكثر من الوفرة ، والْجُمَّة إذا سقطت على المنكبين ، والوفرة إلى شحمة الأذن ، واللمة التي ألمت بالمنكبين ، وقد تقدم القول في الْجُمَّة .
---
وفيه دليل على جواز لباس الأحمر ، وقد أخطا من كره لباسه مطلقًا ، غير أنه قد يختص بلباسه في بعض الأوقات أهل الفسق والدعارة والمجون ، فحينئذ يكره لباسه ؛ لأنَّه إذ ذاك تشبه بهم ، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((من تشبَّه بقومٍ فهو منهم )) ، لكن ليس هذا مخصوصًا بالحمرة ، بل هو جار في كل الألوان والأحوال ، حتى لو اختص أهل الظلم والفسق بشيء مما أصله سُنَّة كالخاتم والخضاب والفرق لكان ينبغي لأهل الدين ألا يتشبهوا بهم ؛ مخافة الوقوع فيما كرهه الشرع من التشبه بأهل الفسق ، ولأنه قد يظن به من لا يعرفه أنه منهم ، فيعتقد ذلك فيه ، وينسبه إليهم ، فيظن به ظن السوء ، فيأثم الظان بذلك والمظنون بسبب المعونة عليه .
باب في حسن أوصاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وقوله : (( كان أحسن الناس وجهًا ، وأحسنه خَلْقًا )) ؛ الرواية بتوحيد ضمير أحسنه ، وبفت حالخاء وسكون اللام من خَلْقًا ، فأما توحيد الضمير ؛ فقال أبو حاتم : العرب تقول : فلان أجمل الناس وأحسنه ؛ يريدون : أحسنهم ، ولا يتكلمون به . قال : والنحويون يذهبون به إلى أنه أحسن مَن ثمَّة . وأما خَلْقًا : فأرادد به : حُسْن الجسم ؛ بدليل قوله بعده : (( ليس بالطويل الذاهب ، ولا بالقصير )). وأما في حديث أنس ، فروايته : بضم الخاء واللام ؛ لأنَّه يعني به حسن المعاشرة بدليل سياق ما بعده من الحديث .
(8/234)
وقوله : (( كان أبيض مليحًا مُقَصَّدًا )) ؛ أبيض : يعني في صفاء ، كما جاء أنه كان أزهر ، وكما قال : (( ليس بالأبيض الأمهق )). والملاحة : أصلها في العينين كما تقدَّم . والمقصَّد : القصد في جسمه وطوله ؛ يعني : أنه لم يكون ضئيل الجسم ، ولا ضخمه ، ولا طويلاً ذاهبًا ، ولا قصيرًا مترددًا ، كان وسطًا فيهما .
---
وقوله : (( كان شعره رَجِلاً )) ؛ أي : ليس بالجعد ، ولا بالسَّبط . الرواية في رَجِلاً ، بفتح الراء وكسر الجيم ، وهي المشهورة . وقال الأصمعي : يقال : شعر رَجِل : بفتح الراء وكسر الجيم ، ورَجَل : بفتح الجيم ، ورَجْل : بسكونها ، ثلاث لغات ؛ إذ كان بين السُّبوطة ، والجعُودة ، قال غيره : شعر مرجَّل ؛ أي : مسرح .فكأن شعره بأصل خِلْقته مُسَرَّحًا .
---
(8/235)
وقول أنس ـ رضى الله عنه ـ - وقد سئل عن خضاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لم ير هل اختضب من الشيب إلا قليلاً )). وفي الرواية الأخرى : (( لو شئت أن أَعُدَّ شمطاتٍ في رأسه فعلت )) ؛ ظاهره : أنه لم يكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ يختضب ، كما قد نصَّ عليه في بقية الحديث . وبهذا الظاهر أخذ مالك فقال : لم يختضب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإليه ذهب أبو عمر بن عبدالبر ، وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أنه خضب ، متمسِّكين في ذلك بما رواه أبو داود عن أبي رمثة ، قال : انطلقت مع أبي نحو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا هو ذو وفرة ، وبها ردعٌ من حنَّاء ، وعليه بُردان أخضران )). وروى أبو داود أيضًا عن زيد بن أسلم : أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتليء ثيابه من الصفرة . فقال : إني رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصبغ بها ، ولم يكن شيء أحبَّ إليه منها ، وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها حتى عمامته . ويعتضد هذا بأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتغيير الشيب ، كما قال : (( غيروا هذا الشيب واجتنبوا السواد )) ، وقال : (( غيروا الشيب ولا تشبَّهوا باليهود )). وما كان يأمر بشيء إلا كان أول آخذ به . ومما يعتضد به لذلك ما رواه البخاري عن عبدالله بن موهب ، قال : دخلت على أم سلمة ، فأخرجت لي شعرات من شعر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخضوبًا . زاد ابن أبي شيبة : بالحناء والكتم . والإسناد واحد . ومما يعتضد به هؤلاء خضاب الخليفتين رضي الله عنهما ، فلو علما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يختضب قط لما اختضبا ، فإنَّهما ما كانا باللذين يعدلان عن سنَّته ، ولا عن اتباعه ، وانفصل لهؤلاء من أحاديث أنس ، وما في معناها بأن الخضاب لم يكن منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ دائمًا ، ولا في كل حال ؛ وإنَّما كان في بعض الأوقات ، فلم يُلتفت لهذه الأوقات القليلة ، وأطلق القول ، وأولى من هذا أن
(8/236)
يقال : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما لم يكن شيبه كثيرًا ؛ وإنَّما كان في لحيته وصدغيه نحو العشرين شعرة بيضًا ، لم يكن الخضاب يظهر فيها غالبًا ، والله تعالى أعلم .
---
وقد اعتذر أصحاب القول الأول عن حديث أبي رمثة وابن عمر بأن ذلك لم يكن خضابًا بالحناء ؛ بل كان تغييرًا بالطيب ، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما : كان يصبغ بالصفرة ، ولم يقل : بالحناء ، وهذه الصفرة هي التي قال عنها أبو رمثة : ردع من حناء ؛ لأنَّه شبهها بها ، وأما حديث أم سلمة فيحتمل أن يكون ذلك فعل بشعر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعده بطيب أو غيره احترامًا وإكرامًا . والله أعلم .
والشَّمَطات : جمع شمطة ، رنجي بها : الشعرات البيض المخالطة للشعر الأسود . قال الأصمعي : إذا رأى الرجل البياض ؛ فهو أَشْمَط . وقد شَمِطَ . والكَتَم -بالتحريك - : نبت يخلط بالوسمة ؛ يختضب به . قاله في الصحاح . والبحت - بالموحدة والحاء المهملة - : هو الخالص من الشيء ، المنفرد عن غيره . وقال أبو حنيفة اللغوي : الوسمة : الحظر ، والعِظْلِم ، والثبلج ، والتَّنومة ، وكله يصبغ به . والحناء ممدودة. قال أبوعلي : جمع حناءة. والكتم -مخفف التاء- : هو المعروف . وأبو عبيد يقولها بالتشديد . ونُبَذ : الرواية فيه بفتح النون وسكون الباء ؛ أي : شيء قليل متبدد . وبعض النَّاس يقوله : نبذ - بضم النون وفتح الباء - : جمع نُبْذة ، كغرفة وغرف ، وظلمة وظلم . وهذا لا يستقيم هنا ؛ لأنَّه كان يلزم منه أن يكون سببه نبذًا مجتمعة في أنفسها ، متفرقة في مواضع عديدة ، ويلزم عليه أن يكون سببه كثيرًا ، فيكون هذا مخالفا لما قاله أنس في الأحاديث الأخر .
(8/237)
وكراهته ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَتْف الشيب إنَّما كان لأنه وقارٌ ، كما قد روى مالك : (( أن أوَّل من رأى الشيب إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال : يا رب ! ما هذا ؟ فقال : وقار . قال : يا رب زدني وقارًا )) ، أو لأنه نورٌ يوم القيامة ، كما روى أبو داود من حديث عمرو بن شعيبب عن أبيه ، عن جدِّه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تنتفوا الشيب ! ما من مسلم يشيب شيبة في الاسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة )). وفي أخرى : (( إلا كتب الله له حسنة ، وحط عنه خطيئة )).
---
وقول أنس ـ رضى الله عنه ـ : (( ما شانه الله بِبَيضاء )) ؛ أي : لم يكن شيبه كثيرًا كان بيِّنًا حتى تزول عنه بهجة الشباب ، ورونقه ، ويلحق بالشيوخ ؛ الذين يكون الشيبُ لهم عيبًا ، فإنَّه يدلّ على ضعفهم ، ومفارقة قوة الشباب ونشاطه . ويحتمل أن يريد : أن ما ظهر عليه من الشيب اليسير زاده ذلك في عين الناظر إليه أبهة ، وتوقيرًا ، وتعظيمًا .
و (( الشَّيْن )) : العيب . و(( أبري النِّبل )) : أنحته ، و(( أَرِيشُه )) : أجعل فيها الريش ؛ ويعني : أنَّه قد كان كبر ، وقوي ، وعرف . وهذا حال المراهق .
وقوله : (( قد شَمِطَ مُقَدَّمُ رأسه ولحيته )) ؛ أي : خالط الشيب ذينك الموضعين . ومقدم اللحية : يعني به : العنفقة ، كما قال أبو جحيفة : رأيت هذه منه بيضاء . يعني : عنفقته . و(( مقدمه )) يعني به : الصِّدغين ، كما قال أنس : إنما كان البياض في عنفقته وصدغيه . وهذا يدلّ : على أن قول أنس في الرواية الأخرى : إنه كان في لحية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورأسه عشرون شعرة بيضاء ، إنَّما كان ذلك منه تقديرًا على جهة التقريب والتقليل لا التحقيق .
(8/238)
وقوله : (( وكان إذا ادَّهن لم تتبيَّن ، وإذا شعث تبيَّن )) ؛ يعني : أنه كان إذا تطيَّب بطيب يكون فيه دهن فيه صفرة خفي شيبه ؛ وهذه هي الصفرة التي رأى عليه ابن عمر ، وأبو رمثة . والله أعلم .
وشعث الرأس : انتفاش الشعر لعدم تسريحه ، وأراد به هنا : إذا لم يتطيَّب .
وقوله : (( كان وجهه مثل السيف )) ؛ يحتمل هذا التشبيه وجهين :
أحدهما : أن السيوف كانت عندهم مستحسنة محبوبة يتجمَّلون بها ، ولا يفارقونها ، فشبه وجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به ؛ لأنَّه مستحسن محبوب يُتجمل به حين المجالسة ، ولا يُستغنى عنه .
وثانيهما : أنه كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أزهر ، صافي البياض ، يبرق وجهه ، وقد روي : أنه كان يتلألأ وجهه في الجدر ؛ فشبَّه وجهه بالسيف في صفاء بياضه وبريقه . والله تعالى أعلم .
---
وقوله : (( لا ! بل : مثل الشمس والقمر )) ؛ هذا نفيٌ لتشبيه وجهه بالسيف ، لما في السيف من الطول ، فقد يحتمل أن وجهه كان طويلاً ؛ وإنَّما كان مستديرًا في تمام خَلْق ، ولأنه تقصير في التشببه ، فأضرب عن ذلك ، وذكر من التشبيه ما هو أوقع ، وأبلغ ؛ فقال : بل مثل الشمس والقمر )) ؛ وهذا التشبيه : هو الغاية في الحسن ؛ إذ ليس فيما نشاهده من هذه الوجوه أحسن ، ولا أرفع ، ولا أنفع منهما ، وهما اللذان جرت عادة الشعراء والبلغاء بأن يشبهوا بهما ما يستحسنونه .
وقوله : (( وكان كثير شعر اللحية )) ؛ لا يفهم من هذا أنه كان طويلها ، فإنَّه قد صحَّ أنه كان كثَّ اللحية ؛ أي : كثير شعرها غير طويلة ، وكان يخلل لحيته .
(8/239)
وقوله : (( ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة )) ؛ الألف واللام في الخاتم لتعريف العهد ؛ أي : خاتم النبوة الذي من علاماته المعروفة له في الكتب السابقة ، وفي صدور علماء الملل السالفة ، ولذلك لما حصل عند سلمان الفارسي ـ رضى الله عنه ـ العلم بصفاته ، وأحواله ، وعلاماته وموضع مبعثه ، ودار هجرته ؛ جدَّ في الطلب حتى ظفر بما طلب ، ولما لقيه جعل يتأمل ظهره ، فعلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه يريد أن يقف على ما يعرفه من خاتم النبوة ، فنزع رداءه من على ظهره ، فلما رأى سلمان الخاتم أكبَّ عليه يقبله ، وهو يقول : أشهد أنك رسول الله .
---
(8/240)
وروى الترمذي عن أبي موسى الأشعري ـ رضى الله عنه ـ : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام ، ونزلوا بصومعة راهب كان هنالك ، وقد سُمِّي في غير هذا الخبر (( بحيرًا )) ، فخرج إليهم ذلك الراهب ، وكان قبل لا يخرج إليهم ، ولا يلتفت إليهم ، فلما خرج جعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، يبعثه الله رحمة للعالمين . فقال له أشياخ من قريش : ما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ، ولا شجر إلا خرَّ ساجدًا له ، ولا يسجدان إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروفه مثل التفاحة ... ، وذكر الحديث بطوله ، وقال في آخره : حديث حسن غريب . وعلى هذا ؛ فخاتم النبوة معناه : علامةُ نبوَّةِ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وقد اختلفت ألفاظ النقلة في صفة ذلك الخاتم ، فروى جابر بن سمرة ، وأبو موسى ما ذكرناه آنفًا ، وروى السائب بن يزيد : أنه مثل زرِّ الحجلة . وروى عبدالله بن سرجس : أنه رأى جُمْعًا عليه خِيلان مثل : الثآليل . وروى الترمذي عن جابر بن سمرة ، قال : كان خاتم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ - يعني : الذي بين كتفيه - غدَّة حمراء مثل بيضة الحمامة ، وقال : حسن صحيح .
قلت : وهذه الكلمات كلها متقاربة المعنى مفيدة : أن خاتم النبوة كان نتوءًا قاتمًا أحمر تحت كتفه الأيسر قدره إذا قُلِّل : بيضة الحمامة ، وإذا كُثِّر : جمع اليد ، وقد جاء في البخاري : كان بضعة ناشزة ؛ أي : مرتفعة .
(8/241)
وقوله : (( زرِّ الحجلة )) الرواية المعروفة فيه : (( زر )) بتقديم الزاي . قال أبو الفرج الجوزي : الحجلة : بيت كالقبة يستر بالثياب ، ويجعل له باب من جنسه ، فيه زرّ وعروة ، تشدُّ إذا أغلق . وقال القاضي أبو الفضل : الزرُّ : الذي يعقد به النساء عرى أحجالهن كأزرار القميص . والحجلة هنا : واحدة الحِجال ، وهي ستور ذات سُجوف . وقال غيرهما : الحجلة : هي الطائر المعروف ، وزرَّها : بيضتها ؛ كما قال جابر : بيضة الحمامة .
---
قلت : والأول : أشهر في الزر ، والثاني : أشبه بالمعنى ، وقد أبعد الخطابي فرواه : رز الحجلة بتقديم الراء ، أراد : بيضة الحجلة . يقال : أرزت الجرادة ؛ أي : أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض .
قلت : وهذا لا يلتفت إليه ؛ لأنَّ العرب لا تسهى البيضة رزة ، ولا تؤخذ اللغة قياسًا . قال القاضي أبو الفضل : وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه.
قلت : هذه غفلة من هذا الإمام ، فإنَّ الشق إنما كان في صدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أثره إنما كان خطًّا واضحًا من صدره إلى مراق بطنه ، كما هو منصوص عليه في الأحاديت السالفة في كناب الإيمان من كتاب مسلم ، وفي البحاري وغيرهما ، ولم يثبث قط في رواية صحيحة ، ولا حسنة ، ولا غريبة أنه بلغ بالشق حتى نفذ من وراء ظهره ، ولو قدرنا أن ذلك الشق ، كان نافذًا إلى ظهره ، وأن ذلك أثره ؛ للزم عليه أن يكون مستطيلاً من بين كتفيه إلى قطنته ؛ لأنَّه الذي يحاذي الصدر من مسربته إلى مراق بطنه ، فهذه غفلة منه رحمه الله تعالى . ولعل هذا غلط وقع من بعض الناسخين لكتابه ، فإنَّه لم يُسمع عليه فيما علمت .
وناغر الكتف : هو ما رق منه ولان ، سُمِّي بذلك لنغوضه ؛ أي : حركته ، يقال : نغض رأسه ؛ أي : حركه . ونغضت القناة : هززتها . ومنه قوله تعالى : { فسينغضون إليك رؤسهم } ؛ أي : يحركونها استهزاء . ويُسمَّى الناغض : الغضروف ، وكذا جاء في رواية أخرى .
(8/242)
وقوله : (( جُمْعًا عليه خيلان )) ؛ هو منصوب على الحال ؛ أي : نظرت إلى خاتم النبوة مثل الجمع . قال ابن قتيبة : هو جُمع الكف . يقال : ضربه بِجُمع كفه ؛ إذا جمعها فضربه بها . وهو بالضم ، ويقال بكسرها . والخِيلان : جمع خال ، وهي نقط سودٌ كانت على الخاتم ، شبهها لسعتها بالثآليل ؛ لا أنها كانت ثآليل ، وهي جمع ثؤلول : وهي(2) حبيبات تعلو الجلد .
---
وقوله : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضليع الفم )) ؛ فسَّره سماك في الأصل : بأنه عظيم الفم ، وهو بمعنى واسع الفم كما قاله ثعلب . والعرب تتمدَّح بسعة الفم ، وتكره صغره .
قلت : وكأنهم يتخيَّلون أن سعة الفم يكون عنها : سعة الكلام ، والفصاحة ، وأن ضيق الفم يكون عنه قلَّة الكلام والهنة ، وقد وُصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه كان يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ؛ أي لسعة شدقيه ، وعدم تصنعه ، ومن هذا المعنى سُمي الرجل أشدق .
وقوله : (( أشكل العينين )) ؛ قال أبو عبيد : الشُّهلة : حمرة في سواد العين ، والشُّكلة : حمرة في بياضها ، وهو محمودٌ . قال الشاعر :
ولا عَيْبَ فِيها غَيْرَ شُكْلَة عَيْنِها كذاك عِتاقُ الْخَيْلِ شُكْلٌ عُيُونها
قال صاحب "الأفعال" : شَكِلَت العين - بكسر الكاف - ، شُكْلَة ، وشُكْلاً : إذا خالط بياضها حمرة .
قلت : ونحو هذا في الصحاح ، وزاد : عين شَكْلاء : بينة الشَّكَل . ورجل أشكل ، ودمٌ أشكل : إذا كان فيه بياض وحمرة ، وهذا هو المعروف عند أهل اللغة ، فأمَّا ما فسَّره به سماك من أنه طويل شق العين ، فغير معروف عندهم ، ولم أقف على من قاله غيره .
وقوله : (( منهوس العقبين )) ؛ يروى بالسين المهملة والمعجمة . قال ابن الأعرابي : يقال رجل منهوس القدمين ، ومنهوش القدمين ؛ أي : قليل لحمهما ؛ كما قال سماك ، وهو مأخوذ من النهس والنهش . قال أبو العباس : النهس أخذٌ بأطراف الأسنان ، والنهش بالأضراس .
(8/243)
وقوله : (( ليس بالطويل البائن )) ؛ أي : الذي يباين الناس بزيادة طوله ، وهو طوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي عبَّر عنه في الرواية الأخرى : (( بالمشذب )) ، وفي الأخرى : (( بالممغط )) بالعين والغين ؛ أي : المتناهي في الطول ، وهو عند العرب : العَشَنَّقُ ، والعَشَنَّط .
---
وقوله : (( ولا بالقصير المتردِّد )) ؛ أي : الذي تداخل بعضه في بعض ، وهو المسمَّى عند العرب : بحنبل ، وأقصر منه : الحنتل . وكلا الطرفين مستقبح عند العرب ، وخر الأمور أوساطها . وكذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع أحواله .
وقوله : (( ليس بالأبيض الأمهق )) ؛ أي : الشديد البياض ؛ الذي لا يخالط بياضه لون بشرته حمرة ، ولا غيرها . والعرب تكرهه ؛ لأنَّه يشبه البرص.
وقوله : (( ليس بالآدم )) ؛ أي : الذي تغلب سمرته السواد ، فإنَّ السُّمرة بياضٌ يميل إلى سواد ، والسَّحْمُة - بالسين- فوقه ، ثم الصَّحْمة فوقه - بالصاد - ، وهو غالب لون الحبش ، ثم الأدمة فوقه ، وهو غالب ألوان العرب . والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان بياضه مشربًا بحمرة في صفاء ، فصدق عليه أنه أزهر . وأنه مشرب ، وهذا اللون : هو أعدل الألوان وأحسنها .
وقوله : (( ولا بالجعد القطط )) ؛ يروى بفتح الطاء وكسرها ، وهو الشديد الجعودة الذي لا يطول إلا باليد ، وهو حال شعور السودان .
وقوله : (( ولا بالسَّبط )) ؛ يعني المسترسل الذي لا تكسر فيه ، وهو غالب شعور الروم ، والرَّجِلُ هو الوسط بين ذينك .
وقول أنس : (( بعثه الله على رأس أربعين سنة )) ؛ يعني : من مولده ؛ أي عند كمالها بعثه الله رسولاً. وهذا هو أكثر الأقوال ، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه بعث على رأس ثلاث وأربعين سنة ؛ وهو قول سعيد بن المسيب .
(8/244)
وقوله : (( فأقام بمكة عشرًا )) ؛ يعني : بعد البعث وقبل الهجرة . وهذا مما اختلف فيه . فقيل : عشر ، وقيل : ثلاث عشرة ، وقيل : خمس عشرة ، ولم يُختلف أنه أقام بالمدينة عشرًا .
---
وقوله : (( وتوفَّاه الله تعالى على رأس ستين سنة )) ؛ هذا أحد قولي أنس ، وفي الرواية الأخرى عنه : (( ثلاث وستين )). ووافقه على ذلك : عبدالله بن عباس ومعاوية(8) وعائشة ، وهو أصحُّ الأقوال ، وأصحُّ الروايات على ما ذكره البخاري. وقد ذكر عن أنس : خمس وستين سنة ، وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس ، ولا خلاف أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولد عام الفيل .
وقوله : (( وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء )) ؛ قد قلنا إن هذا منه تقدير على جهة التقليل ، وذكرنا : أن شيبه كان أكثر من هذا .
وقول عمرو في الأصل لعروة : (( كم كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة ؟ قال : عشرًا )) ؛ كذا وقع لبعض الرواة ؛ معناه : كم مدَّة كونه وإقامته بها ؛ أي : بعد المبعث ، وقد روي : لبثَ ، بمعناه.
وقوله : (( فإنَّ ابن عباس يقول : بضع عشرة )) ؛ قد تقدَّم أن الأشهر في البضع أنه من الثلاث إلى التسع ، فيصلح البضع هنا لقول ابن عباس الثلاث عشرة والخمس عشرة ، فأنكر عروة ذلك .
وقوله : (( فغَفَّرَ )) من المغفرة ، وهي رواية الجلودي ؛ أي : قال غفر الله له . وفي رواية ابن ماهان : فصغَّره من الصغر ؛ أي : أشار إلى أن ابن عباس كان صغيرًا في ذلك الوقت ، فلم يضبطه لصغره ، وقيل : إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين ، وهذا هو المناسب لقول عروة .
وقوله : (( إنما أخذه من قول الشاعر )) ؛ يعني به : قول أبي قيس بن صَرْمَة :
ثَوَى في قريش بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّة يُذَكِّر لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُواتِيًا
(8/245)
وقول ابن عباس رضي الله عنهما : (( خمس عشرة سنة ، يأمن ، ويخاف )) ؛ يعني : أنه كان في تلك الحال غير مستقل لإظهار أمره ، فكان إذا أخفى أمره تركوه ، فأمن على نفسه ، وإذا أعلن أمره وأفشاه ، بأن يدعوهم إلى الله ، ويفتح عليهم ، تكالبوا عليه ، وهمُّوا بقتله ، فيخاف على نفسه إلى أن أخبره الله تعالى بعصمته منهم ، فلم يكن يبالي بهم كما قدمناه .
---
وقوله : (( يسمع الصوت ، ويرى الضوء سبع سنين )) ؛ أي : أصوات الملائكة والجمادات والحجارة ، فيسلمون عليه بالرسالة ، كما خرَّجه الترمذي عن علي بن ثا أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ قال : كنت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة ، فخرجنا في بعض نواحيها ، فما استقبله جبل ، ولا شجر ، إلا وهو يقول : السلام عليك يا رسول الله . قال : هذا حديث حسن غريب . ويعني بالضوء : نور الملائكة ، ويحتمل أن يكون أنوارًا تنوِّر بين يديه في أوقات الظلمة ، يحجب عنها غيره . ولذلك نقل : أنه كان يبصر بالليل كما يبصر بالنهار ، ويعني : أن هذه الحالة ثبتت عليه سبع سنين ، ثم بعد ذلك أوحى الله إليه ؛ أي : جاءه الوحي ، وشافهه بالخطاب ثماني سنين ، وعلى هذا : فكمل له بمكة خمس عشرة سنة .
وقول معارية : (( مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ابن ثلاث وستين سنة ، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما هما معطوفان على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحظ ، ويحتمل أن يرفعا با لابتداء ، وخبرهما محذوف ؛ أي : وهما كذلك .
(8/246)
وقوله : (( وابن ثلاث وستين )) ؛ الواو للحال ، فيحتمل أن يريد أنه كان وقت توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن ثلاث وستين ، ويحتمل أن يكون كذلك وقت حدث بهذا الحديث ، والحاصل : أنه وصل إلى ثلاث وستين سنة ، وقد قيل في هذا : إن معارية استشعر أنه يوافقهم في السن فيموت وهو ابن ثلاث وستين سنة(2) ، وليس بصحيح عند أحد من علماء التاريخ ، فإنَّ أقل ما قيل في عمره يوم توفي : أنه كان ثمانيًا وسبعين سنة ، وأكثر ما قيل فيه : ست وثمانون ، وقيل : اثنان وثمانون سنة ، وكانت وفاته بدمشق ، وبها دفن سنة ستين في النصف من رجبها . قال ابن إسحاق : كان معاوية أميرًا عشرين سنة ، وكان خليفة عشرين سنة ، وقال غيره : كانث خلافته تسع عشرة سنة وستة أشهر وثمانية وعشرين يومًا .
ومن باب عدد أسماء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
---
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنا محمد ، وأنا أحمد )) ؛ كلاهما مأخوذ من الحمد ، وقد تكلَّمنا على الحمد في أول الكتاب . فمحمَّد : مفعل من حَمَّدت الرجل مشددًا : إذا نسبت الحمد إليه ، كما يقال : شجَّعت الرجل ، وبحَّلته : إذا نسبت ذلك إليه ، فهو بمعنى المحمود . والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحق الخلق بهذا الاسم ، فإنَّ الله تعالى قد حمده بما لم يحمد به أحدًا من الخلق ، وأعطاه من المحامد ما لم يعط مثله أحدًا من الخلق ، ويلهمه يوم القيامة من محامده تعالى ما لا يلهمه أحدًا من الخلق ، وقد حمده أهل السموات والأرض والدنيا والآخرة ، حمدًا لم يحمد به أحدٌ من الخلق ، فهو أحمد المحمودِين ، وأحمد الحامدِين .
وقوله : (( وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر )) ؛ أي : من الأرض التي زويت له ، وأري أن منك أمته سيبلغه ، أو يعني بذلك : أنه محي به معظم الكفر وغالبه بظهور دينه على كل الأديان بالحجج الواضحة ، والغلبة العامة الفادحة ، كما قد صرَّح به الحق بقوله : { ليظهرعلى الدِّين كله }.
(8/247)
وقوله : (( وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي )) ؛ الحاشر : اسم فاعل من حشر ؛ أي : جمع . فيعني به : أنه الذي يحشر الخلق يوم القيامة على أثره ؛ أي : ليس بينه وبين القيامة نبي آخر ، ولا أمة أخرى ، وهذا كما قال : (( بعثت أنا والساعة كهاتين )) ؛ وقرن بين أصبعيه : السبابة والوسطى.
وقوله في الرواية الأخرى : (( على قدمي )) ؛ قيل فيه : على سابقتي ، كما قال تعالى : { أن لهم قدم صدق عند ربهم } ؛ أي : سابقة خير وإكرام . وقيل : على سُنَّتي . وقيل : بعدي ؛ أي : يتبعوني إلى يوم القيامة . وهذا أشبهها ؛ لأنَّه يكون معناه معنى عقبي ؛ لأنَّه وقع موقعه في تلك الرواية ، ووجه توسعه فيه : كأنه قال : يحشر الناس على أثر قدمي ؛ أي : بعدي . والله أعلم .
---
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وأنا العاقب )) ، وفي الرواية الأخرى : (( المقفي )) ، ومعناهما واحد ، وهو أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ آخر الأنبياء ، وخاتمهم ، وأكرم أعقابهم ، وأفضل من قفَّاهم. وقفاهم ؛ أي : كان بعدهم ، واتبع آثارهم . قال ابن الأنباري : المقفي : المتَّبع للنبيين قبله ، يقال : قَفَوتُه ، أَقْفُوه ، وقَفَيتُه : إذا تبعته ، ومثله : قُفْتُه ، أقُوفُه ، ومنه قوله تعالى : { ثم قفيناعلى آثرهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم } ، {ولا تقف ماليس لك به علم}. وقافية كل شيء : آخره .
(8/248)
وقوله : (( ونبي التوبة )) ؛ أي : الذي تكثر التوجة في أمته ، وتعتم حتى لا يوجد فيما ملكته أمته إلا تائب من الكفر ، فيقرب معناه على هذا من (( الماحي )) ؛ إلا أن ذلك يشهد بمحو ما ظهر من الكفر ، وهذا يشهد بصحَّة ما يخفى من توبة أمته منه ، ويحتمل أن يكون معناه : أن أمته لما كانت أكثر الأمم كانت توبتهم أكثر من توبة غيرهم ، ويحتمل أن تكون توبة أمته أبلغ حتى يكون التائب منهم كمن لم يذنب ، ولا يؤاخذ لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، ويكون غيرهم يؤاخذ في الدنيا ، وإن لم يؤاخذ في الآخرة ، والله أعلم . والذي أحرج إلى هذه الأرجه : اختصاص نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا الاسم مع أن كل نبي جاء بتوبة أمته ، فيصدق أنه نبي التوبة ، فلا بدَّ من إبداء مزيِّة لنبينا يختصُّ بهاكما بيَّنا .
---
وقوله : (( ونبي الرحمة )) ، وفي أخرى : (( المرحمة )) ، وفي أخرى : ((الملحمة )) ؛ فأمَّا الرحمة ، والمرحمة فكلاهما بمعنى واحد ، وقد تقدَّم أن الرحمة إفاضة النعم على المحتاجين ، والشفقة عليهم ، واللطف بهم ، وقد أعطى الله نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمته منها ما لم يُعْطِه أحدًا من العالمين ، ويكفي من ذلك قوله تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ، فهو أعظم كل رحمة ، وأمته القابلة لما جاء به قد حصلت على أعظم حظ من هذه الرحمة ، وشفاعته يوم القيامة لأهل الموقف أعمُّ كل رحمة ، ولأهل الكبائر أجل كل نعمة ، وخاتمة ذلك شفاعته في ترفيع منازل أهل الجنة.
---
(8/249)
وأما رواية من روى : (( نبي الملحمة )) : فهذا صحيح في نعته ، ومعلوم في الكتب القديمة من وصفه ، فإنَّه قد جاء فيها : أنه نبي الملاحم ، وأنه يجيء بالسيف والانتقام ممن خالفه من جميع الأنام ، فمنها ما جاء في صحف حبقوق ، قال : (( جاء الله من التين ، وتقدس من فاران ، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد وتقديسه ، وملأ الأرض من هيبته . وفيها أيضًا : تضيء الأرض بنورك ، وستنزع في قوسك إغراقًا ، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء )). ويعني بالتين الجبال التي تنبته ، وهي جبال بيت المقدس ، ومجيء الله تعالى منها عبارة عن إظهار كلامه الذي هو الإنجيل على لسان عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وفاران : مكة ، كما قال تعالى في التوراة : (( إن الله أنزل هاجر وابنها إسماعيل فاران )) ، يعني : مكة بلا خلاف بينهم . وفي التوراة قال : (( قد جاء الله من سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلى من فاران )) ؛ فمجينه تعالى من سيناء : كناية عن ظهور موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها ، وإشراقه من ساعير(2) : وهي جبال الروم من أدوم : كناية عن ظهور عيسى عليه السلام . واستعلاؤه من فاران : كناية عن القهر الذي يقهر به نبيِّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكفر كته بالقتل والقتال. وقال في التوراة : (( يا موسى ! إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبيًا مثلك ، أجعل كلامي على فيه ، فس عصاه انتقمت منه ، وإخوة بني إسرائيل العرب ؛ فإنَّهم ولد إسماعيل عليه السلام ، وهم المعنيون هنا. وقوله : (( أجعل كلامي على فيه )) ؛ يعني به : القرآن ، والانتقام ممن عصاه : هو القتل والقتال الذي جاء به ، ومثل هذا كثير . وقد ذكرنا منه مواضع كثيرة جاءت في كتب أنبياء بني إسرائيل في كتاب "الأعلام".
---
(8/250)
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يا معشر قريش ! لقد جئتكم بالذبح )). وقال : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي ، وبما جئت به )) ، فهو نبي الملحمة التي بسببها عمَّت الرحمة وثبتت المرحمة. وقد تتبَّع القاضي أبو الفضل ما جاء في كتاب الله تعالى ، وفي سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومما نقل في الكتب القديمة . وإطلاق الأمَّة أسماء كثيرة ، وصفات عديدة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صدقت عليه مسمَّياتها ، ووجدت فيه معانيها ، وعرَّف بها في كتاب "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى". وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام" من أسماء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبعة وستين اسمًا ، من أرادها وجدها هنالك.
(8/251)
وقوله : (( وقد سَمَّاه الله رؤوفًا رحيمًا )) ؛ ليس هذا من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل من قول غيره ، وهو الصحابي ، والله تعالى أعلم ، ألا تراه كيف أخبر عنه بخطاب الغيبة ، ولو كان من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقال : وقد سماني الله : رؤوفًا رحيمًا . هذا الظاهر ، ويحتمل أن يكون ذلك من قوله . وقد يخرج المتكلم من الحضور إلى الغيبة كما قال تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة}. وفي هذا إشارة إلى قوله تعالى : { بالمؤمنين رؤوف رحيم }. والرؤوف : الكثير الرأفة . والرحيم : الكثير الرحمة ؛ فإنَّها للمبالغة . وقد جاء في الصحيح : (( لي خمسة أسماء )) ؛ فحصرها بالعدد ، وذكر الأسماء المتقدِّمة . وقد يقال : ما وجه تخصيص هذه الأسماء الخمسة بالذكر مع أن أسماءه أكثر من ذلك ؛ ويجاب عنه : بأن هذه الخمسة الأسماء هي الموجودة في الكتب المتقدِّمة ، وأعرف عند الأمم السالفة ، ويحتمل أن يقال : إنه في الوقت الذي أخبر بهذه الأسماء الخمسة لم يكن أوحي إليه في غيرها بشيء ، فإنَّ أسماءه إنَّما تلفاها من الوحي ، ولا يسمَّى إلا بما سَمَّاه الله به ، وهذا أسدُّ الجوابين إن شاء الله تعالى .
ومن باب كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلم الناس بالله وأشدهم له خشية
---
(8/252)
إنما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلم الناس بالله ؛ لما خصَّه الله تعالى به في أصل الخلقة من كمال الفطنة ، وجودة القريحة ، وسداد النظر ، وسرعة الإدراك ، ولما رفع الله تعالى عنه من موانع الإدراك ، وقواطع النظر قبل تمامه ، ومن اجتمعت له هذه الأمور سهل عليه الوصول إلى العلوم النظرية ، وصارت في حقه كالضرورية ، ثم إن الله تعالى قد أطلعه من علم صفاته وأحكامه ، وأحوال العالم كله على ما لم يطَّلع عليه غيره ، وهذا كل معلوم من حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعقل الصريح ، والنقل الصحيح ، وإذا كان في علمه بالله تعالى أعلم الناس لزم أن يكون أخشى الناس لله تعالى ؛ لأنَّ الخشية منبعثة عن العلم ، وبحسبه ، كما قال تعالى : { إنما يخش الله من عباده العلماء }. وقد أشار بعض المتصوفة إلى أن علوم الأنبياء ضرورية ، وسماها : كشفًا ، وهذا كلام فيه إجمالٌ ، ريحتاج إلى استفصال ، فيقال لقائله : إن أردت بكونها ضرورية أنها حاصلة في أصل فطرتهم ، وأنهم جبلوا عليها ، بحيث لم يستعملوا في شيء منها أفكارهم ، ولا حدقوا نحوها بصائرهم ، ولا أنظارهم ، فهو قول باطل ؛ لما يعلم قطعًا أنهم مكتفون بمعرفة الله ، ومعرفة صفاته وأحكامه ، ومأمورون بها ، والضروري لا يكتف به ؛ لأنَّه حاصل ، والحاصل لا يطلب ، ولا يبتغى ، ولأن الإنسان لا يتمكن من ترك ما جبل عليه ، ولا من فعله ، وما كان كذلك لم يقع في الشريعة التكليف به بالنص والإجماع . وإنما الخلاف في جوازه عقلاً ، وإن أراد به أن تلك العلوم تصير في حقهم ضرورية بعد تحصيلها بالطرق النظرية ، والقيام بالوظائف التكليفية ، فتتوالى عليهم تلك العلوم ، فلا يتأتى لهم التشكك فيها ، ولا الانفكاك عنها ، فنقول : ذلك صحيح في حق الأنبياء قطعًا ، وخصوصًا في حق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما هو المعلوم من حاله وحالهم صلى الله عليه وعليهم أجمعين ، وأما غيرهم فيجوز أن يكرم الله تعالى بعض
(8/253)
أوليائه بشيء من نوع ذلك ، لكن على وجه الندور والقلة ، وليس مُطردًا في كل
---
الأولياء ، ومن فُتِح له في شيء من ذلك ففي بعض الأوقات وبعض المعلومات ، ويكون ذلك خرقًا للعادات ، فإنَّ سنه الله تعالى في العلوم النظرية : أنها لا تتوالى ، ولا تدوم ، ويمكن أن يُشكِّكَ فيما كان منها معلومًا ، هذه سنة الله الجارية ، وحكمته الماضية ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولا تحويلاً .
وقول عائشة رضي الله عنها : (( صنع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرًا فترخص فيه )) ؛ أي : فعل أمرًا ترك فيه التشديد لأنه رخص له فيه ، كما قال في طريق آخر : (( ما بال رجال يرغبون عما رُخِّص لي فيه )) ، ولعل هذا من عائشة رضي الله عنها إشارة لحديث النَّفر الذين استقلوا عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال أحدهم : أما أنا فأصلي ولا أنام ، وقال الآخر : وأنا(2) أصوم ولا أفطر ، وقال الآخر : وأنا لا أنكح النساء ، فلما بلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ، قال : (( وأما أنا فأصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأنكح النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني )). وقد تقدَّم في النكاح.
وقوله : (( ما بال رجال بلغهم عني أني ترخصت في أمر فكرهوه ، وتنزهوا عنه )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عدول عن مواجهة هؤلاء القوم بالعتاب ، وكانوا معينين عنده ، لكنه فعل ذلك لغلبة الحياء عليه ، ولتلطُّفه في التأديب ، ولسَتْر المعاتب . وتنزه هؤلاء عما ترخص به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غلط أوقعهم فيه ظن أن المغفور له يسامح في بعض الأمور ، وتسقط عنه بعض التكاليف ، والأمر بالعكس لوجهين :
أحدهما : أن المغفور له يتعيَّن عليه وظيفة الشكر ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((أفلا أكون عبدًا شكورًا )).
(8/254)
وثانيهما : أن الأعلم بالله وباحكامه : هو الأخشى له ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إني لأعلمكم بالله تعالى ، وأشدكم له خشية )) ، وقال في موضع آخر : (( وأعلمكم بما أتقى )).
ويُستفاد من هذا الحديث النهي عن التنطع في الدين ، وعن الأخذ بالتشديد في جميع الأمور ، فإنَّ دين الله يسر ، وهو : الحنيفية السَّمحة ، وإنَّ الله يحب أن تؤتى رخصه ، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
---
وحاصل الأمر : أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فما شدَّد فيه التزمناه على شدَّته ، وفعلناه على مشقته ، وما ترخص فيه أخذنا برخصته ، وشكرنا الله تعالى على تخفيفه ونعمته ، ومن رغب عن هذا ، فليس على سُنَّته ، ولا على منهاج شريعته .
وفيه حجَّة على القول بمشروعية الاقتداء به في جميع أفعاله ، كما نقوله في جميع أقواله ، إلا ما دلَّ دليل على : أنه من خصوصياته ، وقد أوضحنا هذا في الأصول .
ومن باب وجوب الإذعان لحكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قوله : (( إن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرَّة )) ؛ قيل : إن هذا الرَّجل كان من الأنصار نسبًا ، ولم يكن منهم نصرة ودينًا ، بل كان منافقًا ؛ لما صدر عنه من تهمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجوَّر في الأحكام لأجل قرابته ، ولأنه لم يرض بحكمه ، ولأن الله تعالى قد أنزل فيه : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } الآية . هذا هو الظاهر من حاله ، ويحتمل : أنه لم يكن منافقًا ، لكن أصدرَ ذلك منه بادرةُ نفس ، وزلَّةُ شيطان ، كما قد اتَّفق لحاطب بن أبي بلتعة ، ولحسَّان ، ومسطح ، وحَمْنَة في قضية الإفك ، وغيرهم مِمَّن بدرت منهم بوادر شيطانية ، وأهواء نفسانية ، لكن لطف بهم حتى رجعوا عن الزَّلة ، وصحَّت لهم التوبة ، ولم يؤاخذوا بالحوبة .
(8/255)
و (( الشِّراج )) بالشين والجيم المعجمتين ؛ جمع شَرِجَة ، وهي مسيل الماء إلى النخل والشجر . وإضافتها إلى الحرَّة لكونها فيها .
---
والمخاصمة إنما كانت في السَّقي بالماء الذي يسيل فيها ، وكان الزبير يتقدم من شربه على شرب الأنصاري ، فكان الزبير يمسك الماء لحاجته ، فطلب الأنصاري أن يسرحه له قبل استيفاء حاجته ، فلما ترافعا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهما مسلك الصُّلح ، فقال له : (( اسق يا زبير ! ثمَّ أرسل الماء إلى جارك )) ؛ أي : تساهل في سقيك ، وعجل في إرسال الماء إلى جارك ، يحضه على المسامحة والتيسير . فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك ، وغضب لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلاً ، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة ، فقال : (( آن كان ابن عمتك ؟ )) بمدِّ همزة (( أن )) المفتوحة ؛ لأنَّه استفهام على جهة الإنكار ؛ أي : أتحكم له علي لأجل أنَّه قرابتك ؟! وعند ذلك تلوَّن وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غضبًا عليه وتألُّمًا من كلمته . ثمَّ أنَّه بعد ذلك حكم للزبير باستيفاء حقه ، فقال : (( اسق يا زبير ، ثم أمسك الماء حتى يرجع إلى الجدر )). وفي غير هذه الرواية : (( فاستوعى للزبير حقَّه )).
و (( الْجَدْر )) بفتح الجيم وسكون الدال هي روايتي ، ويجمع : جُدورًا. وهو الأصل ؛ ويعني به : حتى يصل الماء إلى أصول النَّخل والشجر ، وتأخذ منه حقها . وفي بعض طرقه : (( حتى يبلغ الماء إلى الكعبين )) ؛ فيعني به- والله تعالى أعلم- : حتى يجتمع الماء في الشَّرِبات ؛ وهي الحفر التي تحفر في أصول النخل والشجر إلى أن تصل من الواقف فيها إلى الكعبين .
(8/256)
وقد روي (( الِجْدْر )) بكسر الجيم ، وهو الجدار ، ويجمع على ((جدر )) ؛ ويعني به : جدران الشَّربات ، فإنَّها تُرفع حتى تكون تشبه الجدار . فإنَّ قيل : كيف كان حكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للزبير على الأنصاري في حال غضبه وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يقضي القاضي وهو غضبان ))؟
---
فالجواب : أنا قدَّمنا أن هذا النهي معلَّل بما يخاف على القاضي من ط التشويش المؤذي به إلى الغلط في الحكم ، والخطأ فيه ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام ، بدليل العقل الدَّالِّ على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى وفي أحكامه ، ولذلك قالوا : أنكتب عنك في الرضا والغضب ؟ قال : (( نعم )). فدلَّ ذلك : على أن المراد بالحديث : من يجوز عليه الخطأ من القضاة ، فلم يدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك العموم .
وقوله : (( والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} ، هذا أحدُ ما قيل في سبب نزول هذه الآية . وقيل : نزلت في رجلين تحاكما إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحكم على أحدهما فقال له : ارفعني إلى عمر بن الخطاب ، وقيل : إلى أبي بكر ، وقيل : حكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليهودي على منافق ، فلم يرض المنافق ، وأتيا عمر بن الخطاب فأخبراه ، فقال : أمهلاني حتى أدخل بيتي ، فدخل بيته فأخرج السيف ، فقتل المنافق ، وجاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : إنه ردَّ حكمك ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فرَّقت بين الحق والباطل )). وقال مجاهد نحوه ؛ غير أنه قال : إن المنافق طلب أن يردَّ إلى حكم الكاهن ، ولم يذكر قضية قتل عمر بن الخطاب المنافق ، وقال الطبري : لا ينكر أن تكون الآية نزلت في الجميع ، والله تعالى أعلم.
(8/257)
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه ؛ فمنها : الاكتفاء من الخصوم بما يفهم عنه مقصودهم ، وألا يكلَّفوا النص على الدعاوي ، ولا تحديد المدعى فيه ، ولا حصره بجميع صفاته ، كما قد تنطَّع في ذلك قضاة الشافعية .
ومنها : إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم ، فإنَّ اصطلحوا ، وإلا استوفي لذي الحق حقه ، وبتَّ الحكم .
ومنها : أن الأولى بالماء الجاري : الأول فالأول حتى يستوفي حاجته. وهذا ما لم يكن أصله ملكًا للأسفل مختصًا به ، فليس للأعلى أن يشرب منه شيئًا ؛ وإن كان يمرُّ عليه .
---
ومنها : الصَّفح عن جفاء الخصوم ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع ، والاستهانة بالأحكام ، فإنَّ كان ذلك فالأدب ، وهذا الذي صدر من خصم الزبير أذى للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يقتله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قدَّمناه من عظيم حلمه وصفحه ، ولئلا يكون قتله منفرًا لغيره عن الدخول في دين الإسلام ، فلو صدر اليوم مثل هذا من أحد في حق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقتل قتلة زنديق ، وقد أشبعنا القول في ذلك .
ومنها : أن القَدْر الذي يستحق الأعلى من الماء : كفايته ، وغاية ذلك : أن يبلغ الماء إلى الكعبين ، فقيل : في الشَّرَبَة ، كما قلنا ، وقيل : في أرض الحائط ، وفيه بُعد .
(8/258)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه )) ؛ أي : لا تقدموا على فعل شيء من المنهي عنه ، وإن قلَّ ؛ لأنَّه تحصل بذلك المخالفة ؛ لأنَّ النهي : طلب الانكفاف الا المطلق ، والأمر المطلق على النقيض من ذلك ؛ لأنَّه يحصل الامتثال بفعل أقل ما ينطلق عليه الاسم المأمور به على أي وجه فعل ، وفي أي زمان فعل ، ويكفيك من ذلك مثال بقرة بني إسرائيل ؛ فإنَّهم لما أمروا بذبح بقرة ، فلو بادروا وذبحوا بقرة- أي بقرة كانت - لحصل لهم الامتثال ، لكنهم كثَّروا الأسولة فكثرت أجوبتهم ، فقل الموصوف ، فعظم الامتحان عليهم ، فهلكوا ، فحذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته عن أن يقعوا في مثل ما وقعوا فيه ، فلذلك قال : (( إنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذي ساله عن تكرار الحج بقوله : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال : (( لو قلت نعم لوجبت ، ولما استطعتم ، ذروني ما تركتكم )) ، وذكر نحو ما تقدَّم ، فالواجب على هذا الأصل أن على السامع لنهي الشارع الانكفاف مطلقًا ، وإذا سمع الأمر : أن يفعل منه ما يصدق عليه ذلك الأمر ، ولا يتنطَّع ؛ فيكثر من السؤال ، فيحصل على الإصر والأغلال ، وقد استوفينا هذا المعنى في الأصول .
ومن باب ترك الإكثار من مساءلة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ توقيرًا له واحترامًا
---
قوله : (( سألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أحفوه في المسألة )) ؛ أي : حتى ألحوا عليه . يقال : أحفى في المسألة ، وألَحَّ بمعنى واحد . وقد أشبعنا القول فيه فيما تقدَّم في حديث أبي موسى ـ رضى الله عنه ـ .
(8/259)
وقوله : (( فلما أُكْثِرَ عليه غضب )) ؛ يحتمل أن يكون غضب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من إكثارهم عليه من المسائل ؛ فإنَّ ذلك : يُقلِّل حرمة العالم ، ويُجرئ على الإقدام عليه ، فتذهب أبهة العالم ، ووقاره ، فإنَّه إذا كثرت المسائل : كثرت الأجوبة ، فحصل جميع ما ذكرناه من المفاسد. ويحتمل أن يكون غضبُه بسبب أنه تحقَّق أنَّه كان هنالك من يسأل تعنيتًا وتبكيتًا ، قصدًا للتعجيز والتنقيص ، كما كان يفعل المنافقون ، واليهود ، ويدلُّ على هذا قوله : (( سلوني ، سلوني ، فوالله لا تسألوفي عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا )) ؛ فإنَّ هذا يصلح أن يكون جوابًا لمن قصد التعجيز والتبكيت حتى يبطل زعمه ، ويظهر خرقه وذمه ، ويحتمل أن يكون من تلك المسائل ما يكره ، كما قال في حديث أبي موسى : سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أشياء كرهها ، وكما دلَّ عليه قوله تعالى : { لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } ، ويحتمل أن يكون غضبه لمجموع تلك الأمور كلها ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( فأرمَّ القوم )) ؛ أي : سكتوا ، وأصله من المرمَّة ، وهي : الشَّفة ، فكأنهم أطبقوا مرمَّاتهم فلم يحركوها بلفظة .
وقوله : (( ورهبوا أن يكون من أمرٍ قد حضر )) ؛ أي : خافوا أن تقع بهم عقوبة عند غضبه .
---
(8/260)
وقوله : (( فجعلت ألتفت يمينًا وشمالاً ، فإذا كل إنسان لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي )) ؛ هذه حالة العارفين بالله تعالى ، الخائفين من سطوته وعقوبته ، لا كما تفعله جُهَّال العوام ، والمبتدعة الطَّغام من الزعيق والزفير ، ومن النهيق الذي يشبه نهاق الحمير . فيقال لمن تعاطى ذلك ، وزعم أن ذلك وجد وخشوع : إنك لم تبلغ حالك أن تساوي حال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى ، والخوف منه ، والتعظيم لجلاله ، ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله تعالى ، والبكاء خوفًا من الله ، والوقار حياءً من الله ، وكذلك وصف الله تعالى تعالى أحوال أهل المعرفة فقال : { إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون } ، فصدَّر الله تعالى الكلام في هذه الآية بـ (( إنما )) الحاصرة لما بعدها ، المحققة له ، فكأنه قال : المؤمنون على التحقيق هم الذين تكون أحوالهم هكذا عند سماع ذكر الله ، وتلاوة كتابه ، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ، ولا على طريقتهم ، وكذلك قال الله تعالى في الآية الأخرى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } ، فهذا وصف حالهم ، وحكاية مقالهم ، فمن كان مُستنًّا فليستن ، ومن تعاطى أحوال المجانين والمجون ، فهو من أخسَّهم حالاً ، والجنون فنون . فإن قيل : فقد صحَّ عن جماعة من السلف أنهم صرخوا عند سماع القرآن ، والمواعظ ، فقد روي عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ أنه سمع قارئًا يقرأ : { إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع } ، فصاح صيحة خرَّ مغشيًا عليه ، فحمل إلى أهله ، فلم يزل مريضًا شهرًا. وروي أن زرارة بن أوفى قرأ : { فإذا نقر في الناقور} ، فصعق ومات في محرابه. وقرأ صالح المرِّي على أبي جهين فمات ، وسمع الشافعي قارئًا يقرأ : { هذا
(8/261)
يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون } ، فغشي عليه .
---
وسمع علي بن الفضل قارئًا يقرأ : { يوم يقوم الناس لربِّ العالمين } ، فسقط مغشيًّا عليه .
فالجواب : أين الدرُّ من الصدف ، والمسك من الجيف ؟ هيهات قياس الملائكة بالحدَّادين ، والمحقِّقين بالممخرقين. فإنَّ كنت - يا من لُبِّس عليه- تدَّعي أنك على نعتهم فمت كموتهم ، فتنبَّه لبهرجتك ؛ فإنَّ الناقد بصير ، والمحاسب خبير . ثم يقال لمن صرخ في حال خطبة الجمعة : إن كنت قد ذهب عقلك حال صعقتك ، فقد خسرت في صفقتك ؛ إذ قد سلب عقلك ، وذهب فهمك ، ولحقت بغير المكلفين ، وصرت كالصبيان ، والمجانين ، وحُرِمت سماع الموعظة ، وشهود الخطبة . وقد قال مشايخ الصوفية : مهما كان الوارد مانعًا من القيام بفرض ، ومانعًا من الخير فهو من الشيطان . ثم يلزم من ذهب عقله أن ينتقض وضوؤه ، فإنَّ صلى بعد تلك الغشية الجمعة ولم يتوضأ ، كان كمن لم يشهد الخطبة ، ولا صلى ، فأي صفقة أخسر ممن هذه صفقته ، وأي مصيبة أعظم ممن هذه مصيبته ؛ إن كان وقت صراخه في عقله نقد تكلم في حال الخطبة ، وشوش على الحاضرين سماعها ، وأظهر بدعة في مجتمع الناس ، وعرضهم لأن يجب عليهم تغييرها ، فإنَّ لم يفعلوا عصوا ، فقد عصى الله من جهات متعددة ، وحمل الناس على المعصية ، إلى ما ينضاف إلى ذلك من رياء كامنٍ في القلب ، وفِسق ظاهر على الجوارح . فنسأل الله تعالى الوقاية من الخذلان ، وكفاية أحوال الجهَّال والمجَّان .
---
(8/262)
وقوله : (( ثم أنشأ رجل من المسجد كان يُلاحَى فَيُدْعَى لغير أبيه )) ؛ أنشأ : أخذ في الكلام ، وشرع فيه ، ويُلاحَى : يُعيَّرُ ويُذَُّم ، بأن يُنْسَبَ إلى غير أبيه ، ويُنفى عن أبيه - وسببُ هذا ما كانت أنكحة الجاهلية عليه ؛ فإنَّها كانت على ضروب كما ذكرناه في النكاح ، وكان منها : أن المرأة يطؤها جماعة ؛ فإذا حملت ، فولدت دُعي لها كل من أصابها ، فتُلحق الولد بمن شاءت ، فيَلحق به . فربما يكون الولد من خسيس القدر ، فلتحقه بكبير القدر ، فإذا نفي عمن له مقدار ، وألحق بمن لا مقدار له لحقه من ذلك نقص وعار . فكانوا يسألون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تحقيق ذلك لينسب لأبيه الحقيقي الذي ولد من نطفته ، وتزول عنه تلك المعرَّة . فسأل هذان الرجلان النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك ، فقال لأحدهما : (( أبوك حذافة )) ، وقال للآخر : (( أبوك سالم )) ؛ فتحقَّق نسبهما ، وزالت معرَّتهما .
وقول عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( رضينا بالله ربًّا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحد رسولاً )) ؛ كلام يقتضي إفراد الحق بما يجب له تعالى من الربوبية ، ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرسالة اليقينية ، والتسليم لأمرهما ، وحكمهما بالكلية ، والاعتراف لدين الإسلام بأنه أفضل الأديان . وإنما صدَّر عمر ـ رضى الله عنه ـ كلامه بنون الجمع ؛ لأنه متكلِّم عن نفسه ، وعن كل من حضر هنالك من المسلمين.
---
(8/263)
وقوله : (( عائذٌ بالله من الفتن )) ؛ كذا صحَّت الرواية (( عائذٌ )) بالرفع ؛ أي أنا عائذ ؛ أي : مستجير . والفتن : جمع فتنة ، وقد تقدَّم : أن أصلها الاختبار ، و(( أنا )) تنصرف على أمور متعددة ، ويعني بها هنا : المحن ، والمشقات ، والعذاب ولذلك قال : (( من سوء الفتن )) ؛ أي : من سيئها ومكروهها . ولما قال ذلك عمر وضم إلى ذلك قوله : (( إنا نتوب إلى الله عز وجل )) ؛ كما جاء في الرواية الأخرى ؛ سكن غضب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ثم أخذ يُحدِّثهم بما أطلعه الله عليه من أمور الآخرة ، فقال : ((لم أر كاليوم قطّ في الخير والشر )) ؛ هذا الكلام محمول على الحقيقة لا التوسع والمجاز فإنَّه : لا خير مثل خير الجنَّة ، ولا شرَّ مثل شرِّ النار . وقط : هي الظرفية الزمانية ، ورويناها مفتوحة القاف ، مضمومة الطاء مشدَّدة ، وهي إحدى لغاتها ، وتقال بالتخفيف ، وتقال : بضم القاف على إتباع حركتها لحركة الطاء ، وذلك مع التشديد والتخفيف ، فأمَّا (( قط )) بمعنى حسب فبتخفيف الطاء وسكونها ، وقد تزاد عليها نون بعدها . فيقال : قطني ، وقد تحذف النون فيقال : قطي ، وقد تحذف الياء ، فيقال : قط ، بكسر الطاء ، وقد تبدل من الطاء دال مهملة ، فيقال : قد ، ويقال على تلك الأوجه كلها ، كله من الصحاح.
---
(8/264)
وقوله : (( في صوِّرت لي الجنة والنار فرأيتهما دون هذا الحائط )) ، وفي البخاري : (( لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط )) ، وفي البخاري في هذا الحديث : (( لقد رأيت الآن - منذ صليت لكم الصلاة - الجنة والنار ممثلتين في قبلة هذا الجدار )) ؛ ظاهر هذه الروايات -وإن اختلفت ألفاظها - : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى مثال الجنة والنار في الجدار الذي استقبله مصوَّرتين فيه ، وهذا لا إحالة فيه ، كما تتمثل المرئيات في الأجسام الصقيلة . يبقى أن يقال : فالحائط ليس بصقيل . ويجاب : بأن اشتراط الصقالة في ذلك : ليس بشرط عقلي ، بل : عادي ، وذلك محل خرق العادة ووقتها ، فيجوز أن يمثلها الله تعالى فيما ليس بصقيل ، هذا على مقتضى ظاهر هذا الحديث ، وأما على مقتضى ظاهر أحاديث الكسوف فيكون رآهما حقيقة ، ومد يده ليأخذ قطفًا من الجنة ، ورأى النار وتأخر مخافة أن يصيبه لفحها ، ورأى فيها فلانًا وفلانة . وبمجموع الحديثين تحصل أن الله تعالى أطلع نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الجنة والنار مرتين :
أحداهما : في صلاة الكسوف إطلاع رؤية كما فصلناه في الكسوف .
وثانيهما : هذه الإطلاعة ، وكانت في صلاة الظهر ، كما قد جاء في بعض طرق حديث أنس : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج إليهم بعدما زاغت الشمس ، فصلَّى بهم الطهر ، ثم قام فخطب ، وذكر نحو ما تقدَّم . وقد نصَّ عليه البخاري كما نقلته عنه آنفا .
وعُرْض الشيء - بالضم- : جانبه ، وصفحه. والعَرْض -بالفتح- : خلاف الطول .
---
(8/265)
وقوله : (( أولى )) هي كلمة تهديد ووعيد ، وإذا كررت كان التهديد أعظم ، كما قال تعالى : { أولى لك فأولى } ، وهذا المقام الذي قامه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مقامًا هائلاً مخوفًا ، ولذلك قال أنس في بعض الطرق الواقعة في "الأم" : بلغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أصحابه شيء ، فخطب فقال : "عرضت علي الجنة والنار ، فلم أر كاليوم في الخير والشر ، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيرًا )). قال : فما أتى على أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أشدُّ منه . قال : غطوا رؤوسهم ، ولهم خنين ، والرواية المشهورة بالخاء المعجمة ، وقد رواه العذري بالحاء المهملة ، فالمعجمة : معناها البكاء مع تردُّد الصوت ، ونال أبو زيد : الخنين : ضرب من الحنين ، وهوالشديد من البكاء.
---
(8/266)
وقوله في هذه الرواية : ((إنه بلغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أصحابه شيء )) ؛ أي : عن بعض أصحابه ، وذلك أنه بلغه -والله تعالى أعلم - : أن بعض من دخل في أصحابه ، ولم يتحقق إيمانه : همَّ أن يمتحن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأسولة ، ويكثر عليه منها ليعجزه ، وهذا كان دأب المنافقين وغيرهم من المعادين له ولدين الإسلام ؛ فإنَّهم كانوا : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم بنوره ولو كره الكافرون } ، ولذلك لما فهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك قال لهم في هذا المجلس : (( سلوني ، سلوني ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به )) ؛ فكل من سأله في ذلك المقام عن شيء أخبره به - أحبَّه أو كرهه - ، ولذلك أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم} ، فأدَّبهم الله تعالى بترك السؤال عما ليس بِمُهم ، وخصوصًا عما تقدَّم من أحوال الجاهلية التي قد عفا الله عنها ، وغفرها ، ولما سمعت الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ هذا كله انتهت عن سؤال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا في أمر لا يجدون منه بدًّا ، ولذلك قال أنس - فيما تقدم - : نهينا أن نسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن أعظم المسلمين جُرْمًا في المسلمين أن من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرِّم عليهم من أجل مسألته )) ؛ قال أبو الفرج الجوزي : هذا محمولٌ على أن من سأل عن الشيء عنتًا وعبثًا ، فعوقب لسوء قصده بتحريم ما سأل عنه ، والتحريم يعم .
(8/267)
قلت : والجرم والجريمة : الذنب . وهذا صريحٌ في أن السؤال الذي يكون على هذا الوجه ، وبحصل للمسلمين عنه هذا الحرج : هو من أعظم الذنوب ، والله تعالى أعلم.
ومن باب عصمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخطأ فيما يبلغه عن الله تعالى
---
(8/268)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
معنى هذه الترجمة معلوم من حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطعًا بدليل المعجزة ، وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قال للناس : أنا رسول الله إليكم ، أبلغكم ما أرسلني به إليكم من الأحكام والأخبار عن الدار الآخرة وغيرها ، وأنا صادق في كل ما أخبركم به عنه ، ويشهد لي على ذلك ما أيَّدني به من المعجزات. ثم وقعت المعجزات مقرونة بتحدِّيه ، علمنا على القطع والبتات استحالة الخطأ والغلط عليه فيما يبلغه عن الله ، إما لأن المعجزة تنزلت منزلة قول الله تعالى لنا : صدق ، أو لأنها تدل على أن الله تعالى أراد تصديقه فيما قاله عنه ، دلالة على قرائن الأحوال ، وعلى الوجهين فيحصل العلم الضروري بصدقه ، بحيث لا يجوز عليه شيء من الخطأ في كل ما يبلغه عن الله تعالى بقوله : (( وأما أمور الدنيا التي لا تعلق لها بالدِّين فهو فيها واحد من البشر ، كما قال : (( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون )) ، وكما قال : (( أنتم أعلم بأمر دنياكم ، وأنا أعلم بدينكم )). وقد تقدم القول في الإبار .
ويلقِّحون مضارع ألقحَ الفحلُ الناقة ، والريحُ السحابَ ، و: رياحٌ لواقحُ ، ولا يقال : ملاقح ، وهو من النوادر ، وقد قيل : الأصل فيه : منقحة ، ولكنها لا تنقح إلا وهي في نفسها لاقح ، ويقال : لقحت الناقة - بالكسر - لقحًا ولَقَاحًا بالفتح ، فهي لاقح ، واللقاحُ أيضًا -بالفتح - ما تُلْقَحُ به النخل .
---
(9/1)
وقوله : (( ما أظن ذلك يغني شيئًا )) ؛ يعني به الإبار ، إنما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا ؛ لأنه لم يكن عنده علم باستمرار هذه العادة ، فإنَّه لم يكن ممن عانى الزراعة ، ولا الفلاحة ، ولا باشر شيئًا من ذلك ، فخفيت عليه تلك الحالة ، وتمسك بالقاعدة الكلية المعلومة التي هي : أنه ليس في الوجود ولا في الإمكان فاعل ، ولا خالق ، ولا مؤثر إلا الله تعالى ، فإذا نسب شيء إلى غيره نسبة التأثير فتلك النسبة مجازية عرفيَّة لا حقيقيَّة ، فصدق قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما أظن ذلك يغني شيئًا )) ؛ لأن الذي يغني في الأشياء عن الأشياء بالحقيقة هو الله تعالى ، غير أن الله تعالى قد أجرى عادته بأن ستر تأثير قدرته في بعض الأشياء بأسباب معتادة ، فجعلها مقارنة لها ، ومغطاة به ليؤمن من سبقت له السعادة بالغيب ، وليضل من سبقت له الشقاوة بالجهل ، والرَّيب : { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة }.
وقوله : (( إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن )) ، وقوله في الأخرى : (( إنما أنا لبشر )) ؛ هذا كله منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتذار لمن ضعف عقله مخافة أن يزله الشيطان فيكذب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيكفر ، وإلا فما جرى شيء يحتاج فيه إلى عذر ، غاية ما جرى : مصلحة دنيوية ، خاصَّة بقوم مخصوصين لم يعرفها من لم يباشرها ، ولا كان من أهلها المباشرين لعملها ، وأوضح ما في هذه الألفاط المعتذر بها في هذه القصة قوله : (( أنتم أعلم بأمر دنياكم )) ، وكأنه قال : وأنا أعلم بأمر دينكم .
وقوله : (( إذا حدثتكم عن الله فخذوا به )) ؛ أمر جزم بوجوب الأخذ عنه في كل أحواله : من الغضب والرضا ، والمرض والصحة .
---
(9/2)
وقوله : (( فلن أكذب على الله )) ؛ أي : لا يقع منه فيما يبلغه عن الله كذب ، ولا غلط ؛ لا سهوًا ولاعمدًا ، وقد قلنا : إن صدقه في ذلك هو مدلول المعجزة ، وأما الكذب العمد المحض فلم يقع قط منه في خبر من الأخبار ، ولا جرب عليه شيء من ذلك منذ أنشأه الله تعالى ، وإلى أن توفاه الله تعالى ، وقد كان في صغره معروفًا بالصدق والأمانة ، ومجانبة أهل الكذب ، والخيانة ، حتى إنه كان يسمى بالصادق الأمين ، يشهد له بذلك كل من عرفه وان كان من أعدائه ، وقد خالفه .
وقوله : (( إذا أمرتكم بشيء من رأيي )) ؛ يعني به في مصالح الدنيا كما دل عليه بساط هذه القصة ، ونصُّه على ذلك ، ولم يتناول هذا اللفظ ما يحكم فيه باجتهاده إذا تنزلنا على ذلك ؛ لأنَّ ذلك أمر ديني تجب عصمته فيه ، كما إذا بلغه نصًّا ؛ إذ كل ذلك تبليغ شرعه ، وبيان حكم دينه ، وإن اختلفت مآخذ الأحكام ، كما قد أوضحناه في الأصول .
وقوله : (( فإنما أنا بشر )) ؛ أي : واحد منهم في البشرية ، ومساوٍ لهم فيما ليس من الأمور الدينية ، وهذه إشارة إلى قوله تعالى : { قل إنما أنا بشرمثلكم يوحى إلي } ، فقد ساوى البشر في البشرية ، وامتاز عنهم بالخصوصية الإلهية التي هي : تبليغ الأمور الدينية .
وقوله : (( فنفضت أو نقصت )) ؛ ظاهره أنه شك من بعض الرواة في أي اللفظين قال : ويحتمل أن يكون (( أو )) بمعنى الواو ؛ أي : نفضت ثمرها ونقصت في حملها ، وقد دلَّ على هذا قوله في الرواية الأخرى : ((فخرج شيصًا )) ، وهو البلح الذي لا ينعقد نواه ، ولا يكون فيه حلاوة إذا أبسر ، ويسقط أكثره فيصير حشفًا .
ومن باب كيف كان يأتيه الوحي
قد تقدَّم الكلام على الوحي لغة .
(9/3)
وقوله : (( كيف يأتيك الوحي ؟ )) سؤال عن كيفية تلقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوحي عن الملَك ، والمراد بالوحي هنا : ما يُلقى للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من القرآن والأحكام ، فأجاب ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن ذلك يأتيه على حالتين :
---
إحداهما : أن يسمع صوتًا شديدًا متتابعًا يشبه صلصلة الجرس ، وهو الناقوس ، أو شبهه ، وهو الذي تعلقه العرب في أعناق الإبل لصوته ، وقال بعض العلماء : وعلى هذا النحو تتلقى الملائكة الوحي عن الله تعالى ، كما جاء في الحديث الصحيح : (( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة الأرض بأجنحتها خَضعانًا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان .
قلت : والذي عندي في هذا الحديث : أن هذا تشبية لأصوات خفق أجنحة ، الملائكة ، فيعني : أنها متتابعة متلاحقة ، لا أن الله تعالى يتكلم بصوت ، فإنَّ كلامه تعالى ليس بحرف ، ولا صوت ، كما هو مبرهن عليه في موضعه ، فإنَّ أراد هذا القائل : أن كلام الله تعالى القائم به صوت يُسمع بحاسة الأذن ، فهو غلط فاحش ، وما هذا اعتقاد أهل الحق ، وإن أراد : أن الملائكة تسمع كلام ملك آخر يبلغهم عن الله بصوتٍ فصحيحٌ ، كما تقرر ذلك في حق جبريل ، فيما كان يبلغه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( وهو أشدُّه عليَّ )) ؛ إنما كان أشد عليه لسماعه صوت الملك الذي هو غير معتاد ، وربما كان شاهد الملك على صورته التي خلق عليها ، كما أخبر بذلك عن نفسه في غير هذا الموضع ، وكان يشتد عليه أيضًا ؛ لأنَّه كان يريد أن يحفظه ويفهمه مع كونه صوتًا متتابعًا مزعجًا ، ولذلك كان يتغيَّر لونه ، ويتفصَّد عرقه ، ويعتريه مثل حال المحموم ، ولولا أن الله تعالى قوَّاه على ذلك ، ومئهنه منه بقدرته لما استطاع شيئًا من ذلك ، ولهلك عند مشافهة الملك ؛ إذ ليس في قوى البشر المعتادة تحتل ذلك بوجه .
---
(9/4)
والحالة الثانية : وهي أن يتمثل له الملَك في صورة رجل ، فيكلمه بكلامه المعتاد ، فلا يجد لذلك شيئًا من المشقات ، والشدائد ، وهذا كما اتَّفق له معه حيث تمثل له في صورة الأعرابي ، فسأله عن الإيمان ، والإسلام ، والإحسان ، وكما كان يأتيه في صورة دحية بن خليفة ، وكانت صورته حسنة ، والحاصل من هذا الحديث ، ومن قوله تعالى : {فتمثل لها بشرًا سويًّا } ، ومن غير ذلك من الكتاب والسنه : أن الله تعالى قد مكَّن الملائكة ، والجن من التمثيل في الصور المختلفة ، والتمثيل بها ؛ مع أن للنوعين في أنفسهما خلقًا خاصة بهما ، خلقهما الله تعالى عليها ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لم أر جبريل على صورته التي خلق عليها غير مرتين )). والبحث عن كيفية ذلك التمثيل بحث ليس وراءه تحصيل ، والواجب التصديق بما جاء من ذلك ، ومن أنكر وجود الملائكة والجن وتمثلهم في الصور فقد كفر .
وقوله : (( فيفصم عني ، وقد وعيت عنه )) ؛ أي : يذهب عني ، ويقلع. يقال منه : فصم ، وأفصم بالفاء ، ومنه قوله تعالى : { لا انفصام لها} ؛ أي : لا انقطاع ، والفصم - بالفاء - : انصداع من غير بينونة ، وبالقاف : انصداع مع بينونة . هذا أصلهما ، ثم قد يتوسَّع في كل واحد منهما .
و (( وعيت )) : فهمت وحفظت . تقول العرب : وعيت العلم-ثلاثيًّا - وأوعيت المتاع في الوعاء - رباعيًّا - وأصلهما : من جعلت الشيء في الوعاء ، غير أن استعمالهم فرق بينهما كما قلناه .
وقد اقتصر في هذا الحديث على ذكر طريقي الوحي ، ولم يذكر الرؤيا ، وهي من الوحي كما تقدم ؛ لأنَّه فهم عن السائل : أنه إنما سأل عن كيفية تلقيه الوحي من الملك ، والله أعلم .
وقوله : (( كان إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك )) ؛ وجدناه بتقييد من يوثق حال بتقييده مبنيًا لما لم يسم فاعله ؛ أي : أصيب بالكرب ، وهو الألم والغم .
---
(9/5)
و (( تربَّد وجهه )) : علته زُبدة وهي : لون بين السواد والغبرة ، ومنه قيل للنعام : رُبدٌ ، جمع ربداء ، كحمراء وحُمْر. وتنكيس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأسه لثقل ما يلقى عليه ، ولشدة ما يجده من الكرب . وتنكيس أصحابه رؤوسهم عند ذلك استعظام لذلك الأمر ، وهيبة له .
وقوله : (( فلما أُتْلِي عنه رفع رأسه )) ؛ اختلف الرواة في هذا الحرف. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى : قيَّده شيخنا أبو عبدالله محمد بن عيسى الجياني بضم الهمزة ، وتاء باثنتين من فوقها ساكنة ، ولام مكسورة ، مثال : أُعْطِي ، وعند الفارسي مثله ، إلا أنه بثاء مثلثة ، وعند العذري من طريق شيخه الأسدي : بكسر الثاء المثلثة : أُثِلَ مثل : ضرب. وكان عند شيخنا الحافظ أبي علي : (( أُجْلِي )) بالجيم مثل : أُعْطِي أيضًا ، وعند ابن ماهان : (( انجلى )) بالنون ، وكذا رواه البخاري ، وهاتان الروايتان لهما وجه ؛ أي : انكشف عنه وذهب ، وفُرِّج عنه . يقال : انجلى عنه الغتم ، وأجليته ؛ أي : فرجته فتفرج ، وأجلوا عن قتيل ؛ أي : برحوا عنه وتركوه ، ورواه البخاري في كتاب الاعتصام : فلما صعد الوحي . وهو صحيح ، وفي البخاري في سورة سبحان : فلما نزل الوحي . وكذا في مسلم في حديث سؤال اليهودي ، وهذا وهم بين ، ورواه ابن أبي خيثمة : فلما أعلى عنه ؛ أي : نَحَّي عنه . كما قال أبوجهل : اعلُ عني ؛ أي : تنحَّ . نقلته من كتاب "مشارق ا لأنوار" للقاضي .
---
(9/6)
وقوله : (( والذي نفس محمد بيده ! ليأتين على أحدكم يوم لا يراني ، ثم لأن يراني أحبَّ إليه من أهله وماله معهم )) ؛ كذا صحيح الرواية ، ومعنى هذا الحديث : إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه إذا فُقِد تغيَّرت الحال على أصحابه من عدم مشاهدته ، وفقد عظيم فوائدها ، ولِما طرأ عليهم من الاختلاف والمحن ، والفتن . وعلى الجملة : فساعةَ موته اختلفت الآراء ، ونجمت الأهواء ، وكاد النظام ينحل لولا أن الله تبارك وتعالى تداركه بثاني اثنين ، وأهل العقد والحل ، وقد عبَّر الصحابة عند مبدأ
ذلك التغيُّر لنا بقولهم : (( ما سؤينا التراب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أنكرنا قلوبنا ، فكلما حصل واحدٌ منهم في كربة من تلك الكرب ، ودَّ أنه رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكل ما معه من أهل ومال ونشب ، وذلك لتذكره ما فات من بركات مشاهدته ، ولما حصل بعده من فساد الأمر ، وتغيُّر حالته . والله أعلم.
ومن باب ذكرعيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم )) ؛ أي : أخص ، وأقرب ، وأقعد ، كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فَلأِولى عصبة )) ؛ أي : لأقرب ، وأحقّ .
وقوله : (( في الأولى والآخرة )) ؛ أي : في الدنيا وفي الدار الآخرة .
(9/7)
وقوله : (( كيف يا رسول الله ؟ )) سؤال عن وجه الأولوية . فقال في الجواب : (( الأنبياء إخوة من عَلاَّت ، أُمَّهاتهم شتى ، ودينهم واحد ، وليس بيني وبينه نبي )). وفي لفظ آخر : (( أولاد عَلاَّت )). وفي الصحاح : بنو العلاَّت : هم أولاد الرجل من نسوة شتى ، سميت بذلك لأن الذي يتزوجها على أولى كانت قبلها ، ثم علَّ من هذه ، والعَلَلُ : الشرب الثاني . يقال : عَلَلٌ بعد نهلٍ ، وعنه يعله : إذا سقاه السَّقية الثانية ، وقال غيره : سُمُّوا بذلك لأنهم أولاد ضرائر ، والعلاَّت الضرائر . وشتَّى : مختلفون ، ومنه قوله تعالى : { تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى }.
---
قال القاضي أبو الفضل عياض : معناه : أن الأنبياء مختلفون في أزمانهم ، وبعضهم بعيد الوقت من بعض ، فهم أولاد علاَّت ؛ إذ لم يجمعهم زمان واحد ، كما لم يجمع أولاد العلاَّت بطن واحد ، وعيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما كان قريب الزمان منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولم يكن بينهما نبي ، كانا كانهما في زمان واحد ، فكانا بخلاف غيرهما .
قلت : هذا أشبه ما قيل في هذا الحديث ، ويستفاد منه : إبطال قول من قال : إنه كان بعد عيسى أنبياء ورسل ، فقد قال بعض الناس : إن الحواريين كانوا أنبياء ، وأنهم أرسلوا إلى الناس بعد عيسى ، وهو قول أكثر النصارى ، كما ذكرناه في كتاب "الإعلام".
وقوله : (( ودينهم واحد )) ؛ أي : في توحيدهم ، وأصول أديانهم ، وطاعتهم لله تعالى ، واتباعهم لشرائعه ، والقيام بالحق ، كما قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا... } الآية ، ولم يُرِد فروع الشرائع ؛ فإنَّهم مختلفون فيها كما قال تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا }.
---
(9/8)
وقوله : (( ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان )) ؛ يعني به : أول وقت الولادة حين يستهل أوَّل استهلال ، بدليل قوله في الرواية الأخرى : (( يوم يولد )) ؛ أي : حين يولد(2). والعرب قد تطلق اليوم وتريد به الوقت والحين . كما قال تعالى : {كأنَّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلثوا } ؛ أي : حين يرون ، كما تقدَّم في الحديث قبل هذا : (( ليأتين على أحدكم يوم لا يراني )) ؛ أي : زمن ووقت ، وهو كثير . وكان النَّخس من الشيطان إشعار منه بالتمكن والتسليط ، وحفظ الله تعالى لمريم وابنها من نخسته تلك التي هي ابتداء التسليط ببركة إجابة دعوة أمها حين قالت : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ، فاستجاب الله لها لما حضرها في ذلك الوقت من صدق الالتجاء إلى الله تعالى ، وصحة التوكل ، وأمها هي امرأة عمران ، واسمها حنَّه بنت فاقود ، وكانت لما حملت نذرت ، وأوجبت على نفسها : أن تجعل ما تلده منزهًا منقطعًا للعبادة ، لايشتغل بشيء مما في الوجود ، على شريعتهم في الرهبانية ، وملازمتهم الكنائس ، وانقطاعهم فيها إلى الله تعالى بالكلية . ولذلك لما ولدتها أنثى قالت : { وليس الذكر كالأنثى } ؛ أي : فيما نذرته له من الرهبانية .
---
(9/9)
وقوله : (( كل مولود )) ، و(( ما من مولود )) ؛ ظاهر قوي في العموم والإحاطة ، ولما استثنى منه مريم وابنها التحق بالنصوص لا سيما مع النظر الذي ابديناه ، فأفاد هذا : أن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء ، والأولياء ، إلا مريم وابنها ، وإن لم يكن كذا بطلت الخصوصية بهما ، ولا يفهم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال المنخوس وإغواؤه ؛ فإنَّ ذلك فاسد ، فكم قد تعرض الشيطان للأنبياء ، والأولياء بأنواع الإفساد ، والإغواء ، ومع ذلك يعصمهم الله مما يرومه الشيطان ، كما قال : { إن عبادى ليس لك عليهم سلطان } ، هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وُكِّل به قرينُه من الشياطين ، كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعلى هذا فمريم وابنها - وإن عصما من نخسه - فلم يعصما من يلازمته لهما ومقارنته . وقد خصَّ الله تعالى نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخاصيَّة كمل عليه بها إنعامه بأن أعانه على شيطانه حتى صحَّ إسلامه ، فلا يكون عنده شرٌّ ، ولا يأمره إلا بخير ، وهذه خاصَّة لم يؤتها أحدٌ غيره ، لا عيسى ، ولا أمه . وفي غير كتاب مسلم : (( فذهب الشيطان ليطعن في خاصرته فطعن في الحجاب )) ؛ أي : في الحجاب الذي حجب به عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأمَّا حجاب مهده ، وإما حجاب بيته.
وقوله : (( صياح المولود نزغة من الشيطان )) ، الرواية المعروفة : نزغة - بالنون والزاي ساكنة والغين المعجمة - من النزغ : وهو الوسوسة ، والإغراء بالفساد ، ووقع لبعض الرواة : فزغة - بالفاء والعين المهملة - : من الفزع .
وقوله : (( رأى عيسى ابن مريم رجلاً يسرق فقال : سرقت . قال : كلا والذي لا إله إلاهو )) ؛ ظاهر قول عيسى لهذا الرجل : سرقت أنه خبر عما فعل الرجل من السرقة ، وكأنه حقق السرقة عليه ؛ لأنَّه راه قد أخذ مالاً لغيره من حرز في خفية ، ويحتمل أن يكون مستفهمًا له عن تحقيق ذلك ، فحذف همزة الاستفهام ، وحذفها قليل .
(9/10)
وقول الرجل : (( كلا )) ؛ أي : لا . نفى ذلك ، ثم أيده باليمين .
---
وقول عيسى : (( آمنت بالله ، وكذبت نفسي )) ؛ أي : صدَّقت من حلف بالله ، وكذبت ما ظهر من ظاهر السَّرقة ، فإنَّه يحتمل : أن يكون الرجل أخذ ماله فيه حق ، أو يكون صاحبه قد أذن له في ذلك ، ويحتمل أن يكون أخذه ليقلبه ، وينظر إليه .
ويستفاد من هذا الحديث درء الحد بالشبهة.
ومن باب ذكر إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذي قال له : يا خير البرية : "ذاك إبراهيم ") البرجمة : الخلق ، وتهمز ، ولا تهمز ، وقد ترىء بهما ، واختلف في اشتقاقها ، فقيل : هي مأخوذة من البراء ، وهو : التراب . نعلى هذا لا يهمز. وقيل : هي مأخوذة(2) من برأ الله تعالى الخلق - بالهمز - ؛ أي : خلقهم ، وعلى هذا فيهمز ، وقد يكون من هذا ، وتسفل همزتها ، كما سفلوا همزة خابية ، وهي من : خبأت مهموزًا . والبرية في الوجهين : فعيلة بمعنى مفعولة ، وقد عارض هذا الحديث قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنا سيِّد ولد آدم )). وما علم من غير ما موضع من الكتاب والسُّنَّة ، وأقوال السلف والأمَّة : أنه أفضل ولد آدم ، وقد انفصل عن هذا بوجهين :
أحدهما : أن ذلك من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جهة التواضع ، وترك التطاول على الأنبياء ، كما قال : (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أكرم ولد آدم على ربي يوم القيامة ولا فخر )). وخصوصًا على إبراهيم ؛ الذي هو أعظم آبائه وأشرفهم .
---
(9/11)
وثانيهما : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذلك قبل أن يعلم بمنزلته عند الله تعالى ، ثم إنه أعلم بأنه أكرم وأفضل ، فأخبر به كما أمر ، ألا ترى أنه كان في أول أمره يسأل أن يبلغ درجة إبراهيم من الصلاة عليه والرحمة ، والبركة ، والخلة ، ثم بعد ذلك أخبرنا بأن الله تعالى قد أوصله إلى ذلك لما قال : ((إن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً )) ، ثم بعد ذلك زاده الله من فضله ، فشرَّفه ، وكرَّمه ، وفضله على جميع خلقه ، وقد أورد على كل واحد من هذين الوجهين استبعاد . قالوا : رُدَّ على الأول ؛ أن قيل : كيف يصح من الصادق المعصوم أن يخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه لأجل التواضع والأدب ، والوارد على الثاني : أن ذلك خبر عن أمر وجودي ، والأخبار الوجودية لا يدخلها النسخ . والجواب عنهما : أن يقال : إن ذلك ليس إخبارًا عن الشيء بخلاف ما هو عليه ، فإنه تواضع يمنع إطلاق ذلك اللفظ عليه ، وتأدب مع أبيه بإضافة ذلك اللفظ إليه ، ولم يتعرض للمعنى ، فكأنه قال : لا تطلقوا هذا اللفظ علي ، وأطلقوه على أبي إبراهيم أدبًا معه ، واحترامًا له . ولو صرَّح بهذا لكان صحيحًا غير مستبعد ، لا عقلاً ، ولا نقلاً ، وهذا كما قال : (( لا تفضلوني على موسى )) ؛ أي : لا تقولوا : محمد أفضل من موسى مخافة أن يُخيَّل نقص في المفضول ، كما قدَّمناه ويأتي . فقد أظهر هذا البحث : أن ذلك راجع إلى منع إطلاق لفظ وإباحته ، فذلك خبر عن الحكم الشرعي ، لا عن المعنى الوجودي ، وإذا ثبت ذلك جاز رفعه ، ووضعه ، وصحَّ الحكم به ، ونسخه من غير تعرُّض للمعنى ، والله أعلم .
---
(9/12)
سلَّمنا أنه خبر عن أمر وجودي ، لكن لا نسلم أن كل أمر وجودي لا يتبدل ، بل : منها ما يتبدل ، ولا يلزم من تبدله تناقض ، ولا محال ، ولا نسخ ؛ كالإخبار عن الأمور الوضعية . وبيان ذلك : أن معنى كون الإنسان مكرَّما مفضلاً ؛ إنما ذلك بحسب ما يُكرَّم به ، ويُفضل على غيره ، ففي وقت يُكرَّم بما يُساوي فيه غيره ، وفي وقت يزاد على ذلك الغير ، وفي وقت يُكرَّم بشيء لم يُكرَّم به أحد ، فيقال : غلبه في المنزلة الأولى مُكرَّم مُقرَّب ، وفي الثانية مُفضل بقيد . وفي الثالثة ، مُفضل مطلقًا ، ولا يلزم من ذلك تناقض ، ولا نسخ ، ولا مُحال ، وهذا واضح وحسن جدًّا فاغتبط به ، وشدَّ عليه يدًا .
وقوله : (( اختتن إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقدوم ، وهو ابن ثمانين سنة )) ؛ اختلف الرواة في تخفيف دال القدوم وتشديدها ، واختلفوا أيضًا في معناها . فالذي عليه أكثر الرواة التخفيف ، ويعني به : آلة النَّجَّار ، وهو قول أكثر أهل اللغة في آلة النجارة . ورواه بعضهم مشدَّدًا. وفسَّره بعض اللغويين : بأنه موضع معروف بالشام ، ومنهم من قال : بالسَّرَاة ، وحكي عن أبي جعفر اللُّغوي : قدُّوم : المكان مشدَّد ، معرفة ، لا يدخله الألف واللام ، قال : ومن رواه في حديث إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخففًا فإنما يعني بها الآلة التي ينجر بها ، وفي الصحاح : القدوم : الذي ينحت به مخففًا . قال ابن السِّكيت : لا تقل : قدُّوم بالتشديد ، والجمع : قدم . قال الأعشى :
أقام به شاهَبُورُ الجنُود حَوْلَين يَضرِب فيها القُدُم
وجمع القُدُم : قدائم ، مثل : قُلُص وتلائص ، والقدوم أيضًا : اسم موضع مخفَّف .
قلت : ويحصل من أقوالهم : أن القدوم إذا أريد به الآلة فهو مخفف ، وإذا أريد به الموضع ففيه التشديد والتخفيف ، ويحتمل أن يراد بالقدوم في الحديث : الآلة والموضع .
(9/13)
وقوله : (( وهو ابن ثمانين سنة )) ، وفي غير كتاب مسلم : أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة ، وعاش مائة وعشرين سنة .
---
قال القاضي عياض رحمه الله : قد جاء هذا الحديث من رواية مالك ، والأوزاعي ، وفيه : اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة . ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة . إلا أن مالكًا ومن تابعه وقفوه على أبي هريرة .
قلت : قد تقدَّم : أن إبراهيم أوَّل من اختتن ، وأن ذلك لم يزل سُنَّة عامة معمولاً بها في ذريته وأهل الأديان المنتمين إلى دينه . وهو حكم التوراة على بني أيي إسرائيل كلهم ، ولم تزل أنبياء بني إسرائيل يختتنون حتى عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، غير أن طوائف من النصارى تأوَّلوا ما جاء في التوراة من ذلك ، بأن المقصود زوال غُلْفَة القلب ، لا جلدة الذكر ، فتركوا المشروع من الختان بضرب من الهذيان ، وليس هذا بأوَّل جهالاتهم ، فكم لهم منها وكم ! ويكفيك من ذلك : أنّهم زادوا على أنبيائهم في الفهم ، وغلَّطوهم فيما عملوا عليه ، وقضوا به من الحكم . وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب "الإعلام".
وقوله : (( لم يكذب إبراهيم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قط إلا ثلاث كذبات ، ثنتن في ذات الله ؛ قوله : { إني سقيم } ، وقوله : { بل فعله كبيرهم هذا} ، وواحدة في شأن سارة )) ؛ قد تقدَّم الكلام على هذه الكذبات في كتاب الإيمان ، وذكرنا هناك : أنها أربع ، زيد فيها قوله للكوكب : {هذا ربي } ، ولم يذكرها في هذا الحديث ، مع أنه قد جاء بلفظ الحصر ، فينبغي ألا يقال عليها : كذبة في حق إبراهيم ؛ إذ قد نفاها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا الحصر ؛ وإنَّما لم تعد عليه كذبة وهي أدخل في الكذب من هذه الثلاث ؛ لأنَّه - والله أعلم - حين قال ذلك في حال الطفولية ، وليست حال تكليف ، ويقوي هذا المعنى قول من حكى عنه ذلك ، كما تقدَّم في الإيمان .
---
(9/14)
وقوله : (( اثنتين في ذات الله )) ؛ أي : في الدفع عن وجود الله تعالى ، وبيان حجته على أن المستحق للألهية هو الله تعالى لا غيره ، فاعتذر عمَّا دعوه إليه من الخروج معهم بأنه سقيم ، فورى بهذا اللفظ ، وهو يريد خلاف ما فهموا عنه - كما بيَّناه في الإيمان - حتى يخلو بالأصنام فيكسرها ، ففعل ذلك ، وترك كبير الأصنام لينسب إليه كسرها بذلك ، قولاً يقطعهم به ، فإنَّهم لما رجعوا من عيدهم فوجدوا الأصنام مكسَّرة : { قالوا من فعل هذا بألهتنا إنه لمن الظالمين } ، فقال بعضهم : { سمعنا فتًى يذكرهم يقال له إبراهيم } ، وكان هذا الذكر هو قول إبراهيم لهم : { وتالله لأكيدن أصناكم بعد أن تولوا مدبرين } ، فلما أحضروه : { قالوا ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } ، فأجابهم بقوله : { بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون } ، فرجعوا إلى أنفسهم } ؛ أي : رجع بعضهم إلى بعض رجوع القطع عن حجَّته المتفطِّن لحجَّة خصمه : فقالوأ إنكم أنتم الظالمون } ؛ أي : بعبادة من لا ينطق بلفظة ، ولا يملك لنفسه لحظة ، فكيف ينفع عابديه ، ويدفع عنهم البأس من لا يردُّ عن رأسه الفأس : {ثم نُكسوا على رؤسهم} ؛ أي : عادوا إلى جهلهم وعنادهم ، فقالوا : { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } ، فقال قاطعًا لما به يهذون ، ومفحمًا لهم فيما يتقولون : {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون }.
وقوله : (( ذات الله )) ؛ يعني به : وجود الله المنزه عن صفات المخلوقات ، والمقدَّس عن ذوات المحدثات ، وفيه دليل على جواز إطلاق لفظ الذات على وجود الله تعالى المقدس ، فلا يُلتفت لإنكار من أنكر إطلاقه على المتكلمين.
---
(9/15)
وقوله : (( وواحدة في شأن سارة )) ؛ هذه الواحدة هي من إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مدافعة عن حكم الله تعالى الذي هو : تحريم سارة على الجبَّار ، والثنتان المتقدِّمتان مدافعة عن وجود الله تعالى ، فافترقا ، فلذلك فرَّق في الإخبار بين النوعين .
وقوله : (( إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك )) ؛ قيل : إن ذلك الجبَّار كانت سيرته : أنه لا يغلبُ الأخ على أخته ، ولا يظلمه فيها ، وكان يغلب الزوج على زوجته ، وعلى هذا يدلّ مساق هذا الحديث ، وإلا فما الذي فرَّق بينهما في حق جبَّار ظالم ؟
وقوله : (( فإنَّ سألك فأخبريه : أنك أختي ، فإنك أختي في الإسلام )) ؛ هذا صحيح ليس فيه من الكذب شيء ، وهذا كقوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } ، لكن لما كان الأسبق للفهم من لفظ الأخوة إنما هي أخوَّة النسب ، كان من باب المعاريض ؛ لأنَّ ظاهر اللفظ يوهم شيئًا ، ومراد المتكلم غيره . وقيل عليه كذب توسُّعًا ، وأطلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها كذبًا ؛ لأنَّ الله تعالى قد أعلمه : أن إبراهيم يطلق ذلك على نفسه يوم القيامة كما تقدم في كتاب الإيمان ، وأيضًا : فليُنبَّه بذلك على أن الأنبياء عليهم السلام منزهون عن الكذب الحقيقي ؛ لأنَّهم إذا كانوا يَفْرَقُون من مثل هذه المعاريض التي يجادلون بها عن الله تعالى ، وعن دينه ، وهي من باب الواجب وتعد عليهم ؛ كان أحرى وأولى أن لا يصدر عنهم شيء من الكذب الممنوع ، وفي هذا ما يدلّ على جواز المعاريض والحيل في التخلص من الظَّلمة . بل نقول : إنه إذا لم يُخلِّص من الظالم إلا الكذب الصَّراح جاز أن يكذبَه ، بل قد يجب في بعض الصور بالاتفاق بين الفِرَق ؛ ككذبة تنحي نبيًّا ، أو وليًّا ممن يُريد قتله ، أو أمنًا من المسلمين من عدوهم .
(9/16)
وفيه : ما يدل على أن العمل بالأسباب المعتادة التي يرجى بها دفع مضرَّة ، أو جلب منفعة لا يقدح في التوكل ، خلافًا لما ذهب إليه جُهَّال المتوكِّلة ، وقد تقدَّم كثير من نحو هذا .
---
وقول الجبَّار لسارة حين قبضت يده عنها : (( ادعي الله لي )) ؛ يدلّ على أن هذا الجبَّار كان عنده معرفة بالله تعالى ، وبأن لله من عباده من إذا دعاه أجابه ، ومع ذلك فلم يكن مسلمًا ؛ لأنَّ إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال لسارة : (( ما أعلم على الأرض مسلمًا غيري وغيرك )).
وقول الجبَّار : (( لك الله ألا أضرك )) ؛ الرواية فيه بالنصب ، لا يجوز غيره ، وهو قسم ، ومقسم به ، ومقسم عليه ، وفيه حذت يتبيَّن بالتقدير ، وتقدير ذلك : أقسم بالله على ألا أضرك ، فحذف الخافض ، فتعدَّى الفعل فنصب ، ثم حذف فعل القسم ، وبقي المقسم به - وهو الله تعالى - منصوبًا ، وكذلك المقسم عليه وهو : ألا أضرك ، يعني مفتوح همزة ألا ، ويجوز في أضرك رفع الراء على أن تكون أن مخففة من الثقيلة ، ويجوز فيها النصب على أن تكون أن الناصبة للفعل المضارع .
وقول الجبَّار للذي جاءه بسارة : (( إنما أتيتني بشيطان ، ولم تأتني بإنسان )) ؛ كلام يناقض قوله لها : (( ادعي الله لي )) ، فيكون ذمُّه لها عنادًا ، بعد أن ظهر له كرامتها على الله ، أو إخفاه لحالها لئلا يرشد بما ظهر عليها من الكرامة ، فتعظم في نفوس الناس وتُتَّبع ، فلبَّس على السامع بقوله : (( إنما أتيتني بشيطان )).
وقول إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مهيم )) ؛ قال الخليل : هي كلمة لأهل اليمن خاصة . معناها : ما هذا ؟ وفي الصحاح : هي كلمة يستفهم بها ، معناها : ما حالك ؟ وما شأنك ؟ ونحوه قال الطبري .
(9/17)
وقوله : (( قالت : خيرًا )) ؛ هو منصوب بفعل مضمر ؛ أي : فعل الله خيرًا . ثم فسَّرت الخير بقولها : (( كبت الله يد الفاجر ، وأخدم خادمًا )) ؛ أي : عصمها الله منه بما أظهر من كرامتها ، وأعطاها الله خادمًا ، وهي : هاجر . ويقال : آجر - بالهمزة يبدلونها من الهاء -.
وفيه : جواز قبول هدية المشرك ، وقد تقدم القول فيها .
---
وقول أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ : (( فتلك أُمُّكم يا بني ماء السَّماء )) ؛ فتلك : إشارة إلى هاجر ، والمخاطب : العرب . قال الخطابي : سُمُّوا بذلك لانتجاعهم المطر ، وماء السماء للرعي . وقال غيره : سُمُّوا بذلك لخلوص نسبهم ، وصفائه . وشبَّهه بماء السماء . قال القاضي أبوالفضل : والأظهر عندي : أن المراد به الأنصار . نسبهم إلى جَدِّهم عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد ، وكان يعرف بماء السماء ، وهو مشهور. والأنصار كلهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور ، والله أعلم.
ومن باب ذكر موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قوله : (( كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض )) ؛ إنما كانت بنو إسرائيل تفعل ذلك معاندة للشرع ، ومخالفة لموسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو من جملة عتوِّهم ، وتثة مبالاتهم باتباع شرع موسى ، ألا ترى أن موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يستتر عند الغسل ، فلو كانوا أهل توفيق وعقل اتبعوه ، ثم لم يكفهم مخالفتهم له حتى آذوه بما نسبوا إليه من آفة الأُدْرة ، فأظهر الله تعالى براءته مما قالوا بطريق خارق للعادة ، زيادة في أدلة صدق موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومبالغة في قيام الحجة عليهم .
---
(9/18)
وفي هذا الحديث ما يدلُّ على أن الله تعالى كمَّل أنبياءه خلقًا وخُلُقًا ، ونزههم في أزل خلقهم من المعايب ، والنقائص المنفرة عن الاقتداء بهم المبعدة عنهم ، ولذلك لم يسمع أنه كان في الأنبياء والرسل من خلقه الله تعالى اعمى ، ولا أعور ، ولا أقطع ، ولا أبرص ، ولا أجذم ، ولا غير ذلك من العيوب والآفات التي تكون نقصًا ، ووصمًا يوجب لمن اتَّصف بها شينًا وذمًّا ، ومن تصفَّح أخبارهم ، وعلم أحوالهم علم ذلك على القطع. وقد ذكر القاضي رحمه الله في الشفاء من هذا جملة وافرة ، ولا يعترض عليها بعمى يعقوب ، وبابتلاء أيوب ؛ فإنَّ ذلك كان طارئًا عليهم محبَّةً لهم ، وليقتدى بهم من ابتلي ببلاء في حالهم وصبرهم ، وفي أن ذلك لم يقطعهم عن عبادة ربهم. ثم إن الله تعالى أظهر كرامتهم ، ومعجزاتهم بأن أعاد يعقوب بصيرًا عند وصول قميص يوسف له ، وأزال عن أيوب جذامه وبلاءه عند اغتساله من العين التي أنبع الله تعالى له عند رَكْضِه الأرض برجله ، فكان ذلك زيادة في معجزاتهم ، وتمكينا في كمالهم ، ومنزلتهم . والآدر - بمد الهمزة - : هو ذو الأُدْرة ، بضم الهمزة ، وسكون الدال ، وهي عظم ا لخصيتين ، وانتفاخهما .
وقوله : (( فجمح موسى بأثره )) ؛ أي : أسرع في مشيه خلف الحجر ليأخذ ثوبه . والجموح من الخيل : هو الذي يركب رأسه في إسراعه ، ولا يَثْنيه شيء ، وهو عيب فيها ؛ وإنَّما أطلق على إسراع موسى خلف الحجر جماحًا ؛ لأنَّه اشتدَّ خلفه اشتدادًا لا يثنيه شيء عن أخذ ثوبه ، وهو مع ذلك ينادي : (( ثوبي حجر ! ثوبي حجر ! )) ؛ كل ذلك استعظام لكشف عورته ، فسبقه الحجر إلى أن وصل إلى جمع بني إسرائيل ، فنظروا إلى موسى ، فكذبهم الله في قولهم ، وقامت حجته عليهم .
---
(9/19)
وقول موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ثوبي حجر ! ثوبي حجر ! )) منصوب بفعل مضمر ، وحجر مناد مفرد محذوف حرف النداء ، وتقدير الكلام : أعطني ثوبي يا حجر ! أو : اترك ثوبي يا حجر ! فحذف الفعل لدلالة الحال عليه . وحذف حرف النداء هنا استعجالاً للمنادى ، وقد جاء في كلام العرب حذف حرف النداء مع النكرة ، كما قالوا : اطرق كرا ، وافتدِ مخنوق ، وهو قليل . وإنما نادى موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحجر نداء من يعقل ؛ لأنَّه صدر عن الحجر فعل من يعقل .
وفي وضع موسى ثوبه على الحجر ، ودخوله في الماء عريانًا : دليلٌ على جواز ذلك ، وهو مذهب الجمهور. ومنعه ابن أبي ليلى ، واحتج بحديث لم يصح ، وهو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تدخلوا الماء إلا بمئزر ، فإنَّ للماء عامرًا )).
قال القاضي : وهو ضعيف عند أهل العلم . وجاء في "الأم" قال : ((فاغتسل عند مُوَيْه )) ، وهو تصغير ماء ، هكذا في رواية العذري ، ورواها أكثر الرواة : المشربة - بفتح الميم والراء - وأصله : موضع الشرب ، وأراد به الماء . والمشربة -بفتحها أيضًا - : الأرض اللَّينة ، فأمَّا المشربة التي هي الغرفة فتقال : بفتح الراء وضمها ، كما تقدم . وطفق من أفعال المقاربة ، كجعل وأخذ ، ويقال : بفتح الفاء وكسرها ، والندب : الأثر وهو بفتح الدال .
---
(9/20)
وقوله : (( مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر ، وهو يصلِّي في قبره )) ؛ الكثيب : هو الكوم من الرمل ويجمع كثبًا ، وهذا الكثيب هو بطريق بيت المقدس ، كما سيأتي . وهذا الحديث يدلّ بظاهره على : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى موسى رؤية حقيقية في اليقظة ، وأن موسى كان في قبره حيًّا ، يصلي فيه الصلاة التي كان له يصليها في الحياة ، وهذا كله ممكن لا إحالة في شيء منه ، وقد صحَّ أن الشهداء أحياء يرزقون ، ووجد منهم من لم يتغير في قبره من السنين كما ذكرناه. وإذا كان هذا في الشهداء كان في الأنبياء أحرى وأولى ، فإنَّ قيل : كيف يصلون بعد الموت وليس تلك الحال حال تكليف ؛ فالجواب : أن ذلك ليس بحكم التكليف وإنَّما ذلك بحكم الإكرام لهم والتشريف ، وذلك أنهم كانوا في الدنيا حبِّبت لهم عبادة الله تعالى. والصلاة بحيث كانوا يلازمون ذلك ، ثم توفوا وهم على ذلك ، فشرَّفهم الله تعالى بعد موتهم بأن أبقي عليهم ما كانوا يحبون ، وما عُرفوا به ، فتكون عبادتهم إلهاميِّة كعبادة الملائكة ، لا تكليفية ، وقد وقع مثل هذا لثابت البناني ـ رضى الله عنه ـ ؛ فإنَّه حُبِّبت الصلاة إليه حتى كان يقول : اللهم إن كنت أعطيت أحدًا يصلِّي لك في قبره ، فأعطني ذلك . فرآه مُلْحِدُه ، بعدما سوَّى عليه لحده قائمًا يصلِّي في قبره ، وقد دلَّ على صحة ذلك كله قول نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((يموت المرء على ما عاش عليه ، ويحشر على ما مات عليه )). وقد جاء في الصحيح : (( أن أهل الجنَّة يلهمون التسبيح كما تلهمون النَّفس .
ومن باب قصَّة موسى مع الخضر عليهما السلام
---
(9/21)
قوله : (( إن نَوْفًا البكالي)) ؛ لم يختلف في أن نوفًا هو بفتح النون ، وإسكان الواو وفتح الفاء منوَّنة ، وأما البكالي : فروايتي فيه بكسر الباء ، وفتح الكاف وتخفيفها على كل من قرأتُه عليه في البخاري ومسلم ، وهي المعروفة ، وقد ضبطها الخشني ، وأبو بحر بفتح الباء والكاف ، وتشديد الكاف ، والأول الصواب . وبكال : بطن من حِمْيَر ، وقيل من هَمْدان ، وإليهم ينسب نوف هذا ، وهو نوف بن فضالة على ما قاله ابن دريد ، وغيره . يكنى بأبي زيد ، وكان عالِمًا فاضلاً ، وإمامًا لأهل دمشق ، وقيل : هو ابن امرأة كعب الأحبار ، وقيل : ابن أخته .
وقول ابن عباس : (( كذب عدو الله )) ؛ قول أصدره غضب على من يتكلم بما لم يصح ، فهو إغلاظ ، وردع ، وقد صار غير نوفٍ إلى ما قاله نوف ، لكن الصحيح ما قاله ابن عباس على ما حكاه في الحديث .
(9/22)
وقوله : (( قام موسى خطيبًا ، فسُئِل أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا ، فعَتَب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه )) ؛ مساق هذه الرواية هو أكمل ما سيق هذا الحديث عليه فلنبحث فيه ، وظاهر هذا اللفظ : أن الذي عتب الله تعالى على موسى إنما هو أن قال : أنا أعلم . فأضاف الأعلمية إليه ، ولم يقل : الله أعلم بمن هو أعلم الناس ، فيفوَّض ذلك إلى الله ، فيكون هذا من نوع ما عتبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على لوط ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال : { قال لو اني لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد } ، وسيأتي تكميل هذا المعنى في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. فكان الأولى بموسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقول : الله أعلم بمن هو أعلم الناس ، لكن لما لم يعلم في زمانه رسولاً أتاه الله كتابًا فيه علم كل شيء وتفصيل الأحكام سواه ، قال ذلك حسب ما كان في علمه . لكنه تعالى لم يرض منه بذلك لكمال معرفته بالله تعالى ، ولعلوِّ منصبه . وفي بعض طرق البخاري : أن السائل قال لموسى : هل في الأرض أعلم منك ؟ قال : لا ، فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه .
---
(9/23)
قلت : وهذان اللفظان هما اللذان يتوجَّه العتب على موسى فيهما ، وقد روي بألفاظ أخر ، يبعد توجُّه العتب عليها ، فقد روي أنه قال : لا أعلم في الأرض خيرًا ولا أعلم مني . وفي أخرى قيل له : هل تعلم أحدأ أعلم منك ؟ فقال : لا . فهذان اللفظان قد نفى فيهما العلم فيما سئل عنه عن نفسه ، وهو حق صحيح وتبرؤ صريح ، فكيف يتوجه على من قال مثل ذلك عتب ، أو ينسب إلى تقصير ؛ فالصحيح من حيث المعنى أن الذي صدر من موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ معنى اللفظين السابقين ؛ فإنَّه جزم فيهما بأنه أعلم أهل الأرض ، وهذا محل العتب على مثله ، فإنَّه كان الأولى به أن يفوِّض علم ذلك إلى الله تعالى ، وهذا يدل على صحة ما قلناه فيما تقدَّم من أن الذنوب المنسوبة إلى الأنبياء المعدَّدة عليهم إنما ير من باب ترك الأولى ، وعوتبوا عليها بحسب مقاديرهم ، فإنَّ حسنات الأبرار سيئات ا لمقرَّبين .
وقوله تعالى : (( إن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك )) ، وفي الرواية الأخرى : (( بل عبدنا الخضر )) ؛ اسم الخضر : بليا بن مَلْكان على ما قاله بعض المفسرين ، وسُمِّي الخضر ، لأنه كان أينما صلَّى اخضر ما حوله ، وفي الترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما سُمِّي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء )). وقال : هذا حديث حسن صحيح .
و (( مجمع البحرين )) : ملتقاهما. قال قتادة : هما بحرا فارس والروم. السُّدِّي : هما الكد. والدس بأرمينية ، أبي : وهما بإفريقية . القرطبي : بطنجة . وحُكي عن ابن عباس : إن بحر في العلم : الخضر وموسى ، وكأنَّ هذا لا يصح عنه ، والله أعلم .
---
(9/24)
وقوله : (( هو أعلم منك )) ؛ أي : بأحكام وقائع مفصَّلة ، وحكم نوازل معيَّنة ، لا مطلقًا ، بدليل قول الخضر لموسى : إنَّك على علم علَّمكه الله لا أعلمه أنا ، وأنا على علم علَّمنيه الله لا تعلمه أنت . وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما : أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما ، ولا يعلمه الآخر .
فلما سمع موسى هذا تشوَّفت نفسه الفاضلة ، وهمَّته العالية لتحصيل علم ما لم يعلم ، وللقاء من قيل فيه : إنه منك أعلم ، فعزم فسأل سؤال الدَّليل : كيف السبيل ؟ فأمر بالإرتحال على كل حال ، وقيل له : احمل معك حوتًا مالِحًا في مِكتل ، وهو الزنبيل . فحيث يحيا وتفقده فثمَّ السبيل ، فانطلق مع فتاه لما واتاه ، مجتهدًا طلبًا قائلاً : { لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبًا }. والْحُقُب : بضم الحاء والقاف : الدهر ، والجمع أحقاب ، وبضم الحاء وسكون القاف ، ثمانون سنة ، ويقال أكثر من ذلك ، والجمع حقاب ، والحقبة بكسر الحاء ، واحدة الحقب ، وهي : السنون . من الصحاح .
---
(9/25)
وفيه من الفقه : رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم ، واصَّضاحب ، واغتنام لقاء الفضلاء ، والعلماء ، وإن بَعُدَت أقطارهم ، وذلك كان دأب السَّلف الصالح ، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح ، وحصلوا على السعي الناجح ، فرسخت في العلوم لهم أقدام ، وصحَّ لهم من الذكر والأجر أفضل الأقسام . ثم إن موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أزعجه القلق ، فانطلق مغمورًا بما عنده من الشوق والحرق ، يمشي مع فتاه على الشط ، ولا يبالي بمن حطَّ ، لا يجد نصبًا ، ولا يخطيء سببًا . إلى أن أويا إلى الصخرة فناما في ظِلِّها . قال بعض المفسرين : وكانت على مجمع البحرين ، وعندها ماء الحياة ، حكى معناه الترمذي عن سفيان بن عيينة فانتضح منه على الحوت فحيي واضطرب ، فخرج من المكتل يضطرب حتى سقط في البحر ، فأمسك الله جرية الماء عن موضع دخوله حتى كان مثل الطاق ، وهو النَّقْب الذي يدخل منه .
وقوله : (( فكان للحوت سربًا )) ؛ أي : مسلكًا . عن مجاهد قال قتادة : جمد الماء فصار كالسِّرب .
وقوله : (( وكان لموسى وفتاه عجبًا )) ؛ لما تذكرا ، فرجعا ، تعجبًا من قدرة الله على إحياء الحوت ، ومن إمساك جري الماء حتى صار بحيث يسلك فيه .
وقوله : (( فانطلقا بقية يومهما وليلتهما )) ؛ يعني : بعد أن قاما من نومهما ، ونسيا حوتهما ؛ أى : غفلا عنه ، ولم يطلباه لاستعجالهما. وقيل : نسي يوشع الحوت ، وموسى أن يامره فيه بشيء . وقيل : نسي يوشع فنسب النسيان إليهما للصحبة ، كقوله تعالى : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } ؛ وعلى هذا القول يدل قوله في الحديث : (( ونسي صاحب موسى أن يخبره )) ، ويظهرمنه : أن يوشع أبصر ما كان من الحوت ونسي أن يخبر موسى في ذلك الوقت .
وقوله : (( فلما أصبح قال موسى : { لفتاه آتنا غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا } ؛ هذا يدلّ على أنهما كانا تزوَّدا ، وقيل : كان زادهما الحوت ، وكان مملَّحًا .
(9/26)
---
قلت : والظاهر من الحديث : أنه إنما حمل الحوت معه ؛ ليكون فقده دليلاً على موضع الخضر ، كما تقدَّم من قوله تعالى لموسى : (( احمل معك حوتًا في مكتل ، فحيث تفقد الحوت فهو ثمَّ )) ؛ وعلى هذا فيكون تزوَّدا شيئًا آخر غير الحوت . والنصب : التعب والمشقة . وقيل : عنى به هنا : الجوع .
وفيه دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الآلالم والأمراض ، وأن ذلك لا يقدح في الرّضا ، ولا في التسليم للقضاء ، لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا تسخُّط .
وقوله : (( ولم ينصب حتى جاوز المكان الذي أمر به )) ؛ أي : لم يجد موسى ألم النَّصب إلا بعد أن جاوز موضع فقد الحوت ، وكان الله تعالى جعل وجدان النصب سبب طلب الغداء ، وجعل طلب الغداء سبب تذكر ما كان من الحوت . ومن هنا قيل : إن النَّصب هنا هو الجوع.
وقوله : (( أرأيت إذ أوينا إلى الصَّخرة فإنى نسيت الحوت } ؛ هذا قول يوشع جوابًا لموسى ، وإخبارًا له عما جرى . ومعنى { أوينا } : انضممنا ، وهي هنا بقصر الهمزة لأنه لازم ، وقد تقدَّم ذكر الخلاف في المتعدي في قصره ومده . ونسبة الفتى النسيان إلى نفسه نسبة عادية لا حقيقية .
---
(9/27)
وقوله : { وما أنسنيه إلا الشيطان أن أذكره } ؛ أن مع الفعل بتأويل المصدر ، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في أنسانيه ، وهو بدل الظاهر من المضمر ، وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار ، وذلك أن في البخاري : أن موسى قال لفتاه : (( لا أُكلِّفك إلا أن تُخبرني بحيث يفارقك الحوت ، فاعتذر بذلك القول )) ؛ ونجي بذلك : أن الشيطان سبب للنسيان ، والغفلة ، بما يورده على القلب من الخوض في غير المعنى المطلوب ، ومن المعلوم أن النسيان لا صنع فيه للإنسان ، وأنه مغلوب عليه ، ولذلك لم يؤاخذ الله تعالى به ؛ وإنَّما محل المؤاخذة الإهمال والتفريط . والانصراف عن الأمور المهمة إلى ما ليس بمهم حتى ينسى المهم ، وهذا هو فعل الشيطان المذموم أن يُشغل ذكر الإنسان بما ليس بمهم ، ويزحمه له حتى ينصرف عن المهم فيذم على ذلك ويُعاقب ، فيحصل مقصود الشيطان من الإنسان .
وقوله : { واتخذ سبيله فى البحر عجبًا } ؛ أي : اتخذ الحوت طريقه في البحر سربًا ، تعجب منه يُوشع ، ويتعجب به غيره ممن شاهده ، أو سمع قضيته.
و { نبغ} : نطلب . و{ ارتدا } : رجعا . و{ قصصا } : تتبعًا لآثار طريقهما. و{ الصخرة } : هي التي كان أويا إليها . و(( المسجَّى)) : المغطى . و(( مُستلقيًا على القفا )) ؛ أي : مباشرًا بظهره وقفاه الأرض مستقبلاً بوجهه السماء كهيئة الميت .
---
(9/28)
وقوله : (( أو على حلاوة القفا )) ؛ شك من بعض الرواة . و(( حلاوة القفا )) ؛ يعني بها -والله أعلم - : أن هذه الضجعة مما تستحلى ؛ لأنَّها ضجعة استراحة ، فكأنه قال : أو حلاوة ضجعة القفا ، ويقال بضم الحاء وفتحها ، وحلاء بالضم والمد ، وبه وبالقصر ، وكان هذه الضجعة من الخضر كانت بعد تعب عبادة . وآثر هذه الضجعة لما فيها من تردُّد البصر في المخلوقات ، ورؤية عجائب السماوات ، فكان الخضر في هذه الضجعة متفرغ عن الخليقة ، مملوء بما لاح له من الحق والحقيقة ، ولذلك لما سلَّم عليه موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ كشف الثوب عن وجهه ، وقال : وعليك السلام ، من أنت ؟
وقوله : (( أنَّى بأرضك السَّلام )) ؛ معناه : من أين تعرف السلام بهذه الأرض التي أنت فيها ؟! وهذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن ذلك الموضع كان قفرًا لم يكن به أحدٌ يصحبه ، ولا أنيس فيكلمه ، ويحتمل أن يكون أهل ذلك الموضع لا يعرفون السلام الذي سلم به موسى عليه ، إما لأنهم ليسوا على دين موسى ، وإما لأنه ليس من كلامهم .
---
(9/29)
و (( أنى )) تأتي بمعنى : حيث ، وكيف ، وأين ، ومتى . حكاه القاضي. وفي هذا من الفقه : تسليم القائم على المضطجع ، وهذا القول من الخضر كان بعد أن ردَّ عليه السلام ، لا قبله ، كما قد ذكرناه ، ومساق هذه الرواية يدل : على أن اجتماع موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالخضر كان في البر عند الصخرة ، وهو ظاهر قوله : (( حتى إذا أتى الصخرة فرأى رجلاً مسجَّى )) ، وفي بعض طرق البخاري : (( حتى أتى الصخرة ، فإذا رجل مسجَّى )) ، فعطفه بالفاء المعقبة ، وإذا المفاجئة ، غير أنه قد ذكر البخاري ما يقتضي أنه رآه في كبد البحر ، وذلك أنه قال فيها : فوجد خضرًا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجَّي بثوبه ، وجعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه تحت رأسه . و(( كبد البحر )) : وسطه . وهذا يدلّ على أنه اجتمع به في البحر ، ويحتمل أن موسى مشى على الماء ، وتلاقيا عليه ، وهذا لا يستبعد على موسى والخضر ، فإنَّ الذي خرق لهما من العادة أكثر من هذا وأعظم . وعلى هذا فهذه الزيادة تُضم إلى الرواية المتقدِّمة ، ويجمع بينهما بأن يقال : إن وصول موسى للصخرة ، واجتماعه مع الخضر كان في زمان متقارب ، أو وقت واحد لطيِّ الأرض ، وتسخير البحر ، والقدرة صالحة ، وهذه الحالة خارقة للعادة ؛ ولما كان كذلك عبَّر عنها بصيغ التعقيب والاتصال ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( نعم )) ؛ هو حرف جواب في الإيجاب ، فكأنه قال : أنا موسى بني إسرائيل ، فهو نصٌّ في الرد على نوفٍ ، وعلى من قال بقوله : وهم أكثر اليهود .
---
(9/30)
وقوله : (( مجيء ما جاء بك )) ؛ قيَّدها ابن ماهان بالهمز والتنوين ، وعلى هذا تكون (( ما )) نكرة صفة لمجيء ، وهي التي تكون للتفخيم والتعظيم ، كقولهم : لأمر ما يسوَّدَ من يسوَّدَ ، ولأمر ما تدرَّعت الدروع. فيكون معناه : مجيءٌ عظيمٌ ، وأمرٌ مهمٌ حملك على أن تركت ما كنت عليه من أمر بني إسرائيل ، واقتحمت الأسفار ، وقطعَ المفاوز والقفار. وقد زاد فيه بعض الرواة : (( أن الخضر قال له : وعليك السلام ، أنَّى بأرضنا يا نبي بني إسرائيل ، أما كان لك فيهم شغل ؟! قال : بلى ولكني أمرت أن أصحبك ، مستفيدًا منك )). فأجاب بجواب المتعلم المسترشد بين يدي العالم المرشد ملازمًا للأدب والحرمة ، ومعظمًا لمن شرَّفه الله بالعلم ، وأعلى رسمه فقال : جئتُك لتعلمني مما عُلمت رُشْدًا. قرأه الجماعة بضم الراء وسكون الشين ، وقرأه يعقوب وأبو عمرو بالفتح فيهما ، وهما لغتان ، ويقال : رَشَدَ : بالفتح يرشد رُشدًا بالضم ، ورَشِد بالكسر يرشَد رَشدًا بالفتح ، ومعنى الرشد : الاستقامة في الأمور ، واصابة وجه الشداد ، والصواب فيها ، وضده الغي . وهو منصوب على المصدر ، ويكون في موضع الحال ، ويصح أن يكون مفعولاً من أجله ، وفيه من أدب الفقه التذلل ، والتواضع للعالم ، وبين يديه ، واستئذانه في سؤاله ، والمبالغة في احترامه داعظامه ، ومن لم يفعل هكذا فليس على سنة الأنبياء ، ولا على هديهم ، كما قال نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه )).
---
(9/31)
وقوله : (( إنك على علم من علم الله علَّمكه الله ، لا أعلمه ، وأنا على علم من علم الله علَّمنيه لا تعلمه أنت )) ؛ ظاهر هذا : أن الخضر كان لا يعلم التوراة ، ولا ما علمه موسى من الأحكام ، وقد جاء هذا الكلام في بعض روايات البخاري بغير هذا اللفظ ، وبزيادة فيه ؛ فقال : (( أما يكفيك أن التوراة بين يديك ، وأن الوحي يأتيك يا موسى ؟ إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه ، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه )).
قلت : ولا بعد فيما ظهر من رواية مسلم ؛ لأنَّ الخضر إن كان نبيًا فقد اكتفى بما تعبَّده الله به من الأحكام ، وإن كان غير نبي فليس متعتدًا بشريعة بني إسرائيل ؛ إذ يمكن أن لا يكون منهم . والله أعلم ، وسيأتي القول في نبوته . وأما مساق رواية البخاري ، فهو مساق حسن لا يرد عليه من هذا الاستبعاد شيء ؛ لأنَّ مقتضاه : أن لكل واحد منهما علما خاصأ به لا يعلمه الآخر ، ويجوز أن يشتركا في علم التوراة ، أو غيرها مما شاء الله أن يشركهما فيه من العلوم ، ويظهر لي أن الذي خصَّ به موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : العلم بالأحكام ، والمصالح الكلية التي تنتظم بها مصالح الدنيا ؛ لأنَّه أرسل إلى عامة بني إسرائيل .
---
(9/32)
وقول موسى : { هل اتبعك على أن تعلمن } ؛ سؤال ملاطفة ؛ أي : هل يمكن كوني معك حتى أتعلم منك ؟ فأجابه بما يقتضي أن ذلك ممكن لولا المانع الذي من جهتك ، وهو عدم صبرك ، فقال جازمًا في قضيته ، لما علمه من حالته : { إنك لن تسطيع معي صبرًا } ، ثم بيَّن وجه عذره عن ذلك بقوله : { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا} ؛ معناه : إنك لا تصبر عن ا لإنكار والسؤال ، وأنت في ذلك كالمعذور ؛ لأنَّك تشاهد أمورًا ظاهرة ، ولا تعرف بواطنها وأسرارها . وانتصبت {خبرًا } على التمييز المنقول عن الفاعل ، وقيل على المصدر الملاقي في المعنى ؛ لأنَّ قوله : { لم تحط } معناه : لم تُخبره ، فكأنه قال : لم تخبره خبرًا ، وإليه أشار مجاهد . والخبير بالأمور : هو العالم بخفاياها ، وبما يختبر منها .
وقوله : { قال ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا} ؛ هذا تفويض إلى الله تعالى في الصبر ، وجزمٌ بنفي المعصية ؛ وإنما كان منه ذلك ؛ لأن الصبرَ أمر مستقبل ، ولا يدري كيف يكون حاله فيه ، ونفي المعصية معزومٌ عليه حاصل في الحال ، فالاستثناء فيه يُنافي العزمَ عليه والله تعالى أعلم . ويُمكن أن يفرَّق بينهما بأن الصبرَ ليس مُكتسبًا لنا بخلاف فعل المعصية وتركها ، فإن ذلك كله مكتسب لنا.
وقوله : { فَإنِ أتبعْتَني فَلا تسألنِي عَن شَيءٍ حَتى أحدِثَ لَكَ مِنْهُ ذكرًا } ؛ هذا من الْخَضِر تأديبٌ ، وإرشادٌ لما يقتضي دوامَ الصُّحبة ، ووعدٌ بأنه يُعرِّفه بأسرار ما يراه من العجائب ، فلو صبرَ ودَأبَ لرأى العجبَ ، لكنَّه أكثر من الاعتراض ، فتعيَّن الفِراق والإعراض .
وقوله : (( فانطلقا يمشيان على ساحل البحر )) ؛ يعني : الخضر وموسى ، ولم يذكر معهما فتى موسى ، فدلَّ على أنه لم يكن معهما ، أو أنه تخفَف عنهما ، ويحتمل أنه اكتفى بذكر المتبوع عن التابع .
---
(9/33)
وقوله : (( فعرفوا الخَضِر ، فحملوهما بغير نَول )) ؛ أي : بغير شيء ناله أصحابُ السفينة منهما ؛ أي : بغير جُعل ، والنَّولُ والنَّالُ والنَّيْلُ : العطاء. وفيه ما يدلُ على قَبُول الرجل الصالح ما يُكرمُه به من يعتقدُ فيه صلاحًا ، ما لم يتسبَّب هو بإظهار صلاحه لذلك ، فيكون قد أَكَلَ بدينه وذلك مُحرَّم وربا .
وقوله : { لِتُغرق أهْلَهَا} ؛ قرأه حمزة والكسائي بالمثناة تحت مفتوحهَ . وأهلُها بالرفع على أنه فاعل يَغرَق ، والباقون بالمثناة فوق مضمومة . أهلَها : بالنصب ، فعلى الأول تكون اللام للمآل ، كما قال تعالى : { فالتَقَطهُ آلُ فِرعونَ لِيكونَ لَهُم عَدُوًّا وَحَزَنًا }. وعليها : فلم يَنسبْ له أنه أراد الإغراق ، وعلى القراءة الثانية : تكون اللام : لام كي ، ويكون نَسبَ إليه : أنه قصد بفعله ذلك إغراقهم ، وحملَه على ذلك فرطُ الشفقة عليهم ومراعاة حقهم ؛ ولأنهم قد أحسنوا فلا يُقابلون بالإساءة ، ولم يقل : لتغرقني ؛ لأن الذي غلب عليه في الحال : فَرطُ الشفقة عليهم ، ومراعاة حقهم .
وقوله : { لَقَد جِئتَ شيَئًا نكرًا } ؛ أي : ضعيف الحجة ، يُقال : رجل إمرٌ : أي : ضعيف الرأي ذاهبُه ، يحتاج إلى أن يُؤمر ، قال معناه أبو عبيد . مجاهد : منكرًا . مقاتل : عجبًا . الأخفش : يُقال أَمِرَ أَمْرُهُ ، يأمر أمْراً ؛ أي : اشتد ، والاسم : الإمْرُ . قال الراجز :
قَد لَقِيَ الأقرَانُ مِنِّي نُكرًا داهِيَةَ دَهيَاءَ إِدًّا إِمرا
وفيه من الفقه : العمل بالمصالح ؛ إذا تحقق وجهها ، وجواز إصلاح كل المال بفساد بعضه .
وقوله : { لا تُؤاخِذني بِمَا نَسِيتُ } ؛ أي : من عهدك ، فتكون ((ما )) مع الفعل بتأويل المصدر ؛ أي : سهوي وغفلتي . وصدقَ ، ولذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كانت الأولى من موسى نسيانًا )).
(9/34)
وقول : { "وَلا تُرهقني مِن أَمرِى عُسرًا } ؛ أي : لا تفندني فيما تركته . قاله الضحَّاك . وقال مقاتل : لا تكلِّفني ما لا أقدر عليه من التحفُّظ عن السهو .
---
وقوله : (( فإذا غلام يلعب مع الغلمان )) ؛ قد تقدم : أن الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ ، ويُقابله الجارية في النساء . قال الكلبي : اسم هذا الغلام : شمعون . وقال الضحَّاك : خشود . وقال وهب : اسم أبيه سلاس ، واسم أمه : رُحمى ، وقال ابن عباس : كان شابًّا يقطع الطريق .
قلت : ويظهر من كلام ابن عباس هذا : أنه كان بالغًا ، وأنه بلغ سن التكليف ، وليس هذا معروفًا في إطلاق اسم الغلام في اللغة ، ومساق الحديث يدلّ على أنه لم يبلغ سن التكليف ، فلعل هذا القول لم يصح عن ابن عباس . بل الصحيح عنه : أنه كان لم يبلغ ، كما يأتي .
وقوله : (( فذُعِرَ موسى عندَ هذا ذَعْرَةً شديدة )) ؛ أي : فَزِعَ فَزَعًا شديدًا عند هذه الفعلة التي هي قتله الغلام ، وعند ذلك لم يتمالك موسى أن بادر بالإنكار ، تاركًا للاعتذار ، فقال : { أقتلت نفسًا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئًا نكرًا } ؛ هذه قراءة العامة ، وقرأه الكوفيون ، وابن عامر : { زكيَّة } بغير ألف ، وتشديد الياء . قال ثعلب : الزكية أبلغ . قال أبو عبيد : الزكية في الدين ، والزاكية في البدن . قال الكسائي : هما بمعنى واحد ؛ كقاسية وقسيَّة . ابن عباس : مسلمة. أبو عمرو : التي ما حلَّ ذنبها . ابن جبير : يريد على الظاهر .
وقوله : { بغير نفس } ؛ يعني : لم تقتل نفسًا فتستحق القتل و((النُّكر)) : أشدُّ المنكر ، وأفحشه ، قاله قتادة. وفيه لغنان : ضم الكاف ، وسكونها ، وقريء بهما. وهذه بادرة من موسى ترك بها كل ما كان التزم له من الصبر ، وترك المخالفة ؛ لكن حمله على ذلك : استقباح ظاهر الحال ، وتحريم ذلك في شرعه ، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وهذه أشدُّ من الأولى )).
---
(9/35)
وقوله : (( رحمة الله علينا وعلى موسى )) ؛ قال الراوي : وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه . هذا إنما كان يفعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأدعية وأشباهها ، مما يعود عليه بالثواب والأجر الأخروي ، حرصًا على تحصيل المنازل الرفيعة عند الله تعالى ، كما قال في الوسيلة : (( إنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو )).
وحاصله : أن القرب من الله تعالى ، وثوابه ليس مما يُؤثر الغير به بل تنبغي المنافسة فيه ، والمسابقة إليه ، بخلاف أمور الدنيا ، وحظوظها ؛ فإنَّ الفضل في تركها ، وإيثار الغير بما يحوز منها .
وقوله : (( ولكنه أخذته ذمامةٌ من صاحبه )) ؛ هو بالذال المعجمة مفتوحة ، وهي بمعنى : المذمَّة - بفتح الذال وكسرها - وهي : الرقة ، والعار من ترك الحرمة . يُقال : أخذتني منه مذمّةٌ ومذِمَّة ، وذمامة ، بمعناه ، وكأنه استحيا من تكرار مخالفته ، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار.
قوله : { قال ألم أقل لك إنَّك لن تستطيع معي صبرًا } ؛ إنما ذكر { لك} في هذه المرة ، ولم يذكرها في الأولى مقابلة له على قلَّة احترامه في هذه الكرَّة ؛ فإنَّ مقابلته بـ{ لك} مع كاف خطاب المفرد يشعر بقلة احترامه . والله أعلم .
وقوله : { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } ؛ هذا قول أبرزه من موسى استحياؤه من كثرة المخالفة ، وتهديده لنفسه عند معاودتها للاعتراض بالمفارقة .
وقوله : { قد بلغت من لدنِّي عذرًا } ؛ أي : قد صرت عندي معذورًا ، وقد تقدَّم الفرق بين لدنِّي وعندي ، وأن في لدنِّي لغات ، وقرئت : { من لَدْنِي } بضم الدال ، وتخفيف النون ، وسكون الدال ، وإشمامها الضم ، وتخفيف النون لأبي بكر عن عاصم . وبضم الدال ، وتشديد النون ، والأولى لنافع والثالثة للباقين .
---
(9/36)
وقوله : { فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية } لئام فـ{ استطعما أهلها} ؛ قال قتادة : القرية أيلة . وقيل : أنطاكية . و(( لئام )) هنا : بخلاء ، واللؤم في الأصل : هو البخل مع دناءة الآباء . و(( الاستطعام )) : سؤال الطعام ، والمراد به هنا : أنهما سألا الضيافة بدليل قوله تعالى : {فأبوا أن يضيفوهما } ؛ فاستحق أهل القرية أن يُذمُّوا وينسبوا إلى اللؤم كما وصفهم بذلك نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويظهر من ذلك : أن الضيافة كانت عليهم واجبة ، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما يجب لهما من الضيافة . وهذا هو الأليق بحال الأنبياء والفضلاء ، وبعيد أن يذم من ترك المندوب هذا الذم ، مع أنه يحتمل أن يقال : إن الضيافة لما كانت من المكارم المعروفة المعتادة عند أهل البوادي ، ذم المتخلف عنها عادة ، كما قد قالوا : ((شرٌّ القُرى التي تبخل بالقِرى )) ، ويحتمل أن يكون سؤالهما الضيافة عند حاجتهما إلى ذلك ، وقد بيَّنَّا : أن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرو به جوعه ، ففيه ما يدل : على جواز المطالبة بالضيافة ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((إذا نزلتم بقوم فلم يضيفوكم فاطلبوا منهم حق الضيف )). وقد تقدَّم القول في الضيافة وأحكامها ، ويعفو الله عن الحريري ؛ فإنَّه تسخَّف في هذه الآية ومَجَّن ، فاستدل بها على الكُدْيَةِ والإلحاح فيها ؛ وأن ذلك ليس بعيب على فاعله ولا منقصة عليه فقال :
فإنَّ رُددت فما بالردِّ منقَصَةٌ عليك قد رُدَّ موسى قبل والخضر
وهذا لعبٌ بالدِّين ، وانسلال عن احترام النبيين ، وهي : شنشنة أدبية وهفوة سخافية ، وبرحم الله السَّلف الصالح فإنَّهم بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح ، ، فقالوا : مهما كنت لاعبًا بشيء ، فإياك أن تلعب بدينك .
---
(9/37)
وقوله : { فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض فأقامه } ؛ الجدار : الحائط . وينقض : يسقط . ووصفه بالإرادة مجاز مستعمل ، وقد فسره في الحديث بقوله : (( يقول : مائل )) ، فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن ، وهو مذهب الجمهور ، ومما يدلّ على استعمال ذلك المجاز وشهرته ، قول الشاعر :
يُريد الرُّمح صَدْرَ أبي بَراءٍ ويَرْغَبُ عن دِماء بَنِي عَقِيل
وقال آخر :
إنَّ دَهْرًا يَلُفُّ شَمْلِي بِسَلْمى لَزَمانٌ يَهُمُّ بالإحسانِ
وقال آخر :
في مَهْمَهٍ فُلِقَت به هاماتُنَا فَلْقَ الفُؤوسِ إذا أردن نُصُولا
والنصول هنا : الثبوت في الأرض ، من قولهم : نصل السَّهم : إذا ثبت في الرَّميَّة ، فشبَّه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفؤوس في الأرض الشديدة ؛ فإنَّ الفأس يقع فيها ويثبت ، ولا يكاد يخرج. والمجاز موجود في القرآن والسُّنَّة كما هو موجودٌ في كلام العرب ، وقد استوفينا مباحث هذه المسألة في الأصول .
وقوله : (( قال الخضر بيده - هكذا - فأقامه )) ؛ يعني به أنه أشار إليه بيده ، فقام. فيه دليل على كرامات الأولياء ، وكذلك كل ما وصف من أحوال الخضر في هذا الحديث ، وكلها أمور خارقه للعادة . هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي ، وقد اختلف فيه أئمة أهل السُّنَّة . والظاهر من مساق قصته واستقراء أحواله ، مع قوله : { وما فعلته عن أمري } ؛ أنه نبي يوحى إليه بالتكاليف والأحكام ، كما أوحي إلى الأنبياء ، غير أنه ليس برسول .
---
(9/38)
وقوله : { لوشتت لَتَخِذْتَ عليه أجرًا ؛ هذه قراءة ابن كثير ، وأبي عمرون ويعقوب ، وقراءة غيرهم : { لاتَّخَذْتَ } ، وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ ، وهذه صدرت من موسى سؤالاً على جهة العرض ، لا الاعتراض ، فعند ذلك قال له الخضر : { هذا فراق بيني وبينك} ؛ أي : هذا وقت ذلك ، بحكم ما شرطتَ على نفسكَ ، ثم وعدَه بأن يُخبرَه بحكم تلك الأحكام ، فقال : { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } ؛ القراءة المتواترة بتخفيف السين ، جمع مسكين. سُمُّوا بذلك على جهة الشفقة والترحُّم ، وقيل : كانوا فيها أجراء ، وروي عن ابن عباس أنه قرأها : ( مسَّاكين ) بتشديد السين ؛ جمع مسَّاك ؛ لإمساكهم السفينة ، قيل : كانوا عشرة ، خمسة منهم يعملون في البحر ، وخمسة منهم زَمنى ، وقد تقدَّم الفرق بينَ المسكين والفقير في كتاب الزكاة .
وقوله : { وَكاَنَ وراءهُم مَلِك يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا } ؛ وراء في أصلها : بمعنى خلف ، فقال بعض المفسرين : إنه كان خلفهم ، وكان رجوعهم عليه ، والأكثر على أن معنى وراءَ هنا : أمام ، وهذا القول أولى لقراءة سعيد : ( وكان أمامَهم ) ، ولما يأتي في بقية الحديث ، وقال بعضهم : وراء : يكون من الأضداد . قال الشاعر :
أَترجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتي وقَومِي تَمِيمٌ وَالفَلاةُ وَرَائيا
أي : أمامي . وأصل هذا : أن كل ما توارى عنك فهو وراء ، وقيل : اسم هذا المَلِك : عدد بن بدد بن جُريج . وقال الكلبيُّ : الجَلَنْدى. والغصْب : أخذ مال الغير على جهة القهر والمجاهرة . وقد بيَّن وجهَ الحكمة في خرق السفينة الرواية الأخرى بقوله : (( فإذا جاءَ الذي يُسَخِّرُها وجدَها منخرقةً فيجاوزها ، فأصلحوها بخشبةٍ ، ويحصلُ من هذا : الحضُّ على الصبر في الشدائد ، فكم في ضمن ذلك المكروه من الفوائد ، وهذا معنى قوله تعالى : { وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم }.
---
(9/39)
وقوله : (( وأما الغلام فكان كافرًا )) ؛ هذا حديث مرفوع من رواية أُبَيِّ ، كما قال في الرواية الأخرى : (( طُبِع يوم طُبِع كافرًا )) ، وقد روي أن أبيًّا كان يقرأ : ( أما الغلام فكان كافرًا ، وكان أبواه مؤمنين ) ؛ وهذا محمول على أن أبيًّا فسَّر ، لا أنه قرأ كذلك ؛ لأنَّها لم يثبتها في المصحف ، وهو من جُملة كَتَبتِه . والجمهور على أن هذا الغلام لم يكن بلغ من التكليف ، وقد ذهب ابن جبير ، إلى أنه بلغ سن التكليف ، وقد حكي ذلك عن ابن عباس كما تقدَّم . والصحيح عنه أنه كان صغيرًا لم يبلغ كما تقدَّم من كتابه إلى نجدة الحروري ، كما ذكرناه في الجهاد ، وهذا هو المعروف من اسم الغلام كما قد تقدَّم . وإنما صار ابن جبير إلى ذلك لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان كافرًا ، والكفر والإيمان من صفات المكلَّفين ، ولا يطلق على غير مكلَّف إلا بحكم التبعية لأبويه ، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص ، فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ ، فتعيَّن أن يصار إليه ، وقد يُطلق الغلام على الكبير إذا كان قريبًا من زمان الغلومية توسُّعًا ، وهو موجود في كلام العرب ، كما قالت ليلى الأخيلية :
شفاها من الداءِ العضال الذي بها غلامٌ إذا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاها
وقال صفوان لحسَّان :
تلق ذُبابَ السَّيف عنِّي فإنَّنِي غلامٌ إذا هُوجيت ليس بشاعر
---
(9/40)
قلت : وما صار إليه الجمهور أولى تمسُّكًا بحقيقة لفظ الغلام ، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وأما الغلام فطبع يوم طُبع كافرًا )) ؛ أي : خلق قلبه على صفة قلب الكافر من القسَّوة ، والجهل ، ومحبَّة الفساد ، وضرر العباد ، ولقوله : (( ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا )) ؛ أي : لو بلغ . ولَمَّا علم الله تعالى ذلك منه ، أعلم الخضر بذلك ، وأمره بقتله ، فيكون قتله من باب دفع الضرر ، كقتل الحيَّات ، والسِّباع العادية ، لا من باب القتل المترتب على التكليف ، وهذا لا إشكال على أصول أهل السُّنَّة فيه ؛ فإن الله تعالى الفعَّالُ لما يريد ، القادر على ما يشاء لا يتوجه عليه وجوبٌ ، ولا حق ، ولا يثبت عليه لوم ولا حكم ، وأما على أصول أهل البدع القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين وما يتولَّد على ذلك من الأصول الفاسدة من التجويز ، والتعديل ، والإيجاب على الله تعالى ، فلا يلتفت إليها ، ولا يُعرج عليها ، لظهور فسادها ، كما بيَّنَّاه في الأصول.
وقوله : (( وكان أبواه قد عطفا عليه )) ؛ أي : أحياه ، وأقبلا عليه بشفقتهما ، وحنوِّهما ، فخاف الخضر ، لما أعلمه الله تعالى بمآل حاله أنه إن عاش لهما حتى يكبر ويستقل بنفسه حملهما بحكم محبتهما له أن يُطيعاه ويُوافقاه على ما يصدر عنه من الكفر والفساد ، فيكفران بذلك ، وهذا معنى قوله : { فخشينا أن يرهقهما طغينًا وكفرًا } ، وعلى هذا فيكون : { فخشينا } من كلام الخضر ، وهو الذى يشهد له مساق الكلام ، وهو قول كثير من المفسرين ، وذهب بعضهم إلى أنه من كلام الله تعالى ، وفسَّر { فخشينا } بمعنى : علمنا ، وحكى أن أُبي قرأها : ( فعلم ربُّك ). ومعنى { يرهقهما } : يلحق بهما ما يشق عليهما ، ويتعبهما ، والطغيان هنا : الزيادة في المفاسد .
---
(9/41)
وقوله : { فأردنا أن يُبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا } ، وهذا قول الخضر قطعًا ، وهو يشهد بأن قوله : { فخشينا } من قوله ، و{يبدلهما } ، قريء مشدَّدًا ومخففًا ، وهما لغتان . و{ زكاة } : منصوب على التمييز ؛ يعني : نماءً وصلاحًا ، ودينًا . و{ رُحْمًا} : معطوف على زكاة ؛ أي : رحمة ، يقال : رحمه رحمة ، ورحْمَى ، وألفه للتأنيث ، ومذكَّرُه رحم ، وقيل : إن الرُّحمى هنا بمعنى : الرَّحم ، قرأها ابن عباس ، وأوصل رُحْمًا ؛ أي : رَحِمًا . وحكي عنه : أنهما رزقا جارية ولدت نبيًّا . وقيل : كان من نسلها سبعون نبيًا ، ويفيد هذا تهوين المصائب بفقد الأولاد ؛ وإن كانوا قطعًا من أكباد ، ومن سلم للقضاء سفرت عاقبته عن اليد البيضاء .
وقوله : { وأمَّا الجدار فكان لغلمين في المدينة } ؛ قيل : اسمهما أصرم وأُصيرم ، وقد تقدَّم : أن اليُتْم في الناس من قبل فقد الأب ، وفي غيرهم من الحيوان من قبل الأم .
وقوله : { وكان تحته كنزٌ لهما } ؛ أي : تحت الجدار ، وظاهر الكنز أنه مال مكنوز ؛ أي مجموع . وقال ابن جبير : كان صحف العلم . وقال ابن عبَّاس : كان لوحًا من ذهب مكتوبًا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ! عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ! عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ! عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ! عجبت لمن يعرف الدنيا وتقليبها بأهلها كيف يطمئن إليها! لا إله إلا الله محمد رسول الله .
وقوله : { وكان أبوهما صالِحًا } ؛ قال أهل التفسير : إنه كان ، جدَّهما السابع ، وكان يُسمَّى كاسحًا . ففيه ما يدلّ : على أن الله تعالى يحفظ في الصالح في نفسه وفي ولده وإن بَعُدوا عنه ، وقد روي : أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذويه . وعلى هذا يدل قوله تعالى : { وإن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين }.
---
(9/42)
وقوله : { فأراد ربك أن يبلغا أشدَّهما } ؛ أي : قوتهما وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة . واختلف النحويون ؛ هل هو واحد على بناء الجمع ؛ كأنعم ، ولا نظير لهما من لفظهما . وكان سيبويه يقول : هو جمع ، واحده : شدة . قال الجوهري : وهو صحيح في المعنى ، لأنَّه يقال : بلغ الغلام شدَّته . ولكن لا تجمع فِعْلةٌ على أَفْعل ، وأما أنعم : فهو جمع : نعم من قولهم : يومٌ بُؤسٌ ، ويومٌ نُعْمٌ . وأما قول من قال : واحده شَدٍّ مثل كَلْبٍ وأَكْلَب ؛ فإنما هو قياس ، كما قالوا في واحد الأبابيل : أبُّول ، قياسًا على : عَجُّول ، وليس هو شيء سمع من العرب .
وقد أضاف الخضر ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضية استخراج كنز الغلامين لله تعالى ، وأضاف عيبَ السفينة إلى نفسه تنبيهًا على التأدُّب في إطلاق الكلمات على الله تعالى ، فيضاف إليه ما يستحسن منها ، ويطلق عليه ، ولا يضاف ما يستقبح منها إليه ، وهذا كما قاله تعالى : { بيدك الخير } ، واقتصر عليه ، ولم ينسب إليه ، وإن كان بيده الخير والشَّر ، والنَّفع والضر ؛ إذ هو على كل شيء قدير ، وبكل شيء خبير .
وقوله : (( وجاء عصفورٌ حتى وقع على حرف السَّفينة ، ثم نقر في البحر ، فقال الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر )) ؛ وحرف السفينة : طرفها . وحرف كل شيء : طرفه ، وشفيره ، وحدُّه . ومنه حرف الجبل : وهو أعلاه المحدَّد. والحرف : واحد حروف التَّهجي . والحرف : الكلمة . والحرف : اللغة ، كما تقدَّم . والحرف : الناقة الضامرة . والحرف : الجهة الواحدة . ومنه قوله تعالى : { ومن النَّاس من يعبد الله على حرف } ؛ أي : يعبده في الرَّخاء ، ولا يعبده في الشدَّة . والحرف : مأخوذ من الانحراف ، وهو الميل .
---
(9/43)
والعلم ها هنا : بمعنى : المعلوم ، كما قال تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه } ؛ أي : من معلوماته . وهذا من الخضر ـ صلى الله عليه وسلم ـ تمثيل ؛ أي : معلوماتي ومعلوماتك في علم الله تعالى لا أثر لها ، كما أن ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر . وإنما مثل له ذلك بالبحر ؛ لأنه أكبر ما نشاهده مما بين أيدينا . وهذا نحو مما قاله تعالى : { قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي }. وإطلاق لفظ النقص هنا تجوُّز قصد به التمثيل ، والتَّفهيم ؛ إذ لا نقص في علم الله تعالى ولا نهاية لمعلوماته . وقد أورد البخاري هذا اللفظ من رواية ابن جريج على لفظ أحسن مساقًا من هذا وأبعد عن الإشكال ، فقال : (( ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من البحر )) ؛ وهو مفسِّر للفظ كتاب مسلم . والله تعالى أعلم .
وفي هذا الحديث تنبية على أصول عظيمة :
منها : أن لله تعالى بحكم مِلْكه ومُلْكه أن يفعل ما يريد ، ويحكم في خلقه بما يشاء مما ينفعنا ، أو يضرنا ، فلا مدخل لعقولنا في أفعاله ، ولا معارضة لأحكامه ، بل يجب علينا الرضا والتسليم ، فإنَّ إدراك العقل لأسرار أحكام الربوبية قاصر سقيم ، فلا يتوجه عليه في فعله لِمَ ؟ وكيف ؟ كما لا يتوجه عليه في وجوده أين ؟ وحيث .
ومنها : أن العقل لا يحسن ، ولا يقبح ، وأن ذلك راجع إلى الشرع ، فما حسَّنه بالثناء عليه فهو حسن ، وما قبَّحه بالذم عليه فهو القبيح.
ومنها : أن لله تعالى فيما يجريه حكمًا وأسرارًا راعاها ، ومصالح راجعة إلى خلقه اعتبرها . كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه ، ولا حكمًا عقلي يتوجَّه إليه ، بل ذلك بحسب ما سبق في علمه ، ونافذ حكمه ، فما اطلع عليه من تلك الأسرار عرف ، وما لا فالعقل عنده يقف. وحذار من الاعتراض والإنكار ! فإنَّ ذلك إلى الخيبة وعذاب النَّار.
---
(9/44)
ومنها : أنَّه عالم بما كان ، وبما يكون ، وبما لا يكون : أن لو كان كيف كان يكون . وفوائد هذا الحديث كثيرة ، وعلومه غزيرة ، وفيما ذكرناه كفاية . والله الموفق للهداية .
تنبيه على مَغْلَطتين :
الأولى : وقع لبعض الجهَّال : أن الخضر أفضل من موسى عليهما السلام ؛ متمسِّكًا بهذه القصة ، وبما اشتملت عليه . وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة ، ولم ينظر في شيء من أحوال موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا فيما خصَّه الله تعالى به من الرسالة ، وسماع كلام الله تعالى المنزه عن الحروف والأصوات ، وإعطائه التوراة التي فيها علم كل شيء ، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته ، ومخاطبون بأحكام توراته حتى عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ألا ترى : أن الله تعالى قال : { إنا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} ، والإنجيل وإن كان هدى فليس فيه من الأحكام إلا قليل ، ولم يجيء عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناسخًا لأحكام التوراة ، بل معلمًا لها ، ومبيِّنًا أحكامها ، كما قال تعالى حكاية عنه : { ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل }. وعلى هذا فهو أَمَامَهم ، وإِمامهم ، وأعلمهم ، وأفضلهم . ويكفي من ذلك قوله تعالى : { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } ، وأن موسى من أولي العزم من الرسل ، وأن أول من ينشق عنه القبر نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فيجد موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ متعلقًا بساق العرش ، وأنه ليس في محشر يوم القيامة أكثر من أمَّته بعد أمَّة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إلى غير ذلك من فضائله .
---
(9/45)
فأما الخضر ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يُتَّفق على أنَّه نبي ، بل هو أمرٌ مختلف فيه ؛ هل هو نبي أو ولي ، فإنَّ كان نبيًا فليس برسول بالاتفاق ؛ إذ لم يقل أحدٌ : أن الخضر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسل إلى أمَّة ، والرَّسول أفضل من نبي ليس برسول . وإن تنزلنا على أنه رسول ؛ فرسالة موسى أعظم ، وأمَّته أكثر ، فهو أفضل . وإن قلنا : إن الخضر كان وليًا ؛ فلا إشكال أن النبي أفضل من الولي . وهذا أمرٌ مقطوع به عقلاً ونقلاً ، والصائر إلى خلافه كافر ، فإنَّه أمرٌ معلوم من الشرائع بالضرورة ؛ ولأنه واحد من أمَّة موسى ، أو غيره من الأنبياء ، ونبي كل أمَّة أفضل منها قطعًا ، آحادًا وجمعًا ؛ وإنَّما كانت قصة موسى مع الخضر امتحانًا لموسى ليتأدَّب ويعتبر ، كما قد ابتلي غيره من الأنبياء بأنواع من المحن والبلاء .
المغلطة الثانية : ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق يلزم منه هَدُّ الأحكام الشرعية ، فقالوا : هذه الأحكام الشرعية إنما يحكم بها على الأغنياء والعامة ، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص ، بل : إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم . قالوا : وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار ، وخلوّها عن الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية ، والحقائق الربانية ، فيقفون على أسرار الكائنات ، ويعلمون أحكام الجزئيات ، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع والكليات ، كما اتَّفق للخضر ؛ فإنَّه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم عما كان عند موسى من تلك الفهوم . وقد جاء فيما ينقلون : استفت قلبك وإن أفتاك المفتون .
---
(9/46)
قلت : وهذا القول زندقة ، وكفر يُقتل قائله ، ولا يستتاب ؛ لأنَّه إنكار ما علم من الشرائع ، فإنَّ الله تعالى قد أجرى سُنَّه ، وأنفذ حكمته ؛ بأنَّ أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه ، وبين خلقه ، وهم المبلغون عنه رسالاته وكلامه ، المبينون شرائعه وأحكامه ، اختارهم لذلك وخصَّهم بما هنالك ، كما قال الله تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } ، وقال : { الله أعلم حيث يجعل رسالته} ، وقال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } ، وأمر بطاعتهم في كل ما جاؤوا به ، وأخبر : أن الهدى في طاعتهم ، والاقتداء بهم ، في غير موضع من كتابه ، وعلى ألسنة رسله ، كقوله تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } ، وكقوله : { وما أرسلنا من رسولٍ إلا ليطاع بإذن الله } ، وقال : {أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده } ، وقال : { وإن تطيعوه تهتدوا } ، وقال في ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكم بهما ، كتاب الله ، وسُنَّة نبيه )). ومثل هذا لا يُحصى كثرة .
---
(9/47)
وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي ، واليقين الضروري ، وإجماع السَّلف ، رالخلف : على ألأ طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه ، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل الكرام. فمن قال : إن هناك طريقًا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يُستغنى بها عن الرسل ، فهو كافر ، يقتل ولا يستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب ، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله ، فلا نبي بعده ولا رسول ، وبيان ذلك : أنه من قال : يأخذ عن قلبه ، وإن ما وقع فيه هو حكم الله ، وأنه يعمل بمقتضاه ، وإنه لا يحتاج في ذلك إلى كتاب ولا سنة ، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة ، فإنَّ هذا نحو مما قاله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن روح القدس نفث في روعي )) ، ولقد سمعنا عن بعض الممخرقين المتظاهرين بالدِّين أنه قال : أنا لا آخذ عن الموتى ؛ وإنَّما آخذ عن الحي الذي لا يموت ، وإنما أروي عن قلبي عن ربي ، ومثل هذا كثير ، فنسأل الله الهداية ، والعصمة ، وسلوك طريق سلف هذه الأمَّة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن باب وفاة موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قوله : (( جاء ملك الموت إلى موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : أجب ربَّك ، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها ، فرجع إلى ربِّه فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت )) ؛ ظاهر هذا الحديث : أن ملك الموت تمثل لموسى في صورة لها عين ، وأنه دعاه لقبض روحه ، وأن موسى عرف أنه ملك الموت ، وأنه لطمه بيده على عينه ففقاها ، ولما ظهر هذا من هذا الحديث شنَّعته الملحدة ، وقالوا : إن هذا كله محال ، ولا يصح .
---
(9/48)
وقد اختلفت أقوال علمائنا في تأويل هذا الحديث . فقال بعضهم : كانت عينًا متخيَّلة لا حقيقية. ومنهم من قال : هي عين معنوية . وإنما فقأها بالحجَّة ، وهذان القولان لا يلتفت إليهما لظهور فسادهما ، وخصوصًا الأول ؛ فإنَّه يؤدي إلى : أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له ، وهو قول باطل بالنصوص المنقولة ، والأدلة المعقولة . ومنهم من قال : كان ذلك ابتلاء وامتحانًا لملك الموت ؛ فإنَّ الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء . وهذا ليس بجواب ، فإنَّه إنما وقع الإشكال في صدور سبب هذا الإمتحان من موسى ، وكيف يجوز وقوع مثل هذا ؟ وأشبه ما قيل فيه : ما قاله الشيخ الإمام أبو بكر بن خزيمة ؛ وهو أن موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعرف ملك الموت ، وأنه رأى رجلاً دخل في منزله بغير إذنه يريد نفسه ، فدافع عن نفسه ، فلطم عينه ، ففقاها . وتجب المدافعة في مثل هذا بكل ممكن . وهذا وجه حسن ، غير أن هذا اعترض عليه بما في الحديث ، وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال : (( يا رب ! أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت )) ، فلو لم يعرفه موسى - وإنما دفعه عن نفسه - لما صدق هذا القول من ملك الموت .
---
(9/49)
قلت : وقد أظهر لي ذو الطول والإفضال وجهًا حسنًا يحسم مادة الإشكال ؛ وهو أن موسى عَرَف ملك الموت ، وأنه جاء ليقبض روحه ، لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير ، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من : (( أن الله تعالى لا يقبض روح نبي حتى يخيره )) ؛ فلمَّا جاءه على غير الوجه الذي عَلِم به ، بادر بشهامته ، وقوة نفسه إلى أدب ملك الموت ، فلطمه فانفقأت عينه امتحانًا لملك الموت ؛ إذ لم يصرح له بالتخيير ، ومما يدل على صحة هذا : أنه لما رجع إليه ملك الموت ، فخيَّره بين الحياة والموت ؛ اختار الموت واستسلم ، وهذا الوجه - إن شاء الله - أحسن ما قيل فيه وأسلم ، وقد تقدَّم القول في تمثل الملائكة في الصور المختلفة عقلاً ، وثبوت وقوع ذلك نقلاً .
وقوله : (( قال : أي رب ! ثم مه ؟ قال ؟ ثم الموت . قال : فالآن )) ؛ (( مه )) : هي ما الاستفهامية ، لما وقف عليها زاد عليها هاء السكت وهي : لغة العرب إذا وقفوا على أسماء الاستفهام ، نحو : عمه ، ولمه ، وفيمه ، فإذا وصلوا حذفوها . و(( فالآن )) : ظرف زمان غير متمكن ، وهو اسم لزمان الحال الذي يكون المتكلم عليها ، وهو الزمان الفاصل بين الماضي والمستقبل ، وهذا يدلّ على : أن موسى لما خيَّره الله بين الحياة والموت ؛ اختار الموت شوقًا للقاء الله عز وجل ، واستعجالاً لما له عند الله من الثواب والخير ، واستراحة من الدنيا الكدره . وهذا كما خُيِّر نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند موته ، فقال : (( اللهم الرفيق الأعلى )).
وقوله : (( فسأل الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر )) ؛ أي : مقدار رمية بحجر ، فهو منصوب على أنه ظرف مكان . والأرض المقدسة : هي البيت المقدَّس ؛ وإنَّما سأل موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك تبركًا بالكون في تلك البقعة ، وليدفن مع من فيها من الأنبياء ، والأولياء ؛ ولأنها أرض المحشر على ما قيل.
---
(9/50)
وقوله : (( ولو كنت ثمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر )) ؛ ثمَّ - مفتوحة الثاء - : اسم يشار به إلى موضع ، فأمَّا ثمَّ -بضم الثاء - : فحرف عطف . ويخي بالطريق : طريق بيت المقدس ، وقد تقدم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ في طريقه إلى بيت المقدس - ليلة أسري به - بقبر موسى وهو قائم يصلي فيه ، وهذا يدل على أن قبر موسى أخفاه الله تعالى عن الخلق ، ولم يجعله مشهورًا عندهم ، ولعل ذلك لئلا يُعْبَد ، والله أعلم. وقد وقع في الرواية الأخرى : (( إلى جانب الطور )) مكان : ((الطريق )). والطور : الجبل بالسريانية ، وقال أيضًا في الرواية الأخرى : ((فما توارت يدك )) مكان : (( غطَّت يدك )) ، وهو بمعناه . والتاء فيه زائدة ؛ لأنَّ معناه : وارت ، والله أعلم.
ومن باب ذكر يونس وبوسف وزكريا عليهم السلام
قوله : (( لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى )) ؛ أي لا يصلح ، ولا يجوز . و(( لعبدٍ )) : منوَّن مُنكر ؛ أي : لعبد من عباد الله ، وفي الرواية الأخرى : (( لعبدي )) بإضافته إلى ياء المتكلم ، وهو الله تعالى في هذه الرواية ، فيحتمل أن يراد به النكرة ، فتكون إضافته غير محضة ، كما قال الشاعر :
وسائلي بمزعجي عن وطني ما ضاقَ بي جنابُه ولا نبا
---
(9/51)
فأدخل (( ربَّ )) على (( سائلي )) ؛ مع أنه مضاف إلى ياء المتكلم ، فدل على : أنه لم يرد به سائلاً واحدًا ، فكأنه قال : ورب سائل ، وكذلك الوطن في قوله : عن وطني ؛ لأن الجملة التي بعده صفة له ؛ أي : عن وطن لم ينب بي جنابه ؛ أي : غير ناب. ويصح أن تكون إضافة (( عبدي )) محضة ومعرفة ، ويعني به : عبدي المكرم عندي ، كما قال : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ؛ أي : عبادي المكرمون عندي ، والمشرفون لدي ، وقد شهد لهذا المعنى ما قد روي في كتاب أبي داود في هذا الحديث : (( لا ينبغي لنبي أن يقول : أنا خير من يونس )) ؛ كما قد روي أيضًا ما يشهد بتنكير (( عبد )) في كتاب مسلم : (( لا أقول : إن أحدًا أفضل من يونس )) ، وعلى هذا فيقيد مطلق الرواية الأولى بمقيد هذه الرواية ، فيكون معناه : لا ينبغي لعبد نبي أن يقول : أنا خير من يونس . وهذا هو الأولى ؛ لأنَّه من ليس بنبي لا يمكنه بوجه أن يقول : أنا أفضل من النبي ؛ لأنه من المعلوم الضروري عند المتشرعين : أن درجة النبي لا يبلغها ولن ، ولا غيره ؛ وإنما يمكن ذلك في الأنبياء ، لأنهم صلوات الله وسلامه عليهم قد تساووا في النبوة ، وتفاضلوا فيما بينهم بما خصَّ به بعضهم دون بعض ؛ فإنَّ منهم من اتخذه الله خليلاً ، ومنهم من اتخذه حبيبًا ، ومنهم أولو العزم ، ومنهم من كلَّم الله على ما هو المعروف من أحوالهم ، وقد قال الله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } ، فإن قيل : إذا كانوا متفاضلين في أنفسهم فكيف ينهي عن التفضيل ؟ وكيف لا يقول من هو في درجة عليا : أنا خير من فلان ، لمن هو دونه ، على جهة الإخبار عن المعنى الصحيح ؟ فالجواب : أن مقتضى هذا الحديث المنع من إطلاق ذلك اللفظ ، لا المنع من اعتقاد معناه أدبًا مع يونس ، وتحذيرًا من أن يفهم في يونس نقص من إطلاق ذلك اللفظ . وإنما خصَّ يونس ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالذكر في هذا الحديث ؛ لأنَّه لما دعا قومه للدخول في
(9/52)
دينه ، فأبطؤوا عليه ضجر ،
---
واستعجل بالدعاء عليهم ، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث ، وفرَّ منهم ، فرأى قومه دخانًا ، ومقدمات العذاب الذي وعدهم به ، فآمنوا به ، وصدَّقوه ، وتابوا إلى الله تعالى ، فردُّوا المظالم حتى ردُّوا حجارة مغصوبة كانوا بنوها ، ثم إنهم فرقوا بين الأمهات وأولادهم ، ودعوا الله تعالى ، وضجُّوا بالبكاء والعويل ، وخرجوا طالبين يونس فلم يجدوه ، فلم يزالوا كذلك حتى كشف الله عنهم العذاب ، ومنعهم إلى حين ، وهم أهل نينوى من بلاد الموصل على شاطىء دجلة ، ثم إن يونس ركب في سفينة فسكنت ولم تجر ، فقال أهلها : فيكم آبق . فقال : أنا هو . فأبوا أن يكون هو الآبق فقارعهم ، فخرجت القرعة عليه ، فرمي في البحر ، فالتقمه حوت كبير ، فأقام في بطنه ما شاء الله ، وقد اختلف في عدد ذلك من يوم إلى أربعين ، وهو في تلك المدة يدعو الله تعالى ، ويسبحه إلى أن عفا الله عنه ، فلفظه الحوت في ساحل لا نبات فيه ، وهو كالفرخ ، فأنبت اللة تعالى عليه من حينه شجرة اليقطين ، فسترته بورقها . وحكى أهل التفسير : أن الله تعالى : قيض له أروى ترضعه إلى أن قوي ، فيبست الشجرة ، فاغتم لها وتألم ، فقيل له : أتغتم وتحزن لهلاك شجرة ، ولم تغتم على هلاك مائة ألف أو يزيدون ؟ وقد دلَّ على صحَّة ما ذكر قوله تعالى : { وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون ...} الآيات إلى آخرها ، وقد روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( إن للنبوة أثقالاً ، كاد يونس يتفسخ تحتها تفسُّخَ الرُّبَع )) ، أو كما قال .
---
(9/53)
قلت : ولما جرى هذا ليونس ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأطلق الله تعالى عليه : أنه {مليم } ؛ أي : أتى بما يلام عليه . قال الله تعالى على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس )) ؛ لأن ذلك يوهم نقصًا في نبوته ، وقدحًا في درجته ، وقد بيَّنَّا أن (( لعبد )) هنا بمعنى لنبي ، وقد قيل : إنه محمول على غير الأنبياء ، ويكون معناه : لا يظن أحد ممن ليس بنبي - وإن بلغ من العلم والفضل والمنازل الرفيعة ، والمقامات الشريفة الغاية القصوى - أنه يبلغ مرتبة يونس ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنَّ أقل مراتب النبوة لا يلحقها من ليس من الأنبياء ، وهذا المعنى صحيح ، والذي صدرنا به الكلام أحسن منه ، والله تعالى أعلم .
---
(9/54)
وقول السائل : (( من أكرم الناس ؟ )) معناه : من أولى بهذا الاسم ؛ ولذلك أجابه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجواب كُلِّي ، فقال : (( أتقاهم )) ، وهذا منتزع من قوله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ، فلما قالوا : ليس عن هذا نسألك ، نزل عن ذلك إلى ما يقابله ، وهو الخصوص بشخص معين ، فقال : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ؛ لأنَّه نبي بن نبي بن نبي بن نبي ، فإنَّ هذا لم يجتمع لغيره من ولد آدم ، فهو أحق الناس المعنيين بهذا الاسم . فلما قالوا : ليس عن هذا نسألك تبين له : أنهم سألوه عمن هو أحق بهذا الاسم من العرب ، فأجابهم بقوله : ((فعن معادن العرب تسألوني ؟ )) أي : عن أكرم أصولها ، وقبائلها ؟ وقد تقدَّم أن المعدن هو مأخوذ من عَدَن ؛ أي : أقام ، والعَدْن : الإقامة ، ولما كانت أصول قبائل العرب ثابتة سميت معادن . ثم قال : (( خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )) ؛ فمعنى هذا : أن من اجتمع له خصال شرف زمن الجاهلية من : شرف الآباء ، ومكارم الأخلاق ، وصنائع المعروف ، مع شرف دين الإسلام ، والتفقه فيه ، فهو الأحق بهذا الاسم ، وقد تقدَّم أن الكرم : كثرة الخير والنفع ، ولما كان تقوى الله تعالى هو الذي حصل به خير الدنيا والآخرة مطلقًا كان المنصف به أحق ؛ فإنَّه أكرم الناس ، لكن هذه قضية عامة ، فلما نظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمن تعتين في الوجود بهذه الصفة ، ظهر له أن الأنبياء أحق بهذا المعنى ؛ إذ لا يبلغ أحد درجتهم ، وإن أحقَّهم بذلك من كان مُعْرِقًا في النبوة ، وليس ذلك إلا ليوسف ، كما ذكر . ويخرج منه الرد على من قال : إن إخوة يوسف كانوا أنبياء ؛ إذ لو كانوا كذلك لشاركوا يوسف في ذلك المعنى ، ثم إنه لما نظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين الأعم والأخص ظهر أن الأحق بذلك المعنى : نوع من الأنواع المتوسطة بين الجنس الأعم ، والنوع الأخص ، وظهر له أنهم أشراف العرب ،
(9/55)
ورؤساؤهم إذا تفقهوا في الدين ، وعلموا وعملوا ، فحازوا كل الرتب الفاخرة ؛ إذ
---
اجتمع لهم شرف الدنيا والآخرة .
وفيه ما يدلّ على شرف الفقه في الدين ، وأن العالم يجوز له أن يجيب بحسب ما يظهر له ، ولا يلزمه أن يستفصل السائل عن تعيين الاحتمالات ، إلا إن خاف على السائل غلطًا ، أو سوء فهما ، فيستفصله ، كما قررناه في الأصول .
وقوله : (( كان زكريا نجارًا )) ؛ يدل : على شرف النجارة ، وعلى أن التحرُّف بالصناعات لا يغض من مناصب أهل الفضائل ، بل نقول : إن الحرف والصناعات غير الركيكة زيادة في فضيلة أهل الفضل ، يحصل لهم بذلك التواضع في أنفسهم ، والاستنناء عن غيرهم ، وكسب الحلال الخلت عن الامتنان الذي هو خير المكاسب ، كما قد نصَّ عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال : (( إن خير ما أكل المرء من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده )). وقد نقل عن كثير من الأنبياء أنهم كانوا يحاولون الأعمال . فأولهم آدم ـ صلى الله عليه وسلم ـ علَّمه الله صناعة الحراثة ، ونوح ـ صلى الله عليه وسلم ـ علمه الله صناعة النجارة ، وداود ـ صلى الله عليه وسلم ـ علَّمه الله صناعة الحدادة ، وقيل : إن موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان كاتبًا ، كان يكتب التوراة بيده ، وكلهم قد رعى الغنم كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليهم أجمعين .
ومن باب قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تخيروا بين الأنبياء )).
---
(9/56)
أى : لا تقولوا فلان خير من فلان ، وفي الرواية الأخرى : (( لا تفضلوا )) ؛ أي : لا تقولوا فلان أفضل من فلان . يقال : خيَّر فلان بين فلان وفلان . وفضَّل- مشدَّدًا - : إذا قال ذلك . واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث على أقوال ، فمنهم من قال : إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، ويتضمَّن هذا الكلام : أن الحديث معارض لقوله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } ، ولِمَا في معنى ذلك من الأحاديث ، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل ، وهذا لا يصح حتى تتحفق المعارضة حيث لا يمكن الجمع بوجه ، وحتى يُعرف التاريخ ، وكل ذلك غير صحيح على ما يأتي ، فليس هذا القول بصحيح ، ومنهم من قال : إنما قال ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جهة التواضع ، والأدب مع الأنبياء ، وهذا فيه بُعد ؛ لأنَّ السبب الذي خرج عليه هذا النهي يقتضي خلاف ذلك ، فإنَّه إنما قال ذلك ردعًا وزجرًا للذي فضَّل . ألا ترى أنه قد غضب عليه حتى احمر وجهه ، ونهى عن ذلك ، فدلَّ على أن التفضيل يحرم . ولو كان من باب الأدب والتواضع لما صدر منه ذلك . ومنهم من قال : إنما نهى عن الخوض في ذلك ؛ لأنَّ ذلك ذريعة إلى الجدال في ذلك ، فيؤدى إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ، ويقل احترامهم عند المماراة ، وهذا كما نهي عنه من الجدال في القرآن والمماراة . ومنهم من قال : مقتضى هذا النهي : إنما هو المنع من تفضيل معيَّن من الأنبياء على معيَّن ، أو على ما يقصد به معيَّن ، وإن كان اللفظ عامًا ؛ لأنَّ ذلك قد يفهم منه نقص في المفضول كما بيَّنَّاه ، فيما تقدَّم .
---
(9/57)
قلت : ويدلّ على ذلك : أنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث في "الأم" : (( ألا تفضلوني على موسى )) ، وبدليل قوله : (( ولا أقول إن أحدًا أفضل من يونس بن متى )) ، فإنَّ قيل : فالحديث يدلّ على خلاف هذا ، فإنَّ اليهودي فضل موسى على البشر . والمسلم قال : والذي اصطفى محمدًا على البشر . وعند ذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تفضلوا بين الأنبياء ، ولا تخيروا بين الأنبياء )) ؛ فاقتضى ذلك المنع من التفضيل مطلقًا معينًا وغير معين ، فالجواب : أن مراد اليهودي كان إذ ذاك أن يصرح بأن موسى أفضك من محمد ، لكنَّه لم يقدر على ذلك خوفًا على نفسه ، ألا ترى أن المسلم فهم ذلك عنه ، فأجابه بما يقتضي أن محمدًا أفضل من موسى ، غير أنَّه قابل لفظ اليهودي بمثله ، وقد بيَّن ذلك غاية البيان قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تفضلوني على موسى )) ؛ فنهاهم عن ذلك ، ثم إنا قد وجدنا نبيَّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( أنا أكرم ولد آدم على ربي )) ، و(( أنا سيد ولد آدم )) ، ولم يذهب أحدٌ من العلماء إلى أن هذا منسوخ ، ولا مرجوح .
---
(9/58)
قلت : وهذا الوجه كان حسنًا ، فأولى منه أن يحمل الحديث على ظاهره من منع إطلاق لفظ التفضيل ليس الأنبياء ، فلا يجوز في المعين منهم ، ولا في غيره ، فلا يقال : فلان النبي أفضل من الأنبياء كلهم ، ولا من فلان ، ولا خير ، كما هو ظاهر هذا النهي ، لما ذكر من توهم النقص في المفضول ، وإن كان غير معين ؛ ولأن النبوة خصلة واحدة لا تفاضل فيها ؛ وإنَّما تفاضلوا بأمور غيرها كما بيَّناه قبل هذا الباب . ثم إن هذا النهي يقتضي منع إطلاق ذلك اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى ، فإنَّ الله تعالى قد أخبرنا بأن الرسل متفاضلون كما قال تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } ، وكما قد علمنا أن نبينا قد خُصَّ بخصائص من الكرامات والفضائل بما لم يُخصّ به أحدٌ منهم ، ومع ذلك فلا نقول : نبينا خير من الأنبياء ، ولا من فلان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما نهى عنه ، وتأدبًا بأدبه ، وعملاً باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل ، ورفعا لما يتوهم من المعارضة بين السُّنَّة والتنزيل .
وقوله : (( إنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله )) ؛ أصل الصعق ، والضنقة : الصوت الشديد المنكر ، كصوت الرعد ، وصوت الحمار ، وقد يكون معه موت لشدَّته . وهو المراد بقوله : { فصعق من فى السموات ومن فى الأرض } ، وقد تكون معه غشية ، وهو المراد بقوله تعالى : { وخرَّ موسى صعقًا } ، فإنَّ كان معه نار فهو الصاعقة ، والعرب كلها تقدم العين على القاف إلا بني تميم ؛ فإنَّهم يقدمون القاف على العين ، فيقولون : الصاقعة ، حكاها القاضي عياض .
وقد اختلف في المستثنى : من هو ؟ فقيل : الملائكة ، وقيل : الأنبياء ، وقيل : الشهداء . والصحيح : أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح ، والكل محتمل ، والله تعالى أعلم .
---
(9/59)
و (( الصُّور )) قيل : إنه جمع صورة ، والصحيح ما قد صح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( الصُّور قرن ينفخ فيه )). وسياتي له مزيد بيان . واختلف في عدد النفخات ، فقيل : ثلاثة : نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة البعث . وقيل : هما نفختان : نفخة الفزع هي نفخة الصعق ؛ لأنَّ الأمرين لازمان لها . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( ثم ينفخ فيه أخرى ، فأكون أول من يبعث ، أو : في أول من يبعث )) ؛ هذا من الراوي تزيله الرواية الأخرى التي قال فيها : ((فأكون أول من يفيق )) ، وكذلك الحديث المتقذم الذي قال فيه : (( أنا أول من ينشق عنه القبر ويبعث )) ؛ يعني به : يحيا بعد موته ، وهو الذي عبر عنه في الرواية الأخرى بـ(( أفيق )) ، وإن كان المعروف : أن الإفاقة إنما هي من الغشية ، والبعث من الموت ، لكنهما لتقارب معناهما أطلق أحدهما مكان الآخر ، ويحتمل أن يراد بالبعث الإفاقة على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( فإذا موسى متعلِّق بالعرش )) ؛ هذا من موسى تعلق نزع لهول المطلع ، وكأنه متحرِّم بذلك المحل الشريف ، ومتمسك بالفضل المنيف .
---
(9/60)
وقوله : (( فلا أدرى أحوسب بصعقة الطور ، أو بعث قبلي )) ؛ هذا مشكل بالمعلوم من الأحاديث الدَّالة على أن موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قد توفي وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد رآه في قبره ، وبأن المعلوم المتواتر : أنه توفي بعد أن ظهر دينه ، وكثرت أمَّته ، ودفن بالأرض ، ووجه الإشكال : أن نفخة الصَّعق إنما يموت بها من كان حيًّا في هذه الدار ، فأمَّا من مات فيستحيل أن يموت مرة أخرى ؛ لأنَّ الحاصل لا يستحصل ، ولا يبتغى ؛ وإنما ينفخ في الموتى نفخة البعث ، وموسى قد مات ، فلا يصحُّ أن يموت مرَّة أخرى ، ولا يصحُّ أن يكون مستثنى ممن صُعق ؛ لأنَّ الممستثنين أحياء لم يموتوا ، ولا يموتون ، فلا يصحُّ اسثناؤهم من الموتى ، وقد رام بعضهم الإنفصال عن هذا الإشكال ، فقال : يحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء ، وهذا قول باطل قطعًا بما ذكرناه . قال القاضي عياض : يحتمل أن المراد بهذه الصعقة : صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السموات والأرضون ، قال : فتستقل الأحاديث والآيات .
قلت : وهذه غفلة عن مساق الحديث ؛ فإنَّه يدلّ على بطلان ما ذكر دلالة واضحة ، فإنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : إنه حين يخرج من القبر فيلقى موسى ، وهو متعلق بالعرش ، وهذا كان عند نفخة البعث ، ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما يرى موسى يقع له تردد في موسى على ظاهر هذا الحديث ، هل مات عند نفخة الصعق المتقدِّمة على نفخة البعث ، فيكون قد بعث قبله ، أو لم يمت عند نفخة الصعق لأجل الصعقة التي صعقها على الطور ، جعلت له تلك عوضًا من هذه الصعقة ، وعلى هذا فكان حيًّا حالة نفخة الصعق ، ولم يصعق ، ولم يمت ، وحينئذ يبقى الإشكال إذ لم يحصل عنه انفصال .
---
(9/61)
قلت : والذي يُزيحه -إن شاء الله تعالى - أن يقال : إن الموت ليس بعدم ؛ وإنَّما هو انتقال من حالٍ إلى حال ، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدَّم ، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين ، فهذه صفات الأحياء في الدُّنيا ، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى ، مع أنه قد صحَّ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء )) ، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس ، وفي السماء ، وخصوصًا بموسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد أخبرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يقتضي أن الله تعالى يرد عليه روحه حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه ، إلى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى ، وهو كثير بحيث يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أنهم غيبوا عنا بحيث لا ندركهم ، وإن كانوا موجودين أحياء ، وذلك كالحال في الملائكة فإنَّهم موجودون أحياء ، ولا يراهم أحدٌ من نوعنا إلا من خصَّه الله بكرامة من أوليائه ، وإذا تقرر أنهم أحياء فهم فيما بين السماء والأرض ؛ فاذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق كل من في السموات والأرض إلا من شاء الله ، فأمَّا صعق غير الأنبياء فموت ، وأما صعق الأنبياء ، فالأظهر أنه غشية ، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث ممن مات حيي ، ومن غشي عليه أفاق ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((فأكون أول من يفيق )) ؛ وهي رواية صحيحة وحسنة. فهذا الذي ظهر لي ، والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
(9/62)
وقد تحصل من هذا الحديث : أن نبينا محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُحَقَّقٌ أنه أول من يفيق ، وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم ؛ الأنبياء وغيرهم ، إلا موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنَّه حصل له فيه تردد : هل بعث قبله ، أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق ، وعلى أي الحالين كان فهي فضيلة عظيمة لموسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليست لغيره ، والله تعالى أعلم .
---
الحمد لله ربِّ العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين ،
حسبنا الله تعالى ونعم الوكيل . علَّقه الفقير إلى الله تعالى محمد بن عيسى بن محمد بن دريك عفا الله عنهم .
نجز الجزء الثالث من المفهم بشرح كتاب مسلم ، يتلوه -إن شاء الله تعالى كتاب : فضائل الصحابة ، والحمد لله .
اللهم يسر لنا طريقًا إلى العلم ، وتوفيقًا إلى الفهم ، وأصلح نياتنا فيهما ، إنك لما تشاء فعَّال ، وأنت حسبنا ونعم الوكيل .
ومن باب فضائل أبي بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ
واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرَّة بن كعب بن لؤي. يجتمع نسبه مع نسب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرَّة بن كعب ، وسَمَّاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصِّدِّيق ، رواه عنه علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ ، وسَمَّاه بذلك لكثرة تصديقه . ويُسمَّى بعتيق ، وفي تسميته بذلك ثلاثة أقوال :
أحدها : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من أراد أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر )) ؛ روته عائشة.
والثاني : أنه اسم سمَّته به أمُّه ، قاله موسى بن طلحة .
(9/63)
والثالث : أنه سُمِّي بذلك لجمال وجهه ، قاله الليث بن سعد ، وقال ابن قتيبة : لقبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك لجمال وجهه ، وهو أول من أسلم من الرجال ، وقد أسلم على يديه من العشرة المشهود لهم بالجنة خمسة : عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ـ رضى الله عنهم ـ .
قال الإمام الحافظ أبو الفرج الجوزي : جملة ما حفظ له من الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مائة واثنان وأربعون حديثًا ، أخرج له منها في الصحيحين ثمانية عشر حديثًا .
---
قلت : ومن المعلوم القطعي ، واليقين الضررري أنه حفظ من حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لم يحفظ أحدٌ من الصحابة ، وحصل له من العلم ما لم يحصل لأحد منهم ؛ لأنَّه كان الخليل المباطن ، والصَّفي الملازم ، لم يفارقه سفرًا ولا حضرًا ، ولا ليلاً ولا نهارًا ، ولا شدَّة ولا رخاءً ؛ وإنَّما لم يتفرغ للحديث ، ولا للرواية ؛ لأنَّه اشتغل بالأهم فالأهم ؛ ولأن غيره قد قام عنه من الرواية بالمهم .
---
(9/64)
وإذا تقرر ذلك فاعلم : أن الفضائل جمع فضيلة ، كرغائب جمع رغيبة ، وكبائر جمع كبيرة ، وهو كثير ، وأصلها الخضلة الجميلة التي بها يحصل للانسان شرف ، وعلو منزلة وقدر ، ثم ذلك الشَّرف ، وذلك الفضل إما عند الخلق ، وإما عند الخالق ، فأمَّا الأول : فلا يلتفت إليه إن لم يوصل إلى الشرف المعتبر عند الخالق . فإذًا : الشرف المعتبر ، والفضل المطلوب على التحقيق ، إنما هو الذي هو شرف عند الله تعالى . وإذا تقرر هذا ؛ فاذا قلنا إن أحدًا من الضحابة ـ رضى الله عنهم ـ فاضل ، فمعناه أن له منزلة شريفة عند الله تعالى ، وهذا لا يتوصل إليه بالعقل قطعًا ، فلا بدَّ أن يرجع ذلك إلى النقل ، والنقل إنما يُتلقى من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإذا أخبرنا الرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء من ذلك تلقيناه بالقبول ؛ فإنَّ كان قطعيًا حصل لنا العلم بذلك ، وإن لم يكن قطعيًا كان ذلك كسبيل المجتهدات على ما تقدَّم ، وعلى ما ذكرناه في الأصول ، وإذا لم يكن لنا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالخبر ، فلا يقطع أحد بأن من صدرت منه أفعال دينية وخصال محمودة ، بأن ذلك قد بلَّغه عند الله منزلة الفضل والشرف ، فإنَّ ذلك أمر غيب ، والأعمال بالخواتيم ، والخاتمة مجهولة ، والوقوف على المجهول مجهول ، لكنَّا إذا رأينا من أعانه الله على الخير ، ويسر له أسباب الخير رجونا له حصول تلك المنزلة عند الله تمسُّكًا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله في الخير ، ووفقه لعمل صالح )). وبما جاء في الشريعة من ذلك ، ومن كان كذلك : فالظَّنُّ أنه لا يخيب ، ولا يقطع على المغيب ، وإذا تقرر هذا فالمقطوع بفضله ، وأفضليته بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند أهل السُّنَّة - وهو الذي يقطع به من الكتاب والسُّنَّة - أبو بكر الصِّدِّيق ـ رضى الله عنه ـ ، ثم عمر الفاروق ، ولم يختلف في ذلك أحدٌ من أئمة السَّلف ، ولا الخلف ، ولا
(9/65)
مبالاة بأقوال أهل الشيع ، ولا أهل البدع ، فإنهم بين مُكفَّر تُضرب رقبته ، وبين مبتدع مُفسَّق لا تُقبل كلمته ، وقد حض
---
حُجَّته .
وقد اختلف أئمة أهل السُّنَّة في علي وعثمان رضي الله عنهما ؛ فالجمهور منهم على تقديم عثمان ، وقد روي عن مالك أنه توقف في ذلك ، وروي عنه أنه رجع إلى ما عليه الجمهور ، وهو الأصح إن شاء الله ، والمسألة اجتهادية لا قطعية ، ومستندها الكلِّي أن هؤلاء الأربعة : هم الذين اختارهم الله تعالى لخلافة نبيَّه ، ولإقامة دينه ، فمراتبهم عنده بحسب ترتيبهم في الخلافة ، إلى ما ينضافُ إليه مما يشهد لكل واحدٍ منهم من شهادات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له بذلك تأصيلاً وتفصيلاً ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى . وهذا الباب بحر لا يدرك قعره ، ولا يُنزف غمره ، وفيما ذكرناه كفاية ، والله الموفق للهداية .
---
(9/66)
وقول أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ : (( نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار )) ؛ كان من قصته : أن المشركين اجتمعوا لقتل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فبيتوه في داره ، فأمر عليًّا ـ رضى الله عنه ـ فرقد على فراشه ، وقال له : (( إنهم لن يضروك )) ، فخرج عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم على بابه ، فأخذ الله أبصارهم عنه ، ولم يروه ، ووضع على رأس كل واحد منهم ترابًا ، وانصرف عنهم خارجًا إلى غار ثور ، فاختفى فيه ، فأقاموا كذلك حتى أخبرهم مُخْبِرٌ أنه قد خرج عليهم ، وإنه وضع على رؤوسهم التراب ، فمدُّوا أيديهم إلى رؤوسهم فوجدوا التراب ، فدخلوا الدَّار ، فوجدوا عليًّا على الفراش ، فلم يتعرضوا له ، ثم خرجوا في كل وجه يطلبون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقتضون أثره بقائف كان معروفًا عندهم ، إلى أن وصلوا إلى الغار ، فوجدوه قد نسجت عليه العنكبوت من حينه ، وفرَّخت فيه الحمام بقدرة الله تعالى ، فلما رأوا ذلك قالوا : إن هذا الغار ما دخله أحدٌ ، ثم إنهم صَعِدوا إلى أعلى الغار ، فحينئذ رأى أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ أقدامهم ، فقال بلسان مقاله مفصحًا عن ضغف حاله : لو نظر أحدهم إلى قدميه أبصرنا ، فأجابه من تدلَّى فدنا بما يُذهب عنه الخوف والضَّنى بقوله : { لا تخزن إن الله معنا } ؛ أي : بالحفظ والسلامة ، والصَّون والكرامة . ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقام في الغار ثلاثة حتى تجهَّز . ومنه هاجر إلى المدينة ، وكل ذلك من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثقة بوعد الله تعالى ، وتوكل عليه ، ودليل على خصوصيَّة أبي بكر من الخلَّة ، وملازمة الصُّحبة في أوقات الشدة بما لم يسبق إليه .
---
(9/67)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( عبدٌ خيَّره الله تعالى بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده )) ؛ هذا قول فيه إبهام ، قصد به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اختبار أفهام أصحابه ، وكيفية تعلق قلوبهم به ، فظهر أن أبا بكر كان عنده من ذلك ما لم يكن عند أحد منهم ، ولما فهم من ذلك ما لم يفهموا بادر بقوله : (( فديناك بآبائنا وأمهاتنا )) ، ولذلك قالوا : (( فكان أبو بكر أعلمنا )). وهذا يدلّ من أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ على أن قلبه ممتليء من محبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومستغرق فيه ، وشديد الاعتناء بأموره كلِّها من أقواله وأحواله بحيث لا يشاركه أحدٌ منهم في ذلك . ولما علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك منه ، وصدر منه في ذلك الوقت ذلك الفهم عنه اختصَّه بالخصوصيَّة العظمى التي لم يظفر بمثلها بشري في الأولى ولا في الأخرى . فقال : (( إن أَمَنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت مئخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً )) ؛ فقد تضمن هذا الكلام : أن لأبي بكر من الفضائل ، والحقوق ما لا يشاركه فيها مخلوق . ووزن أمَنَّ : أفعل ، من المنَّة بمعنى الامتنان ؛ أي : أكثر منَّة ، ومعناه : أن أبا بكر ـ رضى الله عنه ـ له من الحقوق ما لو كانت لغيره لامتن بها ، وذلك : أنه ـ رضى الله عنه ـ بادر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتَّصديق ، والناس كلهم مكذبون ، وبنفقة الأموال العظيمة ، والناس يبخلون ، وبالملازمة والمصاحبة ، والناس ينفرون ، وهو مع ذلك بانشراح صدره ، ورسوخ علمه يعلم : أن لله ولرسوله الفضل والإحسان ، والمنة والامتنان ، لكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكرم خُلقه ، وجميل معاشرته اعترف بالفضل لمن صدر عنه ، وشكر الصنيعة لمن وجدت منه ، عملاً بشكر المنعم ، ليسن ، وليعلم ، وهذا مثل ما جرى له يوم حنين مع الأنصار ، حيث جمعهم فذكَّرهم بما عليهم من المنن ، ثم اعترف لهم بما
(9/68)
لهم من الفضل الجميل الحسن ، وقد تقدم في الزكاة . وقد ذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه عليها ما خلا أبا بكر ، فإنَّ له
---
عندنا يدًا يكافئه الله تعالى بها يوم القيامة ، وما نفعني مال أحد كما نفعني مال أبي بكر ... )) ، وذكر الحديث ، وقال : هو حسن غريب .
وقوله : (( ولو كنت مخذًا خليلاً ، لاتخذت أبا بكر خليلاً )) ؛ متخذًا : اسم فاعل من اتَّخذ ، وهو فعل يتعدَّى إلى مفعولين ، أحدهما بحرف الجر ، فيكون بمعنى : اختار واصطفى ، كما قال تعالى : { واتَّخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسدًا له خوار} ، وقد سكت هنا عن أحد مفعوليها ، وهو الذي دخل عليه حرف الجر ، فكأنه قال : لو كنت متخذًا من النَّاس خليلاً لاتخذت منهم أبا بكر . ولبسط الكلام في ذلك علم النحو ، وحاصله : أن (( اتَّخذ )) استعملت على ثلاثة أنحاء ،
أحدها : تتعدى لمفعولين بنفسها .
وثانيها : تتعدى لأحدهما بحرف الجر .
وثالثها : تتعدى لمفعول واحد ، وكل ذلك موجود في القرآن .
(9/69)
ومعنى هذا الحديث : أن أبا بكر ـ رضى الله عنه ـ كان قد تأهل لأن يتخذه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خليلاً ، لولا المانع الذي منع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أنه لما امتلأ قلبه بما تخيله من معرفة الله تعالى ، ومحبته ، ومراقبته ، حتى كأنه مزجت أجزاء قلبه بذلك ، لم يتسع قلبه لخليل آخر يكون كذلك فيه ، وعلى هذا فلا يكون الخليل إلا واحدًا ، ومن لم ينته إلى ذلك ممن تعلَّق القلب به فهو حبيب ؛ ولذلك أثبت لأبي بكر وعائشة رضي الله عنهما أنهما أحمت الناس إليه ، ونفى عنهما الخلَّة ، وعلى هذا فالخلَّة فوق المحبة ، وقد اختلف أرباب القلوب في ذلك ؛ فذهب الجمهور : إلى أن الخلَّة أعلى ، تمسُّكًا بما ذكرناه ، وهو متمسَّك قوي ظاهر ، وذهب أبو بكر بن فورك إلى أن المحبة أعلى ، واستدل على ذلك : بأن الاسم الخاص بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : الحبيب ، وبإبراهيم : الخليل . ودرجة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرفع ، فالمحبة أرفع . وقد ذكر القاضي عياض هذه المسألة في كتاب "الشفا" ، واستوفى فيها البحث ، فتنظر هناك ، وقد ذكرنا اختلاف الناس في الخلة في كتاب الإيمان .
---
وقوله : (( إلا إني أبرأ إلى كل خليل من خلِّه )) ؛ الرواية المعروفة : بكسر الخاء من خِلَّة . قال القاضي : والصواب - إن شاء الله - فتحها ، والخلَّة ، والْخلُّ ، والمخاللة ، والمخالَّة ، والخلالة ، والخلولة : الإخاء والصَّداقة .
قلت : يعني : أن خَلَّة في الأصل : هي مصدر ، ومصادر هذا الباب : هي التي ذكروها ، وليس فيها ما يقال : بكسر الخاء ، فتعين الفتح فيها ، ومعنى هذا الكلام : قد جاء بلفظ آخر يفسره فقال : (( إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل )).. وهذا واضح .
(9/70)
وقوله : (( وقد اتَّخذ الله صاحبكم خليلاً )) ؛ في غير كتاب مسلم : ((كما اتخذ إبراهيم خليلاً )) ؛ وهذا يدلّ على أن الله تعالى رفع درجة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الخلة بإبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير أنَّه مكَّنه فيها ما لم يمكَّن فيها إبراهيم ، بدليل قول إبراهيم : (( إنما كنت خليلاً من وراء وراء )) ؛ كما تقدَّم في الإيمان .
وقوله : (( لا تُبْقَيَن في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر )) ؛ الخوخة - بفتح الخاء المعجمة - : باب صغير بين مسكنين ، وكان أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد فتحوا بين مساكنهم وبين المسجد خوخات اغتنامًا لملازمة المسجد ، وللكون فيه مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ كان فيه غالبًا ؛ إلا أنه لما كان ذلك يؤدي إلى اتخاذ المسجد طريقًا ، أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسدِّ كل خوخة كانت هنالك ، واستثنى خوخة أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ ؛ إكرامًا له ، وخصوصية به ؛ لأنَّهما كانا لا يفترقان غالبًا ، وقد استدل بهذا الحديث على صحَّة إمامته ، واستخلافه للصلاة ، وعلى خلافته بعده .
وقوله : (( من أحبُّ الناس إليك ؟ )) هذا السُّؤال : أخرجه الحرص على معرفة الأحب إليه ؛ ليقتدي به في ذلك ، فيحب ما أحب ، فإنَّ المرء مع من أحب .
---
وقوله في الجواب : (( عائشة )) ؛ يدلّ على جواز ذكر مثل ذلك ، وأنه لا يعاب على من ذكره إذا كان المقول له من أهل الخير والدِّين ، ويقصد بذلك مقاصد الصَّالحين ؛ وإنَّما بدأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذكر محبة عائشة أولاً ؛ لأنَّها محبة جبلية ودينية ، وغيرها دينية لا جبلية ، فسبق الأصل على الطَّارئ .
وقوله : (( ثم أبو بكر ، ثم عمر )) ؛ يدلّ على : تفاوت ما بينهما في الرتبة والفضيلة ، وهو يدلّ على صحَّة ما ذهب إليه أهل السُّنَّة .
(9/71)
وقوله : (( من أصبح منكم اليوم صائمًا ؟ قال أبوبكر : أنا ... )) الحديث يدلّ على ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه من التفقد لأحوال أصحابه ، وإرشادهم إلى فعل الخير على اختلاف أنواعه ، وعلى ما كان عليه أبو بكر من الحرص على فعل جميع أنواع الطاعات ، وتتبعه أبوابها ، واغتنام أوقاتها ، وكأنه ما كان له هم إلا في طلب ذلك ، والسَّعي في تحصيل ثوابه .
وقوله : (( ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة )) ؛ ظاهره : أن من اجتمع له فعل هذه الأبواب في يومٍ واحد دخل الجنة ؛ فإنَّه قال فيها كلها : اليوم ، اليوم ، ولما أخبره أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ أنه فعل تلك الأمور كلها في ذلك اليوم بشَّره بأنه من أهل الجنة لأجل تلك الأمور ، والمرجو من كرم الله تعالى أن من اجتمعت له تلك الأعمال في عمره ، وإن لم تجتمع في يوم واحد أن يدخله الله الجنَّة بفضله ، ووعده الصَّادق .
وقول البقرة للذي حمل عليها : (( إني لم أخلق لهذا ، إنما خلقت للحرث )) ؛ دليل : على أن البقر لا يحمل عليها ولا تركب ؛ وإنَّما هي للحرث ، وللأكل ، والنسل ، والرَّسْلِ. وفيه ما يدلّ على وقوع خرق العوائد ، على جهة الكرامة ، أو على جهة التنبيه لمن أراد الله به الاستقامة ، وفيه ما يدلّ على علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصحَّة إيمان أبي بكر وعمر ، ويقينهما ، وأنه كان ينزلهما منزلة نفسه ، ويقطع على يقينهما ، وهذه خصوصتة عظيمة ، ودرجة رفيعة .
---
(9/72)
وقول الذئب : (( من لها يوم السَّبُع )) ؛ الرواية الصحيحة التي قرأناها وقيدناها على مشايخنا بضم الباء لا غير ، ومعناه مفسَّر بباقي الحديث ؛ إذ قال فيه : (( يوم ليس لها راعٍ غيري )) ، فإنه أبدل (( يوم ليس لها راع غيري )) من (( يوم السَّبُع )) ، وكأنه قال : من يستنقذ هذه الشاة يوم ينفرد السَّبُع بها ، ولا يكون معها راع ، ولا من يمنعها ؟! وكأنه- والله أعلم - يشير إلى نحو مما تقدَّم في الحج من حديث أبي هريرة مرفوعًا قال : (( يتركون المدينة على خير ما كانت ، لا يغشاها إلا العوافي - يريد السِّباع والطير - ، ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ، فينعقان بغنمهما ، فيجدانها وحشًا ، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرَّا على وجوههما )). فحاصل هذا : أن أهل المدينة ينجلون عنها ، فلا يبقى فيها إلا السِّباع ، ويهلك من حولها من الرُّعاة فتبقى الغنم متوحشة منفردة ، فتأكلُ الذئابُ ما شاءت ، وتترك ما شاءت ، وهذا لم يُسمع أنَّه وقع ، ولا بدَّ من وقوعه .
وقد قيده بعض اللغويين بسكون الباء ، وليست برواية صحيحة ، ولكن اختلف في معنى ذلك على أقوال يطول ذكرها ، ولا معنى لأكثرها ، وأشبه ما قيل في ذلك ، ما حكاه الحربي : أن سكون الباء لغة فيه ، قال : وقرأ الحسن : ( وما أكل السَّبْعُ ) بسكونها .
---
(9/73)
وقول السائل لعائشة رضي الله عنها : (( من كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستخلفًا لو استخلف ؟ )) يدلّ على : أن من المعلوم عندهم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يستخلف أحدًا ، وكذلك قال عمر ـ رضى الله عنه ـ لما طعن ، وقيل له : ألا تستخلف ؟ فقال : إن أتركهم ؟ فقد تركهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإن أستخلف فقد استخلف أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ ، وهذا بمحضر من الصحابة ، وعلي والعباس ـ رضى الله عنهم ـ ، ولم ينكر أحدٌ منهم على عمر ، ولا ذكر أحدٌ من الناس نصًّا باستخلاف على أحد ، فكان ذلك دليلاً على كذب من ادَّعى شيئًا من ذلك ؛ إذ العادات تحيل أن يكون عندهم نصٌّ على أحد في ذلك الأمر العظيم المهم ، فيكتموه ، مع تَصَلُّبِهم في الدِّين ، وعدم تقيَّتهم ، فإنَّهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وكذلك اتفق لهم عند موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنَّهم اجتمعوا لذلك ، وتفاوضوا فيه مفاوضة من لا يتقي شيئًا ، ولا يخاف أحدًا ، حتى قالت الأنصار : منا أمير ، ومنكم أمير ، ولم يذكر أحدٌ منهم نصًّا ، ولا ادَّعى أحدٌ منهم أنه نصَّ عليه ، ولو كان عندهم من ذلك شيء لكانوا هم أحق بمعرفته ، ونقله ، ولَمَا اختلفوا في شيء من ذلك . ومن العجب الا يكون عند أحدٍ من هؤلاء نصٌّ على ذلك ، ولا يذكره مع قرب العهد ، وتوفر الدِّين والجدّ ، ودعاء الحاجة الشديدة إلى ذلك ، ويأتي بعدهم بأزمان متطاولة ، وأوقات مختلفة ، وقلة علم ، وعدم فهم من يدَّعي : أن عنده من العلم بالنصِّ على واحد معين ما لم يكن عند أولئك الملأ الكرام ، ولا سمع منهم . هذا محض الكذب الذي لا يقبله سليم العقل ؛ لكن غلبة التعصُّب والأهواء تورِّط صاحبها في الظلماء ، وقد ذهبت الشيعة على اختلاف فرقها إلى : أنه نصَّ على خلافة علي ـ رضى الله عنه ـ وذهبت الراوندية إلى أنه نصَّ على خلافة العباس ـ رضى الله عنه ـ واختلق كل واحد منهما من
(9/74)
الكذب ، والزور ، والبهتان ما لا يرضى به من في قلبه حبة خردل من الإيمان ، وما ذكرناه من عدم النَّص على واحد بعينه هو مذهب جمهور أهل السُّنَّة من السَّلف والخلف ، لا على
---
أبي بكر ، ولا غيره ، غير أنهم استندوا في استحقاق أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ للخلافة إلى أصول كليِّة ، وقرائن خالية ، ومجموع ظواهر جليِّة حصلت لهم العلم بأنه أحق بالخلافة ، وأولى بالإمامة ، يعلم ذلك من استقرأ أخباره ، وخصائصه ، وسيقع التنبيه على بعضها إن شاء الله تعالى.
وقول عائشة رضي الله عنها في جواب السَّائل : (( أبوبكر ، ثم عمر ، ثم أبوعبيدة )) ؛ هذا قالته عن نظرها ، وظنها ، لا أن ذلك كان بنصٍّ عندها عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولعلها استندت في عمر وأبي عبيدة لقول أبي بكر يوم السقيفة : رضيت لكم أحد هذين الرَّجُلَين عمر وأبي عبيدة . وفي حق أبي عبيدة شهادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه أمين هذه الأمة ، ولذلك قال عمر ـ رضى الله عنه ـ حين جعل الأمر شورى : لو أن أباعبيدة حيٌّ لما تخالجني فيه شك ، فلو سألني ربي عنه قلت : سمعت نبيك يقول : (( لكل أمة أمين ، وأميننا - أيتها الأمة - أبو عبيدة بن الجراح )) ، ويفهم من قول عمر وعائشة : جواز انعقاد الخلافة للفاضل مع وجود الأفضل ، فإنَّ عثمان وعليًّا رضي الله عنهما أفضل من أبي عبيدة ـ رضى الله عنه ـ بالاتفاق ، ومع ذلك فقد حكما بصحَّة إمامته عليهما - أن لو كان حيًّا -.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة ، ومذهب الجمهور : أنها تنعقد له - أعني للمفضول- وخالف في ذلك : عباد بن سليمان ، والجاحظ ، فقالا : لا ينعقد للمفضول على الفاضل ، ولا يعتد بخلافهما لما ذكرنا في الأصول ، والصحيح : ما ذهب إليه الجمهور .
---
(9/75)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمرأة : (( إن لم تجديني فأتي أبا بكر )) ؛ زعم من لا تحقيق عنده من المتأخرين : أن هذا نصٌّ على خلافة أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ ، وليس كذلك ؛ وإنَّما يتضمن الخبر عن أنَّه يكون هو الخليفة بعده ؛ لكن بأي طريق تنعقد له ؛ هل بالنصِّ عليه ، أو بالاجتهاد ؛ هذا هو المطلوب ، ولم ينص عليه في الحديث ، وكذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ادعي لي أبا بكر أباك ، وأخاك حتى أكتب كتابًا ... )) الحديث إلى قوله : (( يأبى الله والمؤمنون : إلا أبا بكر )) ؛ ليس نصًّا في استخلافه ؛ وإنما يدل على إرادة استخلافه ، ولم ينص عليه ، ألا ترى أنه لم يكتب ، ولم ينص .
والحاصل : أن هذه الأحاديث ليست نصوصًا في ذلك ، لكنها ظواهر قويه إذا انضاف إليها استقراء ما في الشريعة مِمَّا يدلّ على ذلك المعنى علم استحقاقه للخلافة ، وانعقادها له ضرورة شرعيه ، والقادح في خلافته مقطوع بخطئه ، وتفسيقه. وهل يكفر أم لا ؟ مختلف فيه ، والأظهر : تكفيره لمن استقرأ ما في الشريعة ، مما يدلّ على استحقاقه لها ، وأنه : أحق وأولى بها ، سيما وقد انعقد إجماع الصحابة على ذلك ، ولم يبق منهم مخالف في شيء مِمَّا جرى هنالك .
وكانت وفاة أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ على ما قاله ابن إسحاق : يوم الجمعة لسبع ليالٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة . وقال غيره : إنه مات عشية يوم الاثنين . وقيل : عشية يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة . هذا قول أكثرهم . قال ابن إسحاق : وتوفي على رأس سنتين وثلاثة أشهر واثنتي عشرة ليلة من متوفى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقال غيره : وعشرة أيام . وقيل : وعشرين يومًا. ومكث في خلافته سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال . وقيل : وثلاثة أشهر وسبع ليال .
---
(9/76)
واختلف في سبب موته ؛ فقال الواقدي : أنه اغتسل في يوم بارد فحُمَّ ، ومرض خمسة عشر يومًا . وقال الزبير بن بكار : كان به طرف من السِّلِّ . وروي عن سلام ابن أبي مطيع : أنه سُمَّ . والله أعلم . وقد تقدَّم : أنه مات وهو ابن ثلاث وستين سنة .
ومن باب فضائل عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ
ويُكنَّى : أبا حفص ، وهو ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبدالله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي ، يجتمع نسبه مع نسب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كعب. أسلم سنه ست من النبوَّة وقيل : سنة خمس بعد أربعين رجلاً ، وإحدى عشرة امرأة . وقيل : بعد ثلاث وثلاثين رجلاً . وقيل : إنه تمام الأربعين . وسُمِّي الفاروق ؛ لأنَّه فرَّق بإظهار إسلامه بين الحق والباطل . وقتال الكفار عليه يوم أسلم ، ونزل جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( يا محمد ! استبشر أهل السماء بإسلام عمر )). حُفِظ له من الحديث خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثًا ، أخرج له منها في الصحيحين أحد وثمانون حديثًا ، توفي ـ رضى الله عنه ـ مقتولاً . قتله أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة ، لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ، طعنه العلج بسكين في يده ذات طرفين ، وطعن معه اثني عشر رجلاً ، مات منهم ستة ، ثم رَمَى على العلج رجلٌ من أهل العراق برنسًا ، فحبسه ، فوجأ نفسه ، وكانت خلافة عمر ـ رضى الله عنه ـ عشر سنين وستة أشهر ، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة كما تقدَّم .
وقوله : ووضع عمر ـ رضى الله عنه ـ على سريره ، فتكنفه النَّاس ؛ يعني : بعد موته وتجهيزه للدَّفن . والسَّرير هنا : هو النَّعش ، وتكنَّفه الناس : أي صاروا بكنفيه ؛ أي : جانبيه . والكنف والكنيف : الجانب .
---
(9/77)
و (( يصلون عليه )) ؛ أي : يترحمون عليه . و(( لم يرعني )) ؛ أي : يفزعني فينبهني وأصل الزوع : الفزع . وهذا الحديث ردٌّ من عليّ ـ رضى الله عنه ـ على الشيعة فيما يتقوَّلونه عليه من بُغضه للشيخين ، ونسبته إياهما إلى الجور في الإمامة ، وأنهما غصباه . وهذا كله كذب وافتراء ؛ عليٌّ ـ رضى الله عنه ـ منه براء . بل المعلوم من حاله معهما تعظيمه ومحبَّته لهما ، واعترافه بالفضل لهما عليه وعلى غيره . وحديثه هذا ينصُّ على هذا المعنى ، وقد تقدَّم ثناء عليٍّ على أبي بكر رضي الله عنهما ، واعتذاره عن تخلفه عن بيعته ، وصحَّة مبايعته له ، وانقياده له مختارًا طائعًا سرًّا وجهرًا ، وكذلك فعل مع عمر ـ رضى الله عنهم ـ أجمعين ، وكل ذلك يُكذِّب الشيعة والروافض في دعواهم ، لكن الهوى والتعصب أعماهم .
وقوله : (( بينا أنا نائم ، والناس يعرضون عليّ ... )) الحديث . هؤلاء الناس المعروضون على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النوم هم من دون عمر في الفضيلة ، فلم يدخل فيهم أبو بكر ، ولو عرض أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ عليه في هذه الرواية لكان تميصه أطول ، فإنَّ فضله أعظم ، ومقامه أكبر على ما تقدَّم . وتأويل القميص بالدين مأخوذ من قوله تعالى : { ولباس التقوى ذلك خير } ، والعرب تكني عن الفضل والعفاف بالثياب ، كما قال شاعرهم :
ثياب بني عوف طهارى نقيَّة
(9/78)
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعثمان ـ رضى الله عنه ـ : (( إن الله سيلبسك قميصًا ، فإنَّ أرادوك أن تخلعه فلا تخلعه )). فعبَّر عن الخلافة بالقميص . وهي استعارة حسنة معروفة . وتأويله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اللبن بالعلم تأويل حسن ظاهر المناسبة ؛ وذلك : أن اللبن غذاء مستطاب ، به صلاح الأبدان ، ونموها من أول فطرتها ونشوئها ، خلا عن الأضرار والمفاسد . والعلم كذلك يحصل به صلاح الأديان والأبدان ، ومنافع الدنيا والآخرة مع استطابته في نفسه . وقد يدل في التعبير على دوام الحياة ؛ إذ به كانت . وقد يدلّ على الثواب ؛ لأنَّه مذكور في أنهار الجنَّة .
---
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أريت أني أنزع في دلو بكرة على قليب )) ؛ أنزع : أستقي . وأصل النزع : الجذب . والقليب : البئر غير المطويَّة ، وهي التي عبر عنها في الرواية الأخرى بالحوض . والحوض : مجتمع الماء . والبكرة : الخشبة المستديرة التي تدور بالحبل .
وقوله : (( فجاء أبو بكر فنزع ذنوبًا أو ذنوبين فنزع وفي نزعه ضعف ، والله يغفر له )) ؛ الذَّنوب : الدَّلو ، والغرب أكبر منها .
(9/79)
وقوله : (( ذنوبًا أو ذنوبين )) ؛ هو شيء من بعض الرُّواة ، وقد جاء بغير شك : (( ذنوبين )) في الرواية الأخرى . وهي أحسن . وهذه الرُّؤيا هي مثال لما فتح الله تعالى على يدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويدي الخليفتين بعده من الإسلام والبلاد والفيء ، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو مبدأ الأمر وممكَّن منه ، وأبو بكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعده ، غير أن مقدار ما فتح الله على يديه من بلاد الكفر قليل ؛ لأن مدَّة خلافته كانت سنتين وثلاثة أشهر ؛ اشتغل في معظمها بقتال أهل الرِّدَّة ، ثم لما فرغ منها أخذ في قتال أهل الكفر ، ففتح في تلك المدَّة بعض العراق وبعض الشام ، ثمَّ مات ـ رضى الله عنه ـ ، ففتح الله على يدي عمر ـ رضى الله عنه ـ سائر البلاد ، واتَّسعت خطَّة الإسلام شرقًا وغربًا وشامًا ، وعظمت الفتوحات ، وكثرت الخيرات والبركات التي نحن فيها حتى اليوم . فعبَّر عن سنتي خلافة أبي بكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالذَّنوبين ، وعن قلَّة الفتوحات فيها بالضعف ، وليس ذلك وهنًا في عزيمته ، ولا نقصًا في فضله على ما هو المعروف من همَّته ، والموصوف من حالته .
وقوله : (( والله يغفر له )) ؛ لا يظن جاهل بحال أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ : أن هذا الاستغفار لأبي بكر كان لذنب صدر عنه ، أو لتقصير حصل منه ؛ إذ ليس في المنام ما يدلّ على شيء من ذلك ؛ وإنما هذا دعامٌ للكلام ، وسنادٌ ، وصلة ، وقد تقدَّم في الحديث : أنها كانت كلمة يقولها المسسلمون : افعل كذا والله يغفر لك . وهذا نحو قولهم : تربت يمينك ، وألَّت ! وقاتله الله ! ونحو ذلك مما تستعمله العرب في أضاف كلامها على ما تقدَّم .
---
وقوله : (( فاستحالت في يده غربًا )) ؛ أي : الدَّلو الصغيرة عادت في يده دلوًا كبيرة .
(9/80)
وقوله : (( فلم أَرَ عبقريًّا من الناس يفري فريه )) ؛ قال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن العبقري فقال : يقال : هذا عبقري قومه ، كقولهم : سيد قومه وكبيرهم وقويُّهم . قال أبو عبيد : وأصله : أنه نسبة إلى أرض تسكنها الجن ، فصارت مثلاً لكل منسوب لشيء رفيع . ويقال : بل هي أرضهن يعمل فيها الوشي والبرود ، ينسب إليها الوش العبقري ، ومنه قوله تعالى : { وعبقري حسان } ، وقال أبو عبيد : العبقري : الرجل الذي ليس فوقه شيء .
و (( يفري فريه )) : الرواية المشهورة بكسر الراء وتشديد الياء ، وتروى بتسكين الراء وتخفيف الياء ، وأنكر الخليل التثقيل ، وغلَّط قائله ، ومعناه : يعمل عمله ، ويقوى قوته ، وأصل الفري : القطع . يقال : فلان يفري الفري ؛ أي : يعمل العمل البالغ ، ومنه قوله تعالى : { لقد جئت شيئًا فريًّا } ؛ أى : عظيمًا بالغًا في فنِّه. يقال : فريت الأديم إذا قطعته على جهة الإصلاح ، وأفريته : إذا قطعته على جهة الإفساد.
---
(9/81)
وقوله : (( حتى روي الناس ، وضربوا العطن )) ؛ روي - بكسر الواو وفتح الياء - : فعل ماض ، ومضارعه يروى - بفتج الواو - من الرِّي : وهو الامتلاء من الشراب ، ومعناه : أنهم رووا في أنفسهم . وضربوا العطن ؛ أي : رووا إبلهم ، وأصله أنهم يسقون الإبل ، ثم يعطنونها ؛ أي : يتركونها حول الحياض لتستريح ، ثم يعيدون شربها ، يقال منه : عطنت الإبل ، عاطنة ، وعواطن ، وأعطنتها أنا . حكاه ابن الأنباري . وفي الصحاح : عطنت الجلد ، أعطنه عطنًا ، فهو معطون : إذا ألقيته في الماء والملح والعَلْقى ليتفسخ صوفه ويسترخي ، وعطن الإهاب -بالكسر- يعطن عطنًا فهو عطن : إذا أنتن وسقط في العطن وقد انعطن . والعَطن والْمُعْطِن واحد الأعطان والمعاطن ، وهي مَبَارِك الإبل عند الماء لتشرب عَلَلاً بعد نهل ، وعَطَنت الإبل - بالفتح - تَعْطُن ، وتَعْطِن عُطُونًا : إذا رَوِيَت ثم بَرَكَت ، فهي : إبل عَاطِنة ، وعَوَطِن ، وقد ضَرَب بعطن ؛ أي : بركت إبله . قال ابن السِّكيت : وكذلك تقول : هذا عطن الغنم ومعطنها : لمرابضها حول الماء .
قلت : وقد جاء معنى هذه الرواية مفسَّرًا في الرواية الأخرى التي قال فيها : (( فجاء عمر فأخذه منِّي ؛ يعني : الدلو ، فلم أَرَ نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآنٌ يتفجر )). وفي هذه من الزيادة ما يدلّ على أن عمر ـ رضى الله عنه ـ يُتَوَفَّى ويبقى النصر والفتع بعده متصلاً ، وكذلك كان ـ رضى الله عنه ـ .
---
(9/82)
وقوله في الأصل : (( دخلت الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصرها)) ، كذا الرواية الصَّحيحة المعروفة ، وقد ذكره ابن قتيبة ، وقال : امرأة ((( شوهاء )) مكان (( تتوضأ )) ، وفسَّرها بالحسنة . وذكر ثعلب عن ابن الأعرابي : أن الشوهاء : الحسنة والقبيحة ، فهو من الأضداد. ووضوء هذه المرأة في الجنة إنما هو لتزداد حسنًا ونورً ، لا لتزيل وسخًا ، ولا قذرًا ؛ إذ الجنة منزهة عن ذلك ، وهذا كما قال في الحديث الآخر : (( أمشاطهم الذهب ، ومجامرهم الألوَّة )) ؛ على ما يأتي .
وقوله : (( استأذن عمر ـ رضى الله عنه ـ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونسوة من قريش يكلِّمنه ، ويستكثرنه )) ؛ أي : من مكالمته ، ويحتمل : أنهن يسألنه حوائج كثيرة .
وقوله : (( عالية أصواتهنَّ )) ؛ قيل : يحتمل أن يكون هذا قبل نزول قوله تعالى : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } ، وقيل : يحتمل أن ارتفاع أصواتهن لكثرتهن ، واجتماع كلامهن ، لا أنهن رفعن أصواتهن .
قلت : ويحتمل أن يكون فيهنَّ من كنَّ جهوريات الأصوات ، لا يقدرنَّ على خفضها ، كما كان ثابت بن قيس بن شماس ، والله تعلى أعلم .
وقوله : (( ما لقيك الشيطان قط سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجِّك )) ؛ الفج : الطريق الواسع ، وهو أيضًا : الطريق بين جبلين ، والإهر : بقاء هذا اللفظ على ئثه ظاهره ، ويكون معناه : أن الشيطان يهابه ويجانبه ، لما يعلم من هيبته ، وقوَّته في الحق ، فيفرُّ منه إذا لقيه ، ويكون هذا مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الآخر : (( إن الشيطان ليفرق منك يا عمر )). ويعني بالشيطان : جنس الشياطين ، ويحتمل أن يكون ذلك مثلاً لبُعده عنه ، وأنه لا سبيل له عليه ، والأوَّل أولى .
---
(9/83)
وقوله : (( قد كان يكون في الأمم قبلكم محدِّثون )) ؛ (( كان )) الأولى : بمعنى الأمر والشأن ؛ أي : كان الأمر والشان ، وهي نحو ليس في قولهم : ليس خلق الله مثله . وتكون الثانية ناقصة ، واسمها محدَّثون ، وخبرها في المجرور ، ويصح أن تكون تامَّة ، وما بعدها أحوال . ومحدَّثون - بفتح الدال - هي الرواية اسم مفعول ، وقد فسَّر ابن وهب المحدَّثين بالملهمين ؛ أي : يُحدَّثون في ضمائرهم بأحاديث صحيحة ، هي من نوع الغيب ، فيظهر على نحو ما وقع لهم ، وهذه كرامه يكرم الله تعالى بها من يشاء من صالحي عباده ، ومن هذا النوع ما يقال عليه : فراسه وتوسُّم ، كما قد رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضى الله عنه ـ ؛ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اتَّقوا فراسة المؤمن ، فإنَّه ينظر بنور الله )) ؛ ثم قرأ : {إن فى ذلك لآيات للمتوسمين } ، وقد تقدَّم القول في نحو هذا ، وقد قال بعضهم : إن معنى محدَّثين : مكلَّمون ؛ أي : تكلِّمهم الملائكة .
قلت : وهذا راجعٌ لما ذكرته ، غير أن ما ذكرته أعم ، فقد يخلق الله تعالى الأحاديث بالغيب في القلب ابتداء من غير واسطة ملك ، وقال بعضهم : إن معناه أنهم مصيبون فيما يظنونه ، وإليه ذهب البخاري ، وهذا نحو من الأول ، غير أن الأوَّل أعم ، والله أعلم .
---
(9/84)
وقوله : (( فإنَّ يكن في أمتي أحدٌ منهم فعمر )) ؛ دليلٌ على قلَّة وقوع هذا وندوره ، وعلى أنه ليس المراد بالمحدَّثين المصيبون فيما يظنون ؛ لأنَّ هذا كثير في العلماء والأئمة الفضلاء ؛ بل : وفي عوام الخلق كثير ممن يقوى حدسه فتصح إصابته فترتفع خصوصية الخبر ، وخصوصية عمر ـ رضى الله عنه ـ بذلك ، ومعنى هذا الخبر قد تحقق ، ووجد في عمر قطعًا ؛ وإن كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجزم فيه بالوقوع ، ولا صرَّح فيه بالإخبار ؛ لأنَّه إنما ذكره بصيغة الاشتراط ، وقد دلَّ على وقوع ذلك لعمر حكايات كثيرة عنه ، كقصَّة : الجبل يا سارية ، وغيره ، وأصح ما يدلّ على ذلك : شهادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له بذلك ، كما رواه الترمذي عن ابن عمر مرفوعًا : ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه )) ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : ما نزل بالناس أمرٌ قط قالوا فيه ، وقال فيه عمر إلا نزل القرآن على نحو ما قال فيه عمر. قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . ومن ذلك قول عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( وافقت ربي في ثلاث ... )) الحديث . وقد ادعى هذا الحال كثير من أهل المحال ، لكن تشهد بالفضيحة شواهد صحيحة .
---
(9/85)
وقوله : (( وافقت ربي في ثلاث )) ؛ يعني : أنَّه وقع له في قلبه حديث عن تلك الأمور ، فأنزل الله تعالى القرآن على نحو ما وقع له ، وذلك : أنَّه وقع له : أن مقام إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ محل شرَّفه الله تعالى وكرَّمه ؛ بأن قام فيه إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ للدُّعاء والصَّلوات ، وجعل فيه آيات بينات ، وغفر لمن قام فيه الخطيئات ، وأجاب فيه الدَّعوات ، وقد تقدَّم في الحج ذكر الخلاف فيه ، وكذلك وقع له شرف أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلوِّ مناصبهنَّ ، وعظيم حرمتهنَّ ، وأن الذي يناسب حالهنَّ : أن يحتجبن عن الأجانب ؛ فإنَّ اطلاعهم عليهنَّ ابتذاذ لهنَّ ، ونقصٌ من حرمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحرمتهن ، فقال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( احجب نساءك ، فإنَّهن يراهنَّ البر والفاجر )). وقد استوفينا الكلام على هذا في النكاح . ووقع له أيضًا قتل أسارى بدر ، وأشار على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به ، وأشار عليه أبو بكر بالإبقاء والفداء ، فمال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ما قال أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ ، فأنزل الله تعالى القرآن على نحو ما وقع لعمر ـ رضى الله عنه ـ في الأمور الثلاثة ، فكان ذلك دليلاً قاطعًا على : أنه محدَّث بالحق ، ملهم لوجه الصَّواب ، وقد تقدَّم القول في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وفي قضية بدر في الجهاد .
ومن باب فضائل عثمان ـ رضى الله عنه ـ
---
(9/86)
وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، يُكنى أبا عمرو ، وأبا عبد الله ، وأبا ليلى بأولادٍ وُلِدوا له ، وأشهر كناه : أبو عمرو ، ولقب بذي النُّورين ؛ لأنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زوَّجه ابنتيه ؛ رقية ، وأم كلثوم واحدة بعد أخرى ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لو كانت عندي أخرى لزوَّجتها له )) ؛ أسلم قديْمًا قبل دخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دار الأرقم ، وهاجر إلى أرض الحبشة ، وإلى المدينة ، ولما خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بدر خلفه على ابنته رقية يمرضها ، وضرب له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسهمه ، وأنجره ، فكان كمن شهدها ، وقيل : كان هو في نفسه مريضًا بالجدري ، وبايع عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده في يده في بيعة الرضوان ، وقال : (( هذه لعثمان )) ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد وجهه إلى أهل مكة ليكلمهم في أن يُخلُّوا بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين العمرة ، فأُرجف بأن قريشًا قتلته ، فبايع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بسبب ذلك .
(9/87)
وفي بقاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منكشف الفخذ حتى اطلع عليه أبو بكر وعمر دليلٌ على أن الفخذ ليس بعورة ، وقد تقدَّم الكلام فيه ، وفيه دليل على جواز معاشرة كل واحد من الأصحاب بحسب حاله . ألا ترى انبساطه ، واسترساله مع العمرين على الحالة التي كان عليها مع أهله ، لم يُغيِّر منها شيئًا ، ثم إنه لما دخل عثمان ـ رضى الله عنه ـ غيَّر تلك التي كان عليها ، فغطى فخذيه ، وتهيَّأ له ، ثم لما سُئل عن ذلك ، قال : (( إن عثمان رجل حيي له في خشيت إن أذنت له على تلك الحال ألا يَبْلُغ إليَّ في حاجته )). وفي الرواية الأخرى : (( ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملاثكة ؟! )) أي : حياء التوقير والإجلال ، وتلك منقبة عظيمة ، وخصوصيَّة شريفة ليست لغيره ، أعرض قَتَلَةُ عثمان عنها ، ولم يُعرِّجوا عليها .
---
وقولها : (( دخل أبو بكر فلم تهتشَّ له ، ولم تباله )) ؛ يروى : تهتش بالتاء باثنتين من فوقها ، ويروى بحذفها ، وفتح الهاء ، وهو من الهشاشة ، وهي الخمة والاهتزاز والنشاط عند لقاء من يفرح بلقائه . يقال : هشَّ وبشَّ ، وتبشبش : كلها بمعنى . ولم تباله ؛ أي : لم تعتني بأمره ، وأصله من البال ، وهو الاحتفال بالشيء ، والاعتناء به ، والفكر فيه . يقول : جعلته من بالي وفكري ، وهو المعبَّر عنه في الرواية الأخرى بقولها : لم أرك فزعت له ؛ أي : لم تقبل عليه ، ولم تتفرغ له .
وقوله : (( خرج وجَّه ها هنا )) ؛ الرواية المشهورة : وجَّه بفتح الجيم مشدَّدة على أنه فعل ماضٍ ، وضبطه أبو بحر : وجه - بسكون الجيم - على أن يكون ظرفًا ، والعامل فيه خرج ؛ أي : خرج في هذه الجهة.
(9/88)
وقوله : (( فإذا هو قد جلس على بئر أريس ، وتوسط قُفَّها ، وكشف عن ساقيه ، ودلاَّهما في البئر )) ؛ والقفت -بضم القاف- : أصله : الغليظ من الأرض ، قاله ابن دريد وغيره ، وعلى هذا : القف : الذي يتمكن الجماعة أن يجلسوا عليه ، ويدلوا أرجلهم في البئر ، وهو جانبها المرتفع عن الأرض ، وكل ما قيل فيه خلاف هذا فيه بُعد ، ولا يناسب مساق الحديث .
وقوله : (( على رِسلك )) ؛ هو بكسر الراء ، وهو المعروف ، ويقال بفتحها ؛ أي : اسكن وارفق ، كما يقال : على هينتك.
وقوله : (( فجلس وِجَاهه )) ؛ هو بكسر الوار ، ويقال بضمها ؛ أي : مقابله وقبالته ، وهذا الحديث نصٌّ في أن أبا بكر وعمر وعثمان ـ رضى الله عنهم ـ في الجنة ، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة وحسنة يفيد مجموعها القطع بأن الخلفاء د الأربعة مقطوع لهم بأنهم من أهل الجنة .
---
وقوله : (( على بلوى تصيبه )) ؛ هذا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إعلام لعثمان ـ رضى الله عنه ـ بما يصيبه من البلاء والمحنة في حال خلافته ، وقد جاء من الأخبار ما يدلّ على تفصيل ما يجري عليه من القتل وغيره ، فمن ذلك ما خرَّجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( يا عثمان ! لعل الله يقمِّصك قميصًا ، فإنَّ أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم )). وقال : حديثًا حسن غريب . وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتنةً ، فقال : (( يقتل فيها مظلومًا )) لعثمان ـ رضى الله عنه ـ ، وقال : حديث حسن غريب .
---
(9/89)
وروى أبو عمر ابن عبد البر عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ادعوا لي بعض أصحابي )) ، فقلت : أبو بكر ؟ فقال : (( لا )) ، فقلت : فعمر ؟ فقال : (( لا )) ، قالت : قلت : ابن عمك عليًّا ؟ فقال : (( لا )) ، فقلت له : عثمان ؟ قال : (( نعم )) ، فلما جاءه ، فقال لي بيده ، فتنحَّيت ، فجعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يساره ، ولون عثمان يتغيَّر ، فلما كان يوم الدار وحصر قيل له : ألا نقاتل عنك ؟ قال : لا ، إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهد إلي عهدًا وأنا صابرٌ عليه . فهذه الأحاديث وغيرها مما يطول تتبعه : تدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبره بتفصيل ما جرى عليه ، وأنه سلَّم نفسه لما علم من أن ذلك قدر سبق وقضاء وجب ، ولذلك منع كل من أراد القتال دونه ، والدفع عنه - ممن كان معه في الدار ، وفي المدينة - من نصرته . وتفصيل كيفية قتله ، وما جرى لهم معه مذكور في التواريخ . وجملة الأمر أن قومًا من أهل مصر وغيرهم غلب عليهم الجهل ، والهوى ، والتعصب ، فنقموا عليه أمورًا أكثرها كذب ، وسائرها له فيها أوجة من المعاذير ، وليس فيها شيء يوجب خلعه ، ولا قتله ، فتحزَّبوا ، واجتمعوا بالمدينة ، وحاصروه في داره ، فقيل : شهران ، وقيل : تسعة وأربعون يومًا ، وهو في كل ذلك يعظهم ، ويذكرهم بحقوقه ، ويتنصل مما نسبوه إليه ، ويعتذر منه ، ويصرح بالتوبة ، ويحتج عليهم بحجج صحيحة لا مخلص لهم عنها ، ولا جواب عليها ، لكن أعمتهم الأهواء ليغلب القضاء ، فدخلوا عليه وقتلوه مظلومًا كما شهد له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجماعة أهل السنة ، وألقي على مزبلة ، فأقام فيها ثلاثة أيام لم يقدر أحدٌ على دفنه حتى جاء جماعة بالليل خفية ، وحملوه على لوح ، وصلوا عليه ، ودفن في موضع من البقيع يسمى : ((حش كوكب )) ، وكان مما حبَّسه هو ، وزاده في البقيع ، وكان إذا مر فيه يقول : يدفن فيك
(9/90)
رجل صالح ، فكان هو المدفون فيه ، وعُمِّي قبره لئلا يعرف ، وقد نسب أهل الشام قتله إلى علي رضي الله عنهما ، وهي نسبة كذب وباطل
---
، فقد صحَّ عنه : أنه كان في المسجد ، وقت دُخِل عليه في الدار ، ولما بلغه ذلك قال لقتلته : تبًا لكم آخر الدهر ، ثم إنه قد تبرأ من ذلك ، وأقسم عليه ، وقال : من تبرأ من دين عثمان ، فقد تبرأ من الإيمان ، والله ما أعنت على قتله ، ولا أمرت ، ولا رضيت . لكنه لم يقدر على المدافعة بنفسه . وقد كان عثمان منعهم من ذلك . وكان مقتل عثمان في أوسط أيام التشريق على ما قاله أبو عثمان النهدي. قال ابن إسحاق : على رأس إحدى عشرة سنة ، وأحد عشر شهرًا ، واثنين وعشرين يومًا من مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، وعلى رأس خمس وعشرين سنة من متوفى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقال الواقدي : قتل يوم الجمعة لثمان ليالٍ خلت من ذي الحجة ؛ يوم التروية سنة خمس وثلاثين ، وقيل : لليلتين بقيتا من ذي الحجة . قال ابن إسحاق : وبويع له بالخلافة يوم السبت غرَّة محرم سنة أربع وعشرين ؛ بعد دفن عمر بثلاثة أيام ، فكانت خلافته إحدى عشرة سنة إلا أيامًا اختلف فيها حسب ما بيَّناه . وقد كان انتهى من الفضل ، والعلم ، والعبادة إلى الغاية القصوى ، كان يصوم الدهر ، ويقوم الليل يقرأ القرآن كله في ركعة الوتر . وروى الترمذي ، عن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ قال : كنا نقول ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حي : أبو بكر وعمر وعثمان ، وقال فيه : حديث صحيح حسن ، وقد شهد له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه شهيد ، ومن أهل الجنة ، وقتلته مخطئون قطعًا ، وقد قدموا على ما قدموا عليه.
وقول عثمان : (( اللهم صبرًا ، والله المستعان )) ؛ أي : اللهم صبَّرني صبرًا ، وأعني على ما قدرت علي ، فيه : استسلام لأمر الله تعالى ، ورضا بما قدره الله تعالى .
(9/91)
وقوله : (( فجلس وجاههم من الشق الآخر )) ؛ الشق : الجانب ؛ يعني : أنه جلس في مقابلة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وعمر .
---
وقول سعيد : (( فأوَّلت ذلك قبورهم )) ؛ هذا من سعيد من باب الفراسة ، ومن باب ما يقع في قلوب المحدَّثين الذين قدَّمنا ذكرهم لا من باب تأويل الرؤيا ؛ إذ كان ذلك في اليقظة ، وذلك أنه لما حدَّث بكيفية جلوس الثلاثة في جهة واحدة من القُفِّ ، وعثمان في مقابلتهم وقع في قلبه : أن ذلك كان إشعارًا بكيفية دفنهم ، كما كان . والله تعالى أعلم.
ومن باب فضائل علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ
هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ، ابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويكنى : أبا الحسن ، واسم أبي طالب : عبد مناف ، وقيل : اسمه كنيته ، واسم هاشم عمرو ، وسُمِّي هاشِمًا ؛ لأنَّه أوَّل من هشم الثريد ، وأم علي فاطمة بنت أسد ابن هاشم ، وهي أوَّل هاشمية ولدت لهاشمي ، توفيت مسلمة قبل الهجرة ، وقيل : إنها هاجرت ، وكان علي أصغر ولد أبي طالب ، كان أصغر من جعفر بعشر سنين ، وكان جعفر أصغر من عقيل بعشر سنين . وكان عقيل أصغر من طالب بعشر سنين . رروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم : أن علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ أول من أسلم -يعنون من الرجال - وإلا فقد اتفق الجمهور على أن أول من أسلم وأطاع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خديجة بنت خويلد ، وقد تقدَّم من قال : إن أول من أسلم أبو بكر ـ رضى الله عنهم ـ .
وقد روى أبو عمر بن عبد البر عن سلمان الفارسي ـ رضى الله عنه ـ قال : قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أولكم واردًا على الحوض أولكم إسلامًا : علي بن أبي أو طالب )). قيل : أسلم وهو ابن سبع سنين ، وقيل : ابن ثمان. وقيل : ابن عشر . وقيل : ابن ثلاث عشرة. وقيل : ابن خمس عشرة(2). وقيل : ابن ثمان عشرة .
(9/92)
وروى سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين العرني قال : سمعت عليًّا ـ رضى الله عنه ـ يقول : أنا أوَّل مَن صلَّى مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولقد عبدت الله قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأمة خمس سنين .
وروي عن علي ـ رضى الله عنه ـ ؛ أنه قال : مكثت كذا وكذا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لا يصلِّي معه أحد غيري إلا خديجة .
---
وأجمعوا : على أنه ـ رضى الله عنه ـ صلَّى إلى القبلتين ، وأنه شهد بدرًا وأحدًا ، ومشاهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلها ، إلا غزوة تبوك ، فإنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره أن يتخلَّف في أهله ، وقال له : (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ )). وزوَّجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيدة نساء أهل الجنة ؛ فاطمة ، وآخى بينه وبينه ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا منافق )). وقال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنه يحبُه الله ورسوله ، وأنَّه يحبُّ الله ورسوله )).
---
(9/93)
وكان ـ رضى الله عنه ـ قد خُصَّ من العلم ، والشجاعة ، والحلم ، والزهد ، والورع ، ومكارم الأخلاق ما لا يسعه كتاب ، ولا يحويه حصر حساب . بويع له بالخلافة يوم مقتل عثمان ، واجتمع على بيعته أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار ؛ إلا نفرًا منهم ، فلم يكرههم ، وسئل عنهم فقال : أولئك قوم خذلوا الحق ، ولم يعضدوا بباطل . وتخلف عن بيعته معاوية ومن معه من أهل الشام ، وجرت عند ذلك خطوب لا يمكن حصرها ، والتحمت حروب لم يسمع في المسلمين بمثلها ، ولم تزل ألويته منصورة عالية على الفئة الباغية إلى أن جرت قضيه التحكيم ، وخدع فيها ذو القلب السليم ، وحينئذ خرجت الخوارج ، فكفَّروه وكلَّ من معه ، وقالوا : حكَّمت الرجال فى دين الله ، والله تعالى يقول : { إن الحكم إلا لله } ، ثم اجتمعوا وشقُّوا عصا المسلمين ، ونصبوا راية الخلاف ، وسفكوا الدماء ، وقطعوا السبيل ، فخرج إليهم علي بمن معه ، ورام رجوعهم فأبوا إلا القتال ، فقاتلهم بالنهروان ، فقتلهم واستأصل جميعهم ، ولم ينج منهم إلا اليسير ، وقد تقدَّم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يقتلهم أولى الطائفتين بالحق )) ، ثم انتدب إليه رجل من بقايا الخوارج يقال له : عبد الرحمن بن ملجم . قال الزبير : كان من حِمير فأصاب دماء فيهم ، فلجأ إلى مراد ، فنسب إليهم ، فدخل على علي في مسجده بالكوفة . فقتله ليلة الجمعة ، وقيل : في صلاة صبحها ، وقيل : لإحدى عشرة ليلة خلت من رمضان . وقيل : لثلاث عشرة . وقيل : لثمان عشرة . وقيل : في أول ليلة من العشر الآخر من رمضان سنة أربعين . واختلف في موضع قبره اختلافًا كثيرًا يدلّ على عدم العلم به ، وأنه مجهول . وكذلك اختلف في سِنِّه يوم قتل . فقيل : ابن سبع وخمسين إلى خمس وستين سنة . وكانت مدة خلافته أربع سنين وستة أشهر ، وستة أيام . وقيل : ثلاثة. وقيل : أربعة عشر يومًا . فأُخِذ عبدالرحمن بن ملجم ، فقُتِل أشقى هذه الأمة . وكان علي ـ
(9/94)
رضى الله عنه ـ إذا رآه يقول :
---
أريدُ حَيَاتَهُ ويُرِيدُ قَتْلِي عَذِيرَكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرادِ
وكان يقول : ما يمنع أشقاها ، أو : ما ينتظر أشقاها أن يخضبَ هذه من هذا ، والله ليخضبنَّ هذه من دم هذا - ويشير إلى لحيته ورأسه - خضاب دمٍ ، لا خضاب حناء ولا عبير.
وقد روى النسائي وغيره من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه قال لعلي ـ رضى الله عنه ـ : (( أشقى الناس الذي عقر الناقة ، والذي يضربك على هذا- ووضع يده على رأسه - حتى يخضب هذه )) ، يعني : لحيته .
وتأخر موته ـ رضى الله عنه ـ ، ولا رضي عن قاتله - عن ضربه نحو الثلاثة الأيام. جملة ما حفظ له من الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثًا ، مثل أحاديث عمر رضي الله عنهما ، أخرج له منها في الصحيحين أربعة وأربعون حديثًا .
وقول معاوية لسعد بن أبي وقاص : (( ما منعك أن تسبَّ أبا تراب )) ؛ يدل : على أن مقدم بني أميَّة كانوا يسبُّون عليًّا وينتقصونه ، وذلك كان منهم لما وقر في أنفسهم من أنه أعان على قتل عثمان ، وأنه أسلمه لمن قتله ، بناء منهم على أنه كان بالمدينة ، وأنه كان متمكنًا من نصرته . وكل ذلك ظن كذب ، وتأويل باطل غطَّى التعصُّب منه وجه الصَّواب . وقد قدمنا : أن عليًّا ـ رضى الله عنه ـ أقسم بالله : أنه ما قتله ، ولا مالأ على قتله ، ولا رضيه . ولم يقل أحدٌ من النقلة قط ، ولا سمع من أحد : أن عليًّا كان مع القتلة ، ولا أنه دخل معهم الدَّار عليه . وأما ترك نصرته ؛ فعثمان ـ رضى الله عنه ـ أسلم نفسه ، ومنع من نصرته ، كما ذكرناه في بابه . ومِمَّا تشبَّثوا به : أنهم نسبوا عليًّا إلى ترك أخذ القصاص من قتلة عثمان ، وإلى أنه منعهم منهم ، وأنَّه قام دونهم . وكل ذلك أقوال كاذبة أنتجت ظنونًا غير صائبة ، ترتب عليها ذلك البلاء كما سبق به القضاء .
---
(9/95)
وقوله : (( في بعض مغازيه )) ؛ قد قلنا : إنها كانت غزوة تبوك خلَّفه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أهله ، واستخلفه على المدينة ، فيما قيل . ولما صعب على علي ـ رضى الله عنه ـ تخلَّفه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشق عليه ، سكَّنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآنسه بقوله : (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ )) وذلك : أن موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما عزم على الذهاب لما وعده الله به من المناجاة قال لهارون : { اخلفني في قومي وأصلح }.
(9/96)
وقد استدل بهذا الحديث الرَّوافض ، والإمامية ، وسائر فرق الشيعة : على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استخلف عليًّا ـ رضى الله عنه ـ على جميع الأمة . فأمَّا الرَّوافض فقد كفَّروا الصَّحابة كلهم ؛ لأنَّهم عندهم تركوا العمل بالحق الذي هو النَّصُّ على استخلاف علي ـ رضى الله عنه ـ واستخلفوا غيره بالاجتهاد . ومنهم من كفَّر عليًّا ـ رضى الله عنه ـ ؛ لأنه لم يطلب حقَّه . وهؤلاء لا يشك في كفرهم ؛ لأنَّ من كفر الأمَّة كلها والصَّدر الأول ؛ فقد أبطل نقل الشريعة ، وهدم الإسلام . وأما غيرهم من الفرق فلم يرتكب أحدٌ منهم هذه المقالة الشنعاء القبيحة القصعاء ، ومن ارتكبها منهم ألحقناه بمن تقدَّم في التكفير ومأواه جهنم وبئس المصير ، وعلى الجملة فلا حجَّة لأحدٍ منهم في هذا الحديث ، فإنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما استنابه في أمر خاص وفي وقت خاص ، كما استناب موسى هارون عليهما السلام في وقت خاص ، فلما رجع موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مناجاته ، عاد هارون إلى أول حالاته ، على أنه قد كان هارون شُرك مع موسى في أصل الرسالة ، فلا يكون لهم فيم راموه دلالة . وغاية هذا الحديث أن يدلّ على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما استخلف عليًّا ـ رضى الله عنه ـ على المدينة فقط ، فلما رجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تبوك قعد مقعده ، وعاد علي ـ رضى الله عنه ـ إلى ما كان عليه قبل . وهذا كما استخلف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المدينة ابن أم مكتوم وغيره ، ولا يلزم من ذلك استخلافه دائمًا بالاتفاق .
---
(9/97)
وقوله : (( غير أنه لا نبي بعدي )) ؛ إنما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحذيرًا مما وقعت فيه طائفة من غلاة الرَّافضة ؛ فإنَّهم قالوا : إن عليًّا نبي يوحى إليه. وقد تناهى بعضهم في الغلو إلى أن صار في علي إلى ما صارت إليه النصارى في المسيح ، فقالوا : إنه الإله. وقد حرَّق علي ـ رضى الله عنه ـ من قال ذلك ، فافتتن بذلك جماعه منهم ، وزادهم ضلالاً ، وقالوا : الآن تحققنا : أنه الله ؛ لأنَّه لا يعذب بالنار إلا الله . وهذه كلها أقوال عوام ، جهَّال ، سخفاء العقول ، لا يُبالي أحدهم بما يقول ، فلا ينفع سهم البرهان ، لكن السَّيف والسَّنان .
وقوله : (( لأغطين الرَّاية رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله )) ؛ الكلام إلى آخره فيه دليلان على صحة نبوة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي : إخباره عن فتح خيبر ، ووقوعه على نحو ما أخبر . وبرء رمد عين علي ـ رضى الله عنه ـ على فور دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وفي غير كتاب مسلم : أنه مسح على عيني علي ـ رضى الله عنه ـ ورقاه .
وفيه من الفقه : جواز المدح بالحق إذا لم تخش على الممدوح فتنة . وقد تقدَّم القول في محبة الله .
وفيه ما يدل : على أن الأولى بدفع الراية إليه من اجتمع له الرئاسة ، والشجاعة ، وكمال العقل .
وقوله : (( فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها )) ؛ أي : يتفاوضون بحيث اختلطت أقوالهم فيمن يعطاها. يقال : بات القوم يدوكون دوكًا ؛ أي : في اختلاط ودوران ، ووقعوا في دوكة - بفتح الدَّال وضمها - وإنما فعلوا ذلك حرصًا على نيل هذه الرتبة الشريفة ، والمنزلة الرَّفيعة ؛ التي لا شيء أشرف منها .
وقول علي ـ رضى الله عنه ـ : (( أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ )) معناه : حتى يدخلوا في ديننا فيصيروا مثلنا فيه .
(9/98)
وقوله : (( انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم )) ؛ أى : امض لوجهك مُترفقًا متثبِّتًا . وقد جاء مفسَّرًا في رواية أخرى قال فيه : ((امش ولا تلتفت )) ، وقد تقدَّم القول في (( رَسْلك )). والسَّاحة : الناحية .
---
وقوله : (( ثمَّ ادعهم إلى الإسلام ، وأعلمهم بما يجب عليهم من حق الله فيه )) ؛ هذه الدَّعوة قبل القتال ؛ التي تقدَّم القول فيها في الجهاد ، وقد فسَّرها في الرواية الأخرى في "الأم" قال : (( فصرخ علي : يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس ؟ قال : (( قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمَّدًا رسول الله ، فإذا فعلوا فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله )) ؛ فهذا هو حق الله المذكور في الرواية المتقدِّمة .
وقوله : (( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعم )) ؛ حق عظيم على تعليم العلم وبثه في الناس ، وعلى الوعظ والتذكير بالدار الآخرة والخير ، وهذا كما قالء في الحديث الآخر : (( إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير )).
والهداية : الدَّلالة والإرشاد . والنَّعم : هي الإبل ، وحمرها هي خيارها حسنًا وقوة ونفاسة ؛ لأنَّها أفضل عند العرب ، ويعني به - والله أعلم - أن ثواب تعليم رجل واحد ، وإرشاده للخير أعظم من ثواب هذه الإبل النفيسة لو كانت لك فتصدقت بها ؛ لأنَّ ثواب تلك الصدقة ينقطع بموتها ، وثواب في العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثه )) ، فذكر منها : (( علم ينتفع به )).
---
(9/99)
وفي نوم علي ـ رضى الله عنه ـ في المسجد ، وإقرار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له على ذلك : دليل على جواز ذلك للمتأهل الذي له منزل ، وبه قال بعضُ أهل العلم ، وكرهه مالك من غير ضرورة ، وأجازه للغرباء ؛ لأنَّهم في حاجة وضرورة ، وقد تقدَّم ذلك في كتاب الصلاة . ومسح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جَنب علي من التراب ، وهو يقول : (( قم أبا التراب ، قم أبا التراب )) ؛ دليل على محبته له ، وشفقته عليه ، ولطفه به ، ولذلك كان ذلك الاسم أحب إلى علي ـ رضى الله عنه ـ من كل ما يدعى به ، فيا عجبًا من بني أمية كيف صيَّروا الفضائل له رذائل ، والمناقب معايب ، لكن غلبة الأهواء تعوِّض الظلمة من الضياء ، وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى ضرار الصُّدائي : وقال له معاوية : صف لي عليًّا ، فقال : اعفني يا أمير المؤمنين ! قال : صفه . قال : أما إذ ولا بد من وصفه ، فكان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فضلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجَّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويأنس من الليل ووحشته ، وكان غزير الدَّمعة ، طويل الفكرة ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن ، كان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، ويفتينا إذا استفتيناه ، ونحن والله مع تقريبه إيانا ، وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له ، يُعظم أهل الدِّين ، ويُقرب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، قابضًا على لحيته يتملل تملل السَّليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : يا دنيا غُرِّي غيري ، أألي تعرضت ؟ أم إلي تشوَّفت ، هيهات هيهات ! قد بتتك ثلاثًا لا رجعة فيها ، فعمرك قصير ، وخطرك قليل ، قلة الزاد ، وبُعد السفر ، ووحشة الطريق ؛ فبكى معاوية ، وقال : رحم الله أبا حسن ! كان والله كذلك ، كيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزن
(9/100)
من ذبح واحدها في حجرها .
---
قلت : وهذا الحديث : يدل على معرفة معاوية بفضل علي ـ رضى الله عنه ـ ومنزلته ، وعظيم حقه ، ومكانته ، وعند ذلك يبعد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبه ؛ لما كان معاوية موصوفًا به من الفضل والدين ، والحلم ، وكرم الأخلاق ، وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح . وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص : ما يمنعك أن تسب أبا التراب ؟ وهذا ليس بتصريح بالشيء ؛ وإنَّما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج ما عنده من ذلك ، أو من نقيضه ، كما قد ظهر من جوابه ، ولما سمع ذلك معاوية سكت ، وأذعن ، وعرف الحق لمستحقه ، ولو سلمنا : أن ذلك من معاولة حمل على السَّب ، فإنَّه يحتمل أن يكون طلب منه أن يسبَّه بتقصير في اجتهاد ، في إسلام عثمان لقاتليه ، أو في إقدامه على الحرب والقتال للمسلمين ، وما أشبه ذلك مما يمكن أن يقصر بمثله من أهل الفضل ، وأما التصريح باللعن ، وركيك القول ، كما قد اقتحمه جهَّال بني أمية وسفلتهم ، فحاشا معاوية منه ، ومن كان على مثل حاله من الصحبة ، والدين ، والفضل ، والحلم ، والعلم ، والله تعالى أعلم .
ومن باب فضائل سعد بن أبي وقاص ـ رضى الله عنه ـ
---
(9/101)
واسمه : مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرَّة ، يكنى : أبا إسحاق ، أسلم قديمًا ، وهو ابن سبع عشرة سنة ، وقال : مكثت ثلاثة أيام ، وأنا ثلث الإسلام . وقال : أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله. شهد المشاهد كلها مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وولي الولايات العظيمة من قبل عمر وعثمان ـ رضى الله عنهم ـ . وهو أحد أصحاب الشورى ، وأحد المشهود لهم بالجنة . توفي في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة ، وصلَّى عليه مروان بن الحكم ، ومروان إذ ذاك والي المدينة ، ثم صلى عليه أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ دخل بجنازته في المسجد ، فصلين عليه في حجرهن ، وكفن في جبة صوف ، لقي المشركين فيها يوم بدر ، فوصى أن يكفن فيها ، ودفن بالبقيع سنة خمس وخمسين ، ويقال سنة خمسين ، وهو ابن بضع وسبعين سنة ، ويقال : ابن اثنين وثمانين ، وروي عنه من الحديث مائتان وسبعون ، أخرج له منها في الصحيحين ثمانية وثلاثون .
وقوله : (( أرق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقدمه المدينة ليلة )) ؛ أي : سهر عند أول قدومه على المدينة في ليلة من الليالي ، فقال : (( ليت رجلاً صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة )). قيل : كان هذا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أول الأمر ، قبل أن ينزل عليه : { والله يعصمك من الناس }.
---
(9/102)
قلت : ويحتمل أن يقال : إن قوله : { والله يعصمك من الناس } ليس فيه ما يناقض احتراسه من الناس ، ولا ما يمنعه ، كما أن إخبار الله تعالى عن نصره ، وإظهاره لدينه ليس فيه ما يمنع الأمر بالقتال ، وإعداد العَدَد والعُدَد ، والأخذ بالجد والحزم ، والحذر ، وسر ذلك : أن هذه أخبار عن عاقب الحال ، ومآله ، لكن هل تحصل تلك العاقبة عن سبب معتاد ، أو عن غير سبب ؟ لم يتعرض ذلك الأخبار له ، فليبحث عنه في موضع آخر ، ولما بحثت عن ذلك وجدت الشريعة طافحة بالأمر له ولغيره بالتحصن ، وأخذ الحذر من الأعداء ، ومدافعتهم بالقتل والقتال ، وإعداد الأسلحة والالات ، وقد عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ، وأخذ به ، فلا تعارض في ذلك ، والذ الموفق لفهم ما هنالك .
وخشخشة السَّلاح وقعقعته : صوت ضرب بعضه في بعض.
وقول سعد : (( وقع في نفسي خوف على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجئت أحرسه )) ؛ دليل على مكانة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكرامته على الله ، فإنَّه قضى أمنيته ، وحقق في الحين طِلْبَته . وفيه دليل على أن سعدًا ـ رضى الله عنه ـ من عباد الله الصالحين المحدَّثين الملهمين ، وتخصيصه بهذه الحالة كلها ، وبدعاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له من أعظم الفضائل ، وأشرف المناقب ، وكذلك جَمعُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له أبويه ، وفداؤه بهما خاصَّةٌ مِن خصائصه ؛ إذ لم يُروَ ، ولا سُمع أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدى أحدًا من الناس بأبويه جميعًا غير سعد هذا ، وغير ما يأتي في حديث ابن الزبير ، وقد تقدَّم أن النَّواجذَ آخر الأضراس ، وأنها تقال على الضواحك ، وأنها المعنيَّة في هذا الحديث ، فإنها هي التي يمكنُ أن ينظر إليها غالبًا في حال الضحك ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ جُلّ ضحكه ضحكه التبسُّم ، فإذا استغرب ، فغايةُ ما يظهر منه ضواحكه مع ندور ذلك منه وقِلَّته .
(9/103)
وقوله : (( كان رجلْ من المشركين قد أحرق في المسلمين )) ؛ أي : أصاب منهم كثيرًا ، وآلمهم ، حتى كأنه فعل فيهم ما تفعله النار من الإحراق .
---
وقوله : (( فنزعت له بسهم ليس فيه نصل )) ؛ أي : رميتُه بسهم لا حديدة فيه ، وقد تقدَّم : أن أصلَ النَّزع : الجذب والجبذ ، وكان ضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرورًا بإصابته العدو ، لا بانكشاف العورة ، فإنه المنزَّهُ عن ذلك .
وقوله : (( فأصبتُ جنبه )) ؛ بالجيم والنون ، كذا كثر الرواة ، وكذا رويته ، وقيَّده القاضي الشهيد حبَّته - بالحاء المهملة والباء الموحدة- ؛ يعني به : حبة قلبه ، وفيه بُعد .
وقوله : (( فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصى ، ثم أوجروها ))- بالشين والجيم - ؛ أي : فتحوا فمها ، وأدخلوا فيه العصا ؛ لئلا تغلقه حتى يوجروها الغذاء . والوَجُور : - بفتح الواو - ما يُصَبُّ في وسط الفم ، واللَّدود - بفتح اللام - : ما يُصَبُّ من جانب الفم . ويقال : وجرته ، وأوجرته - ثلاثيًّا ورباعيًّا - وقد رواه بعضُهم : شحُّوا فاها - بحاء مهملة ، وواو من غير راء - وهو قريب من الأول ؛ أي : وسَّعوه بالفتح ، والشحو : التوسع في المشي ، والدابة الشحواء : الواسعة الخطو. ويقال : شحا فاه ، وشحا فوه - معدَى ولازمًا - ؛ أي : فتحه ، ووصية الله تعالى بمبرَّة الوالدين المشركين ، والإحسان إليهما وإن كانا كافرين ، وحريصين على حمل الولد على الكفر . ويدلُّ دلالةً قاطعة على عظيم حرمة الآباء ، وتأكُد حقوقهم .
---
(9/104)
وقوله تعالى : { وَإن جَاهَدَاكَ على أَن تُشركَ بي مَا ليسَ لَكَ به عِلم فَلا تُطِعهُمَا } ؛ أي : إن حاولاك على الشرك والكفر ، فلا تطعهما ؛ وإن بالغًا في ذلك ، وأتعبا أنفسهما فيه ؛ فإن الشرك بالله تعالى باطل ليس له حقيقة فتعلم ، كما قال تعالى : { أَئنبئون الله بما لا يعلَمُ في السَّمَوات وَلا في الأرضِ سُبحَانَه وَتعالى عَمَا يشركون } ، والقَبَضُ - بفتح الباء - : اسم لما يُقبض ، وكذلك هو هنا ، والقَبْض بسكونها : مصدر قبضت . وقد تقدم في الجهاد الكلامُ على قوله تعالى : { يسئلونَكَ عَنِ الأَنفَالِ } ، وفي الوصايا على وصية سعدِ ، وما يتعلق بها . والْحُشُ : بستان النخل ، ويقال : بضم الحاء وفتحها ، ويُجمع على حشَّان ، وقد يُكنى بالحش عن موضع الخلاء ، لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في البساتين . وحائش النخل : جماعة النخل .
وقوله : (( ففزره ، وكان أنفُه مفزورًا هو بتقديم الزاي مخفَّفةً ؛ أي : شقَّه ، والمفزور : المشقوق ، ولَحيُ الجمل- بفتح اللام- : هو أحَدُ فكي فمه ، وهما : لحيان ، أعلى وأسفل ، والذي يمكن أن يؤخذ ويضرب به : هو الأسفل ، وقد تقدم القولُ في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس } الآية في الأشربة .
---
(9/105)
وقول المشركين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا )) ؛ كان هؤلاء المشركون أشرافَ قومهم ، وقيل : كان منهم : عُيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، أنِفُوا من مجالسة ضعفاء أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كصهيب ، وسلمان ، وعمار ، وبلال ، وسالم ، ومِهجَع ، وسعد هذا ، وابن مسعود ، وغيرهم ممن كان على مثل حالهم استصغارًا لهم ، وكِبرًا عليهم ، واستقذارًا لهم ؛ فإنهم قالوا : يُؤذوننا بريحهم ، وفي بعض كتب التفسير أنهم لما عرضوا ذلك على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبى ، فقالوا له : اجعل لنا يومًا ولهم يومًا ، وطلبوا أن يكتبَ لهم بذلك ، فهمَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ، دعا عليًّا ليكتب ، فقام الفقراء وجلسوا ناحية ، فأنزل الله تعالى الآية .
قلتُ : ولهذا أشار سعد بقوله : فوقع في نفس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما شاء الله أن يقع . وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما مال إلى ذلك طمعًا في إسلامهم ، وإسلام قومهم ، ورأى أن ذلك لا يفوتُ أصحابه شيئًا ، ولا ينقصُ لهم قدرًا ، فمال إليه ، فأنزل الله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } ؛ فنهاه عما همَّ به من الطرد ، لا أنه أوقع الطرد ، ووصف أولئك بأحسن أوصافهم ، وأمره أن يصبر نفسه معهم بقوله : {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} ، فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا رآهم بعد ذلك يقول : (( مرحبًا بقوم عاتبني الله فيهم )) ، وإذا جالسهم لم يقم عنهم حتى يكونوا هم الذين يبدؤون حوله بالقيام .
---
(9/106)
وقوله : { يدعون ربهم بالغداة والعشي } ، قيل معناه : يدعون ربهم بالغداة بطلب التوفيق والتيسير ، وبالعشي : قيل معناه : بطلب العفو عن التقصير ، وقيل معناه : يذكرون الله بعد صلاة الصبح ، وصلاة العصر . وقيل : يصلون الصبح والعصر ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يصلون الصلوات الخمس ، وقال يحيى بن أبي كثير : هي مجالس الفقه بالغداة والعشي ، وقيل يعني به : دوام أعمالهم وعباداتهم ؛ وإنَّما خصَّ طرفي النهار بالذكر ؛ لأنَّ من عمل في وقت الشغل كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل .
وقوله : { يريدون وجهه } ؛ أي : يخلصون في عباداتهم وأعمالهم لله تعالى . ويتوجهون إليه بذلك لا لغيره ، ويصح أن يقال : يقصدون بأعمالهم رؤية وجهه الكريم ؛ أي : وجوده المنزه المقدس عن صفات المخلوقين .
وقوله : { ما عليك من حسابهم من شيء } ؛ أي : من جزائهم ، ولا كفاية رزقهم ؛ أي : جزاؤهم ورزقهم ، وجزاؤك ورزقك على الله تعالى ، لا على غيره ، فكأنه يقول : وإذا كان الأمر كذلك : فاقبل عليهم وجالسهم ، ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدِّين والفضل . فإنَّ فعلت كنت ظالِمًا ، وحاشاه من وقوع ذلك منه ؛ وإنَّما هذا بيان للأحكام ، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل الإسلام . وهذا نحو قوله تعالى : { ولئن أشركت ليحبطن عملك } ، وقد علم الله منه : أنه لا يشرك ، ولا يحبط عمله .
وقوله : { فتكون من الظالمين } ، نصب بالفاء في جواب النفي ، وقد تقدم : أن الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه ، ويحصل من فوائد الآية والحديث : النهي عن أن يُعظم أحدٌ لجاهه ، وأبوابه ، وعن أن يحتقر أحذ لخموله ، ورثاثة ثوبيه.
ومن باب فضائل طلحة بن عببد الله
---
(9/107)
طلحة بن عبيدالله بن عثمان بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي . شهد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المشاهد كلها إلا بدرًا ؛ فإنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان بعثه وسعيد بن زيد يتجسَّسان خبر عير قريش ، فلقيا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منصرفه من بدر ، فضرب لهما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسهمهما وأجرهما ، فكانا كمن شهدها ، وسَمَّاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومئذ : طلحة الخير ، ويوم ذات العشيرة : طلحة الفياض ، ويوم حنين : طلحة الجود. وثبت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد ، ووقى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده فشلت إصبعاه ، وجرح يومئذ أربعًا وعشرين جراحة ، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة . وجملة ما روي عنه من الحديث : ثمانية وثلاثون حديثًا ، أخرج له ج منها في الصحيحين سبعة ، وقتل يوم الجمل ، وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ، ويقال : إن سهمًا غَربًا أتاه فوقع في حلقه فقال : بسم الله { وكان أمر الله قدرًا مقدورًا }. ويقال : إن مروان بن الحكم قتله. ودفن بالبصرة ، وهو ابن ستين سنة ، وقيل : ابن اثنتين وستين سنة ، وقيل : ابن أربع .
---
(9/108)
وأما الزبير ـ رضى الله عنه ـ فيكنى أبا عبد الله بولده عبد الله ؛ لأنَّه كان أكبر أولاده ، وهو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ، أمه : صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسلمت وأسلم الزبير ، وهو ابن ثمان سنين ، وقيل : ابن ست عشرة سنة ، فعذَّبه عمُّه بالدخان لكي يرجع عن الاسلام فلم يفعل . هاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين ، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو أول من سل سيفًا في سبيل الله ، وكان عليه يوم بدر ريطة صفراء قد اعتجر بها ، وكان على الميمنة فنزلت الملائكة على سيماه ، وثبت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد ، وبايعه على الموت ، فقتل يوم الجمل ، وهو ابن خمس وسبعين سنة . وقيل : خمس وستين . وقيل : بضع وخمسون. قتله ابن جرموز ، وكان من أصحاب علي ، فأُخبر عليٌّ بذلك فقال : بشِّر قاتل ابن صفية بالنار. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وروي عنه من الحديث مثل ما روي عن طلحة ، وله في الصحيحين مثل ما له سواء .
وأما أبو عبيدة ـ رضى الله عنه ـ فاسمه : عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال ابن أهيب بن ضبَّة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ، أسلم فديما مع عثمان بن عفان رضي الله عنهما ، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ، وشهد بدرًا ، والمشاهد كلها ، وثبت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد ، ونزع يومئذ بثنيتيه الحلقتين اللتين دخلتا في وجنتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوقعت ثنيتاه ، فكان أهتم ، وكان من أحسن الناس هتمًا ، يزينه هتمه ، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وولي فتح الشام وحروبها ، ومات في طاعون عمواس بالأردن ، وقبر ببيسان وهو ابن ثمان وخمسين سنة .
(9/109)
وقول أبي عثمان النهدي : (( لم يبق مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير طلحة وسعد )) ؛ يعني بذلك : يوم أحد ، وقد قدمنا : أن طلحة ثبت يومئذ ، ووقى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده فشلَّت إصبعاه ، وجرح يومئذ أربعًا وعشرين جراحة .
---
وقوله : (( عن حديثهما )) ؛ هذا من قول الراوي عن أبي عثمان ، وهو : المعتمر بن سليمان ؛ ويعني به : أن أبا عثمان إنما حدَّث بثبوت طلحة وسعد عنهما ، لا أنه شاهد هو ثبوتهما ، فإنَّه تابعي لا صحابي ، ولا أنه حدَّث بذلك عن غيرهما ، بل عنهما . هما حدَّثاه بذلك . واتفق لطلحة في ذلك اليوم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثقل بالجراح ، وكان عليه درعان ، فنهض ليصعد على صخرة كانت هنالك ، فلم يستطع ، فحنى طلحة ظهره لاصقًا بالأرض حتى صعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ظهره حتى رقي على الصخرة ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أوجب طلحة )) ؛ أي : أوجب له ذلك الفعل الثواب الجزيل عند الله ، والمنزلة الشريفة . وروى جابر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( من سرَّه أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض ، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله )). وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( طلحة بن عبيد الله ممن قضى نحبه )) ؛ أي : ممن وفَّى بنذره ، وقام بواجباته.
وقوله : (( ندب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس فانتدب الزبير )) ؛ أي : رغبهم في الجهاد ، وحضهم عليه ، فأجاب الزبير ثلاث مرات ، وعند ذلك قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لكل نبي حواري ، وحواري الزبير )). أي : خاصتي ، والمفضل عندي ، وناصري ، وقد تقدم إيعاب القول فيه في الإيمان . والأطم : بضم الهمزة ، والطاء المهملة : هوا الحِصن ، ويجمع : آطام ، بمد الهمزة ، وبكسرها . مثل : آكام وإكام .
(9/110)
وقوله : لقد جمع لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبويه يومئذ فقال : (( فداك أبي وأمي )) ؛ هو بفتح الفاء والقصر ، فعل ماض ، فإن كسرت مَدَدْت ، وهذا الحديث يدل على أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جمع أبويه لغير سعد بن أبي وقاص ، وحينئذ يشكل بما رواه الترمذي من قول علي : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما جمع أبويه لأحد إلا لسعد ، وقال له يوم أحد : (( فداك أبي وأمي )). ويرتفع الإشكال بأن يقال : إن عليًّا أخبر بما في علمه ويحتمل أن يريد به أنه لم يقل ذلك في يوم أحد لأحد غيره ، والله تعالى أعلم .
---
وحراء : جبل بمكة ، وهو بكسر الحاء ممدود ، ويُذَكَّر فيصرف ، ويؤنَّث فلا يصرف ، وقد أخطأ من فتح حاءه ، ومن قصره .
وقوله : (( فتحركت الصخرة ، فقال : اهدأ فما عليك )) ؛ كذا صحَّ هذا النَّص هنا بسكون ا لهمزة على أنه أمر من (( هدأ )) المذكر ، وعليك : بفتح كاف خطاب المذكر ، مع أنه افتتح الكلام بذكر الصخرة ، فكان حق خطابها أن يقال : اهدئي فما عليك ، فتخاطب خطاب المؤنث ، لكنه لما كانت تلك الصخرة جبلاً خاطب خطاب المذكر ، وقد تقدَّم مثل هذا كثيرًا .
وقوله : (( فما عليك إلا نبي ، أو صدِّيق ، أو شهيد )) ؛ بأو التي هي للقسم والتنويع ، فالنبي : رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والصِّدِّيق : أبو بكر ، والشهيد : من بقي ـ رضى الله عنهم ـ ، وهذا من دلائل صحة نبوَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإنَّ هؤلاء كلهم قتلوا شهداء . فأمَّا عمر : فقتله العلج ، وأما عثمان فقتل مظلومًا ، وعلي : غيلة ، وأما طلحة والزبير : فقتلا يوم الجمل منصرفين عنه تاركين له ، وأما أبو عبيدة فمات بالطاعون ، والموت فيه شهادة .
وقول عائشة لعروة : (( كان أبوك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح )) ؛ استجابوا : أجابوا ، والسين والتاء : زائدتان ؛ كما قال الشاعر :
(9/111)
وداعٍ دعا يا من يُجيب إلى الندا فلم يَستجِبهُ عند ذاك مجيبُ
---
أي : لم يجبه . والقرح : الجراح . وإشارة عائشة رضي الله عنها إلى ما جرى في غزوة حمراء الأسد ، وهو موضع على نحو ثمانية أميال من المدينة ، وكان من حديثها : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رجع إلى المدينة من أحد بمن بقي من أصحابه ، وأكثرهم جريح ، وقد بلغ منهم الجهد ، والمشقة نهايته ، أمرهم بالخروج في أثر العدوِّ مرهبًا لهم ، وقال : (( لا يخرجن إلا من كان شهد أحدًا )) ؛ فخرجوا على ما بهم من الضَّعف والجراح ، وربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي ، ولا يجد مركوبًا ، فربما يحمل على الأعناق ، كل ذلك امتثالٌ لأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورغبة في الجهاد والشهادة حتى وصلوا إلى حمراء الأسد ، فلقيهم نعيم بن مسعود ، فأخبرهم : أن أبا سفيان بن حرب ، ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم ، وأجمعوا رأيهم على أن يرجعوا إلى المدينة ، فيستأصلوا أهلها ، فقالوا ما أخبرنا الله به عنهم : { حسبنا الله ونعم الوكيل } ، وبينا قريش قد أجمعوا على ذلك ؛ إذ جاءهم معبد الخزاعي ، وكانت خزاعة حلفاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعيبة نُصحه ، وكان قد رأى حال أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما هم عليه ، ولما رأى عزم قريش على الرجوع ، واستئصال أهل المدينة احتمله خوف ذلك ، وخالص نصحه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه على أن خوَّف قريشًا بأن قال لهم : إني قد تركت محمدًا وأصحابه بحمراء الأسد في جيش عظيم ، قد اجتمع له كل من تخلف عنه ، وهم قد تحرَّقوا عليكم ، وكأنهم قد أدركوكم ، فالنجاء النجاء ، وأنشدهم شعرًا ، يعظِّم فيه جيش محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويكثرهم ، وهو مذكور في كتب السير ، فقذف الله في قلوبهم الرُّعب ، ورجعوا إلى مكة مسرعين خائفين ، ورجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أصحابه إلى المدينة مأجورًا منصورًا ، كما قال
(9/112)
تعالى : { فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضلٍ عظيم} ، وقوله تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} ؛ يعني به نعيم بن مسعود الذي خوَّف أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقوله : { إن
---
الناس قد جمعوا لكم} ؛ يعني به : قريشًا .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن لكل أمة أمينًا وأميننا - أيتها الأمة- أبو عبيدة بن الجراح )) ؛ الأمانة : ضد الخيانة ، وهي عبارة عن : قوَّة الرجل على القيام بحفظ ما يوكل إلى حفظه ، ويخلِّي بينه وبينه . وهي مأخوذة من قولهم : ناقه أمون ؛ أي : قوية على الحمل والسير ، فكان الأمين هو الذي يوثق به في حفظ ما يوكل إلى أمانته حتى يؤدِّيه لقوَّته على ذلك . وكان أبو عبيدة قد خصَّه الله تعالى من هذا بالحظ الأكبر ، والنصيب الأكثر ، بحيث شهد له بذلك المعصوم ، وصار له ذلك الاسم ، والعلم المعلوم ، وقد ظهر ذلك من حاله للعيان حتى استوى في معرفته كل إنسان ؛ وذلك أن عمر ـ رضى الله عنه ـ لما قدم الشام متفقِّدًا أحوال الناس والأمراء ، ودخل منازلهم ، وبحث عنهم أراد أن يدخل منزل أبي عبيدة ، وهو أمير على الشام ، قد فتحت عليه بلاده وترادفت عليه فتوحاته ، وخيراته ، واجتمعت له كنوزه ، وأمواله ، فلما كلَّمه عمر ـ رضى الله عنه ـ في ذلك ، قال له : يا أمير المؤمنين! والله لئن دخلت منزلي لتعصرن عينيك ، فلما دخل منزله لم يجد فيه شيئًا يردُّ البصر أكثر من سلاحه وأداة رحل بعيره ، فبكى عمر ـ رضى الله عنه ـ وقال : صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنت أمين هذه الأمَّة )) ، أو كما قال.
(9/113)
وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أخبر عن كل واحد من أعيان أصحابه ـ رضى الله عنهم ـ بما غلب عليه من أوصافه ، وإن كانوا كلهم فضلاء ، علماء ، حكماء ، مختارين لمختار ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الترمذي من حديث أنس بن مالك : ((أرحم أمي بأمتي : أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله : عمر ، وأصدقهم حياءً : عثمان ، وأعلمهم بالحلال والحرام : معاذ ، وأفرضهم : زيد ، وأقرؤهم : أُبي ، ولكل أمَّة أمين. وأمين هذه الأمَّة : أبو عبيدة )). ومن حديث عبد الله بن عمرو : (( ما أظلت الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر )).
---
وقوله : (( أيتها الأمَّة )) ؛ هو منادى مفرد محذوف حرف النداء . والأمَّة : نعته مرفوعًا ، والأفصح : نصبها على الاختصاص ، وحكى سيبويه : اللهم اغفر لنا أيتها العِصابةَ بالنصب .
وقوله : (( لأبعثن إليكم رجلاً أمينًا حق أمين )) ؛ هو بنصب ((حق أمين )) على أنه مصدر مضاف ، وهو في موضع الصِّفة تقديره أمينًا محققًا في أمانته .
وقوله : (( فاستشرف لها الناس )) ؛ أي : تشوَّفوا ، وتعرَّضوا لمن هو الموجَّه معهم ، وكلُّهم يحرصُ على أن يكون هو الْمَعْنِيُّ ؛ إذ كل واحد منهم أمين .
ومن باب فضائل الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب y
(9/114)
وأمهما : فاطمة بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يُكنى الحسن : أبا محمد ، والحسين : أبا عبد الله . ولد الحسن في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة . هذا أصحُّ ما قيل في ذلك ، وولد الحسين لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة . وقيل : سنة ثلاث ، هذا قول الواقدي . وقال : علقت به فاطمة رضي الله عنها بعد مولد الحسن بخمسين ليلة ، ومات الحسن مسمومًا في ربيع الأول من سنة خمسين بعدما مضى من خلافة معاوية عشر سنين . وقيل : بل مات سنة إحدى وخمسين ، ودفن ببقيع الغرقد إلى جانب قبر أمه ، وصلَّى عليه سعيد بن العاص ، وكان أمير المدينة ، قدَّمه الحسين ، وقال : لولا أنَّها سُنَّة لما قدَّمتك ، وقد كان وصى أن يدفن مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إن أذنت في ذلك عائشة فأذنت في ذلك ، ومنع من ذلك مروان ، وبنو أمية .
وروى أبو عمر بإسناده إلى علي ـ رضى الله عنه ـ قال : لما ولد الحسن جاءه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( أروني ابني ، ما سقيتموه ؟ قلت : حربًا . قال : (( بل هو : حسن )) ، فلما ولد الحسين ، قال : (( أروني ابني ، ما سميتموه؟)) ، قلت : حربًا ، قال : (( بل(2) هو : حسين )) ، فلما ولد الثالث ، قال : ((أروني ابني ، ما ستيتموه ؟ )) قلت : حربًا ، قال : (( بل هو : محسِّن )).
---
(9/115)
وعقَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كل واحدٍ من الحسن والحسين يوم سابعه بكبش كبش ، وأمر أن يحلق كل واحد منهما ، وأن يتصدَّق بوزن شعرهما فضة. وقال علي ـ رضى الله عنه ـ : (( الحسين ـ رضى الله عنه ـ أشبه الناس برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما بين الصدر إلى الرأس ، والحسن أشبه الناس للنبي ما كان أسفل من ذلك. وتواردت الآثار الصِّحاح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال في الحسن : (( إن ابني هذا سيِّد ، وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )). ولا أسود ممن سوَّده الحسن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وشهد له بذلك ، وكان حليمًا ، ورِعًا ، فاضلاً ، دعاه ورعه وفضله إلى أن ترك الْمُلك والدنيا رغبة فيما عند الله . ومما يدلّ على صحة ذلك وعلى صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وصحة نبوته ما قد اشتهر من حال الحسن ، وتواتر من قضيَّة خلافته ، واصلاحه بين المسلمين ، وذلك : أنه لما قُتِل علي ـ رضى الله عنه ـ بايعه أكثر من أربعين ألفًا ، وكثير ممن تخلَّف عن أبيه ، وممن نكث بيعته ، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق ، وما وراءها من خراسان ، ثم سار إلى معاوية في أهل الحجاز والعراق ، وما وراءها من خراسان ، ثم سار إليه معاوية في أهل الشام ، فلما تراءى الجمعان بموضع يقال له : مَسْكَن ، من أرض السواد بناحية الأنبار ، كره الحسن القتال لعلمه أن إحدى الظائفتين لا تغلب حتى يهلكَ أكثر الأخرى ، فيهلك الحسن المسلمون ، فسلَّم الأمر لمعارية على شروط شرطها عليه ، منها : أن يكون الأمر له من بعد معاوية ، فالتزم كل ذلك معاوية ، واجتمع الناس على بيعته في النصف من جمادى الأولى من سنة إحدى وأربعين . هذا أصح ما قيل في ذلك ، ولما فعل ذلك الحسن عتب عليه أصحابه ، ولاموه على ذلك ؛ حتى قال له بعض أصحابه : يا عار المؤمنين ! فقال : العار خير من النار . وقال له شيخ من أهل الكوفة يكنى أبا
(9/116)
عامر لما قدمها : السلام عليك يا مُذِل المؤمنين ، فقال له : لا تقل ذلك يا أبا عامر ! فإني لم أذل المؤمنين ، ولكني كرهت أن أقتلهم في طلب الملك ، فقد ظهر
---
ما قاله سيد المرسلين من أن الحسن سيِّد ، وأن الله أصلح به بين فئتين من المسلمين ، لكن خُشي من طول عمره فسُمَّ فمات من فوره ، ونقل الثقات : أنه لما سُمَّ لفظ قطعًا من كبده ، وحينئذ قال : لقد سُقيتُ السُّمَّ ثلاث مرات لم أسق مثل هذه المرة ، فقال له الحسين : يا أخي من سقاك ؟ قال : وما تريد إليه ؟ أتريد أن تقتله ؟ قال : نعم . قال : لئن كان الذي أظن ؛ فالله أشد نقمة ، ولئن كان غيره فما أحب أن يقتل بي بريء. ولما ورد البريد بموته على معاوية قال : يا عجبًا من الحسن شرب شربة من عسل بماء رومة فقضى نحبه .
---
(9/117)
وأما الحسين ـ رضى الله عنه ـ ، فكان فاضلاً ، ديِّنًا ، كثير الصوم ، والصلاة ، والحج ، قال مصعب الزبيري : حجَّ الحسين خمسًا وعشرين حجَّة ماشيًا ، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه وفي الحسن : (( إنهما سيِّدا شباب أهل الجنة )). وقال : (( هما ريحانتاي من الدنيا )). وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا رآهما هشَّ لهما ، وربما أخذهما ، كما روى أبو داود : أنهما دخلا المسجد وهو يخطب فقطع خطبته ونزل فأخذهما ، وصعد بهما ، وقال : (( رأيت هذين ، فلم أصبر )). وكان يقول فيهما : (( اللهم إني أحبهما فأحبهما ، وأحِبَّ من يحبهما )). وقتل رحمه الله ، ولا رحم قاتله يوم الجمعة لعشر خلون من محرم سنة إحدى وستين بموضع يقال له : كربلاء ، بقرب موضع يقال له : الطفُّ بقرب من الكوفة . قال أهلُ التواريخ : لما مات معاوية ، وأفضت الخلافة إلى يزيد ، وذلك في سنة ستين ، وردت بيعته على الوليد بن عتبة بالمدينة ليأخذ البيعة على أهلها ، أرسل إلى الحسين بن علي ، وإلى عبدالله بن الزبير ليلاً فأُتي بهما فقال : بايعا. فقالا : مثلنا لا يبايع سرًّا ، ولكنا نبايع على رؤوس الناس إذا أصبحنا ، فرجعا إلى بيوتهما ، وخرجا من ليلتهما إلى مكة ، وذلك ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب ، فأقام الحسين بمكة شعبان ورمضان وشوال وذا القعدة ، ثم خرج يوم التروية يريد الكوفة ، فبعث عبيدالله بن زياد خيلاً لقتل الحسين ، وأمَّر عليهم عمر بن سعد ، فأدركه بكربلاء فقتل الحسين ، وقتل معه من ولده وإخوته وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلاً ، وسبي نساؤه ، وذلك في يوم عاشوراء من السنة المذكورة . وكان من قضاء الله تعالى وتعجيل عقوبته لعبيدالله بن زياد : أن قتل يوم عاشوراء سنة سبع وستين . قتله إبراهيم بن الأشتر في الحرب ، وبعث برأسه إلى المختار ، وبعث به المختار إلى ابن الزبير ، فبعث به إلى علي بن حسين .
---
(9/118)
واختلف في سن الحسين يوم قتل . فقيل : سبع وخمسون. وقيل : ثمان . وقيل : أربع . وقال جعفر بن محمد : توفي علي بن أبي طالب وهو ابن ثمان وخمسين . وقتل الحسين وهو ابن ثمان وخمسين ، وتوفي علي بن الحسين ، وهو ابن ثمان وخمسين ، وتوفي محمد بن علي ، وهو ابن ثمان وخمسين . قال سفيان : قال لي جعفر بن محمد ، وأنا بهذه السنة في ثمان وخمسين ، وتوفي فيها ، رحمة الله عليهم أجمعين .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يرى النائم نصف النهار ، وهو قائم أشعث ، أغبر ، بيده قارورة فيها دم ، فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! ما هذا ؟ قال : هذا دم الحسين ، لم أزل ألقطه منذ اليوم ، فوجد قد قتل في ذلك اليوم.
وأما الحسن فكان سنَّه يوم مات ستًّا وأربعين سنة ، وقيل : سبعًا وأربعين سنة. وروى الحسن عن النبي حديث الدعاء في القنوت .
وقوله : (( إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة )). وروى الحسين عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )).
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ابن صائد : (( اختلفتم وأنا بين أظهركم ؟ فأنتم بعدي أشدُّ اختلافًا )).
وقوله : (( حتى أتى خباء فاطمة )) ؛ أي : بيتها ، وأصل الخباء : ما يخبأ فيه ، وقد صار بحكم العرف العربي عبارة عن بيوت الأعراب .
وقوله للحسن : (( أثمَّ لُكَع ؟ )) يعني به : الصغير ، وهي لغة بني تميم ، وسئل ابن جرير عن اللكع ، فقال : هو الصغير في لغتنا ، وأصل هذه الكلمة : أنها تستعمل للتحقير ، والتجهيل ، واللكع : العبد الوغد ، والقليل العقل ، ويقال للأنثى : لكعاء ، ويعدل به في النداء إلى لكاع ، وقد تقدم القول فيه . ويحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُمازحًا له بذلك اللفظ ، ومؤنسًا كما يقول الرجل لابنه الصغير : تعال يا كُليب ، وكما قالت العربية لابنها وهي تُرَقِّصه : حُزُقَّة عين بقَّة .
---
(9/119)
والسِّخاب : خيط فيه خرز ينظم ، ويجعل في عنق الصبيان ، والسِّخاب مأخوذ من السَّخَب ، وهو اختلاط الأصوات ، وارتفاعها ، وكان هذه الخرزات لها أصوات مختلفة عند احتكاك بعضها مع البعض ، وقيل : السِّخاب من القلائد : ما اتخذ من القرنفل ، والمسك ، والعود وشبهه ، دون الجوهر .
وفيه من الفقه : المحافظة على النظافة ، وعلى تحسين الصغار ، وتزيينهم ، وخصوصًا عند لقاء من يُعظم ويحترم .
وقوله : (( حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه )) ؛ فيه ما يدل على تواضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورحمته بالصغار ، وإكرامه ومحبَّته للحسن ، ولا خلاف - فيما أحسب - في جواز عناق الصِّغار كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وإنَّما اختلف في عناق الكبير في حالة السلام ، وكرهه مالك ، وأجازه سفيان بن عيينة ، وغيره ، واحتج سفيان على مالك في ذلك بعناق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعفرًا لما قَدِم عليه ، فقال مالك : ذلك مخصوصٌ بجعفر . فقال سفيان : ما يخص جعفرًا يعمَّنا ، فسكت مالك ، ويدل سكوت مالك على أنه ظهر له ما قاله سفيان من جواز ذلك. قال القاضي عياض : وهو الحق حتى يدلّ دليل على تخصيص جعفر بذلك .
والعاتق : ما بين المنكب إلى العنق ، قيل : هو موضع الرداء من المنكب .
وفيه من الفقه ما يدل على : جواز حمل الصِّبيان ، وترك التعمُّق في التحفظ مما يكون منهم من المخاط والبول ، وغير ذلك ، فلا يجتنب من ذلك إلا ما ظهرت عينه ، أو تحقق ، أو تفاحش ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه يعملون على مقتضى الحنيفية السَّمحة ، فيمشون حفاة في الطِّين ، ويجلسون بالأرض ، وتكون عليهم الثياب الوسخة التي ليست بنجسة ، ويلعقون أصابعهم ، والقصعة عند الأكل ، ولا يعيبون شيئًا من ذلك ، ولا يتوسوسون فيه ، وكل ذلك ردٌّ على غلاة متوسوسة الصوفية اليوم ؛ فإنَّهم يبالغون في نظافة الظواهر والثياب ، وبواطنهم وسخة خراب .
---
(9/120)
وقوله : (( لقد قدتُ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والحسن والحسين بغلته )) ؛ هذا يدل على جواز ركوب ثلاثة على دابة ؛ لكن إذا لم يثقلوها ، وقد روي عن علي وغيره : كراهة ذلك ، وروي في ذلك نهي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لكن محله- والله تعالى أعلم - على ما إذا أثقلها وفَدَحها.
---
ومن باب فضائل أهل البيت y
قوله : (( مرط مُرَحَّل )) ؛ المرط : الكساء ، وجمعه : مروط . والمرحَّل : يروى بالحاء يعني : فيه صور الرِّحال ، ويُروى بالجيم ؛ أي : فيه صور الرجال ، أو صور المراجل ، وهي : القدور ، يقال : ثوب مراجل ، وثوب مرجَّل : هذا قولُ ا لشارحين .
قلت : ويظهر لي أن المرجَّل هنا : يُراد به الممشوط خَمَلُه وزُبْرُه. كما قال امرؤ القيس :
خَرَجْتُ بها تمشي تَجُرُّ وراءَنا على أثَرَيْنا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرجَّل
وهذا أولى ؛ لأنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف يلبس الثوب الذي فيه صور الرِّجال ؛ مع أنه قد نهى عن الصور ، وهتك السِّتر الذي كانت فيه ، وغضب عند رؤيته ، كما تقدَّم في اللباس .
وقراءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الآية : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا } ؛ دليل على : أن أهل البيت المعنيون في الآية : هم المغطون بذلك المرط في ذلك الوقت . والرجس : اسم لكل ما يستقذر ، قاله الأزهري . والمراد بالرجس الذي أُذهب عن أهل البيت : هو مستخبث الخلق المذمومة ، والأحوال الركيكة ، وطهارتهم : عبارة عن تجنبهم ذلك ، واتصافهم با لأخلاق الكريمة ، والأحوال الشريفة .
وقوله : (( قام فينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطيبًا بماء يدعى خُمًّا )) ؛ هو بضم الخاء المعجمة ، وهو موضع معروف ، وهو الذي أكثرت الشيعة وأهل الأهواء فيه من الكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في استخلافه عليًّا ، ووصيته إياه ، ولم يصح من ذلك كله شيء إلا هذا الحديث .
(9/121)
وقوله : (( وأنا تارك فيكم ثقلين )) ؛ يعني : كتاب الله ، وأهل بيته . قال ثعلب . سَمَّاهما ثقلين ؛ لأنَّ الأخذ بهما ، والعمل بهما ثقيل ، والعرب تقول لكل شيء خطير نفيس : ثقيل .
قلت : وذلك لحرمة الشيء النَّفيس ، وصوبة روم الوصول إليه ، فكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما سمَّى كتاب الله ، وأهل بيته : ثقلين لنفاستهما ، وعظم حرمتهما ، وصعوبة القيام بحقهما .
---
وقوله في كتاب الله : (( هو حبل الله )) ؛ أي : عهد الله الذي عهده لعباده ، وسببه القوي الذي من تمسك به وصل إلى مقصوده ، وقد ذكر هذا المعنى بأشبع من هذا فيما تقدَّم .
وقوله : (( وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي - ثلاثا -)) ؛ هذه الوصية ، وهذا التأكيد العظيم يقتضي : وجوب احترام آل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهل بيته ، وإبرارهم ، وتوقيرهم ، ومحبتهم وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها . هذا مع ما علم من خصوصيتهم بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبأنَّهم جزء منه ، فإنَّهم أصوله التي نشأ منها ، وفروعه التي تنشأ عنه ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها )) ، ومع ذلك فقابل بنو أمية عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق ، فسفكوا من أهل البيت دماءهم ، وسبوا نساءهم ، وأسروا صغارهم ، وخرَّبوا ديارهم ، وجحدوا شرفهم ، وفضلهم ، واستباحوا سَبَّهم ، ولَعْنَهم ، فخالفوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وصيته ، وقابلوه بنقيض مقصوده وأمنيته ، فواخجلهم إذا وقفوا بين يديه ! ويا فضيحتهم يوم يعرضون عليه !
---
(9/122)
وقوله : (( من أهل بيته ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ )) هذا سؤال من تمسك بظاهر لفظ البيت ، فإنَّ الزوجة : هي أصل بيت الرجل ؛ إذ هي التي تعمره ، وتلازمه ، وتقوم بمصالحه ، وكذلك إجابة زيد بأن قال : نساؤه من أهل بيته ؛ أي : بيته المحسوس ، وليس هو المراد هنا ، ولذلك قال في الرواية الأخرى في جواب السائل : لا ! أي : ليس نساؤه من أهل بيته ، المعنى هنا : ولكن هم أصله وعصبته ، ثم عيَّنهم بأنهم : هم الذين حرموا الصدقة ؛ أي الذين تحرم عليهم الصدقات الشرعية على الخلاف الذي ذكرناه في كتاب : الزكاة ، وقد عينهم زيد تعيينًا يرتفع معه الإشكال ، فقال : هم آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ـ رضى الله عنهم ـ ، فقيل له : أكلَّ هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم . وقد ذهب بعض المتأولين البيت في هذا اللفظ إلى أن مراد زيد به : الذين منعهم خلفاء بني أمية صدقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما كان خصَّه الله تعالى به التي كانت تقسم عليهم أيام الخلفاء الأربعة . وهذا فيه بُعد ، والأول أظهر .
ومن باب فضائل زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب الكلبي
مولى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(9/123)
ويكنى : أبا أسامة بابنه أسامة بن زيد ، وكان أصابه سباءٌ في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لخديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، فوهبته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وذلك قبل النبوَّة بمكة ، وزيد ابن ثماني سنين ، فأعتقه ، وتبناه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان يطوف به على حلق قريش ويقول : (( هذا ابني وارثًا ، وموروثًا )) ؛ يُشهدهم على ذلك . وذكر عن الزهري : أنَّه قال : ما علمت أحدًا أسلم قبل زيد . وروي عن الزهري من وجوه : أن أوَّل من أسلم خديجة . وقُتِل زيذ بمؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمَّره في تلك الغزاة ، وقال : (( إن قُتِل زيدٌ فجعفر ، فإنَّ قُتِل جعفر فعبد الله بن رواحة )) ؛ فقُتِل الثلاثة في تلك الغزاة ، ولما أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نعي زيد ، وجعفر بكى ، وقال : (( أخواي ، ومؤنساي ، ومحدثاي ))(6).
---
(9/124)
وقوله : (( ما كنَّا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمَّد )) ؛ كان التبنِّي معمولاً به في الجاهلية والإسلام ، يُتوارث به ، ويُتناصر ؛ إلى أن نسخ الله تعالى ذلك كله بقوله : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } ؛ أي : أعدلُ . فرفع الله تعالى حكم التبني ، ومع من إطلاق لفظه ، وأرشد بقوله إلى الأولى والأعدل أن يُنسب الرَّجل إلى أبيه نسبًا ، فلو نسب إلى أبيه من التبني ؛ فإنَّ كان على جهة الخطأ - وهو أن يسبق اللسان إلى ذلك من غير قصد- فلا إثم ، ولا مؤاخذة ، لقوله تعالى : {وليس عليكم جناحٌ فيما أخطأتم به } ؛ أي : لا إثم فيه ، ولا يجري هذا المجرى إطلاق ما غلب عليه اسم التبني ، كالحال في المقداد بن عمرو ؛ فإنَّه قد غلب عليه نسب التبني ، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود ، فإنَّ الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية ، وعرف به ، فلما نزلت الآية قال المقداد : أنا ابن عمرو ، ومع ذلك فبقي ذلك الإطلاق عليه ، ولم يسمع فيمن مضى من عصَّى مُطْلِق ذلك عليه ، وإن كان متعمدًا . وليس كذلك الحال في زيد بن حارثة ؛ فإنَّه لا يجوز أن يقال فيه : زيد بن محمَّد ، فإن قاله أحدٌ متعمِّدًا عَصَى ، لقوله تعالى : {ولكن ما تعمدت قلوبُكم } ؛ أي : فعليكم فيه الجناح. والله تعالى أعلم . ولذلك قال بعده : { وكان الله غفورًا رحيمًا } ؛ أي : غفورًا للعمد ورحيمًا برفع إثم الخطأ .
ومعنى قوله تعالى : {ادعوهم لآبائهم } ؛ أي : انسبوهم إليهم ، ولذلك عدَّاه باللام ، ولو كان الدُّعاء بمعنى : النداء لعدَّاه بالباء .
وقوله : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدِّين ومواليكم } ؛ أي : فانسبوهم إليكم نسبة الأخوة الدينية التي قال الله فيها : { إنما المؤمنون إخوة } ، والمولويَّة التي قال فيها : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض }. وقد تقدَّم : أنَّه يقال : مولى على الْمُعْتِق ، والْمُعْتَق ، وابن العم ، والناصر .
---
(9/125)
وقوله : (( بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعثًا ، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا البعث - والله تعالى أعلم - هو الذي جهَّزه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أسامة ، رأضره لجهم ، وأمره أن يغزو أُبنى ، وهي القرية التي هي عند مؤتة - الموضع الذي قتل فيه زيد أبو أسامة - ، فأمره أن يأخذ بثأر أبيه . فطعن من في قلبه ريبٌ في إمارته ؛ من حيث : أنه من الموالي ، ومن حيث : إنه كان صغير السِّن ؛ لأنَّه كان إذ ذاك ابن ثماني عشرة سنة ، فمات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد برز هذا البعث عن المدينة ، ولم ينفصل بعد عنها ، فنفَّذَه أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ بعد موت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( إن تطعنوا في إمرته ؛ فقد كنتم طعنتم في إمرة أبيه قبل )) ؛ هذا خطاب منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن وقع له ذلك الطعن ، لكنه على كريم خلقه لم يعيِّنهم سترًا لهم ؛ إذ مَعْتبتُه كانت كذلك ، كما تقدَّم ، وكان الطعن في إمارة زيد من حيث أنه في كان مولًى ، فشهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأسامة وأبيه رضي الله عنهما ؛ بأنَّهما صالحان للإمارة ، لما يعلم من أهليتهما لها ، وأن كونهما موليين لا يغضُّ من مناصبهما ، ولا يقدح في أهليتهما للإمارة .
ولا خلاف أعلم في جواز إمارة المولى والمفضول ، وقد تقدَّم القول في استخلاف المفضول .
و (( الإمرة )) رويناها بالكسر بمعنى : الولاية ، وقال أبو عبيد : يُقال : لك عليَّ أمرةٌ مطاعة - بفتح الهمزة - ، وكذلك حكاه القتبي ، وهي واحدة الأمر .
قلت : وهذا على قياس : جَلسة ، وجِلسة - بالفتح للمصدر والكسر للهيئة .
والخليق ، والحريُّ ، والقَمِنُ ، والحقيقُ : كلُّها بمعنى واحد .
(9/126)
وقوله : (( وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ )) ، (( إن )) عند البصريين مخففة من الثقيلة ، واللام الداخلة بعدها هي المفرقة بين (( إن )) المخففة وبين ((إن )) الشرطية . وعند الكوفيين : (( إن )) نافية ، واللام بمعنى : إلا . وهذا نحو قوله :
شَلَّت يَمِينُك إن قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا حَلَّت عَلَيك عقوبةُ الْمُتَعَمِّدِ
---
تقديرها عند البصريين : إنك قتلت مسلمًا . وعند الكوفيين : ما قتلت إلا مسلمًا .
وهذا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خبر عن محبته لزيد ـ رضى الله عنه ـ ، ثمَّ أخبر عن محب
محبته لأسامة فقال : (( وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده )). فكان أسامة الحبُّ ابن الحبِّ . وبذلك كان يُدعى . ورضي الله عن عمر بن الخطاب ؛ لقد قام بالحق ، وعرفَه لأهله ، وذلك : أنَّه فرض لأسامةَ في العطاء خمسة آلاف ، ولابنه عبد الله ألفين . فقال له عبد الله : فضلت عليَّ أسامة ، وقد شهدت ما لم يشهد ؟! فقال ـ رضى الله عنه ـ : إن أسامة كان أحب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منك ، وأبوه كان أحب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أبيك . ففضل محبوب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على محبوبه ، وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويبغض ما أبغض ، وقد قابل مروان هذا الحب الواجب بنقيضه ، وذلك : أنَّه مرَّ بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال له مروان : إنَّما أردت أن يُرى مكانك فقد رأينا مكانك ، فعل الله بك وفعل - قولاً قبيحًا - فقال له أسامة : إنَّك آذيتني ، وإنَّك فاحش متفحش ، وقد سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( إن الله يبغض الفاحش المتفحش )). فانظر ما بين الفعلين ، وقس ما بين الرَّجلين ، فلقد آذى بنو أمية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أحبابه ، وناقضوه في مَحابِّه .
(9/127)
تنبيه : روى موسى بن عقبة عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( أحبُّ الناس إليَّ أسامة )) ؛ فما حاشا فاطمة ولا غيرها. وهذا يعارضه ما تقدَّم من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن أحبَّ الناس إليه عائشة ، ومن الرِّجال أبوها ؛ ويرتفع التعارض من وجهين :
أحدهما : أن الأحاديث الصحيحة المشهورة إنما جاءت في حبِّه لأسامة بـ (( من )) التي للتبعيض ، كما قد نصَّ عليه بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنه لمن أحب الناس إلي )).
---
وقد رواه هشام بن عروة ، عن أبيه : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( إن أسامة بن زيد أحب الناس إليَّ )) ، أو (( من أحب الناس إلي )) ، فعلى هذا يحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( إن من أحب الناس إلي أسامة )) ، فاسقطها بعض الرواة .
والوجه الثاني : على تسليم أن صحيح الرواية بغير (( من )) ، فيرتفع التعارض بأن كل واحد من هؤلاء أحب بالنسبة إلى عالمه .
وبيان ذلك : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان يحب هؤلاء من حيث الصور الظاهرة ، فإنَّ أسامة كان أسود أفطس ؛ وإنَّما كان يحبهم من حيث المعاني ، والخصائص التي كانوا موصوفين بها .
فكان أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ أحب إليه من حيث إنه كان له من أهلية النيابة عنه ، والخلافة في أمته ما لم يكن لغيره .
وكانت عائشة رضي الله عنها أحب النساء إليه من حيث أن لها من العلم والفضيلة ما استحقت به أن تفضل على سائر النساء ، كما فضل الثريد على سائر الطعام.
(9/128)
وكان أسامة ـ رضى الله عنه ـ أيضًا أحب إليه من حيث إنه كان قد خص بفضائل ومناقب استحق بها أن يكون أحب الموالي إليه ، فإنَّه أفضلهم وأجلهم ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أوصيكم به خيرًا ، فإنَّه من صالحيكم )) ، فأكد الوصية به ، ونبَّه على الموجب لذلك ، وهو ما يعلمه من صلاحه وفضله ، وقد ظهر ذلك عليه ، فإنَّه لم يدخل في شيء من الفتن فسلَّمه الله تعالى من تلك المحن ، إلى أن توفي في خلافة معاوية سنة سبع وخمسين ، وقيل : سنة أربع وخمسين ـ رضى الله عنه ـ .
ومن باب فضائل عبدالله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما
---
يكنى : أبا جعفر ، وأمه : أسماء بنت عميس ، ولدته بأرض الحبشة ، وهوكنيته أول مولود من المسلمين وُلد بها ، وتوفي بالمدينة سنة ثمانين ، وهو ابن تسعين سنة ، وكان عبد الله كريمًا جوادًا ، طريفًا ، حليمًا ، عفيفًا ، سخيًّا ، يُسمَّى : بحر الجود . يقال : إنه لم يكن في الإسلام أسخى منه ، وعوتب في ذلك فقال : إن الله عوَّدني عادة ، وعوَّدت الناسَ عادة ، وأنا أخاف إن قطعتها قُطِعَتْ عني . وأخباره في إلجود شهيرة ، وفضائله كثيرة ، وجملة ما روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمسة وعشرين حديثًا . أخرج له منها في الصحيحين حديثان .
وقوله : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بصبيان أهل بيته )) ؛ إنما كانوا يتلقونه بصبيان بيته لما يعلمونه من محبته لهم ، ومن تعلق قلبه بهم ، ولفرط فرح الصغار برؤيته ، ولتنالهم بوادر بركته .
(9/129)
وقوله : (( فَسُبِق بي إليه ، فحملني بين يديه )) ؛ يدل على : أن عبدالله من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرًا ، ويدل على محبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الله وعلى شدة تهتمه به ، وإكرامه له ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخصُّ ولد جعفر بزيادة احترام وإكرام جَبْرًا لهم ، وشفقة عليهم ؛ إذ كان أبوهم جعفر قتل بمؤتة شهيدًا ـ رضى الله عنه ـ ، وقد تقدَّم القول على ركوب ثلاثة على دابة .
وقوله : (( أردفني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلفه ذات يوع فأسرَّ إلي حديثًا لا أحدث به أحدًا )) ؛ دليل على علو مكانته عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكمال فضله ، وأهليته لأن يتخذه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ موضع سرِّه ، وهذه أهلية شريفة ، وفضيلة منيفة .
ومن باب فضائل خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية رضي الله عنها
---
(9/130)
كانت تُدعى في الجاهلية : الطاهرة ، تزوَّجها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل النبوة ثيبًا بعد زواج زوجين : أبي هالة ؛ هند بن النباش التميمي ، فولدت له هندًا ، وعتيق بن عائذ المخزومي ، ثم تزوَّجها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي بنت أربعين سنة ، وأقامت معه أربعًا وعشرين سنة ، وتوفيت وهي بنت أربع وستين سنة وستة أشهر ، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ تزوج خديجة ابن إحدى وعشرين سنة . وقيل : ابن خمس وعشرين سنة وهو الأكثر. وقيل : ابن ثلاثين . وأجمع أهل النقل : أنها ولدت له أربع بنات كلهن أدركن الإسلام ، وأسلمن ، وهاجرن : زينب ، وفاطمة ، ورقية ، وأم كلثوم . وأجمعوا أنها ولدت له ابنًا يُسمَّى : القاسم ، وبه كان يكنى ، واختلفوا هل ولدت له ذكرًا غير القاسم ؛ فقيل : لم تلد له ذكرًا غيره . وقيل : ولدت له ثلاثة ذكور : عبد الله ، والطيب ، والطاهر . وقيل : بل ولدت له : عبدالله ، والطيب والطاهر : اسمان له . والخلاف في ذلك كثير ، والله تعالى أعلم.
ومات القاسم بمكة صغيرًا . قيل : إنه بلغ إلى أن مشى ، وقيل : لم يعش إلا أيامًا يسيرة ، ولم يكن للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولد من غير خديجة إلا إبراهيم ، ولدته مارية القبطية بالمدينة ، وبها توفي وهو رضيع ، ومات بنات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلهن قبل موته إلا فاطمة ، فإنَّها توفيت بعده بستة أشهر .
وكانت خديجة رضي الله عنها امرأة شريفة عاقلة فاضلة حازمة ذات مال ، وقد تقدَّم أنها أول من آمن بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نُبِّئ يوم الإثنين فصلت آخر ذلك اليوم . وكانت عونًا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حاله كله ، وردءًا له تثبِّتُه على أمره ، وتصدقه فيما يقوله ، وتصبِّره على ما يلقى من قومه من الأذى والتكذيب ، وسلَّم عليها جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبشرها بالجنة.
(9/131)
وروي من طرق صحيحة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال فيما رواه عنه أبو هريرة ـ رضى الله عنه ـ : ((خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية ابنة مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة - رضي الله عنهن -)) .
---
ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون )).
وفي طريق آخر عنه : ((سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم : فاطمة وخديجة )). وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحبها ويقول : (( رزقت حبها )). ولم يتزوج عليها إلى أن ماتت . قيل : كانت وفاتها قبل مهاجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة بسبع سنين . وقيل : بخمس. وقيل : بأربع . وقيل : بثلاث ، وهو أصحها ، وأشهرها - إن شاء الله تعالى - وتوفيت هي وأبو طالب - عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ - في سنة واحدة . قيل : كان بينهما ثلاثة أيام ، وتوفيت في رمضان ، ودفنت بالحجون .
وقوله : (( خير نساءها : مريم ابنة عمران )) ؛ هذا الضمير عائد على غير مذكور ؛ لكنه تفسره الحال والمشاهدة ؛ يعني به : الدنيا ، وفي رواية : وأشار وكيع إلى السماء والأرض - يريد الدُّنيا - كأنه يفسر ذلك الضمير ، فكأنه قال : خير نساء مريم في الدنيا : مريم بنت عمران . وهذا نحو حديث ابن عباس المتقدِّم ، الذي قال فيه : الدنيا "خير نساء العالمين : مريم ". ويشهد لهذه الأحاديث في تفضيل مريم : قول الله تعالى حكاية عن قول الملائكة لها : { إن الله اصطفاك وطهرك وأصطفاك على نساء العالمين }.
---
(9/132)
فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي : أن مريم أفضل من جميع نساء العالم ، من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة ، ويعتضد هذا الظاهر : بأنها صديقة ونبية بلَّغتها الملائكةُ الوحي عن الله تعالى بالتكليف ، والإخبار ، والبشارة ، وغير ذلك ؛ كما بلَّغته سائر الأنبياء ، فهي إذًا نبيَّة ، وهذا أولى من قول من قال : إنها غير نبيَّة ، وإذا ثبت ذلك ، ولم يسمع في الصحيح أن في النساء نبئة غيرها فهي أفضل من كل النساء الأولين والآخرين ؛ إذ النبي أفضل من الولي بالإجماع ، وعلى هذا فهي أفضل مطلقًا ، ثم بعدها في الفضيلة فاطمة ، ثم خديجة ، ثم آسية ، وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( سيدة نساء العالمين : مريم ، ثم فاطمة ، ثم خديجة ، ثم آسية )) ، وهذا حديث حسن ، رافع لإشكال هذه الأحاديث ، فأمَّا من يرى : أن مريم صديقة وليست بنبيَّة فلهم في تأويل هذه الأحاديث طريقان :
أحدهما : أن معناها أن كل واحدة من أولئك النساء الأربع خير عالم زمانها ، وسيدة وقتها .
وثانيهما : أن هؤلاء النسوة الأربع هن أفضل نساء العالم ؛ وإن كنَّ في أنفسهن على مزايا متفاوتة ، ورتب متفاضلة ، وما ذكرناه : أوضح وأسلم . والله أعلم .
وقوله : (( بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ، ولا نصب )) ؛ قال الهروي وغيره : القصب - هنا - : اللؤلؤ المجوَّف المستطيل ، والبيت : هو القصر .
---
(9/133)
قلت : وهذا نحو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الآخر : (( إن في الجنة لخيمة من لؤلؤة مجوَّفة عرضها ستون ميلاً )) ، وفي لفظ آخر : (( من درَّة بيضاء طولها ستون ميلاً )) وسيأتي - إن شاء الله تعالى - . والصخب : اختلاط الأصوات ، ويقال : بالسين والصاد ، والنصب : التعب والمشقة. ويقال : نُصْبٌ ، ونَصَبٌ ، كحُزْن وحَزَن ؛ أي : لا يصيبها ذلك ؛ لأنَّ الجنة منزهه عن ذلك ، كما قال تعالى : { لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين } ، وقيل : معناه أن هذا البيت خالص لها ، لا تنازع فيه فيصخب عليها فيه ، وذلك من فضل الله تعالى عليها لا بنصبها في العبادة ، ولا اجتهادها في ذلك .
وإبلاغ الملك لها : أن الله يقرأ عليها السَّلام ؛ فضيلة عظيمة ، وخصوصية شريفة لم يُسمع بمثلها لمن ليس بنبي إلا لعائشة رضي الله عنها على ما يأتي .
قول عائشة رضي الله عنها : (( ما غِرْتُ على امرأة ما غِرْت على خديجة ، لِمَا كنت أسمعه يذكرها )) ؛ أي : يمدحها ويثني عليها ، ويذكر فضائلها ، وذلك لفرط على محبته إياها ، ولِما اتصل له من الخير بسببها ، وفي بيتها ، ومن أحبَّ شيئًا أكثر من ذكره ؛ ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إني رزقت حبها )) ، وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُهدي لخلائل خديجة : دليل على كرم خلقه ، وحسن عهده ، ولذلك كان يرتاح لهالة بنت خويلد إذا رآها ، وينهض إكرامًا لها ، وسرورًا بها .
وقولها : (( فعرف استئذان خديجة )) ؛ أي تذكر عند استئذان هالة خديجة ، وكأن نَغْمةَ هالة كانت تشبه نَغْمةَ خديجة ، وأصلُ هذا كله : أن من أحب محبوبًا أحبَّ محبوباته ، وما يتعلق به وما يشبهه .
وقوله : (( اللهم ! هالة )) ؛ يجوز في هالة الرفع على خبر الابتداء ؛ أي : هذه هالة فأكرمها وأحسن إليها . والنَّصب على إضمار فعل ؛ أي : أَكْرِم هالة واحفظها ، وما أضبه ذلك من التقدير الذي يليقُ بالمعنى .
---
(9/134)
وقول عائشة رضي الله عنها : (( وما تذكر من عجوز من عجائز قريش ... )) إلى آخر الحديث ؛ قولٌ أخرجه من عائشة فرط الغيرة ، وخِفَّة الشباب ، والدَّلال ، ولذلك لم ينكر عليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا مما قالت ، وقد أخذ بعض العلماء من هذا الحديث : أن الغَيْرى لا تُؤاخذ بما يصدرُ عنها في حال غيرتها ، وليس ذلك أخذًا صحيحًا ؛ لأنَّ الغيرة هنا جزءُ السَّبب ، لا كل السَّبب ، وذلك أن عائشة رضي الله عنها اجتمع فيها تلك الأمور الثلاثة : الغيرة والشباب - ولعل ذلك كان قبل بلوغها - والدَّلال ، وذلك أنها : كانت أحب نسائه إليه بعد خديجة ، فإحالة الصَّفح عنها على بعض هذه الأمور دون بعض تحكُّم ، لا يقال : إنما يصحُّ إسناد الصَّفح إلى الغيرة ؛ لأنَّها هي التي نصَّت عليها عائشة فقالت : فغرت ؛ لأنَّا نقول : لو سلمنا أن غيرتها وحدها أخرجت منها ذلك القول لما لزم أن تكون غيرتها وحدها هي الموجبة للصفح عنها ، بل يحتمل : أن تكون الغيرة وحدها ، ويحتمل أن تعتبر باقي الأوصاف ، لا سيما ولم ينص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المسقط ما هو ، فبقي الأمر محتملاً للأمرين ، فلا تكون فيه حجَّة على ذلك ، والله تعالى أعلم .
وقولها : (( حمراء الشِّدقين )) ؛ قيل معناه : أنها بيضاء الشدقين ، والعرب تسمي الأبيض : أحمر ، كراهة في اسم البياض ؛ لأنَّه يشبه البرص ، وهذا كما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة : (( يا حميراء ! لا تأكلي الطين فإنَّه يذهب بهاء الوجه )).
---
(9/135)
قلت : وهذا فيه بُعدٌ في هذا الموضع ، فلو كان الأمر كذلك لقالت عائشة بدل : حمراء الشدقين : بيضاء الشدقين ، فإنه كان يكون أبلغ في التقبيح ، وعائشة إنما ذكرت هذا الكلام تقبيحًا لمحاسن خديجة وتزهيدًا فيها ؛ وإنَّما معنى هذا عندي - والله تعالى أعلم - أنها نسبتها إلى أنها حمراء الشدقين من الكِبَر ، وذلك : أن من جاوز سن الكهولة ، ولحق سن الشيخوخة ، وكان قويًّا في بدنه صحيحًا غلب على لونه الحمرة المائلة إلى السُّمرة ، والله تعالى أعلم .
وقولها : (( قد أبدلك الله خيرًا منها )) ؛ تعني بخيرة أجمل وأشب-وتعني نفسها- ، لا أنها خير منها عند الله ، وعند رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما تقدَّم من الأحاديث التي ذكرناها في صدر الكلام ، وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتزوج على خديجة إلى أن ماتت : يدلّ على عظيم قدرها عنده ، ومحبته لها ، وعلى فضل خديجة أيضًا ؛ لأنها اختصَّت برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولم يشاركها فيه أحد ؛ صيانة لقلبها من التَّغيير والغَيْرة ، ومن مناكدة الضرة .
ومن باب فضائل عائشة ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
تكنى : بأم عبدالله - ابن الزبير ، وهو ابن أختها : أسماء - أباح لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تكتنيَ به. تزوجها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة بعد موت خديجة ، وقبل الهجرة بثلاث سنين ، وهو أولى ما قيل في ذلك ، وهي بنت ست سنين . وابتنى بها بالمدينة ، وهي بنت تسع سنين. وقال ابن شهاب : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوج بها في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين ، وأعرس بها في المدينة في شوال على رأس ثمانية عشر شهرًا من مهاجره إلى المدينة ، وقد روي عنها أنها قالت : تزوجني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنا بنت ست ، وبنى بي وأنا بنت تسع ، وقُبِض عني ، وأنا بنت ثماني عشرة.
---
(9/136)
وتوفيت سنة ثمان وخمسين ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان ، وأمرت أن تدفن ليلاً ، فدفنت بعد الوتر بالبقيع ، وصلَّى عليها أبو هريرة ـ رضى الله عنه ـ . ونزل في قبرها خمسة : عبد الله وعروة ابنا الزبير ، والقاسم ومحمد ابنا محمد بن أبي بكر ، وعبدالله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، وكانت فاضلة ، عالمة ، كاملة . قال مسروق : رأيت مشيخة أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكابر يسألونها عن الفرائض ، وقال عطاء : كانت عائشة أفقه الناس ، وأحسن الناس رأيًا في العامَّة ، وقال عروة : ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ، ولا طبٍّ ، ولا شعرٍ من عائشة ، وقال أبو الزناد : ما رأيت أحدًا أروى لشعرٍ من عروة ، فقيل له : ما أرواك يا أبا عبدالله ! قال : وما روايتي في رواية عائشة ؟! ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا . قال الزهري : لو جُمع علم عائشة إلى علم أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل . وجملة ما روت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألفا حديث ، ومئتا حديث ، وعشرة أحاديث . أخرج منها في الصحيحين ثلاثمئة إلا ثلاثة أحاديث .
وقوله : (( جاءني بك الملك في سرقة من حرير ، فيقول : هذه امرأتك )) : السَّرَقة - بفتح الراء - : واحدة السَّرق ، وهي شقق الحرير البيض . وقيل : الجيد من الحرير . وقال أبو عبيد : وأحسبها فارسيه ، وأصلها سَرَة ، وهو : الجيد . وأنشد غير أبي عبيد للعجاج :
ونَسَجَتْ لَوَامِعُ الْحَرُورِ سَبَائِبًا كَسَرَقِ الْحَرير
والسَّبائب - بالهمز والباء- : هي ما رَقَّ من الثياب كالْخُمُر ، ونحوها . قال المهلَّب : السَّرَقَةُ : كالكلَّة والبرقع ، والأول : هو المعروف ، وفيه دليل على أن للرؤيا ملكًا يمثل الصور في النوم ، كما قدحكيناه عن بعض العلماء .
---
(9/137)
وقوله : (( إن يك من عند الله يُمضِه )) ؛ ظاهره : الشَّك في صحة هذه الرؤيا ، فإنَّ كان هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل النبوة ، فلا إشكال فيه ؛ لأنَّ حكمه حكم البشر ، وأما إن كان بعد النبوة فهو مشكل ؛ إذ رؤيا الأنبياء وحي كما تقدَّم ، والوحي لا يشك فيه ، وقد انفصل عن هذا : بأن قيل : إن شيء لم يكن في صحة أصل الرؤيا ، وإن ذلك من الله ، ولكن في كون هذه الرؤيا على ظاهرها ، فلا تحتاج إلى تعبير ، أو المقصود بها معناها فتحتاج إلى تعبير ، أو في كونها امرأته في الدنيا ، أو في الآخرة . وقيل : لم يكن عنده شك في ذلك ، بل : محققًا له ، لكنه أتى به على صورة الشك ، وهو غير مراد ، كما قال الشاعر :
أيا ظَبْيَة الوَغْساءِ بَيْنَ حَلاحِل وبَيْنَ الثَّقا آنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمِ ؟
وهذا نوع من أنواع البلاغة معروف عند أهلها يسمى : تجاهل العارف ، وقد سُمِّي مزج الشك باليقين ، ونحو منه قوله تعالى : { فإن كنت فى شكٍّ مما انزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} ، ونحوه ، وقوله تعالى : { وإن أدرى لعلَّه فتنة لكم ومتاعٌ إلى حين } ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يشك في شيء من ذلك ، لكن أتى به على التقدير لا التحقيق .
وقوله : (( فإذا هي أنت )) ؛ أي : إنه رآها في النوم كما رآها في اليقظة ، فكان المراد بالرؤيا ظاهرها .
وقوله : (( إني لأعلم إذا كنت عليَّ راضية ، وإذا كنت علي غضبى )) ؛ غضب عائشة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأسباب التي ذكرناها في حديث خديجة ، أو لبعضها ، والغالب : أنها كانت للغيرة التي لا تتمالك المرأة معها.
قال القاضي عياض : ينفى عن النساء في كثير من الأحكام لأجل الغيرة ، حتى قد ذهب مالك وغيره من علماء المدينة إلى إسقاط الحد عن المرأة إذا رمت زوجها بالزنى .
---
(9/138)
وقولها : (( أجل والله ! ما أهجر إلا اسمك )) ؛ أجل : يعني : نعم . وتعني بذلك أنها ، وإن أعرضت عن ذكر اسمه في حالة غضبها ، فقلبها مغمور بمحبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتغيَّر منها شيء . وفي هذا ما يدلّ على ما كانا عليه من صفاء المحبة وحُسن العشرة ، وفيه ما يدلّ على : أن الاسم غير المسمَّى ، وهي مسألة اختلف فيها أهل اللسان والمتكلمون ، وللكلام فيها مواضع أخر .
وقولها : (( كنت ألعب بالبنات - وهن اللعب - في بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ اللُّعَبُ : جمع لُعْبة ، وهو ما يُلْعَبُ به . والبنات : جمع بنت ، وهنَّ الجواري ، وأضيفت اللُّعب للبنات ؛ لأنهنَّ هنَّ اللواتي يصنعنها ، ويلعبن بها ، وقد تقدَّم القول في جواز ذلك ، وفي فائدته ، وأنه مستثنى من الصور الممنوعة ؛ لأنَّ ذلك من باب تدرب النساء من صغرهن على النظر لأنفسهن وبيوتهن ، وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن غير مالك فإنَّه كره ذلك ، وحمله بعض أصحابه على كراهية الاكتساب بذلك.
وقولها : (( فكن ينقمعن من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ تعني : صواحبها كنَّ ينقبضن ويستترن بالبيت حياءً من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهيبة له .
وقولها : (( فكان يُسرِّبهنَّ إلي )) ؛ أي : يرسلهن إليها ، ويسكِّنهنَّ ، ويؤنسهنَّ حتى يزول عنهنَّ ما كان أصابهنَّ منه ، فيرجعنَّ يلعبن معها كما كنَّ .
---
(9/139)
ودخول فاطمة وزينب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مع عائشة في مرطها ؛ دليل على جواز مثل ذلك ؛ إذ ليس فيه كشف عورة ، ولا ما يستقبح على من فعل ذلك مع خاصته وأهله . وطلب أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه العدل بينهن وبين عائشة رضي الله عنها ؛ ليس على معنى أنه جار عليهن ، فمنعهن حقًّا هو لهنَّ ؛ لأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ منزه عن ذلك ؛ ولأنه لم يكن العدل بينهن واجبًا عليه كما قدَّمناه في كتاب النكاح . لكن صدر ذلك منهنَّ بمقتضى الغيرة والحرص على أن يكون لهنَّ مثل ما كان لعائشة رضي الله عنها ؛ من إهداء الناس له إذا كان في بيوتهنَّ ، فكأنهنَّ أردن أن يأمر من أراد أن يهدي له شيئًا ألا يتحرى يوم عائشة رضي الله عنها ، ولذلك قال : وكان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، ويحتمل أن يقال : إنهنَّ طلبن منه أن يسوي بينهن في الحب ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفاطمة رضي الله عنها : (( ألست تحبين من أحب ؟ )) قالت : بلى. قال : (( فأحبي هذه )) ، وكلا الأمرين لا يجب العدل فيه بين النساء . أما الهدية فلا تطلب من المهدي ، فلا يتعين لها وقت ، وأما الحب : فغير داخل تحت قدرة الإنسان ولا كسبه .
وقولها : (( وهي التي كانت تساميني في المنزلة عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ تعني : زينب . وتساميني ؛ أي : تطاولني وترافعي ، وهو مأخوذ من السُّموِّ ، وهو العلو والرفعة . تعني : أنها كانت تتعاطى أن يكون لها من الحظوة والمنزلة عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل ما كان لعائشة عنده ، وقيل : إنه مأخوذ من قولهم : سامه خطّة خسف ؛ أي : كلفه ما يشق عليه ويذله ، وفيه بُعد من جهة اللسان والمعنى .
---
(9/140)
وقولها : (( ولم أر امرأة خيرًا في الدين من زينب ... )) الكلام إلى قولها : (( ... ولا أشد ابتذالاً لنفسها في العمل )) ؛ الابتذال : مصدر ابتذل من البذلة ، وهي الامتهان بالعمل والخدمة ، فكانت زينب تعمل رضي الله عنها بيديها عمل النساء من الغزل والنسيج ، وغير ذلك مما جرت عادة النساء بعمله ، والكسب به ، وكانت تتصدق بذلك ، وتصل به ذوي رحمها ، وهي التي كانت أطولهن يدًا بالعمل والصَّدقة ، وهي التي قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أسرعكن لحاقًا بي أطولكن يدًا )) ، وسيأتي.
وفيه ما يدلّ على جواز صدقة المرأة مما تكتسبه في بيت زوجها من غير أمره .
وقولها : (( ما عدا سودة من حدَّة كانت فيها ، تسرع منها الفينة )) ؛ ما عدا ، وما خلا : من صيغ الاستثناء ، وهما مع ما فعلان ينصبان ما بعدهما في المشهور والأفصح . ومع عدم (( ما )) ، يخفضان ما بعدهما ؛ لأنَّهما حرفان من حروف الخفض على الأعرف الأشهر ، والسَّوْرة -بفتح السين - : الشِّدَّة ، والثوران ، ومنه : سَوْرَةُ الشراب ؛ أي : قوته وحِدَّته ؛ أي : يعتريها ما يعتري الشارب من الشراب ، ويروى هذا الحرف : ما عدا سَوْرَة حَدٍّ - بفتح الحاء من غير تاء تأنيث - ؛ أي : سرعة غضب. والفيئة : الرجوع : تريد أنها سريعة الغضب سريعة الرجوع ، ولأجل هذه الحدَّة ، وقعت بعائشة ، واستطالت عليها ؛ أي : أكثرت عليها من القول والعتب ، وعائشة رضي الله عنها ساكتة تنتظر الإذن من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الانتصار ، فلما علمت أنه لا يكره ذلك من قرائن أحواله انتصرت لنفسها فجاوبتها ، وردَّت عليها قولها حتى أفحمتها ، وكانت زينب لما بدأتها بالعتب واللَّوم ، كانت كأنها ظالمةٌ ، فجا! لعائشة أن تنتصر ، لقوله تعالى : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل }.
---
(9/141)
وقولها : (( وقعت فيَّ )) ؛ هو مأخوذ من الوقيعة التي هي : معركة الحرب ، وقيل : هو مأخوذ من الوقع ، وهو ألم الرَّجل من المشي ، ومنه قولهم : كل الحِذَا يحتذي الحافي الوَقِع - بكسر القاف -.
وقولها : (( فلم أنشب أن أنحيت عليها )) ؛ كذا الرواية الثابتة هنا بالنون والحاء المهملة ، والياء باثنتين من تحتها ، ومعناه : إني أصبت منها بالذمِّ ما يُؤلمها ، فكأنها أصابت منها مقتلاً . وفي الصحاح : أنحيت على حلقه بالسكين ؛ أي : عَرَضْتُ ، وحينئذ يرجع معنى هذه الرواية لمعنى الرواية الأخرى التي هي : (( أثخنتها)) ؛ أي : أثقلتها بجراح الكلم . وهو مأخوذ من قوله تعالى : { إذا أثخنتموهم فشدُّوا الوثاق } ؛ أي : أثقلتموهم بالجراح ، أو أكثرتم فيهم القتل ، ولم أنشبها ؛ أي : لم أمهلها ، ولم أتلتث حق أوقعت بها ، وأصله : من نَشِبْت بالشيء ، أو في الشيء إذا نَشِبَ به ، واحتبس فيه أو بسببه .
وقوله : (( إنها ابنة أبي بكر )) ؛ تنبيه على أصلها الكريم الذي نشأت عنه ، واكتسبت الجزالة والبلاغة ، والفضيلة منه ، وطيب الفروع بطيب عروقها. وغذاؤها من عروقها . كما قال :
طِيبُ الفُرُوع من الأصُولِ وَلَمْ يُرَ فرعٌ يَطِيبُ وأصْلُهُ الزَّقُّومُ
ففيه مدح عائشة وأبيها رضي الله عنهما .
---
(9/142)
وقولها : (( فلما كان يوم توفي ؛ قبضه الله تعالى بين سَحْري ونحري )) ؛ الرواية الصحيحة : سَحْري بسين مفتوحة غير معجمة ، والسَّحر : الرئة ، والنَّحر : أعلى الصدر . وأرادت أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ توفي وهو مستند إلى موضع سحرها ، وهو الصدر ، كما جاء في الرواية الأخرى : وهو مستند إلى صدرها. وحكي عن عمارة بن عقيل بن بلال أنه قال : إنما هو شَجْري -بالشين المعجمة والجيم - وشبَّك بين أصابعه ، وأوما إلى أنها ضمَّته إلى صدرها مشبِّكة يديها عليه . وقد تقدَّم القول في الرفيق ، وأن الأولى فيه : أنه الذي دلَّ عليه قوله تعالى : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا } ، وتخيير الله للأنبياء عند الموت مبالغة في إكرامهم ، وفي ترفيع مكانتهم عند الله تعالى ، وليستخرج منهم شدَّة شوقهم ، ومحبتهم له تعالى ، ولما عنده . وقد تقدَّم من هذا شيء في باب ذكر موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقولها : (( فأشخص بصره )) ؛ أي : حدَّد نظره إلى سقف البيت كما تفعل ا لموتى .
وقولها : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خرج أقرع بين نسائه )) ؛ تعني : إذا خرج إلى سفر ؛ وإنَّما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل ذلك مبالغة في تطييب قلوبهن إذ لم يكن القسم عليه واجبًا على الخلاف المتقدِّم ، وليست القرعة في هذا واجبة عند مالك ؛ لأنَّه قد يكون ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبعض نساءه من الغَنَاء في السفر والمنفعة ، والصلاحية ما لا يكون لغيرها . فتتعين الصالحة لذلك ، ولأن من وقعت القرعة عليها لا تجبر على السفر مع الزوج إلى النزو والتجارة ، وما أشبه ذلك ، إنَّما القرعة بينهن من باب تحسين العشرة إذا أردن ذلك ، وكن صالحات له ، وقال أبو حنيفة بايجاب القرعة في هذا ، وهو أحد قولي الشافعي ومالك أخذًا بظاهر هذا الحديث .
---
(9/143)
وقولها : (( وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا كان بالليل سار مع عائشة رضي الله عنها )) ؛ ظاهره : أنه لم يكن يقسم بين عائشة وحفصة في المسير والحديث ، وأن ذلك كان مع عائشة دائمًا دون حفصة ، ولذلك تحيَّلت حفصة حتى سار وتحدَّث معها ، فيحتمل أن هذا القدر لا يجب القسم فيه ؛ إذ الطريق ليس محلَّ خَلْوة ، ولا يحصل لها به اختصاص ، ويحتمل أن يقال : إن القدر الذي يقع به التسامح من السير والحديث مع إحداهما هو الشيء اليسير ، كما يفعل في الحضر ، فإنَّه يتحدث ويسأل وينظر في مصلحة بيت التي لا يكون في يومها ، ولكن لا يُكثر من ذلك ، ولا يُطيله ، وعلى هذا فيكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما أدام ذلك ؛ لأنَّ أصل القسم لم يكن عليه واجبًا ، والله أعلم .
ولم يختلف الفقهاء في أن الحاضرة لا تحاسب المسافرة فيما مضى لها مع زوجها في السفر ، وكذلك لا يختلفون في : أنه يقسم بين الزوجات في السفر كما يقسم بينهن في الحضر . وقد ذكرنا الاحتمال الذي في السير والحديث ، وقول حفصة لعائشة رضي الله عنهما : ألا تركبين بعيري ، وأركب بعيرك فتنظرين وأنظر . حيلة متها تمت لها على عائشة لصغر سنِّ عائشة ، وسلامة صدرها عن المكر والحيل ؛ إذ لم تجرب الأمور بعد ، ولا دَرْك على حفصة فيما فعلت من جهة أنها أخذت حقًّا هو لعائشة ؛ لأنَّ السير والحديث ؛ إن لم يدخل في القسم فهي وعائشة فيه سواء ، فأرادت حفصة أن يكون لها : حظ من الحديث والسير معه ، وإن كان ذلك واجبًا فقد توصلت إلى ما كان لها ، وإنَّما يكون عليها الدَرْك من حيث إنها خالفت مراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثه ، فقد يريد أن يحدِّث عائشة حديثًا يُسِرُّ به إليها ، أو يختص بها فتسمعه حفصة ، وهذا لا يجوز بالاتفاق ، لكن حملها على اقتحام ذلك الغيرة التي تورث صاحبها الدَّهَشَ والْحَيْرة .
---
(9/144)
وقول عائشة : (( يا رب ! سلِّط عليَّ عقربًا يلدغني )) ؛ دعاءٌ منها على نفسها بعقوبة لما لحقها من النَّدم على ما فعلت ، ولما تم عليها من الحيلة ، ولما حصل لها من الغَيْرة ، وهو دعاء باللسان غير مراد بالقلب .
وقولها : (( رسولك ، ولا أستطيع أن أقول له شيئًا )) ؛ ظاهره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعرف القصة ؛ وإنَّما تمَّت لحفصة حيلتها عليها ، والله أعلم ، مع أنه يحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم ذلك بالوحي أو بالقرائن ، وتغافل عمَّا جرى من ذلك ؛ إذ لم يجر منهما شيء يترتب عليه حكم ، ولا يتعلق به إثم ، والله تعالى أعلم .
ورسولك : منصوب بإضمار فعل تقديره : انظر رسولك ، ويجوز الرفع على الابتداء ، وإضمار الخبر .
وقوله : (( كَمَل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء غير مريم وآسية )) ؛ الكمال : هو التناهي والتمام ، ويقال في ماضيه (( كمل )) بفتح الميم وضمها ، ويكمُل النساء في مضارعه بالضم ، وكمال كل شيء بحسبه ، والكمال المطلق : إنما هو لله تعالى خاصة ، ولا شك أن أكمل نوع الإنسان : الأنبياء ، ثم تليهم الأولياء ، ويعني بهم : الصديقين والشهداء الصالحين . وإذا تقرر هذا ، فقد قيل : إن الكمال المذكور في الحديث ، يعني به : النبوة ، فيلزم أن تكون مريم وآسية نبيَّتين ، وقد قيل بذلك ، والصحيح : أن مريم نبيَّة ؛ لأنَّ الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك ، كما أوحى إلى سائر النبيين ، وأما آسية ، فلم يرد ما يدلّ على نبوتها دلالة واضحة . بل على صديقيتها وفضيلتها . فلو صحَّت لها نبوتها لما كان في الحديث إشكال . فإنَّه يكون معناه : أن الأنبياء في الرجال كثير ، وليس في النساء نبي إلا هاتين المرأتين . ومن عداهما من فضلاء النساء صديقات لا نبيَّات ، وحينئذ يصحُّ أن تكونا أفضل نساء العالمين .
---
(9/145)
والأولى أن يقال : إن الكمال المذكور في الحديث ليس مقصورًا على كمال الأنبياء ، بل يندرج معه كمال الأولياء ، فيكون معنى الحديث : إن نوعي الكمال وجد في الرجال كثيرًا ، ولم يوجد منه في النساء المتقدِّمات على زمانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكمل من هاتين المرأتين ، ولم يتعرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث لأحد من نساء زمانه ، إلا لعائشة خاصة ، فإنَّه فضلها على سائر النساء ، ويُستثنى منهن الأربع المذكورات في الأحاديث المتقدِّمة ، وهنَّ : مريم بنت عمران ، وخديجة ، وفا طمة ، وآسية ؛ فإنَّهن أفضل من عائشة ، بدليل الأحاديث المتقدِّمة في باب خديجة ، وبهذا يصحُّ الجمع ، ويرتفع التعارض إن شاء الله تعالى . وإنما كان الثريد أفضل الأطعمة ليسارة مؤنته ، وسهولة إساغته ، وعظيم بركته ؛ ولأنه كان جلَّ أطعمتهم ، وألذَّها بالنسبة لهم ولعوائدهم ، وأما غيرهم فقد يكون غير الثريد عنده أطيب وأفضل ، وذلك بحسب العوائد في الأطعمة ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( إن جبريل يقرأ عليك السلام )) ؛ يقال : أقرأته السلام ، وهو يقرئك السلام - رباعيًّا - فتضم ياء المضارعة منه ، فإذا قلت : يفرأ عليك السلام-كان مفتوح حرف المضارعه ؛ لأنَّه ثلاثي ، وهذه فضيلة عظيمة لعائشة ، غير أن ما ذكر من تسليم الله عز وجل على خديجة أعظم ؛ لأنَّ ذلك سلام من الله ، وهذا سلام من جبريل .
وقولها : (( وعليه السلام ورحمة الله )) ؛ حجَّة لمن اختار أن يكون رد السَّلام هكذا ، وإليه ذهب ابن عمر رضي الله عنهما .
حديث أم زرع
---
(9/146)
الصَّحيح في هذا الحديث : أنه كله من قول عائشة رضي الله عنها ، إلا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها : (( كنت لك كأبي زرع لأم زرع )). هذا هو المتفق عليه عند أهل التَّصحيح . وقد رواه سعيد بن مسلم المديني ، عن هشام بن عررة ، عن أخيه عبدالله ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كنت لك كأبي زرع لأم زرع )). ثم أنشأ يحدِّث بحديث أم زرع وصواحبها ، قال : اجتمع إحدى عشرة امرأة ... وذكر الحديث . فتوهم بعض الناس : أن هذا الحديث كلُّه مرفوعٌ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فنسبه إليه ، وجعله من قوله . وهو وهم محض ؛ فإنَّ القائل : ثم أنشأ يحدِّث ؛ هو : هشام يخبر بذلك ، عن أخيه ، عن أبيه : أنه أنشأ بعد ذلك القول المتقدِّم : يحدَّث بالحديث .
وقولها : (( جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن ، وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا )) ؛ هكذا صحيح الرواية ومشهورها ، وعند الطبري : (( جلسنَّ إحدى عشرة امرأة )) ، بالنون التي هي علامة المؤنث على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، وعليها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار )). وقد حُمِل عليها قوله تعالى : { وأَسروا النجوى الذين ظلموا ، وقوله : { ثمَّ عموا وصموا كثير منهم } ، وعليها قول الشاعر :
ولكن دِيَافِيٌّ أَبُوه وأُمُّه بِحَوْرَانَ يِعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَاربُه
وقد تكلف بعض النحويين ردَّ هذه اللغة إلى اللغة الفصيحة ، وهي ألا تلحق هذه العلامة في الفعل إذا تقدَّم الأسماء ، وردَّ هذه اللغة ، ولا معنى لهذا كله ، ولا يحتاج إليه ؛ إذ قد صحَّت هذه اللغة نقلاً واستعمالاً ، ثم إنها جارية على قياس إلحاق علامة تأنيث الفاعل بالفعل على ما يحقق في علم النحو .
---
(9/147)
وقول الأولى : (( زوجي لحم جمل غَثٌّ على رأس جبل وَعْرٍ - في غير كتاب مسلم : وعث- لا سهل فيُرتقى ، ولا سمين فيُنْتَقَل )) ؛ وفي غير كتاب مسلم : (( فيُنْتَقَى )) بدل : (( فينتقل )) ، الرواية الصحيحة بخفض غثّ ؟ على الصِّفة للجمل ، وقد قيَّده بعضهم بالرفع على الصِّفة لِلَّحم ، والغَثُّ : الشديد الهزال ، الذي يُستغثُّ من هزاله ؛ أي : يُستترك ويُستكره ، مأخوذٌ من غث الجرح غثًّا وغثيثًا ؛ إذا سال منه الْمِدَّة والقيح ، واستغث صاحبه . والوعث من الجبال : الصَّعب المرتقى لوعوثته ، وهو أن يكون بحيث توحل فيه الأقدام ، فلا يكاد يتخلَّص منه .
وقد فسَّرته بقولها : (( لا سهل فيرتقى )) ؛ أي : لا يصعدُ فيه لصعوبته . وينتقل : من الانتقال ؛ أي : هذا الجمل لهزالته لا ينقله أحدٌ زهدًا فيه ، ولكونه بموضع لا يتخلَّص منه ، ويُنتقى ؛ أي : لا نِقْيَ له ، والنِّقْيُ : المخ . يقال منه : نقوت العظم ، ونقيته ، وانتقيته ، إذا استخرجت مُخَه . قال الخطابي : وصفت زوجها بسوء الخلق ، وقلة الخير ، ومنع الرِّفد ، وبالأذى في المعاشرة .
---
(9/148)
وقول الثانية : (( زوجي لا أبث خبره ، إني أخاف ألا أذره ، إن أذكره ، أذكر عجره وبجره )) ؛ بثُّ الخبر : نشره وإظهاره . ومعنى أذره : أدعه ، ولم تستعمل العرب من هذين الفعلين إلا مضارعهما ، فلا يقال منهما : فعل ولا أَفْعَلَ ، ولا فَاعَلَ ، ولا فَعْلَى. استغنوا عن ذلك بـ (( ترك )) غير أنه قد سمع : وَدَعَ ، وَوَدْعٌ ، وهو قليل . والعُجَر : جمع عُجْرَة. والبُجَر : جمع بُجْرَةٍ ؛ تعني بذلك : عيوبه . قال الأصمعي في تفسير قول علي ـ رضى الله عنه ـ : (( أشكو إلى الله عُجَرِي وبُجَرِي )) ؛ أي : همومي وأحزاني ، وأصل البُجَر : العروق المنعقدة في البطن خاصَّة ، وقال ابن الأعرابي : العُجَرة : نفخةٌ في الظهر ، فإذا كانت في السُّرَةِ في : البُجْرة ، ثم يُنْقَلان إلى الهموم والأحزان ، والضمير في خَبَرْه . وفي أَذَرَهُ : على الزوج ، وكذلك هو ظاهر الضميرين في عجره وبجره.
وتعني : أنها إن وصفت حال زوجها ذكرت عيوبه ، وإن فعلت ذلك خافت من فراقه ، وهي تكره فراقه للعِلَق التي بينهما . وعلى هذا فتكون (( لا )) التي في (( أن لا أذره )) زائدة ، كما زيدت في قوله تعالى : { ما منعك ألا تسجد }. ويحتمل أن يقال : (( لا )) ليست بزائدة ، وإنها تخاف ألا تتركه معها ممسكًا لها في صحبتها . وقيل : إن الضمير في عجره وبجره عائدٌ إلى الخبر ؛ تعني : أن حديثه حديث طويل ، فيه عقد لو تحدَّث به ، لكنها لم تتحدَّث به لخوفها ، ولم تسكت عن حال زوجها بالجملة للعقد الذي جعلت على نفسها ، لكنها أومأت إلى شيء من ذلك ، وعلى القول الأول : صرحت بأن له أمورًا تعاب .
---
(9/149)
وقول الثالثة : (( زوجي العشنَّق ، إن أنطق أُطلَّق ، وإن أُعَلَّق )) ؛ العشنَّقُ : الطويل الخارج بطوله إلى الحد المستكره ، ويقال أيضًا عليه : العشنّط - بالطاء - تقول : ليس عنده أكثر من طوله بلا نفع ، فهو منظرٌ بلا مخبر ، إن ذكرت عيوبه طلقني ، وإن سكت عن ذلك ؛ تركني مُعَلَّقة ، لا أيِّمًا ، ولا ذات زوج ، كما قال تعالى : { فتذروها كالممعلَّقة }.
وقول الرابعة : (( زوجي كلَيْلِ تِهامة ، لا حرٌّ ، ولا قرٌّ )) ؛ هو مدح منها لزوجها ؛ لأنَّها ضربت له مثلاً بليل تهامة ؛ لأنَّه معتدل ؛ إذ ليس فيه حرٌّ يؤذي ، ولا بردٌ يُرْدِي . وكذلك كان زوجها . والقرُّ : البرد .
وقولها : (( ولا مخافة ، ولا سآمة )) ؛ أي : لا أخاف منه أذى ، وليس فيه سآمة ؛ أي : ملال . والرواية المشهورة : فتح ما بعد (( لا )) وبناء ما بعدها معها ، وقد رواه أبو عبيد برفع ما بعدها وتنوينه في المواضع كلها على الابتداء وإضمار الخبر ، وهذا نحو قوله تعالى : { لا بيعٌ فيه ولا خلَّة ولا شقعة } ، وكنحو قوله : لا حول ولا قوة إلا بالله ؛ فإنَّه يجوز فتحهما ورفعهما ، وفتح الأول ، ورفع الثاني ، وعكس ذلك ، وبسط ذلك في كتب النحو .
وقول الخامسة : (( زوجي إن دخل فهد ، وإن خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد )) ؛ الرواية فهد وأسد -بكسر العين وفتح اللام - على أنهما فعلان ماضيان مأخوذان من اسم الفهد والأسد ، تريد أن حاله إذا دخل بيته نام نوم الفهد ، تصفه بكثرة النوم . يقال في المثل : هذا أنوم من فهد ، وأما إذا خرج للحرب ، فيفعل فعل الأسد تصفه بالشجاعة . يقال : أسد الرجل واستأسد إذا تشجَّع ، وقال إسماعيل بن أبي أويس : إن دخل فهد ؛ أي : وثب عليّ كما يثب الفهد ، فيحتمل أن تريد بذلك ضربها ، أو المبادرة لجماعها .
قلت : والأول أظهر .
---
(9/150)
وقولها : (( ولا يسأل عما عهد )) ؛ أي : لا يبحث عما له من مال ولا طعام في بيته ، فيحتمل أن يكون ذلك عن كرم نفس ، وحسن خلق فيكون مدحًا ، ويحتمل أن يكون ذلك عن غفلة وقلة مبالاة فيكون ذمًّا.
وقول السادسة : (( زوجي إن أكل لف ، وإن شرب اشتف )) ؛ تصفه بكثرة الأكل مع التخليط في المأكول ، فهو يلف كل ما يجده من الأطعمة ، ويشرب كل ما يجده من الأشربة . يقال : اشتف ما في الإناء إذا شرب ما فيه ، من الشفافة وهي : البقية ، وهذا وصف ذم .
وقولها : (( وإذا اضطجع التف )) ؛ تعني : أنه ينام وحده ملتفًا في ثوبه ، فيحتمل أن يكون ذلك منه إعراضًا عنها ؛ إذ لا أرب له فيها ، فهي لذلك كئيبة حزينة ، ويناسبه قولها بعده : (( ولا يولج الكف ليعلم البث )) ؛ أي : لا يمد يده إلي ليعلم ما أنا عليه من الحزن لإعراضه عنها فيزيله . ويحتمل أنه : إنما يفعل ذلك فشلاً وعجزًا ؛ فإنَّ هذه نومة العجزان الكسلان ، وعلى هذا فيجتمع فيه : أنه أكول ، شروب ، نؤوم ، لا رغبة له في شيء غير ذلك .
واختلف في معنى قولها : (( ولا يولج الكفّ ليعلم البث )) ، فأشار ابن الأعرابي إلى الأول ، فإنَّه قال : إنما أرادت أنه إذا رقد التفّ في ناحية من البيت ، ولم يضاجعني ليعلم ما عندي من محبتي لقربه . ولا بثَّ لها إلا محبَّتُها للدنوِّ منه ، فسمت ذلك بثًّا ؛ لأنَّ البث من جهته يكون . قال أبو عبيد : أحسب أنها كان بجسدها عيب ، فكان لا يدخل يده في ثوبها كرمًا. وقال غيره : لا يمسن عورتها ؛ لأن ذلك قد يشق عليها في بعض الأوقات ، ولذلك قال في الحديث : (( حتى تستحدَّ المغيبة )) ، وقال أحمد بن عبيد : معناه : لا يتفقد أموري فيعلم ما أكرهه فيزيله ، يقال : ما أدخل يده في هذا الأمر ؛ أي : لم يتفقَّده .
---
(9/151)
قلت : وقول ابن الأعرابي : أشبهها ، وما ذكرته أنسبها ، وعلى هذه الأقوال كلها فحديثها كله ذمٌّ ، وأما على قول أبي عبيد ، فإنَّها تكون قد مدحته بالإعراض والتغافل عن الاطلاع على ما يحزنها من عيب جسدها ، وقد استبعد ابن قتيبة أن تكون تذمُّه بالوصفين المتقدِّمين وتمدحه بثالث .
قلت : وهذا لا بُعد فيه ، فإنَّهن تعاقدن ألا يكتمن من أحوال أزواجهن شيئًا ، فمنهن من كان زوجها مذموم الأحوال كلها ، ومنهن من كان زوجها ممدوح الأوصاف كلها ، ومنهم من جمع الأمرين ، فأخبرت كل واحدة بما علمت .
وقول السَّابعة : (( زوجي غياياء - أو عياياء- طباقاء )) ؛ الرواية التي لا يعرف غيرها بالعين المهملة ، وغياياء : بالغين المعجمة ، و(( أو )) للشك ، وهو شك وقع من بعض الرواة ، وقد أنكر أبو عبيد وغيره الغين المعجمة ، وقالوا : صوابه : عياياء . وقالوا : هو العنين : وهو الذي تغلبه مباضعة النساء ، وكذلك هو في الإبل التي لا تضرب ولا تلقح .
قلت : ويظهر من كلام هؤلاء الأئمة : أنهم قصروا عياياء على الذي يعجز عن الجماع والضِّراب ، والصحيح من اللسان : أنه يقال على ذلك ، وعلى من لم يقم بأموره . ففي الصحاح : يقال جمل عياياء ؛ أي : لم يهتد للضراب ، ورجل عياياء : إذا عَيي بالأمر والمنطق ، وعلى هذا فتكون هذه المرأة قد وصفته بكل ذلك ، وأما إنكار غياياء فليس بحيح .
قال القاضي أبو الفضل : وقد يظهر له وجهٌ حسن ، ولا سيما وأكثر الرواة أثبتوه ، ولم يشكُّوا فيه ، وهو أن يكون مأخوذًا من الغياية ، وهو كل ما أظل الإنسان فوق رأسه ، فكأنه غطي عليه وسترت أموره ، ويكون من الغي : وهو الانهماك في الشر ، أو من الغي : وهو الخيبة. قال الله تعالى : { فسوف يلقون غيًّا } ؛ أي : خيبة .
والمعروف في الطباقاء : أنه بمعنى : العياياء ؛ وهو الذي تنطبق عليه الأمور ، وأنشد الجوهري قول جميل بن مَعْمَر :
---
(9/152)
طباقاء لم يشهد خُصُومًا ولم يَقُدْ رِكابًا إلى أَكْوارِها حين تُعلف
قال : ويُروى عياياء ، وهو بمعنى واحد .
قال القاضي : وحكى أبو علي - وأظن البغدادي - عن بعضهم أنه قال : الثقيل الصدر ؛ الذي ينطبق صدره على صدر المرأة عند الحاجة إليها ، وهو من مذام الرجال . وقال الجاحظ : عياياء ، طباقاء : أخبرت عن جهله بإتيان النساء ، وعيِّه ، وعجزه ، وأنه إذا سقط عليها انطبق عليها ، والنساء يكرهن صدور الرجال على صدورهن .
وقولها : (( كل داء له داء )) ؛ أي : هو موصوف بجميع الأدواء مع عيه وعجزه.
وقولها : (( شجَّك ، أو فلَّك ، أو جمع كلاً لكِ )) ؛ الشجاج : الجراح في الرأس ، وتعني بفلَّك ؛ أي : أثَّر في جسدك بالضرب ، مأخوذ من فلَّ السيف فلولاً إذا انثلم ، وقيل معناه : كسر أسنانها ، و(( أو )) هنا للتقسيم ؛ تعني : أنه في وقت يضربها فيشج رأسها ، وفي وقت يؤثر في جسدها ، وفي آخر يجمع كل ذلك عليها .
وقول الثامنة : (( الريح ريح زرنب ، والمس مس أرنب )) ؛ الأرنب : واحد الأرانب ؛ تعني به : أنه لين الجسد عند المس ، ناعمه كمسِّ جلد الأرنب ، ويحتمل : أن يُكنى بذلك عن طيب خلقه ، وحسن معاشرته . والزرنب : بتقديم الزاي على الراء : ضرب من النبات طيب الرائحة ، ووزنه : فعلل . وأنشدوا :
يا بأبي أنت وفوكِ الأشنبُ
كأنَّما ذُرَّ عليه الزَّرنبُ أو زنجبيلٌ عاتقٌ مُطيَّب
وظاهره : أنها أرادت : أنه يستعمل الطيب كثيرًا تظرُّفًا ونظافة ، ويحتمل أن تكني بذلك عن طيب الثناء عليه ، أو عن طيب حديثه ، وحسن معاشرته .
وقول التاسعة : (( زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد )) ؛ وظاهره : أنها وصفته بطول البيت وعلوه ؛ فإنَّ بيوت الأشراف والكرماء كذلك ، فإنَّهم يغلونها ، ويضربونها في المواضع المرتفعة ليقصدهم الطارقون والمعتفون ، وبيوت غيرهم : قصار ، وربما هُجي بذلك فقيل :
قِصارُ البيوتِ لا تُرى صهواتها من اللُّؤمِ حشَّامُون عندَ الشدائد
---
(9/153)
وقيل : كنت بذلك عن شرفه ورفعة قدره . والنجاد : حمالة السيف ، تُريد : أنه طويل القامة ، كما قال شاعرهم :
قَصُرَتْ حَمائِلُهُ عَلَيْهِ فَقَلَصَتْ ولَقَد تَمَطَّطَ بَيْنَها فَأَطَالَها
وكانت العرب تتمادح بالطول وتذم بالقصر ، وذلك موجود في أشعارهم .
وقولها : (( عظيم الرَّماد )) ؛ تعني : أن نار قِراه للأضياف لا تُطفأ ، فرماد ناره كثير عظيم ، كما قال :
مَتَى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِه تَجِدْ حَطَبًا جَزْلاً ونارًا تَأَجَّجا
وقال آخر :
لَهُ نارٌ تُشَبُّ عَلَى يَفَاعٍ إِذَا النِّيرانُ أُلْبِسَتِ القِنَاعا
وقولها : (( قريب البيت من النادي )) ؛ النادي ، والنديُّ ، والمنتدى : مجلس القوم ، ومنه قوله تعالى : { فيدع ناديه } ؛ أي : أهل مجلسه . تصفه بالشرف والسؤدد في قومه ، فهم إذا تفاوضوا أو اشتوروا في أمر أتوه فجلسوا قريبًا من بيته ، فاعتمدوا على رأيه ، وامتثلوا أمره . ويحتمل أن تريد : أن النادي إذا أتوه لم يصعب عليهم لقاؤه ؛ أي : لا يحتجب عنهم ، ولا يتباعد منهم ، بل : يقرب منهم ، ويتلقاهم مرحبًا بهم ، ومبادرًا لإكرامهم . ومقتضى حديثها : أنها وصفته بالسيادة والكرم ، وحسن الخلق ، وطيب المعاشرة .
وقول العاشرة : (( زوجي مالك ، وما مالك ؟ )) هذا تعظيم لزوجها ، وهذا على نحو قوله تعالى : {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } ، و{ الحاقة ما الحاقة }.
وقولها : (( مالك خير من ذلك )) ؛ أي : هو أجل من أن أصفه لشهرة فضله ، وكثرة خيره .
وقولها : (( له إبل كثيرات المبارك ، قليلات المسارح )) ؛ مبارك الإبل : مواضع بروكها . واحدها : مبرك ، ومسارحها : مواضع رعيها ، واحدها مسرح ، واختلف في معناه على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه أكثر بروكها وأقل تسريحها مخافة أن ينزل به ضيف وهي غائبة ، ذكره أبو عبيد .
(9/154)
والثاني : أنها إذا بركت كانت كثيرة لوفر عددها ، وإذا سرحت كانت قليلة لكثرة ما يجزر منها للضيفان . قاله ابن أبي أويس .
---
وثالثها : أنها إذا بركت كانت كثيرة لكثرة من ينضم إليها ممن يلتمس لحمها ولبنها ، وإذا سرحت كانت قليلة لقلة من ينضم إليها منهم.
وقولها : (( إذا سمعن صوت الْمِزهَر أيقن أنهن َّ هوالك )) ؛ المزهر -بكسر الميم - : هو عود الغناء ، وهو معروف عند العرب ومذكور في أشعارها ، وقد أخطأ من قال : إنه مُزهِر بضم الميم وكسر الهاء ، وفسَّره : بموقد النار في الرواية والمعنى . أما الرواية : فلا يصحُّ منها إلا ما ذكرناه ، وهو كسر الميم ، وفتح الهاء ، وأما المعنى ؛ فقيل فيه قولان :
أحدهما : أنه يتلقى ضيفانه بالغناء مبالغة في الترحيب والإحترام ، وإظهار الفرح .
والثاني : أنه يأتي ضيفانه بالشراب والغناء ، فإذا سمعت الإبل صوت الِمِزْهر والغناء أيقنَّ بنحرهنَّ للأضياف ، وكلا القولين : أمدح ، ومعناهما أوضح .
وقول الحادية عشرة : (( أناس من حُليِّ أذني )) ؛ تريد : حلاني قِرَطَةً وشنوفًا تنوسُ بأذني ؛ أي : تتحرك ، والنَّوْسُ : حركة كل شيء متدلٍّ ، يقال فيه : ناسَ ينوسُ نوسًا ، وأناسَه غيرَه إناسةً ، وسُمِّي ملكُ اليمن ذا نُواس ؛ لضفيرتين كانتا له تنوسان على عاتقه .
وقولها : (( ملأ من شحم عضدي )) ؛ أي : سَمَّنني بالإحسان ، وكثرة المال ، وخضَّت العضدين ؛ لأنهما إذا سمنا سَمِنَ جميع الجسد .
(9/155)
وقولها : (( فبجَحني فبجحت إليَّ نفسي )) ؛ الرواية المعروفة : (( فبَجَحَتْ )) بفتح الجيم والحاء وسكون تاء الفرق ، وألف مشدد الياء ، وتكون ((نفسي )) فاعلة بجحت ، وقد رواه أبو عبيد : (( فَبَجُحْتُ )) ، بضم الجيم ، وسكون الحاء وتاء مضمومة ، هي ضمير المتكلم الفاعل ، و((إلى)) ساكنة : حرف جر ، (( نفسي )) : مجرورة ، ومعنى : (( بجحني )) : فرحني ورفعني ، ففرحت ، وترفعت . يقال : فلان يتبجَّح بكذا ؛ أي : يترفع ويفتخر ، قال الشاعر وهو الراعي :
وَما الفَقْرُ من أَرْضِ العَشِيرَةِ سَاقَنا إِلَيْك وَلكنَّا بِقُربِكَ نَبْجَحُ
أي : نترفع ، ونفتخر .
---
وقولها : (( وجدني في أهل غنيمة بشِقّ )) ؛ الأكثر الأعرف في الرواية بكسر الشين ، وقد ذكره أبو عبيد بفتح الشين . قال : والمحدِّثون يقولونه بالكسر ، والفتح الصواب ، وهو موضع . وقال ابن الأنباري : هو بالفتح والكسر ، واختلف الذين كسروه ، فمنهم من قال : هو جبل ؛ أي : غنمهم قليلة ، ومنهم من قال : هو الجهد والمشقة . كما قال تعالى : { إلا بشق الأنفس }.
وقولها : (( فجعلني في أهل صهيل وأطيط )) ؛ الصهيل : حمحمة الخيل ، والأطيط : صوت الرَّحل والإبل من ثقل أحمالها . يقال : لا آتيك ما أطَّت الإبل ، وكذلك صوت الجوف من الجَوَى.
وقولها : (( ودائسٍ ومُنقٍّ )) ؛ دائس : اسم فاعل من داس الطعام يدوسه دياسة فانداس هو ، والموضع : مداسة . والمدوس : ما يداس به ؛ أي : يدق ويُدْرَس . ويقال : داس الشيء برجله يدوسه دوسًا إذا وطئه .
ومُنْق : صحيح الرواية فيه بضم الميم وفتح النون : اسم فاعل من نقى الطعام والشيء ينقيه تنقية ، وهو مُنَق ؛ يعني : أن لهم زرعًا يداس وينقى ، وقاله ابن أبي أويس بكسر النون ، قال : وهو نقيق أصوات المواشي والأنعام .
(9/156)
قلت : وهذا ليس بشيء ؛ لأنَّه لا يقال لشيء من ذلك : نَقٌّ ؛ وإنما يقال : نقُّ العقرب والضفدع والدجاجة ، وقد يقال : نق الهر ، وهو قليل ، ولذلك قال النيسابوري : تريد الدجاج ، وهو بعيد ؛ لأنَّ الدجاج لا تتمدح بها العرب ، ولا تذكرها في الأموال ، ومقصود قولها هذا : أنها كانت في قوم ضعفاء فقراء ، فنقلها إلى قوم أقوياء أغنياء .
وقولها : (( فعنده أقول فلا أُقَبِّح )) ؛ أي : لا يعاب لها قول ، ولا يرد بل يستحسن ويمتثل .
وقولها : (( وأرقد وأتصبح )) ؛ أي : أديم النوم إلى الصباح ، لا يوقظها أحدٌ ؛ لأنَّها مكرَّمة ، مكفية الخدمة والعمل .
---
وقولها : (( فأتقَنَّح )) ؛ يروى بالميم والنون مكانها . والروايتان معروفتان ، غير أن أبا عبيد لم يعرف رواية النون وأنكرها ، فأمَّا أتقمح بالميم ؛ فمعناه : أتروى حتى أمجَّ الشراب من الرِّي . يقال : ناقةٌ قامح ، وإبل قماح : إذا رفعت رؤوسها عند الشراب ، ونحو قوله تعالى : { فهم مقمحون }. وأما بالنون فمعناه : الزيادة على الشرب بعد الرِّي . يقال : قنحت من الشراب ، أقنح قنحًا إذا شربت بعد الرِّي ، وقال ابن السكيت : معناه أقطع الشرب وأشرب قليلاً قليلاً .
وقولها : (( عكومها رداح )) ؛ العكوم : جمع عكم ، وهو العذل . ورداح : مملوءة من الأمتعة ، تعني : أنها كثيرة القماش والأثاث . ويقال : امرأة رداح ؟ إذا كانت عظيمة الكفل .
وقولها : (( وبيتها فساح )) ؛ أي : واسع . يقال : بيت فسيح ، وفساح ، وظاهره : أنه فسيح الفناء ، ويحتمل أن يكون كناية عمَّا يفعل فيه من الخير ، والمعروف .
وقولها : (( مضجعه كمسل شطبة )) ؛ الشَّطبة : هي بفتح الشين ، وأصلها ما شطب من جريد النخل ، وذلك : أنه يُشَقُّ منه قضبان دقاق تنسج منها الحصر . وقال ابن الأعرابي وغيره : الشَّطبة هنا : السيف يسل من غمده .
(9/157)
وقولها : (( وتشبعه ذراع الجفرة )) ؛ وهي : الأنثى من ولد المعز ، والذكر : جفر ، وإذا أتى على ولد المعز أربعة أشهر ، وفصل عن أمه ، وأخذ في الرعي قيل عليه : جفر . مدحته بقلَّة أكله ، وقلَّة لحمه ، وهما وصفان ممدوحان في الرجال . قال الشاعر :
تَكْفِيه حُزَّةُ فِلْذٍ إن أَلَمَّ بِهَا مِنَ الشِّواءِ ويُروِي شُرْبَهُ الغُمَرُ
وقولها : (( ملء كسائها )) ؛ أي : ممتلئة الجسم .
---
وقولها : (( صفر ردائها )) ؛ أي : خاليته ، والصفر : الشيء الفارغ . قال الهروي : أي : ضامرة البطن ، والرداء ينتهي إلى البطن . وقال غيره : يريد أنها خفيفة أعلى البدن ، وهو موضع الرداء ممتلئة أسفله ، وهو موضع الكساء والأزرة ، ويؤيده قولها في بعض روايات الحديث : ((مِلءُ إزارها )).
قال القاضي : والأولى : أنه أراد : أن امتلاء منكبيها ، وقيام نهديها يرفضان الرداء عن أعلى جسدها ، فهو لا يمسه كالفارغ منها بخلاف أسفلها ، كما قال الشاعر :
أَبَتِ الرَّوادِفُ والثُّدِيُّ لِقُمْصِها مَسَّ البُطُونِ وأَنْ تَمَسَّ ظُهُورا
وقولها : (( وغيظ جارتها )) ؛ تريد أن ضرتها يغيظها ماتراه من حسنها ، وجما لها ، وعفافها .
(9/158)
وقولها : (( وعقر جارتها )) ؛ الرواية الصحيحة : بعين مهملة مفتوحة ، وقاف من العقر ، وهو الجرح ، أو الهلاك ؛ تعني : أن ضرتها تموت من أجلها حسدًا وغيظًا ، أو ينعقر قلبها ، وفي قولها : (( ملء كسائها ، وصفر ردائها ، وغيظ جارتها )) ؛ دليل لسيبويه : على صحة ما أجازه من قوله : مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وجهه ، وهو ردٌّ على المبرّد والزجَّاج ؛ فإنَّهما منعا ذلك ، وعلَّل الزجاجي المنع بإضافة الشيء إلى نفسه ، وخطَّأَ سيبويه في إجازة ذلك ، وقال : إنما أجازه سيبويه وحده ، وقد أخطأ الزجَّاجي في هذا النقل في مواضع ، أخطأ في المنع ، وأخطأ في التعليل ، وفي تخطئته سيبويه ، وفي قوله : إنه لم يقل به غير سيبويه . وقد قال أبو الحسن بن خروف : أنَّه قال به طائفة لا يحصون ، وفي قوله : إن جميع الناس خطَّؤوا سيبويه ؛ وليس بصحيح . وكيف يخطأ في اللسان من تمسك بالسَّماع الصحيح ، كما جاء في هذا الحديث المتفق على صحته . وقد جاء عن بعض الصَّحابة ـ رضى الله عنهم ـ في وصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ((شَثَنٌ أصابعه )) ، وقد اتفق أهل اللسان على صحة قول الشاعر :
أَمِنْ دِمِنتين عرَّج الركبُ فيهما بحقل الرُّخامى قد عفا طللاهُما
---
أقامَتْ عَلَى رَبْعَيهِما جارَتا صَفًا كُميتا الأعالي جونتا مصطلاهما
وقد تعسَّف المانع في تأويل هذا الشماع بما تمجُّه الأسماع ، ولتفصيل ذلك مبسوطات النحو ، ومن تمسك بالسماع فرد حجَّته لا يستطاع .
وقولها : (( لا تبثُّ حديثنا تبثيثًا )) ؛ يُروى بالباء بواحدة ، من البث : وهو الاظهار والإشاعة ، فتصفها بكتمان ما تسمعه من الحديث ، وهذا يدلّ على عقلها ، وأمانتها ، ويُروى بالنون ، وهو بمعنى الأول . يقال : بثَّ الحديث إذا أنثاه ، وفي الصحاح : بث الخبر ، وأبثه : إذا أفشاه ، ونثَّه بالنون ينثّه بالضم كذلك ، وأنشد :
إذا جاوَزَ الاثنين سرٌّ فإنَّهُ بِنَثٍّ وتكْثِيرِ الوُشَاةِ قَمينُ
(9/159)
وقولها : (( ولا تنقَّث ميرتنا تنقيثًا )) ؛ أصل التنقيث : الإسراع . يقال : خرجت أنقث- بالضم - ؛ أي : أسرع السير ، وكذلك أنتقث. والميرة : ما يمتار من موضع إلى موضع من الأطعمة ، وأرادت : أنها أمينةٌ على حفظ طعامنا وحافظة له .
وقولها : (( ولا تملأ بيتنا تعشيشًا )) ؛ يُروى هذا بالعين المهملة والمعجمة ، فعلى المهملة فسَّره الخطابي بأنها لا تفسد الطعام المخبوز ، بل تتعهده بأن تطعمنا منه أولاً فأولاً ، وتلاه على هذا الغفسير المازري ، وهذا إنما يتمشَّى على رواية من رواه : ولا تفسد ميرتنا تعشيشًا . وأما على رواية ما صح هنا من قولها : ولا تملأ ، فلا يستقيم ؛ وإنَّما معناه : أنها تتعهَّد بيتها بالنظافة والكَنْس ، ولا تترك كناسة في البيت ، حتى يصير كعش الطائر ، وأما رواية الغين المعجمة فهو من الغش والخيانة ؛ أي : لا تخوننا في شيء من ذلك ، ولا تترك النصيحة في صنعة. والأوطاب : جمع وطب ، وهو من الجموع النادرة ، فإنَّ (( فَعْلاً )) في الصحيح قياسه أن يأتي في القلة على أفعل ، وفي الكثرة على فُعُول ، وفِعَال ، وهي : أسقية اللبن ، وتُمَخَّض : تحرِّك ليخرج زبدها .
---
وقولها : (( يلعبان من تحت خصرها برمَّانتين )) ؛ قال ابن أبي أوشي : تعني بالرمانتين : ثدييها . قال أبو عبيد : ليس هذا موضه ؛ وإنَّما معناه : أنها عظيمة الكفل ، فهي فإذا استلقت صار بينها وبين الأرض فجوة يجرى فيها الرُّمان ، قال القاضي : وما أنكره أبو عبيد أظهر وأشبه ، لا سيما وقد روي : من تحت صدرها ، ومن تحت درعها ، ولأن العادة لم تجر برمي الصبيان الرمان تحت أصلاب أمهاتهم ، ولا باستلقاء النساء كذلك ، حتى يشاهد ذلك منهن الرجال ، والأشبه : أنهما رمانتا الثدي ، شئههما بذلك لنهودهما ، ودلَّ على ذلك صغر سنها .
(9/160)
وقولها : (( فنكحتُ بعده رجلاً سريًا ، ركب شريًا ، وأخذ خطيًا ، وأراح عليَّ نَعَمًا ثريًا السري - بالسين المهملة - : هو السيِّد الشريف ، ومنه قوله تعالى : { قذ جعل ربك تحتك سريًّا } ؛ على قول الحسن ، وسراة كل شيء : خياره ، وسررات الناس : كبراؤهم ، وحكى يعقوب فيها الشين المعجمة .
وقولها : (( وركب شريًّا )) ؛ أى : فرسًا سريعًا . يُقال : استشرى الفرس ؛ إذا لَجَّ في سيره ومضى فيه ، وقال يعقوب : فرس شري : خيارٌ ، وهو بالمعجمة لا غير . والخطي : الرمح ؛ منسوب إلى موضع بالبحرين يقال له : الخط . والنعم : الإبل . وثريًّا : كثيرة كالثرى ، وهو التراب . وأراحها : أتى بها إلى مراحها ، وهو موضع مبيتها .
---
وقولها : (( وأعطاني من كل رائحة زوجًا )) ؛ رائحة - بالراء - : هو اسم فاعل من راح ، تعني : أنه أعطاها من كل صنف من الإبل ، والغنم ، والبقر. والزوج : الصِّنف ، كما قال تعالى : { وكنتم أزواجًا ثلاثة }. وقد يراد بالزوج : اثنان . يقال فرد وزوج ، وزوج المرأة : بعلها ، وهي زوجٌ له . وقد جاء زوجه ، ويقال : هما زوجان للاثنين ، وهما زوج ، كما يقال : هما سيّان ، وهما سواء ، قاله الجوهري . وقال غيره : ولا يوضع الزوج على الاثنين أبدًا . قال الله تعالى : { وأنَّه خلق الزوجين الذكر والأنثى} ، وقد رويت هذه الكلمة : ذابحة بالذال المعجمة ، من الذبح ، وتكون فاعلة بمعن مفعولة ؛ كـ{ عيشة راضية } ؛ أي : مرضية ؛ يعني : أنه أعطاها من كل شيء يذبح .
وقوله : (( فكلي أم زرع ، ومِيري أَهْلَكِ )) ؛ أباح لها أن تأكل ما شاءت من طعامه ، وأن تبعث منه بما شاءت لأهلها ، مبالغة في إكرامها ، وفي الاحتفال بها ، ومع ذلك كله ، فكانت أحواله كلها عندها محتقرة بالنسبة إلى أبي زرع ، ولذلك قالت : فلو جمعت كل شيء أعطانن ما بلغ أصغر آنية أبي زرع ، وسبب ذلك : أن أبا زرع كان الحبيب الأول. كما قال الشاعر :
(9/161)
نقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى ما الحبُّ إلا للحبيب الأوَّلِ
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة : (( كنت لك كأبي زرع لأم زرع )) ؛ تطييب لقلبها ، ومبالغة في حسن عشرتها ، ومعناه : أنا لك ، وهذا نحو قوله تعالى : {كنتم خير أمَّة أخرجت } ؛ أي : أنتم ، ويمكن بقاؤها على ظاهرها ؛ أي : كنت لك في علم الله السَّابق ، ويمكن أن تكون مِمَّا أريد بها الدوام ، كما قال تعالى : { وكان الله سميعًا بصيرًا }.
وحديث أم زرع هذا فيه أحكام :
منها : جواز محادثة الأهل ، ومباسطتهن بما لا ممنوع فيه .
وفيه : جواز إعلام الزوج زوجته بمحبته إياها بالقول إذا لم يؤد ذلك إلى مفسدة في حاله بحيث تهجره ، وتتجرَّأ عليه .
---
وفيه : ما يدل على أن ذكر عيوب من ليس بمعين لا يكون غيبة ، وفيه جواز الانبساط بذكر طُرَفِ الأخبار ، ومُستطابات الأحاديث ، وتنشيط النفوس بذلك ، وجواز ذكر محاسن الرجال للنساء ، ولكن إذا كانوا مجهولين بخلاف المعيَّن ، فإنَّ ذلك هو المنهي عنه بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها )).
وفيه : ما يدل على جواز الكلام بالألفاظ الغريبة والأسجاع ، وأن ذلك لا يكره ؛ وإنَّما يكره تكلف ذلك في الدُّعاء .
ومن باب فضائل فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
---
(9/162)
سيدة نساء العالمين رضي الله عنها ، وقد اختلف في أصغر بنات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قال أبو عمر : والذي تسكن النفس إليه : أن زينب هي الأولى ، ثم رقية ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ولدت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنه إحدى وأربعين من مولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتزوجها علي رضي الله عنهما بعد وقعة أحد. وقيل : بعد أن ابتنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعائشة رضي الله عنها بأربعة أشهر ونصف شهر ، وبنى بها عليٌّ بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف ، وكان سِنُّها يوم تزوجها رضي الله عنهما خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصفًا ، وسِنُّ علي يومئذ : إحدى وعشرون سنة وستة أشهر ، فولدت له الحسن والحسين ، وأم كلثوم ، وزينب ، وتوفيت بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيسير . قيل : بثمانية أشهر. وقيل : بستة أشهر . وقيل : بثلاثة أشهر(5). وقيل : بسبعين يومًا . وقيل : بمئة يوم . وهي أحبُّ بناتِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه ، وأكرمهن عنده ، وسيدة نساء أهل الجنة على ما تقدَّم في باب خديجة. وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قدم من سفر يبدأ بالمسجد فيصلِّي فيه ، ثم يبدأ ببيت فاطمة فيسال عنها ، ثم يدور على سائر نسائه ، إكرامًا لها ، واعتناء بها ، وهي أوَّل من سُتِر نعشُها في الإسلام ، وذلك أنها لما احتضرت قالت لأسماء بنت عُميس : إني قد استقبحتُ ما يُفْعَلُ بالنساء ؛ إنه يُطْرَحُ على المراة الثوبُ يصفها ، فقالت أسماء : يا بنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ! ألا أريكِ شيئًا رأيتُه في الحبشة ؟! فدعت بجرائد رطبةٍ ، فَحَنَتْها ، ثم طرحت عليها ثوبًا ، فقالت فاطمة : ما أحسن هذا وأجمله تُعرف به المرأة من الرجل ، فإذا أنا مِتُّ ، فاغسليني أنت وعليٌّ ، ولا تُدْخلي أحدًا . فلما توفيت جاءت عائشة لتدخل ، فقالت أسماء : لا تدخلي . فشكت إلى أبي بكر وقالت : إن هذه الخثعمية تحول بيننا وبين بنت
(9/163)
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد جعلت لها مثل هودج العروس ، فجاء أبو بكر فرقف على الباب ، فقال : يا أسماء ! ما حَمَلَكِ على أن منعت أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدخلن على بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وجعلت لها مثل
---
هودج العروس ؟ فقالت : أمرتنى ألاَّ يدخل عليها أحد ، وأريتها هذا الذي صنعتُ ، فأمرتني أن أصنع ذلك بها. قال أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ : اصنعي ما أمرتك ، ثم انصرف. وغسَّلها عليٌّ ، وأشارث أن يدفنها ليلاً ، وصلَّى عليها العباس ، ونزل في قبرها هو وعلي والفضل ، وتوفيت وهي بنت ثلاثين سنة ، وقيل : بنت خمس وثلاثين .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن فاطمة بضعة مني ، يريبني ما رابها )) ؛ البضعة - بفتح الباء - : القطعة من اللحم ، وتجمع بضاع ، كقصعة وقصاع ، وهي مأخوذة من البضع ، وهو القطع ، وقد سَمَّاها في الرواية الأخرى : (( مُضْغَة )) ، وهي قَدْرُ ما يمضغه الماضغ ، وفي بذلك : أنَّها كالجزء منه يؤلمه ما آلمها. و(( يريبني ما رابها )) : أي يشق على ويؤلمني . يقال : رابني فلان : إذا رأيت منه ما تكرهه - ثلاثيًّا - والاسم منه : الرِّيبة . وهذيل تقول فيه : أرابني - رباعيًّا- والمشهور : أن أراب : إنما هو بمعنى صار ذا ريبة ، فهو مريب ، وارتاب بمعنى : شك ، والرَّيب : الشك .
وقولها : (( هذا علي ناكحًا ابنة أبي جهل )) ؛ كذا الرواية : ناكحًا بالنصب على الحال ؛ لأنَّ الكلام قبله مستقل بنفسه ؛ لأنَّ قولها(4) : (( هذا علي )) ، كقولك : هذا زيد ، لكن رفعه أحسن لو روي ؛ لأنَّه هو المقصود بالإفادة ، و(( علي )) توطئة له .
(9/164)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا آذن ، ثم لا آذن ، ثم لا آذن )) ؛ تأكيد لمنع الجمع بين متعه فاطمة ، وبين ابنة أبي جهل ، لما خاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فاطمة من الفتنة من أجل الغَيْرة ، ولما توقع من مناكدة هذه الضَّرَّة ؛ لأنَّ عداوة الآباء قد تؤئر في الأبناء .
---
وقوله : (( وإني لست أحرم حلالاً ، ولا أحل حرامًا )) ؛ صريح في أن الحكم بالتحليل والتحريم من الله تعالى ؛ وإنَّما الرسول مُبلغ ، ويُستدلُ به في منع اجتهاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأحكام ، ومن منع جواز تفويض الأحكام إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا حُجَّة فيه ؛ لأنَّ اجتهاد المجتهد لا يوجب الأحكام ، ولا ينشئها ؛ وإنَّما هو مُظْهِر لها ، كما أوضحناه في الأصول.
ويفيد هذا : أن حكم الله على عليٍّ ، وعلى غيره التخيير في نكاح ما طاب له من النساء إلى الأربع ، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما منع عليًّا من ذلك لما خاف على ابنته من المفسدة في دينها من ضرر عداوةٍ تَسري إليها ، فتتأذى في نفسها ، فيتأذى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسببها ، وأذى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرام ، فيحرم ما يؤدي إليه . ففيه القول بسد الذرائع ، وإعمال المصالح ، وأن حرمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم من حرمة غيره ، وتظهر فائدة ذلك : بأن من فعل مِمَّا ما يجوز له فعله لا يمنع منه ، وإن تأذى بذلك الفعل غيره ، وليس ذلك حالنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل يحرم علينا مطلقًا فعل كل شيء يتأذى به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان في أصله مباحًا ، لكنه إن أدَّى إلى أذى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ارتفعت الإباحة ، ولزم التحريم .
وفيه : ما يدلّ على جواز غضب الرَّجل لابنته وولده وحرمه ، وعلى الحرص في دفع ما يؤدي إلى ضررهم ؛ إذا كان ذلك بوجه جائز .
وفيه ما يدلّ على جواز خطبة الإمام الناس وجمعهم لأمر يحدث .
(9/165)
وقوله : (( والله لا تجتمع ابنة نبي الله وابنة عدوِّ الله عند رجل واحد أبدًا )) ؛ دليل على أن الأصل أن ولد الحبيب حبيب ، وولد العدو عدوّ ، إلى أن يتبين خلاف ذلك ، وقد استنبط بعض الفقهاء من هذا منع نكاح الأَمَة على الحرَّة ، وليس بصحيح ؛ لأنَّه يلزم منه منع نكاح الحرَّة الكتابية على المسلمة ، ومنع نكاح ابنة المرتد على من ليس أبوها كذلك ، ولا قائل به فيما أعلم . فدلَّ ذلك على أن ذلك الحكم مخصوص بابنة أبي جهل وفاطمة رضي الله عنها .
---
وقوله : (( فترك عليٌّ الخطبة )) ؛ يعني : لابنة أبي جهل وغيرها ، ولم يتزوَّج عليها ، ولا تسرَّى حتى ماتت رضي الله عنها .
(9/166)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن أبا العاص بن الربيع حدَّثني فصدقني ، ووعدني فوفى لي )) ؛ أبو العاص هذا : هو زوج ابنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زينب رضي الله عنها ، واسمه : لقيط -على الأكثر -. وقيل : مهشم بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف ، وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة لأبيها ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أنكحه زينب ، وهي أكبر بناته وذلك بمكة فأحسن عشرتها ، وكان مُحِبَّا لها ، وأرادت منه قريش أن يطلقها فأبى ، فشكر له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ، ثم أنَّه حضر مع المشركين ببدر فأُسِر ، وحُمل إلى المدينة ، فبعثت فيه زينبُ قلادتها ، فردت عليها ، وأُطلق لها ، وكان وعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرسلها إليه ففعل ، وهاجرت زينب ، وبقي هو بمكة على شِرْكِه إلى أن خرج في عير لقريش تاجرًا ، وذلك قبيل الفتح بيسير ، فعرض لتلك العير زيد بن حارثة في سرية من المسلمين من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخذها ، وأفلت أبو العاص هاربًا إلى أن جاء إلى المدينة ، فاستجار بزينب فأجارته ، وكلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس في رد جميع ما أُخذ من تلك السَّرية ، ففعلوا ، وقال : إنه يردُّ أموال قريش ، ويسلم ، ففعل ذلك ، فلذلك شكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : ((حدَّثني فصدقي ، ووعدني فوفى لي )).
(9/167)
وقول عائشة : (( كن أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنده لم يغادر منهن واحدة )) ؛ أي : لم يترك ، ولم يغفل عن واحدة منهن ، وهذا كان لما اشتدَّ مرضُه ، ومُرِّض في بيت عائشة . والسِّرار : السرُّ . يقال : سارره يسارره سرًّا ، وسرارًا ، ومُسارَّة . وبكاء فاطمة في أول مرَّة كان حزنًا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أعلمها بقرب أجله ، وضحكها ثانية فرحًا بما بشرها به من السلامة من هذه الدار ، ولقرب الاجتماع به ، وبالفوز بما لها عند الله من الكرامة ، وكفى بذلك : أن قال لها : إنها سيدة نساء أهل الجنة ، وقد تقدَّم الكلام على هذا في باب : خديجة .
---
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان جبريل يعارضه بالقرآن كل سنة مرَّة ؛ يدل على استحباب عرض القرآن على الشيوخ ولو مرَّة في السَّنة ، ولما عارضه جبريل القرآن في آخر سنة مرتين استدل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك على قرب أجله من حيث مخالفة العادة المتقدِّمة ، والله تعالى أعلم .
وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثر عليه الوحي في السنة التي توفي فيها حتى كثر عليه الوحيُ في السنة التي توفي فيها حتى كمَّل الله من أمره ووحيه ما شاء أن يكمله .
ومن باب فضائل أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(9/168)
واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، واسم أبيها : حذيفة ، يعرف بزاد الراكب ، وكان أحد أجواد العرب المشهورين بالكرم ، وكانت قبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحت أبي سلمة بن عبد الأسد ، وأسلمت هي وزوجها ، وكان أول من هاجر إلى أرض الحبشة ، ويقال : إن أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة . قال أبو عمر : وتزوج بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد سنتين من الهجرة ، بعد وقعة بدر ، وعقد عليها في شوال ، وابتنى بها في شوال . قال أبو محمد عبدالله بن علي الرَّشاطي : هذا وَهْمٌ شنيع ، وذلك : أن زوجها أبا سلمة شهد أحدًا ، وكانت أحد في شوال سنة ثلاث ، فجرح فيها جرحًا اندمل ، ثم انتقض به فتوفي منه لثلاث خلون من جمادى ا لآخرة سنة أربع ، وانقضت عدَّة أم سلمة منه في شوال سنة أربع ، وبنى بها عند انقضائها . قال : وقد ذكر أبو عمر هذا في صدر الكتاب ، وجاء به على الصواب. وتوفيت أم سلمة في أول خلافة يزيد بن معاوية سنة ستين . وقيل : توفيت في شهر رمضان ، أو شوال سنة تسع وخمسين ، وصلَّى عليها أبوهريرة ، وقيل : سعيد بن زبد ، ودفنت بالبقيع .
---
وأما زينب : فهي ابنة جحش بن رِئاب بن يعمر بن صَبِرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دُودان بن أسد بن خزيمة ، وهي التي كانت تسامي عائشة في المنزلة عند رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أثنت عليها عائشة بأوصافها الحسنة المذكورة في باب عائشة ، وكانت تفخر على أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتقول لهنَّ : أنكحكن أولياؤكن ، وإن الله أنكحني نبيه من فوق سبع سموات ؛ تعني بذلك قوله تعالى : { زوجناكها }.
(9/169)
توفيت سنة عشرين في خلافة عمر ـ رضى الله عنه ـ ، وفي هذا العام استفتحت مصر . وقيل : توفيت سنة إحدى وعشرين ، وفيها فتحت الإسكندرية ، وكانت زينب هذه أوَّل أزواجه اللائي توفي عنهنَّ لحاقًا به ، وكان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زوجة أخرى تسمَّى زينب بنت خزيمة الهلالية ، وقد عى أم المساكين لحنوِّها عليهم ، وهي من بني عامر ، تزوجها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنة ثلاث ، ولم تلبث عنده إلا يسيرًا ؛ شهرين أو ثلاثة ، وتوفيت في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانت قبله تحت عبدالله بن جحش ، قتل عنها يوم أحد .
---
وقول سلمان : (( لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ، ولا آخر من يخرج منها ، فإنَّها معركة الشيطان )). كذا روى مسلم هذا الحديث موقوفًا على سلمان من قوله . وقد رواه أبو بكر البزار مرفوعًا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طريق صحيح ، وهو الذي يليق بمساق الخبر ؛ لأنَّ معناه ليس مما يدرك بالرأي والقياس ، وإنما يدرك بالوحي ، وأخرجه الإمام أبو بكر البرقاني في كتابه مسندًا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم ، عن أبي عثمان النَّهدي عن سلمان . قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تكن أوَّل من يدخل السوق ، ولا آخر من بخرج منها ؛ فإنَّها معركة الشيطان ، فيها باض الشيطان وفرَّخ )). والمعركة : موضع القتال ، سُمِّي بذلك لتعارك الأبطال فيه ، ومصارعة بعضهم بعضا ، فشبه السوقَ ، وفعل الشيطان بأهلها ونيله منهم بما يحملهم عليه من المكر ، والخديعة ، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب ، والأيمان الكاذبة ، واختلاط الأصوات ، وغير ذلك بمعركة الحرب ، وبمن يصرع فيها .
وقوله : (( وبها ينصب رايته )) ؛ إعلام بإقامته في الأسواق ، وجمع أعوانه إليه .
---
(9/170)
ويفيد هذا الحديث : أن الأسواق إذا كانت موطن الشياطين ومواضع لهلاك الناس ، فينبغي للانسان ألا يدخلها إلا بحكم الضرورة ، ولذلك قال : (( لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ، ولا آخر من يخرج منها )) ؛ ولأن من كان أول داخل فيها وآخر خارج منها كان ممن استحوذ عليه الشيطان ، وصرفه عن أمور دينه ، وجعل همَّه السوق ، وما يُفعل فيها فأهلكه . فحق من ابتلاه الله تعالى بالسوق أن يخطر بباله : أنه قد دخل محل الشيطان ، ومحل جنوده ، وأنه إن أقام هنالك هلك ، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته ، وتحرز من سوء عاقبته ، وبليته . وقد تقدَّم القول في تمثل الملائكة والجن في الصور المختلفة ، وأن لهم في أنفسهم صورًا خلقهم الله تعالى عليها ، وأن الإيمان بذلك كله واجب ؛ لما دل عليه من السمع الصادق ، وكان دحية بن خليفة رجلاً حسن الصورة ، فلذلك تمثل بصورته جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو دحية بن خليفة ابن فروة الكلبي ، وكان من كبار الصحابة ، لم يشهد بدرًا ، شهد أحدًا وما بعدها ، وبقي إلى خلافة معاوية ، وأرسله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قيصر في سنة ست من الهجرة فآمن قيصر ، وأبت بطارقته أن تؤمن ، فأخبر دحية بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( ثبت ملكه )).
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أسرعكن لحاقًا بي أطولكن يدًا )) ؛ هذا خطاب منه لزوجاته - خاصة ، ألا ترى أنه قال لفاطمة رضي الله عنها : (( أنت أوَّل أهل بيتي لحوقًا بي )) ، فكانت زبنب أوَّل أزواجه وفاة بعده ، وفاطمة أوَّل أهل بيته وفاة ، ولم يرد بالتحاق به الموت فقط ، بل : الموت والكون معه في الجنة والكرامة .
(9/171)
و (( تطاول أزواجه بأيديهنَّ )) مقايسة أيديهن بعضهن ببعض ؛ لأنَّهن حملن الطول على أصله وحقيقته ، ولم يكن مقصود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ؛ وإنَّما كان مقصوده : طول اليد بإعطاء الصدقات ، وفعل المعروف ، وبيَّن ذلك أنه : لما كانت زينب أكثر أزواجه فعلاً للمعروف والصدقات كانت أولهن موتًا ، فظهر صدقه ، وصح قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
---
ومن باب فضائل أم أيمن رضي الله عنها
واسمها : بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة ابن عمرو بن اسمها النعمان ، كنيت بابنها أيمن بن عبيد الحبشي ، تزوجت بعد عبيدَ ؛ زيد بن حارثة ، فولدت له أسامة بن زيد ، كانت لأمِّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم صارث له بالميراث ، وكان يقول : (( أم أيمن أمي بعد أمي )) ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُكْرِمها ويبرها مَبَرَّة الأم ، ويكثر زيارتها ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندها كالولد ، ولذلك كانت تصخبُ عليه ؛ أي : ترفع أيمن صوتها عليه . وتذمر ؛ أي : تغضب وتضجر ؛ فِعْل الوالدة بولدها ، وقال الأصمعي : تذمَّر الرجل : إذا تغضب ، وتكلم أثناء ذلك ، وقال غيره : تذمَّر الرجل : إذا لام نفسه .
وزيارة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما لها ؛ دليل على فضلها ، فضل ومعرفتهم بحقها ، وفيه دليل على زيارة النساء في جماعة .
وقول أم أيمن رضي الله عنها : (( أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء )) ؛ (( أن )) مفتوحة ؛ لأنَّها معمولة لأبكي بإسقاط حرف الجر ، تقديره : أبكي لأن ، أو : من أجل أن ؛ تعني : أن الوحي لما انقطع بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمل الناس بآرائهم ، فاختلفت مذاهبهم ، فوقع التنازع والفتن ، وعظمت المصائب والمحن ، ولذلك نجم بعده ـ صلى الله عليه وسلم ـ النفاق ، وفشا الارتداد والشقاق ، ولولا أن الله تعالى تدارك الدِّين بثاني اثنين لما بقي منه أثر ولا عين .
---
(9/172)
وقول أنس ـ رضى الله عنه ـ : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يدخل على النساء إلا على أزواجه إلا أم سليم )) ؛ إنما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يدخل على النساء ؛ عملاً بما شرع من المنع من الخلوة بهنَّ ، وليُقتدَى به في ذلك ، ومخافة أن يقذف الشيطان في قلب أحد من المسلمين شرًّا فيهلك ، كما قال في حديث صفية المتقدِّم ، ولئلا يجد المنافقون ، وأهل الزيغ مقالاً ؛ وإنما خصَّ أم سليم بالدُّخول عندها ؛ لأنها كانت منه ذات محرمٍ بالرَّضاع كما تقدَّم ، وليجبر قلبها من فجعتها بأخيها ؛ إذ كان قد قُتِل معه في بعض حروبه ، وأظنه يوم أحد ، ولما علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فضلها ، كما دلَّ عليه رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياها في الجنة .
(9/173)
وأم سليم هذه هي : ابنةُ ملحان بن زيد بن حرام من بني النجار ، وهي : أمُّ أنس بن مالك بن النَّضر ، كانت أسلمت مع قومها ، فغضب مالك لذلك ، فخرج إلى الشام فهلك هنالك كافرًا ، وقيل : قتل ، ثم خطبها بعده أبو طلحة ، وهو على شِركه ، فأَبَتْ حتى يُسْلِم ، وقالت : لا أريد منه صداقًا إلا الإسلام ، فأسلم وتزوَّجها ، وحسن إسلامه . فولدت له غلامًا كان قد أعجب به فمات صغيرًا ، ويقال : إنه أبو عمير صاحب النُّغير ، وكان أبو طلحة غائبًا حين مات ، فغطته أم سليم ، فجاء أبو طلحة ، فسأل عنه ، فكتمت موته ، ثم إنها تصنَّعت له فأصاب منها ، ثم أعلمته بموته ، فشق ذلك عليه ، ثم إنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره ، فدعا لهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قال : (( بارك الله لكما في غابر ليلتكما )) ، كما ذكر في "الأصل" ، فبورك لهما بسبب تلك الدَّعوة ، وولدت له : عبد الله بن أبي طلحة ، وهو والد إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة الفقيه ، إخوته كانوا عشرة كلهم حمل عنه العلم ، وإسحاق هو شيخ مالك رحمهما الله ، واختلف في اسم أم سليم . فقيل : سهلة . وقيل : رملة . وقيل : مليكة . وهي النُّميصاء المذكورة في الحديث ، ويقال : الرُّميصاء ، وقيل : إن الرميصاء بالراء هي : أم حرام أختها ، وخالة أنس .
---
والغميصاء : مأخوذ من الغمص ، وهو ما سال من قذى العين عند البكاء والمرض ، يقال بالصاد والسين ، والرمص - بالراء - : ما تجمَّد منه ، قاله يعقوب وغيره .
وكانت أم سليم من عقلاء النساء وفضلائهن ، شهدت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحدًا وحنينًا ، روت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحاديث ، خرج لها في الصحيحين أربعة أحاديث .
(9/174)
وقوله : (( دخلتُ الجنة فسمعت خشفة )) ؛ هي بفتح الخاء وسكون الشين المعجمتين ، وهي صوتُ المشي ، ويقال : خشخشة ، كما جاء في الرواية الأخرى ، وأصل الخشخشة : صوت الشيء اليابس يحك بعضه بعضًا ، ويتراجع ، وكان هذا الدخول في الجنة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النوم ، كما قاله في حديث بلال المتقدِّم ، ورؤياه حقٌ ، فهي رضي الله عنها من أهل الجنة .
ومن باب فضائل أبي طلحة ـ رضى الله عنه ـ
واسمه : زيد بن سهل من بني النجار ، شهد المشاهد كلها ، وكان أحد الرُّماة المذكورين من الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ، وكان من الأبطال ، قَتَل يوم حنين عشرين ، وأخذ أسلابهم ، وكان أبو طلحة يتطاول بصدره يوم أحد يقي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النبل ، ويقول : صدري دون صدرك ، ونفسي لنفسك الفداء ، ووجهي لوجهك الوقاء ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ((لصوت أبي طلحة في الجيش خيرٌ من مئة رجل )).
واختلف في وقت وفاته فقيل : سنة إحدى وثلاثين . وقيل : سنة وفاته أربع وثلاثين ، وصلى عليه عثمان بن عفان ، وروى حماد بن سلمة عن ثابت البناني ، وعلي بن زيد ، عن أنس : أن أبا طلحة سرد الصَّوم بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعين سنة ، وأنه ركب البحر ، فمات فدفن في جزيرة ، وقال المدائني : مات أبوطلحة سنة إحدى وخمسين ، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك. روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ستَّةً وعشرين حديثًا ، أخرج له منها في الصحيحين أربعة أحاديث .
---
(9/175)
وقوله : (( بارك الله لكما في غابر ليلتكما )) ؛ أى : في ماضيها ، وقد تقدَّم أن غبر من الأضداد . يقال : غبر الشيء : إذا ذهب ، وغبر : إذا بقي . وصنيع أم سليم ، ووعظها له يدلّ على كمال عقلها وفضلها وعلمها. وملازمة أبي طلحة للكون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سفره وحضره ، ومدخله ومخرجه : دليل على كمال محبته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصدق رغبته في الجهاد ، والخير وتحصيل العلم .
ورفع وجع المخاض - وهو الولادة- عن أم سليم عند دعاء أبي طلحة دليل على كرامات الأولياء ، وإجابة دعواتهم ، وأن أبا طلحة وأم سليم منهم . والطَّروق : هو المجيء بالليل . والميسم : المكوى الذي يُوسَم به الإبل ؛ أي : تُعلَّم .
وفي هذا الحديث أحكام واضحة قد تقدَّم التنبيه على أكثرها .
ومن باب فضائل بلال بن رباح ـ رضى الله عنه ـ
---
(9/176)
وتُسمَّى أمُّه : حمامة ، واختلف في كنيته ، فقيل : أبو عبد الله ، وقيل : أبو عبدالكريم ، وقيل : أبو عبدالرحمن ، وقيل : أبو عمرو ، وكان حبشيًّا . قال ابن إسحاق : كان بلال لبعض بني جُمَح مُوَلَّدًا من مولّديهم ، وقيل من مُولَّدي مكة ، وقيل : من مولدي السّراة ، وقال عبدالله بن مسعود : أول من أظهر الإسلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر ، وعمار ، وأمه سُمَيَّة ، وصهيب ، وبلال ، والمقداد ، فأما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمنعه الله بعمه ، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه ، وأما سائرهم فأخذهم المشركون ، وألبسوهم أدراع الحديد ، وصهروهم في الشمس ، فما منهم إنسان إلا وأتاهم على ما أرادوه منه إلا بلالاً ، فإنَّه هانت عليه نفسه في الله تعالى ، وهان على قومه فأعطوه الولدان ، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة ، وهو يقول : (( أحد ، أحد )) ، وفي رواية : وجعلوا الحبل في عنقه ، وقال سعيد بن المسيِّب : كان بلال شحيحًا على دينه ، وكان يعذب على دينه ، فإذا أراد المشركون أن يقاربهم قال : الله ، الله. فاشتراه أبو بكر بخمس أواق ، وقيل : بسبع . وقيل : بتسع ، فاعتقه ، فكان يؤذن لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما مات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أراد أن يروح إلى الشام ، فقال له أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ : بل تكون عندي ، فقال : إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني ، وإن كنت أعتقتني لله فذرني أذهب إليه ، فقال : اذهب ، فذهب إلى الشام ، فكان بها حتى مات ـ رضى الله عنه ـ .
---
(9/177)
قلت : وظاهر هذا : أنَّه لم يؤذن لأبي بكر ، وقد ذكر ابن أبي شيبة عن حسين بن علي ، عن شيخ يقال له : الحفصي ، عن أبيه ، عن جده قال : أذن بلال حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم أذَّن لأبي بكر حياته ، ولم يؤذِّن في زمان عمر ، فقال له عمر : ما منعك أن تؤذن ؟ قال : إني أذنت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى قبض ، وأذنت لأبي بكر ـ رضى الله عنه ـ حتى قبض ؛ لأنَّه كان ولي نعمتي ، وقد سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( يا بلال ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله )). فخرج فجاهد. ويقال : إنه أذن لعمر ـ رضى الله عنه ـ إذ دخل الشام ، فبكى عمر ، وبكى المسلمون . وكان بلال خازنًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقال عمر : أبو بكر سيدنا ، وأعتق بلالاً سيدنا. وتوفي بلال بدمشق ، ودفن عند الباب الصغير بمقبرتها سنة عشرين ، وهو ابن ثلاث وستين سنة ، وقيل : سنة إحدى وعشرين ، وهو ابن سبعين.
وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبلال : ((حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة )) ؛ هذا السُّؤال إنما أخرجه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما اطَّلع عليه من كرامة بلال ـ رضى الله عنه ـ بكونه أمامه في الجنة ، فسأله عن العمل الذي لازمه حتى أوصله إلى ذلك. وقد جاء هذا الحديث في كتاب الترمذي بأوضح من هذا من حديث بريدة بن الحصيب ، قال : أصبح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدعا بلالاً ، فقال : (( يا بلال ! بم سبقتني إلى الجنة ؟ فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي ، دخلت البارحة الجنَّة فسمعت خشخشتك أمامي...)) ، وذكر الحديث . فقال بلال : يا رسول الله ! ما أذنت إلا صليت ركعتين ، ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده ، ورأيت أن لله تعالى علي ركعتين ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بهما )). قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، فلنبحث في هذا الحديث .
---
(9/178)
وقوله : (( بم سبقتني إلى الجنة ؟ )) لا يفهم من هذا أن بلالاً يدخل الجنة قبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فإنَّ ذلك ممنوع بما قد علم من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو السابق إلى الجنة ، وبما قد تقدَّم أنَّه أوَّل من يستفتح باب الجنة ، فيقول الخازن : (( بك أمرت ، لا أفتح لأحد قبلك )) ؛ وإنما هذه رؤيا منام أفادت أن بلالاً من أهل الجنة ، وأنه يكون فيها مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن ملازميه ، وهذا كما قال في الغميصاء : (( سمعت خشخشتك أمامي )) ، وقد لا يبعد أن يقال في أسبقية بلال أنها أسبقية الخادم بين يدي مخدومه ، والله تعالى أعلم .
وفيه ما يدلّ على أن استدامة بعض النوافل ، وملازمتها في أوقات وأحوال فضل فيه فضل عظيم ، وأجر كثير ، وإن كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يدم عليها ، ولا لازمها ، ولا اشتهر العمل بها عند أصحابه ـ رضى الله عنهم ـ ، وأن ذلك لا ينكر على من لازمه ما لم يعتقد أن ذلك سنه راتبة له ولغيره ، وهذا هو الذي منعه مالك حتى كره اختصاص شيء من الأيام ، أو الأوقات بشيء من العبادات ، من الصوم ، والصلاة ، والأذكار ، والدعوات ، إلا أن يعينه الشارع ، ويدوم عليه ، فأمَّا لو دام الإنسان على شيء من ذلك في خاصة نفسه ، ولم يعتقد شيئًا من ذلك ، كما فعله بلال في ملازمة الركعتين عند كل أذان ، وفي ملازمة الطهارة دائمًا ، لكان ذلك يفضي بفاعله إلى نعيم مقيم ، وثواب عظيم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بهما )) ؛ أي : بسبب ثواب ذينك الأمرين وصلت إلى ما رأيت من كونك معي في الجنة.
---
(9/179)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( حدِّثني بأرجى عمل عملته )) ؛ أي : بعمل يكون رجاؤك لثوابه أكثر ، ونفسك به أوثق . وفيه تنبية على : أن العامل لشيء من القرب ينبغي له أن يأتي بها على أكمل وجوهها ليعظم رجاؤه في قبولها ، وفي فضل الله عليها ، فيحسن ظنه بالله تعالى ، فإنَّ الله تعالى عند ظن عبده به ، ويتضح لك هذا بمثل - ولله المثل الأعلى - أن الإنسان إذا أراد أن يتقرب إلى بعض ملوك الدنيا بهدية أو تُحفة ، فإنَّ أتى بها على أكمل وجوهها وأحسن حالاتها ، قوي رجاؤه في قبولها ، وحسن ظنه في إيصاله إلى ثوابها ؛ لا سيما إذا كان المفدى له موصوفًا بالفضل والكرم ، وإن انتقص شيئًا من كمالها ضعف رجاؤه للثواب ، وقد يتوقع الرد ، لا سيما إذا علم أن المهدى له غني عنها ، فأمَّا لو أتى بها واضحة النقصان ؛ لكان ذلك من أوضح الخسران ؛ إذ قد صار المهدى له كالمستصغر المهان .
ومن باب فضائل عبدالله بن مسعود ـ رضى الله عنه ـ
---
(9/180)
ابن غافل بن حبيب بن شمخ بن مازن بن مخزوم الهذلي ، يُكنى : أبا عبدالرحمن ، وأمه : أم عبد بنت عبد ودّ الهذلية أيضًا ، أسلم قديمًا وكان سبب إسلامه : أنه كان يرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط ، فمرَّ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( يا غلام ! هل من لبن ؟ )) قال : نعم ! ولكني مؤتمن . قال : (( فهل من شاة حائل لم ينز عليها الفحل ؟ )) فأتيتهُ بشاة شصوص ، فمسح ضرعها ، فنزل اللبن ، فحلب في إناء وشرب وسقى أبا بكر ، ثم قال للضرع : (( اقلص )) فقلص ، فقلت : يا رسول الله! علمني من هذا القول. فقال : (( رحمك الله ! إنك غُلَيِّمٌ معلَّمٌ )) ، فأسلم ، وضمَّه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه . فكان يلج عليه ، ويلبسه نعله ، ويمشي أمامه ومعه ، ويستره إذا اغتسل ، ويوقظه إذا نام ، وقال له : ((إذنك علي أن ترفع الحجاب ، وأن تسمع سِوَادي حتى أنهاك )) ، وكان يعرف في الصحابة بصاحب السِّرار ، والسَّواد ، والسِّواك ، هاجر هجرتين إلى أرض الحبشة ، ثم من مكة إلى المدينة ، قاله الجوزقي. وصلَّى القبلتين ، وشهد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشاهده كلها ، وكان يشبه في هديه وسمته برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وشهد له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجنة ، وشهد له كبراء أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه من أعلمهم بكتاب الله قراءة وعلمًا ، وفضائله كثيرة .
توفي بالمدينة سنة ثنتين وثلاثين ، ودفن بالبقيع ، وصلَّى عليه عثمان ، وقيل : بل صلَّى عليه عمَّار ، وقيل : بل صلَّى عليه الزبير ليلاً بوصيته ، ولم يعلم عثمان بذلك ، فعاتب عثمان الزبير على ذلك ، والله أعلم . روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثمانمئة حديث ، وثمانية وأربعين حديثًا ، أخرج له منها في الصحيحين : مئة وعشرون حديثًا.
(9/181)
وقوله : لما نزلت : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ...} الآية ، قد ذكرنا سبب نزول الآية ، وتكلمنا على معناها في الأشربة .
---
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قيل لي : أنت منهم )) ؛ الخطاب لابن مسعود ؛ أي : أوحي إلي أنك يابن مسعود من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهذه تزكية عظيمة ، ودرجة رفيعة ، قلَّ من ظفر بمثلها.
وقول أبي موسى : (( مكثنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ هذا يدلّ على صحَّة ما ذكرنا : من أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضمَّه إليه ، واختصَّه بخدمته وملازمته ، وذلك لما رأى من صلاحيته لقبول العلم وتحصيله له ، ولذلك قال له أول ما لقيه : ((إنك غُلَيْنٌم مُعَلَّم )) ، وفي رواية أخرى : (( لَقِنٌ مُفْهَم )) ؛ أي : أنت صالح لأن تُعَلَّم فتَعْلم ، وتُلَفَّن فتفهم ، ولما رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ضمَّه لنفسه ، وجعله في عداد أهل بيته فلازمه حضرًا وسفرًا ، وليلاً ونهارًا ليتعلَّم منه ، وينقل عنه .
وقول أبي موسى : (( كان يشهد إذا غبنا )) ؛ أي : يحضر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا غاب الناس عنه .
وقوله : (( ويؤذن له إذا حُجِبْنا )) ؛ يعني : أنه كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأذن له في الوقت الذي يحجب عنه الناس ، وذلك في الوقت الذي كان فيه مشتغلاً بخاصته .
---
(9/182)
وقول عبدالله : { ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة }... الحديث إلى آخره . قال القاضي أبو الفضل : هذا الحديث في "الأم" مختصر مبتور إنما ذكر منه أطرافًا لا تشرح مقصد الحديث ، وبيانه في سياق آخر ، ذكره ابن أبي خيثمة بسنده إلى أبي وائل ، وهو شقيق راوي الحديث في "الأم" ؛ قال : لما أمر في المصاحف بما أمر ؛ يعي : أمر عثمان بتحريقها ما عدا المصحف المجتمع عليه ، الذي وجَّه منه النسخ إلى الآفاق ، ورأى هو والصحابة ـ رضى الله عنهم ـ : أن بقاء تلك المصاحف يدخل اللبس والاختلاف ، ذكر ابن مسعود الغلول ، وتلا الآية ، ثم قال : غلُّوا المصاحف إني غالٌّ مصحفي ، فمن استطاع أن يَغلَّ مصحفه فليفعل ، فإنَّ الله تعالى يقول : { ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة } ، ثم قال : على قراءة من تأمرني أن أقرأ ؛ على قراءة زيد بن ثابت ؛ لقد أخذت القرآن من في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بضعًا وسبعين سورة ، وزيد بن ثابت له ذؤابتان يلعب مع الغلمان ، وفي أخرى : صبي من الصبيان ، فتمام هذا الحديث يظهركلام عبدالله .
قلت : وقوله : (( غلوا مصاحفكم ... )) إلى آخره ؛ أي : اكتموها ولا تسلموها ، والتزموها إلى أن تلقوا الله تعالى بها ، كما يفعل من غل شيئًا فإنه ياقي به يوم القيامة ، ويحمله ، وكان هذا رأيًا منه رآه انفرد به عن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ولم يوافقه أحد منهم عليه ، فإنَّه كتم مصحفه ، ولم يظهره ، ولم يقدر عثمان ولا غيره عليه أن يظهره ، وانتشرت المصاحف التي كتبها عثمان ، واجتمع عليها الصحابة في الآفاق ، وقرأ المسلمون عليها ، وترك مصحف عبدالله ، وخفي إلى أن وجد في خزائن بني عبيد بمصر عند انقراض دولتهم ، وابتداء درلة المعز ، فأمر بإحراقه قاضي القضاة بها صدر الدين ؛ على ما سمعناه من بعض مشايخنا ، فأخرق .
---
(9/183)
وقوله : (( على قراءة من تأمرني أن أقرأ ؟ )) إنكاز منه على من يأمره بترك قراءته ، ورجوعه إلى قراءة زيد مع أنه سابق له إلى حفظ القرآن ، وإلى أخذه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فصعب عليه أن يترك قراءة قرأها على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقرأ بما قرأه زيد أو غيره ، فتمسك بمصحفه وقراءته ، وخفي عليه الوجه الذي ظهر لجميع الصحابة ـ رضى الله عنه ـ من المصلحة التي هي من أعظم ما حفظ الله بها القرآن عن الاختلاف المخل به ، والتغيير بالزيادة والنقصان . وقد تقدَّم القول في الأحرف السبعة ، وفي كيفية الأمر بذلك ، وكان من أعظم الأمور على عبدالله بن مسعود ـ رضى الله عنه ـ : أن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ لما عزموا على في المصحف . بِلُغَةِ قريش عيَّنوا لذلك أربعة لم يكن منهم : ابن مسعود ، فكتبوه على لغة قريش ، ولم يُعَرِّجوا على ابن مسعود مع أنه أسبقهم لحفظ القرآن ، ومن أعلمهم به ، كما شهدوا له بذلك ، غير أنه ـ رضى الله عنه ـ كان هُذليًا كما تقدم ، وكانت قراءته على لغتهم ، وبينها وبين لغة قريش تباين عظيم ، فلذلك لم يدخلوه معهم ، والله تعالى أعلم .
قلت : وقد تقدَّم أن أصل البضع ما بين الثلاثة إلى التسعة ، وذكر اشتقاقه ، والخلاف فيه . و(( الحلق )) : بفتع الحاء واللام : جمع حلقة بفتح الحاء واللام على ما حكاه يونس عن أبي عمرو بن العلاء ، وقال أبو عمرو الشيباني : ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلا في قولهم : هؤلاء قوم حلقة ، للذين يحلقون الشعر ، جمع حالق ، وقال الجوهري : الحنقة للدروع- بالسكون - وكذلك حنقة الباب ، وحلقة القوم ، والجمع : الحلق على غير قياس .
---
(9/184)
وقوله : (( لقد علم أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أني أعلمهم بكتاب الله )) ؛ يعني : أنه أعلمهم بأسباب نزوله ، ومواقع أحكامه ، بدليل قوله في الرواية الأخرى : (( ما من كتاب الله سورة إلا وأنا أعلم حيث نزلت ، وما من آية إلا أعلم فيما أُنزلت )) ، وسَبَبُ ذلك : ملازمته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومباطنته إيَّاه سفرًا وحضرًا ؛ كما قدَّمنا . وأما في القراءة فأُبيٌّ أقرأ منه ، بدليل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أقرؤكم أُبَيّ )) ، ، والخطابُ للصحابة كلُّهم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((خذوا القرآن من أربعة : من ابن أم عبد-فبدأ به- )) ؛ ليس فيه دليل على أنه أقرأ من أُبي ، فإنَّه قد بيَّن ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنص الجلي : أن أبيًّا أقرأ منه ومن غيره ، فيحتمل أن يقال : إن الموجب لابتدائه اختصاصه به ، وملازمته إياه ، وحضوره في ذهنه ، لا أنه أقرأ الأربعة . والله تعالى أعلم .
وهذا كل بناء على : أن المقدَّم من المعطوفات له مزيَّة على المتأخر ، وفيه نظر قد تقدَّم في الطهارة وفي الحج . وتخصيص هؤلاء الأربعة بالذكر دون غيرهم ممن حفظ القرآن من الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ وهم عدد كثير كما يأتي ؛ لأنَّ هؤلاء الأربعة هم الذين تفرغوا لإقراء القرآن وتعليمه دون غيرهم ممن اشتغل بغير ذلك من العلوم ، أو العبادات ، أو الجهاد ، وغير ذلك ، ويحتمل أن يكون ذلك من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنه علم أنهم هم الذين ينتصبون لتعليم الناس القرآن بعده ، وليؤخذ عنهم ؛ فأحال عليهم لما علم من مآل أمرهم ، كما قد أظهر الموجود من حالهم ؛ إذ هم أئمة القرَّاء ، وإليهم تنتهي في الغالب أسانيد الفضلاء ، والله أعلم .
---
(9/185)
ومعاذ المذكور في الحديث : هو معاذ بن جبل بن أوس الأنصاري الخزرجي ، يُكنى : أبا عبدالرحمن ، قيل : بولد كان له كبر إلى أن قاتل مع أبيه في اليرموك ، ومات بالطاعون قبل أبيه بأيام ، على ما ذكره محمد بن عبدالله الأزدي البصري في "فتوح الشام" وغيره . وقال الواقدي : إنه لم يولد لمعاذ قط ، وقاله المدائني . أسلم معاذ وهو ابن ثماني عشرة سنة ، وشهد العقبة مع السبعين ، وشهد بدرًا ، وجميع المشاهد ، وولاَّه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على عمل من أعمال اليمن ، وخرج معه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مودِّعًا ماشيًا ، ومعاذ راكبًا ، منعه من أن ينزل ، وقال فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((أعلمكم بالحلال والحرام معاذ )). وقال : (( إنه يسبق العلماء يوم القيامة رتوة بحجر )) ، وقال فيه ابن مسعود : (( إنه كان أمة قانتًا لله ، وقال : الأمة : هو الذي يعم الناس الخير ، والقانت : هو المطيع لله عز وجل ، وكان عابدًا ، مجتهدًا ، وَرِعًا ، محققًا ، كان له امرأتان ، فإذا كان يوم إحداهما : لم يشرب من بيت الأخرى ، وماتتا بالطاعون في وقت واحد ، فحفر لهما حفرة فأسهم بينهما أيتهما تُقدَّم في القبر ، وكان مجاب الدعوة ؛ لما كان طاعون عمواس - وعمواس قرية من قرى الشام ، وكأنها إنما نسب الطاعون إليها ؛ لأنَّه أول ما نزل فيها - فقال بعض الناس : هذا عذابٌ ، فبلغ ذلك معاذًا فأنكر ذلك ، وخطب فقال : أيها الناس ! إن هذا الوجع رحمةُ ربكم ودعوة نببكم ، وموت الصالحين قبلكم . اللهم آت آل معاذ من هذه الرحمة النصيب الأوفى. فما أمسى حتى طُعِن ابنه عبدالرحمن ، وماتت زوجتاه ، ثم طُعِن من الغد من دفن ولده ، فاشتد وجعه فمات منه ، وذلك في سنة سبع عشرة ، وقيل : سنة ثمان عشرة ، وسنُّه يومنذ ثمان وثلاثون سنة ، وقيل : ثلاث وثلاتون سنة ، روي عنه من الحديث : مئة حديث ، وسبعة وخمسون حديثًا ، أخرج له منها في الصحيحين ستة أحاديث .
---
(9/186)
وسالم المذكور في الحديث ، هو سالم بن معقل ، مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، يُكنى سالم : أبا عبد الله ، وكان من أهل فارس من اصطخر ، وكان من فضلاء الموالي ، ومن خيار الصحابة وكبرائهم ، وهو معدودٌ في المهاجرين ؛ لأنَّه لما أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة ، وهي عمرة بنت يعار . وقيل : سلمى ، وقيل : غير ذلك ، تولى أبا حذيفة فتبنَّاه أبو حذيفة ، وهو أيضًا معدودٌ في الأنصار ؛ لعتق مولاته المذكورة له وهي أنصارية ، وهو معدودٌ في القرَّاء ، قيل : إنه هاجر مع عمر ابن الخطاب ونفر من الصحابة من مكة ـ رضى الله عنهم ـ ، فكان يؤمهم ؛ لأنَّه كان أكثرهم قرانًا ، وكان يؤم المهاجرين بقباء فيهم عمر بن الخطاب ، شهد سالم بدرًا ، وقتل يوم اليمامة ومولاه أبو حذيفة . فوجد رأس أحدهما عند رجلي الآخر ، وذلك سنة اثنتي عشرة .
ومن باب فضائل أبي بن كعب ـ رضى الله عنه ـ
وابن قيس بن عبيد بن زيد بن النجار الخزرجي ـ رضى الله عنه ـ أسلم قديمًا ، وشهد العقبة الثانية ، وبايع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها ، ثم شهد بدرًا ، وجميع المشاهد ، وهو أول من كتب الوحي لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان من فقهاء الصحابة وقرائهم ـ رضى الله عنهم ـ ، وكفى بذلك أن الله تعالى : أمر نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقرأ عليه القرآن ، وقد بيَّنَّا وجه ذلك فيما تقدَّم ، وقد تقدَّم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((أقرؤكم أبي )). وقال فيه عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ : إنه سيد المسلمين ، وتوفي في خلافة عمر على الأكثر . قيل : سنة تسع عشرة ، وقيل : سنة عشرين ، وقيل : سنة اثنتين وعشرين ، وقد قيل : إنه مات في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين . وجملة ما روي عنه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مئة حديث وأربعة وستون حديثًا ، أخرج له منها في الصحيحين ثلاثة عشر .
---
(9/187)
وقول أنس ـ رضى الله عنه ـ : جمع القرآن على عهد رسول الله في أربعة ؛ من الأنصار : معاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد . قد استشكل ظاهر هذا الحديث كثير من الناس حتى ظنوا أنه مما يطرق الطعن والقدح في تواتر القرآن ، وهذا إنما نشأ ممن يظن أن لهذا الحديث دليل خطاب ؛ فإنَّه لا يتم له ذلك حتى يقول بتخصيص هؤلاء الأربعة بالذكر يدلّ على أنه لم يجمعه أحدٌ غيرهم ، فمن ينفي القول بدليل الخطاب قد سلم من ذلك ، ومن يقول به فأكثرهم يقول : إن أسماء الأعداد لا دليل خطاب لها ، فإنَّها تجري مجرى الألقاب ، والألقاب لا دليل خطاب لها باتفاق أئمة أهل الأصول . ولا يلتفت لقول الدقاق في ذلك فإنَّه واضح الفساد كما بيَّنَّاه في الأصول ، ولئن سلَّمنا أن لأسماء الأعداد دليل خطاب ، فدليل الخطاب إنما يُصار إليه إذا لم يعارضه منطوق به ، فإنه أضعف وجوه الأدلة عند القائلين به ، وهنا أمران هما أولى منه - بالاتفاق - :
أحدهما : النقل الصحيح .
والثاني : ما يعلم من ضرورة العادة .
فأمَّا النقل فقد ذكر القاضي أبو بكر وغيره جماعة من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جمعوا القرآن على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم : الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة . وقد سَمَّى أبو عبدالله المازري منهم خمسة عشر .
(9/188)
وقد تواترت الأخبار بأنه قتل يوم اليمامة سبعون ممن جمع القرآن ، وكان ذلك في سنة وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأول سني خلافه أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ ، وإذا قتل في جيش واحد سبعون ممن جمع القرآن ؛ فالذين بقوا في ذلك الجيش منهم لم يقتلوا أكثر من أولئك أضعافًا . وإذا كان ذلك في جيش واحد ! فانظر كم بقي في مدن الاسلام - إذ ذاك - وفي عساكر أخر من الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ - ممن جمع القرآن . فيظهر من هذا أن الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يُحصيهم أحد ، ولا يضبطهم عدد .
---
وأما الثاني وهو العادة : وذلك أنها تقتضي أن يجتمع الكثير ، والجم الغفير على حِفظه ونقله ، وذلك أن القرآن على نظم عجيب ، وأسلوب -غريمب ، مخالف لأساليب كلامهم في نثرهم ونظامهم مع ما تضمَّنه من العلوم والأحكام ، ومعرفة الحلال والحرام ، والقَصَص والأخبار ، والتبشير والإنذار ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ذلك يُشيعه في الناس ، ويشافه به البلغاء الأكياس ، وما كان هذا سبيله فالعادة تقتضي : أن تتوفر الدواعي على حقظ جميعه ، والوتوف على ما تضمنه من أنواع حكمه وبدائعه ، ومحاسن آدابه وشرائعه ، ويحيل انفراد الآحاد بحفظه كما يحيل انفرادهم بنقله ، فقد ظهر من هذه المباحث العجاب أن ذلك الحديث ليس له دليل خطاب ، فإنَّ قيل : فاذا لم يكن له دليل خطاب فلأي شيء خصَّ هؤلاء الأربعة بالذكر دون غيرهم ؛ فالجواب من أوجه :
أحدها : أنه يحتمل إن يكون ذلك لتعلُّق غَرَض المتكلم بهم دون غيرهم كالحال في ذكر الألقاب .
وثانيها : لحضور هؤلاء الأربعة في ذهنه دون غيرهم .
وثالثها : أن هؤلاء الأربعة قد اشتهروا بذلك في ذلك الوقت دون غيرهم ممن يحفظ جميعه .
ورابعها : لأن أنسًا سمع من هؤلاء الأربعة إخبارهم عن أنفسهم أنهم جمعوا القرآن ، ولم يسمع مثل ذلك من غيرهم ، وكلُّ ذلك محتمل ، والله تعالى أعلم .
(9/189)
وقول قتادة : (( قلت لأنسٍ : من أبو زيد ؟ قال : أحد عُمومتي )) ؛ أبو زيد هذا هو سعيد بن عبيد بن النعمان الأوسي من بني عمرو بن عوف ، يعرف بسعد القارئ ، توفي شهيدًا بالقادسية سنة خمس عشرة. قال أبو عمر : هذا قول أهل الكوفة ، وخالفهم غيرهم ، فقال أبو زيد : هذا هو قيس بن السكن الخزرجي من بني عدي بن النجار بدري . قال ابن شهاب : قُتِل أبو زيد قيس بن السَّكن الخزرجي يوم جِسْر أبي عبيد على رأس خمس عشرة. وقد تقدَّم القول على حديث قراءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أبي ـ رضى الله عنه ـ في كتاب الصلاة في باب : ترتيل القراءة وكيفية الأداء .
ومن باب فضائل سعد بن معاذ ـ رضى الله عنه ـ
---
هو ابن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الخزرجي الأنصاري ـ رضى الله عنه ـ أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية على يدي مصعب ابن عمير ، وشهد بدرًا وأحدًا ، ورمي يوم الخندق بسهم ، فعاش شهرًا ، ثم انتقض جرحه فمات منه . توفي في سنة خمس من الهجرة ، وقد تقدَّم حديثه في حكمه في بني قريظة ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للحاضرين من أصحابه : (( قوموا إلى سيدكم )) ، وقالت عائشة رضي الله عنها : كان في بني عبد الأشهل ثلاثة ، لم يكن بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المسلمين أحدٌ أفضل منهم : سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وعبَّاد بن بشر ؛ تعني : من الأنصار ، والله أعلم . وقال ابن عباس : قال سعد بن معاذ : ثلاثة أنا فيهن رجل كما ينبغي ، وما سوى ذلك فأنا رجل من المسلمين . ما سمعت من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديثًا إلا علمت أنه من الله ، ولا دخلت في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها حتى قضيتها ، ولا كنت في جنازة قط فحدَّثت نفسي بغير ما تقول ، وما يُقال لها حتى أنصرفَ عنها.
(9/190)
وقوله : (( اهتز عرش الرحمن لجنازة سعد بن معاذ )) ؛ حمل بعض العلماء هذا الحديث على ظاهره من الاهتزاز والحركة ، وقال : هذا ممكن ؛ لأنَّ العرش جسم ، وهو قابل للحركة والسُّكون ، والقدرة صالحة ، وكانت حركته علمًا على فضله ، وحمله آخرون على حملة العرش ، وحذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ، ويكون الاهتزاز منهم استبشارًا بقدوم روحه الطيبة ، وفرحًا به ، وحمله آخرون على تعظيم شأن وفاته ، وتفخيمه على عادة العرب في تعظيمها الأشياء ، والإغياء في ذلك ، فيقولون : قامت القيامة لموت فلان ، وأظلمت الأرض ، وما شاكل ذلك مِمَّا المقصود به التعظيم والتفخيم لا التحقيق ، وإليه صار الحربي . وكل هذا مُنزَّل على : أن العرش هو المنسوب لله تعالى في قوله : { الرحمن على العرش استوى } ، وهو ظاهر قوله : (( اهتز عرش الرحمن لموت سعد )).
وقد روي عن ابن عمر : أن العرش هنا سرير الموت .
---
قال القاضي : وكذلك جاء في حديث البراء في الصحيح : (( اهتز السَّرير ، وتأوله الهروي : فَرِح بحمله عليه .
وقوله : (( أُهديت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلَّةُ حرير )) ؛ كذا جاء في حديث البراء : حلَّة بالحاء المهملة واللام ، وفي حديث أنس : أن أُكَيْدر دومة الجندل أهدى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جُبَّة من سندس. وهذه أوجه وأصوب ؛ لأنَّ الحلة لا تكون عند العرب ثوبًا واحدًا ؛ وإنما هي لباس ثوبين ، يحل أحدهما على الآخر ، وأن الثوب الفرد لا يُسمَّى حلة . وقد جاء في السِّير أنها : قباء من ديباج مخوَّص بالذهب وقد تقدَّم الكلام على لبس الحرير في اللباس .
(9/191)
وكيدر : بضم الهمزة وفتح الكاف ، وباء التصغير بعدها : تصغير : أكدر ، والكدرة : لون بين السواد والبياض ، وهو الأغبر ، وهو : أكيدر بن عبد الملك الكندي. ودومة : بفتح الدال وضمها ، وأنكر ابن دريد الفتح ، وقال : أهل اللغة يقولونه بالضم ، والمحدِّثون بالفتح ، وهو خطأ ، وقال : ودومة الجندل : مجتمعه ومستداره ، وهو من بلاد الشام قرب تبوك ، كان كيدر ملكها ، وكان خالد بن الوليد قد أسره في غزوة تبوك وسلبه قباء من ديباج مخوَّصًا بالذهب. فأمَّنَه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وردَّه إلى موضعه ، وضرب عليه الجزية .
---
وقوله : (( لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين )) ؛ هذه إشارة إلى أدنى ثياب سعد في الجنة ؛ لأنَّ المناديل إنما هي ممتهنة متخذة لمسح الأيدي بها من الدَّنس والوسخ ، وإذا كان هذا حال المنديل ، فما ظنُّك بالعمامة والحلة ؟! ولا يظنُّ طعام الجنة وشرابها فيهما ما يدنس يد المتناول حتى يحتاج إلى منديل ؛ فإنَّ هذا ظن من لا يعرف الجنة ولا طعامها ولا شرابها ؛ إذ قد نزه الله الجنة عن ذلك كله ، وإنما ذلك إخبارٌ بأن الله أعدَّ في الجنة كل ما كان يحتاج إليه في الدُّنيا ، لكن هي على حالة هي أعلى وأشرف ، فأعدَّ فيها أمشاطًا ، ومجامر ، وأُلُوَّة ، ومناديل ، وأسواقًا وغير ذلك مما تعارفناه في الدُّنيا ، وإن لم نحتج له في الجنة ؛ إتمامًا للنعمة ، وإكمالاً للمنَّة .
ومن باب فضائل أبي دجانة ـ رضى الله عنه ـ
هو سماك بن خرشة بن لوذان الخزرجي الأنصاري ، وهو مشهور بكنيته ، شهد بدرًا وأُحُدًا ، ودافع عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومئذ هو ومصعب بن عمير ، وكثرت فيه الجراحة ، وقُتِل مصعب .
(9/192)
وكان أبو دُجانة أحد الشجعان ، له المقامات المحمودة مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مغازيه . استشهد يوم اليمامة ، وقال أنس : رمى أبو دجانة بنفسه في الحديقة ، فانكسرت رجله ، فقاتل حتى قُتل ، وقيل : إنه شارك وحشيًّا في قتل مسيلمة ، وقد قيل : إنه عاش حتى شهد مع علي صفِّين ، والله تعالى أعلم . قال أبو عمر : وإسناد حديثه في الحرز المنسوب إليه فيه ضعف .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من يأخذ مني هذا السَّيف بحقه ؟ )) يعني بالحق هنا : أنه يقاتل بذلك السيف إلى أن يفتح الله تعالى على المسلمين أو يموت ، فلما سمعوا هذا أحجموا ؛ أي : تأخروا ، يقال : أحجم وأجحم بتقديم الحاء وتأخيرها . فأخذه أبو دجانة فقام بشرطه ، ووَفَّى بحقه .
و (( هام المشركين )) مخففًا ؛ يعني : رؤوسهم . قال :
نضرب بالسُّيوف رؤوس قومٍ أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المقيل
المقيل : أصول الأعناق .
---
وأما جابر : ـ فهو عبدالله بن عمرو بن حزام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سَلَمَة الأنصاري السلمي ، ، وهو أحد النقباء ، شهد العقبة وبدرًا ، وقُتِل يوم أُحُد ، ومُثِّل به .
روى بقي بن مَخْلَد عن جابر ـ رضى الله عنه ـ قال : لقيني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( يا جابر ! ما لي أراك منكسًا مهتمًا ؟ )) ، قلت : يا رسول الله ! استشهد أبي وترك عيالاً ، وعليه دين . قال : أفلا أبشرك بما لقي الله عز وجل به أباك ؟ )) قلت : بلى يا رسول الله ! قال : (( إن الله عز وجل أحيا أباك ، وكلمه كفاحًا ، وما كلَّم أحدًا قط إلا من وراء حجاب ، فقال له : يا عبدي تَمَنَّ أعطك! قال : يا رب ! تردّني إلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية فأبلِّغ من ورائي ؛ فانزل الله تعالى : { ولا تحسبنَّ الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ ... } الآية.
---
(9/193)
قلت : وقد تضمَّن هذا الحديث فضيلة عظيمة لعبدالله لم يُسْمَع بمثلها لغيره ، وهي : أن الله تعالى كلَّمه مشافهة بغير حجاب حجبه به . ولا واسطة قبل يوم القيامة ، ولم يفعل الله تعالى ذلك بغيره في هذه الدَّار ، كما قال تعالى : { وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً }. وكما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث : (( وما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب )). وظاهر هذه الآية ، وهذا الحديث : أن الله تعالى لم يفعل هذا في هذه الدَّار لحيٍّ ولا لميت ، إلا لعبدالله هذا خاصَّة ، فيلزم على هذا العموم : أنه قد خُصَّ من ذلك بما لم يُخَصّ به أحدٌ من الأنبياء . وهذا مشكل بالمعلوم من ضرورة الشرع ، ومن إجماع المسلمين على : أن درجة الأنبياء وفضيلتهم أعظم من درجة الشهداء والأولياء كما تقدم ، فوجه التَّلفيق : أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وما كلَّم الله أحدًا إلا من وراء حجاب )) ؛ إنما يعني به -والله أعلم - : أنه ما كلَّم أحدًا من الشهداء ، وممن ليس بنبي بعد موته ، وقبل يوم القيامة ، إلا عبدالله ، ولم يرد به الأنبياء ، ولا أراد بعد يوم القيامة ، لما قد علم أيضًا من الكتاب والسنة ، وإجماع أهل السُّنَّة من : أن المؤمنين يرون الله تعالى في الجنة ، ويُكلِّمهم بغير حجاب ، ولا واسطة .
وأما الآية : فإنما مقصودها حَصْر أنواع الوحي الواصل إلى الأنبياء من الله تعالى ، فمنه : ما يقذفهُ الله تعالى في تلب النبيِّ ، وروعه ، ومنه : ما يُسمعه الله تعالى للنبي مع كون ذلك النبي محجوبًا عن رؤية الله تعالى ، ومنه : ما يبينه له الملك ، وحاصلها : الإعلام بأن الله تعالى لم يره أحدٌ من البشر في هذه الدَّار ؛ نبيًا كان أو غير نبي ، ويشهد لهذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيح : (( اعلموا أنه لا يرى أحدٌ ربَّه حتى يموت )).
---
(9/194)
وقد تقدَّم الخلاف في رؤية نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لربِّه ، والصحيح أنه لم يأت قاطع بذلك ، والأصل : بقاء ما ذكرناه على ما أصَّلناه ، والله تعالى أعلم.
وقوله : (( وجيء بأبي مُسجًّى ، وقد مُثِّل به )) ؛ أي : مُغظى بثوب ومُثِّل به ؛ أي : جُدِع أنفه وأذناه . فعل ذلك به المشركون.
وقوله : (( ولِمَ تبكي ؟ )) كذا صحَّت الرواية بـ (( لم )) التي للاستفهام ، (( تبكي )) بغير نون ؛ لأنَّه استفهام لمخاطب عن فعل غائبه ، ولو خاطبها بالاستفهام خطاب الحاضرة ، لقال : ولم تبكين ؟ بإثبات النون ، وكذلك جاء في رواية أخرى : (( تبكيه أو لا تبكيه ؟ ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها )) ، هو إخبار عن غائبة ، ولو كان خطاب الحاضرة لقال : تبكينه ، أو لا تبكينه بنون فعل الواحدة المخاطبة ، ويعني بهذا الكلام : أن عبدالله مكرَّم عند الملائكة سواء بُكِي عليه ، أو لم يُنْكَ ، وكون الملائكة تظله بأجنحتها إنما ذلك لاجتماعهم عليه ، وتراحمهم على مبادرة لقائه ، والصُّعود بروحه الكريمة الطيبة ، ولتبشِّره بما له عند الله تعالى من الكرامة والدَّرجة الرفيعة ، والله تعالى أعلم .
ومن باب فضائل جليببب ـ رضى الله عنه ـ
---
(9/195)
وكان رجلآ من ثعلبة ، وكان حليفًا في الأنصار ، قال ابن سعد : سمعت من يذكر ذلك . روى أنس بن مالك قال : كان رجل من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقال له : جليبيب ، وكان في وجهه دمامة ، فعرض عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التزويج ، فقال : إذن تجدني كاسدًا يا رسول الله ! فقال : (( إنك عند الله لست بكاسد )) ، وفي غير كتاب مسلم من حديث أبي برزة في تزويج جليبيب : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لرجل من الأنصار : (( يا فلان زوجني ابنتك )) ، قال : نعم ، ونعمة عين ، قال : ((إني لست لنفسي أريدها )) ، قال : فلمن ؟ قال : (( لجليبيب )) ، قال : حتى أستأمرَ أمَّها ، فأتاها وأخبرها بذلك ، فقالت : حلقى ، ألجليبيب؟! لا لَعَمْرُ الله ، لا أُزوِّج جُليبيبًا ، فلما قام أبوها ليأتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت الفتاة من خدرها لأبويها : من خطبني إليكما ؟ قالا : رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قالت : أفتردَّان على رسول الله أمره ؟! ادفعاني إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنَّه لن يُضيِّعني ، فذهب أبوها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره بذلك ، وقال : شأنك بها ؛ فزوَّجها جُليبيبًا ، ودعا لهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( اللهم صُبَّ عليهما الرزقَ صبًّا صبًّا ، ولا تجعل عيشهما كدًّا كدًّا ... )) ، ثم ذكر باقي الحديث على ما في كتاب مسلم .
وقوله : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مغزًى له )) ؛ أي : في غزوة .
---
(9/196)
وقوله : (( هل تفقدون أحدًا ؟ )) هذا الاستفهام ليس مقصوده استعلام كونهم فقدوا أحدًا ممن يعزّ عليهم فَقْده ؛ إذ ذاك كان معلومًا له بالمشاهدة ؛ وإنما مقصوده التَّنويه والتَّفخيم بمن لم يحفلوا به ، ولا التفتوا إليه ، لكونه كان غامضًا في الناس ، ولكون كل واحدٍ منهم أصيب بقريبه أو حبيبه ، فكان مشغولاً بمصابه لم يتفرَّغ منه إلى غيره ، ولَمَّا أطَّلع الله تعالى نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما كان من جليبيب من قتله السَّبعة الذين وجدوا إلى جنبه ، نوَّه باسمه ، وعرَّف بقدره ، فقال : (( لكي أفقدُ جُليبيبًا )) ؛ أي : فقده أعظم من فقد كل من فقد ، والمصاب به أشد ، ثم إنه أقبل بإكرامه عليه ، ووسَّده ساعديه مبالغة في كرامته ، ولتناله بركة ملامسته . وجليبيب : تصغير جِلباب ، سُمِّي به الرجل .
ومن باب فضائل أى ذز الغفاري ـ رضى الله عنه ـ
---
(9/197)
واسمه : جندب - على الأصح ورلأكثر - ابن جنادة بن قيس بن عمرو بن مليل بن حرام بن غفار ، وغفار بن كنانة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. هو من كبار الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ، قديم الإسلام ، يقال : أسلم بعد أربعة فكان خامسًا ، ثم انصرف إلى بلاد قومه ، فأقام بها حتى قدم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام الحديبية ، بعد أن مضت بدر ، وأحد ، والخندق ، ويدل على كيفية إسلامه ، وتفصيل أحواله : حديثه المذكور في الأصل ، وكان قد غلب عليه التعبُّد والزهد ، وكان يعتقد أن : جميع ما فضل عن الحاجة كنز وإمساكه حرام ، ودخل الشام بعد موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوقع بينه وبين معاوية نزاع في قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ...} الآية ، فشكاه معاوية إلى عثمان ، فأقدمه عثمان المدينة ، فقدمها ، فزهد أبو ذر في كل ما بأيديهم ، واستأذن عثمان في سكنى الرَّبذة ، فأذن له ، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذن له في البدو ، فأقام بالرَّبذة في موضع منقطع إلى أن مات بها سنة اثنتين وثلاثين على ما قاله ابن إسحاق ، وصلى عليه عبدالله بن مسعود منصرفه من الكوفة في ركب ، ولم يوجد له شيء يُكفن فيه ، فكفَّنه رجل من أولئك الركب في ثوب من غزل أمه ، وكان قد وصَّى ألا يكفنه أحدٌ ولي شيئًا من الأعمال السلطانية ، وخبره بذلك معروف .
روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مئتي حديث وواحدًا وثمانين حديثًا . أخرج له منها في الصحيحين ثلاثة وثلاثون حديثًا .
غريب حديث أبي ذر ـ رضى الله عنه ـ : الشنة : السقاء البالي ، والشنان : الأسقية ، واحدها شنٌّ ، وكل جلد بال : فهو شنٌّ . ويقال للقربة البالية : شنَّة ، وهي أشدُّ تبريدًا للماء من الجدد .
وقوله : (( ما أنى للرجل )) ؛ أي : ما كان ، يقال : أنى وآن بمعنى واحد ، و(( تقفوه )) : تتبعه .
وقوله : (( لأصرخن بها )) ؛ أي : بكلمة التوحيد .
(9/198)
(( بين ظهرانيهم )) ؛ يعني : المشركين بمكة .
---
وقوله : (( فنثا علينا خالنا الذي قيل له )) ؛ أي : أظهر لنا بالقول ، وإنما يقال : النثى - بتقديم النون ، والقصر - في السِّر والكلام القبيح ، وإذا قَدَّمْتَ الثاء ومدَدَت فهو الكلام الحسن الجميل .
وقوله : (( لا جماع لك )) ؛ أى : لا اجتماع يبقى بيننا .
و (( الصِّرْمَةُ )) : القطعة من الإبل ، نحو الثلاثين ، وقد تكون الصِّرْمَة في غير هذا : القطعة من النخل ، والصّرم : القطع .
وقوله : (( فنافر أُنَبْس عن صرمتنا ، وعن مثلها )) ؛ أي : التزم أن من قضي له بالغلبة أخذ ذلك ، قال أبو عبيد : المنافرة : أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه ، ثم يحكما رجلاً بينهما ، والنافر : الغالب ، والمنفور : المغلوب. يقال : نفره ، ينفره ، وينفره نفرًا : إذا غلب عليه .
وقوله : (( فإتيا الكاهن فخيَّر أُنيسًا )) ؛ أي : غلبه ، وقضى له ، وكانت منافرته في الشعر : أيهما أشعر ؟
وقوله : (( وقد صلَّيت قبل أن ألقى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ هذا إلهام للقلوب الطاهرة ، ومقتضى العقول السَّليمة ؛ فإنَّها توفق للصواب ، وتلهم للرشد.
قوله : (( أُلقيت كأني خِفَاءٌ )) ؛ الرواية في ألقيت بضم الهمزة وكسر القاف ؛ مبنيًا لما لم يسم فاعله . والخفاء : بكسر الخاء والمد : هو الغطاء ، وكل شيء غطيته بكساء ، أو ثوب ، فذلك الغطاء خفاء ، ويجمع أخفية ، قاله أبو عبيد. وقال ابن دريد : الخفاء : كساء يطرح على السقاء .
وقوله : (( فراث علي )) ؛ أي : أبطأ .
وقوله : (( وضعت قوله على أقراء الشعر )) ؛ قال ابن قتيبة : يريد أنواعه ، وطُرقه ، واحدها : قَرْء . فيقال : هذا الشعر على قرء هذا .
وقوله : (( فتضعَّفتُ رجلاً )) ؛ أي : رأيته ضعيفًا ، فعلمت أنه لا ينالني بمكروه ، ولا يرتاب بمقصدي .
(9/199)
وقوله : (( كأني نصب أحمر )) ؛ أي : قمت كأني لجريان دمي من الجراحة التي أُصبت بها أحد الأنصاب ، وهي الحجارة التي كانوا يذبحون عليها فتحمر بالدماء .
---
فأمَّا زمزم ، فقال ابن فارس : هو من قولهم : زممت الناقة ؛ إذا جعلت لها زمامًا تحبسها به ، وذلك أن جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما همز الأرض بمقاديم جناحيه ، ففاض الماء زمتها هاجر فسُمِّيت : زمزم .
وقوله : (( ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر )) ؛ كذا الرواية الصحيحة أقراء : بالراء ، جمع قَرْءٍ على ما تقدم ، وقيَّده العذري : أقواء بالواو ، ورواه بعضهم بالواو وكسر الهمزة . قال القاضي : لا وجه له .
وقوله : (( فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر )) ؛ هكذا الرواية عند جميع الشيوخ . بعدي : بالباء بواحدة ، والعين المهملة : بمعنى غيري. يقال : ما فعل هذا أحد بعدك ؛ أي : غيرك . كما يقال ذلك في ((دون )) وهو كثيرٌ فيها . ومعنى الكلام : أنه لما اعتبر القرآن بأنواع الشعر تبيَّن له أنه ليس من أنواعه ، ثم قطع : بأنه لا يصح لأحد أن يقول : إنه شعر ، ووقع في بعض النُّسخ : يَقْرِي بفتح الياء . قال القاضي : وهو جيد ، وأحسن منه : يُقْرِي بضمها ، وهو مِمَّا تقدَّم ، يقال : أقرأت في الشعر ، وهذا الشعر على قَرْء هذا ، وقرؤه : أي قافيته ، وجمعها : أقراء . وفي بعض النسخ أيضًا : (( على لسان أحد يُعزى إلى شعر )) ؛ أي : ينسب إليه ، ويوصف به . وللروايات كلها وجه .
وقوله : (( فما وجدت على كبدي سخفة جوع )) ؛ قال الأصمعي : السخفة : الخفة ، ولا أحسب قولهم : سخيف إلا من هذا .
(9/200)
وقوله : (( في ليلة قمراء إضْحِيان )) ؛ القمراء : المقمرة ، وهي التي يكون فيها قمر ، ويُسمَّى الهلال قمرًا من أول الليلة الثالثة إلى أن يصير بدرًا ، ثم إذا أخذ في النقص عاد عليه اسم القمر . وإضحيان - بكسر الهمزة والضاد المعجمة - : معناه كثير ضوء قمرها . قال ابن قتيبة : ويقال ليلة إضحيان ، وإضحيانة ، وضحيانة : إذا كانت مضيئة .
---
وقوله : (( ضرب على أصمختهم )) ؛ أي : ناموا ، ومنه قوله تعالى : {فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عددًا } ؛ أي : أنمناهم . الأصمخة : جمع صماخ ، وهو خُرق الأذن ، وهو بالصاد ، وقد أخطأ من قاله : بالسين . وإساف ونائلة : صنمان ، وقد تقدَّم ذكرهما في كتاب الحج ، وقد روى ابن أبي نجيح : أن إسافًا ونائلة كانا رجلاً وامرأة حجَّا من الشام ، فقبَّلَها وهما يطوفان فمُسخا حجرين ، فلم يزالا في المسجد حتى جاء الاسلام ، فأخرجا منه .
وقوله : (( فما تناهتا عن قولهما )) ؛ أي : ما رجعتا عنه .
وقوله : (( هن مثل الخشبة )) ؛ يعني به الذكر ، وقد تقدَّم أن : هنا كناية عن النكرات ، وأراد بذكره هنا سبّ إساف ونائلة ، وهو تقبيح ، كقوله أولاً : (( أنكحا أحدهما ا لآخر )).
وقوله : (( قولولان )) ؛ أي : تدعوان بالويل ، وترفعان بذلك أصواتهما .
وقولهما : (( لو كان أحدٌ من أنفارنا )) ؛ أى : من قومنا ، وهو جمع نفر ، والنَّفر : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وجواب لو محذوف ؛ أي : لنصرنا عليك ونحوه .
وقولهما : (( الصابئ )) ؛ أي : الخارج عن دين قومه ، ويهمز ، ولا يهمز ، وقد قريء بهما .
وقولهما : (( قال كلمة تملأ الفم )) ؛ أي : عظيمة ، حتى كان الفم يضيق عنها .
(9/201)
وقوله : (( فكنت أول من حياه بتحيَّة الإسلام )) ؛ يعني به : السلام عليك يا رسول الله ! وظاهره : أنه ألهم النُّطق بتلك التحية ؛ إذ لم يكن سمعها قبل ذلك ، وعلمه بكونه أوّل من حياه : يحتمل أن يكون إلهامًا ، ويحتمل أن يكون علمه بعد ذلك بالاستقراء ، ثم أخبر عنه ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( فَقَدَعَنِي صاحبه )) ؛ أي : كفَّني ومنعني . يقال : قَدَعْتُ الرَّجَل ، وأقْدَعتُه : إذا كففته ، ومنه قول الحسن : قدعوا هذه الأنفس ، فإنَّها طلعة )) ، وهو بالدال المهملة .
---
وقوله : (( إنه طعام طعم )) ؛ أي : يُشبع منه ، ويُؤدُّ الجوعَ . الرواية فيه : (( طعامُ طعم )) بالإضافة ، والطعام : اسم لما يتطعَّم ، فكأنه قال : طعام إشباع ، أو طعام يشبع ، فأضافه إلى صفته ، هذا على معنى ما قاله ابن شميل ، فإنه قال : يقال : إن هذا لطعام طعمًا ؛ أي : يطعم من أكله ؛ أى : يشبع منه الإنسان ، وما يطعم أكلُ هذا الطعام ؛ أى : ما يشبع منه ، غير أنه قد قال الجوهري : الطُّعْمُ بالضم : الطعام ، وبالفتح : ما يُشتهَى منه . قال : قال أبو خراش :
أُرَدُّ شجاع البَطنِ لَوْ تَعْلَمينه ويُؤثَرُ غيري من عيالك بالطُّعمِ
وأَغْتَبِقُ الماء القَرَاحَ فَأَنْتَهِي إذا الزَّادُ أَمْسَى للمُزَلَّج ذَا طَعْمِ
قال : فأراد بالأول الطعام ، وبالثاني ما يُشتهى .
قلت : وعلى هذا فلا تصحُّ الإضافة من جهة المعنى ؛ فإنَّه يكون كقولك : طعامُ طعامِ ، ولا يصحُّ ؛ لأنَّه إضافة الشيء إلى نفسه ؛ وإنَّما يستقيم معنى الحديث على ما حكاه ابن شميل ، ويحصل من قولهما : أن طعمًا يُستعمل بمعنى الاسم ، كما قاله الجوهري ، وبمعنى الصفة ، كما قاله ابن شميل . والله تعالى أعلم .
وقد روى أبو داود الطيالسي من حديث أبي ذز ـ رضى الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زمزم : (( إنها مباركةٌ ، وهي طعام طعم ، وشفاء سقم )) ؛ أي : طعام من جوع ، وشفاء من سقم .
(9/202)
وقوله في هذا الحديث : (( إنها مباركة )) ؛ أي : إنها تظهر بركتها على من صحَّ صدقه ، وحسنت فيها نيته ، كما قد روى العقيلي أبو جعفر من حديث أبي الزبير عن جابر : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( ماء زمزم لما شرب له )). فينبغي أن يتبرك بها ، ويحسن النية في شربها ، ويحمل من مائها ، فقد روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها : أنهاكانت تحمل من ماء زمزم ، وتخبر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحمله . فال : حديث حسن غريب .
وقوله : (( ثم غَبَرْت ما غَبَرْتُ )) ؛ أى : بقيت ما بقيت ، وقد تقدَّم : أن غبر من الأضداد .
---
وقوله : (( وقد وجهت إلى أرض ذات نخل )) ؛ أي : ذهب إلى تلك الجهة وأُريتها .
وقوله : (( لا أراها إلا يثرب )) ؛ هذا كان اسم المدينة قديمًا حتى قدمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فكره أن تُسمَّى يثرب ؛ لأنَّه : مأخوذ من التثريب ، وهو اللؤم والتقبيح ، وسَمَّاها (( طابة )) ، وقد تقدَّم هذا في الحج ، وأيماء بن رحضة يروى بفتح الهمزة وكسرها ، ورحضة بفتح الحاء المهملة ، والضاد المعجمة .
وقوله : (( غفار ، غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله )) ؛ إنما دعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ محبر لهاتين القبيلتين ؛ لأنَّهما أسلمتا طوعًا من غير قتال ، ولا إكراه ، ويحتمل أن يكون ذلك خبرًا عما فعل الله بهاتين القبيلتين من المغفرة ، والمسالمة لهما. وكيف ما كان فقد حصل لهما : فخر السابق ، وأجر اللاحق ، وفيه مراعاة التجنيس في الألفاظ .
وقوله : (( إنهم قد شَنِفُوا له ، وتَجَهَّمُوا )) ؛ ؛ أي : أبغضوه ، وعبسوا في وجهه ، والشَّنَفُ : البغض ، ويُقال : رجل جهم الوجه : إذا كان غليظه منعقده ؛ كأنه يعبس وجهه لكل أحد .
---
(9/203)
وقوله : (( فلم يزل أخي أُنَيْس يمدحه حتى غلبه )) ؛ كذا في رواية الشَّجْزيّ وغيره ، وهي واضحة ؛ أي : لم يزل ينشد شعرًا يقتضي المدح ، حتى حكم له الكاهن بالغلبة على الآخر ، وأنه أشعر منه ، وكان هذا الكاهن كان شاعرًا ، فقضى بينهما بذلك ، وفي رواية العذري : (( فلم يزل أخي أنَيْس يمدحه ويثني عليه )) مكان : (( حتى غلبه)). قال : فأخذنا صِرْمَته ، فضَمَمْناها إلى صزمتنا ، والرواية الأولى أولى ؛ لأنَّها أفادت معنى مناسبًا ، به التأم الكلام بما بعده ، وهو أنه إنما أخذ صِرْمته ؛ لأنَّ الكاهن قضى له بالغلبة ؛ ولأن قوله : (( ويثني عليه )) مكرر ؛ لأنَّه قد فُهم ذلك من قوله : يمدحه ، فحمل الكلام على فائدة جديدة أولى . إنَّما ذكر هذا المعنى ليبين : أن أخاه أُنَيْسا كان شاعرًا مُفْلِقًا مُجيدًا ، بحيث يحكم له بغلبة الشعراء ، ومن كان هكذا علم أنه عالم بالشعر وأنواعه . فلما كان كذلك وسمع القرآن علم قطعًا : أنه ليس بشعر ، ولذلك قال : لقد وضعته على أنواع الشعر فلم يلتئم ، فكانت هذه شهادة بأنه ليس بشعر ، ولا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاعر ، فكان ذلك تكذيبًا لمن زعمه من جهَّال الكفار ، ومن المعاندين الفجَّار .
---
(9/204)
قلت : وقد ظهر بين حديت عبدالله بن الصامت ، وبين حديث عبدالله بن عباس تباعد واختلاف في موضع من حديث أبي ذر هذا بحيث يبعد الجمع بينهما فيه . وذلك : أن في حديث ابن الصامت : أن أبا ذر لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول ما لقيه ليلاً ، وهو يطوف بالكعبة ، فأسلم إذ ذاك بعد أن أقام ثلاثين بين يوم وليلة ، ولا زاد له ؛ وإنَّما اغتذى بماء زمزم . وفي حديث ابن عباس : إنه كان له قربة وزاد ، وأن عليًّا ـ رضى الله عنه ـ أضافه ثلاث ليال ، ثم أدخله على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته فأسلم ، ثم خرج فصرخ بكلمتي الإسلام. وكل واحد من السندين صحيح ، فالله أعلم أي المتنين الواقع ، ويحتمل أن يقال : إن أبا ذر لما لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حول الكعبة وأسلم ، لم يعلم به إذ ذاك علي ؛ إذ لم يكن معهم ، ثم إن أبا ذر بقي متسترًا بحاله ، إلى أن استتبعه علي ، ثم أدخله على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجدَّد إسلامه ، فظن الراوي : أن ذلك أول إسلامه ، وفي هذا الإحتمال بُعد ، والله أعلم بحقيقة ذلك . ولم أر من الشارحين لهذا الحديث من تنبَّه لهذا التعارض ، ولا لهذا التأويل .
ومن باب فضائل جرير بن عبدالله البجلي ـ رضى الله عنه ـ
ويجيلة من ولد أنمار بن نزار بن معذ بن عدنان . واختلف في بجيلة ؛ هل هو ، أب ، أو أُمٌّ نسبت القبيلة إليها . وجرير هذا : هو سيد بجيلة ، ويُكنى : أبا عمرو ، وقال له عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( ما زلت سيدًا في الجاهلية والإسلام )) ، وقال فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أقبل وافدًا : (( يطلع عليكم خير ذي يمن ، كان على وجهه مسحة مَلك )) ؛ فطلع جرير. وكان عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ يقول فيه : (( جرير بن عبدالله يوسف هذه الأمة )) ، وفيه قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه )).
---
(9/205)
أسلم قبل موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأربعين يومًا ، نزل جرير الكوفة بعد موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتخذ بها دارًا ، ثم تحوَّل إلى قرقيسيا ، ومات بها سنة أربع وخمسين ، وقيل : سنة إحدى وخمسين ، وقيل : مات بالسَّراة في ولاية الضحَّاك بن قيس على الكوفة لمعاوية . روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منة حديث ، أخرج له منها في الصحيحين خمسة عشرحديثًا .
وقوله : (( ما حجبني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أسلمت )) ؛ يعني : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان يحتجب منه ، بل بنفس ما يعلم النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ باستئذانه ترك كل ما يكون فيه ، وأذن له ، مبادرًا لذلك مبالغة في إكرامه ، ولا يفهم من هذا أن جريرًا كان يدخل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيته من غير إذن ؛ فإنَّ ذلك لا يصحُّ لحرمة بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولما يُفضي ذلك إليه من الاطلاع على ما لا يجوز ، من عورات البيوت .
وقوله : (( ولا رآني إلا ضحك في وجهي )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرح به ، وبشاشة للقائه ، وإعجابٌ برؤيته ؛ فإنَّه كان من كملة الرجال خَلْقًا ، وخُلُقًا .
وقوله : (( وكنت لا أثبت على الخيل )) ؛ يعني : أنه كان يسقط ، أو يخاف السُّقوط من على ظهورها حالة إجرائها ، فدعا له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأكثر مما طلب بالثبوت مطلقًا ، وبأن يجعله هاديًا لغيره ومهديًّا في نفسه . فكان كل ذلك ، وظهر عليه جميع ما دعا له به ، وأول ذلك : أنه نفر في خمسين ومئة فارس لذي الخلصة فحرقها ، وعمل فيها عملاً لا يعمله خمسة آلاف ، وبعثه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذي الكلاع ، وذي رُعَيْن ، وله المقامات المشهورة .
(9/206)
وذو الخلصة - بفتح اللام - : بيت بَنَتْهُ خثعم تعظمه ، وتطوف به ، وتنحر عنده ، تشبهه ببيت مكة ، وتسمِّيه العرب : الكعبة اليمانية والشامية ، وقد كانت العرب فعلت مثل هذا بيوتًا كثيرة ، قد تقدَّم ذكرها ، فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهدمها كلها ، وتحريقها ، فكان ذلك ، ومحا الله الباطل ، وأحق الحق بكلماته .
ومن باب فضائل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما
---
ابن عبدالمطلب بن هاشم ، يُكنى : أبا العباس . ولد في الشعب. وبنو هاشم محصورون فيه ، قبل خروجهم منه بيسير ، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين ، واختلف في سِنِّه ، يوم موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقيل : عشر سنين ، وقيل : خمس عشرة ، رواه سعيد بن جبير عنه ، وقيل : كان ابن ثلاث عشرة سنة ، وقال ابن عباس : إنه كان في حجَّة الوداع قد ناهز الاحتلام ، ومات عبد الله بالطائف سنة ثمان وستين في أيام ابن الزبير ؛ لأنَّه أخرجه من مكة ، وتوفي ابن عباس وهو ابن سبعين سنة ، وقيل : ابن إحدى وسبعين ، وقيل : ابن أربع وسبعين ، وصلى عليه محمد ابن الحنفية ، وقال : اليوم مات رباني هذه الأمة ، وضرب على قبره نسطاطا ، وبروى عن مجاهد عنه أنه قال : رأيت جبريل عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرتين ، ودعا لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحكمة مرتين ، وقال ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ فيه : نعم ترجمان القرآن ابن عباس ، وكان عمر ـ رضى الله عنه ـ يقول : فتى الكهول ، لسان سؤول ، وقلب عقول . وقال مسروق : كنت إذا رأيت ابن عباس قلت : أجمل الناس . وإذا تكلَّم قلت : أفصح الناس ، وإذا تحدَّث قلت : أعلم الناس ، وكان يُسمى البحر : لغزارة علمه ، والحبر : لاتساع حفظه ، ونفوذ فهمه. وكان عمر ـ رضى الله عنه ـ يقربه ، ويدنيه لجودة فهمه ، وحسن تأتِّيه ، وجملة ما روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألف حديث وستمئة وستين ، أخرج له في الصحيحين مئتا حديث وأربعة
(9/207)
وثلاثون حديثًا .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم فقهه )) ؛ هنا انتهى حديث مسلم ، وقال البخاري : (( اللهم فقهه(4) في الدين )) ، وفي رواية قال : ضمني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : (( اللهم علمه الكتاب )) ، قال أبو عمر : وفي بعض الروايات : (( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )). قال : وفي حديث آخر : (( اللهم بارك فيه وانشر منه ، واجعله من عبادك الصالحين )) ، وفي حديث آخر : (( اللهم زده علمًا وفقهًا )). قال : وكلها حديث صحيح .
---
قلت : وقد ظهرت عليه بركات هذه الدَّعوات ، فاشتهرت علومه وفضائله ، وعمَّت خيراته وفواضله ، فارتحل طلاب العلم إليه ، وازدحموا عليه ، ورجعوا عند اختلافهم لقوله ، وعوَّلوا على نظره ورأيه . قال يزيد بن الأصم : خرج معاوية حاجًّا معه ابن عباس فكان لمعارية موكب ، ولابن عباس موكب(5) ممن يطلب العلم. وقال عمرو بن دينار : ما رأيت مجلسًا أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس ، الحلال ، والحرام ، والعربية ، والأنساب ، والشعر . وقال عبيدالله بن عبدالله : ما رأيت أحدًا كان أعلم بالسنة ولا أجل رأيًا ، ولا أثقب نظرًا من ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ .
ولقد كان عمر ـ رضى الله عنه ـ يعده للمعضلات مع اجتهاد عمر ونظره للمسلمين ، وكان قد عمي في آخر عمره ، فانشد في ذلك :
إن يأخذ الله من عينيَّ نُورَهما ففي لساني وقلبي منهما نورُ
قَلْبي ذَكِيٌّ وعقلي غير ذي دَخَلٍ وفي فمي صارمٌ كالسَّيفِ مأْثُورُ
وروي أن طائرًا أبيض خرج من قبره ، فتأوَّلوه : علمه خرج إلى الناس ، ويقال : بل دخل قبره طائرٌ أبيض ، فقيل : إنه بصره في التأويل ، وقال أبو الزبير : مات ابن عباس بالطائف ، فجاء طائرٌ أبيض فدخل في نعشه حين حمل ، فما رؤي خارجًا منه ، وفضائله أكثر من أن تحص .
---
(9/208)
وأما عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، ويُكنى : أبا عبدالرحمن ، فإنَّه أسلم صغيرًا لم يبلغ الحلم مع أبيه ، وهاجر إلى المدينة قبل أبيه ، عمر وأول مشاهده : الخندق . لم يشهد بدرًا ، ولا أحدًا لصغره ؛ فإنَّه عرض على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد ، وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه ، وأجازه يوم الخندق ، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وشهد الحديبية ، وبايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقيل : إنه أول من بايعه ، وكان من أهل العلم والورع ، وكان كثير الاتباع لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، شديد التحري والاحتياط ، والتوقي في فتواه ، وكان لا يتخلَّف عن السرايا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ثم كان بعد موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُولِعًا بالحج ، وكان من أعلم الناس بمناسكه ، وكان قد أشكلت عليه حروب عليٍّ لورعه ، فقعد عنه ، وندم على ذلك حين حضرته الوفاة ، روي عنه من أوجه أنه قال : (( ما آسى على شيء فاتني إلا تركي لقتال الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ )).
وقال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما : (( ما منا أحدٌ إلا مالت له الدنيا ، ومال إليها ما خلا عمر وابنه عبدالله )).
وقال ميمون بن مهران : ما رأينا أورع من ابن عمر ، ولا أعلم من ابن عباس . وروى ابن وهب عن مالك قال : بلغ عبدالله بن عمر ستًّا وثمانين سنة ، وأفتى في الإسلام ستين سنة ، ونشر نافع عنه علمًا جمًّا ، وروى ابن الماجشون : أن مروان بن الحكم دخل في نفر على عبدالله بن عمر بعدما قتل عثمان رضي الله عنه فعزموا عليه أن يبايعوه . قال : كيف لي بالناس ؟ قال : تقاتلهم ، فقال : والله ! لو اجتمع عليَّ أهل الأرض إلا أهل فدك ، ما قاتلتهم ، قال : فخرجوا من عنده ومروان يقول :
إني أرى فِتنَةً تَغلي مَرَاجِلُها والمُلكُ بَعدَ أَبي لَيْلَى لِمَن غَلَبا
---
(9/209)
مات ابن عمر بمكة سنة ثلاث وسبعين ، وذلك بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر ، أو نحوها ، وقيل : ستة أشهر ، ودفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين ، وكان سبب موته : أن الحجاج أمر رجلاً فسمَّ زُجَّ رُمْحِهِ فزحمه ، فوضع الزجَّ في ظهر قدمه ، فمرض منها فمات رحمه الله حكاه أبو عمر . وجملة ما روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألفا حديث ، وستمئة وثلاثون حديثًا ، أخرج له منها في الصحيحين مئة حديث وثمانون .
وقوله : (( رأيت في المنام كان في يدي قطعة إستبرق )) قد تقدَّم الكلام أن الإستبرق : ما غلظ من الدِّيباج ، وكان هذه القطعة مثال لعمل صالح يعمله يتقرَّب به إلى الله تعالى ، ويقدِّمه بين يديه : يرشده ثوابه إلى أي موضع شاء من الجنة ، ولذلك قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أرى عبد الله رجلاً صالحًا )), وهذه شهادة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الله بالصَّلاح . ووجدت بخط شيخنا أبي الصبر أيوب مقيدًا : أرى - بفتح الراء والهمزة فيكون مبنيًا للفاعل ، ويكون من رؤية القلب ، فيكون علمًا . ويجوز أن يكون همزته مضمومة ، فتكون ظنًّا صادقًا ؛ لأنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم في ظنه كما هو في علمه .
---
(9/210)
وقوله : (( وكنت شابًا عزبًا أنام في المسجد )) ؛ دليل على جواز النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك . والقرنان : منارتان تبنيان على جانبي البئر ، يجعل عليهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة . والبئر : المطوية بالحجارة ، وهي الرس أيضًا ، فإنَّ لم تُطو : فهي القليب والركي. ولم ترع : أي لم تفزع ، والروع : الفزع ؛ وإنَّما فهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من رؤية عبدالله للنار ، أنه ممدوح ؛ لأنَّه عرض على النار ، ثم عوفي منها ، وقيل له : لا روع عليك ، وهذا إنما هو لصلاحه ، وما هو عليه من الخير ، غير أنه لم يكن يقوم من الليل ؛ إذ لو كان ذلك ما عرض على النار ولا رآها ، ثم إنه حصل لعبدالله رضي الله عنه من تلك الرؤية يقين مشاهدة النار والاحتراز منها ، والتنبيه على أن قيام الليل مِمَّا يُتَّقى به النار ، ولذلك لم يترك قيام الليل بعد ذلك رضي الله عنه .
ومن باب فضائل أنس بن مالك بن النضر رضي الله عنه
ابن ضمضم بن زبد النَّجاري ، خادم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , يُكنى : أبا حمزة ، يروى عنه أنه قال : كنَّاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببقلة كنت أجتنيها. وأمه : أم سليم بنت ملحان . كان سِنُّ أنس لما قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة عشر سنين ، وقيل : ثماني سنين ، وتوفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنس ابن عشرين سنة ، وشهد بدرًا ، وتوفي في قصره بالطفِّ على فرسخين من البصرة سنة إحدى وتسعين ، وقيل : ثلاث وتسعين ، وقيل : سنة ، اثنتين وتسعين ، قال أبو عمر : وهو آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , وما أعلم أحدًا ممن مات بعده ممن رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أبا الطفيل.
---
(9/211)
واختلف في سن أنس يوم توفي ، فقيل : مئة سنة إلا سنة واحدة ، ويقال : إنه ولد له ثمانون ولدًا ؛ منهم : ثمانية وسبعون ذكرًا وابنتان ، وتوفي قبله من ولده لصلبه وولد ولده نحو المئة ؛ وكلُّ ذلك من تعميره وكثرة نسله ببركة دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يأتي في "الأم" ، وجملة ما روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحديث : ألفا حديث ومئتا حديث ، وستة وثمانون حديثًا ، أخرج له في الصحيحين ثلاثمئة حديث ، وثمانية عشر حديثًا.
وفي الصحابة رجل آخر اسمه أنس بن مالك ، ويُكنى : أبا أمية القشيري ، وقيل : الكعئ ، وكعب أخو قشير ، ولم يسند عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سوى قوله : (( إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة )). وقيل : روى ثلاثة أحاديث لم يقع له في الصحيحين شيءٌ .
---
(9/212)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم أكثر ماله وولده )) ؛ يدلُّ على إباحة الاستكثار من المال والأولاد ، والعيال ، لكن إذا لم يشغل ذلك عن الله تعالى ، ولا عن القيام بحقوقه ، لكن لما كانت سلامة الدين مع ذلك بادرة ، والفتن والآفات غالبة ، تعيَّن التقلُّل من ذلك, والفرار مما هنالك ، ولولا دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنس رضي الله عنه بالبركة لخيفَ عليه من الإكثار الهلكة ، ألا ترى : أن الله تعالى قد حذرنا من آفات الأموال والأولاد ، ونبَّه على المفاسد الناشئة من ذلك فقال : {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} ، وصدَّر الكلام بإنما الحاصرة المحققة ، فكأنه قال : لا تكون الأموال والأولاد إلا فتنة ؛ يعني : في الغالب . ثم قال بعد ذلك : { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فاحذروهم }. ووجه عداوتهما : أن محبََّتهما موجبة لانصراف القلوب إليهما ، والسعي في تحصيل أغراضهما ، واشتغالها بما غلب عليها من ذلك عما يجب عليهما من حقوق الله تعالى ، ومع غلبة ذلك تذهب الأديان ، ويعم الخسران ، فأيُّ عداوةٍ أعظم من عداوة من يدمر دينك هذا الدمار ، ويورثك عقوبة النار؟! ولذلك قال تعالى ، وهو أصدق القائلين : { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } . وقال أرباب القلوب والفهوم : ما يشغلك من أهل ومال ، فهو عليك مشؤوم .
وقول أنس رضي الله عنه : أتى عليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا ألعب مع الغلمان " ؛ دليل على : تخلية الصِّغار ودواعيهم من اللعب والانبساط ، ولا يُضيق عليهم بالمنع مِمَّا لا مفسدة فيه.
(9/213)
وقوله : " فسلَّم علينا " ؛ فيه دليل : على مشروعية السَّلام على الصِّبيان ، وفائدته : تعليمهم السلام ، وتمرينهم على فعله ، وإفشاؤه في الصغار كما يفش في الكبار. وكتمان أنس سرَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمه دليل : على كمال عقله ، وفضله ، وعلمه مع صغر سنه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومن باب : فضائل عبدالله بن سلام
---
ابن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري ، وهو من ولد يوسف بن يعقوب ، وكان اسمه في الجاهلية : الحصين ، فسمَّاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : عبدالله ، وتوفي في خلافة معاوية سنة ثلاث وأربعين ، أسلم إذ قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة ، وجملة ما روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمسة وعشرون حديثًا. أخرج له في الصحيحين حديثان ، وقد تقدم اختلاف اللغويين في : حَلَقة ؛ هل يقال بسكون اللام ، أو بفتحها ؟
وقوله : " فإذا جواد منهج " ؛ الجواد : جمع جادة مشدد الدال ؛ وهي : الطريق ، ومنهج مرفوع على الصفة ؛ أي : جوادُّ ذوات منهج ؛ أي : استقامة ووضوح ، والمنهج : الطريق الواضح ، وكذلك : المنهاج ، والنهج ، وأنهج الطريق : أي استبان ووضح ، ونهجته أنا : أوضحته ، ويقال أيضًا : نهجت الطريق إذا سلكته .
(9/214)
وقوله : " فزجل بي" : تُروى بالجيم ، وبالحاء المهملة ، فبالجيم : معناه : رمى ، يقال : لعن الله أقا زَجَلتْ به ، والزَّجْلُ : إرسال الحمام ، والمِزْجَل : المزراق ؛ لأنَّه يُرمى به ، فأمَّا زحل : فمعناه تنحَّى وتباعد . يقال : زحل عن مكانه حولاً ، وتزحَّل : تنحَّى وتباعد ، فهو زحل ، وزحيل . ورواية الجيم أولى ، وأوضح . والعروة : الشيء المتعلق به حبلاً كان أو غيره . ومنه : عروة القميص والدلو ، وقال بعضهم : أصله من عروته : إذا ألممت به متعلقًا ، واعتراه الهمُّ : تعلق به ، وقيل : من العروة : وهي شجرة تبقى على الجدب ، سُميت بذلك ؛ لأنَّ الإبل تتعلق بها إلى زمان الخصب ، وتجمع العروة : عُرَى. والوثقى : الوثيقة ؛ أي : القوية التي لا انقطاع فيها ، ولا ضعف ، وقد أضاف العروة هنا إلى صفتها فقال : عروة الوثقى ، كما قالوا : مسجدُ الجامع ، وصلاةُ الأولى.
وإخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عبدالله أنه لا ينال الشهادة ، وأنه لا يزال على الإسلام حتى يموت ، خبران عن غيب ، وقعا على نحو ما أخبر ؛ فإنَّ عبدالله مات بالمدينة ملازمًا للأحوال المستقيمة ، فكان ذلك من دلائل صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
---
والنضرة- بالضاد المعجمة - : النعمة ، وقد تقدم ، ووسط : رويناه بفتح السين وسكونها ، وقد تقدم أن الفتح للاسم ، والسكون للظرف ، وكل موضع صلح فيه : " بين " ، فهو وسْط بالسكون ، وإن لم يصلح فيه ، فهو بالتحريك . قال الجوهري : وربما سكن . وليس بالوجه. " ورقيت "- بكسر القاف - في الماضي ، وفتحها في المضارع ، بمعنى صعدت وارتفعت . فأمَّا رقيت - بفتح القاف - فهو من الرُّقية . والمتصف - بكسر الميم - : الخادم ، قاله ابن عون . وقال الأصمعي : والجمع مناصف.
ومن باب فضائل حسان بن ثابث رضي الله عنه
(9/215)
ابن المنذر بن عمرو بن النجار الأنصاري ، يكنى : أبا الوليد ، وقيل : أبا عبدالرحمن ، وقيل : أبا الحسام . ويقال له : شاعر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . روي عن عائشة رضي الله عنها : أنها وصفت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت : كان والله كما قال شاعره حسان بن ثابت :
متى يبْدُ في الدَّاجي البهيم جَبِينُه يَلُح مِثلَ مِصباحِ الدُّجى المُتَوَقِّدِ
فمَن كانَ أَوْ مَن قَد يَكُونُ كَأَحْمَدٍ مقامٌ لِحَقٍّ أَوْ نَكالٌ لِمُلْحِدِ
---
قال أبو عبيدة : فضل حسان الشعراء بثلاث : كان شاعر الأنصار في الجاهلية ، وشاعر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النبوَّة ، وشاعر اليمن كلها في الإسلام . وقال أيضًا : أجمعت العرب على : أن أشعر أهل المدر : حسان بن ثابت. وقال أبو عبيدة وأبو عمرو بن العلاء : حسان أشعر أهل الحضر. وقال الأصمعي : حسان أحد فحول الشعراء ، فقال له أبو حاتم : تأتي له أشعارٌ ليِّنة ! فقال الأصمعي : نُسبت له وليست له ، ولا تصح عنه . وروي عنه أنه قال : الشعر نَكِدٌ يقوى في الشر ويُسهل ، فإذا دخل في الخير ضعف ، هذا حسَّان فحل من فحول الجاهلية ، فلما جاء الإسلام سقط . وقيل لحسان : لانَ شِعرُك ، أو هَرِمَ شعرك في الإسلام يا أبا الحسام ! فقال : إن الإسلام يحجز عن الكذب ؛ يعني : أن الشعر لا يجوِّده إلا الإفراط والتزين في الكذب ، والإسلام قد منع ذلك ، فقل ما يجود شعر من يتقي الكذب .
وتوفي حسان قبل الأربعين في خلافة علي رضي الله عنهما , وقيل : سنة خمسين ، وقيل : سنة أربع وخمسين ، ولم يختلفوا أنه عاش مئة وعشرين سنة ، منها : ستون في الجاهلية ، وستون في الإسلام ، وكذلك عاش أبوه وجدُّه ، وأدرك النابغة الذبياني والأعشى ، وأنشدهما من شعره ، فكلاهما استجاد شعره ، وقال : إنك شاعر .
---
(9/216)
وقوله : " إن عمر مرَّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد ، فلحظ إليه " ؛ أي : أومأ إليه بعينيه : أن اسكت ، وهذا يدلُّ على أن عمر رضي الله عنه كان يكره إنشاد الشعر في المسجد ، وكان قد بنى رحبة خارج المسجد ، وقال : من أراد أن يلغط أو ينشد شعرًا فليخرج إلى هذه الرحبة. وقد اختلف في ذلك ، فمن مانع مطلقًا ، ومن مجيز مطلقًا ، والأولى التفصيل . وهو أن ينظر إلى الشعر ، فإنَّ كان مِمَّا يقتضي الثناء على الله تعالى أو على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو الذبَّ عنهما ، كما كان شعر حسان ، أو يتضمن الحضَّ على الخير ، فهو حسن في المساجد وغيرها ، وما لم يكن كذلك لم يجز ؛ لأنَّ الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب ، والتزيين بالباطل ، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه : اللغو ، والهذر ، والمساجد منزهة عن ذلك ، لقوله تعالى : { فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } ، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي لذكر الله ، والصلاة ، وقراءة القران )), وقد تقدَّم هذا المعنى .
---
(9/217)
وقوله لحسان : (( أجب عني ، اللهم أيده بروح القدس )) ؛ إنما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ؛ لأنَّ نفرًا من قريش كانوا يهجون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ، منهم : عبدالله بن الزَّبعرى ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وعمرو بن العاص ، وضرار بن الخطاب ، فقيل لعلي : اهج عنا القوم الذين يهجوننا ، فقال : إن أذن لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعلت ، فأعلم بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن عليًّا ليس عنده ما يراد من ذلك )) ، ثم قال : ((ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله أن ينصروه بألسنتهم ؟ )). فقال حسان : أنا لها , وأخذ طرف لسانه ، وقال : والله ما يسرُّني به مِقوَلٌ ما بين بصرى وصنعاء. وكان طويل اللسان ، يضرب بلسانه أرنبةَ أنفه من طوله ، وكان له ناصية يسدلها بين عينيه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((كيف تهجوهم وأنا منهم ؟ وكيف تهجو أبا سفيان ، وهو ابن عمي ؟ )) ، فقال : والله لأسلنَّك منهم كما تسل الشعرة من العجين . فقال : (( ائت أبا بكر , فإنَّه أعلم بأنساب القوم منك )). فكان يمضي لأبي بكر ليقفه على أنسابهم ، وكان يقول : كفَّ عن فلان وفلانة ، واذكر فلانًا ، وفلانة . فجعل حسان يهجوهم ، فلما سمعت قريشٌ شعر حسان قالوا : إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة. فقال حسان :
أَبلِغ أَبا سُفيَانَ أنَّ مُحمْدًا هُوَ الغُضنُ ذُو الأفنَانِ لا الواحِدُ الوَغْدُ
ومَالَكَ فِيهِم مَحتِدٌ يَعرِفونهُ فَدُونَكَ فَالصَق مِثلَ مَا لَصِقَ القُردُ
وإِنَّ سَنامَ المَجدِ في آلِ هَاشِم بَنُو بِنتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُكَ العَبدُ
وَمَن وَلَدَت أبنَاءُ زُهرَةَ مِتهُمُ كِرَامٌ وَلَم يَقرَب عَجَائِزَكَ المَجدُ
وَلَستَ كَعَبَّاسٍ وَلا كَابنِ أُمِّهِ وَلكِن لَئِيمٌ لا يَقُومُ لَهُ زَندُ
(9/218)
وإِنِ امْرَأً كَانَت سُمَيَّةُ أُمَّهُ وسَمرَاءُ مَغمُوزٌ إذَا بَلَغَ الجَهدُ
وَأنتَ هَجِينٌ نِيطَ فِيآلِ هَاشِمٍ كَمَا نِيطَ خَلفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَردُ
---
الأفنان : الأغصان ، واحدها : فنن . والوغد : الدنيء من الرجال ، والمَحتِد : الأصل. ودونك : ظرف قصد به الإغراء ، والمغرى به محذوف تقديره : فدونك محتدك فالصق به ، والعرب تغري بـ " عليك " و" إليك " و" دونك ". وسنام المجد : أرفعه ، والمجد : الشرف . قال أبو عمر : بنت مخزوم هي فاطمة بنت عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم ، وهي : أم أبي طالب ، وعبدالله ، والزبير ، بني عبد المطلب.
وقوله : " ومن ولدت أبناء زهرة منهم " ؛ يعني : حمزة وصفية ، أمهما : هالة ابنة أهيب بن عبد مناف بن زهرة ، والعباس : هو ابن عبدالمطلب ، وابن أمه : شقيقه ضرار بن عبدالمطلب ، أمهما نسيبة : امرأة من النمر بن قاسط . وسميَّة : أم أبي سفيان ، وسمراء : أم أبيه . واللؤم : اسم للبخل ، ودناءة الأفعال والآباء. والمغموز : المعيب المطعون فيه ، والهجين : من كانت أمه دنية ، والمقرف : من كان أبوه دنيا. ونيط : ألصق وعلق ، والقدح : يعني به : قدح الراكب الذي يكون تعليقه بعد إكمال وقر البعير ؛ لأنَّه لا يحفل به . ومنه الحديث : (( لا تجعلوني كقدح ا لراكب )).
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم أيده بروح القدس )) ؛ أيده : قوِّه ، والأيد : القوة . ومنه قوله تعالى : { والسماء بنينها بأيد } ؛ أي : بقوة .
وروح القدس : هو جبريل عليه السلام ، كما قال في الرواية الأخرى : (( اهجهم ، أو هاجهم ، وجبريل معك )) ؛ أي : بالإلهام ، والتذكير ، والمعونة .
وقول حسان :
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ وتُصبِحُ غَرثَى من لُحُومِ الغَوافِلِ
---
(9/219)
حصان : عفيفة ، وقد تقدَّم القول في وجوه الإحصان . ورزان : كاملة الوقار والعقل . يقال : رزن الرجل رزانة ، فهو رزين : إذا كان وقورًا ، وامرأة رزان . وغرثى : من الغرث ، وهو الجوع ، يقال : رجل غرثان ، وامرأة غرثى ، كعطشان وعطشى . والنوافل جمع تكسير غافلة ، يعني : أنهن غافلات عما رمين به من الفاحشة ، كما قال تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } ، ويعني حسان بهذا البيت : أن عائشة رضي الله عنها في غاية العفة ، والنزاهة عن أن تُزنَّ بريبة ؛ أي : تُتَّهم بها . ثم وصفها بكمال العقل والوقار ، والورع المانع لها من أن تتكلم بعرض غافلة ، وشبَّهها بالغرثى ؛ لأنَّ بعض الغوافل قد كان هو آذاها فما تكلمت فيها ، وهي : حمنه بنت جحش ، فكأنها كانت بحيث تنتصر ممن آذاها ، بأن تقابلها بما يؤذيها ، لكن حجزها عن ذلك دينها ، وعقلها ، وورعها .
وقول عائشة رضي الله عنها لحسان رضي الله عنه : لكنك لست كذلك ؛ تعني : أنه لم يصبح غرثان من لحوم الغوافل ، وظاهر هذا الحديث : أن حسان كان ممن تكلم بالإفك ، وقد جاء ذلك نصًّا في حديث الإفك الطويل ، الذي يأتي فيه : أن الذين تكلموا بالإفك : مسطح ، وحسان ، وحمنة ، وعبدالله بن أُبىِّ ابن سلول ، غير أنه : قد حكى أبو عمر : أن عائشة رضي الله عنها قد برَّأت حسَّان من الفرية ، وقالت : إنه لم يقل شيئًا ، وقد أنكر حسان أن يكون قال من ذلك شيئًا في البيت الثاني الذى ذكره متصلاً بالبيت المذكور آنفًا ، فقال :
فَإِنَّ كَانَ ما قَد قِيلَ عَنِّي قُلتُهُ فلا رَفَعَتْ سَوْطِي إِليَّ أَنَامِلِي
فيحتمل أن يقال : إن حسان يعني : أن يكون قال ذلك نصًّا وتصريحا ، ويكون قد عرَّض بذلك ، وأومأ إليه ، فنسب ذلك إليه ، فالله أعلم.
وقد اختلف الناس فيه ، هل خاض في الإفك أم لا ؟ وهل جلد الحَّ أم لا ؟ فالله أعلم أيُّ ذلك كان .
---
(9/220)
وقول عائشة رضي الله عنها : " وأيُّ عذابٍ أشدُّ من العمى؟" ظاهره يدلُّ على : أن حسان كان ممن تولَّى كبره ، وهذا بخلاف ما قاله عروة عن عائشة رضي الله عنها : إن الذي تولَّى كبره هو عبدالله بن أبي ، وأنه هو الذي كان يستوشيه ، ويجمعه.
وقول عائشة : " قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اهج قريشًا " ؛ هكذا وقع في بعض النسخ ، اهج : على أنه أمر لواحد ، ولم يتقدم له ذكر ، فكأنه أمر لأحد الشعراء الحاضرين ، ووقع في أصل شيخنا أبي الصبر أيوب : "اهجوا" بضمير الجماعة ، فيكون أمرًا لجميع من حضر هناك من الشعراء.
وقوله : " فإنَّه أشدُّ عليها من رَشْقً بالنبل " ؛ الضمير في " إنه " عائد على الهجو الذي يدلُّ عليه : " اهج قريشًا ". وفي " عليها " : لقريش ، ورشق - بفتح الراء - : وهو الرَّمي ، ففيه دليل : على أن الكافر لا حرمة لعرضه ، كما أنه لا حرمة لماله ، ولا لدمه ، وأنه يُتعرض لنكايتهم بكل ما يؤلمهم من القول والفعل.
وقوله : " قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه " ؛ هذا من حسان مدح لنفسه ، شبَّه نفسه بالأسد إذا غضب فحمي ، وذلك أنه غضب لهجو قريش للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحتد لذلك ، واستحضر في ذهنه هجو قريش فتصوره وأحس أنه قد أعين على ذلك ببركة دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال تلك الكلمات ، مظهرًا لنعمة الله تعالى عليه ، وأنه قد أجيب فيه دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وليفخر بمعونة الله تعالى له على ذلك . وتنزل هذا الافتخار في هذا الموطن منزلة افتخار الأبطال في حال القتال ؛ فإنَّهم يمدحون أنفسهم ، ويذكرون مآثرهم ومناقبهم في تلك الحال نظمًا ونثرًا ، وذلك يدلّ على ثبوت الجأش ، وشجاعة النفس ، وقوة العقل ، والصَّبر ، وإظهار كل ذلك للعدو ، وإغلاظ عليهم ، وإرهاب لهم ، وكل هذا الافتخار : يوصل إلى رضا الغفار ، فلا عتب ولا إنكار.
(9/221)
وقوله : " ثم أدلع لسانه " ؛ أي : أخرجه وحرَّكه ، كأنه كان يعدُّه للإنشاد .
---
وقوله : " والذي بعثك بالحق لأفرينَّهم بلساني فَرْيَ الأديم " ؛ أي : لأمزقنهم بالهجو ، كما يمزق الجلد بعد الدِّباغ ؛ فإنَّه : يقطع خفافًا ونعالاً ، وغير ذلك ، وتشبيه حسان نفسه بالأسد الضارب بذنبه بحضرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه رضي الله عنهم , وإقرار الكل عليه : دليل على بطلان قول من نسب حسَّان إلى الجبن ، ويتأيد هذا بأن حسان لم يزل يُهاجي قريشا وغيرهم من خيار العرب ، ويهاجونه ، فلم يعثره أحد منهم بالجبن ، ولا نسبه إليه ، والحكايات المنسوبة إليه في ذلك أنكرها كثير من أهل الأخبار ، وقيل : إن حسَّان أصابه الجبن عندما ضربه صفوان بن المعطل بالسيف ؛ فكأنه اختل في إدراكه ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( إن روح القدس لا يزال معك ما نافحت عن الله ورسوله )) ؛ أي : مدَّة منافحتك . والمنافحة : المخاصمة والمجادلة ، وأصلها : الدَّفع . يقال : نفحت الناقة الحالب برجلها ؛ أي : دفعته. ونفحه بسيفه ؛ أي : ضربه به من بعيد .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هجاهم حسَّان فشفى واشتفى )) ؛ أي : شفى الألم الذي أحدثه هجوهم ، واشتفى هو في نفسه ؛ أي : أصاب منهم بثأره شفاء . وأنشد حسان :
هَجَوتَ مُحمَّدًا وأَجَبْتُ عنه .........................
لم يرو مسلم أوَّل هذه القصيدة ، وقد ذكرها بكمالها ابن إسحاق ، وذكر أوَّلها :
عَفَتْ ذَاتُ الأَصَابِعِ فَالجِواءُ إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُها خَلاءُ
فلنذكرها على ما ذكرها ابن إسحاق ونفسِّر غريبها ؛ فإنَّها قصيدة حسنة مشتملة على فوائد كثيرة .
وقوله : عفت : معناه : درست وتغيَّرت ، وذات الأصابع والجِواء : موضعان بالشام ، وعذراء : قرية عند دمشق ، إنَّما ذكر حسان هذه المواضع ؛ لأنَّه كان يردها كثيرًا على ملوك غسان يمدحهم ، وكان ذلك قبل الإسلام . وخلا : خال ليس به أحد :
(9/222)
ديارٌ من بني الحَسحَاس قَفرٌ تُعَفِّيها الرَّوامسُ والسَّماء
وكانت لا يَزَالُ بها أَنِيسٌ خِلالَ مُرُوجِها نَعَمٌ وَشَاءُ
---
الدِّيار : المنازل . وبنو الحسحاس : قبائل معرونون ، وتعفيها : تغيِّرها. والرواسى : الرياح ، وسُمِّيت بذلك ؛ لأنَّها ترمس الآثار ؛ أي : تغيرها ، والرمس والرسم : الأثر الخفي . والسماء : المطر. والسماء : كل ما علاك فأظلَّك . وخلال : بمعنى بين . ومروج : جمع مرج ، وهو الموضع المنبت للعشب المختلف الذي يختلط بعضه ببعض . والنعم : الإبل خاصة ، والأنعام : يتناول : الإبل ، والبقر ، والغنم . والشاء : الغنم :
فَدَع هَذَا ولَكِن مَن لِطَيْفً يُؤَرِّقُنِي إذا ذَهَبَ العِشاءُ
الطَّيف : ما يراه النائم في منامه ، وهو في الأصل مصدر : طاف الخيال ، يطوف طيفًا ، ولم يقولوا في هذا طائف في اسم الفاعل ، قال السُّهيلي : لأنه تخيُّل لا حقيقة له ، فأمَّا قوله : { فطاف عليها طائف من ربك}, فلا يقال : فيه طيف ؛ لأنَّه اسم فاعل حقيقة ، ويقال : إنه جبريل ، فأمَّا قوله تعالى : { إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا }. فمن قرأه {طائف} اسم فاعل ؛ فإنَّه أراد به الشيطان نفسه ، ومن قرأه : {طيف} أراد به تخيله ووسواسه ، وهي لا حقيقة لها . ويؤرقني : يسهرني . إذا ذهب العشاء ؛ أي : بعد العشاء في الوقت الذي ينام فيه الناس ، يعني : أنه يسهر لفكرته في الطيف ، أو للوعته به كلما غمض .
لِشَعثاءَ التي قد تَيَّمتهُ فَلَيسَ لِقَلبِه منها شِفاءُ
قيل : إن شعثاء هذه : هي ابنةُ كاهنِ امرأة حسان ، ولدت له ابنته أم فراس . وتيَّمته : ذلَّلته.
كَأَنَّ سَبِيَّةً مِن بَيتِ رَأسٍ يكُونُ مِزَجَها عَسَلٌ وماءُ
---
(9/223)
السبية : الخمر. وبيت رأس : موضع فيه خمر عالية ، وقيل : رأس : رجل خئار نسبت إليه ، ومزاجها : خليطها . وقد جعل الخبر معرفة ، والاسم نكرة ، وهر عكس الأصل ؛ وإنَّما جاز ذلك ؛ لأنَّ عسلاً وماءً : اسمان من أسماء الأجناس ، فأفاد مُنكِّره ما يفيد معرَّفه ، فكأنهما معرفتان ، وخبر كان محذوف ، تقديره : كأنَّ فيها سبيَّة مستلذَّة ، وهذا إنما اضطر إلى ذلك من لم يرو في القصيدة قوله :
على أَنبابِها أو طَعمُ غَضًّ مِنَ التُّفَّاح هَصَّرَهُ الجِناء
وذلك أن هذا البيت لم يقغ في رواية ابن إسحاق ، فمن صحَّ عنده هذا البيت ، جعل خبر كان : على أنيابها ، ولم يحتَجْ إلى تقدير ذلك المحذوف . والأنياب : هي الأسنان التي بين الضَّواحك والرُّباعيات . والغَضُّ : الطري ، وهصَّره : دلاَّه وأدناه . الجناء : أي الاجتناء ، وهو بكسر الجيم والمد ، والجنى -بالفتح والقصر- : ما يُجتنى من الشجر ، قال أبو القاسم السُّهيلي : وهذا البيت موضوع .
إذا ما الأَشْرِباتُ ذُكِرنَ يومًا فَهُنَّ لِطَيِّب الرَّاح الفِدَاءُ
الأشربات : جمع أشربة ، فشراب الواحد ، وجمع قلته المكسر أشربة ، وجمع سلامته أشربات . والراح : من أسماء الخمر ، واللام هنا : للعهد ؛ أي : الخمر السبية المتقدِّمة الذكر .
نُوَلِّيها المَلامَةَ إن أَلَمنا إذا ماكان مقت أو لِحَاءُ
ونَشرَبُها فَتَثرُكُنا مُلُوكًا وأُسدًا ما يُنَهنِهُنا اللِّقاءُ
ألمنا : أي أتينا ما نلام عليه . والمقتُ : مما يمقت عليه ؛ أي : يبغض ، كالضرب ، والأذى . واللحاء : الملاحاة باللسان ، يريد إن فعلنا شيئًا من ذلك اعتذرنا بالسكر ، وينهنهنا : يضعفنا ، ويفزعنا .
عَدِمنا خَيلَنا إِن لَم تَرَوها تُثِيرُ النَّقْعَ مَوعِدُها كَدَاءُ
يُنَازِعنَ الأَعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍ على أَكْتَافِها الأَسَلُ الظِّمَاءُ
---
(9/224)
الضمير في " تروها " عائد على الخيل ، وإن لم يجر لها ذكر ، لكنها تفسرها الحال والمشاهدة ، وتثبر : تحرك . والنقع : الغبار ، وكداء : الثنية التي بأعلى مكة ، وكُدَى - بضم الكاف والقصر- : تثنية بأسفل مكة ، وقد تقدَّم ذكرهما. وينازعن : يجاذبن . والأسل : الرِّماح . والظماء : العطاش . ووصف الرماح بذلك ؛ لأنَّ حامليها يريدون أن يطعنوا أعداءهم بها فيرووها من دمائهم . ومُصعِدات : مرتفعات ، ومصغيات : مائلات .
تَظَلُّ جِيَادُنا مُتَمَطِّراتٍ تُلَطِّمُهُنَّ بالخُمُُرِ النِّساءُ
الجياد : الخيل . متمطرات : يعني بالعرق من الجري ، والرواية المشهورة : يلطمهن : من اللطم ، وهو : الضرب في الخد ، ويعني : أن هذه الخيل لكرمهن في أنفسهن ، ولعزَّتهن عليهم تبادر النساء فيمسحن وجوه هذه الخيل بالخُمُر. وكان الخليل يروي هذا اللفظ : يطلمهن بتقديم الطاء على اللام ، ويجعله بمعنى ينفض ، وقال ابن دريد : الطلم : ضربك خبز الملة بيدك لينتفض ما به من الرماد . ورواية مسلم لهذا الحديث : " ثَكِلَتْ بُنَيتي " بدل " عدمنا خيلنا ". والثكل : فقد الولد. وبُنيتي : تصغير بنت . ومعنى صدر هذا البيت على الروايتين : الدعاء على نفسه إن لم يغز قريشًا . ووقع أيضًا لبعض رواة مسلم : موعدها كداء ، ولبعضهم : " غايتها " بدل "موعدها ". والمعنى متقارب . ووقع في بعض النسخ مكان موعدها : من كنفي كداء على الإقواء ، وليس بشيء ؛ إذ لا ضرورة تحوج إليه مع صحَّة الروايات المتقدِّمة ، وكنفا كداء : جانباها .
فإِمَّا تُعرِضُُو عنَّا اعتَمَرنا وكَانَ الفَتحُ وانكَشَفَ الغِطَاءُ
هذا يدل على أن حسان قال هذه القصيدة قبل يوم الفتح كما قال ابن هشام . وظاهره أن ذلك كان في عُمرة الحديبية حين صدوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن البيت ، وقال ابن إسحاق : إن حسان قالها في فتح مكة ، وفيه بُعدٌ .
وإِلا فَاصبِرُوا لِضرابِ يَومٍ يُعِزُ اللهُ فيهِ مَنْ يَشاءُ
(9/225)
---
هذا من باب إلهام العالم ؛ لأنَّ حسان قد علم : أن الله قد أعز نبيَّه ، وقد قال تعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } ، وقال : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ...} الآية , وقال : { ولينصرن الله من ينصره } ، إلى غير ذلك ، وقد دلَّ على هذا قوله بعد هذا :
وجِبرِيلُ رَسُولُ اللهِ فِينا ورُوحُ القُدسِ ليسَ لَهُ كِفَاءُ
أي : لا يقاومه أحد ، ولا يماثله . وروح القدس : هو جبريل عليه السلام , والقدس : الطهارة ، وهو معطوف على رسول الله ، والكفاء : الكفو ، وهو المثل .
وقالَ الله قد أَرسَلْتُ عَبدًا يقُولُ الحقَّ إِن نَفَعَ البَلاءُ
أي : الابتلاء ، وهو الاختبار ، وقد ضمن صدر هذا البيت معنى الابتلاء ، ولذلك أشار بقوله : البلاء ؛ لأنَّ اللام فيه للعهد لا للجنس ، فتدبَّره ، ورواية مسلم في هذا البيت :
................. يقُولُ الحَقَّ لَيسَ بِه خَفاءُ
ثم شهد حسَّان بتصديقه فقال :
شَهِدتُ به فَقُومُوا صدِّقُوه فَقُلتُم لا نَقُومُ ولا نَشَاءُ
أي : لا تقوم لتصديقه ، ولا نريده ، فعاندوا ، ولما كان ذلك قال :
وقَال اللهُ قَد يَسَّرتُ جُندًا هُمُ الأَنصارُ عُرضَتُها اللِّقاءُ
أي : قَصدُها وهمُّها : لقاؤكم ، وقتالكم . يعني : أنهم لما ظهر عنادهم ، نصر الله نبيَّه بجند الأنصار ، ولم يذكر المهاجرين ؛ لأنَّهم لم يظهر لهم أثر إلا عند اجتماعهم بالأنصار ، والله تعالى أعلم .
لَنا فِي كُلِّ يومٍ مِنْ مَعَدٍّ سِبَابٌ أو قِتَالٌ أو هِجاءُ
هكذا رواية ابن إسحاق ، ويروى سباء من السَّبي ، ومعناه واضح ، فالهمزة مكان الباء ، والذي في كتاب مسلم : نلاقي كل يوم من معدٍّ سباب . ويعني بمعدٍّ : قريشًا ، نسبهم لمعدِّ بن عدنان ، و" أو " في البيت للتنويع ، ويعني بالسباب : السب نثرًا ، وبالهجاء : السب نظمًا . والله تعالى أعلم . وقد دلَّ عليه قوله :
---
(9/226)
فَنُحكِم بالقَوَافي مَن هَجَانا ونَضرِبُ حِينَ تَختَلِطُ الدِّماءُ
فنحكم : نمنع ، ويعني : أنه يجيب الهاجي بأبلغ من هجائه ، وأصعب عليه ، فيمتنع من العود ، ويعني باختلاط الدماء : التحام الحرب ، ومخالطة الدماء عند الحرب .
أَلا أَبلِغ أَبا سُفيانَ عَنِّي مُغَلغَلةً فقد بَرِحَ الخَفَاءُ
أبو سفيان هذا : هو ابن الحارث ، وهو كان الهاجي أولاً ، وقد تقدَّم أنه كان أحد الشعراء . والمغلغلة : الرسالة تُحمل من بلد إلى بلد. وبرح الخفاء : أي انكشف السر, وظهر المضمر ، وهو مثل.
فإنَّ سيوفنا تَرَكَتكَ عبدًا وعبد الدَّارِ ساد بها الإماء
عبدًا : يعني ذليلاً ذل العبيد.
هجَوتَ محمَّدًا وأَجَبتُ عنه وعِندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ
الخطاب لأبي سفيان ، وروي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أنشده هذا البيت قال له : (( جزاؤك عند الله الجنة )).
هَجَوتَ محمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا رَسُولَ اللهِ شِيمَتُه الوفاءُ
البرُّ : التَّقي ، والحنيف : المائل عن الأديان كلها إلى دين إبراهيم . والشِّيمة : السَّجيَّة ، والسَّليقة ، والخليقة ، والجبلَّة كلها : الطبيعة .
وقوله :
أَتَهجُوه ولَستَ لَهُ بِكُفءٍ فَشَرُّكُمَا لِخَيرِكُما الفِداءُ
(9/227)
هذا يتضمن الدُّعاء بإنزال المكاره بأكثر الرجلين شرًّّا ، وإنزال الخير بأكثرهما خيرًا ، وعند ذلك يتوجَّه عليه إشكال ، وهو أن شرًّا وخيرًا هنا للمفاضلة ، والمعقول من المفاضلة اشتراك المتفاضلين فيما وقعت فيه ، واختصاص أحدهما بزيادة فيه ، فيلزم منه : أن يكون في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرٌّ ، وهو باطل ، فتعيَّن تأويل ذلك ، فقال السُّهيلي : إن شرًّا هنا بمعنى أنقص ، وحكي عن سيبويه أنه قال : تقول مررت برجل شرٌّ منك ؛ أي : أنقص عن أن تكون مثله ، قال السُّهيلي : ونحو منه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((شرُّ صفوف الرجال آخرها )) ؛ يريد نقصان حقهم عن حظ الصف الأول ، ولا يجوز أن يريد به التفضيل في الشرِّ.
---
قلت : وأوضح من هذا ، وأبعد من الاعتراض أن يقال : إن الأصل في أفعل ما ذكر ، غير أن المعنى الذي يقصد به المفاضلة فيه قد يكون معنى وجوديًا ، كما يقال : بياض الثلج أشدُّ من بياض العاج ، وقد يكون المعنى توهُّمًا بحسب زعم المخاطب ، كما قال تعالى : {فسيعلمون من هو شرٌّ مكانًا }, وذلك أن الكفار زعموا : أن المؤمنين شرٌّ منهم ، فأجيبوا بأن قيل لهم : ستعلمون باطل زعمكم بأن تشاهدوا عاقبة من هو الموصوف بالشر ، وعلى هذا يخرج معنى البيت ، فإنَّهم كانوا يعتقدون في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرًّا ، فخاطبهم بحسب زعمهم ، ودعا على الأشر من الفريقين منهما له ، وهو يعنيهم قطعًا ، فإنَّهم هم أهل الشر ، لكنهم أتاهم بدعاء نَصَف يُسكِت الظالم ، ويُرضي المظلوم .
وقوله :
فإنَّ أَبي ووَالِدَهُ وعِرضِي لِعِرضِ محمًّدٍ مِنكُم وِقَاءُ
(9/228)
قال ابن قتيبة : يعني بالعِرض هنا : النفس ، فكأنه قال : أبي وجدي ، ونفسي وقاية لنفس محمد ، وقال غيره : بل العِرض هنا هو الحرمة التي تنتهك بالسب والغيبة التي قال فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا )).
وقوله :
لِسانِي صَارِمٌ لا عَيبَ فِيهِ وبَحرِي لا تُكَدِّرُهُ الدِّلاءُ
الصَّارم : السَّيف القاطع ، ولا تكدره الدِّلاء : أي لا تغيره . وهذا مثل يقرب للرجل العظيم الحليم القوي ؛ الذي لا يبالي بما يرد عليه من الأمور ، وبهذا البيت كني حسان : أبا الحسام رضي الله عنه , وجازاه خيرًا .
ومن باب فضائل أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ
---
اختلف في اسم أبي هريرة ، واسم أبيه اختلافًا كثيرًا ، انتهت أقوال النقلة في ذلك إلى ثمانية عشر قولاً ، وأشبه ما فيها أن يقال : إنه كان له في الجاهلية اسمان : عبد شمس ، وعبد عمرو ، وفي الإسلام : عبدالله ، وعبدالرحمن بن صخر ، وقد اشتهر بكنيته حتى كأنه ما له اسم غيرها ، فهي أولى به ، وكنِّي بابي هريرة ؛ لأنَّه وجد هرَّة صغيرة فحملها في كمِّه ، فكُنِّي بها وغلب ذلك عليه ، وقيل : إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كناه بذلك عندما رآه يحملها.
---
(9/229)
أسلم أبو هريرة عام خيبر ، وشهدها مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , ثم لازمه ، وواظب عليه ، رغبة في العلم ، راضيًا بشبع بطنه ، فكانت يده مع يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان يدور معه حيثما دار ، فكان يحضر ما لا يحضره غيره ، ثم اتفق له أن حصلت له بركة دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الثوب الذي ضمَّه إلى صدره ، فكان يحفظ ما سمعه ولا ينساه ، فلا جرم حفظ له من الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لم يحفظ لأحد من الصحابة رضي الله عنهم , وذلك خمسة الآف حديث وثلاثمئة وأربعة وسبعون حديثًا ، أخرج له منها في الصحيحين ستمئة وتسعة أحاديث ، قال البخاري : روى عنه أكثر من ثمانمئة رجل من بين صحابي وتابعي ، قال أبو عمر : استعمله عمر على البحرين ثم عزله ، ثم أراده على العمل فأبى عليه ، ولم يزل يسكن المدينة ، وبها كانت وفاته سنة سبع وخمسين ، وقيل : سنة ثمان ، وقيل : سنة تسع ، وقيل : توفي بالعقيق ، وصلَّى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وكان أميرًا يومئذ على المدينة ومروان معزول ، وكان رضي الله عنه من علماء الصحابة وفضلائها ، ناشرًا للعلم ، شديد التواضع والعبادة ، عارفًا بنعم الله ، شاكرًا لها ، مجتهدًا في العبادة . كان هو وامرأته ، وخادمه يعتقبون الليل أثلاثًا ، يصلِّي هذا ثم يوقظ هذا ، ويصلي هذا ، ثم يوقظ هذا ، وكان يقول : نشأت يتيمًا ، وهاجرت مسكينًا ، وكنت أجيرًا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني ، وعقبة رحلي ، فكنت أخدم إذا نزلوا ، وأحدو إذا ركبوا ، فزوَّجنيها الله ، فالحمد لله الذي جعل الدين قوامًا ، وجعل أبا هريرة إمامًا .
حديث إسلام أمه ليس فيه شيء يشكل .
---
(9/230)
وقول عائشة رض الله عنها : " ألا يعجبك " ؛ هو بضم الياء وفتح العين وكسر الجيم مشددة ، ومعناه : ألا يحملك على التعجب النظر في أمره ؟ قالت : هذا منكرة عليه إكثاره من الأحاديث في المجلس الواحد ، ولذلك قالت في غير هذه الرواية : " إنما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحدِّثُ حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه " ؛ تعني : أنه كان يحدِّث حديثًا قليلاً ، ويحتمل أن تريد بذلك : أنه كان يحدِّث حديثًا واضحًا مبينًا ، بحيث لو عُدَّت كلماته أحصيت لقلِّتها ، وبيانها ، ويدلّ على صحة هذا التأويل قولها : " ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسرد الحديث سردكم هذا ".
والصَّفق بالأسواق : التجارة فيها ، وقد تقدَّم أنهم كانوا يتواجبون بالأيدي ، فيصفق أحدهما في كف الآخر ، فإذا فعلوا ذلك وجب البيع ، فسمِّي البيع صفقًا بذلك ، وقد تقدم هذا . والسُّبحة : النافلة ، وأُسَبِّح : أُصَلِّي ، مأخوذ من التسبيح .
وقول أبي هريرة رضي الله عنه : يقولون قد أكثر أبو هريرة والله الموعد" ؛ أى : الرجوع إلى الله بحكم الوعد الصَّادق ، فيجازي كُلاًّ على قوله وفعله .
وقوله : يقولون : " ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه" ؛ هذا الإنكار خلاف إنكار عائشة رضي الله عنها ؛ فإنَّها إنما أنكرت سرد الحديث ، وهؤلاء أنكروا على أبي هريرة أن يكون أكثر الصحابة حديثًا ، وهذا إنكار استبعادٍ وتعجب ، لا إنكار تهمة ، ولا تكذيب لما يعلم من حفظه ، وعلمه ، وفضله ، ولما يعلم أيضًا من فضلهم ، ومعرفتهم بحاله ، ولذلك بيَّن لهم الموجب لكثرة حديثه ، وبيَّن أنه شيئان :
أحدهما : أنه لازم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لم يلازموا ، فحضر ما لم يحضروا.
والثاني : بركة امتثال ما أرشد إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بسط ثوبه ، وضمِّه إلى صدره ، فكان ذلك سبب حفظه ، وعدم نسيانه .
---
(9/231)
فقد حصلت لأبي هريرة ولأمه من بركات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخصائص دعواته ، ما لم يحصل لغيره ، ثم إن أبا هريرة رضي الله عنه لما حفظ علمًا كثيرًا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , وتحقق أنه وجب عليه أن يبلغه غيره ، ووجد من يقبل عنه ، ومن له رغبة في ذلك ، تفرَّغ لذلك مخافة الفوت ، ومعاجلة القواطع أو الموت ، ثم إنه لما آلمه الإنكار همَّ بترك ذلك والفرار. لكنه خاف من عقوبة الكتمان المنبَّه عليها في القرآن ، ولذلك قال : لولا آيتان في كتاب الله ما حدَّثت حديثًا ، ثم تلا قوله : {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب ...} الآيتين. وفيهما بحثٌ وتفصيل يحتاج إلى نظر طويل يذكر في تفسير القرآن وأحكامه .
ومن باب فضائل أهل بدر والحديبية
وفضل حاطب بن أبي بلتعة
واسمه : عمرو بن راشد من ولد لخم بن عدي . يكنى : أبا عبدالله ، وقيل : أبا محمد ، وهو حليف للزبير بن العوَّام ، وقيل : لبني أسد ، وقيل : كان عبدًا لعبيدالله بن حميد ، كاتبه فأذى كتابته يوم الفتح ، شهد بدرًا والحديبية . مات سنة ثلاثين بالمدينة ، وهو ابن خمس وستين سنة ، وصلَّى عليه عثمان ، وقد شهد له بالإيمان في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } ، وقد شهد له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإيمان والصدق ، وبأنه لا يدخل النار على ما تضمَّنه الحديثان المذكوران في "الأم". وروضة خاخ : موضع معروف قريب من المدينة . والظعينة : الهودج ، كان فيه امرأة ، أو لم يكن ، وتسمَّى المرأة ظعينة إذا كانت في الهودج . وتجمع الظعينة : ظُعْنٌ وظُعُنٌ وظعائن. وأظعان. والعِقَاص : الشعر المعقوص ؛ أي : المضفور. والملصق في القوم : هو الذي لا نسب له فيهم ، وهو ا لحليف ، والنزيل ، والدَّخيل .
---
(9/232)
وقوله : " وكان ممن معك " ؛ كذا وقع هذا اللفظ " ممن " بزيادة من ، وفي بعض النسخ "من معك " بإسقاط "من " ، وهو الصواب ؛ لأنَّ "من" لا تزاد في الواجب عند البصريين وأكثر أهل اللسان ، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين .
وقول عمر رضي الله عنه : " دعني أضرب عنق هذا المنافق " ؛ إنما أطلق عليه اسم النفاق ؛ لأنَّ ما صدر منه يشبه فعل المنافقين ؛ لأنَّه والى كفار قريش ، وباطنهم ، وهمَّ بأن يطلعهم على ما عزم عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غزوهم ، مع أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد كان دعا فقال : (( اللهم أخف أخبارنا عن قريش )), لكن حاطبًا لم ينافق بقلبه ، ولا ارتد عن دينه ، وإنما تأوَّل فيما فعل من ذلك : أن إطلاع قريش على بعض أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يضر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويخوِّف قريشًا . ويُحكى : أنه كان في الكتاب تفخيم أمر جيش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنهم لا طاقة لهم به ، يخوِّفهم بذلك ليخرجوا عن مكة ، ويفرُّوا منها ، وحسَّن له هذا التأويل : تعلق خاطره بأهله ، وولده ؛ إذ هم قطعة من كبده ، ولقد أبلغ من قال : قلَّما يفلح من كان له عيال. لكن لطف الله تعالى به ، فنجَّاه بما علم من صحَّة إيمانه ، وصدقه ، وغفر له بسابقة بدر ، وسَبقه.
---
(9/233)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم )) ؛ معنى يدريك : يعلمك ، ولعل : للترخي ، لكن هذا الرجاء محقق للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ بدليل ما ذكره الله تعالى في قصة أهل بدر في : آل عمران ، والأنفال . من ثنائه عليهم ، وعفوه عنهم ، وبدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذي قال في حاطب إنه يدخل النار ، وأقسم عليه : (( كذبت ، لا يدخلها فإنَّه شهد بدرًا )). فهذا إخبار محقق لا احتمال فيه ، ولا تجوُّز ، وظاهر قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اعملوا ما شئتم )) إباحة كل الأعمال ، والتخيير فيما شاؤوا من الأفعال ، وذلك في الشريعة محال ؛ إذ المعلوم من قواعدها : أن التكليف بالأوامر والنواهي ، متوجهة على كل من كان موصوفًا بشرطها إلى موته ، ولما لم يصح ذلك الظاهر اضطر إلى تأويله ، فقال أبو الفرج الجوزي : ليس قوله : (( اعملوا ما شئتم )) للاستقبال ؛ وإنَّما هي للماضي ، وتقديره : أيُّ عمل كان لكم فقد غفرته ، قال : ويدلّ على ذلك شيئان :
أحدهما : أنه لو كان للمستقبل كان جوابه سأغفر .
والثاني : أنه كان يكون إطلاقًا في الذنوب ، ولا وجه لذلك ، ويوضح هذا : أن القوم خافوا من العقوبة مما بعد ، فقال عمر : يا حذيفة! هل أنا منهم ؟
---
(9/234)
قلت : وهذا التأويل ، وإن كان حسنًا غير أن فيه بُعدٌ ؛ يبينه : أنَّ " اعملوا " صيغته صيغة الأمر ، وهي موضوعة للاستقبال ، ولم تضع العرب قط صيغة الأمر موضع الماضي ، لا بقرينة ، ولا بغير قرينة ، هكذا نص عليه النحويون ، وصيغة الأمر إذا وردت بمعنى الإباحة : إنما هي بمعنى الإنشاء والابتداء ، لا بمعنى الماضي ، فتدبَّر هذا ؛ فإنه حسن ، وقد بينته في الأصول بأشبع من هذا ، واستدلاله على ذلك بقوله : " فقد غفرت لكم " ، ليس بصحيح ؛ لأنَّ " اعملوا ما شئتم " يستحيل أن يحمل على طلب الفعل ، ولا يصح أن يكون بمعنى الماضي لما ذكرناه ، فتعيَّن حمله على الإباحة والإطلاق ، وحينئذ يكون خطاب إنشاء ، فيكون كقول القائل : أنت وكيلي ، وقد جعلت لك التصرف كيف شئت ، فإنَّ ذلك إنما يقتضي إطلاق التصرف في وقت التوكيل ، لا قبل ذلك ، وقد ظهر لي وجه آخر ، وأنا أستخير الله فيه وهو : أن الخطاب خطاب إكرام وتشريف تضمَّن : أن هؤلاء القوم حصلت لهم حالة غفرت لهم بها ذنوبهم السالفة ، وتأهلوا بها لأن يغفر لهم ذنوب مستأنفة إن وقعت منهم ، لا أنهم نُجِّزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب اللاحقة ، بل : لهم صلاحية أن يغفر لهم ما عساه أن يقع ، ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيء ما وجود ذلك الشيء ؛ إذ لا يلزم من وجود أهلية الخلافة وجودها لكل من وجدت له أهليتها ، وكذلك القضاء وغيره ، وعلى هذا فلا يأمن من حصلت له أهلية المغفرة من المؤاخذة على ما عساه أن يقع منه من الذنوب ، وعلى هذا يخرج حال كل من بشَّره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه مغفورٌ له ، وأنه من أهل الجنة ، فيتضمَّن ذلك مغفرة ما مضى ، وثبوت الصلاحية للمنفرة والجنة بالنسبة لما يستقبل . ولذلك لم يزل عن أحد ممن بُشِّر بالمغفرة ، أو بالجنة خوف التبديل والتغيير من المؤاخذة على الذنوب ، ولا ملازمة التوبة منها ، والاستنفار دائمًا ، ثم إن الله تعالى أظهر صدق رسوله ـ صلى الله
(9/235)
عليه وسلم ـ للعيان في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك ؛
---
فإنَّهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة من أمور الدين ، ومراعاة أحواله ، والتمسك بأعمال البر والخير إلى أن توفوا على ذلك ، ومن وقع منهم في معصية ، أو مخالفة لجأ إلى التوبة ، ولازمها حتى لقي الله تعالى عليها ، يعلم ذلك قطعًا من أحوالهم من طالع سيرهم ، وأخبارهم .
وفي حديث حاطب هذا أبواب من الفقه وأدلَّة على صحة نبوء نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى فضائل أهل بدر ، وحاطب بن أبي بلتعة ، فمن جملة ما فيه من الفقه : أن ارتكاب الكبيرة لا يكون كفرًا ، وأن المتأوِّل أعذر من العامد ، وقبول عذر الصادق ، وجواز الاطلاع من عورة المرأة على ما تدعو إليه الضرورة . ففي بعض رواياته : أنهم فتشوا من المرأة كل شيء حتى قبلها.
وفيه : ما يدلُّ على أن الجاسوس حكمه بحسب ما يجتهد فيه الإمام على ما يقوله مالك . وقال الأوزاعي : يعاقب ، وينفى إلى غير أرضه . وقال أصحاب الرأي : يعاقب ويسجن . وقال الشافعي : إن كان من ذوي الهيئات كحاطب عفي عنه ، وإلا عُزِّر. وجميع أهل بدر ثلاثمنة وسبعة عشر رجلاً باتفاق أئمة السير والتواريخ . واختلف في طائفة نحو الخمسة هل شهدوها ، أم لا ؟ وتفصيل ذلك في كتب السِّير .
---
(9/236)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يدخل النار - إن شاء الله - أمن أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها )) ؛ هذه الشجرة : هي شجرة بيعة الرضوان التي قال الله تعالى فيها : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة }. وكانت بالحديبية التي تقدم ذكرها . والمبايعون تحتها : كانوا ألفًا وأربعمئة ، وقيل : وخمسمئة ، كانوا بايعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الموت ، أو على ألا يفرُّوا ، على خلاف بين الرواة. ثم إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صالح أهل مكة ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وأحرز لهم الثواب. وأثابهم فتحًا قريبًا ، ورضوانًا عظيمًا . واستثناؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا بقوله : (( إن شاء الله )) استثناء في واجب قد أعلمه الله تعالى بحصوله بقوله : { لقد رضي الله عن المؤمنين }, وبغير ذلك ، وصار هذا الاستثناء كقوله تعالى : { لتدخلن المسجد الرحام إن شاء الله آمنين }.
---
(9/237)
وقول حفصة : " بلى" ؛ قول أخرجه منها الشهامة النفسية ، والقوة العمرية ، فإنَّها كانت بنت أبيها ، وهذا من نحو قول عمر رضي الله عنه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ورود المنافقين : أتصلي عليهم, وتمسكها بعموم قوله تعالى : { وإن منكم إلا واردها } دليلٌ على أن " منكم " للعموم عندهم ، وأن ذلك معروف من لغتهم ، وانتهار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها تأديب لها وزجر عن بادرة المعارضة ، وترك الحرمة ، ولما حصل الإنكار صرحت بالاعتذار ، فذكرت الآية ، وحاصل ما فهمت منها : أن الورود فيها بمعنى الدخول ، وأنها قابلت عموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يدخل النار أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة )) بعموم قوله تعالى : { وإن منكم إلا واردها }, وكأنها رجَّحت عموم القرآن . فتمسكت به ، فأجابها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن آخر الآية يبيِّن المقصود ، فقرأ قوله تعالى : { ثم ننجي الذين أتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًا }. وحاصل الجواب : تسليم أن الورود دخول ، لكنه دخول عبور ، فينجو من اتقى ، ويترك فيها من ظلم ، وبيان ذلك : أن جهنم -أعاذنا الله منها - محيطة بأرض المحشر ، وحائلة بين الناس وبين الجنة ، ولا طريق للجنة إلا الصراط الذى هو جسر ممدود على متن جهنم ، فلا بدَّ لكل من ضمَّه المحشر من العبور عليه ، فناج مُسَلَّم ، ومخدوش مرسل ، ومكردسٌ في نار جهنم كما تقدَّم ، وهذا قول الحسن وقتادة ، وهو الذي تعضده الأخبار الصحيحة ، والنظر المستقيم .
والورود في أصل اللغة : الوصول إلى الماء ؛ وإنَّما عبَّر به عن العبور ؛ لأنَّ جهنم تتراءى للكفار كأنها سراب فيحسبونه ماء, فيقال لهم : ألا تردون ؟ كما صحَّ في الأحاديث المتقدمة .
---
(9/238)
وفي حديث حفصة هذا أبواب من الفقه ، منها : جواز مراجعة العالم على ما جهة المباحثة ، والتمسك بالعمومات فيما ليس طريقه العمل ، بل : الاعتقاد ، ومقابلة عموم بعموم . والجواب : بذكر المخصَّص ، وتأديب الطالب عند مجاوزة حدِّ الأدب في المباحثة . والمتقي : هو الحذر من المكروه الذي يتحرز منه بإعداد ما يتقيه به . ونذر : نترك. والظالم هنا : هو الكافر ؛ لأنَّه وضع الإلهية والعبادة في غير موضهما . وجثيًا : جمع جاث ، وأصله : الجالس على ركبتيه ، والمراد به ها هنا : المكبوب على وجهه ، وهو : المكردس المذكور في الحديث ، والله تعالى أعلم .
ومن باب فضائل أبى موسى الأشعري رضي الله عنه
---
(9/239)
واسمه : عبد الله بن قيس بن سليم بن حَضَّار - بفتح الحاء المهملة والضاد - المعجمة المشددة - ويقال : حِضَار - بكسر الحاء ، وتخفيف الضاد - : من ولد الأشعر ، وهو نبتُ بن أدد ، وقيل : من ولد الأشعر بن سبأ أخي حمير . قال أبو عمر : ذكرت طائفة : أن أبا موسى قدم مكة ، فحالف سعيد بن العاصي ، ثم أسلم بمكة ، ثم هاجر إلى أرض الحبشة ، ثم قدم مع أهل السفينة ، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخيبر. وقال أبو بكر بن عبدالله بن الجهم - وكان علامة نسَّابة- : ليس كذلك , ولكنه أسلم قديمًا بمكة ، ثم رجع إلى بلاد قومه ، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين : جعفر وأصحابه من أرض الحبشة ، ووافوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخيبر. قال أبو عمر : وإنما ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى أرض الحبشة ؛ لأنَّه نزل أرضهم في حين إقباله مع سائر قومه ، رمت الريح سفينتهم إلى الحبشة ، فبقوا فيها ، ثم خرجوا مع جعفر وأصحابه : هؤلاء في سفينة ، وهؤلاء في سفينة ، فوافوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين افتتح خيبر ، فقيل : إنه قسم لأهل السفينتين ، وقيل : لم يقسم لهم ، ثم ولَّى عمر بن الخطاب أبا موسى البصرة ؛ إذ عزل عنها المغيرة في وقت الشهادة عليه ، وذلك سنة عشرين ، فافتتح أبو موسى الأهواز ، ولم يزل على البصرة إلى صدر من خلافة عثمان ، ثم عزله عنها وولاها عبدالله بن عامر بن كرز ، فنزل أبو موسى حينئذ الكوفة وسكنها ، ثم لما رفع أهل الكوفة سعيد بن العاصي ولَّوا أبا موسى ، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه فأقرَّه ، فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان ، واستخلف عليّ ، فعزله عنها. قال أبو عمر : فلم يزل واجدًا منها على علي ، ثم كان من أبي موسى بصفين وفي التحكيم ما كان ، وكان متحرفًا عن عليٍّ ؛ لأنَّه عزله ، ولم يستعمله ، وغلبه أهل اليمن في إرساله
(9/240)
في التحكيم فلم يخر لهم ، ثم انقبض أبو موسى إلى مكة ، ومات بها ، وفيل : مات بالكوفة في داره بجانب
---
المسجد ، واختلف في وقت وفاته ، فقيل : سنة اثنتين وأربعين ، وقيل : سنة أربع ملة وأربعين ، وقيل : سنة خمسين ، وقيل : سنة اثنتين وخمسين . وكان رضي الله عنه من أحسن الناس صوتًا بالقرآن ، ولذلك قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود )) . وسئل علي رضي الله عنه عن موضع أبي موسى من العلم ؟ فقال : صبغ في العلم صبغة.
وروى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ستمئة وستين حديثًا ، أخرج له منها في الصحيحين ثمانية وستون حديثًا .
وقول الأعرابي : " أكثرتَ عليَّ من أبشر " قول جلف جاهل بحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبقدر البشرى التي بشَّره بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو قبلها ، لكنها عرضت عليه فحرمها ، وقضيت لغيره فقبلها . والبشرى : خبر بما يسر ، وسُمِّيت بذلك ؛ لأنَّها تظهر الشرور في بشرة المبشر ، وأصله في الخير ، وقد يقال في الشر توسُعًا كما قال الله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } ، وفيه ثلاث لغات : أبشر - رباعيًّا - فتقول : أبشرته أبشره إبشارًا ، ومنه : { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون }, وبشَّر - مشددًا- يُبشِّر تبشيرًا , ومنه قوله تعالى : { فبشر عباد الذين يستمعون القول } ، والثالثة : بَشَرْتُ الرجل - ثلاثيًّا ، مفتوح العين - أبشره بالضم بُشرًا بالسكون وبُشُورًا ، والاسم البشارة - بكسر الباء وضمها- ، والبشرى : تقتضي مُبَشَّرًا به ، فإذا ذكر تعيَّن ، وإذا سكت عنه ، صلح أن يراد به العموم .
---
(9/241)
وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأعرابي : (( أبشر )) ولم يذكر له عين ما بشره به ؛ لأنَّه - والله أعلم - قصد تبشيره بالخير على العموم الذي يصلح لخير الدنيا والآخرة ، ولما جهل ذلك ردَّه لحرمانه وشقوته ، ولما عرض ذلك على من عرف قدره بادر إليه وقبله ، فنال من البشارة الخير الأكبر ، والحظَّ الأوفر ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ غسل وجهه في الماء ، وبصق فيه ، وأمره بشرب ذلك ، والتمسح به مبالغة في إيصال الخير والبركة لهما ؛ إذ قد ظهرت بركته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما لمسه ، أو باشره ، أو اتصل به منه شيء ، ولما تحققت أم سلمة ذلك سألتهما أن يتركا لها فضلة من ذلك ليصيبها من تلك البشرى ، ومن تلك البركة حظٌّ .
وفيه ما يدل على جواز الاستشفاء بآثار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبكلماته ، ودعواته ، وعلى جواز النشرة بالماء الذي يرقى بأسماء الله تعالى ، وبكلامه ، وكلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد تقدم ذكر الخلاف في النشرة في كتاب الطب.
وأوطاس : موضع قريب من حنين .
وبعث أبي عامر إنما كان لتتبع منهزمة هوازن بحنين ، ويُسمَّى خيله : خيل الطلب ، وأبو عامر هذا : اسمه عبيد بن سليم بن حضَّار الأشعري ، وكان أبو عامر هذا من كبار الصحابة ، عقد له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لواءً يوم ولاه على هذا الجيش ، وختم الله تعالى له بالشهادة ، وبدعاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمغفرة.
(9/242)
وقول أبي عامر : " إن ذلك قاتلي ، تراه ذلك(1) الذي رماني " ؛ كذا الرواية الصحيحة ، تراه : بالتاء باثنتين من فوقها ، والكلام كله لأبي عامر ، وكان الذي رمى أبا عامر كان قريبًا منهما ، فأشار إليه بذلك مرتين تقريبًا له ، وأكد ذلك بقوله : تراه ، فكأنه قال : الذي تراه ، ووقع في بعض النسخ ذلك بلام البعد ، وفيه بعد ، وقرأه بالفاء ، فكأنه من قول الراوي خبرًا عن أبي موسى أنه رأى القاتل ، والأول أصح.
وقوله : " فنزا منه الماء " ؛ أي : خرج الماء بسرعة إثر خروج السهم ، وأصل النزو : الارتفاع والوثب .
---
وقوله : " واستعملني عامر على الناس " ؛ فيه ما يدلّ على : أن الوالي إذا عرض له أمر جاز أن يستنيب غيره .
وقوله : " فوجدته على حصير مُرْمل ، قد أثر رمال الحصير في ظهره " ؛ صحيح الرواية فيه : مرمل بضم الميم الأولى ، مُسكَّن الراء ، مفتوح الميم الثانية . وهو من : أرملت الحصير ؛ إي : شققته ونسجته بشريط أو غيره . قال الشاعر :
إذ لا يَزال ُعَلَى طَرِيق لاحِبً وكان صَفحَتَه حَصِيرٌ مُرْمَلُ
ويقال : رملت الحصير أيضًا- ثلاثيًّا - ، ورمال الحصير : هو ما يؤثر منه في جنب المضطجع عليه .
وقوله : " وعليه فراش " ؛ كذا صحَّت الرواية بإثبات الفراش ، وقال القابسي : الذي أعرف : وما عليه فراش .
قلت : واستبعَدَ أن يكون عليه فراش ويؤثر في ظهره ؛ وإنَّما يستبعد ذلك إذا كان الفراش كثيفًا ، وثيرًا ، ولم يكن فراش النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك ، فلا يستبعد .
وقوله : " فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بماء فتوضَّأ منه ، ثم رفع يديه " ؛ ظاهر هذا الوضوء : أنه كان للدُّعاء ؛ إذ لم يذكر أنه صلى في ذلك الوقت بذلك الوضوء ، ففيه ما يدلّ على مشروعية الوضوء للدُّعاء ، ولذكر الله ، كما تقدَّم من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة )).
---
(9/243)
وقوله : " ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه " ؛ دليل على استحباب الرفع عند الدعاء ، وقد فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك يوم بدر ، وفي الاستسقاء ، وقد روي كراهية ذلك عن مالك ، ويمكن أن يقال : إنما كره أن يُتَّخذ ذلك سُنَّة راتبة على أصله في هذا الباب ، أو مخافة أن يعتقد الجهَّال مكانًا لله تعالى ، والذي يزيل هذا الوهم : أن يقال : لا يلزم من مدِّ الأيدي إلى السماء أن يكون مكانًا لله ، ولا جهة ، كما لا يلزم من استقبال الكعبة أن يكون الله تعالى فيها ، بل السماء قبلة الدُّعاء ، كما أن الكعبة الي قبلة الصلاة ، والباري تعالى منزه عن الاختصاص بالأمكنة والجهات ؛ إذ ذاك من لوازم المحدثات ، ولقد أحسن من قال : لو كان الباري تعالى في شيء لكان محصورًا ، ولو كان على شيء لكان محمولاً ، ولو كان من شيء لكان محدثًا .
وقد حصل أبو موسى على مثل ما حصل لعمه أبي عامر من استغفار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزاده : (( وأدخله مدخلاً كريمًا )) ؛ ليلحقه بمنزلة أبي عامر في الجنة لأنه قتل قاتله , والله تعالى أعلم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل )) ؛ كذا صحَّت الرواية فيه بالدال المهملة والخاء المعجمة ، من الدخول ، وقد رواه بعضهم : يرحلون بالراء والحاء المهملة ، من الرحيل . قال بعض علمائنا : وهو الصواب ، يشير إلى أنهم كانوا يلازمون قراءة القرآن في حال رحيلهم ، وفي حالة نزولهم ، وكان الأشعريين كثير فيهم قراءة القرآن بسبب أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، فإنَّه كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن ، فكان يقرأ لهم ، فتطيب لهم قراءته ، فتعلموا منه القران . وأحبُّوه فلازموه ، والله تعالى أعلم .
---
(9/244)
وقوله : "ومنهم حكيم إذا لقي الخيل ، أو العدو قال لهم : إن أصحابي يأمرونكم أن تنتظروهم" ؛ وحكيم : بمعنى محكَّم ، ويعني به هنا : أنه محكم لأمور الفروسية والشجاعة ، ولذلك سبق قومه إلى العدو ، كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين ركب فرس أبي طلحة واستبرأ خبر العدو ، ثم رجع ، فلقي أصحابه خارجين ، فأخبرهم بأنهم : لا روع عليهم . وقد يجوز أن يكون ذلك الحكيم هو أبو موسى أو أبو عامر ، ويكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال هذا قبل قتله . والله تعالى أعلم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم ، ثم اقتسموه )) ؛ هذا الحديث يدل على أن الغالب على الأشعريين الإيثار ، والمواساة عند الحاجة ، كما دلَّ الحديث المتقدِّم على أن الغالب عليهم القراءة والعبادة ، فثبت لهم بشهادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنَّهم علماء عاملون ، كرماء مؤثرون . ثم إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرَّفهم بإضافتهم إليه ، ثم زاد في التشريف بأن أضاف نفسه إليهم ، ويمكن أن يكون معنى : " هم مني " : فعلوا فعلي من القراءة والعبادة والكرم ، و"أنا منهم " ؛ أي : أفعل من ذلك مثل ما يفعلون ، كما قال بعض الشعراء :
وَقُلْتُ أَخِي قالُوا أَخٌ وكرامةٌ فَقُلتُ لَهُم إنَّ الشُّكُول أقارِبُ
نَسِيبي في رَأيي وعَزمِي ومَذهَبي وإن خالفَتنا في الأمُورِ المَناسِبُ
ومن باب فضائل أبي سفيان بن حرب
---
(9/245)
واسمه صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي ، وكان من أشراف قريش ، وساداتها ، وذوي رأيها في الجاهلية ، أسلم يوم فتح مكة ، وقد تقدَّم خبر إسلامه ، وشهد حنينً ، وأعطاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غنائمها مئة بعير ، وأربعين أوقية وزنها له بلال . قال أبو عمر : واختلف في حسن إسلامه ، فطائفة تروي : أنه لما أسلم حسن إسلامه ، وذكروا عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : رأيت أبا سفيان يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد يقاتل . يقول : يا نصر الله اقترب. وروي عنه أنه قال : فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل واحد يقول : يا نصر الله اقترب ، قال المسيب : فذهبت أنظر ، فإذا هو أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه . وقد روي : أن أبا سفيان كان يوم اليرموك يقف على الكراديس فيقول للناس : الله ! الله ! إنكم ذادةُ العرب ، وأنصار الإسلام ، وإنهم ذادة الروم ، وأنصار المشركين ، اللهم! هذا يوم من أيامك ، اللهم ! أنزل نصرك على عبادك.
وطائفة تروي : أنه كان كهفًا للمنانقين منذ أسلم ، وكان في الجاهلية ينسب إلى الزندقة ، وكان إسلامه يوم الفتح كرهًا كما تقدَّم من حديثه ، ومن قوله في كلمتي الشهادة حين عرضت عليه : أما هذه ففي النفس منها شيء. وفي خبر ابن الزبير أنه رآه يوم اليرموك قال : فكانت الروم إذا ظهرت قال أبو سفيان : إيه بني الأصفر !
وقول ابن عباس : "كان المسلمون ينظرون إلى أبي سفيان بن حرب ولا يقاعدونه " ؛ إنما كان ذلك لما كان من أبي سفيان من صنيعه بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالمسلمين في شركه ؛ إذ لم يصنع أحدٌ بهم مثل صنيعه ، ثم إنه أسلم يوم الفتح مكرهًا ، وكان من المؤلفة قلوبهم ، وكأنهم ما كانوا يثقون بإسلامه ، وقد ذكرنا اختلاف العلماء في نفاقه.
---
(9/246)
وقوله : " عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها ؟ قال : نعم " ؛ الضير في " أجمله " عائد على الجنس الذي دلَّ عليه العرب ، وأم حبيبة هذه اسمها رملة ، وقيل : هند ، والأول هو المعروف والصحيح ؛ وإنَّما هند بنت عتبة زوجة أبى سفيان ، وأم معاوية. وظاهر هذا الحديث أن أبا سفيان أنكح ابنته النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد إسلامه ، وهو مخالف للمعلوم عند أهل التواريخ والأخبار ، فإنَّهم متفقون على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوَّج بأمِّ حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح ، وقبل إسلام أبيها ، وإنَّ أبا سفيان قدم قبل الفتح المدينة طالبًا تجديد العهد بينه وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , وأنه دخل بيت أم حبيبة ابنته ، فأراد أن يجلس على بساط رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنزعته من تحته ، فكلمها في ذلك ، فقالت : إنَّه بساط رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنت مشرك! فقال لها : يا بنية لقد أصابك بعدي شر ، ثم طلب من علي ، ومن فاطمة ومن غيرهما أن يكلموا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصلح ، فأبوا عليه ، فرجع إلى مكة من غير مقصود حاصل ، وكل ذلك معلوم لا شك فيه ، ثم إن الأكثر من الروايات والأصح منها : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوج أم حبيبة ، وهي بأرض الحبشة ، وذلك أنها كانت تحت عبدالله بن جحش الأسدي ، أسد خزيمة ، فولدت له حبيبة التي كنيت بها ، وأنها أسلمت وأسلم زوجها عبدالله بن جحش وهاجر بها إلى أرض الحبشة ، ثم إن زوجها تنصَّر هناك ، ومات نصرانيًّا ، ثم إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطبها وهي بأرض الحبشة فبعث شرحبيل بن حسنة إلى النجاشي في ذلك . روى الزبير بن بكار عن إسماعيل بن عمرو : أن أم حبيبة قالت : ما شعرت وأنا بارض الحبشة إلا برسول النجاشي جارية يقال له : أبرهة ، كانت تقوم على ثيابه ودهنه ، فاستأذنت عليَّ فأذنت لها ، فقالت : إن الملك يقول لك : إن
(9/247)
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتب أن أزوِّجَكِهِ ، فقلت : بارك الله بخير ، وقالت : يقول لك الملك : وكلي من يزوجك ، فأرسلتُ إلى خالد بن سعيد فوكلته ، وأعطيتُ أبرهة سوارين من فضة كانتا علي ، وخواتم
---
فضة كانت في أصابعي سرورًا بما بشرتني به ، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ، ومن هناك من المسلمين يحضرون ، وخطب النجاشي فقال : الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار ، أشهد أن لا إله إلا الله , وأن محمدًا رسول الله ، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم ، أما بعد : فإنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتب إلي أن أزوَّجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد أصدقتها أربعئة دينار ، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم ، فتكلم خالد بن سعيد ، فقال : الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون ، أما بعد : فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فبارك الله لرسوله . ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد ، فقبضها ، ثم أرادوا أن يقوموا فقال : اجلسوا فإنَّ سنة الأنبياء إذا تزوَّجوا أن يؤكل طعام على التزويج ، فدعا بطعام فأكلوا ، ثم تفرَّقوا . قال الزبير : قدم خالد بن سعيد ، وعمرو بن العاص بأم حبيبة من أرض الحبشة عام الهدنة . وقال بعض الرواة : إنما أصدقها أربعة الآف درهم ، وأن عثمان بن عفان هو الذي أولم عليها ، وأنه هو الذي زوَّجها إياه ، وقيل : زوَّجها النجاشي .
(9/248)
قلت : ويصح الجمع بين هذه الروايات, فتكون الأربعمئة دينار صرفت,أو قوِّمت بأربعة آلاف درهم, وأن النجاشي هو الخاطب, وعثمان هو العاقد, وسعيد الوكيل ، فصحَّت نسبة التزويج لكلهم ، وهذا هو المعروف عند جمهور أهل التواريخ والسِّير ، كابن شهاب ، وابن إسحاق ، وقتادة ، ومصعب ، والزبير وغيرهم .
---
وقد روي عن قتادة قول آخر : أن عثمان بن عفان زوَّجها من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بالمدينة بعدما قدمت من أرض الحبشة . قال أبو عمر : والصحيح الأول ، وروي أن أبا سفيان قيل له وهو يحارب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن محمدًا قد نكح ابنتك ! فقال : ذلك الفحل الذي لا يقرع أنفه. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : تزوَّج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم حبيبة سنه ست من التاريخ ، قال غيره : سنة سبع ، قال أبو عمر : توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين .
(9/249)
قلت : فقد ظهر أنه لا خلاف بين أهل النقل أن تزويج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأم حبيبة متقدِّم على إسلام أبيها أبي سفيان ، وعلى يوم الفتح ، ولما ثبت هذا تعيَّن أن يكون طلب أبي سفيان تزويج أم حبيبة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد إسلامه خطأ ووهمًا ، وقد بحث النقاد عمن وقع منه ذلك الوهم فوجدوه قد وقع من عكرمة بن عمار. قال أبو الفرج الجوزي : اتهموا به عكرمة بن عمار ، وقد ضعف أحاديثه يحيى بن سعيد ، وأحمد بن حنبل ، ولذلك لم يُخرَّج عنه البخاريُّ ، إنَّما أخرج عنه مسلم ؛ لأنَّه قد قال فيه يحيى بن معين : هو ثقة . وقال أبو محمد علي بن أحمد الحافظ : هذا حديث موضوع ، لا شك في وضعه ، والآفة فيه من عكرمة بن عمار ، قال بعضهم : ومما يحقق الوهم في هذا الحديث قول أبي سفيان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أريد أن تؤمرني . فقال له : " نعم ". ولم ما يسمع قط أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمَّر أبا سفيان على أحد إلى أن توفي ، فكيف يخلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوعد ؟ هذا ما لا يجوز عليه .
---
قلت : قد تأوَّل بعض من صحَّ عنده ذلك الحديث ، بأن قال : إن أبا سفيان إنما طلب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجدد معه عقدًا على ابنته المذكورة ظنًّا منه : أن ذلك يصح ، لعدم معرفته بالأحكام الشرعية ، لحداثة عهده بالإسلام ، واعتذر عن عدم تأميره مع وعده له بذلك ؛ لأنَّ الوعد لم يكن مؤقتًا ، وكان يرتقب إمكان ذلك فلم يتيسر له ذلك إلى أن توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو لعلَّه ظهر له مانع شرعي منعه من توليته الشرعية ؛ وإنَّما وعده بإمارة شرعية فتخلَّف لتخلُّف شرطها ، والله تعالى أعلم .
ومن باب فضائل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
(9/250)
يكنى : أبا عبد الله ، كان أكبر من عليٍّ أخيه رضي الة عنهما بعشر سنين ، وكان من المهاجرين الأوَّلين ، هاجر إلى أرض الحبشة ، وقدم منها على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين فتح خيبر ، فتلفاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعانقه ، وقال : (( ما أدري بأيُّهما أنا أشدذُ فرحًا ، بقدوم جعفر ، أم بفتح خيبر)). وكان قدومه من الحبشة في السنة السَّابعة من الهجرة ، واختطَّ له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جنب المسجد ، وقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أشبهت خَلْقِي وخُلُقي )). ثم غزا غزوة مؤتة ، وذلك في سنة ثمان من الهجرة ، في فقتل فيها بعد أن قاتل فيها حتى قطعت يداه جميعًا ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء )). فمن هنالك قيل له : ذو الجناحين . ولما أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نعي جعفر أتى امرأته أسماء بنت عميس ، فعزَّاها في زوجها جعفر ، فدخلت فاطمة تبكي وهي تقول : واعماه ! فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وعلى مثل جعفر فلتبك البواكي )).
---
(9/251)
وأما أسماء فهي : ابنة عميس بن معدِّ بن ا الحارث بن تيم بن كعب بن مالك الخثعمية ، من خثعم أنمار ، وهي أخت ميمونة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخت لبابة - أم الفضل - زوجة العباس ، وأخت أخواتها ، وهن : تسع ، وقيل : عشر. هاجرت أسماء مع زوجها جعفر إلى أرض الحبشة ، فولدت له هنالك محمدًا ، وعبدالله ، وعوفًا ، ثم هاجرت إلى المدينة . فلما قتل جعفر ، تزوجها أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنهما, وولدت له محمد بن أبي بكر ، ثم مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب ، فولدت يحيى بن عليٍّ ، لا خلاف في ذلك ، وقيل : كانت أسماء بنت عميس تحت حمزة بن عبد المطلب ، فولدت له ابنة تسمى : أمة الله. وقيل : أمامة ، ثم خلف عليها بعده شداد بن الهادي الليثي ، فولدت له : عبدالله وعبدالرحمن ، ثم خلف عليها بعده جعفر, ثم كان الأمر كما ذكر. وقول أبي موسى : إما قال : بضعة ، وإما قال : ثلاثة وخمسين ، أو اثنين وخمسين رجلاً ؟ كذا صواب الرواية فيه بإثبات هاء التأنيث في بضعة ؛ لأنَّه عدد مذكر ، وبالنصب على الحال من : خرجنا المذكور ، وإما : موطئة للشك ، وما بعدها معطوف عليها مشكوك فيه ، وقد وقع في بعض النسخ ، إما قال : بضع - بإسقاط الهاء - وبالرفع مع نصب : وخمسين ، وذلك لحن واضح ، والأول الصواب .
وقول عمر : " الحبشية هذه ؟ البحرية هذه ؟" نسبها إلى الحبشة لمقامها فيهم, وللبحر لمجيئها فيه, وهو استفهامٌ قصد به المطايبة والمباسطة, فإنه كان قد علم من هي حين رآها .
---
(9/252)
وقول عمر : " سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منكم" ؛ صدر هذا القول من عمر رضي الله عنه على جهة الفرح بنعمة الله ، والتحدُّث بها ، لما علم من عظيم أجر السَّابق للهجرة. ورفعه درجته على اللاحق ، لا على جهة الفخر والترفع ، فإنَّ عمر رضي الله عنه منزه عن ذلك ، ولما سمعت أسماء ذلك ، غضبت غضب منافسة في الأجر وغيره على جهة السَّبق ، فقالت : كذبت يا عمر ! أي : أخطأت في ظنك ، لا أنها نسبته إلى الكذب الذي يأثم قائله ، وكثيرًا ما يطلق الكذب بمعنى الخطأ ، كما قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : كذب أبو محمد ؛ لما زعم أن الوتر واجب .
وقولها : " كلا والله " ؛ أي : لا يكون ذلك ، فهي نفيٌ لما قال ، وزجر عنه ، وهذا أصل كلا ، وقد تأتي للاستفتاح بمعنى ألا . والبُعداء : جمع بعيد . والبغضاء : جمع بغيض ، كظريف وظرفاء ، وشريف وشرفاء.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ليس أحق بي منكم )) ؛ يعني في الهجرة لا مطلقًا . وإلا فمرتبة عمر رضي الله عنه وخصوصية صحبته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معروفة بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( له ولأصحابه هجرة واحدة ، ولكم أهل السفينة هجرتان )). وسبب ذلك أن عمر وأصحابه هاجروا من مكة إلى المدينة هجرة واحدة في طريق واحد ، وهاجر جعفر وأصحابه إلى أرض الحبشة ، وتركوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة ، ثم إنهم لما سمعوا بهجرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة ابتدؤوا هجرة أخرى إليه ، فتكرر الأجر بحسب تكرار العمل والمشقة في ذلك .
(9/253)
وقولها : " يأتوني أرسالاً " ؛ أي : متتابعين جماعة بعد جماعة ، وواحد الأرسال : رسل ، كأحمال جمع حمل . يقال : جاءت الخيل أرسالاً ؛ أي : قطعة قطعة ، ففيه قبول أخبار الآحاد ، وإن كان خبر امرأة ، وفيما ليس طريقا للعمل ، واستفاء بخبر الواحد المفيد لغلبة الفن مع التمكن من الوصول إلى اليقين ؛ فإنَّ الصحابة رضي الله عنهم اكتفوا بخبرها ، ولم يراجعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شيء من ذلك ، وخبرها يفيد ظن صدقها ، لا العلم بصدقها ، فافهم هذا .
---
وقولها : " ما من الدنيا شيءٌ هُم أفرح به ، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ؛ تعني : ما من الدنيا شيء يحصل به ثواب عند الله تعالى هو في نفوسهم أعظم قدرًا ، ولا أكثر أجرًا ، مما تضمنَّه هذا القول ؛ لأنَّ أصل أفعل أن تضاف إلى جنسها ، وأعراض الدنيا ليست من جنس ثواب الآخرة ، فتعين ذلك التأويل ، والله تعالى أعلم.
ومن باب فضائل سلمان وصهيب رضي الله عنهما
(9/254)
أما سلمان ، فيكنى : أبا عبد الله ، وكان ينتسب إلى الإسلام ، فيقول : أنا سلمان ابن الإسلام ، ويُعَدُّ من موالي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنَّه أعانه بما كوتب عليه ، فكان سبب عتقه ، وكان يُعرف بسلمان الخير ، وقد نسبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أهل بيته ، فقال : (( سلمان منا أهل البيت )) ، . وأصله فارسي من رام هرمز ، من قرية يقال لها : جَي. ويقال : بل من أصبهان ، وكان أبوه مجوسيًّا من قوم مجوس ، فنبهه الله لقبح ما كان عليه أبوه وقومه ، وجعل في قلبه التشوُّف إلى طلب الحق ، فهرب بنفسه ، وفرَّ من أرضه إلى أن وصل إلى الشام ، فلم يزل يجول في البلدان ، ويختبر الأديان ، ويستكشف الأحبار والرُّهبان ، إلى أن دُلَّ على راهب الوجود ، فوصل إلى المفصود ، وذلك بعد مكابدة عظيم المشقات ، والصبر على مكاره الحالات ، من : الرق ، والإذلال ، والأسر ، والأغلال ، كما هو منقول في إسلامه في كتاب السِّير وغيرها.
وروى أبو عثمان النَّهدي عن سلمان أنه قال : تداوله في ذلك بضة عشر ربًّا , من ربٍّ إلى ربٍّ حتى أفضى إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
قال غيره : فاشتراه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعتق من قوم من اليهود بكذا وكذا درهمًا ، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل ، يعمل فيها سلمان حتى تدرك ، فغرس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ النخل كلها بيده ، فأطعمت النخل من عامها .
---
وأوَّل مشاهده مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخندق ، ولم يَفُته بعد ذلك مشهد معه . وقد قيل : إنه شهد بدرًا وأحدًا ، والأوَّل أعرف. وكان خيِّرًا فاضلاً حَبرًا عالِمًا زاهدًا متقشفًا. روي عن الحسن أنه قال : كان عطاء سلمان خمسة آلاف ، وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به ، ويأكل من عمل يده ، وكانت له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها.
(9/255)
وذكر ابن وهب ، وابن نافع عن مالك قال : كان سلمان يعمل الخوص بيده فيعيش منه ، ولا يقبل من أحد شيئًا ، قال : ولم يكن له بيت ؛ إنما كان يستظل بالجدر والشجر , وإن رجلاً قال له : ألا أبني لك بيتًا تسكن فيه ؟ فقال : ما لي به حاجة ، فما زال به الرجل حتى قال له : إني أعرف البيت الذي يوافقك ، قال : نصفه لي . فقال : أبني لك بيتًا إذا أنت قمت فيه أصاب رأسك سقفه ، وإذا أنت مددت رجليك أصابك الجدار. قال : نعم ، فبني له .
---
وروي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( لو كان الدين في الثريا لناله سلمان )). وفي رواية : (( رجال من الفرس )). وقالت عائشة رضي الله عنها : كان لسلمان مجلسٌ من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينفردُ به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله أمرني أن أحب أربعة ، وأخبرني أنه يحبهم : علي ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان )). وقال أبو هريرة : سلمانُ صاحب الكتابين ، وقال عليٌّ : سلمان عَلِمَ العلمَ الأول والآخر ، بحر لا ينزف ، هو منَّا أهل البيت. وقال عليٌّ رضي الله عنه أيضًا : سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم. وله أخبار حِسان ، وفضائلُ جَمَّة. توفي سلمان رضي الله عنه في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه سنة خمس وثلاثين ، وقيل : مات بل سَنهَ ستٍّ في أولها ، وقد قيل : توفي في خلافة عمر ، والأوَّلُ أكثر. قال الشعبيُّ : توفي بالمدائن ، وكان من المعمرين ، أدرك وصيَّ عيسى ابن مريم ، وعاش مئتين وخمسين سنة ، وقيل : ثلاثمئة وخمسين سنة. قال أبو الفرج : والأول أصح ، وجملةُ ما حُفِظ له عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ستون حديثاً ، أخرج له منها في الصحيحين سبعة.
---
(9/256)
وأما صُهيب ، فهو ابنُ سنان بن خالدبن عبد عمرو- من العرب- ابن النمر بن قاسط ، كان أبوه عاملاً لكسرى على الأُبُلَّة ، وكانت منازلُهم بأرض الموصل في قرية على شطِّ الفرات ، مما يلي الجزيرة والموصل ، فأغارت الروم على تلك الناحية فسبتْ صُهيباً ، وهو غلام صغير ، فنشأ صهيب بالروم ، فصار ألكن ، فابتاعته منه كلب ، ثم قدمتْ به مكة ، فاشتراه عبدالله بن جُدعان ، فأعتقه ، فأقام بمكة حتى هلك ابن جُدعان ، وبُعِث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأسلم هو وعمار بن ياسر في يوم واحدٍ بعد بضعة وثلاثين رجلاً ، فلما هاجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة لحقه صُهيب ، فقالت له قريش حين خرج يريدُ الهجرة : أتفجعنا بنفسك ومالك ؟ فدلَّهم على ماله ، فتركوه ، فلما رآه النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له : (( ربح البيعُ أبا يحيى )). فأنزل الله عز وجل في أمره : { وَمِنَ الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله }.
وروي عنه أنه قال : صحبتُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يُوحى إليه.
ورُوي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : "من كان يؤمن بالله واليوم الآَخر فليحبَّ صهيبًا حُبَّ الوالدة ولدَها .
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( صهيب سابقُ الروم ، وسلمان سابقُ فارس ، وبلال سابقُ الحبشة )). وإنما نسبه النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ للروم لما ذكر أنه نشأ فيهم صغيرًا ، وتلقَّف لسانهم. وقد تقدَّم ذِكرُ نسبه .
(9/257)
وقال له عمر : ما لك يا صهيب تُكنى أبا يحيى ، وليس لك ولد ، وتزعم أنك من العرب ، وتطعم الطعام الكثير ، وذلك سرف ؟ فقال : إن رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كنَّاني بأبي يحيى ، وإني من النمر بن قاسط من أنفسهم ، ولكني سُبيت صغيرًا أعقل أهلي وقومي ، ولو انفلقت عني روثة لانتميتُ إليها ، وأما إطعام الطعام ؟ فإن رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( خيارُكم مَن أطعم الطعام ، وردَّ السلام )). توفي صهيب بالمدينة سنة ثمانٍ وثلاثين في شوّالها ، وقيل : سنة تسع ، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة ، ودُفِن بالبقيع.
---
وقوله لأبي بكر رضي الله عنه : " لئن كنتَ أغضبتهم لقد أغضبتَ ربَّك" ؛ يدلُّ على رفعة منازل هؤلاء المذكورين عند الله تعالى ، ويُستفاد منه احترامُ الصالحين ، واتِّقاءُ ما يغضبهم ، أو يُؤذيهم.
ومن باب فضائل الأنصار رضي اللّه عنهم
قوله تعالى : { إذ همَّت طَائفَتَانِ مِنكم أَن تفشَلا } ؛ يعني بذلك : يوم أحُدٍ ، وذلك : أنه لمَّا خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للقاء المشركين رجع عنه عبدالله بن أبي بجمع كثيرٍ فشلاً عن الحرب ونكولاً ، وإسلامًا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه للعدو ، وهمَّت بنو سلمة ، وبنو حارثة بالرُّجوع ، فحماهم اللهُ تعالى من ذلك ، مما يضرُّهم من شبح ذلك ، وعظيم إثمه ، فلحقوا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالمسلمين إلى أن شاهدوا الحرب ، وكان من أمر أحُد ما قد ذكر.
وقول جابر : ما نحب ألا تنزل ؛ إئما قال ذلك لما في آخرها من تولي الله تعالى لتينك الطَّائفتين مِن لُطْفه بهما ، وعصمته إياهما ، مما حل بعبد الله بن أبي من الإثم ، والعار ، والذَم ، وذلك قوله تعالى : { والله وليهما } ؛ أي : متولي حِفظهما وناصرهما.
(9/258)
وقوله : فقام متمثلاً ؛ يروى هكذا هنا ، ويروى أيضًا مُنثلاً ، وفيهما بُعد ؛ لأن مثل : معناه : صور مثاله ، وتمثل هو في نفسه ؛ أي : تصوَّر ، وكلاهما ليس له معنى هنا ، وإنما الذي يُناسب هذا أن يكون ماثلاً. يقال : مثل بين يديه قائمًا ؛ أي : انتصب قائمًا ، فيعني به أنه قام منتصبَ القامة فعل المتبشبش بمن لقيه. وقد رواه البخاري فقال : فكان متمثلاً ، ممتنًا من الامتنان ، وهو وان كان فيه بُعْدٌ أنسب مما رراه مسلم ، والله تعالى أعلم .
---
وقوله : (( الأنصار كَرِشي وعيبتي )) ؛ أي : جماعتي التي أنضمُّ إليها ، وخاصتي التي أفضي بأسراري إليها. والكَرِش : لما يجتزُ كالمعدة لإنسان ، والحوصلة للطائر ، والكرش مؤنثة ، وفيها لغتان : كَرِش- بفتح الكاف ، وكسر الراء-. وكِرْش- بكسر الكاف وسكون الراء- : مثل : كَبِد وكِبْد ، وكرشُ الرجل : عيالُه وصغارُ ولده ، والكرش : الجماعة ، وهي المعنيةُ بالحديث. وأصلُ العيبة : ما تُجعل فيه الثياب الرفيعة ، والجمع عِيَب ، كَبَذرَةِ وبِدَر ، وتُجمع أيضاً : عِيابًا وعَيبات.
وقوله : (( اللهم اغفر للأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار)) ؛ ظاهره الانتهاءُ بالاستغفار إلى البطن الثالث ، فيمكن أن يكون ذلك ؛ لأنهم من القرون التي قال فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خيرُ أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم )) ، ويمكن أن تشملَ بركةُ هذا الاستغفار المؤمنين من الأنصار إلى يوم القيامة مبالغة في إكرام الأنصار ، لا سيما إذا كانت نية الأولاد فعل مثال ما سبق إليه الأجداد ، ويُؤيد ذلك قوله في الرواية الأخرى : (( ولذراري الأنصار )).
ومن باب خير دور الأنصار رضي اللّه عنهم
---
(9/259)
قوله : (( خير دُور الأنصار : دار بني النجار )) ؛ أصلُ الدار : المنزل الذي يُقام فيه ، ويُجمع في القفة : أدور ، بواو مضمومة ، وقد أبدلوا من الضمة همزة استثقالًا للضمَّة على الواو ، ويُجمع في الكثرة على ديار ودور ، والدار مؤنثة ، ثم قد يُعبَّر بالدار عن ساكنها كما جاء في هذا الحديث ، فإنه أراد بالِّيار : القبائل. وخير : يعني أخير ؛ أي : أكثر خيرًا ، وتفضيل بعض هذه القبائل على بعض إنما هو بحسب سبقهم للإسلام ، وأفعالهم فيه. وتفضيلُهم خبر من الشارع عفا لهم عند الله تعالى من المنازل والمراتب ، فلا يُقدَّمُ من أخر ، ولا يؤخر من قدَّم. وقد اختلفت الرواياتُ في بني النَّجار ، وبني عبد الأشهل ، ففي رواية أبي أسيد : تقديم بني النخار على بني عبد الأشهل ، ومَن بعدهم ، وفي رواية أبي هريرة : تقديم بني عبدالأشهل على بني النجار ومَن بَعدَهم ، وهذا تعارضٌ مُشكِل ، غير أن الأولى رواية أبي أسَيد لفرابة بني النجار من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون غيرهم ، فإنهم أخوالُه ، كما قدَّمنا ، ولاختصاص نزول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهم ، وكونه عندهم ، وهذه مزيَّة لا يلحقهم أحدٌ فيها. وغَضَبَ سعدِ بن عبادة لما ذُكرتْ دارُه آخر الديار بادرةٌ أصدرها عنه منافستُه في الخير ، وحرصُه على تحصيل الثواب والأجر ؛ فلما نُبه على ما ينبغي له سلَّم السَّبق لأهله ، وشكر الله تعالى على ما آتاه مِن فضله. وقد تقدم القولُ في : أسْلَم ، وغِفَار ، وبني لِحيَان ، ورِعل ، وذَكْوان ، وعُصًية - قبائل من هُذَيل- وهم الذين قتلوا أصحابَ الرَّجيع عاصمًا وأصحابه ، وقد تقدم حديثُهم.
ومن باب : فضائل مزينة ، وجهينة ، وأشجع وبني عبدالله
---
(9/260)
هؤلاء القبائل ، وأسلم ، وغفار ، ومَن كان نحوهم ، كانوا بالجاهلية خاملين ، لم يكونوا من ساداتِ العرب ، ولا مِن رؤسائها كما كانت بنو تميم ، وبنو ى مرة, وبنو أسدٍ ، وغطفان ، ألا ترى قول الأقرع بن حابس للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنما بايعك سُرَّاق الحجيج من أسلم ، وغفار ، ومزينة ، وجهينة ، لكن هؤلاء القبائل سبقوا للإسلام ، وحَسُن بلاؤهم فيه ، فشرَّفهم اللهُ تعالى به ، وفضَّلهم على مَن ليس بمؤمن من سادات العرب بالإسلام ، وعلى من تأخر إسلامُه بالسَّبق ، كما شرَّف بلالاً ، وعفارًا ، وصُهيبًا ، وسلمان على صناديد قريش ، وعلى أبي سفيان ومعاوية وغيرهم من المؤلفة قلوبُهم كما تقدَّم ، فأعز اللهُ بالإسلام الأذلاء ، وأذلَّ به الأعزاءَ بحكمته الإلهية ، وقسمته الأزلية { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } ، وعلى هذا فقولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مزينة ، وجهينة ، وغفار ، وأشجع ، ومن كان من بني عبد الله مواليَّ دون الناس )) جَبْرٌ لهم من كَسرهم وتنوية بهم من خمولهم ، وتفخيم لأمر الإسلام وأهلِه ، وتحقير لأهل الشرك ، ولمن دخل في الإسلام ولم يُخلِص فيه ، كالأقرع بن حابس ، وغيره ممن كان على مثل حاله ، وهذا التَفضيلُ ، والتنويه إنما ورد جوابًا لمن احتقر هذه القبائل بعد إسلامها ، وتمسك بفخر الجاهلية وطغيانها ، فحيث ورد تفضيل هذه القبائل مطلقًا فإنَّه محمول على أنهم أفضل من هذه القبائل المذكوريبن معهم ، في محاورة الأقرع ، وهو آخر حديث ذكرناه , فإنَّه مفسَّر لما تقدَّم ، ومقيَّد له .
(9/261)
وقوله : " موال دون الناس " ؛ يعني : أنا الذي أنصرهم ، وأقول أمورهم كلها ، فلا ينبغي لهم أن يلجؤوا بشيء من أمورهم إلى أحد غيري من الناس ، وهذا فسه -. كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الآخر : (( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، من ترك مالاً فلورثته ، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فعلي وإليَّ )).
---
وقوله : (( والله ورسوله مولاهم )) ؛ كذا الرواية بتوحيد مولاهم ، وهذا نحو قوله تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه }, فوحَّد الضمير ؛ لأنه عائد على الله , ورفع رسوله بالابتداء, وخبر مضمر تقديره . والله أحق أن يرضوه , ورسوله كذلك وعلى هذا : فتقدير الحديث . والله مولاهم, ورسوله كذلك .
وقوله : أرايت إن كان أسلم , ومن ذكر معها خير من بني تميم, ومن ذكر معها , أجابوا وخسروا ؟ قال : نعم ؛ هذا يدل على أنه أراد كفار هذه القابائل ' لا مسلميها ؛ لأن الخيبة والخسران المطلق لا يكون لإلا لأهل الكفر , ويدل عليه : مدح المسلمين من بني تميم في الحديث الآتي بعد هذا ، والله تعالى أعلم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بني تميم : (( هم أشد أمتي على الدجال )) ؛ تصريح بأن بني تميم لا ينقطع نسلهم إلى يوم القيامة ، وبأنهم يتمسكون في ذلك الوقت بالحق ، ويقاتلون عليه ، وفي الرواية الأخرى : (( هم أشد الناس قتالاً في الملاحم )) ، يعني : الملاحم التي تكون بين يدي الدجال ، أو مع الدجال ، والله تعالى أعلم .
ومن باب خيار الناس
(9/262)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تجدون الناس معادن )) ؛ أي : كالمعادن ، وهو مثل ، وقد جاء في حديث آخر : (( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة )). ووجه التمثيل : أن المعادن مشتملة على جواهر مختلفة ، منها النفيس ، والخسيس ، وكل من المعادن يخرج ما في أصله ، وكذلك الناس كل منهم يظهر عليه ما في أصله ؛ فمن كان ذا شرف في الجاهلية فأسلم لم يزده الإسلام إلا شرفًا ؛ فإنَّ تفقه في دين الله ، فقد وصل إلى غاية الشرف ؛ إذ قد اجتمعت له أسباب الشرف كلها ، فيصدق عليه قوله : (( فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )). والمعادن : واحدها معدن - بكسر الدال - ؛ لأنَّه موضع العدن ؛ أي : الإقامة اللازمة ، ومنه : جنات عدن ، وسمي المعدن بذلك ؛ لأنَّ الناس يقيمون فيه صيفًا وشتاءً . قاله الجوهري .
---
وقوله في : (( وتجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم فيه )) ؛ هكذا الرواية : "من خير الناس " وهي لبيان جنس الخيرية ؛ كأنه قال : تجدون أكره الناس في هذا الأمر من خيارهم ، ويصح أن يقال على مذهب الكوفيين : إنها زائدة ؛ فإنَّهم يجيزون زيادة " من " في الموجب ، كما تقدَّم. ويعني بالأمر : الولايات ؛ وإنَّما يكون من يكرهها من خير الناس ، إذا كانت كراهته لها لعنة تعظيم حقوقها ، وصعوبة العدل فيها ، ولخوفه من مطالبة الله تعالى بالقيام بذلك كله ، ولذلك قال فيها : "نعمت المرضعة ، بئست الفاطمة" ، وكفى بذلك ما تقدَّم من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ما من أمير عشيرة إلا يؤتى يوم القيامة مغلولاً ، حتى يفكه العدل ، أو يوبقه الجور"(2). وذكر ذي الوجهين : مفسَّر في الحديث ، إنَّما كان ذو الوجهين شر الناس ؛ لأنَّ حاله حال المنافقين ؛ إذ هو متملق بالباطل والكذب ، يدخل الفساد .. . الناس ، والشرور ، والتقاطع ، والعداوة ، والبغضاء .
(9/263)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "خير نساء ركنن الإبل : صالح نساء قريش " هذا تفضيل لنساء قريش على نساء العرب خاصة ؛ لأنَّهم أصحاب الإبل غالبًا ، وقد جاء في الرواية الأخرى : (( خير نساء ركبن الإبل ؛ نساء قريش )) ولم يذكر : (صالح ). وهو مراد حيث سكت عنه ، ويحمل مطلق إحدى الروايتين على مقيد الأخرى ، وهو مما اتفق عليه من أقسام حمل المطلق على المقيد كما حققناه في الأصول . ويعني بالصلاح هنا : صلاح الدين ، وصلاح المخالطة للزوج وغيره ، كما دل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أحناه على يتيمًا وولد ، وأرعاه على زوج ، . والحنو : الشفقة . والرعي : الحفظ والصيانة . والله أعلم .
ومن باب : المؤاخاة التي كانت ببن المهاجرين والأنصار
---
(9/264)
قوله : آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أبي عبيدة بن الجراح ، وبين أبي طلحة رضي الله عنهما ؛ المؤاخاة : مفاعلة من الأخوة ، ومعناها : أن يتعاقد الرجلان على التناصر والمواساة ، والتوارث حتى يصيرًا كالأخوين نسبًا ، وقد يسمى ذلك : حلفًا ، كما قال أنس رضي الله عنه : قد حالف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين قريش والأنصار في داره بالمدينة ، وكان ذلك أمرًا معروفًا في الجاهلية ، معمولاً به عندهم ، ولم يكونوا يسمُّونه إلا حلفًا ، ولما جاء الإسلام عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به ، ووزث به على ما حكاه أهل السير ، وذلك أنهم قالوا : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آخى بين أصحابه مرتين : بمكة قبل الهجرة ، وبعد الهجرة . قال أبو عمر : والصحيح عند أهل السير والعلم بالاثار والخبر في المؤاخاة التي عقدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المهاجرين والأنصار حين قدومه إلى المدينة بعد بنائه المسجد على المواساة والحق ، فكانوا يتوارثون بذلك دون القرابات ، حتى نزلت : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } ، فآخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين علي بن أبي طالب ونفسه ، فقال له : "أنت أخي وصاحبي " ، وفي رواية "أنت أخي في الدنيا والآخرة". وكان علي رضي الله عنه يقول : أنا عبد الله ، وأخو رسوله ، لم يقلها أحدٌ قبلي ، ولا يقولها أحدٌ بعدي إلا كذاب مفتر. وآخى بين أبي بكر الصديق وبين خارجة بن زيد ، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك ، وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخي حسان بن ثابت ، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع ، وبين الزبير وسلمة بن سلامة بن وِقْش ، وبين طلحة وكعب بن مالك ، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ ، وبين سعد ومحمد بن مسلمة ، وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب ، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب ، وبين عمار وحذيفة ابن اليمان ، حليف بني عبد الأشهل ، وقيل : بين عمار وتابت
(9/265)
بن قيس ، وبين أبي حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر ، وبين أبي ذر والمنذر بن عمرو ، وبين ابن مسعود وسهل بن حنيف ، وبين سلمان الفارسي ،
---
وأبي الدرداء ، وبين بلال وأبي رويحة الخثعمي ، وبين حاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة ، وممين عبد الله بن جحش وعاصم بن ثابت ، وبين عبيدة بن الحارث وعمير بن الحمام ، وبين الطفيل بن الحارث -أخيه - وسفيان بن بشر ، وبين الحصين بن الحارث -أخيهما - وعبد الله بن جبير ، وبين عثمان بن مظعون والعباس بن عبادة ، وبين عتبة بن غزوان ومعاذ بن ماعص ، وبين صفوان بن بيضاء ورافع بن المعلى ، وبين المقداد بن عمرو وعبد الله بن رواحة ، وبين ذى الشمالين ويزيد بن الحارث من بني خارجة ، وبين أبي سلمة بن عبد الأسد وسعد بن خيثمة ، وبين عمير بن أبي وقاص وخبيب بن عدي ، وبين عبد الله بن مظعون وقطبة بن عامر ، وبين شماس بن عثمان وحنظلة بن أبي عامر ، وبين الأرقم بن أبي الأرقم وطلحة بن زيد الأنصاري ، وبين زيد بن الخطاب ومعن بن عدي ، وبين عمرو بن سراقة وسعد بن زيد من بني عبد الأشهل ، وبين عاقل بن البكير ومبشر بن عبد المنذر ، وبين عبد الله بن مخرمة وفروة بن عمرو البياضي ، وبين خنيس بن حذيفة والمنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح ، وبين أبي سبرة بن أبي رهم وعبادة بن الحسحاس ، وبين مسطح بن أثاثة وف بد بن المزين ، وبين أبي مرثد الغنوي وعبادة بن الصامت ، وبين عُكاشة بن محصن والمجذر بن زياد حليف الأنصار ، وبين عامر بن فهيرة والحارث ابن الضة ، وبين مهجع مولى عمر وسراقة بن عمرر النجاري .
(9/266)
قال : وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آخى بين المهاجرين قبل الهجرة أعلى الحق والمواساة ، فآخى بين أبي بكر رعمر ، وبين حمزة وزيد بن حارثة ، وبين عثمان وعبدالرحمن بن عوف ، وبين الزبير وابن مسعود ، وبين عبيدة بن الحارث وبلال ، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص ، وبين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله ، أرضي الله عن جملة المهاجرين والأنصار .
---
قلت : وقد جاء في كتاب مسلم من حديث أنس : أنه آخى بين أبي عبيدة ابن الجراح وبين أبي طلحة ، وقال أبو عمر : إنه آخى بين أبي عبيدة وبين سعد بن معاذ . والأولى ما في كتاب مسلم . وقوله : (( لا حلف في الإسلام )) ؛ أي : لا يتحالف أهل الإسلام كما كان أهل الجاهلية يتحالفون ، وذلك أن المتحالفين كانا يتناصران في كل شيء ، فيمنع الرجل حليفه ؛ وإن كان ظالمًا ، ويقوم دونه ، ويدفع عنه بكل ممكن ، فيمنع الحقوق ، وينتصر به على الظلم ، والبني ، والفساد ، ولما جاء الشرع بالانتصاف من الظالم ، وأنه يؤخذ منه ما عليه من الحق ، ولا يمنعه أحذ من ذلك ، وحد الحدود ، وبتن الأحكام ، أبطل ما كانت الجاهلية عليه ممن ذلك ، وبقي التعاقد والتحالف على نضرة الحق ، والقيام به ، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عامًا على من قدر عليه من المكلَّفين .
ثم إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خصَّ أصحابه من ذلك بأن عقد بينهم حلفًا على ذلك مرتين -كما تقدَّم - تأكيدًا للقيام بالحق والمواساة ، وسمَّى ذلك أخوة مبالغة في التأكيد والتزام الحرمة ؛ ولذلك حكم فيه بالتوارث حتى تمكن الإسلام ، واطمأنت القلوب ، فنسخ الله تعالى ذلك بميراث ذوي الأرحام .
(9/267)
وقوله : (( وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدَّة )) ؛ يعني من نصرة الحق ، والقيام به ، والمواساة ، وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره حلف ابن إسحاق . قال : اجتمعت قبائل من قريش في دار عبدالله بن جدعان لشرفه ونسبه ، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها ، أو غيرهم ، إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته ، فسمَّت قريش ذلك الحلف : حلف الفضول ؛ أي : حلف الفضائل ، والفضول هنا جمع فضل للكثرة ، كفنسي وفلوس . وروى ابن إسحاق عن ابن شهاب قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لقد شهدت قي دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحبُّ أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت )) .
---
وقال ابن إسحاق : تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن علي في مال له لسلطان الوليد ؛ فإنَّه كان أميرًا على المدينة . فقال له حسين : أحلفت بالله لتنصفني ، من حقي ، أو لأخذن سيفي ، ثم لأقومن في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم لأدعون بحلف الفضول ، قال عبد الله بن الزبير : وأنا أحلف بالله لئن دعانا لآخذن سيفي ، ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه ، أو نموت جميعًا ، وبلغت المسور بن مخرمة ، فقال مثل ذلك ، وبلغت عبد الله بن عثمان بن عبيد الله التيمي ، فقال مثل ذلك ، فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه .
ومن باب قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنا أمنة لأصحابي )), وخير القرون
الأمنه : الأمن ، ومنه قوله تعالى : { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } ؛ أي : أمنًا. وفي بذلك : أن الله تعالى رفع عن أصحابه الفتن ، والمحن ، والعذاب مدة كونه فيهم ، كما قال تعالى : { وماكان الله ليعذبهم وأنت فيهم } ، فلما تولي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاءت الفتن ، وعظمت المحن ، وظهر الكفر والنفاق ، وكثر الخلاف والشقاق ، فلولا تدارك الله هذا الدين بثاني اثنين لصار أثرًا بعد عين ، وهذا الذي وعدوا به .
(9/268)
وقوله : (( النجوم أمنة للسماء )) ؛ أي : ما دامت النجوم فيها لم تتغير بالانشقاق ، ولا بالانفطار ، فإذا انتثرث نجومها ، وكورت شمسها ، جاءها ذلك ، وهو الذي وعدت به .
وقوله : (( وأصحابي أمنة لأمتي )) ؛ يعني : أن أصحابه ما داموا موجودين كان الدِّين قائمًا ، والحق ظاهرًا ، والنصر على الأعداء حاصلاً ، ولما ذهب أصحابه لأمته غلبت الأهواء ، وأديلت الأعداء ، ولا يزال أمر الدِّين متناقصًا ، وجده ناكصًا إلى أن لا يبقى على ظهر الأرض أحد يقول : الله ، الله . وهو الذي وعدت به أمته ، والله تعالى أعلم .
---
وقوله : (( خير أمتي قرني ، ثم الذبن يلونهم ، ثم الذين يلونهم )) ؛ القرن القرو - بسكون الراء - من الناس : أهل زمان واحد . قال الشاعر : إذا إذَا ذَهَبَ القَرن ، الذي أنتَ فِيهِمُ وخُلِّفْتَ في قَرْنٍ فأَنتَ غَرِيبُ
(9/269)
وقيل : مقدار زمانه : ثمانون سنة ، وقيل : ستون ، ويعني : أن هذه القرون الثلاثة : أفضل مِمَّا بعدها إلى يوم القيامة ، وهذه القرون في أنفسها متفاضلة ، فأفضلها : الأول ، ثم الذي بعده , ثم الذي بعده . هذا ظاهر الحديث . فأما أفضلية الصحابة ، وهم القرن الأول على من بعدهم ، فلا تخفى ، وقد بثنا إبطال قول من زعم أنه يكون فيمن بعدهم أفضل منهم ، أو مساو لهم في كتاب الطهارة. وأما أفضلية من بعدهم ، بعضهم على بعضى ، فبحسب قربهم من القرن الأول ، وبحسب ما ظهر على أيديهم من إعلاء كلمة الدين ، ونشر العلم ، وفتح الأمصار ، وإخماد كلمة الكفر. ولا خفاء : أن الذي كان من ذلك في قرن التابعين كان أكثر وأغلب مما كان في أتباعهم ، وكذلك الأمر في الذين بعدهم ، ثم بعد هذا غلبت الشرور ، وارتُكبت الأمور ، وقد دلَّ على صحة هذا قوله في حديث أبي سعيد : (( يغزو فئام من الناس ، فيقال : هل فيكم من صحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فيقال : نعم ، فيفتح لهم . . . )) الحديث . والفئام : الجماعة من الناس ، لا واحد له من لفظه ، وهو مهموز ، والعامة تترك همزه .
وقول عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين ، أو ثلاثا ؛ هذا الذي شك فيه عمران قد حققه عبد الله بن مسعود بعد قرنه ثلاثًا ، وكذلك في حديث أبي سعيد في البعوث ؛ فإنَّه ذكر أنهم أربعة .
---
(9/270)
وقوله : (( تبدر شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته )) ، يعني بذلك : أنه يقل أحلم ورع الناس بعد القرن الرابع ، فيقدمون على الأيمان والشهادات من غير توقف ولا بعد تحقيق ، وقال في حديث عمران : "يشهدون ولا يستشهدون " أي : يسبقون بأداء الشهادة قبل أن يسألوها ، وذلك لهوىً لهم فيها ، ومن كان كذلك ردَّت شهادته ، وقد بينا فيما تقدَّم مواضع يتعين فيها على الشاهد الأداء وإن لم يسأل ، وذلك بحسب ما تدعو إليه الضرورة الشرعية ، وعليه يحمل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها )). ويحتمل أن يراد بقوله : "ولا يستشهدون " أنهم : يشهدون بالزور فيكون معناه : يشهدون بما لم يستشهدوا به ، ولا شاهدوه ، والأول أولى ؛ لأنَّه أصل الكلمة .
وقوله : (( ويظهر فيهم السِّمن )) ؛ أي : يغلب عليهم النَّهم والشهوات ، ويُكثرون الأكل , فيظهر عليهم السمن ، وقد يأكلون ليسمنوا ؟ فإنَّه محبوبٌ لهم ، ومن كان هذا حاله خرج عن الأكل الشرعي ، ودخل في الأكل الشَّرِّي الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما ملأ آدمي وعاءً شرًّآ من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإنَّ كان ولا بد ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه )).
وقول إبراهيم النَّخعي : كانوا ينهوننا ونحن غلمان عن العهد والشهادات يعني : من أدرك ، وقد أدرك التابعين ، فكانوا يزجرون الصبيان عن اعتياد إلزام أنفسهم العهود والمواثيق ، لما يلزم الملتزم من الوفاء ، فيحرج أو يأثم بالترك ، وكذلك عن تحمل الشهادات لما يلزم عليه من مشقة الأداء ، وصعوبة التخلص من آفاتها في الدنيا والآخرة ، وكل ذلك من السلف رضي الله عنهم تعليم للصغار ، وقد ريب لهم ، على ما يجتنبونه في حال كبرهم .
وقوله : (( ويخونون ولا يؤتمنون )) ؛ يعني : أنهم تشتهر خيانتهم ، فلا يأمنهم أحد ، وهذا نحو مِمَّا تقدَّم في حديث حذيفة في الأمانة .
---
(9/271)
وقوله : (( تغزو فئام من الناس . . . إلى آخره )) ؛ دليل واضح على صحة نبوَّة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ مضمونه : خبر عن غيب وقع على نحو ما أخبر. وقوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما : (( أرأيتكم ليلتكم هذه فإنَّ رأس مئة سنة من هذه لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد )) ، هذا الحديث رواه مسلم من طريقين ، ذكر الأول منهما متصلاً ، ثم أردف عليه سندًا آخر فيه انقطاع ، ولا يعتب عليه في ذلك ؛ إذ قد وفى بشرط كتابه في الطريق الأول ، ثم زاد بعد ذلك السند المنقطع . وقد استشكل بعض من لم يثبت عنده حديث ابن عمر إذ لم يفهم معناه ، فردَّه بأن قال : حديث منقطع ، وهذا ليس بصحيح على ما قررناه ، ثم لو سلم أن حديث ابن عمر ليس بصحيح فحديث جابر وأبي سعيد في الباب صحيحان ، فما توله فيه , وقد رفع الصحابي - أعني : ابن عمر ذلك الإشكال - بقوله : أراد بذلك أن ينخرم ذلك القرن ، بل : قد جاء من حديث جابر بلفظ لا إشكال فيه ، فقال : (( ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مئة سنة ، وهي حيه يومئذ )), وهذا صريح في تحقيق ما قاله ابن عمر ، وكذلك قول عبد الرحمن - صاحب السقاية - حيث فسَّره : بنقص العمر ، وحاصل ما تضمنه هذا الحديث : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر قبل موته بشهر : أن كل من كان من بني آدم موجودًا في ذلك الوقت لا يزيد عمره على مئة سنة ؛ وإنَّما قلنا : إنه أراد بني آدم ؛ لأنَّه قال : من نفس منفوسة" ، ولا يتناول هذا الملائكة ، ولا الجن ؛ إذا لم يصح عنهم أنهم كذلك ، ولا الحيوان غير العاقل ؛ إذ قال فيه : (( ممن هو على ظهر الأرض أحد )). وهذا إنما يقال بأصل وضهع على من يعقل ، فتعين : أن المراد بنو آدم ، وقد استدل بعض الحفاظ المتأخرين على بطلان قول من يقول : إن الخضر في بعموم : "ما من نفس منفوسة" فإنَّه من أنص صيغ العموم على الاستغراق ، وهذا لا حجَّة فيه يقينية ؛ لأنَّ العموم - وإن كان مؤكدًا للاستغراق -
(9/272)
فليس نصًّا فيه ، بل : هو قابل للتخصيص ، لا
---
سيما والخضر وإن كان حيًّا - كما يقال - فليس مشاهدًا للناس ، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضًا ، فمثل هذا العموم لا يتناوله كما لم يتناول عيسى عليه السلام ؛ فلأنه لم يمت ، ولم يقتل ، فهو حي بنص القرآن ، ومعناه . وكما لم يتناول الدجال مع أنه في بدليل حديث الجساسة على ما يأتي ؛ فإنَّ قيل : إنما لم يتناول هذا العموم عيسى ؛ لأنَّ الله قد رفعه إليه ، فليس هو على ظهر الأرض ؛ لأنَّ المراد بذلك العموم : من كان من النفوس على ظهر الأرض ، كما نص عليه في حديث ابن عمر. فالجواب : يمنع عموم الأرض المذكورة فيه ؛ فإنه اسم مفرد دخل عليه الألف واللام ، وير محتملة للعهد والجنس ، وهي ها هنا للعهد ؛ لأنَّ الأرض التي يخاطبون بها ، ويخبرون عن الكون فيها : هي أرض العرب ، وما جرت عادتهم بالتصرف إليها وفيها غالبًا ، دون أرض يأجوج ومأجوج ، وأقاصي جزائر الهند والسند ، مما لا يقرع السمع اسمه ، ولا يعلم علمه ، ولا جواب عن حديث الدجال . وعلى الجملة : فمن يستدل في المباحث القطعية بمثل هذا العموم فليس لكلامه حاصل ولا مفهوم . وسيأتي القول على قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة )) في آخر كتاب الفتن .
وقول ابن عمر : فوهل الناس في مقالة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ الرواية الصحيحة : وهل - بفتح الهاء - قال أبو عبيد : يريد : غلط ، يقال : وهل إلى الشيء يهل ، ووهم إلى الشيء يهم ، وهلا ووهمًا. قال أبو زيد : وهل في الشيء ، وعن الشيء يوهل وهلاً : إذا غلط فيه وسها ، ووهلت إليه بالفتح - وهلاً : إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره .
(9/273)
قلت : وعلى ما حكاه أبو زيد يكون الصواب في وهل الذي في هذا الحديث : كسر الهاء ؛ لأنَّه هو الذي يتعدى بـ ( في ) ، ويشهد له المعنى ، وأما وهل بالفتح فيتعدى بـ ( إلى ) ، والمعنيان متقاربان ، ويمكن أن يقال : إن وهل في الشيء فيه لغتان : الفتح والكسر. والله أعلم .
---
ومن باب : وجوب احترام أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
---
من المعلوم الذي لا يشك فيه : أن الله تعالى اختار أصحاب نبيه لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولإقامة دينه ، فجميع ما نحن فيه من العلوم ، والأعمال ، والفضائل ، والأحوال ، والمتملكات ، والأموال ، والعز ، والسلطان ، والدين ، والإيمان ، وغير ذلك من النعم التي لا يحصيها لسان ، ولا يتسع لتقديرها زمان إنما كان بسببهم . ولما كان ذلك وجب علينا الاعتراف بحقوقهم والشكر لهم على عظيم أياديهم ، قيامًا بما أوجبه الله تعالى من شكر المنعم ، واجتنابًا لما حرمه من كفران حقه ، هذا مع ما تحققناه من ثناء الله تعالى عليهم ، وتشريفه لهم ، ورضاه عنهم ، كقوله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } إلى قوله : { محمد رسول الله } ، وقوله : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار }, وقوله : { للفقراء المهاجرين }, إلى غير ذلك ، وكقوله ت : "إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين , إلى غير ذلك من الأحاديث المتضمنة للثناء عليهم رضي الله عنهم أجمعين . وعلى هذا فمن تعرض لسبهم ، وجحد عظيم حقهم ، فقد انسلخ من الإيمان ، وقابل الشكر بالكفران ، ويكفي في هذا الباب ما رواه الترمذي من حديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "الله ! الله ! في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضًا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه "(2) . فقال : هذا حديث
(9/274)
غريب . وهذا الحديث ، وإن كان غريب السند فهو صحيح المتن ؛ لأنَّه معضود بما قدمناه من الكتاب وصحيح السنة وبالمعلوم من دين الأمة ؛ إذ لا خلاف في وجوب احترامهم ، وتحريم سبهم ، ولا يختلف في أن من قال : إنَّهم كانوا على كفر أو ضلال كافر يقتل ؛ لأنَّه أنكر معلومًا ضروريًا من الشرع ، فقد كذب الله ورسوله فيما أخبرا به عنهم . وكذلك الحكم فيمن كفر أحد الخلفاء الأربعة ، أو ضللهم . وهل
---
حنهمه حكم المرتد فيستتاب أو حُكم الزنديق فلا يستتاب ويقتل على كل حال . هذا مِمَّا يختلف فيه ، فأمَّا من سبهم بغير ذلك ؛ فإنَّ كان سبًّا يوجب حدًّا كالقذف حُدَّ حدَّه ، ثم ينكل التنكيل الشديد من الحبس ، والتخليد فيه ، والإهانة ما خلا عائشة رضي الله عنها ، فإنَّ قاذفها يقتل ؛ لأنَّه مكذِّبٌ لما جاء في الكتاب والسنة من براءتها . قاله مالك وغيره . ماج واختلف في غيرها من أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقيل : يقتل قاذفها ؛ لأنَّ ذلك أذى للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقيل : يُحد ويُنكل ، كما ذكرناه على قولين . وأما من سبَّهم بغير القذف ؛ فإنه يجلد الجلد الموجع ، ويُنكل التنكيل الشديد ، قال ابن حبيب : ويخلد سجنه إلى أن يموت . وقد روي عن مالك : من سبَّ عائشة قتل مطلقًا ، ويمكن حفله على السَّب بالقذف ، والله تعالى أعلم .
---
(9/275)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تسبُّوا أصحابي ... )) الخ . رواه أبو هريرة مجردًا عن سببه ، وقد رواه أبو سعيد الخدري ، وذكر أن سبب ذلك القول هو : أنه كان بين خالد بن الوليد ، وبين عبد الرحمن بن عوف شيء ؛ أي : منازعة ، فسبَّه خالد ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك القول ، فأظهر ذلك السبب أن مقصود هذا الخبر زجر خالد ، ومن كان على مثل حاله ممن سبق بالإسلام ، وإظهار خصوصية السابق بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأن السابقين لا يلحقهم أحد في درجتهم ؟ وإن كان أكثر نفقة وعملا منهم ، وهذا نحو قوله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل }, الحديد. ويدل على صحة هذا المقصود : أن خالدًا وإن كان من الصحابة رضي الله عنهم , لكنَّه متأخر الإسلام . قيل : أسلم سنة خمس ، وقيل : سنة ثمان . لكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما عدل عن غير خالد وعبدالرحمن إلى التعميم دلَّ ذلك على : أنه قصد مع ذلك تقعيد قاعدة تغليظ تحريم سب الصحابة مطلقًا ، فيحرم ذلك من صحابي وغيره ؛ لأنَّه إذا ما بين حاصرتين سقط من حرم على صحابي فتحريمه على غيره أولى . وأيضًا : فإنَّ خطابه ؛ للواحد خطاب للجميع ، وخطابه للحاضرين خطاب للنائبين إلى يوم القيامة . والنصيف لغة : في النصف ، وكذلك الثمين لغة : في الثمن .
ومن باب ما ذكر في أويس القرني رضي الله عنه
---
(9/276)
اختلف في نسبه ، فقيل : أويس بن عامر بن جزء بن مالك ، وهو الصحيح . نسبه وقيل : أويس بن أنيس ، وقيل : أويس بن الخليص المرادي ، ثم القرني - بفتح الراء - منسوب إلى قرن ، قبيلة معروفة . كان رحمه الله من أولياء الله المختفين صفاته الذين لا يؤبه لهم ، ولولا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر عنه ، ووصفه بوصفه ، ونعته ، وعلامته لما عرفه أحد ، وكان موجودًا في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآمن به ، وصدَّقه ، ولم يلقه ، ولا كاتبه ، فلم يعد في الصحابة . وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه من التابعين حيث قال : " أنَّه خير التابعين ". وقد اختلف في زمن موته ، فروي عن عبد الله بن سلمة قال : غزونا أذربيجان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعنا أويس القرني, فلما رجعنا مرض علينا , فحملناه فلم يستمسك فمات, فنزلنا , فإذا قبر محفور , وماء مسكوب, وكفن وحنوط, فغسلناه, وكفَّناه,وصلينا عليه, فقال بعضنا لبعض : لو رجعنا فعلمنا قبره ، فإذا لا قبر ولا أثر .
وروي عن عبدالرحمنبن بأبي ليلى قال : نادى رجل من أهل الشام يوم صفين : أفيطم أويس القرني . فقلنا : نعم , قال : إني سمعت رسول الله يقول : (( أويس القرني خير التابعين بإحسان )). وعطف دابته فدخل مع أصحاب علي . قال عبدالرحمن : فوجد في قتلى أصحاب علي رضي الله عنهم .
وله أخبار كثيرة ,وكرامات ظاهرة , ذكرها أبو نعيم , وأبو الفرج الجوزي في كتبيهما . وأويس الذي تصغير أوس , وأوس : الذئب , وبه سنمِّي الرجل, وقيل : إنه س ، مِّي بأوس الذي هو مصدؤ أُست ، الرجل أوسًا : إذا أعطيته ، فالأوس : العطية .
---
(9/277)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن استعطت أن يستغفر لك فاعفعل )) ؛ لا يُفهم منه أنه أفضل من عمر ، ولأن عمر غير مغفور له ؛ للإجماع على أن عمر رضي الله عنه أفضل منه ؛ ولأنَّه تابع ، والصحابي أفضل من التابعي ، على ما بيناه غير مرَّة ، إنَّما مضمون ذلك : الإخبار بأن أويسًا ممن يستجاب دعاءه . وإرشاد عمر إلى الازدياد من الخير ، واغتنام دعوة من ترتجى إجابته ، وهذا نحو مما أمرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به من الدعاء له ، والصلاة عليه ، وسؤال الوسيلة له ، وإن كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل ولد آدم . ويروى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لرجل خرج ليعتمر : (( أشركنا في دعائك يا أُخي )).
وقوله : "في أمداد أهل اليمن ؛ أي : في جماعاتهم ، جمع مدد ، وذلك أنهم يمد بهم القوم الذين يقدمون عليهم .
وقوله : أحدث عهدًا ؛ أي : أقرب ، وعهدًا : منصوب على التمييز ، كقوله تعالى : { هم أحسن أثاثًا ورئيًا }.
وقوله : أكون في غبراء الناس ؛ الرواية الجيدة فيه : بفتح الغين المعجمة ، وسكون الباء الموحدة ، وهمزة ممدودة ، ويعني به : فقراء الناس وضعفاءهم . والغبراء : الأرض ، ويقال للفقراء : بنو غبراء ، كان الفقر والحاجة ألصقتهم بها ، كما قال تعالى : { أو مسكينًا ذا متربة } ؛ أي : ذا حاجة ألصقته بالتراب . ومن هذا سقوا الفقر : أبا متربة . وقد روي ذلك اللفظ في غبر الناس -بضم الغين وتشديد الباء- جمع غابر ، نحو : شاهد وشُهَّد ، ويعني به : بقايا الناس ومتأخريهم ، وهم ضعفاء الناس ؛ لأنَّ وجوه الناس ورؤساءهم يتقدمون للأمور ، وينهضون بها ، وبتفاوضون فيها ، ويبقى الضعفاء لا يلتفت إليهم ، ولا يؤبه بهم ، فأراد أويس أن يكون خاملاً بحيث يبقى لا يلتفت إليه ، طالبًا السلامة ، وظافرًا بالغنيمة.
(9/278)
وحديث أويس هذا دليل من أدلة صحَّة صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فإنَّه أخبر عنه باسمه ، ونسبه ، وصفته ، وعلامته ، وأنه يجتمع بعمر رضي الله عنه , وذلك كله من باب الإخبار بالغيب الواقع على نحو ما أخبر به من غير ريب .
---
ومن باب : ما ذكر في مصر وأهلها وأهل عمان
قوله : (( إنكم ستفتحون مصر ، وهي أرض يسمََّّى فيها القيراط )) ؛ هذا إخبار بأمر غيب ، وقع على نحو ما أخبر ، فكان دليلاً من أدلة نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ومعنى يسمى من فيها القيراط : يعني به : أنه يدور على ألسنتهم كثيرًا ، وكذلك هو ؛ إذ لا ينفك متعاملات من أهل مصر عن ذكره غالبًا ؛ لأنَّ أجزاء الدنيا الأربعة والعشرين يسمونها : قراريط ، وقطع الدراهم يسمونها : قراريط ، بخلاف غيرهم من أهل الأقاليم ، فإنَّهم يسمُّون ذلك بأسماء أخر ، فأهل العراق يسمُّون ذلك : طسُّوجًا ورزة ، وأهل الشام : قرطيس ، ونحو ذلك .
وقوله : (( فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها ، فإنَّ لهم ذمة ورحمًا ، أو قال : صهرًا )) ؛ الذمة : الحرمة . والذمام : الاحترام ، وقد يكون ذلك لعهد سابق كعهد أهل الذمَّة ، وقد يكون ذلك ابتداء إكرام ، وهذا هو المراد بالذمة هنا ، والله تعالى أعلم ؛ إذ لم يكن لأهل مصر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهد سابق ، وإنما أراد : أن لهم حقًّا لرحمهم ، أو صهرهم ، ويحتمل أن يكون معناه : أنهم يكون لهم عهد بما ينقد لهم من ذلك حين الفتح . وهذا التأويل على بُعده يعضده ما رواه ابن هشام من حديث عمر مولى عفرة : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( الله ! الله في أهل المدرة السوداء السُّحم
---
(9/279)
الجعاد ؛ فإنَّ لهم نسبًا وصهرًا )). قال عمر : فنسبهم : أن أم إسماعيل منهم ، وصهرهم : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسرى منهم . قال ابن لهيعة : أم إسماعيل هاجر من أم العرب : قرية كانت أمام الفرما ، وأم إبراهيم مارية سرية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي أهداها له المقوقس من حَفْن من كورة أنصنا. والمدرة : واحدة المدر ، والعرب تسمي القرية : المدرة ، وأهل المدر : أهل القرى . والسحم : السود ، جمع أسحم ، وهو الشديد الأدمة ، وفوقه : الصحمة - بالصاد -. والجعاد : المتكسرو الشعور ، وهذه أوصاف أهل صعيد مصر غالبًا ، وقد تقدَّم ذكر هاجر. والفرما : قرية من عمل صعيد مصر ، سميت باسم بانيها ، وهو الفرما بن قليقس ، ويقال : ابن قليس ، ومعناه : محب الغرس ، وهو أخو الإسكندر بن قليس اليوناني ، ذكره الطبري , وذكر أن الإسكندر حين بنى الإسكندرية ، قال : أبني مدينة فقيرة إلى الله غنية عن الناس ، وقال الفرما : أبني مدينة غنية عن الله فقيرة إلى الناس ، فسلَّط الله تعالى عليها الخراب سريعًا ، فذهب رسمها وبقيت الإسكندرية . وسميت مصر بمصر بن النبيط ولد كوش بن كنعان ، وقال أبو العباس : اشتقاق مصر من المصر ، وهو القطع ، كأنها قُطعت من الخراب ، ومنه : المصر : الحاجز ، ومصور الدار : حدودها. وحفن : قرية ماربة سُرِّية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصعيد معروفة ، وهي التي كلم الحسن بن علي معاوبة أن يضع الخراج عن أهلها لوصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهم ، ففعل معاوية ذلك ، ذكره أبو عبيد في "الأموال " . وأنصنا : مدينة السحرة ، وحفن من عملها ، والمقوقس : هو ملك مصر بعث له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاطب بن أبي بلتعة ، وجبرًا مولى أبي رُهم بكتاب ، فلم يبعد عن الإسلام ، وأهدى له مارية ، ويقال : وأختها سيرين ، وبغلة تسمَّى : الدَّلدل . والدلدل : القنفذ العظيم . والمقوقس : المطوِّل للبناء . يقال
(9/280)
في المثل : أنا في القوس ، وأنت بالقوقوس فمتى نجتمع ؟!
---
وقوله : (( فإذا رأيتم رجلين يختصمان فيها في موضع لبنه فاخرج منها )) ؛ يعني بذلك : كثرة أهلها ، ومشاحتهم في أرضها ، واشتغالهم بالزراعة والغرس عن الجهاد ، وإظهار الدين ، ولذلك أمره بالخروج منها إلى مواضع الجهاد ، ويحتمل أن يكون ذلك ؛ لأنَّ الناس إذا ازدحموا على الأرض ، وتنافسوا في ذلك كثرت خصومتهم ، وشرورهم ، وفشا فيهم البخل ، والشر ، فيتعين الفرار من محل يكون كذلك ، إن وجد محلَّا آخر خليًا عن ذلك ، وهيهات كان هذا في الصدر الأول ، وأما اليوم ، فوجود ذلك في غاية البعد ؛ إذ في كل بنو سعد . واللبنة : الطوبة ، وتجمع لبن . وفيه من الفقه : الأمر بالرفق بأهل أرياف مصر ، وصعيدها ، والإحسان إليهم ، وخصوصًا أهل تينك القريتين ، لما ذكر من تينك الخصوصتين .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لو أن أهل عمان أتيت ما سبُّوك ولا ضربوك )) ؛ يروى عُمان بضم العين ، وتخفيف الميم - وهو موضع بالشام ، ويعني : أن أهل عمان قوم فيهم علم ، وعفاف ، وتثبُُّت ، والأشبه : أنهم أهل عمان التي قِبل اليمن ؛ لأنَّهم ألين قلوبًا ، وأرق أفئدة ، وأما أهل عمان الشام فسلامة لك منهم وسلام ، وأهل هذين الاسمين من عمن بالمكان : أقام به ، ويقال : أعمن الرجل : إذا صار إلى عمان .
ومن باب في ثقيف كذاب ومبير
---
(9/281)
قول أبي نوفل : رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة ؛ يعني : أنه رآه مصلوبًا على خشبة على عقبة المدينة ، صلبه الحجاج بعد أن قتل في المعركة منكسًا ، وكان من حديثه ما قد تقدَّم بعضه ، وذلك أنه لما مات معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، ولم يولِّ أحدًا ، بقي الناس لا خليفة لهم ، ولا إمام مدة قد تقدَّم ذكرها ، فعند ذلك بايع الناس لعبد الله بن الزبير بمكة ، واجتمع على طاعته أهل الحجاز ، وأهل اليمن ، والعراق وخراسان ، وحج بالناس ثماني حجج ، ثم بايع أهل الشام لمروان بن الحكم ، واجتمع عليه أهل الشام ، ومصر ، والمغرب ، وكان ابن الزبير أولى بالأمر من مروان وابنه على ما قاله مالك - وهو الحق - لعلم ابن الزبير ، وفضله ، وبيته ، فجرت بينهم حروب وخطوب عظيمة ، إلى أن توفي مروان وولي عبد الملك ، واستفحل أمره بالحجاج ، فوجه الحجاج إلى مكة في الزير بجيش عظيم ، فحاصر فيها عبد الله بن الزبير مدة ستة أشهر وسبعة عشر يومًا ، ثم دخل عليه ، فقتل يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى . وقيل : جمادى الآخرة ، سنة ثلاث وسبعين ، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة . قال المدائني : بويع له بالخلافة سنة أخمس وستين ، وكان قبل ذلك لا يدعى باسم الخلافة ، وقال غيره : بويع له بالخلافة سنة أربع وستين , ثم بقي مصلوبًا على خشبة إلى أن رحل عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان ، فرغب إليه أن ينزل الخشبة فاشفعه ، فأنزل . قال ابن أبي مليكة : كنت الآذن لمن بشر أسماء بنزول ابنها عبدالله بن الزبير من الخشبة ، فدعت بمركن وشبَّ يمان ، وأمرتني بغسله ، فكنَّا لا نتناول عضوًا إلا جاء معنا , وكنا نغسل العضو ، ونضعه في أكفانه حتى فرغنا منه ، وكانت أمه أسماء تقول قبل ذلك : اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته ، فما أتت عليها جمعة حتى ماتت . وفي مدة صلبه مرَّ به ابن عمر فقال : السلام عليك أبا خبيب , كناه بابن له يسمَّى
(9/282)
---
خبيبًا ، وكنيته الشهيرة أبو بكر.
وقول ابن عمر : أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ؛ أي : عن التعرض لهذا ، وكأنه كان أشار عليه بالصلح ، ونهاه عن قتالهم لما رأى من كثرة عدوه ، وشدَّة شوكتهم ، ثم إنه شهد بما علم من حاله فقال : أما والله إن كنت ما علمت صوَّاما ، وصولاً للرحم . وكان يصوم الدهر ، ويواصل الأيام ، ويحيي الليل ، وربما قرأ القران كله في ركعة الوتر , و( إن ) التي مع كنت مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ، تقديره : إنك كنت ، وما مع الفعل بتأويل المصدر .
وقوله : أما والله لأمة أنت شرها لأمة خير ؛ يعني بذلك : أنهم إنما قتلوه
وصلبوه ؛ لأنَّه شر الأمة في زعمهم ، مع ما كان عليه من الفضل والدين والخير ، فإذا لم يكن في تلك الأمة شر منه ، فالأمة كلها أمة خير ، وهذا الكلام يتضمَّن الإنكار عليهم فيما فعلوه به .
وقوله : فبلغ الحجاج موقف عبدالله وقوله ، فأرسل إليه ، فأنزل عن جذعه ؛ ظاهر هذا : أنه إنما أنزله عن الخشبة لقول عبدالله وموقفه ، وقد نقلنا : أن إنزاله كان عن سؤال عروة لعبد الملك في ذلك ، فيجوز أن يكون اجتمع إذن (عبد الملك ) ، وموقف عبدالله ، فكان إنزاله عنهما.
و (نسحبك ) : نجزك . و(قرونها) : الثوب الذي تنتطق به المرأة ؛ أي : تحتزم . و(يتوذَّف ) : يمشي متبخترًا ، وقيل : مسرعًا. و(المبير) : المهلك ، وكذلك كان الحجاج ؛ فإنه روي أنه أحصي من قتله الحجاج صبرًا ، فوجدوهم ثلاثين ألفًا ، وأما من قتل في الحروب فلم يحصوا .
وأما الكذاب فهو : المختار بن أبي عبيد الثقفي ، فإنَّه ادعى النبوة ، وتبعه على ذلك خلق كثير حتى قتله الله تعالى كما تقدم .
وقوله : فقام عنها ، فلم يراجعها ؛ قد حكي عنه أنه قال : اللهم ! مبير لا كذاب . و(إخالك ) : أظنك ، وكسر همزة إخالك لغة فصيحة ، والفتح الأصل والقياس .
ومن باب ما ذكر في فارس
---
(9/283)
قوله تعالى : { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } ؛ هو مخصوص معطوف على الأمِّيين ، ويجوز أن يكون منصوبًا معطوفًا على الضمير في يعلمهم . ولما يلحقوا بهم : أي لم يدخلوا في الإسلام ، ولم يوجدوا وسيوجدون .
وأحسن ما قيل فيهم أنهم أبناء فارس بدليل نص هذا الحديث . وقد كثرت أقوال المفسرين في ذلك . وقد ظهر ذلك للعيان, فإنهم ظهر فيهم الدِّين , وكثرت فيهم العلماء, فكان وجودهم كذلك دليلاً من أدلة صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( تجدون الناس كإبل مئة , لا تجد فيها راحلة )) ؛ قال الأزهري : الراحلة : الناقة النجيبة والجمل النجيب , والهاؤ فيها للمبالغة . كرجل داعية ونسابة . وسميت بذلك لأنها ترتحل ، فهي فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية أي : رضية . قال : ومعنى الحديث عندي : أن الكامل في الزهد في الدنيا والرغبة في الكمال الآخرة قليل .
قلت : ويقع لي أن الذي يناسب التمثيل بالرَّاحلة إنما هو الرجل الكريم ، الجواد ؛ الذي يتحمَّل كل الناس وأثقالهم بما يتكلَّفه من القيام بحقوقهم ، والغرامات عنهم ، وكشف كربهم ، فهذا هو القليل الوجود ، بل : قد يصدق عليه اسم مفقود ، وهذا أشبه القولين ، والله تعالى أعلم .
كمل كتاب المناقب ، والحمد لله ربِّ العالمين .
---
كتاب البر والصلة
(1 ) ومن باب : بر الوالدين قوله : من أحق الناس بحمنعن صحابتي ) أحق : أولى وأوكد ، والصحابة : الضحبة ، يقال : صحبه يصحبه صحبة وصحابة . وقوله : "أقك " ثلاث مرات ، وفي الرابعة : "أبوك ") يدلّ على صحَّة قول من قال : إن للأم ثلاثة أرباع البر ، وللأب ربعه ، ومعنى ذلك : أن حفهما - وان كان واجبأ- فالأم تستحق الحغ الأوفر من ذلك ، وفائدة ذلك المبالغة في القيام بحق الأم ، وأن حفها مقذنم عند تزاحم حقها وحقه .
(9/284)
وقوله : "ثم أدناك أدناك ") يعني : أنك إذا قمت ببز الأبوين تعئيئ عليك القيا القيام بصلة رحمك ، وتبدأ منهم بالأقرب إليك نسبآ فالأترب ، وهذا كل عند الرحم تزاحم الحقوق ، وأما عند التمئهن من القيام بحقوق الجميع ، فيتعين القيام بجميع ذلك .
وقوله : "أما رأبيك لتنبانه "(ا)) قد تتذم الكلام في الأيمان على القسم بالأب عند توله : "أفلح وأبيه ا إن صدق "(2). ولتنبان : لتخبرن بذلك ، والهاء للشكت ، وبحتمل : أن تكون ضمير المصدر الذى دذ عليه لتنبان . وقوله : جاء رجل يستاذنه في الجهاد فتال : "ألك أبوان ؟" قال : نعم ) فيه ما يدلّ على أن المش إذا خاف على الشانل الغلط ، أو عدم الفهم تعئين عليه الاستفصال ، وعلى أن الفروض والمندوبات مهما اجتمعت قدم الأهثم منها ، وأن التائم على الأبوين يكون له أجر مجاهد وف بادة . وقوله : "ففيهما فجاهد") أي : جاهذ نفسك في بزهما وطاعتهما ، فهو الجها" الأولى بك ؛ لأنَّ الجهاد نرض كفاية ، ولا 4 إلوالدين فرض عين ، فلو تعثيئ الجهاد الوالدة
---
(9/285)
وكان والداه في كفاية ، ولم يمنعاه ، أو أحدهما من ذلك ، بدأ بالجهاد. فلو لم يكونا في كفايتن تعئيى عليه القيام بهما ، فبدأ به ، فلو كانا في كفاية ومنعاه لم يلتفث إلى منعهما ؛ لأنَّهما عاصيان بذلك المنع ، وإنما الطاعة في المعروف ، كما لو منعاه من صلاة الفرض . فأمَّا الحخ فله أن يؤخره السنة والسنتين ابتغاء رضاهما ، قاله مالك . هذا وإن تلنا : إنه واجعت على الفور مراعاة لقول من يقول : إنه على التراخي . وقد تقدَّم القول على ذلك في الحج . و(قول الأعرابي : أبايعك على الهجرة) أى : على أن أهجر دار قومي ، وأهاجر إليك ، فاتيم معك في المدينة ، رهذا كان في زمن وجوب الهجرة . ض رقوله : "فارجغ إلى والديك ناحسن صحبتهما") قد تذمنا ذكر الخلاف في مع رجوب الهجرة ، هل كان على أهل مئهة خاضة ، أو كان على كل من أسلم ؟ وعلى التولين فقد أسقط عنه الهجرة ، لأن حق الوالدين أولى ؛ لأنَّه إن كانت الهجرة عليه واجبة ، فقد عارضها ما هو أوجب منها ، وهو حق الوالدين ، فقذم ، وإن لم تكن واجبة عليه ، فالواجب أرلى على كل حال ، لكنه إنما يصخ هذا ممن يعنعلم له في موضه ديخنه ، فأمَّا لر خاف الفتنة على دينه لوجب عليه الفرار بدينه ، وتزك ابائه واولاده ، كما فعل المهاجرون الذين هم صفوة الله من عباده . وبز الوالدين واجب على الجملة بالكتاب ، والشثة ، واجماع الأقة ، وكذلك صلة الأرحام ، وأما تفصيل ما يكون بزأ وصلة ، وما لا يكون ، فذلك يستدعي تفصيلا وتطويلا ليس هذا موضعه .
---
(9/286)
(2) ومن باب : ما يتقى من دعاء الأم (قوله : الم يتكثم في المهد إلا ثلاثة") المهد : أصله مصدر مفدت الشيء أمهده : إذا سؤيته وعذلته . فمهد الصبئ : كل محل يسوى له ويولما ، وقد يكون سريره ، وقد يكون حجر أفه ، كما قال قتادة : في توله تعالى : ا كيف نظم من كات فى انمفدصب!ا ، أمريم : 129 أي : في حجر أمه . وظاهر هذا الحصر يقتضي أن لا يوجد صغير تكتم في المهد إلا هزلاء الثلاثة ، وهم : عيسى ، وصبف جريح ، الت والصبئ المتعؤذ من الجئار. وقد جاء من حديث صهيب (1) المذكور في تفسير تكنه سورة البروج في قصة الأخدوت : أن امرأة جيء بها لتلقى في النار على إيمانها الي ومعها صبئ لها في -غير كتاب مسلما : يرضع (2 ، -فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : با أقه ! اصبري ، فانك على الحق . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إن شاهد يرسف كان صبيآ في المهد ، وقال الضخاك : تكتم في المهد ستة : شاهد يوسف ، وصبئ ماشطة امرأة فرعون ، وعيسى ، ويحيى ، وصاحب جريج ، وصاحب الأخدود . قلت : فاسقط الضخاك صبئ الجئار ، وذكر مكانه يحيى ، وعلى هذا فيكون المتكئمون في المهد سبعة ، فبطل الحصر بالثلاثة المذكوربن في الحديث . قلت : ويجاب عن ذلك : بأن الثلاثة المذكورين في الحديث هم الذين صخ أنهم تكئموا في المهد ، ولم يخنلف فيهم فيما علمت ، واختلف فيمن عداهم ، فقيل : إنهم كانوا كبارا بحيث يتكئمون ويعقلون ، وليس فيهم أصخ من حديث صاحب الأخدود ، ولم تشلم صحة الجميع ، فيرتفع الإشكال بأن النبف ظ أخبر بما كان في علمه مما أوحي عليه في تلك الحال ، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى باشياء من ذلك ، فاخبرنا بذلك على ما في علمه . بج وقوله : "يا رب أش وصلاتي ") قول يدلّ على : أن جريجآ -رضي الله لكن عنه - كان عابدأ ، ولم يكن عالمآ ؟ إذ بادنى فكرة يذرك أن صلاته كانت ندبا ، واجابة أفه كانت عليه واجبة ، فلا تعارض يوجب إشكالا ، فكان يجب عليه تخفيف صلاته ،
(9/287)
أو قطعها ، وإجابة أمه ،
---
لاسيما وقد تكرر مجيئها إليه ، وتشؤقها واحتياجها لمكالمته . وهذا ككه يدلّ على تعتيى إجابته إياها ، ألا ترى أنه أغضبها باعراضه عنها ، وإقباله على صلانه ؟ ويبعد اختلاف الشرائع في وجوب بر الوالدين . وعند ذلك دعث عليه ، ناجاب المه دعاءها تاديبآ له ، وإظهارا لكرامتها ، والظاهر من هذا الدعاء أن هذه المرأة كانت فاضلة عالمة ، ألا ترى كيف تحززت في دعانها فقالت : اللهم ( لا تمثه حف ينظر إلى وجوه المومسات ، فقالت : حتى ينظر ، ولم تقل غير ذلك ، وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث : ولو دعت عليه أن يفتن لفتن . وهي أيضًا : لو كظمث غيظها وصبرت لكان ذلك الأولى بها ، لكن لما علم الله تعالى صدق حالهما لطف بهما ، وأظهر مكانتهما عنده بما أظهر من كرا متهما .
وفاندته : تاكد سعي الولد في إرضاء الأم ، واجتناب ما ينير قلبها ، واغتنام مز صالح دعوتها ، ولذلك قال ت : "الجنة تحت أقدام الأمهات "(1) أي : من انتهى حدث من التواضع لأفه بحيث لا يشق عليه أن يضع قدمها على خذه استوجب بذلك الجنة ، والأولى في هذا الحديث أن يقال : أنه خرج مخرج المثل الذي يقصد به الإغياء في المبزة والإكرام ، وهو نحو من قوله لض : "الجثة تحت ظلال ا لسيوف "( 2 ) .
والمومسات : جمع مومسة ، وهي الزانية .
---
(9/288)
وقوله : "يا غلام من أبوك ؟ قال : فلان الراعي ") يتمسك به من قال : إن الزنى يحزم كما يحزم الوطء الحلال ، فلا تحل أتم المزني بها ، ولا بناتها للزاني ، ولا تحل المزني بها لآباء الزاني ، ولا لأولاده . وير رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة ، وفي الموطأ : أن الزنى لا يحزم حلالا. ويستدل به أيضًا : أن المخلوتة من ماء الزاني لا تحل للزافي بامها ، وهو المشهور ، وقد قال عبد الملك ابن الماجشون : أنها تحل ، ووجه الئمشك على تينك المسالتين : أن النبي مجين قد حكي عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني ، وصذق الله نسمبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك ، فقد صذق الهه جريجا في تلك النسبة رأخبر بها النبي ير عن جريج في معرض المدح لجريج وإظهار كرامته ، أفكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله وباخبار النبي ت عن ذلك فثبتت البنوةأ(ا) وأحكامها. لا يقال : فيلزم على هذا أن تجري بسببهما أحكام النبؤة والأبوة من التوارث ، والولايات ، وغير ذلك ، وقد اتفق المسلمون على : أنه لا توارث بينهما ، فلم تصح تلك النسبة ؛ لأنَّا نجيب عن ذلك بأن ذلك موجب ما ذكرناه ، وقد ظهر ذلك في الأم من الزنى ؟ فإنَّ أحكام النبؤ والأمومة جارية عليهما ، فما انعقد الإجماع عليه من الأحكام : أنه لا يجري بينهما استشيناه ، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل . وفيها مباحث تستوفى في غير هذا الموضع -إن شاء الله تعالى -. وقوله : (نبني صومعتك من ذهب . قال : لا! إلا من طين كما كانت ") يدل (ا) ما بين حاصرتين سقط من (ع ).
---
(9/289)
على أن : من تعذى على جدار أو دار وجب عليه أن يعيده على حالته ، إذا انضبطت صفته ، وتمكنت مماثلته ، ولا تلزم قيمة ما تعذى عليه ، وقد بوب البخارقي على حديث جريج هذا : من هدم حائطا بنى مثله ، وهو تصريح بما ذكرناه ، وهو مقتض توله تعا لى : ا ثمئ أغدئ عكنكنم فاغتدوا يخر بمثل ما أغتدئ علي!كئم " أ ا لبقرة : 1194 ، فا ن تعذرت المماثلة فالمرجع إلى القيمة ، وهو مذهب الكوفيين والشافعي ، وأبي ثور في الحائط ، وفي العتبية عن مالك مثله ، ومذهب أهل الظاهر في كل متلف هذا . ومشهور مذهب مالك وأصحابه ، وجماعة من العلماء : أن فيه رفي سائر المتلفات المضمونات القيمة ؟ إلا ما يرجع إلى الكيل والوزن ؟ بناة منهم على أنه : لا تتحقق المماثلة إلا فيهما . والذاكل به الفارهة : الحسنة النجيبة ، والثهارة : الهينة المزجمنة التي يشار إليها من
---
(9/290)
حسنها . وحلقى - غير مصروف - ؛ لأنَّ ألفه للتانيث كسنهرى ، وهي كلمة جرت في كلامهم مجرى المثل ، وأصلها فيمن أصيب حلقها بوجع ، وقد تقدَّم : أن عقرى وحلقى : من الكلمات الي جرت على ألسنتهم في معرض الدعاء غير المقصود . وألم هذا الصث الرضيع نظرت إلى الضورة الظاهرة فاستحسنث صورة الرجل وهيلإئه ، فدعت لابنها بمثل هذا ، واستقبحت صورة الأمة وحالتها ، فدعت ألا يجعل ابنها في مثل حالتها ، فاراد الله تعالى بلطنه ننبيهها بأن أنطق لها ابنها الرضيع بما تجب مراعاته من الأحوال الباطنة ، والضفات القلبتة . وهذا كما قال النبي كلر : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأمرالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "(1) ، ركما قال بعض حكماء الشعراء : ليس الجمال بمئزيى فاغلنم وان رذيت بزدا إن الجمال معادن ومناقمبئ أزرثن مخدا وهذا الصبي ظاهره أن الله تعالى خلق فيه عقلا وادراكا كما يخلقه في الكبار عادة ، ففهم كما يفهمون ، ويكون خرق العادة في كونه خلق له ذلك تبل أوانه ، ريحتمل أن يكون أجرى الله ذلك الكلام على لسانه وهو لا يعقله ، كما خلق في الذراع والحص كلاما له معنى صحيح ، مع مشاهدة تلك الأمور باقية على جمادتها ، كل ذلك ممكن ، والقدرة صالحة ، والله تعالى أعلم بالواقع منهما .
---
(9/291)
فأمَّا عيسى -عليه السلام - فخلق الله له في مهده ما خلق للعقلاء والأنبياء ، في حال كمالهم من العقل الكامل ، والفهم الثاتب ، كما شهد له بذلك القرآن . وفي هذا الحديث ما يدلّ على صحة وترع كرامات الأولياء ، وهذا قول جمهور - أهل الئنة والعلماء ، وقد نسب لبعض العلماء إنكارها ، والظن بهم : أنهم ما برة أنكروا أصلها ، لتجويز العقل لها ، ولما وقع في الكتاب والسنة وأخبار صالحي ا وهذه الأفة مما يد ، على وتوعها ، وإنَّما محل الانكار ادعاء وتوعها ممن ليس موصرفآ بشررطها ، ولا هو أهل لها ، وادعاء كثرة وقوع ذلك دانما متكررا حتى يلزم عليه أن يرجع خرق العادة عادة ، وذلك إبطال لسنة الله ، وحسم السبل الموصلة إلى معرفة نبوة أنبياء الله تعالى.
(3) ومن باب : المبالغة في بر الوالدين قوله : ارغم أنفه ، ثم رغم أنفه ، ثم رغم أنفه ") يقال : بكسر الغين وفتحها ، لنتان . رغم : بفتح الراء وكسرها وضنها ، ومعناه : لصق بالزغام - بفتح الراء - : وهو الئراب ، وأرغم الله أنفه ، أي : ألصقه به ، وهذا من النبي ف دعا 4 مؤئهد على من تضر في بر أبويه ، ويحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون معناه : أصرعه الله لأنفه فاهلكه ، وهذا إنما يكون في حق من لم يقنم بمايجب عليه من برهما. وثانيهما : أن يكون معناه أ(1) : أذله الله ؛ لأنَّ من ألصق أنفه -الذي هو أشرف أعضاء الوجه - بالتراب - الذى هو موطىء الأتدام وأخعمق الأشياء - فقد انتهى من الذذ إلى الناية القصوى ، وهذا يصلح أن يدعى به على من نزط في متاكدات المندوبات ، وبصلح لمن فزط في الواجبات ، وهو الظاهر ، وتخصيصه عند الكبر بالذكر - وإن كان بم يرهما واجبا على كل حال - إنما كان ذلك لشذة حاجتهما إليه ، ولضنفهما عن القيام بكثيير من مصالحهما ، وليبادر الولد اغتنام فرصة بزهما ؟ لئلا تفوته بموتهما ، يخندم على ذلك .
---
(9/292)
وقوله : "أحدهما أو كليهما") كذا الروايات الضحيحة بنصب أحدهما وكليهما ؛ لأنَّه بدذ من والديه المنصوب بادرك ، وقد وقع في بعغى النسخ : أحدهما أو كلاهما مرفوعين على الابتداء ، وثمكئف لهما إضمار الخبر ، والأول أو لى أ( 1 ) . وقوله : "ثم لم يدخل الجنة ") معناه : دخل النار لانحصار منزلتي الناس في ثواس الاخرة بين جنة ونار ، كما قال : ا فريق فى لمجتة وفريق فى ألمتعير ، أ الشورى : 17 . في ة نمن قيل فيه : لم يدخل النار منهم ؟ إنه في الجنة ، وبالعكس ، وأو المذكورة هنا للتقسيم ، ومعناه : أن المبالغة في بز أحد الأبوين - عند عدم الآخر - يذخل الولد الجنة ، كالمبالنة في بزهما معا ، ويخي بهذه المبالغة : المبزة التي تتعثين لهما في حياتهما ، وقد يتعئين لهما أنواغ من البر بعد موتهما ، كما قد فعل عبد الله بن عمر مع الأعرابي الذي وصله بالعمامة والحمار ، ثم ذكر ما سمعه من النبي لكلض في ذلك ، وكما روى أبو داود عن أبي اشيد قال : بينا نحن عند رسول الهه لكيهض إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال : يا رسول الهه أ هل في من بز أبوفي شي ج أبزهما به بعد موتهما ؟ قال : ة نعم ! الضلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عفدهما من بعدهما ، وصلة الزحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما"(2) . ولا خلاف في أن عقوق الوالدين محزتم ، وكبيرة من الكبائر ، وقد دل على هقوأ ذلك الكتاب في غير موضع وصحيح الشنة ، كما روى الئسائي والبزار من حديث من ا ا ابن عمر عن النف ئ قال : "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ، تجاه قى ، لثيدمظ إقشتا 9 أ الإسراء : 23 ، ، وقال : أ ووضينآ الإلنمنن بزلديخه صتمنا " أالعنكبوت : 8 م في غير ما موضع ، وكذلك جاءت في الشنة أحاديث كثيرة تقتضي لزوم طاعتهما فيما أمرا به ، فمنها ما رواه الترمذى عن ابن عمر - رض الله عنهما - وجو قال : كان تحتي امرأة أحثها ، وكان أبي يكرهها ، فامرني أن
(9/293)
أطئقها ، فابيت ، للوا ا فذكرت
---
ذلك لرسول اللهء فقال : "يا عبد الله بن عمر! طئق امرأتك "(ا ، . قال أبوعيسى : هذا حديث حسن صحيح . فإنَّ قيل : فكيف يرتفع حنهم الله الأصلي بحكم غيره الطارىء ؟ فالجواب : أنه لم يرتفغ حكم الله بحكم غيره بل بحكمه ، وذلك أنه لما أوجب علينا طاعتهما ، والاحسان إليهما ، وكان من ذلك امتثال أمرهما ؟ وجب ذلك الاممعال ؛ لأنَّه لا يحصل ما أمرنا الله به إلا بذلك الاسال ؟ ولأنهما إن خويفا في أمرهما حصل العقوق الذي حزمه الله تعالى ، فوجب أمرهما على كل حال بايجاب الله تعالى .
(4) ومن باب : البر وا*ثم ذكر مسلئم في هذا الباب النو 2 س بن سنعان ، ونسبه إلى الأنصار ، فقال : الأنصارقي ، والمشهور في نسبه أنه كلابي ، إلا أن يكون حليفآ للأنصار ، وهو : النو 2 س بن سمعان بن خالد بن عمرو بن قزط بن كلاب (2) ، هكذا نسبه النلابي وشيى بن معين . ( 1 ) رواه الترمذكما
---
(9/294)
قلت : هذا ككه حكاية أبي عبد الله المازري ، والذي ذكره أبو عمر في نسبه أنه قال : النواس بن سمعان بن خالد بن عبد الله بن أبي بكر بن ربيعة الكلابي . ويين النسبين زبادة في الأجداد ، وتغييز في الأسماء ، فتامله . وقوله : أتمت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة سنه ما يمنعني من الهجرة إلا المسالة) يعني : أنه أتام بالمدينة في صورة العازم على الرجوع إلى الوطن الذي جاء منه ، لا أنه التزم أحكام الهجرة من الاستيطان بها ، والكون فيها ساكنا بها مع .ة رسول اللهء . رهذا يدم على أن الهجرة ما كانت واجبة على كذ من أسلم ، وقد ل تتدم الخلاف في ذلك ، وقد بئين عذره في كونه لم يلتزنم سنهنى المدينة ، وهو توله : ما يمنعت من الهجرة إلا المسألة ، أي : الأسولة(1) التي كان يسال رسول الله ط عنها ، وإنما كان ذلك لان المهاجرين والقاطنين بالمدينة كانوا يكلفونه المسائل ؛ لأنَّهم ما كانوا يسالون رسول الله ت عن شيء ، ولذلك قال : كان أحدنا إذا هاجر لم يسال رسول الله ت عن شيء . وقد تمم هذا المعنى أنس ابن مالك حيث قال : نهينا أن نسال رسول الله ئ في القرآن عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاتل من أهل البادية نيساله ونحن نسمع . وقد تقدَّم القول في ذلك . وقوله : فسالته عن البر والإثم ) أي : عما يبز فاعله فيلحق بالأبرار ، وهم المطيعون لله تعالى . وعئا ياثم فاعله ، فيلحق بالآثمين ، فاجابه النبي ت بجواب جنلئ أغناه به عن الثمصيل ، فقال له : "البز حشن الخلق " يعني : أن حشن الخلق أعظم خصال البر ، كما قال : "الحج عرفة"(2) وفي بحسن الخلق : الإنصاف في المعاملة ، والزفق في المجادلة ، والعدل في ا لأحكام ، والبذل ، وا لاحسان .
---
(9/295)
وقوله : "والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يللع عليه الناس ") أي : تعرأ الشيء الذي يؤثر نفرة وحزازة في القلب . يقال : حاك الشيء في قلبي : إذا رسخ فيه ونبت ، ولا يحيك هذا في قلبي ، أي : لا يثبت فيه ، ولا يستقز. قال شمر : الكلام الحانك : هو الراسخ في القلب ، وإنما أحاله النبي ف على هذا الإدراك القلبي ، لما علم من جودة فهمه ، وحسن قريحته ، وتنوير قلبه ، وأنه يدرك ذلك من نفسه . رهذا كما قال في الحديث الاخر : "ا*ثم حزاز القلوب "(ا) يعني به القلوب المنشرحة للاسلام ، المنؤرة بالعلم الذى قال فيه مالك : العلم نوز يقذفه الله تعالى في القلب ، وهذا الجواب لا يصلح لنليظ الظبع (2) قليل الفهم ، فاذا سال عن ذلك من تل فهمه فضلت له الأوامر والنواهي ال!رعية . وقد تالت عائشة -رضي الله عنها - : أمرنا رسول الد ف أن ننزل الناس منازلهم (3).
م ؟
---
(9/296)
(5) ومن باب : وجوب صلة الرحم قوله : "إن الله خلق الخنق حتى إذا فرغ منهم ") خلق هنا : بمعنى اخترع ، رأصله : التقدير ، كما تقدَّم. رالخلق هنا : بمعنى المخلوق ، وأصله مصدر ، يقال : خلق يخلق خنقآ : إذا قذر ، وإذا اخترع . قال زهير : ولأتت تقرى ما خلفت وبف نحى القوم يخلق ثمَّ لا يقري أي : تقطع ما قدرت . وقال الله تعالى : افذالخغ الله " ألقمان : 11 ، أي : مخلرقه . ومعنى فرغ منهم : أي كمل خلقهم ، لا أنه اشتغل بهم ، ثم فرغ من شغله بهم ، إذ ليس ننله بمباشرة ، ولا بمناولة ، ولا خنقه بآلة ، ولا محاولة ، تعالى عما يتوتمه المتوفمون ، رسبحانه إذا أراد شيئا ، فانما يقول له : كن فيكون . وقوله : "تامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة") هذا الكلام من المجاز المستعمل ، والاثساع المشهور ؟ إذ الزحم عبارة عن ترابات الرجل من جهة طرفي ابائه وإن علوا ، وأبنائه وإن نزلوا ، وما يتصل بالطرفين من ا لأعمام رالعئات ، والأخوال والخالات ، والإخوة والأخوات ، ومن يتصل بهم من أولادهم برحم جامعة . والقرابة إذأ نسبة من النعب ، كاللأبرة ، والاخوة ، والعمومة ، وما كان كذلك استحال حقيقة القيام والكلام ، فيحمل هذا الكلائم على ألتوشع ، ويمكن حنله على أحد وجهين :
---
(9/297)
أحدهما : أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة ، فيقول ذلك ، وكانه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها ، ويكتب ثواب من وصلها ، ووزر من تطعها ، كما قد وش الله بسائر الأعمال كرامآ كاتبين ، وبمشاهدة أوقات الضلوات ملانكة متعاقبين . وثانيهما : أن ذلك على وجه التقدير والثمثيل المفهم لحه غياء ، وشذة الاعتناء ، فكانه قال : لو كانت الرحم ممني يعقل ويتكئم لقالث هذا الكلام ، كما قال تعالى : ا لؤأن!لأ فنا ألفزان عك يل كر؟ض تثعغا متصلى كل ما من خشيرو ألملو" ثم قال : ا وبئف ألأئثلإشربها للناس لعلهزنجفكروت " أالحشر : 121 . وعلى التقديرين فمقصود هذا الكلام : الاخبار بتاكد أفر صلة الرحم ؟ وأنه الأس تعالى قد نزلها منزلة من قد استجار به فاجاره ، وأدخله في ذضته وخفارته ، وإذا كان الرخ كذلك فجار الله تعالى غير مخذول ، رعهده غير منقوض ؟ ولذلك قال مخاطبا للزحم : "أما تزضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ أ" وهذا كما قال ط : "من صلى الصبح فهو في ذمة الله ، فلا يطلبنكم الله من ذفته بمثيء ، فإنَّه من يطلبه من ذمته بمثيء يدركه ، ثم يكئه على وجهه في النار" ، 1). وقوله ط : "اقرؤوا إن شئتم : ا فهل عسئتض إن لؤلنتم أن تقسدوأ فى الازضى وتتظعوا ازحامكم " أمحمد : 22أ) عسى : من أفعال المقاربة ، ويكون رجاء وتحغيقأ ، قال الجوهري ؟ عسى من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى : ( 1 ) رواه مسلم (657 ) ، رالترمذى ( 222 ) .
---
(9/298)
ا عهف ل!"إن طنقكن أن يبن دل!انزجا نلإبم ضنكن ، أالتحريم : ه ، وإذا اتصل بعسى ضمير فاعل كان فيها لنتان ، فتح السين وكسرها ، وترىء بهما ، وظاهر الآية : أنه خطابئ لجميع الكنار. قال تتادة : معنى الاية : فلعلكم -أو يخاف عليكم - إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض بسفك الدماء . قلت : رعلى هذا فمتكون الرحم المذكورة هنا رحم دنجن الإسلام والايمان الي قد سئاها الله اخوة بقوله : اإنما ألفؤمنون رزة ، أالحجرات : 10 أ ، وقال الفراء : نزلث هذه الاية في بني هاشم وبئ أمية . وعلى هذا فتكون رحم القرابة . ، مة رعلى هذا فالزحم المحزم قطعها ، المامور بصلتها على وجهين ؟ عامة وخاصة . فالعامة : رحم الدين ، وتجب مواصلتها بملازمة الإيمان ، والمحبة لأهله ونصرتهم ، والنصيحة لهم ، وترك مضازتهم ، والعدل بينهم ، والثصفة في معاملتهم ، والتيام بحترتهم الواجبة كتمريض المرضى ، وحقوق الموتى : من غسلهم ، والصلاة عليهم ، ودفنهم ، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم . وأما الرحم الخاصة : فتجب لهم الحقوق العامة ، وزيادة عليها كالنفقة على القرابة القريبة ، وتففد أحوالهم ، وترك الثغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم ، وتتائهد في حقهم حقوق الرحم العامة ، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدىء بالأقرب فالأترب كما تقدَّم . الجنة م وقوله : "لابدخل الجنة قاطع ")قال سفيان يعني : قاطع رحم . هذا التفسير
---
(9/299)
صحيخ لكثرة مجيء لفظ قاطع في الشرع مضافآ إلى الزحم ، فاذا ورد عزيا عن الإضافة حمل على ذلك الغالب . والكلام في كون القاطع لا يدخل الجنة قد تقدَّم في الإيمان ؟ وأنه يصخ أن يحمل على المستحل لقطع الرحم ، فيكون القاطع كافرأ ، أو يخاف أن يفسد قلبه بسبب تلك المعصية فيختم عليه بالكفر ، نلا يدخل الجنة ، أو لا يدخل الجنة في الوتت الذي يدخلها الواصل لرحمه ؛ لأنَّ القاطع يخبس في النار بمعصيته ، ثم بعد ذلك يخلص مثها بتوحيده ، كل ذلك محتمل ، والله ورسوله أعلم بعين المقصود. وهذا الحديث يدلّ دلالة واضحة على وجوب صلة الرحم على الجملة ، وعلى تحريم قطعها ، وأنه كبيرة . ولا خلات فيه . الكن الصلة درجات بعضها أرفع صلة من بعض ، فادناها ترك المهاجرة ، وأدنى صلتها بالسلام أ(1) . كما قال رز : "صلوا درجا . أرحامكم ولو بالئعلام "(2) وهذا بحسب القدرة عليها ، والحاجة إليها ، فمنها ما يتعثين ويلزم ، ومنها ما يستحعبئ وبرغب فيه ، وليس من لم يبلغ أقص الضلات يسثى تاطعا ، ولا من قضر عما ينبغي له ، ويقدر عليه يسمى واصلا. قال القاضي : وقد اختلف في حذ الزحم الي تجب صلتها ، فقال بعض أهل العلم : هي كل رحم حذالر مخرم ، وعلى هذا فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال ، وقيل : بل هذا في كل تجب ا رحما ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في الموارفي مخرما كان ، أو غير مخرم .
---
(9/300)
قلت : فيخرج من هذا : أن رحم الأئم التي لا يرض ارث بها لا تجب صلتهم ، ولا يحرم قطعهم ، وهذا ليس بصحيح ، والضواب ما ذكرناه قبل هذا من التعميم والتقسيم . وقوله : "من سزه أن يبسط له في رزته ، ريتسا له في أثره فليصل رحمه ") بسط الرزق : سعته وتكثيره والبركة فيه . والشىء : التاخير ، والأثر : الأجل ، سمي بذلك ؛ لأنَّه تابع الحياة . ومعى التاخير هنا في الأجل - وان كانت الاجال مقذرة في علم الله لا يبراد نيها ولا ينقص - : أنه يبقى بعده ثنا : جميل ، رذكز سميذ ، وأجز متكزز ، فكانه لم يمت ، وقيل معناه : يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ ، والذى في علم الله ثابت لا تبديل له ، كما قال تعالى : اينو)الله مايشآء لم شتت وجمغد؟ببراكصصنملأ ، أ الرعد : 139 أي : أصل المكتوب في اللوح المحفوظ ، هو علم الله تعالى الذي لا يقبل المحو ولا التنيير ، حكي معناه عن عمر -رضي الله عنه - في الآية . وقوله : إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ، وأخسن إليهم وشميئون إلف ، وأخلم عنهم ويخهلون على ) أحلم - بضم اللام - : أصفح . ويجهلون : يقولون قول الجفال من السب والتقبيح .
---
(9/301)
وقوله : "لئن كنت كما قنت فكانما تسفهم المل ") الرواية : بضم تاء تسفهم ، وكسر السين ، وضم الفاء ، أي : تجعلهم يسفونه من الشف ، وهو شرب كل دواء يؤخذ غير ملتوت ، تقول : سففت الدواء وغيره مما يؤخذ غير معجون ، وأسففته غيرى ، أي : جعلته يسفه . والمل : الزماد الحاز . يقال : أطعمنا خبز ملة ، ومعنى ذلك : أن إحسانك إليهم مع إساءتهم لك ، يتنزل في قلوبهم منزلة النار المحرتة ، لما يجدون من ألم الخزي ، والفضيحة ، والعار الناشىء في قلب من تابل الإحسان بالاساءة . وقوله : "ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك ") الظهير : المعين ، رمعناه : أن الله تعالى يؤجمدك بالصبر على جفائهم ، وحسن الخلق معهم ، ويعليك عليهم في الدنيا والاخرة مذة دوامك على معاملتك لهم بما ذكرت . وقوله : إن أعرابيا عرض لرسول الله ط في سفر أخذ بخطام ناقته ، أو بزمامها) هذا يدلّ على تواضع النبي ، وأنه كان لا يضرف الناس بين يدني ، ولا توا ا يمنع أحذ منه ، والخطام ، والزمام ، رالمقود ككها بمعنى واحل! - لم ان كانت في أصول اشتقاقها مختلفة- فسش خطاما من حيث أنه يجعل على الخظم ، وهو الأنف ، ولمجعئى : زماما ؛ لأنَّه يزئم به ، ومقودا ؛ لأنَّه يقاد به ، وهذا شدلبم من الراوي في أي اللفظين قال .
---
(9/302)
وقوله : فكفث ثم نظر في أصحابه ثم قال : لقد وفق ، أو لقد هدي ") يعني : أنه كفث الناقة عن سيرها ، ونظر إلى أصحابه مستحسنا لهذا السؤال ، ومستحضرا لأفهام أصحابه ، ومنؤهآ بالسائل ، ثم شهد له بالتوفيق والهداية لما ينبغي أن يسال عنه ؛ لأنَّ مثل هذا السزال لا يصدر إلا عن تلب منؤر بالعلم بالله تعالى ، وبما يقرب إليه ، عازتم على العمل بما يفف به ، فاجابه النبف ئ بما يتعئيئ عليه في تلك الحال ، فقال : تعبد الله لا تشرك به شيئًا ، أي : توحده في إلهيته ، وتخلص له في عبادته . وتقيم الضلاة ، أي : تفعلها على أوتاتها وباحكامها . وتؤتي الزكاة : أي تعطيها من استحفها على شروطها. وتصل رحمك ، أي : تفعل في حقهم ما يكون صلة لهم ، وتجتنب ما يكون قطعآ لهم على ما بثناه . ولم يذكز له النبي ئ الصوم رلا الحبئ ولا الجهاد ؛ لأنَّه لم يكن تعئين عليه في تلك الحال شيء سوى ما ذكر له ، أو لأن بعض تلك العبادات لم تكن فرضت بعد . والله تعالى أعلم . وقوله : "إن تمسك بما أمرته دخل الجنة") يدلّ على : أن دخول الجنة لا بذ فيه من الأعمال ، كما قال تعالى : ا رينك لمجثة الف أفزننموها بما كنتئر تغصرت " أالزخرف : 72! ومع هذا فلولا فضل الله بالهداية للطرق الموصلة إليها والمعونة على الأخذ فيها" وبان جعل أعمالنا التي لا قيمة لها ولا خطر لها ، ولا منفعة له فيها سببا لنيل الجنة ؟ لما كنا نصل إلى شء من ذلك ، ولا نستحق ذرة مما هنالك .
---
(6) ومن باب : النهي عن التحاسد والتدابر
(9/303)
(قوله : لا تباغضرا ، أي : لا تتعاطوا أسباب البنض ؛ لأنَّ الحعبئ والبغض اد معان تلبية لا تدرة للانسان على اكتسابها ، ولا يملك التصزف فيها ، كما قال ت : ل!! "اللهم ا هذا تمنس فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك "(ا) يعني : الحب ال والبغض . وقوله : "لا تدابروا") أى : لا تفعلوا فنل المتباغضين اللذين يذبر كل واحد منهما عن الاخر ، أي : يوليه دبره فنل المعرض . وقوله : "رلا تقاطعوا") أي : لا تتاطنه فلا تكتمه ، ولا تعامنه ، وهو معنى : لا تهاجروا ، وهي رواية ابن ماهان ، وهي : من الهجران ، وعن الجلودي : "رلا تهجروا" . وعن أبي بحر : "تهجروا" بكسر التاء والهاء والجيم . قال القاضي :
---
(9/304)
معنى الكلمة : لا تهتجروا ، وتكون : تفتعلون : يعني تهاجروا ، أو من هخر الكلام : وهو الفحش فيه ، أي : لا تتساتجوا وتتفاحشوا . فلت : والرواية ا لاولى أوضح وأولى . وقوله : "ولا تحاسدوا ، ) أى : لا بحسد بعضكم بعضا ، والحسد في اللغة : أن تتمف زوال نعمة المحسود وعودها إليك . يتال : حسده يحسده حسودا . قال الاخفش : ولعضهم يقول : يحسد -بالكسر(1)- والمصدر حسدأ بالتحريك ، وحسادة" وحسدتك على الشء ، وحسدتك الشء : بمعنى واحد. فأمَّا النبطة فهي أن تتمنى مثل حال المغبوط من غير أن تريد زوالها عنه . تقول منه : غبطته بما نال غبطا وغبطة . وقد يوضع الحسد موضع الغبطة لتقاربهما ، كما قال ت : "لا حسد إلا في اثتتين "(2) أى : لا غبطة أعظم ولا أحو من النبطة بهاتين الخصلتين . وقوله : "وكونوا عباد الله إخوانا") أي : كونوا كاخوان النسب في الشفقة ، وا لرحمة ، وا لموذة ، وا لموا ساة ، وا لمعا ونة ، وا لنصيحة . وقوله : "كما أمركم الله ") يحتمل أن يريد به هذا الأمر الذي هو قوله : "كونوا إخرانا" ؛ لأنَّ أنره ف هو أمر الله ، وهو مبلغ له ، ويحتمل : أن يريد بذلك قرله تعالى : اإنما ألزمزن ل! ، أ الحجرات : 110 فإنَّه خبز عن المشروعية اشي ينبغي للمؤمنين أن يكونوا عليها ، ففيها معنى الأمر. و(نوله : 5لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ") دليل خطابه : أن الهجرة دون الثلاث معفؤ عنها ، وسثبه : أن البشر لا بذ له غالبًا من سوء خلق (ا) ف (ز) : يالخنض ، .
---
(9/305)
وغضب ، فسامحه الشرع في هذه المذة ؛ لأنَّ الغضب فيها لا يكاد الإنسان ينفك عنه ؟ ولأنه لا يمكنه ر* الغضب في تلك الحالة غالبًا ، وبعد ذلك يضف فيمكن رلأه ، بل : قد يمحى أثره . وظاهر هذا الحديث تحريم الهجرة فوق ثلاث ، وقد أكد هذا المعنى قوله : "لا هجرة بعد ثلاث " ، وكون المتهاجريخن لا يغفر لهما حتى يضطلحا . وقوله رز : اخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالشلام ") ، يدلّ على أن مجرد مايأ السلام يخرج عن الهجرة وإن لم يكنمه ، وهو قول مالك وغيره . وقال أحمد الب وابن القاسم : إن كان يؤذيه فلا يقطع السلام هجرته . وعندنا : أنه إن اعتزل كلامه لم تقبل شهادته عليه ، ومعناه : أن الذي يبادر بقطع الهجرة فيسبق صاحبه بالسلام أحسن خلقآ وأعظم أجرا. وما ذكرناه من جواز الهجران في الثلاث هو مذهب الجمهور ، والمعتبر ثلاث ليال ، فإنَّ بدأ بالهجرة في بعض يوم فله أن يلني ذلك البعض ، ولمجتبر ليلة ذلك اليوم ، فيكون أول الزمان الذي أبيحت فيه الهجرة ، ثمَّ بانفصال الليلة الثالثة تحرم على ما قذمناه . وهتا الهجران الذي ذكرناه هو الذي ران يكون عن غضب لأمير جانبر. لا تعكق له بالذين ، فافا الهجران لأجل المعاصي والبذعة فواجمت استصحابه إلف أن يتوب من ذلك ولا يختلف في هذا .
---
(9/306)
(7) ومن باب : النهي من النجشس قوله : "إجماكم والظن ؟ فإنَّ الظن ممذب الحديث ") الظن هنا هو النهمة ، ومحذ التحذير واللهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها ، كمن يئهم بالفاحشة ، أو بشرب الخمر ولم يظهز عليه ما يقتضي ذلك . ودليل كون الظن هنا بمعنى الثهمة نوله بعد هذا : "ولا تجشسوا ، ولا تحشسوا" ؟ وذلك : أنَّه قد يقع له خاطر النهمة ابتداء فيريد أن يتجشس خبر ذلك ، ويبحث عنه ، ويتبضر ، وشمتمع ليحقق ما وقع له من تلك التهمة ، فنهى النبي ئ عن ذلك . وقد جاء في بعغر الحديث : "إذا ظننت فلا تحقق " ، ا ، ، وقال الله تعالى : اوظننتض نمت الشز ، لمجنفزقؤ ، بؤإ" أ الفتح : 112 وذلك : أن المنافقين تطئروا برسول الله ئ وباصحابه حين انصرفوا إلى الحديبية فقالوا : إن محئدأ وأصحابه مملة رأس ، ولن يرجعوا إليكم أبدا .
---
(9/307)
فذلك ظثهم السئىء الذي وثخهم الله تعالى عليه ، وهو من نوع ما نهى الشرع عنه ، إلا أنَّه أقبح النوع . نافا الظن ال!رقي ؟ الذي هو تغليب أحد المجؤزين ، أو بمعنى اليقين فغير الظن مراد من الحديث ، ولا من الاية يقينا ، فلا يلتفت لمن استدذ بذلك على إنكار الظن ال!رفي ، كما قزبى ناه في الأصول . وقد اختلف في التجشس والتحشس ؟ هل هما بمعنى واحد ، أو بمعنيين ؟ الف والثافي أشهر. فقيل : هو بالجيم : البحث عن بواطن الأمور ، وممثز ما يكون في ا! ال!ز ، ومنه : الجاسوس ، وهو صاحب سز ال!ز. وبالحاء : البحث عثا يدرك وبالحس ؟ بالعين أو بالأذن . وقيل : بالجيم : طلب الشيء لنيرك ، وبالحاء : طلبه لنفسك . قاله ثعلب . والأول أعرف . وقوله : "ولا تنافسوا") أي : لا تتباروا في الحرص على الدنيا وأسبابها . التناؤ وأئا التنافس في الخيرفماموزبه ، كما قال تعالى : ارفى إلك في! تإفس ألمثنم فسون " الخيرا أ المطففين : 126 أي : في الجنة وثوابها ، وكان المنافسة هي الغبطة . وقد أبعد من فشرها بالحسد ، لا سيما في هذا الحديث ، نائه قد قرن بينها وبين الحسل! في مساقط واحد ، فدذ على أئهما أمران متغايران . ، 1 لنهبم وقوله : "ولا تناجشوا ، ) قيل فيه : إنه من باب النجش في البيع الذي تقدَّم التنافي ذنهره في البيوع . وفيه بغذ ؛ لأنَّ صيغة (تفاعل ) أصلها لا تكون إلا من اثنين ، ف (تناجش ) لا يكون من واحد ، و(النجش ) يكون من واحد ، فافترقا لى ان كان أصلهما راحدا ؛ لأنَّ أصل الئجش : الاستخراج والاثارة . تقول : نجشت الضيد ، أنجشه ، نخشا : إذا استعرته من مكانه . وقيل : "لا تناجشوا" : لا ينافر بعضكم بعضا. أى : لا يعامله من القول بما ينفره ، كما يغفر الضيد ، بل يسئهنه ويؤشمه ، كما قال : اسئهنا ، ولا تنفرا"(ا) وهذا أحسن من الأؤل ، وأولى بمساق الحديث . والله تعالى أعلم . ق وقوله : "المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره "). ى
(9/308)
(يظلمه ) : ينقصه حفه
---
، أو يمنعه إجماه . و(يخذله ) : يتركه لمن يظلمه ، ولا ينصره . وقد قال ئ : "انصز أخاك ظالما أو مظلومآ" فقال : كيف أنصره ظالما ؟ قال : "تكغه عن الظلم ؟ فذلك نضره "(2). و(يحقره ) : ينظره بعين الاستصغار والقئة. وهذا إئما يصدر في الغالب عئن غلب عليه الكنر والجهل ، وذلك : أنه لا يصخ له استصنار غيره حئى ينظر إلى نفسه بعين : أنه كبر منه وأعظم ، وذلك جفل بنفسه ، وبحال المحتقر ، فقد يكون فيه ما يقتضي عكس ما وقع للمتكئر. *ى وقوله : "التقوى ها هنا -ويشير بيده إلى صدره -") وقد تقدَّم : أن الئقوى مصدر (اتقى) : تقاة ، وتقوى . وأن الثاء فيه بدذ من الواو ؛ لأنَّه من الوقاية. رالمش : هو الذي يجعل بينه وبين ما يخافه من المكروه وتاية تقيه منه ، ولذلك يقال : ائقى الطعنة بدرقته وبترسه . ومنه قوله ت : "ائقوا النار ولو بشق تمثر ، رلو
---
(9/309)
بكلمتن طيبة"(1) أي : اجعلوا هذه الأمور وقاية بينكم وبين النار. وعلى هذا : فالمثقي شرعا هو الذي يخاف الله تعالى ، ويجعل بينه وبين عذابه وتاية من طاعته ، وحاجزأ عن مخالفته . فاذأ : أصل التقوى : الخوف ، والخوف إنما ينشا عن المعرفة بجلال الله ، رعظمته ، وعظيم سلطانه ، وعقابه . والخوف والمعرفة محلهما القلب ، والقلب محكه الصدر ، فلذلك أشار ت إلى صدره وقال : "المفوى ها هنا" والله تعالى أعلم . والتقوى خصلة عظيمة ، وحالة ثمرينة اخذة بمجامع علوم ال!ريعة وأعمالها ، موصلة إلى خير الانيا والاخرة . والكلام في التقوى وتفاصيلها ، وأحكامها ، وبيان ما يتزب عليها يست!دعي تطويلا ، قد ذكره أرباب القلوب في كتبهم المطؤلة : ى "الرعاية" ، وا لاحياء" ، و"سنينة النجاة" ، رغيرها . وقوله : ابحسب امرى 4 من ال!ز أن يخقر أخاه المسلم ") الباء في (بحشب ) احتأ زائدة . وهو باسكان السين ، لا بفتحها ، وهو خبر ابتداء مقذم ، والمبتدأ : (أن حرا ا يحقر) تقديره : حمنمب امرى ث من الشز احتقاره أخاه . أي : كافيه من الشز ذلك ؟ فإنَّه الئصيب اكبر ، والحغ الأوفى . وبفيد : أن احتقار المسلم حرائم . وقوله : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم التي وأعمالكم ") نظر الله تعالى الذى هو رؤيته للموجودات ، رالملاعه عليها لا يخصن نظر موجودا دون موجود ، بل يعتم جميع الاشياء ؟ إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في الشماء. ثمَّ قد جاء في ال!رع نظر الله تعالى بمعنى : رحمته للمنظور إليه ، وبمعنى : تبول أعماله ، ومجازاته عليها. وهذا هو الئفر الذي يخمن به بعض الأثبياء ، وينفى عن بعضها ، كما قال تعالى : ا إن ألذيئ يمهثر!عن بمفدألته وأنجغنهنم شنا لهبهعلا أؤلثث لا فئق لهنم فى ب لأفرؤ ولا يحشهم الله ولا ينبهراللهتم يؤم اشمة" أال عمران : 177 وقد تقدَّم ذلك في كتاب الايمان . فقوله هنا : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم "
(9/310)
أي : لا
---
ثسيبكم عليها ، ولا يقربكم منه ، ذلك كما قال تعالى : اوما أنؤلش رلا اؤندكرلالتى تمرلش عندبم زلض ، أسبا : 137 ثم قال : إإلامنء امن رعمل ضلخافماؤبك لهنم جزلي افعضف بماصكوأوهتم فى اتغرفتء اشون " أسبا : 137 . وششفاد من هذا الحديث فوائد : إحداها : صزف الهئة إلى الاعتناء باحوال القلب وصفاته ؟ بتحقيق علومه ، لب وتصحيح مقاصده وعزومه ، وتطهيره عن مذموم الصفات ، واتصافه بمحمودها ؟ فإنَّه لما كان القلب هو محل نظر الهه تعالى فحق العالم بقدر اظلاع الله تعالى على قلبه أن يفتش عن صفات قلبه وأحوالها ؟ لإمكان أن يكون في قلبه وصفث مذموم يمقته الله بسببه . لمب الثانية : أن الاعتناء باصلاح القلب وبصفاته مقذئم على الأعمال بالجوارح ؟ ص لتخصيص القلب بالذكر مقذمآ على الأعمال ، إنَّما كان ذلك لأن أعمال القلوب هي المصخحة للأعمال ؟ إذ لا يصخ عمل شرفي إلا من مؤمن عاللم بمن كتفه ، مخلص له فيما يعمله ، ثمَّ لا يكئل ذلك إلا بمراقبة الحق فيه ، وهو الذي عتر عنه بالاحسان ، حيث قال : "أن تعبد الله كانك تراه "(ا) . وقد تقدَّم قوله لهغ : "إن في الجسد مضغة إذا صلحث صلح الجسد كله ، وإذا فسدث فسد الجسد كله ، ألا وير القلب "(1 ) . الثالثة : أنه لئا كانت القلوب هي المصخحة للأعمال البم هرة ، وأعمال مدلم القلب غيمت عئا ، فلا يقطع بمنيب أحلإ ؟ لما يرى عليه من صور أعمال اللم عة أو بمب المخالفة ، فلعل من يحافظ على الأعمال البم هرة يعلم الله تعالى من قلبه وضفآ مذمومآ لا تصخ معه تلك الأعمال ، ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وضفا محمودا يغفر له بسببه ، فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة تطعية ، وبترلب عليها عدم النلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة ، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالآ سثعة ، بل تحتقر رتذثم تلك الحالة السيمة ، لا تلك الذات المسينة . فتدئر هذا ؟ فإنَّه نظز دتيق .
---
(9/311)
(8) ومن باب : لا يغفر للمتشاحنين حتى يصطلحا
المتشاحنان : المتباغضان ، من الشحناء ، وهي : البغضاء. وقد خمق الله تعالى هذين اليومين بفتح أبواب الجنة فيهما ، وبمغفرة الله تعالى لعباده ،
ربانهما تعرض فيهما الأعمال على الله تعالى ، كما جاء في الحديث الآخر(1). وهذه الذنوب التي تغفر في هذين اليومين هي الصغائر . والله تعالى أعلم . كما تقدم ذلك في قولهء : "الضلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفراث ما بينهن إذا اجتنبت الكبانر"(2) ، ومع ذلك فرحمة الهه وسعث كل من شي " وفضله يعئم كل ميتيما وحث . ومقصود هذا الحديث التحذير من الإصرار لمى على بغض المسلم ومقاطعته ، وتحريم استدامة هجرته ومشاحنته ، والأمر لم اصلته ، ومكارمته . بمو و(أنظروا) معناه : أخروا ، وكذلك : (ازكوا) ، قال ابن الأعرابي : يقال : ركا. ، يركوه : إذا أخر. . وفتح أبواب الجنة في هذين اليومين محموذ على ظاهره ، ولا ضرورة تحوج إلى تأويله ، ويكون فتحها تالهلا ، وانتظارا من الخزنة لروح من يموت في ذينك اليرمين مئن غفرث ذنوبه ، أو يكون فثحها علامة للملائكة على أن الله تعالى غفر في ذينك اليومين للموخدين ، رالله تعالى أعلم . وهو حجَّة لأهل الشنة على فار تولهم : إن الجنة والتار قد خلقتا ووجدتا ، خلافآ للمبتدعة ؟ الذين قالوا : إتهما لم ط ن تخلقا بغد ، وستخلقان . وعزض الأعمال المذكورة إنما هو - والله تعالى أعلم - (1) الحديث في صحيح مسلم
---
(9/312)
لتنقل من الكرام الكاتبين إلى محل اخر ، ولعثه اللوح المحفوظ . كما قال الله تعالى : ا اناكغأنمنتنسخ ماممعتترتغمكون ، أالجاثية : 129 قال الحسن : إن الخزنة تستنستخ الحنظة من صحائ الأعمال . وقد يكرن هذا العرضى أفي هذين اليومنن للأعمال الضالحة مباهاة بصالح أعمال بئ آدم على الملائكة ، كما يباهي الله الملائكة باهل عرفة ، وقد يكون هذا العرض م (ا ، لتعلم الملائكة المقبول من الأعمال من المردود ، كما جاء الحديث الاخر : "إن الملائكة تصعد بصحائف الاعمال ، فتعرضها على الله ، فيتول الله تعالى : ضوا هذا وافبلوا هذا ، فتقول الملائكة : وعزتك يا دثنا ما رأينا الا خيرا ا فيقول الهه تعالى : إن هذا كان لنيري ، ولا أتبل من العمل الا ما انجتني به وجهي "(2) والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك .
(9) ومن باب : ثواب التحابب والتزاور في الله تعالى قوله : "أين المتحابون بجلالي ") هذا نداء تنويه وإكرام ، ويجوز أن يخرج هذا الكلام مخرج الأمر لمن يحضرهم مكرمين منوها بهم . و(لجلالي ) روي باللام وبالباء ، ومعناهما متقارفي ، لأن المقصود بهما هنا : الشببئة ؟ أي : لعظيم حفي وحرمة طاعي ، لا لغرض من أغراضر الدنيا .
---
(9/313)
وقوله : "اليوم أظكهم في ظئي يوم لا ظل إلا ظئي ") قيل : هذه الإضافة إضافة تشريغب واكرا أ ؟ إذ الظلال كلها ملكه وخنقه . قلت : وأولى من هذا التأويل : أثه يعني به : ظل العرش ؟ كما قد جاء في ة روايتن أخرى. فيعني - رالله تعالى أعلم - : أن في القيامة ظلالا بحسب الأعمال ب الضالحة تقي صاحبها من وهج الشمس (ا ، ولفح النار ، وأنفاس الخنق ، كما قال ت ؟ "الزجل في ظل صدتته حف يفض بين الناس "(2) ، ولكن ظل العرش أعظم الظلال وأشرفها ، فيخص الله به من يشاء من صالح عباده ، ومن جملتهم المتحاتجون لجلال الله . فإنَّ قيل : كيف يتال : في القيامة ظلاذ بحسب الأعمال ؟ وقد قال ت : ة سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظكه "(3) ، وهو ظل العرش المذكور في الحديث ؟ قلنا : يمكن أن يقال : كل ظل في القيامة إنما هو له ؛ لأنَّه بخنته واختراعه بحسب ما يريده تعالى من إكرام من يخضه به ؟ فعلى هذا يكون كل واحد من هؤلاء الشبعة في ظل يخضه ، وككها ظل الله ، لا ظل غيره ؟ إذ ليس لنيره هنالك ظل ، ولا يقدر له على سبب . ويحتمل أن يقال : أنَّه ليس هنالك إلأ ظل راحذ ، وبه يشتظل المؤمنون " لكن لئا كان الاستظلال بذلك الظل لا ينال إلا بالأعمال الضالحات نسب لكل عمل ظل ؟ لأثه به وصل إليه . والله تعالى أعلم . وهذا ككه بناة على أن الفلال حتيقة لا مجاز ، وهو قول جمهور العلماء. وقال
---
(9/314)
عيسى بن دينار : إن معناه : يكنهم من المكاره ، ويجعلهم في كنفه وستره ، كما يقول : أنا في ظئك . أي : في ذراك وسترك . وقوله : "فأرصد الله على مدرجته ") أي : جعل الله ملكا على طريقه يرصده ، أي : يرتقبه ، وينتظره ليب!ره . والمرصد : موضع الرصد . و(المذرجة) بفتح الميم : موضع الذرج ، وهو المشي . وقوله : "هل لك عليه من نعمة ترتجها؟") أي : تقوم بها وتصلحها ، فتتعاهده ب بسببها ؟ (فقال : لا ، غير أني أحببته في الله ) أ أي : لم أزره لغرض من أغراض نفي الدنيا ، ثمَّ أخبر بائه إنما زاره من أجل أنه أحته في الله تعالى م (ا) . فب!ره الملك بأن الله تعالى قد أحته بسبب ذلك . وقد تقدَّم القول في محبة الله تعالى للعبد ، وأن ذلك راجغ إلى إكرامه إجماه ، وبزه به . ومحبة الله للطاعة : قبولها ، وثوابه عليها . وفي هذه الأحاديث ما يدلّ : على أن الحمبئ في الله والتزاور فيه من أفضل فض الأعمال ، وأعظم القرب إذا تجزد ذلك عن أغراض الدنيا وأهواء النفوس ، وقد في ا قال ت : "من أحعبئ لذ ، وأبنض لثه ، وأعطى لثه ، ومنع لثه فقد استكمل ا لإيما ن "( 2 )
( 10 ) ومن باب : ثواب المرضى وذوي الآفات إذا صبروا الوعك : تمرينع الحئى ، وهو ساكن العين . يقال : وعكته الحثى ، تعكه ، وعكآ ، فهو موعوك ، وأوعكت الكلاب الصيد ، فهو موعك : إذا مزغته في التراب . والوعكة : السقطة الشديدة في الجري . والوعكة أيضًا : معركة الأبطال في الحروب . و(أجل ) بمعنى : نعم . ومضاعفة المرض على النبي ت ليضاعف له الأجر (في الآخرة)(1) وهو كما لأء قال ف في الحديث الاخر : "أشا الناص بلاء الأنبيا" ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الزجل على حسب دينه "(2). رفي الحديث الآخر : أ"نحن معاشر الأنبياء يشتا علينا البلاء ، ويعظم لنا الأجر"(3)م (4). و(الوصب ) : المرض . يقال
---
(9/315)
منه : وصب الرجل ، يوصب ، فهو وصيب ، وأوصبه الله ، فهو موصمبئ . و(النصب ) : الئعب والمشفة . يقال منه : نصب الرجل - بالكسر - ينصب - بالفتح - وأنصبه غيره : إذا أتعبه ، فهو منصعبئ ، وهئم ناصعت ) أي : ذو نصب . و(ا لشقم ) : المرض الشديد. يقال منه : سقم ، يمنعقم ، فهو سقيم . و(الهم ) : الحزن ، والجميع : الهموم ، وأهتني الأمر : إذا أقلقي وحزنغي ، والمهثم : الأمر الشديد وهتني المرض : أذابي . قلت : هذا نقل أهل اللغة ، وقد سؤوا فيه بين الحزن والهم ، وعلى هذا فيكون الحزن والهتم المذكوران في الحديث مترادفين ، ومقصود الحديث ليس كذلك ، بل مقصوده : التسوية بين الحزن الشديد ، الذي يكون عن فقد محبوب ، والهتم الذي يقلق الإنسان ويشتغل به فكره من شيء يخافه أو يكرهه في أن كل واحد منهما يكفر به . كما قد جمع في هذا الحديث نفسه بين الوصب ، وهو المرض ، وبين الشقم ، لكن أطلق الوصب على الخفيف منه ، والشقم على الشديد ، وبرتفع الترادف بهذا القدر. ومقصود هذه الأحاديث : أن الأمراض وا لأحزان - وإن دئت - والمصانب - وإن قئت - أجر المؤمن على جميعها ، وكفرت عنه بذلك خطاياه حتى يمشي على الأرض وليست له خطينة ، كما جاء في الحديث الآخر ، لكن هذا كله إذا صبر المصاب واحتسب ، وقال ما أمر الله تعالى به في توله : األذيئ إ% أمفبتهم فصيبة تالهاإنا ك شا ، ية لض جون " أالبقرة : 1156 فمن كان كذلك وصل إلى ما وعد الله به ورسوله من ذلك . وقوله : لما نزلت : ش من تغمل سئؤءا!زبوء" أ النساء : 23 ا! بلغت من المسلمين مبلنآ شديدام هذا يدلّ على : أنهم كانوا يتمسكون بالعمومات في العلميات ، كما كانوا يتمسكون بها في العمليات . وفيه ر* على من توتف في ألفاظ العموم ، رأن "من " من ألفاظه ، ركذلك النكرة في سياق الشرط ، فإنَّهم فهموا عموم ا لاشخاص من "من " وعموم ا لأفعال السثعة من "سوء" ا لمذكور في سياق الشرط ، وقد أوضحنا ذلك في الأصول ،
(9/316)
وإنما عظم
---
موقع هذه الاية عليهم ؛ لأنَّ ظاهرها : أن ما من مكتف يصدر عنه شز كائنا ما كان إلا جوزي عليه ، يوم الجزاء ، وأن ذلك لا يغفر ، وهذا أمر عظيم ، فلما رأى النبف ت شدة ذلك عليهم سئهنهم وأرشدهم وب!رهم ، فتال : "تاربوا ومذدوا" أى : قاربوا في أفهامكم وسذدوا في أعمالكم ، ولا تقكوا ، ولا تشددرا على أنفسكم ، بل بشروا واستبشروا بأن الله تعالى بلطفه قد جعل المصائب التي لا ينفد عنها أحذ في هذه الدار سببآ لكفارة الخطايا والأوزار ، حف يرد عليه المؤمن يوم القيامة وقد خئصه من تلك اسدار ، وطقره من أذى تلك الأتذار ، نضلا من الله ونعمة ، ولطفآ ورحمة . وقوله : "حتى الهئم يهته ") يجوز في الهم الخفض على العطف على لفظ ما قبله ، والرفع على موضه ؟ فإنَّ "من " زاندة ، ويجوز رفعه على الابتداء وما بعده خبره .
فأمَّا قوله : احتى النكبة ينكبها ، وال!وكة يشاكها") نيجوز فيه الوجهان ، كذلك قين دهما المحققون ، غير أن رفع الشوكة لا يجوز إلا على الابتداء خاصة ؛ لأنَّ ما قبلها لا موضع رفع له فتافنه ، وقين ده القاضي : يهته بضم الياء وفتح الهاء على ما لم يسئم فاعله ، وكذا رجدته مقيئ ا بخط شيخي أبي الصبر أيوب ، والذي أذكر أني قرأت به على من أثق به ؟ بفتح يهته -بفتح الياء وضم الهاء مبنيآ للفاعل - ، ووجهه واضخ إذ معناه : حتى الهم يصيبه ، أو يطرأ عليه . والننهبة بالباء : العثرة والشقطة ، وينكبها - بضم الياء وفتح الكاف - : مبنيا للمفعول .
دم
---
(9/317)
وقوله : "مالك يا أتم السائب ! تزقزيخيق ") جميع رواة مسلم روى هذه الكلمة بالزاي والفاء فيهما ، ويقال بضم التاء وفتحها من الزفزفة ، وير صوت حفيف الريح . يقال : زنزفت الريح الحشيش : أي حزكثه ، وزفزف الئعام في طيرانه : أي : حزك جناحنه ، وقد رواه بعضر الرواة بالقاف والراء ، قال أبو مروان بن سزاج : يتال : بالقاف وبالفاء بمعنى واحد ، بمعنى تزعديخن (1) . فلت : ورواية الفاء أعرت رراية ، وأصخ معنى" وذلك أن الحئى تكون معها حركة ضعيفة ، وحق صوت يمثمبه الزتزفة الي هي حركة الريح وصوتها في الشجر. وقالوا : ريبئ زقزانة وزتزف . وأما الرقرتة بالراء والقاف : في التلألؤ والثمعان . ومنه : رتراق الشراب ، ورقراق الماء : ما ظهر من لمعانه ، غير أنه لا يظهر لمعانه إلا إذا تحرك وجاء وذهب ، فلهذا حسن أن يقال : مكان الرقراقة ، لكن تفارق الزفزفة الرترقة بأن الزفزفة معها صوت ، وليس ذلك مع الرترقة ، فانفصلا . وقوله : "لا تسبي الحئى") مع أنها لم تصزح بسب الحمى ، وإنما دعت عليها بالا يبارك فيها ، غير أن مثل هذا الابرعاء تضئن تنقيص المدعو عليه وذفه ، فصار ذلك كالتصريح بالذئم والشب ، ففيه ما يدلّ على أن التعريض والتضمين كالتصريح في الدلالة ، فيحذ كل من يفهم عنه القذف من لفظه ؟ له ان لم يصرح به ، وهو مذهب مالك كما تقدَّم . وقوله : "فإنَّها تذهب خطايا بني آدم ") هذا تعليل لمنع سب الحتى لما
ل 2483 ، عن توبان - مولى رسول الله جمحط - عن الثبيئ في لحظط قال : "من عاد مريضا لم يزل في خزفة الجنة" ، قيل : يا رسول الله ! وما خزفة الجنة ؟ قال : "جناها " .
---
(9/318)
يكون عنها من الثواب ، فيتعذى ذلك لكل مشفذ ، أو شدة يرتجى عليها ثواب ، فلا ينبغي أن يذئم شي هـ من ذلك ، ولا يسمبئ . وحكمة ذلك : أن سمبئ ذلك إنما يصدر في الغالب عن الضجر ، وضف الصبر ، أو عدمه ، وربما يفضي بصاحبه إلى السخط المحزم ، مع أنه لا يفيد ذلك فائدة ، ولا يخفف ألما . وقوله للمرأة التي كانت تضرع : "إن شئت صبرت ولك الجنة") يشهد لما الأجر قلناه من أن الأجور على الأمراض ، والمصائب لا تحصل إلا لمن صبر واحتسب . له لصآ ا ا (ا ا) ومن باب : الترغيب في عيادة المرضى
(قوله : "لم يزذ في خرفة الجنة"(ا)) هو بضم الخاء المعجمة وسكون الراء ، أجربر ا لمربة (1) ما ورد في هذه الفقرة من حديث لم يرذ في نسختي التلخيص المخطوطتين ، ولما كان ت
---
(9/319)
وقد فشرها النبي ! بما هو المعروف في اللنة فقال : هو جناها ، أي : ما يجتنى منها . وفي الصحاح : الخزفة - بالضم - : ما يجتنى من الفواكه ، ريقال : التمر خرفة الصائم . وأما رؤية من رواها مخرفة بفتح الميم وسكون الخاء ، وفتح الراء ؟ فهو البستان . والمخرفة والمخرف : الطريق ، ومنه قول عمر- رضي الله عنه - : تركتم (1) على مخرفة النعم . أما المخرف والمخرفة - بكسر الميم - : فهو الوعاء الذي يجتنى فيه التمر. ومعنى هذا الحديث ، أن عاند المريض بما يناله من أجر العيادة وثوابها الموصل إلى الجنة كانه يجتني ثمرات الجنة ، أو كانه في محرت الجنة ، أي : في طريقها الموصل إلى الاحتراف . وسمي الخريف بذلك ؛ لأنَّه فضل تخترف فيه الثمار . وعيادة المريض من أعمال اللم عات الكثيرة الثواب ، العظيمة الأجر ، كما دلت عليه هذه الأحاديث وغيرها . وهي من فروض الكفايات ، إذا منع المرض من التصزف ؛ لأنَّ المريض لو لم يعذ جملة لضاع وهلك ، ولا سيما إن كان غريبا أو ضعيفا. وأما من كان له أهل فيجب تمريضه على من تجب عليه نفقته ، فأمَّا من لا يجب ذلك عليه ؟ فمن قام به منهم سقط عن الباقين . والعيادة : مصدر عاد يعود عؤدا ، وعيادة ، وعيادا ، ضير أنه قد خضت العيادة بالرجوع إلى المرضى والتكرار إليهم .
- المؤلف -رحمه الله - قد شرح ما أشكل منه ، أثبتنا الحديث المتعلق بهذا الباب من صحيح مسلم . ( 1 ) كذا في الأصول ، وفي الفاثق ( 1 لم 0 36) والنهاية (2/ 4 2) : تركتكم .
- وقوله تعالى : "يا بن ادبم مرضت فلم تعدني ، واستطعمتك فلم تطعمني ، واستسقيتك نلم تسقني ") : تنزل في الخطاب ، ولطفث في العتاب ، ومقتضاه التعريف بعظيم فضل ذي الجلال ، وبمقادير ثواب هذه الأعمال . ويستفاد منه أن الاحسان للعبيد إحسان للسادة ، فينبغي لهم أن يعرفوا ذلك ، وأن يقوموا بحقه .
---
(9/320)
- (12 ) ومن باب : تحريم الظلم قوله تعالى : "إني حرمت الظلم على نفسي ") أي : لا ينبغي لي ، ولا يجوز علي ، كما قال سبحانه وتعالى : ا وماينبف للزقق أن يثخذوللا ، أمريم : 92 ، . وقد اتفق العغلاء على أن الظلم على المنه تعالى محال ، وإنما اختلفوا في الطريق ، نالقانلون بالهفبيح واشحسين عقلآ يقولون : يستحيل عليه لقبحه ، ومن لا يقول بذلك يقولون : يستحيل عليه لاستحالة شرطه في حقه تعالى ، وذلك : ا أن الظلم إنما يتصؤر في حق من حذث له حدود ، ورسمت له مراسم ، فمن تعداها كان ظالما ، والله تعالى هو الذي حذ الحدود ورسم الزسوم ؟ إذ لا حاكم فوقه ، ولا حاجر عليه ، فلا يجب عليه حنهم ، ولا يتر ، ب عليه حن ، فلا ثمصؤرالظلم في حقه . واستيفاء المباحث في علم الكلام . ر (قوله : "وجعلته بينكم محرمآ") أي : حكمت بتحريمه عليكم ، وألزمته
- إياكم . وقوله : ة فلا تظالموا") أي : لا يظلم بعضئهم بعضآ ، وأصله : تتظالموا ، فحذفت إحدى التاءين خفيفا . وقوله : "يا عبادي كفم ضاذ إلا من هديته ") قيل في معناه قولان : أحدهما : أنهم لو تركوا مع العادات ، وما تقتضيه الطباع من الميل إلى الزاحات ، رإهمال الثظر المؤدي إلى المعرفة لغلبت عليهم العادات والطباع فضكوا
- عن الحق ، فهذا هو الضلال المعني ، لكن من أراد الله تعالى توفيقه ألهمه إلى إعمال الفنهر المؤدي إلى معرفة الله تعالى ، أومعرفة الرسول لكجي!لأ وأعانه على الوصول إلى ذلك ، وعلى العمل بمقتضاه ، وهذا هو الهدى الذي أمرنا الله الي أ مر نا بسؤا له أ( 1 ) .
---
(9/321)
- وثانيهما : أن الضلال ها هنا يعني به : الحال التي كانوا عليها قبل إرسال وظيأ الزسل من : الشرك ، والكفر ، والجهالات ، وغير ذلك ، كما قال تعالى : ا كان أتجاس أفة زصدير نجعث ألمته أثب!ن مبمثرفي وفذريئ ، أ البقرة : 1213 أي : على حالة واحدة من الضلال والجهل ، فارسل الله الرسل ليزيلوا عنهم ما كانوا عليه من الضلال ، وببئين لهم مراد الحق منهم في حالهم ، ومآل أمرهم ، فمن نئهه الحق سبحانه وتعالى ، وبضره ، وأعانه فهو المهتدي ، ومن لم يفعل الله به ذلك بقي على ذلك الضلال . وعلى كل واحد من التأويلين فلا معارضة بين قوله تعالى : "كلكم ضال إلا من هديته ، . وبين قوله : "كذ مولوب يولد على الفطرة"(2) ؛ لأنَّ هذا الضلال المقصود في هذا الحديث هو الطارىء على الفطرة الأولى المغير لها ، الذي بتنه النبف ف بالتمثيل في بقية الخبر حيث قال : "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاءا(3). وبقوله : "خلق الله الخلق على معرفته فاجتالتهم الشياطين ا(4). وهذا الحديث حجَّة لأهل الحق على قولهم : إن الهدى والضلال خنقه وفغله يختص بما شاء
---
(9/322)
منهما من شاء من خلقه ، وأن ذلك لا يقدر عليه إلأ هو ، كما قال تعالى : اكذلك يضل ألمنه من يف!لن وتهدى من يمثتص " أالمدثر : 31 ، ، وكما قال : ا ومابن لنهتدى لزلآ أن هدتا أشه ، أ الاعراف : 43 ، ، وكما قال : ا وماتمشا. ون إلا أن يشاء ألته " أ الإنسان : 130 . وقد نطق الكتاب بما لا يبقى معه ربعت لذي ففم سليم بقوله : اوم لمته يذعواإئ دار الشبر لم تهدى من يش! إفى صزلحر فشنفس ، أيونس : 125 ، فعئم الدعوة ، وخمق بالهداية من سبقث له العناية . واستيفاء الكلام في علم الكلام . وحاصل في له : "كهم ضاذ إلا ممن هديته ، وكهم جائع ، وكهم عايى" ظ الثنبيه على ففرنا وعجزنا عن جنب منافعنا" ودقع مضازنا بانفسنا ؟ إلا أن ييشر ، ذلك لنا ؟ بأن يخلق ذلك لنا ، ولمجيننا عليه ، ويصرف عنا ما يضزنا . وهو تنبية على ) معنى قوله : "لا حول ولا تو* إلا بالله العلي العظيم "(ا) ، ومع ذلك فقال في اخر الحديث : "يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أصيها عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " تنبيها على أن عدم الاستقلال بايجاد الأعمال لا يناقض خطاب التكليف بها ، إتداما عليها ، وإحجاما عنها ، فنحن - ران
كنا نعلم أثا لا نستقل بافعالنا- نحس بوجدان الفزق بين الحركة الضرورية والاختيارية ، وتلك التفرقة راجعا ؟ إلى تمئهن محسوس ، وتات مغتاد يوجد مع الاختيارية ، ويققد مع الضروربة ، وذلك هو المعئر عنه بالكسب ، وهو مورد التكليف ، فلا تناقض ولا تعنيف .
---
(9/323)
وقوله : "ما نقص ذلك (ا) مِمَّا عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحبر ، ) المخيط : الابرة . والخياط (2 ، : الخيط . ومنه قوله : (أدوا الخياط والمخيط "(3). وهذا مثل قصد به العفريب للأفهام بما تشاهده ؟ فإنَّ ماء البحر من أعظم المرئيات وممبرها ، وغمس الابرة فيه لا يؤثر فيه ، فضرب ذلك مثلا لخزائن مثل رحمة الله تعالى وفضله ؟ فإنَّها لا تنحصر ولا تتناهى ، وأن ما أغطي منها من أول ر- خنق المخلوتات ، وما يغطي منها إلى يوم القيامة لا ينقص منها شيئا ، وهذا نحو وفض قوله ئ في الحديث الاخر : "يمين الله ملأى سخاء الليل والنهار ، لا يغيضها
شي 4 ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، لم يغضن ما في يمينه "(ا) وسز ذلك أن قدرته صالحة للايجاد دائمآ ، لا يجوز عليها العجز والقصور ، والممكنات لا تنحصر ، ولا تتناهى ، فما وجد منها لا ينقص شيئا منها ، وبشط الكلام على هذه الأصول في عنم الكلام . -وقوله : "اتقوا الظلم ؟ فإنَّ الظلم ظلماسث يوم القيامة") ظاهره : أن الظالم يعاتب يوم القيامة ؟ بأن يكون في ظلمات متوالية يوم يكون المؤمنون في نور يسعى بين أيديهم ، وبايمانهم حين : ا يتول ألمئننون وانئنقفت لتذفيء افم ! أنظرونا ث!بش من ش بهئم " فيقال لهم : ا ازجص ! ورابم فاقسمم ! نق " أ الحديد : 13 م . وقيل : إن معنى الظلمات هنا : ال!داند والأهوال التي يكونون فيها ، كما فسر بذلك توله : ا تل من ي! يص تن ظنمط انبزوأتجش " أ الأنعام : 163 أي : من شدائدهما ، وآفاتهما . وا لأول أظهر .
---
(9/324)
ر (قوله : "وائقوا الشخ ؟ فإنَّ الشخ أهلك من كان قبلكم ") الشخ : الحرص الثي على تحصيل ما ليس عندك ، والبخل : الامتناع من إخراج ما حصل عندك . وقيل : إن الشخ هو البخل مع حرص . يقال منه : شحخت بالكسر يشخ ، أوشحخت - بالفتح - يثخ أ(1 ، - بالضم - ورجل شحيح ، وقوم شحاح وأشخاء . وقوله : "حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم ") هذا هو عاتي الهلاك الذي حمل عليه الشخ ؛ لأنَّهم لثا فعلوا ذلك أثلفوا دنياهم وأخراهم ، وهذا كما قال في الحديث الاخر : "إياكم والشح ؟ فإنَّه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقليعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا"(2) أي : حملهم على ذلك . وقوله : "إن الله يملي للظالم حتى إذا أخبره لم يقلثه ") يملي : يطيل في سنه مذته ، ويصخ ، ويكثر ماله وولده ليكثر ظنمه ، كما قال تعالى : ! ولايخسبن اكنريئ إنَّما جنا( نضلى ئنم لبزإؤأ إفضا ، (آل عمران : 1178 وهذا كما فعل الله بالبهلمة من الأمم الشالفة ، والقرون الخالية ، حتى إذا عئم ظنمهم وتكامل جزمهم أخذهم الله أخذة رابية ، فلا ترى لهم من باقية ، وذلك سنة الله في كل جثار عنيد ، ولذلك قال :
---
(9/325)
إركذلك أفذ ربك ، % أفذألقرئء س بخسة(ن أفذءأليض شديذ" أهود : 102 ، . وقوله : "من ستر مسلما ستره الله يوم القيامه ") هذا حفهق على ستر من ستر نفسه ، ولم تذع الحاجة الدينية إلى كشفه ، فأمَّا من اشتهر بالمعاصي ، ولم يبال بفعلها ، ولم ينته عئا في عنه ، فواجمت رقعه للامام ، وتنكيله ، واشهاره للأنام ليرتدع بذلك أمثاله ، ركذلك من تدعو الحاجة إلى كشف حالهم من الشهود والمجزحين ، فيجب أن يكشف منهم ما يقتضي تجريحهم ، وشرم سترهم مخافة تغيير الشرع ، وإبطال الحقوق . (13 و14 وه ا) ومن باب : الأخذ على يد الظالم ونصر المظلوم (1) (قوله : كسع رجل من المهاجرين رجلآ من الأنصار)(2) في الصحاح : الكسع : أن تضرب دبر الإنسان بيدك ، أو بصدر تدمك ، يقال : اتبع فلان أدبارهم يكسعهم بالسيف ، مثل : ينهسؤهم ، أي : يطردهم ، ومنه قول الشاعر(ا) : كسع ال!تاءبسبعة غنر(2) .. . . . . .. .. . . . . . . ..... ووردت الخيل يكسع بعضها بعضآ. وقوله : "انصر أخاك ظالمآ أو مظلومأ"(3)) هذا من الكلام البليغ الوجيز ر ؟ الذي تل من ينسج على منواله ، أو يأتي بمثاله ، وأو فيه للتنويع والتقسيم ، وإنما ظد سئي رد الظالم نصرا ؛ لأنَّ النصر هو العون . ومنه قالوا : أرضق منصورب ، أي : معانة بالمطر ، ومنع الظالم من الظلم عون له على مصلحة نفسه ، وعلى الزجوع إلى الحق ، فكان أولى بأن يسئى نضرا . ودعوى الجاهلية : تنادنجهم عند الغضب ، والاستنجاد : يا ال فلان ! يا بني دء فلان ! وير التي عنى بقوله : "دعوها فإنَّها منتنة"(1) أي : مستخبثة ، قبيحة ؛ لأنَّها تثير الثعضب على غير الحق ، والتقاتل على الباطل ، ثم إنها تجز إلى النار ، كما قال : "من دعا بدعوى الجاهلية فليس منا ، وليتبؤأ مقعده من النارا(2). وقد أبدل الله من دعوى الجاهلية دعوى المسلمين ، فينادى : يا للمسلمين ! كما قال لض : دموئ "فاذعوا بدعوى الهه الذي سئاكم المسلمين "(ا). وكما نادى عمر بن
(9/326)
الخطاب -رضي
---
الله عنه - حين طعن : يا لثه أ يا لنمشلمين ! . فاذا دعا بها المسلم وجبعث إجابته ، والكشف عن أمره على كل من سمعه ؟ فإنَّ ظهر أنه مظلوئم نصر بكل وجه ممكن شرع! لأنه إنما دعا للمسلمين لينصروه على الحق . وإن كان ظالما كفث عن الظلم بالملاطفة والرفق ، فإنَّ نفع ذلك ، وإلا أخذ على يده ، وكفث عن ظنمه ؟ فإنَّ الناس إذا رأوا الظالم ، فلم ياخذوا على يديه : أوشك أن يعثهم الله بعقاب من عنده ، ثم يدعونه فلا يستجاب لهم . وقوله ت لعمر حين قال : دعي أضربئ عنق هذا المنافق : (لا يتحذث موتنه الناس أن محمدا يقتل أصحابه ") دليل على : أن المنانقين الذين علم نفاقهم في المناظ
---
(9/327)
عهد رسول الله ت كانوا مستحقين للقتل ، لكن امتنع النبف لكيهين من ذلك ؟ لئلا يكون قتلهم منفرأ لغيرهم عن الدخول في الإسلام ؛ لأنَّ العرب كانوا أهل ألفة وكبر بحيث لو قتل النبف ث هؤلاء المنافقين ألنفر من بعد عنهم ، فيمتنع من الدخول في الدين ، وقالوا : هو يقتل أصحابه ، رلغضب من ترب من هؤلاء المنافقين ، (ا) فتهيج الحروب وتكثر الفتن ، وشتنع من الدخول في الذين ، وهو نقيض المقصود ، فعفا النث ت عنهم ، ورفق بهم ، وصبر على جفائهم وأذاهم ، وأحسن إليهم حتى انشمرح صدر من أراد الله هدايته ، فرسخ في قلبه الإيمان ، وتبثن له الحق اليقين . وهلك عن بينتن من أراد الة هلاكه ، وكان من الخاسرين . ثم أقام النبي لكض ت يستصحبآ لذلك إلى أن توئاه الله تعالى ، فذهب النفاق وحكمه ؛ لأنَّه ارتفع مسماه واسمه . ولذلك قال مالك : النماق في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الزندتة عندنا اليوم ، وبظهر من مذهبه : أن ذلك الحكم منسوخ بقوله تعالى : اهـ لبن !ينة انمتفقون ؤكذيئ فى تلرسهم ش ض . . . " إلى قوله تعالى ا وفتلوأ تقغيلأ" أ الأحزاب : 60 - 161 ، وبقوله : ا جفدألضفاروأتضنقتين ، أ التوبة : 173 ، أفقد سؤى بينهما في الأمر بالجهاد ، وجهاد الكفار : قتالهم وتتلهم ، فليكن جهاد المنافقين كذلك أ(2) . وفي الآيتين مباحث ليس هذا موضعها ، وقد ذهب غير واحد من أئمتنا إلى أن المنافقين يعفى عنهم ما لم يظهروا نفاتهم ؟ فإنَّ أظهروه تتلوا ، وهذا أيضًا يخالف ما جرى في عهد النبي ط فإنَّ منهم من أظهر نفاقه ، واشتهر عنه حتى عرف به ، والله أعلم بنفاته ، ومع ذلك لم يقتلوا لما ذكرناه ، والله تعالى أعلم .
---
(9/328)
وتد وضح من هذا الحديث إبطال قول من قال : إن النبي ت لم يقتل المنافقين ؛ لأنَّه لم تقنم بئنة معتبرة بعنفاتهم ؟ إذ قد نصق فيه على المانع من ذلك ، رهو غير ما قالوه . وفيه ما يدلّ على أن أهون الشزيخن يجوز العمل على مقتضاه إذا اندفع به الشر الأعظم . رفيه دليل : على القول بصحة الذرانع ، وعلى تعليل نفي الأحكام في بعض الصور بمناسب لذلك الش . قوله : "أتدرون ما المفلس ؟") كذا صحت الرواية ب (ما) فقد وقعت هنا على من يعقل ، وأصلها لما لا يعقل . والمفلس : اسم فاعل من أفلس إذا صار مقلسا ، أي : افتتر ، وكائه صارت دراهمه نلوسا ، كما يقال : أجبن الرجل : إذا صار اصحإلمه جأء ، واتطف : ، ذا صارت دإشه قطو فا(1) ، ويجوذ أن يراد به : إنه صار الرجل يقال فيه : ليس معه فلس ، كما يقال : أتهر الرجل : إذا صار إلى حال يقهر عليها ، وأذذ الرجل : إذا صار إلى حال يذذ فيها ، وقد فئسه القاضي تفليسا : نادى عليه : أنه أفلس . وقوله : ة المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة . . . السه الحديث " : أي : هذا أحق باسم المفلس ؟ إذ تؤخذ منه أعماله التي تعب في الدني تصحيحها بشروطها حتى تبلت منه ، فلما كان وقت فقره إليها أخذت منه ، ثم طرح ! ش النار. فلا إفلاس أعظم من هذا ، ولا أخسر صفقة ممن هذه حاله ، ففيه ما يدلّ على وجوب السعي في التخلى من حقوق الناس في الدنيا بكل ممكن ، والاجتهاد في ذلك ، فإنَّ لم يجد إلى ذلك سبيلآ ، فاجمثار من الأعمال الصالحة ، فلعله بعد أخذ ما عليه تبقى له بقئة راجحة ، والمرجو من كرم الكريم لمن صخت في الأداء نئته ، وعجزث عن ذلك قدرته أن يرضي الله عنه خصومه فيغفر للمطالب والمطلوب ، ويوصلهم إلى أفضل محبوب ، وقد تقدَّم ذكر من قال : إن الضوم لا يؤخذ مما عليه من الحقوق ، وبئنا ما يرد عليه وبماذا ينفصل عنه . وقوله : "لتؤط ن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة") هذا جواب قسم محذوف ، كانه قال : والله
(9/329)
لتؤ ، ن .
---
والحقوق : جمع حق ، وهو ما يحق على الإنسان أن يؤذيه ، رهو يعئم حقوق الأبدان ، والأموال ، والأعراض ، وصغير ذلك ، وكبيره . كما قال تعالى : ا رلقولون يؤظننا مال فذا أنحصنب لا يناش ر صغيرة رلا كبيرة إلآ أخصنها " أالكهف : 49 ، ، وكما قال : اولن محات شقال حغ ! تن خردللأ أء! ابها في با فسبب بر ، أ الأنبياء : 147 . وقوله : "حتى يقاد للشاة الجنحاء من الشاة القزناء") والجلحاء : هي التي لا قررن لها . وكبشن أجلح ، ونماة جلحاء . وبقاد : من القود ، أي : القصاص . وقد حكي : أن أبا هريرة - رضي الله عنه - حمل هذا الحديث على ظاهره ، فقال : يؤتى بالبهائم فيقال لها : كوني ترابا ، وذلك بعد ما يقاد للجماء(ا) من القرناء ، وحينئذ اويتول الي زيخلنتق بهث تزبم ، أالنبا : . 4أ. وقد قيل في معنى الحديث : إن المقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص ، والإغياء فيه حتى يفهم منه : أنه لا بذ لكل أحد منه ، وأنه لا محيص له عنه ، ويتاجمد هذا بما جاء في هذا الحديث عن بعض رراته من الزيادة ، فقال : "حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء ، وللحجر لم ركب على الحجر ؟ وعلى العود : خدش العود؟" فظهر من هذا : أن المقصود منه التمثيل المفيد للاغياء والتهويل ؛ لأنَّ الجمادات لا يعقل خطابها ، ولا ثوابها ، ولا عقابها ، ولم يصز إليه أحذ من العقلاء ، ومتخيله من جملة المعتوهين الأغبياء ، ونظير هذا التمثيل قوله تعالى : ا رلزأن قزابم سيرت به الجبال 000 ، أالرعد : 31 ، ، وقوله : ا لزأنزنا هتا اكتزان عك جل! 000 ، الاية أالحشر : 21 ، ، فتدئر وجه التنظير ، والله بحقائق الأمور عليم خبير .
---
(9/330)
(16 ) ومن باب : مثل المؤمنين (قوله لكض : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشذ بعضه بعضا") تمثيل يفيد الحضق اد على معونة المؤمن للمؤمن ونصرته ، وأن ذلك أمز متاكذ لا لد منه ، فإنَّ البناء " . اد لا يتتم أمره ، ولا تحصل فائدته إلا بأن يكون بعضه يمسك بعضا ، ويقويه ، فإنَّ لم لد يكن كذلك انحتث أجزاؤه ، وخرب بناؤه . وكذلك المؤمن لا يستقل بامور دنياه ودينه إلا بمعونة أخيه ، ومعاضدته ، ومناصرته ، فإنَّ لم يكن ذلك عجز عن القيام بكل مصالحه ، وعن مقاومة مضاذه ، فحينئذ لا يتثم له نظام دنيا ولا دين ، ويلتحق با لها لكين . وقوله : "مثل المؤمنين في تواذهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم مثل الجسد . .. " الحديث ) هكذا صحيح الرواية في تواذهم ، ومعناه واضح ، وقد وقع في رواية : توادهم بغير (في ) ويصخ ذلك ، ويكون محفوظا على أنه بدل الاشتمال 11 من المؤمنين . والتواد مصدر توادد يتوادد تواددأ وتواذا إذا أدغمت ، ومقصود هذا هـ التمثيل : الحضق على ما يتعتيئ من محبة المؤمن ، ونصيحته ، والتهمم بامره . ، (17 ) ومن باب : نحربم الشباب والنيبة (قوله : "المستئان ما قالا ، فعلى الأول ما لم يعتد المظلوم ") المستئان : تثنية مستعبئ من الشعبئ ؟ وهو الشتم والذتم ، وما مرنوعان بالابتداء ، و(ما) موصولة ، وير في موضع رنع بالابتداء أيضًا ، وصلتها تالا ، والعائد محذوف تقديره : قالاه ، ر(على الأول ) خبر ما ، ودخلت الفاء على الخبر لما تضثنه الاسم الموصول من معنى الشرط ، نحو قوله تعالى : ا رمالهكم قن شمروفمن أشه ، أالنحل : 53إ ، وما يى خبرها : خبر المبتدأ الأول الذى هو المستئان . ومعنى الكلام : أن المبتدىء وبالسب هو المختص بإثم السب ؛ لأنَّه ظالم به إذ هو مبتدىء من غير سعبئ ولا استحتاق ، رالثاني منتصر فلا إثم عليه ، ولا جناح ، لقوله تعالى : ا وكمن أتصر بغد جملمه ؟زك!لص مامحبم نن مبلإ ، أالشورى : 41أ ، فى السث الخمر به - لم ان ط ن مباحًا
(9/331)
للمنتصر-
---
فعليه إثمَّ من حيث هو سمبئ ، لكنه عائد إلى الجاني الأول ؛ لأنَّه هو الذي أحوج المنتصر إليه وتستب فيه ، فيرجع إثمه عليه ، ولمجعلم المنتصر من الإثم ؛ لأنَّ الشرع قد رفع عنه الإثم والمؤاخذة ، لكن ما لم يكن من المنتصر عدران إلى ما لا يجوز له ، كما قال : "ما لم يعتد المظلوم " أي : ما لم يجاوز ما سمبئ به إلى غيره ؟ إما بزيادة سسبئ آخر أو بتكرار مثل ذلك السمبئ ، وذلك أن المباح في الانتصار : أن يرذ مثل ما قال الجاني ، أو يتاربه ؛ لأنَّه قصاص ، فلو قال له : يا كلب - مثلأ - فالانتصار أن يرذ عليه بقوله : بل هو الكلب ، فلو كزر هذا اللفظ مرتين أو ثلاثأ لكان منعديا ، بالزاند على الواحدة ، فله 11 ولى ، وعليه إثم الثانية ، وكذلك لو رذ عليه بافحش من 11 ولى ، فيقول له : خنزير-مثلا-كان كل واحد منهما ماثرمآ ؛ لأنَّ كلآ منهما جاز على الآخر ، وهذا ككه مقتض قوله تعالى : افمق أغنلنى عكنش فاغتدوا بر بمثل ما أغتدئ عجكنم " أ البقرة : 194 م ، وقوله : ا وصربرزا ستنتن س!ة!كامم " أ الشورى : 40إ ، وكل ما ذكرناه من جواز الانتصار : إنما هو فيما إذا لم يكن القول كذبآ ، أر بهتانأ ، فلا يجوز أن يتكئم بذلك لا ابتداة ولا قصاصآ ، وكذلك لو كان تذفأ ؟ فلو رذه كان كل واحد منهما قاذفآ للآخر ، وكذلك لو سمبئ المبتدىء أبا المسبوب ، أو جذه لم يجز له أن يرذ ذلك ؛ لأنَّه سعث لمن لم يجن عليه فيكون الرط عدوانآ لا تصاصآ. قال بعض علمائنا : إنما يجوز الانتصار فيما إذا كان الست مما يجوز سعث المرء به عند التاديب كالاحمق ، والجاهل ، والظالم ؛ لأنَّ أحدأ لا ينفد عن بعفر هذه الصنات إلا الأنبياء والأولياء ، فهذا إذا كافاه بسئه فلا حرج عليه ، ولا إثم ، وفي الإثم على الأول بابتدائه وتعزضه لذلك . تنبيه : ظاهر قوله تعالى : ا ولمن أتصر بغدجملمه ؟زلظى ماطنهم ش سبل " أ ا لشورى ؟ -إبد أ : -أفي -الانتفإيي مباح - ، بى على ذبئن -
(9/332)
يدلّ ابحديب ابمذكور ، البهني
---
!له مدح الله من انتصر ممن بغي عليه من غير زيادة على مقدار ما فعل به ، يعني : أنه إنما مدح من حيث إنه اثقى الله في انتصاره ؟ إذا أوقعه على الوجه المشروع ، ولم يفعل ما كانت الجاهلية تفعل من الزيادة على الجناية . وقال غيره : إنما مدح الله من انتصر من الظالم الباغي المعلن بظلمه الذي يعنم ضرره ، فالانتقام منه أفضل ، والانتصار عليه أولى . قال معناه إبراهيم الئخعي ، ولا خفاء في أن العفو عن الجناة وإسقاط المطالبة عنهم بالحقوق مندوب إليه ، مرغب فيه على الجملة ، لقوله تعالى : ا ولمن صبروغفرك ذنك لمقء ير اشآس " أالشورى : 43 ! ، ولقوله : ! فمق عفا بهلع برطبزر ، أقى" أ الشورى : 140 ، وقوله : ا ونيغفوأولخحفحوأ ألاتحتون أن يغفر ألمته لكز واك غنور زحيئ ، أ النور : 22 ، ، وقوله : ! رأن تمفؤأ أنق ب للتقوئ ، أالبقرة : 237أ ، ولقوله ت : "ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا"(ا) ، وقوله : (تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك "(2) ونحوه كثير ، ومع ذلك لة فاختلف العلماء في المحاللة من الحقوق ، فقال سعيدبن المسئب : لا أحلل أحدا. وظاهره : أنه كان لا يجيز أن يعفو عن حق وجب له ، ولا يسقطه ، ولم يفرق بين الظالم ولا غيره ، وهذا هو الذي فهمه مالك عنه . وذهب غيره إلى أنه تجوز المحاللة من جميع الحقوق داسقاطها ، راليه ذهب محمد بن سيرين . والقاسم بن محمد كان يحئل من ظلمه ، ويكره لنفسه الخصوم . وفرق اخرون بين الظالم ، فلم يحللوه ، وبين غيره فحتلوه ، لى اليه ذهب إبراهيم الثخعي ، وهو ظاهر قول مالك ، وقد سئل فقيل له : أرأيت الرجل يموت ، ولك عليه دين ، ولا وفاء له به ؟ قال : أفضل عندي أن أحئله ، وأما الرجل يظلم الرجل فلا أرى ذلك . قال الله عز وجل : ش إنغا ألشبيل ط ألذيئ يظلمون ابخاس " أ الشورى : 42 ، ، فظاهر هذا : أن (إ) روإه بسببم (8؟ ؟ 2)ش . بى التبربذك! ( : 3- 2)ش وايبولجا
(9/333)
(2/ ؟ 100 ) الظالم لا يجوز أن يحتل ، ولم يفزق
---
بين الحقوق ، فيكون مذهبه كمذهب الئخعئ المتقذم ، غير أنه قد روي قول مالك هذا بلفظ اخر ، فقال : أما الرجل يغتاب الرجل ، وينتقصه ، فلا أرى ذلك ، ففهم بعض أصحابنا من هذا : أن ترك المحاللة إنما منعه في الأعراض خاصة ، رأما في سائر الحقوق فيجوز ، وسبب هذا الخلاف : هل تلك الأدلة مبقاة على ظواهرها من التعميم ، أو ير مخضصة فيخرج منها الظالم ؛ لأنَّ تحليله من المظالم يجزئه على الإكثار منها وهو ممنوع بالاجماع ، ثم ذلك عون له على الإثم والعدوان ، وقد قال تعالى : ا ولائعارؤاط ألائص وألئذني ن ، أ المائدة : 2 ، ، وأما الفرق بين الأعراض وغيرها فمبالغة في سذ ذربعة الأعراض ليسارتها وتساهل الناس في أمرها ، فاتتض ذلك المبالنة في الردع عنها ؟ فاذا علم الذي يريد أن يغتاب مسلمآ : أن النيبة وأعراض المسلمين لا يعفى عنها ، ولا يخرج منها" امتنع من الوقوع فيها . قلت : ولر* على هذه التخصيصات سؤالات يطول الكلام بايرادها والانفصال عنها ، والتمسك بالعموم هو الأصل المعلوم ، لا سيما مع توله لطغ : "أيعجز أحدكم أن يكون كابي ضمضم كان إذا أصبح يقول : اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك "(ا)ومع الأصل الكئف في حقوق بني آدم من جواز تصزفهم فيها بالاعطاء رالمنع ، والأخذ والإسقاط ، رالله تعالى أعلم . تفريع : القائلون بجواز التحكل وإسقاط الحقوق اختلفوا : هل تسقط عن الظالم مطالبة الادمئ فقط ، ولا تسقط عنه مطالبة الله عز وجل ؟ أو يسقط عنه الجميع ؟ لأهل العلم فيه تولان . وقوله : "أتدرون ما الغيبة؟") كان هذا السؤال صدر عنه بعد أن جرى ذكر
---
(9/334)
الغيبة ، ولا يبعد أن يكون ذلك بعد نزول قوله تعالى : ارلايغش تجغضكم بغضا ، رالحجرات : 2 اأ ، ففشر النبي ت هذه الغيبة المنهي عنها . ووزنها فغلة ، وهي ماخوذة من الغيبة ، - بفتح الغين - مصدر غاب ؛ لأنَّها ذكر الرجل في حال غيبته بما يكرهه لو سمعه . يقال من ذلك المعنى : اغتاب فلان فلانآ ، يغتابه اغييابآ ، واسم ذلك المعنى : الغيبة ، ولا شك في أنها محزمة ، وكبيرة من الكبائر بالكتاب والسنه ، فالكتاب : توله تعالى : ا ولا!نمي تجضكم بغضا . . . " الآية وأما السنة فكثيرة من أنصها : ما خزجه أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ت ؟ "إن من الكبائر استطالا ؟ المرء في عزض رجل مسلم "(ا) ، وفي كتابه من حديث أنس عنه ف قال : "مررت ليلة أسري بي بقوع لهم أظفاز من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين ياكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم "(2) . له إذا تقررت حقيقة الغيبة وأن أصلها على التحريم فاعلم أنها قد تخرج عن ذلك الأصل صوز ، فتجوز النيبة في بعضها ، وتجب في بعضها ، ويندب إليها في بعضها : فالأولى كغيبة المعلن بالفسق المعروف به ، فيجوز ذكره بفسقه لا بغيره ، مما يكون مشهورا به ، لقولهء : "بغس أخو العشيرة" كما يأتي ، وقوله مجض : "لا غيبة في فاسق "(ا) ، ولقوله : "لن الواجد يحل عرضه ، وعقوبته "(2) . والثاني :
---
(9/335)
جرح شاهد عند خوف إبضاء الحكم بشهادته ، وجرح المحدث الذي يخاف أن يعمل بحديثه ، أو يروى عنه ، وهذه أمور ضرورية في الذين معمول بها ، مجمع من السلف الصالح عليها ، ونحو ذلك : ذكر عيني من استنصحت في مصاهرته ، أو معاملته ، فهذا يجب عليك الاعلام بما تعلم من هناته عند الحاجة إلى ذلك على جهة الاخبار ، كما قال النثء : "أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما أبو جف!م فلا يضع عصاه عن عاتته "(ا). وقد يكون من هذين النوعين ما لا يجب بل يندب إليه ، كفعل المحذثين حين يعرفون بالضفاء مخافة الاغترار بحديثهم ، وكتحريز من لم ينال مخافة معاملة من حاله تجهل ، وحيث حكمنا بوجرب النص على الغيب ، فانما ذلك إذا لم نجد بذأ من التصريح والتنصيص ، فأمَّا لو أغنى التعريض ، والتلويح لحرم التنصيص والتصريح ؟ فإنَّ ذلك أمز ضرورئ ، والضرورج يئ ذر بقذر الحاجة ، والمه تعالى أعلم . وقوله : "و(ن لم يكن فيه ما تقول فقد بهئه ") هو بتخفيف الهاء وتشديد التاء ؟ لإدغام تاء المخاطب في التاء التي هي لام الفعل ، وكذلك رويته ، ويجوز أن تكون مخففة على إستاط تاء الخطاب ، يقال : بهته بهتا وبفتآ وبهتانا ، أي : قال عليه ما لم يقل ، وهو بفات ، رالمقول مبهوت ، ويقال : بهت الرجل - بالكسر - إذا دهش وتحثر ، وبهت -بالضم - مثله ، وأفصح منها : بهت ، كما قال تعالى : ا فمت النرى كفر ، أ البقرة : 1258 ؛ لأنَّه يقال : رجل مبهوت ، ولا يقال : باهت ، ولا بهيت . قاله الكسائي . ( 1 ) روا. أحمد (6/ 2 1 4 ) ،
---
(9/336)
ذئم لهذا الرجل في حال غيبته لما علم النبي لكض من حاله ، وأنه ممن لا غيبة فيه ، وهو عيينة بن حصن بن حذيفة بن مالك الفزاري ، أسلم بعد الفتح ، وقيل : قبله ، رهو من المؤئفة تلوبهم ، وكان من الأعراب الجفاة . روى أبو عمر بن عبد البر عن إبراهيم النخعي : أن عيينة دخل على النبي ت بنير إذن ، فقال النبف ف : "وأين الاذن ؟ ، فتال : ما استاذنت على أحل! من مضر ، وكانت عانشة - رضي الله عنها - مع البيء فغال : من هذه الحميراء ؟ ففال : "أتم المزمنين ". فقال : ألا أنزل لك عن أجمل منها ؟ ففالت عائثة - رض الله عنها - : من هذا يا رسول الله ؟ قال : "هذا أحمق مطاع ، وهو على ما ترين سيئد قومه "(ا). وقال الزهري : كان لعيينة ابن أخ من جلساء عمر -رضي الله عنه - يقال له ؟ الجذ بن قيس ، فقال عيينة لابن أخيه : ألا تدخنني على هذا ؟ فقال : أخاف أن تتكئم بما لا ينبغي ، فقال : لا أفعل ، فادخله على عمر -رض الله عنه - فقال : يا بن الخطاب أ والله ما تقسم بالعدل ، ولا تعطي الجزل ، فغضب عمر - رضي الله عنه - غضبا شديدا حتى هتم أن يوقع به ، فتال ابن أخيه : يا أمير المزمنين ! إن الله تعالى يقول في كتابه : ا فذآلعنررأمش لهكص ت رأقرضرعن ألجفين " أ الأعراف : 199 أ ، وإن هذا من الجاهلين . قال : فخذ عنه عمر ، وكان عمر -رض الله عنه - وئافآ عند كتاب الله تعالى . قال وقوله ف : ابئس ابن العشيرة ، أو رجل العشيرة") هذا من رسول الله لجطظه القاضي عياض : وقد كان من عيينة في حياة النبي ت ، وبعد موته ما يدلّ على ضعف إيمانه ، بل : فيه علئم من إعلام النبي ت أنه بئس ابن العشيرة ، وقد ظهر ذلك منه ، إذ هو مس ارتذ وجيء به أسيرا إلى أبي بكر - رضي الله عنه - والله أعلم بما ختم له .
---
(9/337)
قلت : ويظهر من قول النبي ف فيه : "إن شز الناس منزلة عند الة يوم القيامة من ودعه الناس اتقاء فحشه " أن عيينة ختم له بخاتمة سوء ؛ لأنَّه ممن القى النث ف فحشه رشزه ، رالناس . فهو إذأ : شز الناس منزلة عند الة يوم القيامة . شز رلا يكون كذلك حتى يختم الله تعالى له بالكفر ، والله تعالى أعلم . ففي حديثه من الفقه : جوازغيبة : المعلن بفسقه ونفاته ، والأميرالجائر من والكافر ، وصاحب البدعة ، وجواز مداراتهم اخ لقاء شرهم ، لكن ما لم يؤد ذلك إلى في المداهنة في دين الله تعالى . والفرق بين المداراة والمداهنة ، أن المداراة : بذل الدنيا لصلاح الدنيا أر الدين ، وهي مباحة ومستحسنة في بعض الأحوال ، والمداهنة المذمومة المحزمة : هي بذل الدين لصالح الدنيا ، والنبي ف إنما بذل له الة من دنياه حسن عشرته ، والزفق في مكالمته ، وطلاقة وجهه ، ولم يمدخه بقول ، اوأ ا ولا روعي في ذلك في حديث . فعلى هذا فلا يناتضر توله ت في هذا الرجل فعله معه ؛ لأنَّ قوله ذلك إخبار بحق ، ومداراته له حسن عشرة مع الخلق ، فلا مدفع لأهل الزينع والضلال ؟ إذ لا يبقى على ما أوضحناه إشكال . وقوله : "من ودعه ، أو تركه التاس اتقاء فحشه ") هذا شك من بعض الرواة في أي اللفظين قال النبف ت ؟ فإنَّ كان الصحيح ودعه فقد تكتم النبي مجض بالأصل المرفوض ، كما قد تكثم به الشاعر الذي هو أنس بن زنيم في قوله : سل أميري ما الذي غتره عن وصالي اليؤم حئى ودعه ؟ وقد حكي عن بعض السلف : أنه قرأ : اماوغك رتك وما!" أ الضحى : 3 ، بتخفيف الدال ، وقد صخ عن النبف ت أنه تكئم بمصدر ذلك المرفوض حيث قال : "لينتهين أقوام عن وذعهم الجمعات ، أو ليختمن الله على قلوبهم "(1) ، وهذا ككه ير ، على من قال من النحوفي : إن العرب قد أماتت ماضي هذا الفعل ومصدره ، ولا يعكثم به استغناة عن ذلك بتركه ، فإنَّ أراد به هذا القائل أنه لا يوجد في كلامهم ، فقد كذبه النقل الصحيح ، وإن أراد
(9/338)
أن ذلك يقع
---
، ولكنه قليل ، وشال! في الاستعمال ، فهو الصحيح .
(18 و19 ) ومن باب : الترغيب في العفو والستر والرفق (2) (قوله : "ما نقصت صدتة من مال ") فيه وجهان : احدهما : أنه بقدر ما ينقص منه يزيد الله فيه ، وينئيه ، ريكثره . الثاني : أنه ران نقص في نفسه ففي الأجر والثواب ما يجبر ذلك النقص باضا فه . وقوله : "ما زاد الله عبدأ بعفو إلا عزأ") فيه أيضًا وجهان :
أحدهما : ظاهره ، فإنَّ من عرف بالضفح والعفو ساد وعظم في القلوب . والثاني : أن يكون أجره وثوابه وجاهه وعا؟ه في الآخرة أكثر . وقوله : "وما تراضع أحذ لفه إلأ رفعه الله ") التواضع : الانكسار ، والتذلل ، ث ونقيضه النكتر والترفع . والتواضع يقتضي متواضا له ؟ فإنَّ كان المتواضع له هو الله تعالى ، أو من أمر الله بالثواضع له كالرسول ، والامام ، والحاكم ، والوالد ، والعالم ، فهو التواضع الواجب المحمود ؟ الذي يرفع الله تعالى به صاحبه في الدنيا التو والاخرة ، وأما التواضع لسانر الخلق فالأصل فيه : أنه محموذ ومندوفي إليه ، ا أد ومرغمت فيه إذا قصد به ونجه الله ، ومن كان كذلك رفع الله تعالى قدره في القلوب ، ووطئب ذنهره في الأفواه ، ورفع درجته في الآخرة ، وأما التواضع لأهل الدنيا ، التو ولأهل الظلم ، فذلك هر الذذ الذي لا عز معه ، والخشة التي لا رفعة معها ، بل : الدة يترتب عليها ذذ الاخرة . وكل صفقة خاسرة -نعوذ بالله من ذلك -. وقد تقدم الكلام على العفو رالشتر .
---
(9/339)
وقوله : "إن الله رفين يحعبئ الرفق ") قد تقزر في غير موضمع : أن العلماء لئه اختلفوا في أسماء الله تعالى ، هل الأصل فيها التوقيف . فلا يسقى إلا بما سقى به نفسه في كتابه ، أو على لسان رسوله ، أو بجمع ا لأقة عليه ؟ أو : ا لأصل جواز تسميته تعالى بكل اسم حسن إلا أن يمنع منه مانغ شرعث ؟ الأول : لأبي حسن (1). والثاني : للتاضي أبي بكر(2). رمثار الخلاف : هل الألف واللام في قوله تعالى : اظص لأشا : س!ن!ش ؟عؤ بها ، (الأعراف : 1180 للجنس ، أو للعهد ؟ ثم إذا تنزلنا على رأى الشيخ أبي الحسن ، هل نقتبس أسماءه تعالى من أخبار الآحاد ، أو لا ؟ اختلف المتاخرون من الأشعرية ، في ذلك على تولين ، والصحيح قبول أخبار الآحاد في ذلك ؛ لأنَّ إطلاق الأسماء على الله نعالى حنهئم شرعي عملف فيكتفى فيه بخبر الواحد والظواهر ؟ كسانر الأحكام العملية ، فافا معنى الاسم فإنَّ شهد باتصاف الحق به تاطغ عتلث ، أو سمعث وجب قبوله وعلمه ، وإلا لم يجعبئ . ثم هل يكتفى في كون الكلمة اسمأ من أسماء الله تعالى بوجودها في كلام الشارع من غير تكرار ، ولا كثرة ، أم لا ئذ منهما ؟ فيه رأيان ، وقد سبق القول في ذلك . والرفيق : هو الكثير الرفق ، وهو الئين ، والثسهيل ، وضده العنف ، والتشديد والثصعيب ، وقد يجيء الرفق بمعنى الارفاق ، وهو : إعطاء ما يرتفق به ، قال أبو زيد : يقال : رنقت به ، وأرفقته بمعنى : نفعته ، وكلاهما صحيخ في حق الله تعالى ؟ إذ هو
-. ، -
---
(9/340)
الميشر والمسهل لاسباب الخير والمنافع كلها ، والمعطي لها ، فلا تيسير إلا بتيسيره ، ولا منفعة إلا باعطائه وتقديره . وقد يجيء الرفق أيضًا بمعنى : التمهل في الأمر ، والتأنى فيه ، يقال منه : رفقت الدابة أرفقها رفقا : إذا شددت عضدها بحبل لتبطىء في مشيها ، وعلى هذا فيكون الرفيق في حق الله تعالى بمعنى : الحليم ؟ فإنَّه حكم ا لا يعجل بعقوبة العصاة ، بل : يمهل ليترب من سبقث له السعادة ، ويزداد إنَّما من سبتت له الشقاوة ، وهذا المعنى أليق بالحديث ؟ فإنَّه السبب الذي أخرجه . وذلك أن اليهود سئموا على الني ط فقالوا : الشام عليك ، ففهمتهم عائشة - رضي الله عنها - فتالت : بل عليكم الشام واللعنة . فقال لها النئ ث هذا الحديث . وقوله : "إن الله رفيق يحعث الرفق ") أى : يامر به ، وشض عليه ، وقد تتذم : أن حعبئ الله لللم عة شرعه لها ، وترغيبه فيها ، رحمت الله لمن أحئه من عباده : إكرامه له . وقوله : "ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف ") ويقال : بفتح العيننر وضئها ، معناه : إن الله تعالى يعطي عليه في الدنيا من الثناء الجميل ، وفي الاخرة من الثواب الجزيل ما لا يغطي على العنف الجائز. وبيان هذا بأن يكون أمر ما من الأمور سوغ الشرع أن يرشوضل إليه بالرفق وبالعنف ، فسلوك طريق الزفق أولى لما يحصل عليه من الثناء على فاغله بخعنمن الخلق ، ولما يترثب عليه من حمنمن الأعمال ، وكمال منفعتها ، ولهذا أشار مض بقوله : "ما كان الرفق في شيء إلا " زانه " . وضذه الخزق والاستعجال ، وهو مقسذ للأعمال ، وموجمبئ لسوء الأحدوثة ، وهو المعتر عنه بقوله : اولا نزع من شيء إلا شانه " . أي : عابه ، وكان له شيئًا. وأما الخزق والعنف : فمفؤلان مصالح الدنيا ، وقد يفضيان إلى تفويت ثواب الاخرة ؟ ولذلك قال لصغ : "من يحرم الرفق يحرم الخير". أي : يفضي ذلك به إلى أن يخرم خنر الدنيا والآخرة .
---
(9/341)
(20) ومن باب قوله : لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا قد تقدَّم : أن أصل الئنن رالطرد والبعد ، وهو في الشرع : البعد عن رحمة الله معنى تعالى وثوابه إلى نار الله وعقابه ، وأن لعن المؤمن كبيرج من الكبائر ؟ إذ قد وضرء قال ف : "لعن المؤمن كقتله ، (1 ، . وقوله : "لا ينبني لصديق أن يكون لغانا") صذيق : فغيل : وهو الكثير الصدق والتصديق ، كما قد تقزر في صفة أبي بكر - رضي الله عنه - والتئان : الكثير الكعن . ومعى هذا الحديث : أن من كان صادقآ في أقواله وأفعاله مصدقا بمعنى اللعنة الشرعية ، ألم تكن كثرة اللعن من خلقه ، لأنه إذا لعن من لا يستحق اللعنة الشرعيةأ(2) ، فقد دعا عليه بأن يبعد من رحمة الله وجنته ، ويدخل في ناره وسخطه . والإكثار من هذا يناقض أوصاف الضذيقين ؟ فإنَّ من أعظم صفاتهم الشفقة ، والرحمة للحيوان مطلقا ، وخصوصا بني آدم ، وخصوصا المؤمن ؟ فإنَّ المؤمنين كالجسد الواحد ، وكالبنيان لما تقدَّم ، فكيف يليق أن يدعى عليهم باللعنة التي معناها الهلاك والخلود فى نار الاخرة . فمن كثر منه التغن فقد سلب منصب سنبئ - ا لصدة (1 ) رواه ال!بخاري (6105) ، ومسلم ( 110) . (2) ما بين حاصرتين ساتط من (ع ).
---
(9/342)
الصديقثة ، ومن سلبه فقد سلب منصب الشفاعة ، والشهادة الأخروتة ، كما قال : "لا يكون الئغانون شفعا" ولا شهداء يوم القيامة" . ط نما خمق الئعان بالذكر ولم يقل : اللأعن ، لأن الضديق قد يلعن من أمره الشرع بلعنه " وقد يقع منه الئغن فلتة وندرة ، ثم يراجع ، وذلك لا يخرجه عن الصذيتئة ، رلا يفهم من نسبتنا الصذيقئة لنير أبي بكر مساواة غير أبي بكر ، لأبي بكر - رضي الله عنه - في صديقثمه ؟ فإنَّ ذلك باطل بما قد علم : أن أبا بكر- رض الله عنه - أفضل الناس بعد رسول الله س على ما تقدَّم ؟ لكن : المؤمنون الذين ليسوا بلغانين لهم حأ من تلك الصذيقئة ، ثم هم متناوتون فيها على حسب ما تسم لهم منها ، والله تعالى أعلم . وقولهء في الناتة المدعو عليها بالكعنة : "خذوا ما عليها فإنَّها ملعونة") حمله بعض الناس على ظاهره ، فقال : أطلع الله تعالى نبئه ت على أن هذه الناقة قد لعنها الله تعالى ، وقد استجيب لصاحبتها فيها ؟ فإنَّ أراد هذا القائل : أن الله تعالى لعن هذه الناقة كما يلعن من استحق الئعنة من المكئفين كان ذلك باطلا ؟ إذ الناتة ليست بمكئفة ، وأيضًا فإنَّ الناتة لم يصدز منها ما يوجب لغنها ، وان أراد
---
(9/343)
أن هذه الئعنة : إنما هي عبارة عن إبعاد هذه الناقة عن مالكتها ، وعن استخدامها إياها فتلك اللعنة إنما ترجع لصاحبتها ؟ إذ قد حيل بينها وبين مالها ، ومنعت الانتفاغ به ، لا للناقة ، لانها قد استراحت من ثقل الحمل وكد السير ، فإنَّ قيل : فلعل معنى لعنة اشه الناقة أن تترك ألأ يتعزض لها أحد ، فالجواب : أن معنى ترك الناس لها إنما هو أنهم لم يؤوها إلى رحالهم ، ولا استعملوها في حمل أثقالهم ، فأمَّا أن ينركوها في غير مرعى ، ومن غير علف حف تهلد فليس في الحديث ما يد ، عليه . ثم هو مخالف لقاعدة الشرع في الأمر بالرفق بالبهائم ، والنهي عن تعذببها ، وإنما كان هذا منه ت تاديبآ لصاحبتهها ، رعتوبة لها فيما دعت عليها بما دعت به . وششفاد منه : جواز العقربة في المال لمن جف فيه بما يناسب ذلك ، جواز رالله تعالى أعلم . والورتاء : التي يخالط بياضهاسواذ والا؟كر أورق . في اد وقوله : فقالت : حل ) هي كلمة تزجر بها الابل ، يقال : حل أ حل ! بسكون اللام ويقال : حل ! حل ! بكسر اللام فيهما منؤلة ، وغير منؤلة .
---
(9/344)
55!!هأ(21)ومن باب : لم يبعث النبي لعانا وإنما بعث رحمة أ(1) قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إني لم أبعث لعانا ، إنما بعثت رحمة") كان هذا منه رز بعد دعائه على رعل ، وذكوان ، وعصية الذين قتلوا أصحابه ببنر معونة ، فاقام النبي ت شهرأ يدعو عليهم ، ربلعنهم في اخر كل صلافي من الضلوات الخمس يقنت بذلك حتى نزل عليه جبريل نقال : "إن الة تعالى لم يبعثك لغانآ ولا ستابا ، دانما بعثك رحمة ، ولم يبعثك عذابا" ثم أنزل الله تعالى : ا لتس للث من الأفرثف برأؤي!ؤب طنهنم أز يمذجمنم فإنَّهنم بخشوبر ، أ ال عمران : 128 إ" على ما خزجه أبو داود في مراسيله (2) من حديث خالد بن أبي عمران ، وفي الصحيحين ما يؤجمد ذلك ، ويشهد بصحته . ر قوله : "إنما بعثت رحمة" هذا كقوله تعالى : اوما أزس!ك إلآرخة شغلميئ ، أالأنبياء : 107 ! ، أي : بالرسالة العامة ، والإرشاد للهداية ، والاجتهاد في التبليغ ، رالمبالنة في النصح ، والحرص على إيمان الجميع ، وبالصبر على جنانهم ، وترك الدعاء عليهم ؟ إذ لو دعا عليهم لهلكوا . وهذه الرحمة يشترك فيها
---
(9/345)
المؤمن والكافر ، أما رحمته الخاضة فلمن هداه الله تعالى ، ونؤر قلبه بالإيمان ، وزين جوارحه بالطاعة ، كما قال تعالى : الالمثبنيئ روث زحيض " أ التوبة : 128 أ ، فهذا هو المغمور برحمة الله ، المعدود في زمرة الكائنين معه في مستقز كرامته ، جعلنا الله منهم ، ولا حال بينغا وبينهم . وقوله : لمن أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان ) هذا الكلام من الشهل الممتنع ، وذلك أن معناه أن هذين الزجلين ما أصابا منك خيرا ، وان كان غيرهما فد لم صلم به ، لكن تنزيل مذا المعئى عهى لم فراد ذلك الكلام : فيه صعوبة ، ووجه الئنزيل يتبثيئ بالإعراب ، وهو أن اللام في لمن . هي : لام الابتداء ، وهي متضمنة للقسم ، ومن : موصولة في موضع رفع بالابتداء ، وصلتها : أصاب ، وعائدها : المضمر في أصاب ، رما بعدها متعلق به ، وخبره محذوف تقديره : والنه لرجل أصاب منك خيرأ : فانز أو ناج . ثم نفى عن هذين الزجلين إصابة ذلك الخير بقوله : ما أصابه هذان ، ولا يصح أن يكون ما أصابه خبرأ د (من ) المبتدأ لخلوها عن عاند يعود على نفس المبتدأ ، وأما الضمير في أصابه فهو للخير ، لا لمن ، فتامله يصخ لك ما قلناه ، والله تعالى أعلم. وقوله : "اللهم ! إني بشز أغضب كما يغضب البشر ، فاقي المسلمين لعنته ، محه أو سببته ، أو جلذته ، فاجعل ذلك له كفارة ورحمة") ظاهر هذا : أنه خاف أن ينف
---
(9/346)
يصدر عنه في حال غضبه شيء من تلك الأمور فيتعلق به حق مسلم ، فدعا الله تعالى ، ورغب إليه في أنه : إن وقع منه شي 4 من ذلك لغير مستحن في ألأ يفعل بالمدعو علبه مقتض ظاهر ذلك الدعاء ، وأن يعوضه من ذلك مغفرة لذنوبه ، ورفعة في درجاته ، فاجاب الئة تعالى طلبة نبيه ط ووعده بذلك ، فلزم ذلك بوعده الصدق ، وقوله الحق ، وعن هذا عئر النث ت بقوله : "شارطت رئي " ، و"شرط على رئي " ، و"اتخذت عنده عهدا لن يخلفنيه " لا أن الهه تعالى يشترط عليه شرط ، ولا يجب عليه لأحد حق ، بل : ذلك ككه بمقتض فضله ، وكرمه على حسب ما سبق في علمه . فإنَّ قيل : فكيف يجوز أن يصدر من النبف لكض لعن ، أو سمث ، أو جلذ لغير مستحقه ، وهو معصونم من مثل ذلك في النضب ، والزضا ؛ لأنَّ كل ذلك محزم وكبيرة ، والأنبياء معصومون عن الكبائر ، إما بدليل العقل ، أو بدليل الإجماع كما تقدَّم ؟ قلت : قد أشكل هذا على العلماء ، وراموا التخلص من ذلك باوجه متعددة ، أوضحها وجة واحد ، وهو : أن النف لض إنما يغضب لما يرى من المغضوب غليه من مخالفة الشرع ، فغضبه لثه تعالى لا لنفسه ؟ فإنَّه ما كان يغضب لنفسه ، ولا ينتقم لها ، وقد قزرنا في الأصول : أن الظاهر من غضبه تحريم الفعل المغضوب من أجله . وعلى هذا فيجوز له : أن يؤذب المخالف له باللعن والشمبئ والجلد والذعاء عليه بالمكروه ، وذلك بحسب مخالفة المخالف ، غير أن ذلك المخالف قد يكون ما صدر منه فلتة أوجبتها غفلة ، أو غلبة نفس ، أو شيطان ، وله فيما بينه وبين الله تعالى عمل خالص ، وحاذ صادق يدفع الله عنه بسبب ذلك أثر ما صدر عن الثبئ في له من ذلك القول ، أو الفعل . وعن هذا عئر النبي ! بقوله : "فايما أحل! دعوت عليه من أمتي بدعو ؟ ليس لها باهل أن تجعلها له طهورا ،
---
(9/347)
وزكاة ، وقزبة تقزبه بها يوم القيامة" أي : عؤضه من تلك الدعوة بذلك ، والله تعالى أعلم . قلت : وقد يدخل في قوله : أتما أحد من أمتي دعوت عليه : ا لدعوات الجارية على اللسان من غير قضد للوتوع ، كقوله : "تربت يمينك "(ا) و"عقرى حنقى"(2). ومن هذا النوع توله لليتيمة : "لا كبر سثك " ؟ فإنَّ هذه لم تكن عن غضب ، وهذه عادب غالبًائي في العرب يصلون كلامهم بهذه الدعوات ، ويجعلونها دعاما لكلامهم من غير قصد منهم لمعانيها ، وقد قدمنا في كتاب الطهارة في هذا كلاما للبديع ، وهو من القول البديع . وبما ذكرناه يرتفع الإشكال ، ويحصل الانفصال .
ووجه لغة إلي هريرة في : جلذه (3) : أنه قلب التاء دالا لقرب
الأخرى : كفارة . والصلاة من الله تعالى : الرحمة ، كما قد عتر عنها في الرواية الأخرى . والزكاة : الزيادة في الأجر كما قد عتر عنها في الرواية الأخرى بالأجر. والقربة : مط يقزب إلى الله تعالى لى إلى رضرانه . وفيه ما يدلّ على تاكد الشفقة على الثأ اليتيم ، والذبئ عنه ، والحنؤعليه . اقي و(قول ابن عباس -رضي الله عنهما- : كنت ألعب مع الضبيان ) دليل على نخل! جواز تخلية الضغير لتعب لتنشط نفسه ، وتتقوس أعضاؤه ، وتتوفح رجلاه ، أي : لتنتصب .
---
(9/348)
وقوله : فجاء رسول الله بئ فتواريت خنف باب ) أي : اختفيت بالباب ، وكانه استحى من النبي ت وهابه . وقوله ؟ فحطافي حظاة) فشره أمية بن خالد بقفدني قفدة ، ءوكلاهما يحتاج إلى تفسير ، فأمَّا حطاني : فهو بالحاء المهملة ، وبالهمزة على قول شمر ، وهو المحكي في الضحاح ، وهكذا تتن ده أهل الإتقان والضعبط ، رهو أن تضرب بيدك مبسوطة في القفا ، أو بين الكتفين ، وجاء به الهروقي غير مهموز في باب الحاء ، والطاء ، والواو ، وقال ابن الأعرابي : الحطو : تحريك الشيء متزعزعأ. وأما القفد -بتقديم القاف على الفاء- فالمعروف عند اللغويين أنه : المشي على صدور القدمين من قبل الأصابع ، ولا تبلغ عقباه الأرض . يقال : رجل أقفد ، وامرأة تفداء ، هو القفد - بفتح القاف والفاء -. قلت : ولم أجذ قفدني بمعنى حطاني إلا في تفسير أمية هذا . وهذا الضرب من النبي ف لابن عباص تاديعبئ له ، ولعله : لأجل اختفإنَّه منه إذ كان حقه أن يجيء إليه ، ولا يفز منه . وبحتمل أن يكون هذا الضرب بعد أن أمره أن يدعو له معاوية ، فلم يؤكذ على معاوية الدعوة ، وتراخى في ذلك ، ألا ترى قوله في المرتين : هو ياكل ، ولم يزذ على ذلك ، وكان حفه في المرة الثانية ألأ يفارته حتى يأتي يه ، والنه تعالى أعلم . ففيه تاديب الصغار بالضرب الخفيف الذي يليق بهم ، وبحسب ما يصدر عنه . وقوله : "ادع لي معاوية") فيه استعمال الصنير فيما يليق بهم من الأعمال . وقوله : "لا أشبع الله بطنه ") يحتمل أن يكون من نوع : "لا كبر سثك " كما قلناه ، على تقدير : أن يكون معاوبة من اسل في أمر كان معذورا به من شدة الجوع ، أو مخافة فساد الطعام ، أو غير ذلك ، وهذا المعنى تاؤل من أدخل هذا الحديث في مناقب معاوبة ، فكانه كتى به عن أنه دعا عليه بسبب أمر كان معذورا به ، فحصل له من دعاء النبي ف الكفارة والرحمة والقربة إلى الله تعالى التي دعا بها النبت ف كما ذكرناه . ويحتمل : أن يكون هذا الدعاء من
(9/349)
النبي ت على
---
حقيقته أدبا لمعاوية على تعثطه في إجابة دعوة الني ط . وإجابة دعوته ئ واجبة على الفور ، بدليل حديث ائف الذي أنكر عليه في ترك إجابته ، وكان أبي ل! في الصلاة . (22 و23) ومن باب : ما بهر في ذي الوجهين وفي النمبمة والتحذير من الكذب (1 ) (قوله : "إن من شر الناس ذى الوجهين ") يعني به الذي يدخل بين الناس بال!ر زو ا والفساد ، ويواجه كل طانفة بما يتوخه به عندها مما يزضيها من ال!ز ، فإنَّ رفع من ا حديث أحدهما إلى الاخر على جهة الشر : فهو ذو الوجهين النثام ، وأما من كان ذا ونجهين في الاصلاح بين الناس ، فيواجه كل طائفة بوجه خير ، وقال لكل واحدة منهما من الخير خلاف ما يقول للأخرى ، فهو الذي يسئى : بالمصلح ، ويخغله ذلك يسثى : الإصلاح ؟ وإن كان كاذبآ ؟ لقوله ط : "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرا ، وينمي خيرا" . (1 ) شرح المؤلف - رحمه الله - في المنهم تحت هذا العنوان : هذا الباب ، رالباب الذي يليه ، وهر : باب الأمر بالصدق رالتحذير عن الكذب وما يباح فيه .
ألزنجل يخصدؤ ، ويتحرى"انضدق حتى ريكتب غن!التة صذيقا وإيأكم والكذتبئ ؟
---
(9/350)
وقوله : "ألا أنثمكم ما العضه ؟") هكذا أذكر أني قرليرله بفتح العين ، له اسكان الضاد والهاء ، وهذا عند الجئاني ، وهو مصدر عضهه يعضهه عضها : إذا رماه بكذب وبهتان ، وقد رواه أكثر الشيوخ ما العضة - بكسر العين وفتح الضاد رالتاء المنقلبة في الوقف هاج وهي أصوب ؛ لأنَّ العضة اسم ، والنميمة : اسم ، فصخ تفسير الاسم بالاسم ، والعضه مصدره ، ولا يحسن تفسير المصدر بالاسم . فالرواية الئانية أولى ، والذي يبئين لك أن العضه اسم ما قاله الكسافي : قال : العضه : الكذب والبهتان ، وجمعها عضون مثل : عزه وعزين ، وقد بتنا أن العضة : المصدر ، فصح ما قلناه ، وقد تقدَّم القول في حنهم ذي الوجهين والنقام ، وقد فسر النبي ل! العضة بالئميمة ؛ لأنَّ النميمة لا تنفد عن الكذب والبهتان غالبًا . وقوله : "عليكم بالضدق ؟ فإنَّ الصدق يهدي إلى البز ؟ وإن البز يهدي إلى الجنة ، واجماكم والكذب . . . " الحديث ) يهدي : يرشد ويوصل ، والبز : العمل الصالح أو الجنة كما قذمناه . والفجور : الأعمال الشئئة . وعليكم من ألفاظ الإعزاء المصزحة بالإلزام ، فحو ؟ على كل من فهم عن الله تعالى أن يلازم الضذق في ملا ا الأقوال ، والإخلاص في الأعمال ، والصفاء في الأحوال ، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ، ووصل إلى رضا النفار. وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك كله بقوله عند ذكر أحوال الثلاثة التانبين (ا) فقال : ا يم تم ايها ألنريئ . امؤأ أتتو) ألأ بهونوأ مع ألقئدتيئ " والتوبة : 19 اأ. والقول في الكذب المحذر عنه على الضذ من القول في الصدق ، وقد تقدَّم القول في البر والفجور والهدى . و(قول أم كلثوم : ولم أسمعه يرخص في شي ج مما يقوله الناس إلا في ثلاث ) تعني بذلك : أنه لم يرخص في شي فى مما يكذب الناس فيه إلا في هذه الثلاث ، وقد جاء لفظ الكذب نصا في كتاب الترمذى . من حديث أسماء بنت (ا) هم كعب بن مالك ومرارة بن ربيعة وهلال بن أمية الواقفي . وككهم من الأنصار.
(9/351)
وانظر قصتهم
---
في تفسير القرطبي (8/ 282) .
" يزيد ، قالت : قال رسول الله مي : "لا يحل الكذب إلا في ثلاث : يحذث الرجل امر؟له ليرضيها ، والكذب في الحرب ، والكذب ليصلح بين الناس "(1). فهذه الأحاديث قد أفادت : أن الكذب كئه محزنم لا يحل منه شي 4 إلا هذه الثلاثة ؟ فإنَّه رخص فيها لما جصل بذلك من المصالح ، ويندفع به من المفاسد ، والأؤلى : ألا يكذب في هذ. الثلاثة ؟ إذا وجد عنه مندوحة ؟ فإنَّ لم توجد المندوحة أعملت الزخصة . وقد يجب ذلك بحسب الحاجة إلى تلك المصلحة ، والضرورة إلى دفع تلك المفسدة ، وما ذكرته هو -إن شاء الله - مذهب أكثر العلماء ، وقد ذهب " الطركما إلى أنه لا يجوز الكذب الصريح ب!ثي فى من الأشياء لا في هذه الثلاثة ، ولا في غيرها متمسِّكًا بالقاعدة الكلية في تحريمه ، وتاؤل هذه الأحاديث على التورية رالتعريض ، وهو تاربل لا يعضده دليل ، ولا تعارض بين العموم والخصوص كما هو عن العلماء منصومق . وأما كذبة تنجي ميما ، أوليآ ، أو أممآ ، أو مظلومآ ممن يريد ظلمه ، فذلك لا تختلف في وجوبه أمة من الأمم ، لا العرب ، ولا العجم .
وقوله : 5إن الرجل لا يزال يصدق ، ويتحزى الصذق حتى يكتب عند الله صديقآ") يتحرى الصدق يقصد إليه ويتوخاه ، ويجتنب نقيضه الذي هو الكذب ، حف يكون الضذق غالب حاله ، نيكتب من جملة الصديقين ، وبثبت في ديوانهم ، ركذلك التول في الكذب . وأصل الكثب : الضم والجمع ، ومنه : كتبت البغلة : إذا جمعت بين شقرنجها بحنقة.
---
(9/352)
وقوله : ا صتب فى تلوبهم آلإينن " أ المجادلة : 22! جمعه وثتته ، و: اصش ألمتة لاظف لبماورس!" أ المجادلة : 121 أى : حكم وأوجب ) ، فكانه جمع ما حكم به في المحكوم عليه ، وكتبت الكتاب : جمعت فيه المكتوب وثئته ، وقد تقدَّم التول في الصذيق . وخزج أبو مسعود الدمشقي حديث عبد الله بن مسعود هذا وزاد فيه : "وان شز الروايا روايا الكذب ، وإن الكذب لا يصلح فيه جه ولا هزل ، ولا يعد الرجل صاحبه فيخلفه ". وذكر أبو مسعود : أن مسلما خزج هذه الزيادة ، ولم تقع لنا هذه الزيادة ، ولا لأحد من أشياخنا فيما علمناه ، وقال أبو عبد الله الحميدي : وليست عندنا . رالروايا : جمع راوية ، يعني به : حامل الكذب وراريه ، والهاء فيه للمبالغة ، كعلأمة ونشابة ، أو يكون استعارة ، شثه حامل الكذب لحمله إياه بالرارية الحاملة للماء . رفيه حجَّة للطبرى في تحريمه الكذب مطلقا وعمومآ. وفيه ما يدلأ على وجوب الوفاء بالوعد ، ولو كان بالشيء الحقير مع الصبف وجوا الصنير. بالوه
---
(9/353)
(24) ومن باب : ما يقال عند الغضب والنهي عن ضرب الوجه (قوله ت للغضبان : "إفي لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ") يدلّ : على أن الشيطان له تاثير في تهييج الغضب ، وزيادته حتى يحمله على البطش بالمغضوب عليه ، أو إتلافه ، أو إتلاف نفسه ، أو شز يفعله يستحق به العقوبة في الدنيا والآخرة ، ناذا تعؤذ الغضبان بالله من الشيطان الرجيم ، وصخ تصده لذلك فقد التجا إلى الله تعالى ، وقصده ، واستجار به ، والفه تعالى ممرم من أن يخذل من استجار به ، ولما جهل ذلك الرجل ذلك المعنى ، وظن أن الذي يحتاج إلى الئعؤذ إنما هو المجنون ، فقال : أمجنونا تراني ؟ منكرا على من نئهه على ما يصلحه ، وراذأ لما ينفعه ، وهذا من أقبح الجنون ، والجنون فنون (1) ، وكان هذا الرجل كان من جفاة الأعراب الذين تلوبهم من الفقه والفهم خراب . وقوله : "أتدرون ما تعه ون الزتوب فيكم ، قال : قلنا : الذي لا يولد له ) ا لرتوب : فعول ، وهو ا لكثير ا لمراقبة ، كضروب ، وتتول ، لكنه صا ر في عرف استعمالهم عبارة عن المرأة التي لا يعيش لها ولذ ، كما قال عبيد بن الأبرص :
---
(9/354)
. . .. . . . . .. . .. . . .. . . ... كثم ئهاشيخة رتوب "ا ، قلت : هذا نقل أهل اللغة ، ولم يذكروا أن الزقوب يقال على من لا يولد له ، مع أنه قد كان معروفآ عند الصحابة -رضي الله عنهم - ، ولذلك أجابوا به رسول الله ئ . والقياس يقتضيه ؛ لأنَّ الذي لا يولد له يكثر ارتقابه للولد ، وانتظاره له ، ويطمع فيه إذا كان ممن يرتجى ذلك ، كما يقال على المرأة التي ترقب موت زوجها : رتوب . وللناتة الني ترتب الحوض فتنفر منه ، ولا تقربه : رقوب . قلت : وبحتمل أن يحمل قولهم في الرتوب : إنه الذي لا يولد له بعد فقد أولاده لوصوله من الكبر إلى حال لا يولد له ، فتجتمع عليه مصيبة الفقد ومصيبة الياس ، وهذا هو الأليق بمساق الحديث . ألا ترى قوله : "ليس ذلك الرتوب ، ولكنه الرجل الذي لا يقذم من ولده شيئًا) أي : هو أحق باسم الزتوب من ذلك ؛ لأنَّ هذا الذي أصيب بفقد أولاده في الدنيا ينجبر في الآخرة بما يعؤض على ذلك من الثواب ، وأما من لم يمت له ولذ فيفقد في الاخرة ثواب فقد الولد. فهو أحق باسم الزقوب من الأول ، وقد صدر هذا الأسلوب من النبي ث كثيرأ ، كقوله : "ليس المسكين بالطوكاف عليكم "(2 ، و"ليس الشديد بالضرعة" و"ليس الواصل بالمكافىء"(3) ومثله كثير. ولم يرد بهذا الشنب سنب الأصل . لكن سنب الأؤلى (
---
والأحق ، والضرعة : بفتح الراء هو الذي يصرع الناس كثيرا ، وبالسكون هو الذي يصرعه الناس ، وكذلك : هزأة وهزءة ، وسخرة وسخرة ، وقد تقدَّم . و(ترله : "لما صؤر الله تعالى آدم في الجنة ترى ما شاء الهه أن يتركه ") بعت : أن الله تعالى لما صؤر طينة آدم ، وشئهلها بشكله على ما سبق في علمه نلما راها إبليس أطاف بها ، أي : دار حولها ، وجعل ينظر في كيفثعها وأمرها ، فلما راها ذات جؤفي وقع له أنها مفتقرة إلى ما يسذ جوفها ، رأنها لا تتمالك عن تحصيل ما تحتاج إليه من أغراضها ، وشهواتها " فكان الأمر على ما وقع .
(9/355)
(25) ومن باب : إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطم الوجه قوله : إذا تاتل أحدكم أخاه ، نلا يلطمن الوجه " . وفي الأخرى : "فليجتنب الش الوجه ، فإنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته ") معنى تاتل : ضرب ، رقد جاء كذلك الر. في بعض رراياته ، وقد قلنا : إن أصل المقاتلة المدافعة ، ويخي بالأخؤ هنا - والله أعلم - أخؤ الادمية ؟ فإنَّ الناس كئهم بنو إم ، أردذ على ذلك قوله ت ؟ "فإنَّ الله خلق آدم على صورته " أي : على صورة وجه المضروب ، فكان اللأطم في وجه أحد ولد إم لطم وجه أبيه إم أ(1). وعلى هذا فيحرم لطم الوجه من المسلم والكافر ، ولو أراد الأخؤة الدينية لما كان للتعليل بخلق آدم على صورته معنف . لا يقال : فكافر مامور بقتله وضربه في أي عضو كان ؟ إذ المقصود إتلافه ، والمبالغة (ا) ما بين حاصرتين ساظ من (ع ).
---
(9/356)
في الانتقام منه ، ولا شك في أن ضرب الوجه أبلغ في الانتقام والعقوبة ، فلا يمنع . لانما مقصود الحديث : إكرام وجه المؤمن لحرمته ؛ لأنَّا نقول : مسئئم أثا مامورون بقتل الكافر ، والمبالغة في الانتقام منه لكن إذا تمتهنا من اجتناب وجهه اجتنباه لشرفتة هذا العضو ؟ ولأن الشرع قد نزل هذا الوجه منزلة وجه أبينا . وتقبيح لطم الرجل وجهآ يشبه وجه أبي اللأطم ، وليس كذلك سائر الأعضاء ؛ لأنَّها كئها تابعه مل! للوجه ، وهذا الذي ذكرناه : هر ظاهر الحديث ، ولا يكون في الحديث إشكال يوهم في حق الله تعالى تثمبيهآ ، إنَّما أشكل ذلك على من أعاد الضمير في صورته على الله تعالى ، وذلك ينبغي ألا يصار إليه شرعآ ، ولا عقلآ ، أما العقل فيحيل الصورة الجسمية على الله تعالى ، وأما الشرع فلم ينمن على ذلك نصا قاطعا ، ومحال أن يكون ذلك ، فإنَّ النمق القاطع صادق ، والصادق لا يقول المحال ، فيتعئين عود الضير على المضروب ؛ لأنَّه هو الذي سبق الكلأم لبيان حكمه . وقد أعادت المشئهة هذا الضمير على الله تعالى ، فالتزموا القول بالتجسيم ، وذلك نتيجة العقل السقيم ، والجهل الصيم ، وقد بئنا جهلهم ، وحفقنا كفرهم فيما تقدم ، ولو سئمنا : أن الضير عائد على الله تعالى ، فللتأويل فيه وجه صحيح ، وهو أن الضورة قد تطلق بمعنى الصفة ، كما يقال : صورة هذه المسألة كذا ، أي : صفتها ، وصؤر لي فلان كذا فتصؤرته ، أي : وصفه لي ففهمته ، وضبطت وصفه في نفسي ، وعلى هذا فيكون معنى توله. : "إن الله خلق آدم على صورته " أي : خلقه موصوفآ بالعلم الذي فصل به بينه وبين جميع أصنات الحيرانات ، وخضه منه بما لم يخمن به أحدآ من ملائكة الأرضين والشموات ، وقد قلنا فيما تقدَّم : إن التسليم في المتشابهات أسلم ، والنه ورسوله أعلم . والأنباط : جمع ننط ، وهم قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين ، سقوا بذلك لأنهم ينبطون الماء ، أي : يحفرون عليه حتى يخرج على وجه الأرض .
(9/357)
يقال : نبط الماء
---
ينبط ريتبط : إذا نبع ، رأنبط الحفار الماء إذا بلنع إليه ، والاستنباط : استخراج العلوم ، ريقال على النبط : نبيط أيضًا ، وكانوا إذ ذاك أهل ذفتن ، ولذلك عذبوا بالشمس ، وصبئ الزيت على رؤوسهم لأجل الجزية ، وكأنهم امتنعوا من الجزية مع التمثهن ، فعوقبوا لذلك ، فأمَّا مع تبتيى عجزهم ، فلا تحل عقوبتهم بذلك ، ولا بغيره ؛ لأنَّ من عجز عن الجزية سقطت عنه .
ر (قوله : "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا") يعني : إذا عذبوهم الله ظالمين ، إما في أصل التعذيب فيعذبونهم في موضع لا يجوز فيه التعذيب ، أو يعذ بزيادة على المشروع في التعذيب : إما في المقدار ، راما في الضفة ، كما بيناه في ا لحد ود . .
وقوله : وأميرهم يومئذ عميربن سعد) كذا صحت الرواية عند أكثر الشيوخ ، وفي أكثر النسخ ، وهو الصواب ؛ لأنَّه عمير بن سعد بن عمر القارىء من ا الأنصارقي من بني عمرو بن عوف ، يكنى أبوه أبا زيد ، وهو أحد من جمع القرآن ، سط الذي تقدَّم ذكره في حديث أنس ، الذي قال فيه أنس : أبو زيد أحد عمومتي ، واختلف في اسم أبي زيد هذا ، فقيل : سعد -كما تقدم - وهو الأعرف ، وقيل : سعيد ، وكان عمر -رضي الله عنه - رك عميرأ حمص وكان يقالى له : نسيج أخيه بحديدة فإنَّ الملائكة تلعنه ، . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . .. .. .. . .. . ..
وحده ، ووقع في كتاب القاضي أبي على الضدفن : عمر بن سعيد . قال أهل النقل : وهو وهم ، وأما عمرو بن سعيد فمعدود في الصحابة ، وهو عمرو بن سعيد ربيب الجلأس ويتيمه . حكاه القاضي أبو الفضل . وأوشكت : أسرعت ، ومعناه : أنك ترى عن قرب ما يخبرك به . وقد تقدم القول في يوشك ، وأنه من أفعال المقارية ، وفي القوم الذين بايديهم سياط كاذناب البقر .
---
(9/358)
(26 و27) ومن باب : النهي عن الإشارة بالسلاح وفضل ننحية الأذى عن الطريق (1) قوله : "من أشار إلى أخيه بحديدة ، فإنَّ الملائكة تلعنه حتى") كذا صخت ( 1 ) بمبرج إلبو 2 لني - رحمه الله - تحت هذا العنوان ما أشكل في أحاديث بابي التلخيص رقم
الرواية بالاقتصار على حئى ، ولم يذكر المجرور بها استغناء عنه لدلالة الكلام عليه ، تقديره : حتى يترك ، أو يه غ ، وما أشبهه ، ووقع عند بعض الرواة بعد حتى : "وان كان لأخيه وأنَّه ". رعليه فيكون ما بعده ليس من كلام النبي ف . وسقطت لبعضهم يعني : فيكون ما بعده من قول النبي ف جكم أن مساق الكلام واحذ. رلنن النمض ت للمشير بالسلاح : دليل على تحريم ذلك مطلقا ، جذا كان أو هزلا ، تحر ولا يخفى ونجه لعن من تعئد ذلك ؛ لأنَّه يريد قتل المسلم أو جزحه ، وكلاهما باد كبيرة . وأما إن كان هازلا ؟ فلأنه ترويع مسلم ، ولا يحل تروبعه ؟ ولأنه ذرشة إلى القتل والجرح المحزمين . وقد نمق في الرراية الأخرى على صحَّة مراعاة الذريعة حيث قال : "فإنَّه لا يدري لعذ الشيطان ينزع في يده فيقع في حفثر من النار" . وقوله : "وإن كان أخاه لأبيه وأمه ") يعني : أن ذلك محزم ، ط ن وقع من أشفق الئاس عليه ، وأتربهم رحمآ ، رهو يشعر بمنع الهزل بذلك . ونصال : جمع نصل ، وهي - هنا - : حديدة السهم ، وتكراره : "فلياخذ بنصالها" ثلاث مرات على جهة التكيد والمبالنة في سذ الذرشة ، وهو من جملة ما استدذ به مالك - رحمه الله - على أضله في سذ الذرائع .
---
(9/359)
وقوله : "كيلا يخدش مسلمآ") فيه ما يدلّ على صحة القول بالقياس ، رتعليل الأحكام الشرعية . و(قول أبي موسى - رضي الفه عنه - : والله أ ما مثنا حثى سذدناها ، بعضنا في وجوه بعض ) يعني : ما مات معظم الصحابة -رضي الله عنهم - حتى وقعث بينهم الفتن والمحن ، فرمى بعضهم بعضا بالسهام ، وقاتل بعضهم بعضآ. ذكر هذا في معرض التاشف على تغتر الأحوال وحصول الخلاف لمقاصد الشرع من : التعاطف والتواصل على قرب العهد ، وكمال الجذ .
وقوله : "فشكر الله له فغفر له ") أي : أظهر لملائكته ، أو لمن شاء من خنقه الثناء عليه بما فعل من الاحسان لعبيده . وقد تقدَّم : أن أصل الشكر : الفهور ، أو يكون جازاه جزاء الثاكر ، فسثى الجزاء شنهرا ، وعئر عنه بشكر. كما قال في الرراية الأخرى : "فادخل الجنة" وك! ذلك إنما حصل لذلك الرجل بحشن نيته في ظ تنحيته الأذى ، ألا ترى قوله : "والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم ؟". الم وقوله : "لقد رأيت رجلآ يتقئب في الجنة في شجرة قطعها") أي : يتقثب في نعيم الجنة ، وملابسها ، وقصورها ، وسائر ما أعد الله فيها .
وقوله : "وأمز الأذى عن طريق المسلمين ") هكذا روايتي ، ورواية عافة الشيوخ : براء مشذدة ، من المرور ، بمعنى : نخ. وعند الطبري : وأمز -بزاي معجمة - من الميز ، أي : أزك من الطريق ، وميزه عنه . وعند ابن ماهان : أخره ، رككها بمعن واحد .
وفيه ما يد ، على الترغيب في إزالة الأذى والضرر عن المسلمين ، وعلى إرادة الخير لهم ، وهذا مقتضى الدين ، والتصيحة ، والمحثة .
---
(9/360)
أ(28) ومن باب : مذبت امرأة في هزةأ(1) وقوله : "دخلت امرأة النار من جزاء ه! لها") أي : من أجل ، وفيه لغتان : المد والقصر ، وظاهر هذا أن الهز ينلك ؛ لأنَّه ط أضاف الهز للمرأة باللام التي هي ظاهرة في الملك ، وقد تقدَّم الخلاف في ذلك . وفيه ما يدلّ على أن الواجب على مالك الهز أحد الأمرين : إما أن يطعمه ، ما أو يتركه ياكل مِمَّا يجده من الخشاش ، وهي : حشرات الأرض ، وأحناشها . وقد يقال على صغار الطير ، وهو بالخاء المعجمة ، ويقال بفتح الخاء وكسرها . وحكى ابو علي القالي فيها الضم ، فأمَّا الخشاش بالكسر لا غير : فهو الذي يذخل في أنف البعير من خشب ، والخزامة من شعر ، فأمَّا الخشاش بالفتح : فهو الماضي من الرجال . قال الجوهري : وقد يضم . وترفم : بفنح التاء والميم المشذدة للعذرفي والسحري ، وهي الصحيحة . وعند بعضهم : ترفم بضم التاء وكسر الميم الأولى. والثلاثي هو المعروف ، ومعناه : ياكل ، ماخوذ من المرمة ، وهي : الشفة من كل ذات ظلف .
(29 ) ومن باب : عذاب المتكبر والمتالي قوله : "العز إزاره ، والكبرياء رداؤه ، فمن ينازعني عذنجته ") كذا جاء هذا اللفظ في كتاب مسلم مفتتحا بخطاب النيبة ، ثم خرج إلى الحضور ، وهذا على نحو توله تعالى : اص تم ابم كفترف ائنتدرممئن بهم " أيونس : 122 فخرج من خطاب الحضور إلى الغيبة ، وهي طريقة عربية معروفة . وقد جاء هذا الحديث في غير كتاب مسلم : "الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدا منهما قصمته ، ثم ألقيته في النار"(1). وأصل الازار : الثوب الذي يشا على الوسط . والرداء
---
(9/361)
يجعل على العتصين ، ولما حالى هدار التوبار يحصاد الربس بحيط ر يسمصي عنهما ، ولا يقبلان المشاركة عتر الله تعالى عن العز بالإزار ، وعن الكبرياء بالرداء على جهة الاستعارة المستعملة عند العرب ، كما قال : ا وءباس ألثقوئ ذبك ثتز ، أ الأعراف : 126 فاستعار للتقوى لباسآ ، وكما قال لض : "من أسز سريرة ألبسه الله رداءها"(ا). وكما قال : "البسوا تناع المخافة ، واذرعوا لباس الخشية". وهم يقولون : فلان شعاره الزهد والورع ، ودثاره التقوى ، وهو كثير . ومقصود هذه الاستعارة الحسنة : أن العز ، والعظمة ، والكبرياء من أوصاف الله تعالى الخاصة به العز التي لا تنبغي لنيره . فمن تعاطى شيئا منها أذك الله تعالى وصغره ، وحفره ، من " وأهلكه ، كما قد أظهر الله تعالى من سنته في المغكبرين الشابقين واللاحقين . و(قول المتالي : والته لا يغفر الله لفلان ) ظاهز في أنه قظئي بأن الله تعالى احبا ، لا يغفر لذلك الرجل ، وكاثه حكم على الله ، وحجر عليه . وهذه نتيجة الجهل باحكام المتالم الإلهية ، والإدلال على الله تعالى بما اعتقد أن له عنده من الكرامة ، والحظ ، والمكانة . وكذلك المذنب من الخشة والإهانة ؟ فإنَّ كان هذا المتالي مستحلأ لهذه الأمور فهو كافر ، فيكون إحباط عمله لأجل الكفر ، كما يحبظ عمل الكفار ، وأما إن لم يكن مستحلأ لذلك ، وإنما غلب عليه الخوف ، فحكم بانفاذ الوعيد فليس بكافر ، ولكنه (2) مرتكب كبيرة ، فإنَّه قانط من رحمة الله ، فيكون إحباط عمله بمعنى : أن ما أوجبت له هذه الكبيرة من الإثم يربي على أجر أعماله الصالحة ؟ فكانه لم ينبئ له عمذ صالح .
---
(9/362)
وقوله : "من ذا الذي يتاك على ألا أغفر لفلان ") استفهائم على جهة الإنكار ل والوعيد ، ولمجشفاد منه : تحريم الادلال على الله تعالى ، ووجوب التاط ب معه في الأقوال ، والأحرال ، وأن حق العبد أن يعامل نفسه باحكام العبودجمة ، ومولاه بما يجب له من أحكام الالهية والزبوبئة . وقوله : "ناني قد غفرت لفلان ، وأحبطت عملك ") دليل على صحَّة مذهب أهل الشنة : أنه لا يكفر أحذ من أهل القبلة بذنب ، رهو موجب توله تعالى : ا ان ألمئه لاينفرأن يشرك لأوشفرما ئن ذند لمن يشيم " أالنساء : 48! وأن لله تعالى أن يفعل في عبيده ما يريد من المغفرة والاحباط ؟ إذ هو الفئال لما يريد ، القادر على ما يشاء . وقد بننا الاحباط المذكور في هذا الحديث . وقوله : "إذا قال الرجل : هلك الناس فهو أهلكهم ") قال أبو إسحاق : لا أدري : أهلكهم بالنصب أو بالرفع . أبو إسحاق هذا : هو إبراهيم بن سفيان الراوي عن مسلم ، ش! في ضبط هذا الحرف ، وقد تين ده الناس بعده بالوجهين ، وكلاهما له وجه ، فاذا كان بالرفع : فمعناه أن القائل كذلك القول هو أحق الناس بالهلاك ، أو أشذهم هلاكآ ، ومخمله على ما إذا قال ذلك محقرأ للناس ، وزاريا عليهم ، مغجبآ بنفسه وعمله ، ومن كان كذلك نبو الأحق بالهلاك منهم ، فأمَّا لو قال ذلك على جهة ال!فقة على أهل عضره ، وأنهم بالنسبة إلى من تقذمهم من أسلافهم كالهالكين ، فلا يتناوله هذا الذم ، فإنَّها عادة جارية في اهل العلم وا لفضل ، يعفمون أسلافهم ، وبفضلونهم على من بعدهم ، ويقصرون بمن خلفهم ، رقد يكون هذا على جهة الوغظ والئذكير ليقتدي اللاحق بالشابق ، فيجتهد المقضر ، ويتدارك المفزط ، كما قال الحسن - رحمه الله - : لقد أدركت أتواما لو أدركتموهم لقلتم : مرضى ، ولو أدركوكم لقالوا : هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب . وأفا من قين ده بالنصب فيكون معناه : أن الذي قال لهم ذلك مقنطا لهم : هو الذي أهلكهم بهذا القول ، فإنَّ الذي يسمعه قد
(9/363)
يياس
---
من رحمة الله فيهلك ، وقد يغلب على القائل رأي الخوارج فيهلك الناس بالخروج عليهم ، ويشق عصاهم بالقتال ، وغير ذلك كما فعلت الخوارج ، نيكون قد أهلكهم حقيقة وحسآ ، وقيل معناه : إن الذي قال فيهم ذلك ، لا الله تعالى ؟ فكانه قال : هو الذي ظن ذلك من غير تحقيق ولا دليل من جهة الله تعالى . والله تعالى أعلم . ر (قوله : "ربئ أشعث مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبزه ، ) الأشعث : المتلبد ال!عر غير المذهنة . والمدفوع بالأبواب ، أي : عن الأبواب . فلا يترك بقربها احتقارأ له ، ويصخ أن يكون معناه : يدفع بسذ الأبواب في وجهه كلما أراد دخول باب من الأبواب ، أو قضاء حاجة من الحوائج . وقوله : "لوأقسم على الله لأبزه ") أي : لو وقع منه تسئم على الد في شيء لأجابه اللأ تعالى فيما ساله إكرامآ له ، ولظفا به ، وهذا كما تقدَّم من قول أنس بن النضر : لا والله لا يمسر ثنئة الربيع أبدا. فابز الله قسمه ؟ بأن جعل في قلوب الطالبين للقصاص الزضا بالدية ، بعد أن أبوا قبولها ، وكنحو ما اتفق للبراء لما التقى بالكفار فاقتتلوا ، فطال القتال ، وعظم النزال ، فقال البراء : أقسمت عليك يا رب ! أو عزمت عليك ، لتمنحنا ممتافهم ، ولتلحقني بنبئك ، فابز الله قسمه ، فكان كذلك . ولقد ابرلعد من قال : إن القسم -هنا- هو الدعاء من جهة التفظ والمعنى . ( 35) ومن باب : الوصية بالجار(1 ) (قوله : "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثه ، ) قد تقدَّم أن الجار يقال على المجاور في الدار ، وعلى الذاخل في الجوار ، وكل واحد منهما له حق ، ولا بد من الوفاء به ، وقد تقدَّم قوله لكض : "لا يدخل الجنة من لا يامن جاره بوانقه ، (2) ، وقوله : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ا(3) . ولقا أكد
---
(9/364)
جبريل على النبي في حق الجوار ، وكئر عليه من ذلك غلب على ظن النبف لمجظ : أن الله سيحكم بالميراث بين الجارين . وهذا يدلّ على : أن هذا الجار هنا هو جار الدار ؛ لأنَّ الجار بالعهد قد كان من أؤل الاسلام يرث ثم نسخ ذلك ، كما تقدَّم ، فإنَّ كان هذا القول صدر من النبي ط في أؤل الأمر ، فقد كان التوارث مشروعا ، فمشروعيته واقعة محققة غير منتظرة ، رلا مظنونة ، وإن كان بعد ذلك فرقع ذلك الحكم ونمنمخه محقق ، فكيف تظن مشروعيته ؟! فتعئيئ : أن المراد بالجوار في هذا الحديث هو جوار الدار ، والله تعالى أعلم . وقوله : "إذا طبخت مرتة نكثر ماءها وتعاهذ جيرانك ") هذا الأمر على جهة الندب ، والحفق على مكارم الأخلاق ، وإرشاد إلى محاسنها لما يتر ، ب عليه من المحئة ، وحسن العشرة ، والألفة ، رلما يحصل به من المنفعة ، ودنع الحاجة رالمفسدة ، فقد يتاذى الجار بقتار ( 1 ) قدر جار. ، وعياله ، وصغار ولده ، رلا يقدر على النهي التوضل إلى ذلك فتهيج من ضفائهم الشهوة ، ويعظم على القائم عليهم الألم إل!آ ا والكنفة ، وربما يكون يتيمأ ، أو أرملة ضعيفة ، فتعظم المشقة ، ويشته منهم الألم ه والحسرة ، ركل ذلك يندفع بنشريكهم في شيء من الطبيخ ئدفع إليهم ، فلا أقبح من منع هذا النذر اليسير الذي تعر ، ب عليه هذا الضرر الكبير . وقوله : "فاكثز ماءها") تنبية لطيفت على تيسير الأمر على البخيل ؟ إذ الزيادة
---
(9/365)
المامور بها إنما هي فيما ليس له ثمن ، وهو الماء. ولذلك لم يقل إذا طبخت مرقة فاكثز لحمها ، أو طبيخها ؟ إذ لا يسهل ذلك على كل أحد. وقوله : "فاصنهم منها بمعروف ") أي : بشي ث يهدى مثله عرفآ ، تحرزأ من التليل المحتتر نانه -وإن كان مما يهدى- فقد لا يقع ذلك الموتع ، فلو لم يتيشر إلا التليل المحتقر فليهده رلا يحتقر. ، كما جاء في الحديث الآخر : "لا تحقرن من المعروف شيئا" وبكون المهدي له مامورآ بقبول ذلك المحتقر ، والمكاناة عليه ، ولو بالشكر ؛ لأنَّه وإن كان تدره محنقرأ ، دليل على تعلق قلب المهدي بجاره . وقوله : "ولو أن تنقى أخاك بوجه طليق ") يروى بكسر اللام ، وياء بعدها . وطنق الوجه بتسكين اللام بغير ياء ، رهما لغتان ، يقال : رجل طنق الوجه ، وطليق الوجه ، وهو المنبسط الوجه الشنحه . يقال : طلق وجهه : بضم اللام يظلق طلا!. ءهه !!ه
(31) ومن باب : السعي على الأرملة وكفالة اليتيم
قال الجوهري : الأرمل : الرجل الذي لا امرأة له ، والأرملة : المرأة التي لا زوج لها ، وقد أرملت المرأة إذا مات عمنها زوجها . قال ابن الشكيت : الأرامل : المساكين من رجال أو نساء. قال : ويقال لهم ، وان لم يكن فيهم نساء ، ويقال : قد جاءت أرملة من نساج ورجال محتاجين ، لص انما شنه الشاعي على الأرملة إلى بالمجاهد ؛ لأنَّ القيام على المرأة بما يصلحها وما يحفظها ، ويصونها ، لا يتصور ط لأد الدوام عليه إلا مع الصبر العظيم ، ومجاهدة النفس والشيطان ، فإنَّهما يكسلان عن ب ذلك ، رثعقلانه ، وبفسدان النيات في ذلك ، وربما يدعوان بسبب ذلك إلى ال!وء وشمؤلانه ، ولذلك قل من يدوم على ذلك العمل ، وأقل من ذلك من يسلم منه ، فاذا حصل ذلك العمل حصلت منه فواند كشف كرب الضعفاء ، لى ابقاء رمقهم ، وسذ ختتهم (1 ) ، وصون حرمتهم .
---
(9/366)
وقوله : "كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو في الجنة كهاتين أ) قد تقدَّم : أن اليتيم في الناس من قبل فقد الأب ، وفي البهائم : من قبل فقد الأم ، أوفي الطير من قبل الأب والأم أ(ا). ومعنى قوله : "له أو لغيره " - أي : سوافى كان اليتيم قريبا للكافل أو لم يكن - في حصول ذلك الجزاء الموعود على كفالته . ومعنى قوله : "أنا وهو في الجنة كهاتين " أي : هو معه في الجنة ، وبحضرته ، غير أن كل واحد منهما على درجته فيها إذ لا يبلغ درجة الأنبياء غيرهم ، ولا يبلغ درجة نبينا لكض أحذ من الأنبياء على ما تقدَّم . وإلى هذا المعنى الإشارة بقرانه بين إصبعيه الشبابة والوسطى ، فيفهم من الجمع بينهما : المعئة والحضور ، ومن تفاوت ما بينهما : اختصاص كل واحد منهما بمنزلته ودرجته . وقد نمق على هذا المعنى النبي ف في توله : "المرء مع من أحمبئ ، وله ما اكتسب "(2) وقد تقدم نحو هذا .
(32) ومن باب : التحذير من الرياء والسمعة قوله تعالى : "أنا أغنى الشركاء عن ال!رك ") أصل ال!رك المحزم : اعتقاد مر شريلئي لئه تعالى أفي إلهيته ، وهو الشرك الأعظم ، وهو شرك الجاهلية ، ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لفه تعالى ، (ا) في الفعل ، وهو قول من قال : إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل باحداث فعل وايجاده ، وإن لم يعتقذ كونه إلها ، ويلي هذا في الرتبة الإشراك في العبادة ، وهو الرياء . وهو أن يفعل شيئا من العبادات التي أمر الله تعالى بفعلها له لغير الله ، (وهذا هو الذي سيق الحديث لبيان تحريمه ، وأنه مبطذ للأعمال ، (2). لهذا أشار بقوله : "من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشريكه " وهذا هو المسثى بالرياء ، وهو على الجملة منطل للأعمال ، وضده الإخلاص ، وهو من شرط صحَّة العبادات ، والقرب . وقد نثهنا على معاقدهما . واستيفاء ما يتعثق بهما مذكوز في الرتائق.
---
(9/367)
وقوله : "من سقع سقع الله به ") أي : من يحذث بعمله رياء ليسمع الناس فضحه الله يوم القيامة ، وشهره على رؤوس الأشهاد ، كما جاء في غير كتاب مسلم : "يسغع الله به سامع خلقه يوم القيامة" أي : كل من يسمع . وقيل : إن معنى ذلك أن من أذاع على مسلم عيبآ ، وشنعه عليه ، أظهر الله عيوبه أيوم القيامةأ(1). وقوله : "ومن راءى راءى الله به ") أي : من راءى بعمله فعمل شيئا من القرب لغير الله قابله الله يوم القيامة بعقربة ذلك . فسثى العقوبة رياء على جهة المقابلة ، كما قال : ا رمحرواومسرأطه " أال عمران : 54 ، . وقوله : "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبثين ما فيها ، ) أي : من الإثم والعقاب ، وذلك لجهله بذلك ، أو لترك التثتت ، أو للئساهل . وفي غير كتاب مسلم : 5إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما ينز لها بالا يهوي بها في النار " سبعين خريفا"(2) . وفيه من الفقه : وجوب التمتت عند الأقوال والأفعال ، وتحريم ، التساهل في شيء من الصغائر ، وملازمة الخوف ، والحذر عند كذ قول وفعل ، (ا) ما بين
---
(9/368)
والبحث عقا مضى من الأقوال والأفعال ، واستحضار ما مضى من ذلك وتذكره من أول زمان تكليفه ؟ لإمكان أن يكون صدر من المكتف شي بر لم يتثتثه يستحق به هذا الوعيد الشديد ، فاذا تذتهر واستعان بالله ، فإنَّ ذكر شيئا من ذلك تاب منه ، واستغفر ، لص ان لم يتذتهز وجب عليه أن يتوب جملة بجملة عثا علم وعما لم يعلم ، كما قال ال!نبئ ت : ا أستغفرك عتا تعلم ولا أعلم "(ا). فمن فعل ذلك وصدقت نتته قبلت بفضل الله تعالى توبته . وقوله : "من سخط الله " ، 2)) أي : متا يمنعخط الله ، وذلك بأن يكون كذبة ، أو غيبة ، أو نميمة ، أو بهتانآ ، أو بخسآ ، أر باطلآ يضحك به الناس ، كما قد جاء عن النبف في أنه قال : "وبل للذي يتكتم بالكلمة من الكذب ليضحك الناس ، رلل له ، ويل له "(3). وقوله : "كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، ) كذا رواية أكثر الرواة بتقديم الجيم على الهاء منصوبآ على الاسشاء ، وهو جمع مجاهر ، اسم فاعل من جاهره بالقول وبالعداوة ؟ إذا ناداه ، وناجاه بذلك . ووقع في نسخة شيخنا أبي الصبر : ة إلا المجاهرون " بالواو رفعآ ، وهو جائز ، على أن تحمل (إلا) على (غير) كما قد أنشده ال!نحويون : وكذ أج مفارقه أخوه لعنر أبيك الا الفزقدان أي : غير الفرقدين ، وهو قليل ، والوجه الأول : الكثير الفصيح . وقوله : "لى ان من الجهار") هذه رواية زهير ، وهي روايابر حسنة ؛ لأنَّه ( 1 ) رراه أحمد ( 4/ 23 1 و5 2 1 ) ، والترمذي (7 0 4 3) ، وانساني (3/ 4 5 ) . (2) هذ ؟ ابعبارة 1 لبمبمب -عبد ، بسيبم . -إن!رآ . تجبربج الحديث قبل السابق .
---
(9/369)
مصدر : جاهر ، الذي اسم الفاعل منه مجاهر ، فيتناسب صدر الكلام وعجزه . ورواه أكثر رواة مسلم : "وان من الإجهار" فيكون مصدر : أجهر ، أي : أعلن . قال الجوهرقي : إجهار الرجل : إعلانه ، وعند الفارسئ : وان من الإهجار ، بتقديم الهاء على الجيم ، رهو الإفحاش في القول . قاله الجوهري . قلت : وهذه الروايات ؟ وإن اختلفت ألفاظها ، ير راجعه ، إلى معنى واحد قد فئمره في الحديث ، وهو أن يعمل الرجل معصية في خفية ، وخنوة ، ثم يخرج يتحذث بها مع الناس ، ويجهر بها ويعلنها ، وهذا من أكبر الكبائر ، وأفحش الفواحش . وذلك : أن هذا لا يصدر إلا من جاهل بقدر المعصية ، أو مستهين مستهزىء بها ، مصز عليها ، غير تانب منها ، مظهر للمنكر. والواحد من هذه الأمور كبيرة ، فكيف إذا اجتمعت ؟! فلذلك كان فاعل هذه الأشياء أشذ الناس بلاخ في الدنيا ، وعقوجة في الاخرة ؛ لأنَّه تجتمع عليه عقوبة تلك الأمور كئها ، وسائر الناس ممن ليس على مثل حاله ؟ وان كان مرتكب كبيثر فامره أخفت ، وعقوبته - إن عوبب - أهون . ورجوعه عنها أقرب من الأول ؛ لأنَّ ذلك المجاهر قل أن يتوب ، أو يرجع عما اعتاده من المعصية ، وسهل عليه منها . فيكون كل العصاة بالنسبة إليه إقا معافى مطلقا إن تاب ، راما معافى بالنسبة إليه إن عوقب ، والله تعالى أعلم . لمه !ه لم!ه(33) ومن باب : تغليظ عقاب من أمر بمعروف ولم يأته ، ونهى عن المنكر وأتاه (تؤل القائل لأسامة : ألا تدخل على عثمان فتكئمه ) يعني : في تلك الأمور الي تقترى عليه ، وكانت أمورا بعضها كذبئ عليه ، وبعضها كان له فيها عذز ، وعنها جوابئ لو سمع منه ، لكن العوام لا ينفع معهم اعتذاز ولا ملام ، ولم يكن ض ه من هذه الأمور يوجب خنعه ، ولا قثله قطعا ، ولكن جرت الأقدار بأن قتل مظلومآ شهيد الدار . وقوله : أترون أني لا مملمه إلا سنعكم ) يعني : أنه كان يجتنب كلامه بحضرة الناس ، ويكلمه إذا خلا به ، وهكذا يجب أن يعاتب الكبراء
(9/370)
والزؤساء ، نف يعبهمون
---
في الملأ إبقاء لحرمتهم ، وينصحون في الخلاء أداء لما يجب من والرة نضحهم . وسنعكم : منصوبئ على الظرف . ريروى : بسمعكم ، بالباء ، أي : يحضره سنعكم . ربروى : اشمعكم على أنه فعل مضارع . وقوله : والنه لقد كثمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرا ، لا أحمت أن ممون أؤل من فتحه ) يعني : أنه كئمه مشافهة ، كلام لطفب ؛ لأنَّه ائقى ما يكون عن المجاهرة بالانكار والقيام على الأئمة ؟ لعظيم ما يطرأ بسبب ذلك من الفتن لط والمفاسد ، وخصوصا على مثل عثمان - رضي الله عنه - ففيه التلطف في الإنكار إذا ارتجى نفعه . ن وقوله : ولا أقول لأحد يكن على أميرا أنه خير الناس ) أي : لا أطريه بذلك ، ولا أداهنه ؟ لكونه أميرا على ، بل : أقول له الحق ، وأصغه بحاله التي هو عليها من غير تصنع ، ولا ملض . وهذه كانت سيرة القوم ، لا يخافون في الله لومة لائم ، ولا يبالون في القيام بالحق ، ران أذى إلى العظانم ، وهذا هو أعظم الأسباب التي أوجبت الاختلاف بينهم ، حتى أذى ذلك إلى الحروب العظيمة ، والخطوب الجسيمة ؟ فإنَّ كل طانفة كانت ترى : أنها المصيبة المحفة ، ومخالفتها المخطئة ؟ ن فإنَّها كانث أمورأ اجتهادية ، ولم يكن فيها نصومق قطعية ، وشمتعنى من ذلك قتلة ى عثمان ، فإنَّه لم يرتكمبئ ما يوجب خنعه ، ولا قثله ، والخوارج على على والمسلمين ن فإنَّهم حكموا بكفر الجميع ، فهاتان اللانفتان مخطئتان قطعا ، ومن عدا هؤلاء فأمَّا مصيت في اجتهاده فله أجران (ا) ، ومن قضر في اجتهاده مذموئم على التقصير . وقوله : "فتندلق أقتاب بطنه ") أي : تخرج بسرعة . واندلاق السيف :
---
(9/371)
خروجه بسرعة(1) من غمده ، والأقتاب : الأمعاء ، واحدها قتب . وقال الأصمعف : واحدها قتبة ، ويقال لها أيضًا : الأتصاب ، واحدها قصب ، قاله أبو عبيد . وقال أبو عبيدة : القتب : ما تحؤى من البطن يعني : استدار ، وير الحوايا ، وإنَّما اشتذ عذاب هذا ؛ لأنَّه كان عالمآ بالمعروف وبالمنكر ، وبوجوب القيام عليه بوظيفة كل واحد ممنهما ، ومع ذلك فلم بعمل بشيء من ذلك ، فصار كانه مستهين بحرمات الله تعالى ، ومستضث باحكامه ، ثم إنه لم يتمبئ عن شيء من ذلك ، وهذا من جملة من ل!م ينتفغ بعلمه ، الذين قال فيهم النبي ف : "أشذ الناس عذابا يوم القيامة : عالئم تشدت لم ينفغه الد بعلمه "(2). وإنما ذكر أسامة هذا الحديث فستدلا به على متع إطراء بتلت ا الأمير ؟ بأن يقال له : أنت خير الناس ؛ لأنَّه يمكن أن يكون ذلك الأمير مثن يامر بالمعروف ، ولا يفعله ، وبنهى عن المنكر ويفعله فيستحق هذا العقاب الشديد ، فكيف يقال له : أنت خير الناس ؟! ويمثهد لهذا مساق توله ؟ فتاثنه ، والله أعلم ، وقد تقدَّم القول في وجوب تغيير المنكر. ه . لم!ه
(34 و35) ومن باب : تشميت العاطس وكظم التثاؤب (1) (قوله : "إذا عطس أحدكم فحمد الله فشئتوه ") تشميت العاطى : هو الذعاء له بالخير ، يال : شئت العاطس وستته بالشين والسين : إذا دعا له بالخير. والشين : أعلى اللغتين . قاله أبو عبيد. وقال ثعلب : معنى التشميت بالثين : أبعد الكه عنك ال! ماتة . وأصل السين من الشمت ، وهو القصد والهدى . وقال ابن الأنبارى : كل داع بالخير مسمعث . وقد اختلف في تشميت العاطس الحامد لثه ؟ فاوجبه أهل الظاهر على كل من سمعه ، للأمر المتقذم ، ولقوله في : ا إذا عطس أحدكم فحمد المه كان حقآ على كل مسلم يسمعه أن يقول : يرحمك الله "(2).
---
(9/372)
أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. والمشهور من مذهب مالك ، ومن اثبعه في جماعة العلماء : أنه فزضن على الكفاية ، فيجزىء فيه دعاء بعض عن بعض . وذهبت فرقا ؟ : إلى أنه على الئدب ، وإليه ذهب القاضي أبو محمد ابن نصر ، وتاؤلوا قوله ط : "حن على كل مسلم سمعه أن يشمته ، : أن ذلك حن في حكم الأدب ، ومكارم الاخلاق ، كقوله : "حق الابل أن تحلب على الماء" (1). ثم اختلف العلماء في كيفية الحمد والرذ لاختلاف الآثار. فقيل : يقول : كيني الحمد لنه . وقيل : الحمد لله ربئ العالمين. وقيل : الحمد لثه على كل حال ، وخيره بعدال الطبرقي فيما شاء من ذلك ، ولا خلاف أنه مامور بالحمد. وأما المشئت فيقول : مابرذ يرحمنا الله لى اياكم ، واختلف في رذ العاطس على مشئته ، فقيل يقول : يهديكم إل! الله ، ويصلح بالكم . وقيل يقول : يغفر الله لنا ولكم . وقيل : يرحمنا الله وإياكم ، وبنفر لنا رلكم . وقال مالك والشافعي ؟ إن شاء قال ؟ يغفر الله لنا ولكم ، وإن شاء قال : يهديكم الله ويصلح بالكم . وقوله : "ط ن لم يحمد الله فلا تشمته ") هذا في عن تشميت من لم يحمد النهي الله بعد عطاسه ، وأق! درجاته : أن يكون الدعاء له مكروها عقوبة له على غفلته عن تثب يحمد نعمة الله عليه في العطاس ؟ إذ خرج منه ما احتقن في الذماغ من البخار. قاله بعض شيوخنا ، ولا خلاف أعلمه أن من لم يحمد الله لا يشئت ، وقد ترك النبي جمظ تشميت العاطس الذي لم يحمد الله ، ونمن على أن تزك الحمد هو المانع من ذلك .
---
(9/373)
وقوله في حديث البخاري : "كان حقآ على كل من سمعه أن يشمته ") يدل : على : أن العاطس ينبغي له أن يمنممعع صوته لحاضريه ، رينبغي لكذ من سمعه أن ر يشئته ، بحيث يمنعمع من يليه ، وينبغي لمن لم يسمع العاطس وسمع المشمت ، أن يشمت العاطس إذا حصل له أن ذلك تشميث له . والأظهر من الأحاديث المتقذمة وجوب الئشميت على كل من سمعه إذا حمد الله ، وهو مذهب أهل البهاهر ، وير رواية عن مالك . " و(قول سلمة بن اكوع : أن النبي ت عطس عنده رجل فقال له : "يرحمك الله " ثم عطس أخرى ، فقال رسول الة ئ : "الرجل مزكوم ، ) هكذا وقع هذا الحديث في كتاب مسلم : أنه ت قال للرجل : "إنك مزكوم ". وهو الضحيح في الثانية ، وقد خزجه الترمذقي (ا) ، وقال في الثالثة : إأنت مزكوم " . والصحيح في الرواية ، وقد جاء في كتاب أبي داود وغيره الأمر بذلك مبغنا : "شثت أخاك ثلاثا ، فما زاد فهو مزكوم "(2) ؟ وبذلك قال مالك ، وإن كان قد روى في موطئه الشك في الثالثة ، أو الرابعة .
( 1 ) رراه الترمذي (2473 ) . ( 2) رواه أبر داود ( 5034 ) .
---
(9/374)
تنبيه : ينبغي للعاطس تغطية وجهه في حال عطاسه ، وأن يخفض صوته به ؟ ما لأن النبف بأ كذلك كان يفعل ؟ ولأن تغطية الوجه ستر لما ينير العطاس من الوجه في والهيئة ؟ ولأن إعلاء الضوت عندها مباعذ للأدب والوقار(1) . وقوله : "الساؤب من ال!يطان ") التماؤب : مصدر تثاءب مهموزا ، ممدودا ، التعا ولا يقال بالواو ، ومضارعه : يتعاءب ، والاسم : الثؤباء ، كل ذلك بالهمز. قال افي ابن دريد : أصله من : ثاب الرجل ، فهو مثؤب ؟ إذا استرخى وكسل ، ونسبته لل!يطان ؛ لأنَّه يصدر عن تكسيله ، فإنَّه قل أن يصدر ذلك مع النشاط . وقيل : نسب إليه ؛ لأنَّه يرتضيه . وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي رز قال : "إن الله يحب العطاس ، ويكره التماؤب ، فاذا عطس أحدكم . . . "(2) الحديث ، كما تقدم . قال : (وأما الساؤب فانما هو من ال!يطان ، فاذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع ، فإنَّ أحدكم إذا تثاءب ضحك الشيطان منه ". وهذا يشعر بصحَّة التأويل الثافي ؟ فإنَّ ضحك الشيطان منه سخرية به ؛ لأنَّه صدر عنه التماؤب الذي يكون عن الكسل ، وذلك كله يرضيه ؛ لأنَّه يجد به طريقآ إلى التكسيل عن الخيرات والعبادات ، ولذلك جاء في بعض طرق هذا الحديث : ة التعاؤب في الضلاة من الشيطان "(3) ؛ لأنَّ ذلك يدل """
---
(9/375)
على كسله فيها ، وعدم نشاطه ، فسمل عليه ، فيمتها ، فيستعجل فيها ، أو يخذ بها. وقوله : "فليكظنم ما استطاع ") هذا خطابئ لمن غلبه ذلك ؟ فإنَّه يكسره بسذ فاه ما أمكن ، أو بوضع يده على فمه . وأما من أحسق بمباديه فهو المخاطب في حديث البخاري بقوله : "فليرذه " ، ويحتمل أن يكون اللفظان بمعنى واحد . وقوله : "فإنَّ الشيطان يدخل ") يعني في الفم إذا لم يكظم . وشحصل من هذه الرواية ، ومن حديث البخاري : أن من لم يكظم تثازبه ضحك الشيطان منه ، ودخل في فمه ، وقيل : إنه يتقئا في فمه . قال القاضي : ولهذا أمر المتثاءب بالتفل ليطرح ما ألقى الشيطان في فمه . وكل هذا يشعر بكراهة الشاؤب ، وكراهة حالة المتمائب إذا لم يكظم ، وأوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى محاسن الأحوال ، ومكارم ا لاداب .
---
(9/376)
555(36) ومن باب : كراهة المدح قوله : "وبحك ! قطعت عنق صاحبك " ، وفي حديث أبي موسى : "قطعتم إلى ظهر الزجل ") كل ذلك بمعنى أهلكتموه. وقد جاء عنه لكي أنَّه قال : "إياكم الا والمدح ؟ فإنَّه الذنجح "(ا). وفي بذلك كله : أن الممدوح إذا أكثر عليه من ذلك رج يخاف عليه منه العجب بنفسه ، والكر على غيره ، فيهلك دينه بهاتين الكبيرتين ، فاذأ المدح مظنة الهلاك الديني ، فيحرم ، لكن هذه المظنة لا تتحفق إلا عند الإكثار منه ، والاطراء به ، وأما مع الندرة والقئة ؟ فلا يكون مظنة ، فيجوز ذلك إذا كان حقا في نفسه ، ولم يقصذ به الإطراء ، وأمن على الممدوح الاغترار به . وعلى هذا يحمل ما وقع للصحابة -رض الله عنهم - من مذح بعضهم لبعض مشافهة ومكاتبة . وقد مدح النبي ت مشافهة نظما رنثرأ ، ومدح هو أيضًا جماعة من أعيان أصحابه مشافهة ، لكن ذلك كته إنما جاز لتا صخت المقاصد ، وأمنت الافات ا لمذكو رة . وقوله : "إن ط ن أحدكم مادحا أخاه لا محالة ، فليقل : أحسب فلانا ؟ إن ما كان يرى أنه كذلك ") ظاهر هذا : أنه لا ينبني للانسان أن يمدح أحدأ ما وجد من ط بر ذلك مندوحة ، فإنَّ لم يجذ بذا مدح لما يعلمه من أوصافه ، وبما يظثه ، ويتحزز من
( 1 ) رواه أحمد ( 4 / 99 ) .
الجزم والقظع بشي ج من ذلك ، بل : يتحزز بأن يقول : فيما أحسب أو أظن ، ويزيد على ذلك : ولا أزئهي على الله أحدأ ، أى : لا أقطع بانه كذلك عند الله ؟ فإنَّ الله تعالى هو المطلع على الشرانر ، العالم بعواقب الأمور . و(قول هتام : إن رجلا جعل يمدح عثمان ، فجعل المقداد يحثو في وجهه الحصباء) كان هذا الرجل أكثر من المدح حف صدق عليه أنه مذاح ، ولذلك عمل المقداد بظاهر ذلك الحديث ، فحثا في وجهه التراب ، ولعذ هذا الرجل كان ممن اتخذ المدح عادة وحرفة ، فصدق عليه ! مذاح ، وإلا نلا يصدق ذلك على من مدح
---
(9/377)
مزة أو مزتين ، أو شيئآ أو شيئين . وقد بئين الصحابن بفعله : أن مراد النبي (ا) من هذا الحديث : حنله على ظاهره ، فعاتب المذاح برمي التراب في وجهه ، وهو أتعد بالحال ، وأعلم بالمقال . وقد تازله غير ذلك الصحابئ تأويلات ؛ لأنَّه رأى : أن ظاهره جفاء ، والنبيء لا يامر بالجفاء. فقيل : إن معناه : خئبوهم ، ولا تعطوهم شيئًا ؛ لأنَّ من أغطي التراب لم ينط شيئًا ، كما قد جاء في الحديث الآخر : "إذا جاء صاحب الكلب يطلب ثمنه فاملأ كفه ترابا"(2)0 أي : خيبة ، ولا تعطه شيئا. رقيل : إن معناه : أعطه ولا تبخل عليه ؟ فإنَّ مآل كل ما يعطى إلى التراب . كما قال (3) :
.... . . . ... . . . .. . . . . .. . وكل الذي فوق التراب تراب (4)
وقيل : معناه : الئنبيه للممدوح على أن يتذئهر أن المبدأ والمنتهى التراب فليعرضه على نفسه لئلا يعجب بالمدح ، وعلى المذاح ، لئلا يفرط ويطري بالمدح ، وأشبه المحامل بعد المحمل الإهر الوجه الأول ، وما بعده ليس عليه معؤل .
---
(9/378)
وقوله لكض : "لا يندغ المؤمن من جخر واحد مرتين ") هذا مثل صحيح ، رتوذ بليغ ابتكره النبت ت من فوره ، ولم يمنممغ من غيره ، وذلك أن السبب الذي أصدره عنه هو : أن أبا عزيز بن عمير الشاعر أخا مصعب بن عمير : كان يهجو من هو النفء ويؤذيه ، ويوذكط المسلمين . فامكن الله تعالى منه يوم بدر. فاخذ أسيرا ، ابوعزة وجيء به إلى النبيء فساله أن يمن عليه ، ولايعود لشيء مما كان يفعله ، فمن النبي ف عليه فاطلقه . فرجع إلى مكة ، وعاد إلى أشد مما كان عليه ، فلما كان يوم أحد ، أمكن الله منه ، فاسر ، فاحضر بين يدي النبي ظ فساله أن يمن عليه ، فقال له النف ف : "لا يندغ المؤمن من جخر واحد مرتين ، والله لا تمسح عارضيك بمكة أبدا". فامر بقتله . وأصل هذا المثل : أن الذي يلدغ من جحر لا يعيد يده إليه أبدا ، إذا كان فطنا حذرا ، بل : ولا لما يشبهه ، فكذلك المؤمن لكياسته ، وفطانته ، وحذره إذا وقع في ش ث مما يضزه في دينه أو دنياه لا يعود إليه . والرواية المعروفة : "لا يلاغ " بضم النين ، وكذلك ترأقه على الخبر ، وهو الذي يشهد له سبب الخبر ومساته ، وقد تين ده بعضهم بسكون النين على النهي ، وفيه بغذ . 555
---
(9/379)
(38) ومن باب : اشفعوا إلف تؤجروا (قوله : كان رسول الله ! إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال : "اشفعوا تؤجروا") كذا وقع هذا اللفظ "تؤجروا ، بغير فاء ولا لام ، وهو مجزوئم على جواب الأمر المضئن معنى الشرط ، ومعناه واضح لا إشكال فيه ، وقد روي "فلتؤجروا" بفاء ولام ، وهكذا وجدته في أصل شيخنا أبي الصبر أيوب ، وينبغي أن تكون هذه اللام مكسورة ؛ لأنَّها لام كي ، وتكون الفاء زائدة ، كما زيدت في توله ت : اقوموا فلأصئي لكم "(1) في بعغر رواياته ، وقد تقدم قول من قال : إن الفاء قد تاقي زائدة ، ويكون معنى الحديث : اشفعوا لكي تؤجروا ، ويحتمل أن يقال : إفها لام الأمر ، ويكون المامور به التعزض للأجر بالاستشفاع ؟ فكانه قال : استشفعوا وتعزضوا بذلك للأجر ، وعلى هذا فيجوز كسر هذه اللام على أصل لام الأمر ، ويجوز تخفيفها بالسكون لأجل حركة الحرف الذي قبلها . وقوله : "ونيفض الله على لسان نبيه ما أحمبئ ") هكذا صحت الرواية هنا
---
(9/380)
ونيفض باللام ، وجزم الفعل بها ، ولا يصخ أن تكون لام كي كذلك ، ولا يصح أيضًا أن تكون لام الأمر ؛ لأنَّ الله تعالى لا يؤمر. وكان هذه الصيغة وقعث موقع الخبر كما قد جاء في بعض نسخ مسلم ، ويقضي الله : على الخبر بالفعل المضارع ، ومعناه واضح ، وهذه الشفاعة المذكورة في الحديث ير في الحوائج الص والزغعات للشلطان ، وذوي الأمر والجاه ، كما شهد به صدر الحديث ومساقه ، ولا الثض . الحو يخفى ما فيها من الأجر والثواب ؛ لأنَّها من باب صنائع المعروف ، وكشف الكرب ، ومعونة الضيف ؟ إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول إلى السلطان ، وذوي الأمر ، ولذلك كان النبف ف يقول - مع تواضه وقربه من الصغير رالكبير(1) إذ كان لا يحتجب ، ولا يحجب - : "أبلنوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها "(2) وهذا هو معنى قوله تعالى : افن !!فغ شفعة صسنة يكن للم نصيت قتها " أ النساء : 85أ. قال القاضي : وبدخل في عموم الحديث الشفاعة للمذنبين ، فيما لا حذ فيه عند السلطان وغيره ، وله قبول الشفاعة فيه ، والعفو عنه إذا رأى ذلك كله ت كما له العفو عن ذلك ابتداة . وهذا فيمن كانت منه الزئة والفلتة ، وفي أهل الستر إل!!!بن والعفاف . وأما المصزون على فسادهم ، المستهترون في باطلهم ، فلا تجوزء الشفاعة لأمثالهم ، ولا ترك السلطان عقوبتهم ليزدجروا عن ذلك وليرته غ غيرهم بما يقعل بهم . وقد جاء الوعيد بالشفاعة في الحدود. وقوله : "إنما مثل جليس الضالح . وجليس السوء ، ) كذا وقع في بعض النسخ ، وهو من باب : إضافة الشيء إلى صفته ، ووقع في بعضها : (الجليس الضالح والجليس السوء" وهو الأفصح والأحسن ، ثم قال بعد هذا : (كحامل ( 1 ) في (ز) : والضيف . (2 م ؟ 5 51الد اذ . الف - كما ز : كثف الخفاء (3/1 4) ، ر فعض ، القدلر (83/1).
---
(9/381)
بطهارته ، لى ان لم يكن مجمعآ عليه للأحاديث الصحيحة ، الذالة على ذلك ؟ إذ قد كان النبي ت كثيرا ما يستعمله ، حتى إنه كان يخرج ، ووبيص المسك في مفرقه ، كما تالت عائشة -رضي الله عنها(ا)-. وقد تقدم توله : "أطيب الطيب المسك " ، 2) ، وغير ذلك . وقد قلنا : إن أهل الأعصار الكريمة مظبقون على استطابته واستعماله ؟ فإنَّ قيل : كيف لا يكون نجسا وقد قلتم : إنه دم ، والدم نجععن في أصله بالاجماع ، وإنما يش عن اليسير منه لتعذر التحزز منه على ما هو مفصل في الفقه ؟ فالجواب : إنا ؟ وإن سلمنا أن أصل المسك الدم ، فلا نسلم أنه بقي على أصل الدموية ، فإنَّ الذم إذا تعفن تغئر لونه ورائحته إلى ما يمنشفذر ويخشخبث ، فاصتحال إلى فساد ، رليس كذلك المسك ؟ فإنَّه قد استحال إلى صلاح يستطاب وششحسن " وبفضل على أنواع كل الطيب ، وهذا كاستحالة الدم لبنأ وبيضا ، ران ضشت حررت فيه تياسآ فقهيآ فقلت : مانع له مقز يستحيل فيه إلى صلاح ، وبكون طاهرا كاللبن والبيفر . وتكميل هذا القياس في مسائل الخلاف . وقوله : "إما أن يخذيك ") هو بضم الياء رباعيا من أحذيته : إذا أعطيته ، وفي الصحاح : أحذيته نعلآ : إذا أعطيته نعلأ ، تقول منه : استحذيته فاحذاني ، وأحذيته من الغنيمة : إذا أعطيته منها ، والاسم : الحذيا . والكير : منفخ الحداد . والكور : المبنى الذي يتفخ فيه على النار والحديد. وشجوز أن يعثر بالكير عن الكور .
---
(9/382)
(39) ومن باب : ثواب القيام على البنات والإحسان إليهن قوله : "من ابتلي بشيء من البنات فاحسن إليهن كن له سترا من النار") ابتلي : امتحن واختبر. وأحسن إليهن : صانهن ، وقام بما يصلحهن ، ونظر في أصلح الأحرال لهن ، نمن فعل ذلك ، وقصد به ونجه الله تعالى ، عافاه الله تعالى من النار ، وياعده منها ، رهو المعثر عنه بالستر من النار. ولا ش! في أن من لم يدخل النار دخل الجنة ، وقد دذ على ذلك توله في الرواية الأخرى في المرأة التي قسمت اترة ين بنتيها : إن الله قد أوجب لها الجنة ، وأعاذها من النار . وقوله : "بشميء من البنات ") يفيد بحكم عمومه : أن الستر من النار يحصل بالإحسان إلى واحدفي من البنات ، فأمَّا إذا عال زيادة على الواحدة فيحصل له زيادة على الستر من النار الشبق مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الجنة ، كما جاء في الحديث الاخر ، وهو توله : "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا رهو - وضتم بين أصابعه - ، . ومعى : "من عال جاربتين حتى تبلغا" : قام عليهما بما يصلحهما ويحفظهما . يقال منه : عال الرجل عياله ، يعولهم ، عولا وعيالة ، ويقال : علته شهرأ ؟ ط إذا كفيته معاشه . رفي ببلوغهما وصولهما إلى حال يستقلأن بانفسهما ، وذلك إنما يكون في النساء ، إلى أن يدخل بهن أزواجهن ، ولا يعني ببلوغها إلى أن تحيض وتكتف ، إذ قد تتزؤج فبل ذلك فتستش بالزوج عن قيام الكانل ، وقد تح!يض وهي غير مستقئة بشي ة من مصالحها ، ولو تركت لضاعت ، وفسدث أحوالها. بل : هي في هذ. الحال أحق بالصيانة ، والقيام عليها لتكمل صيانتها فيزغب في تزويجها ، ولهذا المعى قال علماؤنا : لا تسقط النفقة عن والد الضبية بنفس بلوغها ، بل : بدخول الزوج بها .
---
(9/383)
أ(40) ومن باب : من يموت له شيء من الولد فيحتسبهم ، (1) (قوله : "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمشه النار . . . ") الولد : يقال على الذكر والأنثى بخلات الابن ، فإنَّه يقال على الذكر : ابن ، وعلى الأنثى : ابنة ، وقد تفيد مطلق هذه الرواية ، بقوله في الرواية الأخرى : "لم يبلغوا الحنث " كما تقتد مطلق حديث أبي هريرة بحديث أبي النضر الشلم! فإنَّه قال فيه : (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم ". فقوله : "لم يبلنوا الحنث " أي : التكليف . والحنث : الإثم . وإنما خضه بهذا الحد ؛ لأنَّ الضغير حته أشد ، د والشفقة عليه أعظم ، وتئن ده بالاحتساب لما تررناه غير مرة : أن الأجور على لا المصائب لا تحصل إلا بالصبر والاحتساب ، وإنما خصق الولد بثلاثة ؛ لأنَّ الثلاثة لا أؤل مراتب الكثرة ، فتعظم المصانب ، فتكثر الأجور ؟ فأمَّا إذا زاد على الثلاثة فقد يخف أمر المصيبة الزائدة ، لأنها : كائها صارث عادة وديدنآ" كما قال المتنبي : أنكزت طارتة الحوادث مؤة ثمَّ اغترقت بها فصارث ديخدنا رتال آخر : رؤعت بالتين حثى ما أراع له وبالمصائب في أفلي وجيراني ويحتمل أن يقال : إنما لم يذكز ما بعد الثلاثة ؛ لأنَّه من باب الأحرى والأولى ؟ إذ من المعلوم : أن من كثرت مصائبه كثر ثوابه ، فاكتفي بذلك عن ذنهره ،
---
(9/384)
والته تعالى أعلم . وقد استشكل بعض الناس توله لمجظ : "لا يموت لإحداكن ثلاثه * من الولد إلا كانوا لها حجابا من النار". ثم لما سئل عن اثنين ، قال : ة واثنين أ. ووجهه : أنه إذا كان حنهم الاثنين حكم الثلاثة ، فلا فائدة لذنهر الثلاثة أولا ، وهذا إنما يصدر عمن يعتقد أن دلالة المفهوم نصن كدلالة المنظوم ، وليس الأمر كذلك ، بل : هي عند القانلين بها من أضف جهات دلالات الألفاظ ، وسانر وجوه الذلالات مرخحة عليها كما بغئاه في الأصول ، هذا إن قلنا : إن أسماء الأعداد لها مقهوم ؟ فإنَّه قد اختلف في ذلك القائلون بالمفهوم ، وألحقوا هذا النوع بالئقب الذي لا مفهوم له باتفاق المحفقين ، ثم إن الزافع لهذا الإشكال أن يقال : إن الثواب على الأعمال إنما ينلم بالوحي ، فيكون الله تعالى قد أوحى إلى نبيه بذلك اك في الثلاثة ، ثم إنيما لما سئل عن الاثنين أوحى الله إليه في الاثنين بمثل ما أوحى إليه ئال! بالثلاثة ، ولو سئل عن الواحد لأجاب بمثل ذلك كما قد دئت عليه الأحاديث . المذكورة في ذلك ، ويحتمل أن يقال : إن ذلك بحسب شدة ونجد الوالدة ، وقؤة صنرها ، فقد لا يبعد أن تكون من فقدث واحدا أو اثنين أشذ ممن فقدت ثلاثة أو مساوبة لها ، فتلحق بها في درجتها ، والله تعالى أعلم . وقوله : ا إلأ تحتة القسم ") أي : ما يحنل به القسم ، وهو اليمين . وقد اخثلف في هذا القسم ، هل هو قسم معئيئ ، أم لا ؟ فالجمهور على أنه قسئم بعينه ، فمنهم من قال : هو قوله تعالى : ا فورتبئ لنخشرنهتم والشيفين " أمريم : 168 . وقيل : هو قوله : ا ل! ضنكز إلأ وازها " أمريم : ا 7أ. وقيل : هو قوله : إ كان عك رتلإثضا ضفض!ا" لأمريم : 71 ، أي : قسما واجبا ؟ كذلك فشره ابن مسعود ابنان فما انت مخدتي عن رسولى الله ب حيب بحديت تطيب افصسنا عن مولالا!
---
(9/385)
والحسن . وأما من قال : لم يعثين به قستم بعينه ، فهو ابن قتيبة . قال معناه : التقليل لأمر ررودها. وتحئة القسم : تمنشنمل في هذا في كلام العرب ، رقيل معناه : لا تمسه النار قليلا ، ولا تلحة القسم ، كما قيل في قوله : وكل أخ مفارته أخوه لعنر أبيك إلا الفزقدان أي : والفرقدان ، على أحد الأقوال فيه . قلت : رالأشبه : قول أبي عبيد ، ولبيان وجه ذلك موضغ اخر . وقوله ت للنساء : "اجتمنن في يوم كذا") يدلّ على أن الإمام ينبني له أن يعلم النساء ما يحتجن إليه من أمر أذيانهن ، وأن يخضهن بيوأ مخصومي لذلك ، لكن في المسجد أو فيما كان في معناه حتى تؤمن الخلوة بهن ، فإنَّ تمكن الإمام من ذلك بنفسه فعل ، وإلا استنهض الامام شيخآ يوثق بعلمه وديخنه لذلك حتى يقوم بهذه الوظيفة ، وفي هذا الحديث ما يدل على فضل نساء ذلك الوقت ، وما كانوا عليه من الحرص على العلم ، والحديث عن رسرل الله لكشه ، وكما قالت عائشة -رض الله عنها- : نعم النساء نساء الأنصار ، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتففهن في ا لدين ( 1 ) . وقوله : "صغارهم دعاميص الجنة") هي جمع دعموص ، وهو دويبا ؟ تنوص في الماء ، والجمع دعاميص ، ودعامص . قال الأعشى : فما ذبرنعنا (ن جاض بخر ابن عمكنم وبخرك ساج لا يواري الذعامصا ؟ ودعيميص الرهل : اسم رجل كان داهيا ، يضرب به المثل ؟ يقال لأء دعيميص هذا الأمر : أي : عالتم به . قلت : هذا الذي وجدته في كتب اللنة ، وأصحاب الغريب : أن الدعموص دويبه ، تغوص في الماء ، رلا يليق هذا المعنى بالدعاميص المذكورين في هذا الحديث ؟ إلا على معنى تشبيه صنار الجنة بتلك الذوببة في صغرها ، أر في ضوصهم في نعيم الجنة ، وكل ذلك فيه بنذ. رقد سمعت من بعض من لقيته : أن الدعموص يراد به الاذن على الملك ، المتصزف بين يديه . وأنشد لأمية بن أبي الصلت : دغموص أبواب الملو ك وجائب لنخزق فاتخ فلت : وهذا يناسب ما ذكره في هذا الحديث . وقوله : كما اخذ أنا
(9/386)
بصنفة ثوبك ) هر
---
بكسر النون . قال الجوهري : صنفة الازار - بكسر النون - : طزته ، وهو جانبه الذي لا هدب له ، ويقال : هي حاشية الثوب أقي جانبب كان ، وقال غيره : صنفة الثوب وصنيفته : طرفه . وقوله : فلا يتناهى ، أو قال ينتهي حتى يدخله الله وأبويه الجنة) أي : ما يترك ذلك . يقال : انتهى وتناهى وأنهى بمعنى ترك ، وهكذا الرواية المشهورة : "أبويه " بالشية . وعند ابن ماهان : "أباه " بالباء بواحدة . وعند عبدالغافر : "داياه " بالياء من تحتها ، وكذ له وجه واضح . وفي هذا الحديث ما يدلّ على أن صغار أولاد ء المؤمنين في الجنة ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وهو الذي تدك عليه أخبار صحيحة كثيرة ، وظاهر قوله تعالى : ! وألذينء افوأ واتبعتخنم ذنص تنهم بإيضز أظقنا جهفا ذف ننهنم ، أ الطور : ا 2أ. وقد أنكر بعض العلماء الخلاف فيهم ، وهذا فيما عدا أولاد الأنبياء ، فإنَّه قد تقزر الإجماع على أنهم في الجنة ، حكاه أبو عبد الله المازري ، له انما الخلاف في أولاد المشركين على ما ياقي إن شاء الله تعالى . وقوله : "لقد احتظرت بحظابى شديد من الثار") أي : امتنعت ، وأصل الحظر : المنع . والحظار : ما يدار بالبستان من عيدان وتصب ، سئي بذلك لأنه يمنع من يريد الذخول . والحظيرة والمحظور منه ، والحظار هنا : هو الحجاب المذكور في الحديث الاخر .
---
(9/387)
(41 ) ومن باب : إذا أحمبئ الله عبدا حببه إلى عباده ، والأرواح أجناد مجندة ، والمرء مع من أحب قد تقدَّم : أن معنى محثة الله للعبد : إرادة إكرامه ، وإثابته . ولأعمال العباد : محبة إثابتهم عليها ، وأن محبة الله تعالى منزهة عن أن تكون ميلا للمحبوب ، أو شهوة ؟ وأمه إذ كذ ذلك من صفاتنا ، وير دليل حدوثنا ، والته تعالى منزج عن كل ذلك . وأما محبة الملك فلا بغد في أن تكون على حقيقتها المعقولة في حقوقنا ، ولا إحالة في شيء من ذلك. وإعلام التة تعالى جبريل ، راعلام جبريل الملائكة بمحبة العبد المذكور تنويه ب به ، وتشريفت له في ذلك الملأ الكريم ، رليحصل من المنزلة المنيفة على الحظ للعبد العظيم ، وهذا من نحو قوله ت حكاية عن الله تعالى حيث قال : "أنا مع عبدي إذا ذكرني ؟ إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، لى ان ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم "(1). ويجوز أن يراد بمحبة الملائكة : ثناؤهم عليه ، واستغفارهم له ، وإكرامهم له عند لقائه إياهم .
---
(9/388)
وقوله : "ثم يوضع له القبول في الأرض ") يعني بالقبول : محبة قلوب أهل الذين والخير له ، والزضا به ، والشرور بلقائه ، واستطابة ذكره في حال غيبته ، كما أجرى الله تعالى عادته بذلك في حق الضالحين من سلف هذه الأئة ومشاهير الأئمة . والقول في البنض على النقيض من القول في الحعبئ . وقوله : "الأرواح أجناد مجندة"). قد تقدَّم القول في الزوح والنفس في كتاب الطهارة . ومعنى (أجناد مجندبم : أصناف مصنفة . وقيل : أجناس مختلفة . بز ويخي بذلك : أن الأرواح وإن اتفقث في كونها أرواحا ؟ فإنَّها تتمايز(1) بامور ل وأحوال مختلفتن تتنؤع بها فتتشاكل أشخاص النوع الواحد ، وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخامق لذلك النوع للمناسبة ، ولذلك نشاهدا(2) أشخاص كل نوع تالف نوعها ، وتنفر من مخالفها ، ثمَّ إئا نجد بعض أشخاص النوع الواحد تتالف ، وبعضها تتنافر ، وذلك بحسب أمور تتشاكل فيها ، وأمور تتباعد فيها ،
---
(9/389)
كالأرواح المجبولة على الخير ، والزحمة ، وال!فقة ، والعدل ، فتجد من جبل على الزحمة يميل بطبعه لكل من كان فيه ذلك المعنى ، ويالفه ، رلمجمكن إليه ، وينفر مئن ائصف بنقيضه ، وهكذا في الجفاء رالقسوة ، ولذلك قد شاع في كلام الناس قولهم (1) : المناسبة تؤئف بين الأشخاص ، والشكل يالف شكله ، والمثل يجذب مثله . وهذا المعنى هو أحد ما حمل عليه توله ت : (فما تعارف منها ائتلف ، وما معنى ج تناكر منها اختلف " وعلى هذا فيكون معن تعارف : تناسب . وقيل : إن معنى ذلك الأرو! هو ما تعزف الله به إليها من صفاته ، ردلها عليه من لطفه وأفعاله ، فكل روع عرف من الاخر أثه تعزف إلى الله بمثل ما تعزف هو به إليه . وقال الخلم بي : هو ما خلقها الله تعالى عليه من الشعادة وال!قاوة في المبدأ الأول . قلت : وهذان القولان راجعان إلى القول الأول ، فتدئزهما . رشمتفاد من هذا الحديث : أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة مثن له فضيلة من قى أو صلاح فثش على الموجب لتلك النفرة ، ويحث عنه بنور العلم ؟ فإنَّه ينكشفث من اله له ، فيتعئين عليه أن يسعى في إزالة ذلك ، أو في تضيفه بالرياضة السياسية ، والمشاهدة(2 ، الشرعية حتى يتخئص من ذلك الوصف المذموم ، فيميل لأهل
الفضانل والعلوم ، وكذلك القول فيما إذا وجد ميلآ لمن فيه شز ، أو وصف مذموم . وقد تقدَّم القول على قوله : "الناس معادن " في كتاب المناقب .
(9/390)
أ(42) ومن باب : المرء مع من أحب وفي الثناء ملى الرجل الصالح ، (1) (قوله : فلقينا رجلا عند سذة المسجد) يعني : عند باب المسجد ، والسذة تقال على ما يسذ به الباب ، وعلى المسدود الذي هو الباب . وقوله : فكان الرجل استكان ) أي : سكن تذللا . وقوله : ما أعددت لها كبير صلاة ، ولا صيام ، ولا صدقة) يعني بذلك : النوافل من الصلاة ، والضدتة ، والصوم ؛ لأنَّ الفرائض لا بذ له ولنيره من فعلها ، فيكون معناه : أنه لم يات منها بالكثير الذي يعتمد عليه ، ويرتجى دخول الجنة
---
بسببه ، هذا ظاهره ، ويحتمل أن يكون أراد أن الذي فعله من تلك الأمور - وإن كان كثيرأ- فإنَّه محتقز بالنسبة إلى ما عنده من محبة الله تعالى ورسوله ، فكانه ظهر له : أن محبة الله ورسوله أفضل الأعمال ، وأعظم القرب ، فجعلها عمدته ، واتخذها محبة عذته ، والله تعالى أعلم . ألأسبو وقوله : "فانت مع من أحببت ") قد تكتمنا عليه في غير موضع . وقوله : ما فرحنا بعد الإسلام فرحآ أشذ من قول النبي في ) هكذا وقع هذا اللفظ في الأصول ، رفيه حذف وتوشع ، تقديره : فما فرحنا فرحا أشذ من فرحنا بقول الثبئ بئ ذلك القول ، وسكت عن ذلك المحذوف للعلم به . وإنَّما كان فرحهم بذلك أشذ ؛ لأنَّهم لم يسمعوا أن في أعمال البز ما يحصل به ذلك المعنى من القرب من النبي بغ والكون معه ؟ إلا حبئ الله ورسوله ، فاعظنم بامر ينحق المقضر بالمشئر ، والمتاخر بالمتقدِّم . ولما فهم أنى : أن هذا اللفظ محموذ على عمومه عتق به رجاءه ، وحفق فيه ظثه ، فقال : أنا أحعث الله ، ورسوله ، وأبا بكر ، وعمر ، فارجو أن أكرن معهم ، وان لم أعمل باعمالهم . والوجه الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين المحئين كل ذي نف!عي ، فلذلك تعئقت أطماعنا بذلك ؟ وإن كنا مقصرين ، ورجونا رحمة الرحمن ، وان كئا غير مستاهلين .
"""
---
(9/391)
"به وقوله : أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير وبخمده الناس عليه ) يعني : في الرجل الذي يعمل العمل الضالح خالصآ ، ولا يريد إظهاره للناس ؛ لأنَّه لو عمله ليحمده الناس أو يبزوه لكان مرائيا ، ربكون ذلك العمل باطلآ فاسدا ، دانما الله تعالى بلطفه ، ورحمته ، وكرمه يعامل المخلصين في الأعمال ، الضادقين في الأقوال والأحوال بانواع من اللطف ، فيقذف في القلوب محتتهم ، ويظلق الألسنة بالثناء عليهم ، لينؤه بذكرهم في الملأ الأعلى ؟ ليستغفروا لهم ، وينشر طيب ذكرهم في الدنيا ليقتدى بهم ، فيعظم أجرهم ، وترتفع منازلهم ، وليجعل ذلك علامة على استقامة أحوالهم ، وبشرى بحسن مالهم ، وكثير ثوابهم ، ولذلك قال : "تلك عاجل بشرى المؤمن " . والله تعالى أعلم . لم!ه . !هه
كتاب القدر
تد تقدم في كتاب الإيمان القول في لفظ القدر ، ومعناه ، واختلاف الناس أ(ا) ومن باب : في كيفية خلق آدم ، (1) قوله : "إن أحدكم يجمع خنقه في بطن أفه أربعين يوما") يعني -والله " تعالى أعلم - : أن المن! يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثا %
---
(9/392)
متغرقا ، فيجمعه الله تعالى في محل الولادة من الزحم في هذه المذة . وقد جاء في بعض الحديث عن ابن مسعود -رضي الله عنه -تفسير : "يجمع في بطن أمه " : أن النطفة إذا وقعث في الرحم ، فاراد الله تعالى أن يخلق منها بشرا طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر ، ثم تمكث أربعين ليلة ، ثم تصير دما في الرحم ، فذلك جمعها ، وهذا وقت كونها علقة ، والعلق : الدم (1) . وقوله : ة ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ") واذلك " الأول إشارة إلى المحل الذي اجتمعث فيه النطفة ، وصارث علقة ، و"ذلك " الثاني إشارة إلى الزمان الذي هو الأربعون ، وكذلك القول في قوله : "ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك " والمضغة : تدر ما يمضغه الماضغ من لحم أو غيره . وقوله : "ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ") يعني : الملك الموش بالزحم ، كما قال في حديث أنس -رضي الله عنه - : "إن الله قد وكل بالرحم ملكأ"(2). وظاهر هذا السياق : أن الملك عند مجيئه ينفخ الروح في المضغة ، وليس الأمر كذلك ؟ بل : إنما ينفخ الروح فيها بعد أن تتشتهل تلك المضغة بشكل ابن آدم ، وتتصؤر بصورته ، كما قال تعالى : ا فخلفنا اكمفهغه عجئافكسزنا اتعجر لخئا " أ المؤمنون : 14 أ ، وكما قال في الآية الأخرى : ا من تضغ ! ئخنقهر رغتر
(1 ) انظر في فتح الباري (1 الم 480) كلاما طويلآ حول هذا الموضوع ، وكل ما قيل تفسيرا لحديث رسول الله ئ هو من الاجتهادات الشخصية في وتت لم يكن العلم قد قال الكلمة النصل في هذا الموضوع . ( 2 ) روا. مسلم (6 264 ) .
---
(9/393)
نحلقرو 9 ل الحج : ه ، . فالمخلقة : المصؤرة ، وغير المخلقة : السقط . قال أبو العالية وغيره : وهذا التخليق والتصوير يكون في مدة أربعين يوما ، وحينئذ ينفخ فيه الزوح ، وهو المعنئ بقوله تعالى : ا ثئراشثهاته لخقاء اخر" أ المؤمنون : 114 في قول الحسن والكبي من المفسرين . قال القاضي : ولم يختلف : أن نقخ الروح فيه بند مئة وعشرين يوما ، وذلك تمام أرسة أشهر ، ودخوله في الخاص ، وهذا موجوذ بالمشاهدة ، وعليه يعؤل فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع ، وفي وجوب النفقات على حنل المطتقات ، وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف . وقد قيل : إنه الحكمة في عذة المرأة من الوفاة باربعة أشهر وعشر . وهذا الدخول في الخامسة يحفق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهز حفل . ونمخ الملك في الصورة سبمبئ يخلق الله عنده بها الروح والحياة ؛ لأنَّ النفخ المتعارف إنَّما هو إخراج ربح من النافخ يثصل بالمنفوخ فيه ، ولا يلزم منه عقلا ، ولا عادة في حقنا تاثير في المنفوخ فيه ؟ فإنَّ تدر حدوث شيء عند ذلك النفخ ، فذلك باحداث الهه تعالى لا بالنفخ ، وغاية النفخ : أن يكون معذا عاديا لا موجبا عقليا ، وكذلك القول في سانر الأسباب المعتادة ، فتافل هذا الأصل ، وتمسك به ، فبه النجاة من مذاهب أهل الضلال من أهل الي نع وغيرهم . و(قرله : "ويؤمر باربع كلمات : بكثب رزته ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو كتاب سعيد") ظاهر هذا اللفظ : أن الملك يؤمر بكتب هذه الأربعة ابتداء ، وليس كذلك ، أدء ؟ بل : إنما يؤمر بذلك بعد أن يعنمال عن ذلك فيقول : يا رب ! ما الرزق ؟ ما الأجل ؟ ما العمل ؟ وهل شقئ أو سعيذ ؟ كما تضثنته الأحاديث الاتية بغد ، بل : قد روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن ابن مسعود ، وعن ابن عمر : "إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها مل! بكفه ، وقال : أي ربئ ! أذكز أم أنثى ؟ شقئ أم سعيد ؟ ما
(9/394)
الأجل ؟ ما الأثر؟
---
باي أرض تموت ؟ فيقال له : انطلق إلى أم الكتاب ؟ فانك تجذ قضة هذه النطفة ، فينطلق فيجد
قضتها في أنم الكتاب ؟ فتلحق ؟ فتاكل رزقها ، وتطا أثرها ، فاذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قذر لها"(1). وزاد في بعض روايات حديث ابن مسعود : "إن الملك يقول : يا رب ! مختقة أو غير مخلقة ؟ فإنَّ كانت غير مختقة قذفتها الأرحام دما ، وإن قيل : مخئقة قال : أي رب ! ذكر أم أنثى؟"(2). وذكر نحو ما تقدَّم . فقوله : "إن النطفة إذا استقرت في الرحم " يعني بهذا الاستقرار : صيرورة النطفة علقة ، رمضغة ؛ لأنَّ النطفة قبل ذلك غير مجتمعة كما تقدَّم ، فاذا اجتمعت ، رصارت ماة واحدأ علقة أر مضغة ، أمكن حيننذ أن تؤخذ بالكف ، وسثاها نطفة في حال كونها علقة أو مضغة باسم مبدئها ، والله تعالى أعلم . وشمتفاد من جملة ما ذكرناه أن المرأة إذا ألقث نطفة لم يتعلق بها حكنم ، إذ لم تجتمغ في الرحم ، فت!بثين أنها كانت حاملآ ، إذ الرحم قد يدفع النطفة تبل استقرارها فيه ، فاذا طرحته علقة تحفقنا أن النطفة قد استقزت واجتمعث راستحالت إلى أول أحوال ما يتحفق به أنه ولد . وعلى هذا : فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل! يبرأبه الرحم ، وتنقضي به العذة ، ويثبت لها به حكم أم الولد ، وهذا مذهب مالك وأصحابه . وقال الشافعي : لا اعتبار باسقاط العلقة ، إنَّما الاعتبار بظهور الضورة والتخطيط ؟ فإنَّ خفي التخطيط ، وكان لحما فقولان : بالنقل والتخريج ، وعمدة أصحابنا : التمسك بالحديث المتقذم ، وبان ممنمقطة العلقة ، أو المضغة يصدق على المرأة إذا ألقتها أنها كانت حاملا وضعث ما استقر في رحمها ، فشملها قوله تعالى : ارأزنث آلاخال ألخهن أن يضنن لخفن " أالطلاق : 14 ويصدق عليها توله ت لسبيعه الأسلمية : "قد وضعت فانكحي من شئت "(3) ؟ ولأنها وضعت مبدأ
---
(9/395)
الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط . واستيفاء ما يتعلق به سؤالآ وجوابا في الخلاف . وقوله : "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. . . الحديث إلى اخره ") ظاهر هذا الحديث : أن هذا العامل كان عمئه صحيحا ؟ وأنه قرب من الجنة بسبب عمله حتى أشرف على دخولها ، ط ئما منعه من دخولها سابق القدر الذي يظهر عند الخاتمة ، وعلى هذا فالخوف - على التحقيق - إنما هو مقا سبق ؟ إذ لا تبديل له ولا تنيير ، فاذا : الأعمال بالسوابق ، لكن لما كانت السوابق مستورة عنا ، الأء والخاتمة ظاهرة لنا ، قال ت : "إنما الأعمال بالخواتيم ، (1) أي : عندنا ، وبالنسبة إلى إلى اطلاعنا في بعض الأشخاص ، وفي بعض الأحوال . وأما العامل المذكور في حديث سهل المتقذم في الإيمان ؟ فإنَّه لم يكن عمله صحيحا في نفسه ، وإنما كان رياء وسنعة ، ولذلك قال ف : "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو (1 ) رواه ابن حبان (0 34) من حديث عانثة . ورراه ابن ماجه (9 9 1 4) ، وابن سبان (339) من حديث معاوبة .
9 للناس ، وهو من أهل النار"(1) فيستفاد من هذا الحديث : الاجتهاد في إخلاص ، الأعمال لثه تعالى ، والتحرز من الزياء. ويستفاد من حديث ابن مسعود : ترك العخب بالأعمال ، وترك الالتفات والركون إليها ، والتعويل على كرم الله تعالى ورحمته ، والاعتراف بمئته ، كما قال ف : "لن ينجي أحدا منكم عمله . . . ا لحديث "( 2) .
---
(9/396)
أ(2) ومن باب : السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه ، (3) ( توله : "الشقف شقي في بطن أفه ) يعني : أن أول مبدأ الإنسان في بطن أمه يظهر من حاله للملائكة ، أو لمن شاء الله من خلقه ما سبق في علم الله تعالى من سعادته ، ومن شقوته ، ورزته ، وأجله ، وعمله . إذ قد سبق كتب ذلك في اللوح المحفوظ ، كما دذ عليه الكتاب ، والأخبار الكثيرة الضحيحة ، وكل ذلك قد سبق به العلم الأزلف ، والقضاء الإئهف الذي لا يقبل التغيير ، ولا الئبديل ، المحيط بكل الأمور على التعتن والتفصيل . ألا ترى الملائكة كيف تستخرج ما عند الله من علم حال النطفة ، فتقول : يا رب ! ما الرزق ؟ ما الأجل ؟ فيقضي رتجك ما شاء ، أي : يظهر من قضائه وحكمه للملائكة ما سمبق به عنمه ، وتعتقث به إرادته . وقوله : "ويكتب الملك ") يعني من اللوح المحفوظ ، كما تقدَّم في حديث يحمى بن أب! زائدة ، ولذلك عطف هذه الجملة على ما تقدم بالواو ؛ لأنَّها لا تقتضي رتبة ، ثم يخرج الملك بالصحيفة ، أي : يخرج من حال الغيبة عن هذا العالم إلى حال مشاهدته ، فيظلع الله تعالى بسبب تلك الصحيفة من شاء من الملائكة الموثهلين باحواله على ذلك ليقوم كل بما عليه من وظيفته حسب ماسطر في صحيفته .
وقوله : "إذا مز بالنطفة ثنتان وأربعون ، أو ثلاثة وأربعون ، أو خمسة وأربعون ") هذا كته شا ؟ من الرواة ، وحاصله : أن بغث الملك المذكور في هذا بغث الحديث إنما هو في الأربعين الرابعة التي ير مذة التصوير ، كما دل على ذلك أل!افي ما قذمناه قبل هذا(ا). وصئى المضغة نطفة بمبدئها ، ألا ترى قوله : ة بعث الله إليها
(ا) في (ز) : ذلك .
---
(9/397)
ملكا وصورها وخلق سمعها وبصرها ، وجندها ، وعظامها" فعطف بالفاء المرتبة ، وهذا لا يكون حتى تصل النطفة إلى حال نهاية المضغة ، كما دذ عليه ما تقدَّم . وبهذا تتفق الروايات ، ويزول ا لاضطراب المتوئم فيها - والله أعلم - . ونسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية ، وإنما صدر عنه فعل ما في المضنة - كان عنه التصوير والتشكيل -بقدرة الله تعالى ، وخنقه ، واختراعه . ألا ترى أن الله تعالى قد أضاف إليه الخلقة الحقبقية ، وقطع عنا نمب جميع الخليقة ، فقال : ا ولتذلخ!خنم ثم صؤزنبهتم ، أ الأعراف : 111 ، وقال : ا ولقدفلقنا الإفهغن من سنللى قن طيون 5ثمَّ جنئه نظنة ق اتضء تكيض . . ، الآيةأالمؤمنون : 2 ا؟اأ . وقال : ا ثاتها اتجاس إن كنترفي تض ص نن آلغمث فاتا لخقتكرفن تم إء ثمَّ من نظفهر 000 ، الاية أالمحبم : 5م ، وقال : ا وصؤبربخسن صوءلدفي ألمصير" أالتنابن : 13 وغير ذلك من الآيات . هذا مع ما دكت عليه تاطعات البراهين من أثه لا خال لشيء من المخلوتات إلا ربئ العالمين . تنبية : هذا الترتيب العجيب ، وان خفيت حكمته ، نقد لاحث لنا حقيقته ، وهو أثه كذلك سبى في عنمه ، وثبت في تضائه وحنهمه ، وإلا فمن الممكن أن يوجد الانسان ، وأصناف الحيوان ، بل وجميع المخلوقات في أسرع من لحظة ، رأيسر من النطق بلفظة ، كيف لا ؟ وقد سمع السامعون توله : ا إتماقؤل! لمثفء إذا أزثه إنقول لا كن فيس ن ، ا النحل : 140 . (3) ومن باب : ترله ت : اكل ميشز لما خلق له " بقيع الغرتد : مدفن أهل المدينة ، وقد تقدَّم ذكره . والمخصرة : قضيب كان يمسكه بيده في بعض الأحوال على عادة رزساء العرب ؟ فإنَّهم ينسكونها ويشيرون بها ، ويصلون بها كلامهم . وجمعها مخاصر ، والفعل منها : تخضر. حكاه ابن تتيبة . والننهت بها في الأرض : تحريك الأرض بها ، وهذا فعل المتفئهر المعتبر.
---
(9/398)
وقوله : أفلا نمكث على كتابنا وناغ العمل ؟ وفي الرواية الأخرى : أفلا نتكل على كتابنا؟) حاصل هذا السؤال أنه إذا وجبت السعادة والشقاوة بالقضاء الأزلف ، والقدر الإفي ، فلا فائدة للتكليف ، ولا حاجة بنا إلى العمل فنتركه ، وهذه أعظم شبه الثافين للقدر. وقد أجابهم النبي ف بما لا يبقى معه إشكال ، فقال : ا اعملوا فك! ميشر لما خلق له " ثم قرأ : افاتا من أغطف بم تش * وصذق بالخ!نف . . " الآيات أ الليل : 5 - 6أ ، ووجه الانفصال : أن الله تعالى أمرنا بالعمل ، فلا بذ من امععال أمره ، وغئب عنا المقادير لقيام حخته وزجره . ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته ، وحكمته ، وعزه ش لايممئل مايفعل " لا يبقى معها لقائك مقول ، وقهر اوهنم في نلوت " أ الأنبياء : 123 يخضع له المتكبرون . وقد بينا فيما تقدَّم أن مورد التكليف : فعل الاختيار ، وأن ذلك ليس مناقضا لما سبقت به ا لأتدار .
وقوله : افاما من أعطى" أي : الفضل من ماله . ابن عباس : حق الله تعالى . الحسن : الضدق من قلبه . وااتقى" أي : رتجه . ابن عباس وقتادة : محارمه . مجاهد : البخل . اوصدق بالحسى" اي : الكلمة الحسنى ؟ وهي كلمة التوحيد . الضخاك : بموعود الله. قتادة : بالصلاة والزكاة والصوم . زيد بن أسلم .
وفي أخرى فقال : "كل عامل ميسز لعمله " . رواه أحمد (3/ 292 ) ، ومسلم (2648 ) (8) .
---
(9/399)
افسنيسر. ، أي : نهون عليه رنهئعه اللبسرى" أي : للحالة اليسرى من العمل الضالح والخير الزاجح . وقيل : للجنة . اوأما من بخل " أي : بماله : ابن عباس . رقال قتادة : بحق الله . وااسنننى" بماله : عن الحسن . ابن عباس : عن رئه . ش وكذب بالحسنى" أي : بالجنة . وش العسرى" : نقيض ما تقدم في اليسرى . واتردى" : هلك بالجهل والكفر ، وفي الاخرة بعذاب الله . و(قول سراتة : بئيئ لنا ديننا كاثا خلقنا الان ) أي : بئيئ لنا أصل ديننا ، أي : ما نعتقده وندين به من حال أعمالنا ، هل سبق بها تدز أم لا ؟ وقوله : كانا خلقنا الآن يعني أنهم غير عالمين بهذه المسألة ، فكانهم خلقوا الآن بالثسبة إلى علمها ، وفائدته : استدعاء أوضح البيان . وقوله : فيم العمل اليوم ؟) أي : فيما جمت به الأقلام ، هكذا صحيح
---
(9/400)
الرواية . فيم الأول : بغير ألف ؛ لأنَّها استفهامية . والثانية : بالف ، لأنها خبرية . وقد وقع في بعض النسخ بالعكس ، والأول الضواب . ومقتضى هذا السؤال : أن ما يصدر عنا من الأعمال ، وما يترئب عليها من الثواب والعقاب ، هل سبق علم الله تعالى بوفوعه ، فنفذث به مشينته ؟ أو ليس كذلك ؟ وإنما أفعالنا صادرة عنا بقدرتنا ومشيئتنا ، والثواب والعقاب مرتعت عليها بحسبها ؟ وهذا القسم الثاني هو " مذهب القدرية ، وقد أبطل النبيء هذا القسم بقوله : "لا ، بل فيما جفمث به الأتلابم ، وجرت به المقادير". أي : ليس الأمر مستانفا ، بل قد سبق به علم الله ، ونفذت به مشيئته ، وجفعث به أتلام الكتبة في اللوح المحفوظ ، وفي صحف الملائكة المكتوبة في البطن ، بل : قد نمق على هذا في حديث عمران بن حصين المذكور بعد هذا. وأنمن من هذا كته ما خزجه الترمذئ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال : خرج علينا رسول الله ظ وفي يده كتابان ، فقال لئذي في يده اليمف : "هذا كتاب من ربئ العالمين . فيه أسماء أهل الجنة ، وأسماء ابانهم وقبائلهم ، ثم أنجمل (ا) على اخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبدا". ثم قال للذي في يده اليسرى : "هذا كتابئ من ربئ العالمين ، فيه أسماء أهل النار ، وأسماء ابائهم ، وقبائلهم ، ثم اتجمل على آخرهم ، فلا يزاد ( 1 ) "أجملت الحساب " : إذا جمعت احاد. ، ركملت أفراده ، أي : أحصوا وجمعوا .
---
(9/401)
فيهم ، ولا ينقص منهم أبدا". ثم رمى بهما ، وقال : "فرغ ربمم من العباد ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير"(ا). قال : هذا حديث حسن صحيح . والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة ، يفيد مجموعها العلم القطعي واليقين الحقيقي الاضطرارى بابلال مذاهب القدرية ، لكئهم كابروا في ذلك كله وربروه ، وتازلوا ذلك تأويلا فاسدأ ، ومؤهوه للأصول التي ارتكبوها من التحسين ، والتقبيح ، والتعديل ، رالتجويز ، والقول بتاثير القدرة ا لحادثة على جهة ا لاستقلال ، وقد تكئم أئمة أهل الشنة معهم في هذه الاصول ، وبئنوا فسادها في كتبهم . وقوله : فيم العمل ؟) هذا السزال : هو الأزل الذي تضئنه قوله : أفلا نمكث على كتابنا ، وناغ العمل ؟ وقد بثناه .
أ(4 وه ) ومن باب : في قوله تعالى : ا وننعبروماسؤلفا5 ؟تمهانجورهاوتقونها"(2) توله : (أرأيت ما يعمل الناس اليوم وبكدحون فيه ) الكذح : السعي في العمل لدنيا كان أو لاخرة ، وأصله : العمل الشاق ، والكسب المتعب .
---
(9/402)
وقوله : فلا يكرن ظلما؟) كذا الرواية بغير ألف استفهام ، وهي مرادة ؟ إذ بالاستفهام حصل فزع المسؤول ، وبه صخ أن يكون ما أتى به من قوله : كل شيء خنق الله ومنك يده . . . إلى اخره . جوابا عما ساله عنه ، ولو لم يكن الاستفهام مرادأ لكان الكلام نفيا للظلم ، وهو صحيخ وحق ، ولا يفزع من ذلك ، ولا يستدعي ة جوابا. وبيان ما ساله عنه أنه لما تقزر عنده : أن ما يعمل الناس فيه شيء قضي به عليهم ، رلا بذ لهم منه ، فكانهم يلجؤون إليه ، فكيف يعاتبون على ذلك ؟ فعقابهم على ذلك ظلم ، وهذه من شبه القدرية المبنية على التحسين والتمبيح ، وقد أجاب عن ذلك أبو الأسود ، وأحسن في الجواب ، ومقتضى الجواب : أن الظلم لا يعصؤر من الله تعالى ، فإنَّ الكل خنقه ، ومنكه ، لا حجر عليه ، ولا حنهم ، فلا يتصؤر في حفه الظلم لاستحالة شرطه ، على ما بننا. غير مرة ، ثم عضد بغوله : لا يسال عما يفعل وهم يسالون ، ولما سمع عمران هذا الجواب تحقق : أنه قد وفق للحق ، وأصاب عين الصواب ، فاستحسن ذلك منه ، وأخبره أنه إنما امتحنه بذلك السؤال ليختبر عقله ، وليستخرج عمله إثم أفاده الحديث المذكور ، ومعناه قد تقدم الكلام عليه م (ا). ثم قال : وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى : إرننمبى وماسولفا " فم فمها مجورها وتتولهفا" (الشمس : 7 - 8أ ، وقوله : اونفس " هو قسئم بنفوس بني آدم ،
(ا) ما بين حاصرتين ستط من (م 4).
---
(9/403)
وأفردها ، لأن مراده النوع ، وهذا نحو توله : ا ص! نفش ما قذمث وأخرت " أالانفطار : 15 أي : كل نفس . كما قال : اش نني!ى بماكسبت رهينة ، أ المدثر : 38 ، . ألا ترى قوله : ! فم تمهافي رهاونثوثها" أ الشمس : 18 أي : حملها على ما أراد من ذلك ، فمنها ما خلق للخير ، وأعانها عليه ويشره لها ، ومنها ما خلق للشر ويشره لها ، وهذا هو الموافق للحديث المتقدِّم ، المصذق بالاية . وقوله : اوما سواها" أخط : والذي سواها ، وقد قدمنا أن ما في أصلها لما لا يعقل ، أوقد تجيء بمعنى الذى ، وير تقع لمن يعقل ولما لا يعقل أ(1). والتسوية : التعديل . بعني : أنه خلقها مكئلة بكل ما تحتاج إليه ، مؤهلة لقبول الخير والشر ، غير أنه يجري عليها في حال وجودها وما لها ما سبق لها مما قضي به عليها. وفي حديث عمران هذا من الفقه جواز اختبار العالم عقول أصحابه اجتب الفضلاء بمشكلات المسانل ، والثناء عليهم إذا أصابوا ، وبيان العذر عن ذلك ، مفو والذي قضي عليها : أنها إما من أهل السعادة وبعمل أهل السعادة الذي به تدخل الجنة تعمل ، راما من أهل الشقاوة وبعمل أهل الشقاوة الذي به تدخل النار تعمل . كما قال تعالى ، 2) : "هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، وهؤلاء للنار ،
---
(9/404)
وبعمل أهل النار يعملون ، فطوبى لمن قضيت له بالخير ، ويشرته عليه ، والويل لمن قضيت عليه بالشر ، وشمرته له ". وما أحسن قول من قال : قسئم قسمث ، ونعوت أجريت ، كنيئ تختكب بحركات ، أو تنال بسعايات ؟ ! ومع ذلك فغيب الله عنا المقادير ، ومكئنا من الفعل والئزك رفعا للمعاذير ، وخاطبنا بالأمر والنهي خطاب المستقلين ، ولم يجعل التمسك بسابق القدر حجة للمقصرين ، ولا عذرا للمعتذربن ، وعثق الجزاء على الأعمال ، وجعلها له سببا ، فقال تعالى : ا وبتخزئ ش نفمبى لطمامحسبت " أ الجاثية : 22أ ، وب ا قاعملث " أالنحل : 111 أ ، وقال في أهل الجنة : ا جنم إج بما ، نوأ يغمكون " أالسجدة : 17 ، ، وقال في أهل النار : ا برإ ابماكانوأ ؟ي!م !دلن ، أفصلت : 128 ، وقال : ! يخزى ألذين أشوأ لما صرأ ونجزى ألذين أخسنوأ لهالهستف ، أ النجم : 31أ ، وقال على لسان نبئه ظ : "يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أرذها عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى ، فلا يلومن إلا نفسه ؟"(ا) . وكل ذلك من الله ابتلاء وامتحان ، فيجب التسليم له والإذعان .
---
(9/405)
(6) ومن باب : محاجة آدم وموسى - عليهما السلام - (قوله : "احتبئ آدم وموسى عند ريهما") ظاهر هذا اللفظ ، وهذه المحاخة أنهما التقيا باشخاصهما ، وهذا كما تزرناه فيما تقدَّم في الأنبياء من إحيائهم بعد الموت كالشهداء ، بل : هم أولى بذلك ، وبجوز أن يكون ذلك لقاء أرواح ، وقد قال بكل تولي منهما طائفة من علمائنا ، وهذه العندتة عندية اختصاص ، وتشريف ، لا عندئة مكان ، فائه تعالى منزه عن المكان والزمان ، وإنما هي كما قال تعالى : ا إن أفتقبن فى بخنض وش 5فى متعدصتئ عندمليلض ققندلم " أ القمر : 54 - 55م أي : في محل القشريف واجمرام والاختصاص . رروى هذا الحديث بعضهم ، وزاد فيه : إن هذا الئقاء كان بعد أن سال موسى ، فقال : يا ربئ ! أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة ، فاراه الهه إئاه ، فقال : أنت آدم ؟ فقال : نعم . وذكر الحديث . وقوله : "فحخ آدم موسى") أي : غلبه بالحجَّة . يقال : حاججت فلانا فحججته ، أي : غلبته .
---
(9/406)
وقوله : "أنت آدم الذي خلقك الله بيده ") هو استفهام تقرير ، وإضافة الله خلق آدم إلى يده إضافة تشريف ، ويصخ أن يراد باليد هنا : القدرة والنعمة ، إذ كلاهما موجود في اللسان مستعمل فيه ، فأمَّا يد الجارحة فالثه منزه عن ذلك قطعا. وقوله : "ونفخ فيك من ررحه ، ) يحتمل أن تكون (من ) زائدة على المذهب الكوفي . ونفخ : بمعنى خلق ، أي : خلق فيك روحه ، فاضاف الروح إليه على جهة الملك تخصيصا وتشريفا ، كما قال : بيتي ، وعبادي . واستعار د(خلق ) : نفخ ؛ لأنَّ الروح من نوع الريح ، ويحتمل تأويلأ اخر ، رالهه بمراده أعلم ، والتسليم للمتشابهات أسلم ، وهي طريقة الشلف ، وأهل الاقتداء من الخلف . وقوله في الأم : "أنت الذي خيبتنا ، وأخرجتنا من الجئة")(1) أي : كنت سبب ذلك كله ، وقال في رواية أخرى : "أنت الذي أغويت الناس ، (2) أي : كنت سبب غواية من غوى منهم ، والغواية ضد الرشد ، كما قال الله تعالى : !فدتبين ألزشدمن اليئ ، أالبقرة : 256أ ، وقد يراد بها الخطا ، وعليها يحمل : ا وعصفء آدم رتبم فنوئ " أطه : 1121 ، أي : أخطا صواب ما أمر به ، وهذا أحسن ما قيل في ذلك -إن شاء الله تعالى-. وقوله : "وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ") يعني : الألواح التي قالى الله تعالى فيها : ا رمحتننا للم فى اكاتواح من ئحل ثف ، ، أالأعراف : 1145 ، وير
---
(9/407)
جمع لوح بفتح اللام ، وسئي بمصدر لاح الشء يلوح لؤحا : إذا ظهر ، وسئي بذلك لظهور ما يكتب فيه . فاقا التوح - بضتم اللام - : فهو ما بين السماء والأرض . قال مجاهد : كانت الألواح سبعة من زمزدة خضراء. وقال ابن جبير : من ياقوتة حمراء. ومعى كتبنا : أمرنا من يكتب ، أو خلق فيها تومآ وخطوطا مكتوبة مثل الذي يكتب بالاتلام . وقرله : افيها تبيان كل ش ج " أي : كل شيء قصد إلى تبيينه " أو من كل نوج شيئا ، أو من كل أصل! فرعا. وقوله : "وقزبك نجيا") أي : للمناجاة وهيم : المسارى . والتقريب : بالمرتبة ، لا بالموضع والمكان . وقوله : "أفتلومني على أن عملت عملآ كتبه الله علي تبل أن يخلقي م!ى باربعين سنة") . قال : فحبئ آدم موسى" ظاهر هذا أن آدم إنما غلب موسى بالحجة ؟ وموء لأنه اعتذر بما سبق له من القدر عما صدر عنه من المخالفة ، وقبل عذره ، وقامت بذلك حخته ؟ فإنَّ صخ هذا لزم عليه أن يحتبئ به كل من عص ولمجتذر بذلك فيقبل عذره ، وتثبت حجته ، فحينئذ تكون للعصاة على الة حجَّة ، وهو مناقص لقوله تعالى : اشته الحتة انبننة" أ الأنعام : 149 أ. وقد اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فقيل : إما غلبه آدم بالحجة ؛ لأنَّ آدم أبو موسى ، وموسى ابن ، ولا يجوز لوم الابن أباه ، ولا عتبه .
---
(9/408)
قلت : وهذا ناي عن معنى الحديث ، وعما سيق له ، وقيل : إنما كان ذلك ؛ لأنَّ موسى قد كان علم من التوراة : أن الله تعالى قد جعل تلك اسة سبب إهباطه من الجنة ، وسكناه الأرض ، ونشر نسله فيها ليكئفهم ، ويمتحنهم ، ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي . قلت : وهذا إبداء حكمة تلك اكلة ، لا انفصال عن إلزام تلك الحجَّة ، والسؤال باق لم ينفصل عنه . وقيل : إنما توجهت حجته عليه ؛ لأنَّه قد علم من التوراة ما ذكروا : أن الله تاب عليه ، واجتباه ، وأسقط عنه الئؤم والعتب . فلوم موسى ، وعتبه له - مع علمه بأن الله تعالى تذر المعصية ، وتض بالتوبة ، وباسقاط الئزم ، والمعاتبة حتى صارت تلك المعصية كان لم تكن - وقع في غير محئه ، وعلى غير مستحقه ، وكان هذا من موسى نسبة جفاء في حالة صفاء ، كما قال بعغى أرباب الاشارات : ذكر الجفاء في حال الصفاء جفاة وهذا الوجه إن شاء الة أشبه ما ذكر ، وبه يتبئين أن ذلك الالزام لا يلزم ، والله أعلم . أ
(7) ومن باب : كتب الله المقادير قبل الخلق ، وكذ شيء بفدرأ(1) قوله : "كتب الله مقادير الخلانق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة") أي : أثبنها في الئوح المحفوظ ، كما قلناه آنفا ، أو فيما شاء ، فهو
---
(9/409)
توقيمت للكتب ، لا للمقادير ؛ لأنَّها راجعة إلى علم الله تعالى وارادته ، وذلك قديم لا أؤل له ، رشمتحيل عليه تقديره بالزمان ؟ إذ الحق سبحانه وتعالى بصفاته موجود ، ولا زمان ولا مكان ، وهذه الخمسون ألف سنة ستون تقديرية ؟ إذ قبل خلق السموات لا يتحفق وجود الزمان ؟ فإنَّ الزمان الذى يعثر عنه بالسنين والأيام والليالي ؟ إنما هو راجع إلى أعداد حركات الأفلاك ، وسير الشمس ، والقمر في المنازل والبروج السماوية ، فقبل السموات لا يوجد ذلك ، وإنما يرجع ذلك إلى مذة في علم الله تعالى لو كانت السموات موجودة فيها لعددت بذلك العدد ، وهذا نحو مما قاله المفسرون في ترله تعالى : ا لخق ألمنمنزت وأشم زش ق سترو أيئ ص " أالأعراف : 54 ، ، أي : في مقدار ستة أيام ، ثم هذه الأيام جمل يوم منها مقدار ألف سنة من سني الدليا ، كما قال تعالى : الك توئاعند زبئ كالف سنزقئاتعدوبر ، أالحج : 147 ، وكقوله : ا فى يرو كان مثدار* ألف سنؤ" أ السجدة : 5م هذا قول ابن عباس وغيره من سلف المفسرين على ما رواه الطبرئ في تاريخه عنهم ، ربحتمل أن يكون ذكر الخمسين ألفا جاء مجيء الإغياء في التكثير ، ولم يرذ عين ذلك العدد ، فكانه قال : كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق هذا العالم باماد كثيرة ، وأزمان عديدة ، وهذا نحو مما تلناه في قوله تعالى : اإن لتشغفزلنم سنعين ص بر فلن يغفرألته لتم ، 11 لتوبة : 80 ، ، وا لأول : أظهر وأولى . وقوله : "وعرشه على الماء") أي : قبل خلق السموات والأرض . سكي عن كعب الأحبار : أن أؤل ما خلق الله تعالى ياقوتة خضراء ، فنظر إليها بالهيته فصارث ما" ثم وضع عرشه على الماء. قال ابن عثاس في قوله تعالى : اوصات عرثفلم على ألمإ ، أهود : 17 ، أي : فوق الماء ؟ إذ لم يكن سماء ولا أرض . فلت : أقوال المفسرين كثيرة ، رالمسند المرنوع منها قليل ، وكل ذلك ممكن ، والته تعالى أعلم بحقيقة ذلك . والذي نعلمه قطعا : أن الله تعالى قديم ،
(9/410)
لا أؤل لوجوده ، فكان
---
موجودأ وحده ، ولا موجود سواه ، ثم اخترع بقدرته لص ارادته ما ة سبق في علمه ، ونفذت به مشينته ، كما شا" ومتى شاء ، والذي نعلم استحالته ر تطعا : أزلئة ثي ج غير الله تعالى من عرش ، أو كرسئ ، أو ماء ، أو هواء ، أو أرض ، أو سماء ؟ إذ كل ذلك ممكن في نفسه ، وكل موجود ممكن محدث ؟ ولأن كل ذلك لا يخلو عن الحوادث ، وما لا يخلو عن الحوادث حادث على ما تعرف حقيقته في موضه ؟ ولأنه المعلوم الضرورقي من الشرع ، فمن ش! فيه ، أو جحده فهو كافر ، ومما يعلم استحالته : كون العرش حاملا لله تعالى ، وأن الله تعالى مستقر عليه كاستقرار الأجسام ؟ إذ لو كان محمولا لكان محتاجا فقيرا لما يحمله ، وذلك ينافي وصف الالهية ؟ إذ أخمن أوصاف الإله (ا) : الاستغناء المطلق ، ولو كان ذلك للزم كونه جسما مقذرأ ، ويلزم كونه حادثا على ما سبق ؟ فإنَّ قيل : فما معنى توله تعالى : األرخق ط اتمض يق أشتوئ ، أطه : 15 . قيل : له محامل واضحة ، وتأويلات صحيحة ، غير أن الشرع لم يعين لنا محملا من تلك المحامل فيتوقف في التعيين ريسلك مسلك السلف الصالح في التسليم . وقوله : "كل شء بقدر ، حتى العخز والكيس ") قين دناه بكسر الزاي والسين وضتهما. و(حتى) هي العاطفة ، والرفع عطف على كل ، والخففر على شيء .
---
(9/411)
والكيس : - بفتح الكاف - لا يجوز غيره ، ومعنى هذا الحديث : أن ما من شيء يقع في هذا الوجود كاننا كان إلا وقد سبق به علم الله تعالى ، ومشئته ؟ سواب كان ممن أفعا لنا ، أو صفاتنا ، أو من غيرها ، ولذلك أتى ب (كل " ا لتي هي للاستغراق ، والإحاطة ، وعفبها بحتى التي هي للغاية ، حتى لا يخرج عن تلك المقدمة الكئية من الممكنات شي ة ولا يتوقم فيها تخصيص ، وإنما جعل العجز والكيس غاية لذلك ليبئيئ أن أفعالنا ، وان كانت معلومة ، ومرادة لنا ، فلا تقع منا إلا بمشيئة الله تعالى ، له ارادته وقدرته ، كما قال تعالى : !وما لشآه ون إلا أن يشاء ألته " أ الإنسان : 30أ ، وصار هذا من نحو قول العرب : قدم الحاج حتى المشاة . فيكون معناه : أن كل ما يقع في الوجود بقدر الله ومشيئته ، حتى ما يقع منكم بمشيئتكم . والعجز : التثاقل عن المصالح حتى لا تحصل ، أو تحصل لكن على غير الوجه المرضي . والكيس : نقيضى ذلك ، وهو الجذ والتشمير في تحصيل المصالح على وجوهها ، والعجز في أصله : معنى من المعافي مناقفق للقدرة ، وكلاهما من الصفات المتعلقات بالممكنات على ما يعرف في علم الكلام. لمه ه ه
---
(9/412)
أ(8) ومن باب : تصريف الله تعالى القلوب وكتب على ابن أدم حظه من الزنى (1 ، (ترله : اقلوب بني آدم بين إضبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرفه كيف يثاء") ظاهر الإصبع محاذ على الله تعالى قطعا لما قلناه انفاة ولأنه لو كانت له أعضاء وجوارح ؟ لكان كل جزء منه مفتقرأ للاخر ، فتكون جملته محتاجة ، وذلك يناتض الالهية ، وقد تاؤل بعض أنمتنا هذا الحديث فقال : هذا استعارج جارية مجرى تولهم : فلان في كفي ، وفي قبضي . يراد به : أنه متمكن من التصزف فيه ، والتصريف له كيف شاء ، وأمكن من ذلك في المعنى ، مع إفادة التيسير أن بتال : فلان بين إصبعف ، أصرفه كيف شنت . يعني : أن التصزف متيشز عليه غير متعذبى . وقال بعضهم : يحتمل أن يريد بالإصبع هنا النعمة . وحكي أنه يقال : لفلان عندى إصبغ حسنة ، أي : نعمة. كما قيل في اليد. فإنَّ قيل : فلأي شيء تنى الاصبع ، ونعمه كثيرة لا تخص ؟ قلنا : لأن النعم ، رإن كانت كذلك ، فهي قسمان : نفع ودفع ، نكانه قال : تلوب بني آدم بين أن يضرف الله عنها ضزا ، وبين أن يوصل إليها نفعا.
(1 ) هذا العنوان لم يرذ في نسخ المنهم ، واستلركناه من التلخيص .
---
(9/413)
قلت : وهذا لا يتئم حتى يقال : إن بني آدم -هنا - يراد بهم الصالحون ؟ الذين تولى الله حقظ قلوبهم . وأما الكفار والفشاق ، فقد أوصل الله تعالى إلى تلوبهم ما شاءه ، ربهم من الطيع ، والختم ، والزين ، وغير ذلك . وحينئذ يخرج الحديث عن مقصرده ، نالتأويل الأول أولى ، وقد تلغا : إن التسليم الطريق السليم . وقوله : "اللهم مصرف القلوب صزف تلوبنا إلى طاعتك ") هذا الكلام يعضد ذلك التأويل الأول ، وقد وقع هذا الحديث في غير كتاب مسلم فقال : "يا مقئب القلوب ثمَّت تلوبنا على طاعتك ". وهما بمعنى واحلإ ؟ وحاصله : ا! الحدا أحوال القلوب منتقلة غير ثابتة ولا دائمة . فحق العاقل أن يحذر على قلبه من قلبه ، نقتبا ويفرغ إلى رئه في حفظه . وقوله : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة) هذا من ابن عباس معنى تفسير توله تعالى : ا ألذين يختنبون كتوألأثص وأننزحش إس التم " أالنجم : 132 . وير ما دون الكبائر. والفواحش : هي الصغائر. وقال زيد بن ثابت - رضي الله عنه - : هي ما ألتوا به في الجاهلية. وتبل : ير مقاربة المعصية من غير إلمام . وقيل : الذنب الذي يقلع عنه ولا يصز عليه ، وقيل غير هذا . وأشبه هذه الأقوال القول الأول . رعليه يدلّ فوله ت : "الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"(ا) ، والفواحش : جمع فاحشة ، وهي ما يمنمتفحش من الكبائر كالزنى بذوات ا لمحارم ، راللواط ، ونحو ذلك . ( 1 ) روا ه أحمد ( 2 / 4 8 4 ) ، ومسلم (233 ) ، را لترمذي ( 4 1 2 ) .
---
(9/414)
وقوله : "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى") أي ؟ قضاه وقدره ، وهو : نمن في الرذ على القدرية . وقوله : "مذرك ذلك لا محالة") كذا صخ ، وهو مرفوغ على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : فهو مدرك ذلك ، ولا محالة ، أي : لا بذ من وقوع ذلك منه . وقوله : "فالعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والزجل زناها الخطا ، والقلب يهوى ويتمنى") يعني : أن هواه وتمغيه : هو زناه . وإنَّما أظلق على هذه الأمور كلها : زنى ؛ لأنَّها مقذماتها ، اذ لا يحصل الزنى الحقيقي في الغالب إلا بعد استعمال هذه الأعضاء في تحصيله . والزنى الحقيقي : هو إيلاج الفرج المحرم شرعا في مثله . ألا ترى توله : "ويصذق ذلك الفرج وبكذبه " يعي : إن حصل إيلاج الفرج الحقيقي ، ثثم
زنى تلك الأعضاء ، وثبت إثمه ، وإن لم يحصل ذلك واجتنب كفر زنى تلك الأعضاء ، كما قال تعالى : ا إن تختنبوأصبإلر ما ئخؤن عنه نكفزعنكئم ص س!اتكتم " أ النساء : 131.
أ(9) ومن باب : كل مولود يولد على الفطرة رما جاء في أولاد المشركين وغيرهم ، وفي النلام الذي قتله الخضر ، (1) (قوله : اكذ مولود يولد على الفطرة") قد تقدَّم : أن أصل الفطرة : الخلقة أمل المبتدأة ، وقد اختلف الناس في الفطرة المذكورة في هذا الحديث ، وفي الاية ، ومعناكل فقيل : هي سابقة السعادة والشقاوة ، وهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القران ؛ لأنَّ الله تعالى قال : ا لا!ديل لخئق المته ، أ الروم : 30أ ، وأما في الحديث فلا ؛ لأنَّه (1 ) هذا العنوان لم يرذ في نسخ المفهم ، واستدركناه من التلخيص .
---
(9/415)
قد أخبر في بقية الحديث : بانها تبذل وتنثر ، وقيل : هي ما أخذ عليهم من الميثاق ، وهم في أصلاب آبائهم . وهذا إنما يليق بالرواية التي جاء فيها : ة كل مولود يولد على الفطرة" ويبعد في رواية من رواه : "على هذه المئة" وهي إشارة إلى مثة الاسلام . وقال بظاهر . هذه الاية طانفة من المتاؤلين ، وهذا القول أحسن ما قيل في ذلك - إن شاء الله تعالى - ؟ لصحَّة هذه الرراية ، ولأنها مبئنة لرواية من قال : على الفطرة . رمعى الحديت : إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤثلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم تابلة للمرئيات والمسموعات أ فما دامت باقية على ذلك )م القبول ، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق . ودين الإسلام هو الذين الحق ، وقد جاء ن ذلك صريحا في الضحيح : "جبل الله الخلق على معرفته ، فاجتالتهم الشياطين "(1) وقد تقدَّم هذا المعنى ، وقد دذ على صحة هذا المعنى بقية الخبر حيث قال : "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحشون نيها من جدعاء؟" يعني : أن البهيمة تلد ولدها كامل الخنق ، سليما من الافات ، فلو نزل على أصل تلك الخنقة لبقي كاملا بريئا من العيوب ، لكن يئصزف فيه ، فتجدع أذنه ، وبوسم وجهه ، فتطرأ عليه الافات والنقانص ، فيخرج عن ا لاصل ، وكذلك ا لإنسان ، وهو تشبية واقغ ، وونجهه واضخ . والرواية "ثنتج " بضم التاء الأولى ، ونتح الثانية مبنيا لما لم يسثم فاعله . يتال ذلك إذا ولدت ، ومصدرها نتاجا ، وقد نتجها أهلها نتجا بفتح النون والتاء مبنيا للفاعل . وهم ناتجوها ؟ إذا ولدت عندهم ، وتولوا نتاجها . وحكى الأخفش فيه : أنه يقال : أنتجت الناقة -رباعيا-. ويقال : أنتجت الفرس والناقة : حان نتاجهما . وقال يعقوب : إذا استبان حنلها ، فهي نتوج ، ولا يقال : منتج (2) ، وأتت
---
(9/416)
(الناتة على متتجها -بكسر الجيم - ؟ أي : الوقت الذي تنتج فيه . ونصب جمعاء على الحال ، وبهيمة : منصوبة على التوطئة لتلك الحال . والجذع : القطع . وتحشون : تدركون بحشكم رحواسكم . وقوله : "ما من مولود إلا يولد") كذا لكئهم غير الشمرقندي ، فعنده تلد بتاء باثنتين من فوقها مضومة ، وبكسر اللام على وزن : ولد ، وضرب ، وتخزج على ما ذكر الهجرى في نوادره . قال : يقال وبد وتلد بمعنى ، ويكون على إبدال الواو تاة لانضمامهما . وقوله : "كذ ابن آدم يلكز الشيطان في حضنيه ") كذا لجميعهم . والحضن : الجنب . وقيل : الخاصرة ، غير أن ابن ماهان رواه : خصييه ، تثنية خصية ، وهو وهم وتصحيف بدليل قوله : "إلا مريم وابنها" . وقوله : أرأيت من يموت صغيرام هذا السؤال إنما كان عن أولاد المشركين ، كما جاء مفشرأ من حديث ابن عباس : "فأمَّا أولاد المؤمنين ، فقد تقدم الاستدلال على أثهم في الجنة ، رأما أطفال المشركين فاختلف فيهم على ثلاثة أترال : فقيل : في النار مع ابائهم ، وقيل : في الجنة ، وقيل : تؤخج لهم نار ويؤمرون بدخولها ، فمن أطاع منهم دخل الجنة ، ومن عصى منهم دخل النار. وذهب قوم - وأحسبهم من غير أهل السنة - فقالوا : يكونون في برزخ . وسبب اختلاف الثلاثة الأقوال : اختلاف الآثار في ذلك ، ومخالفة بعضها لظاهر قوله تعالى : ا وما ثها معذببن صف تجعث رسولا" أالإسراء : 115 . والصبف والمجنون لا يفهمون ولا يخاطبون ، فهم كالبهائم ، فلم يبعث إليهم رسول ، فلا يعذبون . والحاصل من مجموع ذلك - وهو : القول الحق الجاري على أصول أهل الحق - : أن العذاب المترتب على التكليف لا يعثبه من لم يكئف . ثم لثه تعالى أن يعذب من شاء ابتداء من غير تكليف من صت أو مجنون ، أو غير ذلك بحكم المالكية ، وأنه لا حجر عليه ، ولا حكم ، فلا يكون ظالما بشيء من ذلك إن فعله كما قررناه في الباب قبل هذا. وعلى هذا يدلّ قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث عائشة
(9/417)
-رضي الله عنها - : "إن الله خلق للجنة
---
أهلآ ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا ، وهم في أصلاب ابانهم ، . قد تذمنا : أن الاعمال معزفات لا موجبات . وقوله : "الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهنم ") معناه : التة أعلم بما جبلهم عليه ، رطبعهنم عليه ، فس خلقه الله تعالى على جبئة المطيعين كان من أهل الجثة ، ومن خلقه الله على جبثة الكفار من القسوة والمخالفة كان من أهل الثار. وهذا كما قال في غلام الخضر : "طبع يوم طبع كافرأ" . وهذا الثوافي والعقاب ليس مرئبا على تكليف ولا مزتبطا به ، وإنما هو بحكم علمه ومشيئته . وأما من قال : إنهم في النار مع ابائهم ، فمعتمده قوله لض : "هم من ابائهم "(ا). ولا حجَّة فيه لوجهين : ( 1
من الأنصار فقلت : يا رسول الله ! طوبى لهذا ؟ عصفور من عصافير الجنة ؟ لم يعمل السوء ولم يدركه ! قال : إأو غير ذلك يا عائشة! إن الله خلق للجنة
أحدهما : أن المسألة علمية ، وهذا خبز واحد ، وليس نضا في الفرض . وثانيهما : سثمناه ، لكنا نقول ذلك في أحكام الدنيا ، وعنها سئل ، وعليها خزج الحديث ، وذلك أثهم قالوا : يا رسول الهه أ إنا نبتت أهل الذار من المشركين ، وفيهم الذراري . فقال : "هم من ابائهم " ، يعني في جواز القتل في حال التبييت ، وفي غير ذلك من أسكام آبائهم الذنيوية ، والله تعالى أعلم . و(قول عائشة - رضي الهه عنها - في الصبي الأنصاري المتوفى : عصفوز من عصافير الجنة) إنما قالت هذا عائشة ؛ لأنَّها بنت على أن : كل مولود يولد على فطرة الإسلام ؟ وأن الله تعالى : لا يعذب حتى يبعث رسولآ ، فحكممث بذلك ، فاجابها النئ لكض بما ذكر.
ل .6ء ا ، عن عبد اد بن مسعود ، ط ى . ط لط ام حبيبم . 5سهم سسي بزوجي : رسول الله بئ ، وبابي : أبي سفيان ، وباخي : معاوية! فقال
---
(9/418)
وقوله : ة وهم في أصلاب ابانهم ") لا يعارض ما تقدَّم من توله أنه يكتب وهو في بطن أمه شقف أو سعيذ ؟ لما قذمناه من أن قضاء الله وقد ره راجغ إلى عنمه وتذرله ، وهما أزلئان ، لا أؤل لهما . ومقصود هذه الأحاديث كئها : أن قدر الله سابق على حدوث المخلوقات ، وأن الله تعالى يظهر من ذلك ما شاء لمن شاء متى شاء تبل رجود الأشياء.
، ( 10 ) ومن باب : ا لاجال محدودة والأرزاق مقسومة أ( 1 ) (قول أم حبيبة : اللهم متعني بزوجي رسول الله ط وبابي أبي سفيان ، وباخي معاوية) أي : أطل أعمارهم حف أتمتع بهم زمانا طويلأ .
وقوله : "لا يعخل شيئامنها تبل حله ، ولا يؤخرشيئا منها بعد(ا)حئه ") كذا الرواية بفتح الحاء في الموضين ، وهو مصدر حل الشيء يحل حلا وحلولا ومحلآ ، والمحل أيضًا ؟ الموضع الذي يحذ فيه ، أي : يتزل . وقوله : "لقد سالت الله لاجال مضروبة . . . . إلى اخره ") ، ثم قال بعد هذا : اولو سالت الله أن يعافيك من عذاب في القبر ، وعذاب في النار(2) ، كان خيرآ لك ". وقد أررد بعض علمائنا على هذا سؤالا ، فقال : ما معنى صرفه لها عن اله عاء بطول الأجل ، وحضه لها على العياذ من عذاب القبر. وكل ذلك مقذز لا يدفعه أحذ ولا يرده سبب ؟ فالجواب : أنه ئ لم ينهها عن الأول ، وإنَّما أرشدها الات إلى ما هو الأولى والأفضل ، كما نمق عليه ، وونجهه : أن الثانى أؤلى وأفضل ؟ أنه مذ تيائم بعبادة الاستعاذة من عذاب النار والقبر ، فإنَّه قد تعئدنا بها في غير ما حديث ، والتي ( 1 ) وردت في نسخ المنهم (تبل ) والصواب ما أثبتناه من التلخيص . (2) كذا في نسخ المفهم ، وفي التلخيص وصحيح مسلم : "من عذاب النار وعذاب في القبر".
---
ولم يتعئذنا بشي ج من القسم الذي دعث هي به ، فافترقا . وأيضًا : فإنَّ التعوذ من عذاب القبر والنار تذكيز بهما ، فيخافهما المزمن ، فيحذرهما ، ويتفيهما ، فيجعل من المتقين الفانزين بخير الدنيا والآخرة .
(9/419)
(11 ) ومن باب : الأمر بالنقوى رالحرص على ما ينفع توله : "المؤمن القوئ خيز وأحمث إلى الله من المؤمن الضعيف ") أي : القوقي البدن والئفس ، الماض العزيمة ، الذي يصلح للقيام بوظائف العبادات من الضوم ، والحج ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والضبر على ما يصيبه في ذلك ، وغير ذلك مما يقوم به الذين ، وتنهض به كلمة المسلمين ، فهذا هو الأفضل ، واسمل ، وأفا من لم يكن كذلك من المؤمنين ، ففيه خيز من حيث كان مؤمنا ، تائما بالصلوات ، مكثرأ لسواد المسلمين ، ولذلك قال ت ؟ "وفي كل خيز" لكنه قد فاته الحظ اسبر ، والمقام الافخر. وقوله : "احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ، ولا تعجز") أي : استعمل الحرص ، والاجتهاد في تحصيل ما تنتفع به في أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك ، وصيانة عيالك ، ومكارم أخلاقك ، ولا تفرص في طلب ذلك ، ولا تتعاجز عنه ميهلأ على القدر ، فتنسب للتقصير ، وتلام على التفريط شرعا وعادة . ومع إنهاء الاجتهاد نهايته ، وإبلاغ الحرص غايته ، فلا بذ من الاستعانةبالثه ، والتوش عليه ، والالتجاء في كل الأمور إليه ، فمن سلك هذين الطريقين حصل على خير الذاربن . وقوله : "وإن أصابك في ة نلا نقل : لو أثي فعلت لكان كذا وكذا . قل : تذر الله ، رما شاء فعل ") يعني : إن الذي يتعئيئ بعد وتوع المقدور الئسليم لأمر اد الله ، والرضا بما تذره الله تعالى ، وا*عراض عن الالتفات لما مض وفات . فإنَّ الله انتكر فيما فاته من ذلك وقال : لو أئي فعلت كذا لكان كذا جاءته وساوس الشيطان ، رلا تزال به حف تقضي به إلى الخسران ؟ لتعارض تولهم الثدبير سابق المقادير ، وهذا هو عمل ال!يطان الذي نهى عنه النبي ت
---
(9/420)
بقوله : "فلا تقل : لو ، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان ". ولا يقهم من هذا : أنَّه لا يجوز الئظق ب (لو) مطلقا إذ قد نطق بها النبف ف فقال : "لو أفي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، ولجعلتها عمرة"(1). و"لو كنت راجما أحدا بنير بئنة لرجمت هذه "(2). وقال أبو بكر - رضي الله عنه - : لو أن أحدهم نظر إلى رجليه لرآنا . ومثله كثير ؛ لأنَّ محل النهي عن إطلاقها إئما هو فيما إذا أطلقت في معارضة القدر ، أو مع اعتقاد : أن ذلك المانع لو ارتفع لرقع خلات المقدور ، فأمَّا لو أخبر بالمانع على جهة أن تتعئق به فائدة في المستقبل ، فلا يختلف في جواز إطلاته ؟ إذ ليس في ذلك فتخ لعمل ال!يطان ، ولا شي ة يقضي إلى ممنوع ، ولا حرام ، والته تعالى أعلم . ( 1 ) رراه البخارى كتاب العلم
(1 ) ومن باب : فضائل طلب العلم (قوله : "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك (1) الله به طريقا إلى الجنة") أي : من مشى إلى تحصيل علم شرفي تاصدا به وجه الله تعالى جازاه الله عليه بأن يوصله إلى الجئة مسلما مكزما. ويلتمس : معناه يطلب ، كما قال : (التمس ولو
---
(9/421)
خاتما من حديد"(ا) وهو حضق وترغيب في الرحلة في طلب العلم . والاجتهاد في خصيله ، وقد ذكر أبو داود هذا الحديث من حديث أبي الدرداء وزاد زيادات حسنة ، فقال : عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله لسي! يقول : "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ، لى ان الملانكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وان العالم ليستنفر له من في السموات ، ومن في الأرض ، والحيتان في جوف الماء ، ط ن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سانر الكواكب ، ط ن العلماء ررثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورى لوا دينارأ ولا درهما ، ور ، لوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"(2) وهذا حديث عظيم يدل على أن طلط العلم أفضل الأعمال ، وأنه لا يعلغ أحذ رتبة العلماء ، وأن طد . .أفف رتبتهنم ثانية عن رتبة الأنبياء . وقوله : "إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ") قيل : معناه تخضع له وتعفمه ، وقيل : تبسطها له بالدعاء ؛ لأنَّ جناح الطائر يده . وقوله : لان العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ) ، يعني ات ب "من " هنا : من يعقل ، وما لا يعقل ، غير أنه غئب عليه من يعقل ، بدليل أن هذا إلمت الكلام قد جاء في غير كتاب أبي داود ، فقال : "حتى النملة في جحرها ، وحتىء الحوت في جوف الماء"(3) ، وعلى هذا المعنى يدلّ - من حديث أبي داود هذا - عطف الحيتان بالواو على من في السموات ، ومن في الأرض ، فإنَّه يفيد أن من يعقل ، وما لا يعقل يستنفر العالم ؟ فأمَّا استنفار من يعقل فواضح ؟ فإنَّه دعاب له ( 1 ) ررا ه أحمد ( 5 / 336) ، وا لبخاري (9 4 1 5 ) ، بالمغفرة ، وأما استغفار ما لا يعقل ، فهو - رالذ أعلم - أن الله يغفر له ، وياجره بعدد كل شي ج لحقه أثز من علم العالم . وبيان ذلك : أن العالم يبئيئ حكم الله تعالى في السموات وفي الأرض ، رفي كل ما فيهما ، رما بينهما ، فينفر له ذنبه ، ويعظم له أجره بحسب
(9/422)
ذلك ، وبحتمل أن
---
يكون ذلك على جهة الإغياء ، والأؤل أولى ، والله تعالى أعلم . م وقوله : "رإن فضل العالم على العابد ، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ") هذه المفاضلة لا تصخ حتى يكون كل واحد منهما قائما بما رجب عليه من العلم والعمل ؟ فإنَّ العابد لو ترك شيئًا من الواجبات ، أو عملها على جهل لم يستحق اسم العابد ، ولا تصخ له عبادة ، والعالم لو ترك شيئا من الواجبات لكان مذموما ، رلم يستحق اسم العالم ، فاذا محل التفضيل : إنما هو في النوافل ، فالعابد يستعمل أزمانه في النوافل من الصلاة ، والصوم ، والذكر وغير ذلك ، والعالم يستعمل أزمانه في طلب العلم رحفظه ، وتقييده ، رتعليمه ، فهذا هو الذي شئهه بالبدر ؛ لأنَّه قد كمل في نفسه ، واستضاء به كل شي ج في العالم من حيث أن علمه تعذى لغيره ، رليس كذلك العابد ؟ فإنَّ غايته أن ينتفع في نفسه ، ولذلك شثهه بالكوكب الذي غايته أن يظهر نفسه . ر (قوله : "وإن العلماء ورثة الأنبياء") إنما خمق العلماء بالوراثة ، رإن كان .ثة العئاد - أيضًا- قد ورثوا عنه العلم بما صاروا به عثادأ ؛ لأنَّ العلماء هم الذين نابوا عن النبي ت في حملهم العلم عنه ، وتبليغهم إئاه لأمته ، وإرشادهم لهم ، وهدايتهم . وبالجملة فالعلماء : هم العالمون بمصالح الأفة بعده ، الذاتجون عن سئته ، الحافظون لشريعته ، فهؤلاء الأحق بالوراثة ، والأولى بالنيابة والخلافة ، وأما العئاد فلم يطلق عليهم اسم الوراثة لقصور نفعهم ، ومجمير حظهم . . وقوله : "إن الأنبياء لم يورلوا دينارا ولا درهما") يعي : أنهم صلوات الله
---
(9/423)
عليهم كان الغالب عليهم الزهد ، فلا يتركون ما يورث عنهم ، ومن ترك منهم شيئا ، يصخ أن يورث عنه تصذق قبل موته ، كما فعل نبينا لض حين قال : (لا نورث ، ما تركنا صدقة"(1 ) . وقوله : "فمن أخذه أخذ بحظ وافر") أي : بحظ عظيم ، لا شي ة أعظم منه ولا أفضل ، كما ذكرناه . وقوله : "ما اجتمع قونم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة") بيوت الد هي المساجد كما قال تعالى : ا فى بيوت تعليي !ن الله أن ش فع هـ ي!صر فيها أشمه ، أالنور : 36أ. نفيه ما يدلّ على جواز تعليم في ا القران في المساجد ، أما للكبار الذين يتحفظون بالمسجد فلا إشكال فيه ، ولا يختلف فيه ، وأما الصنار ، الذين لا يتحفظون بالمساجد ، فلا يجوز ؛ لأنَّه تعريض المسجد للقدر والعبث ، وقد قال ف : اجنبوا مساجدكم صنيانكم ومجانينكم "(2) ، وقد تمسك بهذا الحديث من يجيز قراءة الجماعة القران على لسان واحد ، كما يفعل عندنا بالمغرب ، وقد كره بعض علمائنا ذلك ، ورأوا أئها بدعة إذ لم تكن كذلك تراءة السلف ، وإنَّما الحديث محمرل على : أن كل واحد يدرس لنفسه ، أو مع من يصئح عليه ، وليستعين به . وقوله : "إلا نزلت عليهم الشكينة") قد تقدَّم الكلام على السكينة في كتاب الصلاة ، وأنها إما السكون ، والوتار ، والخشوع ، وإفا الملائكة الذين يستمعون
---
(9/424)
القرآن ، سثوا بذلك لما هم عليه من السكون والخشوع . وقوله : "وغشيتهم الرحمة") أي : تكفير خطيئاتهم ، ورفع درجاتهم ، وإيصالهم إلى جنته وكرامته. وقوله : "وذكربم الله فيمن عنده ") يعني : في الملأ الكريم من الملائكة المقزبين ، كما قال : "إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خبر منهم "(2) ، وهذا الذكر يحتمل أن يكون ذكر ثناء وتشريني ، وبحتمل أن يكون ذكر مباهاة ، كما باهى الملائكة باهل عرفة . وقوله : "من بطا به عمله لم يسرغ به نسبه ") يعني : أن الآخرة لا ينفع فيها إلا تقوى الله تعالى والعمل الصالح ، لا الفخر الراجح ، ولا النسب الواضح.
(2 ) ومن باب : كراهة الخصومة في الدين والغلو في التأويل والتحذير من اتباع الأهواء(1) قوله : "إن أبغض الرجال إلى الله الألا الخضم ") الرواية الخضم - بسكون الصاد- ، وقد قبن ده بعضهم بكسرها ، وكلاهما إستم للمخاصم ، غير أن الذي بالسكون هو مصدز في الأصل ، وضع موضع الاسم ؟ ولذلك يكون في المذكر والمؤنث ، والتشية والجمع بلفظ راحد في اسثر ، ومن العرب من يثثيه ومججمعه ؛ لأنَّه يذهب به مذهب الاسم ، وقد جاءت اللغتان في كتاب الله تعالى ، قال الله تعالى : ا وهل أتنك نجض بأ انخضعم ! لتسوط ! ألمض إلي " أمق : 21أ ، ثم قال : إقحمان في بغضناش بب!ن " أمق : 22أ ، فأمَّا الذي بالكسر فهو الشديد الخصومة ، ريجمع : خضئم ، فيقال : خصم ، وخصم خصون ، كما قال تعالى : إش قزم فصهضون ، أ الزخرف : 158 . والألذ : هو الشديد الخصومة ، ماخوذ من اللديديخن ، وهما جانبا الوادي ؛ لأنَّه كلما أخذ عليه جانب أخذ في جانب اخر ، وقيل : لإعماله (1 ) لم يرذ هذا الباب في التلخيص ، والحدينان المشررح ما أشكل فيهما تحت هذا العنوان وردا في صحيح مسلم ، الأول برتم (2668) (5) والثاني برتم (2669) (6 ) .
---
(9/425)
لديديخه ، وهما : صفحتا عنقه عند خصومته . وكان حكم الألد أن يكون تابعا للخصم ؛ لأنَّ الألذ صفة ، والخصم اسم ، لكن لما كان خصئم مصدرا في الأصل ، وكان الألذ صفة مشهورة عكس الأمر ، فجعل التابع متبوعا ، وهذا على نحو قوله : ة وغرلهيب سوبر ، (فاطر : 127 ، إنَّما يقال : أسود غربيب . وهذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذى يقصد بخصومته : مدافعة الحق ، ورذه بالأوجه الفاسدة ، وال!به الموهمة ، وأشذ ذلك الخصومة في أصول الدين ، كخصومة أكثر المتكئمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله ، وسنة نبيه ف ، وسلف أمته إلى طرق مبتدعة ، واصطلاحات مخترعة ، وقوانين جدلية ، وأمور صناعية ، مدار أكثرها على مباحث سويسطانية ، أو مناقشات لفظية ترذ بشبهها على الآخذ فيها شبة ربما يعجز عنها ، وشكوك يذهب الإيمان معها ، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم ، لا أعلمهم ، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها! وكم من منفصل! عنها لا يدرك حقيقة علمها! ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البنه ، ولا الأطفال ، لما بحثوا عن تحثز الجواهر ، واكوان ، والأحوال ، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح ، ولم يوجذ عنهم فيه بحث واضخ ، وهو كيفية تعكقات صفات الله تعالى ، وتقديرها ، واتخاذها في أنفسها ، وأنها هي الذات ، أو غيرها ، وأن الكلام ، هل هو مئحد ، أو منقسم ؟ ط ذا كان منقسما فهل ينقسم بالأنواع ، أو بالأوصاف ؟ وكيف تعنق في الأزل بالمامور ؟ ثم إذا انعدم المامور فهل يبقى ذلك التعتق ؟ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو عين الأمر لعمرو بالزكاة ؟ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يامر الشرع بالبحث عنها ، رسكت أصحاب النبي لض ومن سلك سبيلهم عن الخوض فيها لعلمهم بانها بحث عن كيفية ما لا تغلم كيفيته ؟ فإنَّ العقول لها حد تقف عنده ، وهو العجز عن التكييف لا يتعذاه ، ولا فزق بين
(9/426)
البحث في كيفية الذات
---
، وكيفية الصفات ، ولذلك قال العليم الخبير : ا ليش كمثل! شت بر وهو المنمميع أبصير" أ الشورى : 111 ، ولا تبادر بالإنكار فنل الأغبياء الأغمار ؟ فانك قد حجنت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها ، وعن كيفية إدراكاتك ، مع أنك تدرك بها . لم إذا عجزت عن إدراك كيفية ما بين جنبيك ، فانت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز. وغاية علم العلماء ، وادراك عقول الفضلاء أن يقطعوا بوجود فاعل هذه المصنوعات منزه عن صفاتها ، مقذس عن أحوالها ، موصوف بصفات الكمال اللائق به . ثم مهما أخبرنا الضادتون عنه بشيء من أوصافه ، وأسمائه قبلناه ، ذئم ا واعتقدناه ، وما لم يتعزضوا له سكتنا عنه ، وتركنا الخوض فيه . هذه طريقة لعد الشلف ، وما سواها مهاو وتلف ، وبكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما قد ورد في ذلك عن الأنمة المتقذمين ، فمن ذلك قول عمربن عبد العزيز : من جعل دينه غرضأ للخصومات أكثر الشتل ، والدين قد فرغ منه ، ليس بامر يؤيمف على النظر فيه . رتال مالك : ليس هذا الجدال من الدين في شي " وقال : كان يقال : لا تمئهن زائغ القلب من أذنك ؟ فانك لا تدري ما يعلقك من ذلك . وقال الشافعي : لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ، ما عدا الشرك ، خيز له من أن ينظر في علم الكلام . وإذا سمعت من يقول : الاسم هو المسئى ، أو غير المس!س ، فاشهذ أنه من أهل الكلام ، ولا ديخن له . فال : وحنهمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ، وبطاف بهم في العشائر والقبائل ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والشنة ، وأخذ في الكلام . وقال الإمام أحمد بن حنبل : لا يقلح صاحب الكلام أبدأ ، علماء الكلام زنادقة . وقال ابن عقيل : قال بعض أصحابنا : أنا أتطع أن الصحابة - رضي الله عنهم - ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض ، فإنَّ رضيت أن تكهون مثلهم فكن . وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيته . قال : وقد أفضى
(9/427)
هذا الكلام باهله إلى الشكوك ، وبكثيير
---
م!نهم إلى الإلحاد ، وأصل ذلك : أنهم ما قنعوا بما بعثعث به الشرائع ، وطلبوا الحقانق ، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكم التي انفرد بها ، ولو لم يكن في الجدال إلا أن النبف رز قد أخبر أنه الضلال ، كما قال فيما خزجه الترمذي : 5ما ضل توم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل "(ا) ، وقال : إنه صحيح . " فلت : وقد رجع كثير من أنمة المتكلمين عن الكلام بعد انقضاء أعمار " مديدة ، وآماد بععدة لما لطف الله تعالى بهم ، وأظهر لهم اياته ، وباطن برهانه ، ا" فمنهم : إمام المتكلمين أبو المعالي (2) ، فقد حكى عنه الثقات أنه قال : لقد خنيث أهل الاسلام وعلومهم ، وركبت البحر الأعظم ، وغصت في الذي نهوا عنه ، كل ذلك رغبة في طلب الحق ، وهربا من التقليد ، والان فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق ، عليكم بدين العجائز ، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص ، والويل لابن الجوينئ . وكان يقول لاصحابه : يا أصحابنا أ لا تشتنلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي مابلغ ما تشاغلت به . وقال أحمد بن سنان : كان الوليد بن أبان الكرابيسي ، خالي ، فلما حضرثه الوفاة قال لبنيه : تعلمون أحدأ أعلم مني ؟ قالوا : لا ، قال : فتثهموني ؟ تاكوا : لا . قال : فاني أوصيكم أفتفبلون ؟ تالوا : نعم . قال ؟ عليكم بما عليه أصحاب الحديث فاني رأيت الحق معهم . وقال أبو الوفا بن عقيل : لقد بالغت في الأصول طول عمري ، ثم عدت القهقرى إلى مذهب المكتب . ( 1 ) روا. الترمذي (3253) . (2) هو إمام الحرمين الجويئ (ت 478 هـ ) .
---
(9/428)
قلت : وهذا الشهرستاني صاحب "نهاية الإقدام في علم الكلام " وصف حاله فيما وصل إليه من الكلام وما ناله ، فتمثل بما قاله : لعنري لقد طفت المعاهد كئها وصئزت طزفي بيق تنك المعالم فلم أر إلأواضعاكفث حائر على ذقن أؤ قارعاسن نادم ثم قال : علعيكم بدين العجائز ؟ فإنَّه (1 ، أسنى الجوائز . قلت : ولو لم يكن في الكلام شيء يذثم به إلا مسالتان هما من مبادئه ، مسوا لكان حقيقا بالثتم ، وجديرأ بالتزك . ملم ا أ إحداهما : قول طائفة منهم : إن أول الواجبات الشد في الله تعالى . والثانية : قول جماعة منهم : إن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها ، والأبحاث التي حزروها ، فلا يصخ إيمانه ، وهو كافر . فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين من الشلف الماضين ، وأئمة المسلمين ، وأن من يبدأ بتكفيره أباه ، وأسلافه ، وجيرانه ، وقد أورد على بعضهم هذا ، فقال : لا يشنع على بكثرة أهل النار ، وكما قال : ثم إن من لم يقل بهاتين المسالتين من المتكئمين رذوا على من قال بهما بطرق النظر والاستدلال بناء منهم على : أن هاتين المسالتين نظريتان ، وهذا خطأ فاحش ، فالكل يخظئون الطائفة الأولى باصل القول بالمسالتين ، والثانية بتسليم أن فسادها ليس بضروري ، ومن شك في تكفير من قال : إن الشك في الله تعالى واجمبئ ؟ وأن معظم الصحابة والمسلمين كفار ، فهو كافر شرعا ، أو مختل العقل وضعا ؟ إذ كل واحدة منهما معلومة الفساد بالضرورة الشرعية الحاصلة بالأخبار المتواترة القطعية ، ران لم يكن
(ا) في (ز) : فهو.
---
(9/429)
كذلك فلا ضرورقي يصار إليه في الشرعيات ولا العقليات . عصمنا الله من بدع المبتدعين ، وسلك بنا طرق الشلف الماضين . وإنما طؤلت في هذه المسألة الأنفاس ؟ لما قد شاع من هذه الباخ في الناس ، ولأنه قد اغتز كثير من الجهال بزخرف تلك الأقوال ، وقد بذلت ما وجب علث من النصيحة ، والله تعالى يتوكى إصلاح القلوب الجريحة . وقوله : "لتتبعن سنن الذين من قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ") قيئ ناه سنن بفتح السين ، وهو الطريق ويضتها ، وهو جمع سئة . وهي الطريقة المسلوكة . وذنهر الشبر ، والذراع ، والحجر أمث!اذ تفيد أن هذه الأمة يطرأ عليها من الابتداع والاختلاف مثل الذي كان وقع لبني إسرائيل . وقد روى الترمذقي هذا المعنى باوضح من هذا ، نقال : "ليأتين على أمي ما أتى على بني إسرائيل ، حذو النعل بالنعل ، حتى إن كان منهم من ياتن أفه علانية ، لكان في أمتي من يصنع ذلك ، وإن بني إسرائيل تفزقت على ثنتين وسبعين مئة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ، كلها في النار إلا واحدة". تالوا : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : "ما أنا عليه وأصحابي "(ا ، . خزجه من حديث عبد الهه بن عمر. وقد رواه أبو داود من حديث معاوية بن أبي سفيان وقال : اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة ، وير
( 1 ) روا. الترمذى ( 2641 ) .
---
(9/430)
ومنها : أن المحكم ايات الأحكام ، والمتشابه : ايات الوعيد . ومنها : أن المتشابه ايات إبهام قيام الساعة ، والمحكم : ما عداها . ومنها : أن المحكم ما وضح معناه ، وانتفى عنه الاشتباه ، والمتشابه : نقيضه . وهذا أشبه ما قيل في ذلك ؛ لأنَّه جار على وضع اللسان ، وذلك أن المحكم اسم مفعول من : أحكم . والاحكام : الإتقان . ولا ش! في ألى ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ، ولا تربر ، وإنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته ، واتفاق تركيبها ، ومى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والاشكال ، وإلى نحو ما ذكرناه صار جعفر بن محمد ، ومجاهد ، وابن إسحاق . وقوله : اهن أم الكناب ، ) أي : أصله الذى يرجع إليه عند الإشكال والاستدلال ، ومنه سميت الفاتحة : أنم القران ؛ لأنَّها أصله ؟ إذ هي آخذة بجملة علومه ، فكانه قال : المحكمات : أصول ما أشكل من الكتاب ، فتعئيئ رذ ما أشكل منه إلى ما وضح منه ، وهذا أيضًا أحسن ما قيل في ذلك . وقوله : افاما الذبن في فلولههم ف خ نبتبعون ما تشابه منه ابتناء الفتنة وابتناء تأويله ") الزيغ : الميل عن الحق ، رابتغاء الفتنة : طلب الفتنة ، وير الضلال . مجاهد : الشك . وتأويله ما ال إليه أمره ، وثهنه حقيقته ، فكانهم تعثقوا في التأويل طلبا لكته الأمر وحقيقته ، فكره لهم التعتق . وقوله : اوما يعلم تأويله إلا الذ") أي : ما يعلم حقيقة ما أريد بالمتشابه إلا الله . والوقف على (الله ) أولى . وقوله : ش والراسخون في العلم يقولون : آمنا به كل من عند ربنا") جملة ابتدائية مستانفة . مقتضاها : أن حال الزاسخين عند سماع المتشابه الإيمان والتسليم ، وتفويض علمه إلى الخبير العليم ، وهذا قول ابن مسعود وغيره . وقيل : والراسخون : معطوف على الله تعالى ، حكي عن على وابن عباس ، والأرل أليق وأسلم .
---
(9/431)
ر (قوله : "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاولغك الذين سئاهم الله ذئم اد فاحذروهم ") يعني : يئبعونه ويجمعونه طلبا للئشكيك في القرآن ، له اضلالا للعرام ، في الة كما فعلته الزنادقة ، والقرامطة الطاعنون في القرآن ، أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة ؟ الذين جمعوا ما وقع في الكتاب والشئة مما يوهم ظاهره الجسمية ، حتى اعتقدوا : أن البارىء تعالى جسئم مجشم ، وصورب مصؤرة ذات وجه ، وعين ، ويل! ، وجنب ، ورجل ، واصبع ، تعالى الله عن ذلك ، فحذر النبي لكسغ عن سلوك طريقهم . فأمَّا القسم الأول ، فلا شك في كفرهم ، وأن حنهم الله فيهم القتل من غير
استتابة .
وأما القسم الثاني ، فالصحيح القول بتكفيرهم ، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والقمور ، ويستتابون ؟ فإنَّ تابوا وإلا قتلوا ، كما يفعل بمن ارتذ . فأمَّا من يتبع المتشابه ، لا على تلك الجهتين ، فإنَّ كان ذلك على إبداء مذهب تأويلاتها ، وأيضًاح معانيها ، فذلك مختلفت في جوازه بناء على الخلاف في جواز في اك تأويلها ، وقد عرف أن مذهب الشلف ترك التعزض لتأويلاتها مع تظعهم باستحالة ظواهرها. ومذهب غيرهم : إبداء تأويلاتها ، وحفلها على ما يصح حفله في اللسان عليها من غير قظع متعئيى محمل منها. وأما من يئبع المتشابه على نحو ما فعل صبيغ فحكمه حنهم عمر -رضي الله عنه - فيه الأدب البليغ . والراسخ في العلم : هو الثابت فيه ، المتمكن منه .
وقوله : هخرت إلى رسول الله ئ يومل أي : خرجت إليه في الهاجرة ، وير : شدة الحز .
---
(9/432)
وقوله : فسمع أصوات رجلين اختلفا في اية ، فخرج يغرف في وجهه النضب فقال : "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب ا) هذا الاختلاف لم يكن اختلافا في القراءة ؛ لأنَّه ت قد سؤغ أن يفرأ القران على سبعة أحرف كما تقدَّم ، ولم يكن أيضًا في كونها قرانا ؛ لأنَّ ذلك معلوئم لهم ضرورة ، ومثل هذا لا يختلف فيه المسلمون ، ولا يقزون عليه ؟ فإنَّه كفز ، فلم ينبن إلا أنه كان اختلافا في المعنى. ثم تلك الآية يحتمل أن كانت من المحكمات الفاهرة المعنى ، فخالف فيها أحدهما الآخر إما لقصور ففم ، لى اما لاحتمال بعيد ، فانكر النبي ب! ذلك ؟ إذ قد ترك الظاهر الواضح ، وعدل إلى ما ليس كذلك ، ويحتمل أن كانت من المتشابه ، فتعزضوا لتأويلها ، فانكر النبي ت ذلك ، فيكون فيه حجَّة لمذهب الشلف في التسليم للمتشابهات ، وتزك تأويلها .
---
(9/433)
وقوله : "اقرؤوا القرآن ما انتلفمث عليه تلوبكم ، فاذا اختلفتم فيه فقوموا") يحتمل هذا الخلاف أن يخمل على ما قلناه آنفا. قال القاضي : وقد يكون أمره بالقيام عند الاختلاف في عصره وزمنه ؟ إذ لا ونجه للخلاف والتنازع حينئذ ، لا في حروفه ، ولا في معانيه ، وهو ف حاضز معهم ، فيرجعون إليه في مشكله ، ويقطع تنازعهم بتبيانه . فلت : ويظهر لي : أن مقصود هذا الحديث الأمر بالاستمرار في تراءة الأمر القران ، وفى تدتجره ، والزنجر عن كل شء يقطع عن ذلك . والخلاف فيه فى حالة الترا - - ا لند بر القراءة تاطغ عن ذلك في أممط شء كان من حرونه ، أو معانيه ، والقلب إذا وقع فيه ش ة لا يمكن رذه على الفور ، فامرهم بالقيام إلى أن تزول تشويشات القلب . ويستفاد هذا من توله : "اترؤرا القران ما التلفت عليه قلوبكم " نان القراءة باللسان ، رالتد؟لر بالقلب ، فامر باستدامة القراءة مذة دوام تده بر القلب ، فاذا وقع الخلاف في تلك الحال انصرف الئسان عن القراءة ، والقلب عن التد 4 بر. وعلى هذا فمن أراد أن يتلو القران ، فلا يبحث عن معانيه في حال قراءته مع غيره ، ويفرد لذلك وقتا غير وتت القراءة . والله أعلم . والحاصل : أن الباحثين في ففم معاني القران يجب عليهم أن يقصدوا ما بب ببحثهم التعاون على فهمه ، واستخراج أحكامه ، تاصدين بذلك ونجه الله تعالى ، الباحث ملازمين الأدب والوقار ، فإنَّ اتفقت أفهامهم ، فقد كملت نعمة الله تعالى عليهم ، !آبعا وإن اختلفت ، وظهر لأحدهما خلاف ما ظهر للاخر ، وكان ذلك من مثارات الفنون ، رمواضع الاجتهاد ، فحو ؟ كل واحد أن يصير إلى ما ظهر له ، ولا يثرب على الاخر ، ولا يلومه ، ولا يجادله ، وهذه حالة الاتوياء والمجتهدين ، وأما من لم يكن كذلك فحفه الرجوع إلى قول الأعلم ، فإنَّه عن النلط أنجعد وأسلم ، وأما إن كان ذلك من المسانل العلمية فالضائر إلى خلاف القطع فيها محررم ، وخلافه فيها محزم متموم ، ثم حنهمه على
(9/434)
الئحقيق
---
إما التكفير ، وإما التفسيق . وقوله : "هلك المتنطعون - ثلاثا -"(ا)) هم المتعمقون في الكلام ، الغالون فيه ، ولمجني بهم : الغالين في التأويل ، العادلين عن ظواهر ال! رع بنيردليل ؟ كالباطنية ، وغلاة الشيعة . وهلاكهم بأن صرفوا عن الحق في الدنيا ، ربان يعذبوا في الاخرة . والتكرار : تاكيذ وتفخيئم بعظيم هلاكهم . أ(4)
ومن باب : إثم من طلب العلم لغير الله ، (2) (قوله : كذبت ، ولكنك تعئمت العلم ليقال : عالم ، وقرأت القران ليقال : قارىء ، فقد قيل ، ثم أمر به ، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار") دليل على (ا) بذلأ العبارلأ لم ترد في أحاديث التلخيص ، إنَّما وردث في صحيح مسلم برقم (2) هذا انننوا(ن ئنم يرذ في نسخ المفهم ، واستلركناه من التلخيص.
---
(9/435)
وجوب الإخلاص في طلب العلم ، وقراءة القرآن ، وكذلك سائر العبادات ، ولقوله وجوا تعالى : ا رمآ أص ر) ، لآ ليغبدوا أث لخصين له ألذيئ ، أ البينة : 15 . وتعتم العنم من أعظم ظ! العبادات وأهتها ، فيجب فيها النية والاخلاص . وقد روى أبو داود من حديث أبي . هريرة عن النبي ت أنه قال : "من تعئم عنما منا ينتنى به ونجه الله لا يتعتمه إلا ليصيب به عرضا من الانيا ، لم يجذ عزف الجنة"(ا). وهذا يعثم جميع العلوم الشرعية ؟ سواء كان من العلوم المتصودة لعينها ، أو للعمل بها كعلم القران والسنة والفقه ، أو من العلوم الموصلة إلى ذلك كعلم الاصول واللسان . وهذا وعيذ شديذ ، والتخكص منه بعيذ ، إذ الاخلاص في طلب العلم عسيز ، والمجاهد نفسه عليه قليل ، ولا حول ولا توكل إلأ بالله العلئ العظيم . (5) ومن باب : طرح العالم المسألة على أصحابه ليختبرهم قوله : "إن من ال!جر شجرة لا يستط ورقها وإثها مثل المسلم ") قد تقدَّم أن الشجر ما كان على ساق ، والنجم ما لم يكن على ساق ، وتشبيه المسلم بالنخلة صحيح ، وهو من حيث إن أصل دينه وإيمانه ثابت ، رأن ما يصدر عنه من العلم والخير تولث للأرواح مستطاب ، وأنه لا يزال مستورأ بدينه لا يسقط من دينه شي ة ، وأنه ينتفع بكل ما يصدر عنه ، ولا يكره منه ش ة . وكذلك النخلة. ففيه من الفقه ( 1 ) رواه أبو داود ( 3664) .
، جواز ضرب الامثال واختبار العالم أصحابه بالسؤال ، وإجابة من عجز عن م الجواب . و(قول عمر لابنه : لأن تكون قلت : هي النخلة أحمت إلن من كذا وكذا) إنما تمنى ذلك عمر ليدعو النبي ف لابنه ، فتناله بركة دعويه ، كما نالث عبد الله بن عئاس ، وليظهر على ابنه فضيلة الفهم من صغره ، ويسود بذلك في كبره . والله تعالى أعلم .
---
(9/436)
أ(6) ومن باب : النهي عن أن يكتب عن النبي لنهض شيء فبر القران ونسخ ذلك أ(1) (قوله : "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ") كان هذا النهي متقدما ، وكان ذلك لنلا يختلط بالقرآن ما ليس منه ، ثم لما أمن من ذلك أبيحت الكتابة ، كما أباحها النبي ف لأبي شاة في حجَّة الوداع حين قال : "اكتبوا لأبي شاة"(2) نرأى علمازنا هذا ناسخا لذلك . قلت : ولا يبعد أن يكون النبي ذ إنما نهاهم عن كتب غير القرآن لئلا يتكلوا على كتابة الأحاديث ولا يحفظونها ، فقد يضيع المكتوب ، ولا يوجد في (1 ) هذا العنوان لم يرد في المنهم ، واستلركناه من التلخيص . (2) الحديث رواه أبو هريرة كما خزجناه في التلخيص ، وقول المؤلف القرطبي - رحمه اشه - من حديث جابر رفم .
126041 عن أنس بن مالك ، قال : ألا أحدثكم حديثا سمعته من رسول الله في لحبز لا يحذمجم أحذ بعدي سمعه منه : . .. . . .. . . .. .... . . .. ..
وقت الحاجة ، ولذلك قال مالك : ما كتبت في هذه الألواح قط . قال : وقلت لابن شهاب : ممنت تكتب الحديث ؟ قال : لا.
(7 و8 و9) ومن باب : رفع العلم رظهور الجهل (1) قوله أنس - رض الله عنه - : ألا أحذثكم حديثا سمعته من رسول الله !ه لا يحدثكم أحد بعدي ) إنما قال ذلك ؛ لأنَّ أصحاب رسول الله ت قد كانوا انقرضوا في ذلك الوتت ، فلم يبق منهم غيره ؟ فائه من اخرهم موتا ، توفي بالبصرة سنة ثلاث وتسعين على ما قاله خليفة بن خياط . وقيل : كان سئه يوم مات مئة سنة ( 1 ) شرح المؤلف - رحمه الله - تحت هذا العنوان ما أشكل في أحاديث هذا الباب ، ركذا ما أشكل في أحاديث البابين التاليين له ، وهما : باب كيفية رفع العلم ، رباب : ثواب من دعا إلى الهدى أو سن سئة حسنة .
---
(9/437)
وعشر سنين ، وقيل : أتل من ذلك ، والأول أكثر ، وكان ذلك ببركة دعاء النبي لمجظ له بذلك . وقوله : "إن من أشراط الساعة") أي : من علامات تزب يوم القيامة ، وقد تقدم القول في الأشراط ، وأنها منقسمة إلى ما يكون من قبيل المعتاد ، وإلى ما لا يكون كذلك ، بل : خارقا للعادة على ما ياقي إن شاء الله تعالى . وقوله : "أن يزفع العلم ، وبظهر الجهل ") وقد بثيئ كيفية رفع العلم وظهور كيفيةا الجهل في حديث عبد الله بن عمرو الذي قال فيه : "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ألعلم يمنتزعه (ا) من الناس ، ولكن يقبغى العلم بقبض العلماء. . . الحديث ". وهو نصن . في أن رتع العلم لا يكون بمحوه من الضدور. بل : بموت العلماء ، وبقاء الجفال الذين يتعاطون مناصب العلماء في الفتيا والتعليم ، يفتون بالجهل ، ويعئمونه ، فينتشر الجهل . ويظهر ، وقد ظهر ذلك ووجد على نحو ما أخبرير فكان ذلك دليلا من أدئة نبوى له ، وخصوصا في هذه الأزمان ؟ إذ قد ولي المدارس والفتيا كثير من الجفال والصبيان رحرمها أهل ذلك الشان ، غير أنه قد جاء في كتاب الترمذي عن جبيربن نفير عن أبي الدرداء ما يدلّ على أن الذي يزفع هو العمل . قال أبو الدرداء -رضي الله عنه - : ثهنا مع النبي في فشخص ببصره إلى السماء ، ثم
---
(9/438)
قال : "هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء ". فقال زباد بن لبيد الأنصاري : وكيف يختلس منا وقد قرأنا القران ؟ فوالله لنقرأنه ، ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا ، فقال : "ثكلتك أمك يا زيادأ إن كنت لأعذك من فقهاء أهل المدينة . هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ، فماذا تغني عنهم ؟ أ " . قال : فلقيت عبادة بن الصامت ، فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الذرداء ، فاخبرته بالذي قال أبو الدرداء . قال : صدق أبو الدرداء ، إن شئت لأحذثنك باول علما يرفع : الخشوع ، يوشك أن تدخل مسجد الجامع فلا ترى فيه رجلا خاشعا ، 1). قال : هذا حديث حسن غريب ، وقد خزجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضًا عن عوف بن مالك الأشجعي من طرق صحيحة .
وظاهر هذا الحديث أن الذي يرفع إنما هو العمل بالعلم ، لا نفس العلم ، رقع اد وهذابخلاف ما ظهرمن حديث عبدالثه بن عمر ، فإنَّه صريخ في رفع العلم . بالعلم
قلت : ولا تباعد فيهما ، فإنَّه إذا ذهب العلم بموت العلماء ، خلفهم ألجهال ، نانتوا بالجهل ، فعمل به ، فذهب العلم والعمل ، ران كانت المصاحف والكتب بايدي الناس ، كما اتفق لأهل الكتاتجين من قنلنا ، ولذلك قال رسول الله نك!ه لزياد على ما نص عليه النسائي : "ثكلتك أمك زباد! هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؟" وذلك أن علماءهم لما انقرضوا خلفهم جفالهم ، فحزفوا الكتاب ، وجهلرا المعاني ، فعملوا بالجهل ، وأفتوا به ، فارتفع العلم والعمل ، وبقيت أشخاص الكتب لا تغني شيئا. وقد تقدَّم الكلام على قوله : ة من سن في الإسلام سنة حسنة" في كتاب الزكاة .
---
(9/439)
(10 ر 11 ) ومن باب : تقليل الحديث حال الرواية وتبيانه (1) قد تقدم القول في تقارب الزمان ، رفي الشح . (قول أبي هريرة : اسمعي يا رتجه الحجرة) يعني عائشة - رضي الله عنها - كان اك ذلك منه ليسمعها ما يرويه عن النبي ط إما ليذكرها بما تعرفه ، أو يفيدها بما لم الإ تسمعه ، فقد كان أبو هريرة - رضي الله عنه - يحضر مع النبف رز في مواطن لم تكن رو تحضرها عائشة - رضي الله عنها - ، بل : قد كان لأبي هريرة - رضي الله عنه - من الملازمة لرسول الله ط كما تقدَّم في مناقبه ما لم يكن لغيره من الصحابة -رضي الله عنهم - ، ثم قد اتفق له من الخصوصية التي أوجبمث له الحفظ ما لم يتفق لنيره ، فكان عنده من الحديث ما لم يكن عند عائشة ، لكن عائشة أنكرث عليه سرده للحديث والإكثار منه في المجلس الواحد ؟ لذلك قالت : ما كان رسول الهه رز يسرد الحديث سردكم " إنما كان يحذث حديثم أ لو عده العاذ لأحصاه . وقد سلك هذا المسلك كثير من السلف ؟ أوكانوا لا يزيدون على عشرة (1 ) شرح المؤلف - رحمه الله - تحت هذا العنوان : هذا الباب ، والباب الذي يليه بعنوان : باب : تعليم الجاهل .
---
(9/440)
أحاديث ليست بطوال في المجلس الواحد ، وقد كره الإكثار من الأحاديث كثير من السلف أ(ا) ، مخافة ما يكون في الإكثار من الآفات . روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : أقتوا الحديث عن رسول اللهء . وقد عاب كثير من الصحابة على أبي هريرة الإكثار من الحديث حتى احتاج أبو هريرة إلى الاعتذار عن ذلك ، والإخبار بموجب ذلك قال : إن ناسا يقولون : أكثر أبو هريرة ، ولولا آية في كتاب الله ما حدثت حديثم أ ، ثم قال : إن إخواننا من الأنصار كان شغلهم العمل في أموالهم ، رإن إخواننا من المهاجرين كان شغلهم الضقق بالأسواق ، وإني كنت ألزم رسول الهه ف لشبع بطني ، أحضر ما لا يحضرون ، وأحفظ ما لا يحفظون ا(2). ردخل مالك على ابني أخته أبي بكر رإسماعيل بن أبي أوشى ، وهما يكتبان الحديث ، فقال لهما : إن أردتما أن ينفعكما الله بهذا الأمر ، فاقلا منه ، وتففها . ولقد جاء عن شعبة أنه قال لكتبة الحديث : إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟! قال أبو الحسن القابسي - رحمه الله - : يريد شعبة بقوله هذا عيب تكثير الروايات ؟ لما قد دخل على المكثرين من اختلاط الأحاديث ، وغير ذلك فيصيرون بالتكلف إلى أن يتقؤلوا على الرسول لكيهين ما لم يقل .
قلت : ويظهر لي من قول شعبة أنه قصد تحذير من غلبمث عليه شهوة كثب الحديث وروايته ، حتى يحمله ذلك على التفريط في متاتهد المندوبات من (ا) ما بين حاصرتين سقط من (ز). ( 2 ) رواه أحمد (2/ 0 24 و274 ) ، والبخارى (18 1 ) ، ومسلم ( 2492 ) .
---
(9/441)
الصلوات ، وا لأذكار ، والدعوات ؟ حرصا على ا لاكثار ، وقضاة للشهوات وا لأوطا ر . قلت : وهذه وصايا الشلف وسير أئمة الخلف قد نبذها أهل هذه الأزمان ، صفاس وانتحلوا ضروبا من الهذيان ، فترى الواحد منهم كحاطب ليل ، وكجالب رنجل ألعثم وخيل ، فياخذ عمن أقبل وأدبر من العوام ، وممن لم يشعر بشيء قط من هذا الشان ، غير أنه قد وجد اسمه في طبق السماع على فلان ، أو أجاز له فلان ، وان كان في ذلك الوقت في سن من لا يفعل من الصبيان ، وشمتون مثل ذلك بالسند العالي ؟ وإن كان باتفاق السلف ، وأهل العلم في أسفل سفال ، وكل ذلك قصد من كثير منهم إلى احثار ، ولأن يقال : انفرد فلان بعالي الروايات والآثار. ومن ظهر منه أنه على تلك الحال نالأخذ عنه حرام رضلال ، بل : الذي يجب الأخذ عنه من اشتهر بالعلم ، والإصابة ، والصدق ، والصيانة ممن تثد كتب الحديث المشهورة ، والأمهات المذكورة التي مدار الأحاديث عليها ، رمرجع أهل الاسلام إليها ، فيعارض كتابه بكتابه ، ويقئد منه ما تين ده ، ويهمل ما أهمله ، فإنَّ كان ذلك الكتاب ممن شرط مصئفه الصحة كمسلم والبخارى ، أو مئز بين الصحيح وغيره كالترمذي ، رجب التففة في ذلك والعمل به ، وإن لم يكن كذلك وجب التوثف إلى أن يعلم حال أولئك الرواة ، إما بنفسه إن كانت له أهلية البحث في الرجال ، رإما بتقليد من له أهلية ذلك ، ناذا حصل ذلك وجب التففه والعمل ، وهو المقصود الأول ، وعليه المعوى ل . وكل ما قبله طريق موصل إليه ، ومحؤم عليه . وإن من علامات عدم التوفيق البقاء في الطريق من غير وصول إلى المقصود على الئحقيق . وقوله تعالى(ا) : "كل مال نحلته عبدا حلال ") معنى نحلته : أعطيته ، رالنحلة : العطية -كما تقدَّم -ولمجني بها هنا : العطية بطريق شرعث ، فكانه قال : كل (1) أممط : في الحديث التدسي .
---
(9/442)
من مئكته شيئا بطريق شرعي قليلا كان أو كثيرأ ، خطيرأ كان أو حقيرا ، فالانتفاع له به مباخ مطلقا ، لا يننع من شي ج منه ، ولا يزاحم عليه ، والمال هنا : كل ما ا يتمؤل ، ويثمتك من سائر الأشياء ، وفاندة هذه القضية الكلية رفع توقم من يتوهم ) أن ما يستلذ ، ولمجشطاب صن رفيع الأطعمة ، والملابس ، والمناكح ، والمساكن محزنم ، أو مكروه ، وإن كان ذلك من الكسب الجائز ، كما قد ذهب إليه بعض غلاة المتزهدة . وسيأتي استيعاب هذا المعنى في كتاب الزهد - إن شاء الله تعالى . وقوله : "وإني خلقت عبادي كتهم حنفاء") هو جمع حنيف ، وهو : المائل عن الأديان كئها إلى فطرة الإسلام ، وهذا نحو قوله في : (كل مولود يولد على الفطرة" ، ا) وقد تقدَّم في كتاب : القدر. وقوله : "وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ") يعني : شياطين الانس من الاباء والمعئمين بتعليمهم وقد ريبهم ، وشياطين الجن بوساوسهم . ومعنى اجتالتهم : أجالتهم ، أي : صرفتهم عن مقتض الفطرة الأصلية ، كما قال : "حتى يكون أبواه هما اللذان يهؤدانه ، أو ينضرانه ، أو يمجسانه أ . وفي الرواية الأخرى : "حتى يعئر عنه لسانه " يعني بما يلقي إليه الشيطان من الباطل والهفساد المناقض لفطرة الإسلام .
ومن باب : إقرار النبي !ذ إقرار النبف مجض حجَّة ، ودليل على جواز ذلك الفعل إذا صدر ذلك الفعل من - مسلم ، ورآه النبي برولم يتكزعليه .
---
كتاب الأذكار والدَّعوات
(9/443)
ومن باب : الترغيب في ذكر الله تعالى ، قوله تعالى : (( أنا عند ظن عبدي بي )) ؛ قيل : معناه ظن الإجابة عند الدعاء ، معنى وظن القبول عند التوبة ، وظن المنفرة عند الاستنفار ، وظن قبول الأعمال عند الاجا. ، ا لد ماء فعلها على شروطها تم!كا بصادق وعده ، وجزيل فضله . قلت : ويؤيئ ه قوله لكسغ : "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة"(2) . وكذلك ينبغي للتائب والمستغفر ، وللعامل أن يجتهد في القيام بما عليه من ذلك ، موتنا أن الله تعالى يقبل عمله ، ويغفر ذنبه ،
---
(9/444)
فإنَّ الله تعالى قد وعد بقبول التوبة الضادقة ، والأعمال الضالحة ، فاقا لو عمل هذه الأعمال ، وهو يعتقد ، أو يظن أن الله تعالى لا يقبلها ، وأنها لا تنفعه ، فذلك هو القنوط من رحمة الله ، والياس من رؤح الله ، وهو من أعظم الكبائر ، ومن مات على ذلك وصل إلى ما ظن منه ، كما قد جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث : "أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن عبدي بي ما شاء"(ا). فأمَّا ظن المنفرة والزحمة مع الإصرار على المعصية ، فذلك محض الجهل ، والعزة ، وهو يجز إلى مذهب المرجئة ، وقد قال ضر : "الكئس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله "(2 ، . والظن : تنليب أحد المجؤزين بسبب يقتضي التغليب ، فلو خلا عن السبب المنلب لم يكن ظثا بل غزة وتمنيا. وقد تقدَّم في الجنائز الكلام على قوله : "لا يموتن أحدكم إلا رهو يحسن الظن بالله "(3). وقوله : "وأنا معه حين يذكرني ") أصل الذنهر : التنبه بالقلب للمذكور ، والتيقظ له ، ومنه توله : ا أبهو)نغهف ألف أفت لجص " أ البقرة : 140 أي : تذتهروها . وقوله ف : "من نام عن صلاة ، أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"(4)0 أي : إذا تذءها بقلبه . وهو في القرآن كثير. وسئي القول باللسان ذنهرا ؛ لأنَّه دلالة على الذنهر القلبي ، غير أنه قد كثر اسم الذكر على القول اللساني حتى صار هو الشابق للفهم ، وأصل مع الحضور والمشاهدة ، كما قال تعالى : ا(نف محمآ أستمع ؤارف " أطه : 46أ ، وكما قال : اوهومعكنر؟لن مابهتئم " أالحديد : 14 أي : مللغ عليكم ، ( 1 )
---
(9/445)
ومحيظ بكم ، وقد ينجز مع ذلك الحفظ والنصر. كما قيل في قوله تعالى : إإنف حمآ امتمع وأرف ، أي : أحفظكما ممن يريد كيدكما . راذا تقرر هذا فيمكن أن يكون معنى : اوأنا معه إذا ذكرني " أن من ذكر الله . مكانة في نفسه مفزغة مما سواه رفع الله عن قلبه الغفلات ، والموانع ، وصار كاله يرى الله ويثاهده - وهي : الحالة العليا التي هي : أن تذكر الله كانك تراه ، فإنَّ لم تصل إلى هذه الحالة ، فلا أتل من أن يذكره ، وهو عالئم بأن الله يسمعه ريراه . ومن كان هكذا كان الله له أنيسأ إذا ناجاه ، ومجيبا إذا دعاه ، وحافظا له من كل ما يتوتعه ويخشاه ، ورفيقا به يوم يتوفاه ، ومحلأ له من الفردوس أعلاه . وقوله : "فإنَّ ذكرنن في نفسه ذكرته في نفسي ") النفس : انعم مشترك يطلق على نفس الحيوان ، وهي المتوفاة بالموت والنوم ، وبطلق ويراد به : الذم ، والله تعالى منزه عن ذينك المعنيين ، ربطلق ويراد به ذات الشيء وحقيقته ، كما يقال : رأيت زبدأ نفسه عينه ، أي : ذاته . وقد يطلق وبراد به النيب كما قد قيل في قوله تعالى : ا تغلئم ما فى ننمى ولآ أغلرمافى ننصعك ، أالمائدة : 116 ! أي : ما في غيبك . والأليق بهذا الحديث : أن يكون معناه : أن من ذكر الله تعالى خاليا منفردا ثواب بحيث لا يطلع أحذ من الخليقة على ذنهره ، جازاه الله على ذلك بأن يذكره بما أعذ له من كرامته التي أخفاها عن خليقته . حتى لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون . وقد قلنا : إن التسليم هو الطريق المستقيم . وقوله : "ران ذكرنن في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ") يعني : أن من يذكره في ملأ من الناس ذكره الله في ملأ من الملائكة ، أي : أثنى عليه ، ونؤه باسمه في الملانكة ، وأمر جبريل أن ينادي بذكره في ملائكة السموات كما تقدَّم ، وهو ظاهز في تفضيل الملائكة على بني آدم ، وهو أحد القولين للعلماء . وللمسالة غور ليس هذا موضع ذكره . وقوله : "وإن تقزب إلت شبرأ
(9/446)
---
تقزبت إليه ذراعا. . . إلى قوله : أتيته هرولة") هذه كتها أمثاذ ضربت لمن عمل عملا من أعمال الطاعات ، رقصد به إ التقزب إلى الة تعالى ، يدلّ على أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل وإن تل ، بل ت يقبله ويجعل له ثوابه مضاعفآ. ولا يقهم من هذا الحديث : الخطا : نقل الأقدام ؟ إلا من س رى الحمر في الأفهام . فإنَّ قيل : مقتضى ظاهر هذا الخطاب : أن من عمل حسنة جوزي بمثليها ، فإنَّ الذراع : شبران ، والباع : ذراعان . وقد تقزر في الكتاب والشئة : أن أقل ما يجازى على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمنة ضعف إلى أضعاف كثيثر لا تخص ، فكيف ونجه الجمع ؟ قلنا : هذا الحديث ما مميق لبيان مقدار الأجور ، وعدد تضاعيفها ، وإنما سيق لتحقيق أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل - تليلأ كان أو كثيرا - وأن الله تعالى يعنعرع إلى قبوله ، وإلى مضاعفة الثواب عليه إسراع من جيء إليه بشيء فبادر لأخذه ، وتبشبش له بشبشة من سر به ، ووقع منه الموقع ، ألا ترى قوله : "من (1) أتاني يمشي أتيته هرولة" ، وفي لفظ اخر : "أسرعت إليه " . ولا تتقذر الهرولة والإسراع بضفي المشي ، وأما عدد الأضعاف ، ( 1 ) في التلخيص : "ران ) .
---
(9/447)
فيؤخذ من موضج اخر لا من هذا الحديث . والته أعلم . وقوله : "هذا جفدان ") هو بضم الجيم وسكون الميم ، وهو جبل بين قديخد وعمنمفان من منازل أسلم . وقوله : "سبق المفزدون ") قال القاضي : ضبطته عن متقني شيوخنا بفتح جق الفاء وكسر الراء. قال الهروي : قال أبو العباس عن ابن الأعرابي : نرد الرجل : إذا لته تففه ، واعتزل الناس ، وخلا بمراعاة الأمر والنهي . وقال الأزهرقي : هم المتخلقون (1) من الناس بذكر الله تعالى . وقد فشرهم النبي في فقال : "هم الذاكرون الله كثيرأ والذاكرات ". وقال في غير كتاب مسلم : "هم الممنمتفترون بذكر الله تعالى ، يضع عنهم الذكر أوزارهم فيردون يوم القيامة خفافا"(2). وإنما ذكر النبي بئ هذا القول عقيب قوله : "هذا جندان ، ، لأن جفدان جبل منفرد بنفسه هنالك ، ليس بحذائه جبل مثله ، فكانه تفزد هناك فذكره بهؤلاء المفزدين . والله أعلم . وهؤلاء القوم سبقوا في الدنيا إلى الأحوال السنية ، وفي الآخرة إلى المنازل العلية . وقوله : "الذاكرون الله كثيرأوالذاكرات ") هذه الكثرة المذكورة هنا هي (
---
(9/448)
المامور بها في قوله تعالى : اثايخا ألذينء اشوأ ابمروا الله !ز كثة! ، لأ الأحزاب : 41 أ ، وهذا المساق يدلّ على أن هذا الذكر الكثير واجعبئ ، ولذلك لم يكف بالأمر حتى فده بالمصدر ، ولم يكعف بالمصدر حتى ممده بالصفة ، ومثل هذا لا يكون في المندوب . وظهر أنه ذكز كثير واجب ، ولا يقول أحذ بوجوب الذكر باللسان دائما ، وعلى كل حال ، كما هو ظاهر هذا الأمر ، فتعئيئ أن يكون ذكر القلب ، كما قاله مجاهد. رقال ابن عباس - رضي الهه عنهما - : ليس شي فى من الفرائض إلا وله حال! ينتهي إليه إلا ذكر الله " ولم يقل هو ولا غيره - فيما علمناه - أن ذكر الله باللسان يجب على الدوام ، فلزم أنه ذكر القلب ، واذا ثبت ذلك ، فذكر القلب لله تعالى ، إما على جهة الإيمان والتصديق بوجوده ، وصفات كماله وأسمائه نهذا يجب استدامته بالقلب ذكرا أو حكما في حال النفلة ؛ لأنَّه لا ينفد عنه إلا بنقيضه ، وهو الكفر . والذكر الذي ليس راجعا إلى الإيمان : هو ذكر الله عند الأخذ في الأفعال ، فيجب على كل مكتف ألا يقدم على فنل من الأفعال ، ولا قول من الأقوال - ظاهرا ولا باطنأ-إلأ حف يعرف حنهم الله في ذلك الفعل ؟ لإمكان أن يكون الشرع منعه منه ، فأمَّا على طريق الاجتهاد إن كان مجتهدا ، أو على طريق التقليد إن كان غير مجتهد ، ولا شف! المكئف عن فغل أو قول دائما ، فذنهر الله -ص يجب عليه دانمآ ، ولذلك قال بعض السلف : اذكر الله عند همك إذا هممت ، وحنهمك إذا حكمت ، وقمنممك إذا قسمت ، وما عدا هذين الذنهريخن لا يجب استدامته ولا كثرته . والله أعلم . (2) ومن باب : فضل مجالس الذكر (قوله : "إن لله ملائكة سيارة فضلآ") بفتح الفاء داسكان الضاد. رواية الشيوخ في مسلم رالبخاري . أي : زيادة على كتاب الناس ، وعند الهروي : فضل - برفع اللام -على أنه خبر مبتدأ. ووقع عند بعضهم : نضلا - بضم الفاء والضاد -. وكانه تازله على أنه جمع فاضل ، ولا تساعده العربية ، ولا
(9/449)
المعنى . وعند
---
بعضهم : فضلاء - بضم الفاء ونتح الضاد والمد والهمز - كظرفاء . والملائكة وإن كانوا كتهم كذلك ، فليس هذا موضع ذكر ذلك ، والصواب التقييد الأول . وقوله ؟ "ناذا وجدوا مجلس ذكر قعدوا معهم ، وحف بعضهم بعضا باجنحتهم ") هذه رواية السجزى والشمرقندي ، أي : يحدتون حولهم ، ومصداقها في البخاري : "يحفونهم باجنحتهم " ، وفي كتاب ابن عيسى : وحظ - بحاء وطاء مهملتين - ومعناه : أشار بعضهم لبعض بالنزول ، ووقع عند العذري : حظ : - بالظاء القائمة المعجمة -وعند بعضهم : بالساقطة ، وليسا بشيء ، رهما تصحيف . وقوله : "سثارة") يعني : سائرين ، كما قال في رواية أخرى : "سثاحين " . وقوله : "ناذا وجدوا مجلس ذكر قعدوا معهم ") يعني : مجالس العلم مجا والتذكير . وير المجالس التي يذكر فيها كلام الله ، ولهمشة رسوله ، وأخبار السلف واق الصالحين ، وكلام الأئمة الزفاد المتقدِّمين ، المبزأة عن التصنع والبدع ، والمنزهة عن المقاصد الردثة والطمع ، وهذه المجالس قد انعدمث في هذا الزمان ، وعوض منها الكذب والباغ ، ومزامير الشيطان . نعوذ بالله من حضورها ، ونساله العافية من شرورها . وقوله : "فيسالهم - وهن أعلم - : من أين جئتم ؟") هذا السؤال من الله تعالى للملائكة ، هو على جهة التتبيه للملائكة على قولها : اأتخعل فيهامني يفسد فيها ولبنمفك الدِّماء ، أ البقرة : 30 ، له اظهاز لتحقيق قوله : ا !! أغلئم ما لا ئعلمون " ا البقرة : 30 ، وهو من نحو مباهاة الله تعالى الملائكة باهل عرفة حين قال لهم : ة ما أراد هؤلاء ؟ انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثا غبرا ، أشهدكم أني قد غفرت لهم ، (1). وكذلك نصن عليه في الحديث . وقوله : اويمجدونك ") أي : يعفمونك بذكر صفات كمالك وجلالك . وقد تقدَّم : أن أصل المجد الأكثرة ، ومنه قولهم : في كل شجرة ناز ، واستمجد المرخ وا لعفار .
---
(9/450)
وقوله : "كيف لو رأوا جئتي ؟") هذا يدلّ على أن للمعاينة زيادة مزثة على العلم في التحقيق والوضوح ؟ فإنَّ هؤلاء القوم المتذئهرين للجنة والنار كانوا عالمين بذلك ، ومع ذلك : فإنَّ الله تعالى قال : "فكيف لو رأوها ، يعني : لو رأوها لحصل من اليقين والتحقيق زبادة على ما عندهم ، ولتحصيل هذه الزيادة سال موسى الززية ، والخليل مشاهدة إحياء الموتى ، وقد تقدَّم هذا المعنى .
و(قول الملائكة : "فيهم فلان عبد خطاء ، إنما مر فجلس معهم ") إنما النرفي استبعدت الملائكة أن يدخل هذا مع أهل المجلس في المغفرة ؛ لأنَّه لم تكن عادته ح!ه!بر حضور مجالس الذكر ، وإنما كانت عادته ملازمة الخطايا ، فعرض له هذا المجلس ، فجلسه ، فدخل مع أهله فيما قسم لهم من المغفرة والرحمة . فيستفاد منه الترغيب العظيم ، في حضور مجالس الذئهر ، ومجالسة العلماء والضالحين ، وملازمتهم . وقوله : "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ") هذه مبالغة في إكرامهم ، وزيادبر الد في إعلاء مكانتهم ، ألا ترى : أنه ممرم جليسهم بنحو ما فرموا به لأجلهم ، وان لم يثقص يشفعوا فيه ، ولا طلبوا له شيئًا ، وهذه حالة شريفة ، ومنزلة منيفة ، لا ختبنا الله منهم ، رجعلنا من أهلها .
---
(3) ومن باب : فضل إحصاء أسماء الله تعالى
(9/451)
قوله : "إن لنه تسعة رتسعين اسما -مئة إلا واحدأ-") الاسم في العرف العام : هو الكلمة الدائة على معئف مفر" وبهذا الاعتبار لا فرق بين الاسم والفعل والحرف ، إذ كل واحل! منها يصدق عليه ذلك الحا ، فلا فعل ، ولا حرف في العرف العام ، له انما ذلك اصطلاح النحويين والمنطقيين ، وليس ذلك من غرضنا . وإذا فهمت هذا فهمت غلط من قال : إن الاسم هو المستى حقيقة ، كما قالت طائفة من جفال اسشوية ؟ فإنَّهم صزحوا بذلك واعتقدوه حتى ألزموا على ذلك أن من قال : سثم : مات ، ومن قال نار : احترق . وهؤلاء أخسن من أن يشتغل بمخاطبتهم ، وأما من قال من النحويين ، ومن المتكلمين : الاسم هو المسمى ، فحاشاهم أن يريدوا هذه الحماقة ، وإنَّما أرادوا : أنه هو من حيث أنه لا يدلّ إلا عليه ، ولا يفيد إلا هو ، فإنَّ كان ذلك الاسم من الأسماء الداتة على ذات المسقى دذ عليها من غير مزيد أمر اخر ، ط ن كان من الأسماء الداتة على معنى زائد : دل
---
(9/452)
على تلك الذات منسوبة إلى ذلك الزائد خاصة دون غيره . وبيان ذلك : ألك إذا قلت : زبد -مثلآ- فهو يدلّ على ذات مشخصة في الوجود من غير زيادة ولا نقصان ، فلو قلت -مثلآ - : العالم ؟ دذ هذا على تلك الذات منسوبة إلى العلم ، وكذلك لو قلت : الغني ؟ دذ ذلك على تلك الذات مع إضافة مال إليها ، وكذلك لو قلت : الفقير ؟ دذ على تلك الذات مع سلب المال عنها ، وهذا جايى في كل ما يقال عليه : اسم بالعرف العام . ومن هنا صخ عقلآ أن تكثر الأسماء المختلفة على ذات واحدة ، ولا توجب تعذدأ فيها ، رلا تكثيرأ ، وقد غمض فهم هذا معما وضوحه ، على بعض أئمة المتكئمين ، وفز منه هربا من لزوم تعدد في ذات الإله حتى تاؤل هذا الحديث ؟ بأن قال : إن الاسم فيه يراد به التسمية ، ورأى أن هذا يخئصه من التكثر ، وهذا فرار من غير مفز إلى غير مفز ، وذلك أن . التسمية إنما هي وضع ا لاسم ، أو ذكر ا لاسم ، فإنَّه يقا ل لمن سئى ابنه عند ولادته بزيد ؟ سئى يسئي تسمية ، وكذلك نقول لس ذكر اسم زيد لغيره ، وعلى هذا فالتسمية هي نسبة الاسم إلى مستاه ، فاذا قلنا : إن لته تعالى تسعة وتسعين تسمية اقتض ذلك : أن يكون له تسعة وتسعون اسما ينسبها كتها إليه ، فبقي الإلزام بعد ذلك التكتف والتعشف ، والحق ما ذكرناه ، والمفهم الإله . وقد يقال : الاسم هو المسمى ، ويعني به : أن هذه الكلمة التي هي الاسم قد يطلق ويراد به المسثى ، كما قيل ذلك في قوله تعالى : اصخ أشص رتك الأظ ، أ الأعلى : 11 أي : سبح رتجك ، فاريد بالاسم المسثى ، وهذا بحث لفظي لا ينبغي أن ينكر ، ولا جرم قال به في هذه الاية ، وفيما يشبهها جماعة من علماء اللسان وغيرهم ، وإذا تقزر هذا فافهم أن أسماء مسوا الحق سبحانه لم ان تعذدت نلا تعذد في ذاته تعالى ، ولا تركيب ، لا عقليا كترتيب أسما المحدودات ، ولا محسوسا كترتيب الجسمانيات ، وإنما تعذدت أسماؤه تعالى إلى بحسب الاعتبارات الزائدة على الذات ، ثم
(9/453)
هذه الأسماء من جهة
---
دلالتها على أربعة دلالا أضرب ؟ فمنها : ما يدلّ على الذات مجزدة كاسم الله تعالى على قول من يقول : مزو
إنه علئم غير مشتق ، وهو الخليل وغيره ؛ لأنَّه يدلّ على الوجود الحق الموصوف بصفات الجلال والكمال دلالة مطلقة غير مقيدة بقيد ؟ ولأنه أشهر أسمائه حتى تعرف كل أسمائه به ، فيقال : الرحمن : اسم الله ، ولا يقال الله اسم الرحمن ؟ ولأن العرب عاملته معاملة الأسماء الأعلام في الئداء ، فجمعوا بينه وبين ياء النداء ، ولو كان مشتقا لكانت لامه زاندة ، وحينئذ لا يجمع بينه وبينها في النداء ، كما لا تقول العرب : يا لحارث ولا يا لعثاس . ولاستيفاء المباحث علم الاشتقاق . ومنها : ما يدلّ على صفات الباري تعالى الثابتة له كالعالم والقادر ، والسميع والبصير . ومنها : ما يدلّ على إضافة أمر ما إليه ، كالخالق ، والزازق . ومنها : ما يدلّ على سلب شيء عنه ، كالقدوس ، والشلام . وهذه الأقسام الأربعة لازمة منحصرة ، دائرة بين النفي والاثبات ، فاختبزها تجذها كذلك . وقوله : "مئة إلا واحدأ") تاكيد للجملة الأولى ، ليرفع به وهم متوهم في النطق أو الكتابة ؛ لأنَّ تسعة مقاربة لسبعة فيهما . ومئة منصوبة بدل من تسعة . وقوله : "من أخصاها دخل الجنة") هذه الجملة خبر ثان للمئة المذكورة في الجملة الأولى ، غير أن هذه الجملة ير الفائدة المقصودة لعينها ، والجملة الأولى مقصودة لها ، لا أن مقصودها حصر الأسماء فيما ذكر ، وهذا كقول القائل : لزيد مئة دينار ، أعذها للصدقة ، لا يفهم من هذا : أنه ليس له مال غير المئة دينار ، وإنما يفهم أن هذه المئة ير التي أعذها للصدقة لا غيرها . وقد دذ على أن لله أسماء أخر ما قذمناه من قوله ت : "اللهئم إني أسالك بكل اسم سثيت به نفسك ، أر استاثرت به في علم الغيب عندك "(ا) . وقوله : "فاحمده بمحامدلا أقدرعليها ، إلا أن
---
(9/454)
ينهمنيها الله "(ا). وقد بحث الناس عن هذه الأسماء في الكتاب وال!نة ، فجمعوها في كتبهم كالخطابي ، والقشيري ، وغيرهما ، فمن أرادها وجدها . وقد روى الترمذي حديث أبي هريرة هذا ، وزاد فيه ذكر الأسماء وتعديدها إلى تسعة وتسعين ، وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح ، وهو ثقة عند أهل ا لحديث ( 2 ) . والإحصاء في الكلام : على ثلاث مراتب ؟ أولها : العدد ، ومنه قوله تعالى : ا وأقف ش شفء عد ، لا" أ الجن : 28 م . والثانية : بمعنى الفهم ، ومنه يقال : رجل ذو حصاة أي : ذو لمبئ وفهم ، ومنه سئي العقل : حصاة ، قال كعب بن سعد الغنوي : وأن لسان المزء ما لنم يكن له حصاة على عؤرم ته لدليل والثالثة(3) : بمعنى الإطاقة على العمل والقؤ" ومنه قوله تعالى : اعلرألق ئخصوه " أ المزمل : 120 أي : لن تطيقوا العمل بذلك ، والمرجو من كرم الله تعالى ، أن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على إحدى هذه المراتب مع صحَّة النثة أن يدخله الله الجثة ، لكن المرتبة الأرلى : هي مرتبة أصحاب اليمين ، والثانية : للسابقين ، والثالثة : للصذيقين ، ونعني باطاقتها حسن المراعاة لها ، والمحافظة على حدودها ، والاتصاف بقدر الممكن منها ، كما أشار إليه الطوسي في "المقصد ا لأسنى " . وقوله : "والنه وتز يحعت الوتر") قد تقدَّم أن الوتر : الفرد ، والشفع : الزوج ، وأن معنى وحدانية الة تعالى : أنَّه واحذ في ذاته فلا انقسام له ، وواحذ في ت إلهيته ، فلانظيرله ، وواحدفي منكه وملكه فلاشريك له . الله ( 1 ) رواه
---
(9/455)
وقوله : "يحعت الوتر") ظاهره : أن الوتر هنا للجنس : لا معهود جرى ذكره تجمل عليه ، فيكون معناه على هذا : أنه يحمبئ كل وتر شرعه ، وأمر به ، كالمقرب ، ناثها وتر صلاة النهار ، ووتر صلاة الليل ، وكالصلوات الخمس ، فإنَّها وتر ، "كالرتر في مرار اللط رة ، وغسل المئت ، ونحو هذا مما شرع فيه الوتر ، ومعنى حمعه بر لهذا النوع : أنه أمر به ، وأثاب عليه . ويصلح ذلك للعموم لما خلقه وترا من خلوتاته كالسموات السبع ، والأرضين السبع ، والذراري الشبع ، وكمادم الذي خلقه من تراب ، وعيسى الذى خلقه من غير أب ، رهكذا كل ما خلقه الله وترا من خلوتاته ، ومعى محسه بر لهذا النوع أثه خضصها بذلك لحكم علمها ، وأمور رزرها . ويحتمل أن يريد بذلك الوتر واحدأ بعينه ، فقيل : هو صلاة الوتر ، وقيل : وم الجمعة ، وقيل : يوم عرفة ، وقيل : آدم ، وقيل غير ذلك . وقيل : يحتمل أن كون معناه منصرفا إلى صفة من يعبد الله بالوحدانية والتفزد على سبيل الإخلاص ، -ا لاختصاص . قلت : وهذه الأقوال ككها متكافنة ، وأشبه ما تقدَّم : حمله على العموم ، -تد ظهر لي وجه ، وأرجو أن يكون أولى بالمقصود ، رهو أن الوتر يراد به لترحيد ، فيكون معناه إن الله تعالى في ذاته وكماله ، وأفعاله واحذ ، ويحمب لتوحيد ، أي : يوخد ويعتقد انفراده دون خلقه ، فيلئتم أؤل الحديث واخره ، .ظاهره وباطنه .
---
(9/456)
(4 وه ) ومن باب : فضل التهليل رالتسبيح والتحميد(1) (قوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : "من قال : لا إله إلا الله رحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ؟ في يوم مئة مرة ، كانت له عدل عشر رتاب ، وكتبت له مئة حسنة ، ومحيمث عنه مئة سيئة") يعني : أن ثواب هذه الكلمات بمنزلة ثواب من أعتق عشر رتاب ، وقد تقدَّم في العتق : أن من أعتق رتبة واحدة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار ، ثم ثراد مع ذلك كثب منة حسنة ، رمخو منة سيئة ، يخمع ذلك كله له ، وكل واحل! من هذه الحسنات مضاعفة بعشبر ، كما قال تعالى : ا من ج! ، لحسنرو فللم عثر أفثالها " ا الأنعام : . آ ا أ ، وكما في حديث سعد بن أبي وقاص - رض الله عنه - المذكور بعد هذا ، وهذا الحديث وجميع ما في الباب من الأحاديث يدلّ على : أن ذكر الله تعالى أفضل الأعمال كئها ، وقد صرح بهذا المعنى في آخر هذا الحديث حين قال : الأص "ولم يات أحذ بافضل مما جاء به إلا أحذ عمل أكثر من ذلك ". رأنمن ما في هذا الباب ما خزجه مالك عن أبي الذرداء قال : "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها
---
(9/457)
عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وخيز لكم من أن تنقوا عدؤكم فتضربوا أعناقهم ، ربضربوا أعناقكم ؟" قالوا : بلى . قال : "ذنهر الله "(1). وهذا لا يقوله أبو الدرداء من رأيه ، ولا بنظره ؟ نانه لا يتوضل إليه برأيه ، فلا يقوله إلا عن النبي ط غير أنه سكت عن رفعه للعنم بذلك عند من حذثه بذلك . وقد رواه الترمذي مرفوعه 2) ، والله تعالى أعلم . وقوله : "وكانت له حرزأ من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ") يعني : أن الله تعالى يحفظه من ال!يطان في ذلك اليوم فلا يقدر منه على زتة ، ولا وسوسة ببركة تلك الكلمات . قلت : وهذه الأجور العظيمة ، والعواند الجمة إنما تحصل كاملة لمن قام بحق هذه الكلمات ، فاحضر معانيها بقلبه ، وتافلها بفهمه ، وائضحت له معانيها ، وخاض في بحار معرفتها ، ورتع في رياض زهرتها ، ووصل فيها إلى عين اليقين ؟ ا فإنَّ لم يكن ، فالى علم اليقين ، وهذا هو الاحسان في الذنهر ؟ فإنَّه من أعظم العبادات . وقد قال رز فيما قدمناه في الإحسان : "أن تعبد الله كانك تراه ، فإنَّ لم تكن تراه فإنَّه يراك "(3) . ثم لما كان الذاكرون في إدراكاتهم وفهومهم مختلفين كانت أجورهم على ذلك بحسب ما أدركوا ، وعلى هذا ينزل اختلاف مقادير الأجور ، والثواب المذكور في أحاديث الأذكار ، فانك تجد في بعضها ثوابا عظيما مضاعفا ، وتجد تلك الأذكار باعيانها في رواية أخرى أكثر أو أقل ، كما اتفق هنا في حديث أبي هريرة ***
---
(9/458)
المتقذم ، فإنَّ فيه : ما ذكرناه من الثواب ، وتجد تلك الأذكار باعيانها وقد علق عليها من ثواب عتق الرقاب أكثر مما عئقه على حديث أبي هريرة ، وذلك أنه قال في حديث أبي هريرة : "من قال ذلك في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب " ، وفي حديث أبي أيوب : "من قالها عشر مرات كانت له عدل أربع رقاب " . وعلى هذا فس قال ذلك مئة مرة كانت له عدل أربعين رتبة ، وكذلك تجده في غير هذه الأذكار ، فيرجع الاختلاف الذي في الأجور لاختلاف أحوال الذاكرين ، وبهذا يرتفع الاضطراب بين أحاديث هذا الباب ، والله الموفق للصواب .
وقوله : "إلا أحد عمل أكثر من ذلك ") أي : قال ، فسثى القول عملا ، كما قد صرح به في الرواية الأخرى. والذكر من الأعمال التي لا تنفع إلا بالنثة وا لإخلاص .
---
(9/459)
وقوله : "لأن أقول : سبحان الله ، والحمد لثه ، ولا إله إلا الله ، أحب إلف مما طلعمت عليه الشمس ") أي : من أن تكون له الدنيا بكليتها ، فيحتمل أن يكون هذا على جهة الإغياء على طريقة العرب في ذلك . ويحتمل أن يكون معنى ذلك : أن تلك الأذكار أحمت إليه من أن تكون له الدنيا فينفقها في سبيل الله ، وفي أوجه البر والخير ، لى الا فالدنيا من حيث هي دنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، وكذلك هي عند أنبيائه ، وأهل معرفته ، فكيف تكون أحب إليه من ذكر أسماء الله وصفاته ، التي يحصل بها ذلك الثواب العظيم ، والحظ الجزيل ؟ . وقوله : "الله ممبر كبيرا") نصب كبيرأ على أنه مفعول بفعل مضر تقديره : ممبر كبيرا ، هذا قول بعغى النحويين . وقوله : اوالحمد لمله كثيرأ ، ) نصب كثيرا على : أنه نععث لمصدر محذوت . كانه قال : والحمد لله حمدا كثيرا . وقوله : فهؤلاء لربي ) أي : هؤلاء الكلمات هي حق الهه تعالى ؟ إذ هي أوصافه . فما لي ؟ أي : فما الذي أذكره لحفي وحفي ؟ فدك ت على دعاء يشمل له مصالح الدنيا والاخرة ، فقال : تل : اللهم اغفر لي ، وارحمني ، واهدفي ، وارزقني ، وعافني " أي : اغفر لي ذنوبب السالفة ، وارحمي بنعمك المتوالية ، واهدني إلى السبيل الموصل إليك ، وارزش ما أستعين به على ذلك ، ويغنيني عن غيرك " وعافني عما ينقض لي شيئًا أو ينقصه . وقوله : ريجمع بين أصابعه ) أي : عند الكلمات المدعو بها عليك ، تمكينا لها في النفس ، وضبطا لها في الحفظ .
وقوله : "فإنَّ هؤلاء تجمع دنياك وآخرتك ") أي : هذه الدعوات تجمع لك خيرات الذارين ، وتكفيك شرورهما . وقوله : "يكتب الله له ألف حسنتن أو يحظ ) كذا وقع هذا اللفظ في بعض النسخ بالف تبل الواو ، وفي بعضها باسقاط الألف ، وهو صحيخ رواية ومعنى : لأن الله قد جمع ذلك كئه لقائل تلك الكلمات كما تقدم ، ولو صحت رواية الألف لحملت على المذهب الكوفي في أن (أو) تكون بمعنى الواو .
---
(9/460)
ومن باب : يذكر الله تعالى بوقار وتعظيم وفضل لا حول ولا قوة إلا بالله ، (1) (قوله ف : "أيها الناس اربعوا على أنفسكم ، إنكم لستم تدعون أصئم رلا غائبآ") أي : ارفقوا . يقال : ربع الرجل يربع : إذا وقف وتحئس ، ومنه قولهم : اربع على ضلعك ، أى : ارفق بنفسك . وإنما قال : "لستم تدعون أصئم ولا غانبآ" لأنهم رفعوا أصواتهم كما ترفع لمن كان أصئم ، أو غائبا . ثم قال : "تدعون سميعا قريبا ، رهو معكم ) . ثم مئل لهم بما بين أيديهم فيما يحشونه ويدركونه ، فقال : "تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ؟" فهذه معتة وقرفي بالاطلاع والمشاهدة ، لا بالمكان والزمان . ( 1 ) هذا العنوان لم يرذ في نسخ المنهم ، واستدركناه من التلخيص .
---
(9/461)
أ(7) ومن باب : تجديد التوبة والاستغفار في اليوم مئة مرة ، (1) (قوله : "إنه ليغان على تلبي ط في لاستغفر الهه في اليوم منة مرة ، ) ليغان : ليغلى ، والغين : التغطية ، ومنه يقال للغيم : الغين ، لأنه يغطي . ولا يظن أن أحدا قال إن قلب النبي رز تا ، لر بسبب ذنب وقع منه بغيق أو زين ، أو طبع عليه ، فإنَّ من جؤز الصغائر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يقل إنها إذا وتعت منهم أثرت في تلوبهم كما تؤثر الذنوب في تلوب العصاة ، بل : هم منفور لهم ومكرمون ، وغير مؤاخذين بشيء من ذلك ، فثبت بهذا أن ذلك الغين ليس هو بسبب ذنب ، ولكن اختلفوا في ذلك الغين . فقالت طائفة : إنه عبارة عن فترات وغفلات عن الذكر الذي كان دأبه ، فكان يستغفر الله من تلك الفترات (ا) ، وقيل : كان ذلك بسبب ما اطلع عليه من أحوال أفته . وما يكون منها بعده ، فكان يستغفر الله لهم . وقيل : كان ذلك لما يشغله من النظر في أمور أفته ومصالحهم ، ومحاربة عدؤه عن عظيم مقامه ، نكان يرى أن ذلك - وإن كان من أعظم الطاعات ، وأفضل الأعمال - نزوذ عن علو درجاته ورفعة مقامه ، فيستنفر رئه من ذلك ، وقيل : كان ذلك حاك خشية راعظام لله تعالى . والاستنفار الذي صدر منه لم يكن لأجل ذلك الغين بل للقيام بالعبادة ، ألا ترى توله في الحديث : "إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله " فاخبر بامرين مستانفين ليس أحدهما معئقا على اخر. وقال بعض أرباب الإشارات : إن النب! * كان دائم الترقي في المقامات سريع الئنفل في المنازلات ، فكان إذا ترفى من مقام إلى غير. الملع على المنتقل عنه ، فظهر له : أنه نقمق بالنسبة إلى المنتقل إليه ، فكان يستنفر الله من الأؤل ويتوب منه . كما قال في ا لحديث : وقد أشار الجنيد- رحمه الله -إلى هذا بقوله : حسنات ا لأبرار سيئات المقزبين ، والله تعالى أعلم . وقوله : "يا أثها الناص ! توبوا إلى الله ") أمر على جهة الوجوب ، كما قال تعالى : ا
(9/462)
وتوبوأ إلى
---
المته يعا أت! ألمزلحنوت " أ النور : 31أ ، وكما قال تعالى : ة توئو؟إلى أك تؤبه ير نصوط ، أ التحريم : 18 ، وقال : ا ومن تنم يرلهنمت فازلثك تم الظسون ، أالحجرات : ا ا ، ولا خلاف أنها واجبة على كل من أذنب ، وير في اللغة : معنص الرجوع . يقال : تاب وثاب وأثاب وأناب واب ، بمعنى : رجع . وهي في الشرع : وثر الرجوع عما هو مذموئم في الشرع إلى ما هو محمود فيه ، وسيأتي استيفاء الكلام فيها في الرقانق -إن شاء الله تعالى-. ( 1 ) في (ز) : النمرات .
وقوله : "فاني أتوب إلى الله في اليوم مئة مزة") هذا يدل على استدامة التوبة ، وأن الإنسان مهما ذكر ذنبه جذد التوبة ؛ لأنَّه من حصول الذنب على يقين ، ومن الخروج عن عقوبته على ش! ، فحو ؟ التائب أن يجعل ذنبه نصب عينيه ، وينوح دائما عليه ، حتى يتحفق أنه قد غفر له ذنبه ، ولا يتحفق أمثالنا ذلك إلا بلقاء الله تعالى ، فواجمت عليه ملازمة الخوف من الله تعالى ، والرجوع إلى الله بالندم على ما فعل ، ولالعزم على ألأ يعود إليه ، والاتلاع عنه . ثم لو قذرنا أنه تحقق أنه غفر له ذلك الذنب تعئنت عليه وظيفة الشكر ، كما قال ت : "أفلا أكون عبدا شكورأ؟"(ا). له إنَّما أخبر النبي باثه يكزر توبته كل يوم مع كوفي مغفورا له ، ليلحق به غيره نفسه بطريق الأولى ؛ لأنَّ غيره يقول : إذا كانت حال من تحقق مغفرة ذنوبه هكذا ، كانت حال من هو من ذلك في شك أحرى ، وأولى ، وكذلك القول في الاستغفار والتوبة يقتض شيئا يرساب منه ؟ إلا أن ذلك منقسئم بحسب حال من صدر منه ذلك الشيء ، فتوبة العراتم من السينات ، وتوبة الخوامق من الغفلات ، رتوبة خوامق الخوامق من الالتفات إلى الحسنات ، هكذا قاله بعض أرباب القلوب ، رهو كلائم حسن في نفسه ، بالغ في فنه .
---
(9/463)
ومن باب : توله ليحقق الداعي طنبته وليعزم في دعائه قوله : "لا يقولن أحدكم : اللهم اغفز لي إن شئت ") إنما نهى الرسول ت عن هذا القول ؛ لأنَّه يدأ على فتور الرغبة ، وتئة التهتم بالمطلوب . وكان هذا القول يتضئن : أن هذا المطلوب إن حصل ، رإلا استش عنه ، ومن كان هذا حاله لم ئمحفق من حاله الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء ، وكان ذلك دليلآ على قئة اكتراثه بذنوبه ، ولرحمة ربه ، وأيضًا فإنَّه لا يكون موقنا بالإجابة ، وقد قال ت : "ادعوا الله وأنتم موقنون بالاجابة ، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاث من قلب غافل لاه "(ا). ثم إن النث * لم يكعض بالنهي عن ذلك حتى أمر بنقيضه فقال : ء"ليعزنم في الدعاء" أي : ليجزنم في طلبته ، وليحقق رغبته ويتيفن الاجابة ؟ فإنَّه إذا فعل ذلك : دذ على علمه بعظيم تدر ما يطلب من المغفرة والرحمة ، وعلى أنه مفتقز لما يطلب ، مضطمء إليه ، وقد وعد الله المضطز بالإجابة بقوله : ا اضن مجيمي اتمضطزلذا باه ، أا لنمل : 62 ، . وقوله : "فإنَّ اشه صانغ ما شاء لا مكره له ") إظهاز لعدم فائدة تقييد ط الاستغفار والرحمة بالمشيغة ؛ لأنَّ الله تعالى لا يضطره إلى فعل شيء ، دعا" ولا عن أنس ، قال : كان أكثر دعوة يدعو بها الثبي ج لحيظظ يقول : "اللهتم اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة ، وقنا عذاب الثارإ. قال :
---
(9/464)
غير. ، بل يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء ، ولذلك قثد الله تعالى الإجابة بالمشيئة في نوله : ا ضمنهشف ماتذس ن ، قران ث!إ" أ الأنعام : 41! فلا معنى لاشتراط مشيئته فيما مذا سبيله ، ناما اشتراطها في الايمان نقد تقدَّم القول فيه . (9) ومن باب : أكثر ما كان النبي شكض يدعو به إنما كان أكثر دعاء النبى بقوله : "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي لاخرة سسنة" ؛ لأنَّها من الدعوات الجوامع التي تتضن خير الدنيا والاخرة وذلك ان حسنة نكرة في سياق الطلب ، فكانت عافة ، فكانه يقول : أعطني كل حالة حسنة في الدنيا والاخرة . وقد اختلفت أقوال المفسرين في الاية اختلافا يدلّ على عدم التوقيف ، وعلى قلة التافل لموضع الكلمات ، فقيل : الحسنة في الدنيا هي : العلم إ العبادة ، وفي الاخرة الجنة ، وقيل : العافية والعاتبة . وقيل : المال وحسن المآل ،
وقيل : المرأة الصالحة والحور العين ، والصحيح : الحمل على العموم ، والله أعلم . وقوله : إنه ت عاد رجلآ من المسلمين قد خفت حتى صار مثل الفرخ ) أي : ضف ونحل في جسمه ، رخفي كلامه ، وتشبيهه له بالفرخ : يدل على أنه نناثر كثر شعره ، ويحتمل أن يكون شئهه به لضعفه ، والأؤل أوتع في التشبيه . رمعلوتم أن مثل هذا المرض لا يبقى معه شعر ولا قو ، . ما وقوله ف : "سبحان الله ا لا تطيقه ") يعني أن عذاب الاخرة لا يطيقه أحذ لا في الدنيا ؛ لأنَّ نشاة الدنيا ضعيفة لا تحتمل العذاب الشديد ، والألم العظيم ، بل إذا عظم عليه ذلك هلك ومات ، فأمَّا نشاة الاخرة في للبقاء ، إما في نعيم ، أو في عذاب ، إذ لا موت ، كما قال في حق الكفار : اكماضت جكوبم بدننفنم جكوداغيرها في ومؤا آلمذا"" أ النساء : 56! - فنسال الله تعالى العافية في الدنيا والاخرة - ثم إن النبي ئ أرشده إلى أحسن ما يفال ؟ وهو توله : "اتنا فيم الانيا حسنة" .
---
(9/465)
(15 ) ومن باب : ما يدس به وما يتعوذ منه (قول أبي بكر - رضي الله عنه - : علمض دعاة أدعو به في صلاتي ) إنما خصن الصلاة ؛ لأنَّها بالاجابة أجدر ، وقد قال ت : "أترب ما يكون العبد من رئه وهو ساجذ ، فاكثروا الدعاء" ، ا). وقد تقدَّم : أن الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وظلم الإنسان لنفسه : هو تركها مع هواها حف بصدر عنها من المعاصي ما يوجب عقوبتها . وغفران الذنوب : هو سترها بالتوبة منها ، أو بالعفو عنها . . وقوله : افاغفز لي مغفرة من عندك ") أي : تفضملآ من عندك ، وإن لم أكن لها أهلآ ، وإلا فالمنفرة ، والرحمة ، ركل شيء من عنده تعالى . وقد أئهد ذلك قوله : "رارحمني إنك أنت النفور الرحيم " أي : لأنك الكثير المنفرة والرحمة ،
---
(9/466)
لا لأني أستحق ذلك ، وقد استحمبئ بعض العلماء أن يدعى بهذا الدعاء في الصلاة قبل التسليم ، والصلاة كتها عند علمائنا محل للدعاء ، غير أنه يكره الدعاء في الركوع ، وأتربه لحي جابة : السجود ، كما تلناه . وقد قذمنا : أنه يجوز أن يدعى في الصلاة بكل دعاء كان بالفاظ القران ، أو بالفاظ الشنة ، أر غيرها خلافا لمن منع ذلك إذا كان بالفاظ الناس ، وهو أحمد بن حنبل وأبو حنيفة . وقوله : "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار ، رعذاب القبر") الفتنة هنا : ير ضلال أهل النار المفضي بهم إلى عذاب النار. وفتنة القبر : هي الضلال عن صواب إجابة الملكين فيه ، وهما : منكر ونكير -كما تقدَّم -. وعذاب القبر : هو ضرب من لم يوثق للجواب بمطارق الحديد ، وتعذيبه إلى يوم القيامة . وشز فتنة الننى : ير الحرص على الجمع للمال ، وحنه حف يكتسبه من غير حئه ، وبمنعه من واجبات إنفاقه وحقوقه . وشر فتنة الفقر : يعني به : الفقر المدتع الذي لا يصحبه صبر ولا ورع ، حتى يتوزط صاحبه بسببه فيما لا يليق باهل الأديان ، ولا باهل المروءات ، حتى لا يبالي بسبب فاتته على أي حرايم وثب ، ولا في أي ركاكة توزط ، وقيل : المراد به فقر النفس الذي لا يرده ملك الدنيا بحذافيرها . وليس في شيء من هذه الأحاديث ما يدلّ على أن الننى أفضل من الفقر ، ولا أن الفقر أفضل من الغنى ؛ لأنَّ الغنى والفقر المذكورين هنا مذمومان باتفاق العقلاء . وقد تكتمنا على مسالة التفضيل فيما تقدَّم . والكسل المتعؤذ منه هو التثاقل عن الطاعات ، وعن السعي في تحصيل المصالح الذينية والذنيوية . والعجز المتعؤذ منه : هو عدم القدرة على تلك الأمور . رالهرم المتعؤذ منه : هو المعتر عنه في الحديث الآخر : بارذل العمر ، وهو : ضغف القوى ، واختلال الحواس والعقل الذي يعود الكبير بسببه إلى أسوأ من حال الصنير ، وهو الذي قال الله تعالى فيه : ا ومن نعضزه تضضمه ق الخنق أفلايغقرن " أيس : 68 ، .
---
(9/467)
وقوله : كان رسول الله ج سشه يتعؤذ من سوء القضاء ، ومن درك الشقاء) يروى بفتح الراء وباسكانها ، فبالفتح : الاسم ، وبالإسكان : المصدر ، وهما متقاربان ، والمتعؤذ منه : أن ينحقه شقاة في الدنيا ريعبه (ا) ، ويثقله ، وفي الاخرة : يعذبه . وجهد البلاء : يروى بفتح الجيم وضها . قال ابن دريد : هما لنتان بمعنى واحد ، وهو : التعب والمشقة ، وقال غيره - وهو نفطويه - بالضم : وهو الوسع والطاقة ، وبالفتح : المبالغة والناية . وروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما - قال : جهد البلاء : قئة المال ، وكثرة العيال . وشماتة الأعداء : هي ظفرهم به ، أو فرحهم بما يلحقه من الضرر والمصائب . وقد جاء هذا الذعاء مسجعا-كما ترى الان - ، ذلك الشجع لم يكن متكتفا ، وإنَّما يكره من ذلك ما كان متكئفا-كما تقدم -. لإنَّما دعا النبي ت بهذه الدعوات ، وتعؤذ بهذه التعوذات إظهارأ للعبودية ، وبيانا للمشروعية ؟ ليقتدى بدعواته - وئمعؤذ بتعويذاته - ، والله أعلم 10
---
(11 ) ومن باب : ما بقول إذا نزل منزلا وعند النوم
(9/468)
قوله : "إذا نزل أحدكم متزلا ، فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات من شز ما خلق ") قيل معناه : الكاملات اللاتي لا ينحقها نقص ، ولا عيب ، كما يلحق كلام البشر. وقيل معناه : الشافية الكافية . وقيل : الكلمات - هنا - هي : القران ؟ فإنَّ الله تعالى قد أخبر عنه بانه هدى رشفاء ، وهذا الأمر على جهة الارشاد إلى ما يذفع به الأذى ، ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى ، والتجاء إليه ، كان ذلك للى من باب المندرب إليه ، المرغب فيه . وعلى هذا فحو ؟ المتعوذ بالله تعالى ، وباسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه ، ويتوكل في ذلك عليه ، ويحضر ذلك في قلبه ، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طه لبه ، ومغفرة ذنبه . وقوله : "فإنَّه لا يضزه شي ة حتى يرتحل منه ") هذا خبز صحيح ، وقوذ صادق علمنا صدته دليلا وتجربة ، فاني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه ، فلم يضزني شي ة إلى أن تركته ، فلدغتي عقربئ بالمهدية ليلا ، فتفكرت في نفسي ، فاذا بي قد نسيت أن أتعؤذ بتلك الكلمات ، فقلت لنفسي - ذاما لها وموبخا- ما قاله !ط مضجعك فتوضا وضوءك للقملاة ، ثم اضطجغ على شقك الأيمن ، ثم
للرجل الملدوغ : "أما إنك لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق . لم تضرك ".
أ(12 ) ومن باب : ما بقول عند النوم وأخذ المضجع وما بعد ذلك أ(1) قوله : "إذا أخذت مضجعك ، فتوضما وضوءك للصلاة ، ثم اضطجغ على شفك الأيمن ") هذا الأمر على جهة الئدب ؛ لأنَّ النوم وفاة" وربما يكون موتا ، كما قال تعالى : ا ألآيوفى الأنفس حين مؤتهااإلهف لض تمت فى مامها يخضسك ألتى قفف طئها الضوت وين سل الآخرئ إفى بر ئس!تى" أالزمر : 42 م ، ولما كان الموت ( 1 ) هذا العنوان لم يرد في نسخ المفهم ، واستدركناه من التلخيص .
---
(9/469)
كذلك ندب النف ت النانم إلى أن يستعذ للموت بالطمارة ، والاضطجاع على اليمين ، على الهينة التي يوضع عليها في قبره . وقيل : الحكمة في الاضطجاع على اليمين ، أن يتعثق القلب إلى الجانب الأيمن ، فلا يثقل النوم ، وفيه دليل على : أن م النرم على طهارة كاملة أفضل ، ويتئد الأمر في حق الجنب ، غير أن الشرع قد جعل وضوء الجنب عند النوم بدلآ من غشله تخفيفا عنه ، وإلا فذلك الأصل يقتضي : ألأ ينام حتى يغتسل . وقد تقدَّم الغول في الأمر في حن الجنب عند النوم وا لطها رة . وقوله : "تل : اللهم إني أسلممث وجهي إليك " ، وفي رواية : "نفسي " بدل : اوجهي ") وكلاهما بمعنى : الذات وال!خمى . فكانه قال : أسلمت ذاتي وشخصي . وقد قيل : إن معنى الوجه : القصد ، والعمل الضالح ، ولذلك جاء في ت روايتن : "أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك " فجمع بينهما ، فدذ ذلك على أنهما أمران متنايران كما قلناه . ومعنى أسلمت : سئمت ، واستسلمت ، أي : سثمنها لك ؟ إذ لا تدرة لي على تدبيرها ، ولا على جنب ما ينفعها ، ولا على دقع ما يضزها ، بل : أفرها إليك مسثنم تفعل فيها ما تريد ، واستسلمت لما تفعل فيها ، فلا اعتراض على ما تفعل ، ولا معارضة . وقوله : "وفوضت أمري إليك ") أي : توفلت عليك في أمري كله ؟ لتكفيني هثه ، رتتوك إصلاحه . وقوله : "وألجات ظهرى إليك ") أي : أسندته إليك لتقويه وتعينه على ما ينفعني ؛ لأنَّ من استند إلى ش ج تقومى به ، واستعان . وقوله : "رغبة ورهبة إليك ") أي : طمعا في رفدك وثوابك ، وخوفا منك ، ومن أليم عقابك .
---
(9/470)
وقوله : "فإنَّ معت ممت على الفطرة") أي : على ديخن الإسلام ، كما قال في الحديث الاخر : "من كان اخر كلامه : لا إله إلا الله دخل الجنة"(1) . قلت : هكذا قال الشيوخ في هذا الحديث ، وفيه نظر ؛ لأنَّه : إذا كان قائل ارج هذه الكلمات المقتضية للمعافي الي ذكرناها من التوحيد ، والتسليم ، والرضا إلى بال أن يموت على الفطرة ، كما يموت من قال : لا إله إلا الله ، ولم يخطر له شيء من تلك الأمور ، فاين فائدة تلك الكلمات العظيمة ، وتلك المقامات الشريفة ؟ . فالجواب : أن كلأ منهما -لان مات على فطرة الإسلام - فبين الفطرتين ما بين الحالتين ، ففطرة الطائفة الأولى : فطرة المقزبين والصديقين ، وفطرة الثانية : فطرة أصحاب اليمين . وقوله : "وان أصبحت أصبت خيرا") أي : صلاحا في ذلك وزيادة في أجرك ، وأعما لك . وقوله : اقل : امنت بنبيك الذي أرسلت ") هذا حجَّة لمن لم يجز نقل الحديث بالمعن ، وهو الصحيح من مذهب مالك ، وقد ذكرنا الخلاف فيه ، ولا
---
(9/471)
ش! في أن لفظ النبوة من النبا ، وهو الخبر ، فالنبي في العزف : هو المنتا من جهة الله تعالى لأمر يقتضي تكليفا ، فإنَّ أمر بتبلينه إلى غيره فهو رسول ، لي الا فهو نبي غير رسول . وعلى هذا فكل رسول نبف ، وليس كل نبئ رسولآ ؛ لأنَّ الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبا ، وافترقا في أمر خاص (1 ) وهو الرسالة ، فم إذا قلت : محتد رسول الله ، تضثن ذلك أنه نبئ رسوذ ، فلما اجتمعا في النبي لكض أراد أن يجمع بينهما في اللفظ حف يقهم من كل واحد منهما من حيث النطق ما وضع له ، وأيضًا فليخرخ عما يشبه تكرار اللفظ من غير نائدة ؛ لأنَّه إذا قال : ورسويك ، فقد فهم منه أنه أرسله ، فاذا قال الذي أرسلت صار كالحشو الذي لا فاندة له ، بخلاف نبئك الذي أرسلت ، فإنَّهما لا تكرار فيهما لا محققأ ولا متوهما . والنه تعالى أعلم . وقوله : "اللهم باسمك أحيا ، وباسمك أموت ") أي : بك يكون ذلك ، فالاسم هنا : هو المسئى ، كقوله تعالى : امغ أشص رتك الأغلى" أالأعلى : ام ، أي : سئح رتجك . هذا قول الشارحين . قلت : وقد استفدت فيه من بعض مشايخنا معنى اخر وهو : أنه يحتمل أنه يعني باسمك المحيي المميت من أسمائه تعالى ، ومعنى ذلك : أن الله تعالى إنما سثى نفسه باسمائه الحسنى ؛ لأنَّ معانيها ثابتة في حفه وواجبة له ، فكل ما ظهر في الوجود من الاثار إنما هي صادرة عن تلك المقتضيات ، فك! إحياء في الدنيا والاخرة : إنما هو صادز عن تدرته على الإحياء ، وكذلك القول في الإماتة ، وفي الرحمة والملك ، وغير ذلك من المعاني التي تدل عليها أسماؤه ، فكانه قال :
مضجعنا أن نقول : "اللهم ! ربئ الشموات ، ورب الارض ، ورب العرش العظيم ، ربنا ، وربئ كل شيء ، فالق الحب والنوى ، ومنزل التوراة
باسمك المحيي أحيا ، وباسمك المميت أموت ، وكذلك القول في سانر الأسماء الذائة على المعاني . وبسط ذلك يستدعي تطويلا ، وفيما ذكرناه تنبيه يكتفي به النبيه .
---
(9/472)
وقوله : "وإليك النشور") أي : المرجع بعد الإحياء . يقالى : نشر الله الموتى فنشروا ، أي : أحياهم فحيوا ، وخرجوا من قبورهم منتشرين ، أي : جماعات في تفرتة ، كما قال تعالى : ا كاثهم بم إذفنتمثئر ، أالقمر : 17 . وقوله : "لك مماتها ومحياها") أي : موتها وحياتها ، أي : ذلك لك وحدك لا لغيرك . وقوله : "فالق الحعبئ والئوى") أي : شاى الحبة ، !رج منها سنبلة ، والنواة : نيخرج منها نخلة. ومنه القسم المشهور عن علي : والذي فلق الحتة ، وبرأ النسمة ، أي : شفها .
و(قول الرجل لابن عمر : سمعت من ابن عمر ؟ فقال : من خير من ابن عمر) هكذا رواه السمرقندي بزيادة ابن في الموضعين ، وهو وهم ؛ لأنَّ القائل : سمعت من خير من عمر ، هو ابن عمر لا عمر ، وكذلك رواية الجماعة ، وهو الصحيح . وأصل ربئ : اسم فاعل من ربئ الشيء يرتجه : إذا أصلحه ، وقام عليه ، ثم إنه يقال : على الشئد والمالك . وقوله : "أنت الاؤل فليس قبلك شيء . . . الحديث إلى اخره ") تضقن هذا الدعاء من أسماء الله تعالى ما تضئنه توله تعالى : اهوألأزل وألافروألظهروأنجاطن ، أالحديد : 3أ ، وقد اختلفت عبارات العلماء في ذلك ، وأرشق عباراتهم في ذلك قول من قال : الأول بلا ابتداء ، والاخر بلا انتهاء ، والظاهر بلا اقتراب ، والباطن بلا احتجاب . وقيل : ا لأول بالإبداء ، والاخر با*فناء ، والظاهر بالايات ، والباطن عن الإدراكات . وقيل : الأول : القديم ، والاخر : الباقي ، والظاهر : الغالب ، والباطن : الخفي اللطيف ، الرفيق بالخلق . وهذا القول يناسب الحديث ، وهو بمعناه .
وقوله : "فليس فوقك ثيء ") أي : لا يقهرك شيء . وقوله : "فليس دونك شيء ") أي : لا شيء ألطف منك ، ولا أرفق .
---
(9/473)
وقوله : ا إذا أوى أحدكم إلى فراشه ") أي : انضتم . قال الأزهري : آوى وأوى بمعتف واحلإ ، لازتم ومتعذ ، وفي الصحاح عن أبي زبد : آويته أنا إيواء وأويخته : إذا أنزلته بك . فعلت وأفعلت بمعنى. ناما أويت له ، بمعنى رثيت له ، فبالقصر لا غير. قال ذو الزمة : . . .. . . . .. . . .. .. .. . .. .. ولؤ أئ اشتاويخته ما أوى ليا(1) وقوله : "فلياخذ داخلة إزاره فلينفضن بها فراشه ، وليسم الله ، فإنَّه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه ") داخلة الازار : هي ما يلي الجسد من طرفي الإزار. قلت : هذا الحديث يتضئن الإرشاد إلى مصلحتين : إحداهما معلومة مز ظاهرة وهي : أن الإنسان إذا تام عن فراشه لا يدرى ما دبئ عليه بعده من أزز الحيوانات ذوات الشموم ، نينبني له إذا أراد أن ينام عليه أن يتففده ، ويمسحه ، لإمكان أن يكون فيه شي ة يخفى من رطوبة أو غيرها ، فهذه مصلحة ظاهرة ، وأما
اختصاص هذا النفض بداخلة الإزار فمصلحة لم تظهر لنا ، بل : إنما ظهرت تلك للنبي بنور النبوة ، وإنَّما الذي علينا نحن الاممعال . ويقع لي : أن النبي علم فيه خاصية طبية تنفع من ضرر بعض الحيوانات كما قد أمر بذلك في حق العائن كما تقدَّم . والله تعالى أعلم . ويدلّ على ذلك ما زاده الترمذئ في هذا الحديث : "فلياخذ صنفة إزاره ، فلينففن بها فراشه ثلاثا"(ا). فحذا بها حذو تكرار الزقى .
وقوله : "لك وضعت جنبي ، وبك أرفعه ") كذا صخ : لك وضت ، باللام ، لا بالباء ، وبك أرفعه : روي بالباء وباللأم ، فالباء للاستعانة . أي : بك أستعين على وضع جنبي ورفعه . فاللأم يحتمل أن يكون معناه : لك تقزبت بذلك . فإنَّ نرمه إنما كان ليستجئم به لما عليه من الوظانف ؟ ولأنه كان يوحى إليه في نومه ، ولانه كان يقتدى به ، فصار نومه عبادة ، وأما يقظته . فلا تخفى أنها كانت كلها عبادة ، وبحتمل أن يكون معناه لك وضعت جنبي لتحفظه ، ولك رفعته لترحمه .
---
(9/474)
وقوله : "فكم مس لا كافي له ، ولا مؤوي ") أي : كثير من الناس ممن أراد الله إهلاكه ، فلم يطعنه ، ولم يسقه ، ولم يكسه ؟ إما لأنه أعدم هذه الأمور في حقه ، وإما لأنه لم يفدزه على الانتفاع بها حف هلك ، هذا ظاهره . ويحتمل أن يكون معناه ، فكم من أهل الجهل والكفر بالهه تعالى لا يعرف أن له إلها يطعمه ويسقيه ، ويؤربه ، ولا يقز بذلك ، فصار الإله في حقه وفي اعتقاده كانه معدوئم .
(13 ) ومن باب : مجموع أدعية كان النبي يدعو بها (قوله : "اللهم إفي أعوذ بك من شز ما عملت ، وما لم أعمل ، ) هذا كقوله التص في الحديث الاخر : "اللهم إني أعوذ بك من كل شر). غير أنه نثه في هذا على الأء
---
(9/475)
معنى زاند ، وهو أنه قد يعمل الإنسان العمل لا يقصد به إلا الخير ، ويكون في باطن أمره شز لا يعلمه ، فاستعاذ منه . ويؤيد هذا أنه قد روي في غير كتاب مسلم : "من شر ما علمت ، وما لم أعلم ". ويحتمل أن يريد به ما عمل غيره ، فيما يظن أنه يقتدي به فيه . وقوله : "وإليك أنبت ") أي : تنت ورجعت . وقوله : "وبك خاصمت ") أي : باعانتك ، وتعليمك ، وبكلامك جادلت المخالفين فيك حتى خصتهم . وقوله : "والجن والإنس يموتون ") إنما خص هذين النوعين بالموت ؟ وإن كان جميع الحيوان يموت ؛ لأنَّ هذين النوعين هما المكئفان المقصودان بالتبليغ ، والهه أعلم . وقوله : إذا كان في سفر فاسحر) أي : استيقظ في السحر ، أو خرج في السحر . والسحر : آخر الليل . وقوله : "سئع سامغ بحمد الله وحشن بلائه ") وجدته في كتاب شيخنا أبي الصبر أيوب : سئع بفتح السين والميم وتشديدها . قال القاضي : أي بلغ من سمع قولي . وقين ده الخطابي : سيع سامع : بفتح السين وكسر الميم ، وتخفيفها ، وهكذا أذكر أفي قرأته ؟ أي : استمع سامع ، وشاهد شاهد بحمدنا ربنا على نعمه . قلت : وعلى هذين التقييدين والتفسيرين فهو خبز بمعنى الأمر ، أي : ليسمغ سامع وليبئغ ، وهذا نحو قوله : "تصدق رجل بديناره ، ودرهمه "(1) أي : ليتصذق . وجمع عليه ثيابه. أي : ليجمع ، وقد تقدَّم القول في نحو هذا. وحسن بلائه ؟ بمعنى : ابتلائه ، وقد تقدَّم : أن أصل الابتلاء : الاختبار ، وقد يكون نعمة ، وقد يكون نقمة . وقوله : "رتجنا صاحننا") أي : بحفظك ، وكفايتك ، وهدايتك . وقوله : عائذأ بالله من النار) ، هو منصوبئ على الحال ؟ أي : أقول ذلك في هذه الحال . وقوله : "اللهم اغفز لي جذي وهزلي ، وخطئي وعمدي ، وكل ذلك عندي ") قد تقدَّم القول في عصمة الأنبياء من الذنوب ، وفي معنى ذنوبهم غير مرة ، ونزيد هنا نكتتين : إحداهما : أنا ران قلنا : إن الذنوب تقع منهم ، غير أنهم يتوقعون وقوعها ، (ا) رواه مسلم
(9/476)
(1017) .
---
وأن ذلك ممكن ، وكانوا يتخوفون من وقوع الممكن المتوقع ، ويقدرونه واقعا فيتعؤذرن منه ، وعلى هذا فيكون توله : "ركل ذلك عندي " أي : ممكن الوقوع عندي ، ودليل صحة ذلك أنهم مكئفون باجتناب المعاصي كلها كما كلفه غيرهم ، فلولا سة إمكان الوتوع لما صخ التكليف . والثانية : أن هذه التعويذات ، وهذه الدعوات والتضرعات قيائم بحق وظيفة العبودية ، راعتراف بحق الربوبية ، ليقتدي بهم مذنبو أممهم ، وشملكوا مناهج سبلهم ، نتستجاب دعوتهم ، وتقبل توبتهم ، والله تعالى أعلم . وقد أطنب الناس في ذلك ، وما ذكرناه خلاصته . وقوله : "أنت المقذم وأنت المؤخر") أي : المقذم لمن شئت بالتوبة ، والولاية ، والطاعة . والمؤخر لمن شئت بضد ذلك . والأولى : أنه تعالى مقدم كل مقذم في الدنيا والاخرة ، ومؤخر كل مؤخر في الدنيا والآخرة ، وهذان الاسمان من أسماء الهه تعالى المزدوجة كالأول والاخر ، والمبدىء والمعيد ، والقابفر والباسط ، والخافض والرافع ، والضار والنافع ، فهذه الأسماء لا تقال إلا مزدوجة ، كما جاءت في الكتاب والسنة . هكذا قال بعض العلماء ، ولم يجز أن يقال : يا خافض حتى يضم إليه : يا رافع . وقوله : "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ") أي : رباطه وقوله : "اللهم إفي أعوذ بك من علم لا ينفع ، ) هو الذي لا يعمل قال ت : "العلم ابذي لا يعمل به كالكنز الذي لا ينفق منه ، أتعب صاحبه جمعه ، ثم لم يصل إلى نفعه "(1). وقوله : "فلا شيء بعده ") أي : لا شيء ينصر ، ولا يدفع غيره . ومن باب : ما يقال عند الصباح وعند المساء ، (1) قوله : "من الكسل وسوء الكنر") يروى بفتح الباء راسكانها ، وبالفتح يعني به : الهرم . وقد قلنا : إن المراد بذلك : أرذل العمر ، وبالإسكان : يعني بذلك : كبر النفس المذموم المحزم الذي تقدَّم ذكره .
---
(9/477)
ومن باب : كثرة ثواب الدعوات الجوامع وما جاء في أن الداعي يستحضر معافي دعواته في قلبه ، (1) (قوله : "لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن ") أي : لرجحث عليهن في ا الثواب . وهو دليذ على أن الدعوات والأذكار الجوامع يحصل عليهن من الثواب ، أضاف ما يحصل على ما ليست كذلك . ولذلك كان ظ يحب الدعوات الجوامع . وقوله : "سبحان الله ، وبحمده ") هذا الكلام على اختصاره جملتان ؟ إحداهما : جملة سبحان الله ؟ فإنَّها واقعة موقع المصدر ، والمصدر يدلّ على صدره ، فكانه قال : سبحت الله التسبيح الكثير ، أو التسبيح كله ، على قول من قال : إن سبحان الهه : اسم علما للتسبيح ، وبحمده : متعئق بمحذوف تقديره : وأثني (1 ) هذا العنوان لم يرذ في نسخ المفهم ، واستدركناه من التلخيص .
عليه بحمده ؟ أي : بذكر صفات كماله وجلاله ، فهذه جملة ثانية غير الجملة ا لأولى .
---
(9/478)
وقوله : "مداد كلماته ") هو بكسر الميم ، وبالف بين الدالين ، ويعني به : كلامه القديم المنزه عن الحروف ، والأصوات ، وعن الانقطاع ، رالتغييرات ، كما قال تعالى : ا تل ئؤكان افي هدا ، لمجمض لئ لنندأنب!ؤ!ل أن تفد بمت لي في ولؤ جثنايمثلهء مدجما ، أ الكهف : 09 اأ. وزنة عرشه ؟ أي : وزنه الذي لا يعلم مقداره إلا الله . ورضا نفسه : يعني أن رضاه عمن رضي عنه من النبيين والضالحين لا ينقطع ، ولا ينقضي ، له انما ذكر النبت ت هذه الأمور على جهة الإغياء ، والكثرة التي لا تنحصر ، منئهأ على أن الذاكر بهذه الكلمات ينبني له أن يكون بحيث لو تمكن من تسبيح الله وتحميده وتعظيمه عددأ لا يتناهى ولا ينحصر لفعل ذلك ، فحصل له من الثواب ما لا يدخل في حساب . وقوله : "واذكز بالهدى هدايتك الطريق ، والسداد سداد السهم ، ) هذا الأمر منه ف يدل على أن الذي ينبني له أن يهتئم بدعائه فيستحضر معاني دعواته في تلبه ، ويبالغ في ذنهرها بلفظه بضرب من الأمثال ، وتاكيد الأقوال ، فاذا قال : اهدنن الصراط المستقيم " وسذدني سداد الشهم الضائب كان أبلغ وأهم من قوله : اهدني وسذدفي فقط ، وهذا واضخ .
---
(9/479)
(16 ) ومن باب : التسلي عند الفاقات بالأذكار (قوله : إن فاطمة اشتكمث ما تلقى من الزحى في يدها) يعني : من مشفة الطض في الزحى. وفي غير كتاب مسلم : أنها جزت بالرحى حتى مجلت يدها ، المرأة وقئت البيت حتى اغبز شعرها ، وخبزت حتى تنئر وجهها . ففيه دليل على : أن اوجها المرأة رإن كانت شريفة عليها أن تخدم بيت زوجها ، رتقوم بعمله الخاصق به . وبه قال بعض أهل العلم ، وقيل : ليس عليها شي ة من ذلك سواء كانت شريفة أو دنيئة ، حكاه ابن خوازمنداد عن بعض أصحابنا ، ومشهور مذهب مالك الفرق بين الشريفة فلا يلزمها ، وببن من ليس كذلك فيلزمها . ومحمل هذا الحديث على أن فاطمة تبزعت بذلك ، ولا خلاف في استحباب ذلك لمن تبرع به ؛ لأنَّه معونة للزوج ، وهي مندوبئ إليها ، وقد تقدَّم هذا في النكاح . وفيه ما يدلّ على ما كان عليه ذلك الضدر الضالح من شظف العيش وشذة الحال ، وأن الهه تعالى حماهم الدنيا مع أنه متهنهم منها ، وهي سئة الله في الأنبياء والأولياء ، كما قال ب سينه : "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل "(1). وقوله : فجاء وقد أخذنا مضاجعنا) كان هذا المجيء بالليل ؛ لأنَّه قد جاء في بعض طرقه أنه قال : طرقهما ليلا. وقوله : "على مكانكما") أي : اثبتا على مكانكما ، والزماه . وقعود النبي ف بين ابنته وبين علث دليل على جواز مثل ذلك ، وأنه لا يعاب على من فعله إذا لم يؤد ذلك إلى اطلاع على عورة ، أو إلى شي ج ممنوع شرعا. وقوله : "ما ألفيتيه عندنا"(2 ، ) أي : ما وجدت الخادم عندنا ، ثم إنه أحالهما على ال!مبيح والتهليل والتكبير ؟ ليكون ذلك عوضا من الذعاء عند الكرب والحاجة ، كما كانت عادته عند الكرب على ما يأتي في الحديث المذكور بعد هذا . ريمكن أن يكون من جهة أنه أحمبئ لابنته ما يحعت لنفسه ، إذ كانت بضة منه ، من
---
(9/480)
التصريح بسؤال خادم ، والله تعالى أعلم . وقوله : كان لكض يقول عند الكرب : "لا إله إلا الله العظيم الحليم . . . الحديث ") قال الطبرقي : كان السلف يدعون بهذا الدعاء ، ويسقونه : دعاء الكرب ، فإنَّ قيل : كيف يسئى هذا دعا" وليس فيه من معنى الدعاء شي ش ، وإنَّما هو تعظيئم لثه تعالى ، وثناب عليه ؟ فالجواب : إن هذا يسئى دعاء لوجهين : أحدهما : أنه يستفتح به الدعاء ، ومن بعده يدعو . وقد ررد في بعض طرقه : إثم يدعو" . وثانبهما : أن ابن عيينة قال - وقد سئل عن هذا - : أما علمت أن الله تعالى يقول : "إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسالتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ؟"(1). وقد قال أمية بن أبي الصلت : إذا أثنى عليك المرء يؤما كفاه من تعرضك (2)الثئاء
للحمير إدراكا تدرك به الشياطين . ويفيد : أن كل نوع من الملائكة والشياطين موجودان ، وهذا معلونم من الشرع تطعا ، والمنكر لشيء منهما كافز ، وكانه إنما أمر النت ئ بالدعاء عند صراخ الديكة لتزفن الملائكة على ذلك الدعاء ، فتتوافق الدعوتان ، فيستجاب للداعي ، والنه أعلم . وإنما أمر بالتعؤذ من الشيطان عند نهيق الحمير ، لأن الشيطان لما حضر مندلحا. . - . ى من شزه ، فينبني أن ثمعؤد منه .
أ(18 ) ومن باب : أحب الكلام إلى الله تعالى ، (1) (قوله مض وقد سنل - أي الكلام أفضل ؟ - فقال : "ما اصطفى الله لملائكته ، أو لعباده : سبحان الله وبحمده " . وفي الرواية الأخرى : "إن أحعبئ الكلام إلى الله : سبحان الله وبحمده ") .
---
(9/481)
قلت : هذا الحديث يعارضه قوله في حديث أبي هريرة المتقدِّم في فضل التهليل . ولم يات أحذ بافضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك . وقوله : "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله "(ا). وقد تقدَّم في حديث سمرة ابن بخدب قوله ت : "أحبئ الكلام إلى الة أربع : سبحان الله ، والحمد لله ، رلآ إله إ لا الله ، والله ممبر ، لا يضرك بايهن بدأت "( 2 ) فقد مضى هذا ا لحديث بأن ا لأربعة متساوية في الأفضلية والأحبية من غير مراعاة تفديم بعضها على بعض ، رلا تاخيره ، وأن التسبيح وحده لا ينفرد بالأفضلية ، ولا التهليل وحده أيضًا ينفرد بها . واذا ثبت ذلك فحيث أطلق أن أحد هذه الأذكار الأربعة أفضل الكلام أو أحته ، إنما يراد إذا انضت إلى أخواتها الثلاث المذكورة في هذا الحديث . إما مجموعة في اللفظ ، أو في القلب بالذكر ؛ لأنَّ اللفظ إذا دذ على واحد منهما بالمطابقة دذ على سانرها باللزوم . وبيان ذلك : أن معنى سبحان الله : البراءة له من كل النقائص ، والتنزيه معنر عما لا يليق بجلاله ، ومن جملتها تنزيهه عن الشركاء ، والأنداد ، وهذا معنى لا إله الله إلا الله . هذا مدلول اللفظ من جهة مطابقته " ولما وجب تنزيهه عن صفات النقص لزم اتصافه بصفات الكمال ؟ إذ لا واسطة بينهما ، وهي المعتر عنها بالحمد لثه . ثم لما تنزه عن صفات النقص ، واتصف بصفات الكمال وجبت له العظمة والجلال ،
---
(9/482)
وهو معن : الله أكبر. فقد ظهر لك أن هذه الأربعة الأذكار متلازمة في المعنى ، وأنها قد شملها لفظ الأحئية ، كما جاء في الحديث . فمن نطق بجميعها فقد ذكر الله تعالى باحب الكلام إلى الهه ، لفظا ومعنى ، ومن نطق باحدها فقد ذكر الله ببعض أحب الكلام نطقا ، ولجميعها معنف من جهة اللزوم الذي ذكرناه . فتدتجز هذه الطريقة ، فإنَّها حسنة ، ولها يرتفع التعارض المتوئم بين تلك الأحاديث - والله تعالى أعلم -. ولم أجذ في كلام المشايخ ما يقنع ، وقد استخرت الله فيما ذكرته .
أ(19 ) ومن باب : ما يقال عند الأكل والشرب والدعاء للمسلم بظهر الغيب أا(1) قوله : "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة ، فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة ، فيحمده عليها") قد تقدَّم أن الأكلة بفتح الهمزة : المرة الواحدة من الأكل ، وبالضم : اللقمة ، ويصلح هذا اللفظ هنا للتقييدين ، وبالفتح وجدته مقيدا في كتاب شيخنا . والحمد هنا بمعنى الشكر ، وقد قدمنا : أن الحمد يوضع موضع الشكر ،
---
(9/483)
ولا ئوضع الشكر موضع الحمد ، وفيه دلالة على أن شكر النعمة ، وإن قتت سبب ا نيل رضا الله تعالى ؟ الذي هو أشرف أحوال أهل الجنة ، وسيأتي قول الله عز وجل ا لأهل الجنة حين يقولون : "أعطيتنا ما لم تنط أحدا من خنقك ، فيقول : ألا ا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ أفيتولون : ما هو ؟ ألم تبينرد وجوهنا ، وتذخلنا الجنة ، ونزحزحنا عن النار ؟ ، (1) ، نيتول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا"(2). وإنما كان الشكر معببا لذلك احرام العظيم ؛ لأنَّه يتضئن معرفة المنعم ، وانفراده بخلق تلك النعمة ، وبايصالها إلى المنعم عليه ، تفضلا من المنعم ، وكرما ، ومنة ه وان المنعم عليه فقير محتاج إلى تلك النعم ، ولا غف به عنها ، فقد تضئن ذلك معرفة حق الله وفضله ، وحق العبد وفاقته ، وفقره ، فجعل الله تعالى جزاء تلك المعرفة تلك الكرامة الشريفة . وقوله : "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر النيب إلا قال الملك : ولك بمثل ") المسلم هنا : هو الذى سلم المسلمون من لسانه ويده ، الذي يحمت للناس ج ما يحمث لنفسه ؛ لأنَّ هذا هو الذكط يحمله حاله وشفقته على أخيه المسلم أن يدعو له بظهر الغيب ، أي : في حال غيبته عنه ، وإنما خصن حالة الغيبة بالذكر لبعدها عن دا الرياء ، والأغراض المفسدة أو المنقصة ؟ نانه في حال الغيبة يتمخغر الاخلاص ، لأ وبصخ قصد وجه الله تعالى بذلك ، فيوافقه الملك في الدعاء ، ويب!ره على لسان رسوله ت بأن له مثل ما دعا به لأخيه . والأخؤ هنا : ير الأخوة الدينية ، وقد تكون معها صداقة ومعرفة ، وقد لا يكون ، وقد يتعين ، وقد لا يتعين ، فإنَّ الإنسان إذا دعا لإخوانه المسلمين حيث كانوا ، وصدق الله في دعائه ، وأخلص فيه في حال النيبة عنهم ، أو عن بعضهم ، قال الملك له ذلك القول ، بل قد يكون ثوابه أعظم ؛ لأنَّه دعا بالخير ، رقصده للاسلام ، ولكل المسلمين ، والله تعالى أعلم .
---
(9/484)
أ(20) ومن باب : يستجاب للعبد ما لم يعجل أو يدعو بإثم ، (1) (قوله : "يستجاب للمسلم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ") يعي بالعبد : ) الصالح لقبول دعانه ، فإنَّ إجابة الدعاء لا بذ لها من شروط في الداعي ، وفي الدعاء ، وفي الشيء المدعو به ، فمن شزط الداعي بأن يكون عالما بانه لا تادر على حاجته إلا الله تعالى ، وأن الوسائط في قبضته ، ومسخرة بتسخيره ، وأن يدعو نبية صادقة ، وحضور تلب ، وأن يكون مجتنبا سل الحرام ، كما قذمناه ، وألآ (1 ) هذا العنوان لم يرد في المنهم ، واستلركناه من التلخيص .
---
(9/485)
يحل من الدعاء فيتركه ويقول : قد دعوت فلم يستجمبئ لي كما قال في الحديث . ومن شروط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا ، كما ث قال : ما لم ية غ بإثم أو قطيعة رحم ، فيدخل في الإثم كل ما ياثم به من الذنوب ، فى ربدخل في تطيعة الرحم جميع حقوق المسلمين ، ومظالمهم . وقد بئنا أن الرحم ضربان : رحم الإسلام ، ورحم القرابة . ريستحسر : يعني : ويمل . يقال : حسر البعير يحسر ، ويحسر حسورا : أعيا. واستحسر وتحشر مثله . وفاندة هذا : استدامة الدعاء ، وترك الياس من الإجابة ، ودوام رجائهما ، واستدامة الإلحاح في 51 الدعاء ؟ فإنَّ الله يحعت الملخين عليه في الدعاء ، وكيف لا ؟ والدعاء مخ العبادة و! وخلاصة العبودية . والقائل : قد دعرت ، فلم أر يستجاب لي ، ويرشرك - قانطا- من ص رحمة الله ، وفي صورة الممتن بدعائه على ربه ، ثم إنه جاهل بالإجابة ، فإنَّه يظنها إسعافه في عين ما طلب ، فقد يعلم المهه تعالى : أن في عين ما طلب مفسدة ، فيصرفه عنها ، فتكون إجابته في الصرف ، وقد يعلم الله أن تاخيره إلى وقت آخر أصلح للداعي ، وقد يؤخره لأنه سبحانه يحعبئ استماع دعائه ، ودوام تضزعه ، فتكثر أجوره حتى يكون ذلك أعظم وأفضل من عين المدعو به لو قضي له ، وقد قال ت : "ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث : إما أن يستجاب له ، راما أن يذخر له ، راما أن يكفر عنه "(1) ، ثم بعد هذا كله ناجابة الدعاء - وإن وردت في مواضع من الشرع مطلقة - في مقين دة بمشيئته ، كما قال تعالى : ا فينهشف ماتذعون ، لرإن شإ ، أ الأنعام : 141 . ( 1 ) رواه الترمذي (3568) .
فلم ات حتى امسيت ، فوجدتهما قد ناما ، قحلبت كما حنت احلب ، لهجتت
---
(9/486)
(21) ومن باب : الدعاء بصالح ما عمل من الأعمال قريب حديث النار : الطوفان هنا : المطر الكثير. وأووا إلى غار : أي : انضثوا ، وقد تقدَّم أنه يمه ربفصر. فانحطت : نزلت . فاطبقت عليهم : أي : صارت على باب النار كالطبق ، وأرعى عليهم : أي أرعى الماشية وأكتسب بها لأجل العيال والأبوين . وناى بي الشجر : أى : بعد عليه ابتناء الشجر الذي رعاه بماشيته . رالحلاب : إناء يحلب فيه ، وهو المحلب أيضًا ، وقد يكون اللبن . ويتضاغون : يضخون من الجوع ، والضناء ممدرد ، مضوم الأول ، صوت الذتة والناتة . والدأب : الحال اللازمة ، والعادة المتكررة . وافرج : افتح . والفرجة بضم الفاء ؛ لأنَّه من الشعة ، فاذا كان بمعنى الراحة قلت فيه : فزجة رفرخ ، وفعل كل واحد منهما فرج بالفتح والت!خنيف ، يقرج بالضم لا غير. والغبوق : شرب العشي ، والصبوح : ثرب الصباح ، والجاشرية : عند انغلاق الفجر ، يقال : جشر الصبح ، أى : انفلق . وبغيت : طلبت . وقوله : لا تفضق (1) الخاتم إلا بحقه )0 الغضق : الكسر رالفتح ، والخاتم : كناية عن الفرج ، وعذرة البكارة ، وحفه : التزويج المشروع . والفرق : مكيال يسع (ا) هذه اللغظة من رراية البخارى رتم (2215) كما جاء في التخريج . ورواية مسلم كما في التلخيص : "لا تنتح " .
---
ثلاثة اصع ، ويقال : بفتح الراء ، وهو الأفصح ، وقال ابن دريد : ويقال بسكونها ، وقد أنكره غيره ، وفيه أبواب من الفقه لا تخفى .
(9/487)
أ(22) ومن باب : فضل الدوام على الذكر ، (1) قول حنظلة الأسيدي : هو بتخفيف الياء منسوب إلى أسيد ، قيل (2) من بني تميم . ومن رواه الأسدي فقد أخطا ، وكان من كثاب رسول الله جمين . وقوله : نافق حنظلة). إنكار منه على نفسه لما وجد منها في خلوتها خلاف ما يظهر منها بحضرة النب!! فخاف أن يكون ذلك من أنواع الئفاق ، وأراد من نفسه أن يستديم تلك الحالة التي كان يجدها عند موعظة النبي ب سيئي ولا يشتغل عنهابشيء . وقوله : يذئهرنا بالجنة والثار ، كا ، لا رأي عنيئ ) 0 الذي قرأته وقئذته رأي عين منصوبا على المصدر ، كانه قال : كا ، لا نراها رأي عين . قال القاضي : ضبطناه بالضم أي : كا ، لا بحال من يراهما ، وبصخ النصب على المصدر. وقوله : عاف!نشا الأزواج ، والأولاد ، والضيعات ) الرواية الصحيحة ( 1 ) المعروفة : عافسنا بالعين المهملة ، وبالفاء والسين المهملة ، ومعناه : عالجنا وحاولنا. في الصحاح : المعافسة : المعالجة ، يعني أنهم إذا خرجوا من عند رسول الله لكض اشتغلوا بهذه الامور ، وتركوا تلك الحالة الشريفة التي كانوا يجدونها عند سماع موعظة رسول الله ت ومشاهدته ، وروى الخطابن هذا الحرف : عانسنا بالنون ، وفشره بلاعبنا ، ورواه القتيبي : عانشنا ؟ بالنون والشين المعجمة ، وفشره بعانقنا ، والتقييد الأول أولى رواية ومعنى . وقد جاء مفسرا في الرواية الأخرى فقال : ضاحكت الصبيان ، ولاعبت المرأة . والضيعات : جمع ضيعة ، وهي : ما يكون ساش الرجل منه من مال ، أو حرفة ، أو صناعة . وقد تقدَّم ذكرها . و(قول أبي بكر -رضي الله عنه - : والذ! إنا لنلقى مثل هذا) رذ على غلاة دو الصوفية الذين يزعمون دوام مثل تلك الحال ، ولا يعرجون بسببها على أهل ولا بز مال ، ووجه الرذ أن أبا بكر - رضي الله عنه - أفضل الناس كلهم بعد رسول الله ج
---
(9/488)
سغ إلى يوم القيامة ، ومع ذلك فلم يأغ خروجا عن جبثة البشرية ، ولا تعاطى من دوام الذنهر وعدم الفترة ما هو خاضة الملائكة . وقد اذعى قوم منهم دوام الأحوال ، وهو بما ذكرناه شبه المحال ، وإنما الذي يدوم المقامات ، لكنها تتفاوت فيها المنازلات . والمقام : ما يحصل للأنسان بسعيه وكسبه . والحال : ما يحصل له بهبة رئه . ولذلك قالوا : المقامات مكاسب ، والأحوال مواهب ، ومن طاب وقته علا نعته ، ومن صفا وارده طاب وزده . وعلى الجملة فسنة الله في هذا العالم الإنساني جعل تمكينهم في تلوينهم ، ومشاهدتهم في مكابدتهم . وسز ذلك أن هذا العالم متوشط بين عالمي الملائكة والشياطين ، فمثهن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون ، وبسئحون الليل والنهار لا يفترون ، ومكن الشياطين في الشر والإغواء بحيث لا ينفلون ، وجعل هذا العالم الإنسافي متلؤنا فيمئهنه ويلونه ، ريفنيه ويبقيه ، ريشهده وبفقده ، وإليه أشار صاحب الشفاعة بقوله : "ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة". وقال في حديث أبي ذر -رضي الله عنه - : "وعلى العاقل أن يكون له ساعاتي : ساعة يناجي فيها رئه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفكر فيها في صنع الله ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم رالمشرب "(ا). هكذا الكمال ، وما عداه تزهاث وخيال . ور رقوله : "لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم س الملاثكة") هكذا صخت الرواية بالواو العاطفة للطرف الثافي على الأرل ، ويفيد أنه ط رت مصافحة الملائكة على حصول حالتين لنا : على حال مشاهدة الجنة والنار مع ذكر الله تعالى ودوام ذلك ، فيعني - والله تعالى أعلم - أن التمكن : إنما هو أن يشاهد الأمور كئها بالله تعالى ، فاذا شاهد الجنة مثلا لم يحجنه ما يشاهد من نعيمها وحسنها من رزية الله تعالى ؟ بل : لا يلتفت إليها من حيث هي جئة ؟ بل : من حيث هي أنها محل القرب من الله تعالى ، ومحل رؤيته ، ومشاهدته ، فيكون فرقه في جمعه ، وعطاؤه في
(9/489)
منعه ،
---
ومن كان كذلك ناسب الملائكة في معرفتها ، فبادرت إلى إكرامه ، ومشافهته ، وإعظامه ، ومصافحته . والمسؤول من الكريم المتعال أن يمنحنا من صفاء هذه الأحوال .
---
بيان الأول : أنه قد يندم ، ويقلع ، وبعزم ، ولا يكون تائبا شرعا ، إذ قد يفعل ث بة ذلك شخا على ماله ، أو لئلا يعئره الناس من ذلك . ولا تصح التوبة الشرعية إلا بالنية ، والإخلاص فإنَّها من أعظم العبادات الواجبات ؟ ولذلك قال تعالى : ا توبؤأ ال أشه توبه يرنصرط ، (التحريم : 18 . وأما الثاني : فبيانه أنه يخرج منه من زنى مثلا ، ثم قطع ذكره ، فإنَّه لا يتاتى منه غير الندم على ما مض من الزنى ، وأما العزم والإقلاع فنير متصؤرين منه ، رمع ذلك فالتوبة من الزنى صحيحة في حقه إجماعا ، وبهذا اغتز من قال : إن الثدم يكفي في حد التوبة ، وليس بصحيح ؛ لأنَّه لو ندم ولم يقلع ، وعزم على العود لم يكن تانبا اتفاتا ، ولما فهم بعض المحققين هذا حذ التوبة بحذ آخر ، فقال : هي ترك اختيار ذنب سبق منك مثله حقيقة أو تقديرأ لأجل الله تعالى ، وهذا أسذ العبارات وأجمعها ، وبيان ذلك : أن التائب لا بذ أن يكون تاركا للذنب ، غير أن ذلك الذنب الماضي قد رتع ، وفرغ منه ، فلا يصخ تركه ؟ إذ هو غير متمكن من عينه لا تركا ولا فعلا ، وإنما هو متمكن من مثله حقيقة ، وهو زنى اخر مثلا ، فلو جمبئ لم تصخ منه حقيقة الزنى ، بل : الذي يصخ منه أن يقذر أنه لو كان متمئهنا من الزنى لتركه . فلو قذرنا من لم يقغ منه ذنمت لم يصخ منه إلا اتقاء ما يمكن أن يقع ، لا ترك مثل ما وقع ، فيكون متقيا لا تائبا ، فتدتجر هذا . وقوله : لأجل الله تعالى) ؟ تحزز من ترك ذلك لغير الله تعالى ؟ إذ ذلك لا يكون تائبا اتفاقأ ، فلا يكون فعله ذلك توبة ، وهذا واضح ، وإذا تقزر هذا فاعلم أن لمى الباعث على التوبة تنبية إلهي ينئه به من أراد سعادته لقبح الذنوب وضررها ؟ فإنها سمونم مهلكة تفج ت على الإنسان سعادة
(9/490)
الدنيا والاخرة ، وتحجبه عن معرفة الله تعالى في الدنيا ، وعن تقريبه وكرامته في الدار الآخرة . ومن انكشف له هذا ، وتففد نفسه وجد نفسه مشحونة بهذا السئم ، ومملوءة بهذه الآفات ، فلا شك في
---
أنمن حصل له علم ذلك انبعث منه خوف هجوم الهلاك ، فتتعين عليه المبادرة لطلب أمر يدفع به عن نفسه ضرر ما يتوقعه ، ويخافه . فحينئذ ينبعث منه الندم على ما فزط ، وترك مثل ما سبق مخافة عقوبة الله تعالى ، فيصدق عليه أنه تائب ، فإنَّ لم يكن كذلك كان مصزا على المعصية ، وملازما لأسباب الهلكة . ثم اعلم بعد هذا : أن الذنوب إما كفر ، وإفا غيره ، فتوبة الكفر عند موته مقطوغ بقبولها ، وما عداها فمقبولة ، إن شاء الهه بوعده الصدق ، وقوبه الحق . وأعني بالقبول : الخلاص من ضرر الذنوب حتى يرجع كمن لم يعمل ذنبا ، كما قال ف : "التانب من الذنب كمن لا ذنب له "(ا). ثم إن الذنب الذي يئاب منه إما انا حق الله تعالى ، وإما حق لغيره ، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك الذي اك ذكرناه ، غير أن منها : ما لم يكف الشرع منه بمجرد الترك ، بل : أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء كالصلاة والصوم ، ومنها : ما أضاف إليها كفارة كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك ، فلا يرتفع ضرر ذلك الذنب إلا بتركه ، وفعل ما أمره الله تعالى به من القضاء والكفارة . وأما حقوق الآدميين ، فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها ، فإنَّ لم توصل إلى أربابها لم يتخثمن من ضرر ذلك الذنب إلا بتركه وفغل ما أمره الله به ، ومن اجتهد في الخروج عن الحقوق ، فلم يقدز على الخروج منها ، فعغو الهه مامول ، وفضله مبذول ، وكم ضمن من التبعات ، وكم بذل من السيئات بالحسنات ، وتفصيل ما أجملناه موجوذ في كتب مشايخ الإسلام - رحمهم الله -.
وقوله : "لثه أشذ فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوتة مهلكة . . . الحديث ") هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله تعالى لتوبة عبده التائب لتو
---
(9/491)
فإنَّه يقبل عليه بمغفرته ورحمته ، ويعامله معاملة من يفرح به . ووجه هذا المثل : أن العاصي حصل بسبب معصيته في تبضة الشيطان وأشره . وقد أشرف على الهلاك . فاذا لطف الله تعالى به ، وأرشده للتوبة خرج من شؤم تلك المعصية ، وتختص من أ!فمر الشيطان ، ومن المهلكة التي أشرف عليها ، فاقبل الله تعالى عليه برحمته ومغفرته ، وبادر إلى ذلك مبادرة هذا ا لذي قد ا نتهى به ا لفرح ، واستفزه السرور إلى أن نطق بالمحال ، ولم يشعز به لشذة سروره وفرحه ، والا فالفرح الذي هو من صفاتنا محاذ على الله تعالى ؛ لأنَّه اهتزاز وطرب ، يجده الإنسان من نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به الانسان نقصانه ، ويسذ به خئته ، أو يدفع عن نفسه ضررا ، أو نقصا ، وكل ذلك محاذ على الله تعالى ، فإنَّه الكامل بذاته ، الغني بوجوده ، الذي لا يلحقه نقص ولا قصور ، لكن هذا الفرح عندنا له ثمرج وفائدة ، وهو الإقبال على الشيء المفروح به ، وإحلاله المحل الأعلى ، وهذا هو الذي يصخ في حقه تعالى ، فعتر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسميتها الشيء باسبم ما جارره ، أو كان منه بسبب . وقد قذمنا أن ذلك القانون جار في كل ما أطلقه الله تعالى على نفسه من الصفات التي لا تليق به ، كالغضب ، والرضا ، والضحك وغير ذلك . وقوله : "دزية مهلكة") الرواية المشهورة بفتح الدال ، وتشديد الواو المكسورة ، وتشديد الياء مفتوحة ، وهي : القفر والفلاة . وجمعها : داوي . قالالخليل : الداوية : المفازة . وقال الهروي في خظبة الحجاج : قد لفها القيل بعضلبئ أزوع خزاج من الذاوئ قال : يعني الفلوات . الواحدة : داوية . في الصحاح : الدو والدؤقي : المفازة ، وكذلك الدزبة ، لأنها مفازة مثلها فنسبت إليها ، قال : والدؤ أيضًا موضع ، وهو من أرض العرب . وربما قالوا : داوية ، قلبوا الواو الأولى الساكنة ألفا لانفتاح ما قبلها ، ولا يقاس عليه . وقوله : "مهلكة")0 الرواية بفتح الميم واللام ، أي
(9/492)
: يهلك فيها ، وقد
---
قيد مهلكة بضم الميم وكسر اللام ، اسم فاعل ، أي : يهلك من يدخل فيها ، لى انما سئيت القفر المفازة من تولهم : فوز الرجل ، إذا هلك . وقيل : بل على طريق التفاؤل ، كما يقال للديغ : سليم . و(قول الحارث بن سويد : حدثني عبد الله حديثين ، أحدهما عن رسول الله ت ، والآخر عن نفسه ) . ثم حذث بالحديث الذي ذكرناه في التوبة . ولم يذكر مسلتم الحديث الأول الذي حذث به نفسه ، وقد ذكر البخارقي والترمذي وغيرهما ، فقال : المؤمن يرى ذنوبه كانه تاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، والفاجر يرى ذنوبه كذباب مز على أنفه فقال به هكذا(1) فهذا هو الذي حدثه ابن مسعود عن نفسه ، لا أنه رفعه للني رز وهو صحيح المعنى ، يشهد له ما في الوجود من خوف المؤمن ، وتهاون الفاجر والمنافق .
وقوله : "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد"). يعني : لو علم ذلك ، وجزد النظر إليه ، ولم يلتفت إلى مقابله ، وأما إذا نظر إلى مقابل كل واحد من الطرفين ، فالكافر يياس من رحمة الله تعالى ، والمؤمن يرجو رحمة الله تعالى ، ويخاف عقابه ، كما قال بعضهم : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا . وقوله : "قال رجل لم يعمل خيرا 3 ا) تظ ") هذه الرواية فيها توشغ في العبارة ؛ لأنَّا نعلم قطعا أن هذا الرجل كان متدئنم أ بدين حق ، ومن كان كذلك لا بذ أن يعمل حسنة : صوما ، أو صلاة ، أو تلفظا بخير ، أو شيئًا من الخير الذي تقتضيه شريعته ، دانما الرجل كان خظا" كثير المعاصي ، وقد نمن على هذا المعنى في رواية أخرى في الأصل نقال : "أسرف رجل على نفسه فلما حضرته الوفاة .. . "(2) وذكر الحديث .
---
(9/493)
(ا) في التلخيص : حسنة. (2) انظر هذ. الرراية في صحيح مسلم (6 275) (5 2). وقوله : "لنن قدر الله عليه ليعذتجنه ") الرواية التي لا يغرف غيرها قدر ث بتخفيف الدال ، وظاهر هذا اللفظ أنه شك في كون الله تعالى يقدر على إحيائه ة وإعادته ، ولذلك أمر أهله أن يحرتوه ، وبمعحقوه ، ويذروا نصفه في البر ونصفه فيء البحر ، فكانه توئع إذا فعل به ذلك تعشرث إعادته . وقد أوضح هذا المعنى ما رواه بعض الرواة في غير كتاب مسلم قال : "فلعلي أضل الله بم أي : أغيب عنه . وهذا ظاهز في شك الرجل في علم الله تعالى ، وا 1 ولى ظاهرب في شئهه في أنه تعالى يقدر على إعادته ، رلما كان هذا انقسم الناس في تأويل هذا الحديث قسمين : القسم الأول طائفة حملعث ذلك على ظاهره ، وقالوا : إن هذا الرجل جهل صفتين من صفات الهه تعالى وهما : العلم والقدرة ، ومن جهل ذلك لم يخرخ من اسم الإيمان ، بخلاف من جحدها ، واليه رجع أبو الحسن الأشعري ، مع أنه قد كان تقدَّم له توذ اخر بانه مكفر. وهو مذهب الطبري . قلت ؟ وهذه الطانفة انصرفث عن معنى الحديث إلى معنى آخر ، اختلف فيه المتكلمون . وهو تكفير من اعترف بأن الله قادز بلا تدرة ، وعالم بلا علم ، ومريذ بلا إرادة ، فهل يكفر أم لا يكفر ؟ على اختلاف القولين المتقذمين . ولا يختلف المسلمون في أن من جهل أو ش! في كون الباري تعالى عالما به وقادرا على إعادته كافر ، حلال الدم في الدنيا ، مختد في النار في الآخرة ؛ لأنَّ ذلك معلوئم من الشرع بالضرررة ، وجخده أو الشك فيه تكذيب للرسول ت قطعا. فمقتضى الحديث بظاهره أن الرجل كافز على مقتضى شريعتنا. ولذلك قالت طائفة : فلعل شزع ذلك الرجل لم يكن فيه الحكم بهتكفير من جهل ذلك ، أو شك فيه ، والتكفير حكئم من الأحكام الشرعية فيجوز أن تختلف الشرائع فيه ، كما قال تعالى : ! لئي جعتنا مئه!نم شزعة ريتهاجا ، أ ا لمائدة : 148 .
---
(9/494)
قلت : وهذا فيه نظز ؛ لأنَّ هاتين القاعدتين من ضروريات الشرانع ، إذ لا تصخ شريعة مع الجهل ، فإنَّ الله عالئم ، قادر ، مريد ، ولا مع الشك فيها ، فلا بد أن تنمق الرسل لقومهم على هذه الصفات ، مع أن العقول تدل عليها ، فيكون العلم بها(ا) ضروريا من كل الشرانع ، كما كان ذلك ضروريا في شرعنا ، فيكون جاحد ذلك والشاذ فيه مكذبا لرسوله ، وتكذيب الرسل كفز في كل شرع بالضرورة. وقالت طانفة ثالثة : يجوز أن تكون شريعة أولئك القوم أن الكافر يغفر له ، فإنَّ هذا جائز عقلآ ، فلا يبعد أن يكون ذلك شرعا مع القظع بأن ذلك لا يصخ في شرعنا ، ومن ش! فيه فهو كافر. قلت : وهذا يتطئب أيضًا أحاديث الشفاعة المتقدِّمة في الإيمان ، نانها تقتضي أن أهل التوحيد المعذبين في النار إذا شفع فيهم أنبياؤهم . ، وشفع نبينا جا حتى لا يبقى أحذ من أمته في النار قال حينئذ نبتنا : "يا رب ! انذن لي فيمن قال لا إله إلا الله ، فيقول الهه له : ليس ذاك إليك ، نحينئذ يقول الله : وعزتي وجلالي ! فانر لأخرجن من قال لا إله إلا الله "(2 ، . وعمومات القرآن تدك على أن من مات كافرا ، كاننا من كان ، لا يخرج من النار ، ولا تناله شفاعة شافع . القسم الثاني : قالوا إنه لم يكن جاهلآ بصفة من صفات الله تعالى ، ولا شاكا في شيء منها ، وتاؤلوا الحديث تأويلات : أحدها : أن الرجل صدر عنه ما صدر حالة خوف غالب عليه ، فغلط ، فلم
---
(9/495)
يؤاخذ بقوله ذلك ، كما لم يؤاخذ القائل : ا اللهم أنت عبدي وأنا ربك "(1). وثانبها : أن هذا جار على نحو ما قد جرى في كلام العرب البليغ مِمَّا يسميه أهل النقد : قجاهل العارف ، وسئاه ابن المعتز : مزج الشك باليقين ، وهو نحو قوله تعالى : ا لمتلم ي!ش أؤ يخثف ، أطه : 144 ، وقوله : ا رثآ أؤ تإصتم لعك هدى أزق ضنلإقبيب " أسبا : 24 ، ، وكقول الشاعر : ؟لا ظبتة الوغساء بين جلاجل وبين النقا "نمت أنم أتم سالم وقد علم أنها هي . ومثله كثير. وثالثها : أن "تدر" معناه : اضيق ". يعني أن الة تعالى إن ناتشه الحساب وضيقه عليه ليعذبنه أشد العذاب ، ومنه قوله تعالى : اومن قدر يئ رلخه " أالطلاق : 7 م أي : ضيق عليه ، وهذا التأويل حسق ، لكنه يخص لفظ قدر ، والتأويل الأول أولى لأنه يعتم : (تدر) ، و(لعتي أضل الله ) ويشهد لكون هذا الحديث مؤؤلا ، وليس على ظاهره قوله في اخر الحديث حين قال الله له : "ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : خشيتك يا رب ". فلو كان جاهلا بالة ، أو بصفاته ، لما خافه ، ولما عمل شيئا لثه ، والله تعالى أعلم . وقوله : "راشه الله مالا") كذا الرواية الصحيحة ، ومعناه : ممسبه الله مالآ . قال ابن الأعرابي : الرياش : المال . قال القتبي : أصله من الريش ، كان المعدم لا نهوض له مثل المقصوص من الطير. وعند الفاسي : رأسه بالف مهموزة وسين مهملة ، وهو تصحيف ، ولا ونجه له . وفي رواية : "رغسه الة مالا وولدا" بغين
---
(9/496)
معجمة وسين مهملة ، أي : أعطاه الله تعالى من ذلك كثيرا . قال أبو عبيد : يقال : رغسه الله يرغسه رغسا : إذا كان ماله ناميا كثيرا ، وكذلك هو في الحسب . ر (قوله : "فلم يبتهر") بالهاء رواية الشيوخ ، رعند ابن ماهان : لم يبتئر ، بالهمزة ، وكلاهما بمعنى واحد ، والهمزة تبدل من الهاء ، وكذلك ابتار وامتار بالباء ، والميم فإنَّها تبدل منها . وقد فشرها في الأصل فقال : لم يدخر. وهو تفسيز صحيح ، ربشهد له المعنى والمساق . وقوله : "فإنَّ الله يقدر على أن يعذبني ") وجدنا الروايات والنسخ لختلف في ضبط هذه الكلمات ، وحاصله يرجع إلى تقييدين : أحدهما : تثديد إن مكسورة ونصب الاسم المعبهم بها ، ويقدر مرفوعا فعل مضارع ، وهو خبر إن ، على أن يعذبنى متعئق به ، وهذا خبر محقق عن الرجل ، أخبر به عن نفسه أن الله يقدر على تعذيبه ، وهي رواية صحيحة لقول من قال : لم يكن جاهلآ رلا شاتها ، وإنما كان خائفم أ. وثانيهما : تخفيف إن المكسورة ، ورفع اسم الله تعالى بعدها ، وجزم يقدز بها عل! مشددة الياء ، ويعذنجني مجزوئم على جواب الشرط . وهذه الرواية مصححة لقول من قال : إن الرجل كان شائ على ما ذكرناه . والاول أشبه ما اخترناه ، والله تعالى أعلم . ومعظم فوائد هذا الحديث أن المسرف على نفسه لا يياس من رحمة ط الله تعالى ومغفرته ، وفيه ما يدلّ على أنه كان من شرانع من قبلنا أن للرجل أن ر. يورث ماله من يشاء من الناس ، فنسخ ذلك شرعنا .
(3) ومن باب : رجاء مغفرة الله سبحانه وسعة رحمته
(قوله : "ليس أحذ أحت إليه المدح من الله ")0 القييد الضحيح رفع أحب ثو على أنه خبر مقذم ، ومبتدؤه المدح ، والجملة خبر ليس . وقد قين ده بعغر الناس : أحمبئ بالنصب على أنه خبر ليس ، وفيه بغد وتكلف ، وقد تقدَّم القول في محبة الله غير مزة ، ومعناها هنا : أن الله تعالى يثيب مادحيه بما لا يثيب أحذ من الخلق مادحه .
---
(9/497)
وقوله : "من أجل ذلك مدح نفسه ") أي : من أجل أن يثيب مادحيه مدح نفسه ، لا أنه يهتز للمدح ويرتاح له ؟ فإنَّ ذلك من سمات فقرنا وحدوثنا ، وهو منزه عن ذلك كئه ، وقد تقدَّم القول في غيرة الله تعالى في الحدود .
(16).
وقوله : "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ، وشمتغفرون الله نيغفر لهم ") هذا خبز من الله تعالى عن ممكن مقدؤر الوقوع مع علم الله تعالى بانه لا يقع ، فحصل منه أن الله تعالى يعلم حال المقذر الوقوع ، كما يعلم حال المحفق الوقوع ، ونحو من هذا قول الله تعالى : اولؤ ر!أ لعا وأ لما نهوأ عنه " والأنعام : 28أ. وقد عئر بعض العلماء عن هذا بأن قال : إن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون ، وما لو كان كيف كان يكون ، وحاصل هذا الحديث : أن الله تعالى سبق في علمه أنه يخلق من يعصيه فيتوب ، فيغفر له ، فلو قدر ألا عاصي يظهر في الوجود لذهب الله تعالى بالطانعين إلى جثته ، ولخلق من يعصيه فينفر له ، حتى يرجد ما سبق في علمه ، وبظهر من مغفرته ما تضثنه اسمه الغمار ، ففيه من الفواند رجاء مغفرته والطماعية في سعة رحمته .
---
(9/498)
وقوله : "لما قضى الله الخنق كتب في كتاب عنده (ا) على نفسه ، ) أي : لما أظهر قضاءه ، وأبرز أمره لمن شاء ، أظهر كتابا في اللوح المحفوظ ، أو فيما شاءه شضاه خبر حق ، ووعد صدق : "إن رحمتي تنلب غضبي " أي : تسبقه وتزيد عليه . وقد تقدَّم القول في غضب الله ورضاه ، وأن ذينك يرجعان إلى إرادته ، وإلى متعثقها من إيصال المنافع والألطاف إلى المرحوم ، أو إيصال المضاز والانتقام للمغضوب عليه ، فيرجع غضبه إذا ورحمته إلى الأفعال ، وهو المراد بهذا الحديث . وإذا ظهرهذا فمعنى غلبة الرحمة ، أوسبقها على ما جاء في الرواية الأخرى : أن رققه بالخلق ، وإنعامه عليهم ، ولظفه بهم ، أكثر من انتقامه ، وأخذه ، كيف لا ؟ وابتداؤه الخنق وتكميله وإتقانه ، وترتيبه ، وخلق أول نوع الإنسان في الجنة ، كل ذلك رحمته السابقة ، وكذلك ما رتب على ذلك من الثعم والألطاف في الدنيا والآخرة ، وكل ذلك رحمالت متلاحقات ، ولو بدأ بالانتقام لما كمل لهذا العالم نظام . ثم العجب أن الانتقام به كملت الرحمة والإنعام ، وذلك أن بانتقامه من الكافرين كملث رحمته على المؤمنين ، وبذلك حصل صلاحهم وإصلاحهم ، وتثم لهم دينهم وفلاحهم ، وظهر لهم قدر نعمة الله عليهم في صرف ذلك الانتقام عنهم ، فقد ظهر أن رحمته سبقث غضبه ، لى انعامه غلب انتقامه . مة وقوله : "إن لله منة رحمة أنزل منها رحمة") هذا نمق في أن الرحمة يراد ب بها متعئق إرادة الحق سبحانه ، لا نفس الإرادة ، وأنها راجعة إلى المنافع والئعم ، ومقتض هذا الحديث : أن الله تعالى علم أن أنواع النعم التي ينعم بها على خنقه مئة نوع ، فارسل منها فيهم في هذه الذار نوعا واحدا ، فيه انتظمت مصالحهم ،
---
(9/499)
وحصلت مرافقهم ، كما نئه عليها في بقثير الحديث ، فاذا كان يوم القيامة كئل لعباده المؤمنين ما بقي في علمه ، وهو اشسعة والتسعون ، فكملت الرحمة كتها للمؤمنين ، رهو المشار إليه بقوله : ا فلا تغلم نفمش قآ أخفى ئم تن ت! أغين " أالسجدة : 7 ا ، رهو الذي صرح به النث ت حيث قال لهم : "إن في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعث ، ولا خطر على قلب بشر ، بنه ما أظلعكنم عليه "(1). رعند هذا يفهم معنى قوله تعالى : ا ومحان بالئ!منين اجيما ، أ الأحزاب : 43 م . فإنَّ رحيما من أبنية المبالنة التي لا شيء أبلغ منها ، ويفهم من هذا أن الكافرين لا يبقى لهم في النار رحمة ، ولا تنالهم نعمة ، لا من جنس رحمات الدنيا ، ولا من غيرها ، إذ كمل كل ما علم الهه من الرحمات للمؤمنين ، ختم الله لنا بما ختم للمؤمنين ، ووتانا أحوال الكافرين . وما قلناه في هذا الحديث أرلى من قول من قال : إن معنى توله : "إن لثه مئة رحمة" الاغياء والتكثير ؛ لأنَّه لم تخر عادتهم بذلك في مئة ، وإنما جرث بالسبعين ، ولو جرث بذلك لكان ذلك مجازا ، وما ذكرناه حقيقة ، فكان أولى ، رالله أعلم . وقوله : "إن الله خلق - يرم خلق الشموات رالأرض - مئة رحمة" معنى ( 1 ) رواه مسلم " 2825 ) . رواه ا لبحارقي /666ء ، ، ومسلم / ، ء113 . لم!ه ههه *
---
(9/500)
خلق - هنا - : تذر ، وهو أصل هذا اللفظ ، كما قال زهير : رلأتت تقري ما خلفت وبف نحى القؤم يخلق ثمَّ لا يقري أى : يقذر ، ويكون معناه : إن الله أظهر تقديره لتلك الرحمات ، أي : علمه بها يوم أظهر تقديره لاختراع السموات . وبصخ أن يقال : إن معنى خلق : اخترع وأوجد يوم خلق الشموات والأرض المنة الرحمة ، فارسل في هذا العالم نوعا واحدأ من تلك الأنواع ، واذخر في الجنة سائرها ليوم القيامة . وقوله : "كل رحمة طباق بين السماء والأرض ") إغياء وتكغير ، وقد جاء هذا الاغياء بهذا النوع كثيرأ في الشرع واللغة ، وقد جاء في بعغى ألفاظ رواة مسلم : "جعل الله الزحم منة جزء" رري بضم الراء وفتحها ، وهو بمعنى الرحمة ، واللفظ الذي ذكرناه هو الأصح والأوضح . وقوله : فاذا امرأة من الشبي تبتغي إذا رجدث صبيا أخذته ) قال القاضي :
كذا في جميع نسخ مسلم ، ولرواته فيه وهم ، وفي كتاب البخاري : تسعى ، مكان تبتغي . وهو ونجه الكلام وصوابه . قلت : ولا خفاء بحسن رواية تسعى ، ووضوحها ، لكن لرواية (تبتغي ) وجه واضح ، فلا يغذ الرواة كتهم ، وذلك أن تبتغي معناه : تطلب ولدها ، وحذف مفعوله للعلم به .
---
(10/1)
، (4 ) ومن باب : من عاد إلى الذنب فليعد إلى الاستغفار ، (1) قوله : "أذنب عبذ ذنبم أ فقال : اللهتم اغفز لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا علم أن له رتجا يغفر الذنب وياخذ بالذنب ، ) يدلّ على عظيم فاندة ت الاستغفار ، وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته ، وحلمه وكرمه ، ولا شك في أن ! هذا الاستنفار ليس هو الذي ينطق به اللسان ، بل الذي يثبت معناه في الجنان ، ان فيحل به عقد الإصرار ، ويندم معه على ما سلف من الأوزار . فاذا الاستغفار ترجمة التوبة ، وعبارب عنها ، ولذلك قال : "خياركم كل مقتن تؤاب ، (2). قيل : هو الذي يتكزر منه الذنب والتوبة ، فكتما وقع في الذنب عاد إلى التوبة ، وأما من قال بلسانه : أستنفر الله ، وقلبه مصز على معصيته ، فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار ، وصغيرته لاحقة بالكبار إذ لا صغيرة مع إصرار ، ولا كبيرة مع استغفار . وفاندة هذا الحديث أن العود إلى الذنب ، وإن كان أتبح من ابتدائه ، لأنه انضاف إلى الذنب نقض التوبة ، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها ، لأنها : انضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم ، وأنه لا غافر للذنوب سواه . وقوله : "اعمذ ما شئت فقد غفرت لك ") قد تقدَّم القول فيه ، ونزيد هنا نكتة" وير : أن هذا الأمر يحتمل أن يكون معناه الاكرام ، فيكون من باب قوله تعالى : ا ؟ظوها بسثرءافين ، أالحجر : 46أ. واخر الكلام خبر عن حال المخاطب ؛ لأنَّه مغفور له ما سلف من ذنبه ، ومحفوظ -إن شاء الله - فيما يستقبل من شانه .
---
(10/2)
(5) ومن باب : في قوله تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات " قوله : "إني عالجت امرأة") أي : حاولتها لأصيب منها غرضآ وشهوة ، وأقص المدينة : ما بعد منها ، يعني موضا خاليا عن الناس . وقوله : إني أصبت منها ما دون أن أمشها) أي : لم أجامنها ، وقد قال في رواية أخرى : إن الذي أصاب منها قبلة قئلها ، وإياها عنى في الرراية الأخرى بقوله : أصبت حذأ ، ويحتمل أن يكون معناه أصبت منها شيئا ممنوعا ، لأن الحذ في أصله هو المنع ، وبحتمل أنه ظن أن في ذلك حذأ فاطلق عليه ذلك . وهو الظاهر من توله : أصبت حذا فاقنم علض كتاب الله . وقوله : فانطلق فاتبعه النبيء رجلأ فدعاه ، فتلا عليه هذه الاية : ا وأقر ألضلزبخرفي ألنهاروزلفا قن ايل ، أهود : 1114) 0 إنما دعاه النبي ظ بعد انصرافه عنه ، لأن الله تعالى أنزل الاية بعد انصرافه بسبب سؤال الرجل المذكور كما جاء نضا في رواية أخرى : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فاتى النبي رز فذكر ذلك له . قال : فنزلت الاية(ا). فبتين أن الاية نزلت بسبب ذلك الرجل . واقامة الصلاة : القيام بفعلها على سنتها والمثابرة عليها. وطرنا النهار : هما الصبح والعصر. وقيل : الظهر والعصر ، وقيل : العشاء والمغرب . وزلفا من الليل : بفتح اللام على تراءة الجماعة ، وهي الشاعات المتقاربة ، جمع بهفة ، وير القربة والمنزلة ، (1 ) رواه الترمذي (3113) عن معاذ بن جبل - رض الله عنه -.لا يياص من قبول التوبة ولو قتل مئة نفس 126831 عن أبي سعيد الخدرئ ، أن نب! الله في محبهز قال : (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسال عن أعلم أهل الأرض ، فدذ على راهب ، فاتاه ، فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا ؟ فهل له من
---
(10/3)
تمز أجود من هذا ، فدخلت ، فوثب عليها وتتلها ثم تركها نادما. فجاء باكيا إلى النبي ف فنزلت الآية ، فقال له : "هل حضرت معنا الصلاة؟" فقال : نعم . قال : اغفر لك " ، وقيل : إنها كانت صلاة العصر . أ(6) ومن باب : لا يناس من قبول التوبة ولو قتل مئة نفس أ(1) (قول الراهب لقاتل التسعة والتسعين إنه لا توبة له ). دليل على : قتة علم ( 1 ) هذا العنوان لم يرد في المفهم ، راصتلركناه من التلخيص .
---
ذلك الراهب ، وعدم فطنته ، حيث لم يصمبئ وجه الفتيا ، ولا سلك طريق التحزز على نفسه ، ممن صار القتل له عادة معتادة ، فقد صار هذا مثل الأسد الذي لا يبالي بمن يفترسه ، فكان حقه ألآ يشافهه بمنع التوبة مداراة لدفع القتل عن نفسه ، كما يدارى الأسد الضاري ، لكنه أعان على نفسه ، فإنَّه لما آيسه من رحمة الله وتوبته قتله ، بحكم سبعيغه وياسه من رحمة الهه وتوبته عليه ، ولما لطف الله به بقي في نفسه الرغبة في السؤال عن حاله . فما زال يبحث إلى أن ساقه الله تعالى إلى هذا الرجل العالم الفاضل ، فلما ساله نطق بالحق والصواب ، فقال له : ومن يحول بينك وبينها ؟ مفتيا ومنكرا على من ينفيها عنه ، ثم إنه أحاله على ما ينفعه ، وهو مفارقته لأرضه التي كانت غلبت عليه بحكم عادة أهلها الفاسدة ، ولقومه الذين كانوا يعينونه على ذلك ، ويحملونه عليه . وبهذا يعلم فضل العلم على العبادة ، فإنَّ الأؤل غلبت عليه الرهبانية . واغتز بوصف الناس له بالعلم ، فافتى بغير علم ، فهلك في نفسه وأهلك غيره . والثاني كان مشتنلا بالعلم ومعتنيا به ، فوفق للحق ، فاحياه الله في نفسه ، وأحيا به الناس. قال القاضي : ومذهب أهل السثة والجماعة أن التوبة تكفر القتل كسائر الذنوب ، وهو قول كاقة العلماء ، وما روي عن بعضهم من تشديد في الزجر وتورية في القول فانما ذلك لنلا يجترىء الناس على الدماء ، وقد اختلف في توله تعالى : ا ومن يقعذ مزضما فتعتذا فجزاز ؟ جهنص خلدا فيها ،
(10/4)
أالنساء : 193 فقيل معناه : إن جازاه ، وقيل : الخلود : طول الإقامة لا التابيد ، وقيل : الاية في رجل بعينه قتل رجلأ له عليه دم بعد أخذ الدية ثم ارتد ، وقد تقدَّم القول على أن كل ما دون الشرك يجوز أن يغفره الله تعالى ، وأنه ليس من ذلك شيء كفرأ ؟ قتلا كان أو ترك صلاة أو غيرها ، كما دذ عليه قرله تعالى : ا إن أك لايغفرأن ئشرك لأولغنرمائق ثد لمن يث!لإ ، أ النساء : 148 . ولقوله في حديث عبادة بن الصامت - رضي
---
الله عنه - : "تبايعوني على ألآ تشركوا بالله شيئا ، ولا
---
(10/5)
تسرتوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حزم الله إلا بالحق ، فمن أصاب شيئا من ذلك نعوقب به ، فهو كفارة له ، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه ، فامره إلى الله إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عذبه "(ا ، ، ولقوله ت في حديث عبادة أيضًا : "خمس صلواتي افترضهن الهه عز وجل على العباد ، فمن جاء بهن لم يخئع منهن شيئا كان له عند الله عهذ أن يغفر له ، ومن لم يات بهن فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه "(2 ، . وهذه حجج صرقي تبئيئ فساد مذهب المكفرة جضيء من ذلك . وقوله : "نصف الطريق ") أي : بلنع نصفه ، يقال ؟ نصف الماء والشجرة وغيرهما ؟ إذا بلنع نصف ذلك . وقوله : ناى بصدره ) أي : نهض به مع ثقل ما أصابه من الموت ، وذلك دليل على صحة توبته وصدق رغبته . وقوله : "فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : إنه جاء تائبآ مقبلا بقلب "). هذا نصق صريح في أن الله تعالى أطلع ملائكة الرحمة على ما في تلبه من صحة قصده إلى التوبة وحرصه عليها ، وأن ذلك خفي على ملائكة العذاب حتى قالت : إنه لم يعمل خيرا قط . ولو اظلعث على ما في قلبه من التوبة ، لما صخ لها أن تقول هذا ، ولا تنازع ملائكة الرحمة في قولها : إنه جاء تائبا مقبلآ بقلبه ، بل شهدت بما في علمها ، كما شهد الآخرون بما تحفقوه . لكن شهادة ملائكة الرحمة على إثبات ، وشهادة ملائكة العذاب على عدم علم ، وشهادة الإثبات مقذمة . فلا جرم لئا تنازع الصنفان وخرج كلاهما عن الشهادة إلى الدعاوى ، بعث الله إليهما ملكا حاكما يفصل بينهما ، وصؤره بصورة الادفي ، إخفاة عن الملانكة وتنويها ببي آدم ، وأن منهم من يصلح لأن يفصل بين الملائكة إذا تنازعوا . وقوله : "فجعلوه بينهم ") فيه حجَّة لمالك على قوله إن المتخاصمين إذا نن حئهما بينهما رجلا يصلح للتحكيم لزمهما ما يحكم به ، وقد خالفه في ذلك فلا الشافعي . م وقوله : "فقيسوا ما بين الأرضين فالى
(10/6)
أيتهما كان
---
أدنى فهوله "). دليل على أن الحاكم إذا تعارضت الأقوال عنده ، وتعذرث الشهادات ، وأمكنه أن يستدذ بالقرانن على ترجيح بعغر الدعاوى ، نفذ الحكم بذلك ، كما فعله سليمان عليه السلام حيث قال : ائتوني بالسكين أشفه بينهما . تنبيه : قال القاضي : جعل الله قربه من القرية علامة للملك عند اختلافهم مع عدمهم معرفة حقيقة باطنه التي الملع الهه عليها ، ولو تحفقوا توبته لم يختلفوا ولم يحتاجوا للمقايسة . قلت : وهذه غفلة منه عن قول ملانكة الرحمة : جاء تانبا مقبلا بقلبه إلى الله عزوجل . وهذا نص في أن ملائكة الرحمة علمت ما في قلبه ، فلو علمت ملائكة العذاب ما في قلبه لما تنازعوا ، لأن الملائكة كتهم ، لا يخفى عليهم أن تبولم التوبة إذا صخت في القلب ، وعمل على مقتضاها بالجوارح بالقدر الممكن مقبولة الما بفضل الله تعالى ووعده الصادق ، والأحسن ما ذكرناه إن شاء الله تعالى ، وإنما جعل الهه قرب تلك الأرض سببا مرخحا لحجَّة ملائكة الرحمة. ومصدقا لصحة التوبة ، وفيه دليل على أن أعمال الظاهر عنوان على الباطن . وقوله : "فاوحى الله إلى هذه أن تباعدى وإلى هذه أن تقزبي ") . إنما كان ذلك لما حكم الحاكم بقياس الأرض . وبفهم منه أن الرجل كان أقرب إلى الأرض التي خرج منها ، فلو ترك الله الأرض على حالها ، لقبضته ملانكة العذاب ، لكن غمرته الألطاف الإلهية ، رسبقت له العناية الأزلية ، فقربت البعيد ، وألانت الحديد. ريستفاد منه أن الذنوب وإن عظمت ، فعفو الله أعظم منها ، وأن من ألهم منو صدق التوبة . فقد سلك به طريق اللطف والقربة . من (7) ومن باب : يفجر من ظهرت معصيته حتى تتحقق توبته ، وقبول الله تعالى للتوبة الضادقة ، وكيف تكون أحوال التاثب العير : الابل التي عليها أحمائها. وقد جتى للناس أمرهم ؟ أي : كشفه وأوضحه . يعني : أنه بثين لهم رنجهه .
---
(10/7)
وقوله : فقل رجل يريد أن يتغتب يظن أن ذلك سيخفى له ) كذا وقع هذا الكلام في سائر روايات مسلبم ، وفي نسخه ، وسقط من الكلام (إلا) قبل (يظن ) وبه يستقيم الكلام . وير إيجابئ بعدما تضتنه (قل ) من معنى النفي ، لأن معنى قوله : قل رجل بمعنى : ما رجل ، فكانه قال : ما رجل يريد أن يتنيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له . وقوله : فانا إليها أصعر) هو بالعين المهملة ، ومعناه : أميل . وقوله : وتفارط النزو) أي : تقدَّم النزاة. والفرط والفارط : المتقذم . وجمعه : فزاط . والأسوة : القدوة . والمغموص عليه : المعيب ، المئهم ، المحتقر.
---
(10/8)
وقوله : حبسه بزداه والنظر في عظفيه ) البزدان : يعني به : الرداء والإزار ، والرداء والقميمر ، وستاهما بزدين ؛ لأنَّ القميص والإزار قد يكونان من برود ، والبرود : ثيابئ من اليس فيها خطوط . ويحتمل أن تسميتها بزديخن على طريقة : العمرين ، والبكرين ، والقمرين . والعظف : الجانب . وكان هذا القائل كان في نفسه حقذ ، ولعثه كان منافقا ، فنسب كعبا إلى الزهو والكبر ، وكانت نسبة باطلة بدليل شهادة العدل الفاضل معاذبن جبل ، إذ قال : بئس ما قلت . والله يا رسول الله ! ما علفنا عليه إلآ خيرا . فيه جواز الذئم والتقبيح للمتكثم في حق المسلم ء بالعيب والقبيح ، ونصرة المسلم في حال غيبته ، والزذ عن عزضه . وقوله : إذ رأى رجلا مبئضا يزول به السراب ) ، هو بكسر الياء : اسم فاعل ، من : بئين فهو مبيض ؟ أي : أظهر بياض نفسه في السراب . ويزول : يتحرك ويضطرب . والشراب : ما يرى نصف النهار كائه ماء . وقوله : "كن أبا خيثمة") هذه صيغة أمبر ، ومعناها الخبر ، أي : هو أبو خيثمة ، وقيل معناها : لتوجذ أبا خيثمة ، واسمه عبد الله ، وقيل : مالك بن قيس . ولمزه المنافقون : عابوه ، واللمز : الطعن والعيب . وقافلا : راجعا. والبث : أشذ الحزن . وطفقت : أخذت ، وير من أفعال المقاربة على ما تقدم . وأظل تادما : أقبل ، وهو ربافي . وزاح : ذهب وزال . وأجمعت صذقه : عزمت عليه .
---
(10/9)
وقوله : وكان إذا تدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ) إنما كان يفعل ذلك م!ش ليبدأ بتعظيم بيت الله تبل بيته ، وليقوم بشكر نعمة الهه تعالى عليه في سلامته ، الص ويسلم عليه الناس ، وليسن ذلك في شرعه . والجدل : الخصومة المحكمة . والفهر!ي هنا : الإبل التي يخمل على ظهورها . ومرارة بن ربيعة ، كذا وقع في كتاب مسلم ، وذكره البخاري : ابن الربيع . وذكره أبو عمر بالوجهين ، ونسبه مسلم فقال : العامري . والصواب : العفري ، وكذا ذكره البخارقي ، وابن إسحاق ، وأبو عمر بن عبد البر ، وهو منسوفي لعمرو بن عوف .
و (قرله : نهى رسول الله ت عن كلامنا - أيها الثلاثة -) هو دليل على وجوب هجران من ظهرت معصيته ، فلا يستم عليه إلا أن يفلع وتظهر توبته . والثلاثة مرفوع على الصفة د (أى) ، ويجوز نصبه على الاختصاص ، وحكى سيبويه ؟ اللهم اغفر لنا أيتها العصابة . وتنكرت : تغئرت . واستكانا : سكنا ، أي : خضعا وذلآ ، رأشبئ القوم : أصغرهم . وأجلدهم : أتواهم . وأسارقه النظر : أي أنظر إليه بطزف خفئ . وتسؤرت الجدار ؟ أي : علوت سوره . وأتثدك الهه ؟ أي : أسالك بالله ، ومنه النشيد ، وهو : رفع الصوت بال!عر وغيره .
---
(10/10)
و (قول أبي قتادة : الله ورسوله أعلم ) ظاهره : أنه أجابه عند إلحاحه عليه بالشؤال ، فيكون قد كتمه . فيكون مخالفا للنهي . وقد تؤؤل بأن أبا قتادة قال ذلك ل!نفسه مخبرأ عن اعتقاده ، ولم يقصد كلامه ولا إسماعه . قلت : ربحتمل أن يقال : إن أبا قتادة فهم أن الكلام الذي في عنه إنما هو الحديث معه والمباسطة ، وإفادة المعاني ، فأمَّا مثل هذا الكلام الذي يقتضي الإبعاد رالمنافرة ، فلا - والله أعلم - ألا ترى أنه لم يرذ عليه السلام ، ولا التفت لحديثه ؟ أ والثبطي : واحد النبط ، وهم العامرون لتلك الأراضي ، وسئوا بذلك لأنهم ينبطون المياه ؟ أي : يستخرجونها . وتاضمت بها التنور فسجرتها ؟ أي : قصدت بالصحيفة التنور فرميتها فيه ، وأحرقتها ، ويقال : تيمم بالياء وبالهمزة . والمضيعة : بفتح الميم وكسر الضاد ، وسكونها : الضياع ، وهو الإهمال ، وترك المبالاة به حتى يضيع . وقوله : الحقي باهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر) هذا يد 4 على أن : الحقي باهلك ليس من ألفاظ الطلاق ، لا من صرائحه ، رلا من كناياته الظاهرة ، وغايته : أن يكون مما يحتمل أن يراد به الطلاق إذا نوى ذلك . ر قوله : وضاقث عل! الأرض بما رحبت ) أي : برخبها ، وما مصدرية ، والرحب - بضم الراء - : السعة . وأوفى : أطل وأشرف . وسنع : - بفتح السين وسكون اللام - : جبل بالمدينة معروف . وقوله : فخررت ساجدام هذه سجدة الشكر ، وظاهر هذا ألها كانت معلومة عندهم ، سولأ بها فيما بينهم ، وقال بها الشافعي ومالك في أحد قوليه ، ومشهور مذهبه الكراهة . وركغر الفرس : اجراؤه الجري الشديد . وكشوته للبشير ثوبيه مع كونه ليى له غيرهما ، دليل على جواز مثل ذلك إذا ارتجى حصول ما يستبشر به ، وهو دليل على جواز إظهار الفرح بامور الخير والدين ، وجواز البذل والهبات ج عندها ، وقد نحرعمرلماحفظ سورة البقرة جزورا. الف النن وقوله : فته لفاني الناس فوجا فوجا يهننوفي بالتوبة) أي :
(10/11)
زمرة زمرة ، وجماعة
---
بعد جماعة . وفيه دليل على جواز اللهنئة بامور الخير ، بل على نذبتيها إذا ج كانت دينية ؟ فاثه إظهار السرور بما يسز به أخوه المسلم ، وإظهار المحبة ، وتصفية بامو الفلب بالمودة . حي وقوله : فقام طلحة بن عبيد الله يرول حتى صافحني وهناني ) دليذ لمن للدا بخيبر ، قال : وقلت : يا رسول الله ! إن الله إنما لجاتي بالصدى ، وإر من
قال بجواز القيام للذاخل والمصافحة . رقد بثنا الخلاف في ذلك في الجهاد . ر (قوله : وكان كعب لا ينساها لطلحة) أي : تلك القومة ، والبشاشة التي صدرث له منه . ومعناه : أن تلك الفعلة فدت في تلبه محثمه ، وألزمته حزمته حتى عذها من الأيدي الجسيمة ، والمنن العظيمة . وقوله : إن من توبي أن أنخلع من مالي صدتة إلى الله وإلى رسوله ) أي : إن من علامات صدق توبتي ، أو من شنهر توبتي أن أتصدق بمالي ، أي إن علي ذلك ، فهي صينة نذر والتزام ، خرج مخرج الشكر وابتغاء الثواب . أقز عليه النبي ف فكان ذلك جائزا ، رلم يدخل في عموم النذر المنهي عنه بقوله : "لا تنذروا"(ا) وقد بثنا ذلك فيما تقدَّم . وعلى مقتضى هذا اللفظ فقد وجب عليه إخراج كل ماله ، لكن لما كان ذلك يؤدي إلى أن يبقى فقيرأ محتاجا ، وربما يفضي
---
(10/12)
به ذلك إلى سؤال الناس ، والى الدخول في مفاسد ، اكتفى الشرع منه ببعضه فقال : "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ) وهذا البعض الذي أمره بامساكه هو اكثر ، والمتصذق به هو الأقل ، كما قال في حديث سعد : (الثلث والثلث كثير"(1) كما تقدم . وقوله : فما أعلم أحدأ أبلاه الله في صذق الحديث أحسن مما أبلاني ) أي : أنعم ، ومنه قوله تعالى : ا رفي ذنكم ببن تن فئ لكئم عظتم " أ البقرة : 49 ، ؟ أي : نعمة . ويقال في الخير والشر ، ثلاثيا ورباعيا ، وقد جمع بينهما زهير فقال : . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأنجلاهما خير البلاء الذي ينلو(2) وأصله من الابتلاء ، وهو الامتحان والاختبار. ويمتحن بالخير والشر كما قال تعالى : ا رتجلوكم بالمثش رالخيرفئنة ، أ الأنبياء : 137 والعسرة : الشدة وسوء الحال ، وهو العسر أيضًا ، وتزيغ : تميل وتذهب اثز تا- بخهنر "
رسول الله جمبلى امرنا حتى مضى الله ميه ، لهبدلك لمالى الله عز وجل . ءوس اثتثة اتذفي فتفوأ" أ التوبة : 1118 وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا
أ التوبة : 117 ، أي : ألهمهم أسباب التوبة ، وأعانهم عليها ، ليتوبوا ، أي : ليقبلها منهم . وقيل : تاب عليهم قبل توبتهم ، وليتوبوا : أي : ليدوموا عليها . وقوله : ما أنعم الله عل! من نعمة قظ بعد أن هداني للاسلام أعظم في نفسي من صذتي رسول الله رز ألا أكون كذبته فاهلك ) كذا عند جميع رواة مسلم رالبخاري : ألا أكون وهي زاندة ، وتقدير الكلام : أن أكون ، وكما قال : ا ما منعك ألأتنبد ، أ الأعراف : 12 ، معناه : أن تسجد ، وقد رواه الأصيلي عن البخاري : إلا أن أكون كذبته ، وليست بشي " والأرلى الصواب . والرجس : المستخبث ، المستقذر ، المذموم . وقوله : كنا خلقنا أيها الثلاثة) أي : أخروا عن المنافقين ، ولم يقض فيهم بشي " وقد بئين ذلك في بقية الحديث .
---
(10/13)
ومن باب : من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه يعني : أن التوبة تصخ وتفبل دائما إلى الوقت الذي تطلع فيه الشمس من حيث تغرب ، فاذا كان ذلك طغ على كذ قلب بما فيه ، ولم تنفغ توبة أحد ، وهذا معنى توله تعالى : ! تؤم يم ق بغغر. اينظ ربك لايخفع نفساإيننهالزتكنء امنث من تئل أؤكسبث فئ ، يننهم فيم بم ، أ الأنعام : 1158 وسز ذلك وسبثه : أن ذلك هو أؤل قيام الساعة ؟ فاذا شوهد ذلك ، وعوين حصل الإيمان الضروري ، وارتفع الإيمان بالغيب الذي هو المكئف به ، وسيأتي القول في تحقيق القول في طلوع الشمسى من مغربها .
وقوله : اإن الله ينسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، وينسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ") وقد تقدم الكلام على اليد المنسوبة لهه تعالى غير مزة ، وهذا ط الحديث أجري مجرى المثل الذي يفهم منه دوام قبول التوبة ، واستدامة اللطف ن والزحمة ، وهذا تنزذ عن مقتضى : النني ، القوي ، القاهر ، إلى مقتضى : اللطيف ، الرؤوف ، الغافر ، وهو نحو توله تعالى : اتن ذا أكذى يفرض الله تزضا حسنا " أ البقرة : 245أ. وقوله ت : "من يقرض غير عدوم ، ولا ظلوم "(ا). فمن لطيف لظفه : أنه خاطبنا مخاطبة الأخذ لنفسه ، المحتاضغ . ومن عجائب كرمه : أنه استقرض مِمَّا ماله استقراض من احتاج ، فنساله بعظمته وجلاله ، وبحق محمد وآله ؟ أي : يعا ملنا بلظفه ، وعفوه ، وإفضا له .
كتاب النرهد (1 و2 و3 و4 و5و 6) باب : هوان اله نيا على الله تعالى ، رأئها سجن المؤمن (1 ) (قوله : والناس كنفتنه ) أي : بجنبتيه ، ويروى كتفيه : تثنية كتف ، وهو منصوبئ على الظرف ، وهو خبر المبتدأ . وقوله : بجذي أس!) أي : صنير الأذنين ، ضيق صماخهما ، وقيل : هو الذي لا يسمع .
---
(10/14)
وقوله : "والته للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ا) الدنيا : وزنها فعلى وألفها للتانيث ، وهي من الذنو بمعنى القرب ، وهي صفة لموصوف محذوف ، كما قال تعالى : ا وما اليؤة أل!يخآ إلأمتغ ألغرس ، أآل عمران : 1185 غير أنه قد كثر استعمالها استعمال الأسماء ، فاس!تغي عن موصرفها ، كما جاء في هذا الحديث . والمراد : الدار الدنيا ، أو الحياة الدنيا التي تقابلها الذار الأخرى ، أو الحياة ت ان الأخرى ، ومعنى هوان الدنيا على الة : أن الهه تعالى لم يجعنها مقصودة لنفسها ؟ ل بل : جعلها طريقا موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه ، وأنه لم يجعنها دار إقامة ، ولا جزاء ، وإنَّما جعلها دار رحلة وبلاء ، وأنه مئكها في الغالب الكفرة والجفال ، رحماها الأنبيا" والأوليا" والأبدال . وقد أوضح النبف ل! هذا المعنى فقال : "لو كانت الانيا تعدل عند الهه جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء"(ا) ، وحسبك بها هوانا ، أن الله قد صغرها ، وحفرها ، وذفها ، وأبغضها ، وأبغض أهلها ، ومحئيها ، ولم يرض لعاقل! فيها إلا بالتزؤد منها ، والتاهب للارتحال عنها ، ويكفيك من ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذي عن النب!ج عت أنه قال : (الذنيا ملعونة ، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ، أو عالم ، أو متعئم "(2) - ومن التنافى . وباب : لا تنظر إلى من فضعل الله عليك في الدنيا ، وانظر إلى من فضنت عليه . وباب : في الابتلاء بالدنيا ركيف يعمل فيها ، وباب : الخمول في الدنيا والتقتل منها. (ا) رراه ابن ماجه ( 4110) . ( 2 ) رواه الترمذي ( 2 232 ) .
---
(10/15)
رواه من حديث أبي هريرة ، وقال : حديث حسن غريب . ولا يقهم من هذا الحديث إباحة لعن الدنيا وستها مطلقا ؟ لما رويناه من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ت : الا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر ، إنه إذا قال العبد : لعن الله الدنيا ، قالت الدنيا : لعن الله أعصانا لرئه "(ا). خرجه الشريف أبو القاسم زيد بن عبد الله بن مسعود الهاشمي . وهذا يقتضي المنع من سمبئ الدنيا ، ولغنها ، ووجه الجمع ا بينهما : أن المباح لغنه من الدنيا ما كان منها منعدأ عن الله ، وشاغلا عنه ، كما قال ا بعض السلف : كل ما شغلك عن الله تعالى من مال ورلد فهو عليك مشؤوم ، وهو الذي نته الله على ذمه بقوله تعالى : ا إنَّما ألجزة آلذيا لعت ولؤونرنجه يروتفافزبتنم وي ثز فى أشي ئؤلى وألآؤند ، أ الحديد : 20أ ، وأما ما كان من الدنيا يقرب إلى الله تعالى ، ويعين على عبادة الله تعالى ، فهو المحمود بكل لسان ، والمحبوب لكل إنسان ، فمثل هذا لا يسب ، بل : يرغب فيه ، ويحمبئ ، وإليه الإشارة بالاستثناء حيث قال : "إلا ذكر الله ، وما والاه ، أو عالم ، أو متعلم " وهو المصزح به في قوله : "فإنَّها نعممت مطيه المؤمن ، عليها يبلغ الخير ، وبها ينجو من الشر" وبهذا يرتفع التعارض بين الحديثين. والنه أعلم . وقوله : "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر") إنما كانت الدنيا كذلك لأن
---
(10/16)
المؤمن فيها مقتذ بقيود التكاليف ، فلا يقدر على حركة ولا سكون إلا أن يفسح له الشرع ، فيفك قيده ، ويمئهنه من الفعل أو الترك ، مع ما هو فيه من توالي أنواع البلايا والمحن والمكابدات من الهموم ، والغموم ، والأسقام ، والآلام ، ومكابدة الأنداد ، والأضداد ، والعيال ، والأولاد . وعلى الجملة : (وأشذ الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل . يبتلى الرجل بحمب دينه ، (ا) كما قاله ت . وأئ سخز أعظم من هذا؟! ثم هو في هذا السجن على غاية الخوف والوجل ، إذ لا يدري بماذا يختم له من عمل . كيف وهو يتوفع أمرا لا شيء أعظم منه ، ويخاف هلاكا لا هلاك فوته ؟! نلولا أنه يرتجي الخلاص . ق هذا السجن لهلك مكانه ، لكنه لطف به ، فهؤن عليه ذلك كثه بما وعد على صبره ، وبما كشف له من حميد عاتبة أمره . والكافر منفد عن تلك الحالات بالتكاليف ، امن من تلك المخاويف ، مقبذ على لذاته ، منهم! في شهواته ، معتز بمساعدة الأيام ، ياكل ربتمتع كما تاكل الأنعام ، وعن تريب يستيقظ من هذه الأحلام ، ويحصل في السجن الذي لا يرام ، فنسال الله السلامة من أهوال يوم القيامة . وقوله : ا تهنكم البم ثر " أ التكاثر : ا أ) يعني : شغلكم الإكثار من الدنيا ومن الالتفات إليها عما هو الأولى بكم من الاستعداد للاخرة ، وهذا الخطاب
---
(10/17)
للجمهور إذ جنس الانسان على ذلك مفطور ، كما قال تعالى : !لأبذتجون آلعالجة " ؤذطذ*فز ، أالقيامة : 20 - 21أ ، وكما قال : ! زين سناس صمبئ الثمهؤت مت أون ؤألبيين . . . " الاية أآل عمران : 4 ا! . وقوله : "يقول ابن آدم مالي مالي ") أي : يغتز بنسبة المال إليه وكونه في يديه ، حتى ربما يعجب به ويفخر به ، ولعئه ممن تعب هو في جمعه ، ويصل غيره إلى نفعه ، ثم أخبر بالأوجه التي يتتفع بالمال فيها ، وافتتح الكلام ب (إنما) التي هي للتحقيق والحصر فقال : "إنما له من ماله ثلاث " وذكر الحديث . وقوله : "أو أعطى فاقتنى") هكذا وقع هذا اللفظ عند جمهورهم ، وونجهه : أخشى عليكم ؟ ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم ، كما بسطت
أعطى الصدقة فاقتنى الثواب لنفسه ، كما قال في الرواية الأخرى : ة تصدقت فامضيت "(ا) ، وقد رواه ابن ماهان : "فاقنى" بمعنى : ممسب غيره ، كما قال تعالى : ا أغف وأتف ، أالنجم : 148 . وقوله : فوافوا صلاة الفجر مع رسول المهه صة) أي : جاؤوا فاجتمعوا عند صلاة الصبح معه ليقسم بينهم ما جاء به أبو عبيدة ؛ لأنَّهم أرهقتهم الحاجة والفاقة التي كانوا عليها ، لا الحرص على الدنيا ، ولا الرغبة فيها ، ولذلك قال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أبشروا وأضلوا ما يسزكم " ، وهذا تهوين منه عليهم ما هم فيه من الثدة ، وبشارة لهم بتعجيل الفتح عليهم . وقوله : "والته ما الفقر أخشى عليكم ") الفقر منصوب على أنه مفعول مقدم
---
(10/18)
ب (أخشى) ، ولا يجوز رفعه إلا على وجه بعيد ، وهو أن يحذف ضمير المفعول ، ونعامله معاملة الملفوظ ، كما قال امرؤ القيس : ... . .. . . . . .. . . . . . . . . . . فثؤبانسيت ، وثؤبا أجر(1) فكانه قال : فثوب نسيته ، وثوب أجزه ، وهي قليلة بعيدة . وفيه ما يدلّ على أن الفقر أقرب للسلامة ، والاتساع في الدنيا أقرب للفتنة ، فنسال الله الكفاف الا والعفات . ئلة وقوله : "فتنافسوها كما تغافسوها") أي : تتحاسدون فيها ، فتختلفون وتتقاتلون فيهلك بعضكم بعضا ، كما قد ظهر ووجد ، وقد سمى في هذا الحديث التحاسد تنافسا توشعا لقرب ما بينهما ، وقد بثنا حقيقة كل واحد منهما فيما تقدم ، ومعنى تلهيكم : تشغلكم عن أمور دينكم ، وعن الاستعداد لآخرتكم . وقوله : ا إذا فتحت عليكم فارس والروم ، أئ قوم أنتم ؟") هذا استفهائم يشوبه إخباز منه ت عن أمر قبل وتوعه ، وقع على نحو ما أخبر عنه ، فكان ذلك من أدلة صحة نبو ، له ورسالته ت وكم له ف منها وكم ! ومعنى : (أقي قوم أنتم ؟)
---
(10/19)
أي : على أئ حالي تكونون ؟ فكانه قال : أتبقون على ما أنتم عليه ؟ أو تتغير بكم الحال ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : نقول كما أمرنا الله تعالى . أي : نقول قولا مثل الذي أمرنا الله ، وكان هذا منه إشارة إلى قول الله تعالى : ا حسبنا الله ولمحغم وال آتولحصيمات ، ا ال عمران : 173 م ، وذلك أنه فهم أن رسول الله صون خاف عليهم الفتنة ، ن من بمنمط الدنيا عليهم ، فاجابه بذلك ، فكانه قال : نستكفي الفتن والمحن بالنه ، ونقول كما أمرنا ، وهذا إخباز منهم عتا يتضيه حالهم في ذلك الوقت ، فاخبرهم النبي ف بانههم لا يبقون على تلك الحال ، وأنها تتغئر بهم . وقال بعض الشارحين : لعثه يكون كما أمرنا الله ، وهذا تتديز غلظ للرراة ، لا يختاج إليه مع صحة المعنى الذي أبديناه ، والله تعالى أعلم . وقوله : "أز غير ذلك ") هو بسكون الواو ، وهي القاطعة ، وغير بالنصب على إضمار فعل ، تقديره : أرتفعلون غير ذلك ، ويجوز رفعه على تقدير : أو يكون غير ذلك . ر (قوله : ة تتنافسون ، ثم تتحاسدون ، ثم تتدابرون ، ثم تتباغضون ، ) أي : تتسابقون إلى أخذ الدنيا ، ثم تتحاسدون بعد الأخذ ، ثم تتقاطعون ، فيولي كل واحد م!نكم دبره عن الاخر مغرضا عنه ، ثم تثبت البنضاء في القلوب ، وتتراكم حتى يكون عنها الخلاف ، والققال ، والهلاك ، كما قد وجد . وقوله : "ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين نتجعلون بعضهم على رقاب بعض ") ، وفي رواية السمرتندي : "فتحملون " ، قال بعضم : لعل أصول هذا الكلام : "ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين ". قال القاضي : لا أدري ما الذي حمل هذا على تفسير الرواية مع عدم توجيه الكلام على ما قبله ، واستقلاله بالمراد ، لاسيما مع ترله بعد هذا : "فتحملون بعضهم على رقاب بعض ". والأشبه ؟ أن يكون الكلام على وجهه ، وأراد أن مساكبن المهاجرين ، وضعفتهم ستفتح عليهم إذ ذاك الدنيا ، حتى يكونوا أمراء بعضهم على رقاب بعض . قلت : والعجب من إنكار القاضي
(10/20)
على هذا المتاؤل
---
، واختياره هذا المعنى الذي لا يقبله مساق الحديث ، رلا يشهد له معناه ، وذلك أن معنى الحديث : أنه أخبرهم أنهم تتنئر بهم الحال ، وأنهم يصدر عنهم أو عن بعضهم أحواذ غير مرضية ، تخالف حالهم التي كانوا عليها معه من الئنافس والئباغفى ، وانطلاقهم في مساكين المهاجرين ، فلا بذ أن يكون هذا الوصف غير مرضئ كالأوصاف التي قبله ، وأن تكون تلك الأوصاف المتقذمة توجبه ، وحينئذ يلتئم الكلام أوله وآخره ، ولا يصخ ذلك إلا بذلك التقدير الذى أنكر القاضي ، فيكون معنى الحديث أنه إذا وقع التنافس ، رالتحاسد ، والتباغض حملهم ذلك على أن ياخذ القوئ ما أفاءه الله تعالى على المسكين ؟ الذي لا يقدر على مدافعته ، فيمنعه عنه ظلمأ رهذا بمقتض التنافس ، والئحاسد ، والتباغض ، ويعضده رواية السمرقندي : "فيحملون بعضهم بني إسرائيل ابرص ، وامرع ، واعمى ، لاراد الله ار يبتليهم ، لمبعت إليهم ملكا ، فاتى الأبرص فقال : أقي شيء أحمت إليك ؟ قال : لون حسن ، وجلد
على رقاب بعضهم ". أي : بالقهر والغلبة ، وأما ما اختاره القاضي فغير ملائما للحديث ، فتدئره تجده كما أخبرتك ، والله تعالى أعلم . وقوله : "انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، ) أي : اعتبروا بمن فضلتم عليه في المال ، والخنق ، والعافية ، فيظهر عليكم ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه على ذلك ، فتقومون بحق النعمة ، وذلك بخلاف ما إذا نظر إلى ما فضل عليه غيره من ذلك ؟ فإنَّه يضحل عنده ما أنعم الله عليه به من الئعم ، وبحتقرها ، فلا يحسبها نعما ، فينسى حن الله فيها ، وربما حمله ذلك النظر إلى أن تمتذ عينه إلى الدنيا فينافس أهلها ، ويتقلع لحسرة فؤيها ، ويحسد أهلها ، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة . وقوله : "فهو أجدر ألآ تزدروا نعمة الله عليكم ") هو عانذ على مصدر : انظروا ، وأجدر بمعنى أحق وأؤجب ، والازدراء : الاحتقار .
---
(10/21)
فاعطي شاة-والدا ، فانتج هذان ووتد هذا . قال : فكان لهذا واد من الإبل ، ولهذا واد من البقر ، ولهذا واد من الغنم .
رقوله : "ناقة عشراء") ير التي مض لها من حفلها عشرة أشهر ، وجمعها : عشار ، وكانت أنفس أموال العرب لقرب ولادتها ، ورجاء لبنها . وقال ابن جئي : ير التي أتى عليها بعد وضعها عشرة أشهر. في الصحاح : العشار -بالكسر- جمع عشراء : وير الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر وزال عنها اسم المخاض ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع ، وبعدما تضع أيضًا . يقال : ناقتان عشراوان ، ونوق عشار ، وعشراوات ، يبدلون من همزة التانيث واوأ ، وقد عشرت الناقة تعشيرا إذا صارت عشراء . وقوله : "فاتتج هذان ، ووتد هذا") أي : تولى نتاج ناقته وولادة شاته ، ووقع هنا أنتج رباعيا ، والمعروف الثلأئي ، وحكى الأخفش : نتجها ، وأنتجها بمعتف ، وقد أشبعنا القول فيه فيما تقدَّم .
---
(10/22)
وقوله : "انقطعت بي الحبال في سفري ") الرواية المشهورة بالحاء المهملة والموحدة ، والباء المعجمة - بواحدة تحتها - وبالألف ، وير : جمع حبل ، رهو المستطيل من الرمل ، وقيل : هي الأسباب التي يتوضل بها إلى البلاغ ، وهذا أوقع التفسيريخن ، ورواه ابن الحذاء : الحيل : جمع حيلة ، ررراه بعضهم كذلك غي!ر أنه زاد الفاء ، ورتع لبعفر رواة البخاري : الجبال بالجيم ، رفيه بغد . وقوله : "والله لا أنجهدك اليوم شيئًا أخذته لئه ") كذا أكثر الرواة ، ومعناه : لا أبلغ منك جهدأ ، ومشقة في صنعك شيئًا أخذته لله . قال صاحب "الأفعال ا : جهدته وأجهدته : بلغت مشقته ، وقيل : معنى لا أنجهدك : لا أقذ لك فيما تاخذ ، والجهد : ما يعيش به المقل ، ومنه : ا رألذيئ لا مجدون إلا جفدقى " أالتوبة : 79 ، . وعند ابن ماهان : لا أحمدك ، بالحاء المهملة والميم ، من الحمد ، وكذا رواه البخارقي ، ومعناه : لا أحمدك في أخذ شي " أو إبقائه لطيب نفسي بما تاخذ ، كما قال المرفش : ليسى على طول الحياة ندم (1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي : ليى على فوت الحياة ندم . وقوله : "إنما ورثت هذا كابرأ عن كابر") أي : كبيرأ عن كبير ، يعني : أنه ورث ذلك المال عن أجداده الكبراء ، نحمله بخله على نسيان مثة الله تعالى ، وعلى جخد نعمه ، وعلى الكذب ، ثم أورثه ذلك سخط الله الدائم ، وكل ذلك بشؤم البخل . واعتبر بحال الأعمى ؟ لئا اعترف بنعمة الله تعالى عليه ، وشكره عليها ، وسمحت نفسه بها ثبتها الله عليه ، وشكر نغله ، ورضي عنه ، فحصل على الرتب الفاخرة ، وجمعمث له نعم الدنيا والاخرة .
---
(10/23)
وقوله ج لمجيز : "إن الله يحعت العبد التقي الغني الخفي ") جمهور الرواة قيدوه الخفي - بالخاء المعجمة - من الخفاء ، والتقي : المتقي لله تعالى ، وقد بتنا التقوى فيما تقدم . والغني : يعني به : من استغنى بالله ، ورضي بما قسم الله له ، وقيل : يعني به غنى النفس . والخفي : يعني به الخامل الذي لا يريد العلؤ فيها ولا الظهور في مناصبها ، وهذا نحو ما قال في حديث آخر في صفة ولف الله : "وكان غامضا في الناس "(1) أي : لا يعرف موضعه ولا يؤبه له ، وقد رواه الدولابي (2) : الحفي بالحاء المهملة ، فقيل : معناه العالم ، من قوله : اكائك حض غنها " أ الأعراف : 1187 ، وقيل : المتحفي باهله ، الوصول لهم بماله ، الشاعي في حوائجهم . وقوله : ما لنا طعام ناكله إلآ ورق الحنلة ، هذا السمر) كذا وقع عند عامة الرواة . وعند الطبري ، والتميمي : وهذا السمر بواو ، ووقع في البخاري : إلا الحبلة ، وورق السمر ، وكذلك ذكره أبو عبيد . الحنلة بضم الحاء وسكون الباء : ثمر العضاه . وقال ابن الأعرابي : ثمر
---
(10/24)
السمر شبه اللوبياء ، ورواية البخاري : أحسنها ؛ لأنَّه بين فيها أنهم يأكلون ثمر العضاه ، وورق الشجر الشمر . وقوله : ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الدين ) هو بالزاي أولى وبالراء ثانية من التعزير ، واختلف في معناه هنا ، نقال الهروي : معناه : توتفني عليه ، والتعزير : التوقيف على الأحكام ، والفرائض . وقال الطبرقي : أي : تقومني وتعلمني ، ومنه تعزير السلطان ؟ أي : تقويمه بالتاديب ، وقال الحربي : التعزير بمعنى اللوم والعثب . قلت : هذه أتوال الشارحين لهذه الكلمة ، وفيها كئها بغذ عن معنى الحديث ، والذي يظهر لي : أن الأليق بمعناه : أن التعزير معناه الإعظام والإكبار ، كما قال تعالى : ا وشروه ، أالفتح : 9 ، ، أي : تعفموه وتبروه ، فيكون معناه على هذا : أنه وصف ما كانت حالتهم عليه في أول أمرهم من شدة الحال ، وصوبة العيش ، والجهد مع النبي رز ، ثم إنهم اتسعت عليهم الدنيا ، وفتحت عليهم الفتوحات ، ورلوا الولايات ، فعبهمهم الناس لشهرة فضلهم ، ودينهم ، وكانه كره تعظيم الناس له ، وخصق بني أسد بالذكر لأنهم أفرطوا في تعظيمه ، والله تعالى أعلم . وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به عتبة بن غزوان في الحديث الاتي بعد هذا ، حيث قال : لقد رأيتني مع رسول الله ت سابع سبعة ، وما لنا طعائم إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا ، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك ، فا ، لزرت بنصفها ، واتزر سعذ بنصفها ، فما أصبح منا اليوم أحذ إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار ، له اثي أعوذ بالله أن ممون في نفسي عظيما ، وعند الله صغيراء ا) . فيحتمل أن يكون هذا هو الذي عنى به سعد بن أبي وقاص ، والله تعالى أعلم . وأما ما فشرت به المشايخ ذلك الكلام فيقتضي تفسيرهم : أن بني أسد كانوا عتبوا عليه أمورا من الدين ، وعابوها عليه ، فرذ عليهم قولهم . ويعضد هذا ما ذكره البخاري (2) من حديث جابر بن سمرة ، قال : شكا أهل الكوفة سعدا حتى ذكروا :
(10/25)
أنه لا يحسن أن يصلي ،
---
فاستحضره عمر -رضي الله عنه - فقال : إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي ، فقال : أما أنا فافي كنت أصئي بهم صلاة رسول الله لكض ، وفيه : ولم ياغ مسجدا إلا سال عنه ، ويثنون معروفا ، حتى دخل مسجدا لبني عبس ، فقام رجل منهم ، يقال له : أسامة بن تتادة ، فقال : أما إذ نشدتنا ، فإنَّ سعدا كان لا يسيز بالسرية ، ولا يعدل في القضية . . . وذكر الحديث . (7) ومن باب : الزهد في الدنيا(3) (قوله : خطبنا عتبة بن غزوان -وكان أميرا على البصرة-) عتبة هذا - رضي الله عنه - مازنث ، وحليف لبني نونل ، قديم الإسلام . أسلم سابع سبعة كما (1) قال . وهاجر وشهد المشاهد مع رسول الله كظ بدرأ والمشاهد كلها ، أمره عمر - رضي الله عنه - على جيش ، فتونجه إلى العراق ، ففتح الأبتة والبصرة ووليها ، وبنى مسجدها الأعظم بالقصب ، ثم انه حخ فاستعفى عمر عن ولاية البصرة ، فلم يعفه فقال : اللهم لا ترذني إليها ، فسقط عن راحلته فمات سنة سبع عشرة ، وهو منصرف من مكة إلى البصرة ، بموضع يقال له : معذر ببني سليم ، قاله ابن سعد. ويقال : مات بالربذة ، قاله المدائني . وقوله : إن الدنيا قد آذنت بصزم ) أي : أشعرث وأعلمث بزوال وانقطاع . وقوله : ووئت حشاء) أي : سريعة خفيفة ، ومنه قيل للقطاة : حذاء ، أي : منقطعة الذنب قصيرته ، ويقال : حمار أحذ ؟ إذا كان قصير الذنب ، حكاه أبو عبيد ، وهذا مثل كانه قال : إن الدنيا قد انقطعمت مسرعة . وقوله : رلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصاتجها صاحبها) الضبابة : بضم الصاد : البقية اليسيرة ، والضبابة - بالفتح - : رقة الشوق ، ولطيف المحبة ، ويتصاتجها : يروم صتها على قئة الماء رضغفه . وقوله : فانتقلرا بخير ما بحضرتكم ) أي : ارتحلوا إلى الآخرة بخير ما يحضركم من أعمال البز. جعل الخير المتمتهن منه كالحاضر. رقوله : فإنَّه قد ذكر لنا أن الحجر لينقى(ا) من شفير جهنم . . . الحديث إلى
(10/26)
اخره ) يعني : أنه ذكر له عن رسول الله ت ذلك ؛
---
لأنَّ مثل هذا لا يغرف إلا من جهة النبي ظ فكانه لم يسمغه هو من النبف قي ، سمعه من غيره ، فسكت عنه إما (ا) في صحيح مسلم والتلخيص : ينقى.
نسيانا ، لاما لأمر يسوخ له ذلك . ريحتمل أن يكون سمعه هو من النبف لكض وسكت عن رفعه للعلم بذلك . ونسفير جهنم : حزفها الأعلى . وحرف كل شيء أعلاه وشفيره . ومنه : شفير العين . ومصراع الباب : ما بين عضادتيه ، وجمعه مصاريع ، رهو ما يسه ه الغلق . وقوله : وهو كظيظ من الزحام ) أي : ممتلى ة منه . يقال : كبهه الشراب كظيظا. وترحمث أشداقنا : أي : تقزحت ؟ أي : انجرحت من خشونة الورق . والبردة : ال! ملة ، والعرب تس!مي الكساء الذي يلتحف به بردة ، والبرد - بغير تاء - : نوغ من نوع ثياب اليمن الموشية . وقوله ؟ وإنها لم تكن نبوة تظ إلا تناسخت ، حتى يكون اخرها(ا) ملكل يعني : أن زمان النبؤ يكون الناس فيه يعملون بالشرع ، ويقومون بالحق ، ويزهدون في الدنيا ، ويرغبون في الاخرة ، ثم إنه بعد انقراضهم ، وانقراض خلفائهم يتغير الحال ، وينعكس الأمر ، ثم لا يزال الأمر في تناتص ، وإدبار إلى ألا يبقى على (ا) في التلخيص ومسلم : عاقبتها .
---
(10/27)
الأرض من يقول : الله ! الله ! فيرتفع ما كان الصدر الاؤل علية ، وهذا هو المعبر عنه هنا : بالتناسخ ؟ فإنَّ النسخ : هو الرفع والازالة ، وهذا الحديث نحو قوله يئ : "ما من نبئ بعثه الله تعالى في أفة قبلي إلا كان له من أضته حواريون وأصحاب ياخذون بسنته ، ويقتدون بامره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون . . . الحديث "(1 ، . وقوله : حتى يكون اخر عاقبتها ملكل يعني أنهم يعدلون عن سنن النبيين (2) وخلفائهم إلى الاقبال على الدنيا واتباع الهوى . وهذه أحوال أكثر الملوك ، فأمَّا من سلك سبيل الصدر الأول الذى هو زمان النبوة والخلافة من العدل ، واتباع الحق ، وا*عراض عن الدنيا ، فهو من خلفاء الأنبياء ، وإن تاخر زمانه كعمر بن عبد العزيز -رض الله عنه -إذ لم يكن بعد الخلفاء من سلك سبيلهم ، واقتدى بهم في غالب أحوالهم غيره - رضي الله عنه - ، لا جرم هو معدوذ منهم ، وداخل في زمرتهم إن شاء الله تعالى . أ(8) باب : ما الدنيا في الاخرة إلا كما يجعل الأصبع في اليم أ(3) و(قرله : "ما الدنيا في الاخرة إلا مبل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظز بماذا ترجع ") 0 اليتم : البحر. وهذا مثل لحقارة الدنيا وقئتها ، وهو نحو قوله (ا) رراه مسلم (50)0 (2) في (ز) : النبوة . (3) هذا العنوان لم يذكره المؤلف - رحمه الله - في المفهم ، واصتدركناه من التلخيص .
---
(10/28)
تعالى : ازمئغ الايرنياظل " أ النساء : 77 ، أي : كذ شيء يئمتع به في الدنيا من أولها إلى آخرها قليل ، إذ لا بقاء له ولا صفو فيه ، وهذا بالنسبة إلى نفسها ، وأما بالنسبة إلى الاخرة ، فلا خطر ، ولا تدر للدنيا ، وهذا هو المقصود بتمثيل هذا الحديث حيث قال : "فلينظر بماذا يرجع " . ووجه هذا التمثيل أن القدر الذي يتعلق بالإصبع من ماء البحر لا قذر له ولا خطر ، وكذلك الانيا بالنسبة إلى الاخرة . وقوله : "مثل المؤمن كخامة الزرع ") الخامة هي : النضة الرطبة من النبات . وأنمنمدوا : إنَّما نخن مثل خامة زرغ فمتى يان يات مختصده وتفئعها الرياح : أي : ترذها من جانب إلى جانب ، وقد بئيئ ذلك بقوله : تصرعها مزة وتعدلها أخرى ، وصوابه : تفيئها ؟ بضم التاء وكسر الفاء ، وتخفيف الياء والهمز ؟ فإنَّه يقال : أفات الشء : رجعته . أو فاء هو في نفسه : رجع ، ومن فتح الفاء وشذد الياء فقد أخطا ؛ لأنَّه إنما يقال : فيات الشجرة ، يعني إذا ظهر فيئها لا غير. والأززة : شجرة الصنوبر ، وسميت بذلك لثبوتها ، يقال : شجرة أرزة؟
من طعام بز ثلاث ليال تباعا حتى قبض .
---
(10/29)
أي : ثابتة في الأرض ، وقد أرزت تارز ، ويقال للناقة القوية : أرزة . والمخذية على أصلها : القائمة الراسخة ، وهذا مثل للغالب من المؤمنين والغالب من الكافرين ، وحكمة الله في ابتلاء المؤمنين في الدنيا أن يهديهم فيها ، ويخئصهم من تبعاتها ، " وأن توثرأجورهم في الاخرة ، وعكس ذلك في الكفاروالمنافقين . ابئ ش وفاندة هذا الحديث احتساب المصائب ، والصبر عليها ، وانتظار الثواب عليها ، والخوف من عدم المصانب وبسط الابرنيا . (9 و. ا) ومن باب : شدة ميش النبي في لحييظ (1) الزف : خشبة ترفع عن الأرض يلقى عليها ما يرفع ، قاله الحربي ، وقال غيره : هي الغرفة. والشطر : النصف ، وهو هنا نصف وشق شعير. والذقل : أردأ (1 ) ضرح المزلف - رحمه الهه - تحت هذا العنوان : هذا الباب ، والباب الذي يليه ، رهو باب : سبق فقراء المهاجرين إلى الجنة ، ومن النقير الئابق .
التمر ، وقد أدقل النخل : إذا ردىء . وقيل : هو جنس من النخل له تمر ، وهو حمث اء . ى له نواة مدزرة مقدار الجوزة يشبه نوى التمر ، فاذا يبس صار عليه مثل الليفة . ، لهي .-ر وأحاديث هذا الباب ككها ، وإن اختلفت ألفاظها تدل على : أن النبي ب محظ لم يكن يديم ال!بع ، ولا الترفه في العيش ، لا هو ولا من حوته بيوته ، ولا آله . بل : كانوا ياكلون ما خشن من الماكل العلق ، ويقتصرون منه على ما يسذ الزمق ، ضعرضين عن متاع الدنيا ، مؤثرين ما يبقى على ما يفنى ، ثم لم يزل كذلك حالهم مع إقبال الدنيا عليهم ، واجتماعها بحذافيرها لديهم إلى أن وصلوا إلى ما طلبوا ، وظفروا بما فيه رغبوا .
---
(10/30)
وقوله لتن : "اللهم اجعل رزق آل محئد توتا") أي : كفافا ، كما جاء في الرواية الأخرى ، ولمجني به : ما يقوت الأبدان ويكفت عن الحاجة والفاقة ، وهذا الحديث حجة لمن قال : إن الكفاف أفضل من الغنى والفقر ، وقد تقذمت هذه المسألة في الزكاة . ووجه التمسك بهذا الحديث : أن النبي لكسييه إنما يدعو لنفسه بافضل الأحوال ، وأيضًا : فإنَّ الكفاف حالة متوسطة بين الغنى والفقر ، وقد قال لا : "خير الأمور أوساطها"(ا). وأيضًا : فإنَّ هذه الحال سليمة من آفات الغنى ، وافات الفقر المدقع ، فكانت أفضل منها ثم إن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير إذ لا يترفه في طئبات الدنيا ، ولا في زهرتها ، فكانت حاله إلى الفقر أقرب ، فقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر ، وكفي مرارته وآفاته . لا يقال : فقد كانت حالة رسول الله ! الفقر الشديد المدقع ، كما دتت عليه أحاديث
---
(10/31)
هذا الباب وغيرها ، ألا ترى أنه يطوي الأيام ، ولا يشبع يومين متواليين ، ويشذ على بطنه الحجر من الجوع والحجرين ، ولم يكن له سوى ثوب واحد ، فاذا غسله انتظره إلى أن يجف ، وربما خرج ، وفيه بقع الماء ، ومات ودرعه مرهونة في شعير لأهله ، ولم يخئف دينارا ولا درهما ، ولا شاة ، ولا بعيرا ، ولا حالة في الفقر أشذ من هذه ، وعلى هذا نلم يكن حاله الكفاف ، بل : الفقر. فلم يجنه الله تعالى في الكفات لعلمه : بأن الفقر أفضل له ؛ لأنَّا نقول : إن النبي ت قد جمع له حال الفقر والننى والكفاف ، فكانت أؤل أحواله الفقر مبالغة في مجاهدة النفس . وخطامها عن مالوفات عاداتها ، فلما حصلت له ملكة ملكها" وتخثص له خلاصة سبكها ، خئره الله تعالى في أن يجعل له جبال تهامة ذهبا تسير معه حيث سار ، فلم يلتفت إليها ، رجاءته فتوحات الدنيا فلم يعزج عليها ، بل : صرفها وانصرف عنها ، حتى قال : "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم "(ا). وهذه حالة الغني الشاكر ، ثم اقتصر من ذلك كله على تدر ما يرذ ضروراته ، وضرورات عياله ، ويرذ حاجتهم ، فاقتنى أرضه بخيبر ، وكان ياخذ منها قوت عياله ، ويذخره لهم سنة ، فاندفع عنه الفقر المدقع ، وحصل الكفاف الذي دعا به ، ثم إنه لما احتضر ، وتف تلك الأرض على أهله ليدوم لهم ذلك الكفاف الذي ارتضاه لنفسه ، ولتظهر إجابة دعوته حتى في أهله من بعده ، وعلى ذلك المنهج نهج الخلفاء الراشدون على ما تدك عليه سيرهم وأخبارهم . وعلى هذا فاهل الكفاف هم صذر
---
(10/32)
كتيبة الفقراء الداخلين الجثة قبل الأغنياء بخمسمئة عام ؛ لأنَّهم وسطهم ، والوسط : العدل . وليسوا من الأغنياء كما قزرناه فاقتضى ذلك ما ذكرناه ، والته تعالى أعلم . و(قول الرجل لعبد الله بن عمرو : ألسنا من الفقراء؟) سؤال تقرير ، وكانه سال شيئًا من الفيء الذي قال الله تعالى فيه : ا لنفقرته المفبزق الذين أخرجوأ من دفي بتم وأفزبهز تبتغون قهلأ تن أك ورضعؤجمما ، أالحشر : 18 ؟ وكان ذلك الرجل قال : ألسنا من الفقراء الذين يستحفون من الفيء سهما بنمق القران ؟ وكانه أنجز له مع ذلك الالتفات إلى الفقراء المهاجرين ، رتبجح به ، فاجابه عبد الله بما يكسر ذلك منه ، وبزيل افة الالتفات إلى الأعمال بما يقتض : أن الأحق باسم الفقر المهاجرين من كان متفزدا عن الأهل والمسكن ، كما كان حال أهل الضفة في أول الأمر. وصار معنى هذا الحديث إلى نحو توله ت : "ليس الشديد بالضرعة"(ا) و(ليس المسكين بالطواف "(2 ، فكان عبد الله قال له : ليس الفقير المهاجرين الذي تكون له زوجة ومسكن ، وإنما الفقير المتجزد عن ذلك ، ولم يرذ أن من كان فقيرا مهاجريا ، له زوجة ومسكن أنه لا يستحق من الفيء شيئا ؛ لأنَّ صاحب العيال الفقير أشذ فاتة وبلاة ؟ ولأنه خلاف ما وقع لهم ، فإنَّ النبي ط كان يغطيهم بحسب فاتتهم وحاجتهم ، ويفضمل في العطاء من له عياذ على من ليس كذلك ، وكذلك فعل الخليفتان بغده ، على ما هو المعلوم من حالهما ، وإن حمل قول عبد الله على ظاهره لزم عليه : أن من كان له زوجة ومسكن لا غير ذلك لم يعذ مني الفقراء المهاجرين الذين وصفهم الة تعالى ، والذين يسبقون إلى الجنة ، فيلزم ألا يكون أبوبكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا على من الفقراء من الشابقين إلى الجنة ، وذلك باطل تطعا.
---
(10/33)
وقوله : أنت من الملوك ) لما أخبره أن له خادما على جهة الإغياء والمبالنة ؟ لا أنه ألحقه بالملوك حقيقة ، ولا بالأغنياء ، ولا سلبه ذلك اسم الفقراء ؟ إذ لم يكن له غير ما ذكر ، رالهه تعالى أعلم . وقوله : جاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو) هذه قضية أخرى غير القضية المتتدمة ، وإن اثفق راوياهما ، فإنَّهما من رواية أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمرو بنا لعاص ؛ لأنَّ هؤلاء ثلاثة وذلك واحذ ، ولأن مقصوده من هذا الحديث غير مقصوده من الأول ، وذلك أن هؤلاء الثلاثة شكوا إليه شدة فاقتهم ، وأنهم لا شيء لهم ، نخثرهم بين الضبر على ما هنم فيه حتى يلقوا الله ، فيحصلون على ما وعدهم الله به على لسان نبيسء من السبق إلى الجنة قبل الناس كئهم ، وبين أن يرفع أمرهم إلى السلطان ، فيدفع إليهم ما يننيهم ، وبين أن يواسيهم من ماله ، فاختار القوم البقاء على الحالة الأولى ، والصبر على مضغى الفقر وشذته . ويفهم من هذا الحديث : أن مذهب عبد الله ، وهؤلاء الثلاثة : أن الفقر المدقع ، والتجزد عن المكتسبات كئها أفضل ، وقد بثنا آنفا : أن المسألة مسالة خلاف ، وأن الكفات أفضل على ماذكرناه انفا. الآ وقوله ت : "إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة اد باربعين خريفا") هذا الحديث اختلفت ألفاظ الرواة فيه عن النبف جمظ فروى عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنهما - الحديث المتقذم ، وروى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدرئ قال : قال رسول الله ت : "فقراء المهاجرين يدخلون الجنة تبل أغمنيائهم نجمسمئة عام "(ا) . قال : هذا حديست حسن غريب من هذا الوجه . ويروى أيضًا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ت : "يدخل الفقراء الجنة قبل أغنيانهم نجمسمنة عام ، نصف يوم "(2) ، قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي طريق أخرى : "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ، وهو خمسمئة عام "(3). وقال : حديث حسن صحيح ، وروي أيضًا عن جابربن
(10/34)
عبدالثه
---
- رضي الة عنه - أن رسول الله ت قال : "يدخل فقراء المسلمين الجغة قبل أغنيائهم باربعين خريفا"( ، ). قال : هذا حديث حسن صحيح ، فاختلفت هذه الأحاديث في أئ الفقراء هم الشابقون ، وفي مقدار المذة التي بها يسبقون ، فهذان موضعان ، ويرتفع الخلاف عن الموضع الأرل بأن يرذ مطلق حديث أبي هريرة إلى مقتد روايته الأخرى ، ورواية جابر - رض الله عنه - ، فيعني بالفقراء : فقراء المسلمين ، وحينئذ يكون حديث عبد الله بن عمرو ، وحديث أبي سعيد مخصوصا بفقراء المهاجرين ، رحديث أبي هريرة ، وجابر يعتم جميع نقراء قرون المسلمين ، فيدخل الجنة فقراء كل قرني تبل أغنيائهم بالمقدار المذكور ، وهذه طريقة حسنة ، ونزيدها وضوحا بما قد صخ عنه بر أنه قال : "أصحاب الجنة محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار ، يسالون عن فضول أموال كانت بايديهم "(ا) ، وهذا واضح . وأما الموضع الثاني فقد تقدَّم : أن الخريف هو العام هنا ، وأصل الخريف : فصل من فصول السنة ، وهو الفصل الذي تخترف فيه الثمار ، أي : تجتنى ، فسئي العام بذلك ، ويمكن الجمع بين الأربعين ، حديث الخمسمئة عام ؟ بأن ستاق الفقراء يدخلون (2) قبل ستاق الأغنياء باربعين عاما ، وغير سثاق الأغنياء بخمسمئة عام ؟ إذ في كل صنف من الفريقين سئاق ، والته أعلم . وهذه الأحاديث : حجَّة واضحة على تفضيل الفقر على الغنى ، ويتقزر ذلك من وجهين : أحدهما : أن النبي رز قال هذا لجبر كمنعر قلوب الفقراء ، ويهؤن عليهم ما في يجدونه من مرارة الفقر ، وشدائده ؟ بمزيرله تحصل لهم في الدار الاخرة على الأغنياء ة عوضا لهم عما حرموه من الدنيا ، وصنرهم ، ورضاهم بذلك . وثانيهما : أن السبق إلى الجنة ونعيمها أولى من التاخر عنها بالقحرورة ، فهو أشل . وثالثها : أن السبق إلى الفوز من أهوال يوم القيامة ، والضراط أولى من المقام في تلك الأهوال بالضرورة ، فالشابق إلى ذلك أفضل بالضرورة ، وحيننذ لا يلتفت لقول من
(10/35)
قال : إن السبق إلى الجنة لا
---
يدلّ على أفضلية السابق . وزخرف ذلك : بأن النبي ف أفضل الخليقة ، رمع ذلك فدخوله الجنة متاخر عن دخول هؤلاء الفقراء ؛ لأنَّهم يدخلون تبله ، وهو في أرض القيامة ؟ تارة عند الميزان ،
وتارة عند الضراط ، وتارة عند الحوض ، كما قد أخبر عن ذلك فيما صخ عنه ، وهذا قوذ باطل صدر عمن هو بما ذكرناه وبالنقل جاهل ، فكانه لم يسمغ ما تقدَّم في كتاب الإيمان من توله ت : "أنا أؤل من يقرع باب الجنة ، فيقول الخازن : من أنت ؟ فاقول : أنا محمد . نيقول الخازن : بك أمزت لا أفتح لأحد قبلك "(ا). وفي حديث أنه ط قال : "أنا أول من يدخل الجنة ، ومعي فقراء المهاجرين "(2) . وعلى هذا فيدخل الجنة ، ويتسثم ما أعذ له فيها ، ويبوصىء الفقراء منازلهم ، ثم يرجع إلى أرض القيامة ليخلص أمته بمقتض ما جعل الله في قلبه من الحنؤ على أمته ، والشفقة عليهم ، والزأفة بهم ، نيلازمهم في أوقات شدائدهم ، ولمجمعى بمكنه في نجاتهم ، فيحضرهم عند وزن أعمالهم ، ولمجمقيهم عند ظمئهم ، ويدعو لهم بالسلامة عند جوم زهم ، ويشفع لمن دخل النار منهم ، وهو مع ذلك كئه في أعلى نعيم الجنة الذي هو غاية القزب من الحق ، والجاه الذي لم ينله أحذ غيره من الخلق ، ولذة النظر إلى وجه الله الكريم ، وسماع كلامه الحكيم بالطف خطاب ، وممرم تكليم ، كيف لا ؟ وهو يسمع : "يا محمدأ قل يعنعمغ لك ، سل تنط ، اشفغ تشفع ، فيقول : أمتي ! أمتي ! أمتي أ فيقال : انطلق فادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن "(3 ، . وهذه خظوج لا تتسع لها العبارات ، ولا تحيط بها الإشارات حشرنا الله في زمرته ، ولا خثبنا من شفاعته . قال القاضي أبو الفضل : ويحتمل أن هؤلاء السابقين إلى الجنة يتننمون في أفنيتها وظلالها ، ويتلذذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد لكهغ بعد تمام شفاعته ، ثم يدخلونها معه على قدر منازلهم وسبقهم ، والله تعالى أعلم .
---
(10/36)
قلت : وهذا لا يحتاج إلى تقديره ؛ لأنَّ الذي هو فيه من النعيم بما ذكرناه أعلى وأشرف مما هم فيه ، فلا يكون سبقهم لأذون النعيمين أشرف ممن سبق إلى أعظمها ، وهذا واضح .
(11 و12 ر 3 ا) ومن باب : كرامة من قنع بالكفاف ، والاجتهاد في العبادة وفي التواضع (1 ) الفلاة من الأرض : هي القفر. والحديقة : البستان ، وسميث بذلك ؛ لأنَّها أخدق بها حاجز. قالوا : وأصله كل ما أحاط به البناء . والحديقة أيضًا : القطعة من النخل . والحزة : أرض ذات حجارة سود ؟ كانها أحرقت بالنار . وال!رجة : مسيل الماء ، وهي بفتح الشين ، وسكون الراء ، وتجمع : شراج وشروج . ومن قال : شرجة -بفتح الراء - فقد أخطا المعررف من اللغة . واستوعبت : جمعث . فتتبع الماء ؟ أي : تبعه . وقوله : تنخى ذلك السحاب ) ؟ أي : اعتمد وقصد. والنحو في أصله : هو القصد . وفى هذا الحديث دليل على صحة القول بكرامات الأولياء ، وأن الولي قدء -11 (ا) شرح المصنف تحت هذا العنوان ما أشكل في حديث هذا الباب ، وأحاديث الباب الذي يليه بعنوان : باب : الاجتهاد في العبادة ، والذي يليه ، وهو بعنوان : باب : في ا لتوا ضع.
يكرن له مال ، وضيعة ، ولا يناقضه توله ت : "لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا"(ا) لما قدمنا من أن المقصود بالنهي إنما هو : من اتخذها مستكثرا ، ومتنعما ، ومتمتعا بزهرة الدنيا ، لما يخاف عليه من الميل إلى الدنيا ، والركون إليها ، وأما من اتخذها معاشم أ يصون بها دينه وعياله ، فاتخاذها بهذه النية من أنضل الأعمال . وهي من أفضل الاموال .
---
(10/37)
وقولهم للنبي لكض : أتكئف هذا؟) أي : أتتكلف فنله ، وتتحقل مشفته ؟ وهذا أخرجه منهم ظن أنه إنما يعبد الله تعالى خوفا من الذ********************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************ء بصالح ما عمل من الأعمال قريب حديث النار : الطوفان هنا : المطر الكثير. وأووا إلى غار : أي : انضثوا ، وقد تقدَّم أنه يمه ربفصر. فانحطت : نزلت . فاطبقت عليهم : أي : صارت على باب النار كالطبق ، وأرعى عليهم : أي أرعى الماشية وأكتسب بها لأجل العيال والأبوين . وناى بي الشجر : أى : بعد عليه ابتناء الشجر الذي رعاه بماشيته . رالحلاب : إناء يحلب فيه ، وهو المحلب أيضًا ، وقد يكون اللبن . ويتضاغون : يضخون من الجوع ، والضناء ممدرد ، مضوم الأول ، صوت الذتة والناتة . والدأب : الحال اللازمة ، والعادة المتكررة . وافرج : افتح . والفر أصلح للداعي ، وقد يؤخره لأنه سبحانه يحعبئ استماع دعائه ، ودوام تضزعه ، فتكثر أجوره حتى يكون ذلك أعظم وأفضل من عين المدعو به لو قضي له ، وقد قال ت : "ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث : إما أن يستجاب له ، راما أن يذخر له ، راما أن يكفر عنه "(1) ، ثم بعد هذا كله ناجابة الدعاء - وإن وردت في مواضع من الشرع مطلقة - في مقين دة بمشيئته ، كما قال تعالى : ا فينهشف ماتذعون ، لرإن شإ ، أ الأنعام : 141 . ( 1 ) رواه الترمذي (3568) .
---
(10/38)
فلم ات حتى امسيت ، فوجدتهما قد ناما ، قحلبت كما حنت احلب ، لهجتت
---
(21) ومن باب : الدعاء ثلاثة اصع ، ويقال : بفتح الراء ، وهو الأفصح ، وقال ابن دريد : ويقال بسكونها ، وقد أنكره غيره ، وفيه أبواب من الفقه لا تخفى . أ(22) ومن باب : فضل الدوام على الذكر ، (1) قول حنظلة الأسيدي : هو بتخفيف الياء منسوب إلى أسيد ، قيل (2) من بني تميم . ومن رواه الأسدي فقد أخطا ، وكان من كثاب رسول الله جمين . وقوله : نافق حنظلة). إنكار منه على نفسه لما وجد منها في خلوتها خلاف ما يظهر منها بحضرة النب!! فخاف أن يكون ذلك من أنواع الئفاق ، وأراد من نفسه أن يستديم تلك الحالة التي كان يجدها عند موعظة النبي ب سيئي ولا يشتغل عنهخوف على العصاة والمذنبين ، وقد قلنا : إن حعنمن الظن بنير عمل غزب ، كما قال جمسشه : (الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله "(ا) وهذا إنما يكون في حالة الضحة والقؤ على العمل ، وأما في حال حضور الموت فليس ذلك الوقت وقغا يقدر فيه على استعناف غير الفنهر في سعة رحمة الله تعالى ، وعظيم فضله ، وأنه : لا يتعاظمه ذنمبئ يغفره ، وأنه الكريم الحليم ، الغفور الشكور ، المنعم الزحيم . ويذثهر بمايات الزخص وأحاديثها لعل ذلك يقع بقلبه ، فيحب الهه تعالى ، فيختم عليه بذلك ، فيلقى الله ابشيء . وقوله : يذئهرنا بالجنة والثار ، كا ، لا رأي عنيئ ) 0 الذي قرأته وقئذته رأي عين منصوبا على المصدر ، كانه قال : كا ، لا نراها رأي عين . قال القاضي : ضبطناه بالضم أي : كا ، لا بحال من يراهما ، وبصخ النصب على المصدر. وقوله : عاف!نشا الأزواج ، والأولاد ، والضيعات ) الرواية الصحيحة ( 1 ) المعروفة : عافسنا بالعين المهملة ، وبالفاء والسين المهملة ، ومعناه : عالجنا وحاولنا. في الصحاح : المعافسة : المعالجة ، يعني أنهم إذا خرجوا من عند رسول الله لكض اشتغلوا بهذه الامور ، وتركوا
(10/39)
تلك الحالة الشريفة التي كانوا يجدونها عند سماع موعظة رسول الله ت ومشاهدته ، وروى الخطابن
---
هذا الحرف : عانسنا بالنون ، وفشره بلاعبنا ، ورواه القتيبي : عانشنا ؟ بالنون والشين المعجمة ، وفشره بعانقنا ، والتقييد الأول أولى رواية ومعنى . وقد جاء مفسرا في الرواية الأخرى فقال : ضاحكت الصبيان ، ولاعبت المرأة . والضيعات : جمع ضيعة ، وهي : ما يكون ساش الرجل منه من مال ، أو حرفة ، أو صناعة . وقد تقدَّم ذكرها . و(قول أبي بكر -رضي الله عنه - : والذ! إنا لنلقى مثل هذا) رذ على غلاة دو الصوفية الذين يزعمون دوام مثل تلك الحال ، ولا يعرجون بسببها على أهل ولا بز مال ، ووجه الرذ أن أبا بكر - رضي الله عنه - أفضل الناس كلهم بعد رسول الله ج سغ إلى يوم القيامة ، ومع ذلك فلم يأغ خروجا عن جبثة البشرية ، ولا تعاطى من دوام الذنهر وعدم الفترة ما هو خاضة الملائكة . وقد اذعى قوم منهم دوام الأحوال ، وهو بما ذكرناه شبه المحال ، وإنما الذي يدوم المقامات ، لكنها تتفاوت فيها المنازلات . والمقام : ما يحصل للأنسان بسعيه وكسبه . والحال : ما يحصل له بهبة رئه . ولذلك قالوا : المقامات مكاسب ، والأحوال مواهب ، ومن طاب وقته علا نعته ، ومن صفا وارده طاب وزده . وعلى الجملة فسنة الله في هذا العالم الإنسا يدخلها كيف كان ، فلا يحتاج إلى ذلك التفسير ، والنه أعلم . وهذا الحديث وما في معناه يدل على : أن الموت ليى بعديم ، وإنَّما هو انتقاذ من حال إلى حال ، ومفارقة اد الزوح للبدن ، ويجوز أن يكون هذا العرض على الروح وخده ، ويجوز أن يكون خا عليه مع جزء من البدن ، والله أعلم بحقيقة ذلك . والنداة والعشي : إنما هما بالنسبة إلى الح! ، لا بالنسبة إلى المئت ؟ إذ لا يتصؤر في حقه شي بر من ذلك . وقوله : "لولا ألآ تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي ث أسمع منه ") قد تقدَّم القول على عذاب القبر ، وأنه مما يجب الإيمان بني
(10/40)
جعل تمكينهم في تلوينهم ، ومشاهدتهم في مكابدتهم . وسز ذلك أن هذا العالم متوشط بين عالمي الملائكة
---
والشياطين ، فمثهن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون ، وبسئحون الليل والنهار لا يفترون ، ومكن الشياطين في الشر والإغواء بحيث لا ينفلون ، وجعل هذا العالم الإنسافي متلؤنا فيمئهنه ويلونه ، ريفنيه ويبقيه ، ريشهده وبفقده ، وإليه أشار صاحب الشفاعة بقوله : "ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة". وقال في حديث أبي ذر -رضي الله عنه - : "وعلى العاقل أن يكون له ساعاتي : ساعة يناجي فيها رئه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفكر فيها في صنع الله ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم رالمشرب "(ا). هكذا الكمال ، وما عداه تزهاث وخيال . ور رقوله : "لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم س الملاثكة") هكذا صخت الرواية بالواو العاطفة للطرف الثافي على الأرل ، ويفيد أنه ط رت مصافحة الملائكة على حصول حالتين لنا : على حال مشاهدة الجنة والنار مع ذكر الله تعالى ودوام ذلك ، فيعني - والله تعالى أعلم - أن التمكن : إنما هو أن يشاهد الأمور كئها بالله تعالى ، فاذا شاهد الجنة مثلا لم يحجنه ما يشاهد من نعيمها وحسنها من رزية الله تعالى ؟ بل : لا يلتف ا هذا فيحيا الميت في تبره حياة محفقة بحيث يرى ، ويسمع ، ولمجمال ، ويتكلم ، أ وعلى هذا تدك أدلة الكتاب والتشة في غير ما موضع . والحكمة في أن الله تعالى ا يريه إياهما ليعلم تذر نعمة الله ، فيما صرف عنه من عذاب جهنم ، وفيما أوصل إليه من كرامة الجئة . وقوله : "فيفسح له في قبره ") أي : يوشع له فيه سبعون ذراعا ، فيحتمل البقاء على ظاهره ، ويكون معناه : أنه تزفع الموانع عن بصره ، فيبصر مما يجاوره مقدار سبعين ذراعا ، حتى لا تناله ظلمة القبر ، ولا ضيقه ، متى رذ روحه فيه إليه .
---
(10/41)
ربحتمل أن يكون ذلك كله استعارة عن سعة رحمة الله تعالى له ، وإكرامه إئاه . والأول أولى ، والله تعالى أعلم . وقوله : "ويملأ عليه خضرا") أي : نعما غضة ناعمة ، وأصله من خضرة الشجر ، والخضر - بكسر الضاد - : اسم جنس للنبات الرطب الأخضر . وقوله تعالى : ا ثبت ألته الذفي. امنوأ لالقزلط أثاسظ فى ألحيزة الذتيا وف ألآفون ، أ إبراهيم : 127) أي : يثئعهم في هذه الذار على الثوحيد والإيمان بالنبي ف حتى يميتهم عليه ، وفي الآخرة عند المساءلة في القبر ، كما فشرها النبي ت فإنَّ كان النبف ت قاله فهو المقصود ، وإن كان من قول البراء ، فهذا لا يقوله أحذ من قبل نفسه ررأيه ، فهو محموذ على أن النبي لكض قاله ، وسكت البراء عن رفعه لعلم المخاطب بذلك ، والله تعالى أعلم . وقد قيل عن البراء أنه قال : هما سؤال القبر وسؤال القيامة ، يعني : يزشد المؤمن فيهما إلى الضواب ، ويضرف الكافر عن الجواب . وقوله : فى وليهل أك ألبيئ " أ إبراهيم : 127) أي : يخذلهم عند الشزال ، قاله قتادة . وقوله : ا رلنمل ألته ما يمثئابر" أ إبراهيم : 127) أي : لا حجر عليه فيما ينعل . فهدى من شاء ، ومن شاء خذل . و(ترله : "صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه ") الصلاة هنا : بمعنى الرحمة ، وهذا يدلّ على : أن الروح كالشاكن في المنزل ، فهو عامره ومدبره . ويفيد ل الررح من تبيل الجواهر ، وأنها داخلة في الجسد ، وقد تكئمنا على ا لأرواح . وقوله : "فينطلق به إلى ربه ، ) أي : إلى كرامة رئه ، أو إلى محل إكرام رئه له وآخر الأجل هو يوم القيامة . والريطة الملاءة التي ليست لفقين .
---
(10/42)
وقوله : كيف يسمعون ، وأئى يجيبون وقد جئفوا) هذا من عمر - رضي الله عنه - استبعاذ على حنهم ما جرث به العادة ، فاجابه النبي تكلغ بانهم يسمعون كسمع الأحياء ، فيجوز أن يكون ذلك منهم دائمآ ، غير أنه منع الأحياء من إدراك ذلك من الميت ، وبجوز أن يكون في بعض الأوقات . وقد تقدَّم استيفاء هذا المعنى في الجنائز . والرواية في جثموا - بفتح الجيم والياء - مبنف للفاعل ، ومعناه : أنتنوا ، فصاروا جيفا. وصناديد قريش : ساداتها ؟ واحدهم صنديد. والطوقي : البئر المطوقي ، وقد سثاها في الرواية الأخرى تليبا ، وير البنر غير المطوية ، وهي : الركف أيضًا ، وقد تسامح من أطلق على القليب طويا .
(6) ومن باب : الحشر وكيفيته
الحشر : الجمع . ومنه قوله تعالى : إرصمثنرنفنم نم نغاءز قتم أئذا " أالكهف : 147 . والغزل : جمع أغرل ، وهو الأقلف ، والغرلة والقلفة : ما يقطعه ا لخاتن .
---
(10/43)
وقوله : اكما بدأنا )ؤل ختهي لغيل! " أ الأنبياء : 1104) أي : يعيده على خلقته الاولى لا ينقمر منها شيء . وقوله : "ألا إن أول الناس ينهسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ") هذا ، يد ، على : أن الناس كئهم - الأنبياء وغيرهم - يحشرون عراة ، كما قال في الحديث المتقذم ؟ وأن أهل الشعادة يكسون من ثياب الجنة ، ولا ش! في أن من كسي من ثياب الجنة فقد لبس جبة تقيه مكاره الحشر وعرقه ، وحز الشمس والنار ، وغير ذلك ، فظاهر عمومه يقتضي : أن إبراهيم يكسى قبل نبئنا محمديخ! فيجوز أن يكون هذا من خصاض إبراهيم ، كما قد خمق موسى - عليه السلام - بأن النبي رز يجده متعئقا بساق العرش ، مع أن النبي لي أول من تنشق عنه الأرض ، ولا يلزم من هذا أن يكونا أفضل منه مطلقا ، بل : هو أفضل من وافى القيامة ، وسيد ولد آدم ، كما دلننا عليه فيما تقدَّم ، وبجوز أن يراد بالناس من عداه من الناس ، فلم يدخل تحت خطاب نفسه ، والنه تعالى أعلم . وقد تقدَّم القول على قوله : "إثهم لم يزالوا مرتدين منذ فارتتقم " . وقوله : "يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين ، ) الطرائق ؟ ث الأحوال المختلفة ، والفرق المتفزتة ، رمنه قوله تعالى : ا ذن! بها لمرآط قدبرا ، 11 11 أالجن : 111 أي : فرقا مختلفة . قال القاضي : هذا الحشر هو في الدنيا قبل قيام الشاعة ، وهو آخر أشراطها ، كما ذكره مسلنم بعد هذا في ايات الشاعة ، قال فيه : "واخر ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس ، ، وفي رواية : "تطرد الناس إلى محشرهم "(ا). وفي حديث آخر : "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض اسجاز"(2). وبدل على : أنها قبل يوم القيامة قوله : (فتقيل معهم حيث قالوا ، وتمسي معهم حيث أفسؤا ، وضبح معهم حيث أصبحوا". قال : وفي بعض الررايات في غير مسلم : افاذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام " كانه أمر بسبقها إليه تبل إزعاجها لهم . وقد قال الأزهرقي في قوله : ا لأؤلط ألخشر" أالحشر : 2 ، ،
(10/44)
إن الحشر الأول إلى
---
الشام ، إجلاء بني النضير من بلادهم إلى الشام . قلت : وعلى هذا فيكون معنى راغبين في لقاء الله وفي ثوابه ، وهؤلاء هم المزمنون الذين و!مموا باسم الإيمان . وراهبين : أي : خائفين ، يعني بهم الكفار الذي وسموا باسم الكفر ؟ وذلك إذا طبع على كل قلب بما فيه عند طلوع الشمس من مغربها ، واذا خرجت دابة الأرض فنفخت في وجوه الناس ما شسم في وجه المؤمن : مؤمن ، وفي وجه الكافر : كافر ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
لمه . (قوله : "تدنى الشمس يوم القيامة") أي : تقرب . والميل : اسئم مشترك بين مسافة الأرض ، والمزود الذي تكحل به العين . ولذلك أشكل المراد على سليم بن عامر ، والأولى به هنا : مسافة الأرض ؛ لأنَّها إذا كان بينها وبين الرؤوس مقدار المرود فهي متصلة بالرزوس لقثة مقدار المرود . وقوله : "ويكون الناس في العرق على قدر أعمالهم ، فمنهم من يكون إلى تعز كعبيه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من الا. يلجمه العرق إلجاما") وقد تقدَّم أن الحقوين : الخصران . وقيل : هفا طرفا قد (1 ) نرح المزلف -رحمه الله - تحت هذا العنوان ما أشكل في أحاديث باب : دنو الشمس من الخلانق . . رباب : في المحاسبة ، ومن نوقش هلك .
---
(10/45)
الوركين ، والاول المعروف . وهذا العرق إنما هو لشذة الضغط ، وحر الشمس التي على الرؤوس بحيث تغلي منها الهام (ا) ، وحرارة الأنفاس ، وحرارة النار المحدتة بارض المحشر ؟ ولأنها تخرج منها أعناق تلتقط الناس من الموقف ، فترشح رطوبة الأبدان من كل إنسان بحسب عمله ، ثم يجمع عليه ما يرشح منه بعد أن ينوص عرقهم في الأرض مقدار سبعين باعا ، أو ذراعا ، أو عاما على اختلاف الروايات ، فإنَّ قيل : فعلى هذا يكون الناس في مثل البحر من العرق ؟ فيلزم أن يسبح الكل فيها سبحا واحدا ، نكيف يكونون متفاضلين بعضهم إلى عقبيه ، وبعضهم إلى فمه ، وما بينهما . قلنا : يزول هذا الاستبعاد باوجه ؟ أتربها وجهان : أحدهما : أن يخلق الله تعالى ارتفاعا في الأرض التي تحت تدم كل إنسان ، بحسب عمله ، فيرتفع عن الأرض بحسب ارتفاع ما تحته . وثانيهما : أن يخشر الناس جماعات في تفرقة ، فيحشر كل من يبه لغ عرقه إلى
---
(10/46)
كعبيه في جهة ، وكل من ينلغ حفويه في جهة ، وهكذا. والقدرة صالحة لأن تنسك عرق كل إنسان عليه بحسب عمله ، فلا يتصل بنيره ، دان كان بازائه ، كما قد أمسك جرية البحر لموسى -عليه السلام - حيث طلب لقاء الخضر ؟ ولبني إسرانيل حين اتبعهم فرعون ، والله تعالى أعلم بالواقع من هذه الأوجه . والحاصل : أن هذا المقام مقاتم هائل لا تفي بهوله العبارات ، ولا تحيط به الأوهام ، ولا الإشارات ، وأبلنع ما نطق به في ذلك الناطقون : ا تل هونويم عظئم 5أنتم عنه مغرضون " أمر ، : 67 - 68 لم . و(قرله : "من حوسب يوم القيامة عذب ") يعني سساب مناقشة ومطالبة ، كما قال في اللفظ الاخر : "من نوتش المحاسبة". والمناقشة : الاستقصاء في المطالبة بالجليل والحقير ، والصغير والكبير ، وترك المسامحة في شيء من ذلك . قال الهروي : يقال : انتقشت منه حقي ؟ أي : استقصيته منه . وقوله : "عذب ") ظاهره : عذاب النار جزاء عن سيئات ما أظهره حسابه . ويدل على ذلك قوله "هلك " أي : بالعذاب في النار . ويجوز أن يكون عذاب بعض من يناتش نفس المناقشة ، وما يلازمها من التوبيخ والثوم ، تم يغفر الله تعالى ، كما حكي أن بعض الضالحين رؤي في النوم بعد موته ، فقيل له : ما نعل الله بك ؟ فقال : حاسبونا فدئقوا ، ثم مثوا فاعتقوا . واعتراض عائشة - رضي الله عنها - بقول الله تعالى : ا فسؤف جط سب حسابم يسيم مإ" أالانشقاق : 8 ، إنما حملها عليه أنها تمسكت بظاهر لفظ الحساب ؛ لأنَّه يتناول القليل والكثير ، ولو سمعث لفظ المناقشة لما وقع لها ذلك ، والله تعالى أعلم .
---
(10/47)
وقوله : "إنما ذلك العرض ") يعني : أن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه ، ويوقف عليها تفصيلا حتى يعرف مئة الله تعالى عليه في سترها عليه في الدنيا ، رفي عقوه عنها في الآخرة ، كما جاء(1) في حديث ابن عمر الآتي بعد هذا . وقوله : "لا تزول تدما عبد يوم القيامة حتى يسال عن أربع ") عبد هنا : يراد به العموم ؛ لأنَّه نكرة في سياق النفي ، لكنه مخقممر بمن لا حساب عليه ، وهم الزمرة الشابقة إلى الجنة أولا ؟ الذين يقال للنبث ف فيهم : "أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن "(2). وبقوله تعالى : ايغرن أنمخرمون بسينهتم فيزفذ بابؤفى ولأظا ، ، أ الرحمن : 141 و، لؤئد هذا ما قد صخ في الحديث : أنه "يخرج من النار عنق فيقول : وكلت بكل جئار"(3) وكالى المراد بهذا الحديث اكثر من الناس ، والهه تعالى أعلم .
---
(10/48)
وقوله : "عن عمره فيم أفناه ؟ وعن جسده فيم أبلاه ؟ وعن علمه ما عمل فيه ، وعن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟") ظاهره : أنه يسال عن هذه الأربع مجملة كما نطق بها ، وليس كذلك ؟ بل : يسال عن آحاد كل نوج منها ، فيسال عن أزمانه من وتت تكليفه زمانا زمانا ، وعئا عمل عملآ عملا ، وعن معلوماته ، وما عمل بها راحدأ واحدأ ، وهكذا في سائرها تعيينا ، وتعديدا ، وتفصيلآ . والدليل على ذلك توله تعالى : ا فمن يتمل مثقال ذزة خنم بم يركل " ومن يغمل مثقال ززؤ شزا يز " أ ا لزلزلة : 7 - 8 ، ، وتا لوا : ا يؤظننا مال فذا ا نحصتب لا يغادرصحغيرة ولاكبيز إئ ثصنها " أالكهف : 49 ، ، وقوله : ا ونضع انمز!لن انقمند يؤءانقنمة فلا نظلم ننش ش!ا لم إن محات مثقال حت ! تن خررل أنننا بها بهض با خس!بيى بر ، ا الأنبياء : 47 ، ، ومثل هذا كثير في الشريعة ، ومن تصفح ذلك حصل على العلم القطعي ، واليقين الضروري من ذلك . رقوله : "يدنى المؤمن من رئه يوم القيامة)) هذا إدناء تقريب وإكرام ، لا إدناء مسافة ومكان ، ويحتمل أن يكون من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، كما قال : ا رننلى انقزية ، ايوسف : 82 م أي : أهلها .
---
(10/49)
وقوله : "حتى يضع عليه كنفه )) أي : ستره ، وجناح إكرامه ولطفه ، فيخاطبه خطاب الملاطفة ، ويناجيه مناجاة المصافاة والمحادثة ، فيقول : هل تعرف ؟ فيقول بلسان الفرح والاستبشار : ربئ أعرف ، فيقول الله له مفتنا عليه ، ومظهرا فضله لديه : "فاني سترتها عليك في الدنيا" أي : لم أفضحك بها بين الخلائق ، ولم أظلعهم على شي ج منها . ويحتمل أن يكون معنى ستره إياها : ترك المؤاخذة عليها ؟ إذ لو واخذه بها لفضحت العقوبة الذنب ، كما افتضحت ذنوب الأمم الشالفة بسبب العقوبات التي وقعت بهم ، فسارث بذنوبهم وعقوبتهم الزكبان ، رعلمها كل إنسان . وهل هذه الذنوب كبائر وصغانر ، أو صنائر فقط ؟ وهل كان تاب منها ، أر لم يكن ؟ هذه مباحث تطول ، وقد أشرنا إلى نكت منها فيما تقدَّم .
لهه !!ه "
(9) ومن باب : قوله : حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات
هذا من التمثيل الواتع موتعه ، ومن الكلام البليغ الذي انتهى نهايته ، وذلك أنه مثل المكاره بالحفاف ، وهو الذاء بالشيء المحيط به ؟ الذي لا يتوضل إلى ذلك الشء إلا بعد أن يتخطى ، وفائدة هذا التمثيل : أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره ، وبالضبر عليها ، وأن النار لا ثعجى منها إلا بترك الشهوات ، وفطام النفس عنها . وقد روي عنه ف أنه مثر طريق الجنة ، وطريق النار بتمثيل آخر ، فقال : "طريق الجنة حزن بربوة ، وطريق النار : سهل بسهوة"(ا) . والحزن : هو الطريق الوعر المسلك ، والزبوة : المكان المرتفع ، وأراد به أعلى ما يكون من الزوابي . والشهوة : بالسين المهملة ، وهيم الموضع الشهل الذي لا غلظ فيه ، ولا وعورة ، رهذا أيضًا تمثيل حسن واتغ موقعه ، وقد تقدَّم القول على أول حديث عياض في كتاب العلم .
---
(10/50)
وقوله : "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ") نظر : بمعنى أبصر ، والمقت : أشد البغض ، وأراد بالعجم هنا : كل من لا يتكلم بكلام العرب ، ويعني بذلك قبل بعث النبي لنهض وذلك : أن كلا الفريقين كان يعبد غير الله ، أو يشرك معه غيره ، نكان الكل ضلالآ عن الحق ، خارجين عن مقتض العقرل والشرائع ، فابغضهم الله لذلك أشذ البغض ، لكن لم يعاجنهم بالانتقام منهم حتى أعذر إليهم بأن أرسل إليهم رسولا ، وأنزل عليهم كتابا قظعا لمعاذيرهم ، لي اظهارا للحجة عليهم . لى انما اسثشى البقايا من أهل الكتاب ؛ لأنَّهم كانوا متمسكين بالحق ؟ الذي جاءهم به نبتهم ، ويعني بذلك - والله أعلم - : من كان في ذلك الزمان متمسِّكًا بدين المسيح ؛ لأنَّ من كفر من اليهود بالمسيح لم يبق على دين موسى ، ولا متمسِّكًا بما في التوراة ، ولا دخل في دين عيسى ، فلم يبق أحد من اليهود متمسِّكًا بدينن حق إلا من آمن بالمسيح ، واتبع الحق الذي كان عليه ، وأما من لم يؤمن به ، فلا تنفعه يهوديته ، ولا تمسكه بها ؛ لأنَّه قد ترك أصلآ عظيما مِمَّا فيها ، وهو العهد الذي أخذ عليهم في الإيمان بعيسى - عليه السلام - ؟ وكذلك نقول : كل نصراني بلغه أمر نبينا وشرعنا ، فلم يؤمن به لم تنفنه نصرانيته ؛ لأنَّه قد ترك ما أخذ عليه من العهد في شرعه . ولذلك قال في : "والذي نفسي بيده ! لا يسمع بي أحذ من هذه الأمة : يهودئ ، ولا نصراني ، ثم يموت ، ولم يؤمن بالذي أرسلت إلا كان من أصحاب النار ، (1) . وقوله : "إنما بعتعك لأبتليك ، وأبتلي بك ") أي : لأمتحنك بتبليغ الرسالة ، والضبر على معاناة أهل الجاهلية ، وأمتحن بك ؟ أي : من امن بك واتبعك أثبئه ، ومن كثبك وخالفك انتقمت منه وعاقبته . وقوله : "وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء") أي : يسرت تلاوته وحقظه ، ال فخف على الألسنة ، روعثه القلوب ، فلو غسلت المصاحف لما انغسل من % الصدور ،
(10/51)
رلما ذهب من
---
الوجود ، ويشهد لذلك قوله تعالى : ا إناتحن نزلغا ألذش لرنا للم لحتنؤ ، أالحجر : 9 ، ، وقوله : ا ولتذ يمش بم ائقزان للذكرفهذ من تدكي " أالقمر : 17 ، ، رفي الاسرائيليات : أن موسى - عليه السلام - قال : يا رب ! إني أجد أمة تكون أناجيلها في صدورها نانجعنهم أمتي ، قال : تلك أمة محمد . وقوله : "تقرزه نائما ويقظان ") يحتمل أن يريد بذلك : أنه يوحى إليه القرآن في اليقظة والمنام ، وقد تقدَّم أن رزبا الأنبياء وحي . ويحتمل أن يكون معنى نائم هنا : مضطجعآ ، يعني في صلاة المريض ، قالهما القاضي ، وفيهما بغذ ، وأشبه منهما إن شاء الله أن الله يشره على لسان نبيه ، وذكره ، بحيث كان يقرؤه نائما كما كان يقرؤه منتبهآ. لا يخل منه بحرف ، لا سيما وقد كان لض تنام عيناه ولا ينام قلبه (ا). وقد شاهذنا المديمين على تكرار القران يقرؤون منه الكثير وهم نيائم ، وذلك قبل استحكام غلبة النوم عليهم . وقوله : "إن الله أمرني أن أحزق تريشا") أي : أغيظهم بما أنممعهم من الحق الذي يخالف أهواءهم ، وأؤبم تلوبهم بعيب الهتهم ، وتسفيه أحلام آبائهم ، وققالهم ، ومغالبتهم حتى كانن أحرق قلوبهم بالنار. ولا يصخ أن يحمل ذلك على حقيقته ؛ لأنَّ الن! ئ لم يصخ عنه أنه حزق أحدأ من قريش بالنار ، بل قد نهى عن التعذيط يالنار ، وقال : "لا يعذب بالنار إلا الله "(2) .
---
(10/52)
وقوله : "فقلت إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة") الرؤية الصحيحة المشهورة بالثاء المثلثة والعين المعجمة ، ومعناه : يشدخوا . قاله الهروي ، وقال شمر : الثلغ : فضخك الشيء الرطب باليابس ، وقد رواه العذري : فقلعوا -بالقاف والعين المهملة - ، ولا يصخ مع توله : "فيدعوه خبزة" ومعنى هذا أنه شته الرأس إذا شدخ بالخبزة إذا شدخت لتعرد . فلت : وهذا الذى قاله النث ف من نحو ما قاله موسى -عليه السلام - حين أمر بتبليغ الرسالة إلى فرعون ف : ا ظ ل ت إت أفاف أن يكذبون 5ولحضيق صهذلى ولايخطلن لساق فمازسل إفى فروق 5بنم ش ذفت ؟ناق أن يقتكولؤ" أالشعراء : 12 - 4 ا! فهذا صريخ في أنهما خافا غير الله ، وحينئذ يعارضه قوله تعالى في صفة الرسل الذين يبلغون رسالات الله ، ويخشونه ، ولا يخشون أحدأ إلا الله . وهذا نص في أن الرسل لا تخشى إلا الله ، وهذا هو المناسب لمعرفتهم بالله ، وأنه ليس في الرجود فاعل ، ولاخالق إلأ هو ، رخصوصا لأولي العزم من الزسل ، وخصوصا لمحمد وموسى - صلى الله عليهما -. ويرتفع التعارض من وجهين : أحدهما : أن ذلك الخوف كان منهما في بدايتهم قبل تمتهنهم لص اعلامهم بحميد عواقب أحوالهم ، وتنل تامينهم ، فلما مكنوا وأمنوا لم يخشوا إلا الله ، ولذلك كان النبي ت في أول أمره يخرس ، وهو في منزله ، فلما أنزل الله تعالى : ا رألنه يغمهمف من أن س " أالماندة : 167 أخرج رأسه إليهم فقال : "اذهبوا فقد عصمني ربي "(1) . وثانيهما : على تسليم أن يكون ذلك منهم في غير بدايتهم ، لكن ذلك الخوف هو الذي لا ينفك البشر عن فجاته ، ووقوع بادرته ، حتى إذا راجع الإنسان عقله ، وقد تجر أمره اضمحل ذلك الخوف أئ اضمحلال ، وحصل له من (ام ، 515اك مدء ، (3046)-
---
(10/53)
معرفة الفه وخشيته ما يستحقر معه رسوخ الجبال ، والله تعالى أعلم . وقوله : "استخرجهم كما استخرجوك ") أي : أخرجهم كما أخرجوك . والسين والتاء زائدتان كما يقال : استجاب بمعنى أجاب . وقد رواه العذري : كما أخرجوك . وهذا يدم على أن هذا القول صدر عن النبي ت بالمدينة بعد الهجرة ؟ فإنَّ أهل مكة هم الذين أخرجوه من مكة حف هاجر إلى المدينة . وقوله : "واغزهم نغزك ") أي : اعزنم على غزوهم ، واشرغ فيه نعتك على غزوهم ، وننصرك عليهم . وقوله : "وابععث جيشا نبعمث خمسة مثله ") هذا يدل على أن هذا كان قبل غزوة بدر ؛ لأنَّ النث ت كان يوم بدبى في ثلاثمنة من أصحابه ونيس ، وقيل : ثلاثة عشر ، وقيل : سبعة عشر ، فامذه الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة كما نطق القران به . وقوله : "أهل الجنة ثلاثة") أى : المتافلون لدخولها ، الضالحون له . وقوله : "ذو سلطان مفسظ ، متصذق ، موفق ") مقسط وما بعده مرفوغ على أنها صفالث لذو ، وير بمعنى صاحب . والمقسط : العادل . والمتصذق : المعطي للضدتات . والموفق : المسذد لفعل الخيرات . وقوله : "رحيئم ، رقيق القلب لكل ذي قربى ومسكين أ(ا)) رحيم : كثير
الرحمة . والقربى : القرابة . ررقيق القلب : لثعه عند التذتهر والموعظة ، ويصخ أن يكون بمعنى الشفيق .
---
(10/54)
وقوله : "رضعيف متضغف ") يعني : ضيفا في أمور الدنيا ، قويا في أمر دينه ، كما قال : "المؤمن القوقي أحسث إلى الهه من المؤمن الضيف ، وفي كل خير"(ا). وكما قد ذئم الضف في أمور الذين ، جعله من صفات أهل النار كما قال : "وأهل النار خمسة : الضيف الذي لا زبر له ". والزنر هنا : العقل . قاله الهروقي . وفي الضحاح : يقال : ما له زبر ، أي : عقل وتماسك . فلت : وسئي العقل زبرا ؛ لأنَّ الزنجر في أصله هو المنع والزجر. يقال : زبره يزبره بالضم زبرأ ؟ إذا انتهره ومنعه . ولما كان العقل هو المانع لمن ائصف به من المفاسد والزاجر عنها ؟ سئي بذلك . وقد قيل في الزنجر في هذا الحديث : أنه المال ، وليس بشيء .
وقوله : "الذين هم فيكم تبعا لا ينتنون أهلا ولا مالا") هذا تفسيز من النبي ئ لقوله أولآ : "الضيف الذي لا زبر له ) فيعني بذلك : أن هؤلاء القوم ضعفاء العقول ، فلا يسعون في تحصيل مصلحتن دنيوية ، ولا فضيلة نفسية ، ولا دينية ، بل : يفملون أنفسهم إهمال الأنعام ، ولا يبالون بما يثبون عليه من الحلال والحرام ، وهذه الأوصاف الخبيثة الدنيئة هي أوصاف هذه الطائفة المسقاة با لقلندرية ( 2 ) .
---
(10/55)
وقوله : قلت : ويكون ذلك يا أبا عبد الله ؟ قال : نعم ! والله لقد أدركتهم في الجاهلية ، لى ان الرجل ليرعى على الح! ما به إلا وليدتهم يطؤها) هذا القائل هو قتادة . وأبو عبد الله هو مطزف بن الشخير الذي روى عن عياض بن حمار. ويدل هذا على أن مطزنا أدرك الجاهلية ، وأنَّه صحابي لإ ، لى ان لم يذكره أبو عمر في "الضحابة" ، وكان حفه أن يذكره ؛ لأنَّ من شرطه أن يذكر من ولد في زمن النب! ئ ومطزف ولد في زمانه ف على ما قاله ابن قتيبة وغيره . والحئ : القبيل . والوليدة : الأمة ، ووجدت مقيدا في أصل أبي الصبر ، معتنى به ، مصخحا عليه : "إلا وليدتهم " بفتح التاء ، ووجهه أنه استمناء من مستثنى محذوف ، تقديره : ما به ثيء أو حاجة إلا وليدتهم . ووقع في بعض النسخ : إلأ وليدة ، غير مضاف . وقوله : "والخائن الذي لا يخفى له طمغ - وان دق - إلا خانه ") الخائن : هو الذي ياخذ مما اؤتمن عليه بغير إذن مالكه ، ريخفى له - هنا - بمعنى يظهر كما قال (1) : خفاهن من أتفاقهن كه لما خفاههن وذق من عشئ مجلب أي : أظهرهن . وخفي من الأضداد. يقال : خفيت الشيء أي : أظهرته وسترته . قاله أبو عبيد. وقوله : "وذكر البخل والكذب ") هكذا الرواية المشهورة فيه بالواو ( 1 ) هو الشاعر : امرؤ القيس .
---
(10/56)
الجامعة ، وقد رواه ابن أبي جعفر عن الطبري باو التي للشك . قال القاضي : ولعله الصواب . وبه وتصخ القسمة ؛ لأنَّه ذكر أن أصحاب النار خمسة : الضيف الذي وصف ، والخائن الذي وصف ، والرجل المخادع الذي وصف . قال : وذكر البخل والكذب ، ثم ذكر ال!نظير الفخاش ، فرأى هذا القائل أن الرابع هو صاحب أحد الوصفين ، وقد يحتمل أن يكون الرابع من جمعهما على رواية واو العطف ، كما جمعهما ف! الشنظير الفخاش . وكذلك قوله : "أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصذق موفق ، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي تربى ومسكين ، وعفيف متعفف ذو عيال " . قال : كذا قين دناه بخفض مسلم عطفا على ما قبله ، رفي رواية أخرى : "ومسلم عفيف " بالرفع وحذف الواو . قلت : العفيف : الكثير العفة ، وهي الانكفاف عن الفواحش ، وعقا لا يليق . والمتعفف : المتكئف للعفة . والشنظير : الشئىء الخلق ، في الصحاح : رجل شنظير وشنظيرة ، أي : سئىء الخلق . قالت امرأة من العرب : شنظيرج زز جنيه أفلي من حنقه يخسب رم سي رنجلي كه فه لنم يرأتثى قنلي إ! ح وربما قالوا : شنذيرة -بالذال المعجمة- لقربها من الظاء لغة ، أو لثغة . والفخاش : الكثير الفحش . وقيل : الشنظير : هر الفحاش . قال صاحب "العين " : يقال : شتظر بالقوم : شتم أعراضهم . والشنظير : الفحاش من الرجال الغنق ، وكذلك من الإبل . وقوله : "ألا أخبركم باهل الجنة : كل ضيف متضغف ") الصحيح في
---
(10/57)
متضغف -فتح العين - على انه اسم مفعول ، وكذا وجدتة في كتاب الشيخ أبي الصبر ، ويعني بذلك : أن الغالب على صفة أهل الجنة الضيف عن نيل الدنيا ، ا ومالها ، وجاهها ، ومناصبها ، لى ايثار الخمول والتواضع فيها ، يلبسون زرفي أ الملابس ، ولا يلتفتون إلى فاخر المراكب ، ولا إلى صدور المجالس ، عنما منهم بانهم على جاذة سفر ، وأن الدنيا ليست بمقز ، فاحوالهم أحوال المسافرين المرملين . فهنم كما وصفهم النبي ت بقوله : "ربئ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبزه "(ا). والأشعث : المتلئد ال!عر ، والأغبر : الذي علثه غبرة الغبار. والأطمار : الثياب الرثة . ولا يزبه له : لا يلتفت إليه . يقال : فلان لا يؤبه ، ولا يؤبه له ؟ أي : لا يبالى به . ابن الشكيت : ما وبهت به ، وما وبهت له ؟ أي : ما فطنت له . وأنت تنبه بكسر التاء مثل تيجل ؟ أي : تبالي . فإنَّ قيل كيف تكون هذه أوصاف أهل الجنة ، وكيف تحمد هذه الأوصات ، وقد أمر الشرع بالنظانة والزينة في الجمع والأعياد والتطتب ، وكان النبف ت يتطئعبئ ويتنفف ، ويتزتن للوفود وللجمع والأعياد. قلنا : لا تناتض بين هذا ، وبين ما وصف به النبي لكلشه أهل الجنة ، فائه ئ إنما وصف هؤلاء القوم باغلب أحوالهم . وغالب أحوالهم : ملازمة الأسفار الشرعية من الحبئ والجهاد ، والسياحة في الأرض ، والفرار باديانهم من الفتن . ومع ذلك كته فيتنظفون النظافة الشرعية ، وبتزثنون التزئن الشرفي إذا حضر وقته ، وأمكنهم ذلك ، ويحضرون جماعات المسلمين وجمعاتهم . فهم مع الناس كائنون ، وعنهم باننون ، داخلون في غمارهم ، ومستترون بخمولهم ا" وأطمارهم ، وقد توخهوا إلى الحن ، وأعرضوا عن الخلق . وعلى الجملة فمقصود ال هذا الحديث أن أحوال أها ، الجنة على النقيض من أحوال أهل الثار ، ألا ترى أنه ألي (ا) رراه أحمد(5/3 4 ا) ، والترمذى(4 385)عن أنس -رضي الله عنه -. اك
---
(10/58)
قابل صفات أهل الجنة وذكر نقانضها في أهل الثار ؟ فقال : وأهل الثار كل جواظ ، زنيم ، متكئر ، عتذ . فالجؤاظ : الجموع المنوع . حكاه الهروي . وقال غيره : الكثير اللحم المختال ، يقال : جاظ يجوظ جؤظا : إذا كان كذلك . وقال ابن دريد : هو الجافي القلب . والعتل : قيل : الجافي الشديد الخصومة . وقيل : هو اكول ال!روب الظلوم . والعثل : هو العنف . ومنه سئيت القسئ الفارسية : عتلا لشذتها . والزنيم هنا : هو الذي يعرف بالشر. كما تعرف الشاة بزنمتها . وقيل : هو اللئيم ، وأما الزنيم المذكور في الاية ؟ فقيل : إنه رجل بعينه له زنمة كزنمة التيس ، وهي الغديرة المتعلقة بعنقه . وقيل ؟ هو الوليد وكان له زنمة تحت أذنه ، وقيل : هو المنصق بالقوم وليس منهم ، وقيل : هو الأخنس بن شرقي . وكان حليفا منحقا. والمتكئر : الموصوف بالكبر المستعمل له ، وقد بئنا الكبر فيما تقدَّم . وقوله : اربئ أشعث مدفوج بالأبواب ") أصل رفي للتقليل وقد تاتي للتكثير. وقد جاءت كذلك في شعر امرىء القيس كثيرأ. قال : فيا ربئ منهروب كرزت رراءه وعان فكنهت الغل عنه ففذاني وتا ل : وبا ربئ يؤم تذ لهؤت وليلتن بمانسة كاثها خط تفثال ومثله كثير قصد به مدح نفسه ، ولا يممذح بالقليل النادر ، بل : بالكثير المتكرر ، رتصلح ربئ في هذا الحديث أن تحمل على الكثير ، فكانه قال : كثير ممن يكون هذا حاله لو أقسم على الله لأبزه . وقوله : "مدفوع بالأبواب ") أي : عن أبواب الملوك والكبراء ، فلا يسمع له قول ، ولا تقضى له حاجة ؟ لكونه لا يعرف ، ورث الهيئة ؟ أي : زرجمها بحيث تحتقره العين . وقوله : "لو أقسم على الله لابزه ") قيل فيه : لو دعا لأجابه . فلت : وهذا عدوذ عن أصل وضع الكلام من غير ضرورة . بل : هو على أصله ، وقد دذ على هذا ما تقدَّم من حديث أم الزتيع حيث قال أنس بن النضر : والله لا يمسر ثنيابر الزبئع ، ثم لما رضي الطالب بالذية . قال رسول الله لتهض : "إن من عباد
(10/59)
الله من لو
---
أقسم على الله لأبزه ، (1). وقوله : "يدخل الجئة أتوائم أفئدتهم مثل أفئدة الطير") يحتمل أن يقال : إنما شبهها بها لضفها ورفتها ، كما قال في أهل اليمن : "هم أرق قلوبا ، وأضف أفئدة ، (2) ، ويحتمل أنه أراد بها أنها مثلها في الخوف والهيبة ، والطير على الجملة أكثر الحيوانات خوفا وحذرا ، حتى قيل : أحذر من غراب . وقد غلب الخوف على كثير من الشلف حتى انصدعمث قلوبهم فماتوا .
(0 ا) ومن باب : صفة الجنة وما أعد الله فيها
---
(10/60)
(قوله : "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر") "ذخرا" الرواية المشهورة بالدال المعجمة المضمومة ، أي : مدخرا ، وهو مصدر ، يقال : ذخرت الشيء أذخره ذخرا ، واذخرته أذخره ادخارا بالادغام هو افتعلت ، ووقع في طريق الفاس سي ذكرا بالكاف ، ولبعضهم "دخر" بغير تنوين . وليسا بشيء ، ومعنى هذا الكلام : أن الله تعالى اذخر في الجنة من النعيم ، والخيرات ، واللذات ما لم يطلع عليه أحذ من الخلق ، لا بالإخبار عنه ، ولا بالفكرة فيه ، وقد تعزض بعغر الناس لتعيينه ، وهو تككف ينفيه الخبر نفسه ، إذ قد نفى علمه والشعور به عن كل أحد ، ويشهد له ، وشققه قوله : (بله ما أطلعكم الله عليه " أي : دبخ ما أطلعكم عليه . يعني : أن المعذ المذكور غير الذي أطلع عليه أحدأ من الخلق . وبنه : استم من أسماء الأفعال بمعنى : دع . هذا هو المشهور فيها ، وقيل : ير بمعنى غير ، وهذا تفسير معنى. وقوله : "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر الشريع منة عام لا يقطعها") الرواية التي لا يعرف غيرها الراكب مرفوع ، فاعل يسير ، والجواد منصوب مفعول بيسير ، والمضئر : نعته ، وكذلك الشريع ، ومعناه : يخري الراكب فرسه السريع الذي قد ضئر هذه المذة فلا يقطعها ، وقيل : هي شجرة طوبى ، والله تعالى أعلم . وقد تقدَّم القول في تضمير الخيل في كتاب الجهاد. ومعنى ظتها : نعيمها وراحتها ، من قولهم : عيش ظليل ، وقيل : معنى ظلها : ذراها ، وناحيتها ، وكنفها ، كما يقال : أنا في ظئك ، أي : في كنفك ، وحوطتك .
---
(10/61)
قلت : والذي أحوج إلى هذين التأويلين أن الفل المتعارف عندنا إنما هو وقاية عن حز الشمس وأذاها ، وليس في الجنة شمس ، وإنما ير أنوار متوالية لا حز فيها ، ولا تز ، بل : لذات مترالية ، ونعم متتابعة . و(ترله : ا أحل عليكم رضواني ") أي : أوجب لكم رضاني ، فلا يزول عنكم أبدا دائما لا انقطاع له برجيما من الوجوه ، وقد أتهد ذلك بقوله : "فلا أسخط عليكم بعده أبدأ" .
. . لمه
(11 و12 و13 و4 ا)
ومن باب : غرف الجنة(1) قوله : "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدرمف ") يعني : أن أهل السفل من الجنة ينظرون إلى من فوقهم على تفاوت منازلهم ، كما ينظر من على الأرض درارقي السماء على تفاوت منازلها . فيقال : هذا منزل فلان ، كما يقال : هذا المشتري مثلآ ، أو الزهرة ، أو المريخ ، وقد بتين ذلك بقوله : لتفاوت ما بينهما . وسئي الكوكب دزيا لبياضه وصفائه ، وقيل : لأنه شئه بالدز في صفائه . وقوله : "الغابر من الأفق ، من المشرق أو المغرب )) الرواية المشهورة : الغابر بواحدة ، ومعناه الذاهب والباقي على اختلاف المفسرين ، وغبر من الأضداد. يقال : غبر إذا ذهب ، وغبر إذا بقي ، ويعني به : أن الكوكب حالة طلوعه وغروبه بعيذ عن الأبصار فيظهر صغيرا لبعده ، وقد بينه بقوله : في الأفق من المشرق أو المغرب ، والأفق : ناحية السماء ، وهو بضم الهمزة والفاء وبسكونها ،
---
(10/62)
كما يقال : عشز وعشر ، وجمعه : آفاق ، وقد قتدنا تلك اللفظة على من يوثق به : الغائر -بالهمز- : اسم فاعل من غار. وقد روي في غير مسلم الغارب بتقديم الراء ، ويروى : العازب بالعين المهملة والزاي ؟ أي : البعيد ، ومعانيها كلها متقاربة . ومن الأفق : رريناه ب (من ) التي لابتداء الغاية ، وير الظرف!ة ، وأما من المشرق ، فلم يزو في كتاب مسلم إلا ب (من ). وقد رواه البخاري في المشرق ب (في ) وهي أوضح ، فأمَّا من رواهما ب (من ) في الموضعين فازجه ما فيهما أن تكون الأولى لابتداء الناية ، والثانية بدل منها مبئنة لها. وقيل : إنها في قوله من المشرق لانتهاء الغاية ، وهو خروخ عن أصلها ، وليس معروفا عند أكثر الثخويين . وقولهم : تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : "بلى! والذي نفسي بيده ، رجاذ آمنوا بالله وصذتوا المرسلين ") كذا رقع هنا هذا الحرف . بلى ؟ التي أصلهاحرف جواب وتصديق ، وليس هذا موضعها ؛ لأنَّهم لم يستفهموا ، وإنَّما أخبروا أن تلك المنازل للأنبياء لا لغيرهم . فجواب هذا يقتضي : أن تكون (بلى) التي لحه ضراب عن الأول وإيجاب المعنى للثاني ، فكانه تسومح فيها ، فوضعث بلى موضع بل . ورجاذ مرفوع بالابتداء المحذوف ، تقديره : هم رجال . وفيه أيضًا تو!تسغ ؟ أي : تلك المنازل منازل رجال آمنوا بالله ؟ أي : حق إيمانه ، وصدقوا المرسلين ؟ أي : حق تصديقهم ، لى الا فكل من يدخل الجنة آمن بالله ، وصذق رسله ، ومع ذلك فهنم متفاوتون في الدرجات ، والمنازل ، وهذا واضح .
---
(10/63)
وقوله في لابن مياد : "ما تربة(1) المجنة") هذا نص في أن النبي لمجص هو تر الشائل لابن صياد عن تزبة الجنة ، وفي الرواية الأخرى : أن ابن صياد هو الذي سال الثبي في عن تزبة الجنة(2) ، فهاتان روايتان ، والواقع منهما إحداهما ، والله أعلم ، وكيفما كان فالخبر عن تزبة الجنة صذق وصحيح ؛ لأنَّه إن كان الجواب من النبف بر فهو حق ، إذ الكذب عليه محال ، وإن كان ابن صياد هو الذي قاله فقد علمنا صحة ذلك من جهة أن النبي ت صذقه في ذلك ، ويكون ابن صياد علم ذلك من جهة ما ألقاه إليه شيطانه من الكلمات التي استرق سفعها ؛ لأنَّ ابن صياد كان من الكفان على ما يأتي في حديثه . والدرمكة : دقيق الحؤارى . شثه تربة الجنة به في حعنعن لونها ، ونعيمها ، وشثه رائحتها بالمسك ، وهذا تشبيه تقريب ، وأين الثريا من الثرى ؟ ! . وقوله : "إن في الجنة لسوقا ياتونها كل جمعة") ائسوق : يذئهر ويؤنث ، "
---
(10/64)
وسئي سوقا لقيام الناس فيها على ساق ، وقيل : لسؤق الناس بضائعهم إليها ، فيحتمل أن يكون سوق الجنة عبارة عن مجتمع أهل الجنة ، ومحل تزاورهم ، وسئي سوقا بالمعنى الأول ، ريزئد هذا أن أهل الجنة لا يفقدون شيئا حتى يحتاجوا إلى شرانه من السوق ، ويحتمل أن يكون سوقا مشتملا على محاسن مشتهيات مستلذات تجمع هنالك مرئبة محشنة ، كما تجمع في الأسواق ، حتى إذا جاء أهل الجنة فرأرها ، فمن اشتهى شيئا وصل إليه من غير مبايعة ولا معاوضة ، ونعيم الجنة وخيرها أعظم وأرسع من ذلك كله ، وخمق يوم الجمعة بذلك لفضيلته ، رلما خضه الله تعالى به من الأمور التي تقدَّم ذنهرها ؟ ولأنه يوم المزيد . أي : اليوم الذي يوفى لهم ما رعدوا به من الزيادة . وأيام الجنة تقديرية ؟ إذ لا ليل هناك ولا نهار ، وإنما هناك أنوار متوالية لا ظلمة معها ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى . وقوله : افتهمبئ ريح ال!مال فتحثو في وجوههم وثيابهم ") ريح ال!مال في الدنيا : ير التي تاتي من دلوبر القبلة من ناحية الشام ، وير التي تاتي بلاد العرب بالأمطار ، فهي عندهم أحسن الأرياح ، فلذلك سئي ريح الجنة بالشمال ، وفي الشمال لغات . يقال : شمال ، رشمال ، وشامل ، رشمل ، وشمول . حكاها صاحب ة العين ". وبقابلها : الجنوب ، وقد سئيت هذه الريح في حديث آخر بالمثيرة ؛ لأنَّها تثير النعيم والطيب على أهل الجنة .
---
(10/65)
وقوله : "أول زمرة يدخلون الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر") الصورة ، بمعنى الصفة ، يعني : أنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه ، ركماله ، وهي ليلة أربعة عش!عر ، ربذلك سمي القمر بذرأ في تلك الليلة ، رمثتضى هذا أن أبواب الجنة متناوتة بحسب درجاتهم . وقوله : "لا يبولون ، ولا يتنؤطرن ، ولا يتفلون ، ولا يمتخطون ") إنما لم تصدز هذه الفضلات عن أهل الجنة ؛ لأنَّها أقذاز مستخبثة ، والجنة منزهة عن مثل ذلك ، ولئا كانت أغذية أهل الجنة في غاية ، 1) اللطافة ، والاعتدال ، لم يكن لها فضلة تستقذر ، بل تستطاب وتستلذ ، وهي التي عثر عنها بالمسك فما قال : "ورشحهم المسك " . وقد جاء في لفظ آخر : الا يبولون ، ولا يتغؤطون ، له انما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك "(2) يعني : من أبدانهم .
---
(10/66)
وقوله : "أمشاطهم الذهب والفضة ، ومجامرهم الألؤة") يقال هنا : أقي حاجة في الجنة للأمشاط ، ولا تتلبد شعورهم ولا تتسخ ، وأي حاجة للبخور وربحهم أطيب من المسك ؟أ وبجاب عن ذلك : بأن نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن دقع ألم اعتراهم ، فليس مملهم عن جوع ، ولا شرابهم عن ظما ، ولا تطنبهيم عن نتن ، وإنما هي لذات متوالية ، رنجئم متتابعة ؟ ألا ترى توله تعالى لآدم : اإن لك ألآفي ع فيها رلاتغرئ 5وأئك لاتظمؤأ فيهاولاتضحش " أطه : 118 - 1119 ، وحكمة ذلك أن الفه تعالى نثمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنغمون به في الدنيا ، وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله كما قدمناه . وقد تقدَّم الكلام في الألوة وفي لغاتها ، رأنها : العود الهندقي في كتاب الطب . وقوله : "وأزواجهم الحرر العين ") الحور : جمع حوراء . والحور في اله ين : شدة بياضها في شدة سوادها . هذا المعروف . قال أبر عمرو : الحور أن تسوذ العين كتها مثل أعين الفباء والبقر. أوليس في بني %م حوز ، لم انما قيل للنساء : حور العين لأثهن تشئهن بالظباء والبقرأ(ا). قال الأصمعي : ما أدري ما الحور في العين . والعين : جمع عينا" وير : الواسعة العين . وفي الصحاح : رجل أعين : واسع العين ، والجمع : عين ، وأصله فعل بالضم ، ومنه قيل لبقر الوحش : عين ، والثور أغين ، والبقرة عيناء . وقوله : الكل واحد منهم زوجتان ") يعني : أن أدنى من في الجنة درجة له زوجتان ، إذ ليس في الجنة أعزب ، كما قال . وأما غير هؤل! فمن ارتفعت منزلته
(ا) ما بين حاصرتين مستدرك من (ز).
---
(10/67)
فزوجاتهم على قدر درجاتهم كما يأتي في قوله : "في الجنة درى طولها ستون ميلآ ، في كل زاوية منها أهل للمؤمن ما يرؤن الاخرين ". وبهذا يعلم : أن نوع النساء المشتمل على الحور والادميات في الجنة أكثر من نوع رجال بني آدم ، ورجال بني آدم أكثر من نسانهم ، وعن هذا قال ئ : "أقل ساكني الجنة نساء ، وأكثر ساكني جهنم النساء"(1) يعني : نساء بني آدم هن أقل في الجنة وأكثر في النار. وقوله : "يرى مخ ساقها من وراء اللحم ") يعني : من شدة صفاء لحم الساقين ، فكانه يرى مخ الساقين من وراء اللحم ، كما يرى السلك في جوف الذرى الصافية .
وقوله : "قلوبهم قلب واحد") أي : كقلب واحد ، يعني : أنها مطفرة عن مذموم الأخلاق ، مكئلة بمحاسنها ، نلا اختلاف بينهم ، ولا تباغض . وقوله : "يسئحون الله بكرة وعشيا") هذا التسبيح ليس عن تكليف دالزام ؟ اك لأن الجنة ليست محل تكليف ، وإنما هي محل جزاء ، وإنما هو عن تيسير دالهام ، ئش كما قال في الرواية الأخرى : "ينهمون التسبيح ، والتحميد ، والتكبير ، كما تلهمون النفس ". وونجه الئشبيه : أن تنفس الإنسان لا بذ له منه ، ولا كلفة ، ولا مشقة عليه في فنله . وآحاد التنفيسات مكتسبة للانسان ، وجفلتها ضرورية في حقه ، إذ يتمتهن من ضنط قليل الأنفاس ، ولا يتمئهن من جميعها ، فكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة ، وسز ذلك : أن قلوبهم قد تنؤرت بمعرفته ، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته ، وقد غمرتهم سوابغ نعمته ، وامتلأث أفئدتهم بمحبته ومخاللته . فالسنتهم ملازمة ذكره ، ورهينة بشكره ؟ فإنَّ من أحمبئ شيئا أكثر من ذكره ، وقد تقدم : أن أوقات الجنة من الأيام والساعات تقديريات . ( 1 )
---
(10/68)
وقوله : "أخلاقهم على خلق رجل واحد") قد ذكر مسلم اختلاف الرواة في تقييد خلق ؟ هل هو بفتح الخاء وسكون اللام ، أو بضمها ، وكذلك اختلف فيه رواة البخاري ، والذي يناسب ما قبله الضم ، فيكون معناه : أن أخلاقهم متسارية في الحسن والكمال . كتهم كريم الخلق ؟ إذ لا تباغض ، رلا تحاسد ، ولا نقص ، ويشهد له توله فيما تقدَّم : "قلربهم قلب واحد" . وقوله : "على طول أبيهبم آدم ، أو على صورة أبيهم ") اسشاف خبر اخر عنهم ، ريحتمل أن يريد به الخلق ، بالفتح والسكون ، ويكون قوله "على طول أبيهم " وما بعده مفشرا لذلك الخنق ، والأول أولى لما ذكرناه ، ولأثا إذا حملناه عليه استفدنا منه فائدتين ، ومن الوجه الناني فائدة واحدة ، وحفل كلام الشارع والفصحاء على تكثير الفوائد أولى ، كما تزرناه في الأصول . وقوله : "ستون ذراعا في السماء") أي : في الارتفاع ، وكل ما علاك فهو سماء ، ولمجني بذلك : أن الله تعالى أعاد أهل الجنة إلى خنقة أصلهم الذي هو آدم ، وعلى صفته وطوله الذي خلقه الله عليه في الجنة ، وكان طوله فيها ستين ذراعا في الارتفاع من ذراع نفسه ، والله أعلم . وبحتمل أن يكون ذلك الذراع مقدرا باذرعتنا المتعارفة عندنا. ثم لم يزذ خنق ولده وطولهم ينقمر ، كما جاء في الرواية ا لأخرى . وقوله : "خلق الله آدم على صورته ") هذا الضمير عائذ على أقرب مذكور ، وهو آدم ، وهو أعثم ، رهذا الأصل في عود الضانر ، ومعنى ذلك : أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها لم ينتقل في النشاة أحوالا ، ولا تردد في الأرحام أطوارأ ؟ إذ لم يخلفه صنيرا فكبر ، ولا ضعيفا فقوي ، بل خلقه رجلا كاملا سوتا تويا ، بخلاف سنة الله في ولده ، ويصخ أن يكون معناه للأخبار عن أن الله تعالى خلقه يوم خلقه على الضورة الي كان عليها بالأرض ، وأنه لم يكن في الجنة على صور ؟ أخرى ، ولا اختلفث صفاته ، ولا صورته ، كما تختلف صور الملائكة والجن ، والنه تعالى أعلم .
(10/69)
ولو ستمنا : أن
---
الضمير عائذ على الله تعالى لصخ أن يقال هنا : إن الصورة بمعنى الصفة ، وقد بثناه فيما تقدبم . وقد ذكرنا في قوله : "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر" فإنَّ معناه على صفته من الإضاءة ، لا على صورته من الاستدارة . وقوله : "فلما خلقه الله قال : اذهعبئ فسلم على أولئك الثفر ، وهم نفز من الملانكة جلوس ")0 الكلابم إلى آخره دليل على تائهد حنهم السلام ، فإنَّه مما شرع وكئف به آدم ، ثم لم ينسخ في شريعة من الشرائع ، فإنَّه تعالى أخبره أنها تحيته ، رتحثة ذريته من بعده ، ثم لم يزذ ذلك سولآ به في الأمم على اختلاف شرائعها ، إلى أن انتهى ذلك إلى نبئنا محمدت فامر به وبافشائه ، وجعله سببا للمحبة الدينية ، ولدخولى الجنة العلثة ، وهذا كته يشهد لمن قال بوجوبه ، وهو أحد القولين للعلماء ، وقد تقدَّم القول في ذلك . وقوله : "سيحان وجيحان والنيل والفرات : كل من أنهار الجنة)) هذه كل الأنهار الأربعة : أكبر أنهار الإسلام . فالنيل ببلاد مصر ، والفرات بالعراق ،
رسيحان وجيحان ببلاد خراسان ، ويقال : سيحون وجيحون ، وظاهر هذا الحديث : أن أصل هذه الأنهار وماذتها من الجنة ، كما قذمناه في أحاديث الإسراء. وقد تقدَّم : أن النيل والفرات يخرجان من أصل سذرة المنتهى ، وقد نصن عليه البخارقي ، ويحتمل أن يكون المراد ؟ أنها تشبه أنهار الجنة في عذوبتها وبركاتها ، واكل بعد من هذا احتمال أن يكون المراد بذلك : أن الإيمان غمر بلاد هذه الأنهار ، وفاض عليها ، وأن غالب الأجسام المتغذية بهذه المياه مصيرها إلى الجنة .
---
(10/70)
(15 و6 ا) ومن باب : صفة جهنم أعاذنا الله منها(1) (قوله : "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف مللث يجزونها") قد تقدَّم : أن جهنم اسم علما لنار الآخرة ، وكذلك : سقر ، ولها أسماء كثيرة-أعاذنا الله منها- ، ولمجني : أنها يجاء بها من المحل الذي خلقها الله فيه ، فتدار بارض المحشر حتى لا ينقى للجنة طريق إلا الصراط ، كما دلت عليه الأحاديث اسحيحة . والزمام : ما ثرئم به الشيء ؟ أي : يشذ ويزبط ، وهذه الأزقة ( 1 ) شرح المزلف - رحمه الله - تحت هذا العنوان : هذا الباب ، والباب الذي يليه بعنوان : تعظيم جسد الكافر ، وتعظيم العذاب بحسب أعمال الأعضاء .
---
(10/71)
التي تساق جهثم بها أيضًا تمنع من خروجها على أهل المحشر ، فلا يخرج منها إلا الأعناق التي أمرت باخذ من شاء الله أخذه . رملائكتها -كما وصفهم الله تعالى - : ا غلا 4 شدابر لا تضون ألته مما أمرهنم لي لقطون ما ايؤص ون " أ التحريم : 6 ، ، وأما هذا العدد المحصور للملانكة فكاثه عدد رؤسائهم ، وأما جملتهم فالعبارة عنها ما قال الله تعالى : ا رما بئ !ؤ لوفى إلاهو" أالمدثر : 131 . وقوله : "ناركم هذه الض يوقد ابن آدم جزة من سبعين جزءا من نار جهنم ") يعني : أنه لو جمع كل ما في الوجود من النار التي يوقدها بنوآدم لكانت جزءا من أجزاء جهنم المذكورة ، ربيانه : أنه لو جمع حطب الدنيا فوقد كله حتى صار نارا ؟ لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم ؟ الذي هو من سبعين جزءا أشد من حر نار الدنيا كما بينه في اخر الحديث . وقولهم : والله إن كانت لكافية)(1) ، إن : في مثل هذا الموضع مخففة من الثقيلة عند البصريين ، وهذه اللام هي المفرقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة ، وير عند الكوفيين بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا ، تقديره عندهم ما كانت إلا كافية . وعند البصريين : إنها كانت كافية . فاجابهم النبف ف بانها كما فضلت عليها في المقدار والعدد بتسعة وستين جزءأ نضلت عليها في شدة الحر بتسعة وتسعين ضعفا.
وقوله : إذ سمع وجبة) أي : هذة ، وهي صوت وقع الشيء الثقيل . (ا) هذه الفقرة لم ترد في التلخيص ، وهي من الحديث (2843)(0 3) في صحيح مسلم .
---
(10/72)
وقوله : "أتدرون ما هذا؟") دليل على أنهم حين سمعوا الوجبة خرق الله لهم العادة ، فسمعوا ما ضنعه غيرهم ، رالا فالعادة تقتضي مشاركة غيرهم في سماع هذا الأمر العظيم ، ففيه دليل على : أن النار قد خلقت وأعذ فيها ما شاء الله مما يعذب به من يشاء ، وهر مذهب أهل السنة خلانا للمبتدعة . وقوله : "ضرس الكافر ، أو ناب الكافر مثل أحد . . . الحديث ") إنما عظم خلقه ليعظم عذابه ، وبتضاعف ، وهذا إنما هو في بعض الكفار بدليل : أنه قد جاءت أحاديث أخر تدك على : أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أمثال الذز في صور الرجال ، يساقون إلى سجن في جهنم يسثى : "بولس "(ا) وقد تقدم قوله : "إن أهون أهل النار عذابا من في رجليه نعلان من نار تغلي منها دماغه ، وهو أبو طالب "(2 ، . ولا شك في أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من تنا ا الكت!اب والسنة ، ولأنا نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء الي والمسلمين ، وفتك فيهم ، وأفسد في الأرض وكنر ؟ مساويا لعذاب من كفر فقط ، جي وأحسن للأنبياء والمسلمين ، رهذا البحث ينبني على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وقد ذكرنا ذلك في الأصول . وقوله : افمنهم من تاخذه النار إلى كعبيه . . . الحديث ") والحجزة : معقد السراويل ، والازار . والتزتو ، : بفتح التاء وضم القات ، وير العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق . وهذا الحديث أيضًا يدلّ على : أن أهل النار يتفابى تون فيها ، ويصخ مثل هذا في الكفار ، كما قلناه في حديث أبي طالب ، ويصخ أن يكون ذلك فيمن يعذب من الموخدين إلا أن الله تعالى يميتهم إماتة ، كما صخ في الحديث . لمه يي لمهه
---
(17 ) ومن باب : ذبح الموت
(10/73)
قوله : "يجاء بالموت يوم القيامة كاثه كبش أملح )) قد تقدَّم الكلام على الأملح في الضحايا ، وأنه الذي فيه بياض وسواد ، والبياض أكثر ، كما قاله الكسائي . وقيل : يحتمل أن تكون الحكمة في كون هذا الكبش أملح لأن البياض من جهة الجنة ، والسواد من جهة النار. قلت : ظاهر هذا الحديث مستحيل ، رذلك أن العقلاء اتفقوا على : أن الموت : إما عرض مخصوص ، وإما نفي الحياة ، ولم يذهب أحد إلى أنه من قبيل الجواهر ، وأيضًا : نان المذرئ من الموت والحياة إنما هما أمران متضادان متعاقبان على الجواهر ، كالحركة وكالسكون ، وقد دذ على ذلك من جهة السمع قوله تعالى : ارزآلمؤت جم!!م يهم اتص لضسن ملأ ، أتبارك : 2أ ، فهذا يبطل قول من قال من المعتزلة : إن الموت عدم الحياة ؛ لأنَّ العدم لا يخلق ، ولا يوجب اختصاصا للجواهر. واستيفاء المباحث العقليئ في علم الكلام ، لص إذا تقزر ذلك استحال أن ينقلب الموت كبشا ؛ لأنَّ ذلك انقلاب الحقائق وهو محال . وقد تاؤل الناس ذلك الخبر على وجهين : أحدهما : أن الله تعالى خلق صورة كبش خلق فيها الموت ، فلما راه أهل الجنة وأهل النار ، وعرفوه ، فعل الفه فيه فعلا يشبه الذبح ، أعدمه عند ذلك الفعل حتى يامنه أهل الجنة ، فيزدادوا سرورأ إلى سرورهم ، ريياس منه أهل النار فيزدادوا حزنا إلى حزنهم ، وعلى هذا يدلّ باقي الحديث ، ولا إحالة في شيء من ذلك ، ولا بعد.
---
(10/74)
والوجه الثاني : أن المراد بالحديث تمثيل عدم الموت على جهة التشبيه والاستعارة ، ووجهه : أن الموت لما عدم في حق هؤلاء صار بمثابة الكبش الذي يذبح فينعدم ، فعئر عنه بذلك ، وهذا فيه بنذ وتحميل للكلام على ما لا يصلح له ، والوجه المعني : الأول . والهه أعلم . وبشرئتون : يرفعون رؤوسهم ويتشؤفون ليبصروا ما عرض عليهم . ر (قوله : ا وأنذزفى ين م لننوو اج تفف الأش 000 ، الآية أمريم : 39أ) ، ومعنى أنذرهم : أعلمهم وحذزهم ، والنذارة : إعلام بالشر ، والبشارة : إعلام بالخير ، وبوم الحسرة : يعني به زمن ذبح الموت إذا سمعوا : خلوذ فلا موت . وقضي : بمعنى أحكم وتمم . والأمر : يعني به خلود أهل النار فيها . وقوله : ار!ض فى غته وم لايشنون " أمريم : 139) اسشاف خبر عما كانوا عليه في الدنيا ، لا تعتق ئه بما تبله ، يدلّ عليه توله في الحديث ، وأشار بيده إلى الدنيا ، يعني أنهم كانوا كذلك في الدنيا ، والنه تعالى أعلم .
---
(10/75)
(18 ) ومن باب : محاجة الجنة والنار قوله : تحاججت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين . . . الحديث ") ظاهر هذه المحاخة : أنها لسان مقال ، فيكون خزنه كل واحد منهما هم القائلون بذلك ، ويجوز أن يخلق الله ذلك القول فيما شاء من أجزاء الجنة ، وقد قلنا فيما تقدَّم : إنه لا يشترط عقلآ في الأصوات المقطعة أن يكون محكها حتا ، خلانآ لمن اشترط ذلك من المتكئمين . ولو سئمنا ذلك لكان من الممكن أن يخلق الله في بعض أجزاء الجنة والنار الجمادية حياة ، بحيث يصدر ذلك القول عنه ، والنه تعالى أعلم . لا سيما وقد قال بعض المفشرين في قوله تعالى : ا لدبرالذارالآخرة لهى أنجوان " أ العنكبوت : 64 ، : إن كل ما في الجنة حي ، ويحتمل أن يكون ذلك لسان حال فيكون ذلك عبارة عن حالتيهما ، والأول أولى ، والله تعالى أعلم . و(قول الجنة : "ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم " ، وفي رواية : وغزتهم ") الضفاء : جمع ضيف : يعني به الضفاء في أمر الدنيا ، ويحتمل أن يريد به هنا الفقراء. وحمله على الفقراء أولى من حمله على الأول ؛ لأنَّه يكون معنى الضعفاء : معنى العجزة المذكوربن بعد. وسقطهم -بفتح السين والقاف - : جمع ساقط وهو النازل القدر ، وهو الذي عثر عنه بانه لا يؤبه له ، وأصله من سقط المتاغ : وهو رديئه . وعجزهم ؟ قال القاضي : هو بفتح العين والجيم جمع عاجز.
---
(10/76)
نلت : ويلزمه على ذلك أن يكون بالتاء ككاتب وكتبة ، وحاسب وحسبة ، وسقوط التاء في مثل هذا الجمع نادز ، وإنما يسقطونها إذا سلكوا بالجمع مسلك اسم الجنس ، كما فعلوا ذلك في سقطهم ، وصواب هذا اللفظ : أن يكون عخزئم بضم العين وثمديد الجيم ، كنحو : شاهد وشفد ، وكذلك أذكر أني قرأته : وغزثهم : بفتح النين المعجمة والثاء المثلثة جمع غزثان ، وهو الجيعان ، والغرث : الجوع . وقد روا. الطبرى : غزتهم : بكسر النين وبالتاء باثنتين فوقها ، وتثديد الراء : أي غفلتهم ، وأهل البله منهم ، كما قال في الحديث الآخر : "أكثر أهل الجنة البله )(1) يعت به : عامة أهل الايمان الذين لم يتنطنوا لل!به ، ولم توسوس لهم الشياطين بثيء من ذلك ، فهم صحاح العتاند ، ثابتر الإيمان ، وهم أكثر المؤمنين ، وأما العارفون والعلماء والحكماء ، فهم الأتل ، وهم أصحاب الدرجات العلى والمنازل ا لرفيعة . وقوله : "وأما النار فلا تمتلىء نيضع قدمه عليها" ، وفي اللفظ الاخر : ( 1 ) لآبى ا ألم ابببرا آ بئ مسنده عن أنسى ، وهو حديث ضعيف . انظر جامع الأصول أحتى يضع ربئ العزة فيها قدمه ، ، وفي اللفظ الاخر : (حتى يضع الله رجله أ) ولم يذكر لا فيها ولا عليها ، وقد ضل بظاهر هذا اللفظ من أذهب الله عقله ، وأعدم فهمه ، وهم المجشمة المشبهة ، فاعتقدوا : أن لله تعالى رجلا من لحم وعصب تشبه رجلنا ، كما اعتقدوا في الله تعالى أنه جسئم يشبه أجسامنا ذو وجه وعينين ، وجنب ويد ورجل وهكذا . . . وهذا ارتكاب جهالة خالفوا بها العقول وأدلة الشرع المنقول ، وما كان سلف هذه الأمة عليه من التنزيه عن المماثلة والتشبيه ، وكيف يستقز هذا المذهب الفاسد في قلب من له أدنى فكرة ، ومن العقل أقل مسكة ، فإنَّ الأجسام من حيث هي كذلك متساوية في الأحكام العقلية ، وما ثبت للشيء ثبت لمثله ، وقد ثبت لهذه الأجسام الحدوث ، فيلزم عليه أن يكون الله تعالى حادثا ، وهو محاذ باتفاق العقلاء والشرائع
(10/77)
. ثم انظر غفلتهكل
---
وجهلهم بكلام الله تعالى وبمعانيه ، فكانهم لم يسمعوا قوله تعالى : النس لخهء !ثتء س هو ألشميع اك صير" أالشورى : ا اأ. ريلزم على قولهم : أن يكون كل واحد منا مثلا له تعالى من جهة الجسمية والحيوانية ، والجوارح ، وغير ذلك من الأعضاء والأعصاب واللحم والجلود والشعور ، وغير هذا ، وكل ذلك جهالات وضلالات ، ولته سز في إبعاد بعض العباد ا ومن يمغلل ألته فا للم من هار" أالرعد : 133 . وقد تاول علماؤنا ذلك الحديث تأويلاتي (ا) . وأشبه ما فيها تأويلان : أحدهما : أن النار تتغتظ ، وتتهيج حنقا على الكصار والمتكئرين والعصاة ، سا قال تعالى : ا ج د تميز من اكتيلى ، أتبارك : 8أ ، وكما قال : ا يؤم نقول لبهنم هل أتلأت ؤلقول هل من ش للإ ، أق : 30أ ، وكما قال في هذا الحديث : (لا تزالى جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد؟" ، وكما قال : (تخرج عنق من النار فتقول :
---
(10/78)
وكلت بالجبارين والمتكئرين "(ا). فكانها تعلو وتطغى حتى كانها تجاوز الحد ، وفي بعض الحديث : "أنها تكاد أن تلتقم أهل المحشر فيكسر الله سورتها ، وحذتها ، وبردها ، وبذللها ذذ متكبير وطىء بالقدم والزنجل " ، فعتر عن تذليلها بذلك ، ويشهد لذلك قوله ث : "فيضع قدمه عليها" ، رعلى هذا فيكون (فيها" في الزواية الأخرى بمعنى عليها . كما قال : ا ولأضئبنيهنم فى جذخ انض " أطه : 71 ، أي : على جذرع النخل . وثانيهما : أن القدم والرنجل عبارة عمن تاخر دخوله في النار من أهلها ، وهم جماعات كثيرة ؛ لأنَّ أهل النار يلقون يخها فؤجا بعد فوج ، كما قال تعالى : إءلمما أتض يخهافزج سالهثم !لئما" (تبارك : 8أ ، ويؤيده قوله في هذا الحديث : "لا يزال يلقى فيها" فالخزنة تنتظر أولئك المتاخرين ، إذ قد علموهم باسمائهم وأوصافهم ، كما روي عن ابن مسعود أنه قال : ما في النار بيت ، ولا سلسلة ، ولا مقمع ، ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه ، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته ، فاذا استوفى كل واحل! منهم ما أمر به ، وما ينتظره ، ولم يبق منهم أحذ ، قالت الخزنة : في قط ، أي : حسبنا ، حسبنا. اكتفينا ، اكتفينا . فحينئذ تنزوي جهنم على من فيها. أي : تجتمع ، وتنطبق إذ لم يبق أحذ ينتظر ، .فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم ، كما عبرت العرب عن جماعة الجراد بالزجل ، فتقول :
---
(10/79)
جاء رجل من جراد ؟ أي : جماعة منها ، ويشهد بصحَّة هذا التأويل قوك في آخر الحديث : "ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة" . والله بمراد رسوله أعلم ، والتسليم في المشكلات أسلم . وقد تقدَّم القول في تظ الزمانية ، وأنها مبنية على الضم مشذدة ومخففة ، وأنها تقال بفتح القاف وهو الأصل فيها ، ويقال بالضم إتباعا. وأما قظ بمعنى حسب فهي مبنية على السكون ، وقد مجسر ، وتلحقها نون الوتاية إذا اضيفت (1 ) ، وتقال : بالدال ، ويصخ فيهامايصخ في الطاء. (9 1 و0 2 ر 1 2 و22) ومن باب : شهادة أركان الكافر عليه بوم القيامة
(2 ، قد تقدَّم القول على رؤية الله تعالى في كتاب الايمان ، وعلى قوله : تضا زو ن .
(ا) : أي : إلى ياء المتكلم . قال الراجز : امتلأ الحوض وقال تطني سلأ رويدا قد ملأت بطني انظر : اللسان مادة (قطط ). (2) شرح المؤلف -رحمه الله - تحت هذا العنوان جميع الأبواب المتبقية من كتاب : ذكر الموت وما بعده .
---
(10/80)
(قوله : "أي فل ") هو منادى مرخم ، فكانه قال : يا فلان ، ولا يرخم في غير النداء إلا في ضرورة الشعر. وقوله : "ألم ممرنك ؟") أي : بما فضلتك به على سائر الحيوانات ، كما قال تعالى : 51ولتذ كزننا بف مادم جمنتنم نى آلبز وآتجر ورظتهم فت الطيثت وفضنتهض فى صثيرتتن لختناتنضيلأ ، أ الإسراء : 170 . وقوله : "وأسوذك ") أي : جعلتك سيدأ على قومك . والسؤدد : التقذم بالأوصاف الجميلة ، والأفعال الحميدة . وقوله : "وأذزك ترأس وتزبع ؟") أي : ألم أتركك تترأس على تومك ؟ أي : تكون رئيسا عليهم . وتربع - بالموحدة - أي : تاخذ المرباع ، أي : الربع فيما يحصل لقومك من الننانم رالكسب . وكانت عادتهم : أن أمراءهم ياخذون من الغنانم الربع ، رشمثونه المرباع . قال قطرب : المرباع : الربع . والمعشار : العشر ، ولم يعنممغ في غيرهما . ورواية الجمهور : تربع بالباء ، وعند ابن ماهان : ترتع بتاء باثنتين من فوقها ، ومعناه : تتنغم . وقوله : "أفظننت أنك ملاقن ؟") أي : أعلمت ؟ كقوله تعالى : ! فظنوأ أنهم ثواتغوها ، أ الكهف : 153 أي : علموا . وقوله : "فافي أنساك كما نسيتني ") أي : أتركك في العذاب كما تركت معرفتي وعبادتي .
---
(10/81)
وقوله للثالث : "ها هنا إذآ؟") يعني : أها هنا تكذب وتقول غير الحق %! وذلك أن هذا المنافق أنجاه كذبه رففاقه في الدنيا من سفك دمه ، واستباحة ماله ، فاستصحب الكذب إلى الاخرة ، حتى كذب بين يدي الله تعالى . وقوله : "فيختم على فيه ") أي : يننع من الكلام المكتسب له ، وبنطق لسانه ، وسائر أركانه بكلام ضرررئ لا كشب له فيه ، ولا قدرة على منعه ، كما قال تعالى : ا يزم تتثهد طت!ينم تصعنتهفل وأيذميفا وألجهم بما كانوا يغملون " أ النور : 124 ، فاذا شهدت عليه أركانه بعلمه خلي بينه وبين الكلام المقدور له ، فيلوم جوارحه الشاهدة عليه بقوله : "ويلكن فعنكن كنت أناضل " أي : أدافع وأحتخ ، رالرواية المشهورة : "إذا" التي للتعليل . وقد رواها ابن الحذاء : "إذن " والأول أصخ وأشهر ، وقد سقطت هذه اللفظة جملة عند الضدفي . واقتصر على : ها هنا. وقيل : معناها : هنا اثبث مكانك ، كما تتول لمن تهدده : اثبمث مكانك حتى أريك " وما ذكرناه أولى وأشبه ، والته تعالى أعلم . وقوله : "ليغذر من نفسه ") بضم الياء وكسر الذال المعجمة : من أعذر ، أي : بالغ في حجَّة نفسه . يعني أن المنافق قال ما قال من اذعاء فغل الخيرات ا لمتقذمة .
وقوله في الرواية الأخرى : "ألم تجزني من الظلم ؟". .. إلى آخر الكلام . . ) ليبالغ في عذر نفسه الذي يظن أنه ينجيه ، يقال : أعذر إلرجل في الأمر ، أي : بالغ فيه ، وقد تقدم القول في أن أتل ساكي الجنة النساء الادميات ، وأنهن أكثر ساكي النار .
---
(10/82)
ر (قوله : "إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديا ، أو نصرانيا ، فيقول : هذا فكاكك من النار") يعني : مسلما مذنبا ، بدليل الرواية الأخيرة التي قال فيها : "يجيء يوم القيامة ناسن من المسلمين بذنوب أمثال الجبال "(ا) . ومعنى كونه فكاكا للمسلم من النار ، وأن الله يغفر للمسلم ذنوبه ، ويضاعف للكافر العذاب مة بحسب جرائمه ؛ لأنَّه تعالى لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد ، كما قال : ! رلائزروانوبر ال شوأفرئ ، أ الإسراء : 115 . وقوله في الرواية الأخرى : "فيغفرها لهم ") أي : يمنعقط المؤاخذة عنهم بها حتى كانهم لم يذنبوا ، ومعنى قوله : "ويضها على اليهود والثصارىأ أي : أنه يضاعف عليهم عذاب ذنوبهم حتى يكون عذابهم بقدر جرمهم ، وجزم مذنبي المسلمين لو أخذوا بذلك ، وله تعالى أن يضاعف لمن يشاء العذاب ، ويخففه عقن يشاء ، بحكم إرادته ومشيئته ؟ إذ لا يمنمال عما يفعل وهم يمنعالون . ولما كان خلاص المؤمن من ذنوبه عندما يذفع له الكافر سئي بذلك فكاكا كما سمي تخليص الرهن من يد المرتهن : فكاكا. وأما قوله في الرواية الأخرى : الا يموت مسلنم 2) إلا أدخل الله مكانه النار يهوديا أو نصرانيا" ، فيعني بذلك - والله أعلم - أن المسلم المذنب لما كان يستحق مكانا من النار بسبب ذنوبه ، وعفا الله تعالى عنه ، وبقي مكانه خاليا منه أضاف الله ذلك المكان إلى يهودقي ، أو فصراني ليعذب فيه ، زيادة على تعذيب مكانه الذي يستحفه بسبب كفره ، ويشهد لذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أنس للمؤمن الذي ثبت عند السؤال في القبر : افيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة"(ا) ، وقد تقدَّم الكلام عليه ، وإنما احتاج علماؤنا لتأويل ألفاظ حديث أبي ط ن موسى المذكور في هذا الحديث لما عارضها من قوله تعالى : ! ولائزروازربروزر من أفرئ " أ الإسراء : 5ا ، ، ولقوله : ا رأن لتس للآلمنمنن إلا ما سش " أ النجم : 139 ، ا .
(10/83)
رلقوله : ا رزتا! ثفتة إك فلها لاتحمل
---
منه ثف ير ولزكان ذا قزبم " أفاطر : 18 ، ، ولقوله تعالى : ا ش ننبى بماكع! بث لرهينة ، أ المحدثر : 138 ، ول !قوله شغ : " ألا لا لمجني جان إلا على نفسه "(2) ، ومثله كثير. وعلى الجملة في قاعدبر معلومة من الشرع لا يختلف فيها.
وقوله : "أتسخر مي رأنت الملك ؟" ، وفي اللفظ الاخر : "أتستهزىء مني وأنت رب 4 العالمين ؟") يحتمل أن يكون هذا القول صدر من هذا الرجل عند غلبة الفرح عليه ، واستحقاته إئاه ، فنلط كما غلط الذي قال : "اللهم أنت عبدي وأنا رثك " . وبحتمل أن يكون معناه : أتجازفي على ما كان مني في الدنيا من الاستهزاء والسخرية باعمالي وقئة احتفالي بها ، فيكون هذا على جهة المقابلة ، كما قال تعالى : ا أشه يمشش ممم جمنم " أ البقرة : 115 ، وا ومحرو) وصر ألمنه " أ آل عمران : 54! . وقد تقدَّم القول في ضحك الله تعالى ، وأنه راجع إلى الرضا . وقوله : "يكبو مرة وتسفعه النار مرة") أى : يسقط ، ولمجثر بخطاطيف الصراط وعقباته ، وتسفعه : أي : تحرته ، وتنتر لونه .
وقوله الله تعالى : " ما يصريني منك ؟ أي : ما يقطع طلبتك وما يفصلها ؟ يقال : صريت ما بينهم صريًا ، أي : فصلت ، ويقال : اختصمنا إلى الحاكم فصرى بيننا ؛ أي قطع وفصل .
---
كتاب الفتن والأشراط
باب إقبال الفتن ونزولها كمواقع القطر ، ومن أين تجيء
قوله ف : "ويل للعرب من شز قد اتترب ") هذا تنبيه على الاختلاف والفتن ا والهزج الواتع في العرب ، رأؤل ذلك قتل عثمان - رضي الله عنه - ولذلك أخبر عنه بالقرب ، ثم لم يزل كذلك إلى أن صارت العرب بين الأمم كالقصعة بين الأكلة ،
---
(10/84)
كما قال في الحديث الاخر : "أوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها"(ا). قال ذلك مخاطبا للعرب ، ولهم خاطب أيضًا بقوله : ة إني لأرى مواتع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر" . وقوله : "فتح اليوم من رذم ياجوج وماجوج مثل هذه ") الردم : هو الشد الذي بناه ذو القرنين على ياجوج رماجوج ، ويهمزان ولا يهمزان لغتان . وقرىء بهما ، فمن همزهما جعلهما من أجيج النار ، وهو ضوءها ، وحرارتها ، وسموا بذلك لكثرتهم وشذتهبم ، وقيل : من 11 جاج ، وهو الماء الشديد الملوحة ، وقيل : هما اسمان أعجميان غير مشتقين . قال مقاتل : هم من ولد يافث بن نوح -عليه السلام -. الضخاك : من الترك . كعب : احتلم آدم -عليه السلام - فاختلط ماؤه بالتراب فاسف ، فخلقوا من ذلك ، وفيه نظر ؛ لأنَّ الأنبياء لا يحتلمون . وذكر الغزنوئ في كتابه المسش : بعيون المعاني : أن النبي ب لجين قال : "ياجوج أقة لها أء أربعمئة أمير ، وكذلك ماجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من وا ولده. صنف منهم كالأرز طولهم مئة وعشرون ذراعا ، وصنفث يفترش أذنه ويلتحف بالاخرى ، لا يمزون بفيل ، ولا خنزير إلا أكلوه ، وياكلون من مات منهم . مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان ، يشربون أنهار المشرق ، وبرة طبرية ، فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس ". وقال على -رضي الله عنه - : رصنف منهم في طول شبر ، لهم مخالب وأنياب السباع ، وقد اعي الحمام ، وتسافد البهائم ، وعواء الذنب ، وشعوز تقيهم الحر والبرد ، واذان عظام ، إحداها وبرة يشتون فيها ، والأخرى جلدة يصيفون فيها ، يحفرون السذ حتى كادوا ينقبونه ، فيعيده الله كما كان ، حتى يقولوا : ننقبه غدا -إن شاء الله - فينقبون ويخرجون ، ( 1 ) رواه أحمد (5/ 278) ، وأبو داود (4297 ) عن ثوبان ، ولفظه : "يوشك الأمم أن تداس . علمكص . . . ".
---
(10/85)
ويتحضن الناس بالحصون ، فيرمون إلى السماء ، فيرذ إليهم السهم ملطخا بالدم ، ثم يهلكهم الله بالننف في رقابهم ، يعني : الدود . قلت : وسيأتي من أخبارهم الصحيحة ما يشهد بالصحة سثر هذين ا لحديثين . وقوله : "مثل هذه - وحلق باصبعيه : الابهام والتي تليها -") هذا إخباز وتفسيز من الضحابة التي شاهدث إشارة النث ط . ثم إن الرواة بعدهم عبروا عن ذلك باصطلاح الحساب ، فقال بعضهم : وعقد سفيان بيده عشرة ، وقال بعضهم : وعتد وهيب بيده تسعين ، وهذا تقريعت في العبارة . والحاصل : أن الذي فتحوا من السد تليل ، وهم مع ذلك لم يلهمهم الله أن يقولوا : غدأ نفتحه -إن شاء الفه تعالى - فاذا قالوها خرجوا ، والله أعلم . وقوله : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : "نعم أ إذا كثر الخبث ") رويناه بفتح ش الباء وهو استم للزنى . قال التاضي : العرب تسمي الزنى خبثا وخبيثة ، ومنه في نبم المخدج : أثه وجد مع أمة يخبت بها(ا) ؟ أي : يزني بها ، وهو أحد التأويلين في توله تعالى : ا لمجيثث لتجهيثين ، أ النور : 26أ. وقيل : هو الفسوق والفجور ، ويروى : الخنث ، بسكون الباء ، وهو مصدز ، يقال : خبث الرجل خبثا ، فهو
( 1 ) روا. ابن ماجه (2574) .
د؟ء"ه ، س حا-م جماة -ء--.----ت لا ر- أشالكم عن الصغيرة! وأبهبكم للكبيرة! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول :
---
(10/86)
خبيث ، وأخبثه غيره : عئمه الخبث . وقد تقدَّم : أن الله تعالى إذا أهلك قومآ مهلكآ واحدا بعثهم على نياتهم . وقوله : أشرف على أطم من آطام المدينة) أى : على حصني من حصونها ، وتسئى أيضًا : الاجام ، وقد تقدَّم ذلك . وأشرف : ارتفع . وقوله : "إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم ") مواقع : جمع موقع ، وهو : موضع سقوط المثيء ، روتوعه . وخلال : بمعنى بين ، وهو خبز عن أنه رأى مواضع الفتن ، رعاينها ، وقد نمق في الخبر الآتي بعد هذا على أنها تاتن من تبل المشرق ، وقد رجد كل ذلك كما أخبر عنه ط ، فكان ذلك من أدلة صحة نبوته ورسالته ، ظهرت بعد وفاته . وقد تقدَّم القول في ترني الشيطان في كتاب الصلاة . و(قول سالم لأهل العراق : إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون ج خطا. . . الكلام إلى آخره ) تعظينم لما أقدموا عليه من قثل أخيار المسلمين ووصدورهم ، وتقبيخ عليهم ، وتهديذ لهم ، وونجه ذلك : أن الله تعالى عفم على موسى -عليه السلام - -وهو صفته وكليمه ، عليه السلام - تثل كافر لم يته عن قتله ، مع أن تثله كان خطآ ، وكزر عليه ، وامتن عليه بمغفرته له ذلك مرارا ، فكيف يكون حال من سفك دماء خيار المسلمين من صدور هذه الأفة من الصحابة والتابعين ؟! كل ذلك بمحغى الهوى ، والتجرؤ على استباحة الدماء ، فهم الذين قتلوا الحسين " وسبوا نساءه وأولاده من غير توتف ، ولا سؤال ، وسالوا عن دم البراغيث ليرتفع عنهم الإشكال ، فائا لنه وإنا إليه راجعون . وقوله : افن!نننى من أئغص ، أطه : 140) أي : من غتم البحر ، وقيل : غم الخوف والقود. وافتناك فتونأ" فتنة بعد فتنة ؟ أي : محنة بعد محنة ، وفتونا : مصدر فتن ، كخرج خروجا ، وقعد قعودأ. وقال قتادة : بلوناك بلاء بعد بلاء ، يعني : أنعمنا عليك بنعما كثيرة . وقد تقدَّم : أن البلاء يكون بمعنى الابتلاء بالخير والشر. وكل ذلك بمعنى الفتنة والمحنة ؛ لأنَّها كلها بمعنى واحل! .
---
(10/87)
لمي لم!ي ه(2) ومن باب : الفرار من الفتن وكسر السلاح فيها
قوله : "من تشزف إليها تستشرفه ") أي : من تعاطاها ، أو تشوف إليها صرعته وأهلكته ، وهو ماخوذ من أشرف المريض على الهلاك إذا أشفى عليه ، وقد روى : "من يتشزف إليها ، على أنه فعل مضارع مجزوم بالشرط . والأول على أنه فعل ماض بموضع جزم بالشرط . وقوله : "إنها ستكون فتن ، ألا! ثم تكون فتن . . . الحديث إلى اخره ") كل أ تضئن الاخبار عن وتوع فتن هائلة عظيمة بعده ، والأمر بالكف عنها والفرار منها . آو لم موله : "يتمد إلى سيفه فيدى عليه بحجر") هذا محمول على
---
ظ
المعتادة ، فادرك البعيد من موضعه ، كما أدرك بيت المقدس من مكة ، وأخذ يخبرهم عن اياته ، وهو ينظر إليه ، وكما قال : "إني لأبصر قصر المدانن الأبيض ا(ا) . ويحتمل أن يكون مثلها الله له فرآها ، والأول أولى .
وقوله : "إن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها") هدا الخبر مد وجد محبره مز كما قال ت ، وكان ذلك من دلانل نبوته ، وذلك أن منك أمته اتسع إلى أن بلغ نأ أقص بحر طنجة الذي هو منتهى عمارة المغرب إلى أقص المشرق ، مما وراء و! خراسان والنهر ، وكثير من بلاد الهند والسند والصغد . ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال ، ولذلك لم يذكرئ أنه أريه ، ولا أخبر أن منك أمته يبلغه .
(10/88)
وقوله : "أعطيت الكنزين ") يعني به : كنز كسرى ، وهو ملك الفرس ، ا" ومنك قيصر ، وهو ملك الروم ، وقصورهما ، وبلادهما ، وقد دذ على ذلك س ترله ف في الحديث الآخر حين أخبر عن هلاكهما : (لتنفقن كنوزهما في سبيل والهه "(ا) ، وعئر بالأحمر عن كنز قيصر ؛ لأنَّ الغالب عندهم كان الذهب ، وبالأبيض عن كنز كسرى ؛ لأنَّ النالب كان عندهم الففكة والجوهر. وقد ظهر ذلك ، ووجد كذلك في زمان الفتوح في خلافة عمر -رضي الله عنه - فإنَّه سيق إليه تاج كسرى وحليته ، وما كان في بيوت أمواله ، وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها ، ركذلك نعل الهه بقيصر ، لما فتحت بلاده . وقوله : رإنن دعوت (2) ربي لأمتي ألأ يهلكها بسنة بعامة") كذا صحت الرواية بالباء في (بعامة) وكانها زائدة ؛ لأنَّ عامة صفة لسنة ، فكانه قال : بسنة عامة ، ولمجني بالشنة : الجدب العام الذي يكون به الهلاك العام . ويسئى الجدب والقحط : سنة ، ويجمع سنين ، كما قال تعالى : ا ولقد أفذنا . ال فرعزن لالسنين رنقفى تن الثمزلق ، أالأعراف : 130 م أي : بالجدب المتوالي . وبيضة المسلمين : ( 1 ) رواه أحمد ( 2/ 0 4 2 ) " ومسلم (18 29 ) ( 75) ، وا لترمذي ( 6 1 22 ) . (2) في مسلم رالتلخيص : سالت .
---
(10/89)
معظمهم وجماعتهم ، وفي الصحاح : بيضة كل شيء : حوزته ، وبيضة القوم : ساحتهم ، وعلى هذا فيكون معنى الحديث : أن الله تعالى : لا يسلط العدؤ على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض ، ولو اجتمع عليهم كل من بيق أقطار الأرض ، وهي : جوانبها . وقوله : "حتى يكون بعضهم يفلك بعضا ، ولمجعبي بعض بعضاا) ظاهر (حتى) : الغاية ، فيقتضي ظاهر هذا الكلام : أنه لا يسظ عليهم عدزهم فيستبيحهم ، إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض ، وسي بعضهم لبعض . وحاصل هذا أنه إذا كان من المسلمين ذلك تفزتت جماعتهم ، واشتنل بعضهم ببعض عن جهاد العدو ، فقويت شوكة العدو ، واستولى ، كما شاهدناه في أزماننا هذه في المشرق والمغرب ، وذلك أثه لما اختلف ملوك الشرق ، وتجادلوا استولوا كافر الترك على جميع عراق العجم ، ولما اختلف ملوك المغرب وتجادلوا استولت الإفرنج على جميع بلاد الأندلس ، رالجزر القريبة منها ، وها هم قد طمعوا في جميع بلاد الإسلام ، ننسال الله أن يتدارك المسلمين بالعفو ، والنصر ، واللطف . ولا يصخ أن يكون (حتى) هنا بمعنى كي لفساد المعنى ، فتدثره . وقوله : "وسالته ألا يهلك أمتي بالغرق فاعطافيهاا) يعني : ألا يهلك جميعهم بطوفان كطوفان نوح - عليه السلام - حتى ينرق جميعهم ، وهذا فيه بغذ ، ولعل هذا اللفظ كان بالعدو ، فتصخف على بعض الرواة لقرب ما بينهما في اللفظ ، وبدو على صحة ذلك : أن هذا الحديث قد رراء عن النبي ت خناب بن الأرلت ، رثربان وغيرهما ، وكلهم نال : بدل "الغرق " المذكور في هذا الحديث : "عدوأ من غير أنفسهم " . والد تعالى أعلم . وقوله : "وسالته ألا يجعل باسهم بينهم فمنعنيها") الباس : الحروب والفتن ، وأصله من بئس يباس : إذا أصابه البؤس ، وهو الضر ، ويقال : باسا رضز أ .
---
(10/90)
وقوله : "يا محمد! إني إذا قضيت قضاء لا يرد") ئستفاد منه : أنه يستب لا يستجاب من الدعاء إلا ما وافقه التضاء ، وحينئنن شس ل بما قد روى عنه ت أنه الدط -التف قال : "لا يرد القضاء إلا الدعاء"(ا). ويرتفع الاشكال بأن يقال : إن القضاء الذي لا يرده دعاء ، ولا غيره ، هو الذي سبق علم الله بانه لا بذ من وقوعه . والقضاء الذي يرد. الدعاء ، أو صلة الرحم ، هو الذي أظهره الله بالكتابة في اللوح المحفوظ ؟ الذي قال الله تعالى فيه : ايفر)ألمته مايمنا : رلثبت وجمند؟أنم الصصنب ، أ الرعد : 139 ، وقد تتذم ذلك في كتاب القدر.
( 1 ) رراه الترمذى (2139) من حديث سلمان - رضي الله عنه - . (4 وه ) ومن باب : إخبار النبي بما يكون إلى قيام الساعة (1) * عن (قول حذيفة -رضي الله عنه - : تام فينا رسول الله شر مقاما ما ترك فيه شيئا ادمة يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلأ حذث به ) هذا المجرور الذي هو (في مقامه ) يجوز أن ينعئق بترك ، والأليق أن يكون متعئقا بحذث ؛ لأنَّ الظاهر من الكلام : أنه أراد أنه ما ترك شيئًا يكون إلى قيام الشاعة إلا حدث به في ذلك المقام ، وهذا المقام المذكور في هذا الحديث هو اليوم الذي أخبر عنه أبو زيد عمرو بن أخطب المذكور بغد ، وبالحري يتسع يوم للاخبار عئا ذكره . على أنه قد ررى الترمذئ من حديث أبي سعيد الخدري قال : صلى بنا رسول الله ت صلاة العصر بنهار ثم قام خطيبا ، فلم ياغ شيئا يكون إلى تيام الساعة إلا أخبرنا به ، حفظه من حفظه ، ونسيه من نسيه ، 2 ، . فظاهر هذا أن هذا المقام كان من بغد العصر لا قنل! ذلك . ويجوز أن يكون : كانت الخطبة من بعد صلاة الضبح إلى غروب (1 ) شرح المزلف - رحمه الله - تحت هذا العنوان : هذا الباب والباب الذي في التلخيص ، رهو : باب : في النتنة التي تموج موج البحر. ( 2 ) رراه ا لترمذى ( 2191 ) .
---
(10/91)
الشمس ، كما في حديث أبي زيد. واتتصر أبر سعيد في الذكر على ما بعد العصر ، وفيه بنذ ، رعلى كل تقدير فعمومات هذه الأحاديث يراد بها الخصوص ؟ إذ لا يمكن أن يحذث في يوم واحد ، بل : ولا في أيام ، ولا في أعوام بجميع ما يحدث بعد النبيء تفصيلأ ؟ وإنما مقصود هذه العمومات الاخبار عن رؤوس الفتن والمحن ورؤسائها ، كما قال حذيفة بعد هذا حين قال : لكن رسول الله ط قال وهو يحذث مجلسا أنا فيه عن الفتن ، فقال رسول الله ط وهو يعد الفتن : (منهن ثلاث لا يكذن يذزن شيئا ، ومني ن كرياح الضيف ، منها صنار ومنها كبار" . قلت : على أني أتول : إن النثء كان الله تعالى قد أعلمه بتفاصيل ما يجرى بعده لأهل بيته وأصحابه ، وياعيان المنانقين ، وبتفاصيل ما يقع في أمته من كبار الفتن ، وصنارها ، وأعيان أصحابها ، وأسمائهم ، وأنه بي ؟ الكثير من ذلك عند من يصلح لذلك من أصحابه كحذيفة - رضي الله عنه - قال : ما ترك رسول الله مي من قائد نتنة إلى أن تنقضي الانيا يبلغ من معه ثلاثمئة فصاعدا ، إلا قد سثاه لنا باسمه ، واسم أبيه ، وقبيلته (1). خزجه أبو داود ، وبهذا يعلم : أن أصحابه كان عندهم من عنم الكوانن الحادثة إلى يوم القيامة العلم الكثير والحظ الوافر ، لكن لم يشيعوها إذ ليسعث من أحاديث الاحكام ، وما كان فيها شي ب من ذلك حذثوا به ، ونقضوا عن عهدته . ولحذيفة في هذا الباب زيادة مزيرله ، وخصوصية لم تكن لنيره منهم ؛ لأنَّه كان كثير السؤال عن هذا الباب ، كما دلمث عليه أحاديثه ، وكما دل عليه ( 1 ) رراه أبو داود (4243 ) .
---
(10/92)
اختصاص عمر له بالشؤال عن ذلك دون غيره . وأبو زيد المذكور في هذا الباب : هو عمرو بن أخطب - بالخاء المعجمة - الأنصاري ، من بني الحارث بن الخزرج . صحب النبض ئ وقال : غزوت معه سمث غزوات ، أو سبعا. وقد تقدم القول في حديث حذيفة في كتاب الايمان . وقوله : ما بي إلا أن يكون رسول الله ث أسز إك في ذلك شيئا لم يحدث به غيري ) كذا وقع هذا اللفظ ، وكذا صخ في الرواية ، وما بي إلا أن يكون ب (إلا)
---
الإيجابية ، و(أن ) المصدربة . فقيل : الوجه إسقاط إلا ؛ لأنَّ مقصود الكلام : أن حذيفة أخبر عن نفسه بانه يعلم كل فتنة تكون بين يدي الساعة. فيظن سامع هذا القول : أن رسول الله ت أسز إليه من ذلك بشيء لم يسزه إلى غيره ، فنفى هذا الظن بذلك القول . ثم نثه على سبب عنمه بذلك فقال : ولكن رسول الله لكسظت قال وهو يحذث مجلسا أنا فيه عن الفتن ، فيعني بذلك أنه سمع من النبي لكض في ذلك المجلس مع الناس ؟ لكنه حفظ ما لم يحفظ غيره ، وضبط ما لم يضبط غيره . كما قال في الحديث المتقذم . وقيل : (إلا) ثابتة في الرواية ، فلا سبيل إلى تقدير إسقاطها ، ومعنى الكلام مع نبوتها : وما بي عذز في الإعلام بجميعها ، والحديث عنها ، إلا ما أسز إلي النبف ت مِمَّا لم يحدث به غيري ، فيكون في كلامه إشارج إلى أن النبف رز عهد إليه ، وأسز له ألآ يحذث بكل ما يعلمه من الفتن ، أو لا يذيعه إن رأى في ذلك مصلحة . وهذا أولى لما ذكرناه من ثبوت الزواية ، ولأن المعلوم من حال حذيفة : أن النبي ف خضه من العلم بالفتن ، وأسز إليه منها بما لم يخمق به غيره ، وأما ما لم يسزه إليه ، ولا خضه به ، فهو الذي يحدث به ، كما جاء مئصلآ بقوله : لكن النن ت قال وهو يحذث مجلسا أنا فيهم عن الفتن . والله تعالى أعلم . و(قول جندب : جئت يوم الجرعة) كذا هو بفتح الجيم والراء والعين المهملة ، وهو موضغ بجهة الكوفة . وروي عن بعضهم بسكون الراء. وأصل الجرعة : الرمل الذي فيه سهولة .
(10/93)
يقال : جرع وأجرع وجرعاء . وذلك اليوم : هو يهونم خرج أهل الكوفة إلى سعيد بن العاص ، وكان عثمان ولأه عليهم فردوه ، ووك أبا موسى الأشعرى ، وسالوا عثمان توليته ناتزه . وقوله : تسمعني أخالفك ) كثر الشيوخ بالحاء المهملة ، من الحنف الذي هو اليمين ، وقد روا. بعضهم بالخاء المعجمة ، وهي التي أذكرها ، وكلاهما يصخ ، فتافل مساقه .
---
(6) ومن باب : ما فتح من ردم يأجوج ومأجوج وبغزو البيت جيش فيخسف بهم قوله : وكان ذلك في أيام ابن الزبير) ذلك إشاربر إلى سؤال أم سلمة عن الجيش الذي يخسف به ، وسالها عن ذلك الحارث بن أبي ربيعة ، وعبد الله بن صفوان . هذا ظاهره ، لكن فال أبو الوليد الكناني : هذا لا يصخ ؛ لأنَّ أتم سلمة ماتت في أيام معاوية تبل موته بسنة ، ولم تدرك أيام ابن الزبير. قال القاضي : وقد قيل : إنها ماتت أيام يزيد بن معاوبة في أؤلها ، فعلى هذا يستقيم الخبر ، فإنَّ عبد الله نازع يزيد لأول ما بلنته البيعة له عند موت معاوية ، وداجاه (ا ، شيئا ، فوجه إليه يزيد أخاه عمرو بن الزبير ليجينه به ، أو يقاتله ، فظفر به عبد الله بن الزبير ، ومات في سجنه ، وصلبه . ذكر ذلك الطبرئ وغيره ، وذكر وناة أم سلمة أيام يزيد : أبو عمر بن عبد البر. قلت : هذا الحديث رراه عن أم سلمة عبد الله بن صفوان من طريق صحيح ( 1 ) "داجاه ، : ساتره بالعداوة ، ولم يبن دها له .
---
(10/94)
في الأصل ، وفيه أيضًا عنه أنه رواه عن حعفصة زوج النبي لمجظ قال الدارقطني : والحديث عن أئم سلمة ومحفوظ عن حفصة ، وعلى هذا فتكون كل واحدة منهما حذثت به عن النبف ت فلا اضطراب . وقوله : "يعوذ بالبيت عائذ فننعث إليه بعث ، فاذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم ") الذي أثار هذا الحديث في وقت عبد الله بن الزبير : أن عبد الله بن الزبير لجا إلى البيت عندما طالبه يزيد بن معاوية بأن يبايعه ، ففر من المدينة إلى مكة ، واستجمار بالبيت ، ووافقه على رأيه ذلك جماعة على خلاف يزيد ، فجقز يزيد جيشا من أهل الشام إلى مكة ، فحدث الناس أن ذلك الجيش يحخسف به ، وذكروا الحديث عن رسول الهه ت رحيننل! قال لهم عبد الله بن صفوان : أما والله ! ما هو بهذا الجيش ، كما قد ظهر أن ذلك الجيش لم يخسف به . والبيداء : أرضق طساء لا شيء فيها ، وفي الصحاح : البيداء : المفازة . والجمع : بيد. وهل ير بيداء المدينة أم لا ؟ انحتلف في ذلك أبوجعفر وعبد العزيز بن رفيع كما ذكر نر الأصل . وليؤفن : ليقصدن . والشريد : الطريد عن أهله ، ولمجني به هنا المنفرد عز ذلك الجيش الذي يخسف به . ومنعة : بتحريك النون " جمع مانع ، ككاتب وكتبة ربالسكون : مصدر منع . والمستبصر : البصير بالأمور . رالمجبور : المكره الذ ؟ لا حيلة له في دفع ما يخمل عليه ، وهو من جبرت الرجل على الشيء يفعله ، فا مجبوز ، ثلاثيا ، ويقال : أجبرته ، وهو الأصح واكثر ، فهو مخبر . وقوله : عبث رسول اللهء في منامه ) وجدته مقيدا بفتح الباء أي : أتى بكلمات كانها مختلطة . يقال : عبث الشء ، يعبثه : إذا خلطه ، بفتح الباء في الماضي ، ركسرها في المضارع ، فأمَّا عبث بكسر الماضي وفتح المضارع فمعناه : لعب . وقوله : "إن ناسا من أمتي يؤفون البيت برجل ") أشرب يؤمون معنى ينزلون ، فعداه بالباء ، وهو مما يتعدى بنفسه كما تقدَّم غير مزة . وقوله : "يهلكون مهلكا واحدا ، ويصدرون مصادر شتف ") المهلك :
(10/95)
الهلاك . ويصدرون
---
: يرجعون ، وأصل الضدر : الرجوع عن موضع الماء ، وشتف : مختلفين بحسب نياتهم . (7 ر 8 و9)
ومن باب : الأمور التي لا تقوم الساعة حتى تكون (1) (قوله : "يخسر الفرات عن جبل من ذهب ") أي : يكشف . ومنه حسرت المرأة عن وجهها ؟ أي : كشفت . والحاسر : الذي لا سلاح عليه ، وكان هذا إنما وقوله : "فمن حضره فلا ياخذ منه شيئا") ش على أصله من التحريم ؛ لأنَّه ليس ملكا لأحد ، وليس بمعديى ولا ركاز ، فحقه أن يكون في بيت المال ؟ ولأنه لا يوصل اليه إلا بقتل النفرس ، فيحرم الإتدام على أخذه . وقوله : "منعت العراق درهمها رتفبزها ، ومنعت الشام مذيها ودينارها ومنعت مصر ازدكابها") كذا الرواية المشهورة بنير إذا ، فيكون ماضيا بمعنى الاستتبال ، كما قال تعالى : اأد ، أش ألمنه نلا لنشغبز " أ النحل : 11 أي : يأتي . وكقوله : ش ر! قال أت يثي!ى أئ مض يم. أنت ظت للثاس ، أ المائدة : 1116 يعني : إذ بتول . ومثله كثير ، وند رواه ابن ماهان : "إذا منعت ) وهو أصل الكلام . غير أنه يحتاج إلى جواب إذا ، وبحتمل ذلك وجهين : أحدهما : أن يكون الجواب : عدتم من حيث بدأتم ، وتكون الواو زائدة . كما قال امرز التيس : فلثا أج!نا ساحة الحف واتتحى(1 ، . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
---
(10/96)
أي : لما أجزنا انتحى ، فزاد الواو . ويحتمل أن يكون جواب إذا محذوفا ، تقديره : إذا كانت هذة الأمور جاءت الساعة ، أو ذهب الذين . ونحو ذلك ، والته أعلم . وتسمية النبي ف مكيال كل توم باسمه المعروف عندهم دليل على أنه كان يعرف كلام الناس ؟ وإن بعدت أقطارهم ، واختلفت عباراتهم . وقد ثبت أنه كان يخاطب كل توم بلغتهم في غير موضع ، وهذا منه إخباز بأن أمور الدين وقواعده يرض ك العمل بها لضعف القائم بها ، أو لكثرة الفتن واشتنال الناس بها ، وتفاقم أمر المسلمين ، فلا يكون من ياخذ الزكاة ولا الجزية ممن وجبت عليه ، فيمتنع من وجب عليه حن من أدائه . والله تعالى أعلم . وقوله : "وعدتم من حيث بدأتم ") أي : رجعتم على الحالة الأولى التي كنتم عليها من فساد الأمر ، وافتراق الكلمة ، وغلبة الأهواء ، وذهاب الدين .
وقوله : شهد على ذلك لحئم أبي هريرة ودمه ) أي : صدق بهذا الحديث وشهد بصدقه كل جزج في أبي هريرة . رمعناه : بأن هذا الحديث حن في نفسه ، ولا بذ من وتوعه .
( 1 ) هذا صدر بيت ، وعجز. :
---
(10/97)
بنا بظن خنب ذي حتافي عقنقلوقوله : "تنزل الروم بالأعماق ، أو بدابق أ) الأعمال : جمع عمق - بضم العين وفتحها - : وهي ما بعد من أطراف المفاوز. قال رؤبة : وقاتما الأغماق خاوي المخترق ودابق : اسم بلد ، والأغلب عليه التذكير رالصرف ؛ لأنَّه في الأصل : نهر . قال الراجز : بدابق وأيخن مني دابق وقد يؤثث ولا يصرف ، وهو بفتح الباء. وكذا وجدته مقثدا مصححا في كتاب الشيخ ، ويقال بالكسر فيما أحسب . و(قول الروم : "خكوا بيننا وبين الذين سبوا مثا") الرواية الصحيحة بفتح السين والباء ؟ أي : الذين أصابوا منا سبيا ، وقد قين ده بعضهم بضبم السين والباء ، وليس بشيء ؛ لأنَّ قول المسلمين في جوابهم : لا والله ما نخلي بينكم وبين إخواننا . يعنون : أنهم منهم في الأنساب والدين ، فلو أن الروم طلبوا من سبي منهم لما قالوا لهم ذلك مطلقا. والله تعالى أعلم . وقوله : "فينهزم ثلمث لا يتوب الله عليهم أبدام ؛ لأنَّهم فزوا من الزحف حيث لا يجوز لهم الفرار ، فلا يتوب الله عليهم ؟ أي : لا يلهمهم إياها ، ولا يعينهم عليها ؟ بل : يصزون على ذنبهم ذلك ، ولا يندمون عليه . ويجوز أن يكون معنى ذلك : أنه تعالى لا يقبل توبتهم وان تابوا ، ربكونون : هؤلاء مئن شاء الله ألأ تقبل توبتهم لعظيم جرمهم . وقوله : "إن المسيح قد خلفكم في أهليكم ") كذا الرراية الجيدة مخففة اللام بغير ألني . أي : بشز. يقال : خلفك الرجل في أهلك بخير أو بشز ، وقد تقدم توله ت : "من خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا"(ا) وقد رراه بعضهم : خالفكم ، والأول أجود ، لأن خالف يتعدى ب (إلى) ، وخلف يتعدى ب (في ) ورد خالف إلى خلف يجوز. وقد تقدَّم القول في اسم المسيح في كتاب الايمان ، وسيأتي الكلام في الدخال .
---
(10/98)
( 1 ) رواه ا لبخاري (2843 ) ، رمسلم ( 1895 ) ، وأبو داود (9 0 25 ) ، وا لترمذي (627 1 ) . وقوله : هاجت ريخ حمراء) أي : شديدة ، احمزت بها السحاب ، ويبست لها الشجر ، وانكشفت الأرض ، فظهرت حمرتها . وقوله : فجاء رجل ليس له هخيرى إلا يا عبد الله جاءت الساعة) كذا رويته هجيرا على وزن فعيلا ، وهو تقييد أبي الفتح ال!اشي والتميمي ، وقئدها العذرقي هجير على وزن خئير. قلت : وكلاهما لنة صحيحة . قال الجوهري : الهجير مثل الفسيق : الدأب والعادة ، وكذلك الهجيرى وا*هجيرى . يقال : ما زال ذلك هجيراه ، له اهجيراه ، وإجرثاه ؟ أي : دلبرله وعادته . قال غيره : وهجيرى أفصحها . والشزطة : بضم الشين ، وهي هنا : أؤل طائفة من الجيش تقاتل . ومنه ال!رطان (ا) لتقذمهما أزل الربغ ، وقيل : إنهم ستوا بذلك لعلامات تمثزوا بها ، والأشراط : العلامات . وهذا هو الأعرف . وشجز بينهم الثيل ؟ أي : يحول بينهم وبين القتال بسبب ظلمته ، والحاجز : هر الفاصل بين شيتين . ويفيء هؤلاء ؟ أي : يرجع . ونهد إليهم ؟ أي : تقدَّم . ومنه سمي الئفد ؛ لأنَّه متقذم في الصدر. ( 1 ) 1 ل!رطا ن : نجما ن . وش توله : "نيجعل المهه الذنجرة عليهم )) كذا لكافتهم بالباء بواحدة وسكونها ، ورراه العذركأ : الدائرة ومعناهما متقارب . قال الأزهرقي : الدانرة : الدزلة تدور على الأعداء . رالذنرة : النصر والظفر ، يقال : لمن الذنرة ؟ أي : الدولة . وعلى من الذنره ؟ أى : الهزيمة . قاله الهروي . ر قوله : "حى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم ") كذا رواية الجماعة ، وهي جمع جنتة ، وهي الجانب ، ووقع لبعضهم : بجثمانهم ؟ أي : باشخاصهم . والجثمان ، والال ، والللل ، رالشخص ، كتها بمعنى ، فأمَّا الجثة ، فتفال على الجالس والنانم . وقوله : ا إذا سمعوا بناس هم أكثر") بنون وسين مهملة . كذا للعذرقي ، ركذا ترأته ، وعند غيره : "بباس " بباء بواحدة ، و"أكبر" بباء بواحدة أيضًا ، وهو
(10/99)
الحرب الثديد ،
---
والأمر الهائل . قال بعغى المشايخ : وهو الصواب . وتصخحه رواية أبي داود : "إذ سمعوا بامر ممبر من ذلك "(ا ، . . . ويسير بن جابر : يروى (1 ) لم نجد. في شن أبي داود ، وفي تحنة الأشراف (7/ 318) لم يعزه إلا لمسلم. بالياء باثنتين من تحتها ويالهمزة. والصريخ : الصارخ ، أي : الصوت عند الأمر الهانل أو الضراخ ، ويرفضون : يرمون ريتركون ، والطليعة : هو الذي يتطتع الأمر رسعتكثمفه . وقوله : "إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم ") دليل على 11 صحة ما قلناه من أن المنبث ئ كان قد أعلم بتفاصيل ما يجري بعده ، وأشخاص من بظ يجري منه ثيء له تعكق بالامة . ج وقوله : اتقوم الساعة والروم أكثر الناس ") هذا الحديث رواه مسلم من 11 طريتين : أحدهما : لا تعفب فيه عليه ، والاخر : فيه تعفمبئ . وهو الذي قال فيه : ئ حدثني حرملة بن يحيى التجيبي ، حدثنا عبد الله بن وفب ، حدثني أبو شريح ؟ أن ةعبد الكريم بن الحارث حذثه ، أن المستورد القرشي قال : سمعت رسول الله لجظ يقول ذلك . قال الدارقطنئ : عبد الكريم لم يدرك المستورد ، والحديث مرسل . قلت : هذا الإسناد ذكره مسلنم مزدفا على الإسناد السليم الذي لا تعفب فيه ، وكان مسلما تحقق ما قاله الدارتطنث ، ولذلك أردفه على الإسناد الأؤل الذي هو عمدته ، وعلى شرطه . وهذا وغيره مما تقدَّم مثله يدلّ على أن القسم الثالث الذي ذكره مسلئم في أول كتابه أدخله في مسنده ، والهه أعلم . وهذا الحديث قد صذقه الوجود ، فإنَّهم اليوم أكثر من في العالم غير ياجوج وماجوج ؟ إذ قد عمروا من الشام إلى أقص منقطع أرض الأندلس ، وقد اثسع دين النصارى اتساعا عظيما لم تتسعه أمة من الأمم ، وكل ذلك بقضاء الله تعالى وقدره . ووصف عبد الله بن عمرو لهم بما وصفهم به من تلك الأوصاف الجميلة إنما كانت غالبة على الزوم الذين أدرك هو زمانهم ، وأما ما في الوجود منهم اليوم فهم أنجس الخليقة ، وأركسهم
(10/100)
، رهم موصوفون بنقيض تلك
---
الأوصاف . وقوله : " وأجبر ا لناس عند مصيبذ ") كذا رواية ا لجمهور ، وهو من جبرت العظم والزجل ؟ إذا شددت مفاتره ، وقد فسر معنى هذه الرواية في الرواية الأخرى الي قال فيها : "وأسرعهم إفامة بعد مصيبة" ووقع لبعضهم : "أصبر الناس " بدل : "أجبر الناس " . والأول أصخ وأحسن . وقوله : أتى النب!رز قونم من قبل المغرب -يعني : من قبل مغرب المدينة - عليهم ثياب الصوف ) هذا لباس أهل البادية ، والأكمة : القطعة الغليظة من الرمل . ووافقوه ( 1 ) ؟ رتفوا أمامه ، فوتف لهم ، أو استدعوا منه ذلك . وقوله : قالت لي نفسي : التهم فقنم بينهم ) كذا الرواية المعروفة ، وفي بعض الروايات : إذ قالت لي نفسي اتعهم -بزيادة إذ- ومعنى ائتهم : جئهم . وينتالونه : يقتلونه غيلة ؟ أي : خديعة . والنجف : المناجي ، وهو المتحذث في خلوة.
وقوله : "تغزون فارص فيفتحها الهه . . . الحديث إلى آخره ") هذا الخطاب أير ط ن كان لأولئك القوم الحاضرين فالمراد هم ومن كان على مثل حالهم من اذ الصحابة والتابعين الذين فتحت بهم تلك الأتاليم المذكورة ، ومن يكون بعدهم من أهل هذا الدين الذين يقاتلون في سبيل الهه إلى قيام الساعة . ويرجع معنى هذا الحديث إلى الحديث الاخر الذي نال فيه : "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضزهم من خذلهم إلى قيام الساعة"(2) .
---
(10/101)
(1 ) في (ز) : راقنوه . ( 2 ) رواه أحمد ( 5 / 4 3) ، را لترمذى ( 92 1 2 ) . وقوله : "ثم تغزون الدخال فيفتحها الله ") وقد وقع في بعفى النسخ : فيفتحه بضير المذكر ، فيحتمل أنه يعني بذلك قتل الدخال نفسه الذي يكون على يدي عيسى ابن مريم -عليه السلام - ، كما تقدَّم ركما يأتي . ويحتمل أن يعود على ملكه . ووجدته في أصل الشيخ : نيفتحها الله ، بضمير المزنث ، فيعني بذلك مملكنه أو أرضه التي ينلب عليها. رجزيرة العرب : أرضهم التي نشؤوا فيها ، وسئيت جزيرة ؛ لأنَّها مجزورة بالبحار والأنهار ؟ أي : مقطوعة بها . والجزر : هو القطع . وقيل : لأنها جزرت بالبحار الي أحدتت بها ، وقد تقدَّم القول فيها في الجهاد . ( 10 )
(10/102)
ومن باب : الآيات العشر التي تكون قبل قيام الساعة (1) حذيفة بن أسيد : هو بفتح الهمزة وكسر السين يكنى أباسريحة ، بفتح السين ، وكسر الراء ، وهو غفاري كان ممن بايع رسول الله ئ تحت الشجرة ، يعا (1) ثرح المزلف -رحمه الله - تحت هذا العنوان هذا الباب ، والبابين التاليين في في الكوفيين وبالكوفة مات ، وحديث حذيفة في العشر الآيات رواه سفيان بن عيينة عن فرات القزاز عن أبي الطفيل ، عن حذيفة على نص ما ذكرناه في المختصر ، والعشر الآيات فيه مجموعة غير مرتبة ، وقد رراه شعبة عن فرات ، فجاء بها مرتبة مجموعة ، فكانت هذه الرواية بالذكر في المختصر أولى ، لكن لم يقذر ذلك ، فلنذكز هذه الرواية هنا . قال حذيفة : كان رسول الله ت في غزنة ونحن أسفل منه ، فالملع إلينا ، فقال : "ما تذكرون ؟" تلنا : الساعة ، قال : ا إلى الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات : خمنمفت بالمشرق ، وخمنعفت بالمغرب ، وخسفت في جزيرة ا لعرب ، والذخان ، والذخال ، ردابة ا لأرض ، وباجوج وماجوج ، وطلوع ا لشمس من مغربها ، ونار تخرج من قعر عدن تزحل الناس "(ا). قال شعبة : وحدثني عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن أبي سريحة مثل ذلك ، لا يذكر النبي في وقال أحدهما في
---
(10/103)
العاشرة : ونزول عيسى ابن مريم . وقال الاخر : وريخ تلقي الناس في البحر . وهذه الرواية مرتبة محشنة ، فلنرذ إليها الرواية التي لا ترتيب فيها ، فاؤل هذه الآيات : الخسوفات الثلاثة ، وقد وقع بعضها . ذكر أبو الفرج الجوزي : أنها الش وتعت بعراق العجم زلازل وخسوفات هائلة ، هلك بسببها خلق كثير ، وقد سمعنا الثلا ء إلى ونحن بالأندلس : أن بلدا بشرقها خسف به ، وهلك كثير من أهله . وأما الدخان فهو الذي دذ عليه قوله تعالى : ش فم زتقت تؤم تاقى ألشمم بربدفالض فبيب " أ الدخان : 10 ، على ما ذهب إليه غير ابن مسعود ، وهم جماعة من السلف ، وهو مروى عن على وابن عمر وأبي هريرة ، وابن عباس ، والحسن ، وابن أبي مليكة . وروى حذيفة عن النبفء أن من أشراط الساعة دخانايمكث في الأرض أربعين يوما. الا اشر
---
(10/104)
- التلخيص ، وهما : باب : أمور تكون بين يدئ الع!ئاعة . وباب : الخليفة الكائن اخر الزمان . (1) ، 515مسله (2901/ 40). قلت : ويؤيخد هدا قوله تعالى في الاية : ، تض بنا ا كشف عنا العذاب ط نامزمون 9 أ الدخان : 12 ! ، وقوله : ا إنا كاشفوأ العذاء قليلأ ط ثش عالحدلن " أ الدخان : 115 وهذا يبعد قول من قال : إنه الدخان الذي يعذب به الكفار يوم القيامة ، وهو مروى عز دابة زيد بن علي ، وسيأتي القول في حديث ابن مسعود في التفسير. وأما الذائة فهي امة التي قال الله فيها : ا وشا رخ ألتؤل طنهتم اضريخأ لثم إلقة قن الأزقن تضمهض " أ النمل : 182 ذكر أهل التفسير : أنها خلق عظيم تخرج من صة غ من الضفا لا يفوتها أحد ، تسم المؤمن فينير وجهه ، ويكتب بين عينيه مؤمن ، وتسم الكافر فيسوذ وجهه ويكتب بين عينيه كافر. وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما - : أن هذه الداتجة هي الجشاسة المذكورة في الحديث بعد هذا ، وعن ابن عباس : أنها الثعبان الذي كان ببئر الكعبة ، فاختطفثه العقاب (ا) ، وقد اختلف في صورتها ، وفي أي موضع تخرج منه على أتوال كثيرة ، وليس في شيء من ذلك خبز صحيح مرفوع . قال بعض المتاخرين من المفسرين : الأقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكئما يناظر أهل البدع والكفر ، ويجادلهم لينقطعوا ، فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من قي عن بئنة. قلت : لى انما كان هذا عند هذا القائل الأترب لقوله تعالى : إمجئمهم " وعلى هذا فلا يكون في هذه الذأبة اية خاصة خارتة للعادة ، ولا تكون من جملة العشر الآيات المذكورة في الحديث ؛ لأنَّ وجود المناظرين والمحتجين على أهل البه غ كثير. فلا اية خاصة ، فلا ينبني أن تذكر مع العشر. وترتفع خصوصية وجودها ، فاذا وقع القول ثمَّ : فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي يحتخع على أهل الأرض باسم الانسان ، أو بالعالم ، أو بالإمام إلى أن يسثى بدابة ، وهذا خروج عن عادة الفصحاء ، وعن
(10/105)
تعظيم العلماء ، وليس
---
ذلك (1) انظر قول ابن عباس هذا في سيرة ابن همنعام في حديث بنيان الكعبة .
دأب العقلاء ، فالأولى ما قاله أهل التفسير. وأما كيفية صفتها وخلقتها ، وبمادا تكئمهم ، فالثه أعلم بذلك . وقوله : "آخر ذلك نازتخرج من اليمن ") وقال فيما تقدَّم : "من قعر عدن ا . ت وقال فى رواية : من أرض الحجاز. قال القاضي : فلعلهما ناران تجتمعان لحشر اك 11 الناس ، -أو يكون ابتداء خروجها من اليمن ، وظهورها من الحجاز . و(11 ) :
باب : أمور تكون بين يدي الساعة ، (1) وقوله : "تضيء أعناق الإبل ببصرى") أي : تكشف بضوئها أعناق الإبل ( 1 ) هذا العنوان لم يذكره المؤلف - رحمه الله - في المفهم ، واستدركناه من التلخيص .
---
(10/106)
ببصرى ، وير بالشام ، فيعني - والذ تعالى أعلم - أن هذه النار الخارجة من قعر عدن تمز بارض الحجاز مقبلة إلى الشام ، فاذا تاربت الشام أضاءت ما بينها وبين بصرى حف ترى بسبب ضوئها أعناق الابل ، ويقال : ضاوت النار وأضاءت لغتان . وبصرى -بضم الباء- هي مدينة من مدن الشام . قيل : هي حؤران . وقيل : قيساريخة(1). ط ت وقوله : "إن أؤل الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الذاتجة بوم على الناس ضخى") يعني - والله أعلم - أؤل الآيات الكائنة في زمان ارتفاع التوبة والطبع على كل قلب بما فيه ؛ لأنَّ ما قبل طلوع الشمس من مغربها التوبة فيه مقبولة ، وإيمان الكافر يصخ فيه ، بدليل ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ت : الا تقوم الساعة حق تطلع الشمس من مغربها ، فاذا طلعت ورآها الناس امن من عليها ، فذلك حين لا ينفع نفسآ إيمانها لم تكن امنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا"(2) . ومعنى توله : "إذا طلعت وراها الناس أمن من عليها" أي : حصل لجميع من على الأرض التصديق الضروري بامور القيامة الذي لا يكئف به ولا ينفع صاحبه ، لكون أمور الآخرة معاينة ، وإنما كان طلوع الشمس مخصوصا بذلك ؛ لأنَّه أؤل تغيير هذا العالم العلوقي الذي لم يشاهد فيه تغيير منذ خلقه الله تعالى ، وإلى ذلك الوتت ، وأما ما قبله من الآيات فقد شوهد ما يقرب من نوعه ، فاذا كان ذلك وطبع على كل قلب بما فيه من كفر أو إيمان أخرج ألله الذابة سزفة لما في بواطن الناس من إيمان أوئهفر فتكلمهم بذلك . أي : تعزف المؤمن من الكافر بالكلام ، وتسم وجوه الفريقين بالنفح ، فينتقش وصفه في جبهته مؤمن أو كافر ، حف يتعارف الناس بذلك ، فيقول المؤمن للكافر : بكم سلعتك (ا) بصرى : مدينة أثرية في سهل حوران جنوب دمشق . أما قيسارية : في مدينة على ساحل البحر الأبيغى المتوسط ، إلى الجنوب من مدينة حينا بفلسطين .
---
(10/107)
يا كافر ؟ ريقول الكافر : بكذا يا مؤمن ، ثم يبقى الئاس على ذلك ما شاء الله ، ثم يرسل الله ريحا باردة من نبل الشام ، فلا يبقى أحذ على وجه الأرض في قلبه مثقال ذرى . المان إلا قعضته على ما جاء في حديث عمد الله لن عمرر الاتي لعد هذا سء -. . . . وغيره . وقد تقدَّم في كتاب الايمان حديث أبي هريرة الذي قال فيه : ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل ، أو كسبت في إيمانها خيرا : طلوع الشمس من مغربها ، ودابة الأرض ، وذكر من جملة الثلاث : الدخال ( 1 ) . ويلزم عليه أن يرتفع التكليف بالايمان وبالتوبة عند خروجه . رالأحاديث الاتية في صفة الذنجال تدذ على خلات ذلك على ما سنبينه ، فدذ على أن ذكر الدخال مع الطلوع والدابة ، وفئم من بعض الرراة ، والله تعالى أعلم . وقد اختلفت الاثار والأقوال في أزل الآيات المذكورة ، وما ذكرته أشبهها رأولاها - إن شاء الله تعالى -. وقوله : "تبلغ المساكن إهاب أر يهاب ") فالأول بكسر الهمزة ، والثاني بالياء المكسورة عند كثرهم ، وعند ابن عيسى : أو نهاب ، بالنون المكسوره ، وهو موضع بينه ربين المدينة القدر الذي كنى عنه سهيل ويكذا كذا ميلا . وقد تقدَّم : أن من أهل اللسان من حمل هذا على الأعداد المعطوفة التي أؤلها أحذ وعشرون ، وآخرها تسعة وتسعون ، وهذا إخبار منهء بأن الئاس يكثرون بالمدينة ، ويتسعون في مساكنها وشيانها ، حتى يصل بنيانهم ومساكنهم إلى هذا الموضع ، وقد كان ذلك -والله تعالى أعلم - في مدة بني أمية ، ثم بعد ذلك تناقص أمرها إلى أن أتفرت جهاتها كما تقدَّم . ( 1 ) رراه مسلم (158 ) "249) .
---
(10/108)
وقوله : "حتى تضطرب أليات نساء دؤس حول ذي الخلصة") المعروف في ذى الخلصة : الفتح في الخاء واللام ، وهكذا قرأته وروبته في كتاب مسلم ، وفي السيرة لابن إسحاق . قال القاض : يقال : بفتح الخاء راللام وضمهما ، وبسكون اللام وجدئه بخطي عن أبي بحر في الأم . وتبالة ، بفتح التاء والباء : موضع باليمن ، وليس بتبالة الي يضرب بها المثل الذى يقال فيه : هو أهون على الحخاج من تبالة . تلك بالطائف . قال ابن إسحاق : وذر الخلصة : بيت فيه صنئم يسئى : ذا الخلصة لدوس ، وخثتم ، وبجيلة ، ركان يسش : الكعبة اليمانية ، بعث إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جرير بن عبد الله فحزته بالنار. قلت : ومعنى هذا الحديث أن دزسا يظهر فيها الارتداد عن دين الإسلام ، وبرجعون إلى ما كانوا عليه من عبادة الأوثان ، كما قال في حديث عائشة - رض الله عنها - : "لا يذهب الئيل والنهار حتى تنبد اللأت والعزى"(ا) ، رسيأتي في التفسير. رتضطرب : تتحزك عند الطواف بذلك الصنم . رالأليات : جمع ألية . وقوله : "لا تقوم الساعة حتى يمز الرجل بقبر الرجل فيقول : يا ليتني مكانه " ، وفي الأخرى : "فينمزغ عليه ويقول : يا ليتني كنت مكان صاحب هذا
(10/109)
القبر") يعني : من شدة المحن وكثرة الفتن ، والأنكاد اللأحقة للانسان في نفسه وماله وولده ، ولذلك قال : "ليس به الذين إلا البلاء" ، وكان هذا إشارة إلى أن كثرة الفتن والمشقات والأنكاد قد أذهبت الدين من أكثر الئاس ، أو قللت الاعتناء به من الذي يتمسك بالدين عند هجوم الفتن ، ولذلك عظم تدر العبادة في حالة الفتن حتى قد قال ف : "العبادة في الهزج كهجثر إلي "(1). وقوله : "يخزب الكعبة ذو الشويقتين من الحبشة) ، وزاد أبو داود في هذا ذو ا الحديث : "ويخرج كنزها"(2)) الشويقتان : تصغير الساتين ، وإحداهما سويقة ، في وصغرهما لدثتهما ورفتهما ، وهي صفة سوق الحبشة غالبًا ، وقد وصفه النبي لكض في حديث اخر بقوله : اكافي به أسود أفحج ، يقلعها حجرآ حجرأ"(3). والفحج :
---
(10/110)
تباعد ما بين السا قين ، ولا يعارض هذا قوله تعالى : ا أولنم في )أتاجمباحرماء افا س نخظف أن مق مق خرلهتم " أالعنكبوت : 69 ، ؛ لأنَّ تخريب الكعبة على يدي هذا الحبشث إنما يكون عند خراب الدنيا ، ولعل ذلك في الوقت الذي لا يبقى إلا شرار الخلق ، فيكون حرما امنا مع بقاء الدين وأهله ، فاذا ذهبوا ارتفع ذلك المعنى . قلت : وتحقيق الجواب عن ذلك أنه لا يلزم من قوله تعالى : اأتاجعبا حرماء امبم " أن يكون ذلك دائما في كل الأوتات ؟ بل : إذا حصلمت له حرمة وأمن في وتت ما ، فغد صدق اللفظ وصخ المعنى ، ولا يعارضه ارتفاع ذلك المعنى في رقت اخر ، فإنَّ قيل : نقد قال النثء : "إن الله أحل لي مئهة ساعة من نهار ، ثم عادث حزمتها إلى يوم التيامة"(ا). قلنا : أما الحكم بالحرمة والأمن فنم يرتفع ، ولا يرتفع إلى يوم القيامة إذ لم يخخ ذلك بالاجماع ، وأما وتوع الخوف فيها وترك حرمتها فقد وجد ذلك كثيرأ ، ويكفيك بعوث يزيد بن معاوبة ، وجيوش عبدالملك ، وتتال الحخاج لعبدالمه بن الزبير وغير ذلك مما جرى لها ، وما فعل فيها من إحراق الكعبة ورميها بحجارة المنجنيق . وقوله : "يخرج رجل من تحطان يسوق الئاس بعصاه ") أي : يملكهم
---
(10/111)
ويتصزف فيهم كما يتصزف الراعي في الماشية ، ولعل هذا الرجل القحطانف ، هو الذي يقال له الجهجاه ، وأصل الجهجهة : الصياح بالشبع ليكف ، يقال : جفجفت بالشبع ؟ أي : زجرته بالضياح ، ويقال : قجفجة عني ، أي : انته . وقوله : "يقاتلون بين يدئ الساعة توما نعالهم الشعر كان وجوههم المجان المظرتة") المجان بفتح الميم : جمع مجن - بكسر الميم - وهو الترس . والمظرقة : التي ألبست العقب طاقة فوق أخرى ، ومنه طارقت الننل إذا أطبقت طاقة فوق أخرى ، ورجه التشبيه : أن وجوههم غالبًا عراض الأعالي محذدة الأذتان صنبة . وقوله : "نعالهم ال!عر" ، وفي رواية : "ينتعلون ال!عر") أي : يصنعون من الشعر حبالا ، ويصنعون منه نعالأ ، كما يصنعون منه ثيابا. ويشهذ لهذا قوله في رواية أخرى : "يلبسون ال!عر ، رشثمون في الشعر" . هذا ظاهره ، ويحتمل أن يريد بذلك أن شعورهم كثيفة طويلة ، فهي إذا سدلوها كالئباس ، وذوائبها لوصولها إلى أرجلهم كالنعال . وقوله : "ذنف 91ثوف ") ويروى : الانف ، فالأول جمع الكثرة كفنس رفلوص ، والثانن جمع قئة كافلس ، ويجمع أيضًا انافا ، وأنف كل شيء أؤله ، رالذلف في الانسان بالذال المعجمة : صنر الانف واستواء الأرنبة وقصرها . وقيل : تطامن الارنبة ، والأول أعرف وأشهر ، تقول : رجل أذلف بين الذلف ، وقد ذلف . والمرأة ذنفاء من نساء ذنف ، ولا ش! في أن هذه الأوصاف ير أوصاف الترك غالبًا ، وقد سقاهم النبي مجسشه في الرواية الأخرى ، فقال : (يقاتل المسلمون التزك " ، وهذا الخبر قد وقع على نحو ما أخبر ، فقد قاتلهم المسلمون في عراق العجم مع سلطان خوارزم - رحمه الهه - ، وكان الله قد نصره عليهم ، ثم رجععث لهم الكزة فغلبوا على عراق العجم وغيره ، وخرج منهم في هذا الوتت أمم لا يحصيهم إلا الله ، ولا يربرهم عن المسلمين إلا الله ، حتى كالهم ياجوج وماجوج ، أو مقذمتهم ، فنسال الله تعالى أن يهلكهم ريبذد جمعهم . ولما علم النبي لي عددهم
(10/112)
وكثرتهم وحذة
---
شوكتهم قال ت : "اتركوا التزك ما تركوكم "(ا). لكنا نرجو من فضل الله تعالى النضر عليهم والظفر بهم ، وذلك لما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه ، عن النت ت قال : "تقاتلكم التزك ، توم صنار الأعين " ، قال : يعني ؟ الترك . قال : "تسوتونهم ثلات مرار حتى تنحقوفهم بجزيرة العرب "(2)فأمَّا في السياتة الأرلى فينجو من هرب منهم ، وأما في الثانية فينجو بعفق ويهلك بعض ، وأما في الثالثة فيصطلمون (3) . وقوله : "لا تقوم الساعة حف ينزوها سبعون ألفا من بني إسحاق ") هكذا ( 1 ) رواه أبو داود ( 2 0 43 ) ، والنساني ( 6/ 43 - 4 4 ) . صخت الرواية عند الجميع ، وفي الأمهات . قال القاضي أبو الفضل : قال بعضهم : المعروف المحفوظ من بني إسماعيل ، رهو الذي يدلّ عليه الحديث وسياقه ؛ لأنَّه إنما يعني به : العرب والمسلمين ، بدليل الحديث الذي سماها فيه في الأم (1) ، وأنها : القسطنطينية ، وإن لم يصقها بما وصفها به هنا . فلت : وهذا فيه بنذ من جهة اتفاق الرواة رالأمهات على بني إسحاق ، فاذآ المعروف خلاف ما قال هذا القائل ، ويمكن أن يقال : إن الذي وقع في الرواية صحيح غير أنه أراد به العرب ونسبهم إلى عمهم ، وأطلق عليهم ما يطلق على ولد الأب ، كما يقال ذلك في الخال ، حتى قد قيل : الخال أحد الأبوين - والله تعالى أعلم -. وأما قوله : إن هذه القرية هي القسطنطينية ، فينبني أن يبحث عن صفتها ؟ هل توافق ما وصفه النبيء في هذه المدينة أم لا ؟ وأما ما ذكره مسلم في الأم من حديث القسطنطينية فهو ما تقدَّم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي قال في أوله : "لا تقوم الساعة حف ينزل الروم بالأعماق ، أو بدابق " قال فيه : "فيقاتلهم المسلمون فينهزم ثلث ، ويقتل ثلث ، وبفتح الثلث القسطنطينية ، فبينما هم يقسمون الننائم ، قد عثقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلفكم في أهليكم "(ا) . وظاهر
(10/113)
هذا يدلّ على : أن
---
القسطنطينية ، إنما تفتح بالققال ، وهذا تفيت الف (ا)رواه مسلم (2897). بالض
الحديث يدلّ على أنها تفتح بالتهليل والتكبير ، فقول بعضهم فيه بعد ، والحاصل : أن القسطنطينية لا بذ من فتحها ، وأن فتحها من أشراط الساعة على ما شهدت به أخبار كثيرة ، منها : ما ذكرناه انفا ، ومنها : ما خزجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل عن النث ت قال : "الملحمة العظمى ، وفتح القسطنطينية ، وخروج الذتجال في سبعة أشهر"(1). قال : هذا حديث حسن صحيح ، وفيه عن أنس بن مالك : أن فتح الفسطنطينية مع تيام الساعة(2). هكذا رواه موقوفا. قال محمد(3) : هذا حديث غريب ، والقسطنطينبة : هي مدينة الروم تفتح عند خروج الذتجال ، والقسطغطينية قد فتحت (4) في زمان بعض أصحاب الغبي ت . قلت : وعلى هذا فالفتح الذي يكون مقارنا لخروج الذخال هو الفتح المراد بهذه الاحاديث ؛ لأنَّها اليوم بابدي الروم - دفرهم الله تعالى - والله بتفاصيل هذه الوتائع أعلم .
وقوله : "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم المسلمون ") 0 الحديث هذا إنما يكون - رالله أعلم - بعد قتل الدخال ؟ فى ن اليهود هم أكثر أتباعه ، وسيأتي منصوصا عليه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وقوله : "لا تقوم الساعة حف يبعث دخالون كذابون تريبم أ من ثلاثين ") رقد فى تتذم القول في اشتقاق اسم الدخال ؟ وأنه الممؤه بالكذب . قال القاضي في أبو الفضل : هذا الحديث قد ظهر ، فلو عذ من تنئا من زمن النبي مي إلى الان ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلاله لوجد هذا العدد فيهم ، ومن طالع في كتب الأخبار والتواربخ عرف صحة هذا ، ولولا التطويل لسردنا منهم هذا العدد .
---
(10/114)
ومن باب : الخليفة الكائن في آخر الزمان (قوله : ة يكون في آخر أثتي خليفة يحثي المال حثيا ، ولا يعذه عدا") أي : لأيصئه صبا. يقال : حف يش حثيا ، وحثا يحثو حثوأ ، وقد وقع الفعلان في الأم ، والمصدر حثيا بفتح الحاء ، واسكان الثاء ، وضبط عن أبي بحر حثيا : بكسر الثاء ، وتشديد الياء ، وليس بمعروف ، وإنما نفى أبو نضرة أن يكون هذا الخليفة هر عمر بن عبد العزيز لقوله ت : "في آخر أفتي " ، وذلك لا يصدق على زمن عمر بن عبد العزيز إلا بالتوشع البعيد ؟ ولأنه لم يصمبئ المال كما جاء في هذا الحديث ، رقد روى الترمذي وأبو داود أحاديث صحيحة في هذا الخليفة ، وسثياه بالمهدي ، فروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - قال : قال رسول الفه لكض : "لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي " ، قال : حديث حسن صحيح . وخزجه أبو داود ، وزاد فيه : (يملأ الأرض ق!نمطا وعدلا كما ملئت ظلماوجؤرأ"(ا). ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : "لو لم يبق من الدنيا إلا يونم لطؤل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي "(2). قال : حديث حسن صحيح . ومن حديث أبي سعيد قال : خشينا أن يكون بعد نبثما حدث ، فسالناه ، فتال : "إن في أمتي المهدي ، يخرج ، يعيش خمسا ، أو سبعا ، أو تسعا -زبذ ال!اذ -" قال : قلنا : وما ذاك ؟ قال : اسنين . قال : نيجيء إليه الرجل فيقول : يا مهدي أعطني ؟ يا مهدي أعطني ، قال : فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله "(3). قال : هذا حديث حسن . وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدرئ قال : قال رسول الله مي : "المهدئ في أمي : أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ، يمه الأرض تمنعطا وعدلا ، كما ملنت جؤرا وظلما ، يملك سبع سنين "(4) . وروى أيضًا أبو داود عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله ئ قال : "يكون اختلاف عند موت خليفة ، فيخرج رجل من أهل المدينة هارلا إلى مكة ، فيأتيه ناش من
(10/115)
أهل مكة فيخرجونه
---
وهو كار : ، فيبايعونه بين الزنهن والمتام ، ويبعث إليه بصت من أهل الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة ، فاذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام ، وعصائب أهل العراق فيبايعونه ، ثم ينثا رجل من تريش أخواله كنعت ، فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم ، وذلك بغث كتب ، والخيبة لمن لم يشهذ غنيمة كتب ، فيقسم المال ، وشل في الناس بسثة نبئهيم ، ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض فيلبث سبع سنين ثم يرص فى ، ويصئي عليه
المسلمون "(1). وفي رواية : "تسع سنين ". فهذه أخبار صحيحة ومشهورة عن النث ف تدك على خروج هذا الخليفة الصالح في آخر الزمان ، وهو ينتظر إذ لم يسمع بمن كملت له جميع تلك الاوصات التي تضمنتها تلك الأخبار ، والله تعالى أعلم .
---
(10/116)
ئ وقوله : "يهلك أمتي هذا الحث من قريش " ، وفي البخاري : "هلاك أمتي على يدئ اغيلمة من تريش ") الحي : القبيل ، وأشار النب! ف إلى قبيل قريش ، وهو يريد بعضهم ، وهم الأغيلمة المذكورون في حديث البخاري ! كما أنه لم يرذ بالأمة جميع أفته من أولها إلى آخرها ؟ بل : ممن كان موجودا من أمته في ولاية أولئك الأغيلمة ، وكان الهلاك الحاصل من هؤلاء لأمته في ذلك العصر إنما سببه : أن هزلاء 11 غيلمة لصنر أسنانهم لم يتحنكوا ، ولا جزبوا الأمور ، ولا لهم محافظة على أمور الذين ، وإنما تصزفهم على متتضى غلبة الأهواء ، وحذة الشباب . وقوله : "لو أن الناس اعتزلوهم ، ) لو : معناها التمي ؟ أي : ليت الناس س اعتزلوهم ، فيه دليل على إترار أئمة الجؤر ، وترك الخروج عليهم ، والإعراض عن هنات ومناسد تصدر عنهم ، وهذا ما أقاموا الصلاة ، ولم يصدز منهم كفز بواح عندنا من الله فيه برهان ، كما تذمناه في كتاب الإمامة . وهزلاء الأغيلمة كان أبو هريرة - رضي الله عنه - يعرف أسماءهم ، وأعيانهم ، ولذلك كان يقول : لر شئت قلت لكم : هم بنو فلان ، وبنو فلان ، لكثه سكت عن يتينهم مخافة ما يطرأ من ذلك من المفاسد ، وكأنهم - والله تعالى أعلم - ( 1 ) ررا. أبو داود (4286 ) .
---
(10/117)
يزيد بن معاوية ، وعبيد الله بن زباد ، ومن تنزل منزلتهم من أحداث ملوك بني أمية ، فقد صدر عنهم من قثل أهل بيت رسول الهه لض وسبيهم ، وقتل خيار المهاجرين رالأنصار بالمدينة ، وبمكة وغيرها ، وغير خاف ما صدر عن الحخاج وسليمان بن عبد الملك ، وولده من سفك الدماء ، وإتلاف الأموال ، وإهلاك خيار الناس بالحجاز ، والعراق " وغير ذلك . وأغيلمة : تصغير غنمتن ، على غير مكئنر ؟ نكانهم قالوا : أغلمة ولم يقولوه ، كما تالوا : اضيبية بتصغير صبية . وبعضهم يقول : غليمة على القياس ، وقد تقدَّم القول في النلام ، وأن أصله نيمن لم يحتلم ، ثم قد يتوسع فيه ، ويقال على الحديث السن - ران كان قد احتلم - وعلى هذا جاء في هذا الحديث . وقوله ت لعئار بن ياسر -رضي الله عنه - : "تقتلك فئة باغية" ، وفي لفظ ا آخر : "الفئة الباغية") هذه شهادة من النبي ت على فئة معاوية بالبغي ، فالهم هم آ الذين قتلوه ؟ فإنَّه كان بعسكر على بصفين ، وأبلى في القتال بلاء عظيما ، وحزض أصحاب رسول الله ت على تتال معارية وأصحابه . قال أبو عبد الرحمن الشلمي : شهدنا مع يئ صفين ، نرأيت عئار بن ياسر لا ياخذ في ناحية من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محتد يتبعونه كانه علئم لهم ، قال : وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة : يا هاشم ! تقدم ، الجنة تحت الأبارقة(1) ، اليوم ألقى الأحما! ، محثدا وحزبه ، والله لو هزمونا حتى يبلنوا بنا شغفات هجر لعلمنا أنا على الحن ، وأنهم على الباطل ، ثم قال :
---
(10/118)
نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق إلى سبيله قال : فلم أر أصحاب محمد قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ ، وقال عبد الرحمن بن أبزى : شهدنا صفين مع علف - رضي الله عنه - في ثمانمئة ممن بايع بيعة الرضوان ، قتل منهم ثلاثة وستون ، منهم عتار بن ياسر. وروى الشعبي عن الأحنف بن تيس في خبر صفين قال : ثم حمل عئاربن ياسر نحمل عليه ابن جزء السكسكي ، وأبو الغادية الفزاري ، فأمَّا أبو النادية فطعنه ، وأما ابن جزء فاحتز رأسه ، وكان سئه وتت قتل نيفا على تسعين سنة ، وكانت صفين في ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين ، ودفنه على - رضي الله عنه - في ثيابه ، ولم ينسنه كما فعل بشهداء أحد ، ولما ثبت أن أصحاب معارية تتلوا عتارأ صدق عليهم خبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنهم أنهم البغاة . وأن عليا - رضي الله عنه - هو الحق ، ووجه ذلك واضح ، وهو أن علتا - رضي الله عنه - أحق بالامامة من كذ من كان على وجه الأرض في ذلك الوقت من غير نزاع من معاربة ، ولا من غيره . وقد انعقدت بيعته باهل الحل والعقد من أصحاب رسول الله ط وأهل دار الهجرة ، نوجب على أهل الشام والحجاز والعراق وغيرهم مبايعته ، وحرمت عليهم مخالفته نامتنعوا عن بيعته ، وعملوا على مخالفته ، وكانوا له ظالمين ، رعن سبيل الحق ناكبين ، فاستحقوا اسل! البغي الذي شهد به عليهم النبي ف رلا ثعجيهم من هذا تأويلاتهم الفاسدة ؟ فالها تحريفات عن سنن الحق حائدة . نقل الأخباريون : أن معاوية تازل الخبر تأويلين : !حدببإت . أفي قال بموجب الخبر فقال : نحن الباغبة لدم عثمان - رضي الله وثانيهما : أنه قال : إنما قتله من أخرجه للقتل ، وعرضه له ، وهذان التاريلان فاسدان . أما بيان فساد الأول : فالبغي -و(ن كان أصله الطلب - فقد غلب عرف استعماله في الكغة والشرع على التعذي والفساد ، ولذلك قال اللنويون ؟ أبو عبيد وغيره
(10/119)
، البغي : التتدى . وبغى
---
الرجل على الرجل : استطال عليه . وبنت السماء : اشتذ مطرها . وبغى الجرح : ورم وترامى إلى نساد ، وبنى الوالي : ظلم . وكل مجاوزة ، وافراط على المقدار الذى هو حذ الشيء : بنض . وبرىء جرحه على بنيم : وهو أن يبرأ وفيه ش ة من ننل ، وعلى هذا فقد صار الحال في البني كالحال في الصلاة ، والذابة ، وغير ذلك من الاسماء العرفية التي إذا سمعها السامغ سبق لفهمه المعنى العرفي المستعمل ، لا الأصلي الذي قد صار كالمطرح ، كما بئناه في الأصول ، وإلى حمل اللفظ على ما قلناه صار عبد الله بن عمرو بن العاص ، وغيره يوم تتل عثار ، وأكثر أهل العصر ، ورأوا : أن ذلك التأويل تحريف . سئمنا نفي العرف ، وأن لفظ الباغية صالح للطلب وللتعذي ، لكن النبض لض ذكر الفئة الباغية في هذا الحديث في معرض إظهار فضيلة عئار وذم تاتليه ، ولو كان المقصود البغي الذي هو مجرد الطلب لما أفاد شيئا من ذلك ، وقد أفادهما بدليل مساق الحديث فتافنه بجميع طرته تجذه كذلك ، وأيضًا فلو كان ذلك هو المقصود لكان تخصيص قتلة عتار بالبغي الذي هو الطلب ضائعا ، لا ناندة له ؟ إذ علف وأصحابه طالبون للحق ولقتلة عثمان ، لو تفرغوا لذلك ، وتمثهنوا منه ، وإنما منعهم من ذلك معاوبة وأصحابه بما أبدوا من الخلاف ، ومن الاستعجال مع قول علف لهم : ادخلوا فيما دخل فيه الناس ، ونطلب قتلة عثمان ، ونقيم عليهم كتاب الذ. فلم يلتفتوا لهذا ، ولا عزجوا عليه ، ولكن سبقت الأقدار ، وعظمت المصيبة بقتيل الدار . 5أما فساد التا. لا- الغاذ - فه اضي ؛ لأنَّه عدا ، عص . . حد القتا. منه ال مه .
---
(10/120)
لا تصح نسبته إليه ، إذ لم يجبز عقار على الخروج ؟ بل : هو خرج بنفسه وماله مجاهدا في صبيل الله ، قاصدأ لقتال من بنى على الإمام الحق ، وقد نقلنا ما صدر عنه في ذلك ، وحاش معاوبة عن مثل هذا التأويل ، والعهدة على الناتل ، بل قد حكي عن معاوية أنه قال عندما جاءه قاتل عئار برأسه : سمعت رسول الله مجض يقول : "ب!روا قاتل ابن سمية بالنار"(ا). فلما سمع القائل ذلك قال : بئست البشارة ، وبنست التحفة ، وأنشد في ذلك شعرأ ، والهه أعلم بحقيقة ما جرى من ذلك ، وقد تقدَّم قول النبي ف في الخوارج : "تقتلهم أؤلى الطائفتين بالحق "(2) ، والقاتل لهم هو علف - رض الله عنه - رأصحابه . وقوله : "بؤس ابن سمية") هو منادى مضاف محذوف حرف النداء تقديره : يا بؤس ابن سمتة ، وهي أثم عئار ، والباس والبؤس والباساء : المكرره والضرر ، وفي الرواية الأخرى : "يا وير ابن سمتة" ، وفي البخاري : "يا ويح ابن سمية)(3) ، وكلاهما بمعنى التفخع والترخم . والويل : بمعنى الهلكة ، هذا هو الصحيح ، وقد تقدَّم الخلاف فيهما .
---
(10/121)
وقوله : "لقد مات كسرى فلا كسرى بعده ، لص إذا هلك قيصر فلا قيصر اة بعده ") كذا جاء هذا الحديث في الأم ، قد مات كسرى بلفظ الماضي المحقق بقد ، بر وقد وقع هذا اللفظ في كتاب الترمذى من حديت أبي هريرة - رضي الله عنه - وعنه و. سعيد بن المسيب ، وعنه الزهري ، وعنه سفيان ، ربهذا السند رواه مسلم ، غير أن الترمذي قال : "إذا هلك كسرى"(ا) ، ولم يقل : "فد مات " وبين اللفظين بون عظيم ، فلفظ مسلم يقنضي أن كسرى قد كان وقع موته ، فاخبر عنه النبي ت ، وعلى هذا يدم حديث أبي بكرة الذي خزجه البخاري قال : لما بلغ رسول الله لشه أن أهل فارص قد مئكوا عليهم بنت كسرى ، تا ل : " لن يفلح قوئم ولوا أمرهم امرأة"(2 ، يعني : أنه لما مات كسرى ولوا عليهم ابنته ، وعلى هذا فلا يصح أن يقال : مكان : "تد مات " : "إذا مات " ، ولا "إذا هلك " ؛ لأنَّ إذا للمستقبل ، ومات للماضي ، وهما متناتضان ، فلا يصح الجمع بينهما لاتحاد الراوي ، واختلاف المعنى ، إلا على تأويل بعيد ، وهو أن يقذر أن أبا هريرة سمع الحديث من النبي ف مرتين ، فسمع أولآ إذا هلك كسرى ، وبعده : قد هلك كسرى. فيكون النث ف قال الحديث الاول قبل موت كسرى ؛ لأنَّه علم أنه يموت ويهلك ، ويكون النبي ف أيضًا قال الحديث الثاني بعد موته ، ويحنمل أن يفزق بين الموت
---
(10/122)
والهلاك ، فيقال : إن موت كسرى كان قد وقع في حياة النبي ظ فاخبر عنه بذلك ، وأما هلاك ملكه ، فلم يقع ذلك إلا بعد موت النبف حر وموت أبي بكر ، وإنَّما هلك ملكه في خلافة عمر -رض الله عنه - على يدئ سعد بن أبي وثاص وغيره من الأمراء الذين ولأهم عمر حرب فارص ، فهزموا جموعه ، وفتحوا بلاده ، وانتقلوا كنوزه إلى المدينة ، رذخائره ، وحنيمه ، حف تاجه كما هو المعروف في كتب التواريخ ، وكان موت كسرى وتمزيق ملكه بسبب دعوة النبي ت كما خزجه البخارئ (ا) من حديث ابن عباس - رض الله عنهما - أن رسول الله ط بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمث ، فامره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى ، فلما ترأه مزقه ، فحسبت أن ابن المسيب قال : فدعا رسول اللهء أن يمزتوا كل ممزق ، فعخل الله تعالى موته ، ومزق بعد ذلك ملكه . وقد تقدَّم أن كل ملك للفرس يقال له كسرى ، وكل ملك للروم : يقال له قيصر. وكل ملك للحبشة يقال له : النجاشي . ويقال كسرى بفتح الكاف ، وهو قول الأصس ، والكسر لغيره . وقوله : "فلا كسرى بعده ، ولا تيصر بعده ") . قال القاض : معناه عند أهل العلم : لا يكون كسرى بالعراق ، ولا قيصر بالشام ، فاعلم بانقضاء ملكهما ، وزواله من هذين القطرين ، فكان كما قال ، وانقطع أمر كسرى بالكلتة ، وتمزق ملكه واضحل ، وتخذ قيصر عن الشام ، ورجع القهقرى إلى داخل بلاده ، واحتوى المسلمون على ملكهما ، وكنوزهما ، والفقا في سبيل الله ، كما أخبر عنه نبثنا محمدف . وقوله : "لتفتحن عصابة من المسلمين كغز ال كسرى") العصابة : الجماعة ( 1 ) رواه البخاري ( 64 ) .
---
(10/123)
من الناس والطير والوحش ، ستوا بذلك ؛ لأنَّهم يشذ بعضهم بعضا ، والعضب : هو الشذ. والعضبة : ما بين العشرين إلى الأربعين ، وإنما أطلق النبف شكض على المفتحتين كنز كسرى : عصابة ، وإن كانوا عساكر بالنسبة إلى عدد عدوهم وجيوشه ، فإنَّهم كانوا بالنسبة إليهم تليلا. وبحتمل أن يريد بالعصابة الجماعة السابقة لفتح القصر الأبيغر دون الجيش كله ؟ فإنَّ الله لما هزم الفرس وجيوشهم العظيمة على يدمحط سعد بن أبي وئاص - رضي الله عنه - وعسكره ، وكان عدد من معه يوم فتح القادسيابر ستة الات ، أو سبعة الاف على ما ذكره محمد بن جرير الطبري . فز المنهزمة من الفرس إلى المدائن منزل كسرى ، فتبعهم المسلمون إلى أن وصلوا إلى دجلة ، وهي تقذف بالزبد ، فاتنحمها المسلمون فرسانا ورخالة ، خائضين يتحذث بعضهم مع بعض ، فلما رأى ذلك الفرس هالهم ذلك ، فتخففوا بما أمكنهم من المالى والذخائر النفيسة ، وفزوا ، ولم يبق فيها إلا من ثقل عن الفرار ، ودخل المسلمون المدائن ، وفيها القصر الأبيض الذي فيه إيوان كسرى ، وأمواله ، وذخائره النفيسة الي لم يسمع بمثلها . قال أهل التاريخ : كان في البيت الأبيض ثلاثة الاف ألف ألف ألف -ثلاث مرات - غير أن رستما لما فز منهزما حمل معه نصف ما كان في بيوت الأموال ، وترك النصف الاخر ، فمئكة(1) الله المسلمين ، فاصاب الفارس من فيء المدانن اثنا عشر ألفا ، ولما دخل القصر الأبيض وجدوا فيه ملابس كسرى ، وحنيته ، وبساطه الذي ما سمع في العالمين بمثله ، فجاؤوا بكل ذلك إلى عمر -رضي الله عنه - فكان ذنث كته مظهرا لصدق رسول الله ط للعيان بحيث يضطر إليه كل إنسان . (1)في (ع )و(م 4) : ف!نثله .
---
(10/124)
(13 ) ومن باب : ما ذكر في ابن صياد ويقال : ابن صائد ، واسمه صاف ، وكل ذلك في الحديث . قال الواقدي : نسبه في بني النجار ، وقيل : هو من اليهود ، وكانوا حلفاء بني النجار ، وكانت حاله في صغره حالة الكفان يصدق مزة ، ويكذب مرارا ، ثم إنه أسلم لما كبر ، وظهرت منه علامة الخير من الحبئ والجهاد مع المسلمين ، ثم ظهرت منه أحوال ، وسمعت منه أقواذ ، تشعر بانه الدخال ، وبانه كافر ، كما يأتي في تفاصيل أحاديثه ، فقيل : إنه تاب ومات بالمدينة ، ووقف على عينه هناك ، وقيل : بل فقد في يوم الحزة ، ولم يوقف عليه ، وكان جابر وابن عمر - رضي الله عنهم - يحلفان أنه الدجال ،
---
(10/125)
لا يشتهان فيه ، وعلى الجملة فأمره كله مشكل على الأمة ، وهو فتنة ومحنة. وقد تقدم أن الأظم : هو الحصن ، ويجمع : اطام . ويروى أطم ابن مغالة ، وبني مغالة ، وكلاهما صحيح ، وبنو مغالة بغين معجمة . وفي حديث ابن حميد ، وفي حديث الحلواني : بني معاوبة ، والأول المعروف ، وبنو مغالة : كل ما كان عن يمينك إذا وتفت اخر البلاط مستقبل مسجد النفء ، وبنو جديلة ما كان عن يسارك ، ومسجد النب!ف في بني مغالة ، قاله الزبير. وقال بعضهم : بنو منالة حف من قضاعة ، وبنو معاوية : هم بنو جديلة . وقوله : "فرفصه ") رسول اللهء - بالفاء والصاد المهملة - رواية الجماعة . قال بعض الشارحين : الزقص : الضرب بالرجل ، مثل الرفس . قلت : وهذا ليس بمعروف عند أهل اللغة ، وإنما رفس بالسين المهملة . يقال : رفسه يريخسه ريرفسه ؟ إذا ضربه برجله . فأمَّا رفص بالصاد : فهو من الرفصة ، وير التوبة من الماء تكون بين القوم ، وهم يترافصون الماء ، أي : يتناوبونه ، وقد وقع عند الصدفي : فرفضه بضاد معجمة . قال القاضي : وهو وفئم . فلت : ربحتمل أن يقال : ليس بوهم ، ويكون معناه من الرفض ، وهو الرمي ، وكانه أعرض عنه ، ولم يلتفت إليه لما سمع منه ما سمع ، فعل المنضب . وأبعد من هذه ما وقع في البخاري من رواية المروزي : فرقصه بالقاف والصاد المهملة ، وفي حديث كتاب الأدب من البخاري ، فرضه : بالضاد المعجمة من الزض ، وقال بعضهم فيه : فرضه بالصاد المهملة ؟ أي : ضغطه . وقوله : يأتيني صادق وكاذب ) يعني به : تابعه من الشيطان ، كان تارة يصدق له ، وتارة يكذب ، وهذه حالة الكقان . وقوله : اخلط عليك الأمر") أي : لتس عليك تابعك الجش حالك . وقوله ت : "خبنت لك خبينآ") رواية الجماعة خبيئآبكسر الباء ، وعند التميمي : خنأ بسكونها ، وكلاهما بمعنى . في الصحاح : الخبء : ما خبىء ، وكذلك : الخبي " وكلاهما مهموز ، واختلف في هذا المختا ما هو ؟ فاسثر على أنه : أضمر له في
(10/126)
نفسه : ايؤم تاقى
---
ألشماء بدفالض فبيب ، أ الدخان : 110 وقال الداودى : وكانت في يده سورة الدخان مكتوبة ، وعلى هذا فيكون قوله ) الدخ يعني به الدخان . قالوا : هي لنة معروفة في الدخان ، وأنشدوا : عتد رواق البيت يتشى الذخا وحكى هذه اللنة في الصحاح ، ووجدته في كتاب الشيخ : الدخ : ساكن الخاء . ومصححا عليه ، أعني : الذي جاء في الحديث ، وكانه على الوقف ، وأما الذي في الشعر فهو مشذد الخاء ، وكذلك ترأته في الحديث فيما أعلم ، وقيل : إنما أراد ابن صياد أن يقول : الاخان فزجره النبي ت فقال : الذخ ، وهذا فيه بعد . وقيل : الذخ : نبت موجود بين النخيل والبساتين خئاه له . واخسا : زجر للكلب ، ولمن يذتم وبهان . وقوله : "لن تعدو قذرئ ") أي : لن تجاوز حالة الكفان المتخزصين الكذابين ، لا يليق بك إلا ذلك ، وإنَّما اختبره النبي ت بذلك لينظر هل طريقته طريقة الكفان ، أو لا ؟ فظهر أنه كذلك . وأن الشياطين تلعب به ، وتلئس عليه . وقوله ت لعمر -رضي الة عنه - : "إن يكته ، فلن تسئط عليه ، وإن لم د يكته نلا خير في قتله ") هذا يدلّ على أن النف لكض لم يئضخ له شيء من أمر كونه أله هو الذخال أم لا ؟ وليس هذا نقصا في حق النبي رز ؛ لأنَّه لم يكن يعلم إلا ما أظ عثمه الهه ، وهذا مما لم ينلنه الله تعالى به ، ولا هو مما ترهق إلى علمه حاجة لا ضرعية ، ولا عادتة ، ولا مصلحنة ، ولعذ الله تعالى قد علم في إخفائه مصلحة ناخفاه ، والذي يجعبن الايمان به : أنه لا بذ من خروج الذخال يذعي الإلهية ، وأنه كذاب أعور ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي قد حضلت لمن عاناها العلم القطعئ بذلك . وقوله : "وإن لم يكته ، فلا خير لك في تتله ") أي : لأنه صبي حينئذ. وقيل : لأنه كان لقومه عهذ من النبي ت كما عاهد يهود المدينة ، أو لأنه من حلفاء بني النجار كما تقدَّم . وهذا الضير المتصل في يكنه هو خبرها ، وقد وضمع موضع المنفصل ، واسمها مستتر
(10/127)
فيها ، رنحوه قول أبي الأسود
---
الذؤلي : دع الخفر تشربها الغوم ة فإنني رم يخت أخاها مغنيا بمكانها(1) فإنَّ لايكتها أزيمته فإثه أخوها غذثه أفه بلبانها أي : فالا يكن هو إياها أر تكن هي إتاه . وقوله : طفق يتقي ) أي : أخذ وجعل ، وقد تقدَّم أنها من أفعال المقاربة . وبتقي : يستتر بجذوع النخل ؟ أي : باصول النخل . وقوله : فثار ابن صئاد) أي : رثب وثبة شديدة . وقوله ف ؟ "لو تركثه بئين ") أي : كان يعش عن حاله في نومه ، هل هو الدخال ، أم لا ؟ وقد يشكل هذا مع توله : "رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ . . . "(2) وبالاجماع على أن النائم غير مؤاخذ بما يقوله في حال نومه ، ولا بما يصدر عنه ، ولا يعوءل على هذا الاشكال ؛ لأنَّ هذا ليس من باب المؤاخذة ، ولا التكليف ، لص انما هر من باب النظر في قرائن الأحوال ؟ فإنَّ النائم الغالب عليه
---
(10/128)
أنه يتكئم في نومه بما يكون غالبم ا عليه في يقظته ، ولعل النبف "صغ كان ينتظر أن يظهر له منه في حال نومه ما يدل على حاله دلالة خاصة به ، والله تعالى أعلم . وقوله : "إني لأنذبهم الدخال ، وما من نبف إلا رقد أنذره تومه ، لقد أنذره نوخ تومه ") إنما كان هذا من الأنبياء لما علموا من عظيم فتنته ، رشذة محنته ؟ على ما يأتي تفصيلها في الأحاديث المذكورة بعد ؟ ولأنهم لما لم يعثين لواحد منهم زمان خروجه ، توفع كل راحد منهم خروجه في زمان أمته ، فبالغ في التحذير. وفاندة هذا الإنذار الايمان بوجوده ، والعزم على معاداته ، ومخالفته ، واظهار تكذيبه ، وصدق الالتجاء إلى الله تعالى في الئعؤذ من فتنته . وهذا مذهب أهل الشنة ، وعافة أهل الفقه والحديث ، خلافا لس أنكر أمره ، وأبطله من الخوارج وبعض المعتزلة ، وخلافا للجئائي من المعتزلة ، ومن وافقنا على إثباته من الجهمية وغيرهم ، لكن زعموا أن ما عنده مخارق وحيل ، قال : لأنها لو كانت أمورا صحيحة لكان ذلك إلباسا للكاذب بالصادق ، وحيننذ لا يكون فرق بين النبي والمتنبىء ، وهذا هذيان لا يلتفت إليه ؟ فإنَّ هذا إنما كان يلزم لو أن الدخال يذعي النبوة ، وليس كذلك ؟ نانه إنما ادعى الالهية ، وكذبه في هذه الدعوى واضح للعقول ؟ إذ أدلة حدثه ونقصه وفقره مدرك باول الفطرة ، بيث لا يجهله من له أدنى فكرة ، وقد زاد النبف ف هذا المعنى أيضًاحا في هذا الحديث من ثلاثة أوجه : أحدها : بقوله : "ولكن أتول لكم فيه تولا لم يقله نبئ لأمته ، إنه أعور ، وإن الله ليس باعور" وهذا تنبيه للعقول القاصرة أو الغافلة على أن من كان ناقصا في ذاته ، عاجزا عن إزالة نقصه ، لم يصلخ لأن يكون إلها لعجزه وضفه ، ومن كان عاجزا عن إزالة نقصه كان أعجز عن نفع غيره ، وعن مضزته .
---
(10/129)
وثانيها : توله : "إنه مكتوبئ بين عينيه كافر ، يقرؤه ك! مؤمن كاتمبئ وغير كاتب " وهذا أمر مشاهد للحس يشهد بكذبه وكفره . وثالثها : توله : "تعلموا أنه لن يرى أحذ منكم رئه حتى يموت " ، وهذا نص جلث في أن الله تعالى لا يرى في هذه الدار ، وهو موافق لقوله تعالى : ا لا تذرحه للأبشر ، أالأنعام : 103 ، أى : في الدفيا ، رلقوله تعالى لموسى - عليه السلام - : ا لن ترنف " أالأعراف : 1143 أي في الدنيا . ولقوله : ا وما كان لبمفي أن يكمه أشه إس وفيا 00 ، الاية أالشورى : 151 . وحاصل هذا : أن الصادق قد أخبر أن الله تعالى لا يراه أحذ في الدنيا ، والدخال يراه الناس ، فليس باله ، وهذا منه ط نزرل إلى غاية البيان بحيث لا يبقى كا معه ريبة *نسان ، وقد تقدَّم الخلاف في رؤبة نبثما محمدكلر رئه في كغاب ر!ه الايمان ، وقد قلنا : إنه لم يثبعت في الباب قاطغ يعتمد عليه ، والأصل : الئمشك بما دلت هذه الأدلة عليه ، وقد تاؤل بعض الناس توله ئ : "مكتوفي بين عينيه كافر" . وقال : معن ذلك ما ثبت من سمات حدثه ، وشواهد عجزه ، وظهور نقصه . قال : ولو كان على ظاهره وحقيقته لاستوى في إدراك ذلك المؤمن والكافر ، وهذا عدوذ وتحريف عن حقيتة الحديث من غير موجب لذلك ، وما ذكره من لزوم المساواة بين المؤمن والكافر في تراءة ذلك لا يلزم لوجهين : أحدهما : أن الله تعالى يمنع الكافر من إدراكه ، لا سيما وذلك الزمان قد انحرفت فيه عوائد ، فليكن هذا منها. وقد تمن على هذا في بعغى طرته فقال : ايقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " ، وتراءة غير الكاتب خارتة للعادة . وثانيهما : أن المؤمن إنما يدركه لبئه ، ، يقظته ، ولسوء ظنه بالذخال ، وتخؤفه من فتنته ، فهو في كل حال يستعيد النظر في أمره ، وششزيد بصيرة في كذبه ، فينظر في تفاصيل أحواله ، فيترأ سطور كفره ، وضلاله ويتبئيئ عين محاله . رأما الكافر فمصروف عن ذلك كله بننلته وجهله ، وكما انصرف عن إدراك نقص عوره
(10/130)
، رشواهد عجزه ،
---
كذلك يصرف عن فهم قراءة سطور كفره ورمزه . وأما الفرق بين النت والمتنئىء نالمعجزة لا تظهر على يدئ المتنئىء ؛ لأنَّه الض يلزم منه انقلاب دليل الصدق دليل الكذب ، رهو محال ، وللبحث فيها مجال في وا ا علم الكلام ، وأما من قال : أن ما يأتي به الدجال حيل ومخارق فهو معزول عن الحقائق ؛ لأنَّ ما أخبر به النث * من تلك الأمور حقائق لا يحيل العقل شيئا منها ، فوجب إبقاؤها على حقائقها ، وسيأتي تفصيلها . والرواية في تعئموا بتشديد اللام بمعنى : اعلموا وتعئموا . وقوله : "فرفعت لنا غننم ") أي : أبصرناها على بعد ، وكان الال الذي هو السراب رنعها لهم ؟ أي : أظهرها . والصعق : بضم العين : القدح الكبير. و(قول ابن صئاد لأبي سعيد : أليس قد قال رسول الله ت : "هو كافر" رأنا مسلم الخ . . .) هذا الحديث من أوله إلى اخره يدلّ على أن هذه القصة اتفقت لأبي سعيد مع ابن صئاد بعد أن كبر ، وصار رجلآ وولد له ، وبعد مرت النبي ئ ، رأن ابن صياد أسلم وفي ، وأنه حفظ الحديث عن رسرل الهه ت ، ولذلك ذكره ابن جرير وغيره في الصحابة ، غير أنه قد ظهرت منه في هذا الحديث أموز بعضها كفر ، وذلك قوله : لو عرض على ما كرهت ، فإنَّ من يرضى لنفسه دعوى الإلهية ، وحالة الذخال هو كافر ، ولا يتصور في هذا خلاف ، وبعضها يشعر بأن الذخال ، وهو قوله : والله إني لأعرفه ، وأعرف مولده ، وأين هو . زاد الترمذقي (ا) ، وأين هو الساعة من الأرض ، وأعرف والده . فإنَّ هذا يقارب النمن في أنه هو ، وما لتس به من أنه مسلم فسيكفر ، أو هو منافق كافر في الحال ، وحخه وغيره مخبط بكفره ، او لعته كان ذلك منه نفاقا. وأما كونه لا يولد له ، ولا يدخل مكة والمدينة ، فيحتمل أن يكون ذلك منه إذا خرج على الناس ، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك . و(قول أبي سعيد الخدرقي له : تتا لك سائر اليوم ) ؟ أي : خسارا لك دائما ؛ لأنَّ اليوم هنا يراد به الزمان ، و-لبا :
(10/131)
منصوب بفعل مضمر لا يستعمل إظهاره ،
---
أي : لقيت تتا ، أي : تبابا ، أو صادفت ، أو لفاه الله تبابا. و(قول ابن عمر -رضي التة عنهما- : لقيت ابن صائد مرتين ، فقلت لبعضهم : هل تحذثون أنه هو؟) يعني : لبعض من كان معه ، والذي قال : لا ؟ والله هو ذلك البعض الذي خاطبه ، وله قال ابن عمر : كذبتني ، ألا ترى أنه خاطبه بقوله : لقد أخبرني بعضكم ، ولا ثمخئل! أن الخطاب لابن صياد ؛ لأنَّه لم يتكلم معه بهذه اللقيا ، وإنما تكئم معه في الثقية الأخرى . وقوله : لقد أخبرفي بعضكم أنه لن يموت حف يكون أكثركم مالا وولدا ، فكذلك هو زعموا اليوم ) مثل هذا الخبر لا يثوضل إليه إلا بالنقل ، ولم يكن عندهم ( 1 ) رواه الترمذي (2249 ) .
---
(10/132)
شيء يعتمدونه إلا الخبر عن رسول الله في فهو مرفوع بالمعنى لا باللفظ ، فكانه قال : أخبرني مجضكم عن النبي ط . وقوله : فلقيته لقية أخرى ، وقد نفرث عينه ) كذا وقع كثرهم والصواب الفتح في اللام من لقية ؛ لأنَّه مصدر ، ولم يحكه ثعلب إلا بالرفع ، رنفرت ؟ بالنون والفاء المفتوحتين : رواية جماعة الشيوخ ؟ أى : ورمت ، وفي أصل القاضي التميمي : نقرت وفقنت معا ، فقلت : فقنت في الموضعين ، وكتب على الأول بخطه : نقرت - بالنون والقاف -. ورواه أبو عبد الله المازرقي : نفرت بالفاء ، وير ككها متقاربة ، وأشبهها الأولى ، فإنَّ عينه في ذلك الوقت لم تكن مفقوءة ؟ إذ لو كان ذلك لكان من أعظم الأدلة على أنه الد!ال ، ولاستدذ بذلك من قال : إنه هو على من خالفه في ذلك ، ولم يرد ذلك ، غير أنه قد حكى أبو الفرج الجوزي في أنه : ولد وهو أعور مختون مسرور ، وهذا فيه نظر ؛ لأنَّ الظاهر من هذا الحديث أشهر مما ذكر . ويحتمل أن يكون ذلك الورم مبتداء فق ش عينه إن كان هو الدخال ، والله أعلم . وكون ابن عمر لم يشعر بضربه لابن صئاد بالمحصا حتى تكشرت ، كان ذلك لشدة مؤجدته عليه ، وكانه تحقق منه أنه الذخال . وقوله : فنخر كاشذ نخبر حمار سمعت ) اشخر ة صوت اللأنف . تقول هة : نخر يتخر يتخر نخيرا.
وقوله : فقال له قولآ أغضبه ) يعني : أن ابن عمر قال لابن صتاد قولا غضب ابن صياد لأجله ، فانتفخ حق ملأ السئهة ، وهي الطريق ، وتجمع سككا ، وهذا الانتفاخ محموذ على حقيقته وظاهره ، ويكون هذا أمرا خارتا للعادة في حق ابن صئاد ، ويكون من علامات أنه الدخال ؛ لأنَّ هذا موافق لما قالته حفصة -رض الله عنها -عن النبيء : "إنما يخرج من غضبة يتضبها ، . وقد اجتمعت في أحاديث ابن عمر هذه قرائن كثيرة تفيد : أن ابن صئاد هو الذخال ، ولذلك كان ابن عمر -رضي الله عنهما- قد اعتقد ذلك وصئم عليه بحيث كان يحلف على ذلك ، وكذلك جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -.
---
(10/133)
(14 و5ا) ومن باب : صفة الدجال (1) (قوله : "لأنا أعلم بما مع الدجال منه ") هذا جواب قسم محذوف ؟ أي : والله لا ة لأنا أعلم . أي : أن الدخال لا يعلم حقبقة ما معه من الجنة والنار ، ولا من حة النهرين ؟ أي ؟ أنه يظئهما كما يراهما غيره ، فيظن جنته جثة وماءه ما" وحقيقة الأمر على الخلاف من ذلك ، فيكون قد لبس عليه فيهما ، والن! ط قد علم حقيقة كل واحد منهما ، ولذلك بثنه ، نتال : "ناره ماء بارد" . وفي اللفظ الآخر : "نجنته ناز رناره جنة ، ، وهذا الكلام رواه مسلم عن حذيفة من قول النبي ط في هذه الطريق ، وقد رواه من طريق أخرى موتوفا على حذيفة من توله ، وقد رواه أبو داود من حديث زبر بن خراش قال : اجتمع حذيفة ، وأبو مسعود ، فقال حذيفة : لأنا أعلم بما مع الدجال منه (2). وقوله : "رأي العين ") منصوب على الظرف ؟ أى : حين رأي العين ، أو في رأى العين ، ويصخ أن يقال فيه : إنه مصدز صدره محذوف تقديره : تراه رأي العين . وكل ما يظهره الله على يدكما الدجال من الخوارق للعادة محن امتحن الله بها خو عباده ، وابتلاء ابتلاهم به ، ليتمئز أهل التنزيه والتوحيد بما يدل عليه العقل السديد ت (1 ) ضرح المزلف - رحمه الله - تحت هذا العنوان هذا الباب رالذى يليه ، رهو باب : في هوان الدجال على الله تعالى . (2) رواه أبو داود (4315 ) .
---
(10/134)
من استحالة الإلهية على ذوي الأجسام ، لى ان أتوا على دعواهم بامتثال تلك الطوائم ، أو لينتز أهل الجهل باعتقاد التجسيم ، حتى يوردهم ذلك نار الجحيم . وفتنة الدجال من نحو فتنة أهل المحشر بالصورة الهائلة التي تاتيهم فتقول لهم : أنا ربر ، فيقول المؤمنون : نعوذ بالنه منك ، كما تقدَّم في الإيمان . ومقتض روايتي حذينة : أن معه نهرين وجنتين ، وأنهما مختلفتان في المعنى واللفظ لأن النهر لا يقال عليه جنه ، ولا الجنة يقال عليها نهر. هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن يقال : ان ذيخنك النهرين في جنه ونار ، فحسن أن بعثر باحدهما عن الاخر . وقوله : "فافا أذيهن ذلك أحدكم ، ) كذا الرواية عند جميع الشيوخ ، والصواب : اسقاط النون ، لأنه فعل ماض ، وإنما تدخل هذه النون على الفعل المستفبل كقوله : ا فاقا نذهبن بك " أ الزخرف : 141 ، وا فإما يأتينص مف مذى" ا البنرة : 38 ، ونحوه كثير . وقوله : "الذخال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة ، ) هي بالظاء المعجمة والناء ، رهما مفنوحان ، وهي جلدة تن!ي العين ، إن لم تقطغ غشيت العين . ومعى ممسوح العين ؟ أي : مطموس ضوؤها وإدراكها ، فلا يبصر بها شيئًا. وقوله : "الذخال أعور العين اليسرى") الأعور : هو الذي أصابه في عينه عوز ، وهو العيب الذى يذهب إدراكها ، وهكذا صخ في حديث حذيفة : ا اليسرى" ، وقد صخ من حديت ابن عمر مرفوعا أنه أعور عينه اليمنى ، كانها عنبة
---
(10/135)
طافية ، ورواه الترمذفي (1) أيضًا وصخحه ، وهذا اختلاف يصعب الجمع فيه بينهما ، وقد تكئف القاضي أبو الفضل الجمع بينهما ، فقال : جنع الروايتين عندي صحيح ، رهو أن كل واحدة منهما عوراء من وجه ما ؟ إذ العور في كل شيء : العيب ، والكلمة العوراء : هي المعيبة . فالواحدة عوراء بالحقيقة ، وهي التي وصفت في الحديث بانها ليست جحراء ، ولا ناتئة ، وممسوحة رمطموسة . وطافئة - على رواية الهمز - ، والأخرى عوراء لنيبها اللازم لها لكونها جاحظة ، أو كانها كوكب ، أو كانها عنبة طافية -بنير همز- وكل واحدة منهما يصخ فيها الوصف بالعوز بحقيقة العرف والاستعمال ، أو بمعنى العور الأصلي الذي هو العيب . قلت : رحاصل كلامه : أن كل واحدة من عينبم الدجال عوراء . إحداهما بما أصابها حتى ذهب إدراكها ، والثانية عوراء باصل خلقتها معيبة . لكن يبعد هذا التأويل : أن كل واحدة من عينيه قد جاء وصفها في الروايات ، بمثل ما رصفت به الأخرى من العور ، فتائنه ، فإنَّ تتبع تلك الألفاظ يطول . وقوله : "جفال ال!نر ، ) أي : كثيره . قال ذو الزفة يصف شعر امرأة : وأنعود كالأساود ممنعبكزا*2) على المتثين متسدلا جفالا وشعر الدخال مع كثرته جعد قطط ، وهو الشديد الجعودة ، الذي لا يمتذ إلا باليد ، كشعور الشودان ، وفي القطط لنتان الفتح والكسر في الطاء الأولى .
( 1 ) رواه الترمذي ( 2241 ) . (2) سنبكرأ : منسدلآ مسترسلآ . والأساود : الحين ات .
---
(10/136)
وقوله : "فخفض فيه ورفع ") بتخفيف الفاء ، أي : أكثر من الكلام فيه ، نتارة يرفع صوته ليسمع من بعد ، وتارة يخفض ليستريح من تعب الإعلان ، وهذه حالة المكثر من الكلام . وقيل : معناه : نحفره وصنره كما قال : "هو أهون على الله من ذلك " رتارة عفمه ، كما قال : "ليس بين يدئ الساعة خلق أكبر من الدخال " والأول أسبق إلى الفهم ، وقد روقي ذلك اللفظ : "فخفض فيه ورثع " مشذد الفاء ، وهي للتضيف رالتكثير . وقوله : "غير الدخال أخوفني عليكم ") بنون الوقاية عند الجماعة ، وهو وجه الكلام ، رقد روى عن أبي بحر : أخوفي - بنير نون - وير قليلة حكاها ثابت ، وقد وقع في النرمذي : "أخوف لي " . قلت : وهو وجه الكلام ، وفيه اختصار ؟ أى : غير الذخال أخوت لي عليكم من الدجال ، فحذف للعلم به . وقوله : "إن يخرخ وأنا فيكم ، فانا حجيجه دونكم ، وإن يخرج وليست فيكم ، نامرز حجيج نفسه ") هذا الكلام يدلّ : على أن النبي ئ لم يتبين له وتت خروجه ، غير أنه كان ينوقعه ، ويقربه ، وكذلك كان يقرب أمره حتى يظنوا أنه في النخل القريب منهم . وحجيجه : محاخه ؟ ومخاصمه ، وتاطعه بالحجَّة باظهار كذب لافساد قوله . وقوله : "فامرؤ حجيج نفسه ") أي : ليحتخ كذ امرىء عن نفسه بما أعلمته
---
(10/137)
من صفته ، وبما يدلّ العقل عليه من كذبه في دعوى الإلهية ، وهو خبر بمعنى الأمر ، وفيه التنبيه على النظر عند المشكلات ، والتمسك بالأدلة الواضحات . وب عند وقوله : "والله خليفتي على كل مسلم ") هذا منه زو تفويض إلى الله تعالى ارز في كفاية كل مسلم من تلك الفنن العظيمة ، وتوتهل عليه في ذلك ، ولا ش! في أن من صخ إسلامه في ذلك الوتت ، أنه يش تلك الفتن لصدق النبي كلص في توتهله من ا وصحته ، لضان الله تعالى كفاية من توش عليه ، بقوله : ا ومن يؤش ط الله فهو اسه ، نننة ت!به ، أالطلاق : 13 أي : كافيه مشقة ما توش عليه فيه ، وموصله إلى ما يصلحه منه ، ومع هذا فقد أرشد النبي * إلى ما يقرزه على الدجال ، فيؤمن من فتنته ، ما وذلك عشر ايات من أول سورة الكهف ، أو من آخرها ، على اختلاف الرواية في ! ذلك . والاحتياط والحزم يقتضي : أن يقرأ عشرا من أؤلها ، وعشرا من اخرها ، على أنه قد روى أبو داود من حديث النؤاس : "فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنَّها جوازلكم من فتنته "(1). وقوله : "عنتة طافنة") رويناه بالهمز ، رصخحناه على من يوثق بعلمه ، وقد سمعناه بغير همز ، وبالوجهين ذكره القاضي أبو الفضل ، فقال : هو اسم فاعل من طفنت النار ، تطفا ؟ فهي طافنة ، وانطفات في منطفئة ، وأطفاتها أنها : فهي مطفاة . فكان عينه كانت تنير كالسراج فانطفات ؟ أي : ذهب نورها ، وهذا المعنى في هذه الرواية التي لم يذكر فيها عنبة واضح ، ويبعد فيها ترك الهمز ، وأما الرواية التي فيها : "كانها عنتة طافية" فالأولى ترك الهمز ، فإنَّه شئهها في استدارتها وبروزها كحبة العنب ، رهو اسم فاعل من طفا يطفو : إذا علا-غير مهموز-في طافية ،
---
(10/138)