ومن باب ابتناء مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
---
" الملأ " : أشراف القوم وساداتهم ، وسُمّوا بذلك ؛ لأنهم أَمْلِيَاء بالرأي والغِنَى . وبنو النجار قبيلة من الأنصار ، وهم أخوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وذلك : أن هاشِمًا تزوج امرأة من بني النجار تُسَمَّى : سلمى بنت عمرو بن زيد بن عدي ابن النّجار ، فولدت له عبد المطلب بن هاشم ، فمن هنا كانوا أخوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( ثامنوني بحائطكم )) ؛ أي : اطلبوا ثمنه ، وبايعوني به . والحائط : بستان النخل .
" فقالوا : لا والله ما نطلب ثمنه إلا إلى الله عزّ وجلّ " ، وهذا ينص على أنهم لم يأخذوا منه ثمنًا ، وإنما وهبوه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد ذكر محمد بن سعد في "تاريخه الكبير" عن الواقدي : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اشتراه من بني عَفْراء ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعشرة دنانير دفعها عنه أبوبكر الصديق ، فإن صحّ هذا فلم يقبله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بالثمن ؛ لأنه كان ليتيمين .
وفي هذا دليل على لزوم بناء المساجد في القرى التي يُسْتًوطن فيها ؛ لأجل الجمعة ، ولإظهارشعائر الإسلام .(2/184)
وقوله : "وكانت فيه نخل وقبور المشركين وخِرَب " ، رُوي بفتح الخاء وكسر الراء : جمع خَرِبة ؛ مثل : كَلِمَة وكَلِم ، وبكسر الخاء وفتح الراء : جمع خِرْبة بسكون الراء ، لغتان فيما يخرب من البناء ، والثانية لتميم ، هذا هوالصحيح في الرواية والمعنى . وقد فسَّره حيث قال : " وبالخِرَب فسُوِّيتْ ". وقد استبعد الخطابي ذلك المعنى ، وأخذ يقدِّر اللفظ تقديرات ، فقال : لعل الصواب : "خُرَب " : جمع " خُرْبة " ؛ وهي الخروق في الأرض ، أو لعلَّها : "جرْف" جمع : " جِرَفَةٍ" ، وهي جمع " جُرُف". قال : وأبينُ منه إنْ ساعدت الرواية - : " حَدَبٌ " جمع " حَدَبَةٌ " ؛ وهي ما ارتفع من الأرض .
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا منه تكلّف لا يحتاج إليه مع صحة الرواية والمعنى كما قدّمناه .
وفيه دليل على جواز قطع المثمر من الشجر إذا احتيج إليه ؛ من نكاية في عدو ، أو إزالة ضرر ، أو ما يخاف منه .
وقوله : " وقبور المشركين فنبشت " ؛ إنما نبش قبورهم ؛ لأنهم لا حرمة لهم . فإن قيل : كيف جاز نبشهم وإخراجهم من قبورهم ، والقبر مختص بمن دفن فيه ، مُحَبَّشٌ عليه ، قد حازه الميت ، فلا يجوز بيعه ، ولا نقله عنه ؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن تلك القبور لم تكن أملاكًا لمن دفن فيها ، بل لعلها غصب ، ولذلك باعها مُلاَّكُها .
الثاني : على تسليم أنها حُبِّسَتْ ، فذلك إنما يلزم في تحبيس المسلمين ، أما تحبيس الكفار فلا ؛ إذ لا يصح منهم التقرب إلى الله تعالى ، لا يقال : فهذا العتق يلزمهم إذا رفعوا أيديهم عن المعتق ، لأنا نقول في العتق : إنه أمر عظيم [ يتشوّف] الشرع إليه ما لم يتشوّف للحبس ولا لغيره ، ولأنه تعلق به حقٌّ لآدمي ، فجرى ذلك مجرى هِباتهم وأعطياتهم اللازمة .
ويمكن أن يقال : دعت الضرورة والحاجة إلى النبش فجاز .(2/185)
وقد اختلف في نبش قبور الكفار لطلب مال ، فكرهه مالك ؛ لأنها مواضع سخط وعذاب ؛ فلا تدخل ، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تدخلوا بيوت ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هؤلاء المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم )). فمن دخلها لطلب الدنيا كان بضد ذلك . وأجازة جماعة من أصحاب مالك ؛ محتجِّين بأن الصحابة نَبَشَتْ قبر أبى رِغَال ، واستخرجت منه قضيب الذهب الذي أعلمهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه مدفون معه .
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واتخاذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسجده في تلك البقعة دليل على أن القبور إذا لم يبق منها ولا من الموتى فيها بقية جازت الصلاة فيها .
واختلف العلماء في جواز الصلاة في المقابر جملة ؛ فأجازه مالك وأكثر أصحابه - وإن كان القبر بين يديه - ، وهو مذهب الحسن البصري والشافعي وآخرين . وروي عن مالك أيضًا الكراهة ، وبه قال أحمد ، وإسحاق وجماعة من السلف . وحكى العراقيون عن المذهب : كراهية الصلاة في [القديمة دون] الجديدة . وقد كره العلماء الصلاة في مقابر المشركين بكل حال ، وعليه تأوّل أكثرهم النهي عن الصلاة في المقبرة ؛ قالوا : لأنها حفرة من حفر النار ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في الجنائز إن شاء الله .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/186)
وفي بنائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسجده بالجذوع والجريد دليل على ترك الزخرفة في المسجد والتأنق فيها ، والإسراف . بل قد ورد عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يقتضي النهي عن زخرفتها وتشييدها ، فقال : (( ما أُمِرْتُ بتشييد المساجد ))" ، وقال : " لتزخرفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى )).
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : " فكانوا يرتجزون ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم " ؛ اختلف أصحاب العَروض وعلم الشعر في أعاريض الرَّجَز هل هي من الشعر ؟ والصحيح أنه من الشعر ؛ لأن الشعر هو كلام موزون [ تُلْتَزَم] فيه قوافٍ ، والرَّجَزُ كذلك . وأيضًا : فإن قريشًا لما اجتمعوا وتراءَوا فيما يقولون للناس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال قائل : نقول : هو شاعر ، فقالوا : والله لتكذبنّكم العربُ ؛ قد عرفنا الشعر كلّه ، هزجه ورجزه ، ومقبوضه ومبسوطه ، فذكروا الرجز من جملة أنواع الشعر ، وإنما أخرجه من جنس الشعر من أشكل عليه إنشاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياه ، فقال : لو كان شعرًا لما علمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأن الله تعالى قال : { وما علمناه الشعر } ، وهذا ليس بشيء ؛ لأن من أنشد القليل من الشعر ، أو قاله ، أو تمثل به على [الندور] ، لم يستحق به اسم الشاعر ، ولا يقال فيه : إنه يَعْلَم الشعر ، ولا ينسب إليه ، ولو كان ذلك للزم أن يقال على الناس كلهم : شعراء ، و: يعلمون الشعر ؛ لأنهم لا يَخْلَوْنَ أن يعرفوا كلامًا موزونًا مرتبطًا على أعاريض الشعر .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/187)
ثم قوله : " كانوا يرتجزون ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم " ، ليس فيه دليل واضح على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان المنشد ، بل الظاهر منهم أنهم هم كانوا المرتجزين ، وبحضرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإن الواو للحال ، و" رسول " مبتدأ ، و"معهم " الخبر ، والجملة في موضع الحال ، هذا الظاهر ، ويحتمل أن تكون معطوفًا على المضمر في : " يرتجزون " ، والله أعلم .
وهذا الحديث وشِبْهُهُ يُستدلّ به على جواز إنشاد الشعر والاستعانة بذلك على الأعمال والتنشيط .
---
ومن هنا أخذ الصوفية إباحة السماع ، غير أنهم اليوم أفرطوا في ذلك ، وتعدَّوا فيه الوجه الجائز ، وتذرّعوا بذلك إلى استباحة المحرمات من أصناف الملاهي ؛ كالشبابات ، والطارات ، والرقص ، وغير ذلك . وهذه أفعال الْمُجَّان : أهل البطالة والفسوق الْمُدْخِلين في الشريعة ما ليس منها - أعاذنا الله من ذلك بمنه -.
وقوله : " كان يصلي في مرابض الغنم " ؛ حجة لمالك على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه ، وقد قدّمنا ذلك .
*************
(40) باب تحويل القبلة من الشام إلى الكعبة ، والنهي عن بناء المساجد على القبور وعن التصاوير فيها
125 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } ، فَنَزَلَتْ بَعْدَمَا صَلَّى النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ ، فَمَرَّ بِنَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، فَحَدَّثَهُمْ فَوَلَّوْا وُجُوهَهُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تحويل القبلة
قد تقدّم القول في " الشطر " في الظهارة .(2/188)
وأحاديث تحويل القبلة من الشام [من] بيت المقدس فيها مسائل أصولية :
المسألة الأولى : نسخ السنة بالقرآن ، أجازه الجمهور ، ومنعه الشافعي ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه الأحاديث حجّة عليه . وكذلك قوله تعالى : { فلا ترجعوهنّ إلى الكفار } ؛ نسخ لما قرّره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العهد والصلح على ردّ كل من أسلم من الرجال والنساء من أهل مكة ، وغير ذلك .
---
المسألة الثانية : رفع القاطع بخبر الواحد ؛ وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعًا به من الشريعة عندهم ، ثم إن أهل قباء لما أتاهم الآتي فأخبرهم أن القبلة قد حُوِّلت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله ، واستداروا نحو الكعبة ، فتركوا المتواتر بخبر الواحد ، وهو مظنون . وقد اختلف العلماء في جوازه عقلاً ووقوعه . قال أبو حامد : والمختار : جواز ذلك عقلاً لو تعبِّد الشرع به ، ووقوعه في زمن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدليل قصة قباء ، وبدليل أنه كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُنفِذ آحاد الولاة إلى الأطراف ، وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جميعًا ، لكن ذلك ممنوع بعد وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن [المتواتر] المعلوم لا يرفع بخبر الواحد ، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف ، وبسط ذلك في الأصول .
---(2/189)
المسألة الثالثة : وهي أن النسخ إذا وجد من الشارع ، فهل يكون ناسخًا في حق من لم يبلغه الناسخ ؟ أو لا يكون [نسخًا] في حقه حتى يبلغه ؟ اختلف فيه على قولين ، وفائدة الخلاف في هذه المسألة في عبادات فُعلت بعد النسخ ، وقبل البلاغ : هل تعاد أو لا ؟ فإن قلنا بالأول ، أعادها ؛ إذ لم تكن عبادة في نفسها ، وقد نسخت . وإن تنزَّلنا على الثاني لم يُعد ؛ إذ هو مخاطب بفعل ما قد تقرر الأمر به ، وهو الأولى . وقد ردّوا إلى هذه المسألة مسالة الوكيل إذا تصرف بعد العزل وقبل العلم به ، فهل يمضي تصرفه أو لا ؟ قولان . وقد فرّق القاضي عياض بين مسألة النسخ ومسألة الوكيل : بأن مسألة الوكيل تعلق بها حق الغير على الموكّل ، فلهذا توجه الخلاف فيها. ولم يختلف المذهب عندنا في أحكام من اعتق ولم يعلم بعتقه : أنها أحكامُ حرٍّ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيما بينه وبين الناس ، فأما [ما بينه] وبين الله فجائزة. ولم يختلفوا في الْمُعْتَقَةِ أنها لا تعيد ماصلت -بعد عِتْقِها وقبل علمها بغير ستر . وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب يغيِّر حكم [عبادة] وهو فيها ؛ بناء على هذه المسألة .
المسألة الرابعة : قبول خبر الواحد ، وهو مجمع عليه من السلف ، معلوم بالتواتر من عادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في توجيهه ولاته ورسله آحادًا للآفاق ليعلِّموا الناس دينهم ، ويبلِّغوهم سنة رسولهم ؛ من الأوامر والنواهي ، والمخالف في ذلك معاند ، أو ناقص الفطرة .
وقول البراء : " صليت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا - أو سبعة عشر شهرًا-" ، الصحيح : سبعة عشر شهرًا من غير شك ، وهو قول مالك وابن المسيب وابن إسحاق . وقد رُوي : " ثمانية عشر شهرًا" ،
---(2/190)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و : " بعد سنتين " ، و: " بعد تسعة أشهر - أو عشرة أشهر" ، والصحيح ما ذكرناه أوّلاً .
126 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ
فَاسْتَقْبَلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ .
127 - عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكِ الصُّوَرَ ، أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فاستقبلوها " روي بفتح الباء على الخبر ، وبكسرها على الأمر ، وكلاهما صحيح .
وقوله : (( أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا ، وصوّروا فيه تلك الصور )) ، قلت : إنما فعل ذلك أوائلهم ليتأنّسوا برؤية تلك الصورة ، ويتذكروا(8) أحوالهم الصالحة ، فيجتهدون ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(2/191)
كاجتهادهم ، ويعبدون الله عزّ وجلّ عند قبورهم ، فمضت لهم بذلك أزمان ، ثم إنهم خلف من بعدهم خُلُوفجهلوا أغراضهم ، ووسوس لهم الشيطان : أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها ، فعبدوها ، فحذّر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مثل ذلك ، وشدّد النكير والوعيد على من فعل ذلك ، وسَدَّ الذرائع المؤدية إلى ذلك ، فقال : (( اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم [مساجد ، فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك )). وقال : (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا تبور أنبيانهم] ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصالحيهم مساجد )) ، وقال : (( اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد )) ، ولهذا بالغ المسلمون في سدّ الذريعة في قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأَعْلُوا حيطان تربته ، 128 - وَعَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : ((لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ )).
قَالَتْ : وَلَوْلا ذَلِكَ لأُبْرِزَ قَبْرُهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسَدُّوا المداخل إليها ، وجعلوها محدقة بقبره ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم خافوا أن يُتخذ موضع قبره قبلة -إذ كان مستقبل المصلين - ، فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة ، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين ، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية
---(2/192)
129 - وَعَنْهَا وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالا : لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : (( لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مِثْلَ مَا صَنَعُوا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مثلث من ناحية الشمال ، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره ، ولهذا الذي ذكرناه [كله] قالت عائشة : " ولولا ذلك أُبرز قبره ".
تنبيه : وفي هذه الأحاديث ما يَسْتَدِلّ به مالك - على صحة القول بسد الذرائع - على الشافعي وغيره من المانعين لذلك ، وهي مستوفاة في الأصول .
وقوله : " لما نُزِلَ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ؛ يعني : نزل به الموت .
و " طَفِقَ " : أخذ وجعل ، وهي من أفعال المقَارَبَة ، وهي لا بدّ لها من اسم وخبر ، إلا أن خبرها يلزم [فيه] أن يكون فعلاً مجردًا عن " أن " ، وقد قدّمنا القول في "عسى" ، و"يوشك".
و " الخميصة " : كساءٌ له أعلام .
130 - وَعَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِاللهِ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ ، وَهُوَ يَقُولُ : (( إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً ، أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(2/193)
وقوله في حديث جندب : " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل " ؛ أي : أبعد عن هذا وأنقطع عنه . وإنما كان ذلك ؛ لأن قلبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد امتلأ بما تخلله من محبة الله تعالى وتعظيمه ، فلا يتسع لمخالّة غيره ، أو لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد انقطع بحاجاته كلها إلى الله ، ولجأ إليه في سدِّ خلاّته ، فكفاه ووقاه ، فلا يحتاج إلى أحد من المخلوقين ، وقد تقدم القول في الخلّة والخليل .
وقوله : (( ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً )) ؛ هذا يدل على أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنه مخصوص من منح الله ، ومن كريم مواهبه ، ومن محبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له ؛ بما ليس لأحد من بعده ، وهذا مذهب أهل السنة أجمعين ؛ من السلف الماضين والخلف اللاحقين.
*************
(41) باب ثواب من بَنَى للهِ مسجدًا
131 - عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ؛ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ ، فَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ )).
وَفِي رِوَايَةٍ ، قَالَ عُثْمَانَ : إِنَّكُمْ قَدْ أَكْثَرْتُمْ ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى - قَالَ بُكَيْرٌ : حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ - يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ثواب من بنى لله مسجدًا
قوله : (( من بنى لله مسجدًا )) ؛ أي : مخلصًا في بنائه لله تعالى ، كما قال في الرواية الأخرى : (( يبتغي به وجه الله )).
---(2/194)
وقوله : (( بنى الله له في الجنة مثله )) : هذه المثلية ليست على ظاهرها ، ولا من كل الوجوه ، وإنما يعني أنه بنى له بثوابه بناء أشرف وأعظم وأرفع ، وكذلك في الرواية الأخرى : (( بنى الله له بيتًا في الجنة )) ، ولم يسمه مسجدًا .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا البيت هو - والله أعلم - مثل بيت خديجة الذي قال فيه : إنه (( من قَصَب ، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَب )) ؛ ؛ يريد : من قصب الزمرَّد والياقوت ، ويعتضد هذا : بأن أجور الأعمال مضاعفة ، وأن الحسنة بعشر أمثالها ، وهذا كما قال في التصدُّق بالتمرة : " إنها تُربَّى حتى تصير مثل الجبل " ، ولكن هذا التضعيف هو بحسب ما يقترن بالفعل من الإخلاص والإتقان والإحسان ، ولَمّا فهم عثمان هذا المعنى ؛ تأنَّق في بناء المسجد وحسَّنه وأتقنه ، وأخلص لله فيه النية ؛ رجاء أن يبنى له في الجنة قصر متقن مشرف مرفّع ، وقد فعل الله تعالى له ذلك وزيادة ، رضي الله عنه .
*************
(42) باب التطبيق في الركوع وما ثبت من نسخه
---(2/195)
132 - عَنِ الأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ قَالا : أَتَيْنَا عَبْدَاللَّهِ ابْنَ مَسْعُودٍ فِي دَارِهِ فَقَالَ : أَصَلَّى هَؤُلاءِ خَلْفَكُمْ ؟ فَقُلْنَا : لا . قَالَ : فَقُومُوا فَصَلُّوا فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِأَذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ ، قَالَ : وَذَهَبْنَا لِنَقُومَ خَلْفَهُ فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا ، فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ ، قَالَ : فَلَمَّا رَكَعَ وَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا قَالَ : فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا وَطَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْهِ ، ثُمَّ أَدْخَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ : إِنَّهُ سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ مِيقَاتِهَا ، وَيَخْنُقُونَهَا إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَصَلُّوا الصَّلاةَ لِمِيقَاتِهَا ، وَاجْعَلُوا صَلاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً ، وَإِذَا كُنْتُمْ ثَلاثَةً فَصَلُّوا جَمِيعًا ، وَإِذَا كُنْتُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ ، وَإِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْرِشْ ذِرَاعَيْهِ فَخِذَيْهِ ، وَلْيَحْنِ وَلْيُطَبِّقْ بَيْنَ كَفَّيْهِ فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى اخْتِلافِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وَفي رِوَايَةٍ : وَهُوَ رَاكِعٌ فَأَرَاهُمْ .
وَفِي أُخْرى : فَلَمَّا صَلَّى قَالَ : هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التطبيق
قوله : " أصلى هؤلاء خلفكم ؟" هذه الإشارة إلى الأمراء ؛ عاب عليهم تأخيرها عن وقتها المستحب ، ويدل عليه آخر الحديث . و"خلفكم " : إشارة إلى موضعهم ، فكأنه قال : الذين خلفكم ، ولم يرد به أنهم أئمتهم ؛ إذ قد صلى بهم عبد الله ـ رضى الله عنه ـ .
---(2/196)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة " : اختلف في صلاة الرجل وحده أو في بيته ، فذهب بعض السلف من أصحاب ابن مسعود وغيرهم إلى أنه تجزئه إقامة أهل المصر وأذانهم. وذهب عامة فقهاء الأمصار إلى أنه لا بدّ من إقامة الصلاة ، ولا تجزئه إقامة أهل المصر ، ولا يؤذن . واستحب ابن المنذر أن يؤذن ويقيم .
وقوله : " وذهبنا لنقوم خلفه ، فأخذ بأيدينا ، فجعل أحدنا عن يمينه ، والآخر عن شماله " ؛ هذه الكيفية هي مذهب ابن مسعود والجمهور : على أنهما يقومان خلفه ، وسيأتي حديث ابن عباس حيث أقامه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجابر بن عبدالله خلفه ، ولا خلاف أنهم إذا كانوا ثلاثة قاموا خلفه ، فإن كان ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحدًا قام عن يمينه على مذهب كافة العلماء ، وحكي عن ابن المسيب أنه يقوم عن شماله ؛ لحديث صلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر في مرضه ، كما تقدم. وما ذكر من تشبيك اليدين وتطبيقهما بين الفخذين هو مذهب ابن مسعود وأصحابه خاصة ، وهو صحيح من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إلا أنه منسوخ كما ذكر في حديث سعد بن أبي وقاص ، ولم يبلغ ابن مسعود نسخه ، والله أعلم . وعلى نسخ التطبيق كافة العلماء غير من ذكر .
وقوله : (( سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة )) : هذا وقع في بني أمية ، وكذلك أخّر عمر بن عبد العزيز العصر ، فدخل عليه عروة بن الزبير ، فأنكر عليه ،(2/197)
وهذا الحديث من أدلة نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ قد أخبر عن شيء من الغيب ، فوقع على نحو ما أخبر ، وكأن بني أمية كانوا قد ذهبوا إلى أن تأخير الصلاة إلى آخر وقت توسعتها أفضل ، كما هو قياس قول أبي حنيفة حيث قال : إن
---
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آخر الوقت هو وقت الوجوب .
وقوله : (( يخنقونها إلى شرق الموتى )) ؛ أي : يضيِّقون وقتها ، ويتركون أداءها إلى ذلك الحين ، يقال : هم في خناق من كذا ؛ أي : في ضيق منه . قال أبو عبيد : سئل الحسنُ بن محمد ابن الحنفية عن هذا الحديث ، فقال : ألم تر إلى الشمس إذا ارتفعت عن الحيطان ، وصارت بين القبور وكأنها لُجَّة ، فذلك شرق الموتى. وقال الهروي في تفسير شرق الموتى : قال ابن الأعرابي : فيه معنيان :
أحدهما : أن الشمس في ذلك الوقت إنما تثبت ساعة ، ثم تغيب ، فشبّه قلّة ما بقي من الدنيا ببقاء تلك الساعة .
والثاني : شرق الميت بريقه ، فشبّه قلّة ما بقي من الوقت بما بقي من حياة من شرق بريقه ، حتى تخرج روحه ، وقيل : شرق الموتى : إذا ارتفعت الشمس ، وقيل : هو اصفرار الشمس عند غروبها .
وقوله : (( واجعلوا صلاتكم معهم سبحة )) ؛ أي : نافلة . وهذا لما يُخشى من أذاهم ، ومن المخالفة عليهم .(2/198)
وقوله : (( وَلْيَحْنُ " رواية العذري بضم النون ، من : " حَنَوْتُ العود " ؛ إذا عطفته . ورواية أكثر الشيوخ : (( وليحْنِ )) بكسر النون ، من : " حَنَيْتُ 133 - وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ ؛ قَالَ : صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي قَالَ : وَجَعَلْتُ يَدَيَّ بَيْنَ رُكْبَتَيَّ فَقَالَ لِي أَبِي : اضْرِبْ بِكَفَّيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ قَالَ : ثُمَّ فَعَلْتُ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى ، فَضَرَبَ يَدَيَّ وَقَالَ : إِنَّا نُهِينَا عَنْ هَذَا وَأُمِرْنَا أَنْ نَضْرِبَ بِالأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ .
وَفي رِوَايةٍ : فَقُلْتُ بَيَدِيَّ هَكَذَا ، يَعْنِي طَبَقَ بَيْنَهُمَا وَوَضَعْهُمَا بَيْنَ فَخْذَيهِ ، فَقَالَ أَبِي : قَدْ كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا ، ثُمَّ أُمِرْنَا بالرُّكَبِ .
---
وَفِي أُخْرَى : ثُمَّ أُمِرْنَا أَنْ نَرْفَعَ إِلَى الرُّكَبِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العود" ، وهما لغتان . وعند الطبري : (( فَلْيَجْنَأ )) بالجيم ، وفتح النون ، وبهمز آخره ، وكلها صحيح . والمراد به الانحناء في الركوع ؛ وهو تَعَقُّفُ الصُّلْب ، يقال : حنا على الشيء يحنو حُنُوًا بالحاء ، وجَنَأَ يَجْنَأُ جَنَأً وجُنُوءًا بالجيم والهمزة : إذا فعل ذلك . وأصل الركوع في لغة العرب : الخضوع والذِّلَّة ؛ قال شاعرهم :
ولا(5) تعادِ الفقيرَ علّك أن تركع يومًا والدهر قد رفعه(6)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم هو في الشرع عبارة عن التذلل بالانحناء ، وأقلُّه عندنا تمكين وضع اليدين على الركبتين منحنيًا ، وهو الواجب . وهل الطمأنينة واجبة ، أو ليست بواجبة ؟ قولان ، وعند أبي حنيفة : الواجب منه أقلّ ما ينطلق عليه اسم المنحني . والحديث الصحيح يردّ عليه ، على ما يأتي إن شاء الله .
*************
باب(2/199)
134 - عَن طَاوُس قَالَ : قُلْنَا لابْنِ عَبَّاسٍ فِي الإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ ، فَقَالَ : هِيَ السُّنَّةُ . فَقُلْنَا لَهُ : إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله ابن عباس في الإقعاء : " هي السنة " ، [ قال أبو عبيد] : الإقعاء : هو أن يلصق الرجل أَلْيَتَيْهِ با لأرض ، وينصب ساقيه ، ويضع يديه بالأرض كما يفعل الكلب . قال : وفي تفسير الفقهاء : أن يضع أَلْيَتَيْهِ على عقبيه بين السّجدتين نظر . وقال ابن شُمَيْل : الإقعاء : أن يجلس على وَرْكَيْه ، وهو الاحْتِفاز ، والاسْتِيفاز . وحكي عن الثعالبي أنه قال - في أشكال الجلوس عن الأئمة - : إن الإنسان إذا ألصق عقبيه بأَلْيَتَيْه قيل : أَقْعَى . وإذا استوفز في جلوسه كأنه يريد أن يثور للقيام قيل : احْتَفَزَ ، واقْعَنْفَزَ ، وقعد القُنْفُزَاء . فإذا ألصق أَلَيْتَيْه بالأرض ، وتوسَّد ساقيه قيل : [ قرطش ] ، كذا وقع ، وصوابه : فَرْشَطَ بالفاء ، وتقديم الشين المعجمة ، والطاء المهملة ، وقد ذكره أبو عبيد في "المصنف ".
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/200)
قال القاضي عياض : والأشبه عندي - في تأويل الإقعاء الذي قال فيه ابن عباس أنه من السُّنة - : الذي فسَّره به الفقهاء ؛ من وضع الأَلْيَتَيْن على العقبين بين السجدتين ، وكذا جاء مفسَّرًا عن ابن عباس : من السنة أن تُمِسَّ عقبيك أليتيك . وقد روي عن جماعة من السلف والصحابة : أنهم كانوا يفعلونه ، ولم يقل بذلك عامة فقهاء الأمصار ، وسَمَّوْه : إقعاء . ووافق الشافعي مالكًا في كراهة ذلك بين السجدتين ، وخالفه في استعمال ذلك ، عند الرفع من السجدة الثانية للقيام ، فأجازه ، وقال : ليس ذلك بإقعاء ، وإلى ذلك ذهب جماعة من أصحاب الحديث ؛ متمسكين بحديث مالك بن الحويرث : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا . ومنع ذلك كافة الفقهاء ، ولعلهم رأوه من الإقعاء المكروه ، وحديث مالك بن الحويرث لعله لعذر أوجب ذلك ، أو ليبيِّن : أنه ليس بحرام .
---
و قوله : " إنا لنراه جفاء بالرَّجُل " ؛ كذا صحت روايتنا منه - بفتح الراء ، وضم الجيم - ، وقيَّده أبو عمر ابن عبد البر بكسر الراء وسكون الجيم ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكان يقول : من قال : " بالرَّجُل" فقد صحَّف ، ولا معنى له . قال القاضي : والأوجه عندى رواية الجماعة ، ويدلّ عليه : إضافة الجفاء إليه في جلسته المكروهة عند العلماء ، وأما الرِّجْل فلا وجه له .
*************
(43) باب نسخ الكلام في الصلاة(2/201)
135 - عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ : بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ : وَا ثُكْلَ أُمَّاهْ ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ. فَوَاللَّهِ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ -. قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلامِ ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ ، قَالَ فَلا تَأْتِهِمْ قَالَ : وَمِنَّا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب نسخ الكلام في الصلاة
---
قوله : " واثكل أمياه ! " ؛ الثكل : الْحُزْن لفقد الولد . والمرأة الثكلى : الفاقدة لولدها ، الحزينة عليه . و" أمياه" مضاف إلى ثكل ، وكلاهما منادى مندوب ؛ كما قالوا : وأمير المؤمنيناه ! وأمياه أصله : " أمي" زيدت عليها الألف لمدّ الصوت ، وأردفت بِهَاءِ السَّكْت الثابتة في الوقف ، المحذوفة في الوصل .(2/202)
كَهَرَنِي وَلا ضَرَبَنِي وَلا شَتَمَنِي ، ثُمَّ قَالَ : (( إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ )) - أَوْ كَمَا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ ، قَالَ : (( ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلا يَصُدَّنَّهُمْ ))- وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ : " فَلا يَصُدَّنَّكُمْ " ، قَالَ : قُلْتُ : وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ قَالَ : (( كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ )) ، قَالَ : وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم " ؛ يعني : يُسَكِّتونه . يحتمل أن يكون هذا الفعل منهم قبل نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن التصفيق ، والأمر بالتسبيح . قلت : ويحتمل أن يقال : إنهم فهموا أن التصفيق المنهي عنه : إنما هو ضرب الكَفّ على الكَفّ ، أو الأصابع على الكف ، ويبعد أن يُسَمّى من ضرب على فخذه وعليها ثوب : مُصَفِّقًا - والله أعلم - ؛ ولذلك قال : فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم". ولو كان هذا يسمى ، لكان الأقرب في لفظه أن يقول : يصفِّقون لا غير .
---(2/203)
ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا ؟ قَالَ : (( ائْتِنِي بِهَا )) ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا ، فَقَالَ لَهَا : (( أَيْنَ اللَّهُ ؟ )) قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ ، قَالَ : (( مَنْ أَنَا ؟)) قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : (( أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فما كَهَرَني " ؛ أي : فما انتهرني . والكَهْرُ : الانتهار ، قاله أبو عبيد . وفي قراءة عبدالله بن مسعود : { فأما اليتيم فلا تكهر } ، وقيل : الكَهْرُ : العبوس في وجه من تلقاه .
وقوله : (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس )) ؛ يدل على منع الكلام في الصلاة ، وعلى منع تشميت العاطس فيها ، وهو مُتَمَسَّكٌ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(2/204)
لمن منع الدعاء في الضلاة بغير ألفاظ القرآن كما قدّمناه ، ويعتضد بقوله : " إنما هي التسبيح والتكبير ، وقراءة القرآن " ؛ لأن إنما للحصر ، وينفصل عنه بما يثبت من تخصيص هذا الحديث بدعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصلاة على أقوام بأعيانهم كما سيأتي ، وقد كان الكلام مباحًا في الصلاة حتى تقرر نسخه كما جاء في حديث زيد بن أرقم. ولا يختلف : في أن الكلام العمد الذي لا يقصد به إصلاح الصلاة ، ولا صَدَرَ من جاهلٍ بمنعه يفسد الصلاة . واختُلف فيه سهوًا ، وعمدًا للإصلاح ، وجهلاً ؛ فقال الكوفيون : تفسد الصلاة بالكلام كيفما وقع ، والجمهور على خلافهم . وسبب الخلاف : هل الامتناع من الكلام شرط مطلقًا ، أو هو شرط في بعض الأحوال دون بعض ؟ والصحيح مذهب الجمهور ؛ بدليل ما روي في هذا الحديث : من أن معاوية تكلم في الصلاة جاهلاً بحكم ذلك ، ثم لما فرغ أعلمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتحريم الكلام ، ولم يأمره بالإعادة . لى إذا كان ذلك في الجاهل ، فالناسي أولى بذلك ؛ إذ هو غير مقصِّر ولا ملوم . وأما الكلام لإصلاح الصلاة ، فقد صحَّت فيه ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأحاديث على ما يأتي إن شاء الله . وأما تشميت العاطس ، فهو كلام مع مخاطب عمدًا [فيفسد] الصلاة ، وأما تحميده [هو] بنفسه ، فروي عن ابن عمر والشعبي وأحمد أنه يحمد الله ويجهر به ، ومذهب مالك والشافعي : أن يحمد الله ، ولكن سرًّا في نفسه .
---(2/205)
وقوله : " ومنا رجال يأتون الكُهَّان " ، الكُهَّان : جمع كاهن ؛ ككاتب وكُتَّاب. والكاهن : الذي يتعاطى علم ما غاب عنه . وكانت الكهانة في الجاهلبة في كثير من الناس [شائعة فاشية] ، وكان أهل الجاهلية يترافعون إلى الكهان في وقائعهم وأحكامهم ، ويرجعون إلى أقوالهم ، كما فعل عبدالمطلب ؛ حيث أراد ذبح ابنه عبد الله في نذر كان نذره ، فمنعته عشيرته من ذلك ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَشَرِيَ أَمْرُهُم حتى ترافعوا إلى كاهن معروف عندهم ، فحكم بينهم بأن يفدوه بمائة من الإبل ، على ترتيبٍ ذُكِر في السيرة ، وإنما كان الكاهن يتمكن من التكهن بوساطة تَابِعِه من الجن ، وذلك أن الجني كان يسترق السمع ، فيخطف الكلمة من الحق [من الملائكة] ، فيخبر بها وليَّه ، فيتحدث بها ، ويزيد معها مائة كذبة ، كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فلما بعث الله رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُرسلت الشهب على الجن ، فلم يتمكنوا مما كانوا يتمكنون منه قبل ذلك ، فانقطعت الكهانة ؛ لئلا يجرّ ذلك إلى تغيير الشرع ولبس قوله الحق بالباطل ، لكنها وإن كانت قد انقطعت فقد بقي في الوجود ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوم يتشبهون بأولئك الكهان ، فنهى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن إتيانهم ؛ لأنهم كَذَبة مُمَخْرِقون مبطلون ضالون مضلون ، فيحرم إتيانهم والسماع منهم ، وقد كثر هذا النوع في [كثير من] نساء الأندلس ، وكثير من رجال غير الأندلس ، فليحذر الإتيان إليهم والسماع منهم .
---(2/206)
وقوله : " ومنّا رجال يتطيرون " ؛ الطيرة : مصدر طار يطير طِيَرَةً وطيرانًا ، وأصلها : أن العرب كانوا إذا خرج الواحد منهم في حاجة نظر إلى أول طائر يراه ، فإن طار عن يمينه تشاءم به ، فامتنع عن الْمُضِيّ في تلك الحاجة ، وإن طار عن يساره تيمّن به ومضى في حاجته . وأصل هذا : أن الرامي للطير ، إنما يصيب ما كان عن يساره ، ويخيبه ما كان عن يمينه ، فسُمِّي التشاؤم : تطيرًا لذلك(8).
وقوله : (( ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يَصُدّهم - وفي رواية : فلا يضرهم ))(9) ؛ ومعنى ذلك : أن الإنسان بحكم العادة يجد من نفسه نفرة ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكراهة مما يتطير به ، فينبغي له : ألا يلتفت إلى تلك النفرة ، ولا لتلك الكراهة ، ويمضي لوجهه الذي خرج إليه ، فإن تلك الطيرة لا تضر ، وإذا لم تضر فلا تصدّ الإنسان عن حاجته . وأَشَاَر بِه إلى أن الأمور كلها بيد الله تعالى ، فينبغي أن يُعوِّلَ عليه ، وتُفَوَّضَ جميع الحوائج إليه . ويفهم منه : أن هذا الوجدان لتلك النفرة لا يلام واجدها عليها شرعًا ؛ لأنه لا يقدر على الانفكاك عنها ، وإنما يلام الإنسان أو يمدح على ما كان داخلاً تحت استطاعته .
وقوله : " ومنا رجال يَخُطُّون " : قال ابن عباس في تفسير هذا الحديث : هو الخط الذى يخطّه الْحَازِى ، فيعطيه حُلوانًا ، فيقول : اقعد حتى أخط لك ، وبين يدي الحازي غلام معه ميل ، ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط الأستاذ خطوطًا معجلة لِئَلاَّ يلحقها العدد ، ثم يرجع فيمحو على مهل خطين خطين ، فإن بقي خطّان فهي علامة النَّجْحِ ، وإن بقي خط فهي علامة الخيبة ، والعرب تسميه : الأَسْحَم ، وهو مشؤوم عندهم .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(2/207)
وقوله : (( كان نبي من الأنبياء يخط )) ، حكى مَكِّي في "تفسيره" أنه روي أن هذا النبي كان يخظ بإصبعه السبابة والوسطى في الرمل ، ثم يزجر .
وقوله : (( فمن وافق خطَّه فذاك )) ؛ قال الخطابي : هذا يحتمل الزجر ؛ إِذْ كان ذلك عَلَمًا لنبوّته ، وقد انقطعت ، فنهينا عن التعاطي ؛ لذلك قال القاضي عياض : الأظهر من اللفظ خلاف هذا ، وتصويب خط من يوافق خطه ، لكن من أين تُعلم الموافقة ؟ والشرع منع من التخرص وادعاء الغيب جملة ، فإنما معناه : أن من وافق خطه فذلك الذي تجدون إصابته ، لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوّله بعضهم . و"الْجَوَّانِيَة" : بفتح الجيم ، وشد الواو ، وتخفيف الياء ، وقُيِّد عن الْخُشَي : بتشديد الياء ، وكذا ذكرها أبو عبيد البكري ، قال : كأنها نسبت إلى جوّان ، والجوانية : أرض من عمل الفُرُع من جهة المدينة .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و قوله : " آسف كما يأسفون " ؛ أي : أغضب كما يغضبون ، ومنه قوله تعالى : { فلما آسفونا } ، و"صَكَكْتُها : لَطَمْتُها في وجهها .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للجارية : (( أين الله ؟ )) هذا السؤال من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَنَزُّلٌ مع هذه الجارية على قدر فهمها ؛ إذ أراد أن يظهر منها ما يدل على أنها ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(2/208)
ليست ممن [يعبد] الأصنام ولا الحجارة التي في الأرض ، فأجابت بذلك ، وكأنها قالت : إن الله ليس من جنس ما يكون في الأرض . و" أين " : ظرف يُسال به عن المكان ، كما أن " متى" ظرف يُسال به عن الزمان ، وهو مبني لما تضمّنه من حرف الاستفهام ، وحُرِّك لالتقاء الساكنين ، وخُصَّ بالفتح تخفيفًا ، وهو خبر المبتدأ الواقع بعده ، وهو لا يصح إطلاقه على الله بالحقيقة ؛ إذ الله تعالى منزّه عن المكان ، كما هو منزّه عن الزمان ، بل هو خالق الزمان والمكان ، ولم يزل موجودًا ، ولا زمانَ ولا مكانَ ، وهو الآن على ما عليه كان ، ولو كان قابلاً للمكان لكان مختصًّا به ، ويحتاج إلى مخصِّص ، ولكان فيه إما متحركًا واما ساكنًا ، وهما أمران حادثان ، وما يتّصف بالحوادث حادث ، على ما يبسط القول فيه في علم الكلام ، ولما ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(2/209)
صَدَق قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } ؛ إذ كانت تماثله الكانيات في أحكامها ، والممكنات في إمكانها ، وإذا ثبت هذا ، ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما أطلقه على الله بالتوسع والمجاز لضرورة إفهام المخاطبة القاصرة الفهم ، الناشئة مع قوم معبوداتهم في بيوتهم ، فأراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتعرّف منها : هل هي ممن يعتقد أن معبوده في بيت الأصنام ، أم لا ؟ فقال لها : (( أين الله ؟ )) قالت : في السماء ، فقنع منها بذلك ، وحكم بإيمانها ؛ إذ لم تتمكن من فهم غير ذلك . وإذ نزَّهت الله تعالى عن أن يكون من قبيل معبوداتهم وأصنامهم ، ورفعته عن أن يكون في مثل أمكنتهم ، وحملها على ذلك : أنها رأت المسلمين يرفعون أبصارهم(8) وأيديهم إلى السماء عند الدعاء ، فتُركت على ذلك في تلك الحال(9) لقصور فهمها ، إلى أن يتمكن ففهمها وينشرح ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدرها ؛ إذ لو قيل لها في تلك الحالة : الله تعالى يستحيل عليه المكان والزمان ، لخيف عليها أن تعتقد النفي الْمَحْض والتعطيل ؛ إذ ليس كل عقل يقبل هذا ، ويعقله على وجهه ، بل إنما يعقله العالمون الذين شرح الله صدورهم لهدايته ، ونوّر قلوبهم بنور معرفته ، وأمدّهم بتوفيقه ومعونته ، وأكثر الخلق تغلب عليهم الأوهام ، وتَكِلّ منهم الأفهام .(2/210)
وقيل في تأويل هذا الحديث : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما سألها [بأين] عن الرتبة المعنوية التي هي راجعة إلى جلاله تعالى وعظمته التي بها بَايَنَ كلّ من نُسبت إليه الإلهية ، وهذا كما يقال : أين الثُّريّا من الثَّرَى ، والبصرُ من العَمَى ؛ أي : بَعُدَ ما بينهما ، واختصت الثريا والبصر بالشرف والرفعة . وعلى هذا يكون قولها : " في السماء " ؛ أي : في غاية العلوّ والرفعة ، وهذا كما يقال : فلان في السماء ومناط الثريا ، كما قال :
وإن بني عوف كما قد علمتم مناط الثريا قد تعلّت نجومُها
---
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أقول هذا ، والله ورسوله أعلم ، والتسليم أسلم .
تنبيه : ثم اعلم أنه لا خلاف بين المسلمين قاطبة ، محدثهم ، وفقيههم ، ومتكلمهم ، ومقلِّدهم ، ونُظَّارهم : أن الظواهر الواردة بذكر الله في السماء ؛ كقوله : { ءَأَمنتم من في السماء } ليست على [ظاهرها] ، وأنها متأوَّلة عند جميعهم . أما من قال منهم بالجهة ، فتلك الجهة عنده هي جهة الفوق ، كما جاء في الأحاديث فلا بدّ أن يُتَأَوَّل كونه في السماء ، وقد تأَوّلوه تأويلات ، وأشبه ما فيه : أن " في " بمعنى : " على " ، كما قال : {ولأصلبنكم في جذوع النخل } ؛ أي : على [جذوع النخل ] ، ويكون العلوّ بمعنى الغلبة ، وأما من يعتقد نفي الجهة في حق الله تعالى ، فهو ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/211)
أحق بإزالة ذلك الظاهر ، وإجلال الله تعالى عنه ، وأَوْلى الفرق بالتأويل . وقد حصل من هذا الأصل المحقق : أن قول الجارية : " في السماء " ليس على ظاهره باتفاق المسلمين ، فيتعيّن أن يعتقد فيه أنه مُعَرَّض لتأربل المتأوِّلين ، وأن مَنْ حمله على ظاهره فهو ضال من الضالين.
وقوله : (( أعتقها فإنها مؤمنة )) ؛ فيه دليل على أن عتق المؤمن أفضل ، ولا العتق في خلاف في جواز عتق الكافر في التطوع ، وأنه لا يجزيء في كفارة القتل ؛ لنص الله على : { مؤمنة}. واختلف في كفارة اليمين والظهار وتعقد الوطء في رمضان ، فمالك والشافعي وعامتهم لا يجيزون في ذلك كله إلا مؤمنة ؛ حملاً لمطلق هذه الكفارات على مقيد كفارة القتل . وذهب الكوفيون إلى أن ذلك ليس شرطًا في هذه الكفارات ، ومنعوا حمل المطلق على المقيد ، وتحقيق ذلك في الأصول .
---(2/212)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى على متأمل فَطِن ؛ ومن أهمها : أنه لا يشترط في الدخول في الإيمان التلفظ بألفاظ مخصوصة ؛ كالشهادتين ، 136 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا ، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا ، فَقَالَ : ((إِنَّ فِي الصَّلاةِ شُغْلاً )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بل يكفي كل لفظ يدل على صحة الدخول في الدين ، وأنه يُكتفى بالاعتقاد الصحيح ، ولا يشترط أن يكون عن برهان نظري ، إذ لم يسألها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن طريق علم ذلك ، ولا كانت أيضًا ممن يصلح لفهم تلك البراهين والاستدلالات ، كما بينّا في التأويل الأول .
وقول عبد الله بن مسعود : " كنا نسلم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في الصلاة فيردّ علينا " : هذا كان منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذْ كان الكلام مباحًا في الصلاة في أول الأمر ، كما قال زيد بن أرقم ، ثم لما نُسخ ذلك امتنع رد السلام نطقًا من المصلي ، وغير ذلك من أنواع الكلام مع الغير . وهذا الحديث حجة على من أجاز للمصلي أن يرد نطقًا السلام ، وهم : أبو هريرة
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/1)
وجابر والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة واسحاق . ثم إذا قلنا : لا يرد نطقًا ، فهل يرد إشارة ، أم لا ؟ وبالأول قال مالك وأصحابه ، وهو مذهب ابن عمر وجماعة من العلماء . وبالثاني قال أبو حنيفة ، فمنع الردّ إشارة ونطقًا ، وبه قال الثوري وعطاء والنخعي . ثم اختلف من لم يردّه : هل يرد إذا سلم أم لا ؟ وبالأول قال الثوري وعطاء والنخعي ، وبالثاني قال أبوحنيفة. وقال بعض أهل العلم : يردّ المصلي في نفسه .
هذا حكمه في الردّ . وأما ابتداء السلام على المصلي ، فاختَلف فيه العلماء. فعن مالك فيه الجواز ، وقد رويت عنه الكراهة .
137 - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاةِ ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلاةِ حَتَّى نَزَلَتْ : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } ، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلامِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إن في الصلاة شغلاً )) : اكتفى بذكر الموصوف عن الصفة ، [فكأنه ]كما قال : شغلاً كافيًا ، أو مانعًا من الكلام وغيره. ويفهم منه التفرغ للصلاة من جميع الأشغال ، ومن جميع المشوِّشات ، والإقبال على الصلاة بظاهره وباطنه .
وقوله : " حتى نزلت : { وقوموا لله قانتين } ؛ القنوت يتصرّف في الشرع واللغة على أنحاء مختلفة ، يأتي بمعنى الطاعة ، وبمعنى السكوت ، وبمعى طول القيام ، وبمعى الخشوع ، وبمعنى الدعاء ، وبمعنى الإقرار بالعبودية ، وبمعنى الإخلاص . وقيل : أصله : الدوام على الشيء ؛ ومنه الحديث : " قنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهرًا يدعو على قبائل من العرب " ؛ أي :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أدام الدعاء والقيام له . واللائق بالآية من هذه المعاني : السكوت والخشوع.
---(3/2)
وقوله : " ونهينا عن الكلام " : هذا هو الناسخ لإباحة الكلام في الصلاة ، وقد قدّمنا في حديث معاوية القول على أنواع الكلام الواقع في الصلاة .
*************
(44) باب جواز الإشارة بالسلام في الصلاة ، ولعن الشيطان
138 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ : أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى بَعِيرِهِ ، فَكَلَّمْتُهُ فَقَالَ لِي : بِيَدِهِ هَكَذَا - وَأَوْمَأَ زُهَيْرٌ بِيَدِهِ - ، ثُمَّ كَلَّمْتُهُ فَقَالَ لِي : هَكَذَا - فَأَوْمَأَ زُهَيْرٌ أَيْضًا بِيَدِهِ نَحْوَ الأَرْضِ - ، وَأَنَا أَسْمَعُهُ يَقْرَأُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : (( مَا فَعَلْتَ فِي الَّذِي أَرْسَلْتُكَ لَهُ ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلا أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي )).
وَفي روَاية : وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَوَجْهُهُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ .
وَفِي أُخْرَى : فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَأَشَارَ إِلَيَّ ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي ، فَقَالَ : (( إِنَّكَ سَلَّمْتَ آنِفًا وَأَنَا أُصَلِّي )) ، وَهُوَ مُوَجِّهٌ حِينَئِذٍ قِبَلَ الْمَشْرِقِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب جواز الإشارة بالسلام في الصلاة
حديث جابر هذا حجة لمالك ، ولمن قال بقوله : على جواز ردّ المصلي السلام بالإشارة ، وعلى جواز ابتداء السلام على المصلي ، وعلى أن العمل القليل في الصلاة لا يفسدها ، وعلى منع الكلام في الصلاة ، وفيه دليل : على جواز التنفل على الراحلة ، لكن في السفر ، وعلى أنه يصلي النفل عليها حيث توجهت به . وسيأتي كل ذلك إن شاء الله .
---(3/3)
139 - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ : (( أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ )) ، ثُمَّ قَالَ : (( أَلْعَنُكَ بِلَعْنَة اللَّهِ ثَلاثًا )) ، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ . قَالَ : (( إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي ، فَقُلْتُ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ - ، ثُمَّ قُلْتُ : أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ آخُذَهُ ، وَاللَّهِ لَوْلا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أعوذ بالله منك )) ؛ أي : أَسْتَتِرُ وألتجئ في كفايته إياي منك ، ومنه سُمِّي العود الذي يَلْجَاُ إليه الغُثَاء في السيل : عَوْدًا ؛ لأن الغثاء يلجأ إليه .
وقوله : (( ألعنك بلعنة الله التامة )) ، أصل اللعن : الطرد والبعد ، ومعناه : أسال الله أن يلعنه بلعنته .
و "التامَّة" تحتمل وجهين :
أحدهما : أنها الكاملة التي لا ينقصُ منها شيء .
والثاني : المستحقّة الواجبة ، كما قال : { وتَمّت كلمتُ ربك صدقًا
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعدلاً } ؛ أي : حَقَّتْ ووجبتْ ، ولم يقصد مخاطبة الشيطان ؛ لأنه كان يكون متكلمًا في الصلاة ، وإنما كان متعوذًا بالله ؛ كما قال : (( أعوذ بالله منك )).
---(3/4)
قوله : (( ولولا دعوة أخينا سليممان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان [أهل] المدينة يدل على أن مُلْكَ الجن والتصرُّفَ فيهم بالقهر مما خصّ به سليمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وسبب خصوصيته : دعوته التي استجيبتْ له ، حيث قال : { وهب لي مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب }. ولما تحقق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخصوصية ، امتنع من تعاطي ما هَمَّ به من أخذ الجني وربطه. فإن قيل : كيف يتأَتَى ربطه وأخذه واللعب به ، مع كون الجن أجسامًا لطيفة روحانية ؟ قلنا : كما تَأَتَى ذلك لسليمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ حيث جعل الله له منهم {كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد }. ولا شك أن الله ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى أوجدهم على صورٍ تَخُصُّهم ، ثم مكّنهم من التشكل في صور مختلفة ، فيتمثلون في أي صورة شاؤوا ، [ أو شاء الله] ، وكذلك فعل الله بالملائكة كما قال : { فتمثل لها بشرًا سويًّا } ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((. وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني )) ، فيجوز أن يُمَكِّن الله نبيه محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذا الجنِّي ، مع بقاء الجنِّي على صورته التي خُلق عليها ، فيوثقه كما كان سليمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوثقهم ، ويرفع الموانع عن أبصار الناس ، فيرونه موثقًا حتى يلعب به الغلمان . ويجوز أن يشكِّله [الله] في صورة جسميِّةٍ محسوسة ، فيُر بها ويُلعب به ، ثم يمنعه من الزوال عن تلك الصورة الي تشكّل فيها حتى يفعل به ما همّ به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وفي هذا دليل على رؤية بني آدم الجن .
وقوله : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم }(9) ؛ إخبار عن غالب أحوال بني آدم معهم ، والله أعلم .
---(3/5)
140 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمْكَنَنِي مِنْهُ ، فَذَعَتُّهُ فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ أَجْمَعُونَ أَوْ كُلُّكُمْ ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ : {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لايَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا )). وَفِي رِوَايَةٍ : " فَدَعَتُّهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إن عفريتًا من الجن جعل يفتك عليّ البارحة )) ؛ العفريت : المارد من الجن الشديد ، ومنه : رجل عِفْرِيَة ؛ أي : شديد الدَّهاء والمكر والحيلة .
هكذا صحّ في كتاب مسلم : " يَفْتِك" ؛ ومعناه : يغفله عن الصلاة ويشغله. وأصل الفَتْك : القتل على غفلة وغِرَّة ، ومنه : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الإيمان قَيَّد
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفَتْك )). وهكذا مجيء الشيطان للمصلي على غفلة وغرَّة ، وذكره البخاري ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال : تَفَلَّت عليّ البارحة ، وهو أيضًا صحيح ؛ أي : جاءني في غفلة وفلتة وفُجَاءَةٍ ، ومنه قيل : [ افتُلِتَتْ نفسه] ؛ أي : مات على فُجَاءَةٍ.
والفَلْتَةُ : الأمرُ يُؤْتى على غير رَوِيَّة .
---(3/6)
وقوله : (( فَذَعَتُّهُ )) بالذال المعجمة ؛ أي : خنقته [قاله ] الهروي . وفي رواية ابن أبي شيبة بالدال المهملة ، وهما بمعنى واحد ، وأنكره الخطابي ، وقال : لأن أصله يكون : دَعَدْتُه ، ولا يصح إدغام العين في التاء . قال ابن دريد : ذَعَتَه ، يَذْعَتُه ، ذعْتًا : غَمَزَهُ غمزًا شديدًا . والدَّعَتُ مهملاً : الدفع الشديد ، ويقال بالذال المعجمة .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( لقد هممت ان أربطه إلى سارية من سواري المسجد )) ؛ يحتمل أن يقال : إن هذا الذي همَّ به كان يكون شغلاً يسيرًا ، ويحتمل أن يكون يربطه بعد تمام الصلاة .
وقوله : (( فردّه الله خاسئًا )) ؛ أي : ذليلاً مدحورًا ؛ من خَسَأْت الكلب : إذا زَجَرْته وطَرَدته .
*************
---
(45) باب جواز حمل الصغير في الصلاة ، وجواز التقدم والتأخر ، ومن صلى على موضع أرفع من موضع المأموم
141 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَلأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ : فَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا ، وَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا . رَأَيْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ وَهِيَ بِنْتُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى عَاتِقِهِ ، فَإِذَا رَكَعَ ، وَضَعَهَا وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا . وَفِي رِوَايَةٍ : بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ جُلُوسٌ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ... ، بِنَحْوِ ما تَقَدَّم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/7)
ومن باب حمل الصغير في الصلاة
اختلف العلماء في تأويل حمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمامة في الصلاة ، والذي أحوجهم لتأويله : أنه شغلٌ كثير. فروى ابن القاسم عن مالك : أنه كان في النافلة ، وهذا تأويل بعيد ؟ فإن ظاهر الحديث الذي ذكره أبو داود يدل :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على أنه في الفريضة ؛ لقوله : " بينما نحن ننتظر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الظهر أو العصر ، خرج إلينا [حاملاً] أمامة على كتفه ..." ، وذكر الحديث .
ومعلوم : أنه كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما [كان] يتنفل في بيته ، ثم يخرج لصلاة الفريضة ، فإذا رآه بلال خارجًا أقام الصلاة . وأيضًا ففي هذا الحديث قال أبو قتادة : رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤم الناس ، وغالب عادته ، أنه إنما كان يؤم الناس في المسجد في الفريضة . وروى عنه أشهب ، وابن نافع : أن هذا للضرورة ، وإذا لم يجد من يكفيه ، وأما لحب الولد فلا .
وظاهر هذا إجازته في الفريضة والنافلة .
---(3/8)
وروى عنه التِّنِّيسي أن الحديث منسوخ ، قال أبو عمر بن عبدالبر : لعل هذا نُسخ بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها. وقال الخطابي : يشبه أن هذا كان منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على غير قصد وتعمد ، لكن الصَّبِتَّة تعلّقت به لطول إِلْفِهَا لَهُ ، وهذا باطل ؛ لقوله في الحديث : "خرج علينا حاملاً أمامة على عنقه(9) 142 - عَن أَبِي حَازِمٍ : أَنَّ نَفَرًا جَاءُوا إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَدْ تَمَارَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ ؟ فَقَالَ : أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُ مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ وَمَنْ عَمِلَهُ ، وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ . قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبَّاسٍ! فَحَدِّثْنَا قَالَ : أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى امْرَأَةٍ - قَالَ أَبُو حَازِمٍ : إِنَّهُ لَيُسَمِّيهَا يَوْمَئِذٍ - انْظُرِي غُلامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَيْهَا ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا ركع وضعها ، وإذا رفع رأسه من السجود أعادها " ، [والله أعلم](2) والأشبه أنه كان لضرورة لم يقدر أن ينفكّ عنها ، أو هو منسوخ ، والله أعلم.
وفيه من الفقه : جواز إدخال الصغار المساجد ، إذا علم من عادة الصبي أنه لا يبول ، وأن ثيابهم(3) محمولة على الطهارة ، وأن لمس النساء ليس بحَدَث ، وأن حكم من لا يُشتهى من النساء بخلاف حكم من يُشتهى(4) منهن.
وفيه : تواضع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشفقته ، وجواز حمل ما لا يشغل(5) في الصلاة شغلاً كثيرًا (6).
---(3/9)
فَعَمِلَ هَذِهِ الثَّلاثَ دَرَجَاتٍ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَوُضِعَتْ هَذَا الْمَوْضِعَ ، فَهِيَ مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَامَ عَلَيْهِ فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلاتِهِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي ، وَلِتَعَلَّمُوا صَلاتِي )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادًا أكلم الناس عليها " : فيه دليل : على أن اتخاذ المنبر مسنون في الجمعة للخطبة ، وفائدته : الإبلاغ والإسماع . وقد استدل أحمد بن حنبل بصلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المنبر على جواز صلاة الإمام على موضع أرفع من موضع المأموم ، ومالك يمنع ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير ، وعلَّل المنع : بخوف الكِبْر على الإمام . واعتذر بعض أصحابه عن الحديث : بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم عن الكِبْر ، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرًا .
وقوله : " فرجع القهقري حتى سجد في أصل المنبر " ؛ يعني : رجع خلفه ؛ من تقهقر الرجل في مشيته : إذا رجع من حيث جاء ، وهذا إنما فعله ليُرِيَ الناسَ كيفية صلاته ، ففعل على المنبر ما يتمكّن من فعله عليه ، وهو القيام والركوع ، وفعل في الأرض ما لا يتمكن من فعله عليه ، وهو السجود والجلوس ، وهذا القدر عمل يسير لا يُخِلّ بمقصود الصلاة ولا بهيئتها .
وقوله : " لتأتموا بي " ؛ أي : لتقتدوا بي . "وتعَلَّموا صلاتي " ، رويناه بفتح العين وتشديد اللام ؛ أي : لتتعلموا ، وهذا الأمر على الوجوب .(3/10)
(46) باب النهي عن الاختصار في الصلاة ، وما يجوز من مس
الحصى فيها ، وما جاء في البصاق في المسجد
---
143 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن الاختصار في الصلاة
قوله : " نهى أن يصلي الرجل مختصرًا " : اختُلف في تأويله على أقوال :
أحدها : أن يأخذ بيده عصًا يتوكأ عليها ، قاله الهروي .
وثانيها : أن يقرأ من آخر السورة آية أو آيتين في فرضه ، ولا يكملها . قاله أبو هريرة .
144 - وَعَنْ مُعَيْقِيبٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ ، قَالَ : (( إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وثالثها : هو أن يضع يده على خَصْره في الصلاة ؛ لأنه مِن فعل أهل الكِبْر . وقيل : لأنه من فعل اليهود ؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الاختصار راحة أهل النار " ؛ يعني اليهود والمتكبرين ؛ لا أنّ لهم في النار راحة .
ورابعها : هو حذف الصلاة ، بحيث لا يتم ركوعها ولا سجودها ، ولا حدودها .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/11)
وقول معيقيب : " إنهم سألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المسح في الصلاة " ؛ يعني : مسح التراب حيث يسجد ؛ لئلا يتأذّى به في سجوده . وقد جاء مفسرًا في الرواية الأخرى ، وأُبيح له مرة واحدة استخفافًا لأمرها ، وليدفع ما يتأذى به بها ، ومُنع فيما زاد عليها ؛ لئلا يكثر الشغل ، ويقع التشويش في الصلاة . هذا مذهب الجمهور ، وحكى الخطابي عن مالك جواز مسح الحصى مرة وثانية في الصلاة . والمعروف عنه ما عليه الجمهور ، وقيل : بل عنى مسح الغبار عن وجهه ، ويشهد له حديث النسائي عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى ، فإن الرحمة تواجهه )) ، زاد في مسند سفيان بن عيينة : (( فلا يمسح إلا مرة )).
.....................................................................
145 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : (( مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ ، فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا )) ، وَوَصَفَ الْقَاسِمُ فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد كره السلف مسح الجبهة في الصلاة - وقبل : الانصراف - مما يتعلق بها من الأرض ؛ لكثرة الأجر في تَتْرِيب الوجه ، والتواضع لله ، والإقبال على صلاته بجميعه .
---(3/12)
وقوله : (( إن كنت فاعلاً فواحدة )) ، رويناه بنصب واحدة ، ورفعه . فنصبه بإضمار فعل تقديره : فامسح واحدة ، أو يكون نعتًا لمصدر محذوف . [ورفعه] على الابتداء وإضمار الخبر ، تقديره : فواحدة تكفيه ، أو كافيته ، ويجوز أن يكون المبتدأ هو المحذوف ، وتكون واحدة : الخبر ، تقديره : [فالمشروع]- أو الجائز - : واحدة ، وما أشبهه .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " رأى نخامة في قبلة المسجد " ، النُّخامَة ، والنُّخاعَة : ما يخرج من الصدر ؛ يقال : تَنَخَّم وتنخع بمعنى واحد ، والبصاق بالصاد والزاي : ما يخرج من الفم . والمخاط : ما يخرج من الأنف . ويقال : بصق الرجل يبصق ، وبزق كذلك ". وتَفَل بفتح العين يتفِل بكسرها ، وبالتاء باثنتين لا غير. ونَفَثَ ينفث . قال ابن مكي في "تثقيف اللسان" : التَّفَل [ بفتح الفاء] : نفخ لا بصاق معه ، والنفث لابد أن يكون معه شيء من الريق ، قاله أبو عبيد . وقال الثعالبي : الْمَجُّ : الرمي بالريق ، والتفل أقل منه ، والنفث أقل منه .
وقوله : (( ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه )) ؛ هذا محمول على تعظيم حرمة هذه الجهة وتشريفها ؛ كما قال : (( الحجر الأسود يمين الله في الأرض )) ؛ أي : بمنزلة يمين الله . ولما كان المصلي يتوجه بوجهه وقصده 146 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا بِحَصَاةٍ ، ثُمَّ نَهَى أَنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ أَمَامَهُ ، وَلَكِنْ لِيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/13)
وكليته إلى هذه الجهة ، نَزَّلها في حقه منزلة وجود الله تعالى ، فيكون هذا من باب الاستعارة ، وقد يجوز أن يكون من باب حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، فكأنه قال : مستقبل قبلة ربه ، أو رحمة ربه ؛ كما قال في الحديث الآخر : (( فلا يبصق قبل القبلة ، فإن الرحمة تواجهه ))".
وقوله : " فحكّها بحصاة" زاد أبو داود فيه : ثم أقبل على الناس مغضبًا" ، وهذا يدل على تحريم البصاق في جدار القبلة ، وعلى أنه لا يتكفر بدفنه ، ولا بحكّه ، كما قال في جملة المسجد : (( البصاق في المسجد خطيئة ، وكفارتها
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دفنها )) ، فلو تكفر البزاق في القبلة بالحك لما غضب ؛ إذ قد كان تكفي الكفارة في ذلك -[ وهي الحك ]- ، كما اكتفى بها في حديث الأعرابي الذي وطئ في نهار رمضان ، ولم يذمه ولا غضب عليه . وقد ظهرت خصوصية جهة القبلة حيث نزلها منزلة الرب تعالى ، كما تقرر ، وظهر أيضًا التخفيف في ساحة المسجد ؛ كما قد ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه خيمة لسعد بن معاذ بعد ما رمي في أكحله ، فكان الدم يسيل من خيمته إلى جهة الغفاريين ، هذا مع ما قيل : إن هذا كان لضرورة داعية إلى ذلك .
وقد ذكر مسلم في حديث جابر الطويل : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل مكان النُّخَاعَة عنبرًا .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروى النسائي الحديث الأول من طريق أنس ، فقال : غضب حتى احمرّ وجهه ، فقامت امرأة من الأنصار فحكّتها ، وجعلت مكانها خلوقًا ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما أحسن هذا ! )).
---(3/14)
ويصحّ الجمع بين هذه الأحاديث بأن يقال : كان ذلك في أوقات مختلفة : ففي وقت حكّها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطيّبها بيده ، ومرة أخرى فعلت هذه المرأة ما ذُكر . ويمكن أن يقال : نسب الحكّ والطييب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حيثُ الأمرُ به ، وللمرأة من حيث المباشرة .
وفي هذا الحديث : استحباب [أو جواز] تطييب المساجد بالطيب ، وتنظيفها ؛ كما نص عليه أبو داود من حديث عائشة : [ أمر ] ببناء المساجد فى الدور ، وأن (7) تُطيَّب وتُنَظَّف (8). ومن حديث سمرة :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتُصلحُ صَنْعَتُها .
147 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونهيه عن البصاق عن يمينه دليل : على احترام تلك الجهة ، وقد ظهر منه تأثير ذلك ، حيث كان يحب التيمن في شأنه كله ، وحيث كان يبدأ بالميامن في الوضوء والأعمال الدينية ، وحيث كان يعدّ يمينه لحوائجه ، وشماله لما كان من أذى. وقد عتل ذلك في حديث أبي داود حيث قال : (( والْمَلَك ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن يمينه )) ، بل وفي البخاري : (( عن يمينه ملَكًا )). ويقال على هذا : إن
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/15)
صحّ هذا التعليل لزم عليه أن لا يبصق عن يساره ؛ فإن عليه أيضًا ملَكًا ؛ بدليل قوله تعالى : { عن اليمين وعن الشمال قعيد }. والجواب بعد تسليم أن على شماله ملكًا : أن ملك اليمين أعلى وأفضل ، فاحتُرم بما لم يحترم غيره من نوعه ، والله أعلم. وهذا النهي مع التمكن من البصاق في غير جهة اليمين ، فلو اضطر إلى ذلك جاز .
148 - وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( أو تحت قدمه )) بإثبات " أو " ، وفي الآخر : " عن شماله ، تحت قدمه )) بغير " أو " ، كذا الرواية . وظاهر : " أو " : الإباحة والتخيير ، ففي أيهما بصق لم يكن به بأس ، وإليه يرجع معنى قوله : (( عن شماله تحت قدمه )) ، وقد سمعنا من بعض مشايخنا : أن ذلك إنما يجوز إذا لم يكن في المسجد إلا التراب أو الرمل ، كما كانت مساجدهم في الصدر الأول ، فأما إذا كان في المسجد بُسُطٌ ، وما له بالٌ من الْحُصُر مما يفسده البصاق ويُقَذِّره ، فلا يجوز احترامًا للماليَّة ، والله أعلم .
وقوله : (( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دقنها )) ، قال ابن مكي : إنما تكون خطيئة لمن تفل فيه ولم يدفنه ؛ لأنه يقذّر المسجد ، ويتأذى به من تعلق به ، أو رآه ؛ كما جاء في الحديث الآخر : (( لئلا يصيب جلد مؤمن أو 149 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا ، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئ أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لا تُدْفَنُ )).(3/16)
150 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَرَاَيْتُهُ تَنَخَّعَ فَدَلَكَهَا بِنَعْلِهِ اليُسْرَى .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثوبه فيؤذيه )). فأمّا من اضطرّ إلى ذلك فدفن ، وفعل ما اضر به ، فلم يأت خطيئة . وأصل التكفير : التغطية ، فكأنّ دَفْنَها غطاءُ ما يتصور عليه من الذمّ والإثم لو لم يفعل . وهذا كما سُمِّيت تَحِلَّةُ اليمين : كفارة ، وليست اليمين بمأثم[ فتكفره ] ، ولكن لما جعلها الله سبحانه فسحة لعباده في حلّ ما عقدوه من أيمانهم ، ورفعها لحكمها ، سمّاها : كفارة ، ولهذا جاز إخراجها قبل الحِنْث ، وسقوط حكم اليمين بها على الأصح من القولين .
قلت : وقد دلّ على صحة هذا التأويل : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أبي ذر : (( ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن )) ، فلم يثبت لها حكم السِّيِّئة لمجرد إيقاعها في المسجد ، بل بذلك وببقائها غير مدفونة . و"الأذى" : هو كل ما يُتَأذّى به من عظم ، أو حجر ، أو نجاسة ، أو قذر ، أو غير ذلك . و" يُمَاطُ " : يُزَال ، ويُنَحَّى.
************
(47) باب الصلاة في النعلين ، والثوب المعلم ، وبحضرة الطعام
151 - عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي فِي النَّعْلَيْنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الصلاة في النعلين والثوب المعلم
---(3/17)
قول أنس : " كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي في النعلين " : هذا يدل على جواز الصلاة فيهما ، وهو أمر لم يُختلف فيه إذا كانت النعل طاهرة من : ذَكِيّ ، فإن تحقق فيها نجاسة مجمع على تنجيسها : كالدم ، والعَذِرة من بول بني آدم ، لم يطهرها إلا الغسل بالماء عندنا وعند كافة العلماء ، وإن كانت النجاسة مختلفًا فيها : كبول الدواب ، وأرواثها الرطبة ، فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف ، أو لا ؟ قولان عندنا ، وأطلق الإجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبو ثور . وقال أبو حنيفة : يزيله - إذا يبس - الحكُّ والفرك ، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول ، فلا يجزىء عنده فيه إلا الغسل . وقال الشافعي : لا يطهر شيئًا من ذلك كله إلا الماء . والصحيح : قول من قال : بأن المسح يطهره من الخف والنعل ، بدليل قول ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أبي سعيد الخدري : (( إذا جاء أحدكم المسجد ، فان رأى في نعليه قذرًا أو أذى فليمسحه ، وليصلّ فيهما )) ، خرّجه أبوداود ، وهو صحيح. فأمّا لو كانت النعل أو الخف من جلد ميتة ، فإن كان غير مدبوغ ، فهو نجس باتفاق ، ويختلف فيه إذا دُبغ : هل يطهر طهارة مطلقة ، أو إنما ينتفع به في اليابسات ؟ روايتان عن مالك .
152 - وعَنْ عَائِشَةَ قَالَت : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي فِي خَمِيصَةٍ ذَاتِ أَعْلامٍ ، فَنَظَرَ إِلَى عَلَمِهَا ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَ : (( اذْهَبُوا بِهَذِهِ الْخَمِيصَةِ إِلَى أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا فِيصَلاتِي )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/18)
و " الخميصة "- بفتح الخاء - : كساء مُرَعبَّ من صوف ، قال الإمام أبو عبدالله : مصبوغٌ عَلَمُه حريرٌ . والإنْبِجَاني : كساة غليظ لا علم له ، وروي بفتح الهمزة وكسرها ، وبفتح الباء وكسرها ، وبالوجهين ذكرها ثعلب ، وروي بتشديد الياء وتخفيفها في غير مسلم . وقال ابن قتيبة : إنما هو مَنْبَجانِي(3) - ولا يقال : أنبجاني - ، منسوب إلى مَنْبِج ، وفتحت الياء في النسب ؛ لأنه خرج مخرج مَخْبَرَانِي .
وفي هذا الحديث : جواز لباس الثياب ذوات الأعلام .
وفيه : التحفظ من كُلِّ ما يُشغل عن الصلاة النظرُ إليه .
ويستفاد منه : كراهة(4) التزاويق والنقوش فى المساجد .
وفيه : أن الذهول اليسير في الصلاة لا يضرها ، ألا ترى إلى قوله : (( فإنها الهتني عن صلاتي )) ؛ أي : شغلتني وصرفتني .
153 - وَعَن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا قُرِّبَ الْعَشَاءُ وَحَضَرَتِ الصَّلاةُ ، فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلاةَ الْمَغْرِبِ ، وَلا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه : سدّ الذرائع ، والانتزاع عما يشغل الإنسان عن واجبات دينه .
وفيه : قبول الهدايا من الأصحاب ، واستدعاؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنبجاني [أبي جهم] ابن حذيفة تطييب لقلبه ومُبَاسَطَةٌ معه ، وهذا مع من يعلم طيب نفسه ، وصفاء وُدِّه جائز .
و " آنفًا " : الساعة . ولم يبعث الخميصة لأبي جهم ليصلي فيها ، بل لينتفع بها في غير الصلاة ، والله أعلم .
وقوله : (( إذا قُرِّب العشاء وحضرت الصلاة فابدؤوا به )) : هذا [الحديث] محمول على من كان محتاجًّا للطعام من صائم أو نحوه . وقد
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/19)
دلّ على صحة هذا التأويل : ما زاده الدارقطني في هذا الحديث من طريق صَحَّحَه ؛ وذلك قوله : (( إذا حضر العشاء وأحدكم صائم فابدؤوا به قبل أن تُصَلّوا )). ولو لم تصح هذه الزيادة لكان ذلك معلومً من قاعدة الأمر بحضور القلب في الصلاة ، والإقبال عليها ، والنهي عما يشغل المصلي في صلاته . ويشوشها عليه ، ولا تشويش أعظم من تشويش الجائع في حضرة الطعام .
وإلى الابتداء بالطعام على الصلاة ذهب الشافعي ، وابن حبيب من أصحابنا ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأهل الظاهر ، وروي ذلك عن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمر ، وابن عمر ، [ وأبي الدرداء ]. وحكى ابن المنذر عن مالك : أنه يبدأ بالصلاة ، إلا أن يكون الطعام خفيفًا .
154 - وَمنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : " إِذَا حَضَرَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ ".
155 - وَعَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ قَالَ : تَحَدَّثْتُ أَنَا وَالْقَاسِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ حَدِيثًا ، وَكَانَ الْقَاسِمُ رَجُلاً لَحَّانَةً ، وَكَانَ لأُمِّ وَلَدٍ ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ : مَا لَكَ لا تَحَدَّثُ كَمَا يَتَحَدَّثُ ابْنُ أَخِي هَذَا ؟ أَمَا إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي هذا الحديث ما يدل على أن وقت المغرب موسع ، وهي إحدى الروايتين عن مالك ، وسيأتي ذلك إن شاء الله .
وقوله في حديث ابن عمر : إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء " : دليل على أن شهود الصلاة في الجماعة ليس بواجب ؛ لأن ظاهر هذا : أنه إذا سمع الإقامة وهو في بيته وقد حضر طعامه أنه يبدأ بالطعام ، وإن فاتته الصلاة في الجماعة .
---(3/20)
أَدَّبَتْهُ أُمُّهُ ، وَأَنْتَ أَدَّبَتْكَ أُمُّكَ . قَالَ : فَغَضِبَ الْقَاسِمُ وَأَضَبَّ عَلَيْهَا ، فَلَمَّا رَأَى مَائِدَةَ عَائِشَةَ قَدْ أُتِيَ بِهَا قَامَ قَالَتْ : أَيْنَ ؟ قَالَ : أُصَلِّي . قَالَتِ : اجْلِسْ قَالَ إِنِّي أُصَلِّي قَالَتِ : اجْلِسْ غُدَرُ! إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( لا صَلاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ ، وَلا هُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" وابن أبي عتيق " : هو عبدالله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، والقاسم هذا : هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق ، وكانت أمه أُمَّ ولدٍ .
وقوله : " وكان القاسم رجلاً لَحَّانة " ، كذا للسمرقندي ، وهو للمبالغة ؛ كما يقال : علاَّمة ، ونسَّابة ، ووقع للعذري : " لُحْنة " بسكون الحاء وضم اللام ، ومعناه : أنه يلحن في كلامه ، ويُلَحِّنُه الناس ؛ كَخُدْعَة [ للذي] يُخدع ، وهُذْأة : للذي يُهزأ به ، فاما : فُعَلَة بفتح [العين] : فهو الذي يفعل ذلك بغيره ؛ كما يقال : صُرعة للذي يصرع الناس ، وهُزَأة للذي يهزأ بهم ، وخُدَعة : للذي يخدعهم .
وقوله : " وأضبّ عليها " يعني : حقد ، والضَّبُّّ : الحقد ؛ من كتاب القزاز . وقولها له : " اجلس غُدَرُ " معناه : يا غادر. وعُدِلَ به عنه لزيادة معنى التكثير ، ونسبته للغدر ؛ لِما أظهر من أنه إنما ترك طعامها من أجل الصلاة ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما صدر من عائشة للقاسم إنما كان منها لإِنْهاض هِمَّتِه ، وليحرص على التعلُّم ، وعلى تثقيف لسانه .
---(3/21)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا صلاة بحضرة الطعام ، ولا هو يدافعه الأخبثان )) : ظاهر هذا نفي الصحة والإجزاء ، وإليه ذهب أهل الظاهر في الطعام ، وتأول بعض أصحابنا حديث مدافعة الأخبثين على أنه شغله حتى لا يدري كيف صلّى ، فهو الذي يعيد قبل وبعد . وأما إن شغله شغلاً لا يمنعه من إقامة حدودها ، وصلّى ضَامًّا وَرْكَيْه فهذا يعيد في الوقت ، وهو ظاهر قول مالك في هذا. وذهب الشافعي والحنفي في مثل هذا : إلى أنه لا إعادة عليه . قال القاضي أبو الفضل : وكلهم مجمعون على أنه من بلغ به ما لا يعقل به صلاته ، ولا يضبط حدودها : [ أنها] لا تجزئه ، ولا يحل له الدخول كذلك في الصلاة ، وأنه يقطع الصلاة إن أصابه ذلك فيها . والأخبثان : الغائط والبول ، قاله الهروي وغيره .
*************
(48) باب النهي عن إتيان المساجد لمن أكل الثوم أو البصل وإخراج من وُجد منه ريحها من المسجد
156 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ : (( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي الثُّومَ - فَلا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ )).
157 - وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٌ : (( فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن إتيان المساجد لمن أكل الثوم
قوله : " فلا يأتين المساجد " ، حجة على من قال : إن النهي مخصوص بمسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( فلا يقربنّا ولا يصلّ معنا )) : يدل على أن مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها ؛ كمجالس العلم والولائم وما أشبهها ، لا يقربها من 158 - وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : (( فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ، وَلا يُؤْذِيَنَا بِرِيحِ الثُّومِ )).
---(3/22)
159 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ -وقَالَ مَرَّةً - مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أكل الثوم وما في معناه ؛ مما له رائحة كريهة تؤذي الناس ، ولذلك جمع بين الثوم والبصل والكراث في حديث جابر . وتسمية الثوم : شجرة ، على خلاف الأصل ، فإنها من البقول ، وقد سمّاها في الرواية الأخرى : بقلة . والشجر في كلام العرب : ما كان على ساق يحمل أغصانه ، وما ليس كذلك فهو نجم ، وهو قول الهروي وغيره من اللغويين ، وهو المروي عن ابن عباس وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ )). وَإِنَّهُ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ ، فَقَالَ : (( قَرِّبُوهَا )) إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا ، قَالَ : (( كُلْ ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وابن جبير في قوله تعالى : { والنجم والشجر يسجدان }. وهذا كله ما دامت هذه البقول غير مطبوخة ، فأما لو طبخت ، فكما قال عمر : فمن
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أكلهما فليمتهما طبخًا .
---(3/23)
وقوله : " وأنه أُتي بِبَدْرٍ فيه خَضِرَاتٌ من بقول " : وقعت هذه اللفظة ببدر ، بالباء بواحدة من أسفل ، وهو الظبق ، سُمِّي بذلك لاستدارته . وقد وقع لبعض الرواة : " بِقِدْرٍ " ، بالقاف . واستُدلّ به : على كراهية ما له ريح من البقول وإن طبخ ، وهذا ليس بصحيح . قالوا : وهو تصحيف ، وصوابه : بِبَدْر . وقد ورد في كتاب أبي داود : " أُتي بِبَدْر ". ولو سُلِّم أنه : بقدر ، فيكون [معناه] : أنها لم يُمِتِ الطبخُ تلك الرائحة منها ، فبقي المعنى المكروه ، فكأنّها نيِّئة .
وقوله : (( فإني أناجي من لا تناجي )) : يشعر بان هذا الحكم خاص به ؛ إذ هو المخصوص بمناجاة الْمَلَكِ ، ولكن قد عَلَّلَ هذا الحكم في أول الحديث بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم ؛ حيث قال : (( فإن الملائكة تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم )) ، وقوله : (( ولا تؤذينّا بريح الثوم )).
160 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ ؛ قَالَ : لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ ، فَوَقَعْنَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ الثُّومِ ، وَالنَّاسُ جِيَاعٌ ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلاً شَدِيدًا ، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرِّيحَ فَقَالَ مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا فَلا يَقْرَبَنَّا فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ النَّاسُ : حُرِّمَتْ حُرِّمَتْ ، فَبَلَغَ ذَاكَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِي ، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( من هذه الشجرة الخبيثة )) ؛ أيْ : الْمُستَكْرَهةُ الْمُنْتِنَة .
---(3/24)
ولما سمع الصحابة هذا الذم ظنوا أنها قد حرمت ، فصرَّحوا به ، وكأنهم فهموا هذا من إطلاق الخبيثة علبها ، مع ما قد سمعوا من قول الله تعالى : {ويُحل(3) لكم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث }(4) ، فبيَّن لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن إطلاق الخبيث لا يلزم منه التحريم ؛ إذ قد يراد به ما لا يوافق عادة واستعمالاً ، وعند هذا لا يصح للشافعي الاحتجاج بقوله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } على تحريم ما يُستخبث عادة كالحشرات وغيرها ؛ إذ الخبائث منقسمة إلى مستخبث عادة ، وإلى مستخبث شرعًا . ومراده تعالى في الآية : المستخبثات الشرعية ؛ إذ قد أباح البصل والثوم مع أنها مستخبثة ، وحرّم الخمر والخنزير وإن كانت(5) قد تستطاب ، والله أعلم .
161 - وَعَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَذَكَرَ نَبِيَّ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ ـ رضى الله عنه ـ ، قَالَ : إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلاثَ نَقَرَاتٍ ، وَإِنِّي لا أُرَاهُ إِلا حُضُورَ أَجَلِي ، وَإِنَّ أَقْوَامًا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إنه ليس بي تحريم ما أحل الله )) ؛ يرد قول أهل الظاهر بتحريم أكل الثوم ؛ لأجل منعه من حضور الجماعة التي يعتقدرن فرضها على الأعيان ، وكافة العلماء على خلافهم .
---(3/25)
وقول عمر : " إني رأيت كان ديكًا نقرني ثلاث نقرات " : هذا الديك الذي أُريه عمر مثال للعلج الذي قتله ، وهو أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة ، وكان مجوسيا ، وكان نخارًا حدّادًا نقاشًا ، وكان من شأنه ما ذكره البخاري وغيره ، وهو أنه وثب على عمر وهو في صلاة الصبح - بعد أن دخل عمر فيها - ، فطعنه ثلاث طعنات ، فصاح عمر : قتلني - أو أكلني - الكلب ، ظانًّا أنه كلب عضّه ، فتناول عمر عبد الرحمن بن عوف ، فكمّل الصلاة بالناس . ثم إن العلج وثب وفي يده سكين ذات طرفين ، لا يمرّ على يَأْمُرُونَنِي أَنْ أَسْتَخْلِفَ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ وَلا خِلافَتَهُ وَلا الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَإِنْ عَجِلَ بِي أَمْرٌ فَالْخِلافَةُ شُورَى بَيْنَ هَؤُلاءِ السِّتَّةِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ ، وَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَقْوَامًا يَطْعَنُونَ فِي هَذَا الأَمْرِ ، أَنَا ضَرَبْتُهُمْ بِيَدِي هَذِهِ عَلَى الإِسْلامِ ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأُولَئِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحد يمينًا وشمالاً إلا طعنه ، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً ، مات منهم تسعة ، - وقيل : سبعة - ، فطرح عليه رجل خميصة كانت عليه ، فلما رأى العلج أنه مأخوذ ، نحر نفسه ، وحزّ عبد الرحمن بن عوف رأسه ، وهو الذي كان طرح عليه الخميصة .
وقوله : " وإن أقوامًا يأمرونني أن أستخلف " ، معنى الأمر هنا : العرض ، والتَّحْضِيض ، أو الفتيا بأنه يجب عليه أن يستخلف ، وأنه مامور بذلك من جهة الله تعالى . وظاهر هذا الأمر أنه إنما كان من هؤلاء الأقوام لما سمعوا من عمر تأويله لمنامه بحضور أجله ، وهذا قبل وقوع طعنه ، ويحتمل أن يكون هذا بعد أن طعن ، ويكون بعض الرواة ضمّ أحد الخبرين إلى الآخر ، وعلى هذا يدل سياق هذا الخبر .(3/26)
---
وقوله : " وإن الله لم يكن لِيُضَيِّع دينه ، ولا خلافته ، ولا الذي بعث به نبيه " ؛ إنما قال ذلك عمر ؛ لأنه قد علم مما قد فهمه من كتاب الله ، وسمعه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن الله يستخلف المؤمنين في الأرض ، ويمكن لهم دينهم ،
أَعْدَاءُ اللَّهِ الْكَفَرَةُ الضُّلالُ ، ثُمَّ إِنِّي لا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنَ الْكَلالَةِ ، مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلالَةِ ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي فَقَالَ : (( يَا عُمَرُ ! أَلا يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ ؟ )) ، وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ ويظهره] على الدين كله ، فقال ذلك ثقة بوعد الله ، وتوكّلاً عليه .
والخلافة هنا : القيام بأمر أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على نحو ما قام به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما .
وقوله : "[ وإني] قد علمت أن أقوامًا يطعنون في هذا الأمر ؛ إشارة إلى جعله الأمر شورى بين الستة الذين هم : عثمان ، وعلي ، وعبدالرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص .
---(3/27)
وقوله : " فإن فعلوا ذلك" ؛ أي : إن أفشوا الطعن ، وعملوا على الخلاف في ذلك والمشاقّة ، ولم يرضوا بالذين اخترتهم ، " فأولئك عند الله الكفرة الضلاَّل " ، وظاهر هذا : أنه حكم بتكفيرهم ، وكأنه علم أنهم منافقون ، وعلى هذا يدل قوله : " أنا ضربتهم بيدي على الإسلام " ؛ يعني : أنهم إنما بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ . ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الأَمْصَارِ ، وَإِنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ ، وَلِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ وَيَرْفَعُوا إِلَيَّ مَا أَشْكَلَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دخلوا في الإسلام على تلك الحال ، لم تنشرح صدورهم للاسلام ، وإنما تستّروا بالإسلام ، وذلك حال المنافقين . ويحتمل أنهم لما فعلوا فعل الكفار من الخلاف ، وموافقة أهل الأهواء ، ومشاقّة المسلمين ، أُطلق عليهم ما يطلق على الكفار . وعلى هذا فيكون هذا الكفر من باب كفران النعم والحقوق .
وقوله : " ثم إني لا أدع بعدي شيئًا أهم عندي من الكلالة " ، تَهَمُّمُ عمر بالكلالة ؛ لأنها أشكلت عليه ؛ وذلك أنها نزل فيها آيتان :
إحداهما : { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة } ، وفيها إشكال من جهات ، ولذلك اختلف في الكلالة ما هي ؟ ففيها أربعة أقوال :
أحدها : أنها ما دون الوالد والولد ؛ قاله أبو بكر الصديق ، وعمر ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، في خلق كثير .
والثاني : أنها من لا ولد له ، وروي عن عمر أيضًا ، وهو قول طاووس.(3/28)
والثالث : أنها ما عدا الوالد ؛ قاله الحكم بن عُتَيْبَة .
---
والرابع : أنها بنو العمّ الأباعد ؛ قاله ابن الأعرابي .
واختلف أيضًا فيما تقع عليه الكلالة ، على ثلاثة أقوال :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدها : على الحي الوارث ؛ قاله ابن عمر .
والثاني : على الميت ؛ قاله السُّدّي .
الثالث : على المال ؛ قاله عطاء .
واختُلف أيضًا فيما أُخِذت الكلالة منه على قولين :
أحدهما : أنها مأخوذة من الإكليل المحيط بالرأس ، فكأنها تكللت ؛ أي : أحاطتْ بالميت من كلا طرفيه ؛ ولذلك قال :
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة عن ابنيْ مناف عبد شمسٍ وهاشمِ
وقال آخر :
وإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أحْمَى له وموْلَى الكَلالَةِ لا يَغْضَبُ
والثاني : أنها مأخوذة من الكلال ، وهو الإعياء ، فكأنه يصل الميراث إلى الوارث بها عن بُعْدٍ وإعياء ، وقيل : كأن الرحم كلّت عن وارث قريب ؛ قال الأعشى :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فآليت لا أرثي لها عن كلالة ولا من وَجىً حتى تلاقي محمدًا
ثم مقتض هذه الآية الأولى : أن كل واحد من الأخوين له السدس ، سواء كان أحدهما ذكرًا أو أنثى ، فإن كانوا أكثر اشتركوا في الثلث ، ومقتضى الآية الثانية : أن للأخت النصف ، وللاثنتين الثلثين ، ولم يبين في واحدة من الآيتين الأخوة ، هل هي لأم ، أو لأب ، أو لهما ، ثم إذا تنزّلْنا على أن الأخوة من الأولى للأم ، وفي الثانية للأب ، [ أو أشقاء ] ، فهل ذلك فرضهم إذا انفردوا ؟ أو يكون ذلك فرضهم وإن كان معهم بعض الورثة ؟ كل ذلك أمور مطلوبة ، والوصول إلى تحقيق تلك المطالب عسير ، وسنبيّن الصحيح من ذلك كله ، في الفرائض إن شاء الله .
---(3/29)
فلما اشكلت على عمر من هذه الوجوه تَشَوَّف إلى معرفتها بطريق يزيح له الإشكال ، فألَحّ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسؤال عن ذلك ، حتى ضرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صدره ، وأغلظ عليه في ذلك ردعًا له عن الإلحاح ؛ إِذْ كان قد نَهَى عن كثرة السؤال ، وتنبيهًا له على الاكتفاء بالبحث عمَّا في الكتاب من ذلك ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى أن الكتاب يبين بعضه بعضًا . وقال الخطابي : يشبه أن يكون لم يُفْتِه ، ووكل الأمر إلى بيان الآية اعتمادًا على علمه وفهمه ؛ ليتوصل إلى معرفتها بالاجتهاد . ولو كان السائل ممن لا فهم له ، لبيّن له البيان الشافي . قال : وإن الله أنزل في الكلالة آيتين : إحداهما في [الشتاء] ، وهي التي في أول سورة النساء ، وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يَبِينُ المعنى من ظاهرها ، ثم أنزل الآية التي في آخر النساء في الصيف ، وفيها زيادة بيان .
وقوله : " إن أعش أقض فيها بقضيّة يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ ". هذا يدل على أنه قد كان اتضح له وجه الصواب فيها ، وأنه كان قد استعمل فكره فيها ، حتى فهم ذلك ، وأنه أراد أن يوضِّح ذلك على غاية الإيضاح ، ولم يتمكن من ذلك في الوقت الحاضر ؛ للعوانق والموانع ، ثم فجئته المنيّة ـ رضى الله عنه ـ ، ولم يُرْوَ عنه فيها شي من ذلك ، لكن قد اهتدى علماء السلف لفهم الآيتين ، وأوضحوا ذلك ، فتبيّن الصبح لذي عينين ، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله .(3/30)
عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لا أَرَاهُمَا إِلا خَبِيثَتَيْنِ : هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فليمتهما طبخًا " ؛ أي : ليذهب رائحتهما ، [ ويكسرها] بالطبخ . وكسر قوة كل شيء إماتته وقتله ، ومنه قولهم : قَتَلْتُ الخمر : إذا مزجتها بالماء وكسرتها . وقد تقدم القول في الخبيث ، وفي الشجر .
*************
(49) باب النهي عن أن تنشد الضالَّة في المسجد
162 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ : لا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن أن تنشد ضالّة في المسجد
نشدت الضالة بمعنى : طلبتها . وأنشدتها : عرّفتها ، قاله يعقوب وغيره ، ومنه قول الشاعر : إِصَاخَةَ الناشدِ للمُنْشِدِ
والإصاخة : ا لاستماع .
وقوله : " فليقل : لا ردها الله عليك " : دعاة على الناشد في المسجد بعدم الوجدان ، فهو معاقبة له في ماله على نقيض قصده ، فيلحق به ما في معناه ؛ فمن رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحة ترجع إلى الزافع صوته ، دُعِيَ عليه على نقيض مقصوده ذلك ؛ بسبب جريمة رفع صوته في المسجد ، وإليه ذهب مالك في جماعة ، حتى كرهوا رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره . وأجاز(3/31)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت فيه في الخصومة والعلم . قالوا : لأنهم لا بُدَّ لهم من ذلك ، وهذا مخالف لظاهر الحديث . وقولهم : لا بدّ لهم من ذلك ممنوع ، بل لهم بُدٌّ من ذلك بوجهين :
أحدهما : بملازمة الوقار والحرمة ، وبإخطار ذلك بالبال والتحرز من نقيضه ، ومن خاف ما يقع فيه تحرّز منه .
---
والثاني : أنه إذا لم يتمكن من ذلك فليتخذ لذلك موضعًا يخصه ، كما فعل عمر ، وقال : من أراد أن يلغط أو ينشد شعرًا فليخرج من المسجد.
163 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ رَجُلاً نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الأَحْمَرِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا وَجَدْتَ ! إِنَّمَا بُنِيَتِ
الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ )).
وَفِي رِوَايَة : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ بَعْدَ مَا صَلَّى النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلاةَ الْفَجْرِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ ... ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إنما بنيت المساجد لما بنيت له )) : يدل على أن الأصل ألا يُعمل المسجد غير الصلوات ، والأذكار ، وقراءة القرآن ؛ ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا رأيتم من يبيع في المسجد أو يبتاع فقولوا : لا أربح الله تجارتك )).
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/32)
وقد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد ، ورأى أنه من باب البيع ، وهذا إذا كان بأجرة فلو كان بغير أجرة لمنع أيضًا ، من وجه آخر ، وهو أن الصبيان لا يتحرّزون عن القذر والوسخ ، فيؤذي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد ، وقد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتنظيفها وتطييبها ، وقال : (( جنبوا مساجدكم صبيانكم ، ومجانينكم ، وسل سيوفكم ، وإقامة حدودكم )).
---
وقوله : " فادخل رأسه من باب المسجد " ؛ دليل على أن حكم هذا حكم الداخل في المسجد ، ولو لم يكن كذلك لما منع ، ألا ترى أنه لو رفع صوته خارج المسجد لم يعاقب بذلك ؟ وبدليل قوله : (( إن المساجد لم تُبن لهذا )). ويقتبس من هذا : أن الحالف ألا يدخل(8) دارًا ، فأدخل رأسه فيها ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنه يحنث ، وبذلك قال بعض علمائنا . وكذلك لو أدخل رجله ؛ لأن الاعتماد في الدخول على الرجل ، ولهذا فرق بعض أصحابنا بين أن يكون اعتماده عليها أم لا .
*************
(50) باب الأمر بسجود السهو ، وما جاء فيمن سهى عن
الجلسة الوسطى
164 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى ، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( جَاءَ الشَّيْطَانُ فَهَنَّاهُ وَمَنَّاهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب السهو في الصلاة(3/33)
قال الإمام أبو عبد الله : أحاديث السهو كثيرة ، والثابت منها عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمسة أحاديث : حديث أبي هريرة الذي ذكر فيه أنه سجد سجدتين ، ولم يذكر موضعها . وحديث أبي سعيد الخدري ، وهما جميعًا فيمن شكّ كم صلّى . وحديث ابن مسعود ، وفيه القيام إلى خامسة ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والسجود بعد السلام . وحديث ابن بحينة وفيه : القيام من اثنتين ، والسجود قبل السلام . وحديث ذي اليدين ، وفيه السلام من اثنتين والسجود بعد السلام .
---
قلت : وقد أغفل الإمام حديث عمران بن حصين ، وهو أنّه سلم في ثلاث ، ثم صلى ركعة ، ثم سلّم ، ثم سجد سجدتين ، لكن لم يذكره ؛ لأنه رأى أنه في معنى حديث ذي اليدين . ويلزمه على هذا ألا يُعَدِّدْ حديث أبي هريرة ؛ لأنه عنده في معنى حديث أبي سعيد ، والصحيح في عدد الأحاديث الصحيحة في السهو أنها ستة حسب ما نبّهنا عليه .
قال الإمام : وقد اختلف الناس في طريق الأخذ بهذه الأحاديث ، فأما داود فلم يقس عليها ، وقال : إنما يستعمل ذلك فيما ورد فيه من الصلوات ، على حسب الترتيب في مواضع السجود المذكورة ، وقال ابن حنبل كقول داود في هذه الصلوات خاصة ، وخالفه في غيرها ، وقال : ما فيها من سهو فإن السجود كله قبل السلام . وقد اخْتَلَف مَنْ قاس عليها من الفقهاء ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فبعضهم قال : إنما تُفيد هذه الأحاديث التخيير ، ، وللمكلف أن يفعل أي ذلك شاء شاء من السجود ؛ قبل أو بعد في نقص أو زيادة ، وهو قول مالك(3/34)
في المجموعة . وقال أبو حنيفة : الأصل ما فيه السجود بعد السلام ، وردَّ بقيّة الأحاديث إليه . وقال الشافعي : الأصل ما فيه السجود قبل ، وردّ بقيّة الأحاديث إليه . ورأى مالك : أن ما فيه النقص السجود فيه قبل السلام ، وأن ما فيه الزيادة يكون فيه السجود بعد. وهل هذا الترتيب هو الواجب أو هو الأولى ؟ تولان للأصحاب . وسيأتي بيان متمسك كل فريق إن شاء الله.
---
وقوله : (( جاءه الشيطان فَلَبَس عليه )) ، يُروَى مخفف الباء ومشدّدها ، وهي مفتوحة في الماضي ، مكسورة في المستقبل على كل حال ، ومعناه : خَلَطَ ، يقال : لَبَسْتُ عليه الأمر ، ألبِسُهُ ؛ أي : خلطته ، ومنه قوله تعالى : { وللبسنا عليهم ما يلبسون }. فأما [ لَبِسَ ] بكسر الباء في الماضي ، وفتحها في المستقبل ، فهو من اللباس للثوب ، ومنه : { ويلبسون ثيابًا خضرًا من سندسٍ وإستبرق }.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( فليسجد سجدتين وهو جالس )) ، هذا الحديث مقصوده الأمر بالسجود عند السهو ، وهل ذلك بعد السلام ، أو قبل ؟ لم يتعرض له فيه ، وقد رُوي عن مالك والليث : أنهما حملا هذا الحديث على الْمُسْتَنْكِح ، وليس في الحديث ما يدل عليه ، وما قالاه ادعاء تخصيص ، ولا بد من دليله ، على أنه قد اختلف قول مالك في المستنكح ، هل عليه سجود أم لا ؟ بل نقول : إن في الحديث ما يدل على نقيض ما قالاه ، وهو قوله : (( فإذا وجد ذلك أحدكم )) ، وهذا خطاب لعموم المخاطبين ، وعمومهم السلامة عن
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/35)
الاستنكاح ، فإنه نادر الوقوع ، وقد ذهب الحسن من طائفة من السلف ، إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث ، فقالوا : ليس على من لم يَدْرِ كَمْ صلى ، ولا يدري هل زاد أو نقص ؟ غير سجدتين وهو جالس . وذُكر عن الشعبي والأوزاعي وجماعة كثيرة من السلف : أن من لم يدر كم صلى أعاد أبدًا حتى يتيقن ، والذي ذهب إليه الأكثر : أن يحمل حديث أبي هريرة على مفصَّل حديث أبي سعيد الآتي بعد هذا ، ويُرَدّ إليه ، لا سيما وقد زاد أبو داود في حديث أبي هريرة من طريق صحيحة : (( وهو جالس قبل أن يسلم )) ، فيكون مساويًا لحديث أبي سعيد ، فهو هو ، والله أعلم .
ثم هذا الأمر بالسجود لمن سها ؛ على جهة الوجوب ، أو فيه تفصيل ؟ فيه خلاف ، فمن أصحابنا من قال : هو محمول على الندب ، أما في الزيادة فواضح ؛ لأنه ترغيم للشيطان ، وأما في النقصان فهو جبر للنقص ، وأرفع درجات الجبر أن يتنزل منزلة الأصل ، والأصل مندوب إليه ، فيكون الجبر مندوبًا إليه ؛ لأن سجود السهو إنما يكون في إسقاط السنن - على مايأتي - ، وعلى هذا لا يعيد من ترك السجود ، وقال بعض أصحابنا : السجود للنقص واجب ، وللزيادة فضيلة ، ثم اختلفوا : هل ذلك في كل نقص ، أو يختص بالوجوب إذا كان المسقط فعلاً ولم يكن قولاً ؟ روايتان .
165 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ : صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ ، كَبَّرَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، ثُمَّ سَلَّمَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : سَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ ، مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الْجُلُوسِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/36)
وقوله في حديث ابن بحينة : " فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر فسجد" ؛ أي : فرغ من أركانها [ عدا ] السلام . و"نظرنا" : انتظرنا ، ومنه : {انظرونا نقتبس من نوركم } ؛ أي : انتظرونا . وهذا التكبير المعقب بالسجود لسجود السهو قولاً واحدًا ، لا للإحرام ؛ لأنه لم ينفصل عن حكم الإحرام الأول . واختلف في التكبير للَّتَيْن بعد السلام ، هل هو للإحرام أو للسجود ؟ روايتان عن مالك ، والأولى أنه للإحرام ، ولابد من ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نيةٍ ؛ لأنه قد انفصل عن حكم الصلاة ؛ ولأنه لا بدّ لهما من(2) سلام ينفصل به عمَّا تُحْرِمُ به قياسًا على سائر الصلوات ، وإلى هذا أشار في حديث ذي اليدَيْن(3) ، حيث قال : " فصلى ركعتين ، ثم كبر ، ثم سجد ، ثم كبر " ؛ فإنه عطف السجود على التكبير بـ" ثم " التي تقتضي التراخي ، ولو كان التكبير للسجود لكان معه ، ومصاحبًا له ، ألا تراه كيف قال في بقية الحديث(4) : " ثم كبر ورفع ، ثم كبر وسجد ، ثم كبر فرفع " ، فعدل عن "ثم" في مواضع المقارنة ، وهذا ظاهر .
وقوله : "فسجد سجدتين قبل السلام ، ثم سلم " حجة لمالك في قوله : إن السجود للنقص قبل ، وعلى أبي حنيفة في قوله : إن السجود في السهو(5) كله بَعْدُ ، وحَمْلُ أبي حنيفة هذا السلام على سلام التشهد فاسد قطعًا بمساق الحديث ، فتأمله .
وقوله : " مكان ما نسي من الجلوس " : دليل على أن الذي يجبر بسجود السهو إنما هو ما يكون(6) من قبيل سنن الصلاة ، أما أركانها وواجباتها فلا بد من الإتيان بها ؛ إذ لا تصح بدون ذلك ، أما فضائلها فغايتها تكميل الثواب ، فلو أسقطها المصلي ابتداء لصحّث صلاته اتفاقًا ، وليست(7) كذلك السنن ، وقد(8) قيل : إن من تركها متعمدًا أعاد الصلاة .
(51) باب فيمن لم يّدْرِ كم صلى
---(3/37)
166 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَمْ أَرْبَعًا ، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلاتَهُ ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فيمن لم يَدْرِ كم صلى
وقوله في حديث أبي سعيد : (( إذا شك أحدكم في صلاته ... ، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن )) : تمسك بظاهره جمهور أهل العلم في إلغاء المشكوك فيه ، والعمل على المتيقن ، وألحقوا المظنون بالمشكوك فى الإلغاء ، وردّوا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حديث ابن مسعود : " فليتحرّ الصواب من ذلك" إلى حديث أبي سعيد هذا ، ورأوْا أن هذا التحري هو القصد إلى طرح الشك ، والعمل على المتيقن . وقال أهل الرأي من أهل الكوفة وغيرهم : إن التحري هنا هو البناء على غلبة الظن . وأما أبو حنيفة فقال : ذلك لمن اعتراه ذلك مرة بعد مرة ، فأما لأَوَّل(4) ما ينوبه ، فليبن على اليقين ، وكان أبا حنيفة جمع بين الحديثين باعتبار حالين للشاكّ .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم " احتج بظاهره الشافعي لأصل مذهبه على أن سجود السهو كته قبل السلام . وقال الداودي : اختلف قول مالك في الذي لا يدري ثلاثًا صلى أم أربعًا ؟ فقال : يسجد قبل السلام ، وقال : بعد السلام ، والصحيح من مذهبه في هذه الصورة : السجود بعد السلام . وقد اعتلَّ أصحابنا لهذا الحديث بأوجه :
---(3/38)
أحدها : أنه يعارضه حديث ذي اليدين ؛ حيث زاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم سجد بعد السلام ، وهو حديث لا علّة له ، وحديث أبي سعيد أرسله مالك عن عطاء ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأسنده غيره ، فكأن هذا اضطرابًا فيه ، والسَّلِيم عن ذلك أرجح .
وثانيها : أن قوله : (( قبل أن يسلم )) ؛ يحتمل أن يريد به السلام على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي في التشهد ، وهو قوله : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله . فكأنه سجد ولم يستوف التشهد .
وثالثها : أنه يحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سها عن إيقاعه بعد السلام ، فأوقعه قبله واكتفى به ؛ إذ قد فعله ، ولا يتكرر سجود السهو ، ولا يعاد .
ورابعها : يحتمل أن يكون [ شك في قراءة السورة] في إحدى الأوليين ، إذا كان في رابعة ، فيكون معه زيادة الركعة ونقصان قراءة السورة ، فَغُلِّبَ النقصان .
وخامسها : أن السجود في هذه الصورة قبل السلام ؛ لأن الزيادة متوهمة مقدورة ، بخلاف الزيادة المحققة ؛ كما في حديث ذي اليدين ؛ فإنه لما تحققتْ فيه(5) الزيادة سجد بعد السلام ، وهذا إنما يتمشَّى على ما رواه الداوُدي عن مالك على ما تقدم ، وعليه حمله ابن لبابة .
وسادسها : أن حديث أبي سعيد محمول على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصد بذلك
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/39)
بيان جواز سجود ما بعدُ قبلُ(2) ، وهذا إنما يتمشى على رواية من روى أن الترتيب في سجود السهو إنما هو من باب الأولى على ما تقدم ، وهذا أشبهها ، فإنه جمعٌ بين الأحاديث على وجه حسن ، وعلى مذهب الطبري وغيره - ممن قال بالتخيير - فيسجد(3) للنقص والزيادة قبل أو بعد ، أيَّ ذلك شاء فعل ، وفي المجموعة عن مالك نحوه ، والله أعلم .
وقوله : (( فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته )) ؛ يعني : أنه لما شك هل
---
صلى ثلاثًا أو أربعًا ، وبنى على الثلاث ، فقد اطّرح الرابعة ، مع إمكان أن يكون فعلها ، فإن كان قد فعلها فهي خمس ، وموضوع تلك الصلاة شفع ، فلو لم يسجد لكانت الخامسة لا تناسب أصل المشروعية ، فلما سجد سجدتي السهو ارتفعت الوتريَّة ، وجاءت الشفعيَّة المناسبة للأصل ، والله أعلم .
والنون في : " شفعن " هي نون جماعة المؤثث ، وعادت على معنى فعلات السجدتين ، مشيرًا إلى ما فيها من الأحكام المتعددة .(3/40)
وقوله : (( وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان " ؛ معناه : غيظًا للشيطان ، ومذلّة له ؛ لأنه لما فعل أربع ركعات أتى بما طلب منه ، ثم لما انفصل زاد سجودًا(4) لله تعالى ؛ لأجل ما أوقع الشيطان في قلبه من التردد ، 167 - وَعَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ : قَالَ عَبْدُاللَّهِ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ - قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ : زَادَ أَوْ نَقَصَ ، الْوَهْمُ مِنْهُ - فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَحَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ ؟ قَالَ : (( وَمَا ذَاكَ ؟ )) قَالُوا : صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ : فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ : (( إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي ، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ )).
وَفي رِوَايَةٍ : (( فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ لِلصَّوَابِ )). وَفي أُخْرَى : (( فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ )). وَفي أُخْرَى : (( فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
فحصل للشيطان نقيض مقصوده ؛ إذ كان [إبطال] الصلاة ، فقد صحتْ ، وعادت وسوسته [ بزيادة] خير وأجر . والترغيم مأخوذ من الرَّغَام ؛ وهو التراب كما تقدم .
قولهم في حديث ابن مسعود : " أَحَدَث في الصلاة شيء ؟" سؤال عن من
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/41)
جوز النسخ على ما ثبت من العبادة ، ويدل هذا على أنهم كانوا يتوقعونه .
وقوله : (( وما ذاك ؟ )) سؤال من لم يشعر به ما وقع منه ، ولا يقين عنده ، ولا غلبة ظن .
وقولهم : " صليت كذا وكذا " : إخبار من حقق ما وقع . وقبول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبول الإمام قول المخبِر عما وقع له ؛ دليل على قبول الإمام قول من خلفه في إصلاح الصلاة ، إذا كان الإمام على شك ، بلا خلاف . وهل يشترط في المخبر عدد لأنه من باب الشهادة ، أو لا يشترط ذلك ، لأنه من باب قبول الخبر ؟ قولان :
الأول : لأشهب وابن حبيب ، وأما إذا كان الإمام جازمًا في اعتقاده بحيث يصمم عليه ، فلا يرجع إليهم ، إلا أن يفيد خبرهم العلم فيرجع إليهم ، وإن لم يفد خبرهم العلم ؛ فذكر ابن القصّار في ذلك عن مالك قولين : الرجوع إلى قولهم ، وعدمه . وبالأول قال ابن حبيب ، ونصه : إذا صلى الإمام برجلين فصاعدًا فإنه يعمل على يقين من وراءه ، ويدع يقين نفسه ، قال المشايخ : يريد الاعتقاد .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبالثاني قال ابن مسلمة ، ونصّ ما حكي عنه : يرجع إلى قولهم إن كثروا ، ولا يرجع إذا قلّوا ، وينصرف ، ويُتِمّون لأنفسهم .
وقوله : (( لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به )) : يفهم منه أن الأصل في الأحكام [ بقاؤها] على ما قُرِّرَتْ وإن جوز غير ذلك ، وأن تأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة .
---
وقوله : (( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون )) : دليل على جواز النسيان على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع . قال عياض : وهو(3/42)
مذهب عامة العلماء والأئمة ، والنظار ، وظاهر القرآن والأحاديث ، لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك ، ولا يقرّه عليه ، ثم اختلفوا : هل من شرط التنبيه اتصاله بالحادثة على الفور ؟ وهذا مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء ، أو يجوز في ذلك التراخي ما لم ينخرم عمره ، وينقطع تبليغه ؟ واليه نَحَا أبو المعالي . ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية ، والعبادات الشرعية ، كما منعوه اتفاقًا في الأقوال البلاغية ، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك ، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وشذّت الباطنية وطائفة من أرباب علم القلوب ، فقالوا : لا يجوز الثسيان عليه ، وإنما يَنْسَى قصدًا ، ويتعمد صورة النسيان ليسنّ ، ونحا إلى قولهم عظيم من أئمة التحقيق ؛ وهو أبو المظفر الإسفراييني في كتابه "الأوسط " ، وهذا مَنْحىً غير سديد ، وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد .
قلت : والصحيح أن السهو عليه جائز مطلقًا ؛ إِذْ هو واحد من نوع البشر ، فيجوز عليه ما يجوز عليهم إذا لم يقدح في حاله ، وعليه نبّه حيث قال : (( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون )) ، غير أن ما كان منه فيما طريقه بلاغ الأحكام قولاً أو فعلاً ، لا يقرّ على نسيانه ، بل ينبَّه عليه إذا تعينت الحاجة إلى ذلك المبلغ ، فإن أقر على نسيانه لذلك ، فذلك من باب النسخ ؛ كما قال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله }.
---
وقوله : (( فليتحرّ الصواب فليتمّ عليه )) ، و(( فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب )) ظاهره ما صار إليه الكوفيون : من عمله على غلبة ظنه ، وقد ذكرنا أن الجمهور ردّوه إلى حديث أبي هريرة ، وهذا لم تضم إليه ضرورة .(3/43)
وَفي أُخْرَى : فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ )) ، قَالَ : ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ .
وَفي أُخْرَى : أَنَّهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَمْسًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعارض ، إذ يمكن أن يحمل كل واحد من الحديثين على حالة غير الأخرى ، فَمَحْمِلُ حديث أبي هريرة فيمن شك ، ومحمل هذا الحديث : فيمن ظنّ ، ولا تعارض بينهما ، والتحرّي وإن كان هو القصد ، كما قال تعالى : {فأولئك تحروا رشدًا } ، فكما يُقْصَدُ المتيقَّن يُقْصَدُ المظنون ، والله أعلم .
فإن قيل : الموجب لتأويل هذا الحديث وردّه إلى حديث أبي هريرة : أن الصلاة في ذمته بيقين ، ولا تبرأ ذمته إلا بيقين ، قلنا : لا نسلِّم ، بل تبرأ ذمته بغلبة الظن ؛ بدليل : أن صحة الصلاة تتوقف على شروط مظنونة باتفاق ؛ كطهارة النجاسة ، وطهارة الحدث باختلاف ، والموقوف على المظنون مظنون ، فلا يلزم اليقين ، وإن كان الأولى هو اليقين ، والله أعلم .
وقوله : (( إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين )) : يقتضي التسوية بين ما كان للنقص ، وبين ما كان للزيادة ، فإما أن يكون هذا الأمر بهما على الوجوب ، أو على الندب . والتفرقة التي حكيناها عن أصحابنا مخالفة لهذا الظاهر فتلغى .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/44)
وقوله في الرواية الأخرى : التي لا شك فيها : " أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى خمسًا ثم سجد" ؛ حجة على أبي حنيفة حيث قال : تبطل الصلاة بزيادة الخامسة ، وهو حجة لمالك على صحة ذلك في غير الثنائية ، فلو زاد في الثنائية ركعة فقد زاد مثل نصفها ، وقد اختلف فيما إذا زاد مثل نصف الصلاة فأكثر ، فقيل : النصف كثير تعاد الصلاة منه في الصبح وغيرها . وهذا قول مطرِّف وابن القاسم . وقيل : إنما تفسد بزيادة ركعتين ، وليست زيادة ركعة تبطل في الصبح ولا غيرها ، وهو قول عبدالملك ، فأما لو زاد مثل الصلاة ؛ ففي بطلانها بذلك روايتان : مشهورهما : البطلان . والثانية : رواية عبد الملك ومطرف ؛ وهي الصحة ، ويجزيه سجود السهو ، وسبب هذا الخلاف : اعتبار الزيادة ؛ هل هي كثيرة بالنسبة أم لا ؟
*************
باب ما جاء فيمن سلَّم من اثنتين أو ثلاث
168 - عَن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِيِّ ، إِمَّا الظُّهْرَ وَإِمَّا الْعَصْرَ . فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَتَى جِذْعًا فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَاسْتَنَدَ إِلَيْهَا مُغْضَبًا ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يَتَكَلَّمَا ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ قَالُوا : قَصُرَتِ الصَّلاةُ ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ ؟ فَنَظَرَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَمِينًا وَشِمَالاً فَقَالَ : (( مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ )) قَالُوا : صَدَقَ لَمْ تُصَلِّ إِلا رَكْعَتَيْنِ . فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ كَبَّرَ ، ثُمَّ سَجَدَ ، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فيمن سلم من اثنتين أو ثلاث
---(3/45)
قوله : " إحدى صلاتي العشي - إما الظهر وإما العصر -" أول العشي إذا فاء الفيء وتمكّن ، ومنه قول القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهم يصلون الظهر بعشي ، وآخره : غروب الشمس ، وأصله : الظلمة ، ومنه : عَشَا البصر ، وعشوت إلى النار : نظرت إليها عن ظلمة .
وقوله : " ثم أتى جذعًا فاستند إليها ؛ الجذع : أحد الجذوع ، وهو خشبة النخلة ، وهو مذكر ، لكنه أُعيد عليه ضمير المؤنث ؛ لأنه خشبة ، كما قالوا : بلغني كتابه فمزقتها ؛ لأن الكتاب صحيفة .
وقوله في أبي بكر وعمر : " فهاباه أن يتكتما " ؛ يعني : أنهما بما غلب عليهما من احترام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتعظيمه ، وإكبار مقامه الشريف ، امتنعًا من تكليمه ، مع علمهما بأنه سيبين أمر ما وقع ، ولعله بعد النهي عن السؤال كما قررنا في كتاب الإيمان .
وإقدام ذي اليدين على السؤال ؛ دليل على حرصه على تعلم العلم ، وعلى اعتنائه بأمر الصلاة .
وقوله : "وخرج سَرَعان الناس" ؛ رريته بفتح السين والراء ، وهو المحفوظ
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن متقني الشيوخ ، وهو قول الكسائي ، أو غيرهم يسكّن الراء ، وهم : أَخِفّاؤهم والمسرعون منهم. ورواه الأَصِيلي في البخاري : "سُرْعان" : بضم السين وإسكان الراء ، وكأنه جمع سريع ؛ كقفيز وقفزان ، وقضيب وقضبان ، وكسر السين خطأ ، قاله الخطابي .
---(3/46)
وقوله : " قصرت الصلاة ؟" معناه : يقولون : قصرت الصلاة ، على اعتقاد وقوع ما يجوز من النسخ . وذو اليدين : رجل من بني سُليم ، كان طويل اليدين . ووقع في رواية : " بسيط اليدين" ، وظاهره : طويل خلق اليدين ، ويحتمل [ أنه] كان طويل اليديْن بالعمل وبالبذل . وقد سماه في حديث عمران بن حصين : الخِرْباق ، قال : وكان في يديه طول ، [ ويحتمل أن يكون رجلاً آخر ، والله أعلم ]. وقد سقاه الزهري : ذا الشمالين ، قال : رجل من بني زُهرة ، وقد خطّأه أهل السِّيَر في ذلك ، وقالوا : إن ذا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشمالين الزهري قتل يوم بدر . قلت : ويحتمل أن يكون الخرباق في حديث عمران بن حصين غير ذي اليدين في حديث أبي هريرة ، والله أعلم.
وقوله : (( ما يقول ذو اليدين ؟ )) يحتج به من يقول : لابد من اشتراط العدد في المخبِر عن السهو ، ولا حجة فيه ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما استكشف لِمَا وقع له من التوقف في خبره ؛ حيث انفرد بالخبر عن ذلك ، مع أن الجمع كثير ، ودواعيهم متوفرة ، وحاجتهم داعية إلى الاستكشاف عما وقع ، فوقعت الريبة في خبر المخبِر لهذا ، وجُوِّزَ عليه أن يكون الغلط والسهو منه ، لا لأنها شهادة ، والله أعلم .
وهذا كما وقع في قبول أخبار الآحاد في غير موضع .
وقوله : " فقالوا : صدق " ؛ حصل من مجموع هذا الحديث أن الكلّ تكلموا في الصلاة بما يصلحها ، ثم بعد كلامهم كمّل الصلاة ، وسجد ، ولَغَا كلامهم ، ولم يضرّ ، فصار هذا حجة لمالك على أن من تكلم في الصلاة لإصلاحها لم تبطل صلاته ، وخالفه بعض أصحابه وأكثر الناس . قال ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/47)
الحارث بن مسكين : أصحاب مالك كلهم على خلاف ما قال ابن القاسم عن مالك ، وقالوا : كان هذا أول الإسلام ، وأما الآن فمن تكلم فيها أعادها ، ومنع ما أجازه مالك من الكلام : أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأهل الظاهر ، وجعلوه مفسدًا للصلاة ، إلا أن أحمد أباح ذلك للإمام وحده ، واستثنى سحنون - من أصحاب مالك - إن سَلّم من اثنتين من الرباعية ، فوتع الكلام هناك لم تبطل الصلاة ، وإن وقع في غير ذلك بطلت الصلاة . والصحيح ما ذهب إليه مالك تمسكًا بالحديث ، وحملاً له على الأصل الكلي ؛ من تعدّي الأحكام ، وعموم الشريعة ، ودفعًا لما يُتوهم من الخصوصية ؛ إذ لا دليل عليها ، ولو كان شيء مما ادعى ؛ لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولا يجوز إجماعًا ، ولكان يبيّنه ؛ كما فعل في حديث أبي بردة بن نيار ؛ حيث قال : (( ضحّ بها ، ولن تجزئ عن أحد بعدك )) ، والله أعلم .
وقوله : " فصلى ركعتين وسلم ، ثم كبر ، ثم سجد ، ثم كبر [ فرفع ، ثم كبر ] وسجد ، ثم كبر ورفع " : هذا حجة لمالك رحمه الله على أن السجود للزيادة بعد السلام ، وحجة على الشافعي ؛ حيث قال : السجود كل قبل السلام . وتأويل من تأوّله على أن المراد به : سلام التشهد ليس بصحيح ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/48)
بما تقدم ، ولم تدع إليه حاجة ، وقد بنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما تقدم له من صلاته ، مع ما وقع في أضعافها ، ومن استدباره القبلة ، واستناده إلى الخشبة والمحاورة في ذلك . وقد حمل ذلك أصحابنا على أن ذلك عمل قليل ، وبحضرة ذلك ، ولذلك ألغاه . فأما لو كثر ذلك وطال جدًّا لبطلت الصلاة . وقيل : لا تبطل وإن طال . وسبب الخلاف : هل ما وقع في قصة ذي اليدين كثير أو قليل ؟ ثم اختلف في الطول ما هو ؟ فقيل : يرجع في ذلك إلى العرف ، وقيل : ما لم ينتقض وضوءه ، وروي هذا الأخير عن ربيعة ومالك ، ولم يبين في هذا الحديث هل رجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصلاة بتكبير أو بغيره ، أم هل رجع إلى حال الجلوس أو لا ؟ وقد اختلف أصحابنا في ذلك ، فهاتان مسالتان :
المسالة الأولى : المشهور أنه يرجع بتكبير . وهل ذلك التكبير للإحرام ، أو لا ؟ المشهور أنه للإحرام ، فإن كان لا للإحرام ، فهل هو للإشعار برجوعه ، أو هو تكبير القيام في الثالثة بعد الجلوس ؟ قولان . وسبب هذا الخلاف : هل إيقاع السلام ساهيًا على التكميل مخرخ عن الصلاة ، أم لا يكون مخرجًا ؛ كالكلام ساهيًا ؟ فيه ثلاثة أقوال : يفرّق في الثالث بين أن يكون سهوه عن العدد ، فيسلم قصدًا ، ثم يذكر ، فهذا يحتاج إلى إحرام ، أو سهوه عن السلام ، فلا يحتاج إليه ، فإن هذا السلام كالكلام المسهو عنه .
---(3/49)
وَفِي رِوَايَة : أَنَّهَا صَلاةَ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ فِي جَوَابِ ذِي الْيَدَيْنِ إِذْ قَالَ : أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ )) ، فَقَالَ : قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ ؟. فَقَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : فَأَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلاةِ ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسالة الثانية : إذا قلنا : إنه يكبر للإحرام ، فهل يكبر قائمًا كالإحرام الأول ، أو جالسًا ؛ لأنها الحالة التي فارق الصلاة عليها ؟ قولان . ثم إذا قلنا : يُحرم قائمًا ، فهل يجلس بعد ذلك القيام لياتي بالنهضة في صلاةٍ- قاله ابن القاسم - أو لا يجلس ؛ لأن النهضة غير مقصودة لنفسها ، وقد فات محلها فلا يعود إليها ، رواه ابن نافع وقال به .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كل ذلك لم يكن )) : هذا مشكل بما ثبت من حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ ، فإنه يستحيل عليه الخلف والكذب ، والاعتذار عنه من وجهين :
أحدهما : أنه إنما نفى الكلية ، وهو صادق فيها ؛ إذ لم يجتمع وقوع الأمرين ، وإنما وقع أحدهما ، ولا يلزم من نفي الكلية نفي كل جزء من ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/50)
أجزائها ، فإذا قال : لم ألق كل العلماء ، لا يفهم أنه لم يلق واحدًا منهم ، ولا يلزم ذلك منه ، إلأ أن هذا الاعتذار يبطله قوله في الرواية الأخرى : (( لم أنس ولم تقصر )) ، بدل قوله : (( كل ذلك لم يكن )) ، فقد [ نفى] الأمرين نصًّا .
---
والثاني : أنه إنما أخبر عن الذي كان في اعتقاده وظنه ، وهو أنه لم يفعل شيئًا من ذلك ، فأخبر بحق ؛ إذ خبره موافق لما في نفسه ، فليس فيه خلف ولا كذب ، وعن هذا ما قد صار [إليه] أكثر الفقهاء : إلى أن الحالف بالله على شيء يعتقده ، فيظهر أنه بخلاف ما حلف عليه ، أن تلك اليمين لاغية ، لا حنث فيها ، وهي التي لم يُضِفْها الله إلى كسب القلب ، حيث قال : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}. وقد روى أبو داود حديث أبي هريرة هذا ، وقال مكان : (( كل ذلك لم يكن )) : (( لم أنس ، ولم تقصر )) ، ومَحْمِلُهُ(9) على ما ذكرناه من إخباره عن
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعتقاده . وللأصحاب [فيه] تأويلات أُخَر :
منها : أن قوله : (( لم أنس )) راجع إلى السلام ؛ أي : لم أنس السلام ، وإنما سلّمت قصدًا ، وهذا فاسد ؛ لأنه حينئذ لا يكون جوابًا عما سئل عنه .
ومنها : الفرق بين النسيان والسهو ، فقالوا : كان يسهو ولا ينسى ؛ لأن النسيان غفلة ، وهذا أيضًا ليس بشيء ؛ إذ لا يُسَلّم الفرق ، ولو سلم فقد أضاف ـ صلى الله عليه وسلم ـ النسيان إلى نفسه في غير ما موضع ، فقال : (( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني )) ، وقوله : (( إني لأَنْسَى- أو أُنَسَّى- لأَسُنَّ )) ، وغير ذلك .(3/51)
ومنها : ما اختاره القاضي عياض : أنه إنما أنكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نسبة النسيان إليه ؛ إذ ليس من فعله ؛ كما قال في الحديث الآخر : (( بئس ما لأحدكم أن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
يقول نسيت آية كَيْتَ وكيت ، بل هو نُسِّي )) ؛ أي : خلق فيه النسيان ، وهذا يبطله قوله [أيضًا] : (( أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت )). وأيضًا فلم يصدر ذلك عنه على جهة الزجر والإنكار ، بل على جهة النفي لما قاله السائل عنه . وأيضًا فلا يكون جوابًا لما سئل عنه .
والصواب حمله على ما ذكرناه ، والله أعلم . ولا يلزم عليه شيء من الاستبعادات .
وفي "الأم" : " تَوَشْوَشَ القوم" رواه أبو بحرٍ معجمةً ، وغيرُه مهملة ، وكلاهما بمعنى الحركة . قال ابن دُريد : وسْوَسَتُ الشيء - مهملاً - : حَرَّكَتُه ، وتوشوش القوم : تحرّكوا وهمسوا .
169 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِي ثَلاثِ رَكَعَاتٍ ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ ، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ ، وَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ ، فَقَالَ : (( أَصَدَقَ هَذَا ؟ )) قَالُوا : نَعَمْ ، فَصَلَّى رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/52)
وقوله في حديث عمران : " فقام إليه رجل ... فذكر له صنيعه " ، يعني : سلامه في ثالثة . وغضبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتمل أن يكون إنكارًا على المتكلّم ؛ إذ قد نَسَبَه إلى ما كان يعتقد خلافه ، ولذلك أقبل على الناس متكشِّفًا عن ذلك . وعلى هذا يدل ما في الرواية الأخرى : إذ قال فيها : " فقام رجل بسيط اليدين ، فقال : قصرت الصلاة يا رسول الله ؟ فخرج مغضبًا ". ويحتمل أن يكون غضبه لأمر آخر لم يذكره الراوي ، وكأن الأول أظهر .
وحديث عمران بن حصين هذا واقعة أخرى غير واقعة حديث أبي هريرة ، وقد توارد الحديثان على أن السجود للزيادة بعد السلام ، كما هو مشهور مذهب مالك ، فانتهضت حجتهُ والحمد لله .
---
وفي حديث ذي اليدين حجة لمالك على قوله : إن الحاكم إذا نسي حكمه فشهد عنده عدلان بحكم ؛ أمضاه ، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما : إنه لا يمضيه حتى يذكره ، وأنه لا يَقبل الشهادة على نفسه ، بل على غيره ، وهذا إنما يتم لمالك إذا سلم له أن رجوعه للصلاة إنما كان لأجل الشهادة ، لا لأجل تيقنه ما كان قد نسيه .
************
(53) باب ما جاء في سجود القرآن
170 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ قَالَ : رُبَّمَا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْقُرْآنَ ، فَيَمُرُّ بِالسَّجْدَةِ فَيَسْجُدُ بِنَا ازْدَحَمْنَا عِنْدَهُ ، حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا يَسْجُدَ فِيْهِ فِي غَيرِ صَلاةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب سجود القران(3/53)
قوله : " ربما قرأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن فيمر بالسجدة ، فيسجد بنا ، حتى ازدحمنا عنده " : هذا يدل على أن سجود القرآن أمر مشهور ، معمول به في عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد استمر العمل عليه ، [ ولذلك ] قال مالك : " الأمر عندنا : إن عزائم [سجود] القرآن ..." ، وبدليل فعل عمر وغيره . ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد اختلف العلماء في حكمه ، وعدده ، ومحله ، ووقته ، وشرطه ، فلنرسم في ذلك مسائل :
---
المسألة الأولى : ذهب أبو حنيفة إلى وجوبه عند قراءة موضع السجدة ، محتجًّا في ذلك بما في كتاب الله تعالى من الأمر بالسجود ؛ كقوله : { فاسجدوا لله واعبدوا } ، وقوله : { واسجد واقترب } ، وغير ذلك. وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا قرأ ابن آدم السجدة ، [ فسجد] اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله ! أُمِرَ ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنة ، وأمرت بالسجود فعصيت ، فلي النار )). وجمهور العلماء على أن سجود التلاوة ليس بواجب ، فالأولى أن يكون سنَّة ، وصرفوا ما ذكر [من الأمر بالسجود] إلى الصلاة الواجبة . واختلف أصحابنا هل هو سنة أو فضيلة ؟ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على قولين ، فإذا قلنا : إنه ليس بواجب ، فالأولى أن يكون سنة ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد داوم عليه وفعله في جماعة ، وفعله الناس بعده ، فتأكد أمره ، فيكون سنة ، والله أعلم .(3/54)
المسألة الثانية : واختلف في عدد سجدات القرآن ، فأقصى ما قيل في سجدات القرآن عددها : خمس عشرة ؛ أوّلها : خاتمة الأعراف ، وآخرها : خاتمة العلق ، قاله ابن حبيب من أصحابنا ، وابن وهب في رواية وإسحاق . وقيل : [ أربع عشرة ] ، قاله ابن وهب ، وأسقط ثانية الحج ، وهوقول أبي حنيفة وأهل الرأي ، وقول الشافعي ، إلا أنه أسقط سجدة [ ص ] ، وأثبت آخرة الحج ، وقيل : إحدى عشرة ، وأسقط آخرة الحج وثلاث المفصل ، وهو مشهور مذهب مالك وأصحابه ، وروي عن ابن عمر وابن عباس . وقيل : عشرة ، وأسقط آخرة الحج ، وص ، وثلاث المفصل ؛ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
ذُكر عن ابن عباس. وقيل : إنها أربع سجدات : الم تنزيل ، وحم تنزيل ، والنجم ، والعلق . وسبب الخلاف : اختلاف النقل في الأحاديث والعمل ، واختلافهم في الأمر الْمجَرَّد بالسجود في القرآن : هل المراد به سجود التلاوة ، أو سجود الفرض ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : وأما محله : فمهما قرأ القرآن ، ومرّ بموضع سجدة سجد إذا كان في وقتها على ما يأتي ، وإن كان في صلاة ففي النافلة إن كان منفردًا ، وفي جماعة يأمن التخليط فيها . فإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها ، فالمنصوص جوازه ، وقيل : لا يسجد فيها . وأما في الفريضة : فالمشهور عن مالك النهي عنه فيها ، سواء كانت صلاة سرٍّ أو جهرٍ ، جماعة أو فرادى ، وهو معلل بكونها زيادة في أعداد سجود(6) الفريضة . وقيل : هو معلل بخوف التخليط على الجماعة ، وعلى هذا لا يمنع منه الفرادى ، ولا الجماعة التي يأمن فيها التخليط .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/55)
المسألة الرابعة : وأما وقته ، فقيل : يسجد في سائر الأوقات مطلقًا ؛ لأنها صلاة لسبب ، وهو قول الشافعي وجماعة . وقيل : ما لم يسفر الصبح ، أو : ما لم تصفر الشمس بعد العصر . وقيل : لا يسجد بعد العصر ، ولا بعد الصبح . وقيل : يسجد بعد الصبح ما لم يسفر ، ولا يسجد بعد العصر . وهذه الثلاثة الأقوال في مذهبنا ، وسبب الخلاف : معارضة ما يقتضيه سبب قراءة السجدة من السجود المرتب عليها ، لعموم النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح ، واختلافهم في المعنى الذي لأجله نهي عن الصلاة في هذين الوقتين ، والله أعلم .
---
المسالة الخامسة : في شرطه . قال القاضي أبوالفضل عياض : لا خلاف أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة ؛ من طهارة حدث ونجس ، ونية ، واستقبال قبلة ، ووقت على ما تقدم . وهل يحتاج إلى تحريم ورفع يدين عنده ، وتكبير وتسليم ؟ فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر وبرفع يديه للتكبير لها ، ومشهور مذهب مالك أنه يكبر لها في الخفض والرفع في الصلاة ، واختلف عنه في التكبير لها في غير الصلاة ، وبالتكبير لذلك قال عامة الفقهاء ، ولا سلام لها عند الجمهور . وذهب جماعة من السلف وإسحاق بن راهويه : إلى أنه يسلم منها . وعلى هذا المذهب يتحقق أن التكبير
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في أولها للإحرام ، وعلى قرل من لا يسلم يكون للسجود فحسب.(3/56)
وقوله : " حتى ما يجد أحدنا مكانًا يسجد فيه " ، وفي لفظ آخر : "مكانًا لجبهته ". اختلف فيمن اعتراه ذلك ، فقال الداودي : مالك يرى لمن نزل به مثل ذلك أن يسجد إذا رفع غيره ، وكان عمر يرى أن يسجد على ظهر أخيه. واختلف في الخطيب يوم الجمعة يقرأ السجدة في خطبته ، فقال مالك يمرّ في خطبته ولا يسجد ، وقال الشافعي : ينزل ويسجد ، وإن لم يفعل أجزأه. وقد روي عن عمر في "الموطأ" ، وعن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنهما نزلا وسجدا ، وهو صحيح .
171 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ قَرَأَ : { وَالنَّجْمِ } فَسَجَدَ فِيهَا ، وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ ، غَيْرَ أَنَّ شَيْخًا أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ ، وَقَالَ : يَكْفِينِي هَذَا . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : " قرأ { والنجم } فسجد فيها " : كان هذا منه متقدمًا ، وكذلك قيل في سجود الانشقاق ، و{ اقرأ }. والذي استقر عليه العمل : السجود في العزائم الإحدى عشرة ؛ التي ليس في المفصل منها شيء .
وقوله : " غير أن شيخًا أخذ كفًّا من حَصىً " : هذا الشيخ هو أمية
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/57)
ابن خلف ، قتل يوم بدر كافرًا ، وإنما سجد ؛ لأنه روي أنه سجد حينئذ مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمون ، والمشركون ، والجن ، والإنس ، قاله ابن عباس. ورواه البزار : حتى شاع أن أهل مكة قد أسلموا ، وقدم من كان هاجر إلى أرض الحبشة لذلك ، وكان سبب سجودهم - فيما قال ابن مسعود - : أنها 172 - وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ؛ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ الإِمَامِ ؟ فَقَالَ : لا قِرَاءَةَ مَعَ الإِمَامِ فِي شَيْءٍ . وَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } فَلَمْ يَسْجُدْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت أزل سورة نزلت فيها سجدة. وروى أصحاب الأخبار والمفسرون : أن سبب ذلك : ما جرى على لسان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذكر الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم ، ولا يصحّ هذا من طريق النقل ولا العقل ، وأشهر طريق النقل فيه عن الكلبي ، وهو كذاب ، وأما العقل فلا يصدق بذلك لأمور مستحيلة ، قد عددها القاضي عياض في الشفاء.
وقول زيد : " لا قراءة مع الإمام في شيء " ؛ يعني : لازمة . وقد تقدم الكلام في ذلك .
وقول عطاء عن زيد : أنه زعم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرأ : { والنجم} فلم يسجدأ " يشكل بما قدمنا في الزعم : أنه القول غير المحقق ، ويزول ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
الإشكال بأن ما قدمناه هو الأصل في [وضعه] ، وقد يقال على الخبر المحقق ؛ كما قال الشاعر :
على الله أرزاق العباد كما زَعَمْ(3/58)
قال الهروي : زعم هنا بمعنى : أخبر ، ويجوز أن يقال : إن زعم ؛ بمعنى : ضمن ، ومنه الحديث : (( الزعيم غارم )). قلت : وهذا يصح في معنى البيت ، ويبعد أن يحمل عليه ما في الحديث . ويقال : زعُمَ ، و: زعَمَ ،
173 - وَعَن أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي{ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و{ َاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و : زَعِمَ ، بالضم ، والفتح ، والكسر في العين.
وهذا الحديث يدل على أن قوله تعالى في سورة { والنجم} : {فاسجدوا لله واعبدوا } ، إنه ألا يراد منه سجود التلاوة ، إذ لو كان ذلك ، لما تركه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولذلك قال مالك : إنها ليست من العزائم.
وحديث أبي هريرة في سجود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في : الانشقاق و: { اقرأ } حجة لابن وهب ومن قال بقوله ، وقد قدمنا أن ذلك كان من فعله متقدمًا ، وأن العمل استقر على ترك ذلك . ويصح الجمع بين الأحاديث المختلفة في سجدات المفصل بما قد روي عن مالك : أنه خَيَّر فيها ، والله أعلم .
*************
(54) باب كيفية الجلوس للتشهد
174 - عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا قَعَدَ فِي الصَّلاةِ جَعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى بَيْنَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ ، وَفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ .
زَادَ فِي رِوَايَةٍ : وَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى إِصْبَعِهِ الْوُسْطَى ، وَيُلْقِمُ كَفَّهُ الْيُسْرَى رُكْبَتَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيفية الجلوس للتشهد
---(3/59)
قوله : " وفرش قدمه اليمنى " ؛ هكذا الرواية ، ولا يصح غيرها نقلاً ، وقد أشكلت هذه اللفظة على جماعة ، حتى قال أبو محمد الخُشَنِي : صوابه : وفرش قدمه اليسرى ، ورأى أنه غلط ؛ لأن المعروف في اليمنى أنها منصوبة ، كما جاء في حديث ابن عمر من رواية أبي داود : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينصب اليمنى ويثني اليسرى ، وكذا جاء في البخاري من حديث أبي حميد قال : وإذا جلس في الركعة الآخرة جلس على رجله اليسرى ، ونصب اليمنى ، وقعد على مقعدته. والصواب حمل الرواية على الصحة وعلى ظاهرها ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الكَرَّة لم ينصب قدمه اليمنى ، ولا فتح أصابعه ، وإنما باشر الأرض بجانب رجله اليسرى ، وبسطها عليها ، إما لعذر ، كما كان يفعل ابن عمر حيث قال : إن رجليّ لا تحملاني ، وإما ليبين أن نصبها وفتح أصابعها(6) ليس بواجب ، وهذا هو الأظهر ، والله أعلم .
وقوله : " ووضع يده(7) اليسرى على ركبته اليسرى " ؛ يعني : بسطها عليها كما جاء في حديث ابن عمر(8) ، وهو معنى قوله في الرواية الأخرى : " ويلقم كفه اليسرى ركبته " مع تبديد أصابعه وتفريقها (9).
175 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ الْيُمْنَى الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ فَدَعَا بِهَا ، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى بَاسِطَهَا عَلَيْهَا .
وَفِي رِوَايَةٍ : وَعَقَدَ ثَلاثًا وَخَمْسِينَ ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/60)
وقوله : " ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى " ؛ يعني : مقبوضة . وعليه يدل قوله : " ووضع إبهامه على أصبَعِه الوسطى ".
---
وقوله في حديث ابن عمر : " وعقد ثلاثًا وخمسين " ، وقد بين هذا بيانًا شافيًا وائل بن حُجْر فيما رواه أبو داود قال : " وجعل حدّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ، ثم قبض اثنتين من أصابعه ، وحلّق حلقة ". وإلى ظاهر حديث وائل هذا ذهب بعض أهل العلم ، فقالوا بالتحليق ، وكرهه بعض علماء المدينة ، أخذًا بظاهر حديث ابن عمر ؛ حيث حكى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقد ثلاثًا وخمسين. ومن قال بالتحليق ؛ منهم من ذهب إلى أن التحليق برؤوس الأنامل ، وهو الخطابي . ومنهم من ذهب إلى أنه : هو أن يضع أنملة الوسطى بين عقدتي الإبهام ، والأمر قريب ، ويفيد [مجموع] الأحاديث التخيير.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " وأشار بإصبعه " ؛ يعني بها المسبحة ، وهي التي تلي الإبهام ، كما قال ابن عمر : و" أشار بها " ؛ معناه مدّها في القبلة. وهل حركها أم لا ؟ اختلفت الرواية في ذلك ، فزاد أبو داود في حديث ابن الزبير : " أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها " ، وإلى هذا ذهب بعض العراقيين ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فمنع من تحريكها ، وبعض أصحابنا ، ورأوا أن مدها إشارة إلى دوام التوحيد.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/61)
ومن حديث وائل بن حجر بعد قوله : " وحلَّق حلقة " : " ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها ". وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وأكثر أصحابنا . ثم من قال بالتحريك ، فهل يواليه أو لا يواليه ؟ اختلف فيه على قولين ، وسببه : اختلافهم في ماذا يعلل به ذلك التحريك . فأما من وَالَى التحريك ، فتأوّل ذلك بأنها مُذكَّرة بموالاة الحضور في الصلاة ، وبأنها مَقْمَعَة ومدفعة ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للشيطان . ومن لم يوالِ رأى تحريكها عند التلفُّظ بكلمتي الشهادة فقط . وتأوّل في الحركة : كأنها نطق [ تلك] الجارحة بالتوحيد ، والله أعلم .
وقد اختلف العلماء في المختار من كيفية الجلوس في الصلاة . فقال مالك : كل جلوس في الصلاة هو على هيئة واحدة ؛ وهو أن يفضي إلى الأرض بأيسر وركيه ، ويقعد على مقعدته ، ويضع قدمه اليسرى تحت ساقه اليمنى ، وينصب قدمه اليمنى مستقبلاً باطراف أصابعه القبلة ، تمسُّكًا بحديث ابن عمر ، وهو أنه علّم الجلوس في الصلاة كذلك ، وقال : هو سنة الصلاة ، وبمثله قال أبو حنيفة ، غير أنه يفرش قدمه اليسرى تحت مقعدته ، ويقعد عليها ، وبهذا قال الشافعي في الجلسة الوسطى ، وبمذهب مالك قال في الآخرة ، وفرق بينهما تمسُّكًا بحديث أبي حميد الساعدي الذي خرّجه البخاري ، فإن فيه قال : " وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ، ونصب ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأخرى ، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدّم رجله اليسرى ، ونصب اليمنى ، وقعد على مقعدته ". وقال أبو داود : " وإذا جلس في الركعة الرابعة أفضى بوركه إلى الأرض ، وأخرج قدميه من ناحية واحدة " ، والتمسك بهذا الحديث أولى ؛ فإنه نصٌّ في موضع الخلاف .(3/62)
**************
---
(55) باب كم يسلم من الصلاة ، وبأي شيء كان يعرف
انقضاء صلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
176 - عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ ، أَنَّ أَمِيرًا كَانَ بِمَكَّةَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ : أَنَّى عَلِقَهَا ؟! إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَفْعَلُهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كم يسلم من الصلاة
قوله : " إن أميرًا كان بمكة يسلّم تسليمتين " ؛ هذا الأمير هو فيما أحسب : الحارث بن حاطب الجمحي ، وهو - والله أعلم - الذي ذَكر أبو داود : أن أمير مكة خطب فقال : " عهد إلينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ننسك لرؤيته ، فإن لم نره ، وشهد شاهدا عدلٍ ، نسكنا بشهادتهما ، والله أعلم .
وقول عبد الله بن مسعود : " أنَّى عَلِقَها ..." ؛ أي : كيف حفظها ، وأصله من علاقة الحب . وهذا الاستبعاد من ابن مسعود يدل على أن عمل الناس كان على تسليمة واحدة . وقد اختلف العلماء في ذلك في حق الإمام والمأموم والمنفرد . فذهب الجمهور إلى أن الفرض في حق جميعهم تسليمة ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/63)
واحدة ، وذهب أحمد بن حنبل وبعض أهل الظاهر إلى أن فرضهم اثنتان . قال الداودي : وأجمع العلماء على أن من سلّم واحدة فقد تَمّت صلاته . وعلى هذا فالذي ذُكر عن أحمد وأهل الظاهر محمول على أن التسليمة الثانية فرض ليست بشرط ، فَيَعْصي من تركها ، وبقع التحلل بدونها . فإذا تنزَّلنا على قول من قال : إن الفرض واحدة ، فهل يختار زبادة عليها لجميعهم ، أو فيه تفصيل ؟ اختلف فيه ، فذهب الشافعي ومالك في غير المشهور عنه : أنه يستحب للجمع تسليمتان ، وذهب مالك في المشهور عنه : إلى أن الإمام والمنفرد يقتصران على تسليمة واحدة ، ولا يزيدان عليها . وأما المأموم فيسلم ثانية ، يردّ بها على الإمام ، فإن كان عن يساره من سلّم عليه ، فهل ينوي بالثانية الرد على الإمام وعليه ، أو يسلم ثلاثًا ينوي بها الردّ على من سلم عليه ممن على يساره ؟ قولان . ثم إذا قلنا بالثالثة فهل يبدأ بعد الأولى بالإمام ، أو بمن على يساره ، أو هو مخير ؟ ثلاثة أقوال . وسبب الخلاف : اختلاف الأحاديث ؛ وذلك أن في حديث ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يسلّم تسليمتيْن . قال النسائي في حديث ابن مسعود : " حتى ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يرى بياض خده الأيمن ، وبياض خده الأيسر". وفي حديث عائشة وسمرة بن
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جندب : "كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ، يميل إلى الشق الأيمن شيئًا. وأحاديث التسليمتين أصح ، وأحاديث التسليمة الواحدة عمل عليها أبو بكر وعمر .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/64)
ولم ير مالك في السلام من الصلاة زيادة : " ورحمة الله وبركاته " تمسكًا بلفظ التسليم ، ورأى ذلك الشافعي تمسكًا بحديث وائل بن حجر ؛ قال : صليت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فكان يسلم عن يمينه : (( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته )) ، وفي حديث ابن مسعود : (( السلام عليكم ورحمة الله )) فقط . ومعنى قول مالك - والله أعلم - : " إن التحلل يقع بالاقتصار على لفظ التسليم " ، ولا يَشترِط في ذلك زيادة . ثم هل يشترط في السلام لفظ معين ، فلا يجزئ غيره ، أو يجوز كل ما كان مأخوذًا من لفظ السلام ؟ وبالأول قال مالك تمسكًا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تحريم الصلاة التكبير ، وتحليلها التسليم )) ، والألف واللام حوالة على معهودِ سلامِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وكل من روى سلامه عيَّن لفظه ، فقال : " السلام عليكم " ، وبالثاني قال الشافعي تمسكًا بلفظ التسليم ، وحملاً له على عموم ما يشتق منه ، وبإطلاق قول الراوي : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يسلم . وكل ما ذكرنا من أصول السلام وفروعه إنما هو على مذهب من يرى أنه لا يتحلل من الصلاة إلا 177 - وَعَن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِيه قَالَ : كُنْتُ أَرَى رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وعَنْيَسَارِهِ حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ .
178 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلا بِالتَّكْبِيرِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالسلام وهم الجمهور . وقد ذهب أبو حنيفة والثوري والأوزاعي إلى أنه ليس من فروضها ، وأنه سنة ، وأنه يتحلل منها بكل فعل أو قول ينافيها . وذهب الطبري إلى التخيير في ذلك ، والأحاديث المتقدمة كلها ترد عليهم ، والله أعلم.
---(3/65)
وقول سعد : " كنت أرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده " : هذا حكم الإمام والمنفرد على قول من يقول : إنهما يسلمان اثنتين. وأما من قال : يسلم واحدة ، فحقه أن يبدأ قبالة وجهه ويتيامن ، كما روي في حديث عائشة وسمرة(5) ، وقد ذكرناهما ، وذكرنا الاختلاف في المأموم .
وقول ابن عباس : " كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتكبير" ؛ قال الطبري : فيه الإبانة عن صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء ، يكبر
179 - وَعَنْهُ : إِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ ، كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد صلاته ويكبر من رراءه . قال غيره : ولم أر أحدًا من الفقهاء قال بهذا ، إلا ما ذكره ابن حبيب في "الواضحة" : كانوا يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء ، تكبيرًا عاليًا ثلاث مرات ، وهو قديم من شأن الناس . وعن مالك : أنه مُحْدَث .
وقوله : " كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته" : هذا يدل على أن ابن عباس لم يكن يحضر معهم ، وهذا كان لصغره يومئذ ، أو لعذر آخر ، والله أعلم .
*************
(56) باب الاستعاذة في الصلاة من عذاب القبر وغيره
---(3/66)
180 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ ، وَهِيَ تَقُولُ : هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ ؟ قَالَتْ : فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَقَالَ إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هَلْ شَعَرْتِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ ؟ )) قَالَتْ عَائِشَةُ : فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَعْدُ يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ : فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الاستعاذة في الصلاة من عذاب القبر وغيره
قول اليهودية : " إنكم تفتنون في القبور " ؛ أي : تعذبون كما قال الله تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } ؛ أي : عذبوهم . وقد قدمنا أن الفتنة تنصرف على وجوه ، وأن أصلها الاختبار .
وهذا الحديث وما في معناه يدل على صحة اعتقاد أهل السنة في عذاب القبر ، وأنه حق ، ويرد على المبتدعة المخالفين في ذلك ، وسيأتي إن شاء الله . وارتياع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند إخبار اليهودية بعذاب القبر إنما هو على جهة استبعاد ذلك للمؤمن ، إذْ لم يكن أوحي إليه في ذلك شيء ، ولذلك حققه 181 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ ، يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ )).(3/67)
وَفِي رِوَايَةٍ : (( إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الآخِرِ فَلْيَتَعَوَّذْ .... )) الحديث.
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على اليهود ، فقال : (( إنما تفتن يهود )) ، على ما كان عنده من علم ذلك . ثم أخبر أنه أوحي إليه بوقوع ذلك ، وحينئذ تعوذ منه ، ولما استعظم الأمر واستهوله أكثر الاستعاذة منه ، وعلّمها ، وأمر بها ، وبايقاعها في الصلاة ؛ ليكون أنجح في الإجابة ، وأسعف في الطَّلبة ؛ إذ الصلاة من أفضل القرب ، وأرجى للاجابة ، وخصوصًا بعد فراغها ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء )). وفي هذا الحديث حجة على أبي حنيفة ؛ حيث منع الدعاء في الصلاة إلا بألفاظ القرآن .
وقوله : (( ومن فتنة المحيا والممات )) ؛ أي : الحياة والموت ، ويحتمل زمانَ ذلك ؛ لأن ما كان معتل العين من الثلاثي فقد يأتي [منه] المصدر ، والزمان والمكان ، بلفظ واحد ، ويريد بذلك : محنة الدنيا وما بعدها . 182 - عَنْ طَاوس ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ قُولُوا : (( اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ )). قَالَ مُسْلِم : بَلَغَنِي أَنَّ طَاوُسًا قَالَ لابْنِهِ : أَدَعَوْتَ بِهَا فِي صَلاتِكَ ؟ فَقَالَ : لا ، قَالَ : أَعِدْ صَلاتَكَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/68)
ويحتمل أن يريد بذلك : حالة الاحتضار وحالة المساءلة في القبر ، فكأنه لما استعاذ من فتنة هذين المقامين ، سأل التثبت فيهما ، كما قال تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة } ، والله أعلم .
---
وقد تقدم القول في المسيح الدجال في الإيمان . وأَمْرُ طاووس ابنَه باعادة الصلاة لَمّا لم يتعوذ من تلك الأمور ؛ دليل على أنه كان يعتقد وجوب التعوذ منها في الصلاة ، وكأنه تمسك بظاهر الأمر بالتعوذ منها ، وتأكد ذلك بتعليم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياها للناس ، كما يعلمهم السورة من القرآن ، وبدوام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك ، ويحتمل أن يكون ذلك إنما أمره بالإعادة تغليظًا عليه ؛ لئلا يتهاون بتلك الدعوات ، فيتركها ، فيُحْرَم فائدتها وثوابها ، والله أعلم .
183 - عَن عَائِشَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ )). قَالَتْ : فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ : مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ؟ فَقَالَ : (( إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " المأثم " : ما يجر إلى الذَّمّ والعقوبة . " والمغرم " : الغُزْمُ . وقد نبه في الحديث على الضرر اللاحق من الغرم ، والله أعلم .
**************
(57) باب قدر ما يقعد الإمام بعد السلام وما يقال بعده(3/69)
184 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ : (( اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قدر ما يقعد الإمام بعد السلام
---
قول عائشة : " كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا سلم لم يقعد إلا مِقْدَارَ ما يقول : اللهم أنت السلام ..." الحديث ؛ دليل لمالك على كراهيته للإمام المقام في موضه الذي صلى فيه بعد سلامه ، خلافًا لمن أجاز ذلك ، والصحيح : الكراهة لهذا الحديث ، ولما رواه البخاري من حديث أم سلمة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا سلم يمكث في مكانه يسيرًا. قال ابن شهاب : فنُرَى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء . ووجه التمسك بذلك أنهم اعتذروا عن المقام اليسير الذي صدر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وبينوا وجهه ، فدل ذلك على أن الإسراع بالقيام هو الأصل والمشروع ، وأما القعود فإنما كان منه ليستوفي ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/70)
من الذكر ما يليق بالسلام الذي انفصل به من الصلاة ، ولينصرف النساء . وقد روى البخاري أيضًا عن سمرة بن جندب : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا صلى أقبل بوجهه ، وهذا يدل على أن إقباله على الناس كان متصلاً بفراغه ، ولم يكن يقعد . وقد روى أبو أحمد ابن عدي ما هو أنصّ من هذا كله عن أنس قال : " صليت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فكان ساعة يسلم يقوم ، ثم صليت مع أبي بكر ، فكان إذا سلم وثب كأنه يقوم عن رَضْفَة ". وهذا الحديث وإن لم يكن في الصحة مثل ما تقدم ، فهو عاضد للصحيح ، ومبيِّن لمضمونه . وإذا كره له القعود في موضع صلاته ، فأحرى وأولى أن تكره له الصلاة فيه. وقد روى أبو داود عن المغيرة بن شعبة ، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يصلِّ الإمام في الموضع الذي صلّى فيه حتى يتحول )). ويعتضد هذا من
.....................................................................
---
185 - وعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاثًا ، وَقَالَ : (( اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ )). قَالَ الأَوْزَاعِيُّ : تَقُولُ : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جهة المعنى : بأن ذلك الموضع إنما استحقه الإمام للصلاة التي يفتدى به فيها ، فإذا فرغت ساوى الثاس ، وزال حكم الاختصاص ، والله أعلم .(3/71)
وقوله : ((اللهم أنت السلام ومنك السلام )) ؛ السلام الأول : من أسماء الله تعالى ، كما قال تعالى : { السلام المؤمن المهيمن }. والسلام الثاني : السلامة ، كما قال تعالى : { فسلام لك من أصحاب اليمين }(4) ، ومعنى ذلك : أن السلامة من المعاطب والمهالك إنما تحصل لمن سلّمه الله تعالى ، كما قال : { وإن(5) يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله }(6).
وقوله : (( تباركت ذا الجلال والإكرام )) ؛ تباركت : تفاعلت ؛ من البركة ، وهي الكثرة والنماء ، ومعناه : تعاظمت ؛ إِذْ كثرث صفات جلالك وكمالك . و(( ذا الجلال )) : ذا العَظَمة والسلطان ، وهو على حذف حرف النداء ، تقديره : يا ذا الجلال . و(( الإكرام )) : الإحسان وإفاضة النعم .
186 - وَعَنِ الْمُغِيرَة بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ )).
---
187 - وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ : كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلابِاللَّهِ ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَلا نَعْبُدُ إِلا إِيَّاهُ ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . وَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ. إِذَا سَلَّم .(3/72)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث المغيرة : ((ولا ينفع ذا الْجَدِّ منك الجدُّ )) ؛ الجد : الحظ والغنى ، ومعناه : أن ذا الغنى لا ينتفع بغناه ، ولا يحول بينه وبين ما يريده الله تعالى به ؛
---
188 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالُوا : ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ ! فَقَالَ وَمَا ذَاكَ ؟ قَالُوا : يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي ، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ ، وَيُعْتِقُونَ وَلا نُعْتِقُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ ، وَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ )) ، قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : (( تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً )). قَالَ أَبُو صَالِحٍ : تُمَّ رَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالُوا : سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا ، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذ لا حول ولا قوة إلا به . والجد ينصرف في اللغة على أوجه متعددة .(3/73)
وقول المهاجرين : " ذهب أهل الدثور بالأجور " واحد الدثور : دَثْرٌ ، وهو المال الكثير ، ومنه الحديث الآخر : " وابعث راعيها في الدَّثْرِ ". ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكذلك الدِّبْرُ بكسر الدال ، وبالباء بواحدة. قال ابن السكيت : الدَّثْرُ : المال الكثير . ووقع في السيرة في خبر النجاشي : " دَبْرٌ من ذهب " ، بفتح
---
189 - وَعَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/74)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } استدل به من يفضل الغنى على الفقر ، وهي مسألة اختلف الناس فيها على خمسة أقوال : فمن قائل بتفضيل الغنى ، ومن قائل بتفضيل الفقر ، ومن قائل بتفضيل الكفاف ، ومن قائل رابع يَرُدُّ هذا التفضيل إلى اعتبار أحوال الناس في ذلك ، ومن قائل خامس : توقف ، ولم يفضل واحدًا منهما على الآخر . والمسألة لها غور ، وفيها أحاديث متعارضة ، ولعلنا نتكلم عليها تفصيلاً إن شاء الله تعالى . وقد كتب الناس فيها كتبًا كثيرة ، وأجزاء عديدة ، والذي يظهر لي في الحال : أن الأفضل من ذلك ما اختاره الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولجمهور صحابته رضوان الله تعالى عليهم ، وهو الفقر غير [المدقع]. ويكفيك من هذا : (( أن فقراء ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
المسلمين - كذا رُوي : المسلمين- يدخلون الجنة قبل أغنيانهم بخمسمائة عام )) ، و(( أصحاب الأموال محبوسون على قَنْطَرة بين الجنة والنار يُسألون عن فضول أموالهم )). وعلى هذا فيتعين تأويل قوله [ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ] : (( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء )) ، وقد تأوله بعضهم بأن قال : إن الإشارة في قوله : "ذلك " راجعة إلى الثواب المترتب على الأعمال [ التي بها](4) يحصل التفضيل عند الله ، فكأنه قال : ذلك الثواب الذي أخبرتكم به ، لا يستحقه الإنسان 190 - عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مُعَقِّبَاتٌ لا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ أَوْ فَاعِلُهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ : ثَلاثٌ وَثَلاثُونَ تَسْبِيحَةً ، وَثَلاثٌ وَثَلاثُونَ تَحْمِيدَةً ، وَأَرْبَعٌ وَثَلاثُونَ تَكْبِيرَةً )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/75)
بحسب الأذكار ، ولا بحسب إعطاء الأموال ، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله أعلم . ولم يذكر في هذه الرواية تمام المائة ، وذكره في الرواية الأخرى ، وعيّن أنه التهليل . وفي رواية كعب : أن زيادةَ تكبيرةِ كمّلت المائة . وهذا يدل على عدم تعيّن ما تُكُمِّلَ به المائة ، بل أي شيء قال من ذلك حصل له ذلك الثواب ، والله أعلم .
وقد اتفق مساق هذه الأحاديث والتي قبلها على أن أدبار الصلوات أوقات فاضلة للدعاء والأذكار ، يرتجى فيها القبول ، ويُبْلَغُ ببركة التفرغ لذلك إلى كل مأمول ، وتسمى هذه الأذكار : معقِّبات ؛ لأنها تقال عَقِيب
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
الصلوات ، كما قال في حديث أبي هريرة : " دبر كل صلاة " ؛ أي : آخرها. ويقال : دُبر بضم الدال ، وحكى أبو عمر [ المطرِّز ] في " اليواقيت " : دَبْر كل شيء بفتح الدال : آخر أوقات [الشيء] : الصلاة وغيرها . قال : وهذا هو المعروف في اللغة ، قال : وأما الجارحة فبالضم . وقال الداودي عن ابن الأعرابي : دُبُر الشيء ودَبْرُهُ بالوجهين : آخر أوقات الشيء ، والدِّبار جمعه ، ودابر كل شيء : آخره أيضًا . وأما اجتهاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الاستعاذة بما استعاذ ، وفي الدعاء بما دعا - وإن كان قد أُمِّنَ قبل الاستعاذة ، وأُعطي قبل السؤال - فوفاء بحق العبودية ، وقيام بوظيفة الشكر وبحق العبادة ، كما قال : (( أفلا أكون عبدًا شكورًا )) .
************
(58) باب السكوت بين التكبير والقراءة في الركعة الأولى وما يقال فيه(3/76)
191 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةَ سَكَتَ هُنَيَّةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : (( أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب السكوت بين التكبير والقراءة
---
قوله : " سكت هُنَيْئَةً قبل أن يقرأ " ؛ " هُنَيْئَةً " بضم الهاء ، وياء التصغير ، وهمزة مفتوحة -كحُطَيْئَة - رواية الجمهور ، وعند الطبري : هنيهة ، يبدل من الهمزة ، تصغير هَنَّه ، وَهَنٌ ، وَهَنَةٌ ؛ كناية عن أسماء الأجناس ، هذا هو 192 - وَعَنْهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ بِـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَلَمْ يَسْكُتْ .
قال الشيخ الفقيه أبو العباس : ذكره مسلم منقطعًا ، فقال : وحُدِّثت عن يحيى بن حسان ، قلت : وهو أحد الأربعة عشر حديثًا المنقطعة الواقعة في كتابه ، وقد وصله أبو بكر البزار .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعروف . وقد رأيت لأبي الحسن بن خروف : وهَنٌ ؛ كناية عن كل اسم نكرة عاقل ؛ كفلان في الأعلام . وفيه لغتان : هَنُوك ، وهَنُك .(3/77)
وسكوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا إنما كان للدعاء ، كما بينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلا حجة فيه لمن يرى أنه سكوت الإمام ، حتى يقرأ من خلفه الفاتحة ، وبدليل أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا يسكت إذا نهض في الركعة الثانية . وهذا الدعاء منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جهة المبالغة في طلب غفران الذنوب ، وتبرئته منها ، [ وقد تقدم القول في باقي الحديث ].
************
(59) باب فضل التحميد في الصلاة
193 - عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَدَخَلَ فِي الصَّفِّ ، وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلاتَهُ قَالَ : (( أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ ؟ )) فَأَرَمَّ الْقَوْمُ . فَقَالَ : (( أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا )) ، فَقَالَ رَجُلٌ : جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا . فَقَالَ : (( لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا )).
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل التحميد في الصلاة
قوله : " حَفَزَه النَّفس " ؛ أي : كدّه لسرعة سيره ليدرك الصلاة مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وفيه دليل على أن من أسرع عند إقامة الصلاة ليدركها لم يفعل محرَّمًا ، لكن الأولى به الرفق والسكينة ، كما يأتي بعد هذا إن شاء الله .
وقوله : " فَأَرَمَّ القَوْمُ " الرواية المشهورة فيه بالراء والميم المشددة ، ومعناه : سكتوا ، مأخوذ من المرمّة ، [وهي] الشَّفَة ؛ أي : أطبقوا شفاههم. ورواه بعضهم في غير " الأم " : فَأَزَمَ ، بزاي مفتوحة ، وميم مخففة ، مأخوذ(3/78)
194 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنِ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا ؟ )) قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : (( عَجِبْتُ لَهَا ! فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ )). قَالَ ابْنُ عُمَرَ : فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ ذَلِكَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الأَزْمِ ، وهو شد الأسنان بعضها على بعض ، ومعناه : سكتوا .
---
وقوله : (( رأيت اثني عشر ملكًا يبتدرونها ، أيهم يرفعها )) ، يبتدرونها : يستبقونها ، ورفعها إلى المحل الذي ترفع إليه الأعمال ، وقد روى البخاري من حديث رفاعة بن رافع قال : كنا نصلي يومًا وراء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما رفع رأسه من من الركعة قال : (( سمع الله لمن حمده )) ، قال رجل من ورائه : ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ، فلما انصرف قال : (( من المتكلم ؟ )) قال : أنا ، قال : (( رأيت بضعًا وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أَوّلُ )) . ومساق هذا الحديث يدل على أنه حديث آخر غير حديث أنس المتقدم ؛ فإن ذلك حمد الله على إدراكه الصلاة مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا حمد الله عند الرفع من الركوع ، وعند قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( سمع الله لمن حمده )) ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/79)
وحينئذ لا يكون بينهما تعارض ، وهذا أولى من أن نقدِّرهما قضية واحدة ، ونتعسَّف إما في التأويل ، أو في الحمل على الرواة ، والله أعلم .
وقوله في حديث ابن عمر : " الله أكبر كبيرًا " قيل : هو منصوب على إضمار الفعل ؛ أي : كبّرت كبيرًا . وقيل : على القظع . وقيل : على التمييز.
*************
(60) باب إتيان الصلاة بالسكينة ، ومتى تقام ؟ ومتى يقام لها ؟
وإتمام المسبوق
195 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلَّوْا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا )).
زاد في أخرى : (( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلاةِ فَهُوَ فِي صَلاةٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إتيان الصلاة بالسكينة
---
قوله : (( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون )) ، أصل السعي : الجري ، ومنه قوله تعالى : { يأتينك سعيًا }. وقد يكون السعي : العمل ؛ كقوله تعالى : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها } ، وعلى هذا الثاني حمل مالك قوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله }. وقد اختلف العلماء فيمن سمع الإقامة : هل يسرع أم لا ؟ فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع ، وإن خاف فوت الركعة ، تمسُّكًا بهذا الحديث ، ونظرًا إلى المعنى ؛ وذلك أنه إذا 196 - وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ فَلا يَسْعَ إِلَيْهَا أَحَدُكُمْ ، وَلَكِنْ لِيَمْشِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/80)
أسرع انبهر [ فتشوّش] عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها . وذهب جماعة من السلف ؛ منهم : ابن عمر وابن مسعود في أحد قوليه : إلى أنه إذا خاف فواتها أسرع ، وقال إسحاق : يسرع إذا خاف فوت الركعة. وروي عن مالك نحوه ، وقال : لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس . وتأوله بعضهم على الفرق بين الراكب والماشي ؛ لأن الراكب لا ينبهر كما ينبهر الماشي ، والقول الأول أظهر .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : (( وأتوها تمشون عليكم السكينة )) : بنصب "السكينة" على الإغراء ، كأنه قال : الزموا السكينة ، والسكينة والوقار اسمان لِمُسمّىً واحد ؛ لأن السكينة من السكون ، والوقار من الاستقرار والتثاقل ، وهما بمعنى واحد. وقد علل ملازمة الوقار بأن الماشي إلى الصلاة هو في الصلاة. ومعناه : أنه لما خرج من بيته إلى المسجد يريد الصلاة كان له حكم الداخل في الصلاة من الوقار حتى يتم له التشبه به ، فيتحصل له ثوابه . وفي كتاب أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( من توضأ فأحسن الوضوء ثم جاء إلى 197 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَسَمِعَ جَلَبَةً فَقَالَ : (( مَا شَأْنُكُمْ ؟ )) قَالُوا : اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاةِ ، قَالَ : (( فَلا تَفْعَلُوا ، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاةَ فَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلَّوْا ، وَمَا سَبَقَكُمْ فَأَتِمُّوا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله من الأجر مثل أجر من حضرها وصلاها ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا )) .(3/81)
وقوله : (( ما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فاتموا )) ، وفي الرواية الأخرى : ((صل ما أدركت ، واقض ما سبقك )) ، واختلف العلماء في الإتمام والقضاء المذكورين في هذا الحديث : هل هما بمعنى واحد ، أو بمعنيين ؟ وترتب على هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل : هل هو أول صلاته ، أو آخرها ؟ على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه أول صلاته ، وأنه يكون بانيًا عليه في الأفعال والأقوال ، وإليه صار جمهور السلف والعلماء : الشافعي وغيره .
وثانيها : أنه آخر صلاته ، رأنه يكون قاضيًا في الأقوال والأفعال ، وهو مذهب أبي حنيفة . قال أبو محمد عبد الوهاب : وهو مشهور مذهب مالك .
---
198 - وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ ، فَلا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي )).
199 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ تُقَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَقَامَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وثالثها : أنه أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال ، فيبني عليها ، وآخرها بالنسبة إلى الأقوال ، فيقضيها ، وكأن هذا جمعٌ بين [الخبرين]. وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن مالك وأصحابه . وسبب الخلاف ما أشرنا إليه . فتفهم .
وقوله : (( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني )) : ظاهره أن الصلاة إلى كانت تقام قبل أن يخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بيته ، ويعارضه حديث بلال : أنه ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/82)
كان لا يقيم حتى يخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ووجه الجمع : أن بلالاً كان يراقب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فيرى أوّل خروجه قبل أن يراه مَنْ هناك ، فيشرع في الإقامة إذ ذاك ، ثم لا يقوم الناس حتى يروا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم لا يقوم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقامه حتى يُعدِّلوا صفوفهم . وبهذا الترتيب يصح الجمع بين الأحاديث المتعارضة في هذا المعنى . وقد اختلف السلف والعلماء في متى يقوم الناس إلى الصلاة ؟ ومتى يكبر الإمام ؟ فذهب مالك ، وجمهور العلماء إلى أنه ليى لقيام الناس حد ، لكن استحب عامتهم القيام إذا أخذ المؤذن في الإقامة ، وكان أنس يقوم إذا قال المؤذن : قد قامت الصلاة. وذهب الكوفيون إلى أنهم يقومون إذا قال : حي على الصلاة ، فاذا قال : قد قامت الصلاة كبر الإمام . وحكي عن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز : إذا قال المؤذن : الله أكبر وجب القيام ، وإذا قال : حي على الصلاة اعتدلت الصفوف ، فاذا قال : لا إله إلا الله كبّر الإمام . وذهب عامة الأئمة إلى أنه لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة .
200 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ بِلالٌ يُؤَذِّنُ إِذَا دَحَضَتِ الشَّمْسِ ، فَلا يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَإِذَا خَرَجَ أَقَامَ الصَّلاةَ حِينَ يَرَاهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " كان بلال يؤذن إذا دحضت" ؛ أي : زالت عن كبد السماء . وأصل الدَّحَض : الزلق ، وهذا كما قال في الحديث الآخر : " كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي الظهر إذا دحضت [الشمس]" ؛ أي : زالت. وقال الهروي في الحديث الأول : إذا انحطت للغروب ؛ لأن الشمس حينئذ يبين زَلَقُها بالكليّة ، والأول أولى ، والله أعلم .
************
(61) باب من أدرك ركعة من فعل الصلاة أو وقتها فقد أدركها(3/83)
201 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ مَعَ الإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ )).
---
وَفِي روَايَةٍ : (( فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ كُلَّهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من أدرك ركعة من فعل الصلاة أول وقتها
وقوله : (( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها )) : ظاهر هذا الحديث لا يصح ، بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فاتموا )) ، وبفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث فاتته ركعة من صلاته خلف عبد الرحمن بن عوف ، فلما سلم عبد الرحمن قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصلى الركعة التي سبقه بها . وقد روى هذا الحديث أبو بكر البزار ، وقال : (( فقد أدرك الصلاة كلها ، إلا أنه يقضي ما فاته )) ، ولا خلاف في ذلك ، فتعيّن تأويل الحديث الأول . وقد
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تأوله بعض أصحابنا على تأويلين :
أحدهما : أنه أدرك فضل الصلاة كلها. وقد ذكر أبو عمر في "التمهيد" هذا الحديث ، ولفظه : (( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الفضل )) ، وقد رواه أبو أحمد بن عدي ، وقال : (( فقد أدرك فضل الجماعة )). والصحيح اللفظ ا لأول .
والتأويل الثاني : أن معناه أنه أدرك حكم الصلاة ؛ أي : يلزمه من أحكام الصلاة ما لزم الإمام من الفساد والسهو وغير ذلك .
ويؤيد هذا التأويل : قوله : "مع الإمام ". وهذا اللفظ يبطل على داود وغيره قوله : إن هذا الحديث مردود إلى إدراك الوقت الذي يدل عليه قوله : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/84)
((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر )) ، وهذا ليس بصحيح من قولهم ، بل الحديثان مختلفان ، يفيدان فائدتين كما قررناه. ثم إذا تنزلنا على التأويل الأول - وهو إدراك فضل الجماعة - ، فهل يكون ذلك الفضل مضاعفًا كما يكون لمن حضرها من أولها ، أو يكون غير مضاعف ؟ اختلف فيه على قولين . وإلى التضعيف ذهب أبو هريرة وغيره من السلف ، وكذلك إن وجدهم قد سلموا عند هؤلاء كما قدمنا من ظاهر حديث أبي داود عن أبي هريرة ، حيث قال : (( أعطاه الله عز وجل من الأجر مثل أجر من حضرها وصلاها )). وإلى عدم التضعيف ذهبت طائفة أخرى ، وإلى هذا يشير قول أبي هريرة : "ومن فاته قراءة أم القران فقد فاته خير كثير ".
202 - وَعَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم اختلفوا أيضًا : هل يكون مدركًا للحكم ، أو للفضل ، أو للوقت بأقل من ركعة ؟ فذهب مالك وجمهور الأئمة - وهو أحد قولي الشافعي - إلى أنه لا يدرك شيئًا من ذلك باقل من ركعة ، متمسِّكين بلفظ الركعة . وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي في القول الآخر إلى أنه بالإحرام يكون مدركًا لحكم الصلاة . واتفق هؤلاء على إدراكهم العصر بتكبيرةٍ قبل غروب الشمس . واختلفوا في الظهر ، فعند الشافعي في أحد قوليه : هو مدرك بالتكبيرة لهما ؛ لاشتراكهما في الوقت ، وعنه : أنه بتمام القامة للظهر يكون قاضيًا لها بَعْدُ .
---(3/85)
وقوله : (( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر )) : هذا محمول عند مالك وأصحابه على أصحاب الأعذار ؛ كالحائض تطهر ، والمغلوب يفيق ، والصبي يبلغ ، والكافر يسلم ، والمسافر يقدم ، أو الحاضر يسافر وقد نسي صلاة . والذي حملهم على ذلك : رَوْمُ الجمع بين ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأحاديث المتعارضة في هذا الباب ؛ وذلك أنه قد تقرر في حديث جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وفي حديث أبي موسى الأشعري ، وعمرو بن العاص وغيرهم : أن آخر وقت العصر إنما هو المثلان ، أو إذا اصفرت الشمس- على اختلاف الألفاظ - ، وقوله : (( الوقت فيما بين هذين )). ثم قد جاء من حديث أنس التهديد والذم لمن يؤخر العصر إلى أن تكون الشمس بين قرني الشيطان. وظاهر هذه الأحاديث يدل على أن ما بعد هذه الحدود ليس وقتًا للصلاة ، ولا يكون مُوقِعُها فيها مدركًا لها ، وظاهر الحديث الأول : أنه يكون مدركًا. فرأى أصحابنا أن الوقت الأول المحدود ، وهو ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوقت الأصلي لكافة المكلفين ، وهم السالمون عن الأعذار ، وأن الوقت الثاني لأصحاب الأعذار المذكوربن . وهذه طريقة في الجمع حسنة ، والجمع أولى من الترجيح ، غير أن أصحابنا خرموا هذا الأصل ؛ حيث جعلوا من ترك الصلاة متعمدًا حتى بلغ بها إلى وقت الضرورة فصلاّها مؤدِّيًا ، مع أنه قد عصى ، وذُمَّ بإخراج الصلاة عن آخر وقت توسعتها . وإذا كان هذا ، فلا معنى لتخصيصه بأصحاب الأعذار .
---(3/86)
ثم هذه الركعة التي يدركون بها الوقت ، هي قدر ما يكبر فيه للإحرام ، ويقرأ أم القران قراءة معتدلة ، ويركع ، ويرفع ، ويسجد سجدتين يفصل بينهما ، ويطمئن في كل ذلك - على قول من أوجب الطمأنينة - ، وعلى قول من لا يوجب قراءة أم القران في كل ركعة ، يكفيه قدر تكبيرة الإحرام والوقوف لها . وأشهب لا يراعي إدراك السجود بعد الركعة . وسبب الخلاف : هل المفهوم من اسم الركعة الشرعية ، أم اللغوية ؟ وأما الركعة التي يدرك بها فضيلة الجماعة وحكمها ، بأن يكبر لإحرامه قائمًا ، ثم يركع ويمكن يديه [من] ركبتيه قبل رقع الإمام رأسه ، وهذا مذهب الجمهور : 203 - وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : (( مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ سَجْدَةً ....)) ، وذَكرَ نحوه ، وفِيهِ : (( وَالسَّجْدَةُ إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَةُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مالك وغيره . وروي عن أبي هريرة : أنه لا يعتد بالركعة مالم يدرك الإمام قائمًا قبل أن يركعها [ فيركعهما] معه ، وروي معناه عن أشهب . وروي عن جماعة من السلف : أنه متى أحرم والإمام راكع أجزأه ، وإن لم يدرك الركوع ، وركع بعد الإمام- كالناعس - اعتدّ بالركعة . وقيل : تجزئه وإن رفع الإمام ، ما لم يرفع الناس . وقيل : تجزئه إن أحرم قبل سجود الإمام. حكى هذه الأقوال القاضي عياض .
وقوله : (( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح )) ، ظاهر هذا : أن لها وقت ضرورة كالعصر ، وهو أحد القولين عندنا ، وقيل : ليس للصبح وقت ضرورة ، بخلاف العصر ، والأول أظهر .
---(3/87)
وقوله : (( من أدرك من العصر سجدة )) ، وفسرها في "الأم" : أنها الركعة . ووجهه : أن أهل الحجاز يسمون الركعة سجدة ، فهما عند الجمهور عبارتان عن مُعَبَّرٍ واحد . وقال الشافعي - في أحد قوليه - ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأبوحنيفة : إن السجدة هنا ليست بالركعة ، وإنما هي على بابها من وضع الوجه بالأرض ، واحتجّا بذلك على قولهما : إنه يكون مدركًا بتكبيةر الإحرام . ووجه احتجاجهم : أنه لما ذكر مرة ركعة ، ومرة سجدة ، سبرنا أوصافهما ، فوجدناهما يجمعان الركنية [والفرضية] ، وأول الفروض تكبيرة الإحرام ، فَقَدَّرَاه بذلك ، والله أعلم .
***************
(62) باب إذا ذكر الإمام أنه مُحْدِث خرج فأمرهم بانتظاره
204 - عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أُقِيمَتِ الصَّلاةُ ، فَقُمْنَا فَعَدَّلْنَا الصُّفُوفَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلاَّهُ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ ذَكَرَ فَانْصَرَفَ ، وَقَالَ لَنَا : (( مَكَانَكُمْ )). فَلَمْ نَزَلْ قِيَامًا نَنْتَظِرُهُ حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا ، وَقَدِ اغْتَسَلَ يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً ، فَكَبَّرَ وَصَلَّى بِنَا .
وفي روايةٍ : فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنْ مَكَانَكُمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إذا ذكر الإمام أنه محدث خرج
---(3/88)
قوله : " حتى إذا قام في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف " : هذا هو الصحيح من حديث أبي هريرة في كتاب مسلم والبخاري : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر قبل أن يكبر ، وقبل أن يدخل في الصلاة . وعلى هذا فلا يكون في الحديث إشكال ولا مخالفة أصل ، وأقصى ما فيه أن يقال : لِمَ أشار إليهم ولَمْ يتكلم ؟ ولِمَ انتظروه قيامًا ؟ والجواب : أنا لا نسلِّم أنه لم يتكلم ، بل قد جاء في هذه الرواية أنه قال لهم : (( مكانكم )) . وفي الرواية الأخرى : " أنه أومأ إليهم " ، وعلى الجمع بين الروايتين : أنه جمع بين القول والإشارة ، تكيدًا لملازمة القيام. ولو سلمنا أنه لم يتكلم ، وأنه اقتصر على الإشارة ، لم يكن فيه دليل على أنه دخل في الصلاة ؛ إذ يحتمل أن يكون ذلك استصحابًا لما شرع فيه من ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/89)
الوقار ؛ لأنه بمنزلة من هو في صلاة ؛ إذ قَصْده أن يخرج للتطهر ثم يعود لها ؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة والوقار )). وأما ملازمتهم للقيام ، فامتثالٌ لأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم بذلك ، وإنما أمرهم بذلك ليُشعر بسرعة رجوعه حتى لا يتفرقوا ، ولئلا يزايلوا ما كانوا شرعوا فيه من القيام للقربة حتى يفرغوا منها ، والله أعلم . ثم لما رجع هل بنى على الإقامة الأولى ، [أو استأنف] إقامة أخرى ؟ لم يصح في ذلك نقل ، وظاهر الأمر أنه لو استجد إقامة أخرى لنقل ذلك ؛ إذ قد روي هذا الحديث من طرق ، وليس فيها شيء من ذلك ، وحينئذ يحتج به من يرى أن التفريق بين الإقامة والصلاة لا يقطع الإقامة وإن طال إذا كان لعذر ؛ كما قد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناجى رجلاً بعد أن أقيمت الصلاة حتى نام من في المسجد ، وبنى على تلك الإقامة .[ وليس] هذا مذهب مالك ، بل مذهبه أن التفريق إن كان لغير عذرٍ [قطع] الإقامة ، وابتدأها ، طويلاً كان التفريق أو سريعًا ، كما قال في "المدونة" في المصلي بثوب نجس : يقطع الصلاة ، ويستأنف الإقامة ، وكذلك(6) قال في القهقهة .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإن كان لعذرٍ ، فإن طال ، قطع واستأنف ، وإن لم [يطل] لم يقطع ، وبنى عليها .
*************
فصل
وقد روى أبو داود هذا الحديث من رواية أبي بكرة : أنه دخل في صلاة الفجر ، فأومأ بيده : أن مكانكم ، ثم خرج ورأسه يقطر ، فصلى بهم . وفي رواية أخرى قال في أوله : فكبر ، وقال في آخره : فلما قضى الصلاة قال : ((إنما أنا بشر ، وإني كنت جنبًا )). ورواه مالك في "الموطأ" [مرسلاً] ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/90)
---
عن عطاء ابن يسار ، وقال : " إنه كبر " . وقد أشكل هذا الحديث على هذه الرواية على كثير من العلماء ، ولذلك سلكوا فيه مسالك : فمنهم من ذهب إلى ترجيح الرواية الأولى ، ررأى أنها أصح وأشهر ، ولم يعرِّج على هذه الرواية . ومنهم من رأى أن كليهما صحيح ، وأنه لا تعارض بينهما ؛ إذ يحتمل أنهما نازلتان في وقتين ، فيقتبس من كل واحدة منهما ما تضمنته من الأحكام . فمما يقتبس من رواية أبي داود ومالك : أن الإمام إذا طرأ له ما يمنعه عن التمادي ، استخلف بالإشارة لا بالكلام ، وهو أحد القولين لأصحابنا. جواز البناء في الحدث ، وهو مذهب أبي حنيفة ، لكن إنما يتم له ذلك إذا [ثبت] نقلاً أنه لم يكبر حين رجوعه . بل الذي صح في البخاري ومسلم : أنه كبر بعدما اغتسل عند رجوعه . والمشكل على هذه الرواية إنما هو وقوع هذا العمل الكثير ، وانتظارهم له هذا الزمان الطويل [بعد] أن كبروا . وإنما قلنا : إنهم كبروا ؛ لأن العادة جارية بأن تكبير المأمومين يقع عقيب تكبير إمامهم ، ولا يؤخر ذلك إلا القليل من أهل الغلوّ والوسوسة . ولما رأى مالك هذا الحديث مخالفًا لأصل الصلاة قال : إنه خاص بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما روي عنه. وروي عن بعض أصحابنا : أن هذا العمل من قبيل اليسير ، فيجوز مثله . وهذا مناكرة للمشاهدة . وقال ابن نافع : إن المأمومين إذا كانوا في الصلاة ، فأشار إليهم إمامهم بالمكث فإنه يجب عليهم انتظاره حتى يأتي فيتم بهم ؛ أخذًا بفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث . وكان الأولى في هذه الرواية ما قاله مالك ، والله أعلم .
وقوله : " ينطف رأسه " ؛ أي : يقطر . والنطفة : القطرة من الماء .
**************
باب أَوْقَات الصَّلَوَاتِ
---(3/91)
205 - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ : أَمَا إِنَّ جِبْرِيلَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَدْ نَزَلَ فَصَلَّى إِمَامَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : اعْلَمْ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ ! فَقَالَ : سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي فَصَلَّيْتُ مَعَهُ ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ )) وَيَحْسُبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أوقات الصلوات
قوله : " إن عمر بن عبد العزيز أخر العصر شيئًا " يدل على أن تأخيره إنما كان عن أول وقت الاختيار . وإنما أُنكر عليه لعدوله عن الأفضل - وهو ممن يقتدى به - ، فيؤدي تأخيره لها إلى أن يُعتقد أن تأخير العصر سنة . ويحتمل أنه أخرها إلى آخر وقت أدائها ، وهو وقت الضرورة عندنا ، معتقدًا أن الوقت كله وقت اختيار كما هو مذهب إسحاق وداود . والأول أشبه بفضله وعلمه ، وأظهر من اللفظ .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/92)
وقول عروة لعمر : " أما إن جبريل قد نزل فصلى إمَام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ، وفي الرواية الأخرى : " أما علمت أن جبريل نزل فصلى ، فصلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ " ليس فيه حجة واضحة على عمر ؛ إذ لم يعين له الأوتات التي صلى به فيها . وغاية ما يتوهم عليه : أنه نبّهه وذكّره بما كان يعرف من تفاصيل الأوقات المعروفة من حديث جبريل كما قد روى ذلك النسائي وأبو داود كما سنذكره. ويظهر لي أن هذا التأويل فيه بعد ؛ لإنكار عمر بن عبدالعزيز على عروة ؛ حيث قال له : " اعلم ما تحدث يا عروة !" أو أن جبريل هو الذي أقام لرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقت الصلاة . وظاهر هذا الإنكار : أنه لم يكن عنده خبر من حديث إمامة جبريل ، إما لأنه لم يبلغه ، أو بلغه فنسيه ، وكل ذلك جائز عليه . والأولى عندي : أن حجة عروة عليه إنما هي فيما رواه عن عائشة : من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتها 206 - فِي روَايةٍ قَالَ عُرْوَةُ : وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الْفَيْءُ .
وَفِي روَايةٍ : لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ فِي حُجْرَتِهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل أن تظهر ، وذكر له حديث جبريل موطِّئًا له ومعلمًا بأن الأوقات إنما ثبت أصلها بإيقاف جبريل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها ، وتعيينها له ، والله أعلم .
وقوله : " قبل أن تظهر " ؛ أي : تعلو وترتفع . والظهور : العلو ، ومنه قول النابغة الجعدي :
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرًا
---(3/93)
أى : مصعدًا عاليًا . وهذا المعنى قد روي بألفاظ مختلفة ، روي كما ذكرناه ، وروي : " لم ترتفع من حجرتها " ، وروي : " لم يظهر الفيء بعد ". وفي البخاري : "لم تخرج الشمس من حجرتها ". وكلها مُحَوِّمة على معنى ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحد ، وهو أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعجل العصر ، وينصرف منها والشمس في وسط الحجرة ، لم يصعد فيئها في جدرها ، وذلك لسعة ساحتها ، وقصر جدرانها.وقد رأيت أن أذكر حديث النسائي الذي رواه من طريق جابر بن عبد الله فى تفصيل الأوقات التى صلى جبريل فيها بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو أصح ما في إمامة جبريل - على ما ذكره الترمذي عن البخاري - وأَبْيَن ؛ قال فيه : عن جابر بن عبدالله : أن جبريل أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليعلمه مواقيت الصلاة ، فتقدم جبريل ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلفه ، والناس خلف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فصلى الظهر حين زالت الشمس. وأتاه حين كان الظل مثل شخصه ، فصنع كما صنع ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/94)
- يعني فصلى العصر-. ثم أتاه حين وجبت الشمس ، فصنع كما صنع ، فصلى المغرب ، ثم أتاه حين غاب الشفق ، فصنع كما صنع ، فصلى صلاة العشاء. ثم أتاه حين انشق الفجر ، فصنع كما صنع ، فصلى الغداة.ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه ، فصنع كما صنع بالأمس فصلى الظهر. ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصيه ، فصنع كما صنع بالأمس ، فصلى العصر . ثم أتاه حين وجبت الشمس ، فصنع كما صنع بالأمس ، فصلى المغرب . وفي رواية : وقتًا واحدًا لم يزل عنه ، فنمنا ، ثم قمنا ، ثم نمنا ، ثم قمنا ، فاتاه فصنع مثل ما صنع بالأمس ، فصلى العشاء . وفي رواية : ثم جاء الصبح حين أسفر جدًّا - يعني : في اليوم الثاني - ، ثم قال : (( ما بين هاتين الصلاتين وقت )). وسيأتي الكلام على ما تضمنه من النكت إن شاء الله .
وقد أخذ بعض الناس من هذا الحديث صحة إمامة المفترض بالمتنفل ، وذلك لا يتم حتى يتبين أن جبريل كان متنفلاً ، ولا يقدر عليه . وفيه أبواب من الفقه لا تخفى على متأمل ، وسيأتي التنبيه على أكثرها.
207 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ تَحْضُرِ الْعَصْرُ ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ ، وَوَقْتُ صَلاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ ، وَوَقْتُ صَلاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الأَوْسَطِ - وَلَمْ يذكُر "الأوسط" إلا في هذه الرواية - ، وَوَقْتُ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَمْسِكْ عَنِ الصَّلاةِ ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَيْطَانِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/95)
وقوله في حديث عبد الله بن عمرو : (( وقت الظهر إذا زالت الشمس )) ، زوال الشمس : عبارة عن بداية انحطاطها مغرِّبة بعد نهاية ارتفاعها ، وهو أول وقت الظهر بالإجماع . ولا خلاف أن الوقت من فروض الصلاة ومن شروط صحتها ، إلا شيئًا روي عن أبي موسى وبعض السلف ، ولم يصح عنهم ، وانعقد الإجماع على خلافه. ولا خلاف في أوائل أوقات ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصلوات ، إلا في وقت العصر والعشاء الآخرة . فأبو حنيفة يقول : إن وقت العصر آخر القامتين ، وخالفه الناس كلهم في ذلك حتى أصحابه. وأما العشاء فاتفق على أن وقتها بعد مغيب الشفق ، لكن ذهب أبو حنيفة والمزني إلى أنه البياض ، والجمهور على أنه الحمرة في تحديد أواخر الأوقات كما سيأتي .
وقوله : " وكان ظل الرجل كطوله " يعني بعد طرح اعتبار القدر الذي زالت عليه الشمس ، إن كان له قدر . فلو قدرنا أن الشمس وقفت على رأس ذي الظل ، لم يكن للظل قدر ، واعتبر من أصل القائم ، ثم أفاد بقوله : "ما لم يحضر العصر" أن الوقت ممتد متسع ، وأن آخره أول وقت العصر ، وهو انتهاء آخر ظل المثل ، وهذا مثل ما في حديث إمامة جبريل بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه صتى به العصر في اليوم الأول حين كان ظل كل شيء مثله ، وكلاهما حجة على أبي حنيفة في قوله : إن أول وقت العصر إذا كان ظل كل شيء مثليه . ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو قول شاذ منكر خالف فيه هذه النصوص وجميع الناس ، خلا أنه قد حُكي عن الشافعي ، وقد تبرّأ من هذا القول أصحاب أبي حنيفة والشافعي لظهور فساده .
---(3/96)
ثم تمام القامة بلا فصلٍ بينهما هو أول وقت العصر ، وهو مشترك بينهما عند مالك وابن المبارك وإسحاق في آخرين ، تمسكًا بحديث جبريل ، وذلك أنه صلى به العصر في اليوم الأول حين كان ظل كل شيء مثله ، وصلى به الظهر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله . غير أنهم حملوا قوله : "صلى في الظهر" على أنه فرغ منها في آخر القامة ، وصلى في العصر على أنه بدأ بها في أول القامة الثانية . وقال الشافعي وأبو ثور وداود وأحمد والطبري ومحمد بن الحسن وأبو يوسف وابن حبيب وابن المواز من أصحابنا : لا مشاركة بين الوقتين ، ولا بد من فاصلةٍ بينهما ، وهي : زيادة أدنى شيء على القامة ، غير أن أصحابنا لا يشترطون هذه الزيادة ، ويقولون : بانتهاء القامة الأولى يخرج وقت الظهر ، فيعقبها أول وقت العصر من غير زيادة . وقال أشهب : بل الاشتراك في القامة الأولى ، فيكون ما قبلها بقدر ما يُوقَعُ فيه إحدى الصلاتين مشتركًا بينهما ، واختار هذا القول أبو إسحاق التونسي ، وحكاه القاضي أبو بكر بن العربي رواية عن مالك. وحجة من لم ير الاشتراك قوله : " وقت الظهر ما لم تحضر العصر " ، وما جاء في حديث أبي موسى(3) ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/97)
وذلك : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى بالسائل الظهر في اليوم الثاني حين كان قريبًا من وقت العصر بالأمس . وظاهر هذين الحديثين أن بينهما فضلاً قريبًا. والقول بالاشتراك أبين ، وهو الذي يجمع شتات الأحاديث ، وأشهب لم يتأول : " فصلى في الظهر والعصر " ، بل حملهما على ظاهرهما [في] الظهر والعصر ، وهو أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرغ من الظهر والعصر فى اليومين عند انتهاء القامة ، والله أعلم . وقوله : (( ووقت العصر ما لم تصفر الشمس )) : يعني بقوله : " ما لم تصفر" : ما لم يدخلها صفرة . وظاهره أن آخر وقت العصر قبل مخالطة الصفرة . وهذا كما قال في حديث بريدة بن حصيب : " ثم أمره بالعصر والشمس بيضاء نقيّة لم تخالطها صفرة يعني في اليوم الثاني " ، وهذا الظاهر مخالف لحديث أبي موسى ؛ إذ قال فيه : " ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول : قد احمرت الشمس " ، وظاهر هذا أنه بعد الصفرة بكثير. ووجه الجمع أن هذا كله تقريب ، وإنما التحقيق يحصل بما في حديث جبريل من تقديره بما إذا كان ظل كل شيء مثلي شخصه . قال القاضي أبو بكر بن العربي : وهما متساويان في المعنى ؛ لأن الشمس لا يزال بياضها ناصعًا حتى ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينتهي ثَنْيُ الظل ، فإذا أخذ في التثليث نقص البياض ، حتى تأخذ الشمس في التطفيل ، فتتمكن الصفرة .
وقوله : "ويسقط قرنها الأول" : فيه إشكال ؛ وذلك أن قرن الشمس أعلاها ، وهو أول ما يبدو منها في الطلوع ، وأول ما يسقط منها في الغروب ، كما قال في هذه الرواية في وقت الفجر : "ما لم يطلع قرن الشمس الأول" ، وهو إما أن يراد به أعلى شعاعها الدائر بها ، وإما أعلى جرمها وعينها ، وعلى التقديرين فآخر وقت توسعة العصر قبله - كما قررنا - ، وحينئذ يتضح الإشكال .
---(3/98)
قلت : ويظهر لي أن المقصود من قوله : " ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول " : أن يُبيِّن به امتداد وقت الأداء كله إلى غايته ، ويدخل فيه الوقت الذي سميناه نحن : وقت الضرورة . وعلى هذا يمكن أن يقال : إن الصفرة هنا هي ابتداء تغير الشمس إلى السواد عند الغررب ، وهذا على لغة العرب المعروفة تسميتهم الأسود أصفر ؛ كما قال :
هُنَّ صُفْرٌ أولادُها كالزّبيب
وكما قال تعالى : {كأنه جِمالاتٌ صفر} ، وفي قوله : {بقرة صفراء}(4) ؛ أي : سوداء . ويكون قرنها : جرمها ، والله أعلم .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق )) : هذا يؤذن بأن وقت المغرب موسع كسائر أوقات الصلوات ، وهو موافق لحديث أبي موسى ؛ حيث صلى المغرب في اليوم الأول عند وقوع الشمس ، وفي الثاني حين غاب الشفق " ، وهو قول مالك في "الموطأ" ، وأحد قولي الشافعي ، وقول الثوري وأصحاب الرأي على اختلافهم في الشفق ما هو على ما يأتي إن شاء الله .
وقد عارض هذا الحديث في المغرب حديث جبريل ؛ فإن فيه : إنه صلاها في اليومين في وقت واحد حين غابت الشمس ، وصار أيضًا إليه جمهور من العلماء ، وهو مشهور قول مالك والشافعي والأوزاعي وغيرهم ، وقالوا : هو محدود الأول بمغيب قرص الشمس ، وغير محدود الآخر ، بل مقدرًا آخره بالفراغ منها في حق كل مكلف . ولما تعارض الحديثان اختلف العلماء في الأرجح منهما ، فرجح كل منهما بحسب ما ظهر له . قلت : ويمكن الجمع والبناء بينهما بأن يقال : إن إيقاع المغرب في حديث جبريل في وقت ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/99)
واحد ، لعلّه : إنما كان ليبين أن إيقاعها في ذلك الوقت أفضل ، ولذلك اتفقت الأمة على ذلك . وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تزال أمتي بخير - أو قال : على الفطرة - ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم )). وليس فيه ما يدل على منع تأخيرها عن ذلك الوقت . وتكون أحاديث التوسعة تبيِّن وقت الجواز ، فيرتفع التعارض ، ويصح الجمع ، وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين ؛ لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين ، والترجيح إسقاط أحدهما ، والله أعلم .
وقد اختلف العلماء في الشفق ، فذهب الجمهور إلى أنه الحمرة التي تكون في المغرب . وذهب أبو حنيفة والمزني إلى أنه البياض الذي يكون [بعد] الحمرة . وسبب الخلاف : انطلاق اسم الشفق عليهما بالاشتراك ، وهما متصلان ؛ أي : أحدهما بعد الآخر . فمن أخذ بأول الاسم قال : هو
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمرة ، ومن أخذ بآخره قال : هو البياض. ومذهب الجمهور أولى ؛ لوجهين :
أحدهما : أن أهل الاعتباء بذلك قد رصدوا ذلك وراقبوه ، فتحقق لهم أن البياض لا يغيب إلا عند طلوع الفجر ، قال ذلك الخليل بن أحمد وابن أبي أويس وغيرهما .
والثاني : أنه قد روى أبو داود من طريق صحيح عن النعمان بن بشير أنه قال : "أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة : صلاة العشاء الآخرة ؛ كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصليها لسقوط القمر لثالثة )). وهذا ينص على أنه كان يصليها قبل ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مغيب البياض ، بل على أنه كان يصليها عند تمكن البياض ؛ لأنه إذ ذاك يسقط القمر في الثالثة من الشهر ، وهذا يرفع الخلاف .
---(3/100)
وقوله : (( ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط )) : أكثر رواة هذا الحديث لم يذكروا فيه [الأوسط] ، وانما يقولون : " إلى نصف الليل " ، فقط ، وتلك الزيادة هي من جديث همام عن قتادة . وكل من روى هذا الحديث عن قتادة لم يذكرها غيره . وكأن هذه الرواية وهم ؛ لأن الأوسط في المقدَّرات والمعدودات إنما يقال على ما يتوسط بين اثنين فأكثر . اللهم [إلا] إن أُريد بالأوسط : الأعدل ، فحينئذ يصح أن يقال : هو أوسط الشيئين ؛ أي : أعدلهما . وهذا الشيء أوسط من هذا ؛ أي : أعدل منه . ويمكن أن تحمل رواية تلك الزيادة على الصحة ، ويكون معناه : أن النصف الأول أعدل بالنسبة إلى إيقاع الصلاة فيه من النصف الآخر ؛ [ لتأدية] ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصلاة في الأول وكثرة الثواب فيه . ثم اختلف العلماء في آخر وقت العشاء الآخرة ، فذهب طائفة من العلماء إلى أن ذلك آخر النصف الأول ، وإليه ذهب ابن حبيب من أصحابنا متمسكًا بهذا الحديث ، وبقول عمر : " فإن أخّرت فإلى شطر الليل ". ومشهور مذهب مالك : أنه أخر الثلث الأول ، متمسكًا بحديث أبي موسى ؛ إذ فيه : " أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخّر العشاء الآخرة حتى كان ثلث الليل " ، وهو قول جمهور العلماء . وروي عن النخعي(4) أنه الربع الأول ، ولا متمسك له واضح في الأحاديث . وسبب الخلاف : الترجيح بين هذه الأحاديث .
وقوله : (( ووقت الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس )) ، الفجر : هو انصداع البياض من المشرق ، وسُمِّي بذلك لانفجاره ؛ أي : لظهوره وخروجه ؛ كما ينفجر النهر . وهو اثنان : الكاذب ، وهو المسمى بذنب السرحان ، وهو الصاعد المستطيل . والصادق ، وهو الممتد المنتشر في الأفق . قال الشاعر(5) :(3/101)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
فإذا رأى الصبح الْمُصَدَّق يَخْفِقُ
وهذا هو الذي يُحرّم على الصائم الأكل وتجزئه الصلاة فيه دون الأول بلا خلاف . واختلف في آخر وقت الصبح ، فذهب الجمهور وأئمة الفتيا إلى أن آخر وقتها طلوع أول جرم الشمس ، وهو مشهور مذهب مالك . وعلى هذا لا يكون لها عنده وقت ضرورة ، ولا يُؤثّم تارك الصلاة إلى ذلك الوقت متعمدًا . وروى عنه ابن القاسم وابن عبد الحكم : أن آخر وقتها الإسفار الأعلى ، وعلى هذا فما بعد الإسفار وقت لأصحاب الأعذار ، ويؤثّم من أخّر الصلاة إلى ذلك الوقت . وسبب هذا الخلاف : اختلاف الأحاديث الواردة في هذا المعنى . وذلك أن ظاهر هذا الحديث ونص الرواية الأخرى التي قال فيها : (( فإذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول )) ، وفي حديث أبي موسى(3) : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى بالسائل الفجر في اليوم الثاني حتى انصرف منها والقائل يقول : قد طلعت الشمس أو كادت ". وظاهر هذا : أن آخر وفتها يخرج قبل طلوع الشمس بيسير ، وهو الذي يُقدّر بإدراك ركعة ؛ كما قال : (( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ))(4).
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيه : قال مالك والشافعي : التغليس بالصبح أفضل . وقال أبو حنيفة : الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار ، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس ، وهذا مخالف لما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله من المداومة على التغليس ، حتى قد قال ابن عباس لما وصف صلاة جبريل بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس ، لم يَعُدْ إلى أن يسفر بها ".
---(3/102)
وقوله : (( فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة )) : هذا حجة لأبي حنيفة وأهل الرأي على منع إيقاع شيء من الصلوات فرضها ونفلها عند الطلوع ، وقد غلوا في هذا حتى قالوا : إنه لو طلعت عليه الشمس وقد صلى ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ركعة من الصبح لفسدت عليه ، وهذا بخلاف ما عليه كافة العلماء ، فإنهم رأوا أن الفرض لا يتناوله هذا العموم بنصّ قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها )) ، وفي بعض رواياته : (( فذلك وقتها )). فجمعوا بين الحديثين على هذا الوجه ، والجمع أولى من الترجيح .
وقد تقدم الكلام على قوله : (( بين قرني الشيطان )). وقوله في بعض روايات حديث عبدالله بن عمرو : "ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق )). قال الخطابي : هو ثَوَران حمرته واندفاعها . ويُروى : فور بالفاء في غير "الأم" ، وهو بمعنى " ثور " ؛ أي : سطوعه وظهوره ، من : " فار الماء" ؛ إذا اندفع وظهر .
---(3/103)
208/أ - عَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ أَتَاهُ سَائِلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا - وَفِي رِوَايَةٍ : صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ - يَعْنِي : الْيَوْمَيْنِ ، قَالَ : فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ وَالنَّاسُ لا يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا - وفِي رِوَايَةٍ : فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ بِغَلَسٍ ، مَكَان : فَقَامَ - ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالظُّهْرِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ : قَدِ انْتَصَفَ النَّهَارُ ، وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالْعَصْرِ(1) وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ وَقَعَتِ الشَّمْسُ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ، ثُمَّ أَخَّرَ الْفَجْرَ مِنَ الْغَدِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ : قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ ، ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَمْسِ ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعَصْرَ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ : قَدِ احْمَرَّتِ الشَّمْسُ ، ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَدَعَا السَّائِلَ فَقَالَ : (( الْوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ )) . وَفِي رِوَايَةٍ : ((وَقْتُ صَلاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ )).
280/ب - وخرّجه مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ؛ قَالَ : ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعَصْرِ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ لَمْ تُخَالِطْهَا صُفْرَةٌ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/104)
وقوله في حديث أبي موسى : " فلم يرد عليه شيئًا " ؛ يعني على السائل ؛ أي : لم يرد عليه ما يحصل له به بيان ما سأل عنه ، وإلا فقد قال له : " صلِّ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معنا هذين اليومين " ؛ كما جاء في الرواية الأخرى . وفي هذا : جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة . وجاز للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يؤخر بيان ما سأله عنه - وإن جاز على السائل أن يُخْتَرَمَ قبل ذلك - ؛ لأن الأصل : استصحاب السلامة ، والبقاء إلى مثل هذه المدة ، أو أوحي إليه أنه يبقى إلى هذه المدة .
وقوله : " فأقام الفجر" ؛ أي : أمر بها فأقيمت ؛ كما قال في الرواية الأخرى : " فأمر بلالاً فأذّن بغلس " ؛ أي : أقام ، فسمّى الإقامة : أذانًا ؛ إذ يحصل بها الإعلام بحضور الصلاة والشروع فيها .
وقوله : (( الوقت بين هذين )) ، وقوله : (( ووقت صلاتكم بين مارأيتم )) ، وكذلك في حديث جبريل : (( الوقت بين هذين )) ، هي كلها حجة لمالك وأصحابه على قولهم : إن الوقت الموسع كله للوجوب من أوله إلى آخره ، وإن المكلف مخير بين تقديم الصلاة وتأخيرها إلى آخر الوقت ، فأي وقت صلى [ فيه] المكلف فقد أدَّى ما عليه . وقد تخبّط كثير من الناس في هذا المعنى ، وطال فيه نزاعهم ، وما ذكرناه واضح موافق لظاهر الحديث . وقد ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/105)
ذهب بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي إلى أن وقت الوجوب وقت واحد غير معين ، وإنما يعينه المكلف بفعله . وذهب الشافعي إلى أن أول الوقت هو الواجب ، وإنما ضرب آخره فضلاً بين القضاء والأداء ، وهذا باطل بما أنه لو تعين ذلك الوقت للوجوب لأثم من أخر الصلاة عنه إلى غيره ، وبالإجماع لا يؤثم . وذهب الحنفية إلى أن وقت الوجوب آخر الوقت. وهذا أيضًا باطل ؛ إذ لو كان كذلك لما جاز لأحد أن يوقع الصلاة قبل آخر الوقت ، وقد جاز ذلك بالإجماع. ثم الحديث الذي ذكرناه يرد على هذه الفرق كلها .
**************
(64) باب الإبراد بالظهر في شدة الحر
209 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاةِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ )). وَذَكَرَ : (( أَنَّ النَّارَ اشْتَكَتْ إِلَى رَبِّهَا ، فَأَذِنَ لَهَا فِي كُلِّ عَامٍ بِنَفَسَيْنِ : نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ )).
وَفِي رِوايَةٍ : (( فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من باب الإبراد في شدة الحر
قوله : (( إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة )). أبردوا ؛ أي : أخروها عن ذلك الوقت ، وادخلوا بها في وقت البرد ، وهو الزمن الذي يتبين فيه انكسار شدة الحر وتوجد فيه برودة ما . يقال : أبرد الرجل ؛ أي : صار في برد النهار.
و"عن" في قوله : (( عن الصلاة )) : بمعنى الباء ، كما قد روي في بعض طرقه : (( أبردوا بالصلاة ))". و"عن" تأتي بمعنى الباء ، يقال : رميت عن القوس ؛ أي : به . كما تأتي الباء بمعنى " عن " ، كما قال :
---(3/106)
210 - وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِالظُّهْرِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَبْرِدْ أَبْرِدْ )) ، أَوْ قَالَ : (( انْتَظِرِ انْتَظِرْ )) ، وَقَالَ : (( إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ )). قَالَ أَبُو ذَرٍّ : حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب
أي : عن النساء . وكما قيل في قوله تعالى : { فسئل به خبيرًا } : أى : عنه ، وقيل : إن "عن " هنا زائدة ؛ أي : أبردوا الصلاة ، يقال : أبرد الرجل كذا إذا فعله في برد النهار .
و"فيح جهنم " : شدة حرها ، وشدة غليانها . يقال : فاحت القدر ، تفيح : إذا هاجت وغلت . و"النفس " : [ التنفس ]. فإذا تنفست في الصيف قوَّى لهبُها حرَّ الشمس ، فزاد حرها وتضاعف ، وإذا تنفست في البرد دفع حرها شدة البرد إلى الأرض ، وهو الزمهرير الذي ذكر . واختُلف في معنى هذا الحديث ؛ فمن العلماء من حمله على ظاهره ، وقال : هو لسان مقال محقق ، وشكوى محققة ، وتنفس محقق ؛ إذ هو إخبار من الصادق بأمر ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جائز ، فلا يُحتاج إلى تأويله . وقيل : إن هذا الحديث خرج مخرج التشبيه والتقريب ؛ أي : كأنه نار جهنم في الحر ، وتكون هذه الشكوى وهذه المقالة لسان حال ، كما قال :
شكا إليَّ جملي طول السُّرى صبر جميل فكلانا مُبْتَلى
والأول أولى ؛ لأنه حمل اللفظ على حقيقته ، ولا إحالة في شيء من ذلك.
وفيه دليل على أن النار قد خلقت ، وأنها موجودة ، خلافًا لما قالته المعتزلة وغيرهم من أهل البدع : أنها ستخلق في القيامة .
---(3/107)
وقوله : (( فما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم )). "أو" هذه تحتمل أن تكون شكًّا من الراوي ، فيكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال أحدهما ، فشك فيه الراوي ، فجمعهما بـ" أو ". ويحتمل : أن يكون ذكرالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اللفظين ، فتكون " أو" للتقسيم والتنويع . و"الحرور" : اشتداد الحر ووَهَجُه بالليل والنهار . فأما السموم فلا يكون إلا بالليل . و"الزمهرير" : شدة البرد .
وبتأخير الظهر في شدة الحر قال مالك وأهل الرأي ، ورأوا أنها في ذلك الوقت أفضل . وقَدَّرَ أصحابنا هذا الوقت بزيادة على ربع القامة إلى وسط
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوقت ، وهذا في الجماعة عند أصحابنا . واختلفوا في المنفرد : هل يُبرد أم لا ؟ وقال الشافعي : تقديم الصلوات كلها للفذ والجماعة أفضل في الشتاء والصيف إلا للإمام الذي ينتاب إليه الناس من بعد ، فيبرد بالظهر في الصيف دون غيره . ولم يقل أحد بالإبراد في غير الظهر إلا أشهب ، فقال به في العصر ، وقال : يؤخر ربع القامة . ورأى أحمد بن حنبل تأخير العشاء الآخرة في الصيف بالليل كما يؤخر الظهر ، وعكسه ابن حبيب ، فرأى تأخيرها في الشتاء ؛ لطول الليل ، وتعجيلها في الصيف ؛ لقصره .
وقوله في حديث أبي ذر : " حتى رأينا فَيْءَ التلول " ؛ هي جمع تلّ ، وهي : الروابي ، وظلها لا يظهر إلا بعد تمكن الفيء واستطالته جدًّا ، بخلاف الأشياء المنتصبة الي يظهر فيئها سريعًا في أسفلها ؛ لاعتدال أعلاها وأسفلها.
**************
(65) باب تعجيل الظهر بعد الإبراد وفي زمن البرد
211 - عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا دَحَضَتِ الشَّمْسُ .
---(3/108)
212 - عَنْ خَبَّابِ قَالَ : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصَّلاةَ فِي الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا . قَالَ زُهَيْرٌ : قُلْتُ لأَبِي إِسْحَاقَ : أَفِي الظُّهْرِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْتُ : أَفِي تَعْجِيلِهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تعجيل الظهر بعد الإبراد وفي زمن البرد
قوله : " كان يصلي الظهر إذا دحضت الشمس " ؛ أي : زلقت وزالت عن كبد السماء . والدَّحَض : الزلق . كان هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زمن البرد ؛ كما قد رواه أنس : " أنه إذا كان الحر أبرد بالصلاة ، وإذا كان البرد عجل".
وقوله : " شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلاة في الرمضاء " ؛ أي : شدة ما يلقون من حرّ الأرض المحماة بالشمس في أقدامهم إذا صَلَّوا .
213 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فلم يشكنا " ؛ أي : لم يسعف طلبنا ، ولم يجننا إلى مطلوبنا ، يقال : شكوت إلى فلان : إذا رفعت إليه حاجتك ، وأشكيته : إذا ألجأته إلى الشكوى ، وأشكيته : إذا نزعت عنه الشكوى. كما قال :
تُشكي المحبَّ وتشكو وهي ظالمة كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان
ويحتمل أن يكون هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يؤمر بالإبراد ، ويحتمل أن يحمل على أنهم طلبوا زيادة تأخير الظهر على وقت الإبراد فلم يجبهم إلى ذلك . وقد قال ثعلب في قوله : " فلم يشكنا " : أي : لم يحوجنا إلى الشكوى ، ورخص لنا في الإبراد ، حكاه عنه القاضي أبو الفرج ، وعلى هذا تكون الأحاديث كلها متواردة على معنى واحد .
---(3/109)
وقول أنس : " كنا نصلي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شدة الحر" ؛ ليس فيه دليل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا يبرد ، بل قد توجد سَوْرةُ الحر وشدته بعد الإبراد ، إلا
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنها أخف مما قبله ، والله أعلم .
وقوله : " فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه ، فسجد عليه " : فيه ما يدل على الصلاة على البُسُط والثياب ؛ لا سيما عند الضرورة والمشقة ، وعلى أن العمل القليل في الصلاة لا يفسدها .
**************
(66) باب تعجيل صلاة العصر
214 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي ، فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ . وفِي روايةٍ : إِلَى قُبَاءٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تعجيل صلاة العصر
قوله : " كان يصلي العصر والشمس مرتفعة حيّة " ، قال الخطابي : حياتها صفاء لونها قبل أن تصفر أو تتغير ، وهذا مثل قوله : بيضاء نقيّة . وقال غيره : حياتها : بقاء حرها.
وقوله : " فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيها والشمس مرتفعة " . فسر مالك العوالي بثلاثة أميال من المدينه ، وقال غيره : هي مفترقة ، فأدناها ميلان ، وأبعدها ثمانية أميال . قلت : وهذا إنما يتبين في الأيام الطويلة إذا عجلت العصر في أول وقتها . وفي الرواية الأخرى : " إلى قباء " مكان "العوالي" ، وكلاهما صحيح الرواية والمعنى ، فإن قباء من أدنى العوالي ، وبينها
---(3/110)
215 - وَعَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الظُّهْرِ ، وَدَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ ، فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ قَالَ : أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ ؟ فَقُلْنَا لَهُ : إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ مِنَ الظُّهْرِ. قَالَ : فَصَلَّوُا الْعَصْرَ. فَقُمْنَا فَصَلَّيْنَا ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( تِلْكَ صَلاةُ الْمُنَافِقِ ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبين المدينة ميلان أو نحوهما ، قاله الباجي .
وقوله : (( تلك صلاة المنافق )) إشارة إلى صلاة العصر المخرجة عن وقتها . ومعناه : أن الذي يخرجها عن وقتها يشبه فعله ذلك فعل المنافق الذي يتهاون بأمرها ويضيعها حتى يخرجها عن وقتها ؛ ولذلك وصفه بقوله : ((يجلس يرقب الشمس )) ، وهذا عبارة عن عدم مبالاته بها وتضييعه لها ، حتى إذا رأى الشمس قد حان غروبها ، قام يصليها على ما ذكر ، رياءً وتلبيسًا .
وقد تقدّم الكلام على " قرني الشيطان ".
216 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ قَالَ : صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الظُّهْرَ ، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ ، فَقُلْتُ : يَا عَمِّ ! مَا هَذِهِ الصَّلاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ ؟ قَالَ : الْعَصْرُ ، وَهَذِهِ صَلاةُ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الَّتِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/111)
وهذا الحديث يدل على أن آخر وقت إباحة العصر : ما لم تصفر الشمس ، وما لم يصر ظل كل شيء مثليه على ما قدمناه .
وقوله : (( قام فنقرها أربعًا )) ؛ هذا النقر عبارة عن سرعة حركاته في أركان الصلاة في ركوعها وسجودها ، وخفة ذلك بحيث لا يُتم ركوعها ولا سجودها ، فشّبهه بنقر الطائر ، وهو ذم لمن فعل ذلك . وفيه ردٌّ على من قال : إن الواجب من أركان الصلاة ومن الفضل بين أركانها أقل ما ينطلق عليه الاسم ؛ لأن من اقتصر على ذلك صدق عليه أنه نقر الصلاة ، فدخل في الذم المترتب على ذلك .
وقوله : " لا يذكر الله فيها إلا قليلا )) ؛ أي : لسرعة حركاته فيها ، أو ليرائي بالقليل الذي يذكره عند تخيله من يلاحظه من الناس .
217 - وَعَن رَافِعَ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثُمَّ نَنْحَرُ الْجَزُورَ ، فَتُقْسَمُ عَشَرَ قِسَمٍ ، ثُمَّ تُطْبَخُ ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " كنا نصلي العصر ثم ننحر الجزور ..." الحديث . هذا وما قبله يدل على فساد مذهب أبي حنيفة ؛ إذ قال : إن أول وقت العصر : إذا صار ظل كل شيء مثليه ؛ إذ لا يتسع الوقت على رأيه لمثل هذا الفعل ، ولا لأن يأتوا العوالي والشمس مرتفعة ، بل يتمكن من هذا كله إذا صُلِّيِتْ في أول المثل الثاني ، وكان النهار طويلاً ، والله أعلم.
والجزور من الإبل ، والجزرة من غيرها : وهو ما يعد من ذلك لِلْجَزْرِ ، وهو الشق والقطع . وتأخير عمر بن عبد العزيز الظهر كان على عادة بني أمية في تأخيرهم الصلوات ؛ كما قد أخر عمر العصر حين أنكر عليه عروة ، ويحتمل أن يكون ذلك التأخير منه نادرًا لشغل شغله من أمور المسلمين ، والله أعلم .
---(3/112)
218 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِنَّ الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( كأنما وتر أهله وماله )) ؛ رويناه برفع أهله وماله ، ونصبهما . فالرفع على أن وتِرَ بمعنى : نُزِعَ وأُخِذَ ، ومحمول عليه ، فيكون "أهله " هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، و"ماله " معطوف عليه ، والنصب حملٌ لِوُتِرَ على سُلِبَ ، وهو يتعدى إلى مفعولين بنفسه ؛ تقول : سُلِبَ زيدٌ ثوبَه ، فتقيم الأول مقام الفاعل ، وتترك الثاني منصوبًا على حاله . وقد اختلفوا في تأويل هذا الحديث ، فذهب ابن وهب إلى أن هذا إنما هو لمن لم يصلها في الوقت المختار ، وقاله الداودي . فيكون معناه على هذا : إن ما فاته من الثواب يلحقه عليه من الأسف والحزن مثل ما يلحق من أُخذ ماله وأهله [منه]. وذهب الأصيلي إلى أن هذا الفوات إنما هو بغروب الشمس ، ويكون معناه على هذا ما قاله أبو عمر : إنه يكون بمنزلة الذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بها وترًا ، فلا يلحقه ، فيجتمع عليه غمُّ المصائب ، وغمُّ مقاساة طلب الوتر . وقال الداودي : معناه : أنه يجب عليه من الأسف والاسترجاع ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مثل الذي يجب على من وتر أهله وماله ؛ لأنه أتى بكبيرة يجب عليه الندم والأسف لأجلها .
---(3/113)
وقيل : هذا الفوات هو أن يؤخرها إلى أن تصفر الشمس ، أوقد روي مفسرًا من رواية الأوزاعي في الحديث ؛ قال فيه : وفواتها أن تدخل الشمس صفرة. وأما تخصيص هذا بالعصر ، فقال أبو عمر : يحتمل أن جوابه فيه على سؤال سائل عن العصر ، وعلى هذا يكون حكم من فاتته صلاة من الصلوات كذلك . وقيل : خصت بذلك لكونها مشهودة للملائكة عند تعاقبهم ، وعلى هذا يشاركها في ذلك الصبح ؛ إذ الملائكة يتعاقبون فيها(4). وقيل : خصت بذلك تاكيدًا [وحضًّا] على المثابرة عليها ؛ لأنها ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صلاة تأتي في وقت اشتغال الناس . وعلى هذا فالصبح أولى بذلك ؛ لأنها تأتي وقت النوم . ويحتمل أن يقال : إنما خصت بذلك لأنها الصلاة الوسطى ، كما سيأتي . وقد جاء في البخاري : (( من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله )). قال الداودي : ليس ذلك خاصًّا بالعصر ، بل ذلك حكم غيرها من الصلوات . وسيأتي الكلام على الحَبْطِ إن شاء الله .
*************
(67) باب ما جاء في الصلاة الوسطى
219 - عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمَ الأَحْزَاب : (( شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى صَلاةِ الْعَصْرِ مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا )) ، ثُمَّ صَلاَّهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ : بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في الصلاة الوسطى
---(3/114)
قوله : (( شغلونا عن الصلاة الوسطى )) : اختلفوا في الصلاة الوسطى ، فقيل : ما هي مبهمة ليُحَافَظَ على الصلوات كلها . وقيل : الجمعة . وقيل : الصلوات الخمس ، قاله معاذ ، قال : لأنها أوسط الذين . وقال ابن عباس : هي الصبح ، ووافقه مالك [ والشافعي ]. وقال زيد بن ثابت ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعائشة وأبو سعيد الخدري : هي الظهر ، وقال علي بن أبي طالب : هي العصر ، ووافقه أبو حنيفة والشافعي ، وقال قبيصة بن ذؤيب : هي المغرب. وقال غيره : هي العتمة . وأضعف هذه الأقوال : قول من قال : هي الصلوات كلها ؛ لأن ذلك يؤدى إلى خلاف عادة الفصاحة من أوجه :
أحدها : أن الفصحاء لا يذكرون شيئًا مفصلاً مبينًا ، ثم يذكرونه مجملاً ، وإنما عادتهم أن يشيروا إلى مجمل أو كلي ، ثم يفصلوه ؛ كقوله ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى : {فيهما فاكهة ونخل ورمان } ، وقد قال تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } ، فالصلوات مبيَّن ، والصلاة الوسطى مجمل .
وثانيها : أن الفصحاء لا يطلقون لفظ الجمع ويعطفون عليه أحد مفرداته ، ويريدون بذلك المفرد : ذلك الجمع ، فان ذلك في غاية العي والإلباس .
---(3/115)
وثالثها : أنه لو أراد بالصلاة الوسطى : الصلوات ؛ لكان كأنه قال : (حافظوا على الصلوات والصلوات). ويريد بالثاني الأول ، ولو كان كذلك لما كان فصيحًا في لفظه ، ولا صحيحًا في معناه ؛ إذ لا يحصل باللفظ الثاني تأكيد للأول ؛ لأنه معطوف عليه ، ولا يفيد معنى آخر ، فيكون حشوًا . وحمل كلام الله تعالى على شيء من هذه الثلاثة غير مسوّغ ولاجائز. وسبب اختلاف العلماء القائلين بالتعيين : صلاحية "الوسطى" ؛ لأن يراد به التوسطُ في العدد أو في الزمان . فإن راعينا أعداد الركعات ، أدّى إلى أنها ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/116)
المغرب ؛ لأن أعداد الصلوات أربع ركعات ، وأقلها ركعتان ، وأوسطها ثلاث ، وهي المغرب . وإن راعينا أعداد الصلوات أنفسها ، فما من صلاة إلا وهي متوسطة بين شفعين ؛ إذ الصلوات خمس. وإن راعينا الأوسط من الزمان ؛ كان الأبين أنها الصبح ؛ لأنها بين صلاتي نهار محقق ، وهما الظهر والعصر ، وبين صلاتي ليل محقق وهما المغرب والعشاء . فأما وقت الصبح فوقت متردد بين النهار والليل . قلت - والله أعلم - : لا يصلح هذا الذي ذكر أن يكون سببًا للخلاف فيها ؛ إذ لا مناسبة لما ذكر لكون هذه الصلاة أفضل أو أوكد من غيرها . أما أعداد الركعات ، فالمناسب هو أن تكون الرباعية أفضل ؛ لأنها أكثر ركعات وأكثر عمل . والقاعدة : أن ما كثر عمله كثر ثوابه . وأما مراعاة أعداد الصلوات ؛ فيلزم منه أن تكون كل صلاة هي الوسطى ، وهو الذي أبطلناه ، وأيضا فلا مناسبة بين ذلك وبين أكثرية الثواب. وأما اعتبارها من حيث الأزمان فغير مناسب أيضًا ؛ لأن نسبة الصلوات إلى الأزمان كلها من حيث الزمانية واحدة ، فإن فرض شيء يكون في بعض الأزمان ، فذلك لأمر خارج عن الأزمان. والذي يظهر لي أن السبب في خلافهم فيها : اختلافهم في مفهوم الكتاب والسنة الواردة في ذلك المعنى ، ونحن نتكلم على ما ورد في ذلك بحسب ما يقتضيه مساق الكلام
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصحيح الأحاديث إن شاء الله فنقول :
---(3/117)
إن قوله تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } هو من باب قوله تعالى : { فيها فاكهة ونخل ورمان } ، وقوله : { من كان عدوًّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} ، فخص الرُّمّان [والنخل] ، وجبريل وميكال(2) بالذكر - وإن كانوا قد دخلوا فيما قبل بحكم العموم - تشريفًا وتكريمًا . وإذا كان [ذلك](5) كذلك ، فلهذه الصلاة المعبر عنها بالوسطى شرفيَّة وفضيلة ليست لغيرها ، غير أن هذه الصلاة الشريفة لم يعينها الله تعالى في القرآن ، فوجب أن يبحث عن تعيينها في السنّة(6) ، فبحثنا عن ذلك فوجدنا ما يعيِّنها . وأصح ما في ذلك أنها العصر على ما في حديث علي ، وأنصّ ما في ذلك ما ذكره الترمذي(7) وصححه ، وهو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الصلاة ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/118)
الوسطى : صلاة العصر )) ، وهذا نص في الغرض ، غير أنه قد جاء ما يشعث التعويل عليه ، وهو ما ذكره البراء بن عازب ؛ وذلك أنه قال : " نزلت هذه الآية : ( حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) ، [ فقرأناها] ما شاء الله ، ثم نسخها الله فنزلت : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } ، فلزم من هذا أنها بعد أن عُيِّنت نُسخ تعيينها وأبهمت ، فارتفع التعيين ، ولم يفكنا أن نتمسك بالأحاديث المتقدمة ، فلما أبهم أمر تعيينها ، أخذ العلماء يستدلون على تعيينها بما ظهر لكل واحد منهم بما يناسب الأفضلية . فذهب مالك وأهل المدينة إلى أن الصبح أولى بذلك ؛ لكونها تأتي في وقت نوم وركون إلى الراحة واستصعاب الطهارة ، فتكثر المشقة في المحافظة [عليها] أكثر من غيرها ، فتكون هي الأحق بكونها أفضل . وأيضًا فإنه وقت يتمكن 220 - وَمِنْ حَدِيثِ عَبْداللهِ قَالَ : حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ صَلاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ أَوِ اصْفَرَّتْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((شَغَلُونَا ... )). وَذَكَرَ نَحْوَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/119)
الإنسان فمه من إحضار فهمه وتفرغه للصلاة ؛ لأن علاقات الليل قد انقطعت بالنوم ، وأشغال النهار بعد لم تأت ؛ ولذلك قال تعالى : { إن قرآن الفجر كان مشهودًا } ؛ أي : يحضره القاريء بفراغ ذهنه على أحد التأويلات ، وهو أحسنها ، وبنحوٍ من هذا يستدك لسائرها من الصلوات ، إلا أن الصبح أدخل في هذا المعنى. وعلى الجملة فهذا النحو هو الذي يمكن أن يكون باعثًا لكل من المختلفين على تعيين ما عينه من الصلوات بحسب ما غلب على ظنه من أرجحية ما عُيِّن . والذي يظهر لي بعد أن ثبت نسخ التعيين : أن القول قول من قال : إن الله تعالى أخفاها في جملة الصلوات ، ليحافظ على الكل ، كما فعل في ليلة القدر وساعة الجمعة ، والله تعالى أعلم.
---
وقوله : (( شغلونا )) : يحتمل أنه نسيها لشغله بالعدو ، ويحتمل أن يكونوا لم يمكنوه منها ، ولم يفرغوه لفعلها ، ويحتمل أن يكون أخرها قصدًا لأجل شغله بالعدو ، وعلى هذا يكون هذا التأخير لأجل القتال مشروعًا ، ثم ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نسخ بصلاة الخوف . وقد ذهب مكحول والشاميون إلى جواز تأخير صلاة الخوف إذا لم يكن أداؤها معه في الوقت إلى وقت الأمن . والصحيح الذي عليه الجمهور أن يؤخرها ويصليها على سنتها ، على ما يأتي إن شاء الله .(3/120)
وقوله : " ثم صلاّها بين العشاءين المغرب والعشاء " ؛ ظاهر هذا أنه صلى العصر المتروكة بعد أن صلى المغرب ، وليس بصحيح بدليل - ما في حديث جابر ، قال : " فصلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العصر بعد ما غربت الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب " وهذا نص ، وإنما أراد بقوله : بين العشاءين : بين وقتي العشاءين ، فإن تأخيرها كان منه إلى أن غربت الشمس ، ثم توضأ ، ثم أوقعها بعد الغروب قبل أن يصلي المغرب . وقد روى الترمذي عن أبي ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه : ان المشركين شغلوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من اليلل ما شاء الله ، فأمر بلالاً فأذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ثم أقام فصلى المغرب ، ثم أقام فصلى العشاء . وبهذه الأحاديث استدل جميع العلماء على أن من فاتته صلوات قضاها مرتبة كما فاتته إذا ذكرها في وقت واحد . واختلفوا إذا ذكر [صلاة] فاتته في ضيق وقت حاضرة : هل يبدأ بالفائته وإن خرج وقت الحاضرة ؟ أو يبدأ بالحاضرة ؟ أو يتخير فيقدم أيتهما شاء ؟ ثلاثة أقوال . وبالأول مالك والليث والزهري . وبالثاني قال الحسن وابن المسيب وفقهاء أصحاب الحديث وأصحاب الرأي والشافعي وابن وهب من أصحابنا . وبالثالث قال أشهب من أصحابنا . وهذا مالم تكثر الصلوات ، [فإن كثرت] فلا خلاف عند جميعهم - على ما حكاه القاضي عياض - : أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثيرة ، واختلفوا في مقدار اليسير ، فعن مالك أن الخمس فدون من اليسير ، وقيل الأربع فدون ، ولم يختلف المذهب أن الست كثير .(3/121)
221 - وَعَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ قَالَ : أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا وَقَالَتْ : إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الآيَةَ فَآذِنِّي : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى }. فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ : (( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ، وَصَلاةِ الْعَصْرِ ، وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ )). قَالَتْ عَائِشَةُ : سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث عائشة : " فأمليت عليّ : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ) ، هكذا ثبتت الرواية بالواو في صلاة العصر. وقيل فيها : إنها زائدة كما زيدت في قول الشاعر :
فلما أَجَزْنا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحى
---
أي : فلما أجزنا ساحة الحي انتحى ، فاذا قدرنا زيادتها كانت صلاة العصر الصلاة الوسطى ، كما جاء في حديث عليّ المتقدم . وهذا الذي سمعته عائشة ، وأمرت بكتبه في المصحف كان على القراءة المتقدمة التي أخبر البراء أنها نسخت على ما مضى ، والله أعلم .
222 - وَعَنْ شَقِيقِ بْنِ عُقبَةَ ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : ((حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ )). فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ فَنَزَلَتْ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ شَقِيقٍ لَهُ : هِيَ إِذَنْ صَلاةُ الْعَصْرِ ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ : قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ ، وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/122)
وقد اتفق المسلمون كافة على أن قولها : " وصلاة العصر " ، ليس قرآنًا اليوم يتلى ، وإنما هي رواية شاذة انفردت بها وبرفعها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وغايتها أن تكون خبرًا ؛ لأنها قد رفعتها إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والله تعالى أعلم . وقد تقدم القول في قوله : { وقوموا لله قانتين }.
وقول البراء للسائل : " قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله " يظهر منه تردُّد ، لكن في ماذا ؟ هل نُسخ تعيينها فقط وبقيت هي الوسطى ؟ أو نُسخ كونها وسطى ؟ في هذا تردد - والله أعلم - ، والا فقد أخبر بوقوع النسخ .
*************
(68) باب من فاتته صلوات كيف يقضيها ؟
---
223 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ جَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فَوَاللَّهِ إِنْ صَلَّيْتُهَا )) ، قَالَ : فَنَزَلْنَا إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَتَوَضَّأْنَا ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من فاتته صلوات كيف يقضيها ؟
قول عمر : "ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت أن تغرب الشمس" ؛ معناه : ما قاربت صلاة العصر إلى أن قارب غروب الشمس .(3/123)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فوالله إن صليتها )) يقوِّي قول من قال : إنه كان ناسيًا ، و"إِنْ " بمعنى : ما . و"بطحان " : وادٍ بالمدينة . ورويناه بضم الباء وسكون الطاء ، وبفتح الباء وكسر الطاء ، وهو صوابه عند أهل اللغة . وقد تقدم الكلام على قضاء الفوائت في الباب الذي قبله .
(69) باب المحافظة على الصبح والعصر
224 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْصُبْحِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ : كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ، فَيَقُولُونَ : تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب المحافظة على الصبح والعصر
---
قوله : (( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار )) ، وهذه الواو في "يتعاقبون فيكم" علامة للفاعل المذكر المجموع ، وهي لغة بني الحارث ؛ وهي أنهم يلحقون علامة للفاعل المثنى والمجموع ، وهم القائلون : أكلوني البراغيث ، وهي لغة معروفة فاشية ، وعليه حمل الأخفش قوله تعالى : {وأسروا النجوى الذين ظلموا } ، ومن هذا قول الشاعر :
ولكن دِيَافِيٌّ أبوه وأمُّه بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أقارِبُه
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/124)
وقد تعسَّف بعض النحاة في تأويلها وردّوها للبدل ، وهو تكلف مستغنى عنه ، مع أن تلك اللغة مشهورة ، لها وجه من القياس واضح يعرف في موضعه . ومعنى التعاقب : إتيان طائفة بعد أخرى ، فكان الثانية تأتي عقيب الأولى. وهؤلاء الملائكة إن كانوا هم الحفظة ، فسؤال الله لهم بقوله : (( كيف تركتم عبادي ؟ )) إنما هو سؤال عما أمرهم به من حفظهم لأعمالهم وكَتْبِهم إياها عليهم . وعلى أنهم هم الحفظة ؛ فذهب الجمهور ، وإن كانوا غيرهم - وهو الأظهر عندي - ، فسؤاله تعالى لهم إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال : { أتجعل فيها من يفسد فيها} ، وإظهار لما سبق في معلومه إذ قال لهم : { إني أعلم ما لاتعلمون }(6) ، وهذه حكمة اجتماعهم في صلاة الفجر والعصر ، والله أعلم .[ أو يكون](8) سؤاله لهم استدعاء 225 - وَعَنْ جَرِيرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ : (( أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا )). يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ ، ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لشهادتهم لهم ، ولذلك قالوا : (( أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون )). وهذا من خفي لطفه تعالى وجميل ستره ؛ إذ أطلعهم بكرمه عليهم حال عباداتهم ، ولم يطلعهم عليهم ولا جمعهم لهم في حال خلواتهم بلذاتهم وانهماكهم في معاصيهم وشهواتهم ، فسبحانه من كريم حليم جليل ! إذ ستر القبيح وأظهر الجميل .
---(3/125)
وقد تقدم الكلام على رؤية الله تعالى ، وعلى قوله : (( لا تضامُّون )). وقوله : (( إن استطعتم أن لا تغلبوا [على] صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ))- يعني : الفجر والعصر - ، قال المهلّب : لا تغلبوا ؛ أي : على
226 - وَعَن عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا )). يَعْنِي : الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ.
227 - [وعن أبي موسى الأشعري] : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شهودها في الجماعة . وقراءة جرير في هذا الموضع : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } يشعر بأن قوله : { وسبِّح(4)} ، معناه : فصلِّ في هذين الوقتين .
وقوله : (( لن يلج النارأحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها )) ، يعني : الفجر والعصر ؛ أي : لن يدخل النار من عاهد وحافظ على هاتين الصلاتين ؛ ببركة المداومة عليها(7) ، والله أعلم .
*************
(70) باب تعجيل صلاة المغرب
228 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( من صلى البردين دخل الجنة )) ؛ قال كثير من العلماء : هما الفجر والعصر ، وسُمِّيا بذلك ؛ لأنهما يفعلان في وقتي البرد .
ومن باب تعجيل صلاة المغرب
قوله : " إذا غربت الشمس " ؛ أي : ساعة تغرب ، وهذا يدل على تأهبه لها قبل وقتها ، ومراقبة وقتها .
---(3/126)
وقوله : " وتوارت [بالحجاب](5) ؛ أي : استترت بما يحجبها عن الأبصار ، ويعني به : غيبوبة جرم الشمس . وقد تقدم حكاية إجماع الأمة على استحباب تعجيلها ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تزال أمتي بخير - أو قال : على الفطرة - ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم ))(6).
229 - وَعَنْ رَافِعَ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " وإنه ليبصر مواقع نبله " ؛ أي : حيث يقع . وهذا يدل على تعجيل المغرب ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا يطولها.
**************
(71) باب تأخير العشاء الآخرة
230 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أَعْتَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فَقَالَ : (( إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تأخير العشاء الاخرة
قول عائشة : " أعتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات ليلة " ؛ أي : أخر العشاء الآخرة إلى عتمة الليل - وهي ظلمته -. و"ذات ليلة" ؛ أي : ليلة من الليالي . وهذا يدل على أن غالب أحواله كان تقدمها رفقًا بهم ، ولئلا يشق عليهم ؛ كما قال في آخر هذا الحديث . وقال الخطابي : إنما أخرهم ليقل حظ النوم ، وتطول مدة الصلاة ، فيكثر أجرهم ؛ لأنهم في صلاة ما داموا ينتظرون الصلاة. وقال بعض الحكماء : النوم المحمود مقدار ثمان ساعات .
---(3/127)
وقوله : (( إنه لوقتها ))" ؛ يعني : الأفضل ، ولهذا وشبهه قال مالك : إن تأخير العشاء أفضل . وقيل عنه : تعجيلها أفضل أخذًا بالتخفيف ؛ ولأن 231 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : مَكَثْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِصَلاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَلا نَدْرِي أَشَيْءٌ شَغَلَهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ حِينَ خَرَجَ : (( إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ ، وَلَوْلا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ )) ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلاةَ وَصَلَّى .
وَفِي رِوَايَةٍ : شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا ، ثُمَّ رَقَدْنَا ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ... . وذكر نحوه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التعجيل كان غالب أحوال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها . وقد اختار بعض أصحابنا تقديمها إذا اجتمعوا ، وتأخيرها إذا أبطأوا ؛ أخذًا بحديث جابر الآتي . وقوله في حديث ابن عمر : " مكثنا ليلة " ؛ أي : لبثنا وأقمنا ننتظر.
وقوله : " فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك ؟" وقال في الرواية الأخرى : " شغل عنها ليلة " ، قيل : إنه جهز جيشًا .
---(3/128)
وقوله في آخرها : "حتى رقدنا في المسجد ، ثم استيقظنا ، ثم رقدنا" : يعني به : نوم الجالس المحتبي وخطرات السِّنَات ، لا نوم 232 - ومن حَدِيثِ عَائِشَة : فَلَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى قَالَ عُمَرُ : نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .... وذكر نحوه . وَفِيهِ : قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَنْزُرُوا رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصَّلاةِ )). وَذَلِكَ حِينَ صَاحَ عُمَرُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستغراق ، كما قال في الحديث الآخر : " كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينامون حتى تخفق رؤوسهم ، ثم يصلون ولا يتوضؤون ".
وقد تقدم القول في النوم في كتاب الطهارة .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وما كان لكم أن تبرزوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) : رواه الرازي بالباء ، وتقديم الراء ، وضم التاء ، وكسر الراء : من الإبراز ، وهو الإخراج ، ورواه سائر الرواة : " تنزروا " بفتح التاء ، وبالنون ، وتقديم الزاي ، ويضمها ، وهو الصحيح ، ومعناه : الالحاح عليه في الخروج [إلى الصلاة] ، وهذا إنما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤدبًا لهم ومعلمًا لما صاح عمر : نام النساء والصبيان ، والله أعلم .(3/129)
233 - وَعَنْ ثَابِتٍ ؛ أَنَّهُمْ سَأَلُوا أَنَسًا عَنْ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ أَوْ كَادَ يَذْهَبُ شَطْرُ اللَّيْلِ ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ : (( إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَنَامُوا ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاةَ )). قَالَ أَنَسٌ : كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ مِنْ فِضَّةٍ ، وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ الْيُسْرَى بِالْخِنْصِرِ .
---
234- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ نَحْوًا مِنْ صَلاتِكُمْ ، وَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعَتَمَةَ بَعْدَ صَلاتِكُمْ شَيْئًا ، وَكَانَ يُخِفُّ فِي الصَّلاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " أخر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل - أو كاد يذهب شطر الليل -" ؛ أي : نصف الليل . وهذا كقوله في حديث ابن عمرو : " ووقت العشاء : مغيب الشفق إلى نصف الليل" ، وكلاهما(5) حجة لما صار إليه ابن حبيب من أن آخر وقت العشاء الآخرة : نصف الليل .
وقوله : " كأني أنظر إلى وبيص خاتمه في يده من فضة " ، الوبيص : البريق ، وهو دليل على جواز اتخاذ خاتم الفضة ، وعلى جعله في اليد اليسرى ، وهو الأفضل والأحسن عند مالك ، وسيأتي الكلام على ذلك .
باب
235 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُمْ أَلا إِنَّهَا الْعِشَاءُ ، وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالإِبِلِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/130)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لاتغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء )). الأعرابي : من كان من أهل البادية . والعربي : منسوت إلى العرب وإن لم يكن بدويًّا . وهذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء : عتمة إنما كان لئلا يعدل بها عما سماها الله تعالى به(3) في كتابه ؛ إذ قال : { ومن بعدصلاة العشاء }(4) ، فكأنه إرشاد إلى ما هو الأولى ، وليس على جهة التحريم ، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز . ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أطلق عليها ذلك ؛ إذ قال : (( ولو يعلمون ما في العتمة والصبح ))(5) ، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر(6) وابن عباس(7) رضي الله [عنهم](8). وقيل : إنما نهى
وَفِي رِوَايةٍ : (( فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعِشَاءُ ، وَإِنَّهَا تُعْتِمُ بِحِلابِ الإِبِلِ )).
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن ذلك [تنزيهًا] لهذه العبادة [الشريفة] الدينية عن أن يطلق عليه ما هو اسم لفعلة دنيوية ؛ وهي الْحَلْبَةُ التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت ويسمونها : العتمة. ويشهد لهذا قوله : " فإنها تُعْتِمُ بحلاب الإبل". قلت : ويظهر لي أن المقصود من هذا النهي ، ومن قوله : "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب " : أن لا نتبع الأعراب في تسميتهم هاتين الصلاتين بذلك ؛ لأنهم لم يقتدوا في تسميتها ، لا بما جاء في كتاب الله - من تسميتها العشاء - ، ولا بما جاء في السنة - من تسميتها المغرب - ؛ إذ قد ثبت في غير ما حديث تسميتها بالمغرب ؛ كما جاء في حديث جبريل وغيره ، والله أعلم .
**********
(72) باب التغليس بصلاة الصبح(3/131)
236- عَنْ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ . وَفِي رِوَايَةٍ : مُتَلَفِّفَاتٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التغليس بصلاة الصبح
قوله : " متلفعات بمروطهن " ؛ كذا الرواية الصحيحة بالفاء والعين المهملة ، من التلفع ، وهو تغطية الرأس والجسد . وقد وقع لبعض رواة "الموطأ" : "متلففات " ؛ أى : متغطيات . والمروط جمع مِرط بكسر الميم ، وهو الكساء .
وقوله : "ما يعرفن من الغلس" ؛ هو بقايا ظلمة الليل يخالطها بياض الفجر ، قاله الأزهري . وقال الخطابي : والغبش - بالباء والشين المعجمتين- قبل الغَبَس - بالسين المهملة - وبعده الغلس - باللام - وكلها في آخر الليل ، ويكون الغبش أول الليل .
وقوله : " ما يعرفن " ؛ أي : أَهُنّ نساء أم رجال ؟ وقيل : لا تُعرف
---
237- وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا يُؤَخِّرُهَا ، وَأَحْيَانًا يُعَجِّلُ ، كَانَ إِذَا رَآهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ ، وَالصُّبْحَ كَانُوا ، أَوْ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/132)
أعيانهن وإن عرف أنهن نساء ، وإن كن منكشفات الوجوه . وهذا يدل على أن الغالب من صلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصبح إنما كان في أول الوقت ، وكذا قال ابن عباس : " ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات ، لم يعد إلى أن يسفر ". ويفيد هذا : أن صلاة الصبح في أول وقتها أفضل ، وهو مذهب مالك والشافعي وعامة العلماء ، خلا الكوفيين ، فإن آخر وقتها عندهم أفضل .
وقوله : " والمغرب إذا وجبت " ؛ أي : سقطت - يعني الشمس - ، ومنه : وَجَبَ الحائط ؛ أي : سقط .
238- وعن أَبَي بَرْزَةَ ؛ قَالَ : كَان رَسُولِ اللهِِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ ، وَالْعَصْرَ يَذْهَبُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ . قَالَ : وَالْمَغْرِبَ لا أَدْرِي أَيَّ حِينٍ ذَكَرَ . وَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ ، فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ فَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ جَلِيسِهِ الَّذِي يَعْرِفُ فَيَعْرِفُهُ . وَكَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ رَسُولُ اللهِِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ، وَيَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : " والشمس حيَّة " ؛ أي : بيضاء لم تدخلها صفرة . وقيل : أي لم تذهب حرارتها .
وقوله : " وكان يكره النوم قبلها ، والحديث بعدها ". أما كراهة النوم قبلها ؛ فلما يخاف من غلبة النوم ، فيفوت وقتها ، أو فضل وقتها المستحسن ، وقال بهذا جماعة ؛ منهم : ابن عمر ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/133)
وعمر ، وابن عباس ، وغيرهم ، وهو مذهب مالك ، ورخص فيه بعضهم ؛ منهم : علي ، وأبو ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موسى ، وغيرهم . وهو مذهب الكوفيين ، وشرط بعضهم : أن يجعل معه من يوقظه للصلاة ، وروي عن ابن عمر مثله ، وإليه ذهب الطحاوي . وأما ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كراهة الحديث بعدها ؛ فلما يؤدي إليه من السهر ومخافة غلبة النوم آخر الليل ، فينام عن قيام آخر الليل ، وربما ينام عن صلاة الصبح .
قلت : ويظهر لي : أن كراهة ذلك إنما هو لَمَّا أن الله جعل الليل سكنًا - أي : يسكن فيه - ، فاذا تحدث الإنسان فيه فقد جعله كالنهار الذي هو متصرّف المعاش ، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده . وقيل : كره ذلك ؛ لئلا نلغو في كلامنا ، أو نخطئ فيه ، فنختم عملنا بعمل سيء ، أو بقول سيء . و" النوم أخو الموت " ، أو لعله يكون فيه الموت ، والله أعلم .
وقيل : كره ذلك ليراح الكتبة الكرام . وقد كان بعض السلف يقول لمن أراد أن يتحدث بعد العشاء : أريحوا الكَتَبَة. وهذه الكراهة تختص بما لا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
يكون من قبيل القُرَبِ ، والأذكار ، وتعلم العلم ، ومسامرة أهل العلم ، وبتعلم المصالح وما شابه ذلك . فقد ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعن السلف ما يدل على جواز ذلك ، بل على ندبيته ، والله أعلم .
**************
(73) با ب المنع من إخراج الصلاة عن وقتها(3/134)
239- عَنْ أَبِي ذَرٍّ ؛ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؟ أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؟ "قَالَ : قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : " صَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا ، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ " .
وَفِي رِوَايَةٍ : " فَإِنْ صَلَّيْتَ لِوَقْتِهَا كَانَتْ لَكَ نَافِلَةً ، وَإِلا كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلاتَكَ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب المنع من إخراج الصلاة عن وقتها
قوله : " يؤخرون الصلاة عن وقتها ، أو يميتون الصلاة " ، هو شك من أحد الرواة . وإماتتها : إخراجها عن وقتها حتى تكون كالميت الذي لا روح له . وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أعلام نبوته ؛ إذ قد أخبر بأمر غيبي وقع على نحو مما أخبر ، وقد ظهر بعده من تأخير بني أمية للصلوات ما قد عُرِف ، وشُوِهد.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كيف أنت إذا كانت عليك أمراء )) : إشعار بقرب زمان ذلك .
---
240- وعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ ؛ قَالَ : أَخَّرَ ابْنُ زِيَادٍ الصَّلاةَ ، فَجَاءَنِي عَبْدُالله بْنُ الصَّامِتِ ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ كُرْسِيًّا فَجَلَسَ عَلَيْهِ ، فَذَكَرْتُ لَهُ صَنِيعَ ابْنِ زِيَادٍ ، فَعَضَّ عَلَى شَفَتيِهِ ، فَضَرَبَ فَخِذِي وَقَالَ : إِنِّي سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ كَمَا سَأَلْتَنِي ، فَضَرَبَ فَخِذِي كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ ، وَقَالَ : إِنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَمَا سَأَلْتَنِي ، فَضَرَبَ فَخِذِي كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ وَقَالَ : " صَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا ، فَإِنْ أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ مَعَهُمْ فَصَلِّ ، وَلا تَقُلْ إِنِّي قَدْ صَلَّيْتُ فَلا أُصَلِّي".(3/135)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( صل الصلاة لوقتها )) ؛ يعني : الأفضل ، بدليل قوله : (( فإن أدركتها معهم )) ؛ أي : في الوقت . وبدليل قوله : " فإن صُلِّيَتْ لوقتها كانت لك نافلة )) ؛ أي : زيادة في العمل والثواب .
وقوله : (( وإلا كنت قد أحرزت صلاتك )) ؛ أي : فعلتها في وقتها ، وعلى ما يجب أداؤها . وفيه : جواز فعل الصلاة مرتين . ومحمل النهي ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن إعادة الصلاة : على إعادتها من غير سبب . وتأخير ابن زياد الصلاة على رأي بني أمية في تأخيرهم الصلوات . وضرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فخذ أبي ذر تنبيهٌ له على الاستعداد لقبول ما يلقى إليه .
وقوله : (( ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي )) ؛ نهاه عن إظهار خلافٍ على الأئمة ، ولذلك قال : " إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع ، وإن كان عبدًا مُجَدَّع الأطراف".
*************
(74) باب صلاة الفذ جائزة والجماعة أفضل
---
241- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : " صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صلاة الفذ جائزة والجماعة أفضل
قوله : (( صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا )) ، وفي حديث ابن عمر : (( بسبع وعشرين درجة )). اختلف في الجزء والدرجة : هل مقدارهما واحد أو لا ؟ فقيل : الدرجة أصغر من الجزء ، فكأن [الخمسة] العشرين جزءًا إذا جُزِّئت درجات كانت سبعًا وعشرين . وقيل : يحمل على أن الله تعالى كتب فيها أنها أفضل بخمسة وعشرين جزءًا ، ثم تفضل بزيادة درجتين .(3/136)
وقيل : إن هذا بحسب أحوال المصلين ؛ فمن حافظ على آداب الجماعة ، واشتدت عنايته بذلك ، كان ثوابه سبعًا وعشرين ، ومن نقص عن 242- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : " صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً " .
وَفِي رِوَايَةٍ : " صَلاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك كان ثوابه خمسًا وعشرين . وقيل : إنه راجع إلى أعيان الصلوات كالصبح والعصر أو ما شاء الله منها ، فيكون على بعضها سبعًا وعشرين ، وعلى بعضها خمسًا وعشرين ، والله أعلم .
وهذا الحديث رد على داود في قوله : إن من صلى فذًّا وترك الجماعة لا تجزئه صلاته . ووجه الرد عليه : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ فشّرك بينهما في الفضيلة ، وذلك لا يكون إلا بعد الحكم بصحة كل صلاة منهما. وقد نص على هذا المعنى في الرواية التي قال
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/137)
فيها : ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده سبعًا وعشرين درجة )). ولا تتحقق الزيادة إلا بعد ثبوت المزيد عليه وتحققه ، وقد أفادت هذه الزيادة أن المصلي في جماعة [يكون] له ثمانية وعشرون جزءًا باعتبار الأصل الذي زيد عليه سبع وعشرون ، ويكون للمصلي وحده جزء واحد . لا يقال : إن لفظة أفعل قد تَرِد لإثبات صفة في إحدى الجهتين ونفيها عن الأخرى ، وأفضل المضافة إلى صلاة الفذ كذلك ؛ لأنا نقول : إنما يصح ذلك في أفعل مطلقًا غير مقرون بمن ؛ كقوله تبارك وتعالى : {فتبارك الله أحسن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخالقين}. وقد اختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة : هل هو لأجل الجماعة فقط حيث كانت ، أو إنما يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد ؟ لما يلازم ذلك من أفعال تختص بالمساجد ، كإكثار الخطا إلى المساجد ، وكتب الحسنات ، ومحو السيئات بكل خطوة ، وانتظار الصلاة ، ودعاء الملائكة ، ومراعاة آداب دخول المسجد إلى غير ذلك ؟ والظاهر الأول ؛ لأن الجماعة هو الوصف الذي علق عليه الحكم . ثم إذا قلنا ذلك لأجل الجماعة ، فهل تفضل جماعة جماعة بالكثرة ؟ المشهور عن مالك أنه لا فضل هل لجماعة على جماعة . وقال ابن حبيب : بل تفضل جماعة جماعة بالكثرة ، وفضيلة الإمام . وعلى المشهور : فمن صلى في جماعة ، فلا يعيد في أكثر منها ، وعليه عامة العلماء ، إلا ما روي عن مالك وغيره من إعادتها في المساجد الثلاثة في الجماعة .
*************
(75) باب التغليظ في التخلف عن الجماعة والجمعة
---(3/138)
243- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِنَّ أَثْقَلَ صَلاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاةُ الْعِشَاءِ وَصَلاةُ الْفَجْرِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ ، مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ ؛ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ " .
وَفِي رِوَايَةٍ : " ثُمَّ تحرق بُيُوت عَلَى مَنْ فِيهَا " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التغليظ في التخلف عن الجماعة والجمعة
ثقل صلاة العشاء والفجر على المنافقين للمشقة اللاحقة من المحافظة [عليهما] ؛ لأنهما في وقت نوم وركون إلى الراحة ، ولمشقة الخروج إليهما في الظلمة ، إلى(3) غير ذلك ، فلا يتجشَّم هذه المشاق إلا من تيقن بثواب(4) الله ورجاه ، وخاف عقاب الله واتقاه ، وذلك هو المؤمن . وأما المنافق فكما قال الله فيهم : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً }(5).
وقوله : (( ولو يعلمون ما فيهما )) ؛ أي : في فعلهما من الثواب ، وفي
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تركهما من العقاب . (( لأتوهما )) ؛ أي : لجاءوا إليهما . (( ولو حبوا )) ؛ أي : محتبين يزحفون على آلياتهم من مرض أو آفة .
---(3/139)
وقوله : ((ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام )) إلى قوله : ((فأحرق عليهم )) استدل بهذا الهمّ داود وعطاء وأحمد وأبو ثور على أن صلاة الجماعة فرض ، ولا حجة لهم فيه ؛ لأنه "هَمَّ " ولم يفعل ، وإنما مخرجه مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة والجمعة . وقد كان التخلف عن الصلاة في الجماعة علامة من علامات النفاق عندهم ؛ كما قال عبد الله بن مسعود : " لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق " ، وكما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح ، لا يستطيعونهما )). ويفيد هذا الحديث تأكُّدَ أمر شهود الصلوات في الجماعة ، وكذلك قال جماعة من أئمتنا : إن الجماعة فيها واجبة على الكفاية من أجل أن إقامة السنن وإحياءها واجب على الكفاية ؛ إذ تركها يؤدي إلى إماتتها . وذهب عامة العلماء إلى أنها سنة مؤكدة ، كما قد دللنا عليه بقوله : (( صلاة الجماعة 244- وعَنْ عَبْدِ الله ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ : "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أُحَرِّقَ - عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ - بُيُوتَهُمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أفضل من صلاة الفذ )) ؛ إذ حاصله : أن صلاة الفذ صحيحة . ووقوعها في الجماعة أفضل .
قال القاضي عياض : اختلف في التمالوءِ على ترك ظاهر السنن ، فهل يقاتل عليه أم لا ؟ والصحيح قتالهم ؛ لأن في التمالوءِ عليها إماتتها .
---(3/140)
قلت : ويحتمل أن يكون ذلك التهديد لقوم من المؤمنين صلوا في بيوتهم لأمر توهّموه مانعًا ولم يكن كذلك . ويؤيد هذا التأويل : ما في كتاب أبي داود من الزيادة في هذا الحديث ، فقال : (( لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزمًا من حطب ، ثم آتي قومًا يصلّون في بيوتهم ليست بهم علّة فأحرقها عليهم )). والمنافقون لا يصلون في بيوتهم ، إنما يصلون في الجماعة رياء وسمعة ، وأما إذا خلوا ، فكما وصفهم الله به من الكفر والاستهزاء . ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى هذا التأويل تكون هذه الجماعة المهدَّد على التخلُّف عنها هي الجمعة ، كما قد نص عليه في حديث عبد الله بن مسعود ، فيحمل المطلق منهما على المقيَّد ، والله أعلم .
وفي هذا الحديث دليل على جواز العقوبة في المال . وفي قوله : (( ثم تُحَرَّق بيوتٌ على من فيها )) ما يدل على [أن] تارك الصلاة متهاونًا يقتل . وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غِرَّة .
وقوله : (( ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها )) ، وقال البخاري - آخِرَ هذا الحديث - : (( والذي نفسي بيده ! لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مِزْمَاتين حسنتين لشهد العشاء )). والعرق والعراق : العظم الذي عليه اللحم . والمرماة - بكسر الميم - ، صحيح الرواية فيه كذلك . وقد اختلف فيها ، فقال ابن حبيب : هما السهمان . وقال الأخفش : المرماة : لعبة كانوا يلعبونها بنصال محددة يرمونها في كوم من تراب ، فأتهم أثبتها في الكوم غلب . وهي : المرماة والمدحاة ، والجمع : مرام ومداح . وقال أبو عبيد : المرماة : ما بين ظلفي الشاة . ومعنى هذا الحديث : أن المنافق لجهله(6)
---(3/141)
245 -وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ ، فَرَخَّصَ لَهُ ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ : "هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ ؟" قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : " فَأَجِبْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بما أعدّ على شهودها فى الجماعة اعة يكسل عنها ، وتثقل عليه ، ولقلة رغبته في أعمال الخير . فلو عَنَّ له حظ يسير من الدنيا كالمرماة ، أو كالعرق ؛ لبادر إليه وأتى المسجد في أي وقت كان ، إذا كان ذلك الحظ في المسجد ، والله أعلم .
وقول أبي هريرة : " أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلٌ أعمى" هو ابن أم مكتوم على ما ذكره أبو داود والدارقطني .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فرخص له ، فلما ولى دعاه " : هذا الترخيص إنما كان من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بناء منه على أنه لما لم يكن له قائد يقوده تعذّر عليه المشي إلى المسجد ، ثم إنه لما تبين له حاله أنه يتمكن من ذلك ؛ كما قد يتفق لبعض العميان ، قال له : (( لا أجد لك رخصة )) ؛ كما رواه أبو داود في هذا الخبر . ودليل صحة ما ذكرناه : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو تحقق له عذرًا ؛ كما رخص لعتبان. وكما قد أجمعت الأمة عليه من سقوط حضور الجماعة عن ذَوي الأعذار .
---(3/142)
246- وعَنْ عَبْدِ الله ؛ قَالَ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى الله غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ ، حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ . فَإِنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُنَنَ الْهُدَى ، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى ، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ ، إِلا كَتَبَ الله لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً ، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً ، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً . وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ.وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هل تسمع النداء بالصلاة ؟ )) قال : نعم . قال : (( أجب )) يدل على أن ذلك كان في الجمعة ، وحينئذ لا تكون فيه حجة لداود ، ولا لمن استدل به على وجوب الجماعة في غير الجمعة . ولو سُلِّم أن المراد به الجماعة لسائر الصلوات ؛ لأمكن أن يقال : كان ذلك سدًّا لباب الذريعة إلى إسقاطها لأجل المنافقين ، كما قال عبد الله : " ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق أو مريض ".
وقوله في حديث ابن مسعود : " ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتموها لضللتم " هذا يصلح أن(3/143)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
يتمسك به من قال : إن إقامة الجماعة للصلوات فرض على الكفاية ؛ كما حكيناه . ويصلح لمن يقول : إنها سنة . ويكون إطلاقه الضلال على التاركين إذا تمالؤوا على تركها كما قدمناه . والضلال ضد الهدى ، وأصله من : ضلَّ عن الطريق : إذا أخطاه وعدل عنه . و"السَّنَنُ " روي بفتح السين ؛ وهو الطريق ، وبضمها : جمع سُنَّة ؛ وهي : الطريقة . و"يهادَى بين الرجلي" : يتماشى بينهما معتمدًا عليهما لمرضه وضعفه .
*****************
( 76 ) باب النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان ، وفضل العشاء والصبح في جماعة
247- عَنْ أبي هُرَيْرَةَ ، وَرَأَى رَجُلاً يَجْتَازُ الْمَسْجِدَ خَارِجًا بَعْدَ الأَذَانِ. فَقَالَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان
قول أبي هريرة في الخارج من المسجد : " أما هذا فقد عصى أبا القاسم " محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ بدليل ظاهر نسبته إليه في معرض الاحتجاج به ، وما كان يليق بواحد منهم ؛ للذي عُلِم من دينهم وأمانتهم وضبطهم وبعدهم عن التدليس ومواقع الإيهام ، وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان ، فأطلق لفظ المعصية . فإذا ثبت هذا استُثمر منه : أن من دخل المسجد لصلاة فرض ، فأذن مؤذنٌ ذلك الوقت ، حَرُمَ عليه أن يخرج منه لغير ضرورة ، حتى يُصلي فيه تلك الصلاة ؛ لأن ذلك المسجد تعين لتلك الصلاة ، أو لأنه إذا خرج قد يمنعه مانع من الرجوع إليه ، أو إلى غيره فتفوته الصلاة .(3/144)
248- وعَنْ عُثْمَانُ بْنُ عَفْانَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : " مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ ".
---
249- وعَنْ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ الله الْقَسْرِيّ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الله ، فَلا يَطْلُبَنَّكُمُ الله مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ ، ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِجَهَنَّمْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( من صلى العشاء في جماعة ، ن فكأنما قام نصف ليلة ، ومن صلى ال الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله )) ؛ معناه : قام نصف ليلة أو ليلة لم يصل فيها العتمة والصبح في جماعة ؛ إذ لو صلى ذلك في جماعة لحصل له فضلها وفضل القيام .
وقوله : (( من صلّى الصبح فهو في ذمّة الله )) ؛ أي : في أمان الله ، وفي جواره ؛ أي : قد استجار بالله تعالى ، والله تعالى قد أجاره ، فلا ينبغي لأحد أن يتعرض له بضر أو أذى ، فمن فعل ذلك فالله تعالى يطلبه(5) بحقه ، ومن يطلبه لم يجد مفرًّا ولا ملجأ . وهذا وعيد شديد لمن يتعرض للمصلين ، وترغيب حضور صلاة الصبح . و" يكبه في النار" : يقلبه فيها على وجهه .
( 77 ) باب الرخصة في التخلف عن الجماعة للعذر
---(3/145)
250- عَنْ مَحْمُودَ بْنَ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيَّ ؛ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ َ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنِّي قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي ، وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي ، وَإِذَا كَانَتِ الأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ، وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ ، فَأُصَلِّيَ لَهُمْ . ووَدِدْتُ أَنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَأْتِي فَتُصَلِّي فِي مُصَلًّى ، أَتَّخِذَهُ مُصَلًّى ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ الله" قَالَ عِتْبَانُ : فَغَدَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الرخصة في التخلف عن الجماعة للعذر
قوله : " أنكرت بصري " ؛ أي : عميت بعد أن لم أكن كذلك ، وفي هذا الحديث أنه أباح له الصلاة في بيته لتحقق عذره ؛ ولأن مثل هذا لا يقدر على الوصول مع الأمطار وسيل الوادي ، وكونه أعمى. وهذا بخلاف عذر الأعمى الذي في حديث أبي هريرة المتقدم ؛ إذ قال له : ((لا أجد(3)لك رخصة )).
---(3/146)
فَأَذِنْتُ لَهُ ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ ، ثُمَّ قَالَ : " أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ ؟ " قَالَ : فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَكَبَّرَ ، فَقُمْنَا وَرَاءَهُ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، قَالَ : وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرٍ صَنَعْنَاهُ لَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ : جَشِيشَةٍ - قَالَ : فَثَابَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ حَوْلَنَا ، حَتَّى اجْتَمَعَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ ذَوُو عَدَدٍ ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟فَقَالَ بَعْضُهُمْ : ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ.فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا تَقُلْ لَهُ ذَلِكَ ، أَلا تَرَاهُ قَدْ قَالَ : لا إِلهَ إِلا الله ، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ الله؟" قَالُوا : الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : فَإِنَّمَا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ لِلْمُنَافِقِينَ . قَالَ :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد تقرر الإجماع المتقدم على أن من تحقق عذره أبيح له التخلف عن الجماعة والجمعة ، وسيأتي ذلك إن شاء الله .
و"الخزيرة" قال فيها ابن قتيبة : هي لحم يقطع صغارًا ، ثم يصب عليه ماء كثير ، فإذا أنضج ذُرّ عليه الدقيق ، فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة. وقال أبو الهيثم : إذا كان من دقيق فهي حريرة ، وإذا كانت من نخالة فهي
خزيرة . قال ابن السكيت : الخزيرة : اللفيتَةُ من لبن أو ماء ودقيق . قلت : وقد سماها في الرواية الأخرى : " جشيشة ". قال شمر : هي أن تطحن الحنطة قليلاً ، ثم يلقى فيها لحم أو تمر فيطبخ فيه .
وقال النضر : الخزيرة من النخالة ، والحريرة من اللبن .
---(3/147)
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فَإِنَّ الله قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ : لا إِلهَ إِلا الله ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله " . قَالَ الزُّهْرِيِّ : ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَائِضُ وَأُمُورٌ ، نَرَى أَنَّ الأَمْرَ انْتَهَى إِلَيْهَا ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَغْتَرَّ فَلا يَغْتَرَّ .
وَفِي رِوَايَةٍ : قاَلَ مَحْمُودُ بْنُ الرَبِيْعِ : إِنّي لأَعْقِلُ مَجَّةً مَجَّهَا رَسُوْلُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ دَلْوٍ فِي دَارِنْاَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فثاب رجال " ، قال النضر : المثابة : المجمع والمرجع . وأصله من ثاب إلى كذا ؛ أي : رجع .
وقد تقدم الكلام على قوله : (( إن الله حرَّم على النار من قال : لا إله إلا الله )).
وقول محمود : " إني لأعقل مَجَّةً مَجَّها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من دلو في دارنا" ؛ أي : في وجهه . والمجّ : طرح الماء وغيره من الفم ؛ كما قال :
يَمُجُّ لُعَاعَ البَقْل في كُلّ مَشْربِ
وإنما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك مباسطة للصبي وتَأْنِيسًا له ؛ كما قال : (( يا أبا عمير
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما فعل النغير )) ، ، أو لعله فعل هذا ليعقل هذا الفعل منه لصغره ، فيحصل له بذلك تأكيد في فضيلة الصحبة ، ونقل شيء عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما كان . وكان محمود إذ ذاك ابن أربع سنين . وقيل : ابن خمسٍ . وفيه دليل : على جواز سماع الصغير إذا عقل وثبت ، ثم نقل في كبره . وهذا الحديث فيه أبواب من الفقه كثيرة لا تخفى على متأمل ، والله الموفق للصواب .
**************
( 78 ) باب صلاة النفل في جماعة ، والصلاة على البسط
وإن عتقت وامتهنت
---(3/148)
251- عَنْ إِسْحاَقَ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ : " قُومُوا فَأُصَلِّيَ لَكُمْ ". قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا ، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صلاة النفل في جماعة
الضمير في قوله : " أن جدته مليكة " عائد على إسحاق بن عبد الله ، وهي أم أبيه : عبد الله بن أبي طلحة . ومالك هو القائل : " أن جدته " ، قال أبو عمر ، وغلّط غيرُه هذا القول ، وقال : بل مليكة جدة أنس أم أمه ، وعليه يعود الضمير ، وهو القائل : " أن جدته ". والرواية الصحيحة : " مُلَيْكَة "
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بضم الميم وفتح اللام ، وذكر ابن عتابٍ عن الأصيلي [أنها] : "مَلِيكة" ، بفتح الميم وكسر اللام .
وقوله : " فنضحته بماء " ، قال إسماعيل بن إسحاق : إنما [نضحته] ليلين وليتوطّأ للصلاة ، والأظهر قول غيره : إن ذلك إما لنجاسة متيقنة ، فيكون النضح هنا غَسلاً ، أو متوقعها ؛ [ لامتهانه بطول] افتراشه ، فيكون رشًّا لزوال الشك وتطيب النفس ، وهذا هو الأليق ، لا سيما وقد كان عندهم أبو عمير أخو أنس طفلاً صغيرًا حينئذ .(3/149)
وقوله : " فصففت أنا واليتيم وراءه " : حجة لكافة أهل العلم في أن هذا حكم الاثنين خلف الإمام ، وعلى أبي حنيفة والكوفيين ؛ إذ يقولون : يكونان عن يمينه ويساره .
---
وقوله : " والعجوز من ورائنا " ؛ هذا حكم قيام المرأة خلف الإمام ، ولا خلاف فيه . ويجوز أن يتمسك به على أن المرأة لا تؤم الرجال ؛ لأنها إذا كان مقامها في الائتمام متأخرًا عن مرتبة الرجال ، فأبعد أن تتقدمهم ، وهو قول 252-وعَنْ أَنَسِ أَيْضًا قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا ، فَرُبَّمَا تَحْضُرُ الصَّلاةُ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا ، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ ، ثُمَّ يُنْضَحُ ، ثُمَّ يَؤُمُّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَنَقُومُ خَلْفَهُ ، فَيُصَلِّي بِنَا . قَالَ : وَكَانَ بِسَاطُهُمْ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجمهور خلافًا للطبري وأبي ثور في إجازتهما إمامة النساء للنساء والرجال جملة ، وحكي عنهما إجازة ذلك في التراويح إذا لم يوجد قارئ غيرها. واختلف في إمامتها للنساء ، فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى منع إمامتها للنساء ، وأجاز ذلك الشافعي ، وفيه رواية شاذة عن مالك .
---(3/150)
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه ؛ منها : الصلاة على ما تُنْبِتُه الأرض ؛ فإن هذا الحصير كان من جريد النخل ، كما قاله في الرواية الأخرى ، ولا خلاف في هذا . وما رُوي عن عمر بن عبد العزيز من خلاف هذا ؛ إنما كان لأن مباشرة الأرض أبلغ في التواضع . وفيه(4) : أن الافتراش سُمِّي(5) لباسًا ، فمن حلف ألا يلبس ثوبًا ، فافترشه وجلس(6) عليه حنث ، وعلى هذا لا يفترش الرجل الحرير فيجلس عليه ، وهو مذهب مالك وكافة العلماء ، خلافًا لعبد الملك ، ومن قال بقوله في إجازة الافتراش . وفيه حجة على أن من يعقل الصلاة من الصبيان حكمهم في القيام خلف الإمام حكم الرجال ، وهو 253- وعَنْهُ ، قَالَ : دَخَلَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَيْنَا ، وَمَا هُوَ إِلا أَنَا وَأُمِّي وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي ، فَقَالَ : " قُومُوا فَلأُصَلِّيَ بكُمْ " - فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ - فَصَلَّى بِنَا ، فَقَالَ رَجُلٌ لِثَابِتٍ : أَيْنَ جَعَلَ أَنَسًا مِنْهُ ؟ قَالَ جَعَلَهُ عَنْ يَمِينِهِ ، ثُمَّ دَعَا لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، فَقَالَتْ أُمِّي : يَا رَسُولَ اللهِ! خُوَيْدِمُكَ ادْعُ الله لَهُ . قَالَ : فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ ، وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا لِي بِهِ أَنْ قَالَ : " اللهمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ ، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مذهب الجمهور ، وروي عن أحمد كراهة ذلك ، وقال : لا يقوم مع الناس إلا من قد بلغ . وروي عن عمر بن الخطاب وغيره أنه كان إذا أبصر صبيًّا في الصف أخرجه ، وهذا عند الكافة محمول على من لا يعقل الصلاة ولا يكف عن العبث فيها.
---(3/151)
وقوله : (( قوموا فلأُصلي لكم )) ؛ هذه اللفظة رويناها هنا : " فلأصلي لكم" بكسر لام "فلأصليَ لكم " وفتح الياء ؛ على أنها لام كي ، والفاء زائدة . وقد جاءت زائدة في مواضع ؛ منها قولهم : زيد فمنطلق ، كما قال :
254- وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدَرِيْ ؛ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقائلة خَوْلانُ فانكح فتاتهم
وهو مذهب الأخفش فيما سمعت .
وقد روي بكسر اللام وجزم الياء ، على أنه أمر نفسه ؛ كما يقال : لأقم ولأقعد. وقد روي بفتح اللام وإثبات الياء ساكنة ، وهي أشذّها ؛ لأن اللام تكون جواب قسم محذوف ، وحينئذ يلزمها النون في الأَعْرَف . وقيل : إن اللام [ مُقْحَمَة ] ؛ كقوله تعالى : { إن كاد ليضلنا } ، وكقول الشاعر :
أُمُّ حُلَيْس لَعَجُوزٌ سَهْلَبَة
وقوله : (( اللهم أكثر ماله وولده )) : حجة على جواز الدعاء في تكثير المال والولد ، لكن مع الدعاء بالبركة ، والاجتهاد في كفاية الفتنة ، وبذلك كمل لأنس خير الدنيا والآخرة ، وهذا الحديث عَلَم من أعلام نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنه استحبيب له في أنس ، فكثر ماله وولده.
*************
(79) باب فضل انتظار الصلاة في المسجد
---(3/152)
255- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " صَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ ، وَصَلاتِهِ فِي سُوقِهِ ، بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ ، لا يَنْهَزُهُ إِلا الصَّلاةُ ، لا يُرِيدُ إِلا الصَّلاةَ ، فَلَمْ يَخْطُ خَطْوَةً ، إِلا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ ، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي الصَّلاةِ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ هِيَ تَحْبِسُهُ ، وَالْمَلائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ يَقُولُونَ : اللهمَّ ارْحَمْهُ ، اللهمَّ اغْفِرْ لَهُ ، اللهمَّ تُبْ عَلَيْهِ ، مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ ". قِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ : مَا يُحْدِثُ ؟ قَالَ : يَفْسُو أو يَضْرِط .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل انتظار الصلاة
قوله : (( لا ينهزه إلا الصلاة )) ؛ أي : لا يحركه إلا إرادة الصلاة . ومنه : انتهز الفرصة ؛ أي : تحرك إليها وحصّلها .
وقوله : (( ما لم يحدث فيه )) ، قد فسره أبو هريرة بما ذكره في الأصل ، وهو منه تمسك بالعرف الشرعي . وقد فسره غيره بأنه الحدث الذي يصرفه ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن إحضار قصد انتظار الصلاة ، ويحمله على الإعراض عن ذلك ، سواء كان مسوغًا أو غير مسوغ ، وهو تمسك بأصل اللغة . حمله بعضهم على إحداث مأثم ، والله أعلم .
وقد تقدم الكلام في البضع .
---(3/153)
وهذا الحديث يفهم منه : أن فضل الجماعة لم يكن لأجل الجماعة فقط ، بل فى لما يلازمها من الأحوال ؛ كقصد الجماعة ، ونقل الخطا ، وانتظار الصلاة ، وصلاة الملائكة عليه ، وغير ذلك . ويعتضد بهذا الحديث مالك لمذهبه في قوله : لا تفضل جماعةٌ جماعةً ؛ لاشتراكهم في تلك الأمور .
وقوله : (( فلم يخط خطوة )) ، بضم الخاء - الرواية - ، وهي واحدة الخُطا ، وهو ما بين القدمين . فأما الخطوة - بفتح الخاء - فهي المصدر ، واحدة الخَطو. فالضم للاسم ، والفتح للمصدر .
وقوله : (( ما لم يؤذ فيه )) ؛ أي : ما لم يصدر عنه مايتأذى به بنو آدم أو الملائكة. قلت : ويحتمل قوله : (( ما لم يحدث فيه )) أن يكون بدلاً من ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (( ما لم يؤذ فيه )).
وقوله : (( إلا رفع له بها درجة وحُطّ عنه [بها] خطيئة )) ، قال الداودي : إن كانت له ذنوب حُطّت عنه ، وإلا رفعث له درجات .
قلت : وهذا يقتضي أن الحاصل بالخُطوة درجة واحدة : إما الحَطّ ، وإما الرفع . وقال غيره : بل الحاصل بالخطوة الواحدة ثلاثة أشياء ؛ لقوله في الحديث الآخر : (( كتب الله له بكل خطوة حسنة ، ويرفعه بها درجة ، ويحط بها عنه سيئة )) ، والله أعلم .
*************
( 80 ) باب من كانت داره عن المسجد أبعد كان ثوابه في
إتيانه أكثر
256- عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاةِ أَبْعَدُهُمْ إِلَيْهَا مَمْشًى ، فَأَبْعَدُهُمْ . وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنِ الَّذِي يُصَلِّيهَا ثُمَّ يَنَامُ ".
---(3/154)
257-وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَار ، لا أَعْلَمُ رَجُلاً أَبْعَدَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ ، وَكَانَ لا تُخْطِئُهُ صَلاةٌ . قَالَ : فَقِيلَ لَه : - أَوْ قُلْتُ لَهُ- لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ فِي الظَّلْمَاءِ وفي الرَّمْضَاءِ . قَالَ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَنْزِلِي إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ ، وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " قَدْ جَمَعَ الله لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ " .
258-وعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله قَالَ : كَانَتْ دِيَارُنَا نَائِيَةً مِنِ الْمَسْجِدِ ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَبِيعَ بُيُوتَنَا فَنَقْتَرِبَ مِنَ الْمَسْجِدِ ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : "إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خَطْوَةٍ دَرَجَةً " .
259- وعَنْهُ قَالَ : أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ قَالَ : وَالْبِقَاعُ خَالِيَةٌ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : " يَا بَنِي سَلِمَةَ ! دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ" فَقَالُوا : مَا كَانَ يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من كانت داره عن المسجد أبعد كان ثوابه في أتيانه أكثر
---(3/155)
قوله : (( دياركم تكتب آثاركم )) : " دياركم " : بالنصب على الإغراء ؛ أي : الزموا دياركم . و"تكتب" : جزم على جواب ذلك الأمر. و"الآثار" : الخُطا . و"البقاع" : جمع بُقعة ؛ وهي المواضع الفارغة ، زاد في كتاب البخاري : " وكره أن تُعْرَى المدينة " ، وهذا تنبية على علّة أخرى تحملهم على مقامهم بمواضعهم ؛ وهي أنه كره أن تترك جهات المدينة عراء ؛ أي : فضاء خالية ، فيؤتون منها . ومن هذا قوله تعالى : { فنبذناه بالعراء } ؛ أي : بموضع خال . وهذا الحديث ، بل والأحاديث التي قبله تدل على أن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البعد من المسجد أفضل ، فلو كان بجوار مسجد فهل له أن يجاوزه للأبعد ؟ اخْتُلَف فيه ، فرُوِيَ عن أنس : أنه كان يجاوز المحدث إلى القديم ، ورُوِي عن غيره أنه قال : الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا . وكره الحسن وغيره هذا ، وقال : لا يدع مسجدًا قربه ويأتي غيره ، رهو مذهبنا . وفي المذهب عندنا في تخطي مسجده إلى مسجده الأعظم قولان .
**************
باب
260- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شيء ؟" قَالُوا : لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ . قَالَ : " فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، يَمْحُو الله بِهِنَّ الْخَطَايَا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/156)
وقوله في "الأم" : (( مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر )) ، النهر : ما بين جَنَبَتَيْ الوادي ، وسمي نهرًا لسعته ، وسمي النهار به لسعة ضوئه ، ويقال : نَهْر ونَهَر - بسكون الهاء وفتحها -. وكذلك يقال في كل ما كان عين الفعل منه حرف حلق ؛ مثل : شَعَر ، وشَعَر ، ودَهْر ، ودَهَر .
---
و "الغمر" بفتح الغين : الماء الكثير ، وبضمّها : الرجل الذي لم يجرب الأمور ، وبكسرها : الحقد . و"الدرن " : ا لوسخ .
وقوله : (( هل يبقى من درنه شيء ؟ )) ، كذا صخت الرواية بفتح ياء "يَبقى" ؛ مبني للفاعل ، وبإثبات "مِن" ، وبتمام الكلام على "درنه" ، من غير 261- وعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : " مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ الله لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"شيء ". ويحمل على أن "مِن" زائدة على الفاعل ؛ لأن الكلام قبلها غير موجب ، فكانه قال : " هل يبقى درنه ؟" وقد تخيل بعض الناس أن في الكلام حذفًا ، فقال : " هل يبقى من درنه من شيء ؟" ولا تعضده الرواية ، ولا القانون النحوي . وظاهر هذا الحديث : أن الصلوات بانفرادها تستقل بتكفير جميع الذنوب كبائرها وصغائرها ، وليس الأمر كذلك ؛ لاشتراطه في الحديث المتقدم الكبائر ، فدل ذلك على أن المكفَّر بالصلوات هي جميع الصغائر إن شاء الله ، وقد تقدم القول في ذلك في كتاب الإيمان .
وقوله : (( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة )) ، أصل "غدا" : خرج بغُدُوٍّ ؛ أي : مبكِّرًا ، و"راح " : رجع بعشي . ثم قد يستعملان في الخروج والرجوع مطلقًا توسعًا . وهذا الحديث يصلح أن يحمل على الأصل ، وعلى التوسع به ، والله أعلم .(3/157)
262- وعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالَ : "أَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى الله مَسَاجِدُهَا ، وَأَبْغَضُ الْبِلادِ إِلَى الله أَسْوَاقُهَا " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و" أعدّ " : هَيَّأ ، ومنه قولهم :
وأَعْدَدْتُ للحرب أوزارها رماحًا طوالاً وخيلاً ذكورًا
و"النُّزل " : ما يُهَيّأ للضيف من الكرامة .
وقوله : (( كلما غدا أو راح )) ؛ أي : بكل غدوة [أو روحة].
---
وقوله : (( أحب البلاد إلى الله مساجدها )) ؛ أي : أحب بيوت البلاد ، أو بقاعها . وإنما كان ذلك ؛ لما خُصّت به من العبادات ، والأذكار ، واجتماع المؤمنين ، وظهور شعائر الدين ، وحضور الملائكة . وإنما كانت الأسواق أبغض البلاد إلى الله ؛ لأنها مخصوصة بطلب الدنيا ، ومخادعة العباد ، والإعراض عن ذكر الله ؛ ولأنها مظان الأيمان الفاجرة ، وهي معركة الشيطان ، وبها يركز رايته . وقد تقدم الكلام في معنى حب الله وبغضه .
************
( 81 ) باب الجلوس في المصلى بعد صلاة الصبح
263- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَقِيلَ لَهُ : أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : نَعَمْ ، كَثِيرًا ، كَانَ لا يَقُومُ مِنْ مُصَلاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أَوِ الْغَدَاةَ ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ . وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ ، فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ ".
وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ إِذْاَ صَلىَ الفَجْرَ جَلَسَ فِيْ مُصَلاَّهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَمْسُ حَسَنًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الجلوس في المصلى بعد الصلاة حتى تطلع الشمس(3/158)
قوله : " كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يقوم من مصلاّه الذي يصلي [فيه الصبح] حتى تطلع الشمس " ، هذا الفعل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدل على استحباب لزوم موضع صلاة الصبح ؛ للذكر ، والدعاء ، إلى طلوع الشمس ؛ لأن ذلك الوقت وقت لا يُصلَّى فيه ، وهو بعد صلاةٍ مشهودة ، وأشغال اليوم بعدُ لم تأت ، فيقع الذكر والدعاء على فراغِ قلبٍ ، وحضورِ فهمٍ ، فيرتجى فيه قبول الدعاء ، رسماع الأذكار . وقال بعض علمائنا : يكره الحديث حينئذ ، واعتذر عن قوله : " وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم " : بأن هذا فصل
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آخر ، من سيرة أخرى ، في وقت آخر وصلها بالحديث الأول .
قلت : [ وهذا فيه ] نظر ، بل يمكن أن يقال : إنهم في ذلك الوقت كانوا يتكلمون ؛ لأن الكلام فيه جائز غير ممنوع ؛ إذ لم يرد في ذلك منع وغاية ما هنالك : أن الإقبال في ذلك الوقت على ذكر الله أفضل وأولى ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الكلام مطلوبَ التركِ في ذلك الوتت ، والله أعلم.
وقوله : " حتى تطلع الشمس حسنًا " ؛ أي : طلوعًا حسنًا ، فيكون نعتًا لمصدر محذوف ، ويعني بذلك أنه كان يستديم الذكر والمقام بمجلسه إلى أن يدخل الوقت الذي تجوز فيه الصلاة .
*************
( 82 ) باب في الإمامة ، ومن أحق بها ؟
264- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِذَا كَانُوا ثَلاثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ ، وَأَحَقُّهُمْ بِالإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الإمامة ومن أحق بها(3/159)
قوله : (( إذا كنتم ثلاثة فليؤمكم أكبركم )) : ليس له مفهوم خطاب ؛ لأنه إذا كانا اثنين ، أمَّهما أحدهما ؛ كما قال في حديث مالك بن الحويرث له ولصاحبه : (( إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وأقيما ، وليؤمّكما أكبركما )). وإنما خصّ الثلاثة بالذكر ؛ لأنه سئل عنهم ، والله أعلم .
وقوله : (( وأحقهم بالإمامة أقرؤهم )) ؛ أي : أكثرهم قرآنًا ؛ كما قال البخاري من حديث عمرو بن سلمة : (( وليؤمكم أكثركم قرآنًا )). ومحمله على أنه إذا اجتمع جماعة صالحون للإمامة ، فكان أحدهم أكثر قرانًا ، كان أحقَّهم بالإمامة ؛ للمزية الحاصلة فيه . فلو كانوا قد استظهروا القرآن كله ، فيرتجح من كان أتقنهم قراءة ، وأضبط لها ، وأحسن ترتيلاً ، فهو الأقرأ بالنسبة إلى هؤلاء .
---
265- وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ الله . فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً ، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ . فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً . فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا . وَلا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الَّرجُلَ فِي سُلْطَانِهِ ، وَلا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلا بِإِذْنِهِ" . وَفِي رِوَايَةٍ : " سِلْمًا " مَكَانَ : " سِنًّا " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله )) ، تمسك بظاهر هذا أبو حنيفة ، فقال : مز القارئ أولى من الفقيه . وقال مالك : الفقيه أولى. قال : لأن الحاجة إلى الفقه أكثر ، وهو أعرف بما ينوبه من الحوادث في الصلاة . وتأول أصحابه الحديثَ : بأن الأقرأ فيه هو الأفقه ؛ لأن الأقرأ كان عندهم هو الأفقه ؛ لأنهم كانوا يتفقهون في القرآن ، وقد كان من عرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقراء .(3/160)
قلت : إن صحت غلبة العرف ، فالقول ما قاله مالك .
وقوله : (( فإن كانوا في القرآن سواء فأعلمهم بالسنة )) يعتضد به أبو حنيفة لمذهبه ؛ من حيث فضّل فيه بين القرآن والسنة . وهذه الزيادة مما(5) انفرد بها الأعمش ، ومحملها عندنا وعند الشافعي - والله أعلم - : فيمن كان في أول الإسلام عند عدم التفقُّه ، فكان المقدَّم القارئ - وإن كان صبيًّا - ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
على ما جاء في حديث عمرو بن سلمة ، فلما تفقه الناس في القرآن والسنة قُدِّم الفقيه ، بدليل تقديم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكر لخلافته في الصلاة. وقد نص ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن (( أقرأهم أُبَيٌّ )). فلو كان الأمر على ما ذهب إليه أبو حنيفة لكان أُبَيٌ أولى بالإمامة في الصلاة .
والسنة المذكورة هي أحاديث السنن عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وفي قوله : (( يؤم القوم أقرؤهم )) ؛ حجة لنا في منع إمامة المرأة للرجال ؛ لأن القوم هم الرجال ؛ لأنهم بهم قوام الأمور ، وقد قال تعالى : { لا يسخر قوم من قوم } ، ثم قال : { ولا نساء من نساء }.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الشاعر :
وما أدري وسوف إِخَالُ أدري أقومٌ [آلُ] حِصْنٍ أم نساء ؟
فسَمّى الرجالَ : قومًا .
وقوله : (( فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة )) ، هذا لزيادة فضيلة الهجرة . قال الخطابي : وإن كانت الهجرة اليوم قد انقطعت ، ففضيلتها باقية على أبنائهم . فمن كان من أبنائهم ، أو كان في آبائه وأسلافه من له سابقةٌ وقِدمٌ في الإسلام ، فهو مُقَدَّم على غيره .(3/161)
وقوله : (( فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سِلْمًا )) ؛ أي : إسلامًا . وهذا لفضيلة السبق للإسلام ؛ كما قال تعالى : { والسابقون السابقون أولئك المقربون }. وفي الرواية الأخرى : (( سِنًّا )) مكان : (( سِلْمًا )) ، وهو راجع إلى سبق السن بالإسلام ؛ لأن الأكبر سنًّا سبق الأصغر .
[قال القاضي] : وقد روى الزهري في هذا الحديث : (( فإن استووا في
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
القراءة ، فأفقههم في دين الله ، فإن كانوا في الفقه سواء فأكبرهم سنًّا ، فإن كانوا في السن سواء ، فأصبحهم وجهًا ، فإن كانوا في الصباحة والحسن سواء ، فأكثرهم حسنًا )). قال بعض العلماء : إنما رتب النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأئمة هذا الترتيب ؛ لأنها خلافة النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ هو إمام الناس في الدنيا والآخرة ، فهي بعده للأقرب إليه منزلة ، وللأشبه [به] مرتبة .
وقوله : (( ولا يؤمّن الرجل الرجل في سلطانه )) ؛ أي : في موضع سلطنته ، وهو ما يملكه أو يتسلط عليه بالتصرف فيه ، وفيه حجة على أن الإمام المنصوب من السلطان ، أو من جعل له الصلاة ، أحق بالتقديم من غيره ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حيث كان. وقال الخطابي : وهذا في الجمعات والأعياد لتعلقها بالشلاطين. فأما في الصلوات المكتوبات ، فأعلمهم أولاهم .
قال القاضي : وهذا ما لا يوافق عليه ، بل الصلاة لصاحب السلطنة حق من حقه ، وإن حضر أفضل منه .
وقد تقدم الأمراء من عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن بعدهم على من تحت أيديهم وفيهم الأفضل .(3/162)
وقد ذكر شيوخنا : أن الامام على الجملة أفضل دون تفصيل في وجه . وحكى الماوردي قولين في الأحق : هو ، أو ربّ المنزل . ثم صاحب المنزل أحق من زائره ؛ لأنه سلطانه ، وموضع تدبيره ، إلا أن يأذن صاحب المنزل للزائر . ويستحب له إن حضر من هو أفضل منه أن يقدمه .
وقوله : (( ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه )) ، التكرمة هنا : الفراش الذي يقعد عليه ، ووجه هذا المنع : أنه مبني على منع التصرف في ملك الغير إلا بإذنه ، غير أنه خصّ التكرمة بالذكر للتساهل في القعود عليها ، وإذا منع القعود فمنع التصرف بنقلها مثلاً ، أو ببيعها أولى .
---
266-وعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ : أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَحِيمًا رَقِيقًا ، فَظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَقْنَا أَهْلَنَا ، فَسَأَلَنَا عَنْ مَنْ تَرَكْنَا مِنْ أَهْلِنَا فَأَخْبَرْنَاهُ . فَقَالَ : "ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ ، وَمُرُوهُمْ فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول مالك بن الحويرث : " أتينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن شَبَبَةٌ متقاربون " ، وفي الرواية الأخرى : " أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحب لي " ؛ يحتمل أن يكون في وفادتين ، أو في وفادة واحدة ، غير أن ذلك الفعل تكرر منه ومن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما ذكر ، والله أعلم .(3/163)
267- وعَنْهُ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي ، فَلَمَّا أَرَدْنَا الإِقْفَالَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَنَا : " إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا ، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا". قَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ : وَكَانَا مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والإقفال : الرجوع من السفر . ومعروفه ثلاثي ؛ يقال : قَفَلَثْ ، فهي قافلة ، وقفل الجند من مبعثهم ؛ أي : رجعوا . ومصدره : القفول ، كالدخول والخروج . ويحتمل أن يكون هذا مُعَدَّى قفل ، ويكون معناه : فلما أردنا أن يُقفلنا هو ، والله أعلم .
---
وقوله : (( فأذِّنا وأقيما )) ؛ يدل على تأكيد الأذان والإقامة ، وإن لم يكن في المساجد ، يبل في السفر . وكافة العلماء على استحباب الأذان للمسافر ، إلا عطاء ، فإنه قال : إذا لم يؤذن ولم يقم أعاد الصلاة . وحكى الطبري عن مالك في المسافر : أنه يعيد إذا ترك الأذان ، ومشهور مذهبه الاستحباب ، وبوجوبه على المسافر قال داود .
وقوله : (( وليؤمكما أكبركما )) ؛ يدل على تساويهما في شروط الإمامة ، ورجح أحدهما بالسن .
*************
( 83 ) باب ما جاء في القنوت ، والدعاء للمُعَيَّنِ وعليه في الصلاة(3/164)
268- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ ، وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ : " سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ : " اللهمَّ ! أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَسَلَمَةَ ابْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، اللهمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ ، اللهمَّ ! الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلاً وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ ، عَصَتِ الله وَرَسُولَهُ " ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في القنوت
---
قد تقدم ذكر القنوت ومعناه في اللغة ، واختلف في حكمه في الفجر ، وفي الوتر في رمضان . فقيل : لا قنوت في فجر ولا غيره ، قاله الكوفيون أُنْزِلَت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : أَبُو هُرَيْرَةَ : ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ. فَقُلْتُ : أُرَى رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ. قَالَ : فَقِيلَ : وَمَا تُرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا ؟
وَفِي رِوَايَةٍ أنه عليه السلام قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُعةِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ شَهْرًا ، إذا قَالَ : " سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَه ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/165)
والليث ويحيى بن يحيى من المالكية ، وأنكره الشعبي. وقيل : يقنت في الفجر دائمًا ، وفي سائر الصلوات إذا نزلت نازلة بالمسلمين ، قاله الشافعي والطبري . وقال مالك وغيره : إنه مستحب في صلاة الفجر ، وروي عن الشافعي . وقال الحسن وابن سحنون : إنه سنة ، وهو مقتضى رواية علي عن مالك بإعادة تاركه للصلاة عمدًا ، وحكى الطبري الإجماع على أن تركه غير مفسد للصلاة . وعن الحسن : في تركه سجود السهو . ثم اختلفوا في موضعه ، فالمشهور عن مالك قبل الركوع ، وهو قول إسحاق ، وابن أبي ليلى وعمر بن عبد العزيز . وروي عن مالك بعد الركوع ، وروي عن الخلفاء الأربعة ، 269- وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : وَالله لأُقَرِّبَنَّ بِكُمْ صَلاةَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الظُّهْرِ ، وَالْعِشَاءِ الآخِرَةِ ، وَصَلاةِ الصُّبْحِ . وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وروي عن علي وعمر وابن مسعود
---
270- وعَنِ الْبَراءِبنِ عَازِبٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/166)
وجماعة من الصحابة والتابعين التخيير في ذلك. ثم اختُلِف : هل يكبر له ؟ وهل يرفع يديه إذا دعا فيه ؟ ومالك لا يرى شيئًا من ذلك . ثم اختلف القائلون بالقنوت في الفجر : هل يقنت في الوتر ؟ فقيل : يقنت في وتر السَّنَةِ كلها ، وهو قول ابن مسعود ، والحسن ، والنخعي ، واسحاق ، وأبي ثور. وقال قتادة : يقنت في السنة كلها ، إلا في النصف الأول من رمضان . وقالت طائفة : لا يقنت في الوتر جملة ، وهو مروي عن ابن عمر ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وطاووس ، وهي رواية المصريين عن مالك . وروي عن علي وأُبَيّ وابن عمر وجماعة من السلف ، وهي رواية ابن وهب عن مالك : أنه يقنت في النصف الآخر من رمضان من ليلة ست عشرة ، وقيل : خمس عشرة ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق . وعن أبي حنيفة : لا يقنت إلا في وتر رمضان فقط. ثم اتفقوا على أنه لا يتعين في القنوت دعاء مؤقت ، إلا ما روي عن بعض أهل الحديث في تخصيصهم بقنوت مصحف أُبي بن كعب المرويّ : أن جبريل عَلَّمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو : (( اللهم إنا نستعينك ونستغفرك... )) إلى آخره ، وأنه لا يصلى خلف من لا يقنت بذلك ، واستحبه مالك. واستحب
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/167)
الشافعي القنوت بالدعاء المروي عن الحسن بن علي ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم اهدني فيمن هديت... )) إلى آخره . وقد اختار بعض شيوخنا البغداديين الجمع بينهما ، وهو قول إسحاق والحسن بن حَيّ . وسبب الخلاف فيما ذُكر : اختلاف الأحاديث ، وهل كان ذلك مخصوصًا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم لا ؟
وقوله : (( اللهم أنْج الوليد... )) إلى آخره. " أَنْج : من النجاة ، والهمزة للتعدية ، وقد عُدِّي بالتضعيف ، وأصله من النجوة ؛ وهو المرتفع من الأرض. وهؤلاء المدعو لهم هم قوم من أهل مكة أسلموا ، ففتنهم أهل مكة وعذبوهم ، وبعد ذلك نجوا منهم وهاجروا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( واجعلها عليهم كَسِنِيّ يوسف )) ؛ يعني به قوله تعالى : { ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون } ، [فاستجيب] له ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهم ، فأجدبوا سبعًا أكلوا فيها كل شيء ، حتى أكلوا الميتة والعظام . وكان الواحد منهم يرى بينه وبين السماء دخانًا من شدة الجوع والضعف ، حتى جاء أبو سفيان فكلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فدعا لهم ، فسُقُوا على ما ذكرناه عن ابن مسعود في كتاب التفسير .(3/168)
ولَحْيَان ورِعْل وذَكْوان وعُصَيَّة : قبائل من العرب قَتلوا أصحاب بئر مَعُونة ، وهم السبعون القُرَّاء . وكان من حديثهم أن أبا بَرَاء الكلابي-ويعرف بملاعب الأَسِنَّة - سال من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يوجه معه رجالاً من أصحابه إلى قومه بنجد يدعونهم إلى الله ، ويعرضون عليهم الإسلام ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إني أخاف عليهم أهل نجد )) ، فقال [له] أبو براء : أنا لهم جار ، فبعثهم معه ، فلما مروا ببني عامر استصرخ عليهم عدو الله عامر بن الطفيل تلك القبائل التي دعا عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وهم من بني سليم ، فاجابوه فقتلوهم ،
---
271- وعَنْ أَنَسٍ وُسئِلَ عَنِ الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَه ؟ فَقَالَ : قَبْلَ الرُّكُوعِ . فَقِيلَ : فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ . قَالَ : إِنَّمَاقَنَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ شَهْرًا. في رواية : بَعْدَ الرُكُعِ في صَلاةِ الفَجْرِ ، يَدْعُو عَلَى أُنَاسٍ قَتَلُوا أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ ، يُقَالُ لَهُمُ : الْقُرَّاءُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولم ينج منهم إلا عمرو بن أمية الضمري ، فحزن عليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حزنًا شديدًا ، فإنه لم يُصب بمثلهم ، وكانوا من خيار المهاجرين y.
وفي هذا الحديث من الفقه : جواز الدعاء على معين ، وله . وجواز الدعاء بغير ألفاظ القرآن في الصلاة . وهو حجة على أبي حنيفة في منعه ذلك كله فيها. ولا خلاف في جواز لعن الكفرة ، والدعاء عليهم . واختلفوا في ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/169)
جواز الدعاء على أهل المعاصي ، فأجازه قوم ومنعه آخرون ، وقال : يُدْعَى لهم بالتوبة لا عليهم . وقيل : إنما يدعا على أهل الانتهاك في حين فعلهم ذلك ، وأما في إدبارهم فيدعا لهم بالتوبة.
قلت : والذي استقر عليه أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القنوت ما رواه الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال : ما زال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا .
***************
(84 ) باب من نام عن صلاة أو نسيها
---
272- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ ، سَارَ لَيْلَهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى عَرَّسَ ، وَقَالَ لِبِلالٍ : " اكْلأْ لَنَا اللَّيْلَ " فَصَلَّى بِلالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ ، وَنَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَصْحَابُهُ ، فَلَمَّا تَقَارَبَ الْفَجْرُ اسْتَنَدَ بِلالٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ مُوَاجِهَ الْفَجْرِ ، فَغَلَبَتْ بِلالاً عَيْنَاهُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَلا بِلالٌ ، وَلا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظًا ، فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من نام عن صلاة أو نسيها
قوله : " حين قفل من غزوة خيبر " ؛ أي : رجع . قال الأصيلي : خيبر غلط ، وإنما هو : " من حنين" ، ولم يَعْترِ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا مرة واحدة حين قفل من حنين إلى مكة . وتال الباجي وابن عبد البر : قول ابن شهاب : " من خيبر" أصحّ . وهو قول أهل السير . وفي حديث ابن مسعود : أن نومه ذلك(3/170)
فَقَالَ : " أَيْ بِلالُ ! " فَقَالَ بِلالٌ : أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ - بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ - بِنَفْسِكَ ، قَالَ : " اقْتَادُوا " فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا ، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَمَرَ بِلالاً فَأَقَامَ الصَّلاةَ ، فَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ قَالَ : " مَنْ نَسِيَ الصَّلاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا " ، فَإِنَّ الله قَالَ : { وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } ، وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَقْرَؤُهَا : " لِلذِّكْرَى ".
---
وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَالَ : النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ " ، قَالَ : فَفَعَلْنَا ، ثُمَّ دَعَا بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى الْغَدَاةَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان عام الحديبية ، وذلك في زمن خيبر ، وعليه يدل حديث أبي قتادة. قال غيره : [ وذلك] بطريق مكة ، وهو طريق لمكة لمن شاء . قال أبو عمر : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في هذه الأحاديث ما يدل على أن نومه كان مرة واحدة ، ويحتمل أن يكون مرتين. قال عياض : أما حديث أبي قتادة فلا مرية أنه غير حديث أبي هريرة ، وكذلك حديث عمران بن حصين.
و "الكَرَى" : النوم ، و"عرّس" : نزل آخر الليل ، قاله الخليل وغيره. وقال أبو زيد : التعريس : النزول أيّ وقت كان من ليل أو نهار . وفي الحديث : " يعرسون في نحر الظهيرة ".(3/171)
و " كلأ " ؛ [ أي](7) : احفظ ، ومنه : كلأك الله ؛ أي : حفظك ، وهذا إنما كان من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن طلبوا ذلك منه ؛ كما قال البخاري(8) : إنهم طلبوا التعريس منه ، فقال : (( أخاف أن تناموا )) ، فقال بلال : أنا أوتظكم . فحينئذ عرّس بهم ، ووكّل بلالاً بحفظ الفجر .
......................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : " ففزع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ؛ اختلف في هذا الفزع وفي سببه . فقال الأصيلي : كان لأجل عدوهم أن يكون اتبعهم فيجدهم على غزة . وقال غيره : لما فاتهم من أمر الصلاة ، ولم يكن عندهم حكم من ذلك . وقد دل على هذا قولهم : ماكفارة ماصنعنا بتفريطنا ؟ وهذا بيِّن في حقهم . وقد يكون الفزع بمعنى : مبادرتهم إلى الصلاة ؛ كما قال : (( فافزعوا إلى الصلاة )) ؛ أي : بادروا إليها . وقد يكون فزع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إجابة الفزعين من أصحابه وإغاثتهم لما نزل بهم ، يقال : فَزِعْتُ : استغثت ، وفَزَعت : أَغَثْتُ .
وقوله : (( أي بلال ! )) كذا عند أكثر الرواة بـ" أي" التي للنداء ، وعند العذري والسمرقندي : " أين بلال ؟" بأين الظرفية .
و قول بلال : " أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك " ؛ على طريق العذر مما كان تكفل به ؛ كما قدمناه من رواية البخاري . والنفس هنا هي[التي] تتوفى بالنوم وبالموت ؛ كما قال الله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/172)
والتي لم تمت في منامها } ، وهي التي تخرج من البدن حالة الموت ؛ كما قال تعالى : { أخرجوا أنفسكم } ، وهي المناداة بقوله : { يا أيتها النفس المطمئنة } إلى : { فادخلي في عبادي }. وقد عبر عنها في "الموطأ" في هذا الحديث بالروح ، فقال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله قبض أرواحنا ، ولو شاء لردَّها إلينا في حينٍ غير هذا " ، فما سماه بلال : نفسًا سماه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : روحًا ، فهما إذًا عبارتان عن مُعَبَّرٍ واحد ، وهذا مذهب أئمتنا .
---
وقد اختلف الناس قديمًا وحديثًا فيما هو هذا المعنى المعبر عنه بالنفس والروح . والذي يفهم من مجموع ما في الكتاب والسنة وأقاويل علمائنا : أن ذلك هو(6) لطيفة مودعة في الأجساد ، مشابكة لجميع أجزائها التي تحلّها الحياة ، يَتَأَتَّى إخراجها من الجسد ، وإدخالها فيه ، وقبضها منه ، أجرى الله ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العادة بخلق الحياة في الجسد ما دامت فيه تلك اللطيفة ، وهي القابلة للعلوم . والانسان : هو الجسد وتلك [اللطيفة] .
وقد فرق الصوفية بين النفس والروح. فقالوا : النفس : لطيفة مودعة في الجسم محل للأخلاق المذمومة ، والروح محل للأخلاق المحمودة ، وهو اصطلاح من قبلهم ، ولا مشاحة ني الاصطلاحات بعد فهم المعانى.(3/173)
والنفس في اللغة مشترك يطلق على ما ذكرناه ، ويطلق ويراد به وجود الشيء وذاته ، ويطلق ويراد به الدّم ، والروح يطلق على ما ذكر ، وعلى جبريل ؛ إذ قد سماه الله روحًا في قوله : { نزل به الروح الأمين } ، ويحتمل أن يكون هو المراد في قوله : { تنزل الملائكة والروح } ، وفي قوله : { قل الروح من أمر ربي } ، على ما قاله ابن عباس في قوله : { قل الروح } ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد تقدم أن الروح مشتق من الريح .
---
وقوله : قال : (( اقتادوا )) فاقتادوا رواحلهم شيئًا ، قد استدل بعض الحنفيين على أن الفرائض لا تقضى في هذا الوقت بهذا الحديث ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما ارتحل عن ذلك الموضع ليخرج الوقت المنهي عنه ، وهذا تحكم ؛ بل كما يحتمل ما ذكروه ، فيحتمل أنه إنما كان ذلك ليعم النشاط جميعهم ، وأبين من ذلك كله ما قد نص عليه من كراهية ذلك بقوله : (( ليأخذ كل رجل برأس راحلته ، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان )). وقد زاد أبو داود في هذا الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( تحوَّلوا عن مكانكم الذي أصابكم فيه الغفلة )).
وقوله : " فتوضأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأمر بلالاً فأقام الصلاة )) ، ولم يذكر
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأذان ، وقد ذكره في حديث أبي قتادة. فاختلف العلماء في الفوائت : هل يؤذن لها ويقام ؟ ، أو لا يؤذن لها ولا يقام ، أو يقام لها ولا يؤذن ؟ ثلاثة أقوال : فالأول مذهب أهل الرأي وأحمد وأبي ثور . والثاني مذهب الثوري . والثالث مذهب مالك والأوزاعي ، والقول الثاني للشافعي .(3/174)
وقد تأول بعض أصحابنا الأذان في حديث أبى قتادة بمعنى الإعلام ، وهو تكلف ، بل الذي يجمع بين الأحاديث : أنه إن احتيج إلى الأذان . بحيث [يجمع] متفرقهم فُعِلَ ، وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة ، وإن كانوا مجموعين لم يحتج لذلك ؛ إذ ليس وقتًا راتبًا فيدعى إليه الجميع ويعلمونه ، ويكون شعارًا . وقد قدمنا [نبذة في](5) أن هذه فوائد الأذان ، وعلى هذا يحمل حديث أبي قتادة ، والله أعلم .
273- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى يَقُولُ : {وأَقِم الصَّلاةَ لِذِكْرَى }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : " فصلى بهم الصبح " ؛ حجة الجميع في الفوائت .
وقوله : (( من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها ))- وفي لفظ آخر : (( أو غفل ))- ؛ كل ذلك دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل ، كَثُرَتْ الصلوات أو قلَّتْ ، وهو مذهب عامة العلماء . وقد حكي خلاف شاذ عن بعض الناس فيمن زاد على خمس صلوات : أنه لا يلزمه قضاء ، وهو خلاف لا يُعبأ به ؛ لأنه مخالف لنص الحديث . وأما من ترك الصلاة عامدًا ، فالجمهور أيضًا على وجوب القضاء عليه ، وفيه خلاف شاذ أيضًا عن داود وأبي عبد الرحمن الأشعري . وقد احتج الجمهور عليهم بأوجهٍ :
أحدها : أنه قد ثبت الأمر بقضاء الناسي والنائم ، مع أنهما غير مأثومين ، فالعامد أولى .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وثانيها : التمسك بقوله : (( إذا ذكرها )) ، والعامد ذاكر لتركها فلزمه قضاؤها .(3/175)
وثالثها : التمسك بعموم قوله : (( من نسي صلاة )) ؛ أي : من حصل منهم نسيان ، والنسيان هو الترك ، سواء كان مع ذهول أو لم يكن ، وقد دل على هذا قوله تعالى : { نسوا الله فنسيهم } ؛ أي : تركوا معرفة الله وأمره فتركهم في العذاب .
ورابعها : التمسك بقوله : (( من نسي صلاة فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها )) ، الكفارة إنما تكون عن الذنب- غالبًا - والمأثم والناسي بمعنى الذاهل ليس بآثم ، فتعين العامد لأن يكون هو المراد بلفظ الناسي .
وخامسها : قوله : { وأقم الصلاة لذكري } ؛ أي : لتذكرني فيها - على أحد التأوبلات -.
وسادسها : أن القضاء يجب بالخطاب الأول ؛ لأن خروج وقت العبادة لا يسقط وجوبها ؛ لأنها لازمة في ذمة المكلف كالديون ، وإنما يُسقطُ العبادة فعلُها ، أو فقد شرطها ، ولم يحصل شيء من ذلك ، وهذا(6) أحد القولين
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأئمتنا الأصوليين والفقهاء.(3/176)
وفي قوله : (( إذا ذكرها )) حجة للجمهور على أبي حنيفة حيث يقول : إن المتروكة لا تقضى بعد الصبح ولا بعد العصر . ووجه تمسكهم : أنها صلاج تجب بسبب ذكرها ، فتفعل عند حضور سببها متى ما حضر ، وقد صرح بالتعليل في فوله تعالى : { وأقم الصلاة لذكري } ؛ فإن اللام للتعليل ظاهرًا ، ولا يعارض هذا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس )) ؛ فإن هذا عام في جنس الصلوات ، وذلك خاص في الواجبات المقضيّة . والوجه الصحيح عند الأصوليين : بناء العام على الخاص ؛ إذ ذلك يرفع التعارض ، وبه يمكن الجمع ، وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين . واستدلاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله تعالى : : { وأقم الصلاة لذكري } ؛ دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ، وهو قول أكثر أصحابنا. واختلف أهل التفسير في قوله تعالى : { لذكري } ، فقال مجاهد : لتذكرني فيها . وقال النخعي : اللام للظرف ؛ أي : إذا ذكرتني ؛ أي : ذكرت أمري ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعدما نسيت ، ومنه الحديث . وقيل : لا تذكر فيها غيري . وقيل : شكرًا لذكري . وقيل ما ذكرناه : من أن اللام [للتسبيب] ، وهو أوضحها . ويقرب منه قول النخعي . وقراءة ابن شهاب : تأنيث للذِّكْر.
---(3/177)
وقوله : " ثم سجد سجدتين ثم صلى الغداة " ، وفي حديث أبي قتادة : "فصلى ركعتين " ، وبهذه الزيادة قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وداود ، وهو قول أشهب وعلي بن زياد من أصحابنا . ومشهور مذهب مالك : أنه يصليهما قبل الصبح الفائتة ، وهو قول الثوري والليث ؛ تمسُّكًا بحديث ابن شهاب وليس فيه من ذلك شيء ، ولأن فعلهما قبل الفائتة يزيد الفائتة [فواتًا]. وقال أصحابنا : إن النوافل لا تقضى ؛ إذ ليس في الذمة شيء فيجب قضاؤه ، فإن أراد أن يقضي فليصلّ نفلاً مبتدءًا ، والله أعلم .
وقوله : (( وليأخذ كل رجل برأس راحلته ؛ فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان )) ، ذهب بعض العلماء إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث ، فقال : إن من انتبه من نومٍ عن صلاةٍ فاتته في سفر زال عن موضعه ، وإن كان واديًا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرج عنه . واعتضد بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تحوّلوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة )) ، وهذه الزيادة ذكرها أبو داود في حديث أبي هريرة. وقال آخرون : إنما يلزم هذا في ذلك الوادي بعينه إن علم ونزلت فيه مثل تلك النازلة ، فيجب الخروج منه كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقال الجمهور : إن هذا غير مراعى ، وإن من استيقظ عن صلاة فاتتهُ صلاَّها في ذلك الوقت وحيث كان ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فحيثما أدركتك الصلاة فصل )). وهذا الحديث لا يصلح لتخصيصه في غير حق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ لايعلم غير النبي من حال ذلك الوادي ولا من غيره من المواضع ما علمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وبتقدير أن تقع النازلة في ذلك الوادي ، فلا يدري هل ذلك الشيطان باقٍ فيه أم لا ؟(3/178)
وقوله : (( تحولوا )) : خطاب لأصحابه الكائنين معه خاصة ، لا يتعدّى إلى غيرهم ؛ لأنه كان لسبب علمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحضور الشيطان فيه ، وغيره لا يعلم ذلك ، فلا يتعدى إليه ذلك الحكم ، والله أعلم .
---
وإلى معنى ما ذكرناه ذهب الداودي وغيره من أصحابنا في تأويل الحديث ، والله أعلم .
*************
( 85 ) باب من نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس ، فله أن يؤذن إذا كان في جماعة ، ويصلي ركعتي الفجر
274- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِيَّتَكُمْ وَلَيْلَتَكُمْ ، وَتَأْتُونَ الْمَاءَ - إِنْ شَاءَ الله - غَدًا )) فَانْطَلَقَ النَّاسُ لا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَسِيرُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ ، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ . قَالَ : فَنَعَسَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَمَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ ، فأَتيتُهُ فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ . قَالَ : ثُمَّ سَارَ حَتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب شرح ما تضمنه حديث أبي قتادة وعمران بن حصين من الغريب
قوله : " لا يلوي أحد على أحد " ؛ أي : لا يعطف عليه ولا ينتظره ، وأصله من لَيِّ العُنُق .
وقوله : " حتى ابهَارَّ الليل " ؛ أي : انتصف . وبُهْرَهُ كل شيء : وسطه . وقيل : ذهب عامته ، وبقي نحو من ثلثه . قال أبو سعيد الضرير : ابْهِرَارُ الليل : طلوع نجومه إذا تَتَامَّت . وقال غيره : ابهارَّ الليل : طال . والباهِرُ : الممتلئ نورًا . وقد صحّفه بعض الشارحين تصحيفًا قبيحًا ، فقال : انهار الليل - بالنون -. قال : ومنه قوله : { فَانْهَار بِه فِي نَارِ جَهَنَّمَ }.
---(3/179)
تَهَوَّرَ اللَّيْلُ مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ . قَالَ : فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ . قَالَ : ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ مَالَ مَيْلَةً ، هِيَ أَشَدُّ مِنَ الْمَيْلَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ ، حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : (( مَنْ هَذَا ؟ )) قُلْتُ : أَبُو قَتَادَةَ . قَالَ : (( مَتَى كَانَ هَذَا مَسِيرَكَ مِنِّي ؟ )) قُلْتُ : مَا زَالَ هَذَا مَسِيرِي مُنْذُ اللَّيْلَةِ . قَالَ : (( حَفِظَكَ الله بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ )) ثُمَّ قَالَ : (( هَلْ تَرَانَا نَخْفَى عَلَى النَّاسِ ؟ )) ثُمَّ قَالَ : (( هَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ ؟ )) قُلْتُ : هَذَا رَاكِبٌ . ثُمَّ قُلْتُ : هَذَا رَاكِبٌ آخَرُ ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فَكُنَّا سَبْعَةَ رَكْبٍ . قَالَ : فَمَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنِ الطَّرِيقِ فَوَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ : (( احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلاتَنَا )) فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ ، قَالَ : فَقُمْنَا فَزِعِينَ ، ثُمَّ قَالَ : (( ارْكَبُوا )) فَرَكِبْنَا فَسِرْنَا ، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " وتَهَوَّرَ الليل " ، قال الهروي : معناه : ذهب أكثره وانهدم ؛ كما يتهوَّر البناء ، [ يقال ] : تَهَوَّر الليل وتَوَهَّر .
وقوله : " فدعمته " ؛ أي : أقمت مَيْلَه ، وصرت له كالدّعامة تحته .
وقوله : "حتى كاد ينجفل" ؛ أي : قارب أن ينقلب ويقع ، ومنه : ما جاء في الحديث : " إن البحر جَفَل سمكًا " ؛ أي : ألقاه فرمى به ، ذكره الهروي.
---(3/180)
نَزَلَ ، ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مَنْ مَاءٍ ، قَالَ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ ، قَالَ : وَبَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ ، ثُمَّ قَالَ لأَبِي قَتَادَةَ : (( احْفَظْ عَلَيْنَا مِيضَأَتَكَ ، فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ )) ثُمَّ أَذَّنَ بِلالٌ بِالصَّلاةِ ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ ، فَصَنَعَ كَمَاكَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ . قَالَ : وَرَكِبَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فمال عن الطريق فوضع رأسه " ، هذا الفعل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل قوله : (( إذا عرستم فاجتنبوا الطريق فإنه مأوى الهوام )).
والمِيضَأَةُ : الإناء الذي يتوضأ فيه ، وهي التي قال فيها : " أطلقوا لي غُمَرِي ". والغُمَر : القعب الصغير . ويقال : تغَمَّرْت ؛ أي : شربت قليلاً ، قال أعشى باهلة :
تكفيه حُزَّةُ فِلْذٍ إنْ ألمَّ بها من الشِّواءِ ويُروى شُرْبَه القُمَرُ
وقوله : " فتوضأ منها وضوءًا دون وضوء " ؛ يعني : وضوءًا مخفّفًا ، وكأنه اقتصر فيه على المرة الواحدة ، ولم يكثر صبّ الماء ؛ لأنه أراد أن يفضل منه رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَرَكِبْنَا مَعَهُ ، قَالَ : فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَهْمِسُ إِلَى بَعْضٍ : مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا فِي صَلاتِنَا ؟ ثُمَّ قَالَ : (( أَمَا لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ ؟ )) ثُمَّ قَالَ : (( أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلاةَ حَتَّى يَجِيءَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/181)
فضلة لتظهر فيها بركته وكرامته ، وهذا أولى من قول من قال : أراد بقوله : "وضوءًا دون وضوء" : الاستجمار بالحجارة ؛ لأن ذلك لا يقال عليه وضوءًا عرفًا ولا لغة ؛ لأنه لا نظافة فيه بالغة ؛ ولما روى أبو داود في هذه القصة من حديث ذي مِخْبَر خادم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ وضوءًا لم يبتلّ منه التراب .
والأسوة : القدوة .
وقوله : " فجعل بعضنا يهمس إلى بعض" ؛ أي : يحرك شفتيه بكلام خفي .
وقوله : (( إنه ليس في النوم تفريط )) ، يدل على أن النائم غير مكلف ولا مؤاخذ .
وَقْتُ الصَّلاةِ الأُخْرَى ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا )) ثُمَّ قَالَ : (( مَا تَرَوْنَ النَّاسَ صَنَعُوا ؟ )) قَالَ : ثُمَّ قَالَ : ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إنما التفريط على من لم يصلّ الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى )) ؛ أي : من لم يصلها عامدًا لتركها ، وفيه ما يدل على أن أوقات الصلوات كلها موسعة .
وقوله : (( فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها )) : الإشارة بـ"ذلك" إلى ما وقع له من النوم عن الصلاة ، ويحتمل أن يعود [الضمير] إلى جميع ما ذكر ؛
من النوم والتفريط على ما قررنا في قضاء العامد .
وقوله : (( فإذا كان الغد فلّيصلِّها عند وقتها )) : قال قوم : ظاهره إعادة المقضيَّة مرتين عند ذكرها وعند حضورها مثلها من الوقت الآتي ، ووافق هذا الظاهر : ما رواه أبو داود نصًّا من حديث عمران بن حصين ، وذكر
---(3/182)
((أَصْبَحَ النَّاسُ فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ : رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَعْدَكُمْ ، لَمْ يَكُنْ لِيُخَلِّفَكُمْ ، وَقَالَ النَّاسُ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ : فَإِنْ يُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا )). قَالَ : فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّاسِ حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ وَحَمِيَ كُلُّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القصة ، وقال في آخرها : (( فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غدٍ صالحًا ، فليقض معها مثلها )).
قال الخطابي : لا أعلم أحدًا قال بهذا وجوبًا ، ويشبه أن يكون الأمر به استحبابًا ؛ ليُحرز فضيلة الوقت في القضاء .
قلت : وهذا كله يعارضه ما ذكره أبو بكر ابن أبي شيبة من حديث
شَيْءٍ ، وَهُمْ يَقُولُونَ : يَا رَسُولَ اللهِ! هَلَكْنَا ، عَطِشْنَا. فَقَالَ : ((لا هُلْكَ عَلَيْكُمْ )) ،
ثُمَّ قَالَ : (( أَطْلِقُوا لِي غُمَرِي )) قَالَ : وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَصُبُّ ، وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ ، فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحسن ، عن عمران بن الحصين في هذه القصة ؛ أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما صلى بهم المقضيَّة ؛ قالوا : ألا نقضيها لوقتها من الغد ؟ فقال : (( لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم )). والصحيح ترك العمل بذلك الظاهر لهذه المعارضة ؛ ولما حكى الخطابي ؛ ولأن الطرق الصحاح المشهورة ليس فيها من تلك الزيادة شيء ، إلا ما ذكر في حديث أبي قتادة ، وهو محتمل كما قررناه ، والله أعلم .
---(3/183)
وقوله : ثم قال : (( ما ترون الناس صنعوا ؟ )) ، هذا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن كان معه مستفهمًا على جهة استحضار أفهامهم ، ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخبرًا بما صنعوا وبما قالوا ... ، إلى قوله : " وقال الناس : إن رسول الله بين أيديكم " ، وهنا انتهى الخبر عنهم ، ثم قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا )) ؛ لأنهما وافقا الحق فيما قالاه ، فصوابه إذًا أن يكون : " يطيعوا " و"يرشدوا" بياء الغائبين . وقد قيد في بعض النسخ بتاء المخاطبين ، ووجهه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كأنه أقبل على الغائبين فخاطبهم ، ويجري هذا مجرى قول عمر : " الجبلّ يا سارية " ، وهو بالمدينة ، وسارية بمصر أو بالشام ، فسمعه سارية ولجأ إلى الجبل ، ونجا هو وأصحابه ، والله أعلم .
[ ويحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاكيًا قولهم ].
عَلَيْهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَحْسِنُوا الْمَلأَ ، فَكُلُّكُمْ سَيَرْوَى )) قَالَ : فَفَعَلُوا.
فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ ، حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ لِي : (( اشْرَبْ )) فَقُلْتُ : لا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ : (( إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ )) ، قَالَ : فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ جَامِّينَ رِوَاءً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/184)
وقوله : (( أحسنوا الملأ )) : بفتح الميم والهمز مقصورًا ؛ أي : الخُلُق ، قاله جماعة من اللغويين : أبو زيد والمفضل والزجاج وابن السكيت وابن قتيبة ، وأنشد بعضهم :
تنادوا [ يا لَبُهْثَة ] إذ رَأَوْنا فقلنا أحسني ملأً جُهينا
أي : خلقًا .
---
وروى ابن قتيبة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأصحابه - حين زجروا الأعرابي البائل في المسجد - : (( أحسنوا مَلأَكُم )) ؛ أي : خلقكم . ومن روى هذا الحرف : " مِلأكم " ساكنة اللام مهموزة - من الامتلاء - ؛ فقد أخطأ ؛ لأنه لم يملأ أحد في هذه النازلة قِربةً ولا وعاءً ، وإنما كان شربًا ، والله أعلم .
باب منه
275- وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : كُنْتُ مَعَ نَبِيِّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي مَسِيرٍ لَهُ ، فَأَدْلَجْنَا لَيْلَتَنَا ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ عَرَّسْنَا ، فَغَلَبَتْنَا أَعْيُنُنَا حَتَّى بَزَغَتِ الشَّمْسُ ، قَالَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَّا أَبُو بَكْرٍ ، وَكُنَّا لا نُوقِظُ نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ مَنَامِهِ إِذَا نَامَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ عُمَرُ ، فَقَامَ عِنْدَ نَبِيِّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فأتى الناسُ الماءَ جامّين رواءً " ؛ أي : نشاطًا صالحي الأحوال .
و "رِواء " من الرِّيِّ ؛ وهو : الامتلاء من الماء .
وفي حديث أبي قتادة أوجه من الفقه لا تخفى على متأمل .
وقوله في حديث عمران : " فأدلجنا ليلتنا " ؛ أي : سرنا ليلتنا كلها ، يقال : أَدْلَج - بقطع الألف وسكون الدال - ؛ أي : سار الليل كله ، يدلج إدلاجًا . وادّلج - بوصل الألف وتشديد الدال - : سار من آخره . وقد قيل : هما بمعنى واحد . والتعريس في أصله : النزول من آخر الليل ، وقد تقدم .
وبزغت الشمس ؛ أي : بدا طلوعها .(3/185)
وقوله : "[ وكنا ] لا نوقظ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من منامه " : إنما كان ذلك لأنه كان يوحى إليه في النوم ، فكان يُخاف أن يكون إيقاظه قطعًا للوحي
---
فَجَعَلَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ وَرَأَى الشَّمْسَ قَدْ بَزَغَتْ قَالَ : (( ارْتَحِلُوا )) فَسَارَ بِنَا ، حَتَّى إِذَا ابْيَضَّتِ الشَّمْسُ نَزَلَ فَصَلَّى بِنَا الْغَدَاةَ ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّ مَعَنَا ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يَا فُلانُ ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَنَا ؟ )) قَالَ : يَا نَبِيَّ الله أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ ولا ماء ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَتَيَمَّمَ بِالصَّعِيدِ ، فَصَلَّى ، ثُمَّ عَجَّلَنِي فِي رَكْبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ ، نَطْلُبُ الْمَاءَ. وَقَدْ عَطِشْنَا عَطَشًا شَدِيدًا ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ سَادِلَةٍ رِجْلَيْهَا بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ ، فَقُلْنَا لَهَا : أَيْنَ الْمَاءُ ؟ قَالَتْ أَيْهَاهْ أَيْهَاهْ ، لا مَاءَ لَكُمْ ، قُلْنَا : فَكَمْ بَيْنَ أَهْلِكِ وَبَيْنَ الْمَاءِ ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتشويشًا له .
وقوله : ثم عجَّلني "- مشدد الجيم - ؛ أي : أمرني بالاستعجال ، وأكّده عليّ .
وقوله : " فإذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين " ؛ أي : مرسلة ، وكذلك رواية الجماعة . وللعُذَري : " سابلة " بالباء بواحدة ، والأول أصوب ؛ لأنه لا يقال : سَبَلَتْ ، وإنما يقال : أَسْبَلَتْ .
والمزادتان : القربتان ، وقيل : المزادة : القِربة الكبيرة التي تحمل على الدابة ، وسُمّيت بذلك لأنه يزاد فيها جلد من غيرها لتكبر .(3/186)
وقولها : " أيهاه " : كذا روي هنا بالهمز في أولهما ، وبالهاء في
---
قَالَتْ : يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، قُلْنَا : انْطَلِقِي إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَتْ : وَمَا رَسُولُ اللهِ ؟ فَلَمْ نُمَلِّكْهَا مِنْ أَمْرِهَا شَيْئًا ، حَتَّى انْطَلَقْنَا بِهَا ، فَاسْتَقْبَلْنَا بِهَارَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَسَأَلَهَا ، فَأَخْبَرَتْهُ مِثْلَ الَّذِي أَخْبَرَتْنَا ، وَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا مُوتِمَةٌ لَهَا صِبْيَانٌ أَيْتَامٌ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آخرهما ، ويروى بالتاء أيضًا في آخرهما ، وهي : " هيهات " المذكورة في قوله تعالى : { هيهات هيهات لما توعدون } ؛ أبدلت الهاء همزة ، ومعناها : البعد ، والهاء في آخرها للوقف . وقيل : هي مُرَكّبة من : " هَيْ " للتأسف ، و: "هاوه" للتأوه ، فقلبت الهاء في الوصل تاء ، ثم حركت بالفتح والضم والكسر ، وقد قرئ بها في قوله : { هيهات} ، وهي اسم من أسماء الأفعال ، فتارة : تقدَّر ببعد كما في قول الشاعر :
فهيهات هيهات العقيقُ وأهلُهُ وهيهات خِلٌّ بالعقيقِ نُواصِلُه
أي : بَعُدَ العقيق وأهله ، وتارة : تقدر بِبُعْدٍ الذي هو المصدر ؛ كما قيل في قوله تعالى : { هيهات هيهات لما توعدون } ؛ أي : بُعدًا بُعْدًا للذي توعدون ، هو حكاية عن قول الكفار .
و"مؤتِمة "- بكسر التاء - ؛ أي : ذات أيتام .
فَأَمَرَ بِرَاوِيَتِهَا ، فَأُنِيخَتْ ، فَمَجَّ فِي الْعَزْلاوَيْنِ الْعُلْيَاوَيْنِ ، ثُمَّ بَعَثَ بِرَاوِيَتِهَا ، فَشَرِبْنَا وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلاً عِطَاشٌ حَتَّى رَوِينَا ، وَمَلأنَا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا وَإِدَاوَةٍ ، وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا ، غَيْرَ أَنَّا لَمْ نَسْقِ بَعِيرًا ، وَهِيَ تَكَادُ تَنْضَرِجُ مِنَ الْمَاءِ - يَعْنِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/187)
و "راويتها" هنا : الجمل الذي تُستقى عليه الماء ، وهذه رواية الجماعة ، وعند السمرقندي : فأمر براويتيها " ، وكأنه أراد المزادتين ، وفيه بعد من حيث قوله : " فأنيخت ".
و "مَجَّ" ؛ أي : طرح من فيه فيهما ، ومعناه : بَزَق فيهما .
و"العزلاوان" : قال ابن ولاّد : العَزْلاء بالمد : عزلاء المزادة ؛ وهي : مخرج الماء منها . وقال الهروي : هو [فوها] الأسفل . والذي في الكتاب يشهد لما ذكره ابن ولاّد .
وقوله : " وغسَّلنا صاحبنا" ؛ أي : أعطيناه من الماء ما يغتسل به ، وهو مشدّد السين .
وقوله : " وهي تتضّرج من الماء " : كذا عند ابن ماهان بتاءين ، وبـ"من" ، وعند الجماعة : " تنضرج بالماء" ، وهما بمعنى واحد ؛ أي : تقارب
الْمَزَادَتَيْنِ- ثُمَّ قَالَ : (( هَاتُوا مَاعِنْدَكُمْ )) فَجَمَعْنَا لَهَا مِنْ كِسَرٍ وَتَمْرٍ ، وَصَرَّ لَهَا صُرَّةً فَقَالَ لَهَا : (( اذْهَبِي فَأَطْعِمِي هَذَا عِيَالَكِ ، وَاعْلَمِي أَنَّا لَمْ نَرْزَأْ مِنْ مَائِكِ )). فَلَمَّا أَتَتْ أَهْلَهَا قَالَتْ : لَقَدْ لَقِيتُ أَسْحَرَ الْبَشَرِ ، أَوْ إِنَّهُ لَنَبِيٌّ كَمَا زَعَمَ ، كَانَ مِنْ أَمْرِهِ ذَيْتَ وَذَيْتَ . فَهَدَى الله ذَلكَ الصِّرْمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ ، فَأَسْلَمَتْ وَأَسْلَمُوا .
وَفِي رِوَايَةٍ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي سَفَرٍ ، فَسَرَيْنَا لَيْلَةً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، قُبَيْلَ الصُّبْحِ ، وَقَعْنَا تِلْكَ الْوَقْعَةَ الَّتِي لا وَقْعَةَ عِنْدَ الْمُسَافِرِ أَحْلَى مِنْهَا ، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلا حَرُّ الشَّمْسِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقارب أن تنشق من الامتلاء .
و " لم نرزأك" ؛ أي : لم تنقصك ، ومنه قوله : ما رزأته زِبالاً ؛ أي : ما نقصته . و" ذَيْتَ وذَيْتَ " ؛ أي : كَيْتَ وكَيْتَ ، وهو كناية عن حديث معلوم .
---(3/188)
و" الصِّرم "- بكسر الصاد - : قال يعقوب : هو أبيات مجتمعة .
ولا يخفى ما تضمنه هذا الحديث من الأحكام ، ومن [معجزات] النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأن حديث عمران بن حصين نازلة أخرى غير ما تضمنه حديث أبي قتادة .
وَفِيهَا : فَلَمَّا اسْتِيْقَظَ عُمَرُ وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ ، وَكَانَ أَجْوَفُ جَلِيْدًا ، فَكَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَكْبِيِر ، حَتَى اسْتِيْقَظَ رَسُوْلُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِشِدَّةِ صَوْتِهِ ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا ضَيْرَ ، ارْتَحِلُوا . وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " لا ضير " ؛ أي : لا ضرر ، وقد تقدم في كتاب الإيمان .
*******
( 86 ) باب ماجاء في حكم قَصْرِ الصلاة في السفر
276- عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : فَرَضَ الله الصَّلاةَ - حِينَ فَرَضَهَا- رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَتَمَّهَا فِي الْحَضَرِ ، وَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الأُولَى .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ : مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ ؟ قَالَ . إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب حكم قصر الصلاة في السفر
قول عائشة : " فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين.... " ، الحديث ؛ مخالف لفعلها ؛ فإنها كانت تتم في السفر ، ومخالف لما قاله غيرها من الصحابة ؛ كعمر
.....................................................................
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/189)
وابن عباس ، وجبير بن مطعم ؛ فإنهم قالوا : " إن الصلاة فرضت في الحضر
---
277- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : فَرَضَ الله الصَّلاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أربعًا ، وفي السفر ركعتين ؛ كما رواه مسلم عن ابن عباس ، ويخالفه أيضًا ظاهر الكتاب في قوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ؛ مع قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ - وقد سئل عن ذلك - ، فقال : ((صدقة تصدق [الله] بها عليكم )) ، كما يأتي في حديث يعلى . وقد رام بعض المتأخرين الجمع بين حديث عائشة وبين حديث ابن عباس ، فقال : يحمل حديث عائشة على أول الأمر ، وحديث ابن عباس على الذي استقرّ عليه الفرضان ، وهو تحكُّم ؛ مع أنه خفي عليه العذر عن مخالفتها هي ، وعن معارضة ظاهر الكتاب .
ثم نقول : إنه لو كان الأمر على ما ذكرتة عائشة ؛ لاستحال عادةً أن
278- وعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمِ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ ! فَقَالَ : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : (( صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ الله بِهَا عَلَيْكُمْ ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنفرد بفعل ذلك عائشة ؛ فإنه حكم يعمّ الناس كلهم ، [ فيشيع ] ، وينقله الكافة من الصحابة والعدد الكثير منهم ، ولم يُسمع ذلك قطّ من غيرها من الصحابة ، فلا مُعَوَّل عليه ، والله أعلم .
فإن قيل : فلعل ذلك كان في أول مشروعية الصلاة ، ولم يستمرّ ذلك
---(3/190)
الحكم ، فلا يلزم الإشاعة . قلنا : ذلك باطل ؛ لأن عائشة رضي الله عنها لعلها لم تكن موجودة في ذلك الوقت ؛ فإن أول [مشروعية] الصلاة إنما كان حين الإسراء ، وقد ذكرنا وقت ذلك في كتاب الإيمان ، وإن
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت موجودة إذ ذاك فلم تكن تميز ولا تعقل لصغرها .
واختلف في حكم القصر في السفر ؛ فروي عن جماعة أنه فرض ، وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين وإسماعيل القاضي .
وحكى ابن الجهم : أن أشهب روى عن مالك : أن القصر فرض ، ومشهور مذهب مالك ، وجُلّ أصحابه ، وأكثر العلماء من السلف والخلف : أن القصر سنة ، وهو قول الشافعي . ومذهب عامة البغداديين من أصحابنا : أن الفرضَ التخييرُ ، وهو قول أصحاب الشافعي . ثم اختلف أصحاب التخيير في أيهما أفضل ؟ فقال بعضهم : القصر أفضل ، وهو قول الأبهري من أصحابنا وأكثرهم ، وقيل : إن الإتمام أفضل ، وحكي عن الشافعي .
وسبب الخلاف : اختلاف الأحاديث في ذلك كما سيأتي . وقد تأول القائلون بأن القصر ليس بفرض حديث عائشة وحديث ابن عباس : أن الفرض(4) فيهما بمعنى التقدير ، وهو أصله في اللغة ، فيكون معناه أن الله تعالى قدَّر صلاة المسافر بركعتين(5) عددًا ؛ كما قدَّر صلاة الحضر بأربع(6) ركعات على ما في حديث ابن عباس ، وعلى أي وجه يكون هذا التقدير ، على حكم الوجوب أو السنة ؟ ذلك يؤخذ من دليلٍ آخر ، وقد دلت أدلة ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كثيرة على أنه ليس بواجب ؛ منها : حديث عمر حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته )).
وقد روى النسائي من حديث عائشة - وهو صحيح - : أن عائشة
---(3/191)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعتمرت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المدينة إلى مكة ، قالت : [قلت] : يارسول الله! بأبي أنت وأمي ! قصَرتَ وأتممتُ ، وأفطرتَ وصمتُ ؟ فقال : ((أحسنت يا عائشة )) ، وما عابه عليَّ . وهكذا قيدته بفتح التاء الأولى وضم الثانية في الكلمتين .
وروى الدارقطني عن عائشة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقصُر في السفر ويتمّ ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويفطر ويصوم . قال : " إسناد صحيح". وكذلك دلّ قوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة }. فإذا تقرر أنه ليس بواجب ، فهل هو سنة أم لا ؟ قلنا : هو سنة دلّ عليه مداومته ـ صلى الله عليه وسلم ـ على القصر ، واستمرار عمل الخلفاء على ذلك وأكثر الصحابة .
ثم اختلفوا في السفر الذي تقصر فيه الصلاة : فذهب عامة العلماء إلى جوازه في كل سفر مباح ، ومنعِه في سفر المعصية ، وهو قول مالك والشافعي والطبري وأصحابهم. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى جوازه في كل سفر : طاعةً كان أو معصيةً ، وهو رواية شاذة عن مالك . وذهب داود إلى أنه لا يجوز إلا في سفر الحج والعمرة والغزو [لا] في غيرها ، وروي ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/192)
ذلك عن ابن مسعود . واختُلف عن أحمد بن حنبل ؛ فمرة قال بقول مالك ، ومرة قال : لا يقصر إلا في حج أو عمرة . وقال عطاء : لا يقصر إلا في سبيل من سبل الله ، والصحيح : المذهب الأول ؛ لأن القصر إنما شرع تخفيفًا عن المسافر للمشقّات اللاحقة فيه ، ومعونة له على ما هو بصدده مما يجوز ، وكل الأسفار في ذلك سواء ، وأما سفر المعصية فلا يترخص فيه بالقصر ولا بالفطر ؛ لأن ذلك يكون معونة له على معصيته ، والله تعالى يقول : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }.
واختلفوا في قدر السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، فقال داود : تقصر في كل سفرٍ طويلٍ أو قصيرٍ ؛ ولو كان ثلاثة أميال ؛ في سفر الطاعة .
وكافة العلماء على أن القصر إنما شُرِعَ تخفيفًا ، وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبًا . واختلفوا في تقديره ، فذهب مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث إلى أنها لا تقصر إلا في اليوم التام . وقول مالك : يوم وليلة ؛ راجع إلى اليوم التام ، وهو ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول ابن عباس وابن عمر ، وقدّره مالك بثمانية وأربعين ميلاً ، والشافعي والطبري بستة وأربعين ميلاً ، وهو أمر متقارب . والتفت هؤلاء إلى أقل ما سمّاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سفرًا ؛ فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم منها )). ومسيرة يوم وليلة هو مسيرة اليوم التام ؛ فإن عادتهم في أسفارهم أن يقيلوا بالنهار ، ويسيروا بالليل ؛ ولأن مسيرة يوم تامٍّ لا يمكن الخارج من منزله الرجوع إليه من يومه ، ويبيت ضرورة عنه ، فخرج عن [القرار] في السفر .
وقال الكوفيون : لا تقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام ، وهو قول
---(3/193)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عثمان وابن مسعود وحذيفة .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الحسن وابن شهاب : [يقصر] في مسيرة يومين. وأولاها القول الأول ، والله أعلم .
وقول عروة : " إنها تأوّلت ما تأوّل عثمان " : اختلف في تأويل إتمام عائشة وعثمان في السفر على أقوال ، وأولى ما قيل في ذلك : أنهما تأوّلا أن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القصر رخصة غير واجبة ، [ وأخذا ] بالأكمل [الأتم] ، وما عدا هذا القول إما فاسد ، وإما بعيد ، ولنذكر ما قيل في ذلك :
فمنها : أن عائشة تأوّلت أنها أم المؤمنين ، فحيث حَلّتْ نزلت في أهلها وولدها ، وهذا يبطل بما بين المنزلتين من المسافات البعيدة ، فإنها كانت تتم فيها وهي على ظهر سفر .
ومنها : أنها كانت لا ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزو ، وهذا باطل ؛ لأن ذلك لم ينقل عنها ، ولا عُرف من مذهبها ، ثم قد أتمّت في سفرها إلى عليٍّ .
ومنها : أنها حيث أتمّت لم تكن في سفر جائز ، وهذا باطل قطعًا ، فإنها كانت أتقى لله وأخوف وأطوع من أن تخرج في سفر لا يرضاه الله ، وهذا التأويل عليها هو من أكاذيب الشيعة المبتدعة ، وتشنيعاتهم عليها {سبحانك هذا بهتان عظيم }(7) ، وإنما خرجت رضي الله عنها مجتهدة محتسبة في خروجها ، تريد أن تطفئ نار الفتنة ، ثم خرجت الأمور عن الضبط ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/194)
وأقل درجاتها أن تكون ممن قال فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر )).
وقد ذكرنا من حديث النسائي والدارقطني عن عائشة ما يبيّن أن المعنى الذي لأجله أتمت في السفر ؛ إنما هو ما اخترناه أوّلاً .
وأما عثمان فقد تُأُوِّلَ له : أنه كان إمام الناس ، فحيث حلّ فهو منزله. وهذا يردّه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أولى بذلك ، ومع ذلك فلم يفعله.
ومنها : أنه كان معه [أهله] بمكة . وهذا يردّه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سافر بزوجاته ، وكن معه بمكة ، ومع ذلك فقصر .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنها : أنه إنما فعل ذلك لأجل الأعراب لئلا [يظنوا] أن فرض الصلاة أبدًا ركعتان. وهذا يردّه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أولى بذلك ، ولم يفعله.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم قد عَلِمَ الأعرابُ والكلُّ من المسلمين : أن الصلاة في الحضر
أربع ، ومن جهل ذلك من قريب عهد بالإسلام نادر قليل ، لا تغير القواعد لأجله .
ومنها : أن عثمان أزمع على المقام بمكة بعد الحج ، ويردّه : أن المقام بمكة للمهاجر أكثر من ثلاث ممنوع .
ومنها : أنه كان لعثمان بمنىً أرضٌ ومالٌ فرأى أنه كالمقيم . وهذا فيه بُعْدٌ ؛ إذ لم يقل أحدٌ : إن المسافر إذا مرّ بما يملكه من الأرض ، ولم يكن له
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه أهل ؛ أن حكمه حكم المقيم . والوجه ما ذكرناه أولاً ، والله أعلم.
---(3/195)
وقول ابن عباس : " وفي الخوف ركعة " : ذهب جماعة من السلف إلى ظاهر هذا ، فقالوا : صلاة الخوف ركعة واحدة عند الشدّة. وهو قول إسحاق ؛ قال : أما عند الشدة فركعة واحدة يومئ بها إيماءًا ، فإن لم يقدر فسجدة ، فإن لم يقدر فتكبيرة . وقال الضحاك : إن لم يقدر على ركعة ؛ فتكبيرتان . وقال الأوزاعي : لا يجزئه التكبير . وقال قتادة والحسن : صلاة الخوف ركعة ركعة لكل طائفة من المأمومين ، وللإمام ركعتان ، وسيأتي القول في صلاة الخوف .
وقوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } : يعني به القصرَ من عدد الركعات ، والقصرَ بتغيير الهيئات ؛ بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( صدقة 279- وعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ ، قَالَ : فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ وَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى جَاءَ رَحْلَهُ وَجَلَسَ وَجَلَسْنَا مَعَهُ ، فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ نَحْوَ حَيْثُ صَلَّى ، فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فَقَالَ : مَا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ ؟ قُلْتُ : يُسَبِّحُونَ ، قَالَ :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تصدق الله بها عليكم )) عندما سئل عن قصرها مع الأمن ، فكان قوله ذلك تيسيرًا وترفيقًا ؛ على أن الآية متضمَّنة لقصر الصلاة مع الخوف ومع غير الخوف ، فالقصر مع الخوف هو في الهيئات على ما يأتي ومع الأمن في الركعات ، والمتصدَّق به إنما هو إلغاء شرط الخوف في قصر عدد الركعات مع الأمن . وعلى هذا فبقي اعتبار الخوف في قصر الهيئات على ما يأتي . وقد أكثر الناس في هذه الآية ، وما ذكرناه أولى وأحسن ؛ لأنه جمع بين الآية والحديث .
و"الجناح " : الحرج . وهذا يشعر أن القصر ليس واجبًا لا في السفر ولا في الخوف ؛ لأنه لا يقال في الواجب : لا جناح في فعله .(3/196)
وقوله في حديث ابن عمر : " يسبِّحون " ؛ أي : يصلون سبحة الضحى ،
---
لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا أَتْمَمْتُ صَلاتِي ، يَا ابْنَ أَخِي ، إِنِّي صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ
فِي السَّفَرِ ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ الله ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ الله ، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّىقَبَضَهُ الله ، ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ الله ، وَقَدْ قَالَ الله : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو غيرها من النوافل ، [ والسبحة ] : صلاة النافلة . الهروي : تسمى الصلاة
تسبيحًا ، ومنه : { فلولا أنه كان من المسبحين } ؛ أي : المصلين.
وقول ابن عمر : " لو كنت مُسَبِّحًا لأتممت " : ظاهر هذا أن ابن عمر كان يمنع من التنفُّل في السفر ليلاً ونهارًا ، هكذا نقل أهل الخلاف عنه ، وحُكي عنه أنه منعه بالنهار ، وجوَّزه بالليل ؛ لقوة أفر القيام بالليل ؛ إذ قد كان فرضًا ، وعامة العلماء على جوازه ؛ إذ قد روى جابر وغيره :
أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتنفل في السفر على راحلته ، وبالأرض ليلاً ونهارًا .
وقوله : " إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء كانوا يصلون ركعتين ولا يزيدون " :
هذا محمول على أنهم ما كانوا يتنفَّلون رواتب للفرائض في السفر ، لا قبل الفرض ولا بعده ، وأما في غيير ذلك فقد روى جابر وعلي بن أبي طالب أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتنفل في السفر ليلاً ونهارًا .(3/197)
وقوله : " ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله " : قد روي عنه هذا : الحديث الآتي بعد هذا ؛ أنه قال : " ومع عثمان صدرًا من خلافته ثماني سنين - أو ست سنين -" ، [ووجه] التلفيق : أن ابن عمر إنما أخبر عن عثمان في سائر أسفاره في غير منى ؛ لأن إتمام عثمان إنما كان بمنى على ما فسَّره عمران بن حصين ، وكذلك قال ابن حبيب .
و " الأسوة " : القدوة .
---
*************
( 87 ) باب من أين يبدأ بالقصر إذا خرج من وطنه ، واستمراره القصر على مالم ينو إقامة
280- عَنْ أَنَسٍ بِنْ مَالِكْ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من أين يبدأ بالقصر ؟
قول أنس : " إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلّى الظهر بالمدينة أربعًا ، وصلّى العصر بذي الخليفة ركعتين " : هذا كان وقد أزمع ـ صلى الله عليه وسلم ـ على سفره إلى مكة ، والظاهر أنه كان في حجته ، وبين ذي الحليفة والمدينة نحو من ستة أميال ، وقيل : سبعة . واختلف في الموضع الذي يَبدأُ منه بالقصر المسافرُ ؟ فذهب جمهور السلف والعلماء إلى أنه إذا خرفي من بيوت المدينة قصر ، وإذا 281- وعَنْ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الْهُنَائِيِّ قَالَ : سَأَلْتُ انَسَ ابْنَ مَالِكٍ عَنْ قَصْرِ الصَّلاةِ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ ، أَوْ ثَلاثَةِ فَرَاسِخَ - شُعْبَةُ الشَّاكُّ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/198)
دخلها راجعًا من سفره أتم. ومحصول مشهور مذهب مالك هذا.ورُوي عنه أنه [لا يقصر] حتى يجاوز ثلاثة أميال ؛ إن كانت القرية مما يجمع [فيها] الجمعة ، فإذا رجع أتم من هناك . وروي عن عطاء وغيره وجماعة من أصحاب عبد الله : أنه إذا أراد السفر قصر قبل خروجه . ورُوي عن مجاهد : لا تقصرْ إذا خرجت يومك إلى الليل ، ولم يوافقه أحا على هذا ، والصحيح مذهب الجمهور . وفي حديث أنس ما يرد قول عطاء ومن قال بقوله وقول مجاهد ؛ فإنه قصر بعد ما فارق المدينة وقبل الليل ، فكان ذلك ردًّا لقولهما .
---
وقوله : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال ، أو ثلاثة فراسخ" : ربما تمسك به بعض الظاهرية ، وبحديث ذي الخليفة : على أن من نوى سفرًا قصيرًا ولو لم يبلغ يومًا تامًّا أنه يقصر ، ولا حجة له فيه ؛ لأنه مشكوك فيه 282- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : خَرَجْنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ، حَتَّى رَجَعَ ، قُلْتُ : كَمْ أَقَامَ بِمَكَّةَ ؟ قَالَ : عَشْرًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلا يوثق لا بالثلاثة الأميال(3) ، ولا بالثلاثة الفراسخ(4) ؛ إذ كل واحد منهما مشكوك فيه ، وعلى تقدير أحدهما : فلعلّه حدّد المسافة التي بدأ منها القصر ، وسفره بعد ذلك كان أزبد بالمقدار الذي حكيناه عن الجمهور ، والله أعلم .
وقول أنس : " إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقام بمكة عشرًا يصلّي ركعتين ركعتين " : يتمسك(5) به من قال(6) : إن المسافر إذا نوى إقامة عشرة أيام قصر ، فإن(7) نوى زيادة عليها أتم ، وهو مروي عن علي(8) وابن عباس في أحد قوليه(9).
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/199)
وقد كثر اختلاف الناس في هذه المسألة ، فقيل عن ربيعة : إذا نوى إقامة يوم وليلة أتم . وروي عن سعيد بن المسيب : إذا نوى إقامة ثلاثة أيام أتم . وروي عن جمهور أئمة الفتوى : إذا نوى إقامة أربعة أيام بلياليها أتم . وروي عن أحمد وداود : إذا نوى زيادة على أربعة ، ويقصر في الأربعة. وروي : زيادة على عشرة عمن ذكرنا . وروي : اثنا عشر عن ابن عمر في أخد قوليه ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وعن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب- وروي عن الأوزاعي- : ثلاثة عشر ، وهو قول الكوفيين. وروي عن الليث : إذا زاد على خمسة عشر أتم. وروي عن ابن عباس : يتمّ فيما زاد على سبعة عشر ، وروي : تسعة عشر. وروي عن أحمد : يقصز إذا نوى إقامة أحد وعشرين ، ويتم فيما ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زاد ؛ اعتمادًا على إقامة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة ، فإنه خزفي صبيحة الثامن من يوم التروية. وقال داود : في عشرين صلاة ، ويتم إذا زاد ، ونحو هذا لابن الماجشون.(3/200)
وروي عن الحسن : أنه يقصر أبدًا ، إلا أن يقدم مصرًا من الأمصار . قال القاضي عياض : وأكثر اختلافهم في هذا مبني على مدة إقامة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقصيره في حجته ؛ فإنه دخل مكة صبح رابعة من ذي الحجة ، وخرج صبح أربعة عشر على ما تظاهرت به الروايات ، لكن بعض شيوخنا قال : كان شارف مكة في اليوم الثالث ، فقصر عنها ، وبات بذي طوى حتى صلى الصبح ، ثم دخل نهارًا - والنهار لا اعتداد به عند العرب إذا انقضت ليلته- ، فأقام بها اليوم الخامس والسادس والسابع ، وخرج بعد تمام ثلاثٍ كما شرع ، فلم يقم بمكة أكثر من ثلاث ، وخرج إلى منى للنظر في حجه ، وهو فيه في حكم المسافر حتى أكمله ، ئم عاد إلى المدينة ، فجاء هذا موافقًا لمذهبنا ؛ في أن ثلاثة أيام ليست بإقامة . واختلف في إقامته بمكة زمن الفتح ، فروي عن ابن عباس : خمس عشرة ، وسبع عشرة ، وتسع عشرة. وعن
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمران بن حصين : ثمان عشرة .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/201)
قلت : والأشبة في هذه الأقوال قول الجمهور : مالك وغيره ؛ لأنه يعتضد بإباحة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المقام للمهاجر بمكة ثلاثًا ، فإنه أبقى عليه فيها حكم المسافر. ومنعه من مقام الرابع فحكم له فيه بحكم الحاصر القاطن ، فكان ذلك أصلاً معتمدًا عليه. وأما ما استُدِلَّ به غير هذا من إقامة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة في الفتح ، وفي حجته ، وكم أقام في الطائف ؛ فلا حجة فيه ؛ لما في تلك الزوايات من الاضطراب الكثير ، ولأنه يمكن أن يقال في كل واحد منها : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما أقام تلك المدة فقصر ؛ لأنه لم يُجمع في نيته على إقامة أربعة أيام بلياليها ، والله أعلم .
**************
( 88 ) باب قَصْر الصلاة بِمْنىً
283- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ ، وَأَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ ، وَعُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلافَتِهِ ، ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بَعْدُ أَرْبَعًا ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعًا وَإِذَا صَلاَّهَا وَحْدَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْن .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قصر الصلاة بمنى(3/202)
فيه حديث ابن عمر : " أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلّى بمنى ركعتين ، وأبو بكر وعمر ، وعثمان صدرًا من خلافته " : لا خلاف أن هذا حكم الحاج من غير أهل مكة وعرفة : بمنى يقصرون ، وعند مالك أن حكم الحاج من أهل مكة : أنهم يقصرون بمنى وعرفة ، وكذلك أهل عرفة بمنى ومكة يقصرون ، وخالفه في ذلك أبو حنيفة والشافعي وجماعة ، فقالوا : إنهم يتمون ؛ إذ ليس في المسافة مسافة قصر ، وحجة مالك : التمسك بظاهر حديث ابن عمر المذكور ، واتّباع العمل العام في ذلك ؛ ولأن تكرار الحاج في مشاعره ومناسكه مقدار المسافة التي تُقصر فيها الصلاة ، والله تعالى أعلم . فأما أهل
وَفِي رِوَايَةٍ : مكان : صدرًا من خلافته ، ثماني سنين . أوقال : ست سنين .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تلك المواضع فلا خلاف أحسبه في أن كل واحد منهم يتم في موضعه وإن شرع في عمل الحج ؛ لأنهم في أهلهم ، وقد ذكرنا ما تُؤُوِّل به إتمام عثمان .
وقوله : "ست سنين أو ثماني سنين" : الصحيح سبع سنين ، قال عمران بن حصين : حججت مع عثمان سبعًا من إمارته ، لا يصلي إلا ركعتين ، ثم صفى بمنى أربعًا .
وقوله : " فكان ابن عمر إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعًا ، وإذا صلّى وحده صلّى ركعتين " : يعني بالإمام : عثمان لما أتم ؛ فإن ابن عمر وابن مسعود [كانا] يصليان معه ويتمّان ، مع اعتقادهما أن القصر أولى وأفضل ، لكنهما اتبعاه ؛ لأن الإتمام جائز ، ومخالفة الإمام فيما رآه مما يسوغ ممنوعة . ويحتمل أن يريد بالإمام هنا : أيّ إمام اتفق من أئمة المسلمين ، ويعني به : أن ابن عمر كان إذا صلى خلف مقيم أتم ؛ تغليبًا لفضيلة الجماعة ، ولحكم الموافقة فيما يجوز أصله .(3/203)
284- وعَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ قَالَ : صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ ، فَاسْتَرْجَعَ ، ثُمَّ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقد اختلف في مسافر صلى خلف مقيم ، وهذا الخلاف يتنزل على الخلاف المتقدم في حكم القصر ، فقياس من قال : إن القصر فرض : ألا تجزئه صلاته ، وحكاه القاضي أبو محمد عن بعض المتأخرين من أصحابنا . وقال غير هؤلاء : يقتدي به في الركعتين خاصة ، ثم هل يسلم ويتركه أو ينتظره ويسلم معه ؟ قولان . ومن قال بأن القصر سنة من أصحابنا اختلفوا ، فروى ابن الماجشون وأشهب : أنه يتم ثم يعيد في الوقت ، إلا أن يكون في أحد مسجدي الحرمين أو مساجد الأمصار الكبار ، وروى مطرف : أن لا إعادة ، ورآه ابن القاسم . قلت : وقياس من قال بالتخيير : أن لا إعادة أصلاً ؛ بل القصر والإتمام في حقه سيّان يفعل أيهما شاء ؟ إلا أن الأولى به أن لا يخالف على الإمام ، فإذا صلى خلف مقيم اتبعه من جهة منع المخالفة ، لا من جهة التخيير ، والله أعلم .
وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/204)
وقوله : " فاسترجع " ؛ أي : قال : إنا لله وإنا إليه راجعون " ، وهذا الاسترجاع لما رأى من تفويت عثمان لفضيلة القصر ، ولوجود صورة خلافه لمن تقدمه ، ولا يفهم منه أن ذلك الإتمام لا يجزئ ؛ لأنه قد قال : " وليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبَّلتان " ، فلو كانت تلك الصلاة لا ئجزئ لما كان له فيها حظ لا من ركعتين ولا [من] غيرهما ، فإنها كانت تكون فاسدة كلها ، والله تعالى أعلم . وقال الداودي : خشي ألا تجزئه الأربع ، وليس بصحيح لما ذكرناه . قلت : ولا خلاف أن القصر المذكور إنما هو في الصلوات الرباعية ، فإن الصبح والمغرب لا تقصران [بالإجماع](1) ، حكى ذلك القاضيان : أبو عبد الله بن أبي صُفَرة ، وعياض .
****************
(89) باب جواز التخلف عن صلاة الجماعة والجمعة لعذر المطر
---
285- عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَادَى بِالصَّلاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ وَمَطَرٍ ، فَقَالَ فِي آخِرِ نِدَائِهِ : (( أَلا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ ، أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ )) ثُمَّ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ أَوْ ذَاتُ مَطَرٍ فِي السَّفَرِ أَنْ يَقُولَ : (( أَلا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ )).
286- وعَنْ جَابِرٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي سَفَرٍ ، فَمُطِرْنَا ، فَقَالَ : (( لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فِي رَحْلِهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب جواز التخلف عن الجماعة لعذر المطر(3/205)
قوله : " نادى " ؛ أي : أذّن ، وظاهر قوله : " في آخر ندائه" أنه قال ذلك بعد فراغه من الأذان ، ويحتمل أن يكون في آخره قبل الفراغ ، ويكون هذا مثل حديث ابن عباس ؛ حيث قال لمؤذنه : " إذا قلت : أشهد أن محمدًا رسول الله ؛ فلا تقل : حي على الصلاة ، قل : صلوا في بيوتكم". وقد 287- وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ : إِذَا قُلْتَ : أَشْهَدُ أنَّ لاَ إلهَ إلاَ الله ، وأَشْهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، فَلا تَقُلْ : حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ ، قُلْ : صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. قَالَ : فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلكَ ، فَقَالَ : أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا ؟ قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي . إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
استدل بهذين الحديثين من أجاز الكلام في الأذان ، وهم : أحمد والحسن وعروة وعطاء وقتادة ، وعبد العزيز بن [أبي] سلمة وابن أبي حازم من المالكية ، ولا حجة لهم في ذلك ؛ لأن الحديث الأول إن لم يكن ظاهرًا فيما ذكرناه ، فلا أقل من أن يكون [ محتملاً ] ، على أن هذا الحديث قد رواه أبو أحمد ابن عدي من حديث أبي هريرة ؛ قال فيه : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كانت ليلة باردة أو مطيرة أمر المؤذن ، فأذن الأذان الأول ، فإذا فرغ نادى : الصلاة في الرحال -أو في رحالكم - ، وهذا نص يرفع ذلك الاحتمال.(3/206)
[والحديث] الثاني لم يسلك به مسلك الأذان ، الآ تراه قال : لا تقل حي على الصلاة ؟ وإنما أراد إشعار الناس بالتخفيف عنهم للعذر ، كما فعل في التثويب للامراء . وقد كره الكلام في ا لأذان مالك والشافعي وأبو حنيفة ، وعامة الفقهاء .
وظاهر هذين الحديثين جواز التخلف عن الجماعة والجمعة للمشقة اللاحقة من المطر والريح والبرد ، وما في معنى ذلك من المشاق المحرجة في الحضر والسفر ، وهذا في غير الجمعة قريب ؛ إذ ليس غيرها بواجب على أصولنا ، وأما في الجمعة ففيه إشكال ، وقد اختلف الناس فى جواز التخلف عنها لعذر المطر والوحل ، فذهب أحمد بن حنبل إلى جواز التخلف عنها للمطر الوابل ، وبمثله قال مالك في المطر الشديد والوحل في أحد القولين عنه ، وروي عنه أنه لا يجوز ، وحديث ابن عباس حجة واضحة على الجواز .
فرع : وعلى القول بالجواز عن مالك ، فتترك لعذر تمريض المشرف على الهلاك : القريب ، والزوجة ، والمملوك . وقال ابن القاسم : ولجنازة أخ من إخوانه ينظر في أمره . وقال ابن حبيب : ولغسل ميت عنده .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : " كرهت أن أحرجكم " ؛ الرواية فيه بالحاء المهملة ، وهو من الحرج والمشفة ، ومنه : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ، والدَّحَض : الزلق ، وهو الزلل.
وقوله في "الأم" : " في يوم ذي رَدْغٍ " : الرواية المشهورة فيه بدال مهملة ساكنة ، وغين معجمة ، ووقع في رواية أبي الفتح السمرقندي : " رزغ " بالزاي ، وكلاهما : الطين الذي يزلق فيه . وقد قُيِّد : " رَزَع " بفتح الزاي وسكونها ، وصوابه الفتح ، فإنه الاسم ؛ كالنَّقض والقَبَض ، والسكون للمصدر .
**************
( 90 ) باب التنفل والوتر على الراحلة في السفر(3/207)
288- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي ، وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ ، قَالَ : وَفِيهِ نَزَلَتْ : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله }.
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ ، وَهُوَ مُوَجِّهٌ إِلَى خَيْبَرَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التنفل والوتر على الراحلة
لم تختلف العلماء في جواز التنفل على الراحلة للمسافر قِبَل أي وجه توجه
بعد الشروع فيها ، واختلفوا : هل يلزمه أن يفتتح نافلته إلى القبلة أو لا ؟ فذهب الشافعى وأحمد وأبو ثور إلى أن ذلك يلزمه ، وذهب مالك وغيره إلى أنه لا يلزمه ، وحجتهم التمسك بظاهر الحديثين المذكوزين في هذا الباب ، أعني :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حديث ابن عمر وأنس فتأملهما .
---
ولا شك أن هذا الفعل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما كان في السفر ، وهل يجوز فعله في الحضر أم لا ؟ فذهب أبو يوسف إلى أنه يجوز في الحضر ، ورَوَى عن أنس أنه كان يومئ على حمار في أزقَّة المدينة ، وحكاه [ بعض ] الشافعية عن مذهبهم ، ومالك لا يراه إلا في سفرٍ طال .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله تعالى : { فثم وجه الله } ؛ أي : جهة الله ، يعني : القبلة ، وأضافها الله تعالى إليه تشريفًا ، وقيل : رضاه ، وقيل : رحمته ؛ كما قال في الحديث : (( فإن الرحمة تواجهه )) ، وقال الفَرَّاء : العمل ؛ كما قال الشاعر :(3/208)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أستغفرُ الله ذنبًا لست مُحْصِيَهُ ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ
وفي قوله نظر ، فإن الوجة المذكور في الشعر ليس [هو] العمل ، بدليل ذكر العمل بعده ، وإنما معناه : القصد ؛ أي : إليه القصد والعمل ، ويمكن حمل الوجه في الآية على هذا ، والله أعلم .
وقوله في رواية عمرو بن يحيى المازني : " على حمار " وَهَّمَ الدارقطني وغيره هذه الرواية ؛ قالوا : والمعروف : على راحلته ، وعلى بعير ، ولم يخرج البخاري هذه الرواية .
وقوله : "وهو مُوجِّهٌ إلى خيبر" ؛ أي : متوجِّه ، يقال : وجَّه هاهنا ؛ أي : توجَّه. وقد يقال : إن معناه قاصد ، يقال : هذا وجهي إليه ؛ أي : قصدي.
ولم يقع في كتاب مسلم كيفية صلاته على الدابة ، وقد وقع مفسرًا في "الموطأ" من فعل أنس : أنه صلى إيماءً . قال مالك : " وتلك سنة الصلاة". قال : " ولا يسجد على القَرَبُوس".
289- وعَنْهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا ، غَيْرَ أنَّهُ لا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " كان يسبخ على الراحلة ، ويوتر عليها " : حجة للجمهور على أصحاب الرأي ، حيث يقولون : إن الوتر لا يصلى على الراحلة .
وقوله : " غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة " : حجة على من يقول بوجوب الوتر . وقد أجمع أهل العلم فيما حكاه عياض : على أنه لا يصلي فريضة على الدابة ، في غير عذر خوف أو مرض . واختُلِفَ في [الزَّمِن] ، واختَلَفَ فيه قول مالك . واختلف قول مالك أيضًا : هل حكم السفينة في التنفل حيث توجهت به حكم الدابة أو خلافها ؟ والمشهور أنها ليست كالدابة .
*************(3/209)
( 91 ) باب الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر
290- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ ، جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ صَلاةَ الْمَغْرِبِ ، حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الْعِشَاءِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الجمع بين الصلاتين
المراد في هذا الباب من الجمع : إنما هو إخرافي إحدى الصلاتين المشتركتين عن وقت جوازها ، وإيقاعها في وقت الأخرى مضمومة إليها ، وهو إنما يكون في الصلوات المشتركة الأوقات ، وهي : الطهر والعصر ، والمغرب والعشاء . ولا يكون في غيرها بإجماع ، ثم الجمع متفق عليه ومختلف فيه .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
فالأول : هو الجمع بعرفة والمزدلفة . والمختلف فيه هو الجمع في السفر والمطر والمرض . فأما الجمع في السفر فإليه ذهب جماعة السلف وفقهاء المحدثين والشافعي ، وهو مشهور مذهب مالك ، وهل ذلك بمجرد السفر ، أو لابد معه من جدّ السير ؟ قولان. وبالأول قال جمهور السلف وعلماء الحجاز وفقهاء المحدثين وأهل الظاهر . وبالثاني قال مالك والليث والثوري والأوزاعي ، وأبى أبو حنيفة وحده الجمع للمسافر ، وكرهه الحسن وابن سيرين ، وروي عن مالك كراهيته ، وروي عنه أنه كرهه للرجال دون النساء . وأحاديث ابن عمر وأنس ومعاذ المذكورة في هذا الباب حجة على أبي حنيفة . لكنْ أبو حنيفة تأوّلها على أن الصلاة الأولى أوقعت في آخر وقتها ، والثانية أول وقتها ، وهذا يجوز باتفاق .
وقد جاء في حديث معاذ في كتاب أبي داود : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا ارتحل(3/210)
.....................................................................
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ، ثم سار . وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب . وهذا حجة ظاهرة للجمهور في الرد على
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
أبي حنيفة . وأما الجمع لعذر المطر فقال به مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور السلف بين المغرب والعشاء ، وأما بين الظهر والعصر فقال بالجمع بينهما في المطر الوابل : الشافعي وأبو ثور والطبري ، وأبى أبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر والليث من الجمع في صلاتي الليل والنهار . وأما الجمع لعذر المرض فقال به مالك إذا خاف الإغماء على عقله ، وأبى ابن نافع الجمعَ لذلك ، وقال : لا يجمع قبل الوقت ، فمن أغمي عليه حتى ذهب وقته لم يجب عليه قضاؤه ، ومنعه أيضًا أشهب والشافعي .
وذهب كافة العلماء إلى منع الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر إلا شذوذًا ؛ منهم من السلف : ابن سيرين ، ومن أصحابنا أشهب ؛ فأجازوا ذلك للحاجة ما لم تتخذ عادة ، ونحوه لعبدالملك في الظهر والعصر . وحجتهم في ذلك حديث ابن عباس(2).(3/211)
وقوله في حديث أنس وابن عمر : " إذا عجل به السير " : حجة ظاهرة لمشترط جِدَّ السير في الجمع ، ولا تعارض هذه الأحاديث التي لم يذكر(3) فيها ذلك ؛ لأن الحجة في المنقول لا في المسكوت عنه ، ويتعين حمل المطلق منهما على المقيد هنا لاتحاد الموجِب [ والموجَب](4) ، وهو موضع اتفاق الأصوليين في حمل المطلق على المقيد . وإنما خصّ ابن عمر صلاة(5) المغرب والعشاء بالذكر ،
291- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ زَاغَتِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : يُؤَخِرْ الظُهْرَ إِلَى أَولْ وقْتِ العَصْرَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
ولم يذكر العصر ؛ لوقوع الجمع له بين المغرب والعشاء ، وهو الذي سأله عنه نافع فأجاب عمّا سئل عنه حين استُصْرِخَ على امرأته صفية بنت أبي عبيد ، فاستعجل فجمع بين المغرب والعشاء ، فسئل فأجاب بما ذكر.(3/212)
وقوله في حديث أنس : " إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل " : ظاهر في أنه كان يصلي الظهر في وقت العصر ؛ لأنه إذا أخّر الظهر لأول وقت العصر ، ثم بعد ذلك بمهلة نزل فتوضأ ، فصلى الصلاتين ؛ فيلزم أن يصلي الظهر في أول وقت العصر ولابدّ . وأوضح من هذا ما في الرواية الأخرى ؛ من أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يؤخّر المغرب حتى يجمع بينهما وبين العشاء حين يغيب الشفق ، فظاهر ذلك حجة 292- وعَنْهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا عَجِلَ عَليِهِ السَّفَرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على أبي حنيفة ؛ حيث منع الجمع المذكور ، وهذا إنما فعله ابن عمر والنبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنهما زالت عليهما الشمس وغربت وهما يجدّان السير ، فلو أراد أن يرتحل بعد الزوال ناويًا ألا ينزل حتى يخرج وقت الصلاتين ؛ صلى الأولى في أول الوقت ، والثانية بعدها مجموعة إليها . قال أبو محمد عبدالوهاب : وله أن يجمع بين الصلاتين في وقت أيتهما شاء ، والاختيار : في آخر وقت الأولى ، وأول وقت الثانية . وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى الظهر ثم ركب ، ولم يصل العصر مجموعة إليها ؛ إما لأنه نوى أن ينزل في وقت العصر ، وإما لأنه لم يرد أن يجمع بينهما ؛ لأن الجمع هنا غايته أن يكون جائزًا للرّخصة ، وإما لأنه(1) لم يجدّ به السير ، والله أعلم .
---
293- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا ، فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلا سَفَرٍ .(3/213)
وَفِي رِوَايَةٍ : بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلامَطَرٍ . قِيلَ لابْنَ عَبَّاسٍ : ما أَرَادَإلى ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَنْ لا يُحْرِجَ أُمَّتِهِ .
294- وعَنْهُ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثَمَانِيًا جَمِيعًا ، وَسَبْعًا جَمِيعًا . قِيلَ : يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ ! أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ ، وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ. قَالَ : وَأَنَا أَظُنُّ ذَلكَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث ابن عباس : " أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخّر الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء في غير خوف ولا مطر ولا سفر " : قد أخذ الناس فى تأويل هذا الحديث مآخد ، وأولاها : أن هذا الجمع يمكن أن يكون المراد به تأخير الأولى إلى أن يفرغ منها في آخر وقتها ، ثم يبدأ بالثانية في أول وقتها ، وإلى هذا يشير تأويل أبي الشعثاء ، ويدل على صحة هذا التأويل : أنه قد نفى فيه 295- وَعَنْ مُعَاَذْ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : خَرَجْنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَكَانَ يُصَلِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا ، والْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمِيعَا ، فَقِيلَ : مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَرَادَ أَنْ لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأعذاز المبيحة للجمع التي هي الخوف والسفر والمطر ، وإخراج الصلاة عن وقتها المحدود لها بغير عذر لا يجوز باتفاق ، فتعين ما ذكرناه ، والله أعلم .
وقول من تأوّله على أنه كان في مطر ، قد أبطلته هذه الرواية الصحيحة التي قال فيها : " من غير خوف ولا مطر ".
---(3/214)
وقوله : " أراد أن لا يُحْرِج أمته " : روي بالياء باثنتين من أسفل وبضمها ، و" أمته " منصوبًا على أنه مفعول ، وبفتح التاء [ باثنتين] من فوق ، وضم " أمته " على أنها فاعلة ، ومعناه : إنما فعل ذلك لئلا يشق عليهم ، ويثقل ، فقصد إلى التخفيف عنهم ، مع المحافظة على إيقاع كل صلاة في وقتها على ماتأوّلناه ، والله أعلم .
***************
(92) باب الإنصراف من الصلاة عن اليمين والشمال
296- عَنْ عَبْدِالله قاَلَ : لا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ مِنْ نَفْسِهِ جُزْءًا لا يَرَى إِلا أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لا يَنْصَرِفَ إِلا عَنْ يَمِينِهِ . أَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ .
297- وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ : سَأَلْتُ أَنَسًا : كَيْفَ أَنْصَرِفُ إِذَا صَلَّيْتُ عَنْ يَمِينِي أَوْ عَنْ يَسَارِي ؟ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال
قوله : " لا يجعلن أحدكم للشيطان من نفسه جزءًا " : [ هذا] الحديث يدل على أن ملازمة الانصراف عن اليمين من الصلاة غير جائز ، وأن له أن ينصرف عن يمينه وشماله ، وهو مذهب كافة العلماء ، غير أن الحسن ذهب 298-وَعَنِ البَرَاءِ قالَ : كُنَّا إِذْاَ صَلِّيِنَّا خَلّفَ رَسُوْلِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ ، قَالَ : فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : (( رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ - أَوْ تَجْمَعُ - عِبَادَكَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/215)
إلى استحباب الانصراف عن اليمين ، وهو الظاهر من حديث أنس ، وما حكاه ابن مسعود وأنس في هذين الحديثين يدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يفعل الأمرين جميعًا ، وأن ذلك واسع ، وليس فيه سنة يدام عليها ؛ إذ قد رأى ابنُ مسعود النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أكثر حالاته ينصرف عن شماله ، ورأى أنس عكس ذلك ، فكان ذلك دليلاً على ما قلناه ، والله أعلم .
وقوله : " أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه " : هذا يحتمل أن يكون هذا الإقبال منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حال سلامه من الصلاة ؛ فإنه كان يبدأ بالسلام بيمينه ، والأظهر أنه كان حين انصرافه من الصلاة ، ويكون هذا حين كان يكثر أن ينصرف عن يمينه كما قاله أنس ، والله أعلم .
*************
( 93 ) باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة
299- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا صَلاةَ إِلا الْمَكْتُوبَةُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قوله إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة
ظاهره أنه لا تنعقد صلاة تطوع في وقت إقامة الفريضة ، وبه قال أبو هريرة وأهل الظاهر ، ورأوا أنه يقطع صلاته إذا أقيمت عليه المكتوبة .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروي عن عمر بن الخطاب أنه كان يضرب على صلاة الركعتين بعد الإقامة. وذهب مالك إلى أنه إذا أقيمت عليه المكتوبة وهو في نافلة ، فإن [كان] ممن تخف عليه ويتمّها بأم القرآن وحدها فعل ولا يقطع ، وإن لم يكن كذلك قطع . وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يتمها . وعلى هذا الحديث فمن دخل لصلاة الصبح والإمام في الصلاة ولم يكن صلى الفجر لا يصلي الفجر . وهو مذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم.
---(3/216)
وقد اختلفوا : هل يخرج لها من المسجد ويصلي خارجه أم لا يخرج ؟ قولان لأهل العلم . وإذا قلنا : لا يخرج ، فهل يصليهما والإمام يصلي ، أو لا يصليهما ، ويدخل مع الإمام في صلاته ؟
وبالأول : قالت طائفة من السلف ؛ منهم ابن مسعود.
.....................................................................
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبالثاني قال الشافعي وأحمد والطبري وابن سيرين ، وحكي عن مالك . وإذا قلنا : إنه يخرج ، فهل ذلك ما لم يخش فوات الركعة الأولى ، فإن خشيه دخل ، أو إنما يراعي خشية فوات الآخرة ؟ قولان :
الأول لمالك والثوري .
والثاني أيضًا حُكي عن مالك . وقيل : يصليهما وإن فاتته صلاة الإمام إذا كان الوقت واسعًا ؛ قاله ابن الجلاب .
300- وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَالِكٍ بْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ : أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ ، فَرَأَى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلاً يُصَلِّي ، وَالْمُؤَذِّنُ يُقِيمُ ، فَقَالَ : (( أَتُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا ؟ )).
301- وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ سَرْجَسْ قالَ : دَخَلَ رَجُلٌ المَسْجِدَ ، وَرَسُوْل اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي صَلاةِ الْغَدَاةِ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( يَا فُلانُ بِأَيِّ الصَّلاتَيْنِ اعْتَدَدْتَ ؟ أَبِصَلاتِكَ وَحْدَكَ أَمْ بِصَلاتِكَ مَعَنَا ؟ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/217)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أتصلي الصبح أربعًا ؟ )) : إنكار على الرجل الذي فعل ذلك ، وهذا الإنكار حجة على من ذهب إلى جواز صلاة ركعتي الفجر في المسجد والإمام يصلي كما ذكرناه آنفًا ، وعلى سدّ الذريعة التي يخاف منها توهم الزيادة في الفرائض . وقال في رواية أخرى ما ينص على ذلك : "يوشك أن تُصَلَّى الصبحُ أربعًا" ، وكذلك يفهم من قوله في الحديث الآخر : (( يا فلان ! بأي الصلاتين اعتددت ، بصلاتك وحدك ، أو بصلاتك معنا ؟ )) ويزيد معنى آخر وهو أن فيه منع ما يؤدي إلى الخلاف على الإمام .
ويمكن أن يستنبط من هذين الحديثين : أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك
..........................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحال صحَّت ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقطع عليهما مع تمكنه من ذلك . وفي إنكاره عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المصلي مع كونه صلى في جانب المسجد ما يدل على شدة المنع من صلاتهما والإمام في الصلاة ، وإن كان في زاوية .
وقوله(2) : " عبد الله بن مالك بن بحينة " : هو الصحيح ، وما رواه القعنبي خطأ كما قاله(3) في "الأم"(4). وقال أبو مسعود الدمشقي : أهل العراق يقولون : عن مالك بن بحينة ، وأهل الحجاز قالوا(5) في نسبه : عبد الله بن مالك بن بحينة ، وهو الأصح . و" بحينة " : أم عبد الله ؛ قال أبو عمر بن عبدالبر : إن بحينة اسم(6) أم أبيه مالك ، والأول أصح وأثبت ، ولعبد الله ولأبيه مالك صحبة(7).
( 94 ) باب ما يقول عند دخول المسجد ، والأمر بِتحيَّتِهِ(3/218)
302- عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ ، أَوْ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ ، فَلْيَقُلِ : اللهمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ . وَإِذَا خَرَجَ ، فَلْيَقُلِ : اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
بسم الله الرحمن الرحيم ،
صلى الله على محمد وآله
ومن باب ما يفعل عند دخول المسجد
قوله : (( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس )) : عامة العلماء على أن هذا الأمر على الندب والترغيب ، وقد ذهب داود وأصحابه إلى أن ذلك على الوجوب ، وهذا باطل ، ولو كان الأمر على ما قالوه لحرم دخول المسجد على المحدث الحدث الأصغر حتى يتوضأ ، ولا قائل به ، وإنما الخلاف في دخول الجنب ، فإذا جاز دخول المسجد على غير وضوء ؛ لزم منه أنه لا يجب عليه تحيته عند دخوله ، إذ لو كان ذلك للزمه 303- وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ- صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ - قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ . قَالَ : فَجَلَسْتُ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ ؟ )) قَالَ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! رَأَيْتُكَ جَالِسًا وَالنَّاسُ جُلُوسٌ . قَالَ : (( فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ ، فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن يتوضأ عند إرادة الدخول . فإن قيل : الخطاب بالتحيّة لمن كان متوضئًا ، قلنا : هذا تحكُّم ، وعدول عن الظاهر بغير دليل ؛ فإنه متوجه لداخل المسجد فيلزم ما ذكرناه . وقد عدّها بعض أصحابنا في السنن .
---(3/219)
ثم هل يحيّي المسجد في أيّ الأوقات دخله ، أو لا يحييه في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ؟ قولان : الأول لبعض أهل الظاهر ، والثاني للجمهور . فلا يحيي المسجد عندهم بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس ، غير أن الشافعي منع منها حالة الطلوع وحالة الغروب ، وأجازها فيما قبل ذلك بناء منه على أصله(2) في أن كل صلاة يتعيّن فعلها بحسب سببها فجائز فعلها ما لم تطلع الشمس وما لم تغرب ، وسيأتي الكلام على هذا الأصل . وسبب الخلاف في تلك المسألة اختلاف ظواهر الأحاديث ؛ إذ تعليق الأمر بالتحية على الدخول يقتضي فعلها متى دخل المسجد . وعموم ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (( لا صلاة بعد العصر وبعد الصبح )) يقتضي ألاّ يفعل.
وكذلك اختلفوا في تحية المسجد بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح ، فقال بجواز ذلك الشافعى وأحمد وداود.وقال بالمنع أبو حنيفة والليث والأوزاعي. واختلف عن مالك فيمن ركع ركعتي الفجر في بيته : هل يحيي المسجد أو لا يحييه ؟ قولان عنه. وهذا الخلاف فيمن أراد الجلوس في المسجد ، فأما العابر فخفف فيه أكثرهم ، وهو قول مالك ، ومنهم من أمر به ، وهو قياس مذهب أهل الظاهر . واختلف قول مالك في تحية المسجد إذا صليت(7) العيد فيه . ورأى في مسجد مكة تقديم الطواف على التحية ، وفي مسجد المدينة تقديم التحية على السلام على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد وسع في ذلك أيضًا. وقال بعض أصحاب مالك : إن من تكرر عليه الدخول في المسجد [ تسقط ](8) عنه تحيته ؛ كمن كثر تردده إلى مكة من الحطّابين وغيرهم ، وكسقوط السجود عمن كثرت تلاوته من القُرَّاء(9) ، وسقوط الوضوء لمسّ المصحف للمتعلمين(10).
---(3/220)
304- وعَنْ جَابِرِبْنِ عَبْدِ الله قَالَ : كَانَ لِي عَلَى رَسوُلِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دَيْنٌ ، فَقَضَانِي وَزَادَنِي ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ ، فَقَالَ لِي : (( صَلِّ رَكْعَتَيْنِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول جابر ـ رضى الله عنه ـ : "كان لي على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دين فقضاني وزادني" : هذا الدين
305 - وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَاَلِكٍ : أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ لا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ إِلا نَهَارًا فِي الضُّحَى ، فَإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو ثمن البعير الذي كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اشتراه منه في رجوعه إلى المدينة من بعض أسفاره ، وشرط عليه ركوبه إلى المدينة ، فلما بلغها دفع له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجمل والثمن ، وزاده قيراطًا ، وسيأتي في البيوع إن شاء الله تعالى .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يقدم من سفر إلا نهارًا ؛ إنما كان ذلك لأنه قد نهى أن يأتي الرجل أهله طروقًا ، وقد نبه على تعليله في حديث جابر فقال : "يتخوفهم ويطلب عثراتهم " ، وفي حديث غيره : " كي تستحدَّ المغيبة وتمتشط الشعثة ". واقتصر هنا كعب على ذكر وقت الضحى ، وقد رواه أنس فقال : " كان لا يطرق أهله ، وكان يأتيهم غدوة وعشية " ، وكأنه كان أكثر قدومه في أول النهار ليبدأ بالصلاة في المسجد ، فكان يتأخر حتى يخرج وقت النهي ، والله أعلم .
****************
---
(95) باب في صلاة الضحى(3/221)
306- عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ قَالَ : قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَكَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي الضُّحَى ؟ قَالَتْ : لا ، إِلا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صلاة الضحى
قد تقدم أن الضحى صدر النهار ، والصلاة الموقعة فيه هي المنسوبة إليه ، وأول وقتها خروج الوقت المنهيّ عنه ، وآخره ما لم تَزُل الشمس ، وأفضل وقتها إذا زمضت الفصال ، وسيأتي.
وهذه الصلاة مشروعة ، مندوب إليها ، مُرَغَّب فيها ، على ما يأتي بيانه عند جمهور العلماء. وقد روي عن أبي بكر وعمر[وابن عمر] وابن مسعود ـ رضى الله عنهم ـ أنهم كانوا لا يصلونها ، وهذا إن صح محمول [على أنهم ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خافوا] أن تُتَّخَذَ سنة ، أو يظن بعض الجهال أنها واجبة. وقول [ابن عمر] ـ رضى الله عنه ـ وقد رأى الناس يصلونها في المسجد : "بدعة" ؛ يعني به الاجتماع لها وفعلها في المسجد ، ويحتمل أن يكون قوله في الضحى : " بدعة " ؛ أي : حسنة ؛
307- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ ، وَإِنِّي لاُسَبِّحُهَا ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما قال في قيام رمضان. وقد روي عنه : " ما ابتدع المسلمون بدعة أفضل من صلاة الضحى " ، وهذا منه نصٌّ على ما تأوّلناه .
وقول عائشة رضي الله عنها : " ما رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي سبحة(3/222)
308- وعَنْ مُعَاذَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ : كَمْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي الضُّحَى ؟ قَالَتْ : أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضحى قط " : يعارضه قولها فيما روت عنها معاذة : " أنه كان يصليها أربع ركعات ، ويزيد ما شاء". واختلف في الجمع بينهما ، فقيل : إنما نفت أن تكون رأته يصليها بحضرتها ، وغير حال قدومه من سفر ، وحيث صلى أربعًا كان إذا قدم من سفر ؛ كما جاء في حديث عبدالله بن شقيق أنها قالت : "كان لا يصلي الضحى إلا أن يجيء من مغيبه ". وقال القاضي عياض : والأشبه عندي في الجمع بين حديثيها : أن تكون إنما أنكرت صلاة الضحى المعهودةَ حينئذٍ عند الناس ؛ على الذي اختاره جماعة من السلف من صلاتها ثماني ركعات ، فقد صلاها كذلك خالد بن الوليد ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما كان يصليها أربعًا ؛ كما قالت ، ويزيد ما شاء .
قلت : ويمكن أن يقال : يحتمل أن يكون الذي أنكرت ونفت أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعله : اجتماع الناس لها في المسجد يصلونها كذلك ، وهو الذي قال
فيع [ ابن ] عمر ـ رضى الله عنه ـ : " إنه بدعة ".
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة رضي الله عنها : " وإني لأُسَبِّحها "- بالسين والباء بواحدة ، وهي الرواية المشهورة- ؛ أي : لأفعلها. وقد وقع في"الموطأ" : "لأستحبها" ، من الاستحباب ، والأول أولى ، وقد روي عنها : أنها كانت تصليها.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/223)
وقولها : " وإن كان ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم " ؛ أي : يظنونه فرضًا ؛ للمداومة ، فيجب على من يظنه كذلك ؛ كما إذا ظن المجتهد حِلّ شيء أو تحريمه ، وجب عليه العمل بذلك . وقيل : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان حكمه أنه إذا ثبت على شيء من أعمال القرب واقتدى الناس به في ذلك العمل فُرض عليهم ؛ كما قال في قيام رمضان ، وسيأتي .
---
309- وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : مَا أَخْبَرَنِي أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي الضُّحَى إِلا أُمُّ هَانِئٍ ، فَإِنَّهَا حَدَّثَتْ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : لا أَدْرِي أَقِيَامُهُ فِيهَا أَطْوَلُ أَمْ رُكُوعُهُ أَمْ سُجُودُهُ . كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ مُتَقَارِبٌ . قَالَتْ : فَلَمْ أَرَهُ سَبَّحَهَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلَّى فِي بَيْتِهَا عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانَِ رَكَعَاتٍ فِي ثَوْبٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أم هانئ : " إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى الضحى يوم الفتح ثماني ركعات " ، وفي حديث [ معاذة ] : " أربع ركعات " : يدل : على أنها ليس لعددها حدٌّ محدود . وقد ذكر البزار عن أبي ذر قال : قال
.....................................................................
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/224)
لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين ، وإن صليت أربعًا كتبت من العابدين ، وإن صليت ستًّا لم يلحقك ذنب ، وإن صليت ثمانيًا كتبت من القانتين ، وإن صليت اثنتي عشرة لك بيت في الجنة )). قال البزار : " لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه ".
*************
باب
310- عَنْ زِيْدِ بْنِ أَرْقَمْ قالَ : خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ ، وَهُمْ يُصَلُّونَ ، فَقَالَ : صَلاةُ الأَوَّابِينَ ، إِذَا رَمِضَتِ الْفِصَالُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : (( صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال )) : الأوَّابون : جمع أوَّاب ؛ وهو مبالغة آيب ، وهو من : آب إلى كذا ؛ أي : رجع ، ومنه قول تَأَبَّط شرًّا :
فلأبْتُ إلى فَهْمٍ وما كدت آيبا
أي : رجعت . فمعنى الأوابين هنا ، وفي قوله تعالى : { فإنه كان للأوابين غفورًا } ؛ أي : الراجعين من الإساءة إلى الإحسان ؛ على ما قاله قتادة. وقال مجاهد : التائبون. وابن عمر : المستغفرون. وقال ابن عباس : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسبحون ، وكل ذلك متقارب . والفصال والفصلان : جمع فصيل ، وهو الذي يفطم عن الرضاعة من الإبل . والرمضاء : شدة الحرّ في الأرض . وخص الفصلان هنا بالذكر ؛ لأنها هي التي ترمض قبل انتهاء شدة الحرّ التي ترمض بها أمهاتها ؛ لقلة جلدها ، وذلك يكون في الضحى أو بعده بقليل ، وهو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها .
**************
( 96 ) باب الوصية بالضحى وأقله ركعتان(3/225)
311- وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : أَوْصَانِي حَبِيبِي بِثَلاثٍ ، أَنْ لا أَدَعَهُنَّ مَا عِشْتُ ، بِصِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَصَلاةِ الضُّحَى ، وَبِأَنْ لا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ .
312- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أَوْصَانِي خَلِيلِي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِثَلاثٍ . بِصِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى ، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الوصية بالصحى
وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهما يدل على فضيلة الضحى ، وكثرة ثوابه وتأكده ، ولذلك حافظًا [عليه] ولم يتركاه . وقد بينّا الخلة والخليل في كتاب الإيمان .
---
وقد عاب بعض الطاعنين على أبي هريرة قوله : " خليلي " ، في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ بناءً منه على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتخذه ولا أحدًا من الخلق خليلاً ، وهذا إنما وقع 313- وعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ قَالَ : (( يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه قائله ظانًّا أن خليلاً بمعنى مخالل ، من المخاللة التي لا تكون إلا بين اثنين ، وليس الأمر كذلك ، فإن خليلاً مثل حبيب ، لا يلزم فيه من المفاعلة شيء ؛ إذ قد يُحَبُّ الكاره .
وقوله : " ركعتي الضحى " : يشعر بأن أقلَّه ركعتان ، وسيأتي الكلام على الوتر .(3/226)
وقوله : (( يصبح على كل سُلامَى من أحدكم صدقة )) ؛ أصل السُّلامى - بضم السين - : عظائم الأصابع والأكُفّ والأرجل ، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله . وفي حديث عائشة رضي الله عنها : (( خُلِقَ الإنسان على ستين وثلاثمة مفصل )) ، [ ففي] كل مفصل صدقة ، وسيأتي .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ويجزىء من ذلك ركعتان )) ؛ أي : يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان ، فإن الصلاة عمل لجميع أعضاء الجسد ، فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه في الأصل الذي ذُكر فيه الحديث المتقدم .
***************
(97) باب ما جاء في ركعتي الفجر
---
314- عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لا يُصَلِّي إِلا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في ركعتي الفجر
قول حفصة رضي الله عنها : " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين " : ظاهره : أنه لا يجوز في هذا الوقت نافلة إلا ركعتي الفجر. وقد روى الترمذي حديثًا عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
.....................................................................
315- وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، فَيُخَفِّفُ حَتَّى إِنِّي أَقُولُ : هَلْ قَرَأَ فِيهِا بِأُمِّ الْقُرْآنِ !
316- وعَنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ .(3/227)
317- وعَنْهَا ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( لَهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال : (( لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين )). قال : " حديت غريب ، وهو ما أجمع عليه أهل العلم ؛ كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر ".
قلت : وهذا الإجماع الذي حكاه الترمذي إنما هو على كراهة التنفل المبتدأ ، وأما ما كان منه بحسب سبب ؛ فقد ذكرنا الخلاف فيه في باب : تحية المسجد .
وتخفيفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ركعتي الفجر ، إنما كان سنة الفجر ؛ لمبادرته إلى إيقاع صلاة الصبح في أول وقتها ، والله أعلم .
318- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ }.
---
319- وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، فِي الأُولَى مِنْهُمَا : { قُولُوا آمَنَّا بِالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } الآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَفِي الآخِرَةِ مِنْهُمَا : { آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }.
وَفِي رِوَايَةٍ : { تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/228)
وقول عائشة رضي الله عنها : " إنه كان يخففهما حتى إني أقول : هل قرأ فيهما بأمّ القرآن ؟" : ليس معنى هذا أنها شكّت في قراءته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها بأمّ القرآن ؛ لأنه قد ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن )) ، وإنما معنى ذلك : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في غيرها من النوافل يقرأ بالسورة ، ويرتِّلُها حتى تكون أطول من أطول منها ، بخلاف فعله في هذه ، فإنه كان يخفف أفعالها وقراءتها ، حتى إذا نُسبت إلى قراءته في غيرها كانت كأنها لم يقرأ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
فيها. وقد دلّ على صحة هذا ما في حديث أبي هريرة : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقرأ [فيهما] بـ : { قل يا أيها الكافرون } و{ قل هو الله أحد } ، وهذا بعد قراءة الفاتحة في الركعتين قبل السورتين ، على ما قد تبيّن اشتراطه في الصلاة كما تقدم ، وعلى هذا يحمل حديث ابن عباس : أنه كان يقرأ فيهما بقوله : { قولوا آمنّا بالله} ، وبقوله : { تعالوا إلى كلمة } : أنه كان يقرأ ذلك بعد الفاتحة ، وما ذكرناه هو الظاهر من مجموع الأحاديث ، وهو اختيار جمهور أصحاب مالك ؛ استحبوا أن يقرأ فيهما بأم القرآن في كل ركعة [منهما] ، و{ قل يا أيها الكافرون } ، في الأولى ، و{ قل هو الله أحد } في الآخرة ، وهو قول الشافعي وأحمد ، واستحب مالك الاقتصار على أم القرآن على ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها . وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ فيهما بالجملة الكافية ؛ حكاه الطحاوي ، وذهب النخعي إلى جواز إطالة القراءة فيهما ، واختاره الطحاوي ، وذهب الثوري والحسن وأبو حنيفة ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/229)
إلى أنه يجوز لمن فاته حزبه من الليل أن يقرأه فيهما .
وقول عائشة رضي الله عنها : " لم يكن على شيء من النوافل أشدَّ معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح " : استدل بهذا من قال : إنهما سنة ، وهو قول كافة العلماء وأكثر أصحاب مالك ، وروي عن بعضهم أنها من الرغائب ، وهو القول الآخر عن مالك . وذهب الحسن إلى وجوبهما ، وهو شاذّ لا أصل له ، والله أعلم .
**************
( 98 ) باب رواتب الفرائض وفضلها
---
320- عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وفي رواية (( تَطَوُعًَا غَيرَ فَرِيضَةٍ بُنِيَ لَهُ ِبهْنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ )). قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ : فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب رواتب الفرائض
وقع في كتاب مسلم حديث أم حبيبة لم يعيِّن فيه الثِّنْتَيْ عشرة ركعة ولا عددها ، وقد ذكر النسائي عن أم حبيبة هذا الحديث مرفوعًا ، وعيَّن فيه
.....................................................................
.....................................................................
.....................................................................
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/230)
الركعات وعددها ؛ فقال : (( أربع ركعات قبل الظهر ، وركعتين بعد الظهر ، وركعتين قبل العصر ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين قبل صلاة الصبح )) ، وهو صحيح . واختلف العلماء : هل للفرائض رواتب مسنونة ، أو ليس لها ؟ فذهب الجمهور إلى الأخذ بحديث أئم حبيبة ، وبما رُوي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فعله لهذه النوافل ، على ما ذُكر عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما في هذا الباب ، فقالوا : هي سنة مع الفرائض . وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا روتب في ذلك ولا توقيت ، عدا ركعتي الفجر ، وقد تقدم ذكرها [ حمايةً للفرائض] ، ولا يمنع من تطوع بما شاء إذا أمن ذلك . وذهب العراقيون من أصحابنا إلى استحباب الركوع بعد الظهر ، وقبل العصر ، وبعد المغرب . وقد تقدم أن أهل الحجاز يسمون الركعة : سجدة .
---
321- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَبْلَ الظُّهْرِ سَجْدَتَيْنِ ، وَبَعْدَهَا سَجْدَتَيْنِ ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ سَجْدَتَيْنِ ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ سَجْدَتَيْنِ ، وَبَعْدَ الْجُمُعَةِ سَجْدَتَيْنِ. فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ فَصَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي بَيْتِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/231)
وقول ابن عمر : " فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليث مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته " : يدلّ على أنه كان يصلي بعض النوافل في المسجد ، مع أنه قد قال : ((خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )) ، وهذا مقتضى حديث عائشة رضي الله عنها ؛ فإنها ذكرت فيه أنه صلى ذلك كله في بيته إلا الفرائض خاصة ؛ فإنه كان يصليها في المسجد ، وعلى هذا فالأصل في أفضلية التطوع أن يكون في البيت ، وإيقاعها في المسجد لمقتضٍ لذلك وعارضٍ ؛ مثل تشويشٍ في البيت ، أو ليسر في المسجد ونشاط وما شاكل ذلك . وقد كره النوافل في المسجد النخعي [ وعَبِيدة] ، وعُلِّل ذلك لهما بالحماية للفرائض ، وبأن لا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يخلي بيته من الصلاة ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )). وذهب بعضهم إلى كونها في المسجد أجمع ، وحُكي عن مالك والثوري أنهما ذهبا إلى كونهما في المسجد نهارًا وبالليل في البيت .
قلت : وكأن هذا قول بمقتضى حديث ابن عمر رضي الله عنهما . وأما بعد الجمعة : فذهب مالك وأصحابه إلى أن الأفضل للإمام ألا يتنفل بأثرها في المسجد ، ووسّع في ذلك للمأموم ، واختار الشافعي والكوفيون الركوع بعد الجمعة ستًّا أو أربعًا . وقال الشافعي : ما كثر فهو أحب إليَّ ، وسيأتي الكلام في ركعتي العصر وقبل المغرب .
---
قلت : والحاصل من الأحاديث استحباب الرتبة على نوافل حديث أم [حبيبة]- الذي ذكرناه - في البيت ؛ كما في حديث عائشة رضي الله عنها ، فإن هذه النوافل يجبر بها نقص إن وقع في الفرائض ؛ على ما رواه الترمذي عن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( إن أول
.....................................................................(3/232)
.....................................................................
.....................................................................
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإذا صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، فإن انتَقَصَ من فريضته شيء قال الرب تبارك وتعالى : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فيكمَّلُ بها ما انتَقَصَ من الفريضة ، ثم يكون سائر عمله على ذلك )) ، والله أعلم .
322- وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلاةِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، عَنْ تَطَوُّعِهِ ؟ فَقَالَتْ : كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ . وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ ، وَيَدْخُلُ بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَكَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ فِيهِنَّ الْوِتْرُ. وَكَانَ يُصَلِّي لَيْلاً طَوِيلاً قَائِمًا ، وَلَيْلاً طَوِيلاً قَاعِدًا ، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ ، وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها : " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي تسع ركعات فيهن الوتر " : هو مثل(3/233)
حديث سعد بن هشام قالت : كان يصلي تسع ركعات لا يجلس فيها ، إلا في الثامنة ، ثم ينهض ولا يسلم ، ثم يقوم فيصلي التاسعة " ، وهذا مخالف لما يأتي بعد هذا من قولها : " إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصلي إحدى عشرة ركعة ، يسلم من كل ركعتين ، ويوتر بواحدة " ، ولِما قالت : " إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ، يوتر من ذلك بخمس ، لا يجلس في شيء(8) إلا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في آخرها " ، ولقولها : " كان يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر " ، ولقولها : " يصلي أربعًا فلا تَسَلْ عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعًا كذلك ، ثم يصلي ثلاثًا " ، ولقولها : " إنه كان يوتر بسبع " ، وقد أشكلت هذه الأحاديث على كثير من العلماء ، حتى إن بعضهم نسبوا حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة الليل إلى الاضطراب ، وهذا إنما كان يصح لو كان الراوي عنها واحدًا ، أو أخبرت عن وقت واحد ، والصحيح : أن كل ما ذكرته صحيح من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أوقات متعددة ، وأحوال مختلفة ، حسب النشاط واليُسْر ، وليبين أن كل ذلك جائز ، ولأجل هذه الأحاديث المختلفة قال الحنفي : إن صلاة النفل ليلاً ونهارًا لا يشترط فيها الفصل بين كل ركعتين بالسلام ، بل يصلي ستًّا وثمانيًا وأقل وأكثر بتسليمة واحدة . وقال عبدالوهاب بن نصر : والمختاز في النفل مثنى مثنى ليلاً ونهارًا .
قلت : ويفهم من هذا : أنه يجوز غير ذلك من أربع وست وثمان [وعشر] ، كمذهب الحنفي . والجمهور ؛ على أن الفصل بين كل ركعتين أولى وأفضل.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/234)
وقولها : " كان يصلي ليلاً طويلاً قاعدًا ، وليلاً طويلاً قائمًا " : فيه : جواز التنفل قاعدًا مع القدرة علي القيام ، ولا خلاف فيه .
وقولها : " وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم ، وإذا قرأ قاعدًا ركع وسجد وهو قاعد" : هذا يخالف حديثها الآخر : أنه كان يجمع بين القعود والقيام في ركعة واحدة ، ولا تناقض فيه ؛ فإن ذلك كان منه في أوقات مختلفة ، وبحسب ما يجد من المشقَّة ، والانتقال في النافلة من الجلوس إلى القيام ، أو من القيام إلى الجلوس جائر عند جمهور العلماء : مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم ، وكره محمد بن الحسن وأبو يوسف : أن يبتدئ صلاته قائمًا ثم يقعد ثم يركع قاعدًا. وحجة الجمهور : أنه انتقال من حالٍ إلى حالٍ [لو](5) ابتدأ الصلاة عليه لجاز ؛ كالانتقال من القعود إلى القيام المتفق عليه عندهم وعندنا ، واختلف كبراء أصحاب مالك إذا نوى القياتم فيها كلها ، هل له أن يجلس في بقية الصلاة أم لا ؟ على قولين : الأول لابن القاسم ، والثاني لأشهب . وعلى قول أشهب : هل يلزمه ذلك بمجرد النيّة ؟ أو بإلزامه ذلك نفسه وبالنذر ؟ قولان لأشياخنا .
**************
( 99 ) باب في صلاة النفل قائمًا وقاعدًا
323- عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا ، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ، قَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ ، ثُمَّ رَكَعَ ، ثُمَّ سَجَدَ ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ .
324- وعَنْهَا قَالَتْ : لَمَّا بَدَّنَ ، رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَثَقُلَ كَانَ أَكْثَرُ صَلاتِهِ جَالِسًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صلاة النفل قائمًا وقاعدًا
---(3/235)
قول عائشة رضي الله عنها : " لما بَدَّن وثقل كان أكثر صلاته جالسًا " : أكثر الرواة قيدوه : " بَدُن " ، بضم الدال ، ورواه الصدفي عن العذرى : "بَدَّن " ، مفتوحة الدال مشددة ، وارتضى أبو عبيد رواية الفتح والتشديد ، وقال : يقال : بَدَّن الرجل تبدينًا : إذا أسنّ ، وأنشد :
325- وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ قَالَ : قُلْتُ لِعَائِشَةَ : هَلْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي وَهُوَ قَاعِدٌ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، بَعْدَ مَا حَطَمَهُ النَّاسُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكُنْتُ خِلْتُ الشَّيْبَ والتَّبدينا والهمَّ مما يُذْهِلُ القرينا
قال : ومن رواه بَدُن ليس [له] معنى ؛ لأنه خلاف وصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومعناه : كثر لحمه ؛ يقال : بُدن يَبْدُنُ بَدَانَةً .
قلت : ولا معنى لإنكار بَدُنَ ، وقد صحت الرواية فيه ، وقد جاء معناه مفسَّرًا من قول عائشة ؛ قالت : " فلما كبر وأخذه اللحم " ، وفي رواية : "أسَنَّ وكثر لحمه ". وقول أبي عبيد : لم يكن ذلك وصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : صِدْق ؛ لأنه لم يكن في أصل خلفته بادنًا كثير اللحم ، لكن عندما أسنّ وضعف عن كثير مما كان يتحمله في حال النشاط من الأعمال الشاقة استرخى لحمه ، وزاد على ما كان في أصل خلقته زيادة يسيرة ، بحيث يصدق عليه ذلك الاسم ، والله أعلم .
وقولها : " بعدما حطمه الناس " : قال أبو عبيد : يقال : حَطَم فلانًا أهلُه : إذا كبر فيهم ؛ كأنه بما تحمَّل من أثقالهم صيَّروه شيخًا محطومًا . والحَطْمُ : كسر الشيء اليابس ، يؤيد هذا قول حفصة رضي الله عنها : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما صلى سُبْحَتَه قاعدًا حتى كان قبل وفاته بعامٍ .
---(3/236)
326- وعَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلَّى فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا ، حَتَّى كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامٍ ، فَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا ، حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطوْلِ مِنْهَا .
327- وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو قَالَ : حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : ((صَلاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلاةِ )) قَالَ : فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ : (( مَا لَكَ يَا عَبْدَ الله بْنَ عَمْرٍو ! )) ، قُلْتُ : حُدِّثْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ قُلْتَ : (( صَلاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى نِصْفِ الصَّلاةِ )) وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا ! قَالَ : (( أَجَلْ ، وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها : " فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها " ؛ أي : يمد ويرتل في قراءة السور القصيرة ، حتى يكون زمان قراءتها أطول من زمان قراءة سورة أخرى فوق الأولى في العدد .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة )) : يعنى في الأجر ، مع عدم العذر المانع من القيام ، وعليه حمله الثوري وابن الماجشون وابن شعبان. وحمله بعضهم على من رُخِّص له في الصلاة جالسًا من أصحاب الأعذار الذين ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/237)
لو كلفوا أنفسهم ذلك لقدروا على القيام بمشقّة ، وهذا يَطَّرد في الفرض والنفل ، وهو قول مالك وأحمد واسحاق ، ومنع الشافعي من صلاة الفرض قاعدًا ، إلاّ مع عدم القدرة على القيام ، ويجوز ذلك في النفل مع القدرة بإجماع ، وأما من عجر عن القيام لعذرٍ مانع [منه] قأجره إن شاء الله تامٌّ كامل ؛ لأنه فعل عبادته على كمالها في حقه ولم يقصِّر فيها ، و{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } ،
وبدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما خرجه الترمذي- وصححه- ، من حديث الأربعة [النفر] حيث قال فيه : (( إنما [الدنيا] لأربعة نفر : رجل آتاه الله مالاً وعلمًا ، فهو يتَقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقًّا ، فهذا بأفضل المنازل ، ورجل أتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً ، فهو يقول : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيّته ، فأجرهما سواء )) ، وهذا نص في الفرض.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/238)
وقوله : " فوضعت يدي على رأسه " : هذا يدل على عظيم تواضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحنانه وحسن أخلاقه ، وأنه كان مع خاصة أصحابه فيما يرجع إلى المعاشرة والمخالطة كواحد منهم ؛ إذ كان يباسطهم ويمازحهم ، ويكون معهم في علمهم ، ولا يستأثر عليهم ، ولا يترفع علهم ، ولذلك كانت الأمة من إماء أهل المدينة تأخذ بيده وتنطلق به حيث شاءت ، ويجلس يحدثها حيث أرادت. ومن كانت هذه حاله ، فلا يستنكر من بعض أصحابه أن يعامله بمثل ذلك في بعض الأحوال ، سيّما وكان مقصود عبدالله : أن يقبل عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حتى يجيبه عما وقع في خاطره من هذا الأمر الذينيّ المهم في حقّه ، والله أعلم .[ وهذا كله على ما صح عندنا من الرواية "على رأسه" ، وظاهره : أنه عائد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد ذُكر لي أن بعض الناس رواه : رأْسِيَهْ ، فألحق به ياء المتكلم وهاء السكت ، ووجهها واضح لو ثبتت ، وأظن أنه إصلاح ورأي ، لا رواية ]. ويقرب من فعل عبدالله فعل جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ] ؛ حيث أسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، على قول من قال : إنه أراد فخذي النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو الصحيح .
وقوله : (( أجل )) ؛ أي : نعم .
وقوله : (( لست كأحدٍ منكم )) ؛ أي : لا يكون له في صلاته قاعدًا نصف الأجر ، بل أكثر من ذلك ، أو الأجر كله ، والله أعلم .
ويحتمل أن يكون معناه : لست كأحدٍ منكم ممن لاعذر له ممن قلت له هذا القول ؛ فإنه لم يصل قاعدًا حتى ثقل ، والأول أظهر .
*************
( 100 ) باب كيف صلاة الليل وكم عددها(3/239)
328- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيفيه صلاة الليل
---
قوله : (( إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين )) : هذا أمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به بقايا النوم ، وينشِّط إلى الصلاة ، وقد ثبت أنه كان في وقتٍ يفتتح بركعتين خفيفتين ، وفي وقت آخر [يفتتح] بركعتين أطول من اللتين بعدها ، وبأربع ركعات 329- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلاةِ الْعِشَاءِ - وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ - إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ صَلاةِ الْفَجْرِ ، وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ ، وَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ ، قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلإِقَامَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طوال ، فلهذا لا يُتَخَيَّل أن هذا الأمر من قبيل الواجب ، ولم يقل به أحد فيما علمته .
وقولها : " إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اضطجع بعد ركعتي الفجر على شقه الأيمن" : هذه
ضجعة الاستراحة من قيام الليل ، والأمر الذي في كتاب الترمذي
33- وَعَنْهَا قالتْ : كَاَنَ رَسُوْلُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ ، لا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلا فِي آخِرِهَا .(3/240)
وَفِي رِوَايَةٍ ، قَالَتْ : كَانَ يُصَلِّي ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
بها محمول على الإرشاد إلى الراحة ، ولينشط لصلاة الصبح ، وليست بواجبة عند الجمهور ولا ستة ؛ خلافًا لمن خكم بوجوبها من أهل الظاهر ، ولمن حكم [بسنيِّتها] ، وهو الشافعي ، والدليل على أنها ليست كذلك : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يفعلها دائمًا ، ألا ترى أن عائشة رضي الله عنها قالت : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا صلى ركعتي الفجر ، فإن كنت مستيقظة حدثني ، وإلا اضطجع ؟ وأيضًا فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضطجع هذه الضجعة بعد فراغه من وتره ، وقبل ركعتي الفجر ، فدلّ ذلك : على أنها ليست مخصوصة بما بعد ركعتي الفجر ، ولا وجوبًا ولا سنة ، والله أعلم .
.....................................................................
331- وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ : كَيْفَ كَانَتْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
......................................................................(3/241)
صَلاةُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي رَمَضَانَ ؟ قَالَتْ : مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاثًا . فَقَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ ؟ فَقَالَ : (( يَا عَائِشَةُ ! إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلا يَنَامُ قَلْبِي )) .
---
332- وعَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيُحْييِ آخِرَهُ ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَهْلِهِ قَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ يَنَامُ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الأَوَّلِ ، قَالَتْ : وَثَبَ فأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَوَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا تَوَضَّأَ وُضُوءَ الرَّجُلِ لِلصَّلاةِ ، ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إن عيني تنامان ولا ينام قلبي )) : قد تقدم أنه من خصائص الأنبياء عليهم السلام .
وقول عائشة رضي الله عنها : " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينام أول الليل ويُحْيِي آخره " : تعني به أن هذا كان آخر فعله ، [ أو أغلب حاله] ، وإلا فقد قالت : " من كل الليل [قد] أوتر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ من أوله وأوسطه وآخره ، فانتهى وتره إلى السَّحر ".
333- وعَنْهَا وسُئِلَتْ عَنْ عَمَلِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَتْ : كَانَ يُحِبُّ الدَّائِمَ. قَالَ : قُلْتُ : أَيَّ حِينٍ كَانَ يُصَلِّي ؟ فَقَالَتْ : إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ ، قَامَ فَصَلَّى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/242)
وقولها : " إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ، ثم نام " : يفهم منه
جواز نوم الجنب من غير أن يتوضأ ؛ فإنها لم تذكر وضوءًا عند النوم ، وذكرت أنه [إن] لم يكن جنبًا توضأ وضوء الصلاة ، وقد تقدم هذا .
وقولها : " كان يحب الدائم " : تتميمه قولها في أخرى : " وإن قَلَّ ". وسبب محبته للدائم : أن فاعله لا ينقطع عن عمل الخير ، ولا ينقطع عنه الثواب والأجر ، ويجتمع منه الكثير وإن قل العمل في الزمان الطويل ، ولا تزال صحائفه مكتوبة بالخير ، ومصعد عمله معمورًا بالبر ، ويحصل به مشابهة الملائكة في الدوام ، والله أعلم .
*************
باب
---
334- وعَنْهَا قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلا اضْطَجَعَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها : " فإن كنت مستيقظة حدثني " : فيه دليل على جواز الحديث بعد ركعتي الفجر ، وهذا مذهب الجمهور . وقد كرهه الكوفيون ، وروي مثله عن ابن مسعود وبعض السلف ؛ لما جاء أنه وقت الاستغفار ، وما ذكرناه(2) أولى ، والله أعلم .
( 101 ) باب في صلاة الوتر
335- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ، فَإِذَا أَوْتَرَ قَالَ : (( قُومِي فَأَوْتِرِي ، يَا عَائِشَةُ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَهُكَانَ يُصَلِي صَلاتَهُ بِالليِّلِ وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَإِذَا بَقِيَ الوِتْرَ أَيْقَظَهَا فَأَوْتَرَتْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الوتر(3/243)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قومي قأوتري )) : دليل : على مشروعيه تنبيه النائم للصلاة إذا خيف عليه خروج وقت الصلاة ، ولا يبعد أن يقال : إن ذلك واجب في الصلاة الواجبة ؛ لأن النائم وإن لم يكن مكلّفًا في حال نومه ، لكن مانعه سريع الزوال ، فهو كالغافل ، ولا شك أنه يجب تنبيه الغافل .
واختلف في حكم الوتر ، فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه سنة مؤكدة ، ولا يُؤَثَّم تاركها من حيث هو تارك . وقال مالك : إنه يجرج(5) تاركه . وذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب يؤثم تاركه ، ولم يسمّه فرضًا ، بناءً منه على
336- وعَنْهَاَ قَالَتْ : مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ، وَأَوْسَطِهِ ، وَآخِرِهِ . فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ .
---
337- وعَنْ سَعْدَ بْنَ هِشَامِ قَالَ : انْطَلَقْتُ أَنا وحَكِيمِ بْنِ أَفْلَحَ إِلَى عَائِشَةَ ، فَاسْتَأْذَنَّا عَلَيْهَا ، فَأَذِنَتْ لَنَا فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ : أَحَكِيمٌ ؟ -فَعَرَفَتْهُ- فَقَالَ : نَعَمْ . فَقَالَتْ : مَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ ، قَالَتْ : مَنْ هِشَامٌ ؟ قَالَ : ابْنُ عَامِرٍ ، فَتَرَحَّمَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ خَيْرًا - قَالَ قَتَادَةُ : وَكَانَ أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ - فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَتْ : أَلَسْتَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/244)
أن الفرض هو الذي يقطع بلزومه ، أو ما وجب بالقرآن ، أو ما يكفر من خالف فيه ، هذه [عبارات] أصحاب مذهبه ، والمعنى متقارب . وهذا الفرق إن ادعاه لغة أو شرعًا منعناه وطالبناه بالدليل عليه ، وإن كان [اصطلاحًا] من جهته سلمناه ولم نناقشه ، ونستدل بعد ذلك على أن الوتر ليس بواجب بأدلة قد تقدمت في باب الإسراء ، وفي باب التنفُّل على الراحلة .
---
تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ : بَلَى . قَالَتْ : فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ الْقُرْآنَ . قَالَ : فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ ، وَلا أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ ، ثُمَّ بَدَا لِي فَقُلْتُ : أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَتْ : أَلَسْتَ تَقْرَأُ : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قُلْتُ : بَلَى . قَالَتْ : فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ، فَقَامَ نَبِيُّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَصْحَابُهُ حَوْلاً ، وَأَمْسَكَ الله خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ ، حَتَّى أَنْزَلَ الله فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ
فَقَالَتْ : كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ الله مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/245)
وقول عائشة رضي الله عنها : " كان خلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن " ؛ أي : كان يتخلق بما فيه من محمود الأوصاف ، ويجتنب ما فيه من ممنوعها . ويحتمل أن تريد بقولها : " القرآن " : الآيات التي اقتضت الثناء على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ كقوله تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } ، وكقوله : { الرسول النبيِّ الأميِّ ...} ، إلى آخرها ، وما في معنى ذلك ، والله أعلم .
---
وكون سعد هَمَّ أن لا يسأل أحدًا عن شيء حتى يموت ؛ إنما كان ذلك منه استقصارًا لفهمه ؛ [ إذ لم يفهنم ذلك من القرآن مع وضوح ذلك فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لا يَجْلِسُ فِيهَا إِلا فِي الثَّامِنَةِ ، فَيَذْكُرُ الله وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ وَلا يُسَلِّمُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ الله وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ . فَلَمَّا أسَنَّ رَسُوْلُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الأوَّلِ فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ . وَكَانَ نَبِيُّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا صَلَّى صَلاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا . وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَلا أَعْلَمُ نَبِيَّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَلا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ ، وَلا صَامَ شَهْرًا كَامِلاً غَيْرَ رَمَضَانَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/246)
المعنى فيه ، وإنهاضًا لهمته] للبحث عن معاني القرآن ، واكتفاء بذلك عن سؤال أحد من أهل العلم .
---
وقول عائشة رضي الله عنها : " إن الله فرض قيام الليل ..." إلى قولها : " فصار قيام الليل تطوعًا " : ظاهر قولها هذا يدل على أنه كان فرضًا عليه وعلى الناس . قال مكي : وهو قول كافة أهل العلم . وقيل : إنه لم يكن فرضًا عليه ولا عليهم ، حكاه الأبهري عن بعضهم ، قال لقوله : { نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه } ، وليس هذا [ضرب] الفروض ، وإنما هو ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ندب . وقيل : كان فرضًا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده ، مندوبًا لغيره ، وكأن هذا مأخوذ من مواجهة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : { يا أيها المزمل } ، فخُصّ بالخطاب ، وبما روي عن ابن عباس مرفوعًا : (( ثلاث عليّ فريضة ، ولكم تطوع : الوتر ، والضحى ، وركعتا الفجر )) ، وهو ضعيف . والصحيح ما نقلته عائشة رضي الله عنها .
338- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ صَلاةِ اللَّيْلِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً ، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها : " إن النسخ كان بعد حول " : خولفت في ذلك ، فقيل : بعد
عشر سنين ، قال عياض : " وهو الظاهر ؛ لأن السورة مكية ، ومن أول ما نزل من القرآن ، إلا الآيتين آخرها نزلت بالمدينة " ، وهذا الذي قاله صحيح بصحيح الأحاديث والنقل المشهور على ما قدمناه في كتاب الإيمان .(3/247)
وقولها : " ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد" : تعني أنه كان يسلم من وتره [وهو قاعد] ، مخبرة بمشروعية محل السلام ، ولم يرو(7) عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه صلى ركعتي الفجر قاعدًا ، والله أعلم .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ )).
---
وفي أُخْرَى : فَقِيلَ لابْنِ عُمَرَ : مَا مَثْنَى مَثْنَى ؟ قَالَ : تُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.
339- وَعَنْهُ عَنِ النَبِي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( اجْعَلُوا آخِرَ صَلا تِكُمْ بِالَليلِ وِتْرًَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسيأتي الكلام على من غلب عن حزبه .
وقول ابن عمر في تفسير : مثنى مثنى : " يُسَلِّم من كل ركعتي " : إخبار منه عن صلاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف كانت ؛ كما تقدم من قول عائشة .
وقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اجعلوا آخر صلاتكم وترًا )) : يفهم منه أن الوتر يضاف إلى شفع قبله ، لكن هل هذا الشفع هو العشاء ، أو هو نفل ، فيكون أقله [ركعتين] ؟ قولان لأصحابنا ، وعليه انبنى الخلاف في الوتر : هل يكتفى فيه بركعة فقط ، أو لا بد من شفع ؟ وعلى الأول يدل حديث النسائي
340- وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ الَليْلِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن ابن عمر مرفوعًا : (( والمغرب وتر صلاة النهار ، فأوتروا صلاة الليل )) ، وعليه يدل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الوتر ركعة من آخر الليل )) ، وصار إليه جماعة من
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السلف والفقهاء ، وهو قول ابن نافع من أصحابنا ، وقد روي[في الحديث](3/248)
ما يرفع الخلاف ؛ وهو ما خرّجه النسائي عن أبي أيوب : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( الوتر حق ، فمن شاء أوتر بخمس ، ومن شاء أوتر بثلاث ، ومن شاء أوتر بواحدة )). وذُكر في هذا الحديث : أنه روي موقوفًا .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والحاصل في مجموع الأحاديث : أنه يصح أن يضاف إلى الفرض وإلى النفل ، وإضافته إلى النفل أولى ، والله أعلم .
---
.....................................................................
341- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( أوتروا قبل أن تصبحوا )) ، وقوله : (( إذا خاف أحدكم الصبح صلى ركعة )) : دليل على أن آخر وقت الوتر طلوع الفجر ، وقد زاد هذا المعنى وضوحًا ما خرّجه أبو داود عن ابن عمر مرفوعًا : (( إذا طلع الفجر فقد فات كل صلاة الليل والوتر ، قأوتروا قبل طلوع الفجر )) ؛ تفرد به سليمان بن موسى الأشدق ، وهو ثقة إمام . ولا خلاف في أن أول وقته بعد صلاة العشاء ، وأما آخر وقته المختار فمذهب الجمهور أنه طلوع الفجر . وقال ابن مسعود : إلى صلاة الصبح . وهل له بعد ذلك وقت ضرورة ؟ فقال مالك والشافعي : وقت ضرورته بعد طلوع الفجر ما لم يصل الصبح ، وقال أبو مصعب : لا وقت ضرورة له ، فلا يصلى بعد طلوع الفجر ، وقاله الكوفيون. وقد روي عن مالك ، وقال أبو حنيفة : يصلى بعد صلاة الصبح ، وقاله طاووس . وقال الأوزاعي وأبو ثور والحسن وا لليث وغيرهم : يقضى بعد طلوع الشمس ، وحكي عن سعيد بن جبير : أنه يوتر من القابلة .(3/249)
قلت : وقد روى أبو داود عن أبي سعيد مرفوعًا : (( من نام عن وتره ، أو نسيه فليصله إذا ذكره )) ، وهذا الأثر يقتضي أنه يصلى دائمًا كالفرض . ولم أر قائلاً به ، والله أعلم .
---
ثم إن القائلين : بأن أقل الوترثلاث اختلفوا ، هل يفصل بينهما بسلام أم لا ؟ فالأول : مشهور مذهب مالك والشافعي ، والثاني : مذهب أبي حنيفة . وقال ابن نافع : إذا صلى شفعًا قبل وتره فلا يسلم منه ، ولا يفصل بينهما ، وليأت به متصلاً كصلاة المغرب ، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز ، وذكر : أنه مذهب الفقهاء السبعة ، ومذهب أهل المدينة . وقال الأوزاعي : إن وصل حسن ، وإن فصل حسن ، ثم المستحبُّ عند الشافعي وأصحابه ، وعند مالك ، وجل أصحابه : أن يقرأ في الوتر بـ{ قل هو الله أحد} ، والمعوذتين . وقيل عن مالك : بـ{ قل هو الله أحد } فقط ، وبه قال الثوري ، وأحمد ، وأصحاب الرأي ، وعليه أكثر أهل العلم . واختار أبو مصعب : أن يقرأ في كل ركعة من الشفع والوتر بـ{ قل هو الله أحد }. واختارت طائفة من أهل العلم : أن يقرأ في الشفع بـ{ سبح اسم ربك الأعلى } ، و{ قل يا أيها الكافرون } ، وفي الوتر بـ{ قل هو الله أحد } والمعوّذتين ، أخذًا بما خرَّجه النسائي والترمذي من فعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذلك .
ومن باب مَن غُلِب عن حزبه(3/250)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَن نام عن حِزْبه ، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، كُتِب له كأنما قرأه مِنَ الليل } ، هذا تفضل من الله تعالى ، ودليل : على أن صلاةَ الليل أفضلُ من صلاة النهار. والحزبُ هنا الجزءُ من القرآن يُصلَّى به. وهذه الفضيلةُ إنما تحصلُ لمن غلبه نوم ، أو عذر منعه من القيام مع أن نيَّتَهُ القيام. وقد ذكر مالك في "الموطأ" عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( ما مِن امرىءٍ تكونُ له صلاة بليل فَغَلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجرَ صلاة ، وكان نومُه صدقةَ عليه } ، وهذا أتَمُّ في التَّفضيل والمجازاة بالنية ، وظاهِرُه أن له أنجرَه مُكملاً مُضاعَفًا ، وذلك لحسن نيته ، وصدق تلهّفه ، وتأسّفه. وهذا قولُ بعضِ شيوخنا ، وقال بعضُهم : يُحتمل أن يكونَ غيرَ مضاعَفٍ إذ الذي يُصفيها أكمل وأفضل.
---
قلتُ : والظاهِرُ التمسُّكُ بالظَّاهر ، فإن الثوابَ فَضلٌ من الكريم الوهاب ، وقد تقدَّم من حديث عائشة رضي الله عنها : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا غَلَبَهُ نوم ، أو وَجَعٌ ، صلَّى من النهار اثنتي عشرة ركعة . وهذا كلُّه إنما هو يبقى في تحصيل مثل ما غُلِب عليه ، لا أنه قضاءٌ له ، إذ ليس في ذمَّته شيء ، ولا يُقضَى إلا ماتعلَّق بالذمة ، وقد رأى مالك أن يصلِّي حزبه مَن فاته بعد طُلُوع الفجر ، وهو عنده وقتُ ضرورة لمن غُلِب على حزبه ، وفاته. كما يقول في الوتر.(3/251)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أيكُم خاف ألاَّ يقومَ من آخر الليل فليوتر ثم ليرقد )) إلى آخره). يدلُّ : على أن تأخيرَ الوتر أفضلُ لمن قَوِيَ عليه ، وأنَّ تعجيلَه حزمٌ لئلا يفوتُ بطلوع الفجر. وقد روى أبو سليمان الخطابي عن سعيد بن المسيّب : أنَّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما تذاكرا الوترَ عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال أبو بكر : أما أنا فإنِّي أنام على وتر ، فإن صليتُ صليتُ شَفعًا حتى أصبحَ ، وقال عُمر : لكنًي أنامُ على شفع ثم أوتر من السَّحر. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر : ((حَذِر هذا )). وقال لعمر : (( قَوِيَ هذا )). وقد دلَّ قولُ أبي بكر في هذا الحديث : على أنَّ مَن صلَّى وِترَه في أول الليل ، ثم نشطَ للصَّلاة من آخره صلّى ما شاء مِن شَفْع ، ولا يلزمُه أن يُوتر من آخر صلاته وترًا آخر ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما خرَّجه أبو داود عن طلق بن علي مرفوعًا : (( لا وتران في ليلة )) ، وهو صحيح ، ولا يجوزُ أن يضيفَ إلى وتره المتقدِّم وِتْرًا آخر ، فينقض المتقدِّم ، وقد اختلفَ فيه. وإلى ما فَعَلَه أبو بكر ذهبَ كثير من الصحابة ، والتابعين وأئمة الفتوى : مالك ، وغيره ، وقد ذهبَ إلى النَّقض جماعة من الصَّحابة وغيرهم ، وروي عن مالك ، والصَّحيحُ : فِعل أبي بكر ، والله أعلم .
وقد تقدَّم الكلامُ في القنوت ، وفيما هو الأفضلُ ، هل طول القيام في الصلاة أفضل ؟ أو كثرة السُّجود ؟
---
وقوله : (( إن في الليل ساعة ... )) الحديث ؛ هذه الساعةُ هي التي يُنادي فيها المنادي : (( من يسألني فأعطيه ... )) الحديث. وهي في الثُّلُث الأخير من الليل إلى أن يطلعَ الفجر ، كما يأتي.(3/252)
وقوله : (( ينزل ربُّنا كذا صحَّتِ الروايةُ هنا ، وهي ظاهِر في النُزول المعنوي ، وإليها يردُّ ينزلُ على أحد التأويلات ، ومعنى ذلك : أنَّ مقتضى عظمةِ الله تعالى ، وجلاله ، واستغنائه ، ألاَّ يعبأ بحقيرٍ ، ذليل ، فقير ، لكن ينزل بمقتضى كرمه ولُطفه ؛ لأن يقول : (( من يقرضُ غيرَ عَدُوم ولا ظَلُوم )). ويكون قولُه : ((إلى السَّماء الدُّنيا )) عبارةً عن الحاجة القريبة إلينا ، والدُّنيا بمعنى : القُربى ، والله أعلم. وقد قيَّده بعضُ الناس (( يُنزِل )) بضم الياء ، من : أنزل ، فيكون مُعدَّى إلى مفعولِ محذوف ؛ أي : يُنزل اللهُ مَلَكًا فيقولُ : كذا. وأما رواية : ((ينزل )) ثلاثيًّا ، مِن " نزل " ، فهي صحيحةٌ أيضًا ، وهي من باب حَذْف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. كما قال : { وَسُئلِ القَريَةَ }. وقد دلَّ على صحَّة هذا التأويل ما رواه النسائيُّ عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا : قال رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله عر وجل يُمهل حتى يمضي شطرُ الليل الأول ، ثم يأمرُ مناديًا يقول : هل مِن داعٍ يُستجاب له ؟ هل من مُستغفر يُغفر له ؟ هل من سائل يُعطى ؟ وهذا صحيح ، وهو نمو. وبه يرتفع الإشكال ، وقد قدَّمنا في كتاب الإيمان ما تُحمل عليه هذه المشكلات كلُّها.
وقوله : (( من يدعوني فاستجيبَ له )) ؛ أي : فأجيبه ، وهذا مِنَ الله وعدٌ حق ، وقَوله صدق : { وَمَن أوفى بعَهده من الله } ، هذا وقعت هذه الشُروطُ من العبد على حقيقتها وكَمالها ؟ فلا بُدَّ من المشروط ، فإن تخلَّفَ شيء مِن ذلك ؟ فذلك لخللٍ في الشرط.
( 103 ) باب الترغيب في قيام رمضان وليلة القدر وكيفية القيام
---(3/253)
348- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ ، فَيَقُولُ : (( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الترغيب في قيام رمضان
قوله : " كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم [ فيه] بعزيمة " [يدل] على أن قيام الليل في رمضان من نوافل الخير ، ومن أفضل أعمال البر ، لا خلاف في هذا ، وإنما الخلاف في الأفضل منه . هل إيقاعه في البيت ، أو [ في] المسجد ؟ فذهب مالك إلى أنه في البيت أفضل لمن قوي عليه ،
وَفِي رِوَايَةٍ : (( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )).
وفِي أُخْرَى : مَنْ يُقِمْ لَيْلَةَ القَدْرِ فَيُوَافِقهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/254)
وكان أولاً يقوم في المسجد ثم ترك ذلك ، وبه قال أبو يوسف ، وبعض أصحاب الشافعي .[ وذهب ابن عبد الحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي] : إلى أن حضورها في الجماعة [أفضل](1) ، وقال الليث : لو قام الناس في بيوتهم ، ولم يقم أحد في المسجد ، لا ينبغي أن يخرجوا إليه ، والحجة لمالك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خير صلاة المرء في بيته إلاَّ المكتوبة )) ، ، وقول عمر ـ رضى الله عنه ـ : " نعمت البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون". وحجة مخالفه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد صلاّها في الجماعة في المسجد ، ثم أخبر بالمانع الذي منعه من الدوام على ذلك ، وهو خشية أن تفرض عليهم ، ثم إن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ كانوا يصلونها في المسجد أوزاعًا متفرقين ؛ إلى أن جمعهم عمر ـ رضى الله عنه ـ على قارئٍ واحد ، فاستقرّ الأمر على ذلك ، وثبتت السنة كذلك .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : ومالك أحق الناس بالتمسك بهذا ؛ بناءً على أصله في التمسّك بعمل أهل المدينة.
وقوله : " من قام رمضان " ، دليل على جواز إطلاق لفظ رمضان غير مضافٍ إلى شهر ؛ خلافًا لمن منع ذلك حتى يقال : شهر رمضان ، قال : لأن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولا يصح هذا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إيمانًا واحتسابًا )) ؛ أي : تصديقًا بما جاء في ذلك ، واحتسابًا بالأجرة على الله تعالى . وقد روي : (( من قام رمضان وصامه إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه )) .
---(3/255)
349- وعَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ . ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ - في رواية : عَجَزَ المَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ - ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ : (( قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أنْ تفْرَضَ عَلَيْكُمْ )) قَالَ : وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : فتوفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأمر على ذلك ، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر ؛ أي : لم يزل أمر قيام رمضان معلوم الفضيلة يقومونه لكن متفرقين وفي بيوتهم ؛ ولم يجتمعوا على قارئٍ واحد ؛ حتى كان مِنْ جَمْعِ عمر لهم على أُبَيٍّ في المسجد ما قد
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكره مالك في "الموطأ".
ثم اختُلف في المختار من عدد القيام ، فعند مالك : أن المختار من ذلك ست وثلاثون [ ركعة ] ؛ لأن ذلك عمل أهل المدينة المتصل .
وقد قال نافع : " لم أدرك الناس إلا وهم يقومون بتسع وثلاثين ركعة ، يوترون منها بثلاث ". وقال الشافعي : عشرون ركعة ، وقال كثير من أهل العلم : إحدى عشرة ركعة ، أخذًا بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم .
وسيأتي الكلام على أحاديث ليلة القدر .
---(3/256)
وقوله : (( من [يقم](6) ليلة القدر فيوافقها )) : اختلف في القدر [الذي](7) أضيفت الليلة له(8) ، فقال ابن عباس : القدر : العظمة(9) ؛ من قوله تعالى : {وما قدروا الله حق قدره }(10) ؛ أي : ما عظموه حق عظمته ، وقال مجاهد : 350- وَعَنْ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ؛ وَقِيلَ لَهُ : إِنَّ عَبْدَ الله بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ : مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَالَ أُبَيٌّ : وَالله الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ ! إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ - يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي- وَوَالله ، إِنِّي لأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِقِيَامِهَا ، هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لَهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القدر : تقدير الأشياء من أمور السنة . وقال ابن الفضل : يعني سوق المقادير إلى المواقيت ، وقيل : قُدِّر في وقتها إنزال القرآن .
و" يقم " في هذه الرواية يعني به يطلب بقيامه ليلة القدر ، وحينئذ يلتئم مع قوله : "يوافقها" ؛ [لأن معنى يوافقها] : يصادفها ، ومن صلى فيها فقد صادفها.
ويحتمل أن تكون الموافقة هنا عبارة عن قبول الصلاة فيها والدّعاء ، أو يوافق الملائكة في دعائها ، أو يوافقها حاضر القلب متأهلاً لحصول الخير والثواب ؛ إذ ليس كل دعاء يسمع ، ولا كل عمل [ يقبل] ، فإنه : { إنما يتقبل الله من المتقين } ، وسيأتي استيفاء هذا المعنى إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها )) ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/257)
وفي حديث أبي هريرة : (( أن القمر يطلع فيها مثل شقّ جَفْنَة" ؛ قيل : إن ذلك إنما كان لصعود الملائكة الذين نزلوا في ليلة القدر حين تطلع الشمس ، فكأن الملائكة بكثرتها حالت بين الناظرين إلى الشمس [وبين] شعاعها ، [ والله أعلم ].
ثم هل هذه الأمارات راتبة لكل ليلة قدر تأتي ، أو كان ذلك لتلك الليلة الخاصة ؛ كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وأراني أسجد في صبيحتها في ماء وطين )) ؟ قولان لأهل العلم ، والأول أولى ؛ لما رواه أبو عمر بن عبدالبر من طريق عبادة بن الصامت مرفوعًا : (( إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بَلْجَاء ، كأن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيها قمرًا ساطعًا ، ساكنة لا برد فيها ولا حرّ ، ولا يحلّ لكوكب أن يرمى به فيها حتى يصبح ، وإن أمارة الشمس أنها تخرج صبيحتها مشرقة ليس لها شعاع ، مثل القمر ليلة البدر ، ولا يحلّ للشيطان أن يطلع يومئذٍ معها )). قال : " وهذا حديث حسن غريب من حديث الشاميين ، رواته كلهم معروفون ثقات".
*********
( 104 ) باب في كيفية صلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالليل ، وتَبَتُّلِه ودُعَائِهِ
351- عَنْ ابْنَ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهِيَ خَالَتُهُ قَالَ : فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا ، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/258)
ومن باب كيفيه صلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ [بالليل]
---
قول ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ : " فاضطجعت في عرض الوسادة ، واضطجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ [وأهله] في طولها " : العَرض - بفتح العين - ، خلاف الطول ، وهو المراد هنا . وعُرض الوادي : ناحيته ؛ بالضم . والعِرض - بالكسر - : السبُّ والذمُّ . والوسادة : ما يُتوسَّدُ إليه وعليه ، ويريد به هنا الفراش . وكان اضطجاع ابن عباس لرؤوسهما ، أو لأرجلهما ؛ وذلك لصغره .
قلت : هذا الذي قاله الشارحون من تسمية الفراش وسادة تجُّوزٌ لا شك فيه ؛ إذ الوسادة ما يتوسَّد إليه ، كما أن المِرفقة ما يُرتفقُ عليه . ويمكن أن يبقى لفظ الوسادة على حقيقته ، ويكون اضطجاع رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها : الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي ، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَوْتَرَ ، ثُمَّ اضْطَجَعَ ، حَتَّى جَاءَ الْمُؤَذِّنُ ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[وضعه] رأسه على طولها ، واضطجاع ابن عباس : وضعه رأسه على عرضها ، وقد تقدم ذكر سن ابن عباس يوم موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
---(3/259)
وقوله : "[ فنام] رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل " : هذا من ابن عباس تقدير للوقت لا تحقيق ، لكنه لم يخرج به عن قول الله تعالى : { قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه}. وقراءته ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه العشز في هذا الوقت ؛ لما تضمّنه من الحضّ والتنبيه على الذكر والدعاء والصلاة والتفكر ، وغير ذلك من المعاني المنشطة
على القيام ، على ما لا يخفى .
زَادَ في رواية : ثُمَّ عَمَدَ إِلَى شَجْبٍ مِنْ مَاءٍ فَتَسَوَّكَ ، وَتَوَضَّأَ ، وَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ، وَلَمْ يُهْرِقْ مِنَ الْمَاءِ إِلا قَلِيلاً ، ثُمَّ حَرَّكَنِي فَقُمْتُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و "الشِّنّ " : القربة البالية ، وهو الشجب أيضًا في الرواية الأخرى ، ويقال : سقاء شاجب ؛ أي : يابس .
وقوله : " فأحسن الوضوء " ؛ أي : أبلغه وكمله ، ومع ذلك فلم يهرق من الماء إلا قليلاً ، كما جاء في الرواية الأخرى : " ولم يكثر ، وقد أبلغ " ، وفي الأخرى : "وضوءًا حسنًا بين الوضوءين ".
ووضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمينه على رأس عبد الله : تسكين له ، وأخذه بأذنه ، تثبيت التعليم ، أو زيادة في التأنيس والتسكين ، وقيل : فعل ذلك لينفي عنه العين ؛ لها أعجبه فعله معه ، وقيل : فعل ذلك به طردًا للنوم ، وفي بعض طرق هذا الحديث عنه قال : " فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني " ، وهذا نصّ .
وشناق القربة : ما تُشْنَقُ به القربة ، أي : يُشدُّ عنقها . وقد
---(3/260)
وفِي أُخْرَى : فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ ، فَتَتَامَّتْ صَلاةُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنَ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، ثُمَّ اضْطَجَعَ ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ ، فَأَتَاهُ بِلالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ ، فَقَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ، وَكَانَ يَقُوْلُ فِي دُعَائِهِ : (( اللهمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا ، وَفِي بَصَرِي نُورًا ، وَفِي سَمْعِي نُورًا ، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا ، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا ، وَفَوْقِي نُورًا ، وَتَحْتِي نُورًا ، وَأَمَامِي نُورًا ، وَخَلْفِي نُورًا ، وَعَظِّمْ لِي نُورًا )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيل : هو الذي تُعَلَّقُ به ، قال أبو عبيد : والأول أشبه .
وقوله في الرواية الأخرى : " فقمت عن يساره ، فأخذ بيدي ، فأدارني عن يمينه " ، هذا أخذٌ [للإدارة] ، والأخذ بالأذن أخذ [للتنشيط] أو للتنبيه ، على ما تقدم . وقد فسّر هذه الإدارة في رواية أخرى ؛ فقال : "وأخذ بيدي من وراء ظهره " ، ولا تعارض بين الأخذين ؛ إذ جمعهما له ، والله أعلم .
وقد تقدم الكلام على مراتب المأموم مع إمامه ، وعلى نوم الأنبياء عليهم السلام ، وعلى الخلاف في كيفية صلاة الليل .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/261)
وهذه الأنوار التي دعا[بها] النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمكن أن تحمل على ظاهرها ، فيكون معنى سؤاله : أن يجعل الله له في كل عضو من أعضائه نورًا يوم القيامة ، يستضيئ به في تلك الظلم هو ومن تبعه ، أو من شاء الله ممن تبعه. والأولى أن يقال : هذه الأنوار هي مستعارة للعلم والهداية ، كما قال تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } ، وكما قال : { أومن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس } ، أي : علمًا وهداية.
والتحقيق في معناه أن [النور] مُظهِرٌ ما ينسب إليه ، وهو يختلف بحسبه ، فنوز الشمس مُظِهرٌ للمبصرات ، ونور القلب كاشف عن المعلومات ، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات ، فكأنه دعا بإظهار الطاعات عليها دائمًا ، والله تعالى أعلم .
وَفِي رِوَايَةٍ : وَسَبْعًا فِي التَّابُوتِ فَذَكَرَ عَصَبِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي. وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ .
وفي أُخْرَى : (( وفي لِسَانِي نُورًَا )). وَقَالَ فِي آخِرِهْ : (( وَاجْعَلْ لِي نُورًَا )).
وفي أُخْرَى : (( وَاجْعَلْنِي نُورًَا )).
352- وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لأرْمُقَنَّ صَلاةَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ اللَّيْلَةَ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ثُمَّ أَوْتَرَ . فَذَلِكَ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/262)
قوله : " وسبعًا في التابوت " ؛ أي : وذكر سبعًا ، والتابوت أراد به الجسد ، وذكر خمسًا ، ولم يعيِّن الخصلتين ؛ وهما : اللسان والنفس على ما ذكره في [الأم].
قال أبو الفرج في قوله : " وسبعًا في التابوت " ؛ أي : سبعة أشياء مكتوبة عنده في الصندوق ؛ أي : قد نسيها ، وهي عنده مكتوبة ، وقد جاء فيما بعد منها : عصبي ، ولحمي ، ودمي ، وشعري ، وبشري .
353- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ : (( اللهمَّ لَكَ الْحَمْدُ ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَلَكَ الْحَمْدُ ، أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَلَكَ الْحَمْدُ ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، أَنْتَ الْحَقُّ ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ، اللهمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ ، وَبِكَ خَاصَمْتُ ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ إِلَهِي ، لا إِلهَ إِلا أَنْتَ )). وَفِي رِوَايَةٍ : (( قَيِّمُ )) مَكَانَ (( قَيَّامُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( اللهم لك الحمد ، أنت نور السموات والأرض )) ؛ أي : منوّرها في قول الحسن ؛ دليل : قراءة علي ـ رضى الله عنه ـ : { الله نَوَّرَ السموات والأرض} بفتح النون ، والواو مشددة.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/263)
قال ابن عباس : " هادي أهلهما ". مجاهد : "مدبرهما" ، وقيل : هو المنزه في السموات والأرض من كل عيب ، من قول العرب : امرأة نوارة ؛ أي : مبرأة من كل ريبة. وقيل : هو اسم مدح ، يقال : فلان نور البلد ، وشمس الزمان ؛ [كما] قال النابغة :
فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ إذا طلعت لم يبدُ للناس كوكبُ
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال آخر :
إذا سار عبدالله [في] مَرْو ليلةً فقد سار فيها نورها وجمالها
وقال أبو العالية : مزيِّن السموات بالشمس والقمر والنجوم ، ومزيِّن الأرض بالأنبياء والأولياء والعلماء .
قوله : (( أنت قيّام السموات والأرض )) : قيام على المبالغة ، من قام بالشيء : إذا هيأ له ما يحتاج إليه ، ويقال : قيوم ، وقيام ، وقيِّم . وقرأ عمر ـ رضى الله عنه ـ : { الله لا إله إلا هو الحي القيّام }. وعلقمة : { القيِّم }. وقال ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قتادة : هو القائم بتدبير خلقه . الحسن : القائم على كل نفس بما كسبت . ابن جبير : الدائم الوجود . ابن عباس : الذي لا يحول ولا يزول .
وقوله : (( أنت رب السموات والأرض )) ؛ أي : مصلحها ، ومصلح من فيها ، مأخوذ من الربّة ، وهي نبت تصلح عليه المواشي ، يقال : رَبَّ ، يَرُبُّ رَبَّا ، فهو رابٌّ ، وربٌّ ، وربّى يربي تربية ، [ فهو ] مُربٍّ . قال النابغة :
وربَّ عليه اللَّهُ أحْسَنَ صَنْعَةً
وقال آخر :
يَرُبُّ الذي يأتي من الخير إنه [إذا] فعل المعروف زاد وتمَّما
والربُّ أيضًا : السِّيِّد ، فيكون معناه : أنه سيد من في السموات [والأرض].
والرب : المالك ؛ أي : هو مالكها ومالك من فيها .
---(3/264)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( أنت الحق )) ؛ أي : الواجب الوجود ، وأصله من : حق الشيء ؛
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا ثبت ووجب ، ومنه : { أفمن حق عليه كلمة العذاب} ، { ولكن حق القول مني } ؛ أي : ثبت ووجب ، وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة والخصوصية لا ينبغي لغيره ؛ إذ وجوده لنفسه ، فلم يسبقه عدم ، ولا يلحقه عدم ، وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم ، ويجوز عليه لحاق العدم ، ووجوده من موجده لا من نفسه ، وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وإليه الإشارة بقوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون }.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولقاؤنا الله تعالى عبارة عن مآل حالنا بالنسبة إلى جزائنا على أعمالنا في الدار الآخرة .
والساعة : يوم القيامة ، وأصله القطعة من الزمان ، لكن لما لم يكن هناك كواكب تقدر بها الأزمان ؛ سُمِّيت بذلك ، والله أعلم .
وإطلاق اسم الحق على هذه الأمور كلها ؛ معناه : أنها لابد من كونها ، وأنها مما ينبغي أن تصدق بها ، وتكرار الحق في تلك المواضع على جهة التأكيد والتفخيم والتعظيم لها .
وقوله : (( لك أسلمت )) ؛ أي : انْقَدْتُ وخضعت .
(( وبك آمنت )) ؛ أي : صدّقت .
(( وعليك توكلت )) ؛ أي : فوّضت .
(( وإليك [أنبت] )) ؛ أي : رجعت .
(( وبك خاصمت )) ؛ أي : بما لقَّنْتَنِي من الحجة غلبت الخصوم .
(( وإليك حاكمت )) ؛ أي : إليك فوّضت الحكومة ؛ كما قال تعالى :
---(3/265)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون }.
وقد تقدم الكلام على عصمة الأنبياء عليهم السلام والذنوب المنسوبة لهم في كتاب الطهارة . فإذا فرّعنا على جواز الصغائر عليهم ، فيكون الاستغفار على بابه وظاهره ، وإن أحلنا ذلك عليهم ، فيكون استغفاره لِيَسُنَّ لأمته ، أو على تقدير وقوع ذنوب منه حتى يلازم حالة الافتقار والعبودية .
وقوله : (( وما قدمت )) ؛ أي : قبل وقتي هذا . (( وما أخرت )) عنه . (( وما أسررت )) ؛ أي : أخفيت . (( وأعلنت )) : أظهرت .
(( أنت إلهي )) ؛ أي : معبودي ومقصودي ، الذي وَلِهَ فيك قلبي ، وتحيَّر في جلالك وعظمتك عقلي ، وكَلَّ عن ثنائك لساني ، فغاية الوسيلة إليك ، [لا] أحصي ثناءً عليك .
(( لا إله إلا أنت )) ؛ أي : لا معبود غيرك ، ولا معروف بهذه المعرفة سواك.
354- وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ نَبِيُّ الله إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاتَهُ : ((اللهمَّ رَبَّ جَبْرَيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل )) : خص هؤلاء الملائكة بالذكر تشريفًا لهم ؛ إذ بهم ينتظم هذا الوجود ؛ إذ قد أقامهم الله تعالى في ذلك -[ وأعني بالوجود : وجود الدارين]-.
و (( فاطر السموات والأرض )) ؛ أي : مبتدئ خلقهما . و" الغيب " : ما غاب عن [عياننا]. و"الشهادة " : ما شاهدناه ؛ أي : علمناه بمشاهدتنا.
---(3/266)
و (( تحكم بين عبادك )) : تقضي وتبيّن الحق .
(( اهدني )) ؛ أي : أرشدني ودلَّني على صواب ما اختلف فيه .
(( بإذنك )) ؛ أي : بتمكينك وتسخيرك .
و(( الصراط )) : الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه .
355- وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ قَالَ : (( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، اللهمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لا إِلهَ إِلا أَنْتَ ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا ، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ ، وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ ، لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا ، إِلا أَنْتَ ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( وجهت وجهي )) ؛ أي : صوَّبت وجهي ، وأخلصت في عبادتي. و(( حنيفًا )) ؛ أي : مائلاً عن جميع المعبودات سوى الله تعالى . و((نسكي )) ؛ أي : ما أَسْتَنْسِكُ به من القُرب والعبادات . و(( المحيا والممات )) ؛ أي : الحياة والموت ، كما قال للأنصار : (( المحيا محياكم ، والممات مماتكم )). و(( العالمين )) : الخلق . وأصله من العلم ، وقيل : من العلامة . و(( أنا من المسلمين )) ؛ أي : مسلم من المسلمين المتمكنين في الاستسلام ، الذين سلموا أنفسهم للنيران ، وأموالهم للضيفان ، وولدهم للقربان ، وفوّضوا جميع
---(3/267)
لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ !! وَإِذَا رَكَعَ قَالَ : ((اللهمَّ لَكَ رَكَعْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي ، وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي )) وَإِذَا رَفَعَ قَالَ : (( اللهمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ الأَرْضِ ، وَمَا بَيْنَهُمَا ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ )) وَإِذَا سَجَدَ قَالَ : (( اللهمَّ لَكَ سَجَدْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ ، تَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ )) ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ : (( اللهمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لا إِلهَ إِلا أَنْتَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمورهم للرحمن . وفي التلاوة : { وأنا أول المسلمين } ؛ أي : أوّل سابق بالنسبة إلى زمانه .
وقوله : (( واهدني لأحسن الأخلاق )) ؛ أي : لأكملها وأفضلها ؛ وهي : الخُلق الصحيح ، والكفَّ عن القبيح . وقيل : القيام بالحقوق ، والعفو عن العقوق ؛ كما قال : (( أن تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/268)
عمن ظلمك )) . وقد أجاب الله تعالى دعاء نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك ، فجمع له منها [ ما] تفرق في العالمين ؛ حتى قال له تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم }. و(( لبيك )) : معناه : إجابة لك بعد إجابة . و(( سعديك )) ؛ أي : مساعدة بعد مساعدة ، وهما من المصادر التي لا تستعمك إلا مضافة مثنَّاة ، وقد تقدّم القول في : (( بيدك الخير )) .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( والشرّ ليس إليك )) ؛ أي : لا يضاف إليك مخاطبة ونسبة ، تأدُّبًا ، مع أنه بقضاء الله تعالى وقدره ، وخلقه واختراعه ؛ كالخير ، كما قال الله تعالى : { قل كلٌ من عند الله } ، وكما قال : { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله }.
وقوله : (( خشع لك سمعي ، وبصري ، ومخي ، وعظمي وعصبي )) ؛ أي :
أخذ كل عضو من هذه الأعضاء حظه من الخضوع والتذلل ؛ أي : سكنت وافتقرت ، وإن كان أصل الخضوع في القلب ؛ لكن ثمرته تظهر على الجوارح والأعضاء ، فسُمِّيَ بذلك : خشوعًا ، كما قال تعالى : { وترى الأرض خاشعة } ؛ أي : متذللة ، مفتقرة لما تحيا به من الماء ، أو يكون هذا على الإغياء والتشبيه ، كما قال :
لا عُضْوَ لي إلا وفيه محبةٌ فكأن أعضائي خلقن قلوبًا
وهذا هو النور الذي دعا به في حديث ابن عباس المتقدم .
وقد تقدم القول في : (( ملء السموات [والأرض] )) ، في الطهارة .
وقوله : (( وملء ما شئت من شيء بعد )) : يحتمل أن يكون معناه : من
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/269)
شيء يمكن أن يخلقه ؛ يكون أكبر من السموات والأرض ، ويحتمل أن يراد به العرش والكرسي ، ففي الحديث : (( إن السموالت والأرض في الكرسي كالحلقة الملقاة في فلاة من الأرض ، والكرسي وما فيه في العرش كحلقه ملقاة [في] فلاة من الأرض )) ، والله أعلم .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومقصود هذا الحديث : الإغياء في تكثير الحمد والثناء .
و " بعد " ظرف مبني على الضم ؛ لأنه قطع عن المضاف إليه ، مع أنه مراد ، ومعناه هنا : بعد السموات والأرض المذكورة قبل .
وقوله : (( وشق سمعه وبصره )) ؛ أي : خلق فيه السمع والبصر . وقد يحتج بإضافة السمع إلى الوجه من يقول : إن الأذنين من الوجه فيغسلان بغسله ، ولا حجة فيه ؛ لأنه يعارضه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه )) ، .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : كَانَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ : (( وَجَّهْتُ وَجْهِي )) وَقَالَ : (( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )) وَقَالَ : وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ : ((سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ )) وَقَالَ : وَصَوَّرَهُ فَأَحْسَنَ صُوَرَهُ. وَقَالَ : وإِذَا سَلَّمَ قَالَ : اللهمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ ... إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فجعل الأذن غاية للرأس ، فهي منه ؛ ولأنا نقول بموجب ذلك ، ونفرق بين السمع والأذن ؛ فإن السمع الإدراك الذي في الأذن لا الأذن ؛ ولأن الوجة لا يتضمن الأذنين كما تقدم .(3/270)
وقوله : (( أنت المقدم وأنت المؤخر )) ؛ أي : تقدم من تشاء فتجعلهم أولياء وأنبياء وعلماء وفضلاء ، وتؤخر من شئت فتجعله فرعون وأبا جهل . [أو] تملك الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وعلى الجملة فكل
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقديم وتأخير منه .
وقوله : " كان إذا استفتح الصلاة كبر ثم قال : (( وجهت وجهي )) : أخذ منه الشافعي ، أن هذا التوجه سنة راتبة في صلاة الفرض بعد التكبير ، ولا حجة له [ فيه] ؛ لأن هذا يحتمل أنه كان في صلاة الليل فقط ، وتكون الصلاة يراد بها صلاة الليل ، ولئن سلمنا أنه للعموم ؛ لزم منه أن يكون الدعاء المذكور في هذا الحديث في الركوع والسجود سنة راتبة في كل صلاة ، ولا قائل به ؛ فإن مساق الحديث واحد ، فلِمَ يفرق بين التوجه وغيره من الأدعية والأذكار ؟ ولئن سلمنا الفرق فعندنا ما يعارض ذلك ، وهو أمران :
أحدهما : أنه قال في الرواية الأولى : " إنه كان إذا قام إلى الصلاة قال : ((وجهت وجهي )) ، ولم يذكر التكبير ، وظاهره إذا أراد القيام ، فيكون قبل التكبير .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وثانيهما : أنه لو كان ذلك سنة راتبة لنقله أهل المدينة بالعمل ؛ إذ مثل ذلك لا يخفى عليهم مع شدة بحثهم عن أحواله وأفعاله ، وخضوصًا في الصلاة الكثيرة التكرار ، العظيمة الموقع ، فلما كان ذلك علمنا أنه ليس بسنة راتبة ، ولا يُمنع من قاله كسائر الأذكار والأدعية .
وقد روى الدارقطني في حديث علي المتقدم : أن ذلك كان في المكتوبة ، فإن صح ذلك كان دليلاً على جواز وقوع ذلك في الصلاة المكتوبة ، إذا لم يضر بمن خلفه بطول القيام ؛ لا أنه سنة راتبة ؛ لما تقدم ، والله أعلم .(3/271)
( 105 ) باب ترتيل القراءة والجهر بها في صلاة الليل وتطويلها
---
356- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ ، فَقُلْتُ : يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ، ثُمَّ مَضَى ، فَقُلْتُ : يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ ، فَمَضَى ، فَقُلْتُ : يَرْكَعُ بِهَا ، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا ، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً ، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ : (( سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ )) فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ : (( سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ )) ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ : (( سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى )) فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ- وَزَادَ في رواية فَقَالَ : (( سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ترتيل القرآن
قوله : " يقرأ مترسلاً " ؛ أي : مترفِّقًا متمهِّلاً ؛ من قولهم : على رسلك ؛ أي : على رفقك . وهذا التطويل ، وهذه الكيفية التي صدرت عنه في هذه الصلاة ، إنما كانت منه بحسب وقت صادفه ، ووجد وجده ، فاستطاب ما كان فيه ، واستغرقه عما سواه ، وهو موافق لما قاله في حديث آخر : (( إذا
357- وَعَنْ عَبْدُ الله قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ ، قَالَ قِيْلَ : وَمَا هَمَمْتَ بِهِ ؟ قَالَ : هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ .(3/272)
358- وَعَنْ عَاَئِشَةَ : أَنَّ النَّبِيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ ، فَقَالَ : ((يَرْحَمُهُ الله ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا ، آيَةً كُنْتُ أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا )) .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمَّ أحدُكم الناس فليخفِّف ، وإذا صلى وحده فليطوِّل ما شاء )).
وقوله : (( لقد أذكرتني كذا وكذا آية كنت أسقطتها )) : قال ابن السيِّد البطليوسي : كذا وكذا : كناية عن الأعداد المعطوف بعضها على بعض ؛ من أحد وعشرين إلى تسعة وتسعين ، والمميز بعد هذه الأعداد حقه أن ينصب ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال : وإذا قال : له عندي كذا كذا درهمًا ؛ فهي كناية عن الأعداد ؛ من أحد عشر إلى تسعة عشر ، هذا اتفاق من الكوفيين والبصريين . وقال الكوفيون خاصة : إذا قال : له عندي كذا أثواب ، فهي كناية عن الأعداد المضافة إلى الجمع من ثلاثة إلى عشرة . وإذا قال : له عندي كذا درهم - بالإفراد - ، فهي كناية عن الأعداد المضافة إلى المفرد من مائة إلى تسعمائة ، ولا يجيز البصريون إضافة ذا إلى ما بعده ؛ لأن المبهم لا يضاف . انتهى قوله .
قلت : وعلى نحو ما اتفق عليه والكوفيون البصريون فرَّع الإقرار ابن
عبد الحكم ، فقال : إن قال : له عندي كذا كذا درهمًا ؛ لزمه أحد عشر ، وإن قال : كذا وكذا درهمًا ؛ لزمه أحد وعشرون ، وإن قال : كذا درهمًا ؛ لزمه عشرون ؛ بناء على أقل ما تقتضيه هذه الكنايات . وعلى هذا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/273)
الأصل فيكون قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كذا وكذا آية )) ؛ [ أنه ] أقل ما يحمل عليه إحدى وعشرون . ولا يجوز في " آية " [في] الحديث إلا النصب على ما حكيناه .
وقد تقدم القول في نسيان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنه إن نسي شيئًا من الوحي فلا يقرّ على نسيانه ، إلا أن يكون ذلك [نسخًا] ، كما قال تعالى : {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء } ، والله أعلم .
---
( 106 ) باب استغراق الليل بالنوم من آثار الشيطان
359- عَنْ عَبْدِالله قَالَ : ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلٌ نَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ ، قَالَ : (( ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ )) أَوْ قَالَ : (( فِي أُذُنِهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب استغراق الليل بالنوم من آثار الشيطان
قوله : (( [ذاك] رجل بال الشيطان في أذنه )) : يصح بقاؤه على ظاهره ؛ إذ [لا إحالة] فيه ، ويفعل ذلك استهانة به ، ويحتمل أن يحمل على التوسُّع ، فيكون معناه : أن الذي ينام الليل كله ولا يستيقط عند أذان المؤذنين ولا تذكار المذكرين ؛ فكأن الشيطان سدَّ أذنيه ببوله ، وخصّ البول بالذكر إبلاغًا في التنجيس به ، وليجتمع له مع إذهاب سمعه استقذار ما ضرب به سمعه ، ويحتمل أن يكون معناه : أن الشيطان استولى عليه واستهان به ، حتى قد اتخذه كالكَنيف الْمُعَدّ لإلقاء البول فيه ، والله أعلم .(3/274)
360- وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ ، فَقَالَ : (( أَلا تُصَلُّونَ ؟ )) فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ الله ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا . فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ . ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ ، وَيَقُولُ : { وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : " طَرَقَهُ وفاطمة " ؛ أي : أتاهم ليلاً ، والطارق هو الآتي بالليل ، ومنه سُمّيَ النجم : طارقًا في قوله : { والسماء والطارق }. وهذا الإتيان منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إنما كان ليوقظهما للصلاة ؛ بدليل قوله : (( ألا تصلون ؟ )) وقد استنكر منهما نومهما في تلك الليلة ؛ إذ قد خالفا عادتهما ، ووقت قيامهما ، ولذلك اعتذر له علي ـ رضى الله عنه ـ بقوله : " إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء بعثنا " ؛ أي : أيقظها .
361- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يبلغُ بِهِ الَّنِبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلاثَ عُقَدٍ إِذَا نَامَ ، بِكُلِّ عُقْدَةٍ يَضْرِبُ عَلَيْكَ لَيْلاً طَوِيلاً ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ الله انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عَنْهُ عُقْدَتَانِ فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ ، وَإِلا أَصْبَحَ خَبِيثَالنَّفْسِ كَسْلانَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/275)
وانصراف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند سماعه هذا الكلام منه ، وضربه فخذه ، وتمثُّله بالآية ؛ يدل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يرض بذلك الجواب منه ؛ لأن الحزم والتهمُّم بالشيء يقتضي أن لا ينام عنه ؛ لأن من تحقق رجاؤه [بشيء] ، واشتَّدت عنايته به ورغبته فيه ، أو خاف من شيء مكروه ؛ قلّ ما يصيبه ثقيل النوم ، أو طويله ، والله أعلم .
وقوله : (( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد )) : هذا العقد الذي يعقده الشيطان كأنه من باب عقد السواحر { النفاثات في العقد } ؛ وذلك بأنهن يأخذن خيطًا فيعقدن عليه عقدة منه ، ويتكلَّمن عليه بالسحر ، فيتأثر عند ذلك ؛ إما بمرض ، أوتخييل ، أوتحريك قلب ، أو تحزين ، أو غير ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
ذلك ، فشبَّه فعل الشيطان بالنائم بفعل السواحر ، وذلك أن النائم كلما أراد أن يقوم ليذكر الله أو يصلي ؛ غرّه وخدعه ؛ بأن يقول له : عليك ليل طويل فارقد ، فيريه أنه لطول ما بقي عليه من الليل يمكنه استيفاء راحته من النوم ، وقيامه بعد ذلك لحزبه ، فيصغي لذلك ويرقد ، ثم إن استيقط ثانية فعل به ذلك ، وكذلك ثالثة ، فلا يستيقط من الثالثة إلا وقد طلع الفجر ، فيفوته ما كان أراد من القيام . وإانما خص العقد بثلاث ؛ لأن أغلب ما يكون [انتباه النائم] في السحر ، فإن اتفق له أن يستيقط ويرجع للنوم ثلاث مرات ؛ لم تتقض النومة الثالثة في الأغلب إلا والفجر قد طلع ، والله أعلم .(3/276)
[وروايتنا] الصحيحة : (( عليك ليل طويل )) ؛ على الابتداء والخبر ، وقد وقع في بعض الروايات : (( عليك ليل طويل )) ؛ على الإغراء ، والأول أولى من جهة المعنى ؛ لأنه الأمكن في الغرور ، من حيث إنه يخبره عن طول الليل ، ثم يأمره بالرقاد بقوله : " فارقد " وإاذا نُصِبَ على الإغراء لم يكن فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد ، وحينئذ يكون قوله : " فارقد " ضائعًا ، والله أعلم .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و"قافية الرأس" : آخره ، وكذلك قافية كل شيء ، ومنه : قافية الشعر .
وقوله : (( فأصبح نشيطًا طيِّبَ النفس )) ؛ أي : نشيطًا لما يرد عليه من عبادات أُخر ؛ من صلوات وغيرها ، فإنه يألف العبادات ويعتادها ، حتى تصير له شِرْبًا ، فتذهب عنه مشقتها ، ولا يستغني عنها .
و (( طيب النفس )) ؛ لرجاء ثواب ما فعل ؛ ولانشراح صدره بما يستقبل ، والله أعلم .
وقوله : (( وإلا أصبح خبيث النقس كسلان )) ؛ أي : بشؤم تفريطه ، وبإتمام خديعة الشيطان عليه ؛ إذ قد حمله على أن فاته الحظ الأوفر من قيام الليل .
---
و (( كسلان )) ؛ أي : متثاقل عن الخيرات فلا يكاد تسخو نفسه ، ولا يخف عليها صلاة ولا غيرها من القربات ، وربما يحمد ذلك على تضييع الواجبات .
وكسلان : غير منصرف ؛ للألف والنون الزائدتين ، وهو [ مذكر] كسلى . وقد وقع لبعض رواة "الموطأ" : " كسلانًا " مصروفًا ، وليس بشيء ،
وقد أضاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث الخبث للنفس ، مع أنه قد قال في حديث آخر : (( لا يقل أحدكم : خبثت نفسي ، ولكن ليقل : لقست ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/277)
نفسي )) ، ولا تعارض بينهما ؛ لأن الذي منعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إنما هو : أن يطلق الإنسان على نفسه لفظ الخبث ، وهو مذموم ، فيذم نفسه ، ويضيف الذم إليها ، وهو ممنوغ في مثل هذا ، وأما لو أضاف الإنسان لفظ الخبث إلى غيره مما يصدق عليه ، لم يكن ذلك مذمومًا ولا ممنوعًا ، والله أعلم .
وقوله : (( لقست )) معناه غثت ، ويقال : مقست بالميم والقاف ، ونقست بالنون ، وكله بمعنى خبثت ، وكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كره إطلاق ذلك اللفظ ، فنقل إلى غيره ، كما قررناه .
وقد غيّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اسم عاصية بجميلة ، وكره لفظ العقوق ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا النحو كثير عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وسيأتي.
************
(107) باب أفضل النوافل ماصُلِّىَ في البيت
362- عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( اجْعَلُوا مِنْ صَلاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ، وَلا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا )).
363- وعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلاةَ فِي مَسْجِدِهِ ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلاتِهِ ، فَإِنَّ الله جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلاتِهِ خَيْرًا )) .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب : فضل النوافل
قوله : (( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم )) : " مِنْ " هنا للتبعيض ، ويعني به النوافل ؛ بدليل قوله فى الحديث الآخر : (( إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته )).
وقوله : (( ولا تتخذوها قبور )) ؛ أي : لا تصيِّروها كالقبور التي ليس فيها صلاة .
وقوله : (( فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا )) ، الضمير في "بيته" [عائد](3/278)
364- وعَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ الله فِيهِ ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لا يُذْكَرُ الله فِيهِ ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ )) .
365- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ. إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على المصلي الذي تضمنه الكلام المتقدم . و" من " ها هنا سببِّية ؛ بمعنى : من أجل . والخير الذي يجعل في البيت بسبب التنفل فيه ؛ هو عمارته بذكر الله تعالى ، وبطاعته ، [ وبالملائكة ] ، وبدعائهم ، واستغفارهم ، وما يحصل لأهله من الثواب والبركة .
قوله : (( مثل البيت الذي يذكر الله فيه ، والبيت الذي لا يذكر الله فيه ؛ مثل الحي والميت )) : هذا التشبيه واقع بأهل البيت ، لا بالبيت ، ووجهه : أن أهل البيت إذ لم يصلوا فيه ، ولم يذكروا الله تعالى فيه ؛ نومًا ، أو غفلةً ، فهم بمنزلة الموتى ، والبيت بمنزلة القبر. وعلى هذا ، ففي الحديث حذف مضاف ،
---(3/279)
366- وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : احْتَجَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حُجَيْرَةً بِخَصَفَةٍ أَوْ حَصِيرٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي فِيهَا قَالَ فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ ، قَالَ : ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا ، وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْهُمْ قَالَ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ ، وَحَصَبُوا الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُغْضَبًا ، فَقَالَ لَهُمْ : (( مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلاةِ فِي بُيُوتِكُمْ ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلا الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتقديره : مثل أهل البيت .
وقوله : " احتجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حُجَيْرَةً بخصيفة" ؛ أي : اقتطع من المسجد قطعة بحصير ليعتكف فيه ، والله أعلم .
والخصفة : حصير يخصف ؛ أي : يخاط من السعف ، ومنه قوله تعالى : {يخصفان عليهما من ورق الجنة } ؛ أي : يخيطان . والخَصَفَةُ : ما يخصف ، والحصير : ما ينسج ، وهو على الشك من الراوي. وكان هذا الفعل
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا القول في رمضان ، وقد تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها.
ومعنى : " حصبوا الباب " ؛ أي : رموه [بالحصباء] ؛ حرصًا على خروجه إليهم للصلاة . و"سيُكتب" ؛ أي : يُفرض ، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى في قيام رمضان .
( 108 ) باب أَحَبُّ العمل إلى الله أَدْوَمُهُ وإن قَلَّ ، وكراهية التَّعَمُّقِ والتشديد
---(3/280)
367- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَصِيرٌ ، وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ ، فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ الله لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى الله مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ إِذَا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أحب العمل إلى الله تعالى أدومه
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( عليكم من الأعمال ما تطيقون )) : هذا حضٌ على التخفيف في [أعمال] النوافل ، ويتضمن الزجر عن التشديد ، والغلوّ فيها . وسبب ذلك : أن التخفيف يكون معه الدوام والنشاط ، فيكثر الثواب لتكرار ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العمل ، وفراغ القلب ، بخلاف الشاقّ منها ، فإنه يكون معه التشويش والانقطاع غالبًا .
وقوله : (( فإن الله لا يمل ّ حتى تملوا )) : ظاهره محالٌ على الله تعالى . فإن الملال فتورٌ عن تعب ، وألَمٌ عن مشقة ، وكل ذلك محال على الله تعالى ، وإنما أطلق هنا على الله تعالى على جهة المقابلة اللفظية مجازًا ؛ كما قال الله تعالى : { ومكروا ومكر الله } ، و: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} ، وجهة[مجازه] : أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه [عَمَّن ملَّ من العمل] وَقَطَعَهُ ؛ عبّر عن ذلك بالملل ؛ من باب تسمية الشيء باسم سببه.
---(3/281)
368- عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ قَالَ : قُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ! كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ ؟ قَالَتْ : لا ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً ، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَسْتَطِيعُ ؟ ! .
369- وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْمَسْجِدَ ، وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ ، فَقَالَ : (( مَا هَذَا ؟ )) فَقَالُوا : لِزَيْنَبَ ، تُصَلِّي فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ فَقَالَ : (( حُلُّوهُ . لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ قَعَدَ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( فَلْيَقْعُدْ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول علقمة : " هل كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخص شيئًا من الأيام ؟" وجواب عائشة رضي الله عنها بنفي ذلك ، خرج على غير الصيام ؛ لأنه قد ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يخص الإثنين والخميس بالصيام ، فتعيَّن صرف حمله إلى غير ذلك.
وقولها : " وأيكم يستطيع ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستطيع ؟ " هذا يدل على شدة ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه ؛ من كثرة التكاليف ، والاجتهاد في الوفاء 370- وَعَنْ عَاَئِشَةَ : أَنَّ الحَوْلاَء بِنْتَ تُوِيْتْ مَرَّتْ بِهَا ، وَعِنْدَهَا رَسُوْلُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَتْ : هَذِهِ الْحَوْلاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لا تَنَامُ اللَّيْلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تَنَامُ اللَّيْلَ ! ! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ ، فَوَالله ! لا يَسْأَمُ الله حَتَّى تَسْأَمُوا )) .(3/282)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
بها ، وذلك أنه كُلِّف تكاليف [خاصة به] ؛ كما خُصَّ به من الواجبات زيادة على ما ساوى فيه جميع المكلفين . ثم إنه قد كُلِّف مراعاة مصالح أهل بيته ، ومصالح الخلق كلهم ، خاصة وعامة ، الدينية والدنيوية ، هذا بالنظر إلى ظاهر أمره ، وأما بالنظر إلى خواصّ باطنه ؛ فمما لا يدرك ، ولا يمكن وصفه ، وغاية العبارة عنه قوله : (( إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية )) ، ولذلك كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ متواصل الأحزان والعبادات والمشقّات ، ليست له راحة ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال في لفظ آخر : (( إني أخشاكم [لله وأعلمكم] بحدوده )) . وقد كان
تتفطر قدماه من القيام ، ويجهد نفسه من الجوع ، ويربط على بطنه بالحجر والحجرين ، وكان ينتهي من [إجهاد] نفسه ، إلى أن يرقّ عليه
وليُّه ، ويرحمه الناظر [إليه] ـ صلى الله عليه وسلم ـ
باب
371- عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد ... )) ، الحديث نَبَّه في آخره على علّه ذلك ؛ وهو أنه توقع منه ما يكون منه من الغلط فيما يقرأ ويقول ، ولم يجعل علّة ذلك نقض طهارته ، فدلّ على أن النوم ليس بحدث على ما تقدم.(3/283)
وقوله : (( لعله يذهب يستغفر ، فيسبُّ نفسه )) : رويناه برفع الباء من "يسبّ" ونصبها ، فمن رفع فعلى العطف على "يذهب" ، ومن نصب فعلى جواب لعلّ ، وكأنه أَشْرَبَهَا معنى التمنِّي ، كما قرأ حفص : { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع } ، بنصب العين .
---
372- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فَلْيَضْطَجِعْ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( فاستعجم القرآن )) ، رفعًا على أنه فاعل استعجم ؛ أي : صارت قراءته [ كالعجمية ] ؛ لاختلاط حروف النائم ، وعدم بيانها ، والله أعلم .
**********
أبواب فضائل القرآن وما يتعلق بها
( 109 ) باب الأمر بِتَعاهُدِ القرآن ، وذَمِّ من فرط حتى نسي
373- عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ ، وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بتعاهد القرآن(3/284)
قوله : (( بئسما لأحدهم أن يقول : نسيت آية كيت وكيت )) : " بئسما" هي [بئس] التي للذم أخت " نعم " التي هي للمدح ، وهما فعلان غير منصرفين يرفعان الفاعل ظاهرًا ، أو مضمرًا ؛ إلا أنه إذا كان ظاهرًا لم تكن في الأمر العام إلا بالألف واللام للجنس ، أو مضافًا إلى ما هما فيه ؛ حتى يشتمل على الممدوح بهما [والمذموم](3) ، ولا بدّ من ذكر الممدوح والمذموم تعيينًا ؛ كقولك : نعم الرجل زيد ، وبئس الرجل عمرو . فإن كان فاعلهما مضمرًا ، فلابدّ من ذكرِ اسمِ نكرةٍ ، ينصب على التفسير لذلك المضمر ،
---
374- وعَنْ عَبْدِ الله ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بِئْسَمَا لأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولُ : نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كقولك : نعم رجلاً زيد . وقد يكون هذا التفسير : " ما " ؛ كما جاء في الحديث ، وكما جاء(2) في قوله تعالى : { فَنِعِمَّا هي } ، وقد يجمع بين الفاعل الظاهر وبين المفسر ؛ قال :
تزود مثل زاد أبيك فينا فنعم الزاد زاد أبيك زادًا
والاسم الممدوح أو المذموم مرفوع بالابتداء ، وخبره الجملة المتقدمة ، من نعم وفاعلها ، وقيل : على الخبر ، وإضمار المبتدأ. واختلف العلماء في متعلق هذا الذم ، فقال بعضهم : هو على نسبة الإنسان لنفسه النسيان ؛ إذ لا صنع له فيه ، فالذي ينبغي له أن يقول : أُنسيت ، مبنيًّا لما لم يُسَمَّ فاعله ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نسي ، وقد نسب النسيان لنفسه ، ونسبه الله(3/285)
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عَبْدُ الله : تَعَاهَدُوا هَذِهِ الْمَصَاحِفَ - وَرُبَّمَا قَالَ : الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهِ. قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يَقُلْ أَحَدُكُمْ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إليه ، في قوله تعالى : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله } ، وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما أنا بشر [مثلكم] أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني )) .
---
وقيل : كان هذا الذم خاصًّا بزمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنه كان من ضروب النسخ نسيان الآية ، كما قال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله }(2) ؛ أن ينسيكه ؛ كما قرأت الجماعة : { ما ننسخ من آية أو ننسيها} بضم النون ، وترك الهمز ؛ أي : نُنْسِكَها ، فلما كان هذا ؛ فكأنه نهى عن ذلك القول ؛ لئلا يتوهم في كثير من محكم القرآن ، أنه قد ضاع لكثرة الناسين ، وفيه بُعد .
وقيل قول ثالث ؛ وهو أولاها : إن نسيان القرآن إنما يكون لترك تعاهده ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وللغفلة عنه ، كما أن حفظه إنما يثبت بتكراره والصلاة به ؛ كما قال في حديث ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( إذا قام صاحب القرآن فقرأ بالليل والنهار ذكره ، وإن لم يقم به نسيه )). فإذا قال الإنسان : نسيت آية كيت [وكيت] فقد شهد على نفسه بالتفريط وترك معاهدته له ، وهو ذنب عظيم ؛ كما قال في حديث أنس ـ رضى الله عنه ـ الذي خرّجه الترمذي مرفوعًا : ((عرضت على أعمال أمتي ،(3/286)
375- عَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلم أر ذنبًا أعظم من سورةٍ من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها )) ، وهو نصٌ . وعلى هذا فمتعلَّق الذم تركه ما أُمر به ؛ من استذكار القرآن وتعاهده ، والنسيان علامة ترك ذلك ، فعلق الذم عليه. ولا يقال : حفظ جميع القرآن ليس واجبًا على الأعيان ، فكيف يذم من تغافل عن حفظه ؟! لأنا نقول : من ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
جمع القرآن فقد علت رتبته ومرتبته ، وشرف في نفسه وقومه شرفًا عظيمًا ، وكيف لا يكون ذلك ، و" من حفظ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين كتفيه " ، وقد صار ممن يقال فيه : هو من أهل الله تعالى وخاصته ، وإذا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/287)
كان كذلك ؛ فمن المناسب تغليظ العقوبة على من أخل بمزيته الدينية ، ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره ، كما قال تعالى : {يانساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } ؛ لاسيما إذا كان ذلك الذنب مما يحط تلك المزية ويسقطها ؛ لترك معاهدة القرآن المؤدئي [به] إلى الرجوع إلى الجهالة. ويدل على صحة هذا التأويل : قوله في آخر الحديث : (( بل هو نُسِّي )) . وهذا اللفط رويناه مشدَّدًا مبنيًّا لما لم يسم فاعله ، وقد سمعناه من بعض من لقيناه بالتخفيف ، وبه ضُبِط عن أبي بحر ، والتشديد لغيره ، ولكل منهما وجهٌ صحيح . فعلى التشديد يكون معناه : أنه عوقب بتكثير النسيان عليه ؛ لما تمادى في التفريط . وعلى التخفيف يكون(8) معناه : تُرِك غير مُلْتَفَتٍ إليه ، ولا مُعْتَنىً به ولا مرحوم ؛ كما قال الله تعالى : {نسوا الله فنسيهم } ؛ أي : تركهم في العذاب ، أو تركهم من الرحمة .
وقوله : (( كيت وكيت )) : كلمة يعبَّر بها عن الجمل الكبيرة ، والحديث
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطويل ، ومثلها : ذيت وذيت . وقال ثعلب : كان من الأمر كيت وكيت ، وكان من فلان ذيت وذيت ، فكيت : كناية عن الأفعال ، وذيت : إخبار عن الأسماء . والتَّفَصِّي : التَّفَلُّت والانفصال ، يقال : تفصّى فلان عن كذا ؛ أي : انفصل عنه . والنَّعَم : الإبل ، ولا واحد له من لفظه . والعُقُل : جمع عقال ، وهو ما تعقل به الناقة .
---
وقوله : (( من عقله )) : من : هو على أصل ما يقتضيه اللفظ من أصل التعدِّي ، فأما رواية من رواه : " بعقلها" ، و"في عقلها" ؛ فعلى أن يكون الباء والفاء بمعنى : " من " ، أو يكون معناهما : المصاحبة والظرفية ، ويعني به : تشبيه من يتلفت منه بعض القرآن بالناقة التي انفلتت من عقالها ، وبقي متعلِّقًا بها ، والله أعلم .(3/288)
وصاحب القرآن : هو الحافظ له ، المشتغل به ، الملازم لتلاوته ، ولفظ الصحبة مستعمل في أصل اللغة على إلف الشيء وملازمته ، ومنه : أصحاب الجنة ، وأصحاب النار ، وأصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(110) باب تحسين الصوت بالقراءة والترجيع فيها
376- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( مَا أَذِنَ الله لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ ، يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( كَإِذْنِهِ )) ، مَكَانَ : (( مَا أَذِنَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ما أذن الله )) ؛ أي : ما استمع [الله] وأصغى . وأصله : أن الْمُسْتَمِع يميل بأذنه إلى جهة الْمُسْتَمَع ، تقول العرب : أَذِن ؛ بكسر الذال ، يأذَن بفتحها في المستقبل ؛ أَذَنًا بفتح الهمزة والذال في المصدر : إذا أصغى واستمع . وهذا المعنى في حق الله تعالى محال ، وإنما هو من باب التوسُّع على ما جرى في عرف التخاطب ، وهو منصرف في حق الله تعالى لإكرام القارئ وإجزال ثوابه . ووجه هذا التوسع : أن الإصغاء إلى الشيء قبول له ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعتناء به ، ويترتب على ذلك إكرام الْمُصْغَى إليه ، فعبّر عن الإكرام بالإصغاء ؛ إذ هو عنه .
وفائدة هذا الحديث حث القارئ على إعطاء القراءة حقها من : ترتيلها ، وتحسينها ، وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن .
---(3/289)
فأما قوله : (( يتغنى بالقرآن )) ، فتمسك به من تجوّز قراءة القرآن بالألحان ، وهو أبو حنيفة وجماعة من السلف ، وقال به الشافعي في التحزين ، وكرهه مالك وأكثر العلماء ، ولا أشك أن موضع الخلاف في هذه المسألة إنما هو إذا لم يغيّر لفظ القرآن بزيادة أو نقصان ، أو يبهم معناه [ بترديد] الأصوات ، فلا يُفهم معنى القرآن ، فإن هذا مما لا يُشك في تحريمه . فأما إذا سلم من ذلك ، وحذى به حذو أساليب الغناء والتطريب والتحزين فقط ، فقد قال مالك : ينبغي أن يُنَزِّه أذكار الله تعالى وقراءة القرآن عن التشبه بأحوال المجون والباطل ؛ فإنها حق وجد وصدق. والغناء هزل ولهو ولعب. وهذا الذي قاله مالك وجمهور العلماء هو الصحيح ؛ بدليل ما ذُكِر وبأدلة أُخَر :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منها : أن كيفية قراءة القرآن قد بلغتنا متواترة عن كافة المشايخ جيلاً فجيلاً إلى العصر الكريم ؛ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وليس فيها تلحين ولا تطريب ، مع كثرة المتعمِّقين والمتنطِّعين في مخارج الحروف ، وفي المدِّ ، والإدغام ، والإظهار ، وغير ذلك من كيفية القراءات ، وهذا قاطع .
ومنها : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ((لست من ددٍ ولا الدَّدُ مني )) ، والدَّدُ : هو اللعب
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واللهو ، ومعنى ذلك : أن اللعب لا يليق بأحواله ، فكيف بقرآنه وقراءته؟!
ومنها : أنّ التطريب والترجيع يؤدي إلى الزيادة في القرآن والنقص منه ، وهما ممنوعان ، فالمؤدِّي إليهما ممنوع . وبيانه : أن التطريب والتلحين يحتاج من ضروراته أن يمد في غير موضع المدّ ، وينقص ؛ مراعاة للوزن ؛ كما هو معلولم عند أهله .
---(3/290)
ومنها : أنه يؤدي إلى تشبيه القرآن بالشعر ، وقد نزهه الله تعالى عن الشعر وأحواله ، حيث قال تعالى : { إنه لقرآن كريم وما هو بقول شاعر} ، وقد تأوّل من منع من تلحين القرآن ، قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يتغنى به )).
وقوله : (( ليس منا من لم يتغن بالقرآن )) ؛ على تأويلات :
377- وعَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأَبِي مُوسَى : (( لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدها : أن معناه أنه يستغني به ، يقال : تغنّيت ، وتغانيت ، بمعنى : استغنيت ، قاله سفيان .
وثانيها : أن معناه يجعله مكان الغناء ، وبدلاً منه ، فيستديم تلاوته ، ويستطيبه كما يستطيب الغناء .
وثالثها : أن معناه : يجهر به . كما فسّره الصحابي راوي الحديث ، وهذا أشبه ؛ لأن العرب تسمي كل من رفع صوته ووالى به : غانيًا ، وفعله [ذلك] : غناء ، وإن لم يلحنه تلحين الغناء ، وعلى هذا فسّره الصحابي ، وهو أعلم بالمقال ، وأقعد بالحال ، والله أعلم .
وقوله لأبي موسى : (( لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود )) : المزمار والمزمور : الصوت الحسن ، وبه سُمِّيت آلة [الزمر] : مزمارًا . وآل داود : نفسه . وآل : صلة ، والمراد به داود نفسه ، وفي غير "الأم" قال أبو موسى
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/291)
للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لو علمت أنك تسمع قراءتي ؛ لحبرته لك تحبيرًا " ؛ أي : لحسَّنته ولجمَّلته . والحبر : الجمال ، ومنه [الحديث] في وصف الرجل من أهل النار : " ذهب حبره وسبره " ؛ أي : جماله وبهاؤه. وهذا محمول على أبي موسى على أنه كان يزيد في رفع صوته وتحسين ترتيله ، حتى يستمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعرفه أنه قَبِلَ عنه كيفية أداء القراءة ، وأنه متمكِّن منها ، فيحمده النبيٌّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويدعو له ، فتحصل له فضيلة ومنقبة ، كما فعل بأبيٍّ حيث سأله فأجابه 378- وَعَنْ عَبْدَ الله بْنَ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيَّ ، قَالَ : قَرَأَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَامَ الْفَتْحِ ، فِي مَسِيرٍ لَهُ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ .
قَالَ مُعَاوِيَةُ : لَوْلا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيَّ النَّاسُ لَحَكَيْتُ لَكُمْ قِرَاءَتَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقال : (( لِيَهْنِكَ العلم أبا المنذر )) . ويحتمل أن يكون ذلك ليبالغ في حالةٍ يطيب بها القرآن له ؛ فإن الإنسان قد بتساهل مع نفسه في أموره ، ويعتني بها عند مشاركة غيره فيها ، وإن كان مخلصًا في أصل عمله .
وقوله : " فرجَّع في قراءته " ؛ أي : ردَّد ، وذكره البخاري ، وقال في صفة الترجيع قال : آ آ آ ثلاث مرات . وهذا محمود على إشباع المدّ في موضعه ، ويحتمل أن يكون ذلك حكاية صوته ، عند هز الراحلة ، كما يعتري رافع صوته ، إذا كان راكبًا من انضغاط صوته ، وتقطيعه لأجل هز المركوب .
379- وَعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ ، لَهُ أَجْرَانِ )) .(3/292)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : (( الماهر بالقرآن )) : يعني : الحاذق به ، قال الهروي : أصله : الحذق بالسباحة ، قلت : ومنه قول امرئ القيس :
وترى الضَّبَّ خفيفًا ماهرًا ثانيًا بُرْثُنَه ما يَنْعَفِرْ
قال المهلَّب : المهارة في القرآن : جودة التلاوة ، بجودة الحفظ ، ولا يتردّد فيه ؛ لأنه يسره الله تعالى عليما ؛ كما يسره على الملائكة ، [فهو على] مثلها في الحفظ والدرجة ، والسفرة : جمع سافر ، وهم ملائكة الوحي ، سُمُّوا بذلك لأنهم يسفرون بين الله وبين خلقه . وقيل : هم الكتبة ، والكاتب يسمى : سافرًا ، ومنه أسفار الكتاب . وعلى هذا فيكون وجه كونهم مع الملائكة : أن حملة القرآن يبلغون كلام الله إلى خلقه ، فهم سفراء بين رسل الله تعالى وبين خلقه ، فهم معهم ؛ أي : في مرتبتهم في هذه العبادة. ويستفيد من هذا حملة القرآن : التحرُّز [في التبليغ] والتعليم ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأجتهاد في تحصيل الصدق ، وإخلاص النية لله ؛ حتى تصح لهم المناسبة بينهم وبين الملائكة .
وقوله : (( يتتعتع فيه )) ؛ أي : يتردد في تلاوته عِيًّا وصعوبة . والتعتعة في الكلام : العِيُّ . وإنما كان له أجران ؛ من حيث التلاوة ؛ ومن حيث المشقة ، ودرجات الماهر فوق ذلك كله ؛ لأنه قد كان القرآن متعتعًا عليه ، ثم ترقَّى عن ذلك إلى أن شُبِّه بالملائكة ، والله أعلم .
( 111 ) باب إقراء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن وتعليمه كيفية الأداء(3/293)
380- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ لأُبَيّ : (( إِنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } قَالَ : الله سَمَّانِي لَكَ ؟ قَالَ : ((الله سَمَّاكَ لِي )) قَالَ : فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إقراء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
---
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأُبَيٍّ ـ رضى الله عنه ـ : (( إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن )) : إنما كان ذلك ليلقّن عنه أُبيّ كيفية القراءة ، [ومشافهة] وصفها ، وليبيِّن(3) طريق تحميل الشيخ للراوي بقراءته عليه ، وفي حديث عبد الله بن مسعود قراءة التلميذ على الشيخ ، وكلاهما طريق صحيح. وتخصيصه(4)سورة{ لم يكن} ، لما تضمنته من ذكر الرسالة ، والصحف ، والكتب ؛ في قوله تعالى : {رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة }(5) ، وهو مناسب لحالهما(6) ، والله أعلم .
وقوله : " آلله سَمَّاني [ لك ](7)؟!" بهمزة الاستفهام على التعجب منه ،
381- وعَنْ عَبْدِ الله قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ )) قَالَ : فَقُلْتُ : يَارَسُولَ اللهِ ! أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ قَالَ : (( إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي )) قَالَ : فَقَرَأْتُ النِّسَاء حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } رَفَعْتُ رَأْسِي أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ .
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ لِي وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : (( اقْرَأْ عَلَيَّ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/294)
إذ كان ذلك عنده مستبعدًا ؛ لأن تسميته له تعالى ، وتعيينه ليقرأ عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ تشريف عظيم ، وتأهيل لم يحصل مثله لأحد من الصحابة رضوان الله عليه وعليهم ، ولذلك لما أخبره بذلك بكى من شدة الفرح والسرور ؛ لحصول تلك المنزلة الشريفة ، والرتبة المنيفة .
وقوله : (( إني أشتهي أن أسمعه من غيري )) ؛ أي : أستطيب [ذلك] ، وذلك أن السامع قد يكون أحضر من القارئ ؛ لاشتغال القارىء بالقراءة
---
382- وَعَنْ عَبْدِ الله قَالَ : كُنْتُ بِحِمْصَ ، فَقَالَ لِي بَعْضُ الْقَوْمِ : اقْرَأْ عَلَيْنَا ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ سُورَةَ يُوسُفَ . قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : وَالله ، مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ قَالَ قُلْتُ : وَيْحَكَ ! وَالله ، لَقَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكيفيتها ، ويحتمل أن يكون : " أشتهي" بمعنى : أُحِبّ . وفيه : بيان سنة قراءة الطالب على الشيخ كما قدمناه آنفًا .
وقوله : " حتى بلغت : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا } ، وذكر بكاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ كان ذلك منه لعظم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع ، وشدة الأمره . وفي غير "الأم" أنه قال : لما بلغتها ؛ قال : (( حسبك )) ؛ احتج به أهل التجويد على جواز الوقف الكافي من الآي ، والمقاطع ؛ لأن الكلام حيث قال له : (( حسبك )) ، غير تام ، بل تمامه فيما بعده . وقد قيل : إن قوله لعبد الله : (( حسبك )) تنبيه على ما في الآية ، لا أنه وقف هناك .
لِي : (( أَحْسَنْتَ )). فَبَيْنَمَا أَنَا أُكَلِّمُهُ إِذْ وَجَدْتُ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ . قَالَ فَقُلْتُ : أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ ؟ لا تَبْرَحُ حَتَّى أَجْلِدَكَ ، قَالَ : فَجَلَدْتُهُ الْحَدَّ .(3/295)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحدُّ عبدالله للرجل الذي وجد منه ريح الخمر حجة على [من] منع وجوب الحد بالرائحة ، وهو : أبو حنيفة والثوري ، وكافة العلماء على ما فعل
ابن مسعود . ويحتمل : أن يكون إنما أقام عليه الحد ؛ لأنه جعل ذلك له من له ذلك ، أو لأنه رأى أنه قام عن الإمام بواجب ، أو لأنه كان ذلك في زمان ولايته الكوفة ، فإنه ولي القضاء بها زمن(1) عمر ، وصدرًا من خلافة عثمان .
---
وقوله : " أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب ؟" نسبته إلى التكذيب بالكتاب على جهة التغليظ ، وليس على حقيقته ؛ إذ لو كان ذلك لحكم بردّته أو قتله ؛ إذ هذا حكم من كذّب بحرف منه ، وكأن الرجل إنما كذب
( 112 ) باب فضل تعلُّم القرآن وقراءته وفضل سورة البقرة وآل عمران
383- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ : (( أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِفَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلا قَطْعِ رَحِمٍ ؟ )) فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ! نُحِبُّ ذَلِكَ . قَالَ : (( أَفَلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ ، وَثَلاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاثٍ ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ ؟ ! )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالله لا القرآن ، وهو الظاهر من قول الرجل : ما هكذا أنزلت ، جهالة منه ، وقلّة حفظ ، أو قلّة تثبت ؛ لأجل السكر ، والله أعلم .
ومن باب فضل تعلم القرآن(3/296)
(( الصُّفة )) : سقيفة كانت في المسجد ، يأوي إليها الفقراء . و: (( يغدو )) : يبكِّر.و (( بُطحان والعقيق )) : واديان بينهما وبين المدينة قريب من ثلاثة أميال أو نحوها ، و(( الكَوْمَاوَان )) : تثنية كَوْمَاء ؛ وهي الناقة العظيمة السنام ؛ كأنه كوم ، وفي "الأم" من حديث أبي هريرة : (( ثلاث خلفات سمان )) ، وهن : النوق
---
384- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( اقْرَءُوا الْقُرْآنَ ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ . اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ ، الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ ، فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا ، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ، وَلا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ )).
قَالَ مُعَاوِيَةُ : بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحوامل إلى أن يمضي لها نصف أمدها ، ثم تسمى : عشراء ، وجمعها : عشار .
ومقصود الحديث الترغيب في تعلم القرآن وتعليمه ، وخاطبهم على ما تعارفوه ، فإنهم أهل الإبل ، وإلاَّ فأقلّ جزء من ثواب القرآن [وتعليمه] خير من الدنيا وما فيها ، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها )).
وقوله : (( فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا )) : هذا على جهة التوسع في الإفهام ،
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/297)
وتحقيقه : أنه يُشفع له بسببه ، فإما الملائكة الذين كانوا يشاهدون تلاوته ، أو من شاء الله تعالى ممن يُشَفِّعهم فيه بسببه ، وهذه الشفاعة على تقدير أن يكون القارئ صاحب كبيرة في تخليصه من النار ، وإن لم يكن عليه ذنوب ؛ شُفع له في ترفيع درجاته في الجنة ، أو في المسابقة إليها ، أو في [جميعهما] ، أو ما شاء الله تعالى [منهما] ، إذ كل ذلك بكرمه تعالى وبفضله.
وفي تسمية البقرة وآل عمران بالزهراوين وجهان :
---
أحدهما : أنهما النيرتان ، مأخوذ من الزهر ، والزَّهرة ، والزُّهرة ، فإما لهدايتهما قارئهما بما يزهز له من أنوارهما ، وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة . قلت : ويقع لي أنهما سميتا بذلك ؛ لأنهما اشتركتا في تضمن اسم الله الأعظم ؛ كما ذكر أبو داود من حديث أسماء
.....................................................................
.....................................................................
385- وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ . وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ ، لارِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ. وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ . وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ ، لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( الْفَاجِرِ )) بَدَلَ (( الْمُنَافِقِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/298)
ابنة يزيد : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } ، والتي في سورة آل عمران : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ، والله أعلم .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
و"الغمام" : السحاب الْمُلْتَفّ ، وهي : الغياية إذا كانت قريبًا من الرأس ، والظُّلَّةُ أيضًا ، وقد جاءت هذه الألفاط الثلاثة في هذا الحديث ، وفي حديث النوَّاس بن سمعان . ومعنى هذا الحديث : أن صاحب هاتين [السورتين] في ظل ثوابهما يوم القيامة ؛ كما قال : (( سبعة يظلهم الله في ظله [ يوم لا ظل إلا ظله ] ، وقال : (( الرجل في ظل صدقته حتى يُقضى بين الناس )). وعبّر عن هذا المعنى بتلك العبارة توسعًا واستعارة ؛ إذ كان ذلك بسببهما .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و "فِرْقان" : قطيعان ، وهما : الحِزْقان . والحِزْق ، وا لحَزِيقة : الجماعة ، وهي رواية السمرقندي في حديث النوّاس ، وجمهور الرواة قالوا : " فرقان" مثل ما في حديث أبي أمامة . و"صواف" : مُصْطَفَّة . و" تحاجّان " : تقومان بحجّة قارئهما [وتجادلان] عنه ؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سورة تبارك : (( تجادل عن صاحبها )). وهذه المجادلة إن حملت على ظاهرها ؛ فيخلق الله تعالى من
.....................................................................
.....................................................................(3/299)
386- وَعَنِ النَّوَاسْ بْنِ سَمْعَان الكِلابِيَّ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : ((يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ ، تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ )). وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثَلاثَةَ أَمْثَالٍ . مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ ، قَالَ : (( كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ ، بَيْنَهُمَا شَرْقٌ ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
يجادل بها عنه ملائكة ؛ كما قد جاء في بعض الحديث : أن من قرأ : {شهد الله أنه لا إله إلا هو } الآية ؛ خلق الله تعالى سبعين ملكًا يستغفرون له إلى يوم القيامة .
وإن حملت على تأويلها ؛ فيكون معنى ذلك : أن الله تعالى يوصله إلى ثواب قراءتها ، ولا ينقص منه شيء ؛ كما يفعل من يستخرج حقه ، ويجادل عليه ؛ كما قال : (( القرآن(7) حجة لك أو عليك ))(8).
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث النوّاس : وضرب لهما ثلاثة أمثلة : "كأنهما غمامتان ، أو ظُلَّتان [سوداوان] ، أو كأنهما خِرَقان" : هذا يدل على أن " أو " ليست للشك ؛ لأنه مثل السورتين بالثلاثة الأمثال ، فيحتمل أن يكون " أو " بمعنى الواو ؛ كما يقول الكوفي ، وأنشدوا عليه :
نال الخلافَة أو كانت له قَدَرًا كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
وقال آخر :
وقد علمت ليلى بأني فاجر لنفسي تُقاها أو عليها فُجورُها
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/300)
وقالوه في قوله تعالى : {أو كصيب من السماء فيه} ، وقال البصريون : إنها بمعنى الإباحة ، وكأنه قال : شبهوهم بكذا أو بكذا ، وهذا الخلاف جارٍ في هذا الحديث ؛ لأنها أمثال معطوفة بـ" أو " ، فهي مثل : { أو كصيب}.
---
وقوله : (( بينهما شَرْق )) ، قال القاضي أبو الفضل عياض : رويناه بسكون الراء وفتحها ، قيل : وهو الضياء والنور . قلت : والأشبه أن الشرق بالسكون ، بمعنى [المشرق] ، يعني : أن بين تلك الظلتين السوداوين [مشارق] أنوار ، وبالفتح : هو الضياء نفسه ، وإنما نبّه في هذا الحديث على هذا الضياء ؛ لأنه لما قال : سوداوان ؛ قد يتوهم أنهما مظلمتان ، فنفى ذلك بقوله : (( بينهما شرق )) ؛ أي : مشارق أنوار ، أو أنوار ، حسب ما قررناه ، ويعني بكونهما سوداوين : أى من كثافتهما التي بسببهما حالتا بين من تحتهما وبين حرارة الشمس وشدة اللهب ، والله أعلم .
( 113 ) باب فضل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وخواتم سورة البقرة
387- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، فَقَالَ : هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلا الْيَوْمَ . فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ ، فَقَالَ : هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ ، لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلا الْيَوْمَ . فَسَلَّمَ وَقَالَ : أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ ، فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلا أُعْطِيتَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل فاتحة الكتاب
قوله : " سمع نقيضًا من فوقه " ؛ أي : صوتًا . والنقيض : صوت الباب عند فتحه .
---(3/301)
وقوله : " بنورين " ؛ أي : بأمرين عظيمين ، نيّرين ، تبيِّن لقارئهما وتنوره ، وخصت الفاتحة بهذا ؛ لما ذكرنا ؛ من أنها تضمنت جملة معاني الإسلام ، والإيمان ، والإحسان . وعلى الجملة : فهي آخذة بأصول القواعد الدينية ، والمعاقد المعارفية . وخصت خواتيم سورة البقرة بذلك : لما تضمنته من الثناء على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعلى أصحابه ؛ بجميل انقيادهم لمقتضاها ، وتسليمهم لمعناها ، وابتهالهم إلى الله عز وجل ، ورجوعهم إليه في جميع أمورهم ؛ ولما حصل فيه من إجابة دعواتهم ، بعد أن علموها ، فخُفِّف عنهم ،
388- وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ قَرَأَ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ )) .
389- عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ! أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ الله مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ )) قَالَ : قُلْتُ : الله وَرَسُولُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وغُفر لهم ، ونُصَروا ، وفيها غير ذلك مما يطول تتبعه .
وقوله : (( من قرأ هاتين الآيتين في ليلة كفتاه )) ؛ أي : من قيام الليل ، [أو] من حزبه ، إن كان له حزب من القرآن ، وقيل : وقتاه شرَّ كل شيطان ، وكل ذي شر ؛ كما جاء في أن : (( من قرأ آية الكرسي لم يزل عليه من الله تعالى حافظ ، ولم يقربه شيطان حتى يصبح )) ، أو لكثرة ما يحصل له بقراءتهما من الثواب والأجر ، والله أعلم .
أَعْلَمُ. قَالَ : (( يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ الله مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ )) قُلْتُ : { الله لا إِلهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قَالَ : فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ : (( لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ )).(3/302)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأُبيٍّ : (( أيّ آية معك في كتاب الله أعظم )) : حجة لمن يقول بتفضيل [ بعض] آي القرآن على بعض ، وتفضيل القرآن على سائر الكتب المنزلة ، وهذا مما اختلف فيه ، فذهب إلى جوازه إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين مستدلاً بهذا [الحديث](1) ، وبما يشبهه ؛ كقوله : (( قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن )) ، ومنع ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري ، والقاضي أبو بكر ، وجماعة من الفقهاء ، قالوا : لأن الأفضل يشعر بنقص المفضول ، وكلام الله تعالى لا نقص فيه ، وتأولوا هذا اللفظ : بأن أفعل تأتي بمعنى فعيل ؛ كما قال تعالى : { وهو أهون عليه } ، وهذا فيه نظر ؛ فإنا نقول : إن أريد بالنقص اللازم من التفضيل إلحاق ما يعيب المفضول ؛ فهذا ليس بلازم مطلقًا ، وإن أريد بالنقص أن المفضول ليس فيه ما في الأفضل من ذلك القدر الذي زاد به ؛ فهو الحق ، ولولا ذلك لما تحققت المفاضلة . ثم لا يجوز إطلاق النقص ولا الأنقص على شيء من كلام الله تعالى .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما تأويل الحديث فهو وإن كان فيه مسوّغًا ، فلا يجري في كل موضع يستدل به على التفضيل ، فإن منها نصوصًا لا تقبل التأويل ؛ كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن )) ، وغير ذلك مما في هذا المعنى .
وإنما كانت آية الكرسي أعظم ؛ لما تضمنته من أوصاف الألهية وأحكامها ، مما لا يخفى على من تأملها ، فإنها تضمنت من ذلك ما لم يتضمنه غيرها من الآي . وقال بعض المتأخرين : إن هذه الآية اشتملت من الضمائر العائدة على الله تعالى على ستة عشر ، وكلها تفيد تعظيمًا لله تعالى ، فكانت أعظم آية في كتاب الله تعالى لذلك ، والله أعلم .
---(3/303)
وقوله لأُبيٍّ حين أخبره بذلك : (( ليهنك العلم )) ، وضربه صدره : تنشيط له ، وترغيب في أن يزداد علمًا وبصيرة ، وفرح بما ظهر عليه من آثاره المباركة ، وفيه إلقاء العالم المسائل على المتعلم ؛ ليختبره بذلك .
( 114 ) باب فضل سورة الكهف ، وتتنزل السكينة عند قراءتها
390- عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ : كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ ، وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو ، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ : (( تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل سورة الكهف
قوله : " بشطنين " ؛ أي : حَبْلَيْن . وا لشَّطَن : [الحبل] الطويل ، والبئر : الشطون البعيدة القعر ، وشَطَن ؛ أي : بعد ، ومنه الشيطان على أحد التأويلين . [وتغشته] : غطَّته .[والسكينة] : مأخوذة من السكون ، وهو الوقار والطمأنينة ، وهي ها هنا اسم للملائكة ؛ كما فسرها في الرواية الأخرى ، وسَمّاهم بذلك لشدّة وقارهم وسكونهم ؛ تعظيمًا لقراءة هذه السورة .
391- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ : أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف المفسرون في قوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم } على أقوال كثيرة ، فقيل : السكون : الرحمة. وقيل : حيوان [طاهر] كالهرّ له جناحان وذنب ، ولعينيه شعاع ، فإذا [نظر] للجيش انهزم ، وقيل : آيات يسكنون إليها . وقال ابن وهب : روح من الله يتكلم معهم ، ويبيّن لهم إذا اختلفوا . وهذا القول أشبهها ؛ لأنه موافق لما في هذا الحديث .
---(3/304)
فِي مِرْبَدِهِ ، إِذْ جَالَتْ فَرَسُهُ فَقَرَأَ ، ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى فَقَرَأَ ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا ، فَقَالَ ، أُسَيْدٌ : فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى ، فَقُمْتُ إِلَيْهَا ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي ، فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا . قَالَ : فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! بَيْنَمَا أَنَا الْبَارِحَةَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ أَقْرَأُ فِي مِرْبَدِي ، إِذْ جَالَتْ فَرَسِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اقْرَأِ ، ابْنَ حُضَيْرٍ ))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و" المربد " للتمر مثل الأندر للطعام . وجالت : اضطربت . والرواية المشهورة : " يغفر " ؛ من النفور ، وعند أبي بحر : " تنقز " بالقاف والزاي ، ومعناه : تَثِب ؛ يقال : نَقَزَ الصبي وقَفَزَ : إذا وثب .
وقوله : فخشيت أن تطأ يحيى " ، يعني : أنه خشي أن [تطأ] الفرس يحيى ابنه ، وقد فسره بعد ذلك . والظُّلَّة : السحابة فوق الرأس ؛ مأخوذ من الظل . و" الْجَوّ " : ما بين السماء والأرض . و" السُّرُج " : جمع سراج ؛ شَبَّة الأنوار التي رأى في السحابة بها .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابن حُضير : (( اقرأ )) ؛ عند إخباره له بما رأى ، هو أمر له بمداومه على القراءة فيما يستأنفه ؛ فرحًا بما أطلعه الله عليه ، وكرر ذلك تأكيدًا .
---(3/305)
قَالَ : فَقَرَأْتُ . ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( اقْرَأِ ، ابْنَ حُضَيْرٍ ! )) قَالَ : فَقَرَأْتُ . ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اقْرَأِ ، ابْنَ حُضَيْرٍ! )) قَالَ : (( فَانْصَرَفْتُ ، وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا ، خَشِيتُ أَنْ تَطَأَهُ ، فَرَأَيْتُ مِثْلَ الظُّلَّةِ ، فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تِلْكَ الْمَلائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ ، وَلَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( تلك الملائكة كانت تستمع لك )) : استطابة لقراءته ؛ لحسن ترتيلها ، وحضور قلبه فيها ، وخشوعه وإاخلاصه ، والله أعلم ، وإطلاع الله
تعالى له على ذلك : إظهار كرامة له ليزداد يقينًا مع يقينه ، واجتهادًا في [في] عبادته . وهذا دليل على جواز رؤية من ليس بنبي للملائكة .
وقوله : (( ولو قرأت لأصبحت تراها الناس )) : يعني : لو دمت على حالتك في قراءتك لأصبحت على تلك الحال ظاهرة للناس ، لكنه قطع القراءة ، فارتفعت الملائكة وغابت ؛ لتختص الكرامة به ، وليعمل الناس على التصديق بالغيب .
392- وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : أَنَّ نَّبِيّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من قرأ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال )) ، وفي الرواية الأخرى : ((من آخر الكهف )). واختلف المتأوِّلون في سبب ذلك :(3/306)
فقيل : سورة الكهف لما في قصة أصحاب الكهف من العجائب والآيات ، [فمن] علمها لم يستغرب أمر الدجال ، ولم يَهُلْهُ ذلك ، فلا يفتتن به .
---
وقيل : لما في قوله تعالى : { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء }- إلى آخر السورة - من المعاني المناسبة لحال الدجّال ، وهذا على رواية من روى : (( من آخر سورة الكهف )).
وقيل : لقوله تعالى : { لينذر بأسًا شديدًا من لدنه } ؛ تمسُّكًا بتخصيص البأس بالشدة واللدنِّية ، وهو مناسب لما يكون من الدجال من دعوى الإلهية ، واستيلائه ، وعظيم فتنته ، ولذلك عظَّم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره ، وحذّر منه ، وتعوّذ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من فتنته . فيكون معنى هذا الحديث : أن من قرأ هذه الآيات وقد برها ، ووقف على معناها ؛ حذره فآمن [من ذلك]. وقيل : هذا من خصائص هذه السورة كلها ، فقد روي : (( من حفظ سورة الكهف ، ثم أدركه الدجال ؛ لم يسلط عليه )) ، وعلى هذا تجتمع رواية من روى : (( من أول سورة الكهف )) ، ورواية من روى : (( من آخرها )) ، ويكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلها .
وقيل : إنما [كان](1) ذلك لقوله تعالى : { لينذر بأسًا شديدًا من لدنه} ، فإنه يهون بأس الدجال ، وقوله : { ويبشر المؤمنين الذين يعملون ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/307)
الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا } ؛ فإنه يهون الصبر على فتن الدجال بما يظهر من جنته وناره ، وتنعيمه وتعذيبه ، ثم ذمُّه تعالى لمن اعتقد الولد ؛ يفهم منه : أن من ادعى الإلهية أولى بالذم ، وهو الدجال ، ثم [قضية] أصحاب الكهف ؛ فيها عبر تناسب العصمة من الفتن ، وذلك أن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : { ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيِّئْ لنا من أمرنا رشدًا } ، فهؤلاء قوم ابتلوا فصبروا ، وسألوا إصلاح أحوالهم ، فأصلحت لهم ، وهذا تعليم لكل مدعو إلى الشرك .
---
ومن روى : (([من] آخر الكهف )) ؛ فلما في قوله تعالى : { وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضًا } ، فإن فيه مايهون ما يظهره الدجال من ناره .
وقوله : { الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري } ، تنبية على أحوال تابعي الدجال ؛ إذ قد عموا عن ظهور الآيات التي تكذبه ، والله أعلم.
والكهف : المغار الواسع في الجبل ، والصغير منهما يسمى الغار .
( 115 ) باب فضل قراءة { قل هو الله أحد }
393- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( إِنَّ الله جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلاثَةَ أَجْزَاءٍ ، فَجَعَلَ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل { قل هو الله أحد}(3/308)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قل هو الله أحد : تعدل ثلث القرآن )) ؛ أي : تساوي جزءًا منه ، كما قال في الرواية الأخرى : (( إن الله تعالى جزَّأ القرآن ثلاثة أجزاء ، فجعل { قل هو الله أحد } جزءًا ، من أجزاء القرآن )) ، وإيضاحه ما قال المحققون من علمائنا : إن القرآن بالنسبة إلى معانيه الكلية على ثلاثة أنحاء : قصص ، وأحكام ، وأوصاف لله تعالى .
و : { قل هو الله أحد } مشتملة على ذكر أوصاف الحق سبحانه ، فكانت ثلاثًا من هذه الجهة . قلت : وهذا إنما يتمّ إذا حُقِّق : أن هذه السورة مشتملة على جميع ذكر أوصافه تعالى ، وليس [ذلك] فيها ظاهرًا ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
لكنها [اشتملت على] اسمين من أسمائه تعالى ؛ يتضمنان جميع أوصاف كماله تعالى ، لم يوجد في غيرها من جميع السور ، وهما : الأحد ، والصمد ؛ فإنهما يدلاّن على أحديَّة الذات المقدسة الموصوفة بجميع صفات الكمال المعظمة ، وبيانه : أن الأحد والواحد وإن رجعا إلى أصل واحد لغة ، فقد افترقا استعمالاً وعرفًا ، وذلك : أن الهمزة من " أحد " منقلبة عن الواو من : وحد ، كما قال النابغة :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا يوم الْجَليل على مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ]
فهما من الوحدة ، وهي راجعة إلى نفي التعدد والكثرة ، غير أن استعمال العرب فيهما مختلف : فإن الواحد عندهم أصل العدد ، من غير تعرض لنفي ما ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/309)
عداه ، والأحذ يثبث مدلوله ، ويتعرض لنفي ما سواه ، ولهذا أكثر ما استعملته العرب في النفي ، فقالوا : ما فيها أحد ، ولم يكن له كفوًا أحد ، ولم يقولوا هنا : واحد ، فإن أرادوا الإثبات قالوا : رأيت واحدًا من الناس ، ولم يقولوا هنا : أحدًا . وعلى هذا فالأحد في أسمائه تعالى مشعر بوجوده الخاص به ، الذي لا يشاركه فيه غيره ، وهو المعبَّر عنه بواجب الوجود ، وربما عبر عنه بعض المتكلمين : بأنه أخص وصفه . وأما الصَّمد : فهو المتضمن لجميع أوصاف الكمال ، فإن الصمد هو الذي انتهى سؤدده ؛ بحيث
394- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( احْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ )) فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَرَأَ : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } ، ثُمَّ دَخَلَ . فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ : إِنِّي أُرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَهُ مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
يُصمَدُ إليه في الحوائج كلها ؛ أي : يقصد ، ولا يصح ذلك تحقيقًا إلا لمن حاز جميع خصال الكمال حقيقة ، وذلك لا يكمل إلا لله تعالى ، فهو الأحد الصمد ، الذي { لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد }.
فقد ظهر أن لهذين الاسمين من شمول الدلالة على الله تعالى وصفاته ما ليس لغيرهما من الأسماء ، وأنهما ليسا موجودين في شيء من سور القرآن ، فظهرت خصوصية هذه السورة بأنها ثلث القرآن ، كما قررناه ، والله أعلم.
وقد كثرت أقوال الناس في هذا المعنى ، وهذا أنسبها وأحسنها حسب ما ظهر ، فليُقتصر عليه .
وقوله : " فحشد من حشد " ؛ أي : اجتمع من اجتمع ، [ والحشد] : الجمع ، قاله الهروي وغيره .(3/310)
السَّمَاءِ ، فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ : سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ، أَلا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ )).
395- وعَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ ، فَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بـ{ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } فَلَمَّا رَجَعُوا ذُكِرَوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ ؟ )) فَسَأَلُوهُ . فَقَالَ لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَخْبِرُوهُ أَنَّ الله يُحِبُّهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
ومحبة الله تعالى للخلق : تقريبه لمحبوبه وإكرامه له ، وليست بميل ولا غرض كما هي منا ، وليست المحبة في حقوقنا هي الإرادة بل شيء زائد عليها ، فإن الإنسان يجد من نفسه أنه يحب ما لا يقدر على اكتسابه ، ولا على تخصيصه [ به ]. والإرادة : هي التي تخصص الفعل ببعض وجوهه الجائزة ، والإنسان يحسُّ من نفسه : أنه يحب الموصوفين بالصفات الجميلة والأفعال الحسنة ؛ مثل العلماء ، والفضلاء ، وإن لم يتعلق له بهم إرادة مخصصة ،
( 116 ) باب فضل قراءة المعوذتين
396- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ ، لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ ؟ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}.(3/311)
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ : قَالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أُنْزِلَ - أَوْ أُنْزِلَتْ - عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ ، الْمُعَوِّذَتَيْنِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا صح فرق مابينهما ، فالله تعالى محبوب لمحبيه على حقيقة المحبة ، كما هو المعروف عند من رزقه الله تعالى [منا] شيئًا من ذلك ، فنسأله ألاّ يحرمنا ذلك ، وأن يجعلنا من محبيه المخلصين .
( 117 ) باب لا حسد إلا في اثنتين ، ومن يرفع بالقرآن
397- عَنْ ابْنِ عُمَر ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ الله الْقُرْآنَ ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله مَالاً ، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ ، وَآنَاءَ النَّهَارِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب لا حسد إلا في اثنتين
---(3/312)
أصل الحسد : تمنِّي زوال النّعمة عن المنعَم عليه ، ثم قد يكون مذمومًا ، وغير مذموم ، فالمذموم : أن تتمنَّى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم ، سواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك [ أو] لا ، وهذا النوع هو الذي ذمَّه الله تعالى بقوله : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}. وأما غير المذموم ؛ فقد يكون محمودًا ، مثل : أن يتمنّى زوال النعمة عن الكافر وعمن يستعين بها على المعصية . وأما الغبطة : فهو أن تتمنّى أن يكون لك من النعمة والخير مثل ما لغيرك ، من غير أن تزول عنه ، والحرص على هذا 398- وَعَنْ عَبْدَ الله بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ الله مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُسمّى : منافسة ، ومنه : {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} ، غير أنه قد يطلق على الغبطة حَسدًا ، وعليه يُحمل الحسدُ في هذا الحديث ، فكأنه قال : لا غبطةَ أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين .
وقد نبّه البخاري على هذا ؛ حيث بوَّب على هذا الحديث : باب الاغتباط في العلم والحكمة .
و" آناء الليل " : ساعاته ، واحدتها : إنيٌّ ، وإنىًّ .
---(3/313)
399- وَعَنْ عَاَمِر بْنِ وَاَثِلةَ : أَنَّ نَافِعْ بْنِ عَبْدِ الحَارِثْ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى مَكَّةَ ، فَقَالَ : مَنْ اسْتَعْمَلتَ عَلَى أَهْلِ الوَادِيْ ؟ قَالَ : اْبْنُ اَبْزْى . قَالَ : وَمَنْ ابْنُ اَبْزىَ ؟ قَالَ : مَوْلَى مِنْ مَوْاَلِيْنَا . قَالَ : فَاْسْتَخْلفْتَ عَلَيِهِمْ مَوْلَى ؟! قَالَ : إِنَّهُ قَاَرِئٌ لِكِتَابِ اللهِ ، وَإِنَّهُ عَاَلِمٌ بِالَفَرائِضِ. قاَلَ عُمَرُ : أَمَّا نَبِيُّكُمْ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَدْ قَالَ : (( إِنَّ الله يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا ، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا )) ، يعني : يُشرف ، ويكرم في الدنيا والآخرة ، وذلك بسبب الاعتناء به ، والعلم به ، والعمل بما فيه. "ويضع" : يعني : يحقِّر ويصغِّر في الدنيا والآخرة ، وذلك بسبب تركه ، والجهل به ، وترك العمل به .
( 118 ) باب أنزل القرآن على سبعة أحرف
400- عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ
سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَقْرَأَنِيهَا ، فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَرْسِلْهُ ، اقْرَأْ )) فَقَرَأْ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/314)
ومن باب إنزال القرآن على سبعة أحرف
---
قوله : " فلَبَّبْتُهُ بردائه " ؛ أي : جمعت ثوبه على حَلْقه ، وأصله من اللّبة ، وهي النقرة التي في أصل الحلق ، وهذا من عمر ـ رضى الله عنه ـ غَيْرةٌ على كتاب الله ، وقوة في دينه .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله لعمر : (( أرسله )) ؛ أي : أطلقه ، لينفِّس عنه ، حتى يُعْرِب عن نفسه .
وقوله لهشام : (( اقرأ )) ، ليسمعَ ما ادعى عليه إفساده ، ليتّضح ذلك .
وقوله لعمر : (( اقرأ )) : لتجويز الغلَط على عمر ، أو ليبيِّن أن كل واحدة من القراءتين جائزة ، كما [قد] صوّبه فيها بعد ذلك بقوله : ((هكذا أنزلت )).
واختلف في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف )) على خمسة وثلاثين قولاً ؛ حكاها أبو حاتم بن حِبَّان ، أَوْلاها عند المحققين ، وأقربها بمساق الأحاديث : أن السبعة الأحرف هي سبع لغات من لغات العرب . قال أبو عبيد : [ يَمَنُها ، ومَعَدُّها ] ، وهي أفصح اللغات وأعلاها من كلامهم ، وقيل : بل هذه السبع لغات لمضر لا لغيرها . قالوا : وهذه ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/315)
اللغات مُتفرِّقة في القرآن ، لا يلزم اجتماعها في الكلمة الواحدة ، ولو اجتمعت لم يكن [في] ذلك بُعد ، ويمكن أن يُقال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمعها من جبريل في عَرَضَات [سبع ] ، أو في واحدة ، ويُوقفه على [المواضع] المختلف فيها . ثم لا يشترط أن يكون اختلاف هذه اللغات السبع في كيفيَّة الكلمات ؛ من الإدغام ، والإظهار ، والمدّ ، والقصر ، والإمالة ، والفتح ، ومابين اللفظين ، والتغليظ ، والترقيق ، واختلاف الإعرابات فقط ، بل يجوز أن يكون في هذه كلها ، وفي ألفاظ مترادفة على معنى واحد ، كما قد رُوي أنه [ قُرئ] : ( انظرونا نقتبس من نوركم ، وأخرونا وأنسئونا) ، و: ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ، ومروا وسَعَوا ) ، وفي قوله : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( فاسعوا إلى ذكر الله وامضوا ) ، وفي زيادة الألفاظ ، فيزيد بعضهم كلمة ، وينقصها غيرهم ؛ كما قرأ قوم : { من تحتها } وأسقطها آخرون ، و: { إن الله هو الغني } ، و( إن الله الغني ) بإسقاط "هو". وهذا النحو من الاختلاف هو الذي كثر في خلافة عثمان ـ رضى الله عنه ـ ، حتى خاف أن يتبدَّل كثير من القرآن ، ويتغيّر ، ويختلف الناس ، فاتفق نظره ونظر الصحابة أجمعين على جمع الناس على مصحف واحد ، وكتبوه على لغة قريش ، وعلى حرق ما عداه من المصاحف المخالفة لذلك المصحف ، وهذا النحو من الاختلاف هو الذي أنكره عمر ـ رضى الله عنه ـ ، لَمَّا سمعه من هشام ، والذي أنكره أيضًا أُبيٌّ ـ رضى الله عنه ـ وعَظُم عليه ؛ [ لأنهما سمعا ] كلماتٍ [مخالفة] للتي قرآ بها على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .[ وقد دلّ على هذا : أن النسائي أخرج هذا الحديث . ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/316)
---
وقال فيه : إن عمر قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان ، فقرأ فيها حروفًا لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرأنيها ، ولما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له : إني سمعت هذا يقرأ فيها حروفًا لم تكن أقرأتنيها . وهذا نص]. وعن ذلك تحرّج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أن تقتصر أمته على حرف واحد ؛ حتى سأل الله تعالى في أن يخفف عنهم ، فأجيب إلى ذلك ، ووسَّع عليهم ، [وانتهى] التّوسيع إلى هذه ؛ لأنها لغات أكثر العرب الحجازيين ، ولو ضُيِّق على الناس حتى يقرأ كلٌّ بلغةٍ واحدةٍ ؛ شقَّ ذلك عليهم ، وحُرِجُوا ؛ لأنهم كانوا يُكلَّفون أن يخرجوا عن أسلوب طباعهم وعاداتهم في كلامهم ، لا سيّما في حدّة الأمر ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفجأته ، فلما وُسِّع عليهم في ذلك ؛ أُمر كلُّ منهم أن يقرأ بلغته ولا ينكر على غيره ، واتسع الناس في ذلك في صدر الإسلام ، وإلى زمان عثمان ـ رضى الله عنه ـ ، فلما خاف عثمان أن يتعدَّى الناس حدَّ التوسعة ومحلَّها ، وأدخل بعض الناس في مصحفه ما ليس بقرآن ؛ كالتشهد ، والقنوت ، وغير ذلك ، أو ما كان قد نُسِخَت تلاوته ؛ شاور الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ على جمع الناس على مصحف واحد ، يكتبونه بلغة قريش ، فأجابوه لذلك ، واجتهدوا في ذلك غايتهم ، وبذلوا في حفظه وصيانته غاية وسعهم ، ثم أجمعوا على أن يكتبوه كذلك ، وأن يكتبوا منه نسخًا ، وأن يوجّهوها [للأمصار ففعلوا ، فوجّهوا للعراق والشام ومصر بأمهات ، فاتخذها قراءُ ] الأمصار معتمد اختياراتهم ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/317)
ولم يخالف [أحدٌ] منهم مصحفه على النحو الذي بلغه ، وما وُجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروفٍ يزيدها بعضهم ، وينقصها بعضهم ؛ فذلك لأن كلاً منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه أو رواه ؛ إذ قد كان عثمان ـ رضى الله عنه ـ قد كتب تلك المواضع في بعض نُسخ المصاحف ، ولم يكتبها في بعضٍ ؛ إشعارًا بأن كل ذلك صحيح ، وأن القراءة بكل منها جائز.
قلت : فكلُّ ما تضمنته تلك المصاحف متواتر ، مُجْمَعٌ عليه من الصحابة
وغيرهم ، وما خرج عن تلك المصاحف لا تجوز القراءة به ، ولا الصلاة ؛ لأنه ليس من القرآن الْمُجتمع عليه ، فأما هذه القراءات السبع التي تُنسب لهؤلاء القراء [السبعة] ، فقال كثير من علمائنا ؛ كالداودي ، وابن أبي صفْرَة وغيرهما : إنها ليست هي الأحرف السبعة التي اتّسعت الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ في القراءة بها ، وإنما هي راجعة إلى حرفٍ واحدٍ من تلك السبعة ، وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف ؛ ذكره ابن النحاس وغيره . وهذه القراءات المشهورة هي اختيار أولئك الأئمة القراء ، وذلك أن كل واحد منهم اختار فيما روى وعَلِم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى ، فالتزمه طريقةً ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " هَكَذَا أُنْزِلَتْ " ثُمَّ قَالَ لِي : " اقْرَأْ " فَقَرَأْتُ فَقَالَ : " هَكَذَا أُنْزِلَتْ . إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورواه ، وأقرأ به فاشتهر عنه ، وعرف به ، فنُسب إليه ، فقيل : حرف نافع ، وحرف ابن كثير ، ولم يمنع واحد منهم اختيار الآخر ، ولا أنكره ، بل سوّغه وجوَّزه ، فكل واحد من هؤلاء السبعة ، رُوي عنهم اختياران أو أكثر ، وكلٌ صحيح .
---(3/318)
وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة ، مما رووه ، [ورأوه] من القراءات ، وكتبوا في ذلك مصنفات ، فاستمر الإجماع على الصواب ، وحصل ما وعد الله تعالى به من حفظ الكتاب ، وعلى هذا الذي قررناه الأئمةُ المتقدمون ، والفضلاء المحققون ؛ كالقاضي أبي بكر ابن الطيِّب [والطبري] ، وغيرهما .
وقوله : (( فاقرؤوا ما تيسر منه )) ، الضّمير في : " منه " عائد على القرآن ، لا على الأحرف ؛ إذ لو كان عائدًا على الأحرف ؛ لقال : " منها " ، وإنما أعاده على القرآن ؛ ليبيّن أنه يجوز أن يقرأ بما تيسَّر من الأحرف ، ومن القرآن ؛
401- وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي ، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقُلْتُ : إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ ، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَرَآ ، فَحَسَّنَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ شَأْنَهُمَا ، فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ ، وَلا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه إذا أباح الاقتصار على قراءة بعض القرآن ، فلأن يجوز الاقتصار على بعض الأحرف أولى .
---(3/319)
وقول أُبيّ ـ رضى الله عنه ـ : " فَسُقط في نفسي من التكذيب ، ولا إذ كنت في الجاهلية" : هذا الذي وقع لأُبيّ ـ رضى الله عنه ـ نزغة من الشيطان ، ليشوِّش عليه حاله ، ويكدِّر عليه وقته ، فإنه عظم عليه من اختلاف القراءات ما ليس عظيمًا في نفسه ، وإلا فأيّ شيء يلزم من المحال والتكذيب من اختلاف القراءات ، لكن لما تولّى الله لكفايتهم أَمْرَ الشيطان لم يؤثر تزيينه وتسويله أثرًا يركنون إليه ، ولا يدومون عليه ، وإنما ذلك امتحان لسرائرهم ؛ ليبرز للوجود ماعلمه الله من ضمائرهم ، ولـ{ يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم صَدْرِي ، فَفِضْتُ عَرَقًا ، وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا فَقَالَ لِي : (( يَا أُبَيُّ ! أُرْسِلَ إِلَيَّ : أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ ، أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي ؟ ! فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ : أنْ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ : أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي ؟ ! فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ : أنْ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا . فَقُلْتُ : اللهمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي اللهمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي ، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
درجات} ، وإلا فانظر مآل هذا الواقع ماذا كان ، فإنه لما رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أصاب من ذلك الخاطر ؛ نبّهه بأن ضرب في صدره ، فأعقب ذلك بأن انشرح صدره ، وتنوّر باطنه ، حتى آل به الشرح والكشف إلى حالة المعاينة ، فلما ظهر له [قبح] ذلك الخاطر ، خاف من الله تعالى ؛ وسببه : أنه قد حصل منه التفات إلى ذلك الخاطر. وفيضه بالعرق ؛ إنما كان استحياء من الله تعالى .(3/320)
---
ومعنى : " سقط [في] نفسي " ؛ أي : اعترتني حيرة ودهشة . يقال للنادم المتحيِّر : سقط في يده ، وأسقط ؛ أي : حصل في يده منه مكروه . ومنه :
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّ النَبَّي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : إِنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ ، فَقَالَ : (( أَسْأَلُ الله مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ ، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ )) ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ مِثْلَهُ ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ قَالَ : إِنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ ولما سُقِطَ في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا }. وهذا الخاطر الذي خطر [لأُبَيّ ] هو من قبيل ما قد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا يُؤاخذُ به ، بل هو من قبيل ما قال فيه : (( ذلك محض الإيمان )) .
وقوله : (( إن الله يأمرك أن تقرأَ أُمَّتُكَ على سبع )) ؛ أي : [ لا تَزِيد] عليها ، وأي شيء قرؤوا به كفاهم وأجزأهم ؛ بدليل قوله : (( فأيّ حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا )).
وقوله : (( أسأل الله معافاته )) ؛ أي : تسهيله وتيسيره ، من عفا الأثر ؛ أي : سهل وتغيّر ، وسؤاله المغفرة : مخافةَ وقوع التقصير فيما يلزم من ذلك ،
[ والله أعلم ].
( 119 ) باب قراءة سورتين في ركعتين من النوافل
---(3/321)
402- عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ يَوْمًا بَعْدَ مَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ ، فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ ، فَأَذِنَ لَنَا . قَالَ : فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ هُنَيَّةً قَالَ : فَخَرَجَتِ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ : أَلا تَدْخُلُونَ ؟ فَدَخَلْنَا ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ فَقَالَ : مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ ؟ فَقُلْنَا : لا ، إِلا أَنَّا ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ ، قَالَ : ظَنَنْتُمْ بِآلِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ غَفْلَةً ؟ قَالَ : ثُمَّ أَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ ، فَقَالَ : يَا جَارِيَةُ ! انْظُرِي ، هَلْ طَلَعَتْ ؟
قَالَ : فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَطْلُعْ ، فَأَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ فقَالَ : يَا جَارِيَةُ ، انْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ ؟ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ قَدْ طَلَعَتْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قراءة سورتين في ركعة
قوله : " فإذا هو جالسٌ يُسبح " ؛ أي : يسبح الله ويذكره ، لا بمعنى : يتنفَّل ؛ لأن ذلك في وقت يُمنع التنفل فيه .
فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقَالَنَا يَوْمَنَا هَذَا ( قَالَ مَهْدِيٌّ وأَحْسِبُهُ قَالَ : وَلَمْ يُهْلِكْنَا بِذُنُوبِنَا ) . قَالَ : فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ كُلَّهُ . قَالَ فَقَالَ عَبْدُالله : هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ ؟ إِنَّا لَقَدْ سَمِعْنَا الْقَرَائِنَ ، وَإِنِّي لأَحْفَظُ الْقَرَائِنَ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهُنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنَ الْمُفَصَّلِ ، وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/322)
وقوله : "[ هذًّا] كهذ الشعر " : إنكاز منه على من يسرع في قراءته ، ولا يُرتل ولا يتدبَّر ، ونصب " هذًّا " على المصدر ؛ كأنه قال : أتهذّ هذًّا ؟ وهذّ الشعر : الاسترسال في إنشاده من غير تدبُّرٍ في معانيه ، ومعنى هذا : أن الشعر هو الذي إن فعل الإنسان فيه ذلك سُوِّغ له ، وأما في القرآن فلا ينبغي مثل ذلك [ فيه ] ، بل يقرأ بترتيل وقد بر ؛ ولذلك قال : (( إن قومًا يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسَخ فيه نفع )) ، والتراقي : جمع ترقوة ، وهي عظامُ أعالي الصدر ، وهو كناية عن عدم الفهم ؛ كما وصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به الخوارج ؛ إذ قال : (( لا يجاوز حناجرهم )).
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَجِيلَةَ ، يُقَالُ لَهُ : نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ ، إِلَى عَبْدِ الله ، فَقَالَ : إِنِّي أَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ. فَقَالَ عَبْدُ الله : هَذًّاكَهَذِّ الشِّعْرِ ؟ ! لَقَدْ عَلِمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْرَأُ بِهِنَّ ، سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والنظائر والقرائن هي : السّور المتقاربة في المقدار ، وقد عدّدها ثماني عشرة في رواية ، وفي أخرى عشرين ، [ ولا بُعد في ذلك ، فإنه يذكر في وقت الأقلّ من غير تعرُّضٍ للحصر ، ويزيد في وقت آخر . أو يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرن في وقت بين ثماني عشرة ، وفي أخرى بين عشرين ].
---(3/323)
وقد ذكر أبو داود هذا الحديث عن علقمة والأسود ؛ قالا : أتى ابنَ مسعودٍ رجلٌ فقال : إني أقرأ المفصل في ركعة ، فقال : أهذًّا كهذِّ الشعرِ ، ونثرًا كنثر الدَّقَل ، لكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقرأ النظائر ؛ السورتين في ركعة : الرحمن والنجم في ركعة ، واقتربت والحاقة في ركعة ، والطور والذاريات [في ركعة] ، وإذا وقعت ونون في ركعة ، وسأل سائل والنازعات في ركعة ، وويل للمطففين وعبس في ركعة ، وهل أتى ولا أقسم وَفِي أُخْرَى : فَقَالَ عَبْدُ الله : هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ ؟ إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ ، إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاةِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ، إِنِّي لأَعْلَمُ النَّظَائِرَ ... الحَدِيثْ .
وَفِي أُخْرَى قَالَ : هِيَ عِشْرُونَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ركعة ، وعمّ يتساءلون والمرسلات في ركعة ، والدخان وإذا الشمس [كوّرت] في ركعة . وقال أبو داود : " هذا تأليف ابن مسعود ".
قلت : وهذا مفسِّرٌ لرواية من روى : " ثماني عشرة ". وزاد في رواية ابن الأعرابي : " والمدثر والمزمل في ركعة " ، فكملت عشرين .
وقوله في رواية أبي داود : " ونثر كنثر الدَّقَل " ، الدَّقَل : رديء التمر . ووجه التشبيه : أنه يتناثر مُتتابعًا على غير ترتيب ، [ فشبَّه] المسرع في قراءته بذلك .
وقوله في "الأم" : " لا يصعد له عمل " ؛ أي : لا يكون له ثواب يصعد به ؛
كما قال امرؤ القيس :
على لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ
أي : ليس له منار فيُهتَدَى به .
وقوله : " إن أفضل الصلاة الركوع والسجود " : حجة لمن قال : إن كثرة
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/324)
السجود أفضل من تطويل القيام ، وقد تقدّم ذكر الخلاف في هذه المسألة.
---
واختُلف في مبدأ المفصل ، فقيل : من سورة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقيل : من سورة ق ، وسُمِّيَ بذلك ؛ لكثرة الفصل بين سوره بسطر :
{ بسم الله الرحمن الرحيم }.
وقول ابن مسعود : " الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا ولم يهلكنا بذنوبنا" ؛ خوفٌ منه للذي رأى من تبدُّل الأحوال .
( 120 ) باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها
403- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَكَانَ أَحَبَّهُمْ إِلَيَّ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَهَى عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ.
404- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا صَلاةَ بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، وَلا صَلاةَ بَعْدَ صَلاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
قوله : (( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس )) : قد تقدّم من مذهب أبي حنيفة : أنه حمل هذا اللفظ على عمومه في النوافل كلها ، والفرائض المقضيَّات ، ولم يستثن من الصلوات شيئًا. 405- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تَحَرَّوْا بِصَلاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بِقَرْنَيْ شَيْطَانٍ )).(3/325)
406- وَعَنْهُ قالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَبْرُزَ . وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَغِيبَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وخصّص الجمهور من ذلك : المقضيات ، وخصّص الشافعي : ما كان من النوافل مُعلقًا على سبب ، [ فتصلّى] لحضور سببها ؛ كتحيّة المسجد-كما تقدم- ، وسجود القرآن ، وركعتي ا لطواف ، والإحرام ، وغير ذلك .
وقوله : (( لا تحرَّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها )) ؛ أي : لا تقصدوا ذلك الوقت بصلاتكم ، وهذان الوقتان هما المقصودان بالنهي 407- وعَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْعَصْرَ بِالْمُخَمَّصِ فَقَالَ : (( إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ ، وَلا صَلاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ )) ، وَالشَّاهِدُ : النَّجْمُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنفسهما ؛ لأنهما الوقتان اللذان يسجد فيهما للشمس الكفارُ ؛ كما قال في الحديث الآخر ، وما قبل هذين الوقتين إنما نَهى عنه ؛ لأنه ذريعة ووسيلة إلى إيقاع الصلاة فيهما ، ومن هنا أجاز مالك الصلاة على الجنازة ما لم تغرب الشمس ، وكرهها [عند ذلك].
و"حاجب الشمس " : أول ما يبدو منها في الطلوع ، وهو أول ما يغيب منها ، وقد تقدم مثل ذلك .
وقوله في العصر : (( فمن حافظ عليها كان له أجره مرّتين )) : يُشعر بتأكُّدِها على غيرها ، وذلك مما يدلّ على أنها الصلاة الوسطى كما تقدم . وسُمِّيَ النجم شاهدًا ؛ لأنه يشهد بمغيب الشمس ودخول الليل .(3/326)
408- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ : ثَلاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا : حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " ثلاث ساعات كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهانا أن نصلّي فيهن ، أو أن نقبر فيهن موتانا " : رويت هذا اللفظ : " أو أن" التي هي لأحد الشيئين ، ورويته أيضًا : بالواو الجامعة ، وهو الأظهر ، ويكون مورد النهي : الصلاة على الجنائز والدفن ؛ لأنه إنما يكون إثر الصلاة عليها ، وأما [رواية ] : "أو " ؛ ففيها إشكال ، إلا إن قلنا : إن " أو" تكون بمعنى الواو ؛ كما قاله الكوفي . وقد اختلف في الصلاة عليها في هذه الأوقات المذكورة في هذا الحديث : فأجاز الشافعي الصلاة عليها ودفنها في هذه الأوقات ، وكره الجمهور الصلاة عليها حينئذٍ ، وعن مالك في ذلك خلاف يُذكر في الجنائز إن شاء الله .
409- وَعَنْ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ قَالَ : كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ - أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلالَةٍ ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ ، قَالَ : ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " حين يقوم قائم الظهيرة " ، الظهيرة : شدة الحر ، وقائمها : قائم الظل الذي لا يزيد ولا ينقص في رأي العين ، وذلك يكون منتصف النهار ، حين استواء الشمس . وقد اختلف في الصلاة في ذلك الوقت على ما يأتي في حديث عمرو بن عنبسة .(3/327)
وقوله : " حين تضيَّفُ الشمس للغروب" ؛ أي : تميل [للغروب] ، يقال : ضافت ، تضيفُ ؛ إذا مالت . وأصل الإضافة : الإسناد والإمالة ؛ كما قال الشاعر :
فلمَّا دَخَلْناه أَضَفْنا ظُهُورَنا إلى كل حاريٍّ جديدٍ مُشَطَّبِ
ومنه : ضفت فلانًا ؛ [ إذا ] نزلت به ، وأضفته : أنزلته عليَّ .
وقول عمرو بن عنبسة : " كنت في الجاهلية أظن الناس على ضلالة " ؛ أي : أعلم وأتيقن ، فإن الظن قد يطلق على اليقين ، كما قال تعالى :
---
فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا ، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي ، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُسْتَخْفِيًا ، جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيَّهِ بِمَكَّةَ ، قُلْتُ لَهُ : مَا أَنْتَ ؟ قَالَ : (( أَنَا نَبِيٌّ الله )) ، فَقُلْتُ : وَمَا نَبِيٌّ الله ؟ قَالَ : (( أَرْسَلَنِي الله )) ، فَقُلْتُ : بِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ : (( أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ ، وَأَنْ يُوَحَّدَ الله لا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ )) ، قُلْتُ : فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ : (( حُرٌّ وَعَبْدٌ )) ( قَالَ : وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ مِمَّنْ آمَنَ مَعَهُ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{فظنوا أنهم مواقعوها }.
وقوله : " قعدت على راحلتي " ؛ أي : ركبتها .
وقوله : " جُرَءَاءُ عليه قومه " ؛ أي : مجترئون - من الجرأة - ، وهو مرفوع على أنه خبر مقدم ، وقومه مبتدأ ، على مذهب البصريين .
وقوله : " من أنت ؟" سؤال عمن يعقل .
وقوله : " وما[ نبي] الله ؟" سؤال عن النبوة ، وهي من جنس ما لا يعقل ؛ لأنها معنى من المعاني .(3/328)
وقوله : " فمن معك على هذا ؟" قال : (( حرّ وعبد )) ؛ الحر : أبو بكر ، والعبد : بلال ؛ كما فسَّره . ولم يذكر له النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليًّا لصغر سنه ، فإنه ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
أسلم وهو ابن سبع سنين ، وقيل : عشر ، ولا خديجه ؛ لأنه فهم عنه أنه إنما سأله عن الرجال ، فأجابه حسب ذلك . ويُشكل هذا الحديث بحديث سعد بن أبي وقاص ، فإنه قال : " ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه ، ولقد مكثت سبعة أيام ، وإني لثلث الإسلام " ، وظاهره أن [أبا بكر وبلالاً] أسلما في اليوم الذي أسلم فيه سعد ، وأنه أقام سبعة أيام لم يسلم معهم الثلاثة أحد ، وحينئذ فيلزم أن يكون مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم جاءه عمرو بن عنبسة : أبوبكر وسعد وبلال ، لكن سكت عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ - أعني : عن سعد- ، فلم يذكره ، إما ذهولاً عنه ، وإما لأن سعدًا لم يكن حاضرًا إذ ذاك بمكة ، وإما لصارف آخر ، والله أعلم . وقد تقدم الكلام على قرني الشيطان في الإيمان ، وعلى ما تضمنه من الأوقات فيها ، وعلى تكفير الخطايا في الطهارة.
وقوله : " إني متبعك " ، معناه : أصحبك . وأكون معك في موضعك ،(3/329)
فَقُلْتُ : إِنِّي مُتَّبِعُكَ . قَالَ : (( إِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا ، أَلا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ ؟ وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ ، فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي )) قَالَ : فَذَهَبْتُ إِلَى أَهْلِي ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْمَدِينَةَ ، وَكُنْتُ فِي أَهْلِي فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّرُ الأَخْبَارَ ، وَأَسْأَلُ النَّاسَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ : مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ ؟ فَقَالُوا : النَّاسُ إِلَيْهِ سِرَاعٌ ، وَقَدْ أَرَادَقَوْمُهُ قَتْلَهُ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ ،
فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَتَعْرِفُنِي ؟ قَالَ : (( نَعَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
ولذلك أجابه بقوله : (( إنك لا تستطيع يومك هذا )) ، ولم يرد عليه إسلامه ، وإنما ردّ عليه كونه معه .
وقوله : (( فإذا سمعت أني قد ظهرت )) ؛ أي : علوت [وغلبت ] ، وهذا من إخباره بالغيب ، فهو داخل في باب دلالات نبوته ، فإنه أخبر بغيب وقع على نحو ما أخبر ، وهذا معنى قوله تعالى : { ليظهره على الدين كله } ؛ أي : [ ليعليه].(3/330)
أَنْتَ الَّذِي لَقِيتَنِي بِمَكَّةَ ؟ )) قَالَ فَقُلْتُ : بَلَى ، فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ الله ! أَخْبِرْنِي عَمَّا عَلَّمَكَ الله وَأَجْهَلُهُ ، أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلاةِ ؟ قَالَ : (( صَلِّ صَلاةَ الصُّبْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ، ثُمَّ صَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " أخبرني عن الصلاة " : سؤال عن تعيين الوقت الذي يجوز النفل فيه من الوقت الذي لا يجوز ، وإنما قُلنا لك ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَهِم [عنه] ذلك ، فأجابه به ، ولو كان سؤاله [عن] غير ذلك لما كان يكون جوابه مطابقًا للسؤال .
وقوله : (( أقصر )) ؛ أي : كف . و" تُسَجَّر " ؛ أي : تملأ ، ومنه : { البحر المسجور } ؛ أي : المملوء . واسم " إن " محذوف ، وهو ضمير الأمر والشأن . تقديره : فإنه حينئذٍ ؛ كما قال الشاعر :
إن من يدخل الكنيسة يومًا
---
تُسْجَرُ جَهَنَّمُ ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ ، حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ )). قَالَ فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ الله ، فَالْوُضُوءَ؟(3/331)
حَدِّثْنِي عَنْهُ . قَالَ : (( مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فَيَسْتنَثِرُ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ ، ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ الله إِلا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي : إنه من يدخل ، ويجوز إثباته ؛ كما قال تعالى : { إنه من يأت ربه مجرمًا }.
وقوله : (( حتى يستقل الظل بالرمح )) ؛ أي : يكون ظلُّه قليلاً ، كأنه قال : حتى يقل ظل الرمح ، والباء زائدة ؛ كما قال تعالى : { ومن ير فيه بإلحاد بظلم }. وقد رواه أبو داود ، فقال : (( حتى يعدل الرمح ظله )). قال الخطابي : هذا إذا قامت الشمس ، وتناهى قصر الظل . وقد روى الخشني لفظ "كتاب مسلم" : (( حتى يستقلّ ظل الرمح )) ؛ أي : يقوم ، ولا تظهر زيادته . وفيه حجة لمن منع الصلاة حينئذ ؛ وهم أهل الرأي ، وقد روي عن
---
خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/332)
مالك ، ومشهور مذهبه ومذهب جمهور العلماء : جواز الصلاة حينئذٍ ، وحجتهم : عمل المسلمين في جميع الأقطار على جواز التنفُّل يوم الجمعة إلى صعود الإمام على المنبر عند الزوال . قال القاضي أبو الفضل عياض : وتأوّل الجمهور الحديث : على أنه منسوخ بإجماع عمل الناس ، أو يكون المراد به : الفريضة ، ويكون موافقًا لقوله : (( إذا اشتد الحرّ فأبردوا عن الصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم )). قلت : وفي هذا نظر ، وهو : أنه لايصحّ أن يكون نسخًا على حقيقته ، وإنما هو تخصيص ، فإنه إخراج بعض ما تناوله اللفط الأول ، لا رفع لكلية ما يتناوله. وأما قولهم : إن هذا في الفريضة ، فليس بصحيح لوجهين :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدهما : أن مقصود هذا الحديث : بيان الوقت الذي يجوز فيه التنفل من الوقت الذي لا يجوز فيه ؛ كما قررناه آنفًا .
وثانيهما : حديث عقبة بن عامر المتقدم ، فإنه قال فيه : " ثلاث ساعات نهانا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نصلّي فيهن " ، وذكر هذا الوقت فيها ، ومقصوده قطعًا : بيان حكم النفل في هذه الأوقات ، فالظاهر : حمل النهي على منع التنفل في هذه الأوقات الثلاثة ؛ إلا في يوم الجمعة ؛ جمعًا بين الأحاديث والإجماع المحكي ، والله أعلم .
---
وقوله : (( خرّت خطاياه )) : رواية أكثرهم بالخاء المعجمة ؛ أي : سقطت ، وهو كناية عن مغفرة الذنوب . وعند أبي جعفر : (( جرت )) بالجيم في الأول ، وقد رويناه بالجيم في جميعها ، ومعناه صحيح ؛ كما قال : (( خرجت خطاياه مع الماء )) .
وقوله : (( وفرغ قلبه [ لله] )) ؛ أي : مما يشغله عن الصلاة ؛ كما قال :
( 121 ) باب في الركعتين بعد العصر(3/333)
410- عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ أَزْهَرَ ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالُوا : اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنَّا جَمِيعًا ، وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَقُلْ : إِنَّا أُخْبِرْنَا أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَهَى عَنْهُمَا ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَكُنْتُ أَصْرفُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَنْهُمَا ، قَالَ كُرَيْبٌ : فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا وَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي بِهِ ، فَقَالَتْ : سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا ، فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي بِهِ إِلَى عَائِشَةَ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(( لا يحدث فيها نفسه )) .
وقوله : (( إلا انصرف من خطيئته كهيئته في يوم ولدته أمه )) ؛ أي : لا يبقى عليه شيء ، لا كبيرة ولا صغيرة ؛ هذا ظاهره.وقد بينا هذا المعنى في الطهارة .
ومن باب الركعتين بعد العصر
قول : " كنت أصرف مع عمر بن الخطاب الناس عنهما " : هذه رواية
---(3/334)
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَنْهَى عَنْهُمَا ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا ، أَمَّا حِينَ صَلاهُمَا فَإِنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ ، ثُمَّ دَخَلَ عليَّوَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَصَلاهُمَا ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ فَقُلْتُ : قُومِي بِجَنْبِهِ فَقُولِي لَهُ : تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنِّي أَسْمَعُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ ، وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا ؟ فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ ، قَالَ : فَفَعَلَتِ الْجَارِيَةُ ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : (( يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، إِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالإِسْلامِ مِنْ قَوْمِهِمْ فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِبَعْدَ الظُّهْرِ ، فَهُمَاهَاتَانِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السمرقندي ، ومعناه : أمنع . ورواه أكثر الرواة : " أضرب " من الضرب ، ويحتمل أن يكون هذا مثل : " أصرف " ؛ أي : أمنع ؛ من الضرب على اليد ، ويحتمل أن يكون من الضرب بالدِّرَّة تأديبًا . وقد جاء ما يعضد هذا في "الموطأ" : أن عمر كان يضرب بالدِّرَّة على الصلاة في هذا الوقت ، وهو معلوم من فعله ـ رضى الله عنه ـ ، وإنما كان عمر يمنع من ذلك ؛ للنهي الوارد في ذلك ، وهذا القول صادر عن كريب .(3/335)
411- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ؟ فَقَالَتْ : كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ إِنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا أَوْ نَسِيَهُمَا ، فَصَلاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلاةً أَثْبَتَهَا .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما رُوي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فعله لهما على ما في حديث أم سلمة ؛ فقد ذكرت أم سلمة القضية ، وتممتها عائشة رضي الله عنها بقولها : " ثم أثبتهما ، وكان إذا صلّى صلاة أثبتها " ، وقد روى أبو داود عن عائشة 412- وَعَنْهُمَا قَالَتْ : صَلاتَانِ مَا تَرَكَهُمَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي بَيْتِي قَطُّ ، سِرًّا وَلا عَلانِيَةً : رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنها قالت : " إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُواصل [ وينهى] عن الوصال ، ويصلّي بعد العصر ، وينهى عنها " ، وهذا نصٌ جليٌ في خصوصيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ، فلا ينبغي لأحد أن يصلّي في هذه الأوقات المنهي عنها نفلاً مبتدأً .
قلت : ويظهر لي أن النهي عن الصلاة في هذا الوقت ، هو ذريعةٌ لئلا تُوقَعَ الصلاة في الوقت الذي إذا صَلَّى فيه قارن فعلُه بفعل الكفار ، ووقع التشابه بينهم ، فإذا أُمِنَتِ العّلةُ التي لأجلها نهى عن الصلاة فيه ، جاز ذلك ؛ كما فعلت عائشة رضي الله عنها ، وكما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قول من لا يرى خصوصيته بذلك ، لكن عموم المنع في الوقت كلّه أدفع للذريعة ، وأسدُّ للباب ، فيمنع مطلقًا ، والله أعلم .(3/336)
وقول عائشة في الركعتين بعد العصر : " إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما تركهما في بيتها
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قطٌ " ؛ تعني : في الوقت الذي شغل عن الركعتين بعد الظهر ، فقضاهما بعد العصر ، ثم إنه داوم عليهما ، فأخبرت هنا عن الدوام ، وإلا فقبلَ أن يفعلَ هذا لم يكن يُصليهما بعد العصر ، وبهذا يتفق الجمع [بين أحاديثها] في هذا الباب ، والله تعالى أعلم .
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى .
( 122 ) باب الركوع بعد الغروب وقبل المغرب
---
413- عَنْ مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ قَالَ : سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْعَصْرِ ؟ فَقَالَ : كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ بِالأَيْدِي عَلَى صَلاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَكُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ ، فَقُلْتُ لَهُ : أَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلاهُمَا ؟ قَالَ : كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا ، فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الركوع بعد الغروب(3/337)
ظاهر حديث أنس : أن الركعتين بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب كان أمرًا قرّر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه عليه . وأنهم علموا بذلك ، وتظافروا عليه ، حتى كانوا يبتدرون السواري لذلك . وهذا يدلُّ على الجواز وعدم الكراهية ، بل على الاستحباب لا سيّما مع قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بين كل أذانين صلاة )). وإلى جواز ذلك ذهب كثير من السلف ، وأحمد ، وإسحاق ، وروي عن أبي 414- وَعَنْهُ قَالَ : كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلاَةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ ، فَرْكَعُواَ رَكْعَتَيْنِ ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلاةَ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بكر وعمر وعثمان وعلي وجماعة من الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ : أنهم كانوا لا يصلونها ، وهو قول مالك والشافعي . وقال النخعي : هي بدعة ، وكأنه لم 415- وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ )) قَالَهَا ثَلاثًا ، قَالَ فِي الثَّالِثَةِ : (( لِمَنْ شَاءَ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ فِي الرَّابِعَةِ : (( لِمَنْ شَاءَ )).
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يبلغه حديث أنس. قال ابن أبي صفرة : وصلاتُها كان في أول الإسلام ليتبَّين للناس خروج الوقت المنهي عنه بمغيب الشمس ، ثم التزم الناس المبادرة بالمغرب ؛ لئلا يتباطأ الناس عن وقت الفضيلة للمغرب ، وقد يُقال : لأن وقتها واحد ؛ على قول أكثر العلماء ، ولا خلاف بينهم في : أن المبادرة بها وإيقاعها في أول وقتها أفضل ، وتجويز الاشتغال بغيرها في ذلك الوقت ذريعة إلى مخالفة ذلك .(3/338)
وقوله : (( بين كل أذانين صلاة )) ؛ يعني : الأذان والإقامة ، وغَلب عليهما
( 123 ) باب صلاة الخوف
416- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلاةَ الْخَوْفِ ، بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً ، وَالطَّائِفَةُ الأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا ، وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ ، مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ ، وَجَاءَ أُولَئِكَ ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثُمَّ قَضَى هَؤُلاءِ رَكْعَةً ، وَهَؤُلاءِ رَكْعَةً .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : فَإِذَا كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَلِّ رَاكِبًا أَوْ قَائِمًا ، تُومِئُ إِيمَاءً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم الأذان ؛ لأن فيهما إعلامًا بالشروع في الصلاة ، ووجه هذا الحديث : [أنه] إذا أُذِّنَ للصلاةٍ فقد خرج وقت النهي ، فتجوز الصلاة حينئذٍ ، والله تعالى أعلم .
ومن باب صلاة الخوف
قولنا : صلاة الخوف : هي الصلاة المعهودة تحضر والمسلمون مُتعرّضون لحرب [العدو] ، وقد اختلف العلماء : هل للخوف تأثير في تغيير الصلاة ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/339)
المعهودة [عن] أصل مشروعيتها المعروفة أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنه للخوف تأثير في تغيير الصلاة ، على ما يأتي تفصيل مذاهبهم . وذهب أبو يوسف إلى أنه لا تغيير في الصلاة لأجل الخوف اليوم ، وإنما كان التغيير المروي في ذلك ، والذي دل عليه القرآن ، خاصًّا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مستدلاًّ بخصوصية خطابه تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } ، قال : فإذا لم يكن فيهم لم تكن صلاة الخوف . وهذا لا حجة فيه لثلاثة أوجه :
أحدها : أنا قد أمرنا باتباعه ، والتأسِّي به ، فيلزم اتباعه مطلقًا ؛ حتى يدلّ دليل واضح على الخصوص ، ولا يصلح ما ذكره دليلاً على ذلك ، ولو كان مثل ذلك دليلاً على الخصوصية ؛ للزم قصر الخطابات على من توجهت له ، وحينئذ يلزم أن تكون الشريعة قاصرةً على من خوطب بها . لكن قد تقرر بدليل إجماعي ؛ أن حُكْمَه على الواحد حُكمه على الجماعة ، وكذلك
باب منه(3/340)
417- عَنْ جَابِرٍ قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَوْمًا مِنْ جُهَيْنَةَ . فَقَاتَلُونَا قِتَالاً شَدِيدًا ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الظُّهْرَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ : لَوْ مِلْنَا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً لاقْتَطَعْنَاهُمْ . فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَلِكَ ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قَالَ : وَقَالُوا : إِنَّهُ سَتَأْتِيهِمْ صَلاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الأَوْلادِ فَلَمَّا حَضَرَتِ الْعَصْرُ ، قَالَ : صَفَّنَا صَفَّيْنِ ، وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، قَالَ : فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَكَبَّرْنَا ، وَرَكَعَ فَرَكَعْنَا ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الأَوَّلُ ، فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي ، ثُمَّ تَأَخّرَ الصَفُّ الأَوَّلْ وَتَقَدَّمَ الصَفُّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
ما يخاطب هو به ؛ كقوله تعالى : { فإن كنت في شك } ، و{ ياأيها النبي حسبك الله } ، ونحوه كثير .
وثانيها : أنه قد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )).
الثَّانِي فَقَامُوا مَقَامَ الأَوَّلِ فَكَبَّرَ رَسُوْلُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَكَبَّرِنَّا وَرَكَعَ فَرَكَعْنَا ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَفُّ الأَوَّل ، وَقَامَ الثَّانِي ، فَلَمَّا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي ، ثُمَّ جَلَسُوا جَمِيعًا ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ . ثُمَّ خَصَّ جَابِرٌ أَنْ قَالَ : كَمَا يُصَلِّي أُمَرَاؤُكُمْ هَؤُلاءِ .
وَفِي رِوَايَةٍ . قَالَ جَابِرٌ : كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُمْ هَؤُلاءِ بِأُمَرَائِهِمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/341)
وثالثها : أن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ اطَّرحوا توهُّم الخصوص في هذه الصلاة ، وعَدَّوهُ إلى غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهم أعلم بالمقال ، وأقعد بالحال ، فلا يُلتفت إلى قول من ادعى الخصوصية .
ثم اختلف الجمهور في كيفية صلاة الخوف على أقوال كثيرة لاختلاف الأحاديث المرويه في ذلك ، فلنذكر تلك الأحاديث ، ونذكر مع كل حديث من قال به إن وجدنا ذلك إن شاء الله تعالى . فلنبدأ من ذلك بالحديث الأول : وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، ومضمونه : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا ، وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ، وصلى بهم ركعة ،
ثم سلَّم ، فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ، وبه أخذ الأوزاعي وأشهب ، وحُكي عن الشافعي . واختلفوا في تأويل قضائهم ؛ فقيل : قضوا جميعًا ، وهو تأويل ابن حبيب ، وعليه حمل قول أشهب . وقيل : قضوا مفترقين ؛
باب منه
---
418- عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ ، فَصَفَّهُمْ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ يَلُونَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ خَلْفَهُمْ رَكْعَةً ، ثُمَّ تَقَدَّمُوا ، وَتَأَخَّرَ الَّذِينَ كَانُوا قُدَّامَهُمْ ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ قَعَدَ حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مثل حديث ابن مسعود ، وهذا المنصوص لأشهب .
الحديث الثاني : حديث جابر ـ رضى الله عنه ـ ، وذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صفهم صفين خلفه - والعدو بينهم وبين القبلة - ، وصلى بهم جميعهم صلاة واحدة ، لكنه لَمَّا(3/342)
سجد معه الصف الذي يليه ، وقام الصف المؤخر [يحرسهم] ، ثم تقدموا وتأخر المقدم ، ثم عملوا بالركعة الثانية كما فعلوا في الأولى . ونحوه حديث ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ . وبهذا قال ابن أبي ليلى ، وأبو يوسف في قولٍ له : إذا 419- وَعَنْ صَالِحْ بْنِ خَوَّاتْ ، عَمنْ صَلَّىَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ ، صَلاةَ الْخَوْفِ ، أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ ، وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لأَنْفُسهُمْ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا ، وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان العدوّ في القبلة ، وروي عن الشافعي ، واختاره بعض أصحابه وأصحابنا.
---
الحديث الثالث : حديث سهل بن أبي حَثْمَة ـ رضى الله عنه ـ ؛ وهو أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى بالطائفة الأولى ركعة ، ثم ثبت قائمًا ، فأتَمُّوا لأنفسهم ، ثم انصرفوا ، وصفوا وجاه العدوّ ، وجاءت الطائفة الأخرى ، فصلى بهم ركعةً ،
ثم ثبت جالسًا حتى أتَمُّموا ، ثم سلّم بهم . ونحوه حديث صالح . وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور .
الحديث الرابع : حديث أبي سلمة عن جابر : أنه صلى أربع ركعات ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/343)
بكل طائفة ركعتين ، وهو اختيار الحسن ، وذُكر عن الشافعي ، ورواه غير مسلم من طريق أبي بكرة وجابر. وأنه سلم من كل ركعتين . قال ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطحاوي : إنما كان هذا في أول الإسلام ؛ إذ كان يجوز أن تُصلى الفريضة مرتين ، ثم نُسخ ذلك .
الحديث الخامس : رواه أبو هريرة وابن مسعود رضي الله عنهما : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى بالطائفة التي وراءه ركعة ، ثم انصرفوا ، ولم يسلموا ، فوقفوا بإزاء
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العدوّ ، وجاء الآخرون ، فصلى بهم ركعة ، ثم سلم ، فقضى هؤلاء ركعتهم ،
ثم سلموا ، وذهبوا ، فقاموا مقام أولئك ، ورجع أولئك فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا . والفرق بين هذه الرواية ورواية ابن عمر رضي الله عنهما : أن [ظاهر] قضاء أولئك في حديث ابن عمر في حالة واحدة ، ويبقى الإمام كالحارس وحده ، وها هنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم ، وقد تأوّل بعضهم حديث ابن عمر على ما في حديث ابن مسعود ، وبهذا أخذ أبوحنيفة وأصحابه ، إلا أبا يوسف ، وهو نص قول أشهب من أصحابنا ؛ خلاف ما تأوّل عليه ابن حبيب .
---
الحديث السادس : ذكره أبو داود من حديث ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كبّر وكبّر معه الصفّان جميعًا ، وفيه : أن الطائفة الثانية لَمَّا صلت معه ركعةً وسلم ؛ رجعت إلى مقام أصحابهم ، وجاءت الطائفة الأولى فصلّوا ركعة لأنفسهم ، فرجعوا إلى مقام أصحابهم ، وأتم أولئك لأنفسهم .(3/344)
الحديث السابع : ذكره أبو داود من رواية أبي هريرة : ـ رضى الله عنه ـ : أنها قامت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقابلة العدو وظهورهم إلى القبلة ، فكبّر جميعهم ، ثم صلى ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالذين [ معه ] ركعة والآخرون قيام ، ثم قام وذهبت الطائفة التي معه إلى العدو ، وأقبلت تلك فصلى بهم ركعة ، ثم أقبلت الطائفة الأولى فصلوا ركعة ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائم ، ثم صلى بهم ركعة ، ثم أقبلت الطائفة الأولى فصلت ركعة ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاعد ومن معه ، ثم سلم وسلموا جميعًا .
الحديث الثامن : من حديث عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه كبّر وكبّرت معه الطائفة التي تليه ، وصلى بهم ركعة وسجدة ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وثبت جالسًا ، وسجدوا هم السجدة التي بقيت لهم ، ثم انصرفوا القهقري ، حتى قاموا من ورائهم ، وجاءت الطائفة الأخرى فكبروا ، ثم ركعوا - يعني لأنفسهم - ، ثم سجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ - يعني سجدته التي بقيت عليه من الركعة الأولى - ، فسجدوا معه ، ثم قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأتَمُّوا هم السجدة التي بقيت عليهم ، ثم قامت الطائفتان ، فصلى بهم جميعًا ركعة كأسرع الإسراع .
---
الحديث التاسع : حديث ابن أبي حَثْمَة من رواية صالح بن خوَّات عنه : أن الطائفة الأولى لَمَّا صلّت ركعتها مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم صلّت الركعة الأخرى لنفسها ؛ سلّمت ، ثم تقدّمت ، وجاءت الأخرى . وهذا خلاف الحديث الآخر الذي ذكر فيه [آخرًا] : " ثم سلّم بهم جميعًا .(3/345)
ومن رواية القاسم في حديث ابن أبي حثمة : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلّم عند تمام
باب منه
420 - عَنْ جَابِرٍ قَالَ : أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ ، قَالَ : كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَسَيْفُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ ، فَأَخَذَ سَيْفَ نَبِيِّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَاخْتَرَطَهُ ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَتَخَافُنِي ؟ قَالَ : (( لا )) قَالَ : فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قَالَ : (( الله يَمْنَعُنِي مِنْكَ )) قَالَ : فَتَهَدَّدَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَغْمَدَ السَّيْفَ وَعَلَّقَهُ ، قَالَ فَنُودِيَ بِالصَّلاةِ ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا ، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ، قَالَ : فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ .
تم كتاب الصلاة ، والحمدلله رب العالمين ، وصلى الله على محمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صلاته الركعة الثانية بالطائفة الثانية ، وأتَموا بعد سلامه ؛ خلاف الروايات الأُخَر عن القاسم ويزيد بن رومان : أنه انتظرهم حتى قضوا ، ثم سلّم .
وقد اختلف قول مالك في الأخذ برواية القاسم ، أو برواية يزيد(3).
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/346)
وبرواية يحيى[ عن القاسم] أخذ أكثر أصحاب مالك لصحة القياس : أن القضاء إنما يكون بعد سلام الإمام . وهو اختيار أبي ثور ، واختيار الشافعي في الرواية الأخرى .
الحديث العاشر : ما رواه أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة
وابن عمر : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلّى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا ، ويؤيده حديث ابن
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عباس : " صلاة الخوف ركعة " ، وبه قال إسحاق .
ثم اختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث ؛ فمنهم من ذهب إلى أن هذه الكيفيات كلها جائزة ، وأن الإمام مُخيّر في أيّها شاء فعل ، ومِمَّن ذهب إليه : أحمد بن حنبل ، والطبري وبعض الشافعيه ؛ قالوا : وقد يجوز أن يكون ذلك في مرّات على حسب شدّة الخوف ، إلا أن أحمد اختار حديث سهل بن أبي حثمة ، وقال : كلها جائزة ، وذلك على قدر الخوف ، وكل من عيَّن من هذه الكيفيات واحدة فبحسب ترجيحٍ حصل عنده أوجب له المصير إلى ما صار إليه ؛ ولذلك قال الخطابي : صلاة الخوف أنواع [صلاّها] النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أيام مختلفة ، وأشكال متباينة ، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة ، وأبلغ في الحراسة .
وذكر ابن القصار : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاّها في عشرة مواضع ، وذكر غيره : أنه صلاّها أكثر من هذا العدد ، ففي حديث ابن أبي حثمة وأبي هريرة وجابر أنه صلاّها يوم ذات الرقاع سنة خمس من الهجرة ، وهي غزوة نخل وغطفان . ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/347)
وفي حديث [أبي عياش] : أنه صلاّها بعُسْفان ، ويوم بني سليم . وفي حديث جابر : في غزاة جهينة ، وفي غزاة محارب بنجد . وقد ذكر بعضهم صلاته إيّاها ببطن نخل على باب المدينة . وعليها حمل بعضهم صلاته بكل طائفة ركعتين . لكن مسلمًا قد ذكرها في غزوة ذات الرقاع . وذكر الدارقطني : أنه صلى بهم المغرب ثلاثًا ، ثلاثًا ، وبه قال الحسن والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا ؛ وهو : أنه يصلي بالأولى ركعتين ، وبالثانية ركعة ، وتقضي ؛ على اختلاف أصولهم فيه : متى يكون ؛ هل قبل سلام الإمام أو بعده ؟ على ما تقرر .
وقول ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ : " فإن كان خوفٌ أكثر من ذلك ؛ فصل راكبًا أو قائمًا ، تومئ إيماءً " : قال في "الموطأ" : مستقبلي القبلة وغير مستقبلها . وبهذا أخذ مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء ، ويشهد له ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى : { فإن خفتم فرجالاً أو ركبانًا }. قال بعض علمائنا : بحسب ما يتمكن منه . وقال جماعة من الصحابة والسَّلف ـ رضى الله عنهم ـ : يُصلي في الخوف ركعة ، يُومئ فيها إيماءً ، وقال الضحاك ؛ قال : " فإن لم يقدر على ركعة ؛ فتكبيرتين حيث كان وجهه " ، [ وقال ] إسحاق : إن لم يقدر على ركعة إيماءً ؛ صلي سجدة ، فإن لم يقدر فتكبيرة ، وقال الأوزاعي نحوه إذا تهيأ الفتح ، لكن إن لم يقدر على ركعة ولا على سجدة ؛ لم تجزه [التكبيرة] ، وأخّرها حتى يَأْمَنُوا . ومنع مكحول وبعض أهل الشام من صلاة الخائف جملة متى لم يتهيأ له أن يأتي بها على وجهها ، ويؤخّرها إلى أن يتمكنوا من ذلك ، واحتجّوا بتأخير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الخندق ، ولا حجة لهم [فيه] ؛ لأن صلاة الخوف إنما شرعت بعد ذلك على ما تقدم .
---(3/348)
واختلف الذين قالوا بجواز ذلك للمطلوب في تجواز ذلك للطالب ، فمالك وجماعة من أصحابه على التسوية بينهما ، وقال الشافعي والأوزاعي وفقهاة أصحاب الحديث وابن عبد الحكم : لا يصلي الطالب إلا بالأرض .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم اختلفوا فيما يباح له من العمل في الصلاة ؛ فجمهورهم على جواز كل ما يحتاج إليه في مطاردة العدو ، وما يضطر إليه [من ذلك] ؛ من مشي ونحوه ، وقال الشافعى : إنما يجوز من ذلك الشيء اليسير ، والطعنة والضربة ، فأما ما كثر فلا تجزئه الصلاة ، ونحوه عن محمد بن الحسن .
وقوله : " وجاه العدو" : بكسر الواو ، وضمِّها ؛ أي : مواجهته ، ومقابلته.
واختلف في تسمية [غزوة] ذات الرقاع : بذات الرقاع ، فقيل : سمّيت بذلك تسمية لجبل هناك ، يقال له : الرقاع ؛ لبياضٍ وحمرةٍ وسوادٍ فيه . وقيل : لأنهم لفُّوا على أرجلهم رقاعًا لَمَّا نقِبت. وقيل : لأنهم رقّعوا راياتهم ، [والله أعلم].
***************
4
كتاب الجمعة
( 1 ) باب فضل الغسل للجمعة وتأكيده ، ومن اقتصر على الوضوء أجزأه
1 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن كتاب الجمعة
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل )) ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم )) : ظاهر في وجوب غسل الجمعة ، وبه قال أهل
---(3/349)
الظاهر ، وحكي عن بعض الصحابة ، وعن الحسن ، وحكاه الخطابي عن مالك ، ومعروف مذهبه وصحيحه : أنه سنة ، وهو مذهب عامة أئمة 2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : بَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، إِذْ دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، فَعَرَّضَ بِهِ عُمَرُ ، فَقَالَ : مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ ، فَقَالَ عُثْمَانُ ! يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! مَا زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْتُ ثُمَّ أَقْبَلْتُ . فَقَالَ عُمَرُ : وَالْوُضُوءَ أَيْضًا ! أَلَمْ تَسْمَعُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفتوى ، وحملوا تلك الأحاديث على أنه واجب وجوب السنن المؤكدة ، ودلّهم على ذلك أمور :
أحدها : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أبي هريرة : (( من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت ؛ غفر له )) ، فذكر فيه الوضوء ، واقتصر عليه دون الغسل ، ورتَّب الصِّحة والثواب عليه . فدلَّ على أن الوضوء كافٍ من غير غُسل ، وأن الغسل ليس بواجب .
وثانيها : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم حين وَجد منهم الريح الكريهة : (( لو اغتسلتم ليومكم هذا )). وهذا عرضٌ وتحضيضٌ وإرشادٌ للنظافة المستحسنة ، ولا يقال مثل ذلك اللفظ في الواجب .
وثالثها : تقرير عمر والصحابة لعثمان ـ رضى الله عنهم ـ على صلاة الجمعة بالوضوء من غير غسل ، ولم يأمروه بالخروج ، ولم ينكروا عليه ، فصار ذلك كالإجماع منهم على أن الغسل ليس بشرط في صحة صلاة الجمعة ، ولا واجب .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/350)
ورابعها : ما يقطع مادة النزاع ، ويحسم كل إشكال : حديث الحسن ، عن سَمُرة قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل )) ، وهذا نصٌ في موضع الخلاف ؛ غير أن سماع 3- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( غُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ ، وَسِوَاكٌ ، وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ )).
وَفِي أُخْرَى : (( وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحسن من سمرة مختلف فيه ، وقد صح عنه أنه سمع منه حديث [العقيقة] ، فيحمل حديثه عنه على السماع إلى أن يدلّ دليلٌ على غير ذلك ، والله أعلم .
وخامسها : أنه عليه الصلاة والسلام قد قال : (( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ، وسواك ، ويمسُّ من الطيب ما قدر عليه )). وظاهر هذا وجوب السواك والطيب ، وليس كذلك بالاتفاق ، فدلّ على أن قوله : "واجب" ليس على ظاهره ، بل المراد به الندب المؤكَّد ؛ إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب في لفظ الواجب ، والله أعلم.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل )) ؛ دليل لمالك على أن الغسل إنما يجب عند الرواح متصلاً به ، كما هو مذهب مالك والأوزاعي ، وأحد قولي الليث وغيرهم ، [ وفيه نظر ].(3/351)
وقوله : (( على كل محتلم )) ، يعني به : البالغ ، وخصّ المحتلم بالذكر ؛ لأن الاحتلام أكثر [ما يبلغ] به الرجال ، وهو الأصل . وهذا كما قال في حق النساء : (( لا تقبل صلاة حائضٍ إلا بخمار )) ، يعني بالحائض : البالغ من ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
النساء ، وخصّها به ؛ لأن الحيض أغلب ما تختصّ به النساء من علامات
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البلوغ . وفيه دليل : على أن الجمعة لا تجب على صبي ولا امرأة ؛ لأنه عيّن محل وجوبها .
وقول عمر ـ رضى الله عنه ـ : " ما بال رجال يتأخرون بعد النداء " : إنكار منه على عثمان ـ رضى الله عنه ـ تأخره عن وقت وجوب السعي ، ثم عذر عثمان حين اعتذز بقوله : " ما زدت على أن توضأت " ؛ يعني : أنه ذَهَل عن الوقت ، ثم تذكره ، فإذا به قد ضاق عن الغسل ، وكان ذهوله ذلك لعذر مُسوِّغ للتأخير.
وقول عمر ـ رضى الله عنه ـ : " والوضوء أيضًا ؟!" : إنكارآخر على ترك السنة المؤكدة التي هي الغسل على جهة التغليظ ، حتى لا يتهاون بالسنن ، لا أنه كان يعتقد الغسل واجبًا ، ويجوز في والوضوء النصب والرفع ، فالرفع على أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : الوضوءُ تقتصر عليه ، والنصب على أنه مفعول بإضمار فعل تقديره : أتخصّ الوضوءَ دون الغسل ؟ أو ما في معنى ذلك ، و" الواو " عِوَضٌ من همزة الاستفهام ؛ كما قال تعالى : { قال فرعون آمنتم به } ، في قراءة ابن كثير .(3/352)
4- وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ ، مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَمِنَ الْعَوَالِي ، فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاءِ ، وَيُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ ، فيَخْرُجُ مِنْهُمُ الرِّيحُ ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ وَهُوَ عِنْدِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ((لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ولو من طيب المرأة )) : يعني بذلك : الطيب المباح للنساء ، المكروه للرجال ، وهو ما يظهر لونه ، فأباحه هنا لعدم غيره ، ويدلّ هذا على تأكد التطيب للجمعة .
---
وقول عائشة رضي الله عنها : " كان الناس ينتابون " ؛ أي : يجيئون . والانتياب : المجيء نوّبًا ، والاسم : النوب ، وأصله : ما كان من قرب ؛ كالفرسخ والفرسخين . و"الكُفاةُ " : جمع كافٍ ؛ أي : عبيد وخدم يكفونهم العمل . و"العباء" : جمع عباءة ، وهو كساء غليظ ، وقد تقدم : أن أقرب العوالي من المدينة على ثلاثة أميال أو نحوها ، وهذا ردّ على الكوفيّ الذي لا يوجبها على من كان خارج المصر ، وخالفه في ذلك الجمهور : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ؛ فقالوا : تجب الجمعة على من كان 5- وَعَنْهَا قَالَتْ : كَانَ النَّاسُ أَهْلَ عَمَلٍ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُفَاةٌ ، فَكَانُوا يَكُونُ لَهُمْ تَفَلٌ ، فَقِيلَ لَهُمْ : لَوِ اغْتَسَلْتُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خارج المصر ممن يسمع النداء ، غير أن مالكًا حدّه بثلاثة أميال ، أخذًا بحديث عائشة هذا ، وأيضًا فإنه المقدار الذي يُسمع فيه النداء من المؤذن الصيّت في الوقت الهادئ غالبًا . واختلف أصحابه : هل تعتبر الثلاثة الأميال من طرف المدينة ، أو من المنار ؟(3/353)
ولا خلاف أنها تجب على أهل المصر ، وإن عَظُم وزاد على ستة أميال ، إلا شيئًا روي عن ربيعة : أن الجمعة إنما تجب على من إذا سمع النداء وخرج ماشيًا أدرك الصلاة ، وروي عن جماعة أنها تجب على من آواه الليل إلى أهله ،
6- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( حَقٌّ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ ، يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيجيء على هذا : أنها تجب على من يكون على نصف [يومٍ] ، وهو مذهب الحكم والأوزاعي وعطاء وأبي ثور ، وذهب الزهري إلى أنها تجب على من هو من المصر على ستة أميال .
وروي عنه وعن ابن المنكدر ، وربيعة : أربعة أميال .
---
وقوله : " فيكون لهم تَفَل " : بالتاء باثنتين من فوق ، وفتح الفاء ؛ وهي الرائحة الكريهة . وفي رواية "الأم" : " فيصيبهم الغبار والعرق " ، وهو دليل : على أنهم كانوا يُهجِّرون .
وقوله : (( حقُّ الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام )) : لم يُعيّن
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في "الصحيح" يوم هذا الغسل ، وقد علّه البزاز في زيادة زادها في هذا الحديث. قال : " وهو يوم الجمعة ". وتمسك به من قال من أهل الظاهر : بأن(3/354)
7- وَعَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغسل ليوم الجمعة لا للجمعة ، ولا حجة فيه ؛ لأن الصحيح ليس فيه : " يوم الجمعة". والمفسر ظاهره أنه قول الراوي ، والله تعالى أعلم .
والصحيح أن الغسل للجمعة لإضافته إليها ، ولأن َّ معقوله المبالغة في النظافة ؛ كما فهم من حديث عائشة رضي الله عنها المتقدِّم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة )) : يعني في الصفة. والأغسال الشرعية كلها على صفة واحدة وإن اختلفت أسبابها . وهكذا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/355)
رواية الجمهور ، ووقع عند ابن ماهان : " غسل الجمعة " مكان : "غسل الجنابة". وفي "كتاب أبي داود" من حديث أوس بن أوس مرفوعًا بتشدد السين : (( من غسَّل واغتسل )) ، وذكر نحو حديث مسلم . وقد روي مخفف السين ، وروايتنا التشديد . واختُلف في معناه ، فقيل : معناه : جامَعَ ؛ يقال : غسَل وغَسَّل ؛ أي : جامَعَ . قالوا : ليكون أغضَّ لبصره في سعيه إلى الجمعة. ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل في التشديد : أوجب الغسل على غيره ، أو : حمله عليه . وقيل : غسّل للجنابة ، واغتسل للجمعة ، وقيل : غسّل رأسه ، واغتسل في بقية جسده. وقيل : غسَّل : بالغ في النظافة والدَّلْكِ ، واغتسل : صبّ الماء عليه . وأنسبُ ما في هذه الأقوال : قول من قال : حمل غيره على الغسل بالحث والترغيب والتذكير ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( ثم راح )) : والرواح في أصل اللغة : الرجوع بِعَشِيّ ، ومنه قول امرىء القيس :
ورحنا كأنَّا من جُواثَا عَشِيَّةً نُعالي النِّعاجَ بَيْنَ عِدْلٍ وَمِحْقَبِ(3/356)
وأول العشي : زوال الشمس ، وهو أوّل وقت أمرنا الله تعالى فيه بالسعي إلى الجمعة ؛ لأنه تعالى قد قال : { إذا نودِيَ للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } ، وهذا النداء هو الذي يحصل به الإعلام بدخول الوقت ، وبعده يخرج الإمام فيجلس على المنبر ، ويؤذن الأذان الثاني ، وفائدته : الإعلام بحضور [الخطبة] ، وعند هذا الأذان تطوي الملائكة صحف المبكِّرين ، ويستمعون الذكر ، كما جاء في حديث أبي هريرة ، ولذلك قال [العراقيون من](3) أصحابنا : للجمعة أذانان : عند الزوال ، وعند جلوس الإمام على المنبر . وهذه الساعات المذكورة في هذا الحديث ؛ هي ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
مراتب أوقات الرائحين إلى الجمعة ، من أول وقت الزوال إلى أن يجلس الإمام على المنبر ويؤذن الأذان الثاني ، وليست عبارة عن الساعات التعديليه التي النهار منها : اثنا عشرة ساعة ، وهذا الذي ذكرناه هو مذهب مالك ، [وخالفه] في ذلك الشافعي . وأكثر العلماء وابن حبيب من أصحابنا قالوا : هذه الساعات المذكورات في هذا الحديث هي المعروفة عند المعدِّلين ، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في الأفضل : هل البكور إليها من أوّل ساعات النهار إلى الزوال ؟ [أو الأفضل] البكور من أول الزوال إلى أن يجلس الإمام على المنبر ؟ واحتجَّ لماللث بثلاثة أوجه :(3/357)
أحدها : التمسك بلفظ : الرواح ، كما تقدم . ولئن سُلِّم أنه يُقال على المشي مطلقًا ؛ فعلى خلاف الأصل ، وهو مجاز. ولا يُعارضُ هذا بما في حديث الآخر من قوله : (( المهجِّر إلى الجمعة )) ، فيقال : إنه من المهاجرة ، وذلك قبل الزوال ؛ لأنا لا نُسلِّم أنها تختصّ بما قبل الزوال ، بل بشدَّة الحرّ وقت الهاجرة ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهو صالح لما قبل الزوال [ وما بعده]. فيبين لفظ الرواح أن المراد به ما بعد الزوال . ولا يُقال : إنّ حقيقة الساعة العرفية أنها هي المتعارفة عند المعدِّلين ؛ لأنا نمنع ذلك ونقول : بل الساعة في عرف اللغة : القطعة من الزمان غير محدود بمقدار ؛ كما قال تعالى : { ما لبثوا غير ساعة } ، وتقول العرب : جئتك ساعة كذا . فتتعيَّن بحسب ما تضاف إليه ، وليست محدودة . والأصل : التمسك بالأصل .
---
وثانيها : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول ... )) ، فالأول كالجزور ، ثم نزلهم حتى صغر مثل البيضة . وهذا السياق تفسير الحديث الأول ، فإنَّ الفاء للترتيب وعدم المهلة ، فاقتضى هذا سبقيَّة الأول ، وتعقيب الثاني ، فالأوّل هو الذي راح في الساعة الأولى ، وهو الذي شُبِّه بِمُهدي البدنة ، والثاني في الساعة الثانية ، وهو المهدي بقرة ، وبعده المهدي شاة ، وبعده دجاجة ، وبعده بيضة . فهذه الخمس المراتب هي ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أوّل الساعة السابعة إلى أن يجلس الإمام على المنبر ؛ فهي ساعات الدخول للجمعة ، لا ساعات النهار ، والله أعلم .(3/358)
وثالثها : عمل أهل المدينة المتصل بترك البكور للجمعة في أول النهار ، وسعيهم إليها قُرب خطبتها وصلاتها ، وهو نَقلٌ معلوم عندهم غير منكرٍ ، وما كان أهل عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتابعين من بعدهم ممن يترك الأفضل إلى غيره ، ويتمالأون على العمل بأقل الدرجات .
---
ورابعها : إنّا لو تنزَّلنا على أن الساعات في الحديث هي التعديلية ؛ للزم عليه انقضاء فضائل المبكِّرين للجمعة بانقضاء الخامسة ، ولا يبقى لأهل السادسة فضل ، فيلزم طيّ [الملائكة الصحف] إذ ذاك ، وهو خلاف الحديث . وبيان ذلك : أن البدنة لأهل الساعة الأولى إلى أن تنقضي ، والبقرة لأهل الساعة الثانية إلى انقضائها ، والشاة لأهل الثالثة إلى انقضائها ، والدجاجة لأهل الرابعة ، والبيضة لأهل الخامسة ، وقد فرغت ساعات البكور ، ولم يبق لأهل السادسة ثواب في سعيهم ، وهذا مناقض للحديث 8- وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ ، وَزِيَادَةُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي ذكرناه ولمعناه ؛ فإنه أخبر فيه : أن أجورهم لا تزال تكتب إلى أن يخرج الإمام ، وهو إنما يخرج في السابعة ، وحينئذ تَطْوي الملائكة الصحف ، وتستمع الذكر ، فلا تكتب للداخل إذ ذاك ثواب البكور ؛ إذ قد فرغت مراتب ثواب المبكرين ، والله أعلم .
وقوله : (( غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام )) : زيادة الثلاثة لتكمل عشرة أيام بالتضعيف ؛ حتى تكون الحسنة بعشر أمثالها ؛ كما قال تعالى : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها }.(3/359)
وقوله : (( ومن مسَّ الحصى فقد لغا )) ؛ أي : قد أتى لغوًا من الفعل أو القول . قال الهروي : تكلم بما لا يجوز له ، وقيل : لغا عن الصواب ؛ أي : مال عنه . وقال النضر بن شُمَيْل : خاب ، أَلْغَيْته : خَيَّبته . قال ابن عرفة : اللغو : الشيء المسقط ؛ أي : ا لْمُلْغي . يقال : لغا يلغو ، ولَغِيَ يَلْغَى .
وفي هذا الحديث ما يدلّ على وجوب الإقبال على استماع الخطبة ،
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والتجرُّد لذلك ، والإعراض عن كل [ما يُشغل] عنها ؛ ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الآخر : (( من قال لصاحبه أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب ؛ فقد لغا )) ، وهو حُجَّة على وجوب الإنصات للخطبة على من كان مستمعًا ، وهو مذهب الجمهور . وذُكر عن الشعبي والنخعي وبعض السلف أنه ليس بواجب إلا عند تلاوة القرآن ، وهذه الأحاديث حجَّة عليهم . واختلف الجمهور فيمن لا يسمع الخطبة : هل يلزمه الإنصات أَوْ لا ؟ فأكثرهم : على أن ذلك لازم . وقال أحمد والشافعي في أحد قوليه : إنما يلزم من يسمع ، ونحوه عن النخعي . فلو لغا الإمام ، فهل يلزم الإنصات أم لا ؟ قولان لأهل العلم ولمالك .
وقوله : (( والإمام يخطب )) ؛ حجة لعامة العلماء : على أنه إنما يجب الإنصات عند شروع الإمام في الخطبة . وذهب أبو حنيفة : إلى أنَّ الإنصات يجب بخروج الإمام .
" والبدنة " : ما يُهْدَى إلى الكعبة من الإبل ؛ لأنها تَبْدُن ؛ أي : تَسْمَن . والبدانة : السّمنُ ، وجمطم البدن.وتفريقه بين البدنة والبقرة يدل على أن البقر ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/360)
لا يقال عليها بُدنٌ ، وهو مذهب عطاء ، ومالك يرى أن البقر من البُدن . وفائدة هذا الخلاف فيمن نذر بدنة ، [ أو وجبت عليه] فلم يجد البدنة ، أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة ، فهل تجزئه أم لا ؟ فعلى مذهب عطاء : لا ، وعلى مذهب مالك : نعم . وظاهر هذا [الحديث] يدلّ على أن الأفضل في الهدايا الإبل ، ثم البقر ، ثم الغنم ، وهذا الترتيب لا خلاف فيه في الهدايا ، وإنما اختلفوا في ترتيب الأفضل في الضحايا ، فذهب الجمهور إلى أن الضحايا مثل الهدايا . وذهب مالك إلى أن الغنم أفضل ، ثم البقر ، ثم الإبل ؛ نظرًا إلى طيب لحومها ، وإلى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضحى بالغنم دائمًا . وإطلاق اسم الهدي على الدجاجة والبيضة مجاز ، قصد به تمثيل مقدار أجور المبكِّرين للجمعة ؛ لأن الهدي إنما هو من النعم ؛ كما قال تعالى : { فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة } ، وإنما أطلق اسم الهدي على هذين ؛ لمقابلته ما يُهْدَى من الإبل والبقر والغنم . وقد جاء في الرواية الأخرى : " قرَّب " مكان [" أهدى "] ، وهو لفط ينطلق على الهدي وغيره.
( 2 ) باب فضل يوم الجمعة ، والساعة التي فيه
9- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا ، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل يوم الجمعة
---(3/361)
قوله : (( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم [الجمعة] )) : خيرٌ وشرٌ : يستعملان للمفاضلة ولغيرها ، فإذا [كانتا] للمفاضلة ؛ فأصلها : أخير وأشر ؛ على وزن أفعل ، وقد نطق بأصلها ، فجاء عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( توافون يوم القيامة سبعين أمة أنتم أخيرهم )). ثم "أفعل" إن قرنت بـ" من " كانت ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نكرة ، ويستوي فيها المذكر والمؤنث ، والواحد ، والاثنان ، والجمع ، وإن لم تقرن بـ " من " لزم تعريفها بالإضافة ، أو بالألف واللام ، فإذا عرف بالألف واللام أُنِّث وثُنّي وجمع ، وإن أضيف ساغ فيه الأمران ، كما قال تعالى : { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها } ، وقال : {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة }. وأما إذا لم يكونا للمفاضلة ؛ فهما من جملة الأسماء ، كما قال تعالى : { إن ترك خيرًا } ، وقال : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا } ، وهي في هذا الحديث للمفاضلة ، غير أنها مضافة لنكرة موصوفة ، ومعناها في هذا الحديث : أن يوم الجمعة أفضل من كل يوم طلعت شمسه .(3/362)
ثم كون الجمعة أفضل الأيام لا يرجع ذلك إلى عين اليوم ؛ لأن الأيام متساوية في أنفسها ، وإنما يَفْضُل بعضها بعضًا بما يخص به من أمر زائد على نفسه . ويوم الجمعة قد خصّ من جنس العبادات بهذه الصلاة المعهودة التي يجتمع لها الناس ، وتتفق [هممهم] ودواعيهم ودعواتهم فيها ، ويكون حالهم فيها كحالهم [ في ] يوم عرفة ، فيستجاب لبعضهم في بعض ، ويغفر لبعضهم ببعض ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الجمعة حج المساكين )) ؛ أي : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
يحصل لهم فيها ما يحصل لأهل عرفة ، والله أعلم . ثم إن الملائكة يشهدونهم ، ويكتبون ثوابهم ، ولذلك سُمّي هذا اليوم : المشهود ، ثم ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يحصل فيه لقلوب العارفين من الألطاف والزيادات بحسب ما يدركونه من ذلك ، ولذلك سُمّي : بـ"يوم المزيد" ، ثم إن الله تعالى قد خصّه ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالساعة التي فيه على ما يأتي ذكرها ، ثم إن الله تعالى قد خصّه بأن أوقع فيه هذه الأمور العظيمة التي هي خلق آدم ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو أصل البشر ، ومن ولده ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأنبياء والأولياء والصالحون ، ومنها : إخراجه من الجنة الذي حصل عنده(3/363)
10- وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيْهِ ، فَهَدَانَا الله لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ، فَهَذَا يَوْمُهُمِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، هَدَانَا الله لَهُ - قَالَ : يَوْمُ الْجُمُعَةِ - فَالْيَوْمَ لَنَا ، وَغَدًا لِلْيَهُودِ ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
إظهار معرفة الله وعبادته في هذا النوع الآدمي . ومنها : توبة الله تعالى عليه التي بها ظهر لطفه تعالى ورحمته لهذا النوع الآدمي مع اجترامه ومخالفته . ومنها : موته الذي بعده وُفِّي أجره ، ووصل إلى مأمنه ، ورجع إلى المستقرّ الذي خرح منه . ومن فهم هذه المعاني ، فَهِمَ فضيلة هذا اليوم وخصوصيته بذلك ، فحافظ عليه وبادر إليه .
وقوله : (( نحن الآخرون الأولون )) ، قد فسرته الرواية الأخرى التي قال فيها : (( نحن الآخرون من أهل الدنيا ، والأولون يوم القيامة ، المقضي لهم قبل الخلائق ، وأول من يدخل الجنة )). وهنا كلّه شرف لهذه الأمة [ بشرف نبيها] ، ولأنهم خير أمة أخرجت للناس .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( وَهَذَا يَوْمُهُمِ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا الله لَهُ ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ ، فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا )) : هكذا روينا هذا اللفظ : "بيد" بفتح الباء ، وسكون الياء ، وفتح الدال . قال أبو عبيد : تكون "بيد" بمعنى غير ، وبمعنى على ، وبمعنى : من أجل ، وأنشد :(3/364)
عَمْدًا فَعَلْتُ ذاكَ بَيْدَ أنِّي أخافُ إن هَلَكْتُ لم تُرِنِّي
قال الليث : ويقال : مَيْدَ وبَيْدَ ؛ بالباء والميم ؛ بمعنى غير . قلت : ونصبه إذا كان بمعنى غير على الاستثناء ، ويمكن أن يقال : إنه بمعنى مع ، ويكون نصبه على الظرف الزماني .
و (( أُوتوا الكتاب )) : أُعطوه . و((الكتاب )) : التوراة ، ويحتمل أن يريد به التوراة والإنجيل ؛ بدليل : أنه قد ذكر بعد هذا اليهود والنصارى .
---
وقوله : (( فاختلفوا )) : يعني : في يوم الجمعة . وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لهم من فرضية يوم الجمعة ، فقالت طائفة : إن موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرهم بيوم الجمعة ، وعيَّنه لهم ، وأخبرهم بفضيلته على غيره ، فناظروه : أن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/365)
السبت أفضل . فقال الله تعالى له : " دعهم وما اختاروا لأنفسهم ". ونقلوا هذا القول . ويؤيد هذا قول نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض طرق هذا الحديث : (( وهذا يومهم الذي فُرض عليهم ، فاختلفوا فيه )). وقيل : إن الله تعالى لم يعيِّنه لهم ، وإنما أمرهم بتعظيم يوم [في] الجمعة ، [ ووكل تعيينه إلى اختيارهم] ، فاختلف اجتهادهم في تعيينه ، فعيَّنت اليهود السبت ؛ لأن الله فرغ فيه من الخلق . وعيَّنت النصارى يوم الأحد ؛ لأن الله تعالى بدأ فيه الخلق ، فألزم كل منهم ما أدّاه إليه اجتهاده ، وعيَّنه الله تعالى لهذه الأمة من غير أن يَكِلَهم لاجتهادهم ؛ فضلاً منه ونعمة. ويدلّ على صحة هذا : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه )) ؛ أي : في تعيينه : " هدانا الله له " ؛ أي : بتعيينه لنا ، لا باجتهادنا . وممَّا يؤيده : أنه لو عُيّن لهم فعاندوا فيه لما قيل : اختلفوا [فيه] ، وإنما كان ينبغي أن يقال : فخالفوا فيه وعاندوا . وممّا يؤيده أيضًا قوله في "الأم" في بعض طرقه : (( أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا )).
وقوله : (( فاليوم لنا ، وغَدٌ لليهود ، وبعد غد للنصارى )) ؛ أي : بعد إلزام
11- وَمِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ نَحْوَهُ وقَالَ : (( نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ، وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلائِقِ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( الْمَقْضِيُّ بَيْنَهُمْ )).
---
12- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً ، لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ الله خَيْرًا إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ )). وَقَالَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا ، يُزَهِّدُهَا . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : (( وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ ))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/366)
المشروعية بالتعيين [لنا] ، وبالاختيار لهم . وحقّ "غد" و"بعد" أن يكونا مرفوعين على المبتدأ ، وخبرهما في المجرورين بعدهما ، وقد قيَّدهما كذلك بعض من نعتمده . وقيدناهما أيضًا بالنصب [بناء](3) على أنهما ظرفان غير متمكنين ، والأول أولى ؛ لأنهما قد أخبر عنهما هنا ، فقد خرجا عن الظرفية. وقد جاء في رواية : (( فاليهود غدًا والنصارى بعد غدٍ )) منصوبين على الظرف ، إلا أنهما متعلقان بمحذوف تقديره : فاليهود يعظمون غدًا ، والنصارى بعد غد ، وضمّ إلى ذلك التقدير : أن ظروف الزمان لا تكون أخبارًا عن الجثث.
13- عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوْسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ : قَالَ لِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرْ : أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِثْ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلاةُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : (( إن في الجمعة ساعة )) : اختلف في تعيينها ، فذهبت طائفة من السلف : إلى أنها من بعد العصر إلى الغروب ، وقالوا : إن معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((وهو قائم يصلي )) ، أنه بمعنى : ملازم ومواظب على الدعاء . وذهب آخرون : إلى أنها ما بين خروج الإمام إلى أن تُقضى الصلاة ؛ كما في حديث أبي موسى . وذهب آخرون : إلى أنها وقت الصلاة نفسها . وقيل : من وقت الزوال إلى نحو الذراع ، وقيل : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وقيل : [هي] مخفيّة في اليوم كله ؛ كليلة القدر . قلت : وحديث أبي موسى نصٌ في موضع الخلاف ، فلا يلتفت إلى غيره ، والله أعلم .(3/367)
وقوله : (( وهي ساعة خفيفة )) ؛ أي : قصيرة غير طويلة ؛ كما قال في الرواية الأخرى : " يُزهِّدها " ؛ أي : يقللها . وهذا يدل على أنها ليست من بعد العصر إلى غروب الشمس ؛ لطول هذا الوقت .
( 3 ) باب فضل التهجير للجمعة ووقتها
14- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَفَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةَ ، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً ، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي الْكَبْشَ ، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي الدَّجَاجَةَ ، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي الْبَيْضَةَ )).
15- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ : كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل التهجير للجمعة
قد تقدم الكلام على التهجير ، وعلى كثير مما تضمنه حديث أبي هريرة .
---
وقوله : " كنا نُجمِّع مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا زالت الشمس " ، دليل للجمهور على أحمد بن حنبل وإسحاق إذ قالا : إنه يجوز أن تصلى الجمعة قبل الزوال ، وهذا الحديث مُبيِّن للأحاديث التي بعده ، ولا متمسك لأحمد وإسحاق في شيء منها مع هذا النص ، فإنها كلها محتملة ، وهو القاضي عليها ، المبيِّنُ لها .
16- وعَنْهُ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْجُمُعَةَ ، فَنَرْجِعُ وَمَا نَجِدُ لِلْحِيطَانِ فَيْئًا نَسْتَظِلُّ بِهِ .(3/368)
17- وعَنْ جَعْفَرٍ بِنْ مُحَمَدّْ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله : مَتَى كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ؟ قَالَ : كَانَ يُصَلِّي ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا .
وَفِي رِوَايَةٍ : نَوَاضِحَنَا . قَالَ حَسَنٌ بِنُ عِيَاشٍ فَقُلْتُ لِجَعْفَرٍ : فِي أَيِّ سَاعَةٍ تِلْكَ ؟ قَالَ : زَوَالَ الشَّمْسِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فنرجع وما نجد للحيطان فيئًا نستظل به " ، يعني أنه كان يفرغ من صلاة الجمعة قبل تمكن الفيء من أن تستظل به ؛ كما قال : " ثم نرجع نتتبع الفيء " ، وهذا يدل على إيقاعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياها في أول الزوال .
و "النواضح " : الإبل التي يُسْتَقَى عليها . و"نريحها " ؛ أي : نروِّحها لتستريح . قال القاضي أبو الفضل : لا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الجمعة لا تصلى إلا بعد الزوال ، إلاَّ أحمد وإسحاق . وروي عن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ في هذا أشياء لم تصح عنهم ؛ إلا ما عليه الجمهور .
[ وقد روي عن مجاهد : أنها صلاة عيد .
( 4 ) باب الإنصات للخطبة وفضله
18- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ : أَنْصِتْ ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ ، فَقَدْ لَغَوْتَ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : لَغَيْتَ ، وَهِيَ لُغَةُ أَبِي هُرَيرَةَ .
---
19- وَعَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَنِ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ ، ثُمَّ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى . وَفَضْلُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ )).
زَادَ في رواية : (( وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا )).(3/369)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : ويلزم على هذا ألاّ تنوب عن ظهر يوم الجمعة ، كظهر يوم العيد ].
( 5 ) باب الخطبة ، والقيام لها ، والجلوس بين الخطبتين ، والإشارة باليد
20- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله : أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً - في رواية : فِيهِمْ أَبُو بَكْر وَ عُمَر - فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الخطبة والقيام لها
قوله : " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب قائمًا " : هكذا سنّة الخطبة لتكون أبلغ في الإسماع ؛ كالمؤذن عند الجمهور ، إلا أن تدعوه حاجة من ضعف أو غيره. وقد حُكي عن أبي حنيفة : أنه لا يرى القيام لها مشروعًا . حكاه ابن القصار ، بل هو عنده مُباح.ثم اختلف في مشروعيته : هل هو شرط في صحة الخطبة والجمعة أم لا ؟ فذهب الشافعى إلى أنه شرطٌ[ إلا] مع العذر ، ومذهبنا : أنه ليس من شروط الصحة للخطبة ولا للجمعة ، ومن تركه أساء ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا شيء عليه. وقد روي : [ أن ] أول من خطب جالسًا معاوية لما ثقل .
---
واختُلف في الخطبة : هل هي شرط في صحة الجمعة أم لا ؟(3/370)
فكافة العلماء على أنها شرط ، وشذّ الحسنُ فرأى أن الصلاة تجزيء دونها ، وتابعه أهل الظاهر في هذا ، وحكاه ابن الماجشون عن مالك . ثم اختلف هؤلاء : هل هي فرض ، أو سنة ؟ واضطربت الروايات عن أصحابنا في ذلك ، ثم اختلفوا في الخطبة المشروعة : فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه لا يجزيء في الخطبة إلا ما وقع عليه اسم الخطبة عند العرب ، وأبو حنيفة وأبو يوسف ذهبا إلى أنه يُجزيء من ذلك تحميدةٌ ، أو تهليلة ، أو تسبيحة ، وحكاه ابن عبد الحكم عن مالك .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " العير " : الإبل التي تحمل الأطعمة والتجارة ، وهي المسماة في الرواية الأخرى بـ"سويقة "] ، وهي تصغير سوق .
وقوله : " فانفتل الناس [إليها] حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً " فيه ردّ على من يقول : إن الجمعة لا تُقام إلا على أربعين فصاعدًا ، وحُكي ذلك عن الشافعي ، وقد تمسّك بهذا الحديث طائفة من أهل العلم على أن أقل ما تنعقد به الجمعة اثنا(5) عشر ، ولا حجة فيه على ذلك ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما عَقَدَهَا ، وشرع فيها بأكثر من [هذا] العدد ، ثم عرض لهم أن تفرقوا ، ولم يبق منهم غير ذلك العدد . وقد رُوي في بعض روايات هذا الحديث : أنه بقي معه أربعون رجلاً ، والأول أصح وأشهر .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى الجملة فقد اختلف العلماء في العدد المشروط في وجوب الجمعة ، وفي العدد الذي تصح ببقائهم إذا تفرقوا عن الإمام بعد شروعه فيها على أقوال كثيرة ، [فلنرسم] فيه مسألتين :
---(3/371)
المسألة الأولى : اختلف : هل تُشترط في وجوب الجمعة عدد ؟ فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى اشتراطه ، وذهب داود إلى أنه لا يُشترط ذلك في وجوبها ، [ وتلزم ] المنفرد ، وهي ظهرُ ذلك اليوم عنده لكل أحد . قال القاضي عياض : وهو خلافُ الإجماع . واختلف المشترطون : هل هو مختصٌ بعدد محصور أم لا ؟ فعدم الحصر هو مذهب مالك ؛ فإنه لم يشترط في ذلك حدًّا محدودًا ، وإنما قال : يكونون بحيث يمكنهم الثَّواء في بلدهم ، وتتقرَّى بهم قرية . وفسّره بعض أصحابنا بنصب الأسواق فيها ؛ حكاه عياض . والمشترطون للعدد اختلفوا : فمن قائل : مئتان ، ومن قائل : خمسون ؛ قاله عمر بن عبد العزيز ، ومن قائل : أربعون ؛ قاله الشافعي ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن قائل : ثلاثون [ بيتًا ] ؛ قاله مطرف ، وعبد الملك ، عن مالك ، ومن قائل : اثنا عشر ، ومن قائل : أربعة ؛ قاله أبو حنيفة ، لكن إذا أقاموا في مصر . وقال غيره : ثلاثة ، وقيل : واحد مع الإمام . وهذه أقوال متكافئة ، وليس على شيء منها دليل ، والأصل ما صار إليه مالك من عدم التحديد ، والتمسك بفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والعمل المتصل في ذلك : بأنهم كانوا يُجمِّعون في الأمصار الكِبار ، والقرى الصغار ؛ [ كجواثا ] وغيرها .
---(3/372)
وأما المسألة الثانية : فقد اختلفوا فيما إذا كمل ما تنعقد به الجمعة ، ثم تفرقوا عن الإمام ، فقيل : إنها تجزىء وإن بقي وحده ؛ قاله أبو ثور ، وحُكي عن الشافعي . وقيل : إذا بقي معه اثنان ، وهو قول الثوري والشافعي ، وقيل : إذا بقي معه اثنا عشر رجلاً ؛ تمسُّكًا بهذا الحديث ، وحكاه أبو يعلى العبدي عن أصحاب مالك ، وبه قال إسحاق ، ثم اختلفوا في الحال التي يتفرقون عنها : فقال أبو حنيفة : إن عقد بهم ركعة أو سجدة ثم تفرقوا عنه ؛ أجزأه أن يُتمها جمعة ، وإن كان قبل ذلك استقبل ظهرًا . وقال مالك 21- وعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ؛ أَنَهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا ، فَقَالَ : انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبِيثِ يَخْطُبُ قَاعِدًا ، وَقَالَ الله تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمزني : إن كان صلّى بهم ركعة بسجدتيها أتمها جمعة ، وإلا لم تجزه ، وقال زفر : متى تفرقوا قبل الجلوس للتشهد لم تصح جمعة ، وإن جلس وتفرقوا عنه قبل السلام صحَّت ، وقال ابن القاسم وسحنون : إن تفرقوا عنه قبل سلامه لم تجزه الجمعة . وللشافعي قول ثالث : إنها لا تجزئه حتى يبقى معه أربعون رجلاً إلى تمام الصلاة . والأصحّ من هذه الأقوال ما يعضده هذا الحديث ، وهو قول إسحاق وأصحابنا ، والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوًا } : التجارة هنا : العير التي
تحمل التجارة ، واللهو : الطبل الذي كانوا يضربونه عند قدومهم ، وانفضّوا ؛ أي : تفرقوا .
22- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا ، ثُمَّ يَجْلِسُ ، ثُمَّ يَقُومُ ، قَالَ : كَمَا تَفْعَلُونَ الْيَوْمَ .(3/373)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : { وتركوك قائمًا } ؛ أي : تخطب . فهذا ذمٌّ لمن ترك الخطبة بعد الشروع فيها ، وقد استدل به على اشتراط الخطبة في الجمعة ، وفيه بُعد ، وأحسن مُتَمَسَّك فيه : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )).
وقول كعب بن عجرة : " انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدًا " : يدل على خلاف قول أبي حنيفة ؛ حيث رأى أن الخطيب إن شاء قام ، وإن شاء قعد في خطبته .
[ وحديثا ابن عمر وجابر بن سمرة بعده ] [يدلان] على مشروعية
23- وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَتْ لِلنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خُطْبَتَانِ ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، وَيُذَكِّرُ النَّاسَ .
24- وَعَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا ، ثُمَّ يَجْلِسُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا ، فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ ، فَقَدْ وَالله صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلاةٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجلوس في وسطها ، وقد اختلف في ذلك . قال القاضي أبو الفضل : اختلف أئمة الفتوى فى حكم الجلوس بين الخطبتين ؛ فذهب مالك وأبوحنيفة وأصحابهما وجمهور العلماء إلى أنه سنة ، وإن لم يجلس [فقد] أساء ، ولا شيء عليه . وقال الشافعي : هي فرض ، ومَن لم يجلسها فكأنه لم يخطب ، ولا جمعة له . وقد حُكي عن مالك نحوه ، ورأى مالك والشافعي وأبو ثور الجلوس على المنبر قبل القيام إلى الخطبة ، ومنعه أبو حنيفة ، وقد روي عن مالك ، وهو غير معروف من مذهبه .(3/374)
وقول جابر : " فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة " ظاهر هذا أنه أراد ألفي صلاة جمعة ، وهذا محال ؛ لأن هذا القدر من الْجُمع ؛ إنما يكون 25- وَعَنْه قَالَ : كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَكَانَتْ صَلاتُهُ قَصْدًا ، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا .
---
26- وَعَنْ أَبي وَائِلٍ قَالَ : خَطَبَنَا عَمَّارٌ ، فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا : يَا أَبَا الْيَقْظَانِ . لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ ؟ ! فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( إِنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ ، فَأَطِيلُوا الصَّلاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في نيف وأربعين سنة ، ولم يصلّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا المقدار من الجمع ، فيتعيّن أن يراد به الصلوات المفروضات ، [ أو ] قصد به الإغياء والتكثير ، والله أعلم .
وقوله : " كانت صلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصدًا وخطبته قصدًا " ؛ أي : متوسطة بين الطول والقصر ، ومنه : القصد من الرجال ، والقصد في المعيشة. والإكثار في الخطبة مكروة ؛ للتشدُّق والإملال للتطويل ؛ كما مضى في حديث معاذ .
وقوله : "خطبنا عمار فأبلغ وأوجز" ؛ أي : أبلغ في المعنى ، وأوجر في اللفظ ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه المسمّاة بالبلاغة والفصاحة .
وقوله : "[ فلو] كنت تنفست " ؛ أي : أطلت الكلام شيئًا ؛ يقال : نفَّس الله في عمرك ؛ أي : أطاله .(3/375)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَئِنَّة من فقهه )) : الرواية في هذا اللفظ : " مَئِنَّة " بالهمز ، والقصر ، وتشديد النون ، ووقع لبعضهم : "مائنّة " بالمدّ ، وهو غلط ، وكذلك كل تقييد خالف الأول . قال الأصمعي : سألني شعبة عن هذا الحرف ، فقلت : هو كقولك : علامة ، ومخلقةٌ ، ومَجْدرةٌ . وأنشد للراجز :
إنّ اكتحالاً بالنَّقِيِّ الأَمْلَجِ ونَظَرًا في الحاجبِ الْمُزَجَّجِ
مَئِنَّةٌ من الفعال الأعوج
وقال أبو عبيد : يعني : إن هذا مما يُستدل به على فقه الرجل .
---
[ قال أبو منصور : جعل أبو عبيد الهمزة فيه أصلية].
قال أبو الحسن بن سراج : الميم في : " مئِنَّة " أصلية ، ووزنها فَعِلة ، من مأنت إذا شعرت ، وقاله [أبوه](4) أبو مروان .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الأزهري : الميم في " مَئِنة " ميم مفعلة ، وليست بأصلية . ومعنى قول المرَّار :
فَتَهَامَسوا سِرًّا وقالوا : عَرَّسوا من غَيْر تَمْئِنَةٍ لغيرِ مُعَرَّسِ
أي : من غير تهيئةٍ ولا فكر فيه ، ويقال : أتى فلان ما مأَنْتُ مَأْنَه ، ولا شأنت شأنه ؛ أي : لم أفكر فيه ، ولم أتهيأ له .
وقوله : (( فأطيلوا الصلاة [وأقصروا] الخطبة )) : غير مخالف لقوله : " كانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا " ؛ لأن كل واحد قصد في بابه ، لكن الصلاة ينبغي أن تكون أطول من الخطبة ، مع القصد في كل واحد منهما .
وقوله : (( إن من البيان سحرً )) : البيان هنا : الإيضاح البليغ مع اللفظ المستعذب ، وفي هذا الحديث تأويلان :
أحدهما : أنه قصد به الذم ؛ لأن الإبلاغ في البيان يفعل في القلوب من الإمالة والتحريك والتطريب والتحزين ما يفعل السحر . واستدلّ متأوِّل هذا بإدخال مالك الحديث في"موطئه"في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله ،(3/376)
27- وعَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ ؛ ورَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يدَيْهِ ، فَقَالَ : قَبَّحَ الله هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنه مذهبه في تأويل الحديث .
---
وثانيهما : أنه على جهة المدح ، فإن الله تعالى قد امتن على عباده بالبيان ، حيث قال : { خلق الإنسان علمه البيان } ، وشبّهه بالسحر لميل الفلوب [إليه]. وأصل السحر : الصرف ، والبيان يصرف القلوب ويميلها إلى ما يدعو إليه .
قلت : وهذا التأويل أولى ؛ لهذه الآية وما في معناها .
وقوله : " وأشار بإصبعه المسَبِّحة " : كان ذلك والله أعلم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند التشهد في الخطبة ؛ كما كان يفعل في الصلاة .
( 6 ) باب ما يقال في الخطبة ورفع الصوت بها(3/377)
28- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ : كَانَتْ خُطْبَةُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، يَحْمَدُ الله ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ عَلا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ (( في رواية : واحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ )) حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ ، يَقُولُ : ((صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ )) وَيَقُولُ : (( بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ )) وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ : (( أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ الله ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ )) ثُمَّ يَقُولُ : (( أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ ، مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما يقال في الخطبة
كونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحمرُّ عيناه ، ويعلو صوته ، ويشتدّ غضبه [في حال خطبته ] ؛ كان هذا منه في أحوال . وهذا مُشعر بأن الواعظ حقُّه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ما يطابقه ، حتى لا يأتي بالشيء وضده ظاهر عليه ، وأما اشتداد غضبه ؛ فيحتمل أن يكون عند نهيه عن أمر خولف فيه ، أو يريد أن صفته صفة الغضبان .
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " مُنذر الجيش " هو : المخبر بجيش العدو ، والذي يخوف به .(3/378)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بُعثت أنا والساعة كهاتين )) : قيّدناه بالفتح والضم . فأما الفتح ؛ فهو على المفعول [معه] ، والرفع على أنه معطوف على التاء في بُعثت ، وفصل بينهما بـ" أنا " توكيدًا للضمير ؛ على ما هو الأحسن عند النحويين ، وقد اختار بعضهم النصب بناءً على أن التشبيه وقع بملاصقة الإصبعين واتصالهما ، واختار آخرون الرفع بناءً على أن التشبيه وقع بالتفاوت الذي بين رؤوسهما ، ويعني أن ما بين زمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقيام الساعة قريب ؛ كقرب السَّبابة من الوسطى ، وهذا أوقع ، والله أعلم .
وقد جاء [ من حديث ] سهل عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال :
وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ ، يَحْمَدُ الله وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ . ثُمَّ يَقُولُ : (( مَنْ يَهْدِهِ الله فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَخَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ الله ... )) وسَاقَ الْحَدِيثَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(([سبقتُها ] بما سبقت هذه هذه )) ؛ يعني الوسطى والسبابة .
وقوله : " أما بعد" هي كلمة تفصل مابعدها مما قبلها ، وهي حرف متضمن للشرط ، ولذلك تدخل الفاء في جوابها ، وقدَّرها النحويون بـ"مهما". و"بعد" : ظرف زمان قُطع عن الإضافة مع كونها مرادة ، فيُبني ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على الضم ، وخُصَّ [بالضم] ؛ لأنه حركة ليست [له في] حال إعرابه ، والعامل فيه ما تضمنه "أما" من معنى الشرط ، فإن معناه : مهما يكن من شيء بعد حمد الله ؛ فكذا ، والله أعلم .
---
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : { وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب} ، أنه قوله : أما بعد .(3/379)
وقوله : (( خير الْهُدي هُدي محمد )) : روي : الهدي : بضم الهاء ، وفتح الدال معنى الهداية فيهما ، وبفتح الهاء ، وسكون الدال فيهما ، وهما بمعنى واحد ؛ من الهداية ، وهي الدّلالة والإرشاد . والْهُدي في مستعمل العرف هُدَيَان : هُدى دلالة وإرشاد ، وهو الذي يضاف إلى الرسل والكتب ؛ كما قال تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } ، وفي القرآن : { هدى للمتقين } ، والْهُدي الثاني : بمعنى التأييد والعصمة من تأثير الذنوب ، والتوفيق ، وهذا هو الْهُدي الذي لا ينسب إلا لله تعالى ، وهو المراد بقوله 29- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ في مُخَاطَبَتة ضِمَادًا : (( إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَمَّا بَعْدُ ... )) ، وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } ، وحملت القدرية هذا الهدي على البيان بناءً على أصلهم الفاسد في القدر ؛ كما قدمناه في أول كتاب الإيمان ، ويردُّ عليهم قوله تعالى : { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ، ففرق بين الدلالة والهداية ، ولهذا موضعٌ يُعرف فيه ، قال أبو عبيد الهروي : الْهَدْيُ بفتح الهاء وإسكان الدال : هو الطريق ، فهًدْيُ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : طريقه ؛ كما يقال : فلان حسن الْهَدْي ؛ أي المذهب في الأمور كلها والسيرة ، ومنه : (( اهتدوا [بهدي] عمار )).
وقوله : (( شر الأمور محدثاتها )) : يعني : المحدثات التي ليس لها في الشريعة
---(3/380)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أصل يشهد لها بالصحة والجواز ، وهي المسمّاة بالبدع ؛ ولذلك حكم عليها بأن كل بدعة ضلالة . وحقيقة البدعة : ما ابتُدئ وافتُتح من غير أصل شرعي ، وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام : (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ )).
وقوله : (( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه )) ؛ أي : أقرب له من نفسه ، أو أحق بالمؤمن به منها ، ثم فسر وجهه بقوله : (( من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فعليّ وإليّ )). وبيانه : أنه إذا ترك ضياعًا أو دينًا ولم يقدر على أن يُخلِّص نفسه منه ؛ إذ لم يترك شيئًا يسدُّ به ذلك ، ثم خلّصه منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقيامه به عنه ، أو سدّ ضيعته ؛ كان أولى به من نفسه ؛ إذ قد فعل معه ما لم يفعل هو بنفسه ، والله أعلم .
وأما رواية من رواه : (( أنا أولى [بالمؤمنين] من أنفسهم )) في غير الأصل فيحتمل أن يحمل على ذلك ، ويحتمل أن يكون معناه : أنا أولى ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالمؤمنين من بعضهم لبعض ؛ كما قال تعالى : { أن اقتلوا أنفسكم } ؛ أي ليقتل بعضكم بعضًا ، في أشهر أقوال المفسرين .
والضياع : العيال ؛ قاله النضر بن شُمَيل ، وقال ابن قتيبة : هو مصدر ضاع يضيع ، ضياعًا ، ومثله : مضى يمضي ، مضاءً ، وقضى يقضي قضاءً ، أراد : من ترك عيالاً عالة وأطفالاً ، فجاء بالمصدر موضع الاسم ؛ كما تقول : ترك فقرًا ؛ أي : فقراء . والضياع - بالكسر - : جمع ضائع ؛ مثل : جائع وجياع ، وضيعة الرجل أيضًا : ما يكون منه معاشه ؛ من صناعة أو غلة ؛ قاله الأزهري . وقال شمر : ويدخل فيه : التجارة والحرفة ، يقال : ماضيعتك ؟ فتقول : كذا .
---(3/381)
قلت : وهذا الكلام إنما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين رفع ما كان قرّره من امتناعه من الصلاة على من مات وعليه دين لم يترك له وفاء ؛ كما قاله أبو هريرة : كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤتى بالميت عليه الدين ، فيسأل : (( هل ترك لدينه وفاء ؟ )) فإن قيل : إنه ترك وفاء ؛ صلى عليه ، وإن قالوا : لا ؛ قال : (( صلوا على صاحبكم )). قال : فلما فتح الله تعالى عليه الفتوح ؛ قال : (( أنا أولى بالمؤمنين
30- وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : أَنَّ رَجُلاً خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : مَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ ، قُلْ : وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أنفسهم ، من توفي فترك دينًا ، فعلي ، ومن ترك مالاً فلورثته )).
قال القاضي : وهذا مما يلزم الأئمة من الفروض في مال الله تعالى للذرية وأهل الحاجة ، والقيام بهم وقضاء ديون [محتاجيهم].
وقوله للخطيب الذي قال : " من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى " : ظاهره : أنه أنكر عليه جمع اسم الله تعالى واسم رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضمير واحد ، ويعارضه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/382)
أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطب فقال في خطبته : (( من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فإنه لا يضرّ إلا نفسه )) ، وفي حديث أنس : (( ومن يعصهما فقد غوى )) ، [وهما صحيحان] ، ويعارضه أيضًا قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } ، فجمع بين ضمير اسم الله وملائكته ، ولهذه المعارضة صرف [بعض] القُرَّاء هذا الذّم إلى أن ذلك الخطيب وقف على : "ومن يعصهما " ، وهذا تأويل لم [ تساعده ] الرواية ؛ فإن الرواية الصحيحة أنه أتى باللفظين في مساق واحد ، وأن آخر كلامه إنما هو : " فقد غوى ". ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ردّ عليه وعلّمه صواب ما أخلّ به ، فقال : (( قل : ومن يعص الله ورسوله فقد غوى )) ؛ فظهر أن ذمّه له إنما كان على الجمع بين [الاسمين] في الضمير ، وحينئذ يتوجه الإشكال ، ونتخلّص عنه من أوجه :
أحدها : أن المتكلم لا يدخل تحت خطاب نفسه إذا وجّهه لغيره ، فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بئس الخطيب أنت )) منصرف لغير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفظًا ومعنى .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ وثانيها] : أن إنكاره ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك الخطيب يحتمل أن يكون كأن هنالك من يتوهم التسوية من جمعهما في الضمير الواحد ، فمنع ذلك لأجله ، وحيث عُدِمَ ذلك جاز الإطلاق .
[ وثالثها] : أن ذلك الجمع تشريف ، ولله تعالى أن يُشرف من شاء بما شاء ، ويمنع من مثل ذلك للغير ؛ كما قد أقسم بكثير من المخلوقات ، ومنعنا من القسم بها ، فقال سبحانه وتعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي} ، وكذلك أذن لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إطلاق مثل ذلك ، ومنع منه الغير على لسان نبيه .
ورابعها : أن العمل بخبر المنع أولى لأوجه ؛ لأنه تقعيد قاعدة ،(3/383)
31- وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ : { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ ...}.
---
32- وعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أُخْتٍ لِعَمْرَةَ قَالَتْ : أَخَذْتُ { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَهُوَ يَقْرَأُ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والخبر الآخر يحتمل الخصوص ، كما قررناه ؛ ولأن لهذا الخبر ناقل ، والآخر
مُبقىٍ على الأصل ؛ فكان الأول أولى ؛ ولأنه قول والثاني فعل ؛ فكان أولى ، والله أعلم .
وقوله : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرأ على المنبر : { ونادوا يا مالك } : يحتمل : أن يكون أراد الآية وحدها ، [ أو السورة ] كلها ، ونبّه ببعضها عليها ؛ كما في يقال : قرأت : { الحمد لله }.
وفي قراءته ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه [ الآية ] وسورة { ق } دليل على صحة استحباب مالك قراءة شيء من القرآن في الخطبة ، وخص هذه الآية ، وسورة { ق } ؛ لما تضمنته من المواعظ والزجر والتحذير .
باب ركوع من دخل والإمام يخطب والتعليم في حالة الخطبة
33- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ : جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُبُ ، فَجَلَسَ ، فَقَالَ : (( يَا سُلَيْكُ ! قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا )) ثُمَّ قَالَ : (( إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ركوع من دخل والامام يخطب(3/384)
قوله لسليك : (( قم فاركع ركعتين )) ، وقوله : (( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما )) : اختلف العلماء في العمل بهذا الحديث ، فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والحسن وأبو ثور وفقهاء أصحاب الحديث إلى العمل بظاهره ، وهو أن الداخل في حال خطبة الإمام يركع ركعتين .
---
وقال الأوزاعي : إنما يركعهما من لم يركعهما في بيته ، وذهب مالك والليث وأبو حنيفة والثوري وأصحابهما وجمهور من الصحابة والتابعين ؛ إلى أنه لا يركع ، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي ، واحتج لهم بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للذي رآه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتخطى رقاب الناس في [حال] الخطبة : (( اجلس فقد آذيت )) ، وبأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإقبال على الخطبة والإصغاء لها ، والصلاة في ذلك الوقت تصرف عن ذلك ، وبالعمل المنقول المستفيض بالمدينة على أنهم كانوا 34- وَعَنْ أَبِي رِفَاعَةَ قَالَ : انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَهُوَ يَخْطُبُ قَالَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ ، لا يَدْرِي مَا دِينُهُ . قَالَ : فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ ، فَأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا ، قَالَ : فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ الله ، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يركعون في تلك الحال ، ولذلك قال ابن شهاب : خروج الإمام يقطع الصلاة ، وكلامه يقطع الكلام .(3/385)
وقد تأول أصحابنا حديث جابر تأويلات في بعضها بُعْدٌ ، وأولى معتمدِ المالكية في ترك العمل به أنه خبرٌ واحد عارضه عمل أهل المدينة خَلَفًا عن سَلَف ، من لدن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ إلى زمان مالك رحمه الله ، فيكون العمل بهذا العمل أولى ، وهذا أصل مالك رحمه الله تعالى ، وأما أبو حنيفة فترك العمل به على أصله أيضًا في ردّ أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى ، والله أعلم .
---
وذهب بعض المتأخرين من أصحاب الحديث إلى الجمع بين الأمرين ، فخيّر الداخل بين الركوع وتركه ، وهو قول من تعارض عنده الخبر والعمل.
وقول أبي رفاعة : " انتهيت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يخطب " ؛ يحتمل أن تكون تلك الخطبة للجمعة ولغيرها ؛ إذ قد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ (4) يجمع الناس لغير الجمعة ؛ عند نزول النوازل ، فيخطبهم ويعظهم .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[وقوله] : " رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه " : استلطاف في السؤال ، واستخراج [حسن] للتعليم ؛ لأنه لما أخبره بذلك تعين عليه أن يعلّمه ، وأيضًا فإن هذا الرجل الغريب الذي جاء سائلاً عن دينه ؛ هو من النوع الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن ناسًا يأتونكم من أقطار الأرض يطلبون العلم ، فاستوصوا بهم خيرًا )) ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا يأمر بشيء إلا كان أول آخذٍ به ، وإذا نهى عن شىء كان أول تاركٍ له .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/386)
وقوله : " فأقبل عليّ وترك خطبته " ، إنما فعل ذلك لتعيُّنه عليه في الحال ؛ ولخوف الفوت ؛ ولأنه لا يناقض ما كان فيه من الخطبة ، ومشيُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقربه منه في تلك الحال مبادرة لاغتنام الفرصة ، [ وإظهار الهمم ] بشأن السائل .
---
وقوله : " فأُتِيَ بكرسي حسبت قوائمه حديدًا " : هكذا صحيح الرواية ، وذكره ابن قتيبة وقال : " بكرسي خُلْبٍ " ، قال : والْخُلْب : الليف ، وهو تصحيف منه ، إنما هو : " خِلْت " ؛ كما رواه ابن أبي شيبة ، وهو بمعنى : "حسبت" ؛ الذي رواه مسلم . ووقع في نسخة ابن الحذّاء : "بكرسي خشب" ، وهو أيضًا تصحيف ، وصوابه ما قدّمناه ، وقد فسَّره حميد في كتاب ابن أبي شيبة ، فقال : أراه [كان] من عودٍ أسود فحسبه من حديد " ، قلت : وأظن [أن] هذا الكرسي هو المنبر ، ويعني [ به ](1) : أنه نقل عن موضعه المعتاد له إلى موضع السائل ، ليجلس عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : " ثم أتى خطبته فأتم آخرها " ؛ أي : لما فرغ من تعليم الرجل ؛ رجع إلى أسلوب خطبته المتقدم ، لا يقال : إن هذا الفعل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطعٌ للخطبة ؛ [لما] قررناه من أن تعليم العلم والأمر والنهي في الخطبة لا يكون قطعًا للخطبة ، والجمهور على أن الكلام في الخطبة [ للأمر ](1) يحدث لا يفسدها. وحكى الخطابي عن بعض العلماء : أن الخطيب إذا تكلم في الخطبة أعادها .
**************
( 8 ) باب ما يُقْرَأُ به في صلاة الجمعة وفي صبح يومها(3/387)
35- عَنِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ ، فَصَلَّى لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ ، فَقَرَأَ بَعْدَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } ، قَالَ : فَأَدْرَكْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ حِينَ انْصَرَفَ ، فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي السَّجْدَةِ الأُولَى ، وَفِي الآخِرَةِ { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما يقرأ في صلاة الجمعة
قراءةُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجمعة بسورتها ليذكرهم بأمرها ، ويُبيّن تأكيدها وأحكامها ، وأما قراءة سورة المنافقين فلتوبيخ من يحضرها [من المنافقين] ؛ لأنه قلّ من كان يتأخر عن الجمعة منهم ؛ إذ قد كان هدَّد على التخلف عنها بحرق البيوت على من فيها ، ولعل هذا - والله أعلم- كان في أول الأمر ، فلما عقل الناس أحكام الجمعة وحصل توبيخ المنافقين ؛ عدل [عنها]إلى[قراءة] : 36- وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ .
قَالَ : وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلاتَيْنِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/388)
{ سبح اسم ربك الأعلى } ، و{ هل أتاك حديث الغاشية } ، على ما في حديث [النعمان] بن بشر ؛ لما تضمنتاه من الوعظ والتحذير والتذكير ، وليخفف أيضًا عن الناس ؛ كما قال : (( إذا أممت الناس فاقرأ بـ{ الشمس وضحاها} ، و{سبح اسم ربك الأعلى} ، و{هل أتاك حديث الغاشية })).
[وقوله] : " إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما أيضًا في الصلاتين" : هذا يدل على أنه لا يكتفى بصلاة العيد عن صلاة الجمعة إذا [اجتمعتا] في يوم واحد ، وهو المشهوز من مذاهب العلماء ، خلافًا لمن ذهب إلى أن الجمعة تسقط يومئذ ، وإليه ذهب ابن الزبير ، وابن عباس ، 37- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَبَّي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ : {الم تَنْزِيلُ ...} السَّجْدَةِ . وَ { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ } ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال : " هي السنة " ، وذهب غيرهما إلى أنهما يُصليان ، غير أنه يُرخص لمن أتى العيد من أهل البادية في [ترك] إتيان الجمعة ، وإلى هذا ذهب عثمان ، والذي استمر عليه العمل : ما دلّ عليه ظاهر الحديث المتقدم .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسجودُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صلاة صبح الجمعة عند قراءة السجدة دليل على جواز قراءة السجدة في صلاة الفريضة ، وقد كرهه فى "المدوّنة". وعُلِّل بخوف التخليط على الناس ، وقد علل بخوف زيادة سجدة في صلاة الفرض ، وهو تعليل فاسد بشهادة هذا الحديث .
**************
( 9 ) باب ما جاء في التنفل بعد الجمعة(3/389)
38- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا صَلَّيْتُمْ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَصَلُّوا أَرْبَعًا )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( فَإِنْ عَجِل بِكَ شَيْءٌ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَرَكْعَتَيْنِ إِذَا رجِعْتَ )).
وَفِي لَفظٍ آخَر : (( مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا )).
39- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ووَصَفَ تَطَوُّعَ صَلاةِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : وَكَانَ لا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في التنفل بعد الجمعة
---
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعًا )) ؛ أي : إذا أردتم أن تصلوا نفلاً ؛ كما قال في الرواية الأخرى : (( من كان مصلّيًا بعد الجمعة فليصل أربعًا )). قال الإمام : وكل هذا إشارة إلى ترك الاقتصار على ركعتين ؛ لئلا تلتبس الجمعة بالظهر التي هي أربع على الجاهل ، أو لئلا يتطرق أهل البدع إلى صلاتها ظهرًا أربعًا ، وإلى الأخذ بظاهر هذا الحديث ذهب أبوحنيفة 40- وَعَنِ السَّائِبِ ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ قَال : صَلَّيْتُ مَعْ مُعَاوِيَةُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيْتُ ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ : لا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ ، إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلا تَصِلْهَا بِصَلاةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَلا تُوصَلَ صَلاةٌ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/390)
وإسحاق ؛ فقالا : يصلي أربعًا لا يفصل بينهن ، وروي عن جماعة من السلف أنه يصلي بعدها ركعتين ، ثم أربعًا ، وهو مذهب الثوري وأبي يوسف ، لكن استحب أبو يوسف تقديم الأربع على الاثنتين ، واستحب الشافعي التنفل بعدها ، وأن الأكثر أفضل . وأخذ مالك برواية ابن عمر رضي الله عنهما : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي في بيته ركعتين ، وجعله في الإمام [ أشدّ ] ووسع لغيره في الركوع في المسجد ، مع استحبابه ألاّ يفعلوا ، [قاله](6) عياض .
والمقصورة : موضع من المسجد ، تُقصر على الملوك والأمراء ، وأول من عمل ذلك معاوية لما ضربه الخارجي(7) ، واستمر العمل عليها لهذه العلة تحصينًا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
للأمراء ، فإن كان اتخادها لغير تلك العلة فلا يجوز ، ولا يُصَلَّى فيها ؛ لتفريقها الصفوف ، وحيلولتها بين الإمام وبين المصلين خلفه ، [مع تمكنهم] من مشاهدة أفعاله .
وقد [أجاز اتخادها] بعض المتأخرين لغير التحصين ، وفيه بُعْدٌ . واختلف في الصلاة فيها ، فأجازه أكثر السلف وصلوا فيها ؛ منهم : الحسن والقاسم بن محمد وسالم وغيرهم ، وأباه آخرون وكرهوه ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج عنها إلى المسجد ، وهو قول الشافعي وأحمد واسحاق ، غير أن إسحاق قال : فإن صلى أجزأته ، وقيل : هذا إذا كانت مباحة ، فإن كانت محجورة إلا على آحاد ؛ لم تجز فيها الجمعة ؛ لأنها بتحجيرها خرجت عن حكم
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجامع المشترط في الجمعة .(3/391)
وقوله : " ألاّ توصل بصلاة " ، هكذا إحدى الروايتين ، وقد روي : " ألا [نُوصَل] صلاةً " ، فالأولى : " توصل "- بالتاء - : مبني لما لم يُسَمّ فاعله ، وفيه ضمير هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، و"بصلاة" متعلق به . فعلى هذه يكون النهي مخصوصًا بالجمعة لفظًا . والرواية الأخرى : " نُوصل" ، - بالنون- : مبني للفاعل ، و" صلاة " مفعول ، وهذا اللفط يعم جميع الصلوات .
ومقصود هذا الحديث منع ما يؤدي إلى الزيادة على الصلوات المحدودات ، والله أعلم .
************
( 10 ) باب التغليظ في ترك الجمعة
41- عَنْ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ : (( لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التغليظ في ترك الجمعة
---
قوله : (( لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجمعات )) ؛ أي : تركهم . قال شمر : زعمت النحوية : أن العرب أماتوا مصدره وماضيه ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفصح العرب.[قلت] : وقد قرأ ابن أبي عبلة : { ما ودعك ربك وما قلى} مخفَّفًا ؛ أي : ما تركك ، والأكثر في الكلام ما ذكره شمر عن النحويين .
وقوله : (( أو ليختمنّ الله على قلوبهم ، ثم ليكونُن من الغافلين )) : حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها .
والختم : الطبع ، وأصله من : ختمت الكتاب ؛ إذا طبعته بطابعه ، وهو
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/392)
في الحقيقة عبارة عما يخلقه الله تعالى في قلوبهم من الجهل والجفاء والقسوة ، وهذا مذهب أهل السنة ، وقال غيرهم من أهل الأهواء : هو الشهادة عليهم بما فيها ، وقيل عن بعضهم : هو عَلَمٌ جعله الله تعالى في قلوبهم لتعرف الملائكة فرق ما بين من يجب مدحه ممن يجب ذمُّه.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجمهور الأئمة على أنها فرض من فروض الأعيان . وروي عن بعض الشافعية : أنها من فروض الكفاية . وقد نَقَل عن مالك من لم يُحقق أنها سنة ، وتوّهم على مالك أنه يقول : إنها من قبيل المندوب المتأكد ، وليس بصحيح من مذهبه ، ولا من مذاهب أصحابه ، لكن روى ابن وهب عنه لفظًا غلط في تأويله بعض المتأولين ، وذلك : أنّ ابن وهب روى عن مالك في القرى المتصلة البيوت وفيها جماعة من المسلمين ، قال : ينبغي لهم أن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
يجمِّعوا ، إذا كان إمامهم يأمرهم أن يجمعوا وليأمِّروا رجلاً فيجمِّع بهم ؛ لأن الجمعة سنة ، هذا نص كلامه ، وظاهره : أن التجميع على هذه الحالة من سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أي : من طريقته التي كان يسلكها ، والله أعلم .
*************
أبواب صلاة العيدين
باب الخروج إلى المصلى في العيدين وخروج النساء(3/393)
1- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الأَضْحَى ، فَيَبْدَأُ بِالصَّلاةِ ، فَإِذَا صَلَّى صَلاَتْهُ وَسَلَّمَ ، قَامَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي مُصَلاهُمْ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِبَعْثٍ ذَكَرَهُ لِلنَّاسِ ، أَوْ كَانَتْلَهُ حَاجَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِهَا. وَكَانَ يَقُولُ : (( تَصَدَّقُوا ، تَصَدَّقُوا ، تَصَدَّقُوا )) ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ . فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ ، حَتَّى كَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَخَرَجْتُ مُخَاصِرًا مَرْوَانَ ، حَتَّى أَتَيْنَا الْمُصَلَّى ، فَإِذَا كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ قَدْ بَنَى مِنْبَرًا مِنْ طِينٍ وَلَبِنٍ ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُنَازِعُنِييَدَهُ ، كَأَنَّهُ يَجُرُّنِي نَحْوَ الْمِنْبَرِ ، وَأَنَا أَجُرُّهُ نَحْوَ الصَّلاةِ ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْهُ . قُلْتُ : أَيْنَ الابْتِدَاءُ بِالصَّلاةِ ؟ فَقَالَ : لا ، يَا أَبَا سَعِيدٍ ! قَدْ تُرِكَ مَا تَعْلَمُ . قُلْتُ : كَلا ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! لا تَأْتُونَ بِخَيْرٍ مِمَّا أَعْلَمُ - ثَلاثَ مِرَارٍ - ثُمَّ انْصَرَفَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[ومن] أبواب العيدين
سُمِّي العيد عيدًا ؛ لعوده [وتكرره] في كل سنة ، وقيل : لعوده بالفرح والسرور ، وقيل : يُسمّي بذلك على جهة التفاؤل ؛ لأنه يعود على من أدركه.
---(3/394)
2- وعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالأَضْحَى ، الْعَوَاتِقَوَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاةَ ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِحْدَانَا لا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ . قَالَ : لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف في حكم صلاة العيدين ، فالجمهور على أنها سنة ، وعن أبي حنيفة : أنها واجبة . وقال ا لأصمعي : إنها فرض .
وقوله : " مخاصرًا مروان " ؛ أي : محاذيًا له ، وأصله من الخصر ، وكأنه حاذى خاصرته .
وقوله : "ينازعني يده" ؛ أي : يجاذبني ، وكلاًّ بمعنى : "لا" ؛ كما قال الشاعر :
فقالوا قد بَكَيَْت فَقُلتُ كَلاَّ
أي : لا . وقد تقدم ذكر أول من قدم الخطبة على الصلاة في الإيمان .
وقول أم عطية : " أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نخرجهن " ؛ تعني : النساء ،
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَتْ : الْحُيَّضُ يَخْرُجْنَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ ، يُكَبِّرْنَ مَعَ النَّاسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والضمير عائدًا على نساء جرى ذكرهن ، وقد أبدلت من ضميرهن [بقولها] : " العواتق والحيَّض وذوات الخدور ". ولا يصح أن يُستدل بهذا الأمر على وجوب صلاة العيدين والخروج إليهما ؛ لأن هذا الأمر إنما توجه لمن ليس بمكلف بالصلاة باتفاق ؛ كالحيَّض ، وإنما مقصود هذا ا لأمر تدريب الأصاغر على الصلاة ، وشهود دعوة المسلمين ، ومشاركتهن في الثواب والخير ، وإظهار جمال الدين .
والعاتق : الجارية حين تدرك . قال ابن السِّكِّيت : العاتق : فيما بين أن تدرك إلى أن تُعَنِّس ما لم تتزوج . وا لخدور : البيوت ، وأصله : الهودج ، ويعني به : المخبئات .
---(3/395)
وهذا الحديث حجة على خروج النساء في العيدين ، وهو مذهب جماعة من السلف ؛ منهم : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وابن عمر ، وغيرهم ، ومنهم من منعهن من ذلك جملة ؛ منهم : عروة ، والقاسم ، ومنهم من منع الشابة دون غيرها ؛ منهم : عروة ، والقاسم في قول آخر ، ويحيى بن سعيد ، وهو مذهب مالك وأبي يوسف ، واختلف قول أبي حنيفة في ذلك بالإجازة والمنع ، وكان مستند المانع : ما أحدثه النساء من التبرج والزينة الظاهرة .
وقوله : " فأما الحيَّض فيعتزلن الصلاة " ؛ أي : موضع الصلاة ؛ كما قال في الرواية الأخرى : فيكنّ خلف الناس . وهذا تنزيه للصلاة [وللمصلين] من اختلاط النساء بهنّ ، ولئلا تظهر مخالفة من لا يصلّي بمن يصلّي .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " الجلباب " : ا لإزار ، وجمعه : جلابيب ، وقيل : هي المقنعة ، وقيل : هو كالملاءة والملحفة ، وقيل : الخمار .[وظاهر قوله : (( لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا ))] : يعني : لتُعِرْها من ثيابها ، وقيل : هو على المبالغة ؛ يعني : أنه تخرج اثنتان في لحاف واحد .
وقوله : "[يكبرن] مع الناس " ؛ يعني : [ إذا كبروا ].
والتكبير في العيد له أربعة مواطن : في الخروج إلى المصلى إلى حين يخرج الإمام للصلاة ، والتكبير في الصلاة ، والتكبير في الخطبة بتكبير الإمام ، والتكبير أيام التشريق خلف الصلوات ، على الخلاف في هذه الجملة ، وسيأتي ذكر بعضه .
*************
( 2 ) باب لا صلاة قبل صلاة العيدين في المصلى ولا أذان ولا إقامة
---(3/396)
3- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَرَجَ يَوْمَ أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهمَا وَلا بَعْدَهَما ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلالٌ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَتُلْقِي سِخَابَهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب لا صلاة قبل صلاة العيدين ولا بعدهما
خروج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المصلى دليل على أن مشروعية صلاة العيدين الخروج إلى المصلى ، وهو الذي عمل عليه الناس . وحكمه إظهار جمال الإسلام ، والمباهاة ، والغلظة على الكفار ، [ وتستوي ] في ذلك البلاد كلها مع التمكن ، إلا مكة ، فإنه لا يخرج منها في العيدين لخصوصية ملاحظة البيت.
وقوله : " فأمر النساء بالصدقة " ؛ أي : نَدبَهن إليها وحضّهن عليها .
و "الخُرص " : حلقة تعلّق في الأذن ، و" الفتخة " : ما يلبس في أصابع اليد ، وجمعها : فَتَخَات ، وفَتَخٌ ؛ [ قاله](3) ابن السِّكِّيت ، وقال الأصمعي : هي خواتيم لا فصوص لها ، وتجمع أيضًا : فِتَاخٌ . وقال عبدالرزاق : الفتخ : الخواتيم العظام كانت تصنع في الجاهلية(4). و" السِّخَاب " : خيط فيه خرز ،
4- وَعَنْ عَطَاء ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيِّ قَالا : لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلا يَوْمَ الأَضْحَى . ثُمَّ سَأَلْتُهُ بَعْدَ حِينٍ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَنِي عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيُّ : أَنْ لا أَذَانَ لِلصَّلاةِ يَوْمَ الْفِطْرِ حِينَ يَخْرُجُ الإِمَامُ ، وَلا بَعْدَ مَا يَخْرُجُ ، وَلا إِقَامَةَ ، وَلا نِدَاءَ ، وَلا شَيْءَ . لا نِدَاءَ يَوْمَئِذٍ وَلا إِقَامَةَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/397)
وجمعه : سُخُبٌ ؛ مثل : كتاب وكتب . وقال البخاري : " هي قلاد من طيبٍ أو مسكٍ " ، غيره : أو قرنفل ، ليس فيه من الجوهر شيء . و"الأقرطة" : جمع قرط ، وقيل : صوابه : قرطة ، وأقراط ، وقرّاط وقروط ، وقيل : لا يبعد أن يكون جمع قراط . قال ابن دريد : كل ما علق من شحمة الأذن فهو : قرط ، كان من ذهب أو خرز .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصلّ قبلهما ولا بعدهما حجة لمالك وجماعة من السلف على الشافعي وجماعة ؛ حيث أجازوا الصلاة قبلهما وبعدهما ، وعلى الكوفيين والأوزاعي ؛ حيث أجازوا الصلاة بعدهما ومنعوها قبلهما ، لكن
5 - وَعَنْ جَابْر بْنِ سَمُرَةَ قالَ : صَلِّيْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْعِيدَيْنِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خصّ مالك المنع بما إذا صُليا خارج المصر أخذًا بموجب فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يؤذن لهما ، ولم يُقِم دليل على أن ذلك ليس مشروعًا فيهما ، ولا في غير الفرائض من السنن الراتبة ، وهذا المعلوم من عمل [الناس] بالمدينة وغيرها ، وروي : أن معاوية أحدث الأذان لهما ، وقيل : زياد ، وهو الأشبة ، وهذا الحديث وغيره يرد على من أخذ بذلك .
************
باب الصلاة فيهما قبل الخطبة
---(3/398)
6- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : شَهِدْتُ صَلاةَ الْفِطْرِ مَعَ النَبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، ثُمَّ يَخْطُبُ ، قَالَ : فَنَزَلَ نَبِيّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى جَاءَ النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلالٌ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِالله شَيْئًا ...} ، فَتَلا هَذِهِ الآيَةَ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا ، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْهَا : (( أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكِ ؟ )) فَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ، لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا مِنْهُنَّ : نَعَمْ ، يَا نَبِيَّ الله . لا يُدْرَى حِينَئِذٍ مَنْ هِيَ . قَالَ : (( فَتَصَدَّقْنَ )) فَبَسَطَ بِلالٌ ثَوْبَهُ ، ثُمَّ قَالَ : هَلُمَّ ، فِدًى لَكُنَّ أَبِي وَأُمِّي ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِمَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تقديم الصلاة على الخطبة
قد قدّمنا دكر من قدّم الخطبة على الصلاة ، وهذا الحديث وما في معناه ،
ونقل أهل المدينة المتصل [ يردان ] على من قدم الخطبة على الصلاة فيهما ، ولا قائل به اليوم من فقهاء الإسلام .
7- وَعَنْهُ قَالَ : أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، قَالَ : ثُمَّ خَطَبَ ، فَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ ، قَالَ : فَأَتَاهُنَّ ، فَذَكَّرَهُنَّ ، وَوَعَظَهُنَّ ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ ، وَبِلالٌ قَائِلٌ بِثَوْبِهِ ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْخَاتَمَ وَالْخُرْصَ وَالشَّيْءَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/399)
---
وقوله : " يُجَلِّسُ الرجال بيده " ، يعني : يشير عليهم بالجلوس ، وكأنهم ظنوا أنه قد كمّل الخطبة .
وأما نزوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى النساء ؛ فذلك ليسمعهن ، وقيل : هذا خاصًّا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا يجوز للإمام اليوم قطع الخطبة ووغظ من بَعُد عنه . ويظهر أن دعوى خصوصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك فيه بعد ؛ لعدم البيان ، وإنما يحمل هذا - والله أعلم- على أنه لم يقطع الخطبة ، ولم يتركها تركًا فاحشًا ، وإنما كان ذلك كله قريبًا ؛ [ إذ ] لم يكن المسجد كبيرًا ، ولا صفوف النساء بعيدة ، ولا محجوبة ، والله أعلم .
وفيه من الفقه : هبة المرأة اليسير من مالها بغير إذن زوجها ، ولا يقال في هبة المرأة هذا : إن أزواجهن كانوا حُضُورًا ؛ لأن ذلك لم ينقل ، ولو نُقل ذلك فلم ينقل تسليم أزواجهن في ذلك ، ومن ثبت له حق فالأصل بقاؤه حتى يُصرِّح بإسقاطه ، ولم يصرَّح القوم ولا نُقل ذلك ، فصحّ ما قلناه .
وقوله : " فقامت امرأة واحدة " إلى قوله : " ولا يُدرى حيئنذ من هي؟"
8- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ النَّبِيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ، كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هكذا عند جميع الرواة ، غير أن بعضهم يقول : " لا يدري حَسَنٌ من هي ؟" ، وكذا ذكره البخاري ، ويعني به : الحسن بن مسلم راوي الحديث عن طاووس في كتاب مسلم وغيره ، ولعل قولهم "حينئذ" تصحيفُ "[حسن]" ؛ قاله الإمام ، وقال القاضي عياض : هو تصحيف بلا شك .
***********
( 4 ) باب ما يقال في الخطبة
---(3/400)
9- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ : شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصَّلاةَ يَوْمَ الْعِيدِ ، - وَفِي رِوَايَةٍ : يَوْم الْفِطْر- فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلالٍ ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى الله ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ ، وَقَالَ : (( تَصَدَّقْنَ ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ ، سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ ، فَقَالَتْ : لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : (( لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ )). قَالَ : فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ ، يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قُلْتُ لِعَطَاءَ : زَكَاةُ الفِطْرِ ؟ قَالَ : لاَ وَلَكِنْ صَدَقَةً يَتَصَدَّقْنَّ بِهَا حِيْنَئِذٍ . تُلْقِيْ الَمَرْأَةُ فَتَخَهَا ، وَيُلْقِيْنَ وَيُلْقِيْنَ . قُلْتُ لِعَطَاءَ : أَحَقًْا عَلَىَ الإِمَامِ الآنَ أَنْ يَأْتِيَ النِسْاءَ حِيْنَيفرَغَ فَيُذَكِّرْهُنَّ ؟ لَعَمْرِيْ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌ عَلِيْهِم ، وَمَا لَهُمْ الآنَ لاَيَفْعَلُوْنَ ذَلِكَ ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله في "الأم" : " فقالت امرأة من سِطة [النساء]" ؛ أي : من خيار النساء ، يقال : فلان من أوسط قومه ، وواسطة قومه ، ووسيط قومه ، وقد ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/401)
وَسَطَ وساطة ، وسِطةً . قال القاضي : كذا وقع هذا الحرف عند عامة شيوخنا ، وسائر الرواة ، إلا فيما أتى به الخشني والطبري ، فإنهما ضبطاه : " واسطة " ، وهو قريب من التفسير الأول ، لكن حذّاق شيوخنا زعموا : أن هذا الحرف مغيَّر في كتاب مسلم ، وأن صوابه : " من سفلة النساء " ، ويؤيِّده : قول من رواه : " ليست من عِلْيَةِ النساء " ،
ويعضده أيضًا قوله بعد : " سفعاء الْخَدَّين" ، والسُّفعة : شُحوب بسواد .
وقوله : " تكثرن الشكاة " ؛ يعني : التشكي با لأزواج ؛ أي : يكتمن الإحسان ، ويظهرن التشكِّي كثيرًا ، و"العشير" : الزوج ، وهو معدول عن اسم الفاعل للمبالغة ؛ من المعاشرة والعشرةَ : وهي الخلطة ، قال الخليل : يقال : هذا عشيرك ، وشعيرك ، على القلب .
************
( 5 ) باب مايقرأ به في صلاة العيدين
10- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ؛ أَنَهُ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ : مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي الأَضْحَى وَالْفِطْرِ ؟ فَقَالَ : كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِـ{ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } ، و{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سؤال عمر ـ رضى الله عنه ـ أبا واقد عما صلى به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العيدين : يحتمل أن يكون اختبارًا لحفظ أبي واقد ، ويحتمل أن يكون استشهد به على من نازعه في ذلك ، ويجوز أن يكون نَسي فاستذكر بسؤاله .
وتخصيص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاة العيدين بقراءة تينك السورتين ؛ لما تضمنتاه من المعاني المناسبة لأحوال الخارجين إلى العيد ، واجتماعهم ، وصدورهم ؛ فإنها تذكر بأحوال الآخرة منزلة منزلة ، وفيه دليل على سنة الجهر بالقراءة فيهما ، ولا خلاف فيه .
**********
( 6 ) باب الفرح واللعب في أيام الأعياد
---(3/402)
11- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ ، تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ . قَالَتْ : وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يَا أَبَا بَكْرٍ ! إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا ، وَهَذَا عِيدُنَا )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( تَلْعَبَانِ بِدُفٍّ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الفرح واللعب في أيام الأعياد
قول عائشة رضي الله عنها : " وعندي جاريتان من تجواري الأنصار " : الجارية في النساء كالغلام في الرجال ، وهما يقالان على من دون البلوغ منهما ؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها عن نفسها : " فاقدروا قدر الجارية العَرِبة " ؛ أي : الصغيرة ، والعَرِبة : المحبّبة إلى زوجها ، وقيل : الغَنِجة ، وقيل : المشتهية للَّعب ؛ كما قال في الرواية الأخرى : " الحريصة على اللهو " بدل : " العَرِبة ".
[وقولها] : " تغنيان" ؛ أي : ترفعان أصواتهما بإنشاد العرب ، وهو المسمَّى عندهم بالنصب ، وهو إنشاد بصوت رقيق فيه تمطيط ، وهو يجري مجرى الحداء .(3/403)
وَفِي أُخْرَى : وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ. فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ ، فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْهُ ، فَقَالَ : (( دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ )) وَقَالَتْ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، وَأَنَا جَارِيَةٌ ، فَاقْدِرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْعَرِبَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ . وفي أخرى : الحَرِيصَةِ عَلَى اللهوِ .
وَفِي أُخْرَى : يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ في مَسْجِدِ رَسُوْلِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[وقولها] : " بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث " : هو بالباء المعجمة بواحدة من أسفل(3) ، والعين المهملة ، كذا(4) رويناه وهو المعروف ، وقاله أبو عبيد : بالغين المعجمة ، وكان يومًا من أيام الحروب المعروفة بين الأوس والخزرج ، كان الظهور فيه [للأوس](5) على الخزرج .(3/404)
[وقولها](2) : " وليستا بمغنيتين " ؛ أي : ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك ، وهذا منها تحرّز من الغناء المعتاد عند المشتهرين به ، الذي يُحرِّك النفوس ، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون ؛ الذي يحرِّك الساكن ويبعث الكامن . وهذا النوع إذا كان في شعرٍ يشبّب فيه بذكر النساء ، ووصف محاسنهن ، وذكر الخمور والمحرمات ؛ لا يختلف في تحريمه ؛ لأنه اللهو واللعب المذموم بالاتفاق ، فأما ما(6) يسلم من تلك المحرمات ، فيجوز القليل منه في(7) أوقات الفرح ؛ كالعرس والعيد ، وعند(8) التنشيط 12- وَعَنْهَا قَالَتْ : كَانَ يَوْمَ عِيدٍ ، يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ ، فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَإِمَّا قَالَ : تَشْتَهِينَ تَنْظُرِيْنَ ؟ فَقَالَتْ : نَعَمْ ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ : (( دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ )) حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ : (( حَسْبُكِ ؟ )) قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : (( فَاذْهَبِي )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على الأعمال الشاقة ، ويدل على جواز هذا النوع هذا الحديث وما في معناه ، على ما يأتي في أبوابه ؛ مثل ما جاء في الوليمة ، وفي حفر الخندق ، وفي
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدو الحبشة ، وسلمة بن الأكوع.
---(3/405)
فأما ما أبتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على [سماع] المغاني بالآلات المطربة ؛ فمن قبيل ما لا يُختلف في تحريمه ، لكن النفوس الشهوانية والأغراض الشيطانية قد غلبت على كثير ممن نُسِب إلى الخير وشُهر بذكره ، حتى عموا عن تحريم ذلك وعن فحشه ؛ حتى قد ظهرت من كثير منهم [عوارات] الْمُجَّان والمجانين ، والصبيان ، فيرقصون ويزقنون بحركات [متطابقة] ، وتقطيعات متلاحقة ؛ كما يفعل أهل السَّفَه والمجون ، وقد انتهى التواقح بأقوام منهم إلى أن يقولوا : إن تلك الأمور من [أبواب] ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القرب وصالحات الأعمال ، وأن ذلك يُثمر صفاء [القلوب] وسنِيَّات الأحوال ، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة ، وقول أهل البطالة والْمَخْرَقَة ، نعوذ بالله من البدع والفتن ، ونسأله التوبة والمشي على السنن.
وقول أبي بكر : "[ أبمزمور] الشيطان؟" : إنكار منه لما سمع ، مستصحبًا لما كان تقرر عنده من تحريم اللهو والغناء جملة ؛ حتى ظن أن هذا من قبيل ما يُنكر ، فبادر إلى ذلك ، قيامًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك على ما ظهر له ، وكأنه ما كان تبيَّن له أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قررهن على ذلك بعد ، وعند ذلك قال [له] النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دعهما )) ، ثم علل الإباحة : بأنه يوم عيد ؛ يعني أنه يوم سرور وفرح شرعي ، فلا ينكر فيه مثل هذا .
و " المزمور " : الصوت ، ونسبته إلى الشيطان ؛ ذمٌّ على ما ظهر لأبي بكر ـ رضى الله عنه ـ .
قال الإمام : فأما الغناء بآلة مُطربةٍ فيُمنع ، وبغير آلة اختلف الناس فيه ، فمنعه أبو حنيفة ، وكرهه الشافعي ومالك ، وحكى أصحابُ الشافعي عن
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/406)
مالك : أن مذهبه الإجازة من غير كراهة .
---
قال القاضي : المعروف من مذهب مالك المنع لا الإجازة . قلت : ذكر الأئمة هذا الخلاف هكذا مطلقًا ، ولم يفصلوا موضعه ، والتفصيل الذي ذكرناه لابد من اعتباره ، وبما ذكرناه يجتمع شمل مقصود الشرع الكلي ومضمون الأحاديث الواردة في ذلك ، وينبغي أن يُستثنى من الآلات [التي] ذكر الإمام : الدّفّ ، فإنه قد جاء ذكره في هذا الحديث ، وفي حديث العرس .
وتسجية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجهه بثوبه ؛ إعراض عنهما . وقالت في الحديث الآخر : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان على الفراش مضطجعًا ، وإنه حوّل وجهه عند غِناء الجاريتين ، وكأنه أعرض عن ذلك الغناء ؛ لأنه من قبيل اللغو الذي يعرض عنه .
13- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : بَيْنَمَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِحِرَابِهِمْ ، إِذْ دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، فَأَهْوَى إِلَى الْحَصْبَاءِ يَحْصِبُهُمْ بِهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دَعْهُمْ ، يَا عُمَرُ ! )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما لعب الحبشة في المسجد فكان لعبًا بالحراب والدَّرَق تواثُبًا ورقصًا بها ، وهو من باب التدريب على الحروب والتمرين والتنشيط عليه ، وهو من قبيل المندوب ؛ ولذلك أباحه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المسجد ، وفيه دليل على جواز نظر النساء إلى الأجانب من الرجال على مثل هذه الحال التي قد أُمنت المفاسد والفتن فيها .
وإنكار عمر عليهم تمسك منه بالصورة الظاهرة ؛ كما قلنا في حق أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ ، وفيه أبواب من الفقه لا تخفى .(3/407)
وقوله : " دونكم يا بني أرفِدة " : دونكم : منصوب على الظرف ؛ بمعنى الإغراء ، والمغرى به محذوف ؛ دلّت الحالة عليه ؛ وهو لعبهم بالحراب ، فكأنه قال : دونكم اللعبُ بالحراب ، [والعرب] تغري بـ : " عليك" و"دونك" و" عندك ".
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
و" أرفدة " : - بكسر الفاء - : هي روايتنا ، وقيل عن أبي بحر : " أرفَدة " - بفتح الفاء - ، وهو لقب للحبشة.
وقوله : " حسبك " : معناه يكفيك ، وهو محذوف همزة الاستفهام . و"الحصباء" : الرمل . و" أهوى بيده" : أمالها لأخذ الحصباء ، و"حصبهم" : رماهم بالحصباء .
************
---
أبواب الاستسقاء
(1) باب الخروج إلي المصلى لصلاة الإستسقاء ، وكيفية العمل فيها
1- عَنْ عَبْدَ الله بْنَ زَيْدٍ الْمَازِنِيَّ ، قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي ، وَأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ .
وَفِي أُخْرَى : فَجَعَلَ إِلَى النَاسِ ظَهْرَهُ يَدْعُو الله ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ، ثُمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
وَفِي أُخْرَى : قَلَبَ رِدَاءَهُ ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن أبواب صلاة الإستسقاء(3/408)
حديث عبد الله بن زيد يقتضي : أن سنة الاستسقاء الخروج إلى المصلى ، والخطبة ، [ والصلاة ] ، [ وبذلك] قال جمهور العلماء . وذهب أبو حنيفة إلى : أنه ليس من سنتة صلاة ولا خروج ، إنما هو دعاء لاغير . وهذا الحديث وما في معناه يردّ عليه ، ولا حجة لأبي حنيفة في حديث أنس ؛ إذ فيه : أن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا ، من غير صلاة ولا غيرها ؛ لأن ذلك كان دعاء عُجِّلت إجابته ، فاكتفى به [عما] سواه ، ولم يقصد بذلك بيان [سنة الاستسقاء ] ، ولما قصد البيان بيّن بفعله ؛ كما في حديث عبد الله بن زيد .
---
وظاهر هذا الحديث : أن الخطبة مقدمة على الصلاة ؛ لأنه جاء فيه بـ"ثم" التي للترتيب والْمُهْلة ، وبذلك قال مالك في أول قوليه ، وهو قول كثير من الصحابة . والجمهورُ على أن الصلاة مقدمة على الخطبة ، وإليه رجع مالك ، وهو قوله في "الموطأ" ، وكان مستند هذا القول : رواية من روى هذا الخبر بالواو غير المرتبة بدل : " ثم" ، وما روي عن إسحاق بن عيسى بن [الطباع] عن مالك أنه [قال : إنه] ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدأ بالصلاة قبل الخطبة ، وهذا نص . ويُعتضد هذا بقياس هذه الصلاة على صلاة العيدين ؛ بسبب أنهما يخرج لهما ، ولهما خطبة . ولم يذكر في حديث عبد الله بن زيد هذا : أنها يكبر لها كما يكبر في العيد ، ولذلك لم يَصِرْ إليه أكثر العلماء : مالك وغيره . وقد قال بالتكبير [فيها] جماعة ؛ منهم : ابن المسيب ، وعمر بن عبدالعزيز ، والشافعي
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/409)
والطبري ، وحجتهم : حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي خرّجه أبوداود ، قال فيه : خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ متذلِّلاً متواضعًا متضرعًا ، حتى ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
أتى إلى المصلى ، فرقى على المنبر ولم يخطب خطبتكم هذه ، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ، ثم صلى ركعتين ، كما يصلي في العيد ، وهذا لا ينتهض حجة ، فإنه يصدق على التشبيه وإن كان من بعض الوجوه ، ولا يلزم التشبيه من كل الوجوه ، إلا في شبيهٍ ومثيل ؛ للمبالغة التي فيه ؛ فإن العرب تقول : زيد كالأسد ، وكالبحر ، وكالشمس ؛ تريد بذلك أنه [يشبهه] في وجهٍ من الوجوه ، على أن هذا الحديث قد رواه الدارقطني ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال فيه : " صلّى ركعتين ؛ كبّر في الأولى سبع تكبيرات ، وقرأ : { سبح اسم ربك الأعلى } ، وقرأ في الثانية : { هل أتاك حديث الغاشية } ، وكبّر خمس تكبيرات " ، وهذا نصٌّ ، [ غير] أن هذا الطريق في إسناده محمد بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو ضعيف الحديث ، ذكره ابن أبي حاتم .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا خلاف في أنه يجهر [فيهما] بالقراءة ، وقد ذكره البخاري ، ويُخطب فيهما خطبتان ، يجلس في أولهما ووسطهما ، وهو قول مالك والشافعي ، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وعبد الرحمن بن مهدي : يخطب خطبة واحدة لا جلوس فيها ، وخيّره الطبري .(3/410)
وقوله : " استسقى ، وحوّل رداءه" ، أو "قلب رداءه " : استسقى : استفعل ؛ أي : طلب السقيا بتضرُّعه ودعائه ، وإنما قلب رداءه على جهة التفاؤل ؛ لانقلاب حال صلاة الشدة إلى السَّعة .
---
وجمهور العلماء على أنه سنة ، على ما تضمنه هذا الحديث ، وأنكره أبوحنيفة ، وصعصعة بن سلاَّم من قدماء العلماء بالأندلس ، والحديث حجة عليهم . ثم الذين قالوا بالتحويل اختلفوا ؛ فمنهم من قال : إنه يرد ما على يمينه على شماله ، ولا ينكسه ، وهم الجمهور ، وقال الشافعي بمصر : ينكسه ، فيجعل ما يلي رأسه أسفل ، وسبب هذا الخلاف : اختلافهم في مفهوم 2- وعَنْ أَنَسٍ : أَنَّ نَبِيَّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ لا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلا فِي الاسْتِسْقَاءِ ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَهُ عَلَيْهِ السَلاَم اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول الصاحب : "حوّل" و" قلب" ، هل هما بمعنى واحد ، أو بينهما فرقان ؟ ثم هل يحوِّل الناس أرديتهم إذا حوَّل الإمام أم لا ؟ قال مالك : نعم ، وقال الجمهور : لا . ومتى يحوِّله ؟ فقيل : بين الخطبتين ، وقيل : عند الإشراف عليهما ، والقولان لمالك ، والثاني هو المشهور عنه ، وبه قال الشافعي .
ثم هل يرجع بعد تمام دعائه فيذكّر الناس أو لا ؟ [قولان].
ولا خلاف في تحويل الإمام وهو قائم وتحويل الناس- عند من يقول به - وهم جلوس .
وقول أنس ـ رضى الله عنه ـ : "إنه كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء" ، يعنى : أنه لم يكن يبالغ في الرفع ، إلا في الدعاء . ولذلك قال : " حتى يرى بياض إبطيه " ، وإلا فقد رفع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر عند الدعاء ، وفي غير الاستسقاء ذلك .(3/411)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد روى الترمذي عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ قال : " كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا رفع يديه عند الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه ". قال : " هذا حديث صحيح غريب ".
---
.....................................................................
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد استحب جماعة من العلماء رفع اليدين عند الدعاء . وقد روي عن مالك كراهة رفع الأيدي في شيء من الأشياء ، ووجهه : مخافة اعتقاد الجهة! ثم اختلفوا في كيفية الرفع ، فاختار مالك : الإشارة بظهور كفيه إلى السماء كما في هذا الحديث ، وهو رفع الرَّهب . وقيل : يشير ببطونهما إلى السماء . وهو رفع الرغب والطلب .
*************
( 2 ) باب الدعاء في السُّقْيَا في المسجد وبغير صلاة(3/412)
3- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ ، مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ ، وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَائِمٌ يَخْطُبُ ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَائِمًا ، ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ ، فَادْعُ الله يُغِثْنَا . قَالَ : فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : (( اللهمَّ أَغِثْنَا ، اللهمَّ أَغِثْنَا ، اللهمَّ أَغِثْنَا )) قَالَ أَنَسٌ : فَلا وَالله ، مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلا قَزَعَةٍ ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلا دَارٍ . قَالَ : فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الدعاء في السقيا
---
دار القضاء سميت بذلك ؛ لأنها بيعت في قضاء دَيْنِ عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ الذي كتبه على نفسه لبيت مال المسلمين ، وأوصى أن تباع فيها ماله ، فباع عبدالله ابنه داره هذه من معاوية ، وباع ماله بالغابة ، وقضى دينه ، فكان يُقال لها : دار قضاء دين عمر ، ثم اختصروا فقالوا : دار القضاء ، وهي دار مروان ، وكان دين عمر ـ رضى الله عنه ـ [عشرين] ألفًا ، وقد غلط من ظنها دار قضاء الأمراء.(3/413)
قَالَ : فَلا وَالله مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا . قَالَ : ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ ، فَادْعُ الله يُمْسِكْهَاعَنَّا . قَالَ : فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : (( اللهمَّ حَوْلَنَا وَلا عَلَيْنَا ، اللهمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ )) قَالَ : فَانْقَلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وظاهر هذا الحديث يدل على جواز كلام الداخل مع الخطيب في حال خطبته ، ويحتمل أن يكون إنما كلّمه في حال سكتةٍ كانت من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إما لاستراحة في النطق ، وإما في حال الجلوس ، والله أعلم .
وقوله : " هلكت الأموال " ؛ أي : المواشي . وأصل المال : كل ما يُتَمَوَّل ، وعُرْفُه عند العرب : الإبل ؛ لأنها معظم أموالهم . و"انقطعت السبل " ؛ أي : الطرق ؛ لهلاك الإبل ، ولعدم ما يؤكل في الطرق .
وقوله : (( اللهم أغثنا )) بالهمزة رباعيًا ، هكذا رويناه ، ومعناه : هب لنا غيثًا ، والهمزة فيه للتعدية ، وقال بعضهم : صوابه : غِثْنا ؛ لأنه من غاث. قال : وأما أغثنا فإنه من الإغاثة ، وليس من طلب الغيث ، والأول الصواب ، والله أعلم .
---
وقوله : " ولا قرعة " ؛ أي : ولا قطعة من سحاب ، وجمعه : قرع . قال أبو عبيد : وأكثر ما يكون في الخريف .(3/414)
4- وَعَنْهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَامَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَصَاحُوا ، وَقَالُوا : يَا نَبِيَّ الله ، قَحَطَ الْمَطَرُ ، وَاحْمَرَّ الشَّجَرُ ، وَهَلَكَتِ الْبَهَائِمُ ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ . وَفِيهِ : فَتَقَشَّعَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ ، فَجَعَلَتْ تُمْطِرُ حَوَالَيْهَا ، وَمَا تُمْطِرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةً ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ الإِكْلِيلِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و "سلع" : بفتح السين المهملة ، وسكون اللام ، وهو : جبل مشهور بقرب المدينة ، في البخاري : هو الجبل الذي في السوق .
وتشبيه السحابة بالتُّرس ؛ في كثافتها واستدارتها . وأمطرت : أنزلت رباعيًا ، ويقال : ثلاثيًّا ؛ بمعنى واحد ، وقيل : أمطر في العذاب ، ومطر في الرحمة . والأول أعرف .
وقوله : " مارأينا الشمس سبتًا " ؛ أي : من سبتٍ إلى سبتٍ ؛ كما تقول : جمعة ؛ أي : من جمعة إلى جمعة .
والسبت في اللغة : القطع ، وبه سُمِّي يوم السبت . قال ثابت في تفسير قوله : " سبتًا " : إنه القطعة من الزمان ، يقال : سبتٌ من الدهر ؛ أي : قطعة منه ، وسبتُّه : قطعته ، وقد رواه الداودي : "سِتًّا " ، وفسره : بستة أيام من الدهر ، وهو تصحيف .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : (( اللهمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا )) قَالَ : فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ إِلاتَفَرَّجَتْ ، حَتَّى رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ فِي مِثْلِ الْجَوْبَةِ ، وَسَالَ وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا ، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلا أَخْبَرَ بِجَوْدٍ .
وَفِي أُخْرَى : فَرَأَيْتُ السَحَابَ يَتَمَزَّقُ كَأَنَّهُ الْمُلاَءُ حِيْنَ يُطْوَى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/415)
وقوله في الثانية : " هلكت الأموال وانقطعت السبل " ؛ أي : لامتناع الرعي والتصرف ؛ لكثرة المطر .
و"حوالينا " : ظرف متعلق بمحذوف ، تقديره : اللهم أنزل حوالينا ولا تنزل علينا. و" الآكام" : جمع أكمة ، وهي : دون الجبال. و"الآكام" : بفتح الهمزة والمد ، ويقال بالكسر : "إِكام" ، و"أَكم" ، و"أُكم"-بفتحها وضمها- ، وقال الخليل : الأكَمة : هو تل . و"الظِّراب" : الروابي ، [واحدتها] : ظرب ، ومنه الحديث : "فإذا [حُوتٌ] مثل الظِّرب". قال الثعالبي : الأكمة : أعلى من الرابية .
و " قحط المطر " ؛ أي : امتنع وانقطع ، وفي البارع : قَحَطَ المطر : بفتح القاف والحاء . وقحط الناسُ : بفتح الحاء وكسرها ، وفي الأفعال بالوجهين في المطر ، وحُكي : قُحِط الناسِ - بضم القاف وكسر الحاء - ، يُقحطون ، قحطًا وقحوطًا .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " احمرّ الشجر " : يبس . و" تقشعت " : انكشفت ، و" الإكليل" قال أبو عبيد : هو ما أحاط بالظفر من اللحم ، والإكليل أيضًا : العصابة ، وروضة مكللة : محفوفة با لنَّوْر ، وأصله : الاستدارة .
و " الجوبة " : هي الفجوة بين البيوت ، والفجوة أيضًا : المكان المتسع من الأرض ، والمعنى : أن السحاب تقطّع حول المدينة مستديرًا ، وانكشف عنها حتى باينت ما جاورها مباينة الجوبة لما حولها . وقال الداودي : هي كالحوض المستدير . ومنه قوله : { وجفان كالجواب } ، وواحدة الجوابي : جابية .
و " قناة " : اسم وادٍ من أودية المدينة ، وكأنه سمّي مكانه قناة ، وقد جاء في غير الكتاب : " وسال [الوادي] قناة شهرًا " على البدل.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " الْجَوْد " : المطر الواسع الغزير .
---(3/416)
و " يتمرق " : يتقطع ، والْمُلا " مقصورًا - جمع ملاءةٍ - ، وهي : الملاحف ، و" انجابت انجياب الثوب " ؛ أي : تقطعت كما يتقطع الثوب قطعًا متفرقة . وقوله هنا : " حين تُطوى " ؛ يعني : أن السحاب بعد أن كان منتشرًا ؛ انضمّ عن جهات المدينة ، فصار كأنه ثوب طوي عنها .
ولا يخفى ما في هذا الحديث من الأحكام ، ومن كرامات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
***********
باب التبرك بالمطر والفرح به ، والتعوُّذ عند الريح والغيم
5- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَطَرٌ قَالَ : فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثَوْبَهُ ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ! لِمَ صَنَعْتَ هَذَا ؟ قَالَ : (( لأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى )).
6- وَعَنْ عَائِشَةَ ، زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا كَانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ ، وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ . قَالَتْ عَائِشَةُ : فَسَأَلْتُهُ . فَقَالَ : (( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي )) وَيَقُولُ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ : (( رَحْمَةٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التبرك بالمطر
قوله : " فحسر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثوبه " ؛ أي : كشفه عن جسده .
وقوله : (( لأنه حديث عهدٍ بربه )) ؛ أي : بإيجاد ربّه له ، وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
---(3/417)
7- وَعَنْهَا قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ : (( اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا ، وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا ، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ )) قَالَتْ : وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : فَسَأَلْتُهُ . فَقَالَ : (( لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ ! كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا }.
8- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ قَالَ : (( نُصِرْتُ بِالصَّبَا ، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تبرُّك بالمطر ، واستشفاء به ؛ لأن الله تعالى قد سَمّاه رحمة ، ومباركًا وطهورًا ، وجعله سبب الحياة ، ومُبعدًا عن العقوبة .
ويستفاد منه احترام المطر ، وترك الاستهانة به .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إني خشيت أن يكون عذابًا سُلّط على أمتي )) ؛ يعني : على العُتاة عليه ، العصاة له من أمته . وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعظيم حلمه ورأفته وشفقته ، يرتجي لهم الفلاح والرجوع إلى الحق ، وهذا كما قال يوم أحد : (( اللهم اغفر ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقومي فإنهم لا يعلمون )) ، وقيل : خاف أن تعمّهم عقوبة بسبب العصاة منهم ، والأول أوضح .(3/418)
و "عصفت" : اشتدَّت وبردت . و"تَخيّلت السماء" ؛ أي : كَثُر فيها السحاب . والمخيلة - بفتح الميم - : سحابة فيها رعد وبرق ، لا ماء فيها ، ويقال في السماء إذا تغيَّمت : أخالت ، فهي مُخيلة - بالضم - ، قاله أبو عبيد .
---
و "الصَّبَا" : الريح الشرقية ، و"الدَّبور"- بفتح الدال - : الريح الغريبة .
************
باب
9- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لا تُمْطَرُوا وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا ، وَتُمْطَرُوا ، وَلا تُنْبِتُ الأَرْضُ شَيْئًا )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و"السَّنَة" : الجدب . وأراد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( ليست السَّنَة ألا تُمطروا )) : أن الأحق باسم السَّنَة والجدب : أن يتوالى المطر ، حتى تغرق الأرض ويفسد ما عليها بكثرته وتواليه ، وإنما كان هذا أحق بالاسم ؛ لأنه أمنع من التصرف ، وأضيق للحال ، وأعدم للقوت ، وأسرع في الهلاك. وأسلوب هذا الحديث كأسلوب قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس )) ، و(( ليس المسكين بالطوّاف عليكم )) ، إلى غير ذلك مما في بابه.
*************
أبواب كسوف الشمس والقمر
( 1 ) باب الأمر بالصلاة والذكر والصدقة عند الكسوف
1- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُ قَالَ : قَالَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيْسَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَقُومُوا فَصَلوا )) .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَى يكَشِفَ مَا بِكُمْ )).(3/419)
2- وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ : (( فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَكَبِّرُوا وَادْعُوا الله ، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبواب الكسوف
---
الكسوف : التغيّر إلى سواد ، ومنه : كسف وجهه ؛ إذا تغير . والخسوف : النقصان ، قاله الأصمعي . والخسف أيضًا : الذلّ ، ومنه : سامه خُطَّةَ خَسَفٍ ؛ أي : ذُلّ ، فكسوف الشمس والقمر وخسوفهما : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تغيُّرهما ، ونقصان ضوئهما ، فهما بمعنى واحد ، هذا هو المستعمل في القرآن وفي الأحاديث ، وقد قال بعض اللغويين : لا يقال في الشمس إلا : كُسفت ، وفي القمر إلا : خُسف ، وذُكر هذا عن عروة . وقال الليث بن سعد : الخسوف في الكل ، والكسوف في البعض ، يعني في الشمس والقمر .
وقوله : " فإذا رأيتموه فقوموا فصلوا " ؛ يعني : الكسوف ، فأعاد عليه ضمير المذكّر ، وفي الأخرى : "[ فإذا] رأيتموها" ، أعاده على كسوف الشمس وكسوف القمر ، وهذا يدل على التسوية بين كسوف الشمس والقمر في الصلاة ، في الأمر بالصلاة عندهما ، وبذلك قال جميع الفقهاء والعلماء من السلف وغيرهم ، غير أنهم اختلفوا في حكم ذلك وكيفيته ، فالجمهور : على أن صلاة كسوف الشمس سنة مؤكدة ، وأنها يُجمع لها ، وتُصلى بإمام ، على خلاف في كيفية ذلك يُذكر فيما بعد . وذهب أهل الكوفة إلى أنها لا يُجمع لها ، وأنها تصلى ركعتين ركعتين ، ومستندهم : 3- وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى : (( فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/420)
حديث عبد الرحمن بن سمرة الآتي ، وليس بنص فيما قالوه ؛ فإنه قال فيه : فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين ؛ لاحتمال أن يكون إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة ، وشكت عن الأخرى ، والله أعلم . ثم لو سُلِّم ذلك لأمكن أن يقال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى ذلك كذلك ليبيّن جواز ذلك ، وغيره من الأحاديث يدل على أن السنة ما تضمنته تلك الأحاديث .
---
وأما خسوف القمر فذهب مالك وأبو حنيفة : إلى أنه لا يُجتمع لصلاته ، وأنها تصلى ركعتين ركعتين كسائر النوافل ، وذهب جمهور من الصحابة والعلماء وأصحاب الحديث والشافعي إلى أنه يُجتمع لها ، وتصلى على كيفية مخصوصة ، على الخلاف الذي يأتي ذكره .
وقوله : (([ فافزعوا] إلى ذكر الله ودعائه )) ؛ يعني : [ تفزَّعوا] إليهما ، وأقبلوا عليهما ، وقد قدمنا ذكر أقسام الفزع .
( 2 ) باب كيفية العمل فيها ، وأنها ركوعان في كل ركعة(3/421)
4- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَقَامَ فَكَبَّرَ ، وَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ ، فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قِرَاءَةً طَوِيلَةً - مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَاسٍ : نَحْوَ سُورَةِ البَقَرَةْ- ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : (( سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ )) ، ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةِ الأُولَى ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً ، هُوَ أَدْنَى مِنَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ قَالَ : (( سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ )) ، ثُمَّ سَجَدَ ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ، حَتَّى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ ، فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ، ثُمَّ قَالَ : ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيفية العمل فيها
---
ذهب الجمهور إلى أن صلاة كسوف الشمس ركعتان ، في كل ركعة ركوعان على ما في حديث عائشة رضي الله عنها وما في معناه ، قال أبو عمر : " وهذا أصح ما في هذا الباب ، وغيره من الروايات التي ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خالفتها [معلولة] ضعيفة " ، [ وأما] الأحاديث الآتية بعد هذا التي تدل على أن في كل ركعة ثلاث ركوعات ، أو أربع ركوعات ، أو خمس ركوعات على ما في حديث أُبي ، فقد قال بكل حديث منها طائفة من(3/422)
(( إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله ، لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا لِلصَّلاةِ )). وَقَالَ أَيْضًا : (( فَصَلُّوا حَتَّى يُفَرِّجَ الله عَنْكُمْ )) ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُمْ ، حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُنِي أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي أَتَقَدَّمُ ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ ، وَرَأَيْتُ فِيهَا ابْنَ لُحَيٍّ وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحابة وغيرهم ، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن ذلك الاختلاف إنما كان بحسب طول مدة الكسوف وقصرها ، وفي هذا نظر .
وقوله : " قام فخطب " : دليل لمن قال : من سنتها الخطبة ، وهم : الشافعي وإسحاق والطبري ، وفقهاء أصحاب الحديث ، وخالفهم في ذلك مالك وأبو حنيفة ، وقالا : إن هذه الخطبة إنما كان مقصودها زجر الناس عما قالوه من أن الكسوف إنما كان لموت إبراهيم ، وليخبرهم بما شاهد في هذه الصلاة ؛ مما اطلع عليه من الجنة والنار .
---
وقوله : (( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله )) ؛ أي : [ دليلان] على وجود الحق سبحانه وقهره ، وكمال إلالهيته ، [ وخصهما] بالذكر ؛ لما وقع للناس من أنهما يخسفان لموت عظيم ، وهذا إنما صدر عمّن لا علم ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/423)
عنده ، ممن ضعف عقله واختلّ فهمه ، فردّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهم جهالتهم ، وتضمّن ذلك الرد على [من قال] بتأثيرات النجوم ، ثم أخبر بالمعنى الذي لأجله يكسفان ؛ وهو أن الله تعالى يُخوِّف بهما عباده . فإن قيل : فأي تخويف في ذلك والكسوف أمر عادي ؛ بحسب تقابل هذه النيرات وحجب بعضها لبعض ، وذلك يجري مجرى حجب الجسم الكثيف نور الشمس ، عما تقابله من الأرض ، وذلك لا يحصل به تخويف ؟ قلنا : لا نُسلم أن سبب الكسوف ما ادعوه ، ومن أين عرفوا ذلك ؟ [ أبالعقل ] أم بالنقل ؟ وكل واحد منهما إما بواسطة نظر ، أو بغير واسطة ، ودعوى شيء من ذلك ممنوع ، وغايتهم أن يقولوا : ذلك مبني على أمور هندسية ورصدية تُفضي بسالكها إلى القطع ، [ ونحن نمنع أيضًا ما ذكروه إلى القطع ] ، وهو أول المسألة ، ولئن سلّمنا ذلك جدلاً ، لكنا نقول : [ يحصل](8) بهما تخويف العقلاء من وجوه متعددة ، أوضحها : أن ذلك مذكر بالكسوفات التي تكون ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/424)
بين يدي الساعة ، ويمكن أن يكون ذلك الكسوف منها ، ولذلك قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فزعًا يخشى أن تقوم الساعة . وكيف لا وقد قال الله عز وجل : { فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر } ؟ قال أهل التفسير : جمع بينهما في إذهاب نورهما ، وقيل غير ذلك . وأيضًا فإن كل [ما في هذا] العالم علويّه وسفليّه دليل على نفوذ قدرة الله تعالى ، وتمام قهره ، واستغنائه ، وعدم مبالاته ، وذلك كله يُوجب عند العلماء بالله خوفه وخشيته ؛ كما قال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ، وخصّ هنا خسوفهما بالتخويف ؛ لأنهما أمران علويان نادران طارئان عظيمان ، والنادر العظيم مخوف موجع ، بخلاف ما يكثر وقوعه ، فإنه لا يحصل منه ذلك غالبًا ، وأيضًا فلما وقع فيهما من الغلط الكثير [ للأمم ] التي كانت تعبدهما ، ولما وقع [للجهّال] من اعتقاد تأثيرتهما.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((رأيت في مقامي هذا كل شيء وُعِدتموه )) : هذه الرؤية هي
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رؤية عيان حقيقة ، لا رؤية علم ؛ بدليل : أنه رأى في الجنة والنار أقوامًا بأعيانهم ، ونعيمًا وعذابًا(2) وقطفًا من عنب ، وتناوله ، وغير ذلك . ولا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها ، لا سيما على مذاهب أهل السنة في أن الجنة والنار قد خُلقتا ووُجدتا ؛ كما دل عليه الكتاب والسنة ، وذلك أنه(3) راجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إدراكًا خاصًّا به(4) ، أدرك(5) به الجنة والنار على حقيقتهما ، كما قد خلق له إدراكًا لبيت المقدس ، فطفق يخبرهم عن آياته ، وهو ينظر إليه(6).
---(3/425)
ويجوز أن يقال : إن الله تعالى مثّل [له](7) الجنة والنار ، وصوّرهما له في عرض الحائط ؛ كما تتمثل صور المرئيات في المرآة ، ويُعتضد هذا بما رواه البخاري من حديث أنس ـ رضى الله عنه ـ في غير حديث الكسوف ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين(8) في قبلة هذا الجدار )) ، وفي لفظ أنس(9)(10) : (( عرضت عليَّ الجنة والنار آنفًا في عرض هذا الحائط ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنا أصلي )) ، وقال فيه مسلم : (( إني صُوِّرت لي الجنة والنار ، فرأيتهما دون هذا الحائط )) ، ولا يستبعد هذا من حيث : إن الانطباع في المرآة إنما هو في الأجسام الصقيلة ؛ لأنا نقول : إن ذلك شرط عادي لا عقلي ، ويجوز أن [تنخرق] العادة وخصوصًا في مدة النبوة ، ولو سُلِّم أن تلك الشروط عقلية ، فيجوز أن تكون تلك الأمور موجودة في جسم الحائط ، ولا يُدرِك ذلك إلا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . و"قطف الثمرة" : ما يقطف منها ؛ أي : يقطع منها ويُجتنى ، وهو هنا عنقود من العنب ؛ كما قد جاء مفسرًا في الرواية الأخرى.
و " يحطم " ؛ أي : يكسر بعضها على بعضًا كما يفعل [البحر]. والْحَطْم : الكسر ، ويحتمل أن يريد بذلك : أن بعضها يأكل بعضًا ، وبذلك سميت جهنم : الحطمة . والرجل الحطمة : الأكول.
و "ابن لحي " : اسمه عمرو ، ولُحَيٌّ أبوه ، ابن قمعة بن إلياس ، وهو الذي كنّاه في الحديث الآخر بأبي ثمامة ، وسماه : بـ"عمرو بن مالك". ولُحَيّ : لقب مالك ، [ وقد جاء في رواية أخرى : عمرو بن عامر الخزاعي . والله أعلم .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/426)
وكان عمرو هذا أول من غيّر دين إسماعيل ، فنصب الأوثان ، وبَحّر البحيرة ، وسيّب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ؛ فيما ذكر ابن إسحاق ، وهو الذي عنى الله بقوله : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون}.
وقد اختُلف في تفسير هذه الأشياء ، فالسائبة : الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر ، سُيِّبت فلم يُركب ظهرها ، ولم يُجَزَّ وبرها ، ولم يَشرب لبنَها إلا ضيفٌ ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقَّت أذنها ، ثم خُلِّي سبيلها مع أمها على حكمها ، وهي البحيرة بنت السائبة ، وسُمِّيت بذلك ؛ لأنها بُحرت أذنها ؛ أي : شُقّت شَقًّا واسعًا ، وهذا قول ابن إسحاق. وقال ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غيره : السائبة : هي التي ينذزها الرجل أن يسيبها إن برأ من مرضه ، أو أصاب أمرًا يطلبه ، فإذا كان ذلك [أسابها] فسابت ، لا ينتفع بها .
قال ابن إسحاق : والوصيلة : الشاة إذا أَتْأمَتْ عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذَكر ، قالوا : وصلت ، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث ، إلا أن يموت شيء منها فيشترك [فيه] ذكورهم وإناثهم ، وقال كثير من أهل اللغة : إن الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرًا ذبحوه لآلهتهم ، فإذا ولدت ذكرًا وأنثى لم يذبحوا الذكر ، وقالوا : وصلت أخاها ، فيسيبون أخاها ولا ينتفعون به .
و" الحامي " : الفحل إذا رُكِب وَلَدُ ولده ، وقيل : إذا نتج من صلبه عشرة أبطن ؛ قالوا : حمى ظهره ، فلا يُركب ، ولا يُنتفع به ، ولا يُمنع من ماءٍ ولا كلأٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَ النَبِيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَعَثَ مُنَادِيًا : (( الصَلاَةُ جَامِعَةُ ، فَاجْتَمَعُوا )).
---(3/427)
وَفِي أُخْرَى : أَنَ النَبِيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جَهَرَ فِي صَلاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " بعث مناديًا : الصلاة جامعة ، فاجتمعوا " ؛ أي : ينادي ، أو يقول ذلك ، ولهذا الحديث استحسن الشافعي أن يقال ذلك في الخسوف. وهو حجة للجمهور على أبي حنيفة ؛ إذ قال : لا يُجتمع لها ، والكل متفقون على أنه لا يُؤذّنَ لها ولا يقام .
وقوله : " إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جهر في صلاة الخسوف بالقراءة " ؛ أخذ بظاهر هذا جماعة من السلف ومحمد بن الحسن وأبو يوسف وأحمد وإسحاق وفقهاء الحديث ، ورواه معن والواقدي عن مالك ؛ فقالوا : يُجهرُ بها في صلاة كسوف الشمس ، ومشهور قول مالك : الإسرارُ فيها ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والليث وسائر أصحاب الرأي ؛ مُتمسكين بقول ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ : " أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرأ فيها نحو سورة البقرة " ، قالوا : ولو جهر لعُلم ما قرأ ، وبما خرّجه النسائي من حديث سمرة بن جندب ، وَوَصف صلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الكسوف وقال : " فصلى ، فقام [كأطول] قيام قام بنا في صلاة قط ، [مانسمع](3) له صوتًا ... ، وذكر الحديث . وتأؤلوا الحديث الأول على أنه
وَزَادَ في أخرى : (( يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ! إِنْ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ الله أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ . يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ! وَالله لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ ؟ )).
وفِي أُخْرى : فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : (( اللهمَّ هَلْ بَلَّغْت )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/428)
كان في خسوف القمر بالليل ، وخيَّر الطبري بين الجهر والإسرار ، فأعمل الحديثين .
---
وقوله : (( يا أمة محمد ! إنْ من أحدٍ أغير من الله )) : "إن" نافية بمعنى "ما" ، و"من" زائدة على اسم "إن". و"[أغير]"[ بالنصب ] : خبر إنْ النافية ، فإنها تعمل عمل " ما " عند الحجازيين ، وعلى التَّميمية : هو مرفوع على أنه خبر المبتدأ الذي هو أحد .
والغَيْرة في حقنا راجعة إلى تغير وانزعاج وهيجان يلحق الغيران عندما يُنال شيء من حرمه أو محبوباته ؛ يحمل على صيانتهم ومنعهم . وهذا التغيّر على الله تعالى محال ؛ إذ هو مُنزَّه عن كل تغير ونقص ، لكن لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم ، وزجر القاصد إليهم ؛ أطيق ذلك على الله تعالى ؛ إذ قد زجر وذمّ ونصب الحدود ، وتوعد بالعقاب الشديد من تعرض لشيء من محارمه ، وهذا من التجوّز ، ومن باب تسمية الشيء باسم ما ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يترتب عليه ، وقد قررنا نحو هذا المعنى في كتاب الايمان في الغضب والرضا.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا )) : يعني ما يعلم هو من أمور الآخرة وشدة أهوالها ، ومما أُعِدّ في النار من عذابها وأنكالها ، ومما أُعِدّ في الجنة من نعيمها وثوابها ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد كان رأى كل ذلك مشاهدة وتحقيقًا ، ولذلك كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ متواصل الأحزان ، قليل الضحك ، جلّه التبسم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ألا هل بلغت ؟ )) يعني : ما أمر به بتبليغه من الإنذار والتحذير والتنزيل .
***********
( 3 ) باب ما جاء أن في كل ركعة ثلاث ركعات
---(3/429)
5- عَنْ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ ، عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ الشَّمْسَ انْكَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَامَ قِيَامًا شَدِيدًا ، يَقُومُ قَائِمًا ثُمَّ يَرْكَعُ ، ثُمَّ يَقُومُ ثُمَّ يَرْكَعُ ، ثُمَّ يَقُومُ ثُمَّ يَرْكَعُ ، رَكْعَتَيْنِ فِي ثَلاثِ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ . فَانْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ ، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ قَالَ : (( الله أَكْبَرُ )) ، ثُمَّ يَرْكَعُ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ ، قَالَ : (( سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ )). فَقَامَ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : (( إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا حَيَاتِهِ ، وَلَكِنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ الله ، يُخَوِّفُ الله بِهِمَا ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفًا فَاذْكُرُوا الله حَتَّى يَنْجَلِيَا )).
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَهَا قَالَتْ : صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ .
6- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ قَالَ : انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ . فَقَامَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَصَلَّى بِالنَّاسِ سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء [أن] في كلّ ركعة ثلاث ركوعات أو أكثر
قولها : " وركوعه نحو من سجوده " ؛ تعني : أن سجوده فيهما كان
---(3/430)
سَجَدَاتٍ ، بَدَأَ فَكَبَّرَ ، ثُمَّ قَرَأَ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ - وَفِي رِوَايَةٍ : فَأَطَالَ القِيَامْ حَتَى جَعَلَوا يَخِرُّونَ - ، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ، فَقَرَأَ قِرَاءَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الأُولَى ، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَرَأَ قِرَاءَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ أَيْضًا ثَلاثَ رَكَعَاتٍ ، لَيْسَ فِيهَا رَكْعَةٌ إِلا الَّتِي قَبْلَهَا أَطْوَلُ مِنِ الَّتِي بَعْدَهَا ، وَرُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طويلاً ، إلا أنه دون الركوع ؛ لأنه قد نص على أنه كان يطول كل ركعة ، غير أنه كان يطول في المتقدمة أكثر مما يطول في التي تليها . فإذا كانت كل
ركعة طويلة والسجود نحو الركوع ؛ لزم أن يكون السجود طويلاً ، وقد نصَّت على ذلك في حديث آخر فقالت : " ما ركعت ركوعًا ولا سجدت سجودًا كان أطول منه " ، وفي حديث أبي موسى : " فقام فصلى بأطول قيام وركوع وسجود " ، وهو حجة لقول مالك في "المدونة" ، وقول إسحاق وبعض أصحاب الحديث ، وحُكي عن الشافعي ، وقال مالك في "المختصر" : "إنه لا يطوِّل السجود ، وإنه كسائر الصلوات " ، وهو المعروف من قول الشافعي .
---(3/431)
ثُمَّ تَأَخَّرَ وَتَأَخَّرَتِ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ ، حَتَّى انْتَهَيْنَا - وَفِي رِوَايَةٍ : حَتَّى انْتَهَى - إِلَى النِّسَاءِ ، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَتَقَدَّمَ النَّاسُ مَعَهُ ، حَتَّى قَامَ فِي مَقَامِهِ فَانْصَرَفَ حِينَ انْصَرَفَ وَقَدْ آضَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ! إِنَّمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله ، وَإِنَّهُمَا لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ ، مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلاتِي هَذِهِ ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ : إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي ، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا ، فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه حتى انتهينا إلى النساء " ، هذا التأخر كان في الصلاة ، وهو الذي عبّر عنه في الحديث الآخر بالقهقرى ، الذي فعله مخافة أن يصيبه لفح النار ، على ما فسره بعد . وكونه تقدم - أي : رجع - إلى الموضع الذي كان فيه ، ويحتمل أن [يعبر]
وَفِي رِوَايَةٍ : (( فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ )). وَفِيهَا : (( وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ )).
---(3/432)
وَفِي أُخْرَى : (( فَرَأَيْتُ فِيْهَا امْرَأَةً حِمْيَرِيَّةً سَوْدَاءَ طَوِيلَةً - وَلَمْ يَقُلْ : مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ - ، ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي مَقَامِي ، وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرِهَا لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ ، ثُمَّ بَدَا لِي أَلا أَفْعَلَ ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلاتِي هَذِهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بذلك على التقدم الذي [تقدمه] ليتناول القطف من الجنة ، والله تعالى أعلم .
وهذا يدل على أن العمل غير الكثير في الصلاة لا يفسدها ، وسيأتي خروج النساء إليها .
و " آضتِ الشمس " ؛ أي : عادت إلى حالتها الأولى ، واختلف النحويون في " آض " : هل هي من أخوات كان فتحتاج إلى اسم وخبر ، أو إنما تتعدى إلى مفعول واحد بحرف الجر ؟ على قولين .
وهذا الحديث يدل على أنها مما تتعدى إلى مفعول واحد بحرف جر ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غير أنه حذف هنا ، وقد يُحذف حرف الجر [فينتصب] [ما يُحذف] منه
حرف الجر ؛ كما قال :
وآض روض اللهو يبسًا ذوايًا
وقد روي هذا الحرف هنا : " أضاءت الشمس " ؛ أي : ظهر ضوؤها ، يقال : ضاءت الشمس ، وأضاءت بمعنى واحد .
وقوله : (( فصلوا حتى تنجلي )) ؛ أي : تنكشف ، وهذا يدل على أن وقت
الكسوف ينبغي [أن يكون] معمورًا بالصلاة ، فإما بتطويل الصلاة ، أو بتعديد الركعات كما تقدم ، وهذا الأمر على جهة الندب ؛ بدليل : أنه [قد تقدم](1) أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ انصرت منها قبل أن تنجلي الشمس.
---(3/433)
7- وَمِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَاسٍ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَفَفْتَ - وَفِي رِوَايَةٍ : تَكَعْكَعْتَ- فَقَالَ : (( إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا ، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا. وَرَأَيْتُ النَّارَ ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ . وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ )) قَالُوا : بِمَ ؟ يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : (( بِكُفْرِهِنَّ )) قِيلَ : أَيَكْفُرْنَ بِالله ؟ قَالَ : (( يَكْفُرْنَ الْعَشِيرِ ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانِ ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا ، قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " لفح النار " : شدة لهبها وتأثيرها ، ومنه قوله تعالى : { تلفح وجههم النار } ، واللفح أشد تأثيرًا من النفح ؛ كما قال تعالى : { ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك } ؛ أي : أدنى شيء منه ؛ قاله الهروي .
و " المحجن " : عصا معقفة الطرف ؛ وهي الْخُطّاف . و" القُصب" : الأمعاء ؛ بضم القاف ، وهي الأقتاب أيضًا . و"خشاش الأرض" : بفتح الخاء
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والشين المعجمتين ، وهي هوام الأرض ، وقيل : صغار الطير ، ويقال : بكسر الخاء . وحُكي عن أبي علي : أنه قال : خُشاش بضمها . وقيل : لا يقال في الطير إلا بالفتح .
و "تكعكعت" ؛ أي : أحجمت وجَبُنت ، يقال : تكعكع الرجل ، وتكاعى وكعَّ كعوعًا ؛ إذا أحجم وجبن ؛ قاله الهروي وغيره . قلت : وهو في هذا الحديث بمعنى : "كففت " ؛ كما قاله في الرواية الأخرى ، وكما قال :
---(3/434)
ولكنني أمضي على [ ذاك ] مقدمًا إذا بعض من لاقى الخطوب تكعكعا
وقال آخر :
كعكعته [ بالرجم والتَّنَجُّهِ ]
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي : كففته .
وقوله : (([ولقد] مددت يدي )) ، إلى قوله : (( ثم بدا لي ألا أفعل )) ، وقع في رواية أخرى : (( فقصرت يدي عنه )). ووجه الجمع : أنه لما تحقق أنه لا يناله ، بدا له فيما همّ به ، فقصرت يده عنه ؛ أي : بصرفه إياها عن الأخذ . ويحتمل أنه يريد أنه لم تلحقه يده ؛ لأنه مدخر ليوم الجزاء . وقد تقدم الكلام على بقية هذا الحديث فيما تقدم .
************
( 4 ) باب ما جاء أن في كل ركعة أربع ركعات
8- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حِينَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ وَعَنْ عَلِيٍّ ، مِثْلُ ذَلِكَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : قَرَأَ ، ثُمَّ رَكَعَ ، ثُمَّ قَرَأَ ، ثُمَّ رَكَعَ ، ثُمَّ قَرَأَ ، ثُمَّ رَكَعَ ، ثُمَّ قَرَأَ ، ثُمَّ رَكَعَ ، ثُمَّ سَجَدَ . قَالَ : وَالأُخْرَى مِثْلُهَا .
( 5 ) باب يطول سجودها كما يطول ركوعها
9- عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نُودِيَ أَنَ الصَّلاةَ جَامِعَةً ، فَرَكَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ ، ثُمَّ جُلِّيَ عَنِ الشَّمْسِ . فَقَالَتْ عَائِشَةُ : مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ وَلا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ ، كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/435)
وقوله في حديث عمرو ـ رضى الله عنه ـ : " وركع ركعتين في سجوده " ، يعني بالسجدة : الركعة. وقد تقدم تسمية أهل الحجاز الركعة : بالسجدة .
************
---
( 6 ) باب ما جاء أن صلاة الكسوف ركعتان كسائر النوافل
10- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : كُنْتُ أَرْتَمِي بِأَسْهُمٍ لِي بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذْ كَسَفَتِ الشَّمْسُ ، فَنَبَذْتُهَا : فَقُلْتُ : وَالله ! لأَنْظُرَنَّ إِلَى مَا حَدَثَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ . قَالَ : فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الصَّلاةِ ، رَافِعٌ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيَحْمَدُ وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَيَدْعُو ، حَتَّى حُسِرَ عَنْهَا ، قَالَ : فَلَمَّا حُسِرَ عَنْهَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء أن كسوف الشمس ركعتان كسائر النوافل
قوله : " أرتمي " ؛ أي : أرمي الغرض . يقال : رمى وارتمى بمعنى واحد . [و" نبذتها " : رميتها] من يدي . و" حسر " : كشف .
وقوله : " قرأ سورتين ، وصلى ركعتين " ، قد تقدم الكلام عليه ، ونزيد هنا تنبيهًا ؛ وهو : أن ظاهر هذا الحديث : أن صلاته هاتين الركعتين لم تكن لأجل أنها صلاة الكسوف ؛ لأنه إنما صلى بعد الانجلاء ، وهو الزمان الذي يفرغ فيه من العمل فيها ؛ لأنه الغاية التي مدّ فعل صلاة الكسوف إليها
وَفِي رِوَايَةٍ : فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَدْعُو وَيُكَبِّرُ وَيَحْمَدُ وَيُهَلِّلُ ، حَتَّى جُلِّيَ عَنِ الشَّمْسِ ، فَقَرَأَ سُورَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/436)
بقوله : (( فصلوا حتى ينجليا )) ، فلا حجة فيه للكوفيين ، غير أنه قد روى أبو داود من حديث النعمان بن بشير قال : " كسفت الشمس على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها ، حتى انجلت " ، وهذا معتمدٌ قوي للكوفيين ؛ غير أن الأحاديث المتقدمة أصح وأشهر ، ويصح حمل هذا الحديث على أنه بيَّن فيه جواز مثل هذه الصلاة في الكسوف ، وإن كان المتقرر في الأحاديث المتقدمة هو السنة ، والله أعلم .
************
( 7 ) باب شهود النساء صلاة الكسوف
11- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ : خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي فَقُلْتُ : مَا شَأْنُ النَّاسِ يُصَلُّونَ ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ . فَقُلْتُ : آيَةٌ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ فَأَطَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْقِيَامَ جِدًّا ، حَتَّى تَجَلانِي الْغَشْيُ - أَو الغَشِيُّ - فَأَخَذْتُ قِرْبَةً مِنْ مَاءٍ إِلَى جَنْبِي ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي ، أَوْ عَلَى وَجْهِي مِنَ الْمَاءِ ، قَالَتْ : فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ ، فَخَطَبَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ النَّاسَ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : (( أَمَّا بَعْدُ ، مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ رَأَيْتُهُ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا ، حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ ، وَإِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب شهود النساء صلاة الكسوف
---(3/437)
اختلف في مخاطبة النساء بصلاة الكسوف ، فقيل : يُخاطب بها الجميع والنساء والمسافرون ، وهذا مشهور مذهب مالك ، وعند الشافعي . وروي عن مالك أيضًا ما يدل على أنه يخاطب بها من يُخاطب بالجمعة ، فيخرج منها النساء والمسافرون . وذهب الكوفيون إلى أنهن يُصلين أفذاذًا لا جماعة .
الْقُبُورِ قَرِيبًا ، أَوْ مِثْلَ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ- لا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ : مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ - لا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ : هُوَ مُحَمَّدٌ ، هُوَ رَسُولُ اللهِ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَأَجَبْنَا وَأَطَعْنَا ثَلاثَ مِرَارٍ ، فَيُقَالُ لَهُ : نَمْ . قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ إِنَّكَ لَتُؤْمِنُ بِهِ ، فَنَمْ صَالِحًا ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ - لا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ : لا أَدْرِي ، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا الحديث وحديث جابر يدلان على حضور النساء لها مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وما خرجن من بيوتهن ولا حضرن الصلاة إلا وقد صح عندهن أنهن مخاطبات بذلك . وأيضًا فإن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فإذا رأيتم ذلك فافرغوا إلى الصلاة )) ؛ يدل على أنهن مخاطبات بذلك ، وهذا [الخطاب] وإن كان أصله للذكور ؛ فالنساء مندرجات فيه ؛ كما اندرجن في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } ، و{ كتب عليكم الصيام} ، وغير ذلك من خطابات التعبدات [العامة](1) ، والنساء داخلات فيها باتفاق .
واختلف فيمن فاتته صلاة الكسوف مع الإمام ، هل يصليها وحده ؟ على
---(3/438)
12- وَعَنْهَا قَالَتْ : كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَفَزِعَ فَأَخْطَأَ بِدِرْعٍ ، حَتَّى أُدْرِكَ بِرِدَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَتْ : فَقَضَيْتُ حَاجَتِي ، ثُمَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولين لأهل العلم ، ومن أصحابنا من قال : لا تلزمه ، وهو أصل مالك : في أن السنن لا تُقضى إذا فاتت بفوات أفعالها أو أوقاتها.
وقولها : " حتى تجلاني الغَشْيُ أو الغَشِيُّ " : الأول بسكون الشين ، والثاني بكسرها ، وكلاهما بالغين المعجمة ، وهما بمعنى واحد ، وهو خفيف الإغماء ، وأتى الراوي باللفظين لأنه شك هل سمعه منها مُسَكّنة أو مثقَّلة. ووقعت هذه اللفظة عند الطبري بالعين المهملة ، وليس بشيء .
وقولها : " فجعلت أصب على رأسي ووجهي الماء " ، هذا كان منها لطول القيام وشدة الحر ، فإنها رأت أن فعل مثل هذا مع شدة الحاجة إليه يجوز ؛ لخفة أمر ما ليس بفريضة ، ولأن هذا الفعل ليس من قبيل العمل الكثير الذي ينصرف به عن الصلاة ؛ كتأخر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتقدمه في هذه الصلاة . وفي هذا الحديث أبواب كثيرة من الفقه ؛ منها ما ذكر ، ومنها ما لم يذكر ، إلا [أنها] لا تخفى على المتأمل الفطن .
جِئْتُ فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَائِمًا ، فَقُمْتُ مَعَهُ ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ حَتَّى رَأَيْتُنِي أُرِيدُ أَنْ أَجْلِسَ ، ثُمَّ أَلْتَفِتُ إِلَى الْمَرْأَةِ الضَّعِيفَةِ ، فَأَقُولُ : هَذِهِ أَضْعَفُ مِنِّي فَأَقُومُ ، فَرَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَطَالَ الْقِيَامَ حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَعْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/439)
وقول عائشة رضي الله عنها : " ففزع فأخطأ بدرع " ، قد تقدم الكلام على الفزع ، ومعنى : " أخطأ بدرع " ؛ أي غلط في ثوبه فلبس درعًا غَيْره [لاستعجاله] ، وفي بعض رواياته : " فخطا بدرع "- ثلاثيًّا -. قال القاضي : ولعله : " خطئ ". قال ابن عرفة : أخطأ في العمد وغيره ، وخطئ بمعناه ، وكلاهما مهموز . وقال الأزهري : أخطأ : إذ لم يتعمد ، وخطئ : إذا تعمد . والخطأ : [ ضد الصواب] ، مهموز يُمد ويقصر ، والمد قليل ، والمصدر ممدود : خطّاء وإخطاء . والخِطْء - بكسر الخاء وسكون الطاء - : الإثم ، فأما الخِطاء بالكسر والمد ؛ فهو من التخطي .
قلت : ويظهر لي أن معنى قولها : " أخطأ بدرع " ؛ أي : أخطأ فانصرف بدرع وحده من غير رداء ، ولذلك قالت : " حتى أُدرك بردائه ". وأما رواية ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من رواه : "فخطا " ؛ فأظن تلك الرواية وقعت بغير همز ؛ من الخطو ، يقال : خطا يخطو خطوًا ، والواحدة : خطوة ؛ كما قال الشاعر :
ومَرَّ يَخطُو سَرِيعًا فِي تَأَوُّدِهِ يَا لَيْتَهُ فِي سَوَادِ النَّاظِرين خَطَا
فيكون معناه : أنه مشى خطوات بدرعه من غير رداء حتى أُدرك به ، والله أعلم .
وقوله : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى " ؛ أي : أن كسوفهما آية من آيات الله ؛ لأنه الذي خرج الحديث بسببه ، ثم هل يتعدى الأمر بالصلاة عند الكسوف إلى كل آية مخوفة ؛ كالزلازل والصواعق ، والرياح الشديدة وشبهه من الآيات ؟ فذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور وأشهب إلى الصلاة عند ذلك كله . وقد روي عن مالك ، وروي عن ابن عباس ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وابن مسعود ، والمشهور عن [مالك و] الشافعي والجمهور : أن ذلك
---(3/440)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مخصوص بالكسوف ؛ لأن قوله : (( آيتان )) لم يخرج مخرج التعليل ، وإنما خرج مخرج الإعلام ؛ كما قال : (( فإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، وإنما هما آيتان من آيات الله )) ، والله أعلم .
***********
5
كتاب الجنائز
(1) باب تلقين الموتى ، وما يقال عند المصيبة ، وعند حضور
المرضى والموتى
1- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إِلهَ إِلا اللهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الجنائز
من باب تلقين الموتى
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله )) ؛ أي : قولوا لهم ذلك ، وذكِّروهم به عند الموت ، وسمّاهم موتى ؛ لأن الموت قد حضرهم .
---(3/441)
وتلقين الموتى هذه الكلمة سنة مأثورة عَمِلَ بها المسلمون ، وذلك ليكون آخر كلامه : لا إله إلا الله ، فيختم له بالسعادة ، وليدخل في عموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله ؛ دخل الجنة )) ، ولينبَّه 2- وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي ، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا ، إِلا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا )). قَالَتْ : فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ : أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَتْ : فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ ، يَخْطُبُنِي لَهُ ، فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّ لِي بِنْتًا ، وَأَنَا غَيُورٌ . فَقَالَ : (( أَمَّا بِنْتُهَا فَنَدْعُو اللهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا ، وَأَدْعُو اللهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ )). وَفِي رِوَايَةٍ : (( ثُمَّ عَزَمَ اللهُ لِي فَقُلْتُهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الْمحتَضَرَ على ما يدفع به الشيطان ، فإنه يتعرَّض للمحتضر ليفسد عليه عقيدته ، فإذا تلقنها المحتَضَر وقالها مرَّةً واحدة ، فلا تُعاد عليه ؛ لئلا يتضجَّر ، وقد كره أهل العلم الإكثار عليه من التلقين ، والإلحاح عليه إذا هو تلقنها ، أو فُهِم عنه ذلك .(3/442)
وفي أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتلقين الموتى ما يدلّ على تعيُّن الحضور عند المحتَضَر ؛ لتذكيره وإغماضه ، والقيام عليه ، وذلك من حقوق المسلم على المسلمين ، ولا خلاف في ذلك .
---
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله : إنا لله وإنا إليه راجعون )) ؛ هذا تنبيه على قوله تعالى : { وبشر الصابرين } ، مع أنه ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس فيها أَمْرٌ بذلك القول ، وإنما تضمنت مدح من قاله ؛ فيكون ذلك القول مندوبًا ، والمندوب مأمور به ؛ أي : مطلوب ومقتضًى ، وإن سُوّع تركه .
وقال أبو المعالي : لم يختلف الأصوليون أنّ المندوب مقتضًى ومطلوبٌ ، وإنما اختلفوا هل يُسمَّى مأمورًا به ؟
قلت : وهذا الحديث يدلّ على أنه يُسمَّى بذلك .
وقوله : (( إنا لله وإنا إليه راجعون )) ، كلمة اعتراف بالملك لمستحقّه ، وتسليمٌ له فيما يُجريه في ملكه ، وتهوينٌ للمصائب بتوقع ما هو أعظم منها ، وبالثواب المرتّب عليها ، وتذكير للمرجع والمآل الذي حَكَم به ذو العزّة والجلال .
وقوله : (( اللهم أْجُرْنِي في مصيبتي )) ، هو من الأجر ، وهو الثواب ، قال صاحب "الأفعال" : يقال : آجره الله ، بالمدّ وبغير المدّ . وقال الأصمعيّ : هو مقصور لا يمدّ ، وهو الذي حكاه أكثر أهل اللغة .
وقول أم سلمة رضي الله عنها : " عزم الله لي " ؛ أي : خلق فيّ قصدًا مؤكّدًا ، وهو العزم ، لا أنّ إرادة الله تسمّى عزمًا ، لعدم الإذن في ذلك ، والله أعلم .(3/443)
3- وَعَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ ، أَوِ الْمَيِّتَ فَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ )) ، قَالَتْ : فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ ، قَالَ : قُولِي : (( اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلَهُ ، وَأَعْقِبْنِي مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً )) ، قَالَتْ : فَقُلْتُ فَأَعْقَبَنِي اللهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِي مِنْهُ ، مُحَمَّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها : " وأنا غَيور " ؛ أي : كثيرة الغَيرة ، وقد جاءت فَعول في صفة المؤنّث كثيرًا ، وإن كان أصلها للمذكّر . قالوا : امرأة ضَحوك وعَروب وعروس ، وعقبة كَؤُود ، وأرض صَعُود وحَدُور وهَبُوط . ويقال : امرأة غَيرَى ، ورجل غَيرَان ، كسكرى وسكران ، وغضبى وغضبان ، وهو القياس.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا حضرتم الميت فقولوا خيرًا )) : أمر تأديبٍ وتعليمٍ بما يقال عند الميت ، وإخبارٌ بتأمينِ الملائكة على دعاء مَنْ هناك .
ومن هذا استحب علماؤنا أن يحضر الميت الصالحون وأهلُ الخير حالة موته ليذكِّروه ، ويدعوا له ولمن يخلفه ، ويقولوا خيرًا ؛ فيجتمع دعاؤهم وتأمين الملائكة ، فينتفع بذلك الْمَيّت ومن يُصاب به ، ومن يخلفه .
وقوله : (( وأعْقِبْني منه عقبى حسنةً )) ؛ كما قالت : " وأخلف لي خيرًا منها" ؛ أي : عاقبة جميلة .
*************
( 2 ) باب في إغماض الميت ، والدعاء له(3/444)
4- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ، ثُمَّ قَالَ : (( إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ ، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ ، فَقَالَ : لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلا بِخَيْرٍ ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ )). ثُمَّ قَالَ : (( اللهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إغماض الميت
---
قوله : " شَقَّ بصرُهُ " : صوابه وصحيحه : شق بفتح الشين مبنيًّا للفاعل ، وبرفع البصر ؛ أي : انفتح . يقال : شَقّ بصرُ الميت ، وشقّ الميت بصره : إذا شخص بصرُه ، بفتح الخاء أيضًا ، قاله صاحب "الأفعال" ، ولم يَعرِف أبو زيد الضمَّ .
وإغماض الميت : شدّ أجفانه بعد موته ، وهو سنّة عَمِل بها المسلمون كافّةً ، ومقصوده : تحسين وجه الميت ، وسترُ تغيُّرِ بصره .
و " المهديون " : الذين هُدُوا إلى الصراط المستقيم : صراط الله .
5- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَلَمْ تَرَوُا الإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ ؟ )) ، قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : (( فَذَلِكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/445)
وقوله : (( واخلفه في عقبه في الغابرين )) ؛ أي : كن الخليفة على من يتركه من عقبه ويبقى بعده ، ويعني بالغابرين : الباقين ؛ كما قال تعالى : { إلا امرأته كانت من الغابرين } ؛ أي : الباقين في العذاب . و" غبر " من الأضداد ؛ يقال : بمعنى : بَقِيَ ، وبمعنى : ذَهَبَ .
وقوله : (( إن الروح إذا قُبض تبعه البصرُ )) ، وفي حديث أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : ((فذلك حين يتبع بصرُه نفْسَه )) ، يدلّ على أن الروح والنفس عبارتان عن معنى واحد ، وهو الذي يُقبض بالموت ، والله أعلم .
وفيهما ما يدلّ على أن الموت(5) ليس عدمًا ولا إعدامًا ، وإنما هو انقطاعُ تعلُّقِ الروحِ بالبدن ، ومفارقتُه ، وحيلولةٌ بينهما ، ثم إنّ البدن يبلى ويفنى ، إلا عَجْب الذنب الذي منه بُدئ خلقُ الإنسان ، ومنه يركب الخلق يوم القيامة(6).
( 3 ) باب ما جاء في البكاء على الميت وعنده
---
6- عَنْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ : لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ : غَرِيبٌ وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ ، لأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً يُتَحَدَّثُ عَنْهُ ، فَكُنْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ ، إِذْ أَقَبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِي ، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخِلِي الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللهُ مِنْهُ ؟ )) مَرَّتَيْنِ ، فَكَفَفْتُ عَنِ الْبُكَاءِ فَلَمْ أَبْكِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في البكاء على الميت
قول أمّ سلمة رضي الله عنها : " لأَبْكينّه بكاءً يُتَحَدَّثُ عنه " ؛ أي : تنوح عليه نياحةً شديدةً ، وذلك منها على ما كانوا عليه من النياحة والاجتماع لها ، قبل أن يبلغها تحريمُ النياحة ، والله أعلم .(3/446)
و " الصعيد " هنا : أعالي الأرض ، وكأنّها تريد عوالي المدينة ، ومنه : صعيد مصر ؛ أي : أعالي بلادها. و" تُسعِدني" معناه : توافقني على النياحة.
وقوله : (( أتريدين أن تُدخلي الشيطان بيتًا أخرجه الله منه )) مرّتين ؛ يحتمل ذلك - والله أعلم- أن يكون بسبب صحّة إسلام أبي سلمة ، وحسن هجرته .
---
7- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ ، وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا ، أَوِ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ : (( ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى ، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ )) ، فَعَادَ الرَّسُولُ فَقَالَ : إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا . قَالَ : فَقَامَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ ، مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فَقَالَ : (( هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " ونفسه تقعقع كأنها في شَنَّة ". قال الهروي : يقال : تَقَعْقَعَ
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/447)
الشيءُ : إذا اضطرب وتحرك ، ويقال : إنه ليتقعقع لَحْيَاه من الكِبَر . قال غيره : القعقعة هنا : صوت النَّفَس وحشرجة الصدر ، ومنه : قعقعةُ الجلود ، والتِّرسَة والأسلحة ، وهي : أصواتها .
و "الشَنّة" : القِربة البالية ، فكأنّه شبّه صوتَ نَفَسِه وقلقلته في صدره بصوت ما ألقي في القربة البالية اليابسة من الماء إذا حُرِّك فيها . ومن أمثالهم : لا يُقعقَع له بالشّنان ؛ أي : لا يُقرَع بقرعه ، كما يُفعل بالصبي.
---
وقوله : (( هذه رحمة )) ؛ أي : رقِّةٌ يجدها الإنسان في قلبه ، تبعثه على البكاء من خشية الله تعالى ، وعلى أفعال البر والخير ، وعلى الشفقة على المبتلى والمصاب ، ومَن كان كذلك ؛ جازاه الله برحمته ، وهو المعْنّي بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما يرحم الله من عباده الرحماء )) ، وضد ذلك القسوة في القلوب ، الباعثة على الإعراض عن الله تعالى ، وعن أفعال الخير . ومن كان كذلك ، قيل فيه : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله }.
8- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ ، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ ، فَقَالَ : (( أَقَدْ قَضَى ؟ قَالُوا : لا ، يَا رَسُولَ اللهِ! فَبَكَى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَكَوْا ، فَقَالَ : (( أَلا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/448)
وقوله : " فوجده في غشية" ، روايتنا فيه بسكون الشين وتخفيف الياء ، وقد رواه جماعة من الشيوخ بكسر الشين وتشديد الياء . وقال الحافظ أبو الحسن : لا فرق بينهما ، هما واحد ، يريد من الغشاوة.ورواه البخاري : " في غاشية" ، قال : يحتمل وجهين : مَن يغشاه من الناس ، أو ما يغشاه من الكرب.
وقوله : (([ أقد] قضى ؟ )) أي : مات .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : (( إن الله لا يعذب بدمع العين ، ولا بخرن القلب )) : يدل على أن البكاء الذي لا يصحبه صوتٌ ولا نياحةٌ جائز ، قبل الموت وبعده ، بل قد يقال فيه : إنه مندوب إليه ؛ لأنه قد قال فيه : إنه رحمة ، والرحمة مندوب إليها .
فأمّا النياحة التي كانت الجاهلية تفعلها ؛ من تعديد خصال الميت ، والثناء عليه بما كان فيه من الخصال الدُّنيوية والمذمومة ، والصراخ الذي يُخرجه الجزع المفضي إلى السّخط والعبث ؛ من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، فكل ذلك محرَّم ، من أعمال الجاهلية ، ولا مخالف فيه .
فأمّا بكاء وصراخ لا يكون معه شيء من ذلك فهو جائر قبل الموت ، مكروة بعده .
أمّا جوازه فبدليل حديث جابر بن عقبة الذي خَرَّجه مالك ، وذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاء يعود عبدالله بن ثابت ، فوجده قد غلب عليه ، فصاح به ، فلم يُجبْه ، فاسترجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقال : (( غُلِبْنا عليك أبا الربيع )) ، فصاح النسوة وبكين ، فجعل جابر يُسكِتُهنّ ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دعهن ، فإذا وجبت(2) فلا تبكين باكية )).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/449)
ووجه الاستدلال : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرّهن على البكاء والصياح قبل الموت ، وأمر بتركهنّ على ذلك.
وإنما قلنا : إنه مكروه بعد الموت ليس بمحرَّم ؛ لما في حديث جعفر من بكائهن بعد الموت ، وإعلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ونهيهن عنه ، فلما لم ينكَفِفْن ، قال للمبلّغ : (( احْثُ في أفواههنّ التراب )) ، ولم يبالغ في الإنكار عليهن ، ولا زجرهن ، ولا ذمّ ، ولو كان ذلك محرَّمًا لفعل كل ذلك ، والله أعلم .
وبهذا الذي قررناه يرتفع الاختلاف بين ظواهر الأحاديث التي في هذا الباب ، ويصح جمعها ، فتمسّكْ به ، فإنه حسن جدًّا ، وهو الصواب إن شاء الله.
( 4 ) باب في عيادة المريض ، والصبر عند الصدمة الأولى
---
9- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَدْبَرَ الأَنْصَارِيُّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يَا أَخَا الأَنْصَارِ ! كَيْفَ أَخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ )) ، فَقَالَ : صَالِحٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ ؟ )) فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ وَنَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ ، مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ وَلا خِفَافٌ وَلا قَلانِسُ وَلا قُمُصٌ ، نَمْشِي فِي تِلْكَ السِّبَاخِ حَتَّى جِئْنَاهُ ، فَاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْلِهِ ، حَتَّى دَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب عيادة المريض
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كيف أخي سعد ؟ )) دليل على حسن التعاهد ، وتفقُّد الإخوان ، والسؤال عن [أحوالهم] إذا فُقدوا ، وعلى الاستلطاف في السؤال عنهم .(3/450)
وقوله : (([من] يعوده منكم ؟ )) حضٌّ على عيادة المرضى ، وقد ورد في ذلك أحاديثُ كثيرةٌ تدلّ على نَدبيَّتها ، وكثرة ثواب فاعلها ، وهي مندوبة ،
10- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا ، فَقَالَ لَهَا : (( اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي )) ، فَقَالَتْ : وَمَا تُبَالِي بِمُصِيبَتِي ؟ فَلَمَّا ذَهَبَ ، قِيلَ لَهَا : إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ ، فَأَتَتْ بَابَهُ ، فَلَمْ تَجِدْ عَلَى بَابِهِ بَوَّابِينَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ! لَمْ أَعْرِفْكَ ، فَقَالَ : (( إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ - أَوْ قَالَ : عِنْدَ أَوْلِ الصَدْمَةٍ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : مَرَّ بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقد تجب إذا خِيف على المريض [ضيعة] ، فإن التمريضَ واجبٌ على الكفاية ، فمن قام به سقط عن غيره ، والله أعلم .
وقوله : " أتى على امرأة تبكي على صبيٍّ لها " : هذا البكاة كان معه ما يُنكَر ؛ من رفع صوت أو غيره ؛ كالجزع ، وأمّا نفس البكاء فعلى ما تقدَّم من الإباحة .
وقوله : " فأخذها مثل الموت " ، خوفًا من سوء أدبها في ردها عليه ، وحياءً من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وظاهرُ حال هذه المرأة أنها لم تعرفه لشدة حزنها وماكانت فيه .
وقوله : (( إنما الصبر عند أول صدمة )) ؛ يعني : إنما الصبر الشاقُّ [الصعب
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/451)
على النفس ] ؛ الذي يعظم الثواب عليه ، إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها ، فإنه يدلّ على قوَّة النفس وتثبُّتها ، [ وتمكنها] في مقام الصبر ، وأما إذا بردتْ حرارةُ المصيبة فكل أحدٍ يصبر إذ ذاك ؛ ولذلك قيل : يجب على العاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بدّ للأحمق منه بعد ثلاث ؛ ولهذا المعنى ابيح للمصابة أن تحدّ على غير زوجها ثلاثًا لا غير ؛ إذ بعدها تبرد المصيبة غالبًا ، وأما دوام الإحداد إلى أربعة أشهر وعشرة للمتوفى عنها زوجها ، فلمعنى يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
و " الصدم " : أصله الضرب في الشيء الصلب ، ثم استعير لمن فجأتْه المصيبة . ومعنى هذا القول : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما صادمته هذه المرأة بقولها : " إليك عني" ، كما رواه البخاري ، وبقولها : " ما تبالي بمصيبتي "- وهو سوء أدب يُتأذَّى به - ، قابل ذلك بالصبر ، وحلُمَ عنها ، ولم يؤاخذْها به مع تمكنه من ذلك ، فحصل من الصبر على أَشَقِّه على النفوس ، وأعظمه في الثواب .
---
هذا ما سمعناه في هذا ، ويحتمل عندي أن يَنْجَرَّ مع هذه للمرأة منه معنى ؛ وذلك أنها لما شاهدت قبر ابنها تجدَّدت عليها مصيبتها ، فكان ابتداء تجدُّدها ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدمة أُولى صُدِمَتْها ، فلم تصبر حتى غشيها من الجزع ماصدّها عن معرفة من كلَّمها ، ثم لما أفاقت من ذلك جاءت معتذرة مُظهرة [للتجلد] ، فقال لها ذلك ، منبهًا على أنها قد فاتها محل الصبر والأجر ، والله أعلم .
وقوله : " لم تجد على باب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوابين " ؛ لأن ذلك كان عادته تواضُعه ، ومجانبته أحوال المترفين والمتكبرين ؛ لأنه كان نبيًّا عبدًا ، لا نبيًّا مَلِكًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
*************
( 5 ) باب ما جاء أن الميت ليعذبُ ببكاءِ الحَيِّ عليه
---(3/452)
11- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ ، قَالَ : فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا ، قَالَ : فَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا ، قَالَ : جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا ، قَالَ : ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ ، وَهُوَ مُوَاجِهُهُ : أَلا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ ؟ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ )). فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ حَدَّثَ فَقَالَ : صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَة فَقَالَ : اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلاءِ الرَّكْبُ ؟ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ . قَالَ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : ادْعُهُ لِي. قَالَ : فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ ، فَقُلْتُ : ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . فَلَمَّا أَنْ أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ : وَا أَخَاهْ ! وَا صَاحِبَاهْ ! فَقَالَ عُمَرُ : يَا صُهَيْبُ ! أَتَبْكِي عَلَيَّ ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ )) ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ ، فَقَالَتْ : يَرْحَمُ اللهُ عُمَرَ ، لا وَاللهِ ! مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إن الميت ليعذب ببكاء الحي
---(3/453)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الميت ليعذب ببكاء أهله )) : اختلف في معناه على أقوال ؛ فأنكرته عائشة رضي الله عنها ، وصرحت بتخطئة الناقل أو نسيانه(2) ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَحَدٍ ، وَلَكِنْ قَالَ : ((إِنَّ اللهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ )) ، قَالَ : وَقَالَتْ عَائِشَةُ : حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } قَالَ : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ : وَاللهُ أَضْحَكَ وَأَبْكَى.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : فَوَاللهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ شَيْءٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ : لَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ ، قَالَتْ : إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِّي عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ وَلا مُكَذَّبَيْنِ وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحملها على ذلك أنها لم تسمعه كذلك ، وأنه معارض بقوله تعالى : { ولا تزرو وازرة وزر أخرى } ، وهذا فيه نظر . أما إنكارها ونسبة الخطأ لراويه فبعيد ، وغير بيِّن ولا واضح ، وبيانه من وجهين :(3/454)
أحدهما : أن الرواة لهذا المعنى كثير ؛ عمر ، وابن عمر ، والمغيرة بن شعبة ، وقيلة بنت مخرمة ، وهم جازمون بالرواية ، فلا وجه لتخطئتهم ، وإذا أُقدِم على ردّ خبر جماعة مثل هؤلاء مع إمكان حمله على محمل 12- وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ : ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ )). فَقَالَتْ : وَهِلَ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ أَوْ بِذَنْبِهِ ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآنَ )) وَذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
صحيح ، فلأن يُردّ خبر راوٍ واحد أولى ، فردُّ خبرها أولى ، على أن الصحيح : ألا يُردّ واحدٌ من تلك الأخبار ، وننظر في معانيها كما نبيِّنه .
وثانيهما : أنه لا مُعارضة بين ما روت هي ولا ما رووا هم ؛ إذ كلُّ واحد منهم أخبر عمَّا سمع وشاهد ، وهما واقعتان مختلفتان .
وأما استدلالُها على ردّ ذلك بقوله تعالى : { ولا تزرو وازرة وزر أخرى} ، فلا حجة فيه ، ولا معارضة بين هذه الآية والحديث ، على ما نُبديه من معنى الحديث إن شاء الله تعالى .
مِثْلُ قَوْلِهِ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ : (( إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ )) ، وَقَدْ وَهِلَ ، إِنَّمَا قَالَ : (( إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ ، ثُمَّ قَرَأَتْ : {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ، { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ }. يَقُولُ : حِينَ تَبَوَّءُوا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ )).(3/455)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ : (( الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد اختلف العلماء فيه ، فقيل : محمله على ما إذا كان النوح من وصيّته وسنّته ، كما كانت الجاهلية تفعل ، حتى قال طرفة :
إذا مِتُّ فانْعَيْنِي بما أنا أهله وشقِّي عليّ الجيب يا بنة معبد
وقد جمع عبدالمطلب بناته عند موته وأمرهن أن ينعَيَنه ويندبنه ففعلن ، وأنشدت كل واحدة منهن شعرًا تمدحه فيه ، فلما فرغن قال آخر ما كلّمهن : أحسنتنَّ ، هكذا فانْعَيْنَني ، وإلى هذا [نحا] البخاري .
---
وقيل : معناه : أن تلك الأفعال التي يُبكى بها الميت ، مما كانوا يفعلونه في الجاهلية ؛ من قتل النفوس ، وأخذ الأموال ، وإخراب البلاد ، وغير ذلك ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأهلُه يمدحونه بها ، ويعدِّدونها عليه ، وهو يُعذَّب لسببها ، وعلى هذا تُحمل رواية من رواه : (( ببعض بكاء أهله )) ؛ إذ ليس كل ما يُعدِّدونه من خصاله يكون مذمومًا ، فقد يكون من خصاله : كرم ، وإعتاقُ رقابٍ ، وكشف كرب .
وقد دلّ على صحّة هذا التأويل : حديث عبد الله بن رواحة ـ رضى الله عنه ـ ؛ حيث أُغمِي عليه ، فجعلت أخته عمرة تبكي : واجَبَلاه ! واكذا ! واكذا ، تُعدِّد عليه ، فأفاق وقال لها : ما قلتِ شيئًا إلا قيل لي : أنت كذلك ؟ فلما مات لم تبك عليه ، خرَّجه البخاري ، وذهب داود وطائفة إلى اعتقاد ظاهر الحديث ، وأنه إنما يعذب بنوحهم ؛ لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك ، فيعذَّب بتفريطه في ذلك ، وبترك ما أمر الله تعالى به من قوله تعالى : { قوا أنفسكم وأهليكم نارًا }.(3/456)
وقيل : معناه : أنه يعذّب بسماع بكاء أهله ؛ لرقَّته لهم ، وشفقته عليهم ؛ لما يصيبهم من أجله . وقد دلّ على صحة هذا المعنى : حديث قيلة ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بنت مخرمة [العنبرية] ، وبكت على ابنها مات عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال لها وأنكر عليها : (( والذي نفسي محمد بيده ! إن أحدكم ليبكي [فيستعبر] له صويحبُه ، يا عباد الله ! لا تعذبوا إخوانكم )) ، ذكره أبو بكر بن أبي شيبة ، وهو حديث طويل مشهور ، وهذا التأويل حسن جدًّا ، ولعله أولى ما قيل في ذلك ، والله أعلم .
---
وَفِي أُخْرَى : فَقَالَتْ عَائِشَةُ : يَغْفِرُ اللهُ لأَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا ، فَقَالَ : (( إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا ، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسكوت ابن عمر عن عائشة حين قالت ماقالت ؛ ليس لشكٍّ فيما رواه ، لا هو ولا أبوه عمر رضي الله عنهما ؛ فإنهما قد صرّحا برفع ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإنما كان - والله تعالى أعلم - : لأنه ظهر له أن الحديث قابل للتأويل ، ولم يتعيَّن له محمل ، أو سكت محترمًا لها عن أن يراجعها في ذلك المجلس وفي ذلك الوقت ، وأخّر ذلك لوقت آخر ، مع أنه لم [ تُرهِق] إليه في ذلك الوقت حاجة يعتدّ بها ، والله أعلم .(3/457)
وقولها : " وهل أبو عبدالرحمن". قال الهروي : يقال : وهَلَ يَهلُ إلى الشيء : إذا ذهب [وهْمُه] إليه ، ومنه قول ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ : " وَهِلَ أنس" ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يريد : غلط ، فأما وَهِلْتُ من كذا ، أَوْهَلُ ، فمعناه : فَزِعتُ ، ومنه الحديث : " فقمنا وَهِلِين " ؛ أي : فزعين .
وقال أبو عبيد في "المصنف" : قال أبو زيد : وَهِلت في الشيء ، ووهِلت عنه ، أَيْهَل ، وهلاً : [ أنسيتُ وغلِطْتُ . ووهلتُ في الشيء أهِلُ وهلاً] : إذا ذهب وَهَمُك إليه .
و " القليب " : البئر غير المطويّة ، وأمّا إنكار عائشة على ابن عمر سماع أهل القليب ، فمن قبيل ما تقدّم ؛ وذلك أنها أنكرت ما رواه الثقة الحافط لأجل أنها ظنّت أن ذلك مُعارض بقوله تعالى : { وما أنت بمسمع من في القبور} ، و: { إنك لا تسمع الموتى } ، ولا تعارض بينهما ؛ لوجهين :
---
أحدهما : أن الموتى في الآية إنما يراد بهم الكفار ، فكأنهم موتى في قبورهم ،
13- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، فَصِيحَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ : أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّ حَفْصَةَ بَكَتْ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ : مَهْلاً يَا بُنَيَّةُ ! أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/458)
والسماع يراد به الفهم والإجابة هنا ؛ كما قال تعالى : { ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } ، وهذا كما سَمّاهم : { صمٌّ بُكمٌ عُمْيٌ } ، مع سلامة هذه الحواسّ منهم .
وثانيهما : أنا لو سلمنا أن الموتى في الآية على حقيقتهم ؛ فلا تعارُض بينها وبين أن بعض الموتى يسمعون في وقت ما ، أو في حال ما ، فإن تخصيص العموم ممكن وصحيح إذا وُجد المخصِّص ، وقد وُجد [هنا] ؛ بدليل هذا الحديث وحديث أبي طلحة الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أهل بدر : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
((والذي نفسي بيده ! ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم )) ، وهو متفق عليه ، وبما في معناه ؛ مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الميت : (( إنه ليسمع قرعَ النِّعال )) ، وبالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره ، وجوابه لهما ، إلى غير ذلك ما لا يُنكر .
---
فحديث ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ صحيح النقل ، وما تضمنه [يقبله] العقل ، فلا طريق لتخطئته ، والله تعالى أعلم . وأيضًا فقد رواه عمر ـ رضى الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( ما أنتم بأسمع لما أقول [منهم] )) ، ورواية من روى : (( إن الميت ليعذب ما نِيح عليه )) ؛ يشهد لما اخترناه في تأويل الحديث المتقدم . و" ما "
14- وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هنا ظرفية ، تقديره : مدة النياحة عليه ، وما يعذب بسببه مسكوت عنه هنا ، وهو ما تقدم ، والله أعلم .(3/459)
وفي "الأم" : أن عمر ـ رضى الله عنه ـ لما طعن عوّلت عليه حفصة رضي الله عنها ، هكذا صحيح الرواية ، وقد روي : " أعْوَلَتْ " ، وهما لغتان ، غير أن الثانية أشهر وأفصح ، وكلاهما من العويل ، وهو البكاء ومعه صوت .
************
( 6 ) باب التشديد في النياحة ، وما جاء في اتباع الجنائز
15- عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، لا يَتْرُكُونَهُنَّ : الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ ، وَالنِّيَاحَةُ )) ، وَقَالَ : (( النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا ، تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التشديد في النياحة
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أربع في أمتي من أمر الجاهلية )) ؛ أي : من شأنهم وخصالهم ،
و (( لا يتركونهن )) ، يعني : غالبًا .
---
و (( الفخر في الأحساب )) ؛ يعني : الافتخار بالآباء الكبراء والرؤساء ، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي ، الناس كلّهم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب )).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (( الطعن في الأنساب )) : استحقارُها وعيْبُها ، وقد تقدم الكلام على الاستسقاء بالنجوم .
والاستسقاء : استدعاء السُّقي وسؤالُه ، وكأنهم كانوا يسألون من النجوم أن تسقيهم ؛ بناءً منهم على اعتقادهم الفاسد في أن النجوم تُوجِد المطر وتخلقه .(3/460)
و " السربال " : واحد السرابيل ، وهي : الثياب والقُمُص ، يعني : أنّهنّ تلطَّخْنَ بالقطِرَان ، فيصير لهنّ كالقُمُص ، حتى يكون اشتعال النار والتصاقها بأجسادهن أعظم ، ورائحته أنتن ، وألمها بسبب الجرب أشدّ .
---
16- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ . قَالَتْ : وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ - شَقِّ الْبَابِ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ فَيَنْهَاهُنَّ ، فَذَهَبَ فَأَتَاهُ ، فَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ ، فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ : وَاللهِ ! لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَتْ : فَزَعَمَتْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : اذْهَبْ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ قَالَتْ عَائِشَةُ ، قُلْتُ : أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَكَ وَاللهِ مَا تَفْعَلُ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنَ الْعَنَاءِ . وَفِي رِوَايَةٍ : مِنَ الْعِيِّ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها : " من صائر الباب" ، قد فسّره في الحديث بشقّ الباب ، وهكذا صحّت روايته . قال الإمام : والصواب : " صِيْر الباب "- بكسر الصاد -.
وفي حديث آخر : (( من اطلَّع من صِير باب فقد دَمَر )) ، وهو شَقّ الباب ، و" دَمَر " : دخل بغير إذن .(3/461)
وكون نساء جعفر لم يُطِعْن الناهي لهنّ عن البكاء ، إمّا لأنه لم يُصرِّح لهن بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهاهن ، فظننَّ منه أنه كالمحتسب في ذلك وكالمرشد للمصلحة ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو لأنهن غُلبن في أنفسهن على سماع النهي ؛ لحرارة المصيبة ، والله تعالى أعلم.
---
وقوله : (( احثُ في أفواههنّ التراب )) ؛ يدلّ على أنهنّ صرخْن ؛ إذ لو كان بكاءً بالعين فقط ، لم كان لملء أفواههنّ بالتراب معنًى ، وليس أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل بذلك ليفعله بهن على كل حالٍ ، ولكن على طريق أن هذا مما يُسكتهنّ إن فعلتَه ، فافعلْه إن أمكنك ، وهو لا يمكنك .
وفيه دليل على أن المنهي عن المنكر ، إن لم ينته عوقب وأُدِّب إن أمكن ذلك ، وإلا فالملاطفة فيه أولى إن وقعت.
وقول عائشة رضي الله عنها للرجل : " أرْغَمَ الله أنفك " ؛ أي : ألصقه الله بالرغام- وهو التراب - ، دعت عليه ؛ لأنها فهمت أنه أَحْرَجَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكثرة تكراره عليه وإخباره ببكائهن ، ولذلك قالت له : " والله ما تفعل ما أمرك به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أي : لا تقدر على فعله ، لتعذُّره عليك(6) ، وما تركتَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العناء . ولم تُرِد الاعتراض على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمره .
17- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنَ البَيْعَةِ أَلا نَنُوحَ ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ إِلا خَمْسٌ : أُمُّ سُلَيْمٍ ، وَأُمُّ الْعَلاءِ ، وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ ، أَوِ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/462)
ووقع في رواية العذري مكان : " من العناء" "من الغيّ "- بالغين المعجمة والياء المشدَّدة ، الذي هو ضد الرشد ، وعند الطبري مثله ، إلا أنه بالمهملة . والأول أليق بالمعنى وأصح ، وكذلك رواه البخاري .
وقول أم عطية رضي الله عنها : " أخذ علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا ننوح " ، دليل على تحريم النياحة ، وتشديد المنع فيها ؛ لأنها تستجلب الحزن ، وتصدّ عن الصبر المحمود .
---
وقولها : " فما وفتْ منّا امرأة إلاَّ خمس " ، ثم [ذكرت] ثلاثًا أو أربعًا ، قال عياض : معناه : أنه لم يفِ ممن بايع معها على ذلك . وفي كتاب ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البخاري تكميلهنَّ ، فقال : ابنة أبي سبرة ، وامرأة معاذ ، وامرأتان ، أو ابنة أبي سبرة ، وامرأة معاذ ، وامرأة أخرى .
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إِلا آلَ فُلانٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَسْعَدُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أُسْعِدَهُمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِلا آلَ فُلانٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أم عطية عند المبايعة : " إلا آل فلان ، فإنهم كانوا [أسعدوني] في الجاهلية فلا بدّ لي من أن أسعدهم " ، فقال : (( إلا آل فلان )) ، أشكل هذا الحديث على العلماء ، وكثرت فيه أقوالهم :
وقيل(3) فيه(4) : إن هذا كان قبل تحريم النياحة .
وهذا فاسد بمساق حديث أم عطية هذا ، فإن فيه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ عليهن في البيعة أن لا يَنُحْن" ، وذكر النياحة مع الشرك ، وألاَّ يعصينه في معروف ، فلولا أنها من المحرمات ، لما أكدّ أمرها عليهن ، بذكرها في البيعة مع محظورات أخر ، ولَمَّا فهمت أم عطية التحريم استثنت .(3/463)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وثانيها : أن ذلك خاص بأم عطية .
وهذا أيضًا فاسد ، فإنه لا يخصّها بتحليل ما كان من قبيل الفواحش كالزنى وشرب الخمر .
وثالثها : أن النهي عن النياحة إنما كان على جهة الكراهة ، لا على جهة العزم والتحريم .
---
وهذا أيضًا فاسد بما تقدَّم ، وبقوله : (( أربع في أمتي من أمر الجاهلية )) ، وبقوله : (( النائحة إذا لم تتب جاءت يوم القيامة وعليها سربالٌ من قطران ودرع من جرب )) ، وهذا وعيد يدل على أنه من الكبائر .
ورابعها : أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إلا آل فلان )) ، ليس فيه نص على أنها تساعدهم بالنياحة ، فيمكن أنها تساعدهم باللقاء والبكاء الذي لا نياحة فيه ، وهذا أشبهُ مِمَّا قبله .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وخامسها : أن يكون قوله : (( إلا آل فلان )) إعادةٌ لكلامها على جهة الإنكار والتوبيخ ؛ كما قال للمستأذن حين قال : " أنا" ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنا أنا )) ، منكرًا عليه . ويدل على صحة هذا التأويل ما زاده النسائي في حديثٍ بمعنى
18- وَعَنْهَا قَالَتْ : كُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حديث أم عطية ، فقال : (( لا إسعاد في الإسلام )) ؛ أي : على النياحة ، والله أعلم .(3/464)
وقولها : " نُهينا عن اتِّباع الجنائز ، ولم يعزم علينا " ؛ أي : لم يجزم علينا ، ولم يُشدّد علينا . وظاهر كلامها أنهن نُهين عن ذلك نَهي تنزيه وكراهة . وإلى [منع] ذلك صار جمهور العلماء لهذا النهي ، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ارجعنَ مأزورات غير مأجورات )). وإليه ذهب ابن حبيب ، وكرهه مالك للشابة ، [وفي] الأمر المستننكر ، وأجازه إذا لم يكن ذلك ، وأجازه علماء المدينة ؛ لقولها : " ولم يعزم علينا " ، والله تعالى أعلم .
( 7 ) باب الأمر بغسل الميت وكيفيته
---
19- عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ : اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا ، أَوْ خَمْسًا ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي ، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ فَقَالَ : (( أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ )) ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : (( اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ )). وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ : (( مَشَطْنَاهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ )). وَفِي رِوَايَةٍ : (( قَرْنَيْهَا وَنَا صِيَتَهَا )). وَفِي أُخْرَى قَالَ لَهَا : (( ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بغسل الميت
قوله : (( اغسلنها ثلاثًا ، أو خمسًا ، أو أكثر من ذلك إن رأيتنّ )) : لا خلاف في أن غسل الْمَيِّت مشروع ومعمول به في الشريعة ، لكن اختُلف في حُكمه :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/465)
فقيل : الوجوب ، وقيل : سنة مؤكدة ، والقولان في المذهب .
وسبب الخلاف فيه هو أن هذا الأمر ، هل المقصود به بيان حكم الغسل فيكون واجبًا ، أو المقصود به تعليم كيفية الغسل ، فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب ؟ وقد قال بعض أصحابنا : إن قوله في هذا : (( إن رأيتنّ ذلك )) ، يقتضي إخراج ظاهر الأمر بالغسل عن الوجوب ؛ لأنه قد فوّضه إلى نظرهنّ ، وردّ هذا التقييد إلى الأمر بالغسل ، وهذا فيه بُعد ، بل السابق للفهم عود هذا الشرط إلى الأقرب به ، وهو : (( أكثر من ذلك )) ، أو إلى التخيير في الأعداد السابقة ، والأول أظهر .
---
والظاهر من هذا الأمر أنه أمر تعليم ، ولم يقصد به تقييد قاعدة حُكم الغسل ، فلا يُتمسَّك بظاهره ، فالأولى أن غسل الميت سنة ثابتة(4) نقلت
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالعمل ، والله تعالى أعلم .
وهذا الحديث يقتضي استحباب الأوتار في غسل الميت ، وأن أقلَّ ذلك ثلاثٌ ، وليس لذلك عند مالك وبعض أصحابه حدٌّ لازم يُقتصر عليه ، لكنه يُنقى ويُغسل جميعُه ، وإليه يرجع قول الشافعي وغيره من العلماء .
وصَرْف الأمر إلى اجتهاد الغاسل إنما هو بحسب ما يراه زيادة في الإنقاء والاحتياج إلى ذلك ، وكذلك إذا خرج من الميت شيء بعد غسله أعاد غسله ، وقد جاء في الرواية الأخرى : (( أو سبعًا ، أو أكثر من ذلك )). قال أبو عمر ابن عبد البر : لا نعلم أحدًا من العلماء قال بمجاوزة سبع غسلات في غسل الميت . قال أبو الفضل عياض : وإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده ، قال مالك وأبو حنيفة وجماعة من المالكية ، قالوا : وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله . ومنهم من قال : يُوضأ إذا خرج منه شيء بعد الثالثة .(3/466)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( بماء وسدر )) ، احتج بهذا ابن شعبان : ومن يجيز غسله بماء الورد ، وبالماء المضاف . قال ابن الفرضي : " إنما يكره غسل الميت بماء الورد وماء القرنفل من ناحية السرف ، وإلا فهو جائز ؛ إذ لا يُغسل ليطهر ، بل [هو] إكرام للقاء الملكين .
والجمهور على أن غسله بذلك لا يجوز ، وأن ذلك لا يُفهم من الحديث ، لكنه عندهم محمول على أن يُغسل أولاً بالماء القَرَاح [لتتم] الطهارة ، وفي الثانية بالماء والسدر للتنظيف ، ثم في الثالثة بالماء والكافور للتطييب والتجفيف.
---
قال عياض : وهذا حقيقة مذهب مالك ، وحكاه ابن حبيب ، وقال : يُبدأ بالماء والسدر ، ثم بالماء القراح . وقال أبو قلابة مثله ، لكنه قال : ويُحسب هذا غسلة واحدة ، وذهب أحمد : إلى أن الغسلات كلها تكون بالماء والسدر على ظاهر الحديث .
قلت : ويمكن أن يُجعل السدر في الماء ، ويُخضخض حتى تخرج(5) رغوته ، ثم يُدلك جسد الميت ليبالغ في إزالة أدرانه ، ثم يُصبّ الماء عليه ، كالحال في قلع ما يعسر قلعه من الأدران بالغاسول ، ويكون هذا في أول غسله ، كما قاله ابن حبيب ، والله أعلم .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن لم يُوجد سدر فغيره من الغاسول مما يتنزّل منزلته يكفي عند كافة العلماء . وروي عن عائشة رضي الله عنها في غسل رأس الْمَيِّت بالخِطمي نهيٌ .(3/467)
وقوله : (( واجعلن في الآخرة كافورًا )) ؛ يعني : في الغسلة الآخرة ، وعلى هذا جماعة العلماء إلا أبا حنيفة والأوزاعي ، فإنهما رأيا : أن ذلك في الحنوط ، لا في الغسل . وفائدة تخصيص الكافور : تبريده ، وتجفيفه ، ومنعه سرعة التغيّر ، وقوة رائحته ، وسطوعها ، فإن عدم قام غيره من الطيب مقامه ، وهذا كله إكرام للميت ، وإعداد له للقاء الملائكة الكرام ، والله تعالى أعلم .
وقوله : فألقى إلينا حَقْوَه فقال : (( أَشْعِرْنَها إيَّاه )) ، الحقو بالفتح : هو المعروف من كلام العرب ، وقالته هذيل بكسر الحاء ، وأصله : معقد الإزار ، وجمعه : أَحْقٍ ، وأحقاء ، وحُقِيّ : كدَلْو ، وأدْلاء ، ودُلِيّ .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو في هذا الحديث : الإزار ، وهو المئزر الذي يُشد على الحقو ، فسمي باسم الحقو على التوسُّع . كما تقول العرب : عذت بحقو فلان ؛ أي : استجرت به .
---
و"أشعرنها " ؛ أي : اجعلنه مما يلي جسدها . والشعار : الثوب الذي يلي الجسد ، والدثار : الذي يلي الشعار ، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار : (( أنتم شعار ، والناس دثار )) ؛ كناية عن القرب والاتصال بهم .
واختلف في كيفية جعل هذا الإزار عليها : فقال ابن وهب : يُجعل لها مِئزرًا . وقال ابن القاسم : تُلفَّف فيه ولا تُؤزر ، وهو قول ابن سيرين وابن جريج . وقال النخعي : الحقو : فوق الدرع . وقال ابن علية : الحقو : النطاق سَبَنيَّة طويلة يُجمع بها فخذاها ؛ تحصينًا لها ، ثم تُلَفّ على عجزها .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بها لينالها بركة ثوبه ، وفيه جواز تكفين النساء في ثياب الرجال .(3/468)
وقول أم عطية : (( مَشطناها ثلاثة قُرون )) ، قال بهذا الشافعي وأحمد واسحاق وابن حبيب .
وقال الأوزاع : لا يجب المشط ، ولم يعرف ابن القاسم الضفر ، وقال : يُلفُّ .
وقال أبو حنيفة : يُكره ذلك ، ولكن ترسله الغاسلة غير مضفور بين ثدييها دون تسريح .
وسبب هذا الخلاف هو : أن الغعل الذي فعلته أم عطية ؛ هل هي مستندة في ذلك إلى إذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ أو هو شيء رأته ، ففعلته استحسانًا ، ووافقها من كان هناك من النساء ، ولم يعلم بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ وكلاهما محتمل. والأصل : أن لا [ يُفعل ] في الميت شيء من جنس القرب إلا بإذنٍ
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الشرع محقّق . ولم يَرِدْ ذلك مرفوعًا [عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ] ، والله أعلم .
وقولها : (( قرنيها وناصيتها )) ، وفي البخاري : (( فألقيناها خلفها )). قال أبو الفرج بن الجوزي : وعندنا أن السنة أن يُضفر شعر الميِّتة ثلاثة قرون ، وتُلقى خلْفَها .
وقوله : (( ابدأنَ بميامنها ومواضع الوضوء منها )) ؛ يدل على استحباب
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وضوء الميت ، وهو حجة لنا وللشافعي على أبي حنيفة ، فإنه لا يراه .(3/469)
واختلف عندنا متى يوضأ ؟ هل يوضأ في المرة الأولى أو الثانية ، أو فيهما ؟ والابتداء بالميامن على أصل الشريعة في استحباب ذلك في العبادات ، وقد أخذ الحسن من هذا الحديث : أن النساء أحقُّ بغسل المرأة من الزوج ، وأنه لا يغسلها إلا عند عدمهن . والجمهور من الفقهاء وأئمة الفتوى على خلافه ، وأنه أحقُّ . وذهب الشعبي والثوري وأصحاب الرأي إلى أنه لا يغسلها جُملة ، وأجمعوا على غسل الزوجة زوجَها ، وجمهورهم على أنه أحقّ من الأولياء . وقال سحنون : الأولياء أحقُّ .
ولم يُنبِّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم عطية على الغُسل من غَسل الميت ، وهو موضع تعليم ، فلو كان واجبًا لبينه هنا.وقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ
.....................................................................
.....................................................................
.....................................................................
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرفوعًا : (( مَنْ غسَّل ميتًا فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ )) ، قال : اختُلف في إسناد هذا الحديث ، وحمله الفقهاء على الاستحباب لا على الوجوب .
واختلف في المقصود بهذا الغسل :
فقيل : ليكون على يقين من طهارة جسده لما يُخاف أن يطير عليه من رشاش غسل الميت .
وقيل : لأنه إذا عزم على الاغتسال كان أبلغ في غُسله ، وأحرى ألا يتحفّظ
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مما يصيبه ، فيبالغ في إنقائه وتنظيفه .
---
قال الخطابي : لا أعلم أحدًا قال بوجوب الغسل منه. وقال إسحاق : أما الوضوء فلا بد منه ، ونحوه قال أحمد .(3/470)
وهذه البنت التي ماتت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي زينب على ما جاء في "الأم" ، وقيل : هي أتم كلثوم ، على ما جاء ني كتاب أبي داود من حديث ليلى بنت قَانِف الثقفية .
.....................................................................
( 8 ) باب في تكفين الميت وتسجيته والأمر بتحسين الكفن
20- عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ : هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي سَبِيلِ اللهِ نَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا ، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا نَمِرَةٌ ، فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلاهُ ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ )) ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدِبُهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تكفين الميت
قول خباب : " فوجَب أجرنا على الله " ؛ أي : بما وعد به من هاجر بقوله الصدق ، ووعده الحق ، لا بالعقل ؛ إذ لا يجب على الله تعالى شيء عقلاً ولا وضعًا.
وقوله : " فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئًا " ؛ أي : منا من مات على الحال التي هاجر عليها من الفقر ومجانبة زهرة الدنيا وطيباتها ؛ فذلك الذي سلم له أجر عمله كله ، فرأى أن نيل طيبات الدنيا ينقص من ثواب ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/471)
الأعمال الصالحة فيها ، وقد قال في البخاري في هذا الحديث : " لقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتُنا في حياتنا الدنيا .
وقوله : " ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها " ؛ أي : أدركت ونضُجت. يقال : يَنع الثمر وأينع : إذا أدرك طيبه ، ومنه قوله تعالى : { وَيَنْعِه } ،
و " يهدبها " ؛ أي : يهجتنيها ويقطفها ، يقال منه : هَدَب ، يهدُب ، ويهدِب هَدْبًا . و" النَّمِرَة " : كساءٌ ملمعٌ ، وقيل : أسود.
وقد يُستدَلُّ بهذا الحديث على أن الكفن من رأس المال ، وهو قول عامّة علماء الأمة ، إلا ما حُكي عن طاووس : أنه من الثلث إن كان المال قليلاً ، وإلا ما حُكي عن بعض السلف : أنه من الثلث على الاطلاق ، ولم يتابعا على هاتين المقالتين .
21- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُفِّنَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ ، أَمَّا الْحُلَّةُ فَإِنَّمَا شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ فِيهَا ، أَنَّهَا اشْتُرِيَتْ لَهُ لِيُكَفَّنَ فِيهَا ، فَتُرِكَتِ الْحُلَّةُ ، وَكُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه : أن الكفن إذا ضاق عن الميت ، كان تغطية وجهه ررأسه أولى ؛ إكرامًا للوجه ، وسترًا لما يظهر عليه من تغيُّر محاسنه ، وإن ضاق عن الوجه والعورة ، بدئ بستر العورة .
وتكفين الميت المسلم واجب عند العلماء ، فإن كان له مال ، فمن رأس ماله على ما تقدّم ، وإن لم يكن له مال ، فففي بيت المال ، أو على جماعة المسلمين . واختلف أصحابنا ، هل يلزم ذلك من كان يلزمه نفقته في حياته أم لا ؟(3/472)
أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ ، فَأَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : لأحْبِسَنَّهَا حَتَّى أُكَفِّنَ فِيهَا نَفْسِي ، ثُمَّ قَالَ : لَوْ رَضِيَهَا اللهُ لِنَبِيِّهِ لَكَفَّنَهُ فِيهَا ، فَبَاعَهَا وَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والوتر في الكفن مستحب عند كافة العلماء ، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حدٌّ واجب .
وقولها : " كُفن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثلاثة أثواب بيض سَحُوليَّة " ؛ يدلّ على استحباب البياض في الكفن ، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن من خير ثيابكم البياض ، فكفنوا فيها موتاكم ))".
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والكفن في غيره جائز ، ومن أطلق عليه أنه مكروة ، فمعناه : أن البياض أولى . واختلف قول مالك في الْمُعَصْفَر ، فمرَّةً كرهه ؛ لأنه مصبوغ يُتَجمَّل به ، وليس بموضع تجمُّل ، وأجازه أخرى ؛ لأنه من الطيب ، ولكثرة لباس العرب له .
و "سحولية" : روايتنا فيه بفتح السين ، وهي منسوبة إلى "سَحول " قرية باليمن . رفي الصحاح : السَّحل : الثوب الأبيض من الكرسف من ثياب اليمن ، ويُجمع : سُحُول وسُحُل ، قال : ويقال : سَحول موضع باليمن ، والسحولية منسوبة إليه .
وقد كره مالك وعامة العلماء التكفين في ثياب الحرير للرجال والنساء ، وأجازه ابن حبيب للنساء خاصة .
وقولها : " ليس فيها قميص ولا عمامة " : حمله الشافعيّ على أن ذلك ليس بموجود في الكفن ، فلا يُقَمَّص . وحمله مالك على أنه ليس بمعدود فيه ، وأن العمامة والقميص زائدان على الثلاثة الأثواب .(3/473)
ويحتمل أَنْ كانا موجودين ، ولم يعدَّهما الراوي ، فيقمّص ويُعمَّم . وهو قول مُتقدِّمِي أصحابه ؛ ابن القاسم وغيره ، وهو قول أبي حنيفة . وحكى ابن القصار أن القميص والعمامة غير مستحبين عند مالك ، ونحوه عن ابن القاسم ،
22- وَعَنْهَا قَالَتْ : سُجِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حِينَ مَاتَ بِثَوْبِ حِبَرَةٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى هذا فيدرج في الثلاثة الأثواب إدراجًا .
---
وقولها : " أما الْحُلَّة فإنّما شُبِّه على الناس فيها ". قال الخليل : الحلَّة : ضرب من برود اليمن . وقال أبو [عبيد] : هي برود اليمن . والحلة : إزار ورداء ، لا يسمَّى حُلَّةً حتى يكونا ثوبين .
وقولها : "سُجِّيَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بثوب حِبَرَة" ، سُجِّي : أي غظّي ، والتسجية مما مضى بها العمل ، وهي سترة وجه الْميَّت ، لما أصابه من التغيير .
و " الحِبَرَة " من برود اليمن .
وقولها في "الأم" : " أدرج في حلَّة يمنية ، ثم نزعت عنه " ؛ يعني(6) : وبعد ذلك كُفن في الثلاثة الأثواب .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اختلف الرواة في هذا اللفظ : فعند العذري : يمنيَّة ، وعند الصدفي : يمانيَة ، وكلاهما منسوب إلى اليمن. وعند الفارسي : حلَّةٌ يَمْنَةُ ، بتنوين "حلّة" ورفع "يَمْنَة" ، وإسكان الميم ، وفتح النون.ويقال : بحذف التنوين من "حلّة" وإضافتها.
واختلف في القميص الذي غُسِّل فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي نُهوا عن نزعه . فقال بعض العلماء : أنه نُزع عنه حين كُفِّن وسُتِر بالأكفان ؛ لأنه كان مبلولاً ، ولا يتفق تكفينه فيه كذلك .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/474)
وقد ذكر أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما : كُفن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثلاثة أثواب نجرانية : الحلَّة : ثوبان وقميصه الذي مات فيه . وهذا مخالف لحديث عانشة رضي الله عنها المتقدم . وقد نصَّت على أنه لم يكفن في الحلَّة. وقولها : " ليس فيها قميص ولا عمامة " ؛ محتمل لما ذكرناه ، والله أعلم .
---
23- وَعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَطَبَ يَوْمًا ، فَذَكَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ ، فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ وَقُبِرَ لَيْلاً ، فَزَجَرَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ ، إِلا أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ ، وَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " في كفن غير طائل " ؛ أي : لا خطر له ولا قيمة ، أو لا ستْرَ فيه ولا كفاية ، أو لا نظافة له ولا نقاوة .
وقوله : " زجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقبر الرجل بالليل " : أخذ به الحسن ، فكره أن يقبر الرجل بالليل إلا لضرورة .
وذهب الجمهور إلى جواز ذلك ، وكأنهم رأوا أن بالليل ذلك النهي خاصٌّ بذلك الرجل لئلا تفوته صلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقيل : يمكن أن يقصدوا بدفنه بالليل ستر إساءة ذلك الكفن الغير الطائل.
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : وهذه التأويلات فيها بُعد ، ولا تصلح لدفع ذلك الظاهر ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما صدر عنه النهي المطلق بعد دفن الرجل بالليل . فقد تناول النهي غيره قطعًا ، فتأمّله .(3/475)
ويمكن أن يعضد مذهب الحسن بأنه إن دُفن ليلاً قلّ المصلُّون عليه ؛ لأن عادة الناس في الليل ملازمة بيوتهم ، ولا يتصرَّفون فيه ، ولأنه إذا دُفن في الليل سومح في الكفن ؛ لأن الليل يستره .
ودلّ على صحَّته قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آخره : (( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كقنه )) ، ضبطه أبو بحر : " كفْنه "- بسكون الفاء - يعني التكفين ، وغيره بفتحها ، يعني : الكفن نفسه ، وهو الأولى ، والله أعلم .
************
( 9 ) باب الإسراع بالجنازة وفضل الصلاة عليها واتباعها
---
24- عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ وَإِنْ تَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ )).
25- وَعَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : ((مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ وَلَمْ يَتْبَعْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ ، فَإِنْ تَبِعَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ )) قِيلَ : وَمَا الْقِيرَاطَانِ ؟ قَالَ : (( أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ )). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الإسراع بالجنازة
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أسرعوا بالجنازة " ؛ أي : أسرِعوا بحملها إلى قبرها في مشْيِكم ، يدلّ عليه قوله في آخره : (( فخيرٌ تقدمونها إليه ، أو شرٌّ تضعونه عن رقابكم )) ؛ وقيل : يعني به : الإسراع بتجهيزها بعد موتها لئلا تتغير .(3/476)
26- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ، أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : ((مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ، ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ )) ، فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ خَبَّابًا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : والأول أظهر ، ثم لا يبعد أن يكون كل واحد منهما مطلوبًا ؛ إذ مقتضاه مُطلقُ الإسراع ، فإنه لم يُقيِّده بقيد ، والله أعلم .
---
ثم على الأول ، فذلك الإسراع يكون في رفق ولطف فإنه إن لم يكن كذلك تعب المتبع ، ولعلّه يضعف عن كمال الاتباع ، وانخرقت حرمة الميت ؛ لكثرة تحريكه ، وربما يكون ذلك سبب خروج شيء منه ، فيتلطَّخ به ، فيكون ذلك نقيض المقصود الذى هو النظافة .
ومقصود الحديث ألا يتباطأَ في حمله بالمشي ، فيُؤَخر عن خير مقدم به عليه ، أو يستكثر من حمل الشرّ إن كان من أهله ، ولأن المتبطِّئ في مشيه يخاف عليه الزهو والتكبر ، وهذا قول الجمهور .
وقد تضمن هذا الحديث الأمر بحمل الميت إلى قبره ، وهو واجب على الكفاية إن لم يكن له مال يحمل منه .(3/477)
إِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ مَا قَالَتْ ، وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءِ الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصْبَاءِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الأَرْضَ ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " الجنازة "- بفتح الجيم وكسرها - لغتان للميت ، والكسر أفصح ، قاله القتبي . وقال أبو علي - بالكسر - : السرير الذي يحمل عليه الميت ، ولا يقال للميت جِنازة . قال ابن دريد : جَنَزْتُ الشيء : سترته ، ومنه سمى الميت جنازة ؛ لأنه يُستر . وعن ابن الأعرابي : الفتح : للميت ، والكسر للنعش .
و " القيراط " : اسم لمقدار معلوم في العرف ، وهو جزء من أربعة وعشرين جزءًا .
وقد يراد به الجزء مطلقًا ، . ويكرن عبارة عن الحظ والنصيب ؛ ألا ترى أنه قال : (( كلُّ قيراط مثل أحد ))؟
---
ومقصود هذا الحديث : أن من صلّى على جنازة كان له حظ عظيم من الثواب والأجر ، فإن صلّى عليها واتَّبعها كان له حظَّان عظيمان من ذلك ؛ إذ قد عمل عملين ، أحدهما : صلاته ، والثاني : كونه معه إلى أن يدفن .
**********
( 10 ) باب الاستشفاع للميت ، وأن الثناء عليه شهادة له وأنه مستريح أو مستراح منه
27- عَنْ عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً ، كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلا شُفِّعُوا فِيهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الاستشفاع للميت(3/478)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من صلّى عليه مائةٌ من المسلمين ، شُفِّعوا فيه )) ، وفي الحديث الآخر : (( أربعون )) ، قيل : سبب هذا الاختلاف : اختلاف السؤال ، وذلك أنه سئل مرَّة أخرى عمَّن صلّى عليه مائةٌ واستشفعوا له ، فقال : (( شفعوا )). وسئل مرَّة أخرى عمَّن صلّى عليه أربعون ، فأجاب بذلك . ولو سئل عن أقلَّ من ذلك ، لقال ذلك ، والله أعلم ؛ إذ قد يستجاب دعاء الواحد ، ويقبل استشفاعه . وقد روي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( مَن صلّى عليه ثلاثة صفوف شُفِّعوا فيه )) ، ولعلهم يكونون أقلَّ من أربعين .
28- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ أَوْ بِعُسْفَانَ فَقَالَ : (( يَا كُرَيْبُ انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ ، قَالَ : فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : تَقُولُ : هُمْ أَرْبَعُونَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : أَخْرِجُوهُ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - ـ صلى الله عليه وسلم ـ - يَقُولُ : (( مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً ، لا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إِلا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ )).
---(3/479)
29- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : (( مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وَجَبَتْ ، وَجَبَتْ ، وَجَبَتْ )) ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وَجَبَتْ ، وَجَبَتْ ، وَجَبَتْ )) ، قَالَ عُمَرُ : فِدًاكَ أَبِي وَأُمِّي مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( أنتم شهداء الله في الأرض )) ، قال الداودي : يعنى هذا عند الفقهاء : إذا أثنى عليه أهل الفضل والصدق ؛ لأن الفَسَقَة قد يُثنون على الفاسق ، فلا يدخل في الحديث . وكذلك لو كان القائل فيه عدوًّا له وإن كان فاضلاً ؛ لأن شهادته كانت في حياته غير مقبولة له وعليه وإن كان عدلاً .
وقيل : ذلك فيمن علم الله أنه لا يحمله الحسد والعداوة ، أو كثرة المحبة وفرط الإطراء والغلو المذموم ، فيقول ما ليس فيه من خير أو شر ، ولكن إنما ذلك لمن وفّق الله له من يقول قولاً عدلاً بما علمه مثن يريد به الله ، فيوجب الله له ما قالاه ، وهو الذي وفقهما الله له ، وسبق له في علمه تعالى. وربما قَبِل علمهما ، وترك ما علمه من سريرته ، لم يؤاخذه به ، إذا كان مسلمًا ، تفضُّلاً منه تعالى ، وسترًا عليه ، وتحقيقًا لظنِّهم .
---(3/480)
وقال بعضهم : في تكرار : (( أنتم شهداء الله في الأرض ))- ثلاثًا - إشارة إلى [أن] القرون الثلاثة الذين قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهم : (( خير أمَّتي قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم )).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأظهر فيه : التأكيد على ما تقرَّر من أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى يُفهم عنه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار )) : يشكل بالنهي عن سبِّ الموتى ، وبقوله : (( اذكروا محاسنَ موتاكم ، وكفّوا عن مساوئهم )).
30- وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَهُ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ : ( مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ ( فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ فَقَالَ : (( الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ المُسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( يَسْتَرِيحُ مِنْ أَذَى الدُّنْيَا وَنَصَبِهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد انفصل عنه من أوجه :
أحدها : أن هذا الذي تحدث عنه بالشرِّ كان مستظهرًا به ومشهورًا به ، فيكون ذلك من باب " لا غيبة في فاسق".
وثانيها : أن [محملّ] النهي إنما هو فيما بعد الدّفن ، وأما قبله فمسوغ ؛ ليتَّعظ به الفسّاق ، وهذا كما يكره لأهل الفضل الصلاة على المعلن بالبدع والكبائر .(3/481)
وثالثها : أن الذي أثنى عليه الصحابة بالشرِّ يحتمل أن يكون من المنافقين ، ظهرت عليه دلائل النفاق ، فشهدت الصحابة بما ظهر لهم ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أوجبت له النار )) ، والمسلم لا تجب له النار ، وهذا هو مختار عياض.
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورابعها : أن يكون النهي عن سبّ الأموات متأخرًا عن هذا الحديث ، فيكون ناسخًا .
و " الثناء " ممدود ، مقدَّم الثاء المثلثة على النون ، إنما يقال في الخير غالبًا ، والذي يقال في الشر هو النثا ، بتقديم النون وتأخير الثاء ، والقصر ، إلا أن هذا الحديث جاء في الثناء في الشرِّ لمطابقته للفظ الثناء في الخير .
*************
( 11) باب الأمر بالصلاة على الميت وكيفية الصلاة عليه وكم التكبيرات
31- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ )) ، فَقُمْنَا فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ ، - يَعْنِي النَّجَاشِي -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بالصلاة على الميت
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنّ أخًا لكم قد مات فقوموا فصَلّوا عليه )) : دليل على وجوب الصلاة على الميت المسلم ، وهو المشهور من مذاهب العلماء : أنه واجب على الكفاية ، ومن مذهب مالك ، وقيل عنه : إنه سنةٌ مؤكَّدة ، وقد استدل عليه بقوله تعالى : { وصلّ عليهم } ، وبقوله : { ولا تصلِّ على أحدٍ منهم مات أبدًا } ، وفي تقرير وجه الاحتجاج بهما طول يُعرف في الفقه .(3/482)
وهذا الميت هو النجاشي ، ملك الحبشة ؛ الذي هاجر إلى أرضه من هاجر من الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ، واسمه : أَصْحَمة - بهمزة وصاد مهملة ساكنة بعدها ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
حاء مفتوحة - ، هكذا ذكره البخاري ، وابن إسحاق. وفي "مسند ابن أبي شيبة" في هذا الحديث تسميته : " صَحْمَة " ، على وزن " رَكْوَة " ، بغير همز ، وبفتح الصاد ، وسكون الحاء . وقال : هكذا قال لنا يزيد ، وإنما هو : صَمْحَة ، كذا ذكره بتقديم الميم بغير همز .
و " أصحمة " : عطية ، بالعربية .
وقال جماعة من اللغويين : النجاشي : اسم لكلِّ ملك من ملوك الحبشة ، وكسرى : [اسم](6) لكل ملك من ملوك(7) الفرس ، وهرقل : اسم لكل ملك(8) من ملوك الروم .
32- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَالَ : (( اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " نعى للناس النجاشيّ في اليوم الذي مات فيه" ؛ مِن أدلِّ الأدلة على صحَّة نبوَّة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
والنعي : إشاعة الأخبار بموت الميت ، قال الهروي : النعْيّ - بسكون العين - : الفعل ، والنعِيّ - بكسرها - : الميت ، ويجوز أن يجمع : نعايا ، مثل : صفي وصفايا .
وهذا الحديث احتجّ به أئمتنا على جواز الإعلام بموت الميت ، ولم يره من النعي المنهيّ عنه في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إياكم والنعي ، فانّ النعيَ من عمل الجاهلية )).(3/483)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا النعي الذي كان من عمل الجاهلية إنما كان أن الشريف إذا مات فيهم بعثوا الركبان إلى أحياء العرب ، فيندبون الميت ويثنون عليه بنياحة وبكاء وصراخ وغير ذلك ، وذلك هو الذي نهى عنه .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقد روي عن حذيفة أنه نهى أن يؤذن بالميت أحد ، وقال : إني أخاف أن يكون نعيًا . ونحوه عن ابن المسيب ، وقال به بعض السلف من الكوفيين من أصحاب ابن مسعود .
قلت : وهذا الحديث حجة على من كره الإعلام به ، وكذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هلاّ آذنتموني به )) ، ونعيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل مؤتة .
وقوله : " فخرج إلى المصلَّى " ؛ يستدل به : على أن الجنائز لا يصلّى عليها في المسجد ، كما قد روي عن مالك ، وأبي حنيفة ، وجوّزه الشافعي .
وظاهر هذا الحديث جواز الصلاة على الغائب ، وهو قول الشافعي ، ولم يَرَ ذلك أصحابنا جائزًا ؛ لأنه لو كان ذلك لكان أحقُّ من صُلِّي عليه كذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البلاد النائية عن المدينة ، ولم يصحَّ أنه فعل ذلك أحدٌ من ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحابة ولا غيرهم ، ولو كان ذلك مشروعًا للزم أن يفعلَ ذلك دائمًا إلى غير غايةٍ ؛ لعدم القاصر له على زمان معين ، واعتذروا عن حديث النجاشيِّ بأمور :
أحدها : أن ذلك مخصوصٌ بالنجاشيِّ ؛ ليُعْلِم النبييُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بإسلامه ، وليستغفروا له ، كما جاء في الحديث .(3/484)
وثانيها : أنه قد رُفِعَ له وأُحضِرَ له حتى رآه ، فصلَّى على حاضرٍ بين يديه ، كما رُفِع للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيتُ المقدس ، كما تقدّم في كتاب الايمان.
وثالثها : أنه كان لم يصلِّ عليه أحدٌ ؛ لأنه مات بين قوم كفّار ، وكان يكتم إيمانه ؛ منتظرًا للتخلُّصِ منهم ، فمات قبل ذلك ، ولم يصل عليه أحد ، وعلى هذا فيُصلِّى على الغريق ، وأكيل السَبُع ، وهو قول ابن حبيب من أصحابنا ، ولم ير ذلك مالك ولا جماعة من العلماء .
قلت : وهذا الوجه الثالث أقربها ، وفيما تقدم نظر .
---
33- عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : كَانَ زَيْدٌ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا ، فَسَأَلْتُهُ ، فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُكَبِّرُهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : "وكبّر أربع تكبيرات" ، وفي حديث زيد بن أرقم : أنه كبّر خمسًا.
وقد اختلف العلماء من السلف في ذلك ، من ثلاث تكبيرات إلى تسع ، فروي عن عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ : أنّه كان يكبّر على أهل بدر ستًّا ، وعلى سائر الصحابة خمسًا ، وعلى غيرهم أربعًا .
..................................................................... . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد جاء من رواية ابن أبي خيثمة : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يكبّر أربعًا ، وخمسًا ،
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وستًّا ، وسبعًا ، وثمانيًا ، حتى مات النجاشيُّ ، فكبّر أربعًا وثبت عليها ، حتى تُوفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .(3/485)
قال أبو عمر : وانعقَد الإجماع بعدُ على أربع . وقال عياض : وما سواه شذوذ ، ولا يلتفت إليه اليوم ، ولا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال بخمس تكبيرات إلا ابن أيي ليلى .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام : وهذا المذهب متروكٌ الآن ؛ لأن ذلك صار علمًا على القول بالرفض .
ولم يقع في الصحيح ذكر السلام من صلاة الجنازة على الخصوص ، لكن يستدل عليه بعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تحريم الصلاة التكبير ، وتحليلها التسليم )) ، وهو صحيح .
واختلف في عدده ؛ فالجمهور من السلف وغيرهم على أنه واحدة . وذهب أبو حنيفة ، والشافعي في أحد قوليه ، وجماعة من السلف إلى أنه تسليمتان .
---
وهل(2) يجهر الإمام بالتسليم أو يُسِرّ ؟ قولان عن مالك ، والجهر لأبي حنيفة ، والإسرار للشافعي .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهل يردّ المأموم على إمامه [أم لا] ؟ قولان لمالك .
وهل تُرفع الأيدي مع التكبير أم لا ؟ اختلف فيه قول مالك على ثلاثة أقوال : الرفع في الأولى فقط ، أو في الجميع ، أو لا يرفع في شيء منها .
واختلف هل يقرأ في صلاة الجنازة بأمّ القرآن أم لا ؟ فذهب مالك في المشهور عنه إلى ترك القراءة ، وكذلك أبو حنيفة والثوري ، وكأنهم تمسّكوا بظاهر ما خرَّجه أبو داود من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء )) ، وبأن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقصودَ هذه الصلاة إنما هو : الدعاء له ، واستفراغ الوسع بعمارة كل أحوال تلك الصلاة في الاستشفاع للميت .(3/486)
وذهب الشافعي وأحمد واسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من أصحابنا وداود إلى أنه يقرأ فيها بالفاتحة ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب )) ، حملاً له على عمومه . وبما خرَّجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما : وصلّى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب ، وقال : (( لتعلموا أنَّها سنَّه )). وخرََّّج النسائي من حديث أبي أمامة قال : " السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في التكبيرة الأولى بأم القرآن مُخَافَتَةً ، ثم يكبر ثلاثًا ، والتسليم عند الآخرة".
---
وذكر محمد بن نصر المروزي عن أبي أمامة أيضًا قال : " السنَّة في الصلاة على الجنائز أن يكبر ، ثم يقرأ بأم القرآن ، ثم يصلي على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم يخلص الدعاء للميت ، ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ، ثم يسلّم ".
وهذان الحديثان صحيحان ، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند .
والعمل على حديث أبي أمامة أولى ؛ إذ فيه جمع بين عموم قوله : (( لا صلاة ... )) ، وبين إخلاص الدعاء للميت ، وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء ، والله تعالى أعلم .
***********
( 12 ) باب الدعاء للميت وأين يقوم الإمام من المرأة(3/487)
34- عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ : (( اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ - أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ- )) ، قَالَ : حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من باب الدعاء للميت
وليس فيه دعاء محدود عند العلماء ، بل يدعو المصلِّي بما تيسَّر له ، لكنَّ الأَوْلى أن يكون بالأدعية المأثورة في ذلك ؛ لحديث عوف بن مالك هذا ، وحديث أبي هريرة ، وما أشبه ذلك .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : (( وأكْرِمْ نُزُلَه )) ؛ النُزُل : ما يُعَدُّ للنازل ، [ وهو] الضيافة ، وزايُه مضمومةٌ ، وقد تُسكن .
وقوله : (( ووَسِّعْ مُدْخَله )) ؛ أي : قبره ، ومنزله في الجنَّة ، وقد تقدّم القول في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( واغْسِلْه بالماء والثلج والبَرَد )) ، وأن هذا على معنى المبالغة والتمثيل . والأهل هنا : عبارة عن الخدم والخوَل ، ولا تدخل هنا الزوجة فيهم ؛ لأنه قد خصّها بالذكر بعد ذلك ؛ حيث قال : (( وزوجًا خيرًا من زوجِه )).
ويحتمل أن يكون من باب : { فيها فاكهة ونخل ورمان } ، ويُفهَمُ(3/488)
35- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ : صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَصَلَّى عَلَى أُمِّ كَعْبٍ ، مَاتَتْ وَهِيَ نُفَسَاءُ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِلصَّلاةِ عَلَيْهَا وَسَطَهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منه أنّ نساءَ الجنَّة أفضلُ مِن نساء الآدميات ، وإن دخلن الجنة . وقد اختلف في هذا المعنى ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .
وقوله : " فقَامَ وسْطَها " ؛ صحيح تقييدنا فيه بالسكون ، وكذا ضبطه [أبو بحر] والجيَّانيّ ، وقال ابن دينار : وسْط الدار ووسَطها معًا بمعنى واحد .
والصواب : أن الساكن ظرْفٌ ، والمفتوحَ اسمٌ ، فإذا قلت : حفرتُ وسْطَ الدار بئرًا ، كان معناه : حفرتُ في الجزء المتوسِّط منها ، ولا تقول : حفرتُ وَسَطَ الدار ، إلاّ أن تعمَّ الدار بالحفر . وعلى هذا فالصواب في الرواية السكون .
وقد اختلفوا في أيّ موضع يقوم الامام من الجنازة ، بعد إجماعهم على أنّه لا يقوم ملاصقًا لها ، وأنّه لا بدّ من فرجة بينهما ، على ما حكاه الطبريّ .
فذهب قوم إلى أنه يقوم عليها وسطها ، ذكرًا كان أو أنثى .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقال آخرون : هذا حكم المرأة ؛ كي يسترها عن الناس ، وأمّا الرجل فعند رأسه ؛ لئلا ينظر الإمام إلى فرجه ، وهو قول أبي يوسف وابن حنبل .(3/489)
وقال ابن مسعود بعكس هذا في المرأة والرجل . وذكر عن الحسن التوسعة في ذلك ، وبها قال أشهب وابن شعبان . وقال أصحاب الرأي : يقوم فيها بحذاء الصدر . وقد روى أبو داود ما يرفع الخلافَ عن أنس ـ رضى الله عنه ـ وصلّى على جنازة ، فقال له العلاء بن زياد : يا أبا حمزة ! هكذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلِّي على الجنائز كصلاتك ؟ يكبّر عليها أربعًا ، وبقوم عند رأس الرجل ، وعجيزة المرأة ؟ قا ل : نعم .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا الحديث يدلُّ على مشروعية مقام الإمام كذلك ، وهو يُبطل تأويلَ من قال : إنّ مقام النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسط جنازة أمِّ كعب ، إنما كان من أجلِ جنينها حتى يكون أمامه ، بل كان ذلك ؛ لأنّه حكم مشروعية ذلك .
************
( 13 ) باب ما جاء في الصلاة على القبر
36- عَنْ عَبْدُ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : انْتَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى قَبْرٍ رَطْبٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ ، وَصَفُّوا خَلْفَهُ ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : " انتهى إلى قبر رطب فصلّى عليه " ؛ أي : حديث الدفن ، لم يُنلَ بعد ؛ لرطوبة ثراه وقرب هيله .
وظاهر هذا الحديث وحديث السوداء : جواز الصلاة على القبر . وقد اختلف في ذلك : فتحصيل مذهب مالك ومشهور أقوال أصحابه جواز ذلك ، إذا لم يُصلَّ عليه . وعنه أيضًا وعن أشهب وسحنون أنه لا يصلِّى عليه ؛ لفوت ذلك ، وأمّا من صُلِّي عليه ، فليس لمن فاتته الصلاة عليه أن يصلّيَ عليه ، وهو المشهور من مذهب مالك وأصحابه ، وهو قول الليث ، والثوري ، وأبي حنيفة ، قال : إلا أن يكون وليه ، فله إعادة الصلاة عليه .
---(3/490)
وقد روي عن مالك جواز الصلاة عليه ، وهو شاذّ من مذهبه ، وهو قول الشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم .
37- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ- أَوْ شَابٌّ- فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَسَأَلَ عَنْهَا - أَوْ عَنْهُ - فَقَالُوا : مَاتَ . قَالَ : (( أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي ؟ )) قَالَ : : وَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا - أَوْ أَمْرَهُ - فَقَالَ : ((دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ )) فَدَلُّوهُ ، فَصَلَّى عَلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَ : (( إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحيث قلنا بفوت(2) الصلاة على الميت ، فما الذي يقع به الفوت ؟ اختلف فيه ، فقيل : بهيل التراب وتسويته ، وهو قول أشهب وعيسى وابن وهب . وقيل : بخوف تغيُّره ، وهو قول ابن القاسم وابن حبيب وسحنون . وقيل : بالطُّول فيمن لم يصلِّ عليه ، وهو ما زاد على ثلاثة أيَّامٍ فأكثر عند أبي حنيفة. وقال أحمد فيمن صُلِّي عليه : تعاد إلى شهر ، وقاله إسحاق في الغائب ، وقال في الحاضر : ثلاثة أيام . قال أبو عمر : وأجمع من قال بالصلاة على القبر : أنّه لا يصلّى عليه إلا بالقرب ، وأكثر ما قيل في ذلك شهر .
وقوله : "[ تقمّ ](3) المسجد " ؛ أي : تكنسه ، والقمامة : الكِنَاسة .
وسؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذه المسكينة يدلّ على كمال تفضُّله ، وحسن تعهده ، وكرم أخلاقه وتواضعه ، ورأفته ورحمته ، وتنبيهٌ على أن لا يُحْتَقَر مسلمٌ ، ولا يُصَغَّر أمرُه .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(3/491)
قلت : قال بعض : مَن لم يُجِز الصلاة على القبر : إنّ القبرَ الرَّطْبَ الذي في حديث ابن عباس ، يحتمل أن يكون قبر السوداء التي كانت تقمّ المسجد ، وكانت صلاتُه عليه خاصةٌ به ؛ لأنه قد قال : (([إن] هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإنّ الله ينوّرها بصلاتي عليهم )) ، فقد علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ، وغيره لا يعلم ذلك ، فكان ذلك خصوصًا به .
وهذا ليس بشيء ؛ لثلاثة أوجه :
أحدها : أنّا وإن لم نعلم ذلك ، لكنّا [ نظنّه] ، ونرجو فضل الله سبحانه ، ودعاء المسلمين لمن صلّوا عليه .
وثانيها : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال : (( من صلّى عليه مائة ، أو أربعون من المسلمين ، شفعوا فيه )) ، فقد أعلمنا أنّ ذلك يكون من غيره .
وثالثها : أنه كان يلزم منه ألا يصلّى على ميِّتٍ بعد النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لإمكان الخصوصية فيمن صلّى عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا باطل .
وأشبه ما قيل في حديث السوداء : أنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى على قبرها ؛ لأنه لم يصلِّ عليها صلاةً جائزة ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الإمام ولم يستخلف ، بل قد روي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمَرهم أن يُعلِموه بموتها ، فلم يُعلِموه بذلك ؛ كراهية أن يشقّوا عليه ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما ذكره مالك من حديث أبي أمامة بن [سهل] بن حنيف : أنّ مسكينة
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرضت ، وهذه المسكينة هي السوداء في هذا الحديث ، والله أعلم .
ويفهم منه أنّ مَن دُفِنَ بغير صلاة أنّه يصلَّى على قبره ، ولا يُخرَج ، ولا يترك بغير صلاة ، وهو الصحيح ، والله تعالى أعلم .
**************(3/492)
( 14 ) باب الأمر بالقيام للجنازة ونسخه
---
38- عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ )).
39- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا اتَّبَعْتُمْ جَنَازَةً فَلا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُمُوا ، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بالقيام إلى الجنازة
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم [أو] توضع )) ؛ قلت : هذا اختلاف الأمر إنما كان مُتَوَجِّهًا لمن لم يكن متَّبعًا للجنازة ، بدليل ماجاء في حديث أبي سعيد ـ رضى الله عنه ـ : (( إذا رأيتم الجنازة فقوموا ، فمن تبعها فلا يجلسن حتى توضع )).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد جاء من حديث عليّ ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للجنازة ثم قعد .
واختلف العلماء بسبب هذه الأحاديث على ثلاثة أقوال :
أولها : الأمر بالقيام مطلقًا لمن مرَّت به ، ولمن تبعها ، وهو قول جماعة من السلف والصحابة ؛ أخذًا بالأحاديث المتقدِّمة ، وكأنّ هؤلاء لم يبلغهم الناسخ ، أو لم يَرَوا ترك قيامه ناسخًا .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(3/493)
وثانيها : لا يقوم لها أحد ، لا مرورًا به ولا مُتَّبعًا ، وكأن هؤلاء رأوا : أن ترك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للقيام ناسخ لمطلق القيام ، وهو قول قوم من أهل العلم. وروي عن أحمد وإسحاق وابن الماجشون من أصحابنا : أن ذلك على التوسعة والتخيير .
---
وثالثها : أن القيام منسوخ في حقِّ من مرَّت به ، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة . وقال أحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن والأوزاعي فيمن اتبعها : لا يجلس حتى توضع ، وأمّا من مرَّت به ، فلا يلزمه القيام .
وقد اختلف أيضًا في القيام على القبر حتى يُقبر : فكرهه قوم ، وعمل به آخرون . وروي ذلك عن عليّ وعثمان وابن عمر y.
وقد تقدَّم في كتاب الإيمان قول عمرو بن العاص : " وأقيموا حول قبري قدر ما تُنحر جزور ويقسم لحمها " ؛ أي : ثبّتوا وتربّصوا .
40- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ قَالَ : مَرَّتْ جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَقُمْنَا مَعَهُ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ . فَقَالَ : (( إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إن الموت فزغ )) ؛ أي : يفزع إليه ومنه ، وهو تنبيه على استذكاره واستعظامه ، وجعله من أهم ما يخطر بالإنسان .
والمقصود من هذا الحديث أن لا يستمرَّ الإنسان على غفلته عند رؤية الميت ، فإنه إذا رأى الميت ، ثم تمادى على ما كان عليه من الشغل ، كان هذا دليلاً على غفلته ، وتساهله بأمر الموت ، فأمر الشرع أن يترك ما كان عليه من الشغل ويقوم ؛ تعظيمًا لأمر الميت ، واستشعارًا به .
وعلى هذا فيستوي في ذلك الميت المسلم وغيره ، ولذلك قال في الميت الذمِّي : (( أليست نفسًا ؟ )) معناه : أليست الجنازة نفسًا قُبِضَتْ ؟
وقيل : إنما قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إجلالاً للملائكة الذين مع الميت .(3/494)
---
41- وَعَنْ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَكَانَا بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ ، فَقَامَا ، فَقِيلَ لَهُمَا : إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ فَقَالا : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ : إِنَّهُ يَهُودِيٌّ . فَقَالَ : (( أَلَيْسَتْ نَفْسًا ؟ )).
42- وَعَنْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي شَأْنِ الْجَنَائِزِ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَامَ ثُمَّ قَعَدَ . وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ : رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَامَ فَقُمْنَا ، وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا . يَعْنِي فِي الْجَنَازَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل : إنما قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجنازة اليهودي لأنه كره أن تَعْلُوَ جنازةُ اليهوديِّ رأسه .
وقيل : لأنه أذاه نتن ريحها . والصحيح الأول .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " إنها من أهل الأرض " ؛ أي : من أهل هذه الأرض ؛ يعني : أنها من أهل الجزية الْمُقَرِّين بأرضهم .
************
( 15 ) باب ركوب المتبع للجنازة إذا انصرف منها
43- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ ، ثُمَّ أُتِيَ بِفَرَسٍ عُرْيٍ ، فَعَقَلَهٌ رَجُلٌ فَرَكِبَهُ ، فَجَعَلَ يَتَوَقَّصُ بِهِ ، وَنَحْنُ نَتَّبِعُهُ ، نَسْعَى خَلْفَهُ ، قَالَ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : إِنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلَّقٍ -أَوْ مُدَلًّى- فِي الْجَنَّةِ لابْنِ الدَّحْدَاحِ-أَوْ قَالَ لأَبِي الدَّحْدَاحِ- )).(3/495)
وَفِي رِوَايَةٍ : أُتِيَ بِفَرَس مُعْرَوَرٍ فَرَكِبَه حِينَ انْصَرَفَ مِنْ جَنَازَةِ ابْنِ الدَّحْدَاحْ وَنَحْنُ نَمْشي حَوْلَه .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ركوب المتبع للجنازة
قوله : " أُتِي بِفَرسٍ عُريٍ " ؛ أي : لا سَرجَ عليه . يقال : فرس عُرْي ، وخيلٌ أعْرَاء ، وقد اعرَورَى فرسَه : إذا ركبه عُريًا ، ولا يقال : رجل عُريٌ ، ولكن عُرْيَانُ . ورواية من روى " بفرسٍ معرور " لا وجه لها .
و " عقله " : حبسه ليركبه . و" يتوقص " : يَتِبُ ويُقَارِبُ الْخُطوَةَ .
وقوله : " ونحن نتبعه نمشي خلفه " ، هو إخبار عن صورة تلك الحالة ؛ لأنه تقدَّمهم ، وأتوا بعدَه ، لا أن ذلك كانت عادتهم في مشيهم معه ، بل المنقول ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في سيرتهم أنه كان يُقَدِّمُهم ولا يتقَدَّمهم ، وينهى عن وطء العقب.
ولا خلاف في جواز الركوب عند الانصراف من الجنازة ، وإنما الخلاف في الركوب لمتبعها ، فكرهه كثير من العلماء ، سواء كان معها ، أو سابقها ، أو خلفها .
والصحيح جواز الركوب ، إلا أنه يتأخر عنها ؛ لما خرّجه الترمذي وصححه عن المغيرة بن شعبة قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الراكب خلف ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجنازة ، والماشي حيث شاء منها ، والطفل يُصلّى عليه )) ، وهذا أصحّ من الأحاديت التي ذكر فيها منْعُ الركوب مع الجنازة .
وقوله : (( كم مِن عِذْقٍ معتق أو مدلىً في الجنة لابن الدحداح )).(3/496)
"العذق"- بكسر العين - : العُرْجون ، وبفتحها : النخلة ، وهو هنا بالكسر ، و"الدحداح" : الرجل القصير دون الربعة . وقال شعبة : أبو الدحداح ، وقال غيره : ابن الدحداح . وقال أبو عمر : أبو الدحداح ، ويقال : أبو الدحداحة ، فلان ابن الدحداحة .
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإنما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له ذلك القول ؛ لقصَّةٍ جرت ، وهي : أن يتيما خاصم أبا لبابة في نخلة فبكى الغلام ، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أعطه إياها ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولك بها عِذْق في الجنة )) ، قال : لا ، فسمع ذلك ابنُ الدحداح ، فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له ، ثم قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَلِي بها إن أعطيتُ اليتيمَ إيّاها عِذْقٌ في الجنّة ؟ قال : (( نعم )) ، فلما قَبِل ذلك ، قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الكلام ، ورُوي غير ذلك.
*************
( 16 ) باب في كيفية القبور وكراهية تجصيصها والبناء عليها ،
وهل يجعل في القبر شيء ؟
44- عَنْ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ : الْحَدُوا لِي لَحْدًا ، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا ، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
45- وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا . - يَعْنِي : القُبُورْ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيفية القبور(3/497)
قوله : (( [ الْحَدُوا] لِي لَحْدًا )) ؛ اللحد : هو أن يُشَقَّ في الأرض ، ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جهة القبلةِ ، يدخل فيه الميت ويُسدُّ عليه باللَّبِن . وهو أفضل عندنا من الشقّ ، وكل واحد منهما جائز ، غير أن الذي اختار الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو اللحد ؛ وذلك أنه لما أراد الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ أن يحفروا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اشتَوَرُوا في ذلك ، وكان في المدينة رجلان ، أحدهما يلحد ، والآخر لا يلحد ، فقالت الصحابة : اللهم اخترْ لنبيك ، نجاء الذي يُلحد أوَّلاً ، فلحدوا .
واشْتِوَارُهم في ذلك وتَوقُّفُهم يدلّ على أنه لم يكن عندهم في أفضليَّة أحدهما من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعيينٌ ، ولذلك رجعوا إلى الدعاء في تعيين الأفضل .
ولم يقع في كتاب مسلم ذكر غسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا الصلاة عليه ، وقد ذُكِر في غيره .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأما غسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فغسل في قميصه ، وذلك أنهم أرادوا أن ينزعوا فميصه ليغسلوه فسمعوا قائلاً يقول : " لا تنزعوا القميص " ، كما ذكره مالك في "موطئه".
وأما الصلاة عليه ، فصلّى الناس عليه أفواجًا : الرجال والشبَّان والنساء والصبيان من غير إمام ، صلّوا فوجًا بعد فوج ، على ما ذكر أهل السير.
46- وَعَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ قَالَ : قَالَ لِي عَلِيُّ : أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَلا أَدَعَ تِمْثَالاً إِلا طَمَسْتَهُ وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ : وَلا صُورَةً إِلا طَمَسْتَهَا .(3/498)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف في سبب ذلك على أقوال :
[فقيل] : لأنهم لم يكن لهم إمام ، وهذا خطأ ؛ لأن إمامة الفريضة لم تتعطل ، ولأن البيعة لأبي بكر ـ رضى الله عنه ـ قبل دفنه ، وهو إمام الناس .
وقيل : بل صُلِّي عليه كذلك ليأخذ كل الناس بنصيبه من الأجر والفضل .
ومات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الاثنين ، وأُخِّرَ دفنُه إلى يوم الثلاثاء ، ؛ وأُخِّر دفنه ؛ لأنهم اشتغلوا بأمر الإمامة ؛ لأنهم خافوا ثَوَرَانَ فتنةٍ .
و "التمثال" : مثال صورة ما فيه روح ، وهو يعمّ ما كان متجسِّدًا ، وما كان مصوَّرًا في رَقْمٍ أو نقشٍ ، ولا سيما وقد رُوي : "صورة" مكان " تمثال ".
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" تمثال". وقيل : إن المراد به هنا ما كان له شخص وجسد ، دون ما كان في ثوب أو حائط منقوشًا ، وسيأتي الكلام عليهما .
وحاصل هذا الحديث : الأمر بتغيير الصور مطلقًا ، وأنّ إبقاءها كذلك منكَرٌ ، و" طمسها " : تغييرها ، وذلك يكون بقطع رؤوسها وتغيير وجوهها ، وغير ذلك مما يُذْهِبُها .
وقوله : " ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته " ؛ ظاهره : منع تسنيم القبور ورفعها ، وأن تكون لاطية ، وقد قال به بعض أهل العلم . وذهب الجمهور : إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته ليس هو التسنيم ، ولا ما يعرف به القبر كي يحترم ، وإنما هو الارتفاع الكثير الذي كانت الجاهلية تفعله . فإنها كانت تُعلي عليها ، وتَبني فوقها ؛ تفخيمًا لها وتعظيمًا ، وأما تسنيمها : فذلك صفة قبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، على ما ذكر في "الموطأ".(3/499)
47- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد جاء عن عمر : أنه هدمها ، وقال : ينبغي أن تسوَّى تسويةَ تسنيمٍ . وهذا معنى قول الشافعي : تُسَطَّح القبور ولا تُبنى ولا تُرفع ، وتكون على وجه الأرض ، وتسنيمها اختيار أكثر العلماء وجملة أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة والشافعي .
قلت : والذي صار إليه عمر أولى ، فإنه جمع بين التسوية والتسنيم .
وقوله : " نهى أن يجصص القبر ويُبنَى عليه " ؛ التجصيص والتقصيص : هو البناء بالجصّ ، وهو القَصّ والقَصّة ، والجصاص والقصاص واحد ، فإذا خلط الجصُّ بالرماد فهو الجيّار ، وذكر معنى ذلك أبو عبيد وابن الأعرابي ، وقد تقدَّم في الحيض ذكر القصّة البيضاء .
---
وبظاهر هذا الحديث قال مالك ، فكَرِه البناء والجصّ على القبور ، وقد أجازه غيره ، وهذا الحديث حجة عليه .
ووجه النهي عن البناء والتجصيص في القبور ، أن ذلك مباهاة واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة ، وتشبُّة بمن كان يعظّم القبور ويعبدها . وباعتبار هذه المعاني ، وبظاهر هذا النهي ؛ ينبغي أن يقال : هو حرام ، كما
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قد قال [ به ] بعض أهل العلم .(3/500)
وقوله : " وأن يقعد عليها " ، وقوله : (( لا تجلسوا على القبور )) ، وقوله : ((لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه خير له من أن يجلس على قبر ))(2). اختلف في معناه : فمنهم من حمله على ظاهره من الجلوس ، ورأى أن القبر يحترم ، كما يحترم المسلم المدفون فيه ، فيعامل بالأدب ، وبالتسليم عليه ، وبغير ذلك . ومنهم من تأوَّله على أنه كناية عن إلقاء الحدث في القبور ، وهو تأويل مالك . ولا شك في أن التخلي على القبور وبينها ممنوع ، إما بهذا الحديث ، وأما بغيره ؛ لحديث الملاعن الثلاث ، فإنه مجلس الزائر
48- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : (( جُعِلَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للقبور ، فهو في معنى التخلّي في الظِلال ، والطرق والشجر المثمر ، وغير ذلك ، ولأن ذلك استهانة بالميت المسلم ، وأذى لأوليائه الأحياء ، والله أعلم.
وقوله : " جعل في قبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطيفة حمراء " ؛ هذه القطيفة كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلبسها ويفرشها ، فلما مات اختَلَف في أخذها عليٌّ وعبَّاس ، وتنازعا فيها ، فأخذها شُقران وجعلها في القبر ، وقال : " والله لا يلبسها أحدٌ بعده أبدًا ".
وقيل : إنما جعلت في قبره ؛ لأن المدينة سَبِخَةٌ ، والله تعالى أعلم .
*************
---
( 17 ) باب النهي عن الجلوس على القبور والصلاة إليها
49- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ ، فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ )).(4/1)
50- وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( لا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ ، وَلا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن الجلوس على القبور والصلاة إليها
قوله : (( لا تصلوا إلى القبور )) ؛ أى : لا تتخذوها قبلة ، وهذا مثل ما قدَّمناه في النهي عن اتخاذ قبره مسجدًا ، وفي ذمّ اليهود بما فعلوا من ذلك ، وكلّ ذلك لقطع الذريعة أن يعتقد الجهَّال في الصلاة إليها أو عليها الصلاة لها ، فيؤدِّي إلى عبادة من فيها ، كما كان السبب في عبادة الأصنام .
*************
( 18 ) باب الصلاة على الميت في المسجد
51- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ ، فَفَعَلُوا فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ : ثُمَ خُرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ إِلَى الْمَقَاعِدِ ، فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ عَلَيْهِم ، وَقَالُوا : مَا كَانَتِ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجِدَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ ، فَقَالَتْ مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ. عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِجَنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ ، وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إِلا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ .
---
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ : وَاللهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ ، سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الصلاة على الميت في المسجد(4/2)
إنكار الناس إدخال الميت في المسجد يدلّ على أن العمل المستمرَّ كان على خلاف ذلك ، وأن الصلاة على سهيل وأخيه في المسجد إما منسوخ كما قاله الطحاوي ، وأن الترك آخر الفعلين ، وإما أن يكون خاصًّا بهما ، وهذا العمل هو مُتمَسَّك من منع ذلك ، وما تقدَّم من خروج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصلاة على النجاشيِّ من المسجد ، وهم جماعة منهم : مالك في المشهور عنه ، وبعض أصحابه ، وأبو حنينة ، وابن أبي ذنب ، والطحاوي .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد دلّ على المنع أيضًا ما خرَّجه أبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(( من صلّى على جنازة في المسجد فلا شيء له )) ، وفي إسناده صالح مولى التوأمة ، وكان قد اختلط حديثُه بأخَرَة ، فقال مالك فيه : ليس بثقة . وقال فيه غيره : حديثه قبل الاختلاط صحيح .
وهذا الحديث مما رواه عنه ابن أبى ذئب قبل الاختلاط ، على ما قاله أبو أحمد بن عدي وغيره من أئمة المحدثين .
وقد اعتضد المانع أيضًا بأن الميت نجس ، فلا يُدْخل المسجد . وقد اختلف في نجاسة الميت قول مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، وقال بعض المتأخرين : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/3)
الخلاف إنما يصحّ في المسلمين لا الكافرين ، فإنهم متّفقون على نجاسة الميت منهم ، وهذا القول حسن ؛ لأنه قد تقرر الإجماع على أن الموت بغير ذكاة سبب التنجيس فيما له نفس سائلة مطلقًا ، وهذا يقتضي تنجيس الميت المسلم ، إلا أنه قد صحّ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( المؤمن لا ينجس )) ، فهل يُحمل هذا على أنه لا ينجس حيًّا ولا ميتًّا ، فيستثنى من تلك القاعدة الكلية ؟ أو يحمل على أنه لا ينجس ما دام حيًّا ؟ وهو الذي خرَّج عليه الحديث ، وتحمل تلك القاعدة الكلية على أصلها ، ويبقى الكافر على أصل القاعدة ، وإنما الخلاف في نجاسة عين الكافر في حال حياته ، فقال بنجاسته : الشافعي وغيره ، تمسُّكًا بقوله تعالى : { إنما المشركون نجس }(8) ، وقال مالك وغيره بطهارته تمسُّكًا(7) بنوع من القياس ، وهو المسمَّى بقياس العكس عند أصحابنا ، وهو من باب قياس الدَّلالة .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تلخيصه أن يقال : لما كان الموت علّة التنجيس شرعًا ، لزم أن تكون الحياة علة الطهارة شرعًا ؛ ضرورة عدم الواسطة بين التنجيس والطهارة ، وقد استدلّ بعض أصحابنا على ذلك بقوله تعالى : { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} ، وتقرير الحجة فيهما [ فيه] طول ، وموضعه الفقه .
وقد تأوّل أصحابنا قوله تعالى : { إنما المشركون نجس } ، بأن معنى ذلك أنهم لا ينْفَكُّون عن النجاسة ؛ لعدم تحرُّزِهم منها . ومنهم من حمله على معنى الذمّ .
---(4/4)
ثم نرجع إلى أصل المسألة ونقول : لوسلمنا أن الميت ليس بنجس ، فلا ينبغي أن يدخل المسجد ؛ لإمكان أن ينفصل منه شيءٌ من النجاسات ، فيتلظخ المسجد . وقدتمسك من أجاز إدخال الميت في المسجد للصلاة عليه بما تمسكت به عائشة رضي الله عنها ، ورأوا أنه حكم متعدٍّ لغير سهيل وأخيه ، وتأولوا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من صلّى على جنازة في المسجد فلا شيء له )) ؛ على أن معناه : فلا شيء عليه ، كما قال تعالى : { وإن أسأتم فلها } ؛ أي : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليها ، وممن ذهب إلى جواز ذلك الشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وابن حبيب من أصحابنا والقاضي إسماعيل . قال أبو عمر : ورواه المدنيون عن مالك . ويعتضد هؤلاء بأن عمر بن الخطاب إنما صُلّي عليه في المسجد ، على ما ذكره مالك عن ابن عمر .
وأما صلاة المصلّي في المسجد على الجنازة : فأجازها مالك إذا ضاق الموضع واتصلت الصفوف ، وكرهه مع عدم ذلك . ومستندها خروج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والناس من المسجد للصلاة على النجاشي ، كما تقدَّم .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها : " فوقف به على حُجَرِهنّ يُصَلِّين عليه " ؛ أي : يدعون له ، وهذا بعد أن صلي عليه الصلاة الجامعة .
وبحتمل أن [ تكون هذه الصلاة هي الصلاة الجامعة] ، ويكون معنى قوله : " فوقف به على حُجرِهن " على هذا ؛ أي : حُبِسَ بين حجرهن حتى يجتمع الناس للصلاة عليه ، فيُصَلِّين عليه في جملة الناس ، والله تعالى أعلم .
قلت : وظاهره أنهن صلَّين عليه صلاة أخرى ، وفيه حجّة لمن قال بجواز إعادة الصلاة على الميت كما تقدَّم .
**************(4/5)
( 19 ) باب زيارة القبور والتسليم عليها والدعاء والاستغفار للموتى
---
52- عَنِ بُرَيْدَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلا فِي سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِي الأَسْقِيَةِ كُلِّهَا ، وَلا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب زيارة القبور
قوله : (( فزوروها )) ؛ نصٌّ في النسخ للمنع المتقدم ، لكن اختلف العلماء : هل هذا النسخ عام للرجال وللنساء ، أم هو خاص بالرجال ، وبقي حكم النساء على المنع ؟
والأول أظهر ، وقد دلّ على صحة ذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد رأى امرأة تبكي عند قبر فلم ينكر عليها الزيارة ، وإنما أنكر عليها البكاء ، كما تقدّم .
53- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : زَارَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى ، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ : (( اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي ، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي ، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في الحديث الآتي : (( زوروا القبور فإنها تُذَكِّر الموت )) ؛ وتذَكُّر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء ، على أن أصحّ ما في نهي النساء عن زيارة القبور ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعن زوَّارات القبور" ، صححه الترمذي ، على أن في إسناده عمر بن أبي سلمة ، وهو ضعيف عندهم .(4/6)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
ثم إن هذا اللعن إنما هو للمتكثرات من الزيارة ؛ لأن " زوارات " للمبالغة ، ويمكن أن يقال : إن النساء إنما يُمنَعن من إكثار الزيارة ؛ لما يؤدي إليه الإكثار من تضييع حقوق الزوج ، والتبرج ، والشهرة ، والتشبه بمن يلازم القبور لتعظيمها ، ولما يخاف عليها من الصراخ ، وغير ذلك من المفاسد . وعلى هذا يفرِّق بين الزائرات والزوارات .
والصحيح نمنمخ المنع ، عن الرجال والنساء ، كما تقدم .
وسيأتي القول على نسخ منع ادخار لحوم الأضاحي ، ومنع الانتباذ في الحنتم والدُّباء والمزفت في بابهما .
وقد زاد مالك في هذا الحديث : " لا تقولوا هُجْرًا " ، وهو الفحش من القول ، كالنوح والترنم به وغير ذلك ، وبكاؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قبر أمه ، إنما كان لما
54- عَنْ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسٍ بْنِ مَخْرَمَة بْنِ الْمُطَّلِبِ أَنَهُ قَالَ يَوْمَاً : أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ أُمِّي قَالَ : فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ ، قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قُلْنَا : بَلَىَ قَالَتْ : لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاتها من أيامه ، ومن الإيمان به .
وقوله : (( فاستأذنته في أن أستغفر لها ، فلم يُؤذَن لي )) ، يحتمل أن يكون هذا الاستئذان قبل نزول قوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } ، ويحتمل أن يكون بعد ذلك ، وارتجى خصوصية أمّه بذلك ، والله أعلم .(4/7)
وهذا التأويل الثاني أولى .
---
وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَاضْطَجَعَ ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا ، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا ، وَفَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا فَخَرَجَ ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا ، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي ، وَاخْتَمَرْتُ ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ ، فَأَسْرَعَ وَأَسْرَعْتُ ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ ، فَلَيْسَ إِلا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ : (( مَا لَكِ ؟ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً )) قَالَتْ : قُلْتُ : لا بِي شَيْءَ . قَالَ : لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة : " فلم يلبث إلاَّ ريثما ظن أني قد رقَدْتُ" ؛ أي : مقدار ذلك ، و"رويدًا " ؛ أي : مترفقًا متمهلاً ؛ لئلا ينبهها ، وهو مصدر في موضع الحال .
وقولها : ثم أجافه رريدًا " ؛ أي : [ أغلقه] بلطف ؛ لئلا تعلم بخروجه وبقائها في الليل وحدها ، فتستوحش وتذعر ، وظاهر خروجها خلفه إنما كان لأنها ظنت خروجه إلى بعض أزواجه .
و " البقيع " : هو بقيع الغرقد ، وهو مدفن أهل المدينة ، والغرقد : شجر العَوْسَج . ومعنى : انحرف : مال للرجوع ، والهرولة : فوق الإسراع ، والإحضار : فوق الهرولة . وكلها مراتب الجري .
وقوله : (( ما لك يا عائش حشياء رابية )) ؛ "عائش" : منادى مرخَّم : و"حشياء رابية " : وقع بها الربو ، وهو البُهْر الذي يلحق من الجري .
---(4/8)
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ، قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، فَأَخْبَرْتُهُ ، قَالَ : (( فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُهُ أَمَامِي ؟ )) قُلْتُ : نَعَمْ ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي ، ثُمَّ قَالَ : (( أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ ؟ )) قَالَتْ : مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ . قَالَ : (( نعم )) ، قَالَ : (( فَإِنَّ جِبْرِيلَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِي ، فَأَخْفَاهُ مِنْكِ ، فَأَجَبْتُهُ ، فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الهروي : يقال : امرأة حشياء وحشية ، ورجل حشيان وحشٍ .
وقولها في جوابها : " لا بي شيء ". قيّد ا لأسدي هذا الحرف : " لأيِّ شيء " بالياء باثنتين ، وخفض "شيء" على الاستفهام تغطية لحالها ، كأنها تقول : لايِّ شيء تسال . ورواه العذري : " لا بي شيء " بالباء بواحدة ، ورفع شيء ، على أن تكون " لا " بمعنى "ليس" ؛ أي : ليس بي شيء ، وهي روايتنا ، وفي بعض النسخ : " لا شيء" ، وهي أقربها ، و" السواد" : الشخص. و" لَهَدَني" : ضربني ودفعني . قال ابن القوطية : لَهدْتُه لَهْدًا : دفعته ، وأَلْهَدْتُ به : قصرت به .
وقوله : (( أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ )) أي : يجور ، وهذا يؤيد أنها ظنت أن قد [سار] إلى بعض أهله .
وقوله : (( أمرت أن آتي أهلَ البقيع وأستغفر لهم )) ؛ يدلّ على أنه دعا لأهل
---(4/9)
وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي . فَقَالَ : إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وجَلَّ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ )) ، قَالَتْ : قُلْتُ كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ ؟ يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : ((قُولِي السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلاحِقُونَ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( أَسْأَلُ اللّه لَنَا وَلَكُم العَافِيَةَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البقيع واستغفر ، وأن هذا هو الذي عبّر عنه في الرواية الأخرى : "يصلي".
وقد قيل : إنه صلّى عليهم صلاته على الجنازة ، ويؤيد هذا القول : أنه قد جاء في حديث مالك : (( فأُصلّي عليهم )). وقولها : " فقام فأطال القيام ، ثم رفع يديه ثلاث مرار ". ثم الذي يقول بهذا يرى أن ذلك خصوص بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والأول أظهر ، وهذا محتمل .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين )) ؛ هذا يدل : على أن السلام على الموتى كالسلام على الأحياء ؛ خلافًا لمن قال : إن تحية الميت : " عليك السلام " بتقديم "عليك" ؛ تمسكًا بما روي : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلّم رجلٌ عليه فقال : عليك السلام يا رسول الله! فقال : (( لا تقل : عليك السلام ؟ فإن عليك السلام تحية الميت )).
وهذا لا حجَّة فيه ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما كره منه أن يبدأ بـ"عليك السلام " ؛ لأنه كذلك كانت تحية الجاهلية للموتى ، كما قال شاعرهم :
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحّما(4/10)
ومقصوده ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن سلام المؤمنين على الأحياء والموتى مخالف لما كانت الجاهلية تفعله وتقوله ، والله أعلم .
---
وقد تقدّم قوله : (( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )) في الطهارة . وفي إسناد هذا الحديث قال ابن جريج : أخبرني عبد الله رجل من قريش ، عن محمد بن قيس بن مخرمة ، هذا الرجل هو عبد الله بن أبي مُلَيْكَة على ما قاله النسائي ، وأبو نعيم الجرجاني وأبو بكر وأبو عبيدالله الجيزي . وقال الدارقطني : هو عبد الله بن كثير بن المطلب بن أبي ودَاعَة السهمي .
************
( 20 ) باب فيمن لايصلى عليه
55- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : أُتِيَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من لا يصلّى عليه
قوله : " قتل نفسه بمشاقص " ؛ كذا صحيح الرواية فيه ، وهو جمع مشقص ، وهو السكين ، على الخلاف الذي ذكرناه في كتاب الإيمان . وقد رواه الطبري : بمشقاص ، بألف ، وليس بشيء ، وصوابه : مشقص . ولعل هذا القاتل لنفسه كان مستحلاً لقتل نفسه فمات كافرًا ، فلم يصل عليه لذلك ، وأما المسلم القاتل لنفسه فيصلّى عليه عند كافة العلماء ، وكذلك المقتول في حدٍّ أو قصاص ، ومرتكب الكبائر وولد الزنى ، غير أن أهل الفضل يجتنبون الصلاة على المبتدعة والبغاة ، وأصحاب الكبائر ، ردّعًا لأمثالهم . ويجتنب الإمام خاصة الصلاة على من قتله في حدّ .
وحُكي عن بعض السلف خلافٌ في [بعض صوره] ؛ فعن الزهري : لا يصلّى على المرجوم ، ويصلّى على المقتول في قود . وقال أحمد : لا يصلّي الإمام على قاتل نفس ، ولا غالّ . وقال أبو حنيفة : لا يصلّى على محارب ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/11)
ولا على من قُتل من الفئة الباغية ، وقال الشافعي : لا يصلّى على من ترك الصلاة إذا قتل ، ويصلّى على من سواه . وعن الحسن : لا يصلّى على النفساء تموت من زنى ، ولا على ولدها. وقاله قتادة في ولد الزنى. وعن بعض السلف خلاف في الصلاة على الطفل الصغير ؛ لما جاء : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصل على إبراهيم ابنه . وقد جاء عنه : أنه صلّى عليه . ذكر الحديثين أبو داود ، وقد علل ترك الصلاة عليه بعلل ضعيفة أشبهها : أنه لم يصل
.....................................................................
.....................................................................
.....................................................................
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليه ، وصلّى عليه غيره ، والله أعلم .
واختلفوا في الصلاة على السّقط ؛ فذهب بعض السلف وفقهاء المحدِّثين إلى الصلاة عليه ، والجمهور على أنه لا يصلّى عليه ، حتى يستهل صارخًا ،(4/12)
56- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ ، يُكَفِّنَ فِيهِ أَبَاهُ ، فَأَعْطَاهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَقَامَ عُمَرُ وَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ فَقَالَ : ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو تُعرف حياته .
---
وقال بعض السلف : يصلى عليه متى نُفخ فيه الروح ، وتمت له أربعة أشهر. وأما المقتول في معترك العدوّ ، فلا يُغَسَّل ، ولا يُصلَّى عليه عند مالك ، ويفعل ذلك به عند غيره . وفرَّق أبو حنيفة بين الغسل والصلاة ، فأثبتها ، وأسقطه .
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً .... } وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ . قَالَ : إِنَّهُ مُنَافِقٌ . فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}.
وَفِي رِوَايَةٍ : فَتَرَكَ الصَّلاةَ عَلَيْهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف أصحابنا لو كان الشهيد جنبًا ، هل يُغسّل أم لا ؟ قولان .(4/13)
و" عبد الله بن أبيّ بن سلول " : هو عبدالله بن أبي بن مالك ، وسلول : أم أبيّ ، فتارة ينسب أبيّ إليها ، وتارة إلى أبيه مالك ، وكان عبد الله هذا سيد الخزرج في آخر جاهليتهم ، فلما ظهر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وانصرف الخزرج وغيرهم إليه ، حسده عبدالله ، وناصبه العداوة ، غير أن الإسلام غلبه فنافق ، وكان رأسًا في المنافقين ، وهو أعظمهم نفاقًا ، وأشدهم كفرًا ، وكان المنافقون خلقًا كثيرًا ، حتى لقد روى ابن عباس : أنهم كانوا ثلاثمائة رجل ، ومائة وسبعين امرأة ، وكان لعبدالله هذا ولد اسمه : عبد الله ، هو من فضلاء أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن أصدقهم إسلامًا ، وأكثرهم عبادة ، وأشرحهم صدرًا ـ رضى الله عنهم ـ ، وكان أبرَّ الناس بأبيه هذا ، ومع ذلك ، فقال يومًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا رسول الله ! إنك لتعلم أني من أبرِّ الناس بأبي ، ولكن إن أمرتني أن آتيك برأسه فعلت ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بل نعفو عنه )).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وكان من أحرص الناس على إسلام أبيه ، وعلى أن ينتفع أبوه من بركات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء ، ولذلك لما مات سأل ابنُه النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه ؛ لينال من بركة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأعطاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قميصه ، وسأله أن يصلي عليه فصلّى عليه ، كل ذلك إكرام لابنه ، وإسعاف له في طلبته .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/14)
وقد روي أيضًا : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما أعطاه قميصه ؛ لأن عبد الله كان قد أعطى العباس ـ رضى الله عنه ـ عم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر قميصًا ، وذلك : أن العباس ـ رضى الله عنه ـ أُسر يوم بدر وسلب ، فمرَّ به عبدالله فأعطاه قميصه ، فكافأه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك.
وقول عمر ـ رضى الله عنه ـ في هذا الحديث : " أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلّي عليه )) ؛ يحتمل أن يقال : كان هذا قبل نزول قوله تعالى : { ولاتصل على أحد منهم مات أبدًا }.
ويظهر من هذا المساق : أن عمر ـ رضى الله عنه ـ وقع له في خاطره أن الله نهاه عن الصلاة عليه قبل نزول الآية ، ويكون هذا من قبيل الإلهام [ والتحديث ]
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي شهد له به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
---
ويحتمل أن يكون فهم ذلك من مساق قوله تعالى : { أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم } الآية ، وهذان التأويلان فيهما بُعد ، والذي يظهر لي- والله تعالى أعلم - : أن البخاري ذكر هذا الحديث من رواية ابن عباس ، وساقه سياقةً هي أتقن من هذه ، وليس فيها هذا اللفظ ، فقال عنه عن عمر : لما مات عبدالله بن أُبي بن سلول دَعَا له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليصلّي عليه ، فلما قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عمر : وثبتُ إليه فقلت : يا رسول الله ! أتصلي على ابن أُبيّ وقد قال يوم [كذا] : كذا وكذا ؟ أعدِّد عليه ، قال : فتبسّم رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/15)
وقال : (( أخِّرْ عنْي )) ، فلما أكثرتُ عليه ، قال : (( إني خُيِّرت فاخترت ، لو أنّي أعلم أنّي إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها )) ، قال : فصلّى عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم انصرف ، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا } ، قال : فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والله ورسوله أعلم .
قلت : وهذا مساق حسن ، وترتيب متقن ، ليس فيه شيء من الإشكال المتقدّم ، فهو ا لأولى .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( سأزيد على السبعين )) ؛ وعد بالزيادة ، وهو مخالف لما في حديث ابن عباس فإن فيه : (( لو أعلم أني إن زدت على السبعين غُفر له لزدت )) ، وهذا تقييد لذلك الوعد المطلق ، والأحاديث يفسّر بعضها بعضًا ، ويقيد بعضها بعضًا ، وقد قلنا : إن هذا الحديث أولى .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وتخصيص الله تعالى العدد بالسبعين على جهة الإغياء ، وعلى عادة العرب في استعمالهم هذا العدد في البعد والإغياء ، فإذا قال قائلهم : لا أكلمه سبعين سنة ، صار عندهم بمنزلة قولهم : لا أكلمه أبدًا ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((لو أعلم أني إذا زدت غفر له لزدت )) ، فقد علم أنه لا يغفر له . وقد قيل له في موضع أخر : { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم}.(4/16)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إني خيّرت )) ؛ مشكل مع قوله تعالى : { ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } الآية ، فقد تقدم أنّ الآية نزلت بعد موت أبي طالب ، حين قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك )). وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرًا ، وهو متقدم على الآية التي فهم منها التخيير .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والجواب عن الإشكال : أن المنهي عنه في هذه الآية الاستغفار المرجوّ الإجابة حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم ، كما فعل بأبي طالب ، فإنه إنما استغفر له كما استغفر إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه لأبيه ، على جهة أن يجيبهما الله تعالى ، فيغفر للمدعوّ لهما ، وفي هذا الاستغفار استئذان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه في أن يأذن له فيه لأمّه ، فلم يُؤذن له فيه ، فهذا النوع هو الذي تناوله منع [الله تعالى] ونهيه . وأما الاستغفار لأولئك المنافقين الذي خيّر فيه فهو استغفار لسانيّ ، علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا يمنع ولا ينفع ، وغايته لو وقع تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر لهم ، فانفصل المنهي عنه من المخيّر فيه ، وارتفع الإشكال ، والحمد لله .
**************
(21) باب النهي عن تمني الموت لضر نزل به
---
57- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ : (( اللهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي )).(4/17)
58- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ ، وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن تمني الموت لضرٍّ نزل به
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يتمنَّيَنَّ أحدُكم الموتَ لضرٍّ نزل به )) ؛ إنما نهي عن تمني الموت لأجل الضر ؛ لأن ذلك دليل على [التضجُّر] والتسخط بالمقدور ، وعدم الصبر والرضا ، هذا مقصود هذا الحديث ، وأما حديث أبي هريرة ففيه ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النهي عن تَمنِّي الموت مطلقًا لضرٍّ ولغير ضرٍّ ، ألا ترى أنه علّل النهْيَ بانقطاع العمر .
فهذان الحديثان يفيدان مقصودين مختلفين لا يحمل أحدهما على الآخر .
وقوله : (( فإن كان لا بدّ متمنيًا فليقل : اللهم أحْيِنِي ما كانت الحياة خيرًا لي )) ؛ في هذا الحديث دليل على استعمال التفويض وسؤال الخيرة ، حتى فيما لا بدّ منه وهو الموت .
وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلمهم الاستخارة في الأمور كلها ، كما يعلمهم السورة من القرآن ، فإذا تمنى الموت وجزم به ، كان قد اختار لنفسه ما لعلّه ينقطع عنه به خير ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرًا )) ،
---
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/18)
وقد فسّر هذا الحديث البخاري ، فزاد في هذا فقال : (( لا يتمنِّيَنَّ أحدكم الموت ، إما محسنًا ، فلعله يزداد حسنًا ، وإمّا مسيئًا ، فلعله أن يستعتب )) ، والاستعتاب : طلب العتبى ، وهو الرضا ، وذلك لا يحصل إلا بالتوبة والرجوع عن الذنوب .
*************
( 22 ) باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
59- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ )) فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللهِ ! أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ . قَالَ : (( لَيْسَ كَذَلِكِ ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ ، فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ ، وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ )).
وَفِي أُخْرَى : وَالْمَوْتُ قَبْلَ لِقَاءِ اللهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
قولها : " كلنا يكره الموت " ؛ قول من ظن أنه قد عبّر عن الموت بلقاء الله تعالى توسُّعًا ، فأجيب بما يقتضي : أن لقاءَ الله بعد الموت ، وقد نصَّ على ذلك في طريق آخر ، فقال : (( ولقاء الله بعد الموت )).
وفي هذا الحديث ما يدلّ على أنه لا يخرج أحدٌ من هذه الدار حتى يعلم ما له عند الله تعالى من خير أو شر ، وقد قيل ذلك في قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا }.
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/19)
وهذه الكراهة للمرت هي الكراهية الطبيعية التي هي راجعة إلى النفرة عن المكروه والضرر ، واستصعاب ذلك على النفوس . ولا شك في وجدانها لكلِّ أحد ، غير أن مَن رزقه الله تعالى ذوقًا من محبته ، وانكشف له شيء من جمال حضرته ، غلب عليه ما يجده من خالص محبته ، فقال عند أزوف رحلته ، مخاطبًا للموت وسكرته ، كما قال معاذ ـ رضى الله عنه ـ : " حبيبٌ جاء على فاقة ، لا أفلح اليوم من ندم " ، وكان يقول عند اشتداد السكرات : "اخْنُقْنِي خنْقَك ، فوَحقِّكَ إن قلْبي ليحبّك ".
.....................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
6
كتاب الزكاة
باب ما تجب فيه الزكاة ، وكم مقدار ما يخرج
1- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ قَالَ : (( لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الزكاة
قد تقدم اشتقاق الزكاة في كتاب الإيمان ، وتسمى أيضًا : صدقة ، مأخوذة من الصدق ؛ إذ هي دليل على صحة إيمانه ، وصدق باطنه مع ظاهره ، وقد تقدم استيفاء هذا المعنى في كتاب الطهارة .
وشرعها الله تعالى مواساة للفقراء ، وتطهيرًا للأغنياء من البخل. وإنما تجب على من له مِن المال ما له بال . وأقل ذلك النصاب على ما سيأتي بيانه.
ثم موضوعها : الأموال النامية ؛ أي : الصالحة للنماء ، وهي : العين
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والحرث والماشية ، ثم هذه الأصول منها ما ينمو بنفسه ، كالحرث والماشية ؛(4/20)
ومنها ما ينمو بتغيير عينه وتقليبه كالعين .
والإجماع منعقدٌ على تعلق الزكاة بأعيان هذه المسميات . فأما تعلق الزكاة بما سواها من العروض والديون ؛ ففيها للفقهاء ثلاثة أقوال :
فأبو حنيفة يوجبها على الإطلاق ، وداود يسقطها [من] ذلك ، ومالك يوجبها في عروض التجارة ، وفي الديون تفصيل يعرف في كتب فقهه ، [ وستأتي] حجة كل فريق في تضاعيف الكلام .
---
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة )) ، أواقٍ جمع أوقية . قال أبو عبيد : هي اسم لوزن مبلغه أربعون درهمًا كيلاً . قال ابن السكيت : الأُوقيّة - ضم الهمزة وتشديد الياء - ، وجمعها أواقي وأواق . قال غيره : ولا يقال فيه وَقية(6) - بفتح الواو - من غير همزة . وحكى اللحياني أنه يقال : وتجمع : وقايا .
ودرهم الكيل زنته خمسون حبةٍ وخُمُسَا حبة ، وسمي درهم الكيل ؛ لأنه بتكييل عبد الملك بن مروان ؛ أي : بتقديره وتحقيقه ، وذلك أن الدراهم التي ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان الناس يتعاملون بها على وجه الدهر نوعان : نوع عليه نقش فارس ، ونوع عليه نقش الروم . أحد النوعين يقال له : البَغْلِيّة ، وهي السود ، الدرهم منها ثمانية دوانيق ، والأخرى يقال لها : الطبرية ، وهي العُتُق ، الدرهم منها من أربعة دوانيق(1) ، فجاء الإسلام وهي كذلك ، وكان الناس يتعاملون بها مجموعة على الشطر من هذه والشطر من هذه لدى الإطلاق ؛ ما لم يعينوا بالنص أحد النوعين .(4/21)
وكذلك كانوا يؤدون الزكاة في أول الإسلام ؛ باعتبار مئة من هذه ، ومئة من هذه في النصاب . ذكر هذا أبو عبيد وغيره ، فلما كان عبد الملك بن مروان تَحَرَّجَ من نقوشها ، فضرب الدرهم بنقش الإسلام بعد أن تحرى معاملتهم الإطلاقية ، فجمع بين درهم بغلي من ثمانية دوانيق وبين درهم طبري من أربعة دوانيق ، فكان اثني عشر دانقا ، فقسمها نصفين ، فضرب الدرهم من نصفها وهو ستة دوانق ، والدانق : ثمان حبات ، وثُلُث حبة وثُلُثَا خُمُسَ حبة من الشعير المطلق .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
واتفق المسلمون على اعتبار درهم الكيل المذكور ؛ لموافقته ما كان معتبرًا من عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلى أن ضربت ، وأن نصاب الزكاة مئتا درهم من دراهم الكيل ، وهي الخمسة الأواقي المذكورة في الحديث . ولم يخالف في ذلك إلا من زعم أن أهل كل بلد يعتبرون النصاب بما يجري عندهم من الدراهم ، صغرت أو كبرت . وهو مذهب ابن حبيب الأندلسي .
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، ويعضده قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الوزن على وزن أهل مكة )) ، وهو حديث صحيح .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد تقدّم أن هذا المقدار المذكور هو الذي كان [على] وزن أهل مكة في عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وأما دينار الذهب فهو أربعة وعشرون قيراطًا . والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير ، فمجموعه اثنتان وسبعون حبة ، وهو مجموع عليه .(4/22)
والوَرِق : بكسر الراء على الأصل كـ " كَبِد " ، وباسكانها تخفيف ، كما يقال : كبْد وفخْذ ، وهي الدراهم خاصة . ويقال عليها : الرقة - بتخفيف القاف - ، ومنه قوله : (( في الرِّقة ربع العشر )). قال أبو بكر : جمعها : رقات ورقون . ومنه قولهم : وجدان الرقين يغطي أَفَن الأَفِين ؛ أي : وجدان الدراهم يغظي عيب المعيب .
2- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلا تَمْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ... الحَدِيث .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الهروي : يقال : رجل وارّق : كثير الوَرِق .
وقال بعضهم : لا يقال : لغير الدراهم وَرِق ، ولا رِقَة . وإنما يقال له : فضة . وأما الفقهاء : فالفضة والورق عندهم سواء . وكذلك قال ابن قتيبة : إن الرقة والورق : الفضة ، مسكوكها ، وغير مكسوكها .
---
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ليس فيما دون )) ؛ ظاهره أنه إذا نقص من النصاب ولو أقل ما ينطلق عليه اسم النقص ، لم تجب فيه زكاة ، وبه قال أبو حنيفة . وقال مالك : إذا كان النقصان يسيرًا لم تسقط الزكاة .
واختلف أصحابه في مقدار اليسير :
فمنهم من قال : هو ما لا يتشاح فيه في العادة .
ومنهم من فسره : بأنه المقدار الذي تختلف فيه الموازين ، وهذا عندهم شرط [جوازها بجواز] الوازنة .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحكي عن عمر بن عبد العزيز : أن نصاب الدراهم إن نقص ثلاثة دراهم ، ونصاب الذهب إن نقص ثلث دينار ، لم تسقط الزكاة .
والظاهر مع أبي حنيفة ، والمعنى مع أصحابنا .(4/23)
و "دون " في كل مواضع هذا الحديث بمعنى : أقل ؛ أي : ليس في أقل من خمس صدقة ، لا أنه نفي عن غير الخمس الصدقة ، كما زعم بعضهم في قوله : (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )) ؛ أنها بمعنى غير .
وقوله : (( خمس ذود )) : الرواية المشهورة فيه على الإضافة ، ومنهم من يروبه بالتنوين على البدل . والصحيح في الرواية إسقاط الهاء من " خمس" على التأنيث . وأثبتها بعضهم على التذكير ، وهذا على الخلاف في "الذود" ، هل يطلق على الإناث أو على الذكور ؟ على ما يأتي .
وأصل وضع الذود إنما هو مصدر ، من ذاد يذود ، إذا دفع شيئًا ، فكان من كان عنده دفع عن نفسه معرّة الفقر ، أو شدّة الفاقة والحاجة . واختلف اللغويون فيه :
فقال أبو عبيد : هو ما بين الثنتين إلى التسع ، ومن الإناث دون الذكور. ونحوه عند سيبويه في التأنيث ، قال : يقال : ثلاث ذَوْدٍ ؛ لأن الذود أنثى ، وليس باسم كسر عليه مذكره(4).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقال الأصمعي : الذود : ما بين الثلاث إلى العشر. والصُّبَّة : خمس أو ست ، والصِّرْمَة : ما بين العشر إلى العشرين ، والعَكَرَة : ما بين العشرين إلى الثلاثين ، والْهَجْمَةُ : ما بين الستين إلى السبعين ، والْهُنَيْدةُ : مائة ، والخِطْرُ : نحو المائتين ، والعَرْج : من خمسمائة إلى الألف . وقال غيره : هِنْدُ- غير مصغر - : مائتان ، وأمَامَة : ثلاثمائة . وأنكر ابن قتيبة أن يراد بالذود الواحد ، وقال : لا يصح أن يفال : خمس ذود ، كما لا يقال : خمس ثوب .
وقال القاضي عياض : الذود : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، ولا واحد له من لفظه ، إنما يقال في الواحد : بعير ، كما يقال للواحدة من النساء : امرأة . وقال غيره : خمس ذود ، كما يقال خمس أبعرة ، وخمسة جمال ، وخمس نوق. وقد نصّ بعض اللغويين على أن " الذود" يكون وحدًا .(4/24)
وقال أبو حاتم : تركوا القياس في الجمع فقالوا : ثلاث ذود لثلاث من الابل ، وأربعُ ذودٍ ، وعشرُ ذود على غير قياس ، كما قالوا : ثلاثمائة وأربعمائة ، والقياس : مِئِين ومِئات ، ولا يكاد يقولونه .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : وهذا صريح بأن الذود واحذ في لفظه ، والأشهر ما قاله المتقدمون أنه لا يقال على الواحد ، والله أعلم .
وقوله : (( ليس فيما دون خمسة أوسُق صدقة )) ؛ الأوسق : جمع قلة الوِسْق ، كـ " فِلْس وأَفْلُس ، ويقال : أَوْسَاق : جمع وِسق - بكسر الواو - ، كما يقال : عِدْل وأعْدَال .
---
واختلفوا في اشتقاته ، فقال شمر : كذ شيء حملتَه فقد وسقْتَه ، يقال : ما أفعلُ كذا ما وسقتْ عيني الماء ؛ أي : ما حملْته . وقال غيره : الوسق : ضمك الشيء إلى الشيء ، ومنه قوله تعالى : { وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } ؛ أي : جمع وضم ، يقال للذي يجمع الإبل : وَاسِق ، وللأبل نفسها : وَسَقَتْ ، وقد وَسَقْتُها فاستَوسَقَتْ ؛ أي : اجتمعت وانضمت .
وقال الخطابي : الوسق : تمام حمل الدواب النقالة ، وهو ستون صاعًا . قال غيره : والصاع : أربعة أمداد ، والْمُد : رطل وثلث بالعراقي . والرطل العراقي : هو اثنا عشر أوقية . والأوقية هنا : زنة عشرَةِ دراهمَ وثلثي درهم ، من دراهم الكيل ، فمبلغ(6) زنة الرطل من دراهم الكيل : مائة درهم وثمانية ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعشرون درهمًا . ولم يجز في هذا الحديث ذكر نصاب الذهب ، ولا وقع في "الصحيحين" ، ولا ما يدلّ على اشتراط الحول في الزكاة .
وقد ذكر أبو داود ما يدل عليهما ، فروى باسناد صحيح إلى أبي إسحاق السبيعي ، عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور ، عن علي بن أبي(4/25)
.....................................................................
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طالب ـ رضى الله عنه ـ ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( إذا كانت لك مائتا درهم ، وحال عليها الحول ، ففيها خمسة دراهم ، وليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارًا ، فاذا كان لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول ، ففيها نصف دينار ، فما زاد فبحساب ذلك )) ، قال : فلا أدري أعليٌّ يقول "بحساب ذلك " ، أو رفعه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ".
---
قلت : هذا الحديث غاية ما قيل فيه : أن جرير بن حازم رواه عن أبي إسحاق ، وقرن فيه بين عاصم بن ضمرة ، وهو ثقة ، وبين الحارث الأعور ، وهو كذاب . ورواه جماعة من الأئمة عن أبي إسحاق ، عن عاصم موقوفًا على عليّ ، فقال من رَدَّ ذلك الحديث : لعل جريرًا سمعه من أبي إسحاق عن عاصم موقوفًا ، وسمعه عنه عن الحارث مسندًا ، ولذلك قرن بينهما ، وكأن الإسناد متلقى عن الحارث .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا لا ينبغي أن يُردَّ الخبر له ، فأنه وهمٌ ، وضَنٌّ غير محقق ، بل هو مردود ؛ لأن المعتمد ثقة جرير وأمانته ، وقد أخبر بانه سمعه منهما في مساق واحد ، وظاهره : أنه تلقاه عن كل واحد منهما على نحو ما تلقاه عن الآخر ، فيُعْتَمد على رواية الثقة ، وتلغى رواية غيره ، ولا يضره وقف من وقفه ، إذا كان الذي رفعه ثقة .
قال القاضي عياض : وأما نصاب الذهب فهو عشرون دينارًا ، والْمُعوِّل في تحديده على الإجماع ، وقد حكي فيه خلاف شاذ ، وورد فيه أيضًا حديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .(4/26)
قلت : وأما نصاب الإبل والغنم ، فلم يخزخ في كتاب مسلم من ذلك شيء . وقد خرَّج البخاري فيه كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما نصاب البقر فلم يقع في "الصحيحين" شيء من ذلك . وقد روى في ذلك النسائي عن مسروق ، عن معاذ بن جبل ـ رضى الله عنه ـ قال : لما بعثه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
.....................................................................
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعة ، ومن كل
---
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أربعين مسنة ، ومن كل حالمٍ دينارًا ، أو عِدْلَه مَعَافِر . غير أنه منقطع ، لم يلق مسروق معاذًا . وقد خرَّجه الترمذي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسعود ، عن أبيه ، ولم يسمع أبو عبيدة من أبيه . ورواه مالك عن طاووس ، عن معاذ من فعله موقوفًا ، وطاووس لم يدرك معاذًا .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأحسن ما في الباب ما خرَّجه الدارقطني ، عن الشعبي ، عن أنس قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( في كل أربعين من البقر مسنه ، وفي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة )) ، قال : هذا يروى مرسلاً عن الشعبي ، وهو الصواب .(4/27)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو محمد بن حزم : قد صح الإجماع المتيقن المقطوع به ، الذي لا خلاف فيه : أن في كل خمسين بقرةٍ بقرةٌ . فوجب الأخذ بهذا ، وما دون ذلك مختلف فيه ، ولا نص في إيجابه .
قلت : وحديث جابر وأبي سعيد يدلان على أن ما نقص عن هذه النصب ليس فيه زكاة ، ولا خلاف في ذلك ، إلا ما ذهب إليه أبو حنيفة وبعض السلف من أن الحب تخرج الزكاة من قليله وكثيره ، والحديثان حجة عليهم .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال داود : كل ما يدخله الكيل فتراعى فيه الخمسة الأوسق ، وما عداه مما لا يوسق ، ففي قليله وكثيره الزكاة .
---
قال القاضي عياض : وأجمعوا على أن في عشرين دينارًا الزكاة . ولا تجب في أقل منها ، إلأ ما روي عن الحسن والزهري مما لم يتابعا عليه : أن لا صدقة في أقل من أربعين دينارًا ، والأشهر عنهما ما روي عن الجماعة . وروي عن بعض السلف : أن الذهب إذا كانت قيمته مائتي درهم فيها الزكاة ، فإن نقصت عن ذلك فلا شيء فيه .
واتفقوا على أن ما زاد من الحب على خمسة أوسق ، أن الزكاة في قليله وكثيره ، ولا وَقَصَ فيه . واتفقوا على الأوقاص في المواشي .
واختلفوا في الذهب والفضة ، فذهب مالك والشافعي وبعض السلف والجمهور إلى أن لا وقَصَ فيهما . وذهب أبو حنيفة وبعض الجماعة إلا أنه لا شيء فيما زاد على المائتي درهم حتى تبلغ أربعين ، ولا على العشرين دينارًا حتى تبلغ أربعة دنانير ، فإذا زادت على ذلك ، ففي كل أربعين درهمًا درهم ، وفي كل أربعة دنانير درهم ، ومعتمدهم في هذا حديث ضعيف لا أصل له. ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/28)
ومالك وجمهور علماء الأمصار يرون ضَمَّ الذهب والفضة على اختلاف بينهم ؛ فمالك وجماعة يراعون الوزن ، والضم على الأجزاء لا على القيم ، ويُنْزِلُون كل دينار منزلة عشرة دراهم على الصرف القديم . وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري يرون ضمها على القيمة في وقت الزكاة .
وقال الشافعي وداود وأبو ثور وأحمد : لا يضم منها شيء إلى شيء ، وبراعى نصاب كل واحد منهما بنفسه .
وذهب آخرون إلى أنه إنما يضم إذا كمل من أحدهما نصاب ، فيضم الآخر ، ويزكى الجميع .
3- وَعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : فِيمَا سَقَتِ الأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : (( فيما سقت الأنهار والغيم العُشور ، وفيما سُقي بالسانية نصف العشر )) ؛ كذا ساق حديث جابر هنا .
وفي البخاري من حديث ابن عمر مرفوعًا : (( فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثرِيًا العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر )).
و " الأنهار" : جمع نهر ، وقد تقدم اشتقاقه .
و " الغيم" هنا : هو المطر . وقد روي في غير كتاب مسلم : " الغيل"
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باللام . قال ابن السكيت : هو الماء الجاري على الأرض .
و "العشري " قال أكثرهم : هو ما يشرب بماء السماء . وسمي بذلك ؛ لأنه تكسر حوله الأرض ، ويعبر جريه إلى أصول النخل بتراب يرتفع هناك . قالوا : والبعل ما لاً يحتاج إلى ذلك ، وإنما يشرب بعروقه .
و "السانية" : هي السَّاقية ، يقال : سنا يسنو سَنوًا ؛ إذا استقى ، وهو النضح أيضًا .
و "النواضح " : هي الإبل التي يستقى عليها الماء .(4/29)
وقد أجمع العلماء على الأخذ بهذا الحديث في قدر ما يؤخذ . واستدل أبو حنيفة بعمومه على وجوب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض من الثمار ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والرياحين والخضر وغيرها ، إلا الحشيش وشبهه من الحطب والقصب ، وما لا يثمر من الشجر كالسَّمُر وشبهه . وخالفه جماعة العلماء في ذلك على اختلافهم فى تفاصيل ذلك .
وقد أجمعوا على الحنطة والشعير والتمر والزبيب. ورأي الحسن والثوري وابن أبي ليلى في آخرين : أنه لا زكاة إلا في هذه الأربعة . وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنها تجب في كل ما يُقتات ويُدَّخر للعيش غالبًا ، ونحوه قال الشافعي وأبو ثور ، إلا أنهما استثنيا الزيتون . وقال ابن الماجشون من أصحابنا : تجب في ذوات الأصول كلها ما ادُّخر منها وما لم يدَّخر .
---
و "العَشور" : أكثر الرواة على فتح العين . وهو اسم القدْر المخرج . وعن الطبري : " العُشْر"- بضم العين ، وتسكين الشين - ، ويكون العُشُور- بالضم-جمع " عُشْر ".
والحكمة في فرض العشر : أنه يُكتب بعشرة أمثاله ، فكان المخرج للعشر تصدَّق بكل ماله ، والله تعالى أعلم .
*************
( 2 ) باب ليس فيما اتُّخِذَ للقُنْيَةً صدقة ، وفي تقديم الصدقة وفي
تحمّلها عمن وجبت عليه
4- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ . وَفِي رِوَايَةٍ : لَيسَ فِي العَبدِ صَدَقَةٌ إلا صَدَقَةَ الفطر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ليس فيما اتخذ للقنية صدقة(4/30)
قوله : (( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة )) ؛ هذا الحديث أصل في أن ما هو للقنية لا زكاة فيه ، وهو مذهب كافة العلماء وأئمة الفتوى ، إلا حماد بن أبي [سليمان] ، فإنه أوجب في الخيل الزكاة . وقال(4) أبو حنيفة : إذا كانت إناثًا وذكورًا يُبتغى نسلها ، ففي كل فرس(5) دينار ، وإن شاء قوَّم وأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم ، ولا حجة لهم مع هذا الحديث .
وقوله : (( وليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر )) ؛ دليل : على أن على السيد في عبده زكاة الفطر ، وهو قول الجمهور في العبيد ، كانوا لخدمة أو غلة ، أو تجارة ، خلافًا لداود وأبي ثور في إيجابها على العبد نفسه ، وخلافًا لأهل الكوفة في [إسقاطها](6) من عبيد التجارة فقط .
---
5- وَعَنْهُ قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ - عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ : مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا ، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا )) ، ثُمَّ قَالَ : (( يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أبي هريرة : " إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث عمر على الصدقة " ؛ ظاهر هذا اللفظ أنها الصدقة الواجبة ، وإليه صار الجمهور ، وعلى هذا يلزم استبعاد منع هؤلاء المذكورين لها ، ولذلك قال بعض العلماء : كانت صدقة تطوع .(4/31)
وقد روى عبد الرزاق هذا الحديث ، وفيه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ندب الناس إلى الصدقة ، وذكر الحديث .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال ابن القصار : وهذا أليق بالقصة ، فلا يظن بأحد منهم منع الواجب ، قال : فيكون عذر خالد واضحًا ؛ لأنه لما أخرج أكثر ماله حُبْسًا في سبيل الله ، لم يحتمل صدقة التطوع ، فعذره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذلك . ويكون ابن جميل شحَّ في التطوع الذي لايلزمه ، فعتب عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كما جاء في الحديث . وأخبر أن العباس يسمح بما طلب منه ومثله معه ، وأنه ممن لا يمتنع مما حَضَّه عليه(1) النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بل يَعُدُّه كاللازم .
وأما من قال إنها صدقة الفرض ، فيشكل عليه امتناع هؤلاء الكبراء والفضلاء من الصحابة عن أدائها ، واحتسابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لخالد فيها بما كان حَبَس من آلة الجهاد ، مع أنه قد كان يعدها على وجه الْحُبُس ، على ما هو ظاهر الحديث .
---
وقوله : (( إنكم تظلمون خالدًا )) ، وقوله : (( هي عليّ ومثلها معها )) ، وقد انفصل عن استبعاد منعهم بأنهم لم يمنعوها عنادًا ، بل توقفًا من ابن جميل إلى
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن يرى هل يُسامح بها.(4/32)
وقال المهلب : كان ابن جميل منافقًا أولاً فمنع الزكاة ، فأنزل الله تعالى : { وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } ، فقال : [استثناني] الله ، فتاب وصُلحت حاله ، وتأوُلاً من خالد بأنه يحتسب له بها ، ومن العباس بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحملها عنه ، أو بأنه عديم ، أو بغير ذلك من أنواع التأويلات المسوغة ، ولم يكن فيهم أبعد تأويلاً من ابن جميل ؛ ولذلك عتب عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وأما قوله : (( إنكم تظلمون خالدًا )) ؛ فهو خطاب منه للعمال على الصدقة ، حيث لم يحتسبوا له بما أنفق في الجهاد من الخيل والعدة . وكأن خالدًا -والله أعلم - رأى أن الحاجة قد تعينت للجهاد في سبيل الله ، وقد جعل الله للجهاد حظًّا من الزكاة ، فرأى أن يصرفها فيه ، فأخرج زكاته ، واشترى بها ما يصلح للجهاد ، كما يفعله الإمام . ولما تحقق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال : (( إنكم تظلمون خالدًا ، فإنه صرفها مصرفها ، وأنتم تطالبونه بها . وعند ذلك يكون قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لخالد ذلك إمضاءً لما فعل خالد ، ويكون معنى "احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله " : رفع يده عنها ، وأبانها عن ملكه ، وخلّى بين الناس وبينها في سبيل الله ، لا أنه حبسها وقفًا على التأبيد.
و "الأدراع" : جمع درع الحديد . و"الأعتاد" : جمع عتد ، وكذلك الأعتد في غير هذه الرواية ، وكلاهما جمع قلة ، وهو الفرس الصلب . وقيل : هو المعد للركوب . وقيل : السريع الوثب .
---
قال الهروي : هو ما أعده الرجل من سلاح ، ودواب ، وآلة [للحرب]. ويجمع أيضا : أَعْتِدَة . وفي غير مسلم : " أَعْتُدَة "- بضم التاء وفتح الدال - ، ورري أيضًا : " أعبدة"- بالباء - بواحدة جمع : " عبد".(4/33)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حق العباس ـ رضى الله عنه ـ : (( فهي عليَّ ومثلها معها )) ، فقد اضطربت ألفاظ الرواة فيه ، فقيل ما ذكرناه . وفي البخاري : (( فهي عليه صدقة ومثلها معها )) ، وفي غيرهما : (( فهي له ومثلها )).
فأما رواية مسلم فظاهرها أنه تحمّلها عنه ومثلها ، ويحتمل أنها كانت له عليه ؛ إذ قد قدّمها له . وفيه بُعدٌ من حيث اللفظ ، وان كان الدارقطني قد روى من حديث موسى بن طلحة ـ رضى الله عنه ـ : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( إنا كنا احتجنا فتعجَّلنا من العباس صدقة ماله سنتين )) ؛ وبهذا يحتجّ مَن يرى تقديم الزكاة ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل وقت وجوبها . وهو مذهب أبي حنيفة والأوزاعي والشافعي وفقهاء المحدثين . ومن هؤلاء مَن يجيز تقديم زكاة عامين ؛ أخذًا بهذا الحديث . ومنع ذلك مالك والليث ، وهو قول عائشة وابن سيرين ، فقالوا : لا يجوز تقديمها على وقت وجوبها كالصلاة . وعن مالك خلافٌ فيما قرب ، وكان هؤلاء لم يصحَّ عندهم الحديت - والله أعلم - ، ولا ارتضوا ذلك التأويل .
---
وقيل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هي علف ومثلها )) ؛ أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قد تسلّف من العباس مالاً احتاج إليه في السبيل ، فقاصَّه به عند الحول ، وهذا ما لا يختلف في جوازه ، وحينئذ لا يكون حجة على جواز التقديم . وأما رواية البخاري ، فنص فيه أنه تركها له ومثلها ؛ وذلك لأنه كان قد فدى نفسه وعقيلاً ، فكأنه كان غريمًا ، وإليه يرد قوله : (( فهي له ومثلها )) ، ويحتمل : " فهي له عليَّ " كما تقدم . وبحسب هذه التأويلات تنزل عليه الأحكام .(4/34)
وقوله : (( ما ينقم ابن جميل )) ؛ أي : ما يعيب ، يقال : نقَم ينقِم ، ونقَم
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينقُم ، ومنه قوله تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا }.وقال الشاعر :
ما نقم الناس من أمّيةَ إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وإنهم سادة الملوك لا تصلح إلا عليهم العرب
وقوله : (( أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه )) ؛ أي : يرجع مع أبيه إلى أصل واحد ، ومنه قوله تعالى : { صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ } ، وأصله من النخلتين والنخلات التي ترجع إلى أصل واحد . و" الصِّنْوَان " : جمع صِنْو ، كقِنْوَان وقِنْو ، ويجمع : أصناء ؛ كأسماء ، فإذا كثرت ، قلت : الصِّنَّي والصُّنِيّ ، وهذا تعظيم لحق العم ، وهو مقتضٍ ومناسب لأن يحمل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هو [عليّ] أنه تحملها عنه ؛ احترامًا له ومبّرةً وإكرامًا ، حتى لا يَتَعَرَّض له بطلبها أحد ؛ إذ تحمّلها عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والله أعلم .
*************
( 3 ) باب الأمر بزكاة الفطر ، وعمن تخرج ، ومما ذا تخرج ، ومتى تخرج؟
6- عَنْ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ، أَوْ رَجُلٍ ، أَوِ امْرَأَةٍ ؛ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ .
---
وَفِي رِوَايَةٍ : فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ؛ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بزكاة الفطر(4/35)
قوله : " فرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زكاة الفطر " ؛ جمهور أئمة الفتوى على أنها حكم زكاة واجبة ، وهو المنصوص عن مالك ؛ محتجين بقوله تعالى :
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ }.
وذهب بعض أهل العراق وبعض أصحاب مالك : إلى أنها سنَّة ، ورأوا أن : " فَرَضَ " بمعنى : " قَدَّرَ" ، وهو أصله في اللغة ، كما قال تعالى : { أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضةً } ، ولم يروها داخلة في عموم ما ذكر. وقال أبو حنيفة : هي واجبة وليست بفريضة ؛ على مذهبه في الفرق بين الواجب والفرض .
وقوله : " زكاة الفطر في رمضان " ؛ إشارة إلى وقت وجوبها . وقد اختلف فيه :
فعندنا وعند الشافعي : تجب بغروب الشمس من آخر رمضان. وقيل عنهما : بطلوع الفجر من يوم الفطر .
وذهب بعض المتأخرين من أصحابنا : إلى أنها تجب بطلوع الشمس من يوم الفطر ، وسبب هذا الخلاف : أن الشرع قد أضاف هذه الزكاة للفطر ، وهل هو الفطر المعتاد في سائر الشهر ، فيكون الوجوب من وقت الغروب ، أو الفطر المعتاد في كل يوم ، فيكون من طلوع الشمس . أو المراد أول الفظر المأمور به يوم الفطر ، فيكون من طلوع الفجر .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال ابن قتيبة : معنى صدقة الفطر ؛ أي : صدقة النفوس ، والفظرة : أصل الخلقة ، وهذا بعيد ، بل مردود بقوله : " صدقة الفطر من رمضان " ، والأظهر الأول .
---
وقوله : " على كل نفس " ؛ يقتضي عموم النفوس أغنيائهم وفقرائهم ، خلافًا لأصحاب الرأي في قولهم : لا تلزم من يحلّ له أخذها .(4/36)
واختلف قول مالك وأصحابه في ذلك ، ومشهور مذهبه أنها تجب على من فضل عن قوته يوم الفطر قدرها. ويدخل في ذلك العموم الحاضر والبادي ، خلافًا لليث وربيعة والزهري وعطاء في قصر وجوبها على أهل الحواضر والقرى ، دون أهل العمُود وا لخصوص .
وقوله : " من المسلمين " ؛ دليل على أنها لا تخرج عن العبد الكافر ، وهو قول الجمهور . وذهب الكوفيون وإسحاق وبعض السلف : إلى أنها تخرج عن العبيد الكفار .
وقد تأول الطحاوي قوله : "من المسلمين " : أنه عائدٌ إلى السادة المخرجين ، وهذا لا يقتضيه مساق الحديث ، فتأمله .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : ظاهر هذا الحديث : أنه إنما قصد فيه إلى بيان مقدارها ، ومن يقدر عليه ، ولم يتعزضن فيه لبيان من يخرجها عن نفسه ممن يخرجها عن غيره ، بل شمل الجميع ؛ إذ قد ذكر فيهم العبد والصغير .
فأما الصغير : فلا خلاف عند من يقول : إنها تخرج بسببه ؛ أنّ وليَّه هو الذي يخاطب بإخراجها ؛ إذ الصبي لم يجر عليه بَعْدُ قلم التكليف .
وأما العبد : فذهب الجمهور إلى أنه ليس مخاطبًا بها ؛ لأنه لا شيء له . ولو كان له مالٌ فسيده قادر على انتزاعه ، خلافًا لداود ، فإنه أوجبها على العبد ؛ تمسكًا بلفظ العبد المذكور في الحديث هذا . وقال : على السيد أن يتركه قبل الفطر فيكتسب ذلك القدر ، وليس له منعه من ذلك في تلك المدة ، كما لا يمنعه من صلاة الفرض .
---
ثم إذا تنزلنا على قول الجمهور في أنه لا يجب عليه شيء ، فهل يخاطب سيده بإخراجها عنه أم لا ؟ جمهورهم أيضًا على أنه يجب ذلك عليه ؛ لأنه تلزمه نفقته ومؤنته ، وهذه من جملة المؤن ، فإن المخاطَب بإخراجها المكلَّف الواجدَ لها حين الوجوب ؛ عن نفسه وعن من تلزمه نفقته ؛ بدليل ما رواه الدارقطني(4/37)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من حديث ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ قال : أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزكاة الفطر عن الصغير والكبير ، والحر والعبد ، ممن تمونون .
7- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : كُنَّا نُخْرِجُ ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ : إِنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَمَّا أَنَا فَلا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ .
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ : كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ ثَلاثَةِ أَصْنَافٍ : الأقِطِ ، وَالتَمْرٍ ، وَالشَعِيرٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
والصحيح ما في الأصل من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضى الله عنه ـ قال : كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زكاة الفطر عن كل : صغير وكبير ، وحرٍّ أو مملوك ، فصرّح فيه بأنهم كانوا يخاطبون بإخراج زكاة الفطر عن غيرهم ؛ وذلك الغير لا بدّ أن يكون بينه وبين المأمور بالإخراج ملابسة ، وتلك ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/38)
الملابسة هي التي تكون مثل الملابسة التي تكون بين الصغير ووليه ، والعبد وسيده ، وهي القيام بما يحتاج إليه كل واحد منهما من المؤن .
وأما إخراجها عن الزوجة ، فمذهب الجمهور أن ذلك يجب على الزوج. وقال الكوفيون : لا يلزم الرجل إخراجها عن زوجته ، وإنما يلزمها هي أن تخرجها عن نفسها ، وسببه ما تقدّم .
وقوله : " صاعًا من طعام ، أو صاعًا من أقط ، أو صاعًا من شعير ، أو صاعًا من زبيب " ؛ الطعام هنا : القمح ؛ بدليل ذكر الشعير .
وقد رواه أبو داود وقال : (( أو صاعًا من حنطة )) مكان : (( من طعام )). وهو حجة على من قال : لا تخرج من البُرّ ، وهو خلاف شاذٌّ ، وهو مسبوق بإجماع السلف ، وهو حجة على من يقول : إنه يُخرج من البر نصف صاع ، وهم جماعة من السلف وأبو حنيفة ، واحتجوا بأحاديث لم يصحّ عند ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهل الحديث شي منها. وقال الليث : مدان بمد هشام ، والأوزاعي : مدّان بمد أهل بلده . والجمهور على التمسك بما ذكرناه .
---
وقوله : " أو صاعًا من أقط " ؛ حجة لعامة أهل العلم على من منع إخراج الأقط فيها ، وهو الحسن ، وهو أحد قولي الشافعي . وقَصَر أشهب إخراجها على هذه الأصنات الأربعة المذكورة في الحديث ، واختلف فيه قول مالك ، فالمشهور عنه : أنه ألحق بهذه الأربعة ما في معناها من الْمُقْتَاتات ؛ كالذرة 8- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والدّخن والسُلت . وزاد ابن حبيب : العَلَس . واختلف عنه في القطنية ، والشويق والتين إذا كانت عيشًا لأهل البلد ، وتفصيل هذا في الفقه .(4/39)
وقوله : " كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ؛ مثل هذا ملحق بالمسند المرفوع عند المحققين من الأصوليين ؛ لأن مثل هذا لا يأمر به غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا يخفى مثله عنه ، ولا يذكره الصحابي في معرض الاحتجاج ، إلا وهو مرفوع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد زاد في الزواية المتقدمة على هذه الثلاثة : الطعام ، وصارت الأصناف المذكورة في الحديث أربعة .
وقول ابن عمر رضي الله عنهما : " أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإخراج زكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " ، يعني : إلى صلاة يوم عيد الفطر ، وبهذا الحديث قال جمهور العلماء ، واستحبّوه ليستغني بها المساكين عن السؤال في ذلك اليوم . وقد رُوي مرفوعًا : (( أغنوهم عن ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطلب في هذا اليوم )). وكرهوا تأخيرها عن يوم الفطر . ورخص بعضهم في تأخيرها ، وقاله مالك وأحمد بن حنبل ، وجعله بعض شيوخنا خلافًا من قول مالك . وحاصل مشهور مذهب مالك : أن آخر يوم الفطر آخر وقت أدانها ، وما بعد يوم الفطر وقت قضانها ، والله أعلم .
***************
---
( 4 ) باب وجوب الزكاة في البقر والغنم ، وإثم مانع الزكاة(4/40)
9- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ ، وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ ، فَيَرَى سَبِيلَهُ ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ فَالإِبِلُ ؟ قَالَ : وَلا صَاحِبُ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا ، وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا ، إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ ، أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلاً وَاحِدًا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا ، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب وجوب الزكاة في البقر والغنم
قوله : (( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها )) ؛ كذا صحت الرواية بهاء التأنيث المفردة ، وظاهره أنه عائدٌ على الفضة ، فإنه أقرب مذكور ، وهي مؤنثة ، وحينئذ يبقى ذكر الذهب ضائعًا لا فائدة له.وهذا مثل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
---(4/41)
إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ؟ قَالَ : وَلا صَاحِبُ بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ ، لا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا ، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلا جَلْحَاءُ وَلا عَضْبَاءُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا ، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ )). قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ فَالْخَيْلُ ؟ قَالَ : (( الْخَيْلُ ثَلاثَةٌ ، هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ . فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنِوَاءً عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ ، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي ظُهُورِهَا وَلا رِقَابِهَا ، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ ؛ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد حُمِل هذا على الاكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر ، كما قال الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بِما عندك راضٍ والرأي مختلف
وقال الآخر :
---(4/42)
لأَهْلِ الإِسْلامِ فِي مَرْجٍ وَرَوْضَةٍ ، فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إِلا كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٌ ، وَكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا حَسَنَاتٌ ، وَلا تَقْطَعُ طِوَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ إِلا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا وَأَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ ، وَلا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا إِلا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ فَالْحُمُرُ ؟ قَالَ : مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ إِلا هَذِهِ الآيَةَ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكل همٍّ من الهموم سعة والصبح والمساء لا بقاء معه
وقيل : أعادها على معنى الكلمات المتقدمة ، وكأنه قال : لا يؤدي من تلك الأمور المذكورات حقَّها . وأشبه من هذه الأوجه أن يقال : إن الذهب والفضة يقال عليهما : عينٌ لغةً ، فأعاد الضمير عليها وهي مؤنثة ، والله أعلم.
وهذا الحديث يدل على أن الذهب والبقر فيهما الزكاة ، وإن لم يجيء ذكرهما في حديث جابر المتقدم ، ولا في كتاب أبي بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ في الصدقة ؛ على ما ذكره البخاري . ولا خلاف في وجوب الزكاة فيهما ، وإن اختلفوا في نصاب البقر على ما سيأتي .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( فيكوى بها جبينُه وجنبُه وظهرُه )) ؛ قيل : إنما خُصَّت هذه المواضع بالكي دون غيرها من أعضائه لتقطيبه وجهه في وجه السائل ، وازوراره عنه بجانبه ، وانصرافه عنه بظهره .
---(4/43)
وقوله : (( كلما بَرَدَتْ أُعِيدَتْ )) ؛ كذا رواية السجزي ، ولكافة الرواة : "رُدَّتْ " ، والأول هو الصواب ، فتامله فإنه هو المناسب للمعنى .
وقوله : (( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )) : قيل : معناه : لو حاسب فيه غير الله سبحانه وتعالى . الحسن : قدر مواقفهم للحساب . ابن اليمان : كل موقف منها ألف سنة .
وفي الحديث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( والذي نفسي بيده ! إنه ليخفّ على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة )).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( بُطح لها )) ؛ أي : أُلْقي على وجهه . قاله بعض المفسرين . وقال أهل اللغة : البطح : هو البسط كيف ما كان على الوجه أو غيره ، ومنه : سميت بطحاء مكة ؛ لانبساطها .
وقوله : (( بقاع قَرْقَرٍ )) ؛ أي : بموضع مستو واسع . وأصله : الموضع المنخفض الذي يستقرُّ فيه الماءُ ، يقال فيه : قاع ، ويجمع : قِيعَة ، وقيعان ، مثل : جار وجيرة وجيران . وقال الثعالبي : إذا كانت الأرض مستوية مع الاتساع فهي الْخَبْت والْجَدْجَد والصحصح ، ثم القاع والقرقر ، ثم الصفصف .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ليس فيهما عقصاء )) ؛ وهي الْملتوِية القرن ، ورَجُلٌ أعقصُ : فيه التواء وصعوبة أخلاق .
(( ولا جلحاء )) ؛ وهي التي لا قرون لها . (( ولا عضباء )) ؛ وهي المكسورة داخل القرن ، وهو المشاش ، وقد يكون العضب في الأذن ، والمعضوب : الزَّمِن الذي لا حراك به . هذا معنى ما ذكره أبو عبيد . وقال ابن دريد : الأعضب : الذي انكسر أحد قرنيه . وقال غير هؤلاء : الأعضب في القرن والأذن : الذي انتهى القطع إلى نصفه فما فوقه .
---(4/44)
وكانت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناقة تسمّى : العضباء. ومن رواية مصعب عن مالك : وكانت تسمى : القصواء . وفي حديث أنس : "خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على ناقته الجدعاء " ، وفي آخر : " على ناقة خرماء ". وفي آخر : "مخضرمة ".
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو إسحاق الحربي : والعضب والجدع والخرم والقصو كله في الأذن. وقال أبو عبيدة : القصواء المقطوعة الأذن عرضًا ، والمخضرمة : المستأصلة ، والعضب : النصف فما فوقه . وقال الخليل : الخضرمة : قطع الأذن الواحدة .
وقوله : (( كلما مرَّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها )) ؛ كذا صحيح الرواية. فقيل : تغيير وقلب في الكلام ، وصوابه كما جاء في رواية أبي صالح ، عن أبي هريرة : (( كلما مضت عليه أخراها رُدَّ(6) عليه أولاها )).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قيل : وهكذا يستقيم الكلام ؛ لأن إنما يردُّ الأول الذي قد مرَّ قبلُ ، فأما الآخر فلم يمرّ بعد ، فلا يقال فيه : ردَّت .
قلت : ويظهر لي أن الرواية الصحيحة ليس فيها تغيير ؛ لأن معناها : أن أولى الماشية كلَّما وصلت إلى آخر ما تمشي عليه تلاحقت بها أخراها ، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع ، فعادت الأخرى أولى ، حتى تنتهي إلى آخره . وهكذا إلى أن يقضي الله بين العباد ، والله أعلم.
وقوله : (( تَطَؤُه بأظلافها )) : جمع ظلف ، وهو : الظُفْر من كلِّ دابة مشقوقة الرِّجل ، ومن الإبل : الخف . ومن الخيل والبغال والحمير : الحافر .
---(4/45)
وقوله : (( ونِوَاءً لأهل الإسلام )) ، وهو بكسر النون والمدّ ؛ أي : مُعاداةً . يقال : ناوأته نِواءً ومُنَاوءة : إذا عاديته . و" الوزر " : الإثم .
وقد تعلق أبو حنيفة ومن يقول بوجوب الزكاة في الخيل بقوله : (( ولم ينس حق الله في رقابها )) ؛ قال : وحق الله هو الزكاة .
ولا حجة فيه ؛ لأن ذكر الحقِّ هنا مجمل غير مفسَّر ، ثم يقال بموجبه ؛ إذ قد يتعين فيها حقوق واجبة لله تعالى في بعض الأوقات ؛ كإخراجها في ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجهاد ، وحمل عليها في سبيل الله ، والإحسان إليها الواجب والصدقة بما يكتسب عليها إن دعت إلى ذلك ضرورة .
وقوله : (( فهي له ستر )) ؛ أي : حجابٌ من سؤال الغير عند حاجته لركوب فرس ؛ بدليل قوله : (( تَغَنّيًا وتَعَفُّفًا )) ؛ أي : عن الناس .
وقوله : (( وأما التي هي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله )) ؛ أي : أعدَّها ، وهو من الربط ، ومنه : الرباط . وهو حبس الرجل نفسَه وعُدَّتَه في الثغور تجاه العدو . و(( اسْتَنَّتْ )) ؛ أي : رعَثْ ، ومنه قولهم : اسْتَنَّت الفصال حتى القرعى . وقال ثابت : الاستنان : أن تَلجَّ في عدوها ذاهبة وراجعة .
و " الشرف " : المرتفع من الأرض . وقال بعضهم : الشرف : الطَّلق ، فكأنه يقول : جرت طلقًا ، أو طلقين .
وقوله : (( "ولا يريد أن يسقيها )) ؛ أي : يمنعها من شرب يضرُّ بها أو به ؛ باحتباسها للشرب ، فيفوته ما [ يؤمله ] ، أو يقع به ما يخافه .
وقوله : (( ما أُنزل عليَّ في الْحُمُر شيء إلا هذه الآية الفاذَّة الجامعة )) ؛ أي : القليلة المثل ، المتفردة بمعناها ." الجامعة " ؛ أى : العامة الشاملة . وهي حجة للقائلين بالعموم في "من" ، وهو مذهب الجمهور من الفقهاء والأصوليين.
---(4/46)
10- وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرِ قَالَ : (( ولاصَاحِبِ كَنْزٍ لا يَفْعَلُ فِيهِ حَقَّهُ إِلا جَاءَ كَنْزُه يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ ، فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ ، فَيُنَادِيهِ خُذْ كَنْزَكَ الَّذِي خَبَأْتَهُ فَأَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ ، فَإِذَا رَأَى أَلاَّ بُدَّ مِنْهُ ، سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضَمُهَا قَضْمَ الْفَحْلِ )).
وَفِيهِ : قَالَ رَجُلٌ : مَا حَقُّ الإِبِلِ ؟ قَالَ : (( حَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ ، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا ، وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا وَمَنِيحَتُهَا وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إشارة إلى أنه لم يفسِّر الله لهُ ، [ من] أحكام الْحُمُر وأحوالها ، ما نشر له في الخيل والإبل وغيرها مما ذكره .
وقوله في حديث جابر : (( ولا صاحب كنز )) ، قال الطبري : الكنز : كل شيء مجموع بعضه إلى بعض ، في بطن الأرض كان أو على ظهرها . وقال ابن دريد : الكنز : كل شيء غَمَرْتَهُ بيدك أو رِجلك في وعاء أو أرض .
قلت : وأصل الكنز : الضمُّ والجمع ، ولا يختص ذلك بالذهب والفضة ، ألا ترى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ألا أخبركم بخير ما يكنزه المرء : المرأة الصالحة )) ؛ أي : يضمُّه لنفسه ويجمعه .
واختلف في المراد بالكنز في الآية ، فقال أكثرهم : هو كلُّ مال وجبتْ فيه الزكاة ، فلم تُؤدَّ منه ، ولا أُخرجت زكاتُه ، فليس بكنز . وقيل : كل ما زاد على أربعة آلافٍ فهو كنز ، وإن وُدِّيت زكاته . وقيل : هو(4) ما فضُل
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/47)
عن الحاجة . ولعل هذا كان في أول الاسلام عند ضيق الحال عليهم ، والقول الأول هو الصحيح ؛ بدليل هذا الحديث ، وبما خرَّجه أبو داود عن ابن ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت هذه الآية : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ } ، قال : كبُر ذلك على المسلمين ، فقال عمر ـ رضى الله عنه ـ - : أنا أفرّج عنكم ، فانطلق ، فقال : يا نبي الله ! إنه كبُر على أصحابك هذه الآية ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليُطيِّبَ ما بقي من أموالكم ، له إنما فرض المواريث - وذكر كلمة- لتكون لمن بعدكم ، لتطيب لمن بعدكم )) ، قال : فكَبّر عمر ـ رضى الله عنه ـ ، ثم قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ألا أخبرك بخير ما يكنز المرءُ ؛ المرأة الصالحة ، إذا نظر إليها سرَّته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظتْه )).
وقوله : (( إلا جاء يوم القيامة كنزهُ شجاعًا أقرع )) ، وفي أخرى : (( إلا مثل )) ؛ أي : صُوّر له . وقيل : نُصِب وأقيم . من قولهم : مَثُلَ قائمًا ؛ أي : منتصبًا . والشجاع من الحيات : هو الحية الذكر الذي يُواثب الفارس والراجل ، ويقوم على ذنبه ، وربما بلع رأس الفارس ، ويكون في الصحارى . وقيل : هو الثعبان . قال اللّحياني : يقال للحية : شجاغ . وثلاثة أشْجِعَة ، ثم ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شُجعان . والأقرع من الحيات : الذي تَمَعَّط رأسه وابْيَضَّ من السم ، ومن الناس : الذي لا شَعْر في رأسه [لِتَقَرُّحِه].
---(4/48)
وفي غير كتاب مسلم من الزيادة : (( له زبيبتان )) ، وهما الزيشتان في جانبي فمه من السم ، ويكون مثلها في شدقي الإنسان عند كثرة الكلام . وقيل : نكتتان على عينيه ، وما هو بهذه الصفة من الحيات هو أشدّ أذى. قال الداودي : وقيل : هما نابان يخرجان من فِيه .
وقوله : (( فيناديه : خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غنيٌ )) ؛ كذا وقع لنا فيما رويناه من النسخ ، وفي الكلام خرم يتلفق بتقدير محذوف ، وهو : (( فيقول : فأنا عنه غنيٌ )) ، وحينئذ يلتئم الكلام ، فتأمَّله ، وكثيرًا ما يخذف القول الذي للحكاية كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُم لِوَجْهِ اللهِ } ؛ أي : يقولون : إنما .
وقوله : (( فإذا رأى أن لا بدّ منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل )) ؛
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معنى سلك : أدخل . ويقضمها : يأكلها. يقال : قَضَمَت الدابة شعيرها تقضمه ، والقضم بأطراف الأسنان ، والخضم بالفم كله . وقيل : القضم : أكل اليابس ، والخضم : أكل الرطب ، ومنه قول عمر بن عبد العزيز ـ رضى الله عنه ـ : تخضمون ونقضم والموعد الله .
وقوله : " ما حق الإبل ؟ فقال : (( حلبها على الماء ... )) إلى آخره . ظاهر هذا السؤال والجواب : أن هذا هو الحق الْمُتَوَعَّد عليه فيما تقدّم حين ذكر الإبل ، وأنه كل الحق ، مع أنه لم يتعرض فيه لذكر الزكاة .
وفي هذا الظاهر إشكال تزيله الرراية الأخرى التي ذكر فيها "مِن " التي هي للتبعيض ، بل وقد جاء في رواية أخرى مفسَّرًا : (( ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها )) ، وكذلك قال في الغنم ، وكان بعض الرواة أسقط في هذه الرواية "من " وهي مرادةٌ ولا بدّ .
---(4/49)
ثم ظاهره : أن هذه الخصال واجبة ، ولا قائل به مطلقًا . ولعلَّ هذا الحديث خرج على وقت الحاجة ، ووجوب المواساة ، وحال الضرورة ، كما كان في أول الإسلام . ويكون معنى هذا الحديث : أنه مهما تعينت هذه الحقوق ووجبت ، فلم تفعل ؛ تعلق بالممتنع من فعلها هذا الوعيد الشديد ، والله أعلم .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (( حلْبها يومَ وِردها ، وحلبها على الماء )) ، كل ذلك بسكون اللام على المصدر ، وهو الأصل في مضدر ما كان على " فَعضل يَفْعُل " ، وقد جاء على " فَعَل "- بفتح العين - في الحلب ، فأمّا الْحَلَب : اسم اللبن ، فبالفتح لاغير ، وليس هذا موضعه .
وخصَّ حلب الإبل بموضع الماء ليكون أقرب على المحتاج والجائع ، فقد لا يقدر على الوصول لغير مواضع الماء .
و " المنحة " : قال ابن دريد : أصلها أن يعطي الرجلُ الرجلَ ناقةً يشرب لبنها ، أو شاة ، ثم صارت كلُّ عطيةٍ منحة . قال الفرَّاء : يقال : منحته أمنحُه [وأمنحه]- بالضم والكسر -.
وقال أبو هريرة : " حق الإبل أن يَنْحَرَ السمينة ، ويَمْنَحَ الغزيرة ، ويُفْقِر الظهر ، ويطرق الفحل ، وتسقى اللبن ".
---(4/50)
11- وَعَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ ، فَبَيْنَا أَنَا فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مَلأٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الثِّيَابِ ، أَخْشَنُ الْجَسَدِ ، أَخْشَنُ الْوَجْهِ ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفَيْهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ يَتَزَلْزَلُ. قَالَ : فَوَضَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا ، قَالَ : فَأَدْبَرَ وَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و" إفقار الظهر " : هو إعارة فقار المركوب ، وهو الظهر ، كما جاء في الرواية الأخرى .
وقول الأحنف بن قيس : " إذ جاء رجلٌ أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه" ؛ كذا صح هنا من رواية أكثرهم - بالخاء والشين المعجمتين- ، من الخشونة على وزن أفْعَل ، إلا أنه عند ابن الحذَّاء في الآخر : "حسن الوجه". وقد رواه القابسي في البخاري : " حسن الشعر والثياب والهيئة " من الحسن . ولغيره : " خشن " من الخشونة ، وهو الصواب إن شاء الله .
و "قام عليهم " : وقف . و" الملأ " : الأشراف في أصله ، وقد يقال
---(4/51)
فَقُلْتُ : مَا رَأَيْتُ هَؤُلاءِ إِلا كَرِهُوا مَا قُلْتَ لَهُمْ ، فَقَالَ : إِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ، إِنَّ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ ، فَقَالَ : ((أَتَرَى أُحُدًا ؟ )) فَنَظَرْتُ مَا عَلَيَّ مِنَ الشَّمْسِ ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ يَبْعَثُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ ، فَقُلْتُ : أَرَاهُ ، فَقَالَ : (( مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي مِثْلَهُ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلاثَةَ دَنَانِيرَ )) ، ثُمَّ هَؤُلاءِ يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ، قَالَ : قُلْتُ : مَا لَكَ وَلإِخْوَتِكَ قُرَيْشٍ لا تَعْتَرِيهِمْ وَتُصِيبُ مِنْهُمْ ، قَالَ : لا وَرَبِّكَ ! لا أَسْأَلُهُمْ عَنْ دُنْيَا وَلا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْحَقَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جُنُوبِهِمْ ، وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَلِ أَقْفَائِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جِبَاهِهِمْ ، قَالَ : ثُمَّ تَنَحَّى فَقَعَدَ ، قَالَ : قُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا أَبُو ذَرٍّ ، قَالَ : فَقُمْتُ إِلَيْهِ ، فَقُلْتُ : مَا شَيْءٌ سَمِعْتُكَ تَقُولُ قُبَيْلُ ؟ قَالَ : مَا قُلْتُ إِلا شَيْئًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : قُلْتُ : مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْعَطَاءِ ؟ قَالَ : خُذْهُ فَإِنَّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعْهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على الجماعة ، وهو مهموز مقصور .
---(4/52)
وقوله : (( بشر الكنازين )) ؛ أي : الجمَّاعين ، ويروى : " الكانزين " ، وهو بالنون عن الكنز . ووقع عند الهروي : الكاثرين - بالثاء المثلثة -[ من الكثرة] ، والأول أولى ؛ لأنه يقال للكثير المال : مكثر لا كاثر . وأما الكاثر : فهو الشيء الكثير ، يقال : كثير وكاثر وكُثَار ، ومنه قول الشاعر :
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإنما العزة للكاثر
و " الرضف " : الحجارة المحمّاة . و" الحلمة " : رأس الثدي للمرأة . والثندوة للرجل . و" نُغض الكتف "- بضم النون - : العظم الرقيق الذي في طرف الكتف ، وهو الناغض ، سمي بذلك لحركته ، من قولهم : أنغض رأسه ؛ أي : حرَّكه ، ومنه قوله تعالى : { فَسَيُنْغِضُون إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ } ؛ أي : يحركونها استهزاءً .
و " يتزلزل "- بزائين معجمتين " ؛ أي : يتحرك ، يعني : الرضف يتزلزل من النغض إلى الحلمة . و" وضع الناس رؤوسهم " : أطرقوا متخشِّعين ، أو مستثقلين ، يدل عليه قوله : " إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا ". و"لم يرجع" ؛ أي : لم يرد . و" أُحُد " : جبل معروف بالمدينة . واستفهامه له عن رؤيته لتحقق رؤيته حتى يُشّبه له به ما أراد بقوله : (( ما يسرني أن لي مثله ذهبا )).
وقوله : "إلا ثلاثة دنانير )) ؛ يعني : دينارًا يرصده لدين(5) ؛ أي : يؤخره . ودينارًا لأهله ، ودينارًا لإعتاق رقبة ، والله أعلم .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/53)
وقوله : " ثم هؤلاء يجمعون" ؛ ظاهر احتجاج أبي ذر بهذا الحديث وشبهه : أن الكنز المتوعَّد عليه هو جمع ما فضل عن الحاجة ، وهكذا نقل من مذهبه ، وهو من شدائده ـ رضى الله عنه ـ ، ومما انفرد به . وقد روي عنه خلافُ ذلك ، وحمل إنكاره هذا على ما أخذه السلاطين لأنفسهم ، وجمعوه لهم من بيت المال وغيره ، ولذلك هجرهم ، وقال : " لا أسألهم دنيا ، ولا أستفتيهم عن دين " ، والله أعلم .
و " تعتريهم" : تزورهم وتأتيهم تطلب منهم ، ومنه قوله تعالى : { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } ، وهو الزائر ، يقال منه : عروته واعتريته ؛ أي : أتيته أطلب منه حاجة .
وهذا الحديث يدل على تفضيل الفقر على الغنى ، وقد تقدمت المسألة . والعطاء الذي يسأل عنه أبو ذر ؛ هو ما يعطاه الرجل من بيت المال على وجهٍ يستحقُّه ، وهو الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمر : (( ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ، وما لا فلا تتبعه نفسك )).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فإذا كان ثمنًا لدِينِك فدعه " ؛ أي : إذا كنت لا تتوصل إليه إلا بوجه غير جائز ، فلا تلتفت إليه ، فإن سلامة الدِّين أهمُّ من نيل الدنيا ، فكيف إذا انتهى الأمر ، إلى أن لا يسلم دِينٌ ولا تنال دنيا ؟! ومن أخسر صفقة ممن خسر الآخرة والأولى ! نعوذ بالله من سخطه .
**************
( 5 ) باب الحض على الصدقة والنفقة على العيال والأقربين
---(4/54)
12- عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يَمْشِي وَحْدَهُ ، لَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ ، قَالَ : فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ ، قَالَ : فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ ، فَالْتَفَتَ فَرَآنِي ، فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ : أَبُو ذَرٍّ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَالَهْ ، قَالَ : فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً ، فَقَالَ : (( إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِلا مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْرًا فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا )) ، قَالَ : فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً ، فَقَالَ : (( اجْلِسْ هَهُنَا )) ، قَالَ : فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ ، فَقَالَ لِي : (( اجْلِسْ هَهُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ )) ، قَالَ : فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لا أَرَاهُ فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللَّبْثَ ، ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ ، وَهُوَ يَقُولُ : (( وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى )) ، قَالَ : فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ ، فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الحضّ على الصدقة
قوله : " نفح "- بالفاء والحاء المهملة- ، ومعناه : أعطى ، وأصله : الرمي بالشيء . و" يمينه ، وشماله ، وبين يديه ، ووراءه " ؛ كلُّها منصوبة على الظرف ، معمولة لـ" نفح " ، وذكر هذه الجهات كناية عن كثرة العطاء ، فكأنه يعطي السُّؤَّال من أي جهة أتوه .
---(4/55)
مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ ؟ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا . قَالَ : (( ذَاكَ جِبْرِيلُ عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ ، فَقَالَ : بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، فَقُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : قُلْتُ : وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : قُلْتُ : وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى ؟ قَالَ : نَعَمْ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ )).
13- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِنَ اللهَ قَالَ لِي : أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ )). وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يَمِينُ اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُهَا سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ ، قَالَ : وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْقَبْضَ ، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " القاع " : المستوي من الأرض في انخفاض . و" الحرّة " : الصحراء ذات الحجارة السود ، وجمعها : حرار . وقد تقدّم الكلام على قوله : (( وإن زنى وإن سرق )) في كتاب الإيمان .
وقوله : (( يمين الله ملأى )) ؛ كذا صحت الرواية ، وهو الصواب.ومن رواها "ملآن" فقد أخطأ ، فإن اليمين اسم اليد ، واليد مؤنثة.ونسبة اليمين إلى الله تعالى نسبة مجازية توسعية ، عُبِّر بها عن كثرة العطاء ، والقدرة عليه ، [وحمل] ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/56)
على هذه الاستعارة عادة التخاطب وحصول [التفاهم] ، ومنه قوله تعالى : { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ } ، فاليد : عبارة عن القدرة ، وتسميتها باليمين على ما تعارفناه فيما بيننا من أن القدرة(6)والبطش والتصرف
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنما هو باليمين ؛ ولأنه مشتق من اليمن والبركة .
وكذلك قال في حديث اخر : (( وكلتا يديه يمين )) ؛ نافيًا لتوّهم النقص والقصور في حقه. وكذلك كل ما أطلق على الله تعالى ؛ مما يدل على الجوارح والأعضاء ؛ كالأعين والأيدي والجنب والإصبع ، وغير ذلك مما يلزم من ظاهره التجسيم ، الذي تدل العقول بأوائلها على استحالته ، فهي كلها متأولة في حقه تعالى ؛ لاستحالة حفلها على ظواهرها .
وقوله : (( سخاء )) بالمد والهمز والرفع ، على أنه خبر بعد خبر . و" الليل والنهار" منصوبان على الظرف ، متعلقان بما في "سحاء" من معنى الفعل ، وهي الرواية المشهورة . وعند أبي بحر : " سحًّا " منصوبًا منوَّنا على أنه مصدر ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدره محذوف ، يدل عليه قوة الكلام ، كأنه قال : يَسُحّ سحًّا . ويجوز أن يكون من باب قوله : ما إن يَمَسَّ الأرض إلا منكب منه وحرف الساق طيَّ المحمل .
و " السح " : الصبّ الكثير ، كما قال امرؤ القيس :
فدمعهما سَكْبٌ وسحٌّ وديمة
و " يغيضها " : ينقصها . يقال : غاض الماء ، وغضته ، متعديآ ولازمآ . وفاعله مضمر تدك عليه المشاهدة . تقديره : لاينقصها شيء. وقد جاء هذا المضمر مظهرأ في رواية ابن نمير. فقال : " لا يغيضها شيء ".
---(4/57)
ووقع عند الطبري في حديث عبد الرزاق : " لا ينيضها سحُّ الليل والنهار" ، برفع "سح" على أنه فاعل "يغيضها" ، وخفض "الليل والنهار" بالإضافة على التوسع ، كما قالوا : يا سارقَ الليلةِ أهل الدار .
وقوله : (( وعرشه على الماء )) : العَرش والعَرِيش : السرير في أصل اللغة ، وهو من الرفع كما تقدّم . وليس معناه في حق الله تعالى السرير ، ولا الْمَحَلّ ؛ إذ لو كان كذلك لكان محمولاً ، ولكان مفتقرًا ، ويلزم منه حدوثه ، ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإنما العرش المضاف إليه عبارة عن موجود عظيم ، هو أعظم المخلوقات. خلقه الله على الماء ، فاستولى عليه ، بمعنى : أنه سخَّره كيف شاء.
قال كعب في قوله تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } ، قال : إن الله تعالى بدأ الخلق ياقوتة خضراء ، فنظر إليها بإلاهيته فصارت ماء ، ثم خلق عرشه عليه . وقال ابن عباس : كان عرشه على الماء ؛ أي : فوقه ؛ إذ لم يخلق
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سماء ولا أرضًا .
وظاهر هذا الحديث : أن العرش حالة إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو على الماء كما قال كعب ، وظاهر كلام ابن عباس : أنه لما خلق السماء والأرض ، أضيفت فوقية العرش إليهما .
وقوله : (( وبيده الأخرى القبض )) ؛ ولم يقل اليسرى ، ولا الشمال ، اجتنابًا لما تضمنته ألفاظهما ، ونفيًا لتوقم النقص ؛ ولذلك قال : (( وكلتا يديه يمين )). ويفهم من إضافة اليدين إليه تعالى : قدرته على [المخلوقات].
---(4/58)
و " القبض "- بالقاف والباء بواحدة من أسفل - وهو المعروف ، وهي روايتنا . وعند الخشني : " الفيض " بالفاء والياء باثنتين من أسفل. والقبض في الرواية الأولى : هو نقيض البسط ، ولذلك اكتفى بذكره عن البسط ، وصار هذا كقوله : { بِيَدِكَ الْخَيْرُ }(9) ، اكتفى به عن ذكر نقيضه ،
14- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَ وَجَلْ ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ )). قَالَ أَبُو قِلابَةَ : وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ يُعِفُّهُمْ أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ .
15- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ ، أَعْظَمُ أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو الشرّ . ويكون هذا الحديث مثل قوله تعالى : { وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } ؛ أي : يقبض الأرزاق والأرواح والقلوب والأمور كلها ، بالقبض اللائق بها. ويبسطها ببسطها اللائق بها .
وقوله : (( يرفع ويخفض )) ؛ أي : يعلي ويضع ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يريد من الشيء ونقيضه .
---(4/59)
وقوله - في الدنانير المنفقة في طرق الخير- : (( أعظمها أجرًا الذي تنفقه على أهلك )) ؛ وهذا محمول على ما إذا استوت الحالة في الأهل والأجنبي ، فلو 16- وَعَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالاً ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاء وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ ، قَالَ أَنَسٌ : فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : إِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاء ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ )) ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ ، قَالَ : فَجَعَلَهَا فِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان أحدهما أحوج أو أوكد لكان المنفق في الأوكد أعظم أجرًا ، فإذا استوت المراتب ، فترتيب الأعظم كما وقع في الحديث .
---(4/60)
قوله في حديث أبي طلحة : " وكان أحب أمواله إليه بيرحاء " ، رويت هذه اللفظة بكسر الباء بواحدة ، ويفتح الراء وضمها وبمد " حاء " وقصرها ، فالنصب على أنه خبر كان ، وحيننذ ترفع " أحب" على أنه اسمها ، ورفع ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"بئر" على أنه اسم كان ، وحينئذ تنصب " أحب" على أنه خبرها . فأما مد "حاء" وقصرها لغتان ، وهو حائط نخل يسمي بهذا الاسم ، بموضع يعرف بقصر بني جديلة ، وليس ببئر ؛ ولذلك قال الباجي : قرأت هذه اللفظة على أبي ذر الهروي بنصب الراء على كل حال ، وعليه أدركت أهل العلم والحفظ بالمشرق . وقال لي الصوري : بيرحاء ؛ بنصب الراء ، قال : وبالرفع قرأناه على شيوخنا الأندلسيين .
وقد روى هذا الحرف في "الأم" : حماد بن سلمة : بَرِيحَاء بكسرالراء وفتح الباء .
وقوله تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } ، قال الحسن : لن تكونوا أبرارًا حق تبذلوا كبير أموالكم .
أبو بكر الوراق : لن تنالوا برِّي بكم حتى تبررا إخوانكم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الجنَّة . وقال مجاهد : ثواب البر .
وقوله : (( بخ )) ؛ بالإسكان والكسر من غير تنوين ، وبالتنوين ، وقد ذكر
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأحمر فيهما التشديد . وقد روي فيها الرفع . وقال بعضهم : فإذا كرَّرت فالاختيار فيهما التحريك والتنوين في الأول ، والتسكين في الثاني .
قال أبو بكر : معناه : تعظيم الأمر وتفخيمه . وسكنت الخاء فيه كما سكنت اللام في "هل" و"بل". ومن قال "بخ " بالخفض والتنوين شبهه بالأصوات ، كـ" صَهٍ" و" مَهٍ " ، وقال ابن السكيت : " بَخٍ " و"بَخْ " و" بَهٍ" و" به ".
---(4/61)
وقوله : (( ذلك مال رابح )) ؛ المشهور : " رابح " بالباء بواحدة من الربح. ووصفه المال بالرابح ؛ لأنه بسببه يربح ، كما قال تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ }. وهذا مذهب العرب في " لابن " و" تامر " ؛ أي : ذو لبن وتمر ، كما قال النابغة :
كليني لهمٍّ يا أُمَيمةَ ناصبِ
أي : ذو نصب .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد روي : " رايح " ، بالياء باثنتين ، اسم فاعل من " راح " ، ومعناه : قريب الفائدة. وقيل : غير بعيد . وقال ابن دينار : يروح أجره عليه في الآخرة. وقال غيره : يروح عليه كلما أثمرت الثمار .
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه :
منها : صحة الصدقة المطلقة ، والحبس المطلق ، وهو الذي لم يعين مصرفه ، وبعد هذا يعين .
ومنها : صحة الوكالة ؛ لقوله : (( ضعه حيث شئت )).
ومنها : إطلاق لفظ الصدقة بمعنى الْحُبُس .
وقد روي : أنها بقيت وقفًا بأيدي بني عمّه . وبه احتج غير واحد من العلماء على جواز تحبيس الأصول على الكوفيين . لكن قد روي من طريق صحيح : أن حسَّان باع نصيبه(6) من معاوية ، فقيل له : تبيع صدقة 17- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبي طلحة ؟ فقال : ألا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم ؟ وعلى هذا فلا يكون فيه مايدل على صحة الوقف .
---(4/62)
ومنها : مراعاة القرابة ، وإن بَعُدوا في النسب ؛ إذ بين أبي طلحة وحسَّان وأُبيّ آباء كثيرة ، وإنما يجتمعان مع أبي طلحة في عمرو بن مالك بن النجار ، [ وهو السابع من آبائهم . وقال أبو عمر : إن حسَّان يجتمع معه في حرام ] ، وهو الجد الثالث ، وأُبيّ يجتمع معه في عمرو ، وهو الجد السابع ، إلى غير ذلك ، فتأمل ما فيه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا أنفق نفقة على أهله )) ؛ أي : على زوجته وولده . ومعنى يحتسبها : أي يقصد بها ثواب الله .
*************
( 6 ) باب فضل الصدقة على الزوج والولد اليتيم والأخوال
---(4/63)
18- عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِاللهِ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ )). قَالَتْ : فَرَجَعْتُ إِلَى عَبْدِ اللهِ فَقُلْتُ : إِنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ . فَائْتهِ فَاسْأَلْهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي عَنِّي وَإِلا صَرَفْتُهَا إِلَى غَيْرِكُمْ. فَقَالَتْ : فَقَالَ لِي عَبْدُاللهِ : بَلِ ائْتِيهِ أَنْتِ ، قَالَتْ : فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَاجَتِي حَاجَتُهَا قَالَتْ : وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ. قَالَتْ : فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلالٌ ، فَقُلْنَا لَهُ : ائْتِ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلانِكَ : أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا ؟ وَلا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ . قَالَتْ : فَدَخَلَ بِلالٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ هُمَا ؟ )) فَقَالَ : امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَيُّ الزَّيَانِبِ ؟ )) قَالَ : امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ ابِنْ مَسْعُودْ . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لَهُمَا أَجْرَانِ : أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل الصدقة على الزوج والولد(4/64)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تصدَّقْنَ ولو من حُليِّكُنَّ )) ؛ احتج بظاهره من رأى أن الزكاة تجب في الْحُليّ . ولا حجة فيه ؛ لأنّا لا نُسَلّم أن هذه الصدقة هنا هي الواجبة ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
بل التطوع ؛ بدليل قوله : (( ولو من حليكن )) ، فإنه ظاهر في الحث على فعل الخير والمبالغة فيه ؛ ألا ترى أنه سلك فيه مسلك قوله : (( ردُّوا الساك ولو بظلف مخرق )).
وقولها : (( فإن كان ذلك يجزي عني وإلا صرفتها لغيركم )) ؛ لا يدل على أنها الصدقة الواجبة ، وإنما ذلك لما وعظهن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( تصدَّقْن فإني أُرِيْتُكن أكثر أهل النار ، بادرن هذا الأمر ، وأخذن في التصدق ؛ لتحصل لهن الوقاية من النار ، فكأنها قالت : أَتَقِينِي هذه الصدقة من النار ، وكأنها خافت إن تصدقت على زوجها ألا ينفعها ذلك ، ولا يكون لها في ذلك أجر ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهما في جوابهما : (( لهما أجران )) ، ولم يقل : تجزيء ، [ أو] لا تجزيء ، والله أعلم .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد روي في غير مسلم : أن امرأة عبدالله بن مسعود كانت صناعًا ، وأنها قالت : يا رسول الله ! إني ذاتُ صنعةٍ أبيع منها ، وليس لزوجي ولا لولدي شيء ، فهل لي فيهم من أجر ؟ وفي أخرى : أنها أخذت حُلِيَّها ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لِتَصَّدَّقَ به ، وقالت : لعل الله أن لا يجعلني من أهل النار . وهذا يدل على أنها كانت صدقة تطوّع .(4/65)
وممن قال بوجوب الزكاة في الحلي وإن كان للباس : عمر وابن مسعود في جماعة من الصحابة ، وابن المسيب وابن سيرين والزهري في جماعة من التابعين ، وقاله الكوفيون .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وممن قال : لا زكاة فيه : ابن عمر على خلاف عنه ،
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وجابر ، وعائشة ، وغيرهم من الصحابة والتابعين ، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق ، وأظهر قولي الشافعي . وفيه دليل على جواز صدقة المرأة من ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مالها بغير إذن زوجها ، لكن فيما لا يجحف بحق الزوج مما يكون له بال من مالها ، فليس لها أن تخرجه بغير معاوضة ، إلا بإذن الزوج ، بدليل ما أخرجه النسائي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يحل لامرأة أن تقضي في ذي بال من مالها إلا بإذن زوجها )) ، نقلته من حفظ وسماع لا من كتاب . وهذا مذهب مالك . والذي له بال عنده : الثلث فصاعدا .
والحلي عندنا على ثلاثة أضرب :
متخذ للباس ، فلا زكاة فيه .
ومتخذ للتجارة ، أو على غير الوجه الْمُسَوَّغ ؛ وفيه الزكاة .
ومتخذ للكراء ، وفيه خلاف ؛ لتردُّده بينهما .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لهما أجران : أجر القرابة ، وأجر الصدقة )) ؛ أي : أجر صلة الرحم ، وأجر منفعة الصدقة .(4/66)
واختلف قول مالك في الصدقة الواجبة على القرابة غير الوالدين والولد ، والزوجة ، بالجواز والكراهية ، ووجه هذه الكراهية مخافة الميل للمدح(2)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصلة الأرحام فتفسد نية أداء الفرض ، أو تضعف .
فأما الوالدان والولد الفقراء فلا تدفع الزكاة إليهم بالاجماع .
واختلفوا في المرأة : هل يُعطى منها زوجها ؟ فأجازه الشافعي وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأبو ثور ، وأشهب ؛ إذا لم يصرفها إليها فيما يلزمه لها ، ولم يجزه مالك ، ولا أبو حنيفة ، واختلف فيه عن أحمد .
---
وليس إخبار بلال بالسائلتين اللتين [استكتمتاه] مَنْ هما بكشف أمانة سرٍّ ؛ لوجهين :
أحدهما : أن بلالاً فهم أن ذلك ليس على الإلزام ، وإنما كان ذلك منهما على أنهما رأتا أنه لا ضرورة تحوج إلى ذلك .
والثاني : أنه إنما أخبر بهما جوابً لسؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فرأى أن إجابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهمُّ وأوجبُ من كتمان ما أمرتاه به . وهذا كل بناء على أنهما أمرتاه . ويحتمل أن يكون ذلك سؤالا سألتاه ، ولا يجب إسعاف كل سؤال .
19- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ لِي أَجْرٌ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ ؟ أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ فَقَالَ : (( نَعَمْ لَكِ فِيهِمْ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ )).
20- وَعَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : (( لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/67)
وقوله : (( لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك )) ؛ هذا يدل على أن الصدقة على الأقارب أفضل من عتق الرقاب . وهو قول مالك .
وتخصيص الأخوال ؛ إما لأنهم من جهة الأم ، وللأم ثلاثة أرباع البر ، وإما لأنهم كانوا أحوج . وهكذا صحت الرواية في كتاب مسلم : "أخوالك" ، ووقع في البخاري من رواية الأصيلي : " أخواتك" بالتاء بدل " أخوالك " ، ولعلّه الأصحّ ، بدليل رواية مالك في"الموطا" : (([أعطها] لأختكِ وصِلِيها بها ،
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترعى عليها ، فهو خير لك )) .
*************
( 7 ) باب الصدقة على الأم المشْرِكة وعن الأم الميتة
---
21- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ : قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَو رَاهِبَة أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : (( نَعَمْ )).
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : (( نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الصدقة على الأم المشركة وعن الأم الميتة
قولها : " إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أو راهبة " : قد جاء هذا في رواية أخرى : " راغبة " ، بغيبر شك ، وهو الأصح . واختلف في معناه : فقيل : راغبة عن الاسلام ؛ أي : كارهة فيه . وقيل : راغبة فيما تعطيها . وذكره أبو داود وقال : قدمت عليّ أمي راغبة في عهد تريش ، وهي راغمة ؛ أي : مشركة ؛ فالأول بالباء ؛ أي : طالبة صلتي . والثاني بالميم ؛ أى : كارهة للإسلام ، ساخطة له .
وأمّها هذه هي : قَبِلَةُ بنت عبد العزّى العامرية القيسية. ويقال : قتيلة . وقيل فيها نزل قوله تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ }(4/68)
22- وَعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ : إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية . وفيه صلة الأبوين المشركين كما قال تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا }.
وقوله : "[ إن] أمي افتُلِتت نفسها " : الرواية المعروفة عند الجمهور : "افْتُلِتَتْ - بالفاء - مبنيًّا لما لم يسمَّ فاعلُه ؛ أي : ماتت فلتة ؛ أي : فجاة . و"نفسها " : بالرفع والنصب ، فالرفع على أنه المفعول الذى لم يسمّ فاعلُه ، والنصب على أنه المفعول الثاني بإسقاط حرف الجر ، والأول مضمر ، وهو المقام مقام الفاعل .
---
ورواه ابن قتيبة : " اقتتلت "- بالقاف - ، وفسره بأنها كلمة تقال لمن مات فجاة ، وتقال أيضًا لمن قتلتْه الجنّ والعشق .
وقوله : " فهل لها أجر إن تصدّقتُ عنها " ؛ الرواية الصحيحة بكسر
23- وَعَنْ حُذَيْفَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهمزة من " إن " على الشرطية ، ولا يصخ قولُ مَن فتحها ؛ لأنه إنما سأل عما لم يفعله .
ولم يُختَلف في مقتضى هذا الحديث ، وهو : أن الصدقة بالمال نافعة للميت . واختلف في عمل الأبدان هل ينفع الميت إذا فعل عنه ؟ فمن حمله على المال قال : ينفعه ، ومن لم يحمله عليه وأخذ بقوله تعالى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى } ، قال : لا ينفعه . وسيأتي كمال هذه المسألة في الصوم والحج إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( كل معروف صدقة )) ؛ أي : كل ما يفعل الإنسان من أعمال البرّ والخير ، كان ثوابه كثواب من تصدق بالمال ، والله أعلم .(4/69)
***************
( 8 ) باب الابتداء في الصدقة بالأهم فالأهم
24- عَنْ جَابِرٍ قَالَ : أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَبِي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ ؟ )) فَقَالَ : لا ، فَقَالَ : (( مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي ؟ )) فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ : (( ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا )). يَقُولُ فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
ومن باب الابتداء في الصدقة بالأهم فالأهم
قوله : "أعتق رجل من بني عذرة" ، وقد جاء في رواية أخرى في "الأم" ؛
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن هذا الرجل من الأنصار ، واسمه : أبو مذكور.
وهذا الحديث حجة للشافعي ، ومن قال بقوله على جواز بيع المدبر . وأن التدبير ليس بلازم كالوصية . وخالفه في ذلك مالك ومن قال بقوله . فقال : إنه لا يجوز بيعه إلا إن استغرقه دين بعد الموت ، قال مالك : وهو الأمر المجمع عليه عندنا .(4/70)
وعلى هذا فظاهر هذا الحديث متروك بدليل هذا العمل المجمع عليه ، فيتعين تأويل هذا الحديث عند من يرجح العمل المنقول على أخبار الآحاد ، وهو مذهب مالك . وقد حمل أصحابنا هذا الحديث : على أنه إنما باعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دين متقدّم على التدبير ، ويعتضد هذا بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تولى بيع المدبر بنفسه ، كما يتولى الحاكم بيع مال المفلس . وأحالت الشافعية هذا التأويل بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للرجل لما دفع إليه ثمن المدبر : (( ابدأ بنفسك فتصدق عليها )) ؛ قالوا : ولو كان هنالك دين لكان الابتداء به أولى ، ولقال : ابدأ بدينك .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال بعض أصحابنا : إن قوله : (( ابدأ بنفسك )) ؛ متضمن لذلك ؛ لأن قوله : (( ابدأ بنفسك )) ؛ إنما يعني به ابدأ بحقوقها . ومن أعظم حقوقها تخليصها من الدَّين الذي هي مرتهنة به . ومما احتج به أصحابنا [بأن] المدبر لا يباع ولايوهب : حديث ابن عمر ، وهو أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( المدبر لا يباع ولا يوهب ، ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو جزء من الثلث )) ، وصحيحه موقوف على ابن عمر ، والذي استدل به مالك ما تقدّم .
---
وقوله : (( فإن فضل شيء )) ؛ المعروف : " فضِل" بكسر الضاد ، وهي لغة. و[يقال] بفتحها ، وير اختبار الجوهرى .
وهذا الحديث دليل على مراعاة الأوكد فالأوكد .
**************
( 9 ) باب أعمال البر صدقات(4/71)
25- عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالُوا لِلنَّبِيِّ : يَا رَسُولَ اللهِ ! ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي ، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ قَالَ : (( أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً ، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً ، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ )). قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ : (( أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أعمال البر صدقات
قد تقدّم القول على الدثور ، وعلى تفضيل الفقر في كتاب الصلاة. ومقصود هذا الحديث : أن أعمال الخير إذا حسنت النيات فيها تنزل(2) منزلة الصدقات في الأجور ، ولا سيما في حق من لا يقدر على الصدقة. ويفهم منه : أن الصدقة في حق القادر عليها أفضل له من سائر الأعمال القاصرة على فاعلها .
وقوله : (( في بضع أحدكم صدقة )) ، البضع -بضم الباء- : الجماع ، وأصله : الفرج. قال الأصمعي : يقال : ملك فلان بضع فلانة : إذا ملك عقد نكاحها ، وهو كناية عن موضوع الغشيان ، والمباضعة : المباشرة ، والاسم : البضع .
وفيه دليل : على أن النيات الصادقات تصرف المباحات إلى الطاعات .
---(4/72)
26- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ ، وَحَمِدَ اللهَ ، وَهَلَّلَ اللهَ ، وَسَبَّحَ اللهَ ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاثِمِائَةِ السُّلامَى ، فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ )). قَالَ أَبُو تَوْبَةَ : وَرُبَّمَا قَالَ : " يُمْسِي".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولهم : " أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟" استفهام من استبعد حصول أجر بفعل مستلذ ، يحث الطبع عليه ؟ وكأن هذا الاستبعاد إنما وقع من تصفُّح الأكثر من الشريعة ، وهو أن الأجور إنما تحصل في العبادات الشاقة على النفوس المخالفة لها . ثم إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجابهم على هذا بقياس العكس ، فقال : (( أرأيتم لو وضعها في حرام ؟ )) ونظمه : كما ياثم في ارتكاب الحرام ، يؤجر في فعل الحلال . وحاصله راجغ إلى إعطاء كل واحد من المتقابلين ما يقابل به الآخر من الذوات والأحكام .
وقد اختلف الأصوليون في هذا النوع من القياس ، هل يعمل عليه أم لا ؟ على قولين . وهذا الحديث حجة لصحة العمل بهذا النوع .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنه خُلِق كلُّ إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل )) ؛ الضمير في " إنه " ، ضمير الأمر والشأن ، والمفاصل : هي العظام ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/73)
التي ينفصل بعضها من بعض ، وقد سمّاها : سُلاميات . قال أبو عبيد : السُّلامى في الأصل : عظم في فِرْسَن البعير ، وقد تقدّم القول في السُّلاميات في الصلاة .
---
ومقصود هذا الحديث : أن العظام التي في الإنسان هي أصل وجوده ، وبها منافعه ؛ إذ لا تتأتى الحركات والسكنات إلا بها ، والأعصاب رباطات ، واللحوم والجلود حافظات وممكنات ، فهي إذًا أعظم نعم الله على الإنسان ، وحق المنعم عليه أن يقابل كل نعمة منها بشكر يخصّها ، وهو أن يعطي صدقةً كما أُعطي منفعة ، لكن الله تعالى لطف وخفف بأن جعل التسبيحة الواحدة كالعطية ، وكذلك التحميدة ، وغيرها من أعمال البر وأقواله ، وإن قلّ مقدارها ، وأتم تمام الفضل أن اكتفى من ذلك كلّه بركعتين في الضحى ، على ما مرّ . وقد نبهنا على سرّ ذلك في باب صلاة الضحى .
27- وَعَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ )). قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ : (( يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ )). قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ قَالَ : (( يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ )) قَالَ : قِيلَ لَهُ : أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ قَالَ : (( يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الْخَيْرِ )). قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ ؟ قَالَ : (( يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( عدد تلك الستين والثلاثمائة السُّلامى )) ؛ كذا وقعت الرواية ، وصوابه في العربية : " ثلاثمائة السلامى " ؛ لأنه لا يجمع بين الإضافة والألف واللام إلا في الإضافة غير المحضة ، بشرط دخول الألف واللام على المضاف والمضاف إليه .(4/74)
وقوله : (( على كل مسلم صدقة )) ؛ هو هنا مطلق ، وقد قيَّده من حديث أبي هريرة بقوله : (( في كل يوم )) ؛ وظاهر هذا اللفظ الوجوب ، لكن خففه الله تعالى حيث جعل ما خف من المندوبات [مسقطًا] له ؛ لظفا منه وتفضلاً .
و "ذو الحاجة" : صاحبها . و" الملهوف " : المضطر إليها ، الذي قد شغله
---
28- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ ، عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ الشَّمْسُ . قَالَ : تَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ ، قَالَ : وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ . وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
همه بحاجته عن كل ما سواها ، ولا شكّ في أن قضاء حاجة من كانت
هذه حاله يتعدد فيها الأجر ، ويكثر بحسب ما كشف من كربة صاحبها .
ومقصود هذه الأحاديث الترغيب في أعمال البر والخير بطريق إظهار وجه الاستحقاق واللطف ، والحمد لله .
*************
( 10 ) باب الدعاء للمنفق وعلى الممسك ، والأمر بالمبادرة للصدقة
قبل فَوْتِها
29- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا . وَيَقُولُ الآخَرُ : اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الدعاء للمنفق وعلى الممسك(4/75)
قوله : (( اللهم أعط منفقًا خلفًا )) ؛ هو موافق لقوله : { وَمَا أنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } ، وهذا يعم الواجبات والمندوبات .
---
وقوله : (( اللهم أعط ممسكًا تلفًا )) ؛ يعني : الممسك عن النفقات الواجبات ، وأما الممسك عن المندوبات ، فقد لا يستحق هذا الدعاء ؛ اللهم إلا أن يغلب عليه البخل بها ، وإن قَلَّت في أنفسها ؛ كالحبة واللقمة وما شاكل هذا . فهذا قد يتناوله هذا الدعاء ؛ لأنه إنما يكون كذلك لغلبة صفة البخل المذمومة عليه ، وقلَّ ما يكون كذلك إلا ويبخل بكثير من الواجبات ، أو لا يطيب نفسًا بها ، والله أعلم .
30- وَعَنْ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : ((تَصَدَّقُوا فَيُوشِكُ الرَّجُلُ يَمْشِي بِصَدَقَتِهِ فَيَقُولُ الَّذِي أُعْطِيَهَا : لَوْ جِئْتَنَا بِهَا بِالأَمْسِ قَبِلْتُهَا ، فَأَمَّا الآنَ فَلا حَاجَةَ لِي بِهَا ، فَلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( تصدقوا فيوشك الرجل ... )) ؛ هذا الأمر حضّ على المبادرة إلى إخراج الصدقة . و" يوشك " : يسرع .
وقول المعطي له : (( لو جئتنا بها بالأمس قبلتها )) ؛ يعني : أنه قد استغنى عنها بما أخرجت الأرض ، كما قال في الحديث الآخر : (( تقيء الأرض أفلاذَ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب )) ، قال ابن السكيت : الفلذ لا يكون إلا للبعير ، وهي : القطع المقطوعة طولاً . وحكى أبو عبيد عن الأصمعي : الحزّة والفلذة : ما قُطِعَ طولاً من اللحم ، ولم يخصّ كبدًا من غيره .
و " الأسطوان "- بضم الهمزة والطاء - : السّواري ، واحدتها : أسطوانة.(4/76)
31- وَعَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ ثُمَّ لا يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ ، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ )).
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا عبارة عما تخرج الأرض من الكنوز والبدرات ، وهذا معنى قوله تعالى : { وَأَخْرَجَتِ الأَرضُ أَثْقَالَهَا } ؛ أي : كنوزها ، على أحد التفسيرين ، وقيل : موتاها .
وقوله : (([ ويُرى] الرجل الواحد تتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلّة الرجال وكثرة النساء )) ، معنى : " يَلُذْنَ " : يستترن ويتحرزن ، من الملاذ الذي هو السترة ، لا من اللذة ، وذلك إنما يكون لكثرة قتل الرجال في الملاحم ، كما سيأتي في كتاب الفتن .
32- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا .
33- وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ : فِي هَذَا قَتَلْتُ . وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ : فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ : فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي . ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/77)
وقوله : (( حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا )) ؛ أي : تنصرف دواعي العرب عن مقتضى عاداتهم من انتجاع الغيث والارتحال في المواطن للحروب والغارات ، ومن عزة النفوس العربية الكريمة الأبيّة إلى أن يتقاعدوا عن ذلك ، فيشتغلوا بغراسة الأرض وعمارتها ، وإجراء مياهها ، كما قد شوهد في كثير من بلادهم وأحوالهم .
************
( 11 ) باب لا يقبل الله الصدقة إلا من الكسب الطيب
---
34- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلا الطَّيِّبَ إِلا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً ، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ )). وَفِي رِوَايَةٍ : (( لا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلا أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ - أَوْ قَلُوصَهُ - حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ أَعْظَمَ )). وَفِي أُخْرَى : (( مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ فَيَضَعُهَا فِي حَقِّهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب لا يقبل الله الصدقة إلا من الكسب الطيب
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله طيب )) ؛ أي : منزَّه عن النقائص والخبائث ، فيكون بمعنى : القدوس ، وقيل : طيب الثناء ، ومستلذ الأسماء عند العارفين بها . وعلى هذا : فطيِّب من أسمائه الحسنى ، ومعدود في جملتها المأخوذة من السنة ؛ كالجميل والنظيف ؛
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على قول من رواه ورآه.(4/78)
والكسب الطيب في هذا الحديث الحلال ؛ وهذا كقوله تعالى : { أَنْفِقُوا مِنْ طَيْبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } و{ أَنْفِقُوا مِنْ طَيْبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } وغيره ، وأصل الطيب : المستلذ بالطبع ، ثم أطلق على المطلق بالشرع .
---
وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام ؛ لأنه غير مملوك للمتصدق ، وهو ممنوع من التصرف فيه ، والتصدق به تصرُّف فيه ، فلو قبلت منه ؛ لزم أن يكون مأمورًا به ، منهيًا عنه من وجه واحد ، وهو محال ، ولأن أكل الحرام يفسد القلوب ، فتحرم الرقة والاخلاص ، فلا تقبل الأعمال . وإشارة الحديث إلى أنه لم يقبل ؛ لأنه ليس بطيب ، فانتفت المناسبة بينه وبين الطيب بذاته .
35- وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ، وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؟ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (( إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين )) ؛ يعني : أنه سوَّى بينهم في الخطاب بوجوب أكل الحلال .
و " رزقناكم " هنا بمعنى : ملّكناكم ، وقد يكون في موضع آخر : نفعناكم . وقد تقدّم الكلام على الرزق .(4/79)
وقوله : " ثم ذكر الرجل يطيل السفر " ؛ يعي : في الحج والجهاد . وما أشبه ذلك من أسفار الطاعات ؛ إلا أن " أشعث أغبر " ؛ يدلّ على الْمُحرم. والشَّعثُ في الشعر ، والغبرة في سائر الجسد .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : (( يمدّ يديه إلى السماء )) ؛ أي : عند الدعاء ، وهذا يدلّ على مشروعية مدّ [ اليدين ] عند الدعاء إلى السماء . وقد تقدّم الكلام على ذلك .
وقوله : (( فأنَّى يستجاب لذلك )) ؛ أي : كيف - على جهة الاستبعاد - ، ومعناه : أنه ليس أهلاً لإجابة دعائه ، لكن يجوز أن يستجيب الله له تفضلاً ولطفًا وكرمًا .
وقوله : (( إلا أخذها الرحمن بيمينه )) ؛ أي : قبلها مشرّفة مكرّمة ، مرضيًا بها ، بالغة محلهما ، وهذا كما قال الشاعر :
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا ما راية رفعت لمجدٍ تلقَّاها عرابة باليمين
أي : هو مؤمل للمجد والشرف ، ولم يرد بها اليمين الجارحة ؛ لأن المجد معنى ، واليمين التي يتلقى به رايته معنى ، وكذلك اليمين في حق الله تعالى.
وقوله : (( فتربو )) ؛ أي : يزيد ثوابها .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (( كفُّ الرحمن )) : عبارة عن محل القبول ، ويجوز أن يكون مصدر كف يَكْفُّ كفًا ، ويكون معناه : الحفظ والصيانة ، فكأنه قال : تلك الصدقة في حفظ الله وكلائه ، فلا ينقص ثوابها ، ولا يبطل جزاؤها ، والله أعلم .
ويحتمل أن يكون الكفّ عبارة عن كفة الميزان الذي توزن فيه الأعمال ، فيكون من باب حذف المضاف ، كأنه قال : فتربو في كفة ميزان الرحمن .(4/80)
و" القلوص " : الناقة الفتية ، كالجارية في النساء . والفلو في الإبل : كالصبي في الرجال .
*************
( 12 ) باب الصدقة وقاية من النار
---
36- عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَكَرَ النَّار فَتَعَوَّذ ، وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثَلاثَ مَرَات ، ثُمَّ قَالَ : (( اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ، فَإِن لَمْ تَجِدْوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الصدقة وقاية من النار
الترجمان : المفسِّر للكلام والمترجم له ، ويقال : ترجمان ، بالفتح والضم.
وقوله : (( أيمنَ منه ، وأشأمَ منه )) ؛ كلاهما منصوب على الظرف ، ويعني بهما : يمينه وشماله . مأخوذ من اليد اليمنى والشؤمى .
وقوله : (( واتقوا النار )) ؛ أى : اجعلوا بينكم وبينها وقاية من الصدقات وأعمال البر .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " وأشاح بوجهه " ، قال الخليل : أشاح بوجهه عن الشيء : نحاه عنه .
قلت : وهذا هو معناه في هذا الحديث. وقال الفراء : المشيح على معنيين : المقبل إليك ، والمانع لما وراء ظهره .
*************
( 13 ) باب حث الإمام الناس على الصدقة إذا عنت فاقة
---(4/81)
37- عَنْ جَرِيرٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ : فَجَاءَ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ : (({ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمِ الَّذِي خَلَقَكُمْ } الآيَةِ - إِلَى قَوْلِه -{ رَقِيبًا }- وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ- {اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } ، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ ، مِنْ دِرْهَمِهِ ، مِنْ ثَوْبِهِ ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ-حَتَّى قَالَ- : وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب حث الإمام الناس على الصدقة
قوله : " مجتابي العباء " ؛ أي : مقطوعي أوساط النمار . والاجتباب : التقطيع والخرق ، ومنه قوله تعالى : { الَّذين جَابُوا الصَّخْر بِالْوَادِ } ؛ أي : خرقوها . و"النمار" : جمع نمرة ، هي : ثياب من صوف فيها تنمير . و"العباء" : جمع عباءة ، وهي : أكسية غلاظ مخططة .
و " تمعر وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ؛ تَغَيَّر لما شق عليه من فاقتهم. و"كومين" -بفتح الكاف- ، هي الرواية ؛ أي : صُبْرَتين ، وقد قيل(4) "كومين" بضم الكاف.
---(4/82)
قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو مروان بن سراج : هو بالضم اسم لما كُوَّم ، وبالفتح : المرة الواحدة . والكَوْمَة : الصبرة ، والكوم : العظيم من كل شيء ، والكوم : المكان المرتفع كالرابية ، والفتح هنا أولى ؛ لأنه إنما شبَّه ما اجتمع هناك بالكوم الذي هو الرابية .
و " المذهبة " ، الرواية الصحيحة المشهورة فيه هكذا - بالذال المعجمة ، والباء المنقوطة بواحدة من أسفل- ؛ من الذهب . ويحتمل أن يريد بها : كأنه فضة مذهبة . كما قال الشاعر :
كأنها فضة [ قد] مسها ذهب
ويعني به تشبيه إشراق وجهه وتنويره ، أو كأنه آلة مذهبة ، كما يذهب من الجلود والسروج والأقداح وغير ذلك ، وتجعل طرائق يتلو بعضها بعضا . ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/83)
وقد وقع للحميدي في "الجمع بين الصحيحين" : " مدهنة "- بالدال المهملة والنون -. قال : والمدهن : نقرة في الجبل يستنقع فيها ماء المطر . والمدهن أيضًا : ما جعل فيه الدُّهن . والمدهنة من ذلك ، شبَّه صفاء وجهه بإشراق السرور بصفاء هذا الماء المستنقع في الحجر ، أو بصفاء الدهن .
وسروره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك فرح بما ظهر من فعل المسلمين ، ومن سهولة البذل عليهم ، ولمبادرتهم لذلك ، وبما كشف الله من فاقات أولئك المحاويج .
وقوله : (( من سن في الإسلام سنّة حسنة )) ؛ أي : من فعل فعلاً جميلاً فاقتدي به فيه ، وكذلك إذا فعل قبيحًا فاقتدي به فيه . ويفيد الترغيب في الخير المتكرر أجره بسبب الاقتداء ، والتحذير من الشر المتكرر إثمه بسبب الاقتداء .
**************
( 14 ) باب النهي عن لَمْزِ المتصدِّق والترغيب في صدقة المِنْحَة
38- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ : أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ قَالَ : كُنَّا نُحَامِلُ فِي رِوَايَةِ : عَلَى ظُهُورِنَا قَالَ : فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ قَالَ : وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ : إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا وَمَا فَعَلَ هَذَا الآخَرُ إِلا رِيَاءً فَنَزَلَتْ : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ }.
39- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ نَهَى فَذَكَرَ خِصَالاً وَقَالَ : مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةً غَدَتْ بِصَدَقَةٍ وَرَاحَتْ بِصَدَقَةٍ صَبُوحِهَا وَغَبُوقِهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب لمز المتصدق
---(4/84)
قوله : " نحامل على ظهورنا " ؛ أي : نحمل عليها بالأجرة. و{ يلمزون} : يعيبون . و{ المطوعين } : المتطوعين ، من الطاعة والطواعية ، وأدغمت التاء في الطاء . و" الجهد "- بضم الجيم - : الطاقة ، وبالفتح : المشقة .
وقوله : (( [مَن] منح منيحة - ويروى : " منحة "- غدت بصدقة وراحت بصدقة )) ؛ و(4)" المنحة" و" المنيحة " : عطية ذوات الألبان ؛ لينتفع المعطى له باللبن ، ثم يردّ المحلوب .
40- وَعَنْهُ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَلا رَجُلٌ يَمْنَحُ أَهْلَ بَيْتٍ نَاقَةً تَغْدُو بِعُسٍّ وَتَرُوحُ بِعُسٍّ إِنَّ أَجْرَهَا لَعَظِيمٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " مَنْ " : شرط في موضع رفع بالابتداء ، جوابه : " غدت بصدقة ، وراحت بصدقة " ، وهو خبر المبتدأ على قول ، والصحيح : أن خبرها ما بعدها ؛ لأن "من" الشرطية لا تحتاج إلى صلة ، بل هي اسم تام ، لص انما لم يتم الكلام بما بعدها ؛ لما تضمنته من معنى الشرط . فتدبَّره ، فإنه الصحيح .
ومعنى الكلام : أن من منح منيحة كان للمانح صدقة كلما غدت أو راحت ؛ لأجل ما يُنال منها في الصباح والمساء . و"الغدو" : البكرة . و"الرواح" : العشي. و"الصَّبوح" : شرب الصباح . و"الغبوق" : شرب العشي. و"الجاشرية" : شرب نصف النهار . و"العُسُّ " : قدح ضخم يحلب فيه . والرواية الصحيحة المعروفة : " بُعسٍّ " - بعين مهملة مضمومة . ووقع للسمرقندي : " تروح بعشاء ، وتغدو بعشاء ". ورواه الحميدي : " بعساء " ، - بعين مهملة مفتوحة ، وسين مهملة ، وبالمد والهمز -. وفسّره في غير "الأم" بالعُسّ الكبير .
( 15 ) باب مثل المتصدق والبخيل وقبول الصدقة تقع عند غير مستحق
---(4/85)
41- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ فَإِذَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّيَ أَثَرَهُ وَإِذَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِصَدَقَةٍ تَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ وَانْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا قَالَ : فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : فَيَجْهَدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلا يَسْتَطِيعُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب مثل المتصدق والبخيل
قوله : (( جُنتان من حديد )) ؛ يعني : درعين . والْجُنَّة : ما يُستجنُّ به ، وكذا صحيح الرواية . وقد روي : " جبتان "- بالباء بواحدة ، وفيه بُعْدٌ في المعنى .
و " اتسعت " من السعة ، ويعني به ، طالت ؛ لأنه إذا اتسع الثوب طال. فإذا اتسعت تصرف فيها بيده وغيره ، بخلاف جُنَّة الحديد . وقد روي : ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[سبغت] ، وهو أحسن في المعنى . و"تقلصت" : تقبضت وانضمت على يده . وهذان المثلان للبخيل والمتصدق واقعان ؛ لأن كل واحد منهما إنما يتصرّف بما يجد من نفسه ، فمن غلب الإعطاء والبذل عليه ، طاعت نفسه ، وطابت بالإنفاق ، وتوسعت فيه ، ومن غلب عليه البخل ، كان كلما خطر بباله إخراج شيء مما بيده شحت نفسه بذلك ، فانقبضت يده للضيق الذي يجده في صدره ، ولشح نفسه الذي من وقيه فقد أفلح ، كما قال تعالى : {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.
وقد وقع حديث أبي هريرة هذا في "الأم " من [طرق] فيها تثبيج وتخليط . وما أثبتثاه هنا أحسنها مساقًا ، والله أعلم .
---(4/86)
42- وَعَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : لأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ . قَالَ : اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ . لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ قَالَ : اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ . لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ . فَقَالَ : اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ وَعَلَى سَارِقٍ ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ : أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ ، أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا ، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول المتصدق : " اللهم لك الحمد ، على زانية " ؛ إشعار بألم قلبه ؛ إذ ظن أن صدقته لم توافق محلّها ، وأنَّ ذلك لم ينفعه ، ولذلك كرَّر الصدقة ، فلما علم الله صحة نيته تقبلها منه ، وأعلمه بفوائد صدقاته .
ويستفاد منه : صحَّة الصدقة وإن لم توافق محلاً مرضيًا ، إذا حسنت نية المتصدق . أما لو علم المتصدِّق أن المتصدَّق عليه يستعين بتلك الصدقة على معصية الله لحرم عليه ذلك ، فإنه من باب التعاون على الإثم والعدوان .
**************
( 16 ) باب أجر الخازن الأمين والمرأة تتصدق من كسب زوجها والعبد من مال سيده
---(4/87)
43- عَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الأَمِينَ الَّذِي يَتَصَدَقْ وَرُبَّمَا قَالَ : يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ فَيُعْطِيهِ كَامِلاً مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ )).
44- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تَصُمِ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ ، وَلا تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أجر الخازن الأمين
قوله : (( إن الخازن الأمين ... )) إلى آخره ، هذه الأوصات لا بدّ من اعتبارها في تحصيل أجر الصدقة للخازن ، فإنه إن لم يكن مسلمًا لم يصحَّ منه التقرُّب ، وإن لم يكن أمينًا كان عليه وزر الخيانة ، فكيف يحصل له أجر الصدقة ؟! وإن لم يطمب بذلك نفسًا لم يكن له نية ، فلا يؤجر .
45- وَعَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ : كُنْتُ مَمْلُوكًا فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَأَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوَالِيَّ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ : (( نَعَمْ وَالأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ )).
46- وَعَنْهُ قَالَ : أَمَرَنِي مَوْلايَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا ، فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ ، فَعَلِمَ مَوْلايَ بِذَلِكَ فَضَرَبَنِي ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَدَعَاهُ فَقَالَ : (( لِمَ ضَرَبْتَهُ ؟ )) قَالَ : يُعْطِي طَعَامِي بِغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ ، فَقَالَ : ((الأَجْرُ بَيْنَكُمَا )).(4/88)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : (( [أحد الْمُتصَدِّقَيْن] )) ، لم نروه إلا بالتثنية ، ومعناه : أنه بما فعل متصدق ، والذي أخرج الصدقة بما أخرج متصدق آخر ، فهما متصدقان. ويصح أن يقال على الجمع ، ويكون معناه : أنه متصدق من جملة المتصدقين .
و (( آبي اللحم )) ، اختلف في [سبب] تسميته بذلك ، فمنهم من قال : بما جاء بيانه في الحديث الآخر بعده ؛ وذلك : أنه لما ضرب عبده على دفع اللحم سُمِّي آبي اللحم لذلك . وقيل : لأنه كان لا يأكل من لحم ما ذبح على النصب ، وقيل : لأنه كان لا يأكل اللحم جملةً . و" آبي اللحم " : بطن من(5) غفار ، ومولاه عمير منهم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الأجر بينكما )) ؛ يعني : فيما أعطى العبد ، مما جرت العادة
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بإعطائه ، والمسامحة بأمثاله ؛ كاللحم ، واللبن ، والطعام اليسير ، وغير ذلك . وأما لو دفع ماله بال مما لم تجر العادة بإعطائه لكان عليه الوزر ، وللمالك كل الأجر .
وقوله : (( لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه )) ، البعل : الزوج . وشاهد : لا تصوم المرأة حاضر .
ومحمل هذا على المتطوِّعة بالصوم ؛ لأن مراعاة حق الزوج واجبة عليها ، وحقه عليها مستصحب ، فلو [سوغ] لها الصوم بغيرإذنه ، لكان ذلك منعًا للزوج من حقِّه ، فلو شرعت في صوم التطوّع بغير إذنه ، فله أن يحللها ؛ لأن حقَّه مقدَّم على ما شرعت فيه ، وكذلك لو أحرمت بالحج والعمرة تطوعًا .
وقوله : (( ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه )) ، تخصيص المنع بحضور الزوج ؛ يدل على أن ذلك لحق الزوج في زوجته ؛ إذ قد يكون المأذون له في تلك الحال ممن يشوّش على الزوج مقصوده وخلوته بها .
وعلى هذا تظهر المناسبة بين هذا النهي عن الصوم المتقدّم . وقال بعض
---(4/89)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأئمة : إن ذلك معلل بأن البيت ملك الزوج ، وإذنها في دخوله تصرُّف فيما لا تملك . وهذا فيه بُعْدٌ ؛ إذ لو كان معلّلاً بذلك ، لاستوى حضور الزوج وغيبته ، والله أعلم .
وقوله : (( وما أنفقت من كسبه )) ، هو محمول على ما تقدّم من الأطعمة ، وما لا بال له .
**************
( 17 ) باب أجر من أنفق شيئين في سبيل الله وعظم منزلة من اجتمعت فيه خصال من الخير
47- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ )) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أجر من أنفق شيئين في سبيل الله
قوله : (( من أنفق زوجين في سبيل الله )) ، هكذا وقع في هذا اللفظ في كتاب مسلم . ووقع في البخاري : (( من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله )).
---(4/90)
وهذا نصّ في عموم كل شيء يخرج في سبيل الله . وقيل : يصح إلحاق جميع أعمال البرّ بالإنفاق . ويدلّ على صحة هذا بقية الحديث ؛ إذ قال فيه : (( من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام )).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" والزوج " : الصنف ، وكذلك قيل في قوله تعالى : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةٌ } ، قال ابن عرفة : كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج . ويقال : زوجت الإبل : إذا قرنت واحدا بواحد . زاد الهروي في هذا الحديث : قيل : وما زوجان ؟ قال : " فرسان ، أو عبدان ، أو بعيران ".
و " الريَّان " : فعلان من الرِّيّ على جهة المبالغة ، وسمي بذلك على جهة
48- وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا ؟ )).
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا ، قَالَ : (( فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟ )) قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا قَالَ : (( فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ؟ )) قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا قَالَ : فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقابلة العطشان ؛ لأنه جوزي على عطشه بالرِّي الدَّائم في الجنة ، التي يدخل إليها من ذلك الباب .
---(4/91)
وقوله : (( فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة )) ؛ أي : من المكثرين لصلاة التطوّع ، فكذلك غيرها من أعمال البرّ المذكورة في هذا الحديث ؛ لأن الواجبات لا بدّ منها لجميع المسلمين ، ومن ترك شيئًا من الواجبات إنما يخاف عليه أن ينادى من أبواب جهنم ، فيستوي في القيام بها المسلمون كلهم ، وإنما يتفاضلون بكثرة الطاعات(5) التي بها تحصل تلك الأهلية التي بها(6) ينادون من تلك الأبواب .
ولما فهم أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ هذا المعنى قال : فهل يدعى أحد من تلك الأبواب ؟ أي : هل يحصل لأحد من أهل الإكثار من تطوعات البرّ المختلفة ما يتأهل به(7) ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن يدعوه خزنة الجنة من كل باب من أبوابها ؟ فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نعم أنت منهم )) ، فإنه ـ رضى الله عنه ـ كان قد جمع خصال تلك الأبواب كلها ، ألا ترى أنه قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الآتي بعد هذا : (( هل فيكم من أطعم اليوم مسكينًا ؟ )) فقال أبو بكر : أنا ، [ قال : (( هل فيكم من عاد مريضًا ؟ )) فقال أبو بكر : أنا]. وقد تقدّم الكلام على بعض نكت هذا الحديث .
وذكر مسلم في هذا الحديث من أبواب الجنة أربعة ، وزاد غيره بقية الثمانية ، فذكر فيها : باب التوبة ، وباب : الكاظمين الغيظ ، وباب : الراضين ، والباب الأيمن الذي يدخل منه مَن لا حساب عليه ، حكاه القاضي أبو الفضل .
*************
( 18 ) باب من أحصى أُحْصِي عليه والنهي عن احتقار قليل الصدقة وفضل إخفائها
49- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((انْفَحِي أَوِ انْضَحِي أَوْ أَنْفِقِي ، وَلا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ ، وَلا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ )).(4/92)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من أَحْصَى أُحْصِي عليه
---
قوله : (( انفحي أو انضحي أو أنفقي )) ، [ معناه] : أعطي ، وأصل الثفح : الضرب بالعصا أو بالسيف ، وكان الذي ينفق يضرب المعطى له بما يعطيه . ويحتمل أن يكون من نَفَحَ الطيبُ ؛ إذا تحركت رائحته ؛ إذ العطية تستطاب كما تستطاب الرائحة الطيبة ، أو من " نَفَحَت الريح " ، إذا [هَبَّت] باردة ، فكأنه أمر(7) بعطية سهلة كثيرة .
وفي حديث أبي ذر : "ونفح به يمينًا وشمالاً " ؛ أي : أعطاه في كل وجه . وأصل النضح : الرش . وكأنه أمره بالتصدّق بما تيسّر ، وإن كان قليلاً .
50- وَعَنْهَا ؛ أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ ؟ فَقَالَ : ((ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ وَلا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الحديث : (( ارضخي )) ؛ أي : أعطي بغير تقدير . ومنه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرضخ للنساء من الغنيمة ، ولا يضرب لهن بسهم . ويفيد تكرار هذه الألفاظ تأكد أمر الصدقة ، والحضّ عليها على أي حال تيسَّرت بكثير أو قليل ، بمقدر أو بغير مقدر ، والله أعلم .
وقولها : " ليسى لي شيء إلا ما أدخل علف الزبير " ؛ تعني : ما يدخل عليها للانفاق عليها وعلى أهل بيتها ، وهذا محمول على ما تقدّم .
وقوله : (( فلا تحصي فيحصي الله عليك )) ؛ أي : لاتبخلي فتجازين على بخلك . وأصل هذا من الإحصاء الذي هو العدّ . وعبر عن البخل بالإحصاء ؛ لأن البخيل يعدُّ ماله ويتحرز به ، ويغار عليه .(4/93)
وقوله : (( ولا توعي فيوعي الله عليك )) ؛ أي : لا تمسكي المال في الوعاء فيمسك الله فضله وثوابه عنك. وفي غير مسلم : (( ولا توكي فيوكي عليك )) ؛ أي : لا تربطي . والوكاء : الخيط الذي يُشدُّ به . وهذا كله من باب مقابلة اللفظ باللفظ(3).
---
51- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَقُولُ : (( يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومعنى ما ذكر : أنك إذا فعلت ذلك جزيت عليه بنسبة ما فعلت .
وقوله : (( يا نساء المؤمنات )) ؛ روايتنا فيه بفتح الهمزة وكسر تاء "المؤمنات" على المنادى المضاف ، وهو من إضافة الشيء إلى صفته . وقد تقدّم . وقد قدّر النحويون [هذا] : يا نساء الجماعات المؤمنات ، تحرزا من إضافة الشيء إلى نفسه.وهذه رواية الجمهور ، وقد رواه بعضهم : " يا نساء " - بالرفع - ، و" المؤمنات"- بالكسر - ، وعلى هذه الرواية يكون : "يا نساء" ، منادى مفردًا ، والمؤمنات صفة على الموضع . ويجوز رفعه على اللفظ ، كما تقول : يا زيد العاقل ، بالرفع على اللفظ ، والنصب على الموضع .
و " الفِرْسَن " : للبعير كالقدم للإنسان ، وأصله للبعير . وقد يقال للشاة ،(4/94)
52- وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ : الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ اللهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما جاء هنا ، ومقصود هذا الحديث النهي عن احتقار القليل من الصدقة . و"لو" هنا للتقليل ، وقد بينا محاملها في أول الكتاب .
وقوله : ((سبعة يظلهم الله في ظله )) ؛ أي : في ظل عرشه ، كما جاء في الحديث
---
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآخر ، والمراد به يوم القيامة إذا قام الناس في صعيدها ، وقربت الشمس من الرؤوس ، وأُديرت النار بأهل الموقف ، فليس هناك إلا ظل العرش. فأما ظل الصدقة فمن ظل العرش ، والله أعلم .
ويحتمل أن يراد بالظلّ هنا : الكَنَف والكرامة والوقاية من المكاره ، كما تقول العرب : أنا في ظل فلان ؛ أي : في صيانته وكرامته وكنفه ، وإلى هذا نحا ابن دينار .
و "الإمام العادل" : هو كل من ولي شيئًا من أمور المسلمين ، فعدل فيه .(4/95)
وقوله : (( وشاب نشأ بعبادة الله )) ؛ كذا الرواية : بعبادة الله - بالباء ، وهذه الباء فضل الشاب هي باء المصاحبة ، كما تقول : جاء زيد بسلاحه ؛ أي : مصاحبًا لها ، ويحتمل أن يكون بمعنى الفاء ، كما قد تكون الفاء بمعنى الباء ، في مثل قوله تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ } ، و" نشأ " نبت وابتدأ ؛ أي : لم يكن له صبوة ، وهو الذي قال فيه في ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث الآخر : (( يعجب ربك من صبيٍّ ليست له صبوةٌ )) ، وإنما كان ذلك لغلبة التقوى التي بسببها ارتفعت الصبوة .
وقوله : (( ورجل قلبه معلّق في المساجد )) ؛ أي : يحب الكون فيها للصلاة والذكر وقراءة القرآن ، وهذا إنما يكون ممن استغرقه حبُّ الصلاة والمحافظة عليها وشُغِف بها .
وقوله : (( ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه )) ؛ أي : داما على المحبة الصادقة الدِّينية ، المبرأة عن الأغراض الدُّنيوية ، ولم يقطعاها بعارض في حال اجتماعهما ، ولا حال افتراقهما .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وقوله : (( ورجل دعته [امرأة] ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله )) ؛ معنى دعته : عرضت نفسها عليه ؛ أي للفاحشة. وقول المدعو في مثل هذا الحال : إني أخاف الله ، وامتناعه لذلك دليلٌ على عظيم معرفته بالله تعالى ، وشدّة خوفه من عقابه ، ومتين تقواه ، وحيائه من الله تعالى . وهذا هو المقام اليوسفي .
وقوله : (( ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها )) ؛ هذه صدقة التطوع في قول ابن عباس وأكثر العلماء . وهو حضٌّ على الإخلاص في الأعمال ، والتستر بها ، ويستوي في ذلك جميع أعمال البر التطوعية .(4/96)
فأما الفرائض فالأولى إشاعتها وإظهارها لتحفظ قواعد الدين ، ويجتمع الناس على العمل بها ، فلا يضيع منها شيء ، ويظهر بإظهارها جمال دين الإسلام ، وتعلم حدوده وأحكامه .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والإخلاص واجب في جميع القرب ، والرياء مفسد لها .
وقوله : (( [حتى] لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )) ؛ هذا مبالغة في إخفاء الصدقة ، وقد سمعنا من بعض المشايخ أن ذلك أن يتصدق على الضعيف في صورة المشتري منه ، فيدفع له درهمًا مثلاً في شيء يساوي نصف درهم . فالصورة مبايعة ، والحقيقة صدقة ، وهو اعتبار حسن .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه )) ؛ خاليًا يعني : من الخنق ، ومن الالتفات إلى غير الله .
و" فيض العين " : بكاؤها . وهو على حسب حال الذاكر ، وبحسب ما ينكشف له من أوصافه تعالى ، فإن انكشف له غضبه ، فبكاؤه عن خوف ، وإن انكشف [له] جماله وجلاله ، فبكاؤه عن محبة وشوق ، وهكذا يتلوَّن الذاكر بتلوُّن ما يذكر من الأسماء والصفات .
وهذا الحديث جدير بأن ينعم فيه النظر ، ويستخرج ما فيه من اللطائف والعبر ، والله الموفق الملهم .
---
*************
( 19 ) باب أي الصدقة أفضل وفضل اليد العليا والتعفف عن المسألة(4/97)
53- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا ؟ فَقَالَ : (( أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ : أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ ، وَلا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ : لِفُلانٍ كَذَا ، وَلِفُلانٍ كَذَا ، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( أَلا وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أي الصدقة أعظم
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أما رأبيك لتنبأنَّه )) ، أما : استفتاح للكلام ، "وأبيك " قسم ، ومقسم به . وتقدم الكلام على القسم بالأب في كتاب الإيمان . والمقسم عليه : " لتُنَبَّأنَّه ؛ أي : لَتُخْبَرَنَّ به حتى تعلمه .
والشح : المنع مطلقًا ، يعم منع المال وغيره . وهو من أوصاف النفس المذمومة ؛ ولذلك قال الله : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ، والبخل : بالمال ، فكانه نوع من الشحّ . قال معناه الخطابي. وقد دل على
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحة هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا )) ؛ أي : شح النفس ، وهو منعها من القيام بالحقوق المالية وغيرها .
وقوله : (( حتى إذا بلغت الحلقوم )) ؛ أي : النفس ، ولم يجر لها ذكر ، لكن دل عليها الحال ، كما قال تعالى : { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } ، ومعناه : قاربت الحلقوم ، فلو بلنته لم تتأتَّ منه وصية ولا غيرها. و"الحلقوم" : الحلق.
---(4/98)
وقوله : (( لفلان كذا ، ولفلان كذا ، ألا وقد كان لفلان )) ، قال الخطابي : مراد به الوارث .
54- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ (( الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : وفيه بُعْدٌ ، بل الأظهر أنه الموصى له ، ممن تقدّمت وصيته على تلك الحالة ، ومن ينشيء له الوصية في تلك الحالة أيضًا .
وقوله : " وهو يذكر الصدقة والتعفُّف عن المسألة " ؛ أي : يحضُّ الغني على الصدقة ، والفقير على التعفُّف عن المسألة .
وقوله : (( اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى )) ، ثم فسّر اليد العليا بالْمُنْفِقَة والسُّفلى بالسائلة ، وهو نصٌّ يرفع تعسُّف من تعسَّف في تأويله ، غير أنه ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقع هذا الحديث في كتاب أبي داود ، وقال فيه في بعض طرقه بدل المنفقة : المتعففة . قال : وقال أكثرهم : اليد العليا : المنفقة.
وذكر أبو داود أيضًا من حديث مالك بن نضلة مرفوعًا : (( الأيدي ثلات : يد الله العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد السائل السفلى ، فأعطِ الفضلَ ، ولا تعجز عن نفسك )).
55- وَعَنْ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ ، أَوْ خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/99)
وقوله : (( وابدأ بمن تعول )) ؛ يعني : أنه يبدا بكفاية من تلزمه كفايته ، ثم بعد ذلك يدفع لغيرهم ؛ لأن القيام بكفاية العيال واجب ، والصدقة على الغير مندوبٌ إليها ، ولا يدخل في ذلك ترفيه العيال الزائد على الكفاية ، فإن الصدقة بما يرفه به العيال أولى ؛ لأن من لم تندفع حاجته أولى بالصدقة ممن اندفعت حاجته في مقصود الشرع .
وقوله : (( "خر الضدقة ما كان عن ظهر غنى )) ؛ أي : ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس وحقوق العيال . وقال الخطابي : أي : متبرعًا ، أو عن غنى يعتمده ، ويستظهر به على النوائب .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والتأويل الأول أولى ، غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى الله بها على الأنصار ؛ إذ قال : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } وقد روي : أن هذه الآية نزلث بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيف فنوَّم صبيته وأطفأ السِّراج ، وآثر الضيف بقوتهم . وكذلك قوله تعالى : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } ؛ أي : على شدّة الحاجة إليه والشهوة له ،
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا شكّ أن صدقة مَن هذه حالُه أفضل .
وفي حديث أبي ذر : (( أفضل الصدقة جهد [من] مقل )). وفي حديث أبي هريرة : (( سبق درهم مائة ألف )) ، قالوا : وكيف ؟ قال : (( رجل له درهمان ، فتصدق بأحدهما ، ورجل له مال كثير ، فأخذ من عرْض ماله مائة ألف فتصدّق بها )).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/100)
فقد أفاد مجموع ما ذكرناه : أن صدقة المؤثر والْمُقِل أفضل ، وحينئذ يثبت التعارض بين هذا المعنى وبين قوله : (( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى )) ؛ على تأويل الخطابي .
فأما على ما أوَّلنا به الغنى ، فيرتفع التعارض ، وبيانه : أنَّ الغنى يعني به في الحديث : حصول ما يدفع به الحاجات الضرورية ؛ كالأكل عند الجوع المشوِّش الذى لا صبر عليه ، وستر العورة ، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى ، وما هذا سبيله ، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به ، ولا التصدُّق ، بل يحرم ؛ وذلك أنه إن آثر غيره بذلك ، أدى إلى هلاك نفسه ، أو الإضرار بها ، أو كشف عورته ، فمراعاة حقَّه أولى على كل حال ، فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار ، وكان صدقته هي الأفضل ؛ لأجل ما يحمله من مضض الحاجة وشدَّة المشقة ، والله أعلم .
56- وَعَنْهُ قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَعْطَانِي ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ، ثُمَّ قَالَ : (( إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إن هذا المال خضرة حلوة )) ؛ أي : روضة خضراء ، أو شجرة ناعمة غضَّة مستحلاة الطعم .
وقوله : (( فمن أخذه بطيب نفس )) ؛ أي : بسخاوتها ، وقلة حرصها ، بورك له فيه ؛ أي : انتفع به صاحبه في الدّنيا بالتنمية ، وفي الآخرة بأجر النفقة . و" إشراف النفس " : هو حرصها وتشوُّفها .
---(4/101)
وقوله : (( لم يبارك له فيه )) ؛ أي : لا ينتفع به صاحبه ؛ إذ لا يجد لذة نفقته ، ولا ثواب صدقته ، بل يتعب بجمعه ، ويُذمّ بمنعه ، ولا يصل إلى شيء من نفعه . ولا شك في أن الحرص على المال وعلى الحياة الدنيا مذموم ، مفسد للدين ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم ، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه )) ،
57- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ وَلا تُلامُ عَلَى كَفَافٍ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إنك إن تبذل الفضل خير لك ، ، وأن تمسكه شرٌّ لك )) ، الفضل يعي به : الفاضل عن الكفاية ، ولا شكَّ في أن إخراجه أفضل من إمساكه . فأما إمساكه عن الواجبات فشرٌّ على كل حال ، وإمساكه عن المندوب إليه فقد يقال فيه شرٌّ ؛ بالنسبة إلى ما فوَّت الممسك على نفسه من الخير . وقد تقدّم بيان هذا المعنى في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وشرُّ صفوف الرجال آخرها )) ؛ وأن معنى ذلك : أنها أقل ثوابًا .
58- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تُلْحِفُوا بِي فِي الْمَسْأَلَةِ فَوَاللهِ لا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ولا تلام على كفاف )) ، يفهم منه بحكم دليل الخطاب : أن ما زاد على الكفاف يتعرض صاحبه للذمّ .(4/102)
وقوله : (( لا تُلْحِفوا في المسألة )) ؛ هكذا صحيح الرواية ، ومعناه : لا تنزلوا في المسألة الملحف فيها ؛ أي : لا تُلِحُّوا علي في السؤال. والإلحاف : الإلحاح.
---
وإنما نهى عن الإلحاح ؛ لما يؤدي إليه من الإبرام واستثقال السائل ، وإخجال المسؤول ، حتى أنه إن أخرج شيئًا أخرجه عن غير طيب نفس ، بل عن كراهة وتبرُّم ، وما استخرج كذلك لم يبارك فيه ؛ لأنه مأخوذ على غير وجهه ، ولذلك قال : (( فَتُخْرِجَ له المسألة شيئًا وأنا كارة له )).
ثم قد كانوا - أعني المنافقين - يكثرون سؤال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليُبَخّلوه ، فكان يعطي العطايا الكثيرة بحسب ما يُسأل ؛ لئلا يتم لهم غرضهم من نسبته إلى البخل ؛ كما قال : (( إن قومًا خيَّروني بين أن يَسألوني بالفحش ، أو(4)
يُبَخّلوني ولست بباخل ))(5).
(20 ) باب من أحق المسكنة وكراهة المسألة للناس
59- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ )) قَالُوا : فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : (( الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَلا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من أحق باسم المسكنة
" المسكين " مِفْعِيل من السكون ، فكأنه من عدم المال سكنث حركاته ووجوه مكاسبه ، ولذلك قال تعالى : { أو مسكينًا ذا متربة } ؛ أي : لاصقًا بالتراب . وعند الأصمعي : أنه أسوأ حالاً من الفقير . وعند غيره : عكس ذلك . وقيل : هما اسمان لمسى واحد .(4/103)
ومعنى قوله : (( ليس المسكين بالطَّواف عليكم ... )) ، إلى آخره ؛ أى : الأحق باسم المسكين هذا الذي لا يجد غنى ، ولا يتصدّق عليه ، وهذا كقوله : (( ليس الشديد بالصرعة ، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) ، ومثل هذا كثير .
---
60- وَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( وليس في وجهه مُزْعة لحم )) ؛ أي : قطعة لحم ، ومنه : مَزَعَت المرأة الصوف ، إذا قطعته لِتُهَيِّأَه للغزل ، وتمزَّع أنفه ؛ أي : تشقَّق . وهذا كما قيل في الحديث الآخر : (( المسائل كدوح ، أو خدوش ، يخدش بها الرجل وجهه يوم القيامة )). وهذا محمول على كل من سأل سؤالاً لا يجوز له ،
61- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا ، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ )).
62- وَعَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وخصَّ الوجه بهذا النوع ؛ لأن الجناية به وقعت ، إذ قد بذل من وجهه ما أُمر بصونه عنه ، وتصرف به في غيرما سوِّغ له .
وقوله : (( من سأل الناس أموالهم تكثرًا )) ؛ أي : استكثارًا منها من غير حاجة ولا ضرورة .(4/104)
وقوله : (( فإنما يسأل جمرًا )) ؛ أي : يعذب بحسب مسائله التي هي غير جائزة .
وقوله : ((فليستكثر من ذلك أو ليستقلل )) ، هو أمر على جهة التهديد ، أو على جهة الإخبار عن مال حاله. ومعناه أنه يُعاقب عن القليل من ذلك والكثير .
---
63- وَعَنْ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً فَقَالَ : (( أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ ؟ )). وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ فَقُلْنَا : قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ثُمَّ قَالَ : (( أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ ؟ )) فَقُلْنَا : قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ثُمَّ قَالَ : (( أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ ؟ )). قَالَ : فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا : قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ فَعَلامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ : (( عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَتُطِيعُوا الله وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً . وَلا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا )) فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأخذه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أصحابه في البيعة : (( ألا يسألوا أحدًا شيئًا )) ، حَمْلٌ منه على مكارم الأخلاق ، والترفع عن تحمّل مِنَن الخلق وتعليم الصبر على مضض الحاجات ، والاستغناء عن الناس ، وعزّة النفوس .
ولما أخذهم بذلك التزموه ني جميع الأشياء ، وفي كل الأحوال ، حتى فيما لا تلحق فيه مِنَّة ، طردًا للباب ، وحسمًا للذرائع .
*************
( 21 ) باب من تحل له المسألة ؟
---(4/105)
64- عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلالِيِّ قَالَ : تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ : (( أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا " قَالَ : ثُمَّ قَالَ يَا قَبِيصَةُ : (( إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ : رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ قَالَ : سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ : لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ قَالَ : سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ ، يَا قَبِيصَةُ ! سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من تحلُّ له المسألة
قوله : " تحمّلت حمالة " ؛ أي : ألزمتها نفسي . والحمالة : ما لزم الإنسان تحتله من غرم أو دية .
وكانت العرب إذا وقعت بينهم ثائرة اقتضت غرمًا في دية أو غيرها ، قام أحدهم فتبرّع بالتزام ذلك ، والقيام به ؛ حتى ترتفع تلك الثائرة ، ولا شكّ أن هذا من مكارم الأخلاق ، ولا يصدر مثله إلا عن سادات الناس وخيارهم. وكانت العرب لكرمها إذا علمت بأن أحدًا تحمّل حمالة بادروا إلى معونته ، وأعطوه ما يتمّ به وجه مكرمته ، وتبرأ به ذمته ، ولو سأل المتحمل في تلك ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/106)
الحمالة لم يُعَد ذلك نقصًا ، بل شرفًا وفخرًا ، ولذلك سأل هذا الرجل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حمالته التي تحمّلها على عادتهم ، فأجابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ذلك بحكم المعونة على المكرمة ، ووعده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمال من الصدقة ؛ لأنه غارم من جملة الغارمين المذكورين في آية الصدقات .
وقوله : (( إن المسألة لا تحل [إلا] لأحد ثلاثة )) ؛ لما قرّر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منع قاعدة المسألة من الناس ، بما تقدّم من الأحاديت ، وبمبايعتهم على ذلك ، وكانت الحاجات والفاقات تنزل بهم ، فيحتاجون إلى السؤال ، بيّن لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يَخْرج من عموم تلك القاعدة ، وهم هؤلاء الثلاثة .
و " الجائحة " : ما اجتاحت المال وأتلفته إتلافًا ظاهرًا ، كالسيل والمطر والحرق والسرق وغلبة العدو ، وغير ذلك مما يكون إتلافه للمال ظاهرًا .
و " الفاقة " : الفقر . و" القوام "- بكسر القات - : ما يقوم به العيش ، وبفتحها : الاعتدال . و" السِّداد "- بكسر السين - : ما يُسدّ به الشيء ، كسداد لقارورة ، وبفتحها : الإصابة .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجَى من قومه : لقد أصابت فلانًا فاقة )) ؛ أي : يقوم ثلاثة فيقولون : لقد ... ، وفي كتاب أبي داود : " حتى يقول " باللام من القول ، فلا يحتاج إلى تقدير محذوف .
و "الحجى " : العقل . واشترطه ؛ لأن من عدمه لا يحصل بقوله ثقة ، ولا يصلح للشهادة ، أو لعلّه عبّر به عما يشترط في المخبر والشاهد من الأمور التي توجب الثقة بأقوالهم ، ويكون الموصوف بها عدلاً مرضيًا .(4/107)
وقوله : (( من قومه )) ؛ لأنهم أعلم بدخيلة أمره ، واستظهر بالثالث ليلحق بالمنتشر . ولم يحتج فيمن أصابته الجائحة إلى مثل هذا ؛ لظهور أمر الجائحة ، فأما الفاقة فتخفى .
---
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( حتى يصيبها ثم يمسك ، وحتى يصيب قوامًا )) ؛ فيه حد الإباحة إلى زوال الموجب لها ، ثم عوده إلى الأصل السابق الممنوع .
وقوله : (( فما سواهن من المسألة سحت )) ، السُّحت : الحرام ، وسمي به ؛ لأنه يسحت ويمحق ، وفيه لغتان : سكون الحاء وضمها .
وروايتنا في " سحت " الأول الرفع على أنه خبر المبتدأ الذي هو "ما" الموصولة .
وقد وقع لبعضهم " سحتًا " بالنصب ، وليس وجهه بيِّن.
و"هن" عائدٌ على الحالات الثلاثة ، لا على لفظ الثلاثة فإنها للذكور .
وقوله : (( فما سواهن سحت )) ؛ أي : ما سوى هؤلاء الثلاثة ، ثم هو بعد ذلك مخصوص بحديث سمرة الذي خرّجه أبو داود مرفوعًا : (( المسائل كدوح يكدح الرجل بها وجهه ، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان ، أو في أمر
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يجد منه بدًّا )) ، وما تدعو الحاجة والضرورة إلى المسألة فيه [ يزيد] على الثلاثة المذكورين في هذا الحديث الذي نحن باحثون فيه .
*************
( 22 ) باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير سؤال ولا استشراف(4/108)
65- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : قَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ : أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالاً فَقُلْتُ : أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خُذْهُ وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ . وَمَا لا ، فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إباحة الأخذ من غير سؤال
---
قول عمر ـ رضى الله عنه ـ : " أعطه أفقر إليه مني " ؛ دليل : على زهده ، وإيثاره لغيره على نفسه .
وقوله : " خذه " ؛ أمرٌ على جهة الندب والإرشاد للمصلحة .
وقوله : (( وأنت غير مشرف ولا سائل )) ؛ إشراف النفس : تطلعها ، وتشوُّفها ، وشرهها لأخذ المال .
ولا شك أن هذه الأمور إذا كانت هي الباعثة على الأخذ للمال ؛ كان ذلك من أدلِّ دليل على شدّة الرغبة في الدنيا والحب لها ، وعدم الزهد فيها ، ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والركون إليها ، والتوسّع فيها ، وكل ذلك أحوال مذمومة ، فنهاه عن الأخذ على هذه الحال ، اجتنابًا للمذموم ، وقمعًا لدواعي النفس ، ومخالفة لها في هواها ، فإن لم يكن لذلك جاز له الأخذ للأمن من تلك العلل المذمومة .
قال الطحاوي : وليس معنى هذا الحديث في الصدقات ، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام على أغنياء الناس وفقرائهم .(4/109)
وقال الطبريّ : اختلف الناس فيما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به عمر ـ رضى الله عنه ـ من ذلك ، بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد ؛ فقيل : هو نذبٌ إلى عطية السلطان وغيره . وقيل : بل ذلك ندبٌ إلى عطية غير السلطان . وأما عطية السلطان فقد حرمها قوم وكرهها آخرون . فأما من حمل الحديث على عطية السلطان ، وأنها مندوبٌ إليها ، فذلك إنما يصحّ أن يقال : إذا كانت أموالهم كما كانت أموال سلاطين السلف ؛ مأخوذة من وجوهها(4) ، غير ممنوعة من مستحقيها . فأما اليوم ؛ فالأخذ إما حرام وإما مكروه ، والله أعلم .
وقوله : (( فلا تتبعه نفسك )) ؛ أي : [ لا](5) تُعَلِّقْها ، ولا تُطمِعْها فيه(6) ، فاذا فعلت ذلك بها سكنت ويئست . وهذا النهي على الكراهة يرشد إلى
المصلحة التي في الأعراض .
---
66- وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ السَّعْدِيِّ الْمَالِكِيِّ أَنَّهُ قَالَ : اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ ، فَقُلْتُ : إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللهِ ، فَقَالَ : خُذْ مَا أُعْطِيتَ ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَعَمَّلَنِي ، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والعُمَالة : ما يعطاه العامل على عمله ، وهي الأجرة ، وعَمَّلَني : أعطاني أجر عملي .(4/110)
وقوله : (( فكل وتصدق )) ؛ يحصل منه أنه حلال طيب ، يصلح للأكل والتصدق وغيرهما . فأما ما لا يكون كذلك ، فلا يصلح لشيء من ذلك كما تقدّم ، وحديث عبد الله بن السعدي هذا فيه انقطاع ، فإن مسلمًا رواه من حديث السائب بن يزيد عن ابن السعدي ، وبينهما رجل ، وهو : حويطب بن عبد العزى ، قاله النسائي وغيره .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي هذا الإسناد أربعة من الصحابة ، يروي بعضهم عن بعض : السائب ، وحويطب ، وعبد الله بن السعدي .
والسعدي اسمه : قدامة . وقيل : عمرو ، وهو قرشي عامري ، مالكي من بني مالك بن حسل .
وهذا الحديث أصل في أن كل من عمل للمسلمين عملاً من أعمالهم العامة : كالولاية ، والقضاء ، والحسبة ، والإمامة ، فأرزاقهم في بيت مال المسلمين ، وأنهم يُعطون ذلك بحسب عملهم .
***************
( 23 ) باب كراهية الحرص على المال والعُمر
67- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ : طُولُ الْحَيَاةِ ، وَحُبُّ الْمَالِ )).
---
68- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ : الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ )).
69- وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كراهية الحرص على المال والعمر(4/111)
أحاديث هذا الباب كلها متواردة على الإخبار عمّا جُبِل الإنسان عليه ؛ من حب المال ، والحرص على البقاء في الدنيا ، وعلى أن ذينك ليسا بمحمودين ؛ بل مذمومين ، ويحقق الذمّ في ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ويتوب الله على 70- وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ ، أَنَهُ بَعَثَ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلاثُمَائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ ، فَقَالَ : أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ ، فَاتْلُوهُ وَلا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا ؛ غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا : (( لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا ، وَلا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ )) ، وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا ؛ غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من تاب )). وقد نص الله تعالى على ذم ذلك في قوله : { ولَتَجِدَنَّ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } ؛ وغيره مما في معناه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه )) ، وقد تقدّم : أن القراء في الصدر الأول هم كانوا الفقهاء ؛ لأنهم إنما كانوا يتفقهون في القرآن ، وحديث أبي موسى هذا يدلّ عليه .(4/112)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم " ؛ يعني به : [ لا تستطيبوا] مدة البقاء في الدنيا ، فإن ذلك مفسد للقلوب بما يجرُّه إليها من الحرص والقسوة ، حتى لا تلين لذكر ، ولا تنتفع بموعظة ولا زجر ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن أَشَرَّ ما أخاف على أمتي اتباع الهوى ، وطول الأمل ، فاتباع الهوى يصدف قلوبكم عن الحق ، وطول الأمل يصرف هممكم إلى الدنيا ، وما بعدهما لأحد خير من دنيا ولا آخرة )).
وقوله : " كنا نقرأ سورة نشبهها في الظول والشدّة ببراءة فأنسيتها " ، وهذا ضرب من النسخ ، فإن النسخ على مانقله علماؤنا على ثلاثة أضرب :
أحدها : نسخ الحكم وبقاء التلاوة .
والثاني : عكسه ، وهو نسخ التلاوة وبقاء الحكم .
والثالث : نسخ الحكم والتلاوة ، وهو كرفع هاتين السورتين اللتين [ذكرهما] أبو موسى ، فإنهما رُفِعَ حُكْمَهُما وتلاوتُهما . وهذا النسخ هو ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
الذي ذكر الله تعالى حيث قال : { مَا نَنْسخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } ؛ على قراءة من قرأها بضم النون ، وكسر السين . وكذلك قوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إلا ما شاء الله } ، وهاتان السورتان مما شاء الله تعالى أن يُنْسِيَه بعد أن أنزله ، وهذا لأن الله تعالى فعال لما يريد ، قادر على ما يشاء ؛ [إذ] كل ذلك ممكن .(4/113)
ولا يتوهم متوهم من هذا وشبهه أن القرآن قد ضاع منه شيء ، فإن ذلك باطل ؛ بدليل قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزْلَنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ، وبأن إجماع الصحابة ومن بعدهم انعقد على أن القرآن الذي تعبدنا بتلاوته وبأحكامه هو ما ثبت بين دفتي المصحف من غير زيادة ولا نقصان ، كما قررناه في أصول الفقه .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } ، هو استفهام على حجة الإنكار والتوبيخ ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله. أما في الماضي فيكون كذابًا ، أو في المستقبل فيكون خُلفًا ، وكلاهما مذموم . وهذا في قوله تعالى : { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } ،
وأما في هذا الحديث ، فإنما يتناول أن يخبر عن نفسه بشيء فعله فيما مضى ، ويتمدح به فقط ، بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فتكتب شهادةً في أعناقكم )).
**************
( 24 ) باب الغنى غِنَى النفس وما يخاف من زهرة الدنيا وفضل التعفف والقناعة
71- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب : الغنى غنى النفس
---(4/114)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ليس الغنى عن كثرة العرض ))- بفتح العين والراء - ، وهو : حُطام الدنيا ومتاعها . فأما " العَرْض "- بفتح العين وسكون الراء - ، فهو : ما خلا العقار والحيوان فيما يدخله الكيل والوزن ، هذا قول أبي عبيد في العَرَض والعَرْض . وفي كتاب العين : " العَرَض " : ما نيل من الدنيا ، ومنه قوله تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } ، وجمعه : عُروض .
ومعنى هذا الحديث : أن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح ، هو غنى النفس ، وبيانه : أنه إذا استغنت نفسه كفّث عن المطامع ، فعزّت وعظمت ، فجعل لها من الحظوة والنزاهة والتشريف والمدح أكثر ممن كان غنيًا بماله ، فقيرًا بحرصه وشرهه ، فإن ذلك يورطه في رذائل الأمور ، وخسائس الأفعال ، لبخله ودناءة همّته ، فيكثر ذامُّه من الناس ، ويصغر قدره فيهم ؛ فيكون أحقر من كل حقير ، وأذل من كل صغير .
72- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا . قَالُوا : وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : (( بَرَكَاتُ الأَرْضِ )) قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ ؟ قَالَ : لا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلا بِالْخَيْرِ ، لا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلا بِالْخَيْرِ ، لا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلا بِالْخَيْرِ .
---(4/115)
وَفِي رِوَايَةٍ " أَوْ خَيْر هُوَ " ، إِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبِطاً أَوْ يُلِمُّ إِلا آكِلَةَ الْخَضِرِ فَإِنَّهَا تَأْكُلُ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ ثُمَّ اجْتَرَّتْ . وَبَالَتْ وَثَلَطَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ ، فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ . وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " زهرة الدنيا " : زينتها ، وما يزهر منها ، مأخوذ من زهرة الأشجار ، وهو ما يصفر من نَوَّارها . و" النوْر " : هو الأبيض منه(3) ، ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا قول ابن الأعرابي . وحكى أبو حنيفة : أن النوْرَ والزهر سواء . وقد فسّرها ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بأنها بركات الأرض ؛ أي : ما تزهر به الأرض من الخيرات والخصب .
---(4/116)
وقول السائل : " وهل يأتي الخير بالشر ؟" سؤال من استبعد حصول شرّ من شيء سماه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " بركات " ، وسماه الله تعالى : { خيرًا } ؛ في قوله تعالى : { وإنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } ، وشبهه مما سُمِّي فيه المال : خيرًا. فلما فهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من سؤاله هذا الاستبعاد أجابه جواب من بقي عنده اعتقاد : أن الخير الذي هو المال قد يعرض له أن يحصل عنه شر ؛ إذا تعدى به حده وأسرف فيه ، ومنع من حقه ، ولذلك قال : " أو خير هو ؟" بهمزة الاستفهام ، وواو العطف الواقعة بعدها المفتوحة على الرواية الصحيحة ، منكرًا على من توهم أنه لا يحصل منه شر أصلاً ، لا بالذات ، ولا بالعرض .
وقوله : (( إن كل ما ينبت الربيع يقتل حَبَطًا أو يُلِمُّ )) ، الربيع : الجدول الذي يسقى به . والجمع : أربعاء . والجدول : النهر الصغير ، الذي ينفجر من النهر الكبير. و"الحبط" : الانتفاخ ، يقال : حبطت الدابة تَحْبط ، إذا انتفخ بطنها من كثرة الأكل ، وربما تموت من ذلك ، وأصل الحبط : الإبطال والإفساد .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنه : { حبطت أعْمَالُكم } ؛ أي : بطلت .
و " يلم " ؛ أي : يقرب من الموت ، وأصله : من ألم بالمكان ؟ إذا نزل به . ومنه قول الشاعر :
متى تأتنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا
أي : تنزل . قال الأزهرى : هذا الخبر إذا [بتر] لم يكد يقهم ، وفيه مثلان ، ضُرب أحدهما للمفرط في جمع الدنيا ومنعها من حقها ، وضرب الآخر للمقتصد في أخذها والانتفاع بها .(4/117)
فاما قوله : (( وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا )) ، فهو مثل المفرط الذي يأخذها بغير حق ؛ وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول والعشب ، فتستكثر منها الماشية ، حتى تنتفخ بطونها لما جاوزت حدّ الاحتمال ، فتنشق أمعاؤها وتهلك ، وكذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها ، ويمنع ذا الحقّ حقه ، يهلك في الآخرة بدخوله النار .
---
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما مثل المقتصد فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إلا آكلة الْخَضِر ... )) إلى آخره ، وذلك أن الْخَضِر ليسث من أحرار البقول التي ينبتها الربيع ، لكنها من الْجَنْبَة التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ، فضرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكلة الخضر من المواشي مثلا لمن يقتصد في أخذه الدنيا وجمعها ، ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها ، فهو ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر ، ألا تراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( فإنها إذا أصابت من الخضر استقبلت عين الشمس ، فمثلطت وبالت )) ؛ أراد أنها إذا شبعت منها بركت مستقبلة الشمس ؛ لتستمريء بذلك ما أكلت ، وتجتر ، وتثلط ، وإذا ثلطته فقد زال عنها الحبط ، وإنما تحبط الماشية لأنها لا تثلط ، ولا تبول . هذا آخر كلام الأزهري .
و" الثلط " : ما تلقيه الماشية سهلاً رقيقًا ، يقال منه : ثَلَطَ يثْلط ثلطًا.(4/118)
و" اجترت " ؛ أي : مضغت جرتها ، وهو ما أخرجته من جوفها إلى فيها مما رعته . و" الخَضِر " : كلأ الصيف . قال الأزهري : هو هنا ضرب من الْجَنْبة . وهي من الكلأ ماله أصل غامض في الأرض ، واحدتها خضرة . 73- وَعَنْهُ ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَعْطَاهُمْ ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ ، قَالَ : (( مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
ووقع في رواية العذري : " إلا آكلة الخَضِرة - بفتح الخاء ، وكسر الضاد - على الإفراد . كما قال الأزهري . وعند الطبري : الْخُضْرَة : بضم الخاء ، وسكون الضاد . والرواية الصحيحة : " إلا [آكلة] الخضرة " بـ"إلا " المشددة ، للاستثناء ، وهو الواضح . ووقع لبعضهم : " ألا " ، التي للاستفتاح ، وبُعْدُها واضح ، وفيها تكلُّف .
وقوله : (( ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة )) ؛ يحتمل البقاء على ظاهره ، وهو أنه يجاء بماله يوم القيامة فينطق الصامت منه بما فعل فيه ، أو يمثل له أمثال حيوانات ، كما جاءت في مال مانع الزكاة من أنه يمثل له(4) شجاعًا أقرع(5) ، أو يشهد عليه الموكلون بكتب الكسب والإنفاق وإحصاء ذلك ، والله تعالى أعلم .
74- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ ، وَرُزِقَ كَفَافًا ، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ومن يستعفف )) ؛ أي : عن السؤال للخلق .(4/119)
(( يعفه الله )) ؛ أي : يجازه فضيلة التعفف على استعفافه بصيانة وجهه ، ورفع فاقته .
وقوله : (( ومن يستغن )) ؛ أي : بالله ، وبما أعطاه .
(( يغنه )) ؛ أي : يخلق في قلبه غنىً ، أو يعطيه ما يستغني به عن الخلق .
وقوله : (( ومن يتصبر )) ؛ أي : يستعمل الصبر .
و (( يصبّره )) : يقوه ، ويمكنه من نفسه حتى تنقاد له ، وتذعن لتحمّل الشدائد ، وعند ذلك يكون الله معه ، فيظفره بمطلوبه ، ويوصله إلى مرغربه .
وقوله : (( قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا )) ؛ قد قدّمنا بيان الفلاح ما هو لغةً وعرفًا في كتاب الإيمان .
و (( الكفاف )) : ما يكف عن الحاجات ، ويدفع الضرورات والفاقات ، ولا يلحق بأهل الترفهات .
ومعنى هذا الحديث : أن من فعل تلك الأمور ، واتصف بها ، فقد حصل على مطلوبه ، وظفر بمرغوبه في الدُّنيا والآخرة .
---
75- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا )) ؛ أي : ما يقوتهم ويكفيهم ، بحيث لا يشوشهم الجهد ، ولا تُرهقهم الفاقة ، ولا تذلهم المسألة والحاجة ، ولا يكون أيضًا في ذلك أيضًا فضول يخرج إلى الترف والتبسط في الدنيا ، والركون إليها .
وهذا يدل على زهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدنيا ، وعلى تقلله منها ، وهو حجة لمن قال : إن الكفاف أفضل من الفقر والغنى . وقد تقذم القول في هذه المسألة في كتاب الصلاة ، وستأتي .
*************
( 25 ) باب إعطاء السائل ولو أفحش في المسألة(4/120)
76- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : قَسَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَسْمًا فَقُلْتُ : وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَغَيْرُ هَؤُلاءِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ قَالَ : إِنَّهُمْ خَيَّرُونِي بَيْن أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أَوْ يُبَخِّلُونِي فَلَسْتُ بِبَاخِلٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إعطاء السائل ولو أفحش في المسألة
قوله : "قسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَسمًا" ، كذا رويناه بفتح القاف ، وهو المصدر ، ومعناه : فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل القسم ، والقسم بالكسر : الحظ والنصيب ، وهو غير مراد هنا ، فإنه لم يقسم نصيب أحد ، وإنما فعل القسم في المقسوم .
وقوله : (( إنهم خيروني ... )) ، الخ ؛ معناه : إنهم ألَحُّوا عليه في المسألة ، واشْتَطُّوا في المسؤول ، وقصدوا بذلك أحد شيئين ؛ إما أن يصلوا إلى ما طلبوه ، أو ينسبوه إلى البخل ، فاختار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يقتضيه كرمه من إعطائهم ما سألوه ، وصبره على جفوتهم ، فسلم من نسبة البخل إليه ؛ إذ لا يليق به ، وحلم عنهم كي يتألفهم .
---
وكان عمر ـ رضى الله عنه ـ عتب عليه في ذلك ، نظرًا إلى [أن] أهل الدّين ، والغَنَاء فيه أحق بالمعونة عليه ، وهذا هو الذي ظهر لسعد بن أبي وقاص ، فأعلمهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمصالح أخر لم تحظر لهم ، هي أولى مما ظهر لهم .(4/121)
77- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ : ثُمَّ جَبَذَهُ إِلَيْهِ جَبْذَةً رَجَعَ نَبِيُّ اللهِ فِي نَحْرِ الأَعْرَابِيِّ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَجَاذَبَهُ حَتَّى انْشَقَّ الْبُرْدُ وَحَتَّى بَقِيَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " وعليه رداء نجراني " ؛ أي : من عمل أهل نجران ، وهذا يدل على إيثاره ـ صلى الله عليه وسلم ـ التقلُّل من الدنيا والتبلُّغ فيها بما أمكن في اللباس والمطعم وغيره ، وأنه في الدنيا لم يكن بالذي يترفه في الدنيا ، ولا يتوسع فيها .
وهذا الحديث يدل على ما وصف الله به نبيّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه على خلق عظيم ، وأنه رؤوف رحيم . فإن هذا الجفاء العظيم الذي صدر من هذا الأعرابي ، لا يصبر عليه ، ولا يحلم عنه مع القدرة عليه إلا مثله ، ثم ضحكه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند هذه الجبذة الشديدة التي انشق البرد لها ، وتأثر عنقه بسببها ، حتى انفلت عن ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/122)
وجهته ، ورجع إلى نحر الأعرابي ؛ دليل على أن الذي تَمَّ له من مقام الصبر والحلم ما تم لأحد ، وهذا نظير صبره وحلمه يوم أحد ؛ حيث كسرت رباعيته ، وشج في وجهه ، وصرع على جنبه ، وهو في هذا الحال يقول : ((اللهم اغفز لقومي فإنهم لا يعلمون )) ، صلى الله عليه وسلم ، وشرّف وكرّم.
************
( 26 ) باب إعطاء المؤلفة قلوبهم
78- عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ : قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَقْبِيَةٌ فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ : انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْه شَيْئًا قَالَ : فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَوْتَهُ فَخَرَجَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ ، وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ وَهُوَ يَقُولُ : (( خَبَأْتُ هَذَا لَكَ ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ : فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ : (( رَضِيَ مَخْرَمَةُ )).
وَقَدْ تَقَدَمَ قَوْلُ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إَنِي لأُعْطِي الرَجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَُ فِي النَارِ عَلَى وَجْهِه )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إعطاء من يخاف على إيمانه
قوله : " قدمت أقبية ، فقال أبي : انطلق عسى أن يعطينا منه " ؛ كذا وقع في رواية : " منه " بضمير الواحد ، وكأنه عائد على نوع الأقبية في المعنى . ووقع في رواية أخرى : " منها " ، أخرى : (منها) وهي الظاهرة .(4/123)
79- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُعْطِي رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ فَقَالُوا : يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
و "الأقبية" : جمع قباء ، وهو فارسي معرَّب ، وقيل : هو عربيّ ، واشتقاقه : من القبو ، وهو الضمُّ والجمع . حكاه أبو الفرج الجوزي عن شيخه أبي منصور اللغوي.
وقوله : " حين أفاء الله " ؛ أي ردّ ورجع ، والفيء : الرجوع ، ومنه سُمّي الظل بعد الزوال : فيئًا ؛ لأنه رجع من جانب المغرب إلى جانب المشرق.
وكان الأموال التي بأيدي الكفار كانت بالأصالة للمؤمنين ، إذ الإيمان هو الأصل ، والكفر طاريء عليه ، فغلب الكفار على تلك الأموال ، فإذا غنم المسلمون منها شيئًا رجعت إلى من كان يملك أصلها .
وقوله : "فطفق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ؛ أي : جعل ، وهي من أخوات "كاد" ،(4/124)
وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ . قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : فَحُدِّثَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ قَوْلِهِمْ ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ ؟ )) فَقَالَ لَهُ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ : أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا ، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ قَالُوا : يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِهِ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالاً حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ ، أَفَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللهِ ؟ فَوَاللهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ )). فَقَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ! قَدْ رَضِينَا ، قَالَ : (( فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ ، فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ )) قَالُوا : سَنَصْبِرُ .
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلا أنها متصلة بالفعل الذي هو خبرها ، و" كاد " مقاربة مفارقة . وقد تقدم الكلام عليها . و" الأدم " : الجلد .
وقوله : (( فإنكم ستجدون أثرة شديدة )) ، روي عن العذري والطبري ، وهي روايتنا : " أَثَرَة "- بفتح الهمزة والثاء . قال أبو عبيد : أي : يُسْتَأْثر عليكم فيفضل غيركم نفسه عليكم في [الفيء ]. والأثرة : اسم من : آثر يؤثر إيثارًا. قال الأعشى :
استأثر الله بالبقاء وبالعدل وولى الملامة الرجلا(4/125)
وَفِي رِوَايَةٍ : جَمَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأَنْصَارَ فَقَالَ : (( أَفِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ ؟ )) فَقَالُوا : لا إِلا ابْنُ أُخْتٍ لَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ )) ، فَقَالَ : (( إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى بُيُوتِكُمْ ؟ لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال : سمعت الأزهري يقول : الأثرة : الاستشار. والجمع : الأُثُر . وعند أبي بحر في هذا الحرف بضم الهمزة وسكون الثاء . وأصل الأثرة : الفضل . قال أبو عبيد : يقال : عليّ أثرة له ؛ أي : فضل ، ومعناها قريب من الأولى . وقيد عن علي أبي الحسين بن سراج الوجهين .
و "الوادي" : مجرى الماء المتسع . و"الشعب" : الطريق في الجبل . و"الشعار" : الثوب الذي يلي الجسد . و"الدثار" : الذى يلي الشعار . ومعناه : أن الأنصار هم خاصته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبطانته ، وليس كذلك غيرهم .
و " الطُلَقاء " : هم الذين مَنَّ عليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، [ وخلَّى سبيلهم] يوم فتح مكة . وأصله : أنه أطلقهم ، بعدما حصلوا في وثاقه .
---
وقوله : (( ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار )) ؛ أي : أتسمى باسمهم ، وأنتسب إليهم ، كما كانوا يتناسبون بالحلف. لكن خصوصية الهجرة ومرتبتها(4/126)
وَفِي أُخْرَى : فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ غَنَائِمَ كَثِيرَةً ، فَقَسَمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ : إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ فَنَحْنُ نُدْعَى وَتُعْطَى الْغَنَائِمُ غَيْرَنَا ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ ، فَقَالَ : مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ ؟ وَذَكَرَ نَحْوِ مَاتَقَدَمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبقت وعَلِقَت ، فهي أعلى وأشرف ، فلا تبدل بغيرها ، ولا ينتفي منها من حصلت له .
وقول القائل في قسمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، أو : ما عدل فيها " ؛ قول جاهل بحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، غليظ الطبع ، حريص ، شره ، منافق . وكان حقه أن يُقتل ؛ لأنه آذى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، فالعذاب في الدنيا هو : القتل ، لكن لم يقتله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمعنى الذي قاله ، وهو من حديث جابر : (( لا يتحدّث الناس : أن محمدًا يقتل أصحابه )) ، ولهذه العلة امتنع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قتل المنافقين ، مع علمه بأعيان كثير منهم ، وبنفاقهم . ولا يلتفت لقول من قال بإبداء علة أخرى ؛ لأن حديث جابر وغيره نصٌّ في تلك العلة ، وقد أُمِنت تلك العلة بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلا نفاق بعده ، وإنما هو الزندقة ، كذلك قال مالك - رحمه الله - ، فمن آذى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو سبّه قتل ولا يستتاب ، وهذا هو الحق والصواب .
واختلف في هذا العطاء الذي أعطاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هؤلاء(2) المؤلفة قلوبهم .
---(4/127)
80- وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الْغَنَائِمَ فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّ الأَنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ : (( قَالَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي ؟ وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللهُ بِي ؟ " وَيَقُولُونَ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ . فَقَالَ : (( أَلا تُجِيبُونِي ؟ " فَقَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ فَقَالَ : أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا كَذَا وَكَذَا وَكَانَ مِنَ الأَمْرِ كَذَا وَكَذَا لأَشْيَاءَ عَدَّدَهَا . زَعَمَ عَمْرٌو أَنْ لا يَحْفَظُهَا . فَقَالَ : (( أَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالإِبِلِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى رِحَالِكُمْ ؟ الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ ، وَلَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ. إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل كان من الخمس ، أو كان من صلب الغنيمة ؟ والأجرى على أصول الشريعة أن يكون من الخمس ، ومنه أكثر عطاياه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم )).
---(4/128)
81- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ مَسْعُودٍ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ . وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ فَقَالَ رَجُلٌ : وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللهِ . قَالَ فَقُلْتُ : وَاللهِ لاُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ قَالَ : (( فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ ؟ " ثُمَّ قَالَ : (( يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والظاهر من مراجعة الأنصار ، وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير ، وترجعون برسوله لله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى رحالكم )) ؛ أنه كان من ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صلب الغنيمة ، وأن ذلك إنما كان لما يعلم من رضى أصحابه بذلك ، ولطيب قلوبهم به ، أو يكون هذا مخصوصًا بتلك الواقعة ، وله أن يفعل ما شاء في الأموال والرقاب .
والأصل : التمسك بقواعد الشريعة على ما تقررت ، والله أعلم .
وقوله : " فتغير وجهه حتى صار كالصِّرف "- بكسر الصاد ، وهو صبغ أحمر تصبغ به الجلود ، وقد يسمى الدم : صرفًا ، قاله ابن دريد .
*************
( 27 ) باب يَجِبُ الرضا بما قسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبما أعطى ويكفر من نَسبَ إليه جَوْرَاً وذكر الخوارج
---(4/129)
82- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ : أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ . وَفِي ثَوْبِ بِلالٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِي النَّاسَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ . فَقَالَ : (( وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ؟ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ )) ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رضى الله عنه ـ : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ . فَقَالَ : (( مَعَاذَ اللهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي ، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب يجب الرضا بما قسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
" الجِعرَّانَة " : موضع خارج مكة ، وهو ميقات من مواقيت العمرة ، يقال : بكسر العين وتشديد الراء ، وبسكون العين وتخفيف الراء .
و " مُنْصَرَفه "- بفتح الراء - : وقت انصرافه .
---(4/130)
83- وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَسَأَلاهُ عَنِ الْحَرُورِيَّةِ : هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَذْكُرُهَا ؟ قَالَ : لا أَدْرِي مَنِ الْحَرُورِيَّةُ وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ - وَلَمْ يَقُلْ : مِنْهَا - قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ ، وصِيَامِكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ ، فَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُوقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ . هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَيْءٌ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لقد خبت وخسرت )) ؛ رويت بضم التاء وفتحها . فأما الضم ، فمعناه واضح . وأما الفتح : فعلى معنى : إني إن جرت ، فيلزم أن تجور أنت من جهة أنك مأمور باتباعي ، فتخسر باتباعك(2) الجائر ، هذا معنى ما قاله الأئمة (3).
---(4/131)
84- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ : بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى الْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا قَالَ : فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ : بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاءِ قَالَ : فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( أَلا تَأْمَنُونِي ؟ وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ مَسَاءً وَصَبَاحًا قَالَ : فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الإِزَارِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ اتَّقِ اللهَ . فَقَالَ : (( وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ ؟ " قَالَ : ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ . فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : يَا رَسُولَ اللهِ أَلا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ : (( لا . لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي " قَالَ خَالِدٌ : وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ " قَالَ : ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ : (( إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ رَطْبًا لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، قَالَ : أَظُنُّهُ قَالَ : (( لَئِنْ أنَا أَدْرَكْتُهُمْ(4/132)
لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ )).
---
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : ويظهر لي وجة آخر ، وهو أنه كأنه قال له : لو كنتُ جائرًا لكنت
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فَمَنْ يُطِعِ اللهَ إِنْ عَصَيْتُهُ أَيَأْمَنُنِي الله عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلا تَأْمَنُونِي ؟ " وَفِيهَا : (( إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنت أحق الناس بأن يجار عليك ، وتلحقك بادرة الجور الذي صدر عنك ، فتعاتب عقوبة معجلة في نفسك ومالك وأهلك ، وتخسر كلَّ ذلك بسببها ، لكن العدل هو الذي منع من ذلك . وتلخيصه : لولا امتثال أمر الله تعالى في الرفق بك ؛ لأدركك الهلاك والخسارة.
و " يمرقون " : يخرجون ، كما قد فسّره في الحديث الآخر ، وبهذا اللفظ سُمُّوا : المارقة والخوارج ؛ لأنهم مرقوا عن الدين ، وخرجوا على خيار المسلمين . والخوارج : جمع خارجة ؛ يعني به : الطائفة والجماعة .
و " الرَّمِيَّة " : المرمية ، فعيلة ؛ بمعنى مفعولة .
و" الحناجر " : الحلوق ، جمع حنجرة ، وهي الحلاقيم أيضًا .
---(4/133)
85- وَعَنْهُ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ اعْدِلْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ؟ قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ )) ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : يَا رَسُولَ اللهِ ! ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْقِدْحُ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَر ، يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ )). قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ـ رضى الله عنه ـ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَوُجِدَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الَّذِي نَعَتَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/134)
و " الضِّئْضيء "- بضادين معجمتين - ، وهو : الأصل ، وله أسماء كثيرة : النَّجَار ، والنَحاز ، والسِّنْخ ، والعنصر ، والعيص ، وغير ذلك مما ذكره .
---
86- وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومعنى : (( لا يجاوز حناجرهم )) : لا يفهمونه ، ولا يعملون بمعناه .
(( ونضل السهم )) : حديدته ، و(( رصافه )) : مدخل السهم في النصل . و((نضيه )) : قدحه ، وهو عوده . و(( قذذه )) : ريشه ، جمع قُذَّة . و(( فُوقه )) : هو الْحَزّ الذي يدخل فيه الوتر . و(( العقبة )) ، التي تجمع الفوق هي : الأُطْرَة .
قال ابن قتيبة : الرُّعْظُ : مدخل النصل في السهم. والرصاف : العقب الذي فوق الرُّعظ. قال الهروي : والرَّصَفَةُ : عقبة تلوى على مدخل النصل في السهم.
قلت : ومقصود هذا التمثيل : أن هذه الطائفة خرجت من دين الإسلام ، ولم يتعلَّق بها منه شيء ، كما خرج هذا السهم من هذه المرمية ، الذي لشدَّة النزع ، وسرعة السهم ، سبق خروجُه خروج الدم ، بحيث لا يتعلق به شيء ظاهر ، كما قال : سبق الفرث والدم .
وبظاهر هذا التشبيه تمسّك من حكم بتكفيرهم من أئمتنا ، وقد توقف
وَفِي لَفْظٍ آخَر : تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلاهُمْ بِالْحَقِّ " قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَأَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في تكفيرهم كثير من العلماء لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فيتمارى في الفوق )) ، وهذا يقضي بأنه يشك في أمرهم فيتوقف فيهم ، وكأن القول الأول أظهر من الحديث .(4/135)
فعلى القول بتكفيرهم يُقاتَلون ويُقتلون ، وتُسبى أموالُهم ، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج.وعلى قول من لا يكفرهم : لا يُجْهز
---
على جريحهم ، ولا يتبع منهزمهم ، ولا يُقتل أسراهم ، ولا تستباح أموالهم . وكل هذا إذا خالفوا المسلمين ، وشقّوا عصاهم ، ونصبوا راية الحرب .
فأما من استتر ببدعته منهم ولم ينصب راية الحرب ، ولم يخرج عن الجماعة : فهل يُقتل بعد الاستتابة ، أو لا يقتل ؟ وإنما يجتهد في ردّ بدعته ، وردّه عنها ؟ اختُلف في ذلك ، وسبب الخلاف في تكفير من هذه حاله : أن باب التكفير باب خطير ، أقدم عليه [كثير] من الناس فسقطوا ، وتوقف فيه الفحول فسلموا ، ولا نعدل بالسلامة شيئًا .
والحروربة : الخوارج . سُمّوا بذلك ؛ لأنهم خرجوا من حروراء ، وهي حرّة معروفة بالعراق .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( بَذَهَبة في أديم مقروظ )) ؛ الذهبة : تأنيث الذهب . وكأنه ذهب به إلى معنى القطعة ، أو الجملة . و" الأديم" : الجلد . و" المقروظ " : المدبوغ بالقَرَظ ، وهو شجر يدبغ [ به ].
وقوله : "والرابع إما علقمة ، وإما عامر " ، هذا شكّ ، وهو وهَمٌ . وذكر "عامر" هنا خطأ ، فإن عامرًا هلك قبل ذلك بسنين ، ولم يدرك هذا الحين. والصواب : علقمة بن علاثة ، كما جاء في الحديث الآخر من غير شك .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنا أمينُ من في السماء )) ؛ لاحجة فيه لمن يرى أن الله تعالى يختص بجهة فوق ؛ لما تقدم من استحالة الجسمية ، وأيضًا : فيحتمل أن يراد بـ (( من في السماء )) : الملائكة ، فإنه أمين عندهم ، معروف بالأمانة . أو السماء ؛ بمعنى العلو والرفعة المعنوية . وهكذا القول في قوله تعالى : { أأمنتم(4/136)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من في السماء }. وقد تقدّم أن التسليم في المشكلات أسلم .
---
و (( مشرف الوجنتين )) : مرتفعهما . و(( كث اللحية )) : كثيفها ، قصير شعرها ، يقال : رجلٌ كث اللحية ، بَيِّنُ الكثافة والكثوفة ، وأَكَثّ. و(( ناشز الجبهة )) : باديها ومرتفعها . و(( مُقْف )) : مولٍ قفاه .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي هذا الحديث : أن خالدًا ـ رضى الله عنه ـ قال : يا رسول الله ! ألا أضرب عنقه ؟ وفي حديث جابر : أن عمر بن الخطاب قال : دعني يا رسول الله ، فأقتل هذا المنافق . لا إشكال فيه ؛ إذ الجمع ممكن ، بأن يكون كل واحد منهما قال ذلك . وأجيب كل راحل! منهما بغير ما أجيب به الآخر ، والله أعلم .
وقوله : (( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد )) ، وفي الأخرى : (( قتل ثمود )) ، ووجه الجمع : أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال كليهما ، فذكر أحد الرواة أحدهما ، وذكر الآخر الآخر . ومعنى هذا : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقتلهم قتلاً عامًا ؛ بحيث لا يبقى منهم أحدًا في وقت واحد ، لا يؤخر قتل بعضهم عن بعض ، ولا يقيل أحدًا منهم ، كما فعل الله بعاد ؛ حيث أهلكهم بالريح العقيم ، وبثمرد حيث أهلكهم بالصيحة .
وقوله : (( لعله أن يكون يصلي )) ؛ هو مردود للمعنى الذي قدّمناه ؛ من أنه إنما امتنع من قتله ؛ لئلا يُتَحدَّث : أنه يقتل أصحابه المصلّين ، فيكون ذلك مُنَفِّرًا ، وإلا فقد صدر عنه ما يوجب قتله لولا المانع .
وقوله : (( لم أُومر أن أنقب على قلوب الناس )) ؛ [ أي ](2) : إنما أُمرت أن
---(4/137)
87- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آخذ بظواهر أمورهم ، وأكل بواطنهم إلى الله تعالى . وهذا كما قال : ((أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله )).
وقوله : (( يتلون كتاب الله رطبًا )) ؛ فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الحذق بالتلاوة ، والمعنى : أنهم يأتون به على أحسن أحواله.
والثاني : يواظبون على تلاوته ، فلا تزال ألسنتهم رطبة به .
والثالث : أن يكون من حسن الصوت بالقراءة .
---(4/138)
وقوله : (( يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إخبار عن أمر غيب وقع على نحو ما أخبر عنه ، فكان دليلاً من أدلة نبوّته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، 88- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلا صَلاتُكُمْ إِلَى صَلاتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لا تُجَاوِزُ صَلاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ " لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لاتَّكَلُوا عَلى الْعَمَلِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً لَهُ عَضُدٌ وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَتَتْرُكُونَ هَؤُلاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلاءِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذلك : أنهم لما حكموا بكفر مَن خرجوا عليه من المسلمين ، استباحوا دماءهم ، وتركوا أهل الذمة ، وقالوا : نَفِي لهم بذمتهم ، وعدلوا عن قتال المشركين ، واشتغلوا بقتال المسلمين عن قتال المشركين .
---(4/139)
وهذا كله من آثار عبادات الجهّال ، الذين لم يشرح الله صدورهم بنور العلم ، ولم يتمسكوا بحبل وثيق ، ولا صحبهم في حالهم ذلك توفيق . وكفى بذلك أنّ مُقَدَّمهم ردّ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَمْرَه ، ونسبه إلى الجور ، ولو تبصّر لأبصر عن قرب أنه لايتصوّر الجوّر والظلم في حق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كما لا يتصوّر
قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ : فَنَزَّلَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلاً . حَتَّى قَالَ : مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ فَقَالَ لَهُمْ : أَلْقُوا الرِّمَاحَ وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلُّوا السُّيُوفَ وَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ . قَالَ : وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلا رَجُلانِ . فَقَالَ عَلِيٌّ : الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَقَامَ عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالَ : أَخِّرُوهُمْ فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الأَرْضَ ، فَكَبَّرَ ، ثُمَّ قَالَ : صَدَقَ اللهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ قَالَ : فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آلله الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ قَالَ إِي وَاللهِ الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلاثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/140)
في حق الله تعالى ؛ إذ الموجودات كلها ملك لله تعالى ، ولا يستحق أحد عليه حقًّا ، فلا يُتصوّر في حقه شي من ذلك . والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبلغ حكم الله تعالى ، فلا يُتصوّر في حقه من ذلك ما لا يتصور في [حق] مرسله . ويكفيك من جهلهم وغلوّهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصحَّة إيمانه ، وبأنه من أهل الجنة ، كعليّ وغيره [من صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مع ما وقع في الشريعة ، وعلم على القطع والثبات من شهادات الله ررسوله لهم ، وثنائه على عليّ ـ رضى الله عنه ـ والصحابة عمومًا وخصوصًا ](1).
89- وَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالُوا : لا حُكْمَ إِلا لِلَّهِ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : " كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَصَفَ نَاسًا إِنِّي لأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلاءِ ، يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ - وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ - ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صفة المخدّج : (( إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، ومثل البضعة تدرْدر )) ، وفي رواية : (( طبي شاة ، أو ضرع شاة )). والضرع : للشاة والبقرة . والخلف : للناقة . قال أبو عبيد : الأخلاف لذوات الخفّ ، ولذوات الظلف ، والثدي : للمرأة . والثندوة للرجل .
وتدردر ؛ أي : تتحرك وتضطرب . قال ابن قتيبة : تذهب وتجيء . وصيغة " تَفَعْلَل " تنبيئ على التحرك والاضطراب ، مثل : تقلقل ، وتزلزل ، وتَدَهْدَهَ الحجر .
وفي "الأم" : قال عليّ - وذكر الخوارج - : " فيهم رجل مخدج اليد ، أو
---(4/141)
مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ أَوْ حَلَمَةُ ثَدْيٍ" ، فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : انْظُرُوا فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا فَقَالَ : ارْجِعُوا فَوَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا . ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ . قَالَ عُبَيْدُ اللهِ : وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِيهِمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مؤدن اليد ، أو مثدن اليد " ، على لفظ الشك ، وقال بعضهم : مثدون . وكذا هو عند العذري ، والطبري ، والباجي . فأما : " مخدج اليد " : فناقصها. و" مثدن اليد ومثدونها " : صغيرها ومجتمعها ، بمنزلة ثندوة الرجل . وكأن أصله مثند ، فقدمت الدال على النون ، كما قالوا : جذب وجبذ.
وقيل معناه : كثير اللحم . قال ابن دريد : ثدن الرجل ثدنًا ، إذا كثر لحمه وثقل ، وعلى هذا لا يكون في الحرف قلب . فأما مؤدن ، فقال أبو مروان بن سراج : يهمز ولا يهمز . قال ابن دريد : رجل مودن ، ناقص الْخَلق . وودن ومودن ، وكله بالدال المهملة .
والذي يجمع شتات هذه الأحاديث في صفة يد هذا المخدج ، ويبين صفتها ما جاء في حديث زيد بن وهب الذي قال فيه : (( وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد ، ليس له ذراع ، على رأس عضده مثل حلمة الثدي ، عليه شعرات بيض )) ، وهذه الرواية : هي أحسن الروايات وأكملها وأبينها .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---(4/142)
وقوله : (( يخرجون على خير فرقة )) ؛ كذا لأكثر الرواة ، وعند السمرقندي وابن ماهان : (( على حين فرقة ))- بالنون والحاء - وكلاهما صحيح . فإنهم خرجوا حين افترق الناس فرقتين ، فكانت فرقة [مع] معاوية ترى رأيه ، وتقاتل معه ، وفرقة مع عليّ ـ رضى الله عنه ـ ترى رأيه ، وتقاتل معه . وخرجت هذه الطائفة على عليّ ومعه معظم [الصحابة] ـ رضى الله عنهم ـ . ولا خلاف أنه الإمام العدل ، وأنه أفضل من معاوية ومن كل من كان معه ، فقد صدق على فرقة علي ـ رضى الله عنه ـ أنهم خير [الفرق] ، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((تقتلهم أَوْلى الطائفتين بالحق )) ،
ولا خلاف في أن عليًّا قتلهم ، ففرقته خير فرقة . وهذا اللفظ يدل على أن ما وقع بين علي معاوية فيه لله تعالى حكمٌ معين ، وأن عليًّا ـ رضى الله عنه ـ هو الذي أصابه ، والله أعلم .
وقوله : (( سبق الفرث والدم )) ، الفرث : ما يخرج من الكرش . وهذا لسرعة السهم وشدة النزع . وظاهره : أنه لم يصبه شيء إلا أنه مقيَّد بالحديث الآخر الذي قال فيه : (( يتمارى في النوق )).
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " الحرب خَدْعة " ؛ اللغة الفصيحة في " خَدْعة " فتح الخاء وسكون الدال ، وهو الذي حكاه ابن السكيت وأبو عبيد ، وهي لغة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحكى فيها بعض اللغويين ضم الخاء وسكون الدال ، وحكي فيها لغة ثالثة ، وهي أقلها : "خُدَعَة"- بضم الخاء ، وفتح الدال - ، فـ"خذعة"- بالفتح- ؛ أى : ذات خداع ، فإنها مصدر محدود بالهاء . فأما " خَدْعة " و"خُدعة" ، فنحو : " ضَحكة " و"ضُحكة" ، كما تقدم .(4/143)
وقوله : (( يقولون من خير قول البرية )) ، قال بعض علمائنا : يعني بذلك ما صدر عنهم من قولهم : " لا حكم إلا لله " ، وذلك حين التحكيم ، ولما سمعهم علي ـ رضى الله عنه ـ قال : " كلمةُ حقٍّ أريد بها باطل ".
---
وقوله : (( لا تجاوز صلاتُهم تراقيَهم )) ؛ هو كناية عن أنها لا تقبل ، ولا ينتفعون بها ، أو يعني بذلك : أن دعاءهم لا يسمع ، والله أعلم .
وقوله : (( لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قض لهم على لسان نبيهم لاتَّكلوا على العمل )) ، " قضى " معناه : حكم به ، وأخبر عن ثوابه ، والعمل يعني به : قتلهم ، والألف واللام في العمل للعهد ، فكأنه قال : لاتَّكلوا على ثواب ذلك العمل ، واعتَمدوا عليه في النجاة من النار والفوز بالجنة ، وإن كانت 90- وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ : يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأعمال لا تُحصّل ذلك ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لن ينجي أحدًا منكم عمله )) ، لكن ذلك العمل الذي هو قتلهم عظيم ، وثوابه جسيم ، بحيث لو اطلع عليه صاحبه ؛ لاعتمد عليه ، وظن أنه هو الذي ينجيه .
والرواية في ذلك اللفظ : " لاتَّكلوا " بلام ألف ، وبالتاء باثنتين ، من التوكُّل ، وقد صحّفه بعضهم فقال : "لنكلوا " بالنون من النكول عن العمل ؛ أي : لا يعملون شيئًا ؛ اكتفاة بما حصل لهم من ثواب ذلك . وهذا معنى واضح لو ساعدته الرواية .
و "العضد" : ما بين المنكب والمرفق . و"حلمة الثدى" : الأنبوبة التي يخرج منها اللبن ، وتسمى السعدانة . و"سرح الناس" : مواشيهم .(4/144)
وقول سلمة : " فنزلني زيد منزلاً " ؛ أي : أخبرني بالمواضع التي نزلها علي مع جيشه واحدًا واحدًا ، وصوابه : " منزلاً منزلاً " مرتين ؛ لأن معناه : أخبرني بالمنازل مفصَّلة ، فهو منصوب على الحال ، كما تقول العرب : علّمته ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
الحساب بابًا [بابًا]. ولا يكتفي في هذا النوع بذكره مرة واحدة ؛ لأنه لا يفيد ذلك المعنى ، غير أنه وقع هنا " منزلاً " مرة واحدة ، لجميع رواة مسلم فيما أعلم .
وقد جاء من كتاب النسائي : " منزلاً منزلاً ، وهو الصحيح .
وقول زعيم الخوارج : " ألقُوا الرماح ، وسُلُّوا السيوف " ؛ فكان في هذا الرأى فتح للمسلمين ، وصيانة لدمائهم ، وتمكين من ا لخوارج ؛ بحيث تُمُكّنَ منهم بالرماح ، فَطُعِنُوا ولم يكن لهم بما يطعنون أحدًا ، فَقُتِلوا عن بكرة أبيهم ، [ ولم ] يقتل من المسلمين سوى رجلين ، فنعوذ بالله من تدبير يقود إلى تدمير .
وقوله : " فوحَّشوا برماحهم " ؛ أي : رموها ، أي صيروها كالوحش بعيدة منهم ، وقد جاء في حديث : " فوحّشوا باسنَّتِهم ، واعتنق بعضهم بعضًا". وهو مُشَدَّد الحاء ، يقال : وحّش الرجل ، إذا رمى بثوبه وسلاحه مخافة أن يلحق ، قال الشاعر :
91- وَمِنْ حَدِيثِ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ ، عَنِ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( يَتِيهُ قَوْمٌ قِبَلَ الْمَشْرِقِ مُحَلَّقَةٌ رُءُوسُهُمْ يَقْرَءُونَ القُرْآن )) نَحْوَ مَاتَقَدَمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن أنتم لم تطلبوا بأخيكم فذروا السلاح ، ووحِّشوا با لأبرق
وقوله : " وشجرهم الناس برماحهم " ؛ أي : داخلوهم وطاعنوهم . قال ابن دريد : تشاجر القوم بالرماح ، إذا تطاعنوا بها ، ومنه : التشاجر في الخصومة .(4/145)
وعبيدة السلماني - بفتح العين وكسر بائه - ، والسلماني - بفتح اللام وسكونها معًا ، وبالسكون وحده - ؛ ذكره الجيّاني قال : هو منسوب إلى سلمان .
وقوله : " الله الذي لا إله إلا هو " ؛ تقييده بمدة وهمزة ، فالهمزة عوض من باء القسم ، وهو قسم أُقسم عليه به ؛ لتزيد طمأنينة قلبه ، لا ليدفع شكًّا عن نفسه .
---
وقوله : (( يتيه قوئم قِبَل المشرق )) ؛ أي : يتحيّرون ويذهبون في غير وجه صحيح ، يقال : تاه الرجل : إذا ذهب في الأرض غير مهتدٍ . ومنه تيه ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بني إسرائيل . و" قبل المشرق" ؛ يدل على صحة تأويل من تأول : " قرن الشيطان" بأنهم الخوارج ، والفتن التي طلعت من هناك ، والله أعلم .
وقوله : (( مُحَلّقة رؤوسهم )) ، وفي حديث آخر : (( سيماهم التحليق )) ؛ أي : جعلوا ذلك علامةً لهم على رفضهم زينة الدّنيا ، وشعارًا ليعرفوا به ، كما يفعل كثيرٌ من رهبان النصارى ، يفحصون عن أوساط رؤوسهم . وقد جاء في وصفهم مرفوعًا : (( سيماهم التسبيد )) ؛ أي : الحلق ، يقال : سَبَّدَ رأسه ، إذا حلقه .
وهذا كلُّه منهم جهل بما يُزهد فيه ، وما لا يُزهد [فيه] ، وابتداع منهم في دين الله تعالى شيئًا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدون وأتباعهم على خلافه ، فلم يُرو عن واحد منهم أنهم اتسموا بذلك ، ولا حلقوا رؤوسهم ، في غير إحلال ولا حاجة .
وقد كان لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شعر ، فتارة فرقه ، وتارة صيَّره جمَّة ،
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأخرى لِمَّة .
وقد روي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( من كانت له شعرة أو جمة فليكرمها )) ، وقد كره مالك الحلاق في غير الإحرام ، ولا حاجة ضرورة .(4/146)
*************
( 28 ) باب لا تَحِلُّ الصدقة لمحمد ولا لآلِ محمد
ومن يستعمل على الصدقة
92- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كِخْ كِخْ ، ارْمِ بِهَا ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
ومن باب لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد
قوله : (( كخ ، كخ )) ؛ روايتنا فيه بكسر الكاف وسكون الخاء . وقد يقال بفتح الكاف وتسكين الخاء وتنوينها . وهي لغات ، وهي كلمة يزجر بها الصبيان عن أخذ شيء ، قال الداودي : هي كلمة أعجمية عرّبتها العرب ، وإلى هذا أشار البخاري حيث ترجم على هذا الحديث : "من تكلم بالفارسية". والصحيح الأول .
وفي هذا الحديث ما يدل على أن الصغار يمنعون مما يحرم على الكبار المكلَّفين حتى يُدرَّبوا على آداب الشريعة ، ويتأدبوا بها ويعتادوها . وعلى
93- وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وَاللهِ إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي أَوْ فِي بَيْتِي فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا ، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا )).
94- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَرَّ بِتَمْرَةٍ بِالطَّرِيقِ فَقَالَ : ((لَوْلا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا فلا يلبس الذكور الصغار الحرير ، ولا يحلون الذهب . ويخاطب الأولياء بأن يجنبوهم ذلك ، كما يخاطبون بأن يجنبوهم شرب الخمر وأكل ما لا يحل.(4/147)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ - وقد وجد تمرة في الطريق - : (( لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورع وتنزّه . وإلا فالغالب تمر غير الصدقة ؛ لأنه الأصل ، وتمر الصدقة قليل ، والحكم للغالب في القواعد الشرعية .
وفيه دليل : على أن اللُّقَطَة اليسيرة التي لا تتعلّق بها نفس فاقدها ، أنها لا تحتاج إلى تعريف . وأنها تستباح من غير ذلك ؛ لأنه علّل امتناعه من
---
95- وَعَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : اجْتَمَع رَبِيعَةُ بْن ِالحَارِثِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالا : وَاللهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلامَيْنِ - قَالَ لِي وَلِلْفَضْلِ بْنِ العَبَّاسٍ - إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَكَلَّمَاهُ فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ وَأَصَابَا مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ ، قَالَ : فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا . فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ عَلِيُّ : لا تَفْعَلا . فَوَاللهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ فَانْتَحَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، فَقَالَ : وَاللهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلا نَفَاسَةً مِنْكَ عَلَيْنَا ، فَوَاللهِ لَقَدْ نِلْتَ صِهْرَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْكَ . قَالَ عَلِيٌّ أَرْسِلُوهُمَا فَانْطَلَقَا . وَاضْطَجَعَ عَلِيٌّ ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الظُّهْرَ سَبَقْنَاهُ إِلَى الْحُجْرَةِ فَقُمْنَا عِنْدَهَا حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِآذَانِنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أكلها ؛ لخوفه أن تكون من الصدقة ، وظاهر دليل خطابه أنها لو سلمت من ذلك المانع لأكلها .(4/148)
وهذه الأحاديث كلها مع قوله : (( إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ، ولا لآل محمد )) ؛ تدل على أن الصدقة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى آله محرّمة . وهل يعمّ التحريم الواجبات وغيرها ، أو تخص الواجبة ؟ اختلف فيه ، : فذهب مالك وأبو حنيفة في أحد قوليه إلى أن المحرّم الواجبة فقط .
وحكى ابن القصار عن بعض أصحابنا : أن المحرّم صدقة التطوع دون الفريضة ؛ لأنها لا مِنَّةَ فيها .
---
ثُمَّ قَالَ : (( أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ )) ثُمَّ دَخَلَ وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَ : فَتَوَاكَلْنَا الْكَلامَ ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ النَّاسِ وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ فَجِئْنَا لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَنُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ قَالَ : فَسَكَتَ طَوِيلاً حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ قَالَ : وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ تُلْمِعُ إِلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ أَنْ لا تُكَلِّمَاهُ قَالَ : ثُمَّ قَالَ : (( إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ادْعُوَا لِي مَحْمِيَةَ )) ، وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ . قَالَ : فَجَاءَاهُ فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ : (( أَنْكِحْ هَذَا الْغُلامَ ابْنَتَكَ لِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ )) فَأَنْكَحَهُ ، وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ : (( أَنْكِحْ هَذَا الْغُلامَ ابْنَتَكَ - لِي فَأَنْكَحَنِي ، وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ : (( أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُسِ كَذَا وَكَذَا )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلا لآلِ مُحَمَّدٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/149)
وقال أبو حنيفة أيضًا : إنها كلّها حلال لبني هاشم وغيرهم.وإنما كان ذلك محرمًا عليهم ؛ إذ كانوا يأخذون سهم ذي القربى ، فلما قطع عنهم حلت لهم ،
ونحوه عن الأبهري من شيوخنا . وروي عن أبي يوسف : أنها حرام عليهم من غيرهم ، حلال لهم صدقة بعضهم على بعض .
---
قلت : والظاهر من هذه الأحاديث أنها محرمة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى آله ، فرضُها ونفلُها ؛ تمسُّكًا بالعمومات . ومن جهةِ المعنى فإن الصدقة أوساخ الناس ، وبأن اليد العليا خير من اليد السفلى ، ولا يد أعلى من يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا أيدي آله . فقد كرمهم الله ، وأعلى مقاديرهم ، وجعل أيديهم فوق كل يد . وسهم ذى القربى واجب إخراجه وإيصاله إليهم على ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل من ولي شيئًا من أمور المسلمين إلى يوم القيامة . فلو منعوا ولم يقدروا على إيصالهم إلى حقوقهم وجب سدّ خلاتهم ، والقيام بحاجاتهم على أهل
القدرة من المسلمين لا على وجه الصدقة ، بل على جهة القيام بالحقوق الواجبة في الأموال ، ويكون حكمهم كحكم الحقوق المرتبة على بيت مال المسلمين ، فلا يوصل إليها لفكاك الأسارى ونفقة اللقطاء ، وسدّ خلات الضعفاء والفقراء إذا لم يوصل إلى أخذ ذلك من بيت المال .
واختلف في مَن آل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ فقال مالك وأكثر أصحابه : هم بنو هاشم خاصة ، ومثله عن أبي حنيفة ، واستثني آل أبي لهب . وقال الشافعي : هم بنو هاشم ، ويدخل فيهم بنو المطلب أخي هاشم دون سائر بني عبد مناف ؛ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنا وبنو المطلب شيء واحد )) ، ولقسم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم مع بني هاشم سهم ذي القربى دون غيرهم . ونحا إلى هذا بعض شيوخنا المالكية .(4/150)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال أصبغ : هم عشيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأقربون الذي أُمِر بإنذارهم : آل قصي ، قال : وقيل : قريش كلّها .
---
قلت : وفي "الأم" : أن زيد بن أرقم سئل عن أهل بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هم ؟ فقال : أهل بيته من حُرِمَ الصدقة بعده ، قال : ومن هم ؟ فقال : هم آل عليٍّ ، وآل عَقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ـ رضى الله عنهم ـ ، فقال : كل هؤلاء يُحْرَم الصدقة ؟ قال : نعم . وهذا يؤيد قول مالك . فإن هؤلاء كلُّهم بنو هاشم .
واختلف في مواليهم ، فمالك والشافعي يبيحانها لهم ، والكوفيون وكثير من أصحاب مالك يحرمونها عليهم .
وقوله : "فانتحاه ربيعة بن الحارث " ؛ أي : عرض له وقصده . والنحو : القصد ، ومنه علم النحو .
وقوله : " والله ما يفعل هذا إلا نفاسة منك علينا " ، هذه يمين وقعت من ربيعة على اعتقاده ، فهي من قبيل اللغو والنفاسة في الخير ، ومنه قوله تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون }.
وقوله : " فما نفسناه عليك " ؛ أي : ما تمنينا أن يكون لنا دونك .
وقوله : (( أخرجا ما تَصُرَّان )) ؛ أي : ما تجمعانه في صدوركما ، وكل
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شيء جمعته فقد صررته ، ومنه : صرُّ الدراهم ، وهو جمعها في الصرة .
وقوله : " قد بلغنا النكاح " ؛ أي : الحلم ، ومنه قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } ، .(4/151)
وقول علي في "الأم" : " أنا أبو حسن القَرْم ، والله لا أَريم مَكَاني حتى يرجعَ إليكما ابناكما بِحَور ما بَعَثْتُما به " ؛ إنما قال : أبو حسن القرْم ؛ لأجل الذي كان عنده من علم ذلك ، وكان ـ رضى الله عنه ـ يقول هذه الكلمة عند الأخذ في قضية تشكل على غيره وهو يعرفها ، ولذلك جرى كلامه هذا مجرى المثل ، حتى قالوا : قضية ولا أبا حسن ؛ أي : هذه قضية مشكلة ، ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
---
وليس هناك من يبينها ، كما كان يفعل أبو حسن الذي هو علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ ، وأتوا بـ"أبي حسن" بعد " لا " النافية للنكرة على إرادة التنكير . أي : ليس هناك واحد ممن يسمى أبا حسن ، كما قالوا :
أرى الحاجات عند أبي خُبَيب نُكِدْنَ ولا أمية في البلاد
أى : ولا واحدٌ ممن يُسمى أمية .
و" القَرْم " : أصله الفحل من الإبل ، ويستعار للرجل الكبير المجرّب للأمور. وهذه رواية القاضي الشهيد - بالراء والرفع - ، على النعت لأبي حسن . وقد روي : بالواو مكان الراء بإضافة حسن إليه ، وهي رواية ابن أبي جعفر ، ووجهها : كأنه قال : أنا عالم القوم وذو رأيهم . وقد رُوي عن أبي بحر : " أبو حسنٌ " ، بالتنوين ، وبعده : " القوم " ، بالرفع ؛ أي : أنا من علمتم أيها القوم ، وهذه الرواية أبعدها .
وقوله : " لا أريم " ؛ أي : لا أزال ولا أبرح من مكاني هذا . قال زهير :
لِمَنْ طَلَذُ بِرَامَةَ لا يرَيم عَفَا وخَلا له حُقبٌ قديم
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " بحور ما بعثتما به " ؛ أي : بجوابه . يقال : كلَّمتُه فما ردّ حورًا ولا حويرًا ؛ أي : جوابًا .(4/152)