والجواب عن السبب الأول : أنه لا معارضة بينهما ؛ لأنا لا نسلم أن اللبن خراج سَلَّمناه. لكنه إذا نشأ على ضمان المشتري ، ولبن المصراة نشأ على ضمان البائع ؛ فإنَّه كان موجودًا في الضرع حالة التبايع سلّمناه. لكن حديث المصرَّاة خاصٌّ ، وحديث الخراج بالضمان عام . ولا معارضة بينهما ، لأن الجمع بينهما ممكن بأن يُبنى العام على الخاص . وهو الصحيح على ما مهدناه في أصول الفقه . وحينئذ يبطل قول من زعم : أن حديث المصراة منسوخ بحديث : (( الخراج بالضمان )). سلمنا المعارضة ، لكن المتقدم منهما من المتأخر مجهول ، فلا يصح الحكم بالنسخ لعدم العلم بالتاريخ .
(14/23)
والجواب عن السبب الثاني : أن حديث المصرَّاة أصل منفرد بنفسه ، مستثنى من تلك القواعد ، كما قد استثني ضرب الدِّية على العاقلة ، ودية الجنين ، والعرية ، والجعل ، والقراض ، عن أصول ممنوعة ، لدعاء الحاجة إلى هذه المستثنيات ، ولحصول مصالح خاصة منها . وبيانه في مسألة المصراة : أن الشرع إنما ضمن لبنها بالصاع دفعًا للخصام ، وسدًّا لذريعة المنازعة لتعذُّر ضبط مقدار اللبن ، فإنه يختلف بالكثرة والقلَّة ، ولتعذر تمييز اللبن الكائن في الضرع من الحادث. وخصَّه بالطعام ؛ لأنه قوت كاللبن ، وبالتَّمر ؛ لأنه أغلب قوتهم ، ووصفه بقوله : (( لا سمراء )) رفعًا للحرج في تكلُّف السمراء ؛ لقلَّتها عندهم . وعلى هذا : فلم تخرج المصراة عن قانون الالتفات للمصالح ، لكنَّها مصالح مخصوصة لا يلحق بها غيرها لعدم نظائرها ، ولو سلَّمنا أنها معارضة لأقيسة تلك القواعد من كل وجه ، لكن لا نسلم : أن القياس مقدَّم على خبر الواحد ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدَّم السُّنة على القياس في حديث معاذ ـ رضى الله عنه ـ حيث قال له : (( بم تحكم؟)) قال : بكتاب الله . قال : (( فإن لم تجد ؟ )) قال : بسنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال : (( فإن لم تجد ؟ )) قال : أجتهد رأيي . والسَّنة : تعم المتواتر ، والآحاد . ولكثرة الاحتمالات في القياسات ، وقلّتها في خبر الواحد . وقد أوضحنا هذا في الأصول . وهذا هو الصحيح من مذهب مالك وغيره من المحققين .
وفي حديث المصراة أبواب من الفقه نشير إليها :
منها : أن العقد المنهي عنه ، المحرّم إذا كان لأجل الآدمي لم يدلّ على الفساد ، ولا يفسخ العقد. ألا ترى : أن التصرية غش محرَّم . ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يفسخ العقد ، لكن جعل للمشتري الخيار.
ومنها : أن الغرور بالفعل معتبر شرعًا ؛ لأنه صار كالتصريح باشتراط نفي العيب . ولا يختلف في الغرور الفعلي . وإنما اختلف في الغرور بالقول ، هل هو معتبر أو لا ؟ فيه قولان :
(14/24)
فرع : لو كان الضرع كثير اللحم ، فظنه المشتري لبنًا ، لم يجب له الخيار ؛ إذ لا غرور ، ولا تدليس ، لا بالفعل ، ولا بالقول .
ومنها : جواز خيار الشرط . وهذا لا يختلف فيه . وإنما اختلف في مقداره . فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن أجل الخيار غايته ثلاثة أيام في كل شيء ؛ تمسُّكًا بهذا الحديث ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل الذي شكا إليه : أنه يُخدع في البيوع ، فقال له : (( إذا بايعت فقل : لا خلابة ، وأنت في كل ما تبتاعه بالخيار ثلاثًا )).
وذهب مالك إلى أن أجله غير محدد بحدٍّ ، وإنما هو بحسب ما يحتاج إليه المبيع في اختياره . وذلك يختلف بحسب المبيعات . وتفصيله في الفروع . ويعتذر عن تلك الأحاديث بالقول بموجبها ؛ فإنها المدة التي تُختبر فيها المصراة ، فتعرف عادتها . ولذلك اختلف أصحابنا في الْحَلْبة الثالثة ، هل تعدُّ رضًا أو لا تُعدُّ ؟
وقول مالك : إنها لا تُعدُّ رضًا . وهو الصحيح ؛ لن الحلبة الأولى بها ظهرت الدُّلْسَة ، وبالثانية تحقَّقت ، وبالثالثة تُعرف عادتها .
قلت : ولا يتمشَّى هذا إلا إذا حُلبت في كل يوم حلبة . وأما حديث المخدوع : فالقول بموجبه أيضًا ؛ فإن ذلك الخيار صار بالشرط لنصّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على اشتراطه ، ولا تزاع فيه إذا لم يكن بعيدًا يلزم منه غررٌ ، أو يلحق به ضرر ، فلو شرط فيما يختبر في عشرة أيام - مثلاً - ثلاثة لصحَّ البيع ، ولزم الشرط ، ولا يختلف في هذا إن شاء الله تعالى.
ومنها : أنَّ التصرية عيبٌ يوجب الخيار . وهو حُجَّة على أبي حنيفة ومحمد بن الحسن ؛ حيث قالا : إنَّ التصرية ليست بعيب ، ولا يوجب خيارًا. وقد روي عن أبي حنيفة أنها عيب توجب الأرش. وقال زُفر-من أصحاب أبي حنيفة- : يردُّ صاعًا من تمرٍ ، أو نصف صاع من بُرٍّ .
(14/25)
ومنها : أن بيع الخيار موضوع لتمام البيع ، واستقراره . لا للفسخ . وهو أحد القولين عندنا . وقيل : هو موضوع للفسخ . والأول أولى ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن شاء أمسكها )) ، والإمساك : إنما هو استدامة التمسك لما قد ثبت وجوده ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لغيلان : (( أمسك أربعًا ، وفارق سائرهن )) ؛ أي : استدم حكم العقود السابقة . وقد بيَّناه في ا لأصول .
وقوله : (( وإن سخطها ردَّها وصاعًا من تمر )) ، وفي أخرى : ((صاعًا من تمير لا سمراء )) ، وفي أخرى : (( صاعًا من طعام لا سمراء )). ذهب الشافعي وأكثر العلماء : إلى أنه لا يجوز فيها إلا الصَّاع من التمر . وقال الداودي : الطعام المذكور هنا هو : التمر . وذهب مالك : إلى أن الثمر إنما ذكر في الحديث ؛ لأنه أغلب قوتهم ، فيخرج الغالب من قوت بلده ؛ قمحا ، أو شعيرًا ، أو تمرًا ؛ متمسكًا بعموم قوله : (( طعام )) ؛ فإنَّه يَعُم التمر وغيره . ومستانسًا بأن الشرع قد اعتبر نحو هذا في الدِّيات ، ففرض على أهل الإبل إبلاً ، وعلى أهل الذهب الذهب ، وعلى أهل الورق الورق. وكذلك فعل في زكاة الفطر . وقد روي عن مالك رواية شاذَّة : أنه يخرج فيها مكيلة ما حلب من اللبن تمرًا ، أو قيمته . وقد تقدَّم قول أبي حنيفة وزُفر . وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى : يخرج القيمة بالغة ما بلغت . وأحسن هذه الأقوال مشهور مذهب مالك ؛ لما ذكرناه ، والله أعلم .
واختلف أصحابنا فيما إذا رضي البائع بقبولها بلبنها . فأجازها بعضهم ، وقال : هي إقالة . وقال غيره : لا يجوز ؛ لأن اللبن غير متعين ؛ إذ لا يتميز كائنه عن حادثه ، فكيف تصح الإقالة فيه ؟!
وقوله : (( لا سمراء )) ؛ هو معطوف على (( صاعا )) وهمزته للتأنيث ، فلذلك لم تصرف . و(( السَّمراء )) : قمحة الشام . والبيضاء : قمحة مصر. وقيل : البيضاء : الشعير . والسمراء : القمح مطلقًا . وإنما نفاها تخفيفًا ، ورفعًا للحرج ، وهو يشهد لقول مالك .
(14/26)
ومن باب النهي عن بيع الطعام قبل أن يقبض
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه )) ، وفي أخرى : ((حتى يكتاله )). وروى أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبيع أحدٌ طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه . وبظاهر هذا الحديث قال مالك . غير أنَّه ألحق بالشراء جميع المعاوضات ، وحمل الطعام على عمومه - ربويًا كان أو غير ربوي - في مشهور الروايتين عنه . وروى ابن وهب عنه تخصيصه بما فيه الرِّبا من الأطعمة. ورأي ابن حبيب وسحنون : أنه يتعدى إلى كل ما فيه حق توفية ، فحذفا خصوصية الطعام ، وكذلك فعل الشافعي ، غير أنَّه لم يخصَّه بما فيه حق توفية ، بل عدَّاه لكل مشترى . وكذلك فعل أبوحنيفة غير أنه اسشنى من ذلك العقار ، وما لا ينقل . وقال : يجوز بيع كل شيء قبل قبضه عثمان البَتِّي ، وانفرد به .
فحجَّة مالك رحمه الله تعالى للمشهور عنه : التمسك بظاهر الحديث ، وعضده بما ذكره في "موطئه" : من أنه مجمع عليه بالمدينة ، وأنه لا خلاف عندهم في منعه وقصره على ما بيع بكيل ، أو وزن من الطعام ، تمسكًا بدليل خطاب الأحاديث المتقدّمة .
ثم اختلف أصحابه : هل هذا المنع شرعٌ غير معلل بالعينة ، وإليه أشار مالك في "موطئه" ، حيث أدخل هذا الحديث في باب العينة ، وهو الذي عنى ابن عباس حيث قال : (( يتبايعون بالذهب ، والطعام مُرْجَأٌ )). وأمَّا الشافعي : فإنما حذف خصوصية الطعام لما صَحَّ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نهيه عن ربح ما لم يضمن ؛ خرَّجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، فهذا اللفظ قد عم الطعام وغيره . ولقول ابن عباس : وأحسب كل شيء مثله .
(14/27)
قلت : ويعتضد مذهب الشافعي بما رواه الدارقطني من حديث حكيم بن حزام ـ رضى الله عنه ـ ؛ أنه قال : يا رسول الله ! إني أشتري فما يحل وما يحرم علي ؟ قال : (( يا ابن أخي! إذا ابتعت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه )). وروى أبو داود من حديث زيد بن ثابت ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تباع السِّلع حيث تبتاع ، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم . ومتمسَّكات مالك والشافعي تبطل قول عثمان البَتِّي .
وقول ابن عمر رضي الله عنهما : (( كنا في زمن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وفي عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبتاع الطعام ، فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله ، وفي الأخرى : (( جِزَافًا - وأنهم كانوا - يُضْرَبُون في أن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم )) ؛ دليل لمن سوَّى بين الجزاف في المكيل من الطعام في المنع من بيع ذلك حتى يقبض ، ورأى : أن قبض الجزاف نقلُه . وبه قال الكوفيون ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد ، وداود . وهو على أصولهم في منعه في كل شيء إلا ما استثني حسب ما تقدم ، وحمل مالك رحمه الله هذه الأحاديث على الأولى والأحبِّ ، فلو باع الجزاف قبل نقله جاز ؛ لأنه بنفس تمام العقد ، والتخلية بينه وبين المشتري صار في ضمانه ، ولدليل الخطاب في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من ابتاع طعامًا بكيل )) ، وما في معناه . وإلى جواز ذلك صار البتِّيّ ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، والحكم ، والأوزاعي ، وإسحاق على أصولهم .
فرع : ألحق مالك رحمه الله بيع الطعام قبل قبضه سائر عقود المعاوضات كلّها ، فمن حصل له طعام بوجه معاوضة ؛ كأخذه في صلح من دم ، أو مهر ، فلا يجوز له بيعه قبل قبضه . واستثنى من ذلك الشركة والتولية ، والإقالة . وقد روي عنه منعه في الشركة. ووافقه الشافعي ، وأبو حنيفة في الإقالة خاصة .
قلت : والذي أوجب استثناء هذه الأربعة العقود عند مالك أنها عقود ؛ المقصود بها : المعروف ، والرِّفق ، لا المشاحة ، والمكايسة ، فأشبهت القرض . وأولى من هذا : مرسلان صحيحان ، مشهوران :
(14/28)
أحدهما : قال سعيد بن المسيب في حديث ذكره -كأنَّه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ - : لا بأس بالتولية ، والإقالة ، والشرك في الطعام قبل أن يستوفى . ذكره أبو داود وقال : هذا قول أهل المدينة .
وذكر عبدالرزاق عن ابن جريج ، قال : أخبرني ربيعة بن أبي عبدالرحمن ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديثا مستفاضًا بالمدينة قال : (( من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه ، ويستوفيه إلا أن يشرك فيه ، أو يوليه ، أو يقيله )).
قلت : وينبغي للشافعي ، وأبي حنيفة أن يعملا بهذين المرسلين . أما الشافعي : فقد نصَّ على أنه يعمل بمراسيل سعيد . وأما أبو حنيفة : فإنه يعمل بالمراسيل مطلقًا ، كمالك .
وقول أبي هريرة لمروان : (( أحللت بيع الصكاك ! )) إنكار منه عليه ، وتغليظ . وهو نصٌّ في أن أبا هريرة ـ رضى الله عنه ـ كان يفتي على الأمراء وغيرهم. من وهو ردٌّ على من جهل حال أبي هريرة ، وقال : إنه لم يكن مفتيًا . وهو قول باطل بما يوجد له من الفتاوي ، وبالمعلوم من حاله ؛ وذلك : أنَّه كان من أحفظ الناس لحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وألزم الناس للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولخدمته حضرًا ، وسفرًا . وأغزرهم علمًا .
و (( الصكوك )) : جمع صَك ٌ . وهي : التواقيع السُّلطانية بالأرزاق . وهذا البيع الذي أنكره أبو هريرة للصُّكوك إنما هو بيع من اشتراه من رزقه ، لا بيع من رزقه ؛ لأن الذي رزقه وصل إليه الطعام على جهة العطاء ، لا المعاوضة . ودليل ذلك ما ذكره مالك في "الموطأ" ، قال : إن صكوك الجار خرجت للناس في زمن مروان من طعام الجار ، فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها ، وذكر الحديث في "الموطأ" أيضًا : أن حكيم بن حزام ابتاع طعامًا أمر به عمر للناس ، فباع حكيم الطعام حتى يستوفيه ، فبلغ ذلك عمر ، فردَّه ، وقال : لا تبع طعامًا ابتعته قبل أن تستوفيه .
(14/29)
فإن قيل : فما في "الموطأ" يدل على فسخ البيعين : بيع المعطى له ، وبيع المشترى منه ؛ إذ فيه : أن مروان بعث الحرس لينتزعوا الصكوك من أيدي الناس ، ولم يفرق . فالجواب ما(4) قد بينه بتمام الحديث ، حيث قال : ويردُّونها إلى من ابتاعها . وكذلك فعل عمر بحكيم ، فإنه ردَّ الطعام عليه ؛ لأنه هو الذي كان اشتراه من الذي أعطيه ، فباعه قبل أن يستوفيه كما قد(5) نصَّ عليه فيه . والجار موضع معروف بالسَّاحل كان يجتمع فيه الطعام فيُرزق الناس منه .
ومن باب بيع الخيار
قد تقدَّم القول على أصل الخيار في الباب قبل هذا . و(( البيِّعان )) تثنية (( بيع)) ، وهو يقال على البائع والمشتري. كما يقال كل واحد منهما على الآخر . وهو اسم فاعل من : باع . كما يقال : تيِّق ، من : تاق ، وميِّقٌ من : ماق .
وقوله : (( كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا )) ، وفي الرواية الأخرى : (( وكانا جميعًا )) ؛ ظاهر ألفاظ هذا الحديث وإن كثرت متواردة على ثبوت خيار المجلس لكل واحد من المتبايعين . وإن التفرُّق المذكور فيه ؛ إنما هو بالأبدان . وإليه ذهب كثير من الصحابة والتابعين ، كسعيد بن المسيب ، والزهري ، وابن أبي ذنب ، والليث ، والثوري ، وسفيان بن عيينة ، وابن المبارك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأهل الظاهر. وذهبت طائفة من أصحابنا وغيرهم : إلى أنه محمول على ظاهره ، لكن على جهة الندب ، لا على الوجوب . وترك العمل به مالك ، وربيعة ، وأبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وأبو يوسف ، والثوري ، والنخعي في أحد قوليهما . ورأوا : أن التفرُّق إذا حصل بالأقوال وجب البيع ، ولا خيار إلا إن اشترط .
(14/30)
والذي لأجله ترك مالك العمل بظاهر الحديث : ما نص عليه في "الموطأ" لما ذكر هذا الحديث ، ثم قال : وليس لهذا عندنا حدٌّ معروف ، ولا أمر معمول به . وظاهر هذا : أن أهل المدينة اتفقوا على ترك العمل به . وليس ذلك الظاهر بصحيح ؛ لأن سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب من أهل المدينة وقد قالوا به ، وقد أنكره ابن أبي ذئب على مالك . وقد اعتذر أصحابنا عن مالك بأعذار كثيرة أجمعها : ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي فقال على قول مالك : ليس لهذا عندنا حدٌّ معروف ؛ يريد : أن فرقتهما ليس لها وقت معلوم . وهذه جهالة وقف البيع عليها ، فيكون كبيع الملامسة ، والمنابذة . وكبيع على خيار إلى أجل مجهول . وما كان كذلك فهو فاسد قطعًا ، ولا يعارض هذا الأصل بظاهر لم يتحصَّل المراد منه مفهومًا ؛ إذ تفسير ابن عمر ليس بحجة ، ولهذا عدل عن ظاهره الفقهاء السبعة ، وغيرهم من السَّلف . وأوَّلوه على أنه قد روي في بعض طرقه : ما لم يتفرَّقا ، إلا أن تكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله . رواه الليث عن ابن عجلان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فذكره . فظاهر هذه الزيادة مخالف لظاهر أول الحديث ، فإن تأول من أخذ بظاهر الحديث لفظ الاستقالة : باختيار الفسخ تأولنا لفظ الخيار باختيار الاستقالة ، وإذا تقابل التأويلان وقف الحديث . والقياس في جانبنا .
قلت : وهذا كلام وجيزٌ في لفظه ، جامعٌ في معناه لكل ما يَتَمسَّك به متمسِّك من المالكيِّين ، وممن هو على مذهبهم . فلنقتصر عليه. والله الموفق .
(14/31)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إلا بيع الخيار )) ؛ معناه على مذهب الشافعي : أن خيار المجلس لا أثر له مع وجود خيار الشرط ، فلو تفرَّقا مع اشتراط خيار الثلاث لم يجب البيع بنفس التفرُّق ، بل بمضي مدة الخيار المشترط ، ويكون هذا الاستثناء من قوله : (( لا بيع بينهما )) ، وهو استثناء موجب من منفيّ . فكأنه قال : كلٌّ بيِّعَين فلا حُكم لبيعهما ما داما في مجلسهما إلا بيع الخيار المشترط ، فحكمه باق إلى مدته ، وإن افترقا بالأبدان . ويمكن تنزيله على مذهب ماللك على هذا النحو ، غير أن التفرُّق يحمل على التفرُّق بالأقوال ، ويكون البيعان بمعنى المتساومين . غير أن الاستثناء يكون منقطعًا ؛ لأن المتبايعين بالخيار الشرطي ليسا متساومين ، بل متعاقدين ، فيكون تقديره : لكن بيع الخيار يلزم حكمه بانقضاء مدته. والله أعلم . وقد تقدَّم القول في بيع الخيار وفي مدته .
وقول نافع : (( إن ابن عمر كان إذا بايع رجلاً ، وأراد ألا يقيله ، قام فمشى هنيهة ثم رجع إليه )) ؛ دليل : على أن ابن عمر كان يرى التفرُّق بالأبدان ، وأن ذلك بيع يجوز . وحينئذ يعارضه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله )) ، ويعتذر عن ابن عمر بأن هذه الزيادة لم يسمعها ، أو لم تصح عنده . وقد حكى أبو عمر الإجماع : على جواز ما فعل ابن عمر . فإن صحَّ هذا ، فتلك الزيادة متروكة الظاهر بالإجماع.
و (( هنيهة)) : تصغير هنةٍ ، وهي كلمه يعبَّر بها عن كل شيء قليل .
وقوله : (( فإن صدقا وبيَّنا )) ؛ أي : إن صدقا في الإخبار عن الثمن والمثمون فيما يباع مرابحة ، وبيّنا ما فيها من العيوب .
(14/32)
و (( بورك لهما )) ؛ أي : بورك في الثمن : بالنماء ، وفي المثمون بدوام الانتفاع به . (( وإن كذبا ، وكتما ، محقت تلك البركة )) ؛ أي : ذهبت ، ورفعت . والرَّجل الذي كان يخاغ في البيوع ، هو : حَبَّان بن منقذ بن عمرر الأنصاري ، والد يحيى وواسع ، ابني حبَّان ، شهد أحدًا . أتى عليه مائة وثلاثون سنة ، وكان شُجَّ في بعض مغازيه مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مأمومة خُبل منها عقله ، ولسانه.
وذكر الدارقطني : أنه كان ضرير البصر. وقد روي : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل له عهدة الثلاث ؛ إذ كان أكثر مبايعته في الرَّقيق .
و (( الخلابة )) : الخديعة . ومنه قولهم : إذا لم تًغْلِب فاخلُبْ .
وقوله : (( لا خيابة )) روايتنا فيه : بالياء باثنتين من تحتها مكان اللام . وهو الصحيح ؛ لأنه كان ألثغ ، يخرج اللام من غير مخرجها. وقد رواه بعضهم : (( لا خيانة )) بالنون ، وليس بالمشهور . وفي غير كتاب مسلم : أنه كان يقول : لا خذابة - بالذال المعجمة -. وهذا الحديث قد رواه الترمذي من حديث أنس . وقال : هو الصحيح . وقال فيه : إن رجلاً كان في عقله ضعف ، وكان يبايع ، وأن أهله أتوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا : يا رسول الله ! احجز عليه. فدعاه نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فنهاه ، فقال : يا رسول الله ! إني لا أصبر عن البيع! فقال : (( إذا بايعت فقل : لا خلابة )). وخرَّجه أبو داود وقال فيه : (( إن كنت غير تارك للبيع فقل : ها وها ولا خلابة )). وذكره البخاري في "التاريخ" وقال فيه : (( إذا بايعت فقل : لا خلابة ، وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال )) ، وفيه أبواب من الفقه مختلف فيها :
أولها : أن من كان يخدع في البيوع لقلة خبرته ، وضعف عقله ، فهل يحجر في عليه أم لا ؟ فقال بالحجر عليه أحمد ، وإسحاق . وقال آخرون : لا يحجر عليه . والقولان في المذهب.
(14/33)
وثانيها : أن الغبن هل يوجب الخيار للمغبون أم لا ؟ فذهب الشافعي وأبو حنيفة ، ومالك - فى أحد قوليه - إلى نفي الخيار . وذهب آخرون إلى لزوم الخيار. وإليه ذهب البغداديون من أصحابنا .
ثم اختلف هؤلاء في حدِّ الغبن الموجب للخيار. فمنهم من حدَّه بالثلث . ومنهم من حدَّه بالمتفاحش الذي لا يُتغابن بمثله .
وثالثها : مدَّة الخيار . هل هي مقدَّرة بالثلاث في كل مبيع ، أو يختلف ذلك بحسب الاحتياج إلى اختيار المبيع على ما قد تقدم .
وسبب الخلاف في هذه الأبواب اختلافهم في هذا الحديث . هل هو خاصٌّ بهذا الرجل ، أو هو عام له ولغيره ، وإذا تنزلنا على حمله على العموم ، فهل دلالة هذا الحديث على هذه الأحكام ظاهرة فيها ، أو(4) لا ؟ وإذا تنزلنا على الظهور . فهل سلمت مِمَّا يعارضها ، أم(5) لا ؟ وبسط هذا يستدعي تطويلاً .
ومن باب النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها
قوله : (( نهى عن بيع النخل حتى يزهو أو حتى تزهي)) ، جاء الحديث باللفظتين . يقال : أزهت الثمرة تزهو ، وأزهت ، تزهي : إذا بدا طيبها وتلونها . حكاه صاحب الأفعال. قال ابن الأعرابي : يقال : زها النخل يزهو : إذا ظهرت ثمرته . وأزهى : إذا احمرَّ أو اصفرَّ ، قال غيره : (( يزهو )) خطأ في النخل. وإنما هي : يزهي لا غير. وحكاهما أبو زيد . وقال الخليل : أزهى الثمر : بدا صلاحه . قال غيره : هو ما احمرَّ منه واصفرَّ . وهو الزَّهو والزُّهو معًا .
(14/34)
قلت : أحاديث هذا الباب ؛ وإن اختلفت ألفاظها متواردة على النهي عن بيع الثمرة- وإن أُبِّرت - حتى تصلح لأن يؤكل منها أكلاً غالبًا . وهل ذلك النهي محمول على ظاهره من التحريم - وهو مذهب الجمهور - أو على الكراهة - وهو مذهب أبي حنيفة - ؟ وعليه : فلو وقع بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها ، فسخه الجمهور ، وصححه أبو حنيفة إذا ظهرت الثمرة ، وبناء على أصله في ردِّ أخبار الآحاد للقياس. والصحيح مذهب الجمهور للتمسُّك بظاهر النهي ، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أرأيت إن منع الله الثمرة ، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ! )). وهذا يدل على أن بيعها قبل بدوِّ صلاحها من أكل المال بالباطل ، ولأنَّه غررٌ ، وبيع الغرر محرَّم .
وعلى مذهب الجمهور ؛ فهل يجوز بيعها قبل بدوِّ الصلاح بشرط القطع - وهو مذهب عامتهم- ، أو لا يجوز ؛ وإن شرطه ؟ وهو مروي عن الثوري ، وابن أبي ليلى ، تمسكًا بعموم تلك الأحاديث . وخصصه العامة بالقياس الجلي ؛ لأنه مبيع معلوم ، يصح قبضه حالة العقد عليه ، كسائر المبيعات ، فإن وقع بيعها قبل بدوِّ الصلاح من غير شرط ؛ فهل يصح ، ويُحمل على القطع ، أو لا ويفسخ قولان ، وبالثاني قال الجمهور ؛ لأنه إذا لم يشترط القطع تناوله النهي عن بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها . وقد اتفق العلماء : على أنه لا يجوز شراؤها قبل البدوِّ على التبقية ، فأمَّا بعد الطيب فيجوز اشتراط البقاء عند كافة العلماء ، خلا ما ذكر من مذهب الحنفي ، وكذلك له الإبقاء وإن لم يصرَّح باشتراطه عند مالك ، إذ لا يصح اجتناء الثمرة دفعة واحدة ؛ لأن تناهي طيبها ليس حاصلاً حالة التعاقد ، وإنما يحصل في أوقات مختلفة . وقد شذَّ ابن حبيب ، فقال : هي على الْجَدِّ حتى يشترط البقاء . وما صار إليه مالك أوضح المسالك .
ومن باب النَّهي عن المزابنة
(14/35)
ووزنها : مفاعلة ، ولا تكون إلا بين اثنين . وأصلها في اللغة : الدفع السديد . ومنه وصفت الحرب بـ (( الزَّبون )) لشدة الدفع فيها . وبه سُمِّي الشُّرطي : زِبنيًا ؛ لأنه يدفع الناس بعنف وشدة . ومنه : زَبْنُ النَّاقة الإناء عند الحلب . ولما كان كل واحد من المتبايعين يدفع الآخر في هذه المبايعة عن حقه سميت بذلك . هذا معنى المزابنة لغة . وأمَّا معناها في الشرع : فقد جاء تفسيرها في هذه الأحاديث بألفاظ مختلفة ، كما وقع في الأصل . وحاصلها عند الشافعي : بيع مجهول بمجهول ، أو بمعلوم من جنس يحرم الرِّبا في نقده . وخالفه مالك في هذا القيد ، فقال : سواء كان مما يحرم الرِّبا في نقده ، أو لا ، مطعومًا ، أو غير مطعوم .
وقوله في المزابنة : هي بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً ، وبيع الزبيب بالعنب كيلاً ؛ يعني : أن يكون أحدهما بالكيل والآخر بالجزاف ، للجهل بالمقدار في الجنس ، فيدخله الخطر . وإذا كان هذا ممنوعا للجهل من جهة واحدة ، فالجهل من جهتين ؟ كجزاف بجزاف أذخل في المنع ، وأولى . وهذا الحديث يشهد للشافعي على تفسيره للمزابنة ، فإنه ما ذكر في الحديث الأول إلا النخل ، والعنب . وكلاهما يحرم الرِّبا في نقده ، وألحق بهما ما في معناهما . وأما مالك ففهم أن المنع فيها إنما كان من حيث الغرر اللاحق في الجنس الواحد ، فعذاه لكل جنس وجد فيه ذلك المعنى . والله أعلم .
و (( المحاقلة )) مفاعلة من الحقل ، وهي : المزارعة ، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار : (( ما تصنعون بمحاقلكم ؟ )) ، يعني : مزارعهم. وفي مثل العرب : لا تنبت البقلة إلا الحقلة . وهي التي تسمى في العراق : القراح . وقال الليث : هي بيع الزرع قبل أن يغلظ . وقال أبو عبيد : هي بيع الطعام في سنبله بالبر . وقال قوم : هي المزارعة بالجزء مما تنبته الأرض . وسيأتي القول في كراء الأرض.
ومن باب الرُّخصة في بيع العَرِيَّةِ
(14/36)
وهي في اللغة - على ما نقله الجوهري - : النخلة يُعْرِيهَا صاحبها رجلاً محتاجًا ، فيجعل ثمرها له عامًا ، فيغروها ، أي : يأتيها . وهي : فعيلة ، بمعنى : مفعولة . وإنما أدخلت فيها الهاء لأنها أفردت ، فصارت في عداد الأسماء ، كالنطيحة ، وأكيلة ، ولو جئت بها مع النخلة ؛ قلت : نخلة عري . وأنشد لسويد بن الصامت :
لَيْسَتْ بِسَنْهاء ولا رُجَّبِيَّة ولكن عَرَايَا في السِّنِين الْجَوائح
وقال غيره : هي فعيلة ، بمعنى : فاعلة ؛ أي : عريت من منك مُعْريها. وقال غيرهما : عراه ، يعروه : إذا أتاه يطلب منه عرية ، فأعراه ؛ أي : أعطاه إياها ، كما يقال : سألني فأسألته . وطلبني فأطلبته . فالعريَّة : اسم للنخلة المعطى ثمرها . فهي اسم لعطيَّة خاصة . وقد سمت العرب عطايا خاصة بأسماء خاصة ، كالمنيحة : لعطية الشاة لِلَّبن. والإفقار : لما ركب فقاره . والإخبال : لما ينتفع به من المال .
قلت : فقد حصل من نقل أهل اللغة : أن العرية عطيه ؛ لا بيعٌ . ولما ثبت ذلك فسَّر مالك ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، والأوزاعي العرية المذكورة في الحديث : بأنَّها إعطاء الرَّجل من جملة حائطه نخلة أو نخلتين عامًا ، على ما تقتضيه اللغة. غير أنهم اختلفوا في شروط كثيرة ، وأحكام متعددة . وحاصل مذهب مالك في العرية : أنها عطية ثمرة نخلة أو نخلات من حائط ، فيجوز لمن أُعطيها أن يبيعها إذا بدا صلاحها من كل أحد بالعين ، والعروض ، ومن معطيها خاصة بخرصها تمرًا ، وذلك بشروط :
أحدها : أن تكون أقل من خمسة أوسقٍ . وفي الخمسة خلاف .
وثانيها : أن تكون بخرصها من نوعها ويابسها نخلاً ، وعنبًا . وفي غيرهما مما يوسق ، ويدخر للقوت ، خلاف .
وثالثها : أن تقوم بالخرص عند الجداد .
ورابعها : أن يكون المشترى جملتها ، لا بعضها .
وخامسها : أن يكون بيعها عند طيبها ، فلو باعها من الْمُعْرِي قبل ذلك على شرط القطع لم يجز ، لتعدِّي محل الرُّخصة .
(14/37)
وأما الشافعي : فالعريه عنده : بيع الرُّطب في رؤوس النخل بتَمْر مُعَجَّل . فلم يعرج على اللغة المعروفة فيها. وكأنه اعتمد في مذهبه على تفسير يحيى بن سعيد راوي الحديث ، فإنه قال : العرية : أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبًا بخرصها تمرًا. وهذا لا ينبغى أن يعوَّل عليه ؛ لأن يحيى بن سعيد ليس صحابيًّا ، فيقال : فهمه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا رفعه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا يثبت به عرف غالب شرعي حتى يرجِّحه على اللغة . وغايته : أن يكون رأيًا ليحيى ، لا رواية له ، ثم يعارضه تفسير ابن إسحاق ، فإنه قال : العرايا : أن يهب الرجل للرجل النخلات ، فيسَّن عليه أن يقوم عليها ، فيبيعها بمثل خرصها . ثم هو عين المزابنة المنهي عنها ، ووضع رخصة في موضع لا ترهق إليه حاجة وكيدة ، ولا تندفع بها مفسدة ، فإن المشتري لها بالتمر متمكن من بيع تمره بعين أو عروض ، ويشتري بذلك رطبًا ، فإن قيل : قد يتعذَّر هذا . قيل : فأجز بيع الرُّطب بالتمر ؛ إذا كان الرطب لا على رؤوس النخل ؛ إذ قد يتعذر بيع التمر على من هو عنده ممن يريد أن يشتري الرطب به ، ولا بجوز ذلك ، فلا يجوز تفسير العرية بما ذكر.
وأمَّا أبو حنيفة : فإنَّه فسَّر العرية بما إذا وهب رجل ثمر نخلة ، أو نخلات ، ولم يقبضها الموهوب له ، فأراد الواهب أن يعطي الموهوب له تمرا ، ويتمسك بالثمرة ، جاز له ذلك ؛ إذ ليس من باب البيع ، وإنما هو من باب الرجوع في الهبة ؛ التي لم تجب بناء على أصله في أن الهبة لا تجب إلا بالقبض . وهذا المذهمب إبطال لحديث العريه من أصله فيجب إطراحه. وذلك : أن حديث العرية تضمن أنه بيع مُرَخَّص فيه في مقدار مخصوص . وأبو حنيفة يلغي هذه القيود الشرعية .
(14/38)
وقوله : ((رخص في بيع العريه بخرصها تمرًا يأكلها أهل البيت رطبًا )) ، الخِرْصُ -بكسر الخاء - هو : اسم للمخروص ، وبفتحها هو : المصدر. والرواية هنا : بالكسر. و(( أهل البيت ))- على مذهب مالك ومن قال بقوله - : هم الْمُعْرُون ، فيضمنون مقدار العرية ، فيدفعون ذلك للمعرى له تمرًا عند الجداد رفقًا به حيث كفي المؤن ، وأعطي ما يقتات به . ويحصل من ذلك للمعري دفع ضرر تكرار دخول المعرى له إلى عريته لتعاهدها ، وسقيها ، واجتنانها . فظهر لمالك : أن العرية إنما رخص فيها لأنها من باب المعروف ، والرفق ، والتسهيل في فعل الخير ، والمعونة عليه. وأما على مذهب الشافعي : فأهل البيت عنده هم : المشترون الذين يشترون الرطب بالتمر ليأكلوها رطبًا . فظهر له : أن الموجب لهذه الرخصة هو حاجة من له تمر لأكل الرطب . وقد ذكرنا آنفًا ضغف هذا المعنى.
وقوله : (( فيما دون خمسة أوسق )) ، أو (( في خمسة أوسق )) ؛ دليل على أن في العرية إنما تجري فيما يُوسَّق ويُكال . ثم هل تقتصر على التمر والزبيب ، أو يلحق بهما ما في معناهما مما يُدَّخر للقوت ؟ قولان ؛ وقد تقدَّما . والأولى : التعدية ، والإلحاق ؛ لأن المنصوص عليه في الحديث التمر ، وقد ألحق بها الزبيب قولاً واحدًا عندنا ، وليس منصوصًا عليه ، ولا سبب للإلحاق إلا أن الزبيب في معنى التمر ، فيلحق بهما كل ما في معناهما من المدخر للقوت .
(14/39)
وقد وسَّع المناط يحيى بن عمرمن أصحابنا فقاس سائر الثمارعلى النخل والعنب ، فأجاز بيع الثمار كلها بخرصها إذا طابت إلى الجداد. وشذَّ في ذلك شذوذًا منكرًا لم يقل به أحدٌ من أهل العلم . وقد دلَّ هذا الحديث على قصر الرُّخصة على هذا القدر فلا يزاد عليه . لكن هذا إنما شرط في بيعها من مغريها بخرصها كما تقدَّم ، وأمَّا من غيره ، أو منه بالعين أو بالعروض ، فجائز مطلقًا من غير تقدير . هذا هو المشهور عن المذهب . وقد روي عنه أنه لا يجوز شراؤها للمعري إلا بالخرص خاصة ، لا بغيره ؛ لأنه من باب : العود في الهبة ، ومحل الرُّخصة الخرص فيقتصر عليه . وهذا هو سبب الخلاف في أكثر مسائل هذا الباب ؛ أعني : هل يقاس على الرخص ، أو لا ؟
وقوله : (( فيما دون خمسة أوسق ، أو في خمسة أوسق )) ، هو شكٌّ من داود بن الحصين . وموضع الشك : الخمسة . فتطرح ، ويعوَّل على أن الجواز مخصوص بما دونها لأوجه :
أحدها : أن الحكم لا يثبت بالشك .
والثاني : أن الأصل في المزابنة المنع ، إلا فيما تحققت فيه الرخصة ، ولم تتحقق هنا في الخمسة ، بل فيما دونها .
والثالث : أن الخمسة الأوسق هو أول مقادير المال الكثير ، الذي تجب فيه الزكاة من هذا النوع . ويكون مالكه من الأغنياء الذين يجب عليهم مواساة الفقير . وهو الذي لا نصاب له ، فقصر المرفق على من هو من نوع الفقراء مناسب لتصرف الشرع . وبهذا قال الشافعي ، إلا أنه قال : لا أفسخ البيع في مقدار خمسة أوسق ، وأفسخه فيما فوقها .
(14/40)
قلت : والأولى فنمخه ؛ لأن الأصل متعه ؛ لأنه مزابنة ، ولم يتحقق الرافع للمنع . وقد تقدَّم : أن مالكًا يشترط في جواز بيع العرية من معريها أن تُقَوَّم بالخرص عند الجداد . وهو قول جل أصحابه . ولم يجيزوه بالنقد . وزعم بعضهم : أن ذلك قد جاء في الحديث . ولم أقف عليه في شيء من كتب الحديث مع طول بحثي عنه. ومثل هذا الشرط لا يثبت إلا بالسمع ، فكأنَّ عند مالك بذلك سمع ولم يبلغنا ، والله أعلم .
تنبية : العرية عندنا مستثناة من أصول ممنوعة : من المزابنة ، والغرر ، ومن ربا التفاضل ، والنَّساء ، ومن الرجوع في الهبة . والذي سوَّغها ما فيها من المعروف ، والرفق ، وإزالة الضرر . كما قدَّمناه ، والله أعلم .
ومن باب من ابتاع نخلاً بعد أن تُؤَبَّر
قوله : (( من ابتاع نخلاً بعد أن تُؤَبَّر فثمرتها للذي باعها )) ، أبار النخل ، وتأبيره : تلقيحه ، وتذكيره. وهو : أن يجعل في النخلة فحالة ، وعند ذلك يثبت ثمرها بإذن الله تعالى. يقال : أَبَرْتُ النخلة ، أبُرها بكسر الباء وضمها ، فهي مأبورة . ومنه قولهم : (( خير المال مهرة مأمورة ، وسكَّة مأبورة )).
ويقال : أبرت النخلة- مشدَّدًا - تأبيرًا. وهي مؤبَّرة ، كقوِّمت الشيء تقويْمًا ، وهو مقوَّم . ويقال : تأبَّر الفسيل : إذا قبل الإبار . قال الراجز :
تَأَبَّرِي يا خَيْرَةَ الفَسِيل إِذْ ضَنَّ أهلُ النَّخل بالفُحُول
ويقال : ائتبرت ؛ إذا سألت غيرك أن يأبُرَ لك نخلك ، أو زرعك . قال :
وَلِيَ الأصل الذي في مثله يُصلِح الآبِرُ زَزءعَ المؤتَبر
هذا إبار ثمر النخل ، وإبار كل ثمر بحسب ما جرت العادة بإنه إذا
(14/41)
فعل به ثبت ثمره وانعقد . ثم قد يعبَّر به عن ظهور الثمرة وعن انعقادها ، وإن لم يفعل فيها شيء . ومن هنا اختلف أصحابنا في إبار الزرع . هل هو ظهوره على الأرض ، أو إفراكه ، وإذا تقرَّر هذا ، فظاهر هذا الحديث يقتضي بلفظه : أن الثمرة المأبورة لا تدخل مع أصولها إذا بيعت الأصول إلا بالشرط. ويقتضي دليل خطابه : أن غير المأبورة داخلة في البيع . وهو مذهب مالك ، والشافعي ، والليث. وذهب أبو حنيفة : إلى أن الثمرة للبائع قبل الإبار وبعده . وقال ابن أبي ليلى : الثمرة للمشتري قبل الإبار وبعده . وهذا القول مخالف للنص الصحيح ، فلا يلتفت إليه . وأما أبوحنيفة فالخلاف معه مبين على القول بدليل الخطاب ، فهو ينفيه . وخصمه يثبته . والقول بدليل الخطاب في مثل هذا ظاهر ؛ لأنه لو كان حكم غير المؤبر حكم المؤبر لكان تقييده بالشرط لغوًا لا فائدة له. فإن قيل : فائدته التنبيه بالأعلى على الأدنى. قيل له : ليس هذا بصحيح لغة ولا عرفًا. ومن جعل هذا بمنزلة قوله تعالى : { فلا تقل لهما أفّ } ، تعين أن يقال لفهمه : أفّ ، وتف .
وقوله : (( إلا أن يشترطه المبتاع )) ؛ يعني : الثمر المؤبر لا يدخل مع الأصول في البيع إلا بالشرط . وصحَّ اشتراطه ؛ لأنه عينٌ موجودة ، يحاط بها ، أمن سقوطها غالبًا ، بخلاف التي لم تؤبَّر ، إذ ليس سقوطها مأمونًا ، فلم يتحقق لها وجود ، فلا يجوز للبائع اشتراطها ، ولا استثناؤها ، لأنها كالجنين . هذا هو المشهور عندنا . وقيل : يجوز استثناؤها . وهو قول الشافعي . وخرج هذا الخلاف على الخلاف في المسمى . هل هو مبقى على ملك البائع ، أو هو مشترى من المشتري ؟
(14/42)
فرع : لو اشترى النخل وبقي الثمر للبائع ؛ جاز لمشتري الأصل شراء الثمرة . قبل طيبها على مشهور قول مالك . ويرى لها حكم التبعيه ؛ وإن أفردت بالعقد لضرورة تخليص الرقاب . وعنه في رواية : أنه لا يجوز. وبذلك قال الشافعي ، والثوري ، وأهل الظاهر ، وفقهاء الحديث. وهذا هو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها.
وقوله : (( من باع عبدًا ، فمال للبائع إلا أن يشترطه المبتاع )) ؛ دليل على صحة قولنا : إن العبد يملك ، خلافًا للشافعي ، وأبي حنيفة ، حيث قالا : إنه لا يملك . وقد تقدَّم ذلك. ويلتحق بالبيع في هذا الحكم كل عقد معاوضةٍ ، كالنكاح ، والإجارة . فأما العتق فيتبع العبد فيه مالُهُ ؛ لما رواه أبو داود عن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أعتق عبدًا وله مال ، فمال العبد له ، إلا أن يشترط السَّيد )). وقد رواه مالك في "الموطأ" موقوفًا على ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ . ولا يضره التوقيف ، فإن المرفوع صحيح السند . وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة ، والشافعي ، حيث قالا : إن المال في العتق للسيد. فأمَّا في الصدقة والهبة ، فهل يتبعه ماله فيهما ، أو لا ؟ قولان ، سببهما تردُّدهما بين البيع والعتق ؛ إذ فيهما شَبَهٌ من كل واحد منهما . وذلك : أن الهبة ، والصدقة خروج من ملك إلى ملك ، فاشبهت البيع ، وخروج عن ملك بغير عوض ، فاشبهت العتق . والأرجح : إلحاقها بالبيع ، وقطعها عن العتق ؛ لاختصاص العتق بمعنى لا يوجد في غيره ، على ما قد أوضحه أصحابنا في كتبهم . وأما الجناية : فالمال فيها تبع للرَّقبة ، فينتقل بانتقالها ؛ لأن العبد الجاني إذا كان له مال فالجناية فيه ، فإن وسع الجناية بقيت الرقبة لسيده ، وإن لم يكن له مال ؛ تعلَّقت برقبته ، فكان الرقبة مرجع عند العدم .
ومن باب النَّهي عن المحاقلة والمخابرة والمعاومة
(14/43)
قد تقدَّم القول في أصل اشتقاق المحاقلة . وقد فسَّرها ها هنا جابر : بأنَّها معنى بيع الزرع القائم بالحب كيلاً . وقال الجوهري في الصحاح : المحاقلة : بيع الزرع في سنبله بالبرِّ. وقد نُهِي عنه .
قلت : وهذا يرجع إلى المزابنة ، كما قدمناه . وقد فسرها غيره : بأنها كراء الأرض بما يخرج منها . وهو الذي صار إليه أصحابنا. فأمَّا المخابرة فمأخوذة من الخبر - بضم الخاء - وهو النصيب . هكذا حكاه أهل اللغة ، وأنشدوا عليه :
إِذَا مَا جَعلت الشاة للناس خبرة فَشَأنُك أنِّي ذاهبٌ لِشُؤوني
وقال ابن الأعرابي : أصل المخابرة مأخوذ من خيبر ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قد أقرها في أيدي أهلها على النصيب منها ، فقيل : خابرهم ؛ أي : عاملهم في خيبر .
قلت : وعلى هذا فلا تكون المخابرة منهيًا عنها ، وقد ثبت النهي عنها فهي غيرها . والصحيح ما حكاه الجوهري وغيره : أن المخابرة هي المزارعة بجزء مما يخرج من الأرض . وهو : الخِبْر أيضًا -بالكسر- ويشهد له ما ذكرناه آنفًا عن اللغويين . وعلى هذا فيكون الفرق بين المحاقلة والمخابرة : أن المحاقلة كراء الأرض بما يخرج منها مطلقًا. والمخابرة : كراؤها بجزء مما يخرج منها ؛ كثلث وربع . وقد قال بعض الناس : إنهما بمعنى واحد. والمشهور ما ذكرناه . وهو الأولى . والله تعالى أعلم. وسيأتي القول في كراء الأرض .
وقوله : نهى عن بيع الثمرة حتى تطعم ، ولا تباع إلا بالدراهم أو الدنانير إلا العرايا )) ؛ هذا المساق فيه تثبيجٌ بالتقديم والتأخير ، وذلك لا يجوز بالاتفاق ، لا بهما ، ولا بالعروض إلا على شرط القطع . فيجوز بالعين ، والعرض ، فلا يصح أن يكون ذلك استثناء من بيع الثمرة بوجه ، وإنما يصح رجوع الاستثناء للمحاقلة ، والمخابرة ، فإنها هي التي نهي عن بيعها إلا بالعين ، كما يأتي بعد هذا في حديث رافع بن خديج حيث قال : (( أمقا بالذهب والورق فلا بأس به)).
(14/44)
وقوله : (( إلا العرايا )) ؛ مستثنى من المزابنة ، كما جاء في الحديث المتقدِّم . وترتيب هذا الحديث أن يقال : نهى عن المحاقلة ، والمخابرة إلا بالدنانير أو الدراهم ، وعن المزابنة إلا العرايا . وهذا واضح ، والله أعلم.
وقوله زيد بن أبي أُنَيْسة لعطاء : (( أسمعت جابر بن عبدالله يذكر هذا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ قال نعم )) ؛ تحتمل هذه الإشارة أن تكون عائدة إلى الحديث ، وتفسيره المتقدم . فيكون كل ذلك من قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويحتمل أن تكون عائدة إلى الأمور التي نهى عنها في صدر الحديث لا إلى التفسير. وهو الأولى ؛ لقول عطاء : فسَّر لنا جابر ، فذكر التفسير.
التشقيح والتشقية - بالحاء والهاء - كما فسَّره الراوي بقوله : أن تحْمَرَّ وتَصْفَرَّ ، ويؤكل منها . وكذلك فسَّره أهل اللغة فقالوا : يقال أشقح النخل ، وشقَّح - مشدَّدًا - : إذا أزهى . ويقال : أشقه النخل - بالهاء - فيبدلون من الحاء هاءَ لتقارب مخرجيهما .
والمعاومة : بيع الثمر أعوامًا . وهو المعبَّر عنه باللفظ الآخر : بيع السنين . ولا خلاف في تحريم بيعه ؛ لكثرة الغرر والجهل .
والثُّنْيَا - بالضم والقصر ، على وزن الكُبرى - هي : الاسم من الاستثناء ، وكذلك : الثَّنوى - بفتح الثاء - على وزن : طَرْفَى . ذكر ذلك في الصحاح . قال الهروي : بيع الثُّنيا هو : أن يُستثنى من المبيع شيء مجهول ، فيفسد البيع . وقال القتبي : هو أن يبيع شيئًا جزافًا ويستثنى منه شيئًا .
قلت : والحاصل : أن الثنيا اسم جنس لما فيه استثناء ، سواء كان ذلك من البائع ، أو من المبتاع . فيكون الأصل في كل ذلك المنع لأجل النَّهي ، غير أن في ذلك تفصيلاً يظهر بصور :
الأولى : جائزة باتفاق ، وهي : أن يسثني البائع نخلات معينات من حائط ، قلَّت ، أو كثرت ؛ لأن البيع لم يقع عليهن ، بل على ما عداهن.
(14/45)
الثانية : أن يستثنى نخلات مجهولات ، أو كيلاً مجهولاً من الثمرة ؛ على أن يعين ذلك بعد البيع . فذلك ممنوع فاسد باتفاق ؛ لتناول النهي له وللجهل بالمبيع والغرر.
الثالثة : أن يستثني من الثَّمر كيلاً معلومًا . فذهب الجمهور إلى أن ذلك لا يجوز منه قليل ولا كثير . ورأوا أن ذلك النهي متناول له ؛ لما فيه من الجهالة . وذهب مالك في جماعة أهل المدينة : إلى أن ذلك جائز فيما بينه وبين ثلث الثمرة ، ولا يجوز زيادة على ذلك . ورأوا : أن خرص الثمرة وحَزْرها مما يُعرف مغدارها ، وأن استثناء القليل منها لا يكثر فيه الغرر . والقليل من الغرر مغتفر في مواضع كثير من الشرع . وما دون الثلث قليل .
قلت : وهذا تخصيص للعموم بالنظر .
الرابعة : أن يستثنى جزءًا من الثَّمرة مشاعًا . فيجوز عند مالك وعامة أصحابه ، قلَّ ، أو كثر. وذهب عبد الملك : إلى أنَّه لا يجوز استثناء الأكثر. والخلاف في ذلك مبني على جواز استثناء أكثر من الأقل ، وعدم جوازه . وقد بيّنا جوازه في الأصول(6).
الخامسة : أن يقول البائع للمشتري : أبيعك هذا الشيء بكذا ، على أنك إن جئتني بالثمن إلى أجل كذا رددت عليك ملكك . فهذا فاسد للنهي عنه ، ولأنه ذريعة للسَّلف الذي يجر نفعًا . ويفسخ ما لم يَفُتْ ، فإن فات ضمن بالقيمة ، ويُفيتُه ما يُفيت البيع الفاسد .
السادسة : أن يعقد المشتري على أنه إن لم يأت بالثمن إلى وقت كذا فلا بيع بينهما . فاختلف فيه . فبعضهم أبطل الشرط ، وصحح العقد. ومنهم من ألزم قائله الشرط ، وجعل للآخر الخيار . والوجهان مرويان عن مالك .
ومن باب كراء الأرض
نَهْيُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كراء الأرض وقوله : (( من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ، ولا يُكْرِها )) ؛ حجَّة لمن منع كراء الأرض مطلقًا ، وحرَّمه ؛ وهم : رافع بن خديج ، وابن عمر - فيما رجع إليه - ، وطاووس اليماني ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، والحسن البصري. وخالفهم في ذلك الجمهور . ثم هم فريقان :
(14/46)
الأول : أجاز كراءها بكلِّ ما يجوز أن يكون ثمنًا في البياعات من العروض ، والذهب ، والفضة ، والأطعمة المضمونة. وهو مذهب أبي حنيفة ، والشافعي ، والأوزاعي ، والثوري ، متمسكين بقول الله تعالى : {وأحل الله البيع } ، والإجارة بيعٌ ، وبقول رافع : أما بالذهب والفضة فلا بأس . وفي طريق آخر : أما بشيء معلوم مضمون فلا بأس ، وبقياس إجارة الأرض على العقار ، وهو من أقوى أنواع القياس ، لأنه في معنى الأصل. واعتذر هؤلاء عن أحاديث النَّهي بوجهين :
أما أبو حنيفة : فعلى أصله في ترجيح القياس على خبر الواحد. وأما الشافعي ومن قال بقوله : فيمكن أن يقال : حملوا مطلق تلك النواهي على مقتدها ، ورأوا : أن محل النهي إنما هو ما لم يكن مضمونًا ، ولا معلومًا . ويمكن أن يقال : إنهم صرفوا ظاهر النهي إلى التنزه عن ترك الأولى والأحسن ، كما فهم ابن عباس حيث قال : لم ينه عن ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إنما قال : (( يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ عليها خرَجًا معلومًا )) ، وفي اللفظ الآخر : (( لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا - لشيء معلوم - )). وقوله : (( لم ينه )) ؛ أي : لم ينه عنه نهي تحريم ، بل نهي تنزيه ، على ما تقرر .
(14/47)
الفريق الثاني : وهو مالك وأصحابه . فالمشهور من مذهبه : أنه لا يجوز كراؤها بشيء من الطعام كان ؛ مما تُنبته ، أو مما لا تنبته ؛ كالعسل واللبن وغيرهما ، ولا بشيء مما تنبته ما عدا القصب والخشب . وقال ابن كنانة : لا يكري بشيء إن أعيد فيها نبت ، ولا بأس أن يكري بغير ذلك. وبه قال يحيى بن يحيى ، وقال : إنه من قول مالك . وقال ابن نافع : تكرى بجميع الأشياء كلها ؛ ما أكل منها وما لم يؤكل ؛ خرج منها ، أو لم يخرج ؛ إذا كان ما تكرى به بخلاف ما يزرع فيها ، وكان مالكًا رحمه الله جمع بين الأدلة ، فحمل أحاديث النهي على كرائها بالطعام أو بما تنبت. وأدلة الإباحة على ما عدا ذلك ، وفهم : أن علة المنع : الرِّبا. وذلك : أن الأرض تكرى ليخرج منها الطعام ، فجعل لها حكم الطعام ، فلا يجوز أن تكرى بطعام ؛ لأنه يضارع طعامًا بطعام إلى أجل . وقد شهد بصحة ما رآه ما جاء في بعض ألفاظ حديث رافع بن خديج ؛ فيما خرَّجه أبو داود : أنه زرع أرضًا فمرَّ به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يسقيها ، فسأله : ((لمن الزرع ؟ ولمن الأرض ؟ )) فقال : زرعي بيدي وعملي ، ولي الشطر ، ولبني فلان الشطر . فقال : (( أربيتما ، فرُدَّ الأرض على أهلها ، وخذ نفقتك )). وهذا صريح : في أن ذلك من باب الربا وجهته . وهذا في الطعام واضح . وأما فيما ليس بطعام مما تنبته فسدٌ للذريعة على أصله ، والله أعلم . وهذا القدر كافي . وقد كتبنا في هذه المسألة جزءًا حسنا .
وقوله : (( كنا نأخذ الأرض بالثلث والربع بالماذيانات )) ؛ الماذيانات معروفة - بكسر الذال- ، وقد فتحت وليست عربية ، ولكنها سوادية. قاله الإمام . وهي : مسايل الماء . والمراد بها ها هنا : ما ينبت على شطوط الجداول ، ومسايل الماء . وهو من باب تسمية الشيء باسم غيره إذا كان مجاورًا له أو كان منه بسبب .
(14/48)
و (( أقبال الجداول ))- بفتح الهمزة - : أوائلها . و(( الجداول )) : السواقي . ويسمى الجدول : الربيع . ويجمع : ربعان . وقال الخليل : الأربعاء : الجداول . جمع ربيع .
ومعنى هذا : أن صاحب الأرض كان يؤاجر أرضه بالثلث ، أو بالربع ، وبأن يكون له ما يزرع على جوانب الأنهار والجداول ، وعلى أفواهها ، وكان منهم من يؤاجر أرضه بالماذيانات خاصة ، كما قال في الرواية الأخرى . وفي هذا الحديث حجة للجمهور وأئمة الفتوى : مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة . وهو مذهب ابن عباس ، وابن عمر ، ورافع بن خديج على منع كراء الأرض بجزء مما يخرج منها على من أجاز ذلك ؛ وهم : الليث بن سعد ، وابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، والحسن بن علي ، والأوزاعي . وهو مذهب علي وعمار ، وابن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص . ووجه الاستدلال بذلك : أن هذه كانت مزارعاتهم ، فلما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك نهى عنها ، وبين ما يجوز فعله في الأرض ، وهو : أن يزرعها بنفسه ، أو يزرعها غيره ، أو يكريها بشيء معلوم مضمون ، كما قد بيناه ، ولأن ذلك هي المخابرة المنهي عنها ، كما تقدَّم ، ولما فيه من الجهالة ، والغرر ، والخطر ، بل قد جاءت نصوص في كتاب أبي داود بتحريم ذلك :
فمنها : ما رواه عن زيد بن ثابت قال : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المخابرة . فقيل له : وما المخابرة ؟ قال : أن تأخذ الأرض بنصف ، أو ثلث ، أو ربع . وهذا نصٌّ من تفسير الصحابي ، وهو أعلم بالحال ، وأقعد بالمقال . وقد روي أيضًا من حديث جابر : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله )).
(( القِصْري ))- بكسر القاف والراء ، وسكون الضاد - : هو الرواية الصحيحة ؛ وهي ما يبقى من الحبوب في سنبله بعد الدَّرس . وهي لغة شاميه . قاله ابن دريد . وقد قيده بعضهم بفتح القاف مقصورًا ، وبعضهم بضمها مقصورًا .
(14/49)
وقول ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( كنا نكري الأرض على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإمارة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وصدرًا من خلافة معاوية )) ؛ يدل على أن ذلك كان أمرًا معمولاً به ، مشهورًا . وهو محمول على أنهم كانوا يكرونها بشيء معلوم ، مضمون . وأمَّا بالجزء مما يخرج منها فلا ، لما تقدَّم ، ثم إن ابن عمر ترك ذلك لما بلغه حديث رافع ترك ورع وتقية ، لا أنه جزم بالتحريم . ويظهر من قوله التوقف في حديث رافع بن خديج ، لكنه غتب حكم الورع ، فعمل على عادته ـ رضى الله عنه ـ . وأما سكوت ابن عمر عن مدَّة إمارة عليٍّ ، فلم يذكرها - والله أعلم - ؛ لأن ابن عمر لم يتفرغ فيها لكراء الأرض ، ولا للبحث عنها لما كان في تلك المدَّة من الحروب والفتن ، ولفراره عنها ، والله أعلم .
وعلى الجملة حديث رافع بن خديج مضطرب غاية الاضطراب ، كما قد وقع في الأصل وفي غيره من كتب الحديث . فينبغي ألا يعتمد عليه ، ويتمسك في جواز كرائها بشيء معلوم بالقياس الذي ذكرناه ، غير أنه لا تكرى بطعام مخافة طعام بطعام ، فإنها ريبة . وقد أمر عمر ـ رضى الله عنه ـ بتركها . والرِّبا أحق ما حُمِيت مراتعه(9) ، وسُدَّت ذرائعه ، ويسلك في الامتناع من ذلك طريقة الورع ، كما سلكها ابن عمر ، وهو الأسلم ، والله أعلم .
ومن باب المساقاة
(14/50)
وهي مأخوذة من السقي . وأصلها : تعاهد الأشجار بالماء . ثم قد صارت عبارة - بحكم العرف- عن العمل في الأشجار بما يصلحها من سقي ، وإبار ، وجداد ، وغير ذلك من العمل الذي تصلح به الثمرة على جزء مسمى ، يأخذه العامل من الثمرة . وقد اختلف العلماء في حكمها ، ومحلها ، ووقتها . فأما حكمها : فالجواز عند مالك ، والشافعي ، وابن أبي ليلى ، وكثير من الكوفيين ، تمسّكًا بهذه الأحاديث المذكورة في هذا الباب ، وبقياسها على القراض . وهو متفق عليه ؛ لأنها في معناه . ومنعها أبو حنيفة ، وزفر من أصحابه لما فيها من الغرر ؛ ولأنها من باب : بيع الثمر قبل طيبه . وهو منهي عنه كما تقدَّم . وحمل أحاديث مساقاة خيبر على أن أهلها كانوا عبيدًا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما أخذ فهو له ، وما أبقى فهو له ، وهذا بناه على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتحها عنوة . وهذا غير مُسَلّم له ، فإن خيبر كانت قرى كثيرة ؛ فمنها ما فتح عنوة ، ومنها ما فتح صلحًا ؛ كذلك رواه مالك ومن تابعه ، وهو قول ابن عقبة . ولو سُلِّم : أنه فتحها عتوة فلا نُسلّم أن السيد يجوز له أن يعامل عبده بالرِّبا ، ولا أن يعاقده عقدًا فاسدًا بغرر أو مجهول . وقد نصَّ في هذه : أنَّه عاقدهم عليها ، وشرط عليهم ، وشرطوا عليه . ولا يجوز أن يحمل ذلك على أنه انتزاع مال من أيديهم ، لا لغ ة ، ولا عرفًا . فبطل ما قالوه . وأما محلها : فمنعها داود في كل شيء إلا في النخل . والشافعي إلا في النخل ، والكرم . وأجازها مالك في سائر الشجر ؛ إذا احتاج للمساقاة . والمشهور عندنا : منعها في الزرع إلا إذا عجز عنه أهله. فأمَّا داود : فقصرها على محل ورودها ، وأما الشافعي : فبناه على أنها رخصة ، ولا تتعدى الرخص . لكنه قد ألحق بالنخيل الكرم ، مع أنه ليس فيه حديث صحيح . فإن كان ثبت عنده به نقل فقد صح له المشي على ذلك الأصل ، وإن لم يثبت ذلك فليزمه مذهب داود. والإلحاق كما ذهب إليه مالك ، لأن الشجر كله في معنى النخيل ، من حيث أنه يحتاج(14/51)
إلى علاج ، وعمل ، وسقي إلى انتهاء الثمرة . وهي أصول قائمة ثابتة يدوم أمرها ، وقد وم الحاجة إلى القيام عليها. ومن هنا فارقت الزرع القائم . فإن ألغينا هذا القيد ؛ جازت فيه المساقاة على ما تقدَّم . والله تعالى أعلم .
وأما وقت انعقادها : فعند الشافعي ما لم تظهر الثمرة ؛ لأنها إذا ظهرت فقد ملكها رب النخل ، فإذا دفع جزءها في مقابلة العمل ؛ فقد باع الثمرة قبل بدوِّ صلاحها . وعند مالك : ما لم تطب ، وإن كانت قد ظهرت. وعنه في ذلك بعد الطيب قولان . وأصلها في ذلك : أن القراض ، والمساقاة ، عقدان مستثنيان من الإجارة المجهولة ، للحاجة إلى ذلك ، وللرفق الحاصل لرب المال والعامل ؛ إذ ليس كل من له مال يحسن القيام عليه ولا العمل فيه ، ثم من الناس من يحسن العمل ولا مال له . فاقتضت حكمة الشرع أن يرفق بكل واحد منهما على ما تيسر غالبًا. ولما ظهر له ذلك طرد المعنى ، فحيث دعت الحاجة إلى ذلك أعملها. وعلى هذا فتجوز المساقاة في النخل بعد الطيب . وفي الزرع إذا عجز عنه أهله . والله أعلم .
وقوله : (( أعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيبر )) ، وفي لفظ آخر : (( عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع )) ؛ باثبات لفظ : (( أو )) التي للتنويع . أو بمعنى : (( الواو )) ، كما قال في الرواية الأخرى : (( على نصف ما يخرج منها من الثمر والزرع )) ؛ بغير ألف ، وظاهر هذا الحديث : أن أرض خيبر - أعني : بياضها - كان كثيرًا ، وأنه كان مقصودًا له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولهم ، وأنه ضم المساقاة في الأصول وكراء الأرض بما يخرج منها في عقد واحد. وتمسَّك به من قال : يجوز كراء الأرض بجزء مما تنبت ، كما تقدم . ويتمسَّك به أيضًا من يجوِّز أن يضم إلى المساقاة عقد غيرها .
(14/52)
قلت : والجمهور على ترك هذا الظاهر لما تقدَّم في منع كراء الأرض بجزء مما يخرج منها . وإذا منع ذلك منفردًا للغرر والرِّبا ؛ كان أحرى ، وأولى أن يمنع إذا اجتمع مع غيره مما يكثر فيه الغرر ، ولما كان ذلك حمل الجمهور هذا على أحد محملين .
فأمَّا مالك فقال : إن بياض خيبر كان قليلاً تابعًا للأصول بين أضعاف السواد ، فجاز ذلك فيه لتبعية الأصول ، وشرط في الجواز اتفاق البياض والأصول في الجزء . فلو اختلفا في الجزء لم يجز لزوال التبعية .
وقال غيره : يجوز أن يكون الذين ساقى غير الذين زارع . وتكون مزارعته لمن زارعه منهم على الوجه الجائز فيها ، ثم إن الراوي نقل ذلك جملة ، ولم يفضل كيف وقعت المزارعة ، ولا من الذين ساقوا من الذين زورعوا ، والله أعلم .
وقوله : (( وكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق )) ؛ يريد بقسمته بينهن أن لا تطالبه واحدة منهن بنفقة تلك السنة ، وهذا - والله أعلم - كان بعد أن كان أزواجه طالبنه بالنفقة ، وأكثرن عليه ، كما تقدَّم في كتاب النكاح. ويدل هذا على أن ادخار ما يحتاج الإنسان إليه ، ويعده للحاجات المتوقعة في الاستقبال ، ليس قادحًا في التوكل ، ولا منقصًا منه.
وقوله : (( فلما ولي عمر قسم خيبر )) ؛ يعني : قسم سهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان له بخيبر الذي كان وقفه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمؤونة عياله وعامله بعد إجلاء عمر اليهود منها . وإنما أجلى عمر بن الخطاب اليهود والنصارى من الحجاز ؛ لأنهم لم يكن لهم عهد من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بقائهم بالحجاز دائمًا ، بل ذلك كان موقوفًا على مشيئته ، ولما عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب ، وانتهت التوبة إلى عمر ، أخرجهم من الحجاز إلى تيماء ، وأريحاء ، على ما يأتي ، إن شاء الله تعالى .
(14/53)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نقركم بها على ذلك ماشئنا ، تمسَّك به بعض أهل الظاهر على جواز المساقاة إلى أجل مجهول. وجمهور الفقهاء : مالك ، والشافعي ، والثوري ، وأكثر علماء المدينة : على أنها لا تجوز إلا لأمد معلوم. وقالوا : إن هذا الكلام جواب لما طلبوه حين أراد إخراجهم منها. وقولهم له : على أن نكفيكم العمل ، إنما كان منهم على سبيل إظهار المصلحة المرغبة في إبقائهم في تلك البلاد ، فكأنهم قالوا : إبقاؤنا فيها أنفع لكم من إخراجنا ؛ لأنا نكفيكم مؤونة العمل في أرضيكم ، وتأخذون نصف ما يخرج منها ، فإن أخرجنا بقيت الأرض أو غالبها لا عامر لها. فلما فهمت المصلحة أجابهم إلى الإبقاء ، ووقفه على مشيئته . وبعد ذلك عاملهم على عقد المساقاة ، والله أعلم .
وقد دلَّ على ذلك قول ابن عمر : (( عامل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل خيبر على شطر ما يخرج منها )). فافرد العقد بالذكر دون ذكر الصلح على الإبقاء. فإن قيل : فلم ينصّ ابن عمر على مدَّة معلومة ، لا هو ولا غيره ممن روى القصة ، فمن أين يشترط الأجل ؛ فالجواب : أن الإجماع قد انعقد على منع الإجارة المجهولة فيما من شأنه أن يعرف العمل فيه بالزمان.
(14/54)
والمساقاة من باب الإجارة ، لكن اغتُفِرَت فيها حالة جهالة مقدار ما يحصل من الأجرة . وهذا موضع الرخصة الخاصة بها ، فاستثني جواز ذلك ، وبقي تعيين الزمان على أصله من وجوب المراعاة . فإن قيل : لا نسلم أنها من باب الإجارة ، بل هي أخت القراض ، أوهو أصلها ، كما قدمتم . والقراض لا يحتاج إلى مدة ، فكذلك المساقاة. فالجواب : أن المساقاة ، وإن أشبهت القراض ، فيما ذكرناه ، غير أنها تفارقه من وجه آخر ؛ وهو : أن الفائدة الحاصلة منها مقيدة في العادة بالزمان ؛ إذ الغالب من الثمرة أنها لا بدّ منها في كل سنة ، وهي الفائدة. ولذلك قلنا نحن وأبو ثور : إذا وقعت المساقاة ، ولم تتعين فيها مدة ، صحت ، وحملت على مدة فائدة تلك السَّنة ، وليس كذلك القراض ؛ إذ لا يدرى هل يحصل منه فائدة أو لا ؟ وإذا حصلت فلا يدرى ما هي ؟ فكان القراض بباب الجعل أولى ، ولذلك كان في المشهور عقدًا جائزًا ، ولا يحتاج إلى أجل. وكانت المساقاة بباب الإجارة أولى(9) ، ولذلك كانت عقدًا لازمًا ، واحتاج إلى ضرب الأجل ، والله أعلم.
وعلى هذا فيحتمل الحديث أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عيَّن للمساقاة أجلاً لم يسمعه الراوي ، فلم ينقله ، أو وقع عقد المساقاة ، وحمل على سنة واحدة ، فلما جاءت السنة الأخرى بقاهم على ذلك . وهكذا في الأعوام المتوالية ، والله أعلم .
وقوله : (( دفع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نخل خيبر ليهودها على أن يعملوها من في أموالهم )) ؛ يعني به : النفقة فيما تحتاج الثمرة إليه من نفقة الأجراء ، والدواب ، والعلوفة ، والآلات ، والأجر في العزاق والجداد ، وغير ذلك مما يذهب بذهاب المساقاة . وأما ما يبقى بعدها كبناء حائط ، أو حفر بئر أو نحوه فلا يلزم العامل .
(14/55)
وقوله : (( كان يعطي أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل سنة مائة وسق : ثمانين وسق من تمر ، وعشرين وسق من شعير )) ؛ دليل لمالك : على قوله : أن بياض خيبر كان تابعًا لسوادها . ألا ترى : أن الشعير خمس ، والتمر أربعة أخماس ؛ ولذلك صحَّ أن يدخل في المساقاة بالشرط ، ولكن بشرط اتفاق الجزء كما تقدَّم . وقد استحب مالك أن يلغيه للعامل رفقًا به ، وإحسانًا إليه . وهذا الحديث وغيره دليل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قسم أرض خيبر على خمسة أخماس ، على قسم الغنائم . وكذلك قال الشافعي. وهو مقتضى عموم قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } ، ومالك وأصحابه يرون إيقاف الأرض للمسلمين ممن حضر وغاب ، وممن يأتي بعد ، تمسكًا بفعل عمر ـ رضى الله عنه ـ في أرض العراق والشام ومصر ، فإنه أقرها ، ولم يقسمها ، واحتج بقوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم } ، وتأول عطفه على قوله : { للفقراء المهاجرين } ، وذهب الكوفيون إلى تخيير الإمام في قسمتها ، أو إقرارها بأيدي أهلها ، وتوظيف الخراج عليها ، وتصييرها ملكًا لهم كأرض الصلح .
(14/56)
فإن قيل : فكيف يرفع فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعمله بمقتضى عموم الآية بقول عمر وفعله ؟ فالجواب : أن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فهم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الذي فعله في قسم خيبر ليس على جهة التحتم الذي لا يجوز غيره ، وإنما هو أحد الوجهين الجائزين . غير أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظهر له : أن الأولى قسمتها في ذلك الوقت ، لشدَّة حاجة أولئك الغانمين . ولما كان زمن عمر ـ رضى الله عنه ـ اتسعث أموال المسلمين لكثرة الفتوحات عليهم ؛ فرأى : أن إيقافها لمصالح المسلمين أولى من قسمتها ، وتابعه على ذلك أهل عصره ، ولم يخالفه أحد من الصحابة ، فصار كالاجماع على صحة ما فعل وجوازه . وعند هذا يظهر : أن الأولى قول الكوفيين ؛ الذي هو التخيير ؛ لأنه جمع بين الأمرين . وهو الذي فهمه عمر ـ رضى الله عنه ـ قطعًا . ولذلك قال عمر ـ رضى الله عنه ـ فيما رواه عنه مالك : لولا أن أترك آخر الناس لا شيء لهم ما افتتح المسلمون قرية إلا قسمتها سهمانًا ، كما قسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيبر سهمانًا . فلم يخبر بنسخ فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا بتخصيصه بهم . فلم يبق إلا ما ذكرناه . غير أن الكوفيين زادوا على فعل عمر . فإن عمر إنما وقفها على مصالح المسلمين ، ولم يملكها لأهل الصلح ، وهم قالوا للإمام أن يملكها أهل الصلح . وأما من لم يسلك هذه الطريقة فيلزمه : إما نسخ. فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفعل عمر ـ رضى الله عنه ـ وهو باطل قطعًا . وإما نسبة عمر ـ رضى الله عنه ـ ومن كان معه من الصحابة إلى الخطأ ، حيث فعلوا ما لا يجوز . وهو باطل قطعًا. وقد استمر العمل بين الأمة بعد ذلك الصدر على استمرار وقف تلك الأراضي التي وقف عمر ـ رضى الله عنه ـ إلى الآن ، ولم يتعرضنَّ أحد إلى نقضها ، ولا إلى تغييرها عما وضعها عليه عمر - فيما علمت - حتى اليوم . فتطابق إجماع السابقين واللاحقين ، ولم يلتفت إلى من خالفهم من المتأخرين . وإنما خيّر عمر ـ رضى الله عنه ـ أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين إقطاع الأرض ، وبين ضمان الأوساق مبالغة في صيانتهن ، وكفايتهن التبذل في تحصيل ذلك ، فسلك معهن ما يطيب قلولهن ويصونهن . ولم يكن هذا الإقطاع لمن اختاره منهن إقطاع تمليك(14/57)
؛ لأنه لو كان ذلك منه لكان تغييرًا لما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد قال عمر لعليّ والعباس : لا أغير من أمره شيئًا ، إني أخاف إن غيّرت من أمرها شيئًا أن أزيغ . وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( ما تركت بعد نفقة عيالي ، ومؤونة عاملي فهو صدقة )) ، ووقف الأرض لذلك . وإنما كان ذلك إقطاع اغتلال . وذلك أنه قسم عدد الأوساق المائة على عدد أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن اختارت الأوساق ضمنها لها . ومن اختارت النخل أقطعها قدر ذلك لتتصرف فيها تصرف المستغل ، لا المالك ، والله أعلم .
ومن باب فضل من غرس غرسًا
قوله : (( ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة...)) الحديث ؛ إنما خصَّ المسلم بالذكر لأنه ينوي عند الغرس غالبًا أن يتقوَّى بثمر ذلك الغرس المسلمون على عبادة الله تعالى ، ولأن المسلم هو الذي يحصل له ثواب . وأما الكافر فلا يحصل له بما يفعله من الخيرات ثواب ، وغايته أن يُخَفَّف العذاب عنه ، وقد يطعم في الدنيا ، ويعطى بذلك ؛ كما تقدَّم في كتاب الإيمان .
ويعني بـ (( الصدقة )) هنا : ثواب صدقة مضاعفًا ، كما قال تعالى : {مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبَّة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبّة } ؛ وفيه دليل : على أن الغراس ، واتخاذ الضياع مباح ، وغير قادح في الزهد ، وقد فعله كثير من الصحابة. وقد ذهب قوم من المتزهدة : إلى أن ذلك مكروه وقادح. ولعلّهم تمسكوا في ذلك بما قد خرَّجه الترمذي من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تتخذوا الضيعة ، فتركنوا إلى الدنيا )) ، خرَّجه من حديث ابن مسعود ، وقال فيه : حديث حسن .
(14/58)
والجواب : أن هذا النهي محمول على الاستكثار من الضياع والانصراف إليها بالقلب الذي يفضي بصاحبه إلى الركون للدنيا. فأما إذا اتخذها غير مستكثر ، وقلَّل منها ، وكانت له كفافًا وعفافًا فهي مباحة ، غير قادحة في الزهد ، وسبيلها كسبيل المال الذي استثناه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( إلا من أخذه بحقه ، ووضعه في حقه )) ، فأمَّا لو غرس ، أو اتخذ الضيعة ناويًا بذلك معونة المسلمين ، وثواب ما يؤكل ويتلف له منها ، ويفعل بذلك معروفًا ، فذلك من أفضل الأعمال ، وأكرم الأحوال ، ولا بُعْد في أن يقال : إن أَجْرَ ذلك يعود عليه أبدًا دائمًا ، وإن مات وانتقلت إلى غيره . ولولا الإكثار لذكرنا فيمن اتخذ الضياع من الفضلاء ، والصحابة جملة من صحيح الأخبار .
وقوله : (( ولا يرزؤه أحد )) ؛ أي : لا ينقصه . يقال : ما رزأته زِبَالاً ؛ أي : ما نقصته . والزبال : ما تحمله النملة في فيها .
وقوله : (( دخل على أمِّ مبشِّر )) ؛ هذا أصحّ الروايات الواقعة في كتاب مسلم . وقد روي فيه : أمُّ مِعْبَد . وقد روي : أمُّ معبد ، أو أم مُبشر على الشك ، وقد روي : عن أم بشر. وقد روي عن(@) امرأة زيد بن حارثة . قال أبو علي الجياني : إن الصواب : أم مبشر. قال : وكذا في ديوان الليث بن سعد . قال : وقال لي أبو عمر : أم مبشر الأنصارية بنت البراء بن معرور ، وزوج زيد بن حارثة . ويقال لها : أم مبشر : واسمها فيما قيل : خليدة. ولم يصح .
ومن باب وضع الجوائح
قوله : (( لو بعت من أخيك ثمرًا ، فأصابته جائحة ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا ، بم تأخذ مال أخيك بغير حق )) ؛ دليل واضح على وجوب إسقاط ما أُجيح من الثمرة عن المشترى . ولا يلتفت إلى قول من قال : إن ذلك لم يثبت مرفوعًا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما ثبت من قول أنس ؛ لأن ذلك ليس بصحيح ؛ بل الصحيح : رَفْعُ ذلك من حديث جابر وأنس. على ما ذكرناه في الأصل ، واعتضد ذلك بأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوضع الجوائح .
وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال :
(14/59)
أحدها : لا يوضع منها شيء عن المشتري ؛ لأنها كلها في ضمانه بالشراء . وبه قال الشافعي في الجديد .
وثانيها : أنها توضع عنه ، قليلها ، وكثيرها . وبه قال أحمد بن حنبل ، وأبو عبيد القاسم بن سلام . وبه قال الشافعي في القديم .
وثالثها : الفرق بين أن تأتي الجائحة على الثلث فأكثر ، فتوضع عن المشتري ، أو على أقل من الثلث ، فلا توضع ، وتكون منه ، وهو قول مالك وأ صحابه .
حجة القول الأول : حديث أبي سعيد الخدري ؛ الذي قال فيه : أصيب رجل في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثمار ابتاعها ، فكثر دينه ، فتصدَّق الناس عليه ، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لغرمائه : ((خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك )). وهذا واضح في أنه أُجيحت الثمرة ، ولم يوضع منها شيء عن المشتري ، ويعتضد هذا : بأنه قد أقبضه ؛ إذ قد خلَّى بينه وبينها . وذلك هو قبضها ، فإن قبض كل شيء بحسبه . وقد انفصل أصحابنا عن هذا الحديث : بأن الأحاديث المتقدِّمة أولى لوجهين :
أحدهما : أنما ذكرت لبيان القاعدة وحكمها . وهذا الحديث واقعة معينة . فالأول أولى .
وثانيهما : أنه يحتمل أن يكون اشترى تلك الثمرة بعد تناهي طيبها ، وإذ ذاك لا تحتاج إلى تبقية ، ولا إلى سَقي ، فيكون ضمانها من المشتري على كل حال .
حجة القول الثاني : ما تقدَّم من الحديث . ويعضد ذلك : بأنها بقي فيها حق توفية . فكانها لم تقبض . وذلك : أنها محتاجة إلى بقائها إلى تكامل طيبها على أصولها ؛ إذ بقي على البائع سقيها إلى انتهائها ، فكان ذلك كالتوفية بالكيل والوزن . فما بيع بذلك فهلك قبل كيله ووزنه ، فمصيبته من بائعه قولاً واحدًا .
(14/60)
وأما تفريق مالك بين القليل والكثير فوجهه : أن القليل معلوم الوقوع ، بحكم العادة ؛ إذ لا بدَّ من سقوط شيء منه ، وعفنه ، وتتريبه. فكان المشتري دخل عليه ، ورضي به ، وليس كذلك الكثير. فإنه لم يدخل عليه . فلما افترق الحال في العادة فينبغي أن يفترق في الحكم . وإذا لم يكن بُدٌّ من فرق بينهما ، فالقليل ما دون الثلث . والكثير : الثلث فما زاد ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الثلث ، والثلث كثير ، أو كبير )).
ثم هل يعتبر ثلث مكيله الثمرة ، أو ثلث الثمن ؟ قولان :
الأول لابن القاسم . والثاني لأشهب . وقد اعتذر لأبي حنيفة عن الأمر بوضع الجوائح : بأن ذلك إنما كان فى حق من باع الثمرة قبل بدوِّ الصلاح ، كما كانوا يفعلون قبل النهي عن ذلك . وأجيب بأن ذلك تخصيص لا دليل عليه . فإن الأمر بوضع الجوائح عام . وأيضًا : فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لو بعت من أخيك ثمرًا ... )) ؛ يدل على البيع الشرعي ، لا الممنوع . فكيف يذكر البيع الفاسد ، ولا ينهى عنه ، ولا يبين فساده ، ثم يعدل عنه في إبطاله إلى أمر خارج عنه ؛ فظاهر هذا الحديث : أن هذا البيع وقع صحيحًا. وذلك لا يعون إلا بعد الزهو ، ثم طرأت الجائحة . فعلل منع حِلِّيَةِ المال بها . وحاصل ما ذكرنا : أن الأمر بوضع الجائحة يتضمن صحة بيع ما توضع فيه الجائحة لا إفساده . وهذا واضح لمن تأمَّله .
وقوله : (( إذا منع الله الثمرة )) ؛ أي : إذا منع تكاملها ، وطيبها . لأن الثمرة قد كانت موجودة مزهية حين البيع ، كما قال في الرواية الأخرى : (( إن لم يثمرها الله )) ؛ أي : لم يكمل ثمرتها . وقد تقدَّم القول في أصل الجائحة في كتاب الزكاة .
(14/61)
واختلف أصحابنا في حدِّها. فروي عن ابن القاسم : أنها ما لا يمكن دفعه . وعلى هذا فلا يكون السارق جائحة . وكذا في كتاب محمد. وفي الكتاب : إنه جائحة . وقال مُطرِّف وابن الماجشون : الجائحة : ما أصاب الثمرة من السماء من عَفَنٍ ، أو برد ، أو عطش ، أو حرٍّ ، أو كسر الشجر بما ليس بصنع آدميّ . والجيش ليس بجائحة . وفي رواية ابن القاسم : إنه جائحة .
ومن باب قسم مال المفلس
قوله : (( أصيب رجل في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثمار ابتاعها )) ؛ هذا الرَّجل هو معاذ بن جبل . وكان غرماؤه يهود ، فكلمهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أن يخففوا عنه ، أو ينظروه ، فأبوا ، فحكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما ذكر. وظاهر هذا الحديث : أن الجائحة أتت على كل الثمرة ، حتى لم يبق له منها مايباع عليه ، فقد ثبتت عسرته . فحكمه الإنظار إلى الميسرة ، كما قال الله تعالى . فمن كان كذلك فلا يحبس مثله خلافًا لشريح ؛ فإنه قال : يحبس أبدًا ، ولا يلازم. خلافًا لأبي حنيفة ؛ فإنه قال : يلازم لإمكان أن يظهر له مال ، ولا يكلَّف أن يكتسب ، لا هو ولا مستولدته . وهذا كلّه مردود بنص القران ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لغرماء معاذ : (( خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك )). ولا يجب أن يتصدق عليه ، ومن فعل ذلك ، أو حضَّ عليه كان خيرًا له ، وفيه ثواب كثير ؛ لأنه سعى في تخليص ذمة المسلم من المطالبة المستقبلة ، أو من الإثم اللاحق بتأخير الأداء عند الإمكان إن كان قد وقع ذلك . وفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بمعاذ ليتبين خصومه : أنه ليس عنده شيء ، ولتطيب قلوبهم بما أخذوا ، فيسهل عليهم ترك ما بقي ، وليخفف الدَّين عن معاذ ، وليتشارك المتصدقون في أجر المعونة وثوابها. وليكون ذلك سُنَّه حسنة .
وفيه ما يدل على نسخ بيع الجزء في الدَّين ، كما كان في أول الإسلام . وعلى نسخه تدل الآية ، والإجماع.
(14/62)
وقوله : (( خذوا ما وجدتم )) ؛ يدلُّ على أن المفلس يؤخذ منه كل ما يوجد ما له ، ويستثنى من ذلك ما كان من ضرورته . وروى ابن نافع عن مالك : أنه لا يترك له إلا ما يواريه . والمشهور : أنه يترك له كسوته المعتادة ، ما لم يكن فيها فضل ، ولا ينزع منه رداؤه ، إن كان ذلك مزريًا به ، أي : منقصًا. وفي ترك كسوة زوجته ، وبيع كتبه إن كان عالمًا خلافٌ . ولا يترك له مسكن ، ولا خاتم ، ولا ثوب جمعته ، ما لم تقِلَّ قيمتها .
و (( الخصوم )) : جمع خصم ، كفلس وفلوس . وقد يقال : خصم . على الجمع ، والاثنين ، كما قال تعالى : { وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تَسَوَّروا المحراب }. ويقال : خصم أيضًا للمذكر والمؤنث .
وقوله : (( وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه )) ؛ أي : يسأله أن يضع عنه ، ويرفق به . و(( المتألي )) : الحالف . يقال : تألَّى ، يتألَّى ، وائتلى ، يأتلي . وآلى يؤلي . كل ذلك بمعنى الحلف .
وفيه ما يدلُّ على أن سؤال الحطيطة والرفق جائز ؛ إذ لم ينكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك إذ سمعه . وقد كره مالك ذلك ، لما فيه من المهانة ، والمنَّة .
قلت : وهذه الكراهية من مالك : إنما هي من طريق تسمية ترك الأولى : مكروهًا .
وقوله : (( فله أي ذلك أحبَّ )) ؛ أي : الوضع أو الرفق . وكان حقه : أي ذينك . فإن المشار إليهما اثنان ، لكنه أشار إلى الكلام المتقدِّم المذكور. فكأنه قال : فله أي ذلك المذكور أحب. كما قال تعالى : {ومن يفعل ذلك يلق أثامًا } ، وإذا تأملت هذا الكلام بَانَ لك لطافة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحُسن سياسته ، وكرم خلق الرَّجل ، ومسارعته إلى فعل الخير .
(14/63)
وقوله : (( إن كعبًا تقاضى ابن أبي حَدْرد دَيْنًا في المسجد )) ؛ أي : سأل من ابن أبي حدرد أن يقضيه دينه الذي له عليه ، فارتفعت أصواتهما بسبب ذلك حتى سمعهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بيته ، ولم ينكر عليهم ، فكان ذلك دليلاً على استباحة مثل ذلك في المسجد ما لم يتفاحش . فإن تفاحش كان ذلك ممنوعًا ؛ إذ قد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن رفع الأصوات في المساجد .
وقوله بالإشارة : (( ضع الشطر من دينك )) ؛ دليل : على أن الإشارة بمنزلة الكلام إذا فُهِمَت ؛ لأنها دلالة على الكلام كالحروف والأصوات ، فتصح شهادة الأخرس ، ويمينه ، ولعانه ، وعقوده إذا فهم ذلك عنه ، وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر على جهة الإرشاد إلى الصلح . وهذا صُلح على الإقرار ؛ لأن نزاعهما لم يكن في أصل الدَّين ، وإنما كان في التقاضي . وهو متفق عليه . وأما الصُّلح على الإنكار ، فهو الذي أجازه مالك ، وأبو حنيفة والشعبي ، والحسن البصري . وقال الشافعي : الصلح على الإنكار باطل. وبه قال ابن أبي ليلى .
وقوله : (( قم فاقضه )) ؛ أمرٌ على جهة الوجوب ؛ لأن ربَّ الدَّين لَمَّا أطاع ما وضع تعيَّن على الْمِديان أن يقوم بما بقي عليه ، لئلا يُجْمع على ربِّ الدَّين وضيعة ومُطل . وهكذا ينبغي أن يبتَّ الأمر بين المتصالحين ، فلا يترك بينهما علقة ما أمكن .
ومن باب من أدرك مالاً عند مُفلس
(14/64)
قوله : (( إذا أفلس الرَّجل فوجد الرَّجل عنده سلعته بعينها فهو أحق بها )). وقوله : (( أفلس الرجل )) : في اللغة : صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دنانير ، كما يقال : أخبث الرجل ، أي : صار أصحابه خبثاء . وأقطف الرَّجل ؛ إذا صارت دابته قطوفًا . والمفلس في عرف العرب : من لا مال له عينًا ، ولا عرضًا ، ولا غيره . ولذلك لما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه ـ رضى الله عنهم ـ : (( أتدرون من المفلس ؟ )) قالوا : ما هو المعروف عندهم ، فأجابوه بقولهم : من لا درهم له ، ولا متاع . وهو في عرف الشرع : عبارة عن مِذْيان قصر ما بيده عن وفاء ما عليه من الديون ، فطلب الغرماء أخذ ما بيده . وإذا كان ذلك كذلك ، فللحاكم أن يحجر عليه ، ويمنعه من التصرف فيما بيده ، ويُحَصِّله ، ويجمع الغرماء ، فيقسمه عليهم . وهذا هو مذهب الجمهور من الصحابة وغيرهم ، كعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وعروة بن الزبير ، والأوزافي ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد . وقال النخعي والحسن البصري وأبو حنيفة : ليس للحاكم أن يحجر عليه ، ولا يمنعه من التصرف في ماله ، لكن يحبسه ليوفي ما عليه ، وهو يبيع ما عنده . والحجة للجمهور على هؤلاء حديث تفليس معاذ المتقدم . وقد قال فيه الزهري : ادَّانَ معاذٌ فباع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماله حتى قضى دينه. وكذلك فعل عمر بن الخطاب بالجهني الذي قال فيه : ألا إن أُسَيْفَعَ جُهينة رضي لدينه وأمانته أن يقال : سَبَقَ الْحَاجَّ ، ثم ادَّان مُعرضًا . فمن كان له عليه دين فليحضر ، فإنا نبيع ماله. ولم يخالفه أحدٌ ، ثم يباع عليه كل ماله وعقاره . وقال أبو حنيفة : لا يباع عليه عقاره . وقوله مخالف للأدلة التي ذكرناها ، فإنها عامة لجميع الأموال ، ولأن الدَّين حق مالي في ذمَّته ، فيباع عليه فيه عقاره ، كما يباع في نفقة الزوجات ، ولأن الفلس معنى طارئ يوجب قسمة المال ، فيباع فيه العقار كالموت .
(14/65)
وقد اختلف العلماء في مشتري السِّلعة إذا أفلس أو مات ، ولا وفاء عنده بثمنها ووُجِدت . فقال الشافعي : صاحبها أحق لها في الفَلَس والموت . وقال أبو حنيفة : صاحبها أسوة الغرماء فيهما. وقال مالك : هو أحق بها في الفَلَس دون الموت . وسبب الخلاف : معارضة الأصل الكلِّي للأحاديث . وذلك : أن الأصل أن الدَّين في ذمَّة المفلس والْمَيِّت وما بأيديهما محل للوفاء ، فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم ، ولا فرق في هذا من أن تكون أعيان السلع موجودة ، أو لا ؛ إذ قد خرجت عن ملك بائعها ، ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع ، فلا يكون لهم إلا أثمانها إن وجدت ، أو ما وُجِد منها . فتمسَّك أبو حنيفة بهذا ، وردَّ الأخبار بناءً على أصله في ردِّ أخبار الآحاد عند معارضة القياس . وأما الشافعي ومالك : فتمسكا بالأخبار الواردة في الباب ، وخصَّصَا بها تلك القاعدة . غير أن الشافعي تمسَّك في التسوية بين الموت والفَلَس بما رواه أبو داود من حديث أبي المعتمر ، عن عمر بن خَلْدة قال : أتينا أبا هريرة ـ رضى الله عنه ـ في صاحب لنا أفلس . فقال : لأقضين فيكم بقضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من أفلس أو مات ، فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به . وبإلحاق الموت بالفلس ؛ لأنه في معناه ، ولم ينقدح بينهما فرق مؤثر عنده . وأما مالك : فإنه فرَّق بينهما ، لما رواه عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبدالرحمن : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( أيُّما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه ، ولم يقبض من ثمنه شيئًا ، فوجده بعينه ، فهو أحق به ، فإن مات الذي ابتاعه ، فصاحب المتاع أسوة الغرماء )).
(14/66)
قلت : وهذا مرسل صحيح . وقد أسنده أبو داود من حديث أبي بكر بن عبدالرحمن عن أبي هريرة ، وهو طريق صحيح ، وفيه زيادة ألفاظ نذكرها بعد إن شاء الله تعالى ، ومذهب مالك أولى ؛ لأن حديثه أصح من حديث الشافعي ؛ لأن أبا المعتمر مجهول على ما ذكره أبو داود ، وللفرق بين الفلس والموت ، وذلك : أن ذمَّة المفلس باقية ، غير أنها انعابت ، ويمكن أن يزول ذلك العيب بالإيسار ، فيجد الغرماء الذين لم يأخذوا من السلعة شيئًا ما يرجعون عليه ، وليس كذلك في الموت ، فإن ذمَّة الميت قد انعدمت ، فلا يرتجعون شيئًا ؛ فافترقا ، والله أعلم .
وقد تعسَّف بعض الحنفية في تأويل أحاديث الإفلاس تأويلات لا تقوم على أساس ، ولا تتمشى على لغةٍ ، ولا قياسٍ. فليُضرب عن ذكرها ، لوضوح فسادها .
وقوله : (( فوجد الرَّجل سلعته بعينها ، فهو أحق بها )) ؛ مقتضى دليل خطابه : أنَّه لو وجدها قد تغيَّرت عن حالها ، أو وجد بعضها ، لم يكن له أن يأخذها . وهذا يليق بمذهب أهل الظاهر . لكن علماؤنا فضلوا التغيُّر إلى ثلاثة أنواع :
النوع الأول : تغير انتقال ، كالعبد المتغيِّر بزمانة ، أو بعتق ، أو عقد من عقوده . وكالثوب المتغير بقطعه قُمُصًا ، أو غيرها ، وكالحنطة المتغيرة بخلط مُسوِّس بها أو بغير نوعها ، أو بطحنها ، أو خبزها . وكالخشبة المتغيرة بجعلها بابًا ، أو غيره. فهذا النوع مفوِّت ، ليس له الرُّجوع معه .
الثاني : تغيُّر غير انتقال ، كالمتغير بالمرض اليسير ، وكخلط القمح بمثله . فهذا له الرُّجوع فيه ؛ إذ لا أثر لذلك التغير. ومن هذا النوع وجدان بعض السلعة . فله أن يأخذه ويضرب معهم بسهمه فيما بقي .
الثالث : تغيُّر بإضافة غير السلعة إليها ، كالعرصة تُبنى ، والغزل يُنسج . فهذا يرجع في سلعته ، ويدفع قيمة البناء ، والنسج . وله مشاركة الغرماء في تلك القيمة ؛ إن بقي له من دينه شيء .
وفي هذا الباب فروع مختلف فيها بسبب تردُّدها بين هذه ا لأنواع .
(14/67)
وقوله في حديث الزهري ؛ الذي خرَّجه أبو داود : (( فإن كان قضاه من ثمنه شيئًا ، فما بقي فهو أسوة الغرماء )) ؛ بمقتض هذا قال الشافعي ، فرأى : أن قبض بعضه مفوِّت . ولم يره مالك مفوِّتًا ، مع أنه روي معناه عن الزهري ، كما قدَّمناه من حديثه . فقال-أعني مالكًا- : إن شاء ربُّ السِّلعة أن يردَّ ما اقتضى ، ويأخذ السِّلعة ، كان له ذلك . وهذا مخالف لذلك الظاهر . وفيه إشكال ، غير أنّ الذي صح عند مالك هذا اللفظ الذي في "موطئه" ؛ أعني مرسل أبي بكر بن عبدالرحمن ، ونصَّه ما قد بيَّنَّاه . وهو يدل : على هذا الشرط بدليل المفهوم . وحديث أبي هريرة الذي في الأصل يدلُّ على إلغاء ذلك الشرط بدليل العموم . والتمسك به راجح على التمسك بالمفهوم كما ذكرناه في أصول الفقه . فتأمل هذا ، فإنَّه حَسنٌ بالغٌ . والشافعي حيث تمسك بما رراه أبو داود من ذلك كان يلزمه أن يفرِّق بين الموت والفَلَس ؛ لأن الحديث واحد ، فإنه قال فيه : (( وأيُّما امريء هلك وعنده متاع امريء بعينه اقتضى منه شيئًا ، أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء )). فأخذ ببعضه ، وترك بعضه لحديث مجهول ، كما قد بيَّنَّاه .
(14/68)
وما تقدَّم من الأحاديث في المفلس تدلُّ على أن جميع ما عليه من الدَّين يدخل في المحاضَّة ، ما حل منها ، وما لم يحل . وهو قول الجمهور ، خلا أن الشافعي قال في أحد قوليه : لا يحل ما عليه من دين مؤجل . وهذا ليس بصحيح للأحاديث المتقدِّمة ؛ ولأنه إذا خربت ذمَّة المفلس فقد لا تعمر. فلا يحصل لمن تأخر دينه في شيء مع أنه يمكن أن يكون عِوَض دينه موجودًا حال الفلس ، أو بدله ، فيؤخذ سيئه ولا يحصل له شيء ، وإذا كان ذلك في الفلس كان الموت بذلك أولى . وهو متفق عليه ، إلا ما يحكى عن الحسن أنه قال : لا يحل ما على الميت من ديني مؤجل . وهو محجوج بما تقدَّم ؛ وبأن الدَّين إما أن يبقى متعلقًا بذمة الميت ، وهو محالٌ لذهابها ، أو بذمَّة الورثة ، وهو محال لعدم الموجب . ثم لا يلزم صاحب الدَّين اتباع ذمَّتهم ، وتسليم التركة إليهم . أو يبقى هذا الدَّين لا في ذمَّة ؛ فلا يطالب به أحدٌ ، وهو محال . فلم يبق إلا ما ذكرناه ، والله أعلم .
ومن باب إنظار الْمُعْسِر والتجاوز عنه
الإنظار : التأخير. والمعسر هنا : هو الذي يتعذَّر عليه الأداء في وقت دون ص وقت . فندب الشرع إلى تأخيره إلى الوتت الذي يمكنُ له ما يؤدي . وأما الْمُعْسِر بإفلاس : فتحرم مطالبته إلى أن يتبين يساره . والمال : ما يتموَّل ، أو يُتملَّك من عين ، وعَرَض ، وحيوان ، وغير ذلك . ثم قد يخصُّه أهلُ كل مال بما يكون غالب أموالهم . فيقول أصحاب الإبل : المال : الإبل . وأصحاب النخل : النخل . وهكذا .
وقوله : (( ولا يكتمون الله حديثًا )) ؛ أي : لا يستطيع أحد أن يكتم يوم القيامة شيئًا من أعماله . فإن كتم شهدت عليه جوارحه كما يأتي .
وقوله : (( وكان من خلقي الجواز )) ؛ أى : التجاوز عن حقوقه ، فأمَّا من حلول الأجل فيؤخره ، وأما من استيفاء الحق فيسقط بعضه ، أو يسامح في الزّيف .
(14/69)
وقول الله تعالى : (( أنا أحق بذلك )) ؛ صدقٌ ، وحقٌ ؛ لأنه تعالى متفضل ببذل ما لا يستحق عليه ، ومسقط بعفوه عن عبده ما يجب له من الحقوق عليه . ثم يتلافاه برحمته ، فيكرمه ، ويقرِّبه منه ، وإليه . فله الحمد كِفَاءَ إنعامه ، وله الشكر على إحسانه .
وقوله : (( حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له شيء من
الخير )) ؛ هذا العموم مخصَّص قطعًا بأنه كان مؤمنًا ، ولولا ذلك لما تجاوز عنه ، فـ{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك } ، وهل كان قائمًا بفرائض دينه من الصلاة ، والزكاة ، وما أشبهها ؛ هذا هو الأليق بحاله . فإن هذا الحديث يشهد بأنه كان ممَّن وُقي شح نفسه . وعلى هذا : فيكون معنى هذا العموم : أنه لم يوجد له من النوافل إلا هذا. ويحتمل أن يكون له نوافل أخر ، غير أن هذا كان الأغلب عليه ، فنودي به ، وجوزي عليه ، ولم يذكر غيره اكتفاءً بهذا ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون المراد بالخير : المال ، فيكون معناه : أنه لم يوجد له فِعل برّ في المال إلا ما ذكر من إنظار المعسر ، والله أعلم .
والتنفيس عن المعسر : تأخيره إلى الإمكان . والوضع : الإسقاط .
وقوله : (( كان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر )) ؛ دليل على جواز إذن السيد لعبده في التجارة . وفي "الأم" : (( أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ ، وأَتجاوزُ عن المعسر )) ، رواية الجماعة : أقبل - بالهمزة المفتوحة ، وبالقاف ساكنة ، وبالباء بواحد تحتها مفتوحة - من القبول. والميسور : الْمُتَيسَّر. ووقع لبعضهم : بضم الهمزة ، وكسر القاف ، وياء باثنتين تحتها ، من الإقالة ، وفيه بُعْدٌ ؛ لأنه لا يستقيم المعنى حتى يكون الميسور بمعنى الموسر. ولا يعطيه قانون التصريف ، ولا يعضده نقل . والكرب : جمع كُرْبَة ، وهي : الشدَّة ، والفاقة . وكُرَب الآخرة : شدائدها ، وأهوالها .
(14/70)
وقوله : (( مطل الغني ظلم )) ؛ المطل : منع قضاء ما استحق أداؤه مع التمكن من ذلك ، وطلب المستحق حقه. وهو الذي قال فيه في الحديث الآخر : (( لَيّ الواجد يحل عرضه وعقوبته )) ؛ أي : مطل الموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ظلم للمستحق ، يبيح من عرضه أن يقال فيه : فلان يمطل الناس ، ويحبس حقوقهم . ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك . حُكي معناه عن سفيان . و(( الظلم )) : وضع الشيء في غير موضعه في أصل اللغة . وهو في الشرع محرَّم مذموم . ووجهه هنا : أنه وضع المنع موضع ما يجب عليه من البذل ، فحاق به الذم والعقاب . والغني الذي أضيف المطل إليه هو الذي عليه الحق ؛ بدليل قوله : (( لي الواجد )) ؛ وهو الظاهر من الحديث والمراد منه ، ولا يلتفت لقول من قال : إنه صاحب الحق ، لبعد المعنى ، وعدم ما يدل عليه.
(14/71)
وقوله : (( وإذا أُتْبِعَ أحدكم على مليء فليتبع )) ؛ أُتبع -بضم الهمزة ، وتخفيف التاء ، وكسر الباء - مبنيًّا لما لم يُسم فاعله عند الجميع . فأما : ((فليتبع )) فبعضهم قَيَّده بتشديد التاء ، وكذلك قيَّدته على من يوثق به . وقد روي فيفها . وهو الأجود ؛ لأن العرب تقول : تبعت الرَّجل بحِّقي ، أتبعه ، تباعة : إذا طلبته به ، فأنا له تبيع -كل ذلك بالتخفيف - ، ومنه قوله تعالى : { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا } ، ومعناه : إذا أحيل أحدكم فليحتل . وهذا الأمر عند الجمهور محمود على الندب ؛ لأنه من باب المعروف والتيسير على المعسر. وقد حمله داود على الوجوب تمسَّكًا بظاهر الأمر . وهذا ليس بصحيح ؛ لأن ملك الذمم كملك الأموال . وقد أجمعت الأمّة على أن الإنسان لا يخبر على المعاوضة بشيء من ملكه بملك غيره ، فكذلك الذمم . وأيضًا : فإن نقل الحق من ذمة إلى ذمة تيسير على المعسر ، وتنفيسٌ عنه ، فلا يجب ، وإنما هو من باب المعروف بالاتفاق . وإذا تقرَّر ذلك فالحوالة معناها : تحويل الدَّين من ذمَّة إلى ذمَّة . وهي مستثناة من بيع الدَّين بالدَّين لما فيها من الرِّفق ، والمعروف . ولها شروط :
فمنها : أن تكون بدين ، فإن لم تكن بدين لم تكن حوالة ، لاستحالة حقيقتها إذ ذاك ، وإنما تكون حمالة .
ومنها : رضا المحيل والمحال دون المحال عليه . وهو قول الجمهور ، خلافًا للاصطخري ، فإنَّه اعتبره . وإطلاق الحديث حجَّة عليه . وقد اعتبره مالك إن قصد المحيل بذلك الاضرار بالمحال عليه . وهذا من باب دفع الضرر .
ومنها : أن يكون الذين المحال به حالاًّ ، ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مطل الغني ظلم )). ولا يصح المطل ، ولا يصدق الظلم إلا في حق من وجب عليه الأداء ، فيمطل . ثم قال بعده : (( فإذا أتبع أحدكم فليبع )) ؛ فأفاد ذلك : أن الدَّين المحال به لا بُدَّ أن يكون حالاًّ ؛ لأنه إن لم يكن حالاًّ كَثُرَ الغَرَرُ بتأجيل الدينين .
(14/72)
ومنها : أن يكون الدين المحال عليه من جنس المحال به ؛ لأنه إن خالفه في نوعه خرج من باب المعروف إلى باب المبايعة ، والمكايسة ، فيكون بيع الدَّين بالدَّين المنهي عنه . فإذا كملت شروطها برئت ذمة المحيل بانتقال الحق الذي كان عليه إلى ذمة المحال عليه . فلا يكون للمحال الرُّجوع على المحيل ، وإن أفلس المحال عليه ، أو مات . وهذا قول الجمهور .
وقد ذهب أبو حنيفة إلى رجوعه عليه ، إن تعذر أخذ الدين من المحال عليه . والأول الصحيح ؛ لأن الحوالة عقد معاوضة ، فلا يرجع بطلب أحد العوضين بعد التسليم ، كسائر عقود المعاوضات ؛ ولأن ذمة المحيل قد برئت من الحق المحال به بنفس الحوالة ، فلا تعود مشتغلةً به إلا بعقدآخر ، ولا عقد ، فلا شغل. غير أن مالكًا قال : إن غرَّ المحيل المحال بذمَّة المحال عليه كان له الرُّجوع على المحيل . وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ؛ لوضوحه.
ومن باب النَّهي عن بيع فضل الماء
قوله : (( نهى عن بيع فضل الماء )) ؛ ظاهر هذا اللفظ النهي عن نفس بيع الماء الذي يشرب ، فإنه السَّابق إلى الفهم ، وقد حمله بعض العلماء على ماء الفحل . وفيه بُعْدٌ ، لا سيما وقد قرنه في الحديث الآخر بالنهي عن ضراب الجمل . فدل على أنه ليس هو ، فإنَّه كان يكون تكرارًا بلا فائدة .
وقد اختلف في المسألتين . فأما بيع الماء : فالمسلمون مُجمعون على أن الإنسان إذا أخذ الماء من النيل مثلاً ، فقد ملكه ، وأن له بيعه. قال بعض مشايخنا : فيه خلاف شاذٌّ ، لا يلتفت إليه .
وأما ماء الأنهار ، والعيون ، وآبار الفيافي ، التي ليست بمملوكة : فالاتفاق حاصل على أن ذلك لا يجوز منعه ، ولا بيعه ، ولا يشك في تناول أحاديث النهي لذلك .
(14/73)
وأما فضل ماء في ملك : فهذا هو محل الخلاف ، هل يُجْبر على بذل فضله لمن احتاجه ، أو لا يُجبر ؟ وإذا أجبر ، فهل بالقيمة أو لا ؟ قولان سببهما معارضة عموم النهي عن بيع فضل الماء لأصل الملكية ، وقياس الماء على الطعام إذا احتاج إليه . والأرجح - إن شاء الله تعالى- حمل الخبر على عمومه ، فيجب بذل الفضل بغير بذل قيمة . ويفرّق بينه وبين الطعام بكثرة الماء غالبًا ، وعدم المشاحة فيه ، وقلَّة الطعام غالبًا ، ووجود المشاحة فيه .
وقوله : (( لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ )) ، وفي اللفظ الآخر : ((لا يبع )) ؛ فمعناه - والله أعلم - : أن الإنسان السَّابق للماء الذي في الفيافي إذا منعه من الماشية ، فقد منع الكلأ ، وهو العشب الذي حول ذلك الماء من الرعي ؛ لأن البهائم لا ترعى إلا بعد أن تشرب . وهذه اللام سَمَّاها النحويون : لام كي ، فهي لبيان العاقبة ، والمآل ، كما قال تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزنًا }. والكلام في حكم الكلأ وتفاصيله كالكلام في الماء ، فتأمَّله .
وهذا الحديث يفيد النهي عن بيع الكلأ ، وهو حجَّة لمالك في القول بسدِّ الذرائع . وقال أهل اللغة : الكلأ - مهموزًا ومقصورًا ، مفتوح الكاف - هو : العشب والنبات . والأخضر منه يُسمَّى : الرُّطْب - بضم الراء ، وسكون الطاء - ، واليابس منه يُسَمَّى : الحشيش .
وأمَّا المسألة الثانية - وهي مسألة بيع ماء الفحل - : فلا يختلف في فساده إذا وقع بلفظ البيع ، وأريد تحصيل العوض ؛ الذي هو حصول ماء الفحل في محل الرَّحم ، وعقوق الأنثى . فإنه غرر ، ومجهول . وأما على معنى إجارة الفحل للطَّرق أكوامًا معلومة ، أو إلى مدَّة معلومة : فأجازه مالك ؛ لكمال شروط الإجارة ، مع أن أخذ الأجرة على ذلك ليس من مكارم الأخلاق ، ولا يفعله غالبًا إلا أولو. الدناءة . ويكون هذا كالحجامة على ما يأتي بيانه-إن شاء الله تعالى -.
(14/74)
وقد ذهب أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو ثور : إلى منع ذلك جملة . والأرجح -إن شاء الله تعالى - ما صار إليه مالك ، لما ذكرناه . وبأنه قول جماعة من الصحابة والتابعين على ما حكاه القاضي عياض .
ومن باب النهي عن ثمن الكلب
قوله : (( نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ثمن الكلب )) ، وفي الحديث الآخر : ((وثمن الكلب خبيث )) ؛ ظاهرٌ في تحريم بيع الكلاب كلها ، ولا شك في تناول هذا العموم لغير المأذون فيه منها ، لأنها إمَّا مضرّة ؛ فيحرم اقتناؤها ، فيحرم بيعها . وإما غير مضرة ، فلا منفعة فيها . وأما المأذون في اتخاذها : فهل تناولها عموم هذا النهي ، أم لا ؟ فذهب الشافعي ، والأوزاعي ، وأحمد : إلى تناوله لها. فقالوا : إن بيعها محرّم ، ويفسخ إن وقع ، ولا قيمة لما يقتل منها ، واعتضد الشافعي لذلك : بأنها نجسة عنده. ورأى أبو حنيفة : أنه لا يتناولها ؛ لأن فيها منافع مباحة يجوز اتخاذها لأجلها ، فتجوز المعاوضة عليها ، ويجوز بيعها . وجل مذهب مالك على جواز الاتخاذ ، وكراهية البيع ، ولا يفسخ إن وقع . وقد قيل عنه مثل قول الشافعي . وقال ابن القاسم : يكره للبائع ، وبجوز للمشتري للضرورة . وكان مالكًا رحمه الله في المشهور : لما لم يكن الكلب عنده نجسًا ، وكان مأذونًا في اتخاذه لمنافعه الجائزة ؛ كان حكمه حكم جميع المبيعات . لكن الشرع نهى عن بيعه تنزها ؛ لأنَّه ليس من مكارم الأخلاق . فإن قيل : فقد سوى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين ثمن الكلب ، وبين مهر البغي ، وحلوان الكاهن في النهي عنها. والمهر والحلوان محرمان بالإجماع ، فليكن ثمن الكلب كذلك .
(14/75)
فالجواب : إنَّا كذلك نقول . لكنه محمولٌ على الكلب الغير مأذون فيه . ولئن سلمنا : أنَّه متناول للكل ، لكن هذا النهي هنا قصد به القدر المشترك الذي بين التحريم والكراهة ؛ إذ كل واحد منهما منهي عنه . ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر ، كما قد اتفق هنا فإنا إنما علمنا تحريم مهر البغي ، وحلوان الكاهن بالإجماع ، لا بمجرد النهي سلمنا ذلك ، لكنا لا نسلم : أنه يلزم من الاشتراك في مجرد العطف الاشتراك في جميع الوجوه ؛ إذ قد يعطف الأمر على النهي ، والإيجاب على النفي . وإنما ذلك في محل مخصوص ، كما بيناه
في أصول الفقه.
وقوله : (( شرُّ الكسب مهر البغيّ ، وثمن الكلب ، وكسب الحجَّام )). (( الكسب )) في الأصل هو : مصدر . تقول : كسبت المال ، أكسبه ، كسبًا . وقد وقع في بعض هذا الحديث موضع المكسوب ، فإنه أخبر عنه بالثمن . وقد قدمنا القول في : (( شر )) و(( خير )) في كتاب الصلاة .
ومساق هذا الحديث يدلُّ على صحة ما قلناه ، من أنه لا يلزم المساواة في المعطوفات على ما ذكرناه في الأصول ، ألا ترى أنه شرَّك بين مهر البغي ، وثمن الكلب ، وكسب الحجام في (( شر )) ، ثم إن نسبة الشر لمهر البغي كنسبته إلى كسب الحجَّام ، مع أن مهر البغي حرام بالاتفاق ، وكسب الحجَّام مكروه . فقد صحَّ : أن النبي احتجم وأعطى الحجَّام أجره. قال ابن عبَّاس : ولو كان حرامًا لم يعطه . وقد سأل رجل ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كسب الحجَّام ، فنهاه ، ثم سأله ، فنهاه ، ثم سأله فقال في الثالثة : (( اعلفه أناضحك ، وأطعمه رقيقك )) ، فلو كان حرامًا لما أجاز له تملكه ، ولا أن يدفع به حقًّا واجبًا عليه ، وهو : نفقة الرقيق ، فيكون ((شرّ)) في كسب الحجَّام بمعنى : ترك الأولى ، والحضّ على الورع . وهذا مثل ما تقدَّم من قوله : (( شر صفوف النساء أولها )). ويكون (( شرّ)) في مهر البغي على التحريم .
(14/76)
وعلى هذا : فإما أن يحمل لفظ : (( شر )) في صدر الحديث على قدر مشترك بين المحرَّم والمكروه ، أو على أن اللفظ المشترك قد يراد به جميع متناولاته. وقد بيَّنَّا ذلك في أصول الفقه . وهذا كلُّه إذا تنزلنا على أن كسب الحجَّام هو ما يأخذه أجرة على نفس عمل الحجامة ، فإن حملناه على ما يكتسبه من بيع الدَّم . فقد كانوا في الجاهلية يأكلونه ، فلا يبعُد أن يكونوا يشترونه للأكل ، فيكون ثمنه حرامًا . كما قد قال : ((إن الله إذا حرَّم على قوم شيئًا حرَّم عليهم ثمنه )). وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث : (( ثمن الدَّم حرام )).
و (( حلوان الكاهن )) هو : ما يأخذه على تكهنه . يقال : منه حلوت الرجل ، أحلوه : إذا أعطيته شيئًا يستحليه . كما يقال : عسلته ، أعسله : إذا أطعمته عسلاً . ومنه : قيل للرِّشوة ، ولما يأخذه الرَّجل من مهر ابنته حلوانًا ؛ لأنها كلَّها عطايا حلوة مستعذبة .
وفيه ما يدلُّ على تحريم ما يأخذه الحسَّاب ، والمنجمون في الرمل ، والخط ، وغير ذلك ؛ لأن ذلك كلُّه تعاطي علم الغيب ، فهي في معنى الكهانة . وما يؤخذ على كل ذلك محرَّم بالإجماع على ما حكاه أبو عمر.
وقوله : (( ثمن الكلب خبيث ، وكسب الحجَّام خبيث )) ؛ إن حملنا الكلب جام هنا على العموم كان الخبيث بمعنى المكروه تسوية بينه وبين كسب الحجَّام . فقد تبيَّن أنه مكروه ، وإن حملناه على غير المأذون في اتخاذه كان الخبيث بمعنى : الحرام . وحينئذ ينشأ البحث الذي قررناه انفًا .
وقوله : (( زجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ثمن الكلب والسِّنَّور )) ؛ لفظ : ((زجر )) يشعر بتخفيف النهي عنهما ، وأنَّه ليس على التحريم كما قررناه بل على التنزه عن ثمنهما. وقد كره بيع السِّنور أبو هريرة ، ومجاهد ، وغيرهما أخذًا بظاهر هذا الحديث .
(14/77)
واختلفوا في معنى ذلك ؛ فمنهم من علَّه : بأنه لا يثبت ، ولا يمكن انضباطه ، وهذا ليس بشيء. وهذه مناكرة للحِسِّ ، فإنها تنضبط في البيوت آمادًا طويلة ، وتسلُّمه ممكن حالة البيع ، فقد كملت شروط البيع. ثم إن شاء مشتريه ضبطه ، وإن شاء سيَّبَه . وأحسن من هذا أن بيعه ، وبيع الكلب ليس من مكارم الأخلاق ، ولا من عادة أهل الفضل. والشرع ينهى عما يناقض ذلك ، أو يباعده ، كما قلنا في طرق الفحل ، وكذلك نقول في كسب الحجَّام ؛ لأنه عمل خسيس ، لا يتعاطاه إلا أهل الخسَّة والدناءة كالعبيد ، ومن جرى مجراهم .
و (( مهر البغي )) هو : ما تأخذه الزانية على الزنى. والبغاء : الزِّنى . والبغيُّ : مهر الزانية . ومنه قوله تعالى : { ولاتكرهوا فتياتكم على البغاء} ؛ أي : على الزِّنى . وأصل البغي : الطلب ، غير أنه أكثر ما يُستعمل في طلب الفساد وفي الزِّنى .
ومن باب ما جاء في قتل الكلاب
حديث ابن عمر روي مطلقًا من غير اسثناء ، كما قال في رواية مالك عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بقتل الكلاب. وروي مقيَّدًا بالاستثناء المتَّصل ، كرواية عمرو بن دينار ، عن ابن عمر : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد ، أو كلب غنم ، أو ماشية . فيجب على هذا ردّ مطلق إحدى الروايتين إلى مقيَّدهما ، فإن القضية واحدة ، والرَّاوي لهما واحد . وما كان كذلك وجب فيه ذلك بالإجماع ، كما بيَّنَّاه في أصول الفقه . وهذا واضح في حديث ابن عمر .
وعليه : فكلب الصيد ، والماشية ، لم يتناولهما قط عموم الأمر بقتل الكلاب ، لاقتران استثنائهما من ذلك العموم .
(14/78)
وإلى الأخذ بهذا الحديث ذهب مالك ، وأصحابه ، وكثير من العلماء . فقالوا : بقتل الكلاب إلا ما استثني منها ، ولم يروا الأمر بقتل ما عدا المستثنى منسوخًا ، بل محكمًا. وأما حديث عبد الله بن مغفل : فمقتضاه غير هذا . وذلك : أنَّه قال فيه : أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتل الكلاب ، ثم قال : (( ما بالهم وبال الكلاب )). ثم رخص في كلب الصيد ، وكلب الغنم ، والزرع. ومقتضى هذا : أنَّه أمرهم بقتل جميع الكلاب من غير استثناء شيء منها ، فبادروا ، وقتلوا كل ما وجدوا منها ، ثم بعد ذلك رخص فيما ذكر . فيكون هذا الترخيص من باب النسخ ؛ لأن العموم قد استقرَّ ، وبردَ ، وعمل عليه ، فرفع الحكم عن شيء مما تناوله نسخ لا تخصيص . وقد ذهب إلى هذا في هذا الحديث بعض العلماء . ونحو من حديث عبدالله بن المغفل حديث جابر بن عبدالله ، قال : قد أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتل الكلاب ، حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها ، فنقتله ، ثم نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قتلها فقال : (( عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين ؛ فإنه شيطان )). فمقتضاه : أن الأمر كان بقتل الكلاب عامًّا لجميعها ، وأنه نسخ عن في جميعها إلا الأسود . وقد ذهب إلى هذا بعض العلماء .
ولَمَّا اضطربت هذه اد الأحاديث المروية وجب عرضها على القواعد الأصولية ، فنقول : إن حديث ابن عمر ليس فيه أكثر من تخصيص عموم باستثناء مقترن به ، وهو أكثر في تصرفات الشرع من نسخ العموم بكليته . وأيضًا : فإن هذه الكلاب المستثنيات الحاجة إليها شديدة ، والمنفعة بها عامَّة وكيدة ، فكيف يأمر بقتلها ؛ هذا بعيد من مقاصد الشرع ، فحديث ابن عمر أولى ، والله أعلم .
(14/79)
قلت : والحاصل من هذه الأحاديث : أن قتل الكلاب غير المستثنيات مأمور به إذا أضرَّت بالمسلمين ، فإن كثر ضررها وغلب ، كان الأمر على الوجوب ، وإن قل وندر ، فإن كلب أضرَّ وجب قتله ، وما عداه جائز قتله ؛ لأنه سبع لا منفعة فيه ، وأقل درجاته توقع الترويع ، وأنه يُنقص من أجر مقتنيه كل يوم قيراطين . فأمَّا المرَوِّع منهن غير المؤذي : فقتله مندوب إليه . وأما الكلب الأسود ذو النقطتين : فلا بُدَّ من قتله للحديث المتقدِّم ، وقل ما ينتفع بمثل تلك الصفة ؛ لأنه إن كان شيطانًا على الحقيقة فهو ضرر محض ، لا نفع فيه ، وإن كان على التشبيه به ، فإنما شبه به للمفسدة الحاصلة منه . فكيف يكون فيه منفعة؟! ولو قدرنا فيه : أنه ضار ، أو للماشية ، لقتل ؛ لنصّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قتله.
وقول ابن عمر : (( كان لأبي هريرة زرع )) ؛ لا يفهم منه أحد من العقلاء تهمة في حق أبي هريرة . وإنما أراد ابن عمر : أن أبا هريرة لما كان صاحب زرع وكان محتاجًا لما يحفظ به زرعه سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك ، فأجابه بالاستثناء ، فحصل له علم لم يكن عند ابن عمر ، ولا عند غيره ممن لم يكن له اعتناء بذلك ولا تهمم.
وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو : الذي يسرحُ معها ، لا الذي يحفظها في الدَّار من السُّرَّاق .
وكلب الزرع هو : الذي يحفظه من الوحوش بالليل والنهار ، لا من السُّراق . وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسُّرَّاق الماشية والزرع.
والكلب الضاري هو : المعلَّم للصيد ؛ الذي قد ضري به .
وقوله : (( من اقتنى كلبًا ليس كلب صيد ولا ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان )) ، وفي أخرى : (( في عمله كل يوم قيراط )). اقتنى ، واتَّخذ ، واكتسب : كلها بمعنى واحد .
واختلف في معنى قوله : (( نقص من عمله كل يوم قيراطان )) ؛ وأقرب ما قيل في ذلك قولان :
(14/80)
أحدهما : أن جميع ما عمله من عمل ينقص ؛ لمن اتخذ ما نُهي عنه من الكلاب بإزاء كل يوم يُمسكه فيه جزءان من أجزاء ذلك العمل . وقيل : من عمل ذلك اليوم الذي يمسكه فيه ، وذلك لترويع الكلب للمسلمين ، وتشويشه عليهم بنباحه ، ومنع الملائكة من دخول البيت ،
ولنجاسته على ما يراه الشافعي .
الثاني : أن يَحْبِط من عمله كله عملان ، أو من عمل يوم إمساكه -على ما تقدم - عقوبة له على ما اقتحم من النهي ، والله أعلم .
والقيراط : مثل لمقدار الله أعلم به ، وإن كان قد جرى العرف في بلاد يعرف فيها القيراط ، فإنه جزء من أربعة وعشرين جزءًا. ولم يكن هذا اللفظ غالبًا عند العرب ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تفتح عليكم أرض يذكر فيها القيراط ، فإذا فتختموها فاستوصوا بأهلها خيرًا )) ، يعني بذلك مصر ، والله أعلم . وجاء في إحدى الروايتين : (( قيراطان )). وفي أخرى : (( قيراط )). وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب . أحدهما أشدُّ أذىً من الآخر ، كالأسود المتقدم الذكر. ويحتمل أن يكون ذلك باختلاف المواضع ، فيكون ممسكه بالمدينة مثلاً ، أو بمكة ينقصه قيراطان ، وبغيرهما قيراط ، والله أعلم .
ومن باب إباحة أجرة الحجَّام
حديث أنس ؛ وحديث ابن عبَّاس يدلاَّن : على جواز الاحتجام : الحاجم والمحجوم. وجواز أخذ الأجرة على ذلك . وقد بيَّنا وَجه كراهيتها . وفيه ما يدل : على توظيف الخراج على العبيد إذا كانت لهم صنائع ، لكن على جهة الرِّفق ، لا العنف . ويكلَّف من ذلك ما يقدرعليه ، ويُستحب التخفيف عنهم ، كما قد كلَّم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سادات أبي طيبة في التخفيف .
وقوله : (( إن أفضل ما تداويتم به الحجامة )) ؛ هذا الخطاب متوجهٌ لمن غلب عليه الدَّم ، بإخراجه بالحجامة أولى وأسلم من إخراجه بقطع العروق والفصاد . ويحتمل أن يكون الذين قال لهم هذا كان الغالب عليهم هيجان الدَّم ، فأرشدهم إلى إخراجه على الجملة بالحجامة لما ذكرناه من السَّلامة .
(14/81)
و (( القسط البحري )) يتداوى به تبخرًا واستعاطًا . وفي بعض الحديث : (( يستعط به من العذرة )) ؛ ؛ وهي : وجع الحلق .
وقوله : (( لا تعذِّبوا أولادكم بالغمز )) ؛ ، يعني بذلك : من إصابة وجع الحلق ؛ وهي : سقوط اللهاة من الصبيان ، فلا تعذبوه برفعها بالأصابع . وأحال على السعوط بالقسط البحري ، فإنه ينفع من ذلك إن شاء الله ، وسيأتي تكميل ذلك في الطب إن شاء الله تعالى .
ومن باب تحريم بيع الخمر
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله يعرِّض بالخمر ، ولعل الله سينزل فيها أمرًا ، هذا التعريض ، وهذا التوقع إنما فهمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله تعالى : { يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } ، ومن قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } ، وذلك : أنه لما سمع أن فيهما إِثْمًا كبيرًا ، وأن إثمهما أكبر من نفعهما ، وأنه قد منع من الصلاة في حال السُّكر ؛ ظهر له : أن هذا مناسب للمنع منها ، فتوقع ذلك .
وقوله : (( فمن كان عنده منها شيء فليبعه ، ولينتفع به )) ؛ فيه دليل على أن الخمر وبيعها كانا مباحين إباحة متلقاة من الشرع ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرر أصحابه عليها ، وليس ذلك من باب البقاء على البراءة الأصلية ؛ لأن إقراره دليلُ الجواز والاباحة ، كما قررناه في الأصول . وفيه دليلٌ على اغتنام فرصة المصالح المالية إذا عرضت ، وعلى صيانة المال ، وعلى بذل النصيحة والإشارة بأرجح ما يعلمه من الوجوه المصلحية .
وقوله : (( فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله حرَّم الخمر ، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شي فلا يشرب ، ولا يبع )) )) ؛ يعني بالآية : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} ، وسيأتي الكلام عليها .
(14/82)
ويعني بقوله : (( من أدركته )) ؛ أي : من بلغته وهو بصفات المكلفين من العقل والبلوغ . وقد فهمت الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ من نهيه عن الشرب والبيع : أنها لا ينتفع بها بوجه من الوجوه ، ولذلك بادروا إلى إراقتها ، وإتلافها. ولو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لنبَّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها ، كما نبَّه على ما في جلد الميتة من المنفعة ؛ لما قال : (( هلاَّ أخذتم إهابها فدبغتموه ، فانتفعتم به )) ، وعلى هذا : فلا يجوز تخليلها ، ولا أن تعالج بالملح والسَّمك فيصنع منها الْمُرْي . وإلى مَنْع ذلك ذهب الجمهور : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وغيرهم . وحكي جواز تخليلها عن أبي حنيفة ، والأوزاعي ، والليث . وقد دلَّ على فساد هذا ما ذكرناه انفًا ، وما يأتي من نهيه عن اتخاذ الخمر خلاًّ . وسيأتي مزيد بيان على هذا .
قال القاضي عياض : وفي هذا أيضًا : منع الانتفاع بها للتداوي ، وغير ذلك من العطش عند عدم الماء ، ولتجويز لقمة غص بها . وهو قول مالك ، والشافعي ، وغيرهم . وأجاز ذلك أبو حنيفة ، وأحمد. وقاله بعض أصحابنا . وروي عن الشافعي : جوازه أيضًا إذا خاف التلف ، وقاله أبو ثور .
قلت : وإذا امتنع الانتفاع بها مطلقًا فلا يصح تملكها لمسلم ، ولا تقر في يديه ، بل تتلف عليه . ويجب ذلك عليه . ويتلفها الوصف على اليتيم . وقد ذكر ابن خواز منداد من قدماء أصحابنا العراقيين : أنها تملك ، ونزع إلى ذلك : بأنها يمكن أن يزال بها الغُصص ، ويُطفأ بها الحريق ، فتملك لذلك . وهذا نقل لا يعرف لمالك ، ولا يلتفت لشيء مما قيل هنالك ؛ لأنا لا نسلم جواز ذلك ، على ما ذكرناه آنفًا فيمن غص بلقمة. ولو سلمنا ذلك فلا يلتفت إليه لندوره ، وعدم وقوعه . وإنما ذلك تجويز وهمي ، وتقدير ذهني ، فاعتباره وسواسٌ أعرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه عنه ، ولم يلتفتوا إلى شيء منه.
(14/83)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمُهْدِي راوية الخمر : (( هل علمت أن الله حرَّمها )) ، وقول الْمُهْدِي : لا ؛ يدلُّ على قرب عهد التحريم بزمن الإهداء . ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيَّن له الحكم ، ولم يوبخه ، ولم يذمَّه ؛ لأن الرَّجل كان متمسِّكًا بالإباحة المتقدِّمة ، ولم يبلغه الناسخ ، فكان ذلك دليلاً : على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ ، بل ببلوغه ، كما قرَّرناه في الأصول .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بم ساررته ؟ )) دليل : على أن العالم إذا خاف على أحد الوقوع فيما لا يجوز وجب عليه أن يستكشف عن ذلك الشيء حتى يتبين وجهه له ، ولايكون هذا من باب التجسس ، بل من باب النصيحة والإرشاد.
وقوله : (( إن الذي حرَّم شربها حرَّم بيعها )) ؛ الذي هنا : كناية عن اسم الله تعالى ، فكأنه قال : إن الله الذي حرَّم شربها حرَّم بيعها. ويحتمل أن يكون معناه : إن الذي أوجب تحريم شربها أوجب تحريم بيعها ؛ إذ لا تراد إلا للشرب ، فإذا حرم الشرب لم يجز البيع ؛ لأنه يكون من باب أكل المال بالباطل . وقد دلَّ على صحة هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((إن الله إذا حرَّم على قوم شيئًا حرَّم عليهم ثمنه )) ؛ يعني : شيئًا يؤكل ، أو يشرب ؛ لأن ذلك هو السبب الذي خرج عليه الحديث ، ويلحق به كل محرَّم نجس لا منفعة فيه .
واختلف في جواز بيع ما فيه منفعة منها ، كالأزبال ، والعذرة . فحرم ذلك الشافعي ، ومالك ، وجُلّ أصحابنا . وأجاز ذلك الكوفيون ، والطبري . وذهب آخرون : إلى إجازة ذلك للمشتري دون البائع . ورأوا : أن المشتري أعذر من البائع ؛ لأنه مضطر إلى ذلك . روي ذلك عن بعض أصحابنا. وهي قولة عن الشافعي .
(14/84)
وقد فهم الجمهور من تحريم الخمر وبيعها ، والمنع من الانتفاع بها ، واستخباث الشرع لها ، لإطلاق الرِّجس عليها ، والأمر باجتنابها ، الحكمَ بنجاستها. وخالفهم في ذلك ربيعة وحده من السلف فرأى : أنها طاهرة ، وأن المحرَّم إنما هو شربها . وهو قولٌ شاذ يردُّه ما تقدَّم . وما كان يليق بأصول ربيعة ، فإنه قد علم : أن الشرع قد بالغ في ذم الخمر حتى لعنها وعشرة بسببها ، وأمر باجتنابها ، وبالغ في الوعيد عليها . فمن المناسب بتصرفات الشرع الحكم بتنجيسها مبالغة في المباعدة عنها ، وحماية لقربها. فان قيل : التنجيس حكم شرعي ، ولا نصّ فيه ، ولا يلزم من كون الشيء محرَّمًا أن يكون نجسًا ؛ فكم من محرّم في الشرع ليس بنجس .
فالجواب : أنها وإن لم يكن فيها لفظ نصٌّ بالوضع الْمُتَّحِد ، لكن فيها ما يدلُّ دلالة النصوصية بمجموع قرائن الآية ومساقها. ويَعْرفُ ذلك من تصفَّح الآية وتفهَّمها. ثئم ينضاف إلى الآية جملة ما ذكرناه ، فيحصل اليقين بالحكم بتنجيسها . ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصًّا لتعطلت الشريعة ، فإن النصوص فيها قليل. وأيُّ نص يوجد على تنجيس البول ، والعذرة ، والدَّم ، والميتة ، وغير ذلك ، ولا يوجد نصٌّ على تنجيس شيء مما هنالك. وإنما هي الظواهر ، والعمومات ، والأقيسة(7).
وقوله : لا يلزم من الحكم بالتحريم الحكم بالتنجيس. قلنا : لم نستدل بمجرد التحريم ، بل بتحريم مستخبث شرعي يحرم شربه ، وإن شئت أن تحرر قياسًا ؛ قلت : مستخبث شرعًا ، يحرم شربه ، فيكون نجسًا كالبول ، والدَّم . وهذا هو الأولى بربيعة ، فإنه الملقَّب بـ (( ربيعة الرأي )). والله تعالى أعلم .
وقد استدل بعض من تابع ربيعة على عدم تنجيس الخمر ، وهو سعيد ابن الحداد القروي بسفك الخمر على طرق المدينة. قال : ولم كانت نجسة لما فعلوا ذلك ، ولنهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه ، كما نهى عن التخلِّي في الطرق.
(14/85)
والجواب : أن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ فعلت ذلك لضرورة الحال ، لأنهم لم يكن لهم سُروبٌ ، ولا آبارٌ يريقونها فيها ؛ إذ الغالب من حالهم : أثهم لم تكن لهم كُنُف في بيوتهم. وقالت عائشة رضي الله عنها : إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت . ونَقْلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ، ومشقة ، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور ، فالتحق صبها في الطرق بالنجاسات التي لا تنكُّ الطرق عنها ، كأرواث الدواب ، وأبوالها. وأيضًا : فإنها يمكن التحرُّز منها ، فإن طرق المدينة كانت واسعة ، ولم تكن الخمر من الكثرة ، بحيث تصير نهرًا يعم الطريق كلّها ، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرُّز عنها . هذا مع مايحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها ، وأنه لا ينتفع بها . ويتتابع الناس ، ويتوافقوا على ذلك ، والله أعلم .
وقوله : (( ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها )) ؛ دليل : على أن أواني الخمر إذا لم تكن مضرّاة بالخمر ؛ أنه يجوز استعمالها في غير الخمر إذا غسلت ، ألا ترى : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينكر عليه إبقاءها عنده ، ولا أمره بشقها ، ولو كانت نجسه لا يطهرها الغسل لأمره بشقِّها ، وتقطيعها ، كما فعل أبو طلحة لَمَّا قال لأنس : قم إلى هذه الجرار فكسرها. قال أنس : فقمت إلى مهراس لنا ، فضربتها بأسفله حتى تكسرت.
و (( الراوية )) : القربة الكبيرة التي يُحْمَل فيها الماء . وقد سُمِّي البعير
الذي يحملها : راوية ؛ لأنه يحملها. وسُميت بذلك : لأنها تَرْوِي من كانت عنده ، وتُسمَّى أيضًا : مزادة ؛ لأنها زيد فيها جلد آخر ، ويحتمل أن تُسمَّى بذلك ؛ لأنها من كانت عنده في سفره كان عنده معظم الزَّاد.
(14/86)
وقول جابر ـ رضى الله عنه ـ : إنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام الفتح يقول : (( إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر ، والميتة ، والخنزير ، والأصنام )) ؛ كذا صحَّت الرواية : (( حرَّم )) مُسندًا إلى ضمير الواحد . وكان أصله : حَرَّما ؛ لأنه تقدَّم اثنان ، ولكن تأدَّب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين ؛ لأن هذا من نوع ما ردَّه على الخطيب الذى قال : ومن يعصهما فقد غوى. فقال له : (( بئس الخطيب أنت ، قل : ومن يعص الله ورسوله )) ، وقد قدَّمنا الكلام عليه في كتاب الصلاة . وصار هذا مثل قوله تعالى : { الله بريء من المشركين ورسوله } ، فيمن قرأه بنصب (( رسوله )) ، غير أن الحديث فيه تقديم ، وتأخير ؛ لأنه كان حقه أن يقدم : (( حرَّم )) على (( رسوله )) ، كما جاء في الآية ، والله أعلم.
وهذا الحديث يدلُّ : على أن تحريم الخمر كان متقدِّما على فتح مكة ، وقد سوَّى في هذا الحديث بين الخمر ، والميتة ، والخنزير ، والأصنام ، فلا يجوز بيع شيء مِمَّا يقال عليه خمرٌ . وقد قدمنا ، ويأتي : أن الخمر : كل شراب يُسكر من أي شيء كان ، من عنب أو غيره . فيحرم بيع قليله وكثيره . وقد قلنا : إن تحريم نفعه مُعَلَّل بنجاسته ، وأنه ليس فيه منفعة مسوِّغة شرعًا .
وأما الميتة : فيحرم بيع جميع أجزائها ، حتى عظمها ، وقرنها ، ولا يستثنى عندنا منها شيء إلا ما لا تحل الحياة كالشعر ، والصوف ، والوبر ، فإنه طاهر من الميتة ، ويتتزع من الحيوان في حال حياته وهو طاهر. وهو قول مالك ، وأبي حنيفة. وزاد أبو حنيفة ، وابن وهب من أصحابنا إلى ذلك : أن العظم من الفيل وغيره ، والسن ، والقرن ، والظلف ، كلها لا تَحُلُّها الحياة ، فلا تنجس بالموت .
(14/87)
والجمهور على خلافهما في العظم ، وما ذكر معه ، فإنها تحله الحياة. وهو الصحيح . فإن العظم والسن يألم ، ويُحَسُّ به الحرارة والبرودة ، بخلاف الشعر ، وهذا معلوم بالضرورة . فأمَّا أطراف القرون ، والأظلاف ، وأنياب الفيلة : فاختلف فيها . هل حكمها حكم أصولها
فتنجس ؟ أو حكمها حكم الشعر ؟ على قولين .
وأمَّا الريش : فالشعري منه شعرٌ ، وأسفله عظم . ومتوسطه ؛ هل يلحق بأصله أو بأطرافه ؟ فيه قولان لأصحابنا . وقد قال بنجاسة الشعر الحسن البصري ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، لكنها تطهر بالغسل عندهم ، فكأنها عندهم نجسة بما يتعلق بها من رطوبات الميتة . وإلى نحو من هذا ذهب ابن القاسم في أنياب الفيل فقال : تطهر إن سُلِقَتْ بالماء .
وعن الشافعي في الشعور ثلاث روايات :
أحداها : أن الشعر ينجس بالموت .
والثانية : أنها طاهرة كقولنا .
والثالثة : أن شعر ابن آدم وحده طاهر ، وأن ما عداه نجس .
وأمَّا جلود الميتة : فلا تباع قبل الدباغ ، ولا يتتفع بها ؛ لأنها كلحم الميتة ، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ، ولا عصب )) ، وأما بعد الدِّباغ ؛ فمشهور مذهب مالك : أنها لا تطهر بالدِّباغ ، وإنما ينتفع بها. وهو مذهب جماعة من أهل العلم . وعلى هذا فلا يجوز بيعها ، ولا الصلاة عليها ، ولا بها ، ولا ينتفع بها إلا في اليابسات دون المائعات ، إلا في الماء وحده .
وذهب الجمهور من السَّلف ، والخلف : إلى أنها تطهر طهارة مطلقة ، وأنها يجوز بيعها ، والصلاة عليها ، وبها . وإليه ذهب الشافعي ، ومالك في رواية ابن وهب . وهو الصحيح لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أيُّما إهاب دبغ فقد طهر ، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دباغ الإهاب طهوره )) ، وغير ذلك . وكلها صحيح .
ومما لا يجوز بيعه لأنه ميتة جسد الكافر . وقد أُعطي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الخندق في جسد نوفل بن عبدالله المخزرمي عشرة الآف درهم . فلم يأخذها ، ودفعه إليهم ، وقال : (( لا حاجة لنا بجسده ، ولا ثمنه )).
(14/88)
وأمَّا الخنزير ، وهو الحيوان المعروف البريُّ ، ولا تعرف العرب في البحر خنزيرًا. وقد سُئل مالك عن خنزير البحر ؛ فقال : أنتم تسمونه خنزيرًا ؛ أي : لا تسمِّيه العرب بذلك . وقد اتَّقاه مرة أخرى على جهة الورع ، والله أعلم .
فأمَّا البري : فلا خلاف في تحريمه ، وتحريم بيعه ، وأنه لا تعمل الذكاة فيه . ومن هنا قال كافة العلماء : إن جلده لا يُطَهِّرهُ الدِّباغ ، وإنما يُطَهِّرُ الدباغ جلد ما تعمل الذكاة في فيه . وألحق الشافعي بالخنزير الكلب ، فلا يطهر جلده عنده . وقال الأوزاعي ، وأبو ثور : إنما يُطَهِّرُ الدِّباغ جلد ما يؤكل لحمه .
وقد أجاز مالك تذكية السِّباع والفيل لأخذ جلودها ، وهذا إنما يتم على قوله بكراهة لحومها . وأما على ما قاله في "الموطأ" من أن السِّباع حرام : فلا تعمل الذكاة فيها ، فلا تطهر جلودها بالدباغ ، كالخنزير . وقد شذَّ دارد ، وأبو يوسف فقالا : إنه يطهر بالدِّباغ جلدُ كل حيوان ، حتى الخنزير. ومتمسكهما : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((أيما إهاب دبغ فقد طهر )). ويعتضد أبو يوسف بقياس جلد الخنزير على جلد الميتة . وينفصل للجمهور عنهما : بأن هذا العموم محمولٌ على نوع السبب الذي أخرجه. وهو ميتة ما تعمل الذكاة فيه ، وبأن جلد الخنزير نادرٌ لا يخطر بالبال حالة الاطلاق ، فلا يقصد بالعموم ، كما قررناه في أصول الفقه ، وبأنه : لا يقال : إهاب إلا على جلد ما يؤكل لحمه ، كما قاله النَّضْر بن شُمَيْل . وأمَّا القياس : فليس بصحيح ؛ لوجود الفرق . وذلك : أن الأصل : ميتة ما تعمل الذَّكاة فيه . والفرع : ميتة ما لا تعمل الذكاة فيه . فكانت أغلظ ، وأفحش . والله أعلم .
وأمَّا الأصنام : ش الصور الْمُتَخِذَةُ للعبادة ، ولا خلاف في تحريم اتخاذها ، وبيعها ، وإنما يجب كسرها ، وتغييرها . وكذلك كل صورة مجسدة ، كانت صورة ما يعقل ، أو ما لا يعقل . وأما ما كان رقما في ثوب أو بناء في حائط ، ففيه تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى .
(14/89)
وقوله - وقد سُئل عن بيع شحوم الميتة - : (( لا ، هو حرام )) ؛ نصٌّ في أنه يحرم بيعها ؛ لأن كانت فيها منافع ، وذلك : لأنها جزء من الميتة كاللحم ، أو هي كالشحم مع اللحم ، فإنه عنه يكون . ولا يلزم من تحريم بيعها ، والحكم بنجاستها ، ألا يجوز الانتفاع بها ، لما قدمناه. وهذا هو الذي يتمشى على مذهب مالك ، فإنه قد أجاز الانتفاع بما ماتت فيه ميتة من المائعات ؛ كالزيت ، والسمن ، والعسل ، وغير ذلك ، مع الحكم بنجاسته . فقال : يعمل من الزيت النجس الصابون ، ويستصبح به في غير المساجد . ويعلف العسلُ النحلَ . ويطعم النجس الماشية . وإلى نحو ذلك ذهب الشافعي ، والثوري ، وأبو حنيفة . وروي عن علي وابن عمر. وقد فَرَّق بعض أهل العلم بين شحوم الميتة ، وبين ما ينجس بما وقعت فيه نجاسة . فقال : لا ينتفع بالشحوم ؛ لأنها نجسة لعينها ، بخلاف ما ينجس بما وقع فيه ، فإنه ينتفع به ؛ لأن نجاسته ليست لعينه ، بل عارضة .
قلت : وهذا الفرق ليس بصحيح . فإن النجاسة حكم شرعي . والأحكام الشرعية ليست صفات للأعيان ، بل هي راجعة لقول الشارع : افعلوا ، أو لا تفعلوا. كما قد حفقناه فيم أصول الفقه. ولو سلمنا لقلنا : إن النجاسة العينية قد اختلطث مع العارضة ولا مميز ، فحكمهما سواء .
فإن قيل : فكيف يجوز أن يقال بجواز الانتفاع بشيء من ذلك ، وفي الحديث الصحيح : (( إذا وقعت الفأرة في السَّمن ، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها ، وإن كان مائعًا فلا تقربوه )). والانتفاع بها قربان لها فلا يجوز ؟! ثم في الانتفاع بها التلطخ بها عند مباشرتها ، ولا يجوز التلطخ بالنجاسات شرعًا.
(14/90)
فالجواب : القول بموجب ما ذكر . فإن القرب المنهي عنه إنما هو الأكل ؛ بدليل قوله في أول الحديث : (( إن كان جامدًا فألقوها ، وكلوه )) ، وفي بعض طرقه : (( وكلوا سمنكم )) ، ثم قال بعد هذا : (( وإن كان مائعًا فلا تقربوه )) ؛ أي : بأكل. وأيضًا : فقد قررنا في أصول الفقه : أن الشرع إذا نهى عن شيء ، وأوقع نهيه عليه ، فإنما يعني بذلك : النهي عما يراد ذلك الشيء له ، وإن سكت عنه . كما قال تعالى : {ولا تقربوهن حتى يطهرن } ؛ أي : بالوطء ، وكقوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } ؛ أي : وطؤهن ومقدماته . وكذلك العرف إذا قال العربي : لا تقرب الماء ؛ أي : لا تشربه . والخبز ؛ أي : لا تأكله . وهذا معلوم .
وأما النهي عن مباشرة النجاسات : فإنما يحمل على التحريم عند محاولة فعل الطهارة شرط فيه ؛ كالصلاة ، ودخول المسجد ، ونحو ذلك. وأما فيما لم يكن كذلك فلا يكون حرامًا بالاتفاق .
ثم اختلف القائلون بجواز الانتفاع بها. هل يجوز بيع ما يتتفع به منها أو لا ؟ على قولين ؛ والصحيح : منع الجواز ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قاتل الله اليهود ، نُهوا عن الشحم ، فباعوه ، وأكلوا ثمنه )). وفي بعض طرقه : ((إن الله إذا حرَّم على قوم شيئًا حرَّم عليهم ثمنه )).
وقوله : (( قاتل الله اليهود )) ؛ أي : قتلهم ؛ كقوله تعالى : { قاتلهم الله
أنَّى يؤفكون } ، قاله الهروي . قال : وسبيل (( فاعل )) أن يكون من اثنين ، وربما يكون من واحد ؛ كقوله : سافرت ، وطارقت النعل . وقال ابن عباس : لعنهم. وقد جاء ذلك مصرَّحا به في الرواية الأخرى. وقال غيره : عاداهم .
وقوله : (( اجتملوها )) ؛ أي : أذابوها . يقال : جملت الشحم ، واجتملته : إذا أذبته . والجميل : الشحم المذاب . قال أبو عبيد : يقال : جملت ، وأجملت ، واجتملت .
وقوله : (( أنَّه بلغ عمر : أن سمرة باع خمرًا )) ، اختلف في كيفية بيع سمرة ـ رضى الله عنه ـ للخمر على ثلاثة أقوال :
(14/91)
أحدها : أنه أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية فباعها منهم ، ظنًّا منه : أن ذلك جائز .
والثاني : أن يكون باع العصير ممن يتخذه خمرًا ، والعصير يُسمَّى خمرًا ؛
كما قد سمي العنب به في قوله تعالى : { إني أراني أعصر خمرًا} ، والعصير يُسمي بذلك لأنه يؤول إلى الخمر .
والثالث : أن يكون خلل الخمر وباعها خلاًّ . ولعل عمر كان يعتقد أن ذلك لا يحلِّلها ، كما قد ذهب إليه جماعة من أهل العلم على ما يأتي.
قلت : وفي هذين الوجهين بُعْدٌ . والأشبه : الأول .
ومن أبواب الصَّرف والربا
الصَّرف : مصدر صرف ، يصرف ، صرفًا : إذا دفع ذهبًا ، وأخذ فضة ، أو عكسه . هذا عُرْفُه الشرعي . وحقيقته : بيع ذهب بفضة . وللشرع فيه منعان :
أحدهما : منع النَّساء فيه ، مع اتفاق النوع ، واختلافه ، فلا يجوز بيع ذهب بذهب ، ولا بفضة نَساء . وهذا مجمع عليه .
وثانيهما : منع التفاضل في النوع الواحد منهما ، فلا يجوز ذهب بذهب ، ولا فضة بفضة متفاضلاً عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين من أهل المدينة ، والحجاز ، والشام ، وغيرهم . وفيه خلاف شاذٌّ عن بعض الصحابة مرجوع عنه ، وسيأتي ذكرهم في بابه إن شاء الله تعالى.
وقد دلّ على صحة ما ذكرناه من المنعين ، وابطال قول المخالف نصوص هذا الباب ؛ كقوله : (( لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها شيئًا غائبًا بناجز )). وفي اللفظ الآخر : (( إلا وزنًا بوزن ، مثلاً بمثل ، سواء بسواء )) ، وفي رواية : (( يدًا بيد )) ، وفي أخرى : (( إلا هاء وهاء )) ، وغير ذلك مما في هذا الباب .
(14/92)
فهذه نصوصٌ مؤكدة ، وألفاظ متعددة ، تفيد : أن تحريم التفاضل كتحريم النَّساء ، ويستوي في ذلك أنواع كل جنس منها ، فلا يلتفت للخلاف في ذلك . وسياتي القول إن شاء الله تعالىعلى قوله : (( إنما الربا في النسيئة )) ، ثم اختلف العلماء : هل هذا الحكم معلل بعلة ، أو ليس معللاً ؛ فنفاة القياس منعوا ذلك على أصلهم في نفي التعليل مطلقًا . وممن قال بهذا القول : داود وأتباعه . وقد تابعهم على نفي تعليل هذا الحكم بعض من قال بالقياس . بناء على أنه لم يجد دليلاً عليه ، أو : على أنه لم يجد لعلَّة ذلك فرعًا يلحقه بها . فتكون العلَّة قاصرة ، ولا يعتل بالعلة القاصرة . وهو مذهب أبي حنيفة . وذهب مالك والشافعي وأتباعهما إلى تعليل ذلك الحكم بكونها أثمانًا . وهل هو معلل بمطلق الثمنية ، فيلحق بذلك كما يكون ثمنًا كالفلوس ، والجلود المطبوعة إذا تُعُومل بها ، أو بثمنية تكون رؤوس الأثمان ، وقيمًا للمتلفات غالبًا ، فتخرج الفلوس ، وغيرها منهما ؛ قولان لأصحابنا . والذي حمل المعنلين على القول بالتعليل التمسك بالقاعدة الكلية : إن الشرع جاء باعتبار المصالح . والمصلحة لا تعدو أوصاف المحل . وقد سبرنا أوصافه ، فلم نجد أولى من هذه ، فتعتين أن يكون هو العلَّة . وقد حققنا هذه الأصول في الأصول ، فنتنظر هنالك .
(14/93)
وقوله : (( ولا تشقوا بعضها على بعض )) ؛ أي : لا يكن لأحدهما شفوف على الآخر ؛ أي : زيادة . وقد بالغ مالك رحمه الله في منع الزيادة في هذا ، حتى جعل المتوهّم كالمتحقق. فمنع دينارًا ودرهما بدينار ودرهم ، سدًا للذريعة ، وحَسْمًا للمتوهمات ؛ إذ لولا توهم الزيادة لما تبادلا . وقد علل منع ذلك بتعذر المماثلة عند التوزيع ، فإنه يلزم منه : ذهب وفضة بذهب . وأوضح من هذا : منعه التفاضل المعنوي. وذلك : أنه منع دينارًا من الذهب العالي ، ودينارًا من الذهب الدُّون بدينارين من الوسط . فكأنه جعل الدينارين الوسط في مقابلة العالي ، وألغى الدُّون . وهذا من دقيق نظره رحمه الله .
وقوله : (( الورق بالذهب ربا إلا هاء وهاء )) ، الرواية المشهورة في ((هاء )) : بالمد ، وبهمز مفتوحة ، وكذلك رويته. ومعناها : خذ . فكأنها(7)
اسم من أسماء الأفعال . كما تقول : هاؤم . وفيها أربع لغات :
إحداها : ما تقدَّم ، وفيها لغتان :
إحداهما : أنها تُقال للمذكر والمؤنث ، والواحد والاثنين ، والجمع ، بلفظ واحد (( هاء )) من غير زيادة . قال السيرافي : كأنهم جعلوها صوتًا ، كصه ، ومه .
وثانيها : أنها تلحق بها العلامات المفرَّقة . فتقول للمذكر : هاءَ ، وللمؤنث : هائي . وللاثنين : هاءا . وللجمع : هاؤوا ، كالحال في : هاؤم ، وفي : هلم .
الثانية : هأ ، بالقصر والهمزة الساكنة ، فتقول : هأ ، كما تقول : خَفْ . وفيها اللغتان المتقدمتان . حكاها ثابت وغيره من أهل اللغة.
الثالثة : هاءِ بالمد وكسر الهمزة. وهي للواحد ، والاثنين ، والجمع.
بلفظ واحد ، غير أنهم زادوا ياءً مع المؤنث . فقالوا : هائي.
الرابعة : ها ، بالقصر ، وترك الهمز . حكاها بعض اللغويين . وأنكرها أكثرهم ، وخُطِّئ من رواها من المحدِّثين كذلك .
(14/94)
وقد حكيت لغة خامسة : هاءَكِ ، بمدَّةٍ ، وهمزة مفتوحة ، وكاف خطاب مكسورة للمؤنث . قلت : ولا بُعْد في أن يقال : إن (( هاء )) هذه هي اللغة الأولى ، وإنما زادوا عليها كاف الخطاب المؤنث خاصة ، فلا تكون خامسة .
ومعنى : (( هاء وهاء )) : خذ وهات في هذه الحال من غير تراخ ، كما قال : (( يدًا بيد )). وقد بالغ مالك رحمه الله في هذا ، حتى منع المواعدة على الصرف ، والحوالة ، والوكالة على عقد الصرف دون القبض . ومنع أن يعقد الصرف ، ويقوم إلى قعر دكانه ، ثم يفتح صندوقه ، ويخرج ذهبه . بناء على ما تقدَّم من أصله . وهذا هو الذي فهمه عمر ـ رضى الله عنه ـ عن الشرع حين قال : (( وإن أنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره ، إني أخاف
عليكم الربا )). وقال : (( دعوا الربا والريبة )).
و (( الورق)) - بكسر الراء - : الفضة . وهو اسم جنس معرَّف بالألف واللام الجنسيتين ، فيتضمن ذلك الجنس كله ، مسكوكه ، ومصوغه ، وتبره ، ونقاره . وكذلك الذهب ، فلا يجوز مصوغ بتبر إلا مثلاً بمثل . وكذلك جميع أنواعها . وليس له أن يستفضل قيمة الصنعة ، ولا عمالتها . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
ومن باب تحريم الرِّبا في البُرِّ والشعير والتمر والملح
(14/95)
الرِّبا في اللغة : الزيادة مطلقًا . يقال : ربا الشيء ، يربو : إذا زاد. ومنه الحديث : (( فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها )) ؛ يعني به : الطَّعام الذي دعا فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالبركة . ثم إن الشرع قد تصرَّف في هذا الإطلاق ، فقصره على بعض موارده ، فمرَّة أطلقه على اكتساب الحرام كيفما كان ، كما قال تعالى في اليهود : { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } ، ولم يرد به الرِّبا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا ؛ وإنما أراد المال الحرام ، كما قال تعالى : {سماعون للكذب أكالون للسحت} ؛ يعني به : المال الحرام من الرشا ، ومما استحلوه من أموال الأميين حيث : قالوا : { ليس علينا فى الأميين سبيل } ، وعلى هذا : فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه اكتسب .
والربا الذي غلب عليه عُرْفُ الشرع : تحريم النَّساء ، والتفاضل في النقود ، وفي المطعومات ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( غزونا غزاة ، وعلى الناس معاوية )) ؛ يعني : أميرًا ، لا خليفة ؛ فإن زمان خلافته متأخز عن ذلك الوقت بكثير .
وقوله : (( فغنمنا آنية من فضة ، فأمر معاوية ببيعها في أُعطيات الناس )) ؛ هذا البيع لهذه الآنية كان بالدَّراهم ، ولذلك أنكره عبادة بن الصامت ـ رضى الله عنه ـ ، واستدلّ عليه بقوله : (( الفضة بالفضة )) ، ولو كان بذهب أو عرض لَمَا كان للأنكار ، ولا للاستدل وجه .
وقوله : (( فتسارع الناس في ذلك )) ؛ يعني في شراء تلك الآنية بالدَّراهم . وهو يدلُّ على أقليه العلماء ، وأن الأكثر الجهال . ألا ترى أن معاوية ـ رضى الله عنه ـ قد جهل ذلك مع صحبته ، وكونه من كُتَّاب الوحي ، ويحتمل أن يقال : إن معاوية كان لا يرى ربا الفضل كابن عباس وغيره . والأول أظهر من مساق هذا الخبر . فتأمل نصَّه ؛ فإنَّه صريح : في أن معاوية لم يكن علم بشيء من ذلك .
(14/96)
وقوله : (( نهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح)) ؛ قد تقدَّم القول في النقود ، والقول هنا في الأطعمة . ولم يختلف في جريان الربا في هذه الأصناف الستة ربا لكن هل تعئق حكم الرِّبا بأسمائها أم بمعانيها ؛ فأهل الظاهر قصروه على أسمائها ، فلا يجري الرِّبا عندهم فى غير هذه الأصناف الستة . وفقهاء الأمصار من الحجازيين وغيرهم رأوا : أن ذلك الحكم متعلق بمعانيها . وتمسَّكوا في ذلك بما تقدَّم ، وبأن الدقيق يجري فيه حكم الرِّبا بالاتفاق ، ولا يصدق عليه اسم شيء من تلك الأصناف المذكورة في الحديث . فإن قيل : دقيق كل صنف منها مردودٌ إلى حَبِّه في حكمه . قلنا : فهذا اعتراف بأن الحكم لم يتعلَّق بأسمائها ، بل بمعانيها. والله أعلم .
وقد اختلفوا في تعيين ذلك المعنى . فقال أبو حنيفة : إن علة ذلك كونه مكيلاً أو موزونًا جنسًا . وذهب الشافعي في القديم : إلى أن المعنى : هو أنه مأكول مكيل ، أو موزون جنسًا. وفي الجديد : هو أنَّه مطعوم جنس . وحُكي عن ربيعة : أن العلة هي : كونه جنسًا تجب فيه الزكاة . واختلفت عبارات أصحابنا . وأحسن ما في ذلك أنه هو كونه مقتاتًا ، مدخرًا للعيش غالبًا جنسًا . ولبيان الأرجح من هذه العلل والفروع المبنية عليها علم الخلاف ، وكتب الفروع .
وقوله : (( البُرُّ بالبُرِّ ، والشعير بالشعير )) ؛ دليل على أنهما نوعان مختلفان ؛ كمخالفة التمر للبُرٍّ ؛ وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، والثوري ، وابن عُلّيَّة ، وفقهاء أهل(7) الحديث. وذهب مالك ، والأوزاعي ،
والليث ، ومعظم علماء المدينة والشام : إلى أنهما صنف واحد. وهو مروي عن عمر ، وسعيد ، وغيرهما من السَّلف متمسكين ، بتقاربهما في المنبت ، والمحصد ، والمقصود ؛ لأن كل واحد منهما في معنى الآخر ، والاختلاف الذي بينهما إنما هو من باب مخالفة جيِّد الشيء لرديئه .
(14/97)
وقوله : (( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم )) ، إشارة إلى ما ذكره في الحديث من الأصناف ، ويلحق بها ما في معناها على ما ذكرناه آنفًا ، وينضاف إلى كل نوع منها ما في معناه ، وما يقاربه ، وما بعد عن ذلك كان صنفًا منفردًا بنفسه ، ولذلك لم يختلف قول مالك : في أن الدُّخْنَ صنف منفرد ، وكذلك الأرز ، وهو قول كافة العلماء . والعَلَس عند أكثر المالكية صنف منفرد . وقال الشافعي : هو صنف من أصناف الحنطة . وقاله بعض أصحابنا . واختلف قول مالك في القطاني . هل هي صنف واحذ ، أو أصناف ؟ وقد ضم مالك السَّلت إلى البر والشعير . وقال الشافعي : هو صنف منفرد بنفسه . وقال الليث : السَّلت ، والدُّخْن ، والذرة ، صنف واحد. وقاله ابن وهب . وسبب هذا الاختلاف اختلاف الشهادة بالتقارب في المقصود ، والمحصد ، والمنبت . فمن شهدت له عادة استعمال صنف في معنى صنف ، وشابهه في شيء مما ذكرنا ألحقه به . ومن لم يحصل له ذلك لم يلحق . والأصل : أن ما اختلفت أسماؤه ، ومقاصده أن يعدَّ أصنافًا مختلفة بدليل ظاهر الحديث المتقدِّم ، والله أعلم .
وقوله : (( وزنًا بوزن ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء )) ؛ يدل على وجوب تحقيق المماثلة في بيع الرِّبَوِيّ بصنفه . وذلك لا يكون إلا بمعيار معلوم مقداره بالشَّرع ، أو بالعادة وزنًا أو كيلاً. والأولى عند مالك : أن تجعل ذهبك في كفة ، ويجعل ذهبه في كفة ، فإذا استوى أخذ وأعطي ، وكذلك يكون الكيل واحدًا ، ويجوز بصنجة واحد ؛ معلومة المقدار بالعادة أو بالتحقيق . ولا يجوز عند مالك ، والشافعي في الصرف ولا غيره من البيوع أن يتعاملا بمعيار مجهول ، يتفقان عليه ؛ لجهل كل واحد منهما بما يصير إليه .
قلت : وعلى هذا التعليل ؛ فلا تجوز المراطلة المذكورة ، لوجود الجهل المذكور .
(14/98)
وقوله : (( فمن زاد أو استزاد فقد أربى )) ؛ أي : من بذل الزيادة ، وطاع بها ، ومن سألها ، كل واحد منهما قد فعل الرِّبا . وهما سواء في الإثم ؛ كما قال في الرواية الأخرى : (( الآخذ والمعطي فيه سواء )) ؛ أي : في فعل الْمُحَرَّم ، وإثمه . وفي كتاب أبي داود : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعن آكل الرِّبا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه )). وقال : (( هم سواء )) ؛ أي : في استحقاق اللعنة والإثم .
(14/99)
ومن باب بيع القلادة فيها خرز وذهبٌ بذهب
قوله : (( أُتِي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقلادة فيها خرز وذهب تباع من المغانم)). كان بيع هذه القلادة بعد قَسْم الغنيمة ، وبعد أن صارت إلى فَضَالة في سهمه ، كما قال في رواية حَنَش ؛ ولأن الغنيمة لا يتصرف في بيع شيء منها إلا بعد القِسْمة .
وأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتفصيل القِلادة وبيع الذهب على انفراده : إنما كان لأن المشتري أراد أن يشتريها بذهب ؛ لقوله بعد هذا : (( الذَّهب بالذَّهب وزنًا بوزن )) ، أو يكون قد وقع البيع بذهب ، كما جاء في الرواية الأخرى التي قال فيها : إنه اشتراها باثني عشر دينار ، ففصَّلها ، فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارًا ، ففسخ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ البيع بقوله : (( لا تباع حتى تُفَصَّل )) ؛ ووجه هذا المنع في هذه الصورة : وجود المفاضلة بين الذهبين ، فإنَّه إن كان مساويًا للآخر ، فقد فضله من صار إليه الذهب ، والعَرَضُ بالعَرَض ، وإن لم يكن مساويًا فقد حصل التفاضل في عين أحد الذهبين ، كما قال في رواية الاثني عشر دينارًا . وهذا قول الجمهور.
وقد شذَّ أبو حنيفة ، ومن قال بقوله ، وترك مضمون هذا الحديث فقال : إذا كان الذهب المنفرد أكثر من الذهب المضموم إليه السلعة جاز ، بناء منه على جعل السِّلعة في مقابل الزائد من الذهب . واعتذر عن الحديث : بأنه إنما فسخ ذلك لأن الذهب المنفرد كان أقل ، فلو كان أكثر جاز. وهذا التأويل فاسد بدليل الحديث الأول ، فإنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى القلادة قد عرضت للبيع بالذهب أمر بتفصيلها ، وبيَّن حكم القاعدة الكلية بقوله : (( الذهب بالذهب وزنًا بوزن )) ، ولم يلتفت إلى التوزيع الذي قال به أبو حنيفة .
(14/100)
وقد غفل الطَّحاوي في تأويل ذلك الحديث ، حيث قال : إنما نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك لئلا يُغْبَن المسلمون في المغانم عمَّا ذكرناه : من أن هذا البيع إنما كان بعد القسمة ، ولو سلَّمنا أنها كانت قبل القِسْمة لكان عدوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك المعنى إلى قوله : (( الذهب بالذهب وزنًا بوزن )) ضائعًا ، لا معنى له ؛ لأنه كان يلزم منه أن يعدل عن علَّة الحكم في وقت الحاجة إلى بيانه ، وينطق بما ليس بعلَّة له ولا يُحتاج إليه ، بالنسبة إليه في تلك الواقعة .
(14/101)
ومن الناس من زاد على أبي حنيفة في الشذوذ ، وهو حمَّاد بن أبي سليمان ، فقال : يجوز بيع الذَّهب بالذَّهب الذي معه السِّلعة مطلقًا ، ولم يُفرَّق بين المنفردة والمضموم إليها السلعة في الأقل ولا الأكثر . وهذا طرح للحديث بالكلية ، ولم يعرِّج على القاعدة الشرعية . فأما لو باع القلادة التي فيها الذهب بفضة ، فذلك هو البيع والصَّرف ، ولا يجوز عند مالك ؛ لاختلاف حكم البيع والصرف ، وسدًّا للذريعة . وهذا ما لم يكن أحدهما تابعًا للآخر ، فإن كان كذلك جاز إلغاء للتَّبعيَّة. وقال أشهب : إنَّه يجوز البيع والصَّرف مطلقًا ، وكل ما ذكرناه إنَّما هو فيما يمكن تفصيله . فأمَّا ما لا يمكن ذلك فيه ، إما لتعذره حِسًّا ، أو لأنَّه يؤدي إلى إتلاف مالية : فذلك إمَّا أن يكون ممنوع الاتخاذ ، فلا يجوز فيه إلا المصارفة على اعتبار التبعية على ما ذكرناه آنفًا. وأما ما يجوز اتخاذه ؛ كالسَّيف ، والمصحف ، والخاتم ، وحلي النساء : فيجوز عندنا بيع ذلك كلِّه ، بخلاف ما فيه من العين ؛ ناجزًا مطلقًا من غير فصل بين قليل ولا كثير ؛ لأن ذلك إما صرف ، وإما بيع ، والتبع مُلغى . وإما بجنس ما فيه من العين : فيجوز إذا كان فيه من العين الثلث فدون ؛ عند مالك ، وجمهور أصحابه ، وكافة العلماء إلغاءً للتبعية ؛ ولأن ذلك قد يضطر إليه. ومنع ذلك الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، ومحمد بن عبد الحكم . وروي عن جماعة من السلف ؛ منهم : عمر ، وابن عمر ؛ اعتبارًا بوجود المفاضلة بين الذهبين ، وأبو حنيفة ، وحمَّاد على أصليهما المذكورين .
(14/102)
وقول فضالة : (( اشتريت يوم خيبر قلادة فيها اثنا عشر دينارًا )) ؛ كذا وقع هذا اللفظ عند كافة الشيوخ : (( فيها اثنا(@) عشر دينارًا )). وقد سقط هذا اللفظ عند ابن عيسى ، وابن الحذَّاء ، واتصل قوله : (( قلادة )) بقوله : (( فيها خرز وذهب )) ، وهذا هو الصَّواب . وقد وجد ذلك اللفظ في أصول بعض أصحاب أبي علي النسائي مُصْلَحًا (( باثني عشر دينار )). وله وجه صحيح .
قلت : وقد رويته كذلك من طريق شيخنا أبي ذر بن مسعود الخشني عن أبي محمد عبد الحق ، صاحب كتاب الأحكام في ذلك الكتاب .
ومن باب من قال : إن البُرَّ والشعير صنف واحد ، وفسخ صفقه الرِّبا
قد تقدَّم ذكر الخلاف في عدَّ البُرِّ والشعير صنفًا واحدًا بما يغني عن إعادته ، لكنا نبيِّن في هذا الحديث : أن حديث معمر لا حجَّة فيه لأصحابنا ، وإن كانوا قد أطبقوا على الاحتجاج به . ووجه ذلك : أن غايتهم في التمسك به أن يحتجوا بمذهب معمر . وهو قول صحابي ، وهو أعلم بالمقال ، وأقعد بالحال .
قلت : إن قول معمر هذا رأي منه ، لا رواية . وما استدل به من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الطَّعام بالطَّعام )) لا حجَّة له فيه ؛ لأنه إن حمل على عمومه لزم منه : ألا يباع التمر بالبُرِّ ، ولا الشعير بالملح ، إلا مثلاً بمثل. وذلك خلاف الإجماع ، فظهر : أن المراد به : الجنس الواحد من الطَّعام. وقد بيَّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأجناس المختلفة في حديث عبادة بن الصامت وغيره ، وفصَّلها واحدًا واحدًا ، ففصل التمر عن البر ، والشعير عنه ، ثم قال بعد ذلك : (( فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم )). ثم الظاهر من فتيا معمر : إنما كانت منه تقيه وخوفا . ألا ترى نصَّه ، حيث قال : إني أخاف أن يُضَارع ؟! والحجَّة في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا في قول غيره .
(( البَرْنِّي )) : نوع من أجود أنواع التمر. وكذلك : الجنيب. و(( الجمع )) خلطٌ من التَّمر. وقيل : هو من أدنى التَّمر .
(14/103)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبلال : (( من أين هذا ؟ )) دليل : على أن للانسان أن يبحث عمَّا يستريب فيه ، حتى ينكشف له حاله .
وقوله : (( أوَّهْ )) كلمة تحزُّن ، وتوجُّع . وهي مقصورة الهمزة ، مشدَّدة الواو ، ساكنة الهاء . وقد قيلت : بمد الهمزة . وقد قيلت أيضًا : (( أؤوه )).
وقوله : (( عين الربا )) ؛ أي : هو الربا المحرم نفسه ، لا ما يشبهه .
وقوله : (( لا تفعل )) ، وفي الرواية الأخرى : (( فردُّوه )) ؛ يدل على : وجوب فسخ صفقة الزبا ، وأنها لا تصح بوجه . وهو حجَّة للجمهور على أبي حنيفة حيث يقول : إن بيع الربا جائز بأصله ، من حيث أنه بيع ممنوع بوصفه من حيث هو ربا ، فيسقط الرِّبا ، ويصحَّ البيع . ولو كان على ما ذكر لما فسخ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الصفقة ، ولأمره برد الزيادة على الصَّاع ، ولصحَّح الصفقة في مقابلة الصَّاع .
وقوله : (( ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ، ثم اشتر به )) ، وفي الرواية الأخرى : (( بيعوا تمرنا ، واشتروا لنا من هذا )) ؛ قد يحتج بإطلاقه من لم يقل بسدِّ الذرائع . وهو الشافعي ، وأبو حنيفة ، وكافتهم ، فأجازوا شراء (( البرني )) مثلاً ممن باع منه (( الجمع )). ومنعه مالك رحمه الله على أصله في سدِّ الذرائع . فإن هذه الصورة تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلاً ، ويكون الثمن لغوا . ولا حجَّة لهم في هذا الحديث ؛ لأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينص على جواز شراء التمر الثاني ممن باع منه التمر الأول ، ولا تناوله ظاهر اللفظ بعموم ، بل بإطلاقه . والمطلق يحتمل التقييد احتمالاً يوجب الاستفسار ، فكأنه إلى الإجمال أقرب . وبهذا فرق بين العموم والإطلاق . فإن العموم ظاهر في الاستغراق ، والمطلق صالح له ، لا ظاهر فيه . وإذا كان كذلك فيتقيد بأدنى دليل . وقد دلَّ على تقييده الدليل الذي دلَّ على سدِّ الذرائع ، كما بيَّنَّاه في الأصول . وقد نصَّ ابن عبَّاس ـ رضى الله عنه ـ على منع مثل هذا ، حيث منع فقال : ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ .
(14/104)
وفي هذا الحديث من الفقه جواز اختيار طيبات الأطعمة دون أدانيها . وجواز الوكالة . وفيه مايدلُّ على أن البيوع الفاسدة كلَّها تفسخ ، وتُرَدُّ إذالم تفت .
ومن باب ترك قول من قال : لا ربا إلا في النسيئة
قول أبي نضرة : (( سألت ابن عمر ، وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسًا )) ؛ يعني به : صرت الذهب بالذهب ، أو الفضة بالفضة . سألهما عن التفاضل بينهما ، فافتياه بالجواز أخذًا منهما بظاهر قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما الربا في النسيئة )) ، فإن هذا اللفظ ظاهره الحصر ، فكأنه قال : لا ربا إلا في النسيئة . وهكذا وقع هذا اللفظ في البخاري ، وهو مقتضى قوله هنا : (( لا ربا فيما كان يدًا بيد )) ، فينتفي ربا الفضل . وقد قدَّمنا : أن هذا الخلاف شاذٌّ ، متقدَّم ، مرجوع عنه ، كما قد نص عليه هنا من رجوع ابن عمر ، وابن عبَّاس عنه . ومتن قال بقولهما من السَّلف : عبدالله بن الزبير ، وزيد بن أرقم ، وأسامة بن زيد . ولا شك في معارضة هذا الحديث لحديث عبادة ، وأبي سعيد ، وغيرهما. فإنَّها نصوصٌ في إثبات ربا الفضل .
ولَمَّا كان كذلك اختلف العلماء في كيفية التخلص من ذلك على أوجهٍ ، أشبهها وجهان :
أحدهما : أن حديث ابن عباس منسوخ بحديث عبادة وأبي سعيد ، غير أنهم لم ينقلوا التاريخ نقلاً صريحًا ، وإنما أخذوه من رجوع ابن عباس عن ذلك ، ومن عمل الجمهور من الصحابة وغيرهم من علماء المدينة على خلاف ذلك .
قلت : وهذا لا يدل على النسخ ، وإنما يدل على الأرجحية .
(14/105)
وثانيهما : إن قوله : (( لا ربا إلا في النسيئة )). إنما مقصوده نفي الربا الأغلظ الذي حرَّمه الله بنص القرآن ، وتوعَّد عليه بالعقاب الشديد ، وجعل فاعله محاربًا لله ، وذلك بقوله تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } إلى آخر الآيات ، وما كانت العرب تعرف ربًا إلا ذلك ، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم : إما أن تقضي ، وإما أن تربي ؛ أي تزيد في الدَّين . وهذا هو الذي نسخه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم عرفة لما قال : (( ألا إن كل ربًا موضوع ، وإن أول ربًا أضعه ربا العباس )). وهذا كما تقول العرب : إنما المال الإبل ، وإنما الشجاع عليٌّ ، وإنما الكريم يوسف ابن نبي الله . ولا عالم في البلد إلا زيد. ومثله كثير . يعنون بذلك نفي الأكبر والأكمل ، لا نفي الأصل . وهذا واضح . ومما يقرب فيه هذا التأويل جدًّا رواية من روى : (( لا ربا فيما كان يدًا بيد )) ؛ أي : لا ربا كبير أو عظيم ، كما قال : (( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد )) ؛ أي : لا صلاة كاملة .
قلت : ويظهر لي وجة آخر وهو حسن . وذلك : أن دلالة حديث ابن عباس على نفي ربا الفضل دلالة بالمفهوم ، ودلالة إثباته دلالة بالمنطوق. ودلالة المنطوق راجحة على دلالة المفهوم باتفاق النظار ، والحمد لله .
وقول أبي سعيد : (( كان تمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا اللون )) ؛ يشير به إلى أنه نوع رديء من التمر ، وهو الذي سُمِّي في الحديث المتقدم بالجمع.
وقوله : (( فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربًا ، أم الفضة بالفضة ؟ )) استدلال نظري ألحق فيه الفرع بالأصل بطريق الأولى والأحق . وهي أقوى طرق القياس . ولذلك وافق على القول به أكثر منكري القياس وقد بيَّنَّاه في الأصول ، وكان أبا سعيد ـ رضى الله عنه ـ إنما عدل إلى هذه الطريقة لأنه لم يحضره شيء من نصوص حديث عبادة ، وفضالة المتقدِّمة . وهي أحق وأولى بالاستدلال بها على ذلك .
(14/106)
وقول أبي سعيد لابن عباس : (( أرأيت قولك في الصرف ، أشيئًا سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو شيئًا وجدته في كتاب الله تعالى ؟ )) سؤال منكر لما سمع ، طالب لى للحقيقة بالدليل ، بأن على أن لا دليل على الأحكام الشرعية إلا الكتاب والسُّنة .
وقول ابن عباس : (( كلا ، لا أقول )) ؛ أي : لم أسمع فيه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا ، ولا فهمت من كتاب الله ، ثم أخذ فاسند الحديث عن أسامة ، وأخبر أنه سمعه منه ، فثبت الحديث بنقله - وهو الإمام العدل - عن أسامة ذي المآثر والفضل . ولا شك في صحة سند الحديث ، وإنما هو متروك بأحد الأوجه المتقدمة ، والله أعلم .
وقول ابن عباس : (( أمَّا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنتم أعلم به مني )) ؛ أي : بأحاديثه ، فإنَّهم أسن منه ، وهم ملازموه حضرًا وسفرًا ، وعندهم من حديثه ما ليس عنده لصغر سنه ، وقد بيَّنَّا : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توفي وابن عبَّاس لم يحتلم ، والذي سمع من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحاديث يسيرة ، وأكثر حديثه عن كبار الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ، وفي سِنِّهِ يوم توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة أقوال. قيل : عشر. وقيل : خمس عشرة . وقيل : ثلاث عشرة . قال أبو عمر : وهو الذي عليه أهل السِّير والعلم . وهو عندي أصح.
ومن باب اتِّقاء الشبهات
(14/107)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الحلال بيِّن ، والحرام بيِّن ، وبينهما أمور متشابهات )) ؛ يعني : أن كل واحد منهما مبين بادئته في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأصيلاً وتفصيلاً . فمن وقف على ما في الكتاب والسُّنة من ذلك وجد فيهما أمورًا جلية التحليل ، وأمورًا جلية التحريم ، وأمورًا مترددة بين التحليل والتحريم . وهي التي تتعارض فيها الأدلة . فهي المتشابهات . وقد اختلف في حكمها فقيل : مواقعتها حرام ؛ لأنها توقع في الحرام . وقيل : مكروهة والورع تركها . وقيل : لا يقال فيها واحد منهما . والصواب الثاني ؛ لأن الشرع قد أخرجها من قسم الحرام ، فلا توصف به ، وهي مما يرتاب فيه.وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) وهذا هو الورع. وقد قال فيها بعض الناس : إنها حلال ويتورَّع عنها.
قلت : وليسث بعبارة صحيحة ؛ لأن أقل مراتب الحلال أن يستوي فعله وتركه ، فيكون مباحًا . وما كان كذلك لم يتصور فيه الورع من حيث هو متساوي الطرفين . فإنَّه إن ترجَّح أحد طرفيه على الآخر خرج عن كونه مباحًا. وحينئذ يكون تركه راجحًا على فعله ، وهو المكروه . أو فعله راجحًا على تركه ، وهو المندوب .
فإن قيل : فهذا يؤدِّي إلى رفع معلوم من الشرع ، وهو : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء بعده ، وأكثر أصحابه ـ رضى الله عنهم ـ كانوا يزهدون في المباح . فإنَّهم رفضوا التنعم بأكل الطيبات من الأطعمة ، وبلباس اللَّين الفاخر من الملابس ، وبسكنى المباني الأنيقة من المساكن . ولا شك في إباحة هذه الأمور . ومع هذا فآثروا أكل الخشن ، ولباس الخشن ، وسكنى الطين واللَّبن . وكل هذا معلوم من حالهم ، منقول من سيرتهم .
(14/108)
فالجواب : إن تركهم التنعم بالمباح لا بدّ له من موجب شرعي أوجب ترجيح الترك على الفعل ، وحينئذ يلزم عليه خروج المباح عن كونه لا مباحًا ، فإن حقيقته التساوي من غير رجحان . فلم يزهدوا في مباح ، بل في أمرٍ تَرْكُهُ خيرٌ من فعله شرعًا . وهذه حقيقة المكروه . فإذًا إنما زهدوا في مكروه . غير أن المكروه تارة يكرهه الشرع من حيث هو ، كما كره لحوم السِّباع . وتارة يكرهه لما يؤدِّي إليه ، كما يكره القبلة للصَّائم ، فإنها تكره لما يخاف منها من فساد الصوم . وتركهم للتنعم من هذا القبيل ، فإنَّه انكشف لهم من عاقبته ما خافوا على نفوسهم منه مفاسد إما في الحال ، كالرُّكون إلى الدنيا . وإما في المآل كالحساب عليه ، والمطالبة بالشكر ، وغير ذلك ممَّا ذكر في كتب الزهد . وعلى هذا فقد ظهر ولاح : أنهم لم يزهدوا ولا تورعوا عن مباح .
وقوله : (( لا يعلمهن كثير من الناس )) ؛ أي : لا يعلم حكمهن من التحليل والتحريم ، وإلا فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث أنها مشكلة ، لترددها بين أمور محتملة ، فإذا علم بأي أصل تلحق زال كونها شبهة ، وكانت إما من الحلال ، أو من الحرام . وفيه دليلٌ : على أن الشبهة لها حكم خاص بها ، عليه دليل شرعي ، يمكن أن يصل إليه بعض الناس ، فمن ظفر به فهو المصيب كما بيناه في الأصول .
وقوله : (( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )) ؛ أي : من ترك ما يشتبه عليه سلم دينه مما يفسده ، أو ينقصه . وعرضه مما يشينه ، ويعيبه ، فيسلم من عقاب الله وذمِّه . ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء الله تعالى وثوابه ، لكن لا يصحّ اتقاء الشبهات حتى تعرف ، ومعرفتها على التعيين والتفصيل يستدعي فصل تطويل ، لكن نعقد فيه عقدً كليًّا يكون إن شاء الله تعالى عن التفصيل مُغنيًا ، فنقول :
(14/109)
المكلف بالنسبة إلى الشرع : إما أن يترجح فعله على تركه ، أو تركه على فعله ، أو لا يترجح واحد منهما . فالراجح الفعل أو الترك ؛ إما أن يجوز نقيضه بوجه ما ، أو لا يجوز نقيضه. فإن لم يجز نقيضه فهو المعلوم الحكم من التحليل ، كحِلِّيةِ لحوم الأنعام . أو من التحريم ؛ كتحريم الميتة والخنزير على الجملة . فهذان النوعان هما المرادان بقوله : ((الحلال بيِّن ، والحرام بيِّن )). وأما إن جُوِّز نقيض ما ترجَّح عنده : فأمَّا أن يكون ذلك التجويز بعيدًا لا مستند له أكثر من توهم ، وتقدير : فلا يلتفت إلى ذلك ، ويُلغى بكل حال . وهذا كترك النكاح من نساء بلدة كبيرة مخافة أن يكون له فيها ذات محرم من النسب أو الرِّضاع . أو كترك استعمال ماء باق على أوصافه في فلاة من الأرض مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه ، أو كترك الصلاة على موضع لا أثر ، ولا علامة للنجاسة فيه ، مخافة أن يكون فيها بول قد جف . أو كتكرار غسل الثوب مخافة طروء نجاسة لم يشاهدها. إلى غير ذلك مما في معناه . فهذا النوع يجب ألا يلتفت إليه ، والتوقف لأجل ذلك التجويز هَوَسٌ . والورع فيه وسوسة شيطانية ؛ إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء ، وقد دخل الشيطان على كثير من أهل الخير من هذا الباب ، حتى يُعطِّل عليهم واجبات ، أو يُنقص ثوابها لهم . وسبب الوقوع في ذلك عدم العلم بالمقاصد الشرعية ، وأحكامها .
فإن قيل : كيف يقال هذا ، وقد فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل ذلك لما دخل بيته فوجد فيه تمرة فقال : (( لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها )). ودخول الصدقة بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعيد ؛ لأنها كانت محرمة عليه وعلى آله ، لكنه راعى الاحتمال البعيد ، والاحتمالات في على الصورالتي ذكرتم ليس بأبعد من هذا الاحتمال ، فما وجه الانفصال ؟!
(14/110)
قلنا : لا نسلّم أن ما توقعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان بعيدًا ؛ لأنهم كانوا يأتون بصدقات التَّمر للمسجد ، وحجرته متصلة بالمسجد ، فتوقع أن يكون صبي أو من يغفل عن ذلك يدخل التمرة من الصدقة في البيت . فاتقى ذلك لقربه بحسب ما ظهر له مِمَّا قرب ذلك التقدير ، وليس من تلك الصور في شيء ؛ لأنها خلية عن الأمارات . وإنما هي محض تجويزات .
وأما إن كان ذلك التجويز له مستند معتبر بوجه ما ، فالأصل : العمل بالراجح ، والورع الترك إن لم يلزم منه ترك العمل بترك بالراجح(5) وبيانه بالمثال . وهو : أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ في مشهور مذهب مالك . فلا يجوز أن يستعمل في شيء المائعات ، لأنها ينجس إلا الماء وحده ، فإنه يدفع النجاسة عن نفسه ؛ لأنه لا ينجس إلا إذا تغيَّر . هذا الذي ترجَّح عنده . ثم إنه اتقى الماء في خاصة نفسه . ونحو ذلك حكي عن أبي حنيفة أو سفيان الثوري أنه قال : لأن أخرَّ من السَّماء أهون عليَّ من أن أفتي بتحريم قليل النبيذ ، وما شربته قط ، ولا أشربه. فقد أعملوا الراجح في الفتيا ، وتورعوا عنه في أنفسهم . وقد قال بعض المحققين : من حكم الحكيم أن يوسع على المسلمين في الأحكام ، ويضيق على نفسه ؛ يعني به ذلك المعنى .
(14/111)
ومنشأ هذا الورع الالتفات إلى مكان اعتبار الشرع ذلك المرجوح . وهذا الالتفات ينشأ من القول : بأن المصيب واحد. وهو مشهور قول مالك . ومنه مثار القول في مذهبه بمراعاة الخلاف . كما بينَّاه في الأصول. غير أن تلك التجويزات المعتبرة -وإن كانت مرجوحة - في على مراتب في القرب والبعد ، والقوة والضعف . وذلك بحسب الموجب لذلك الاعتبار. فمنها ما يوجب حزازة في قلب المتقي ، ومنها ما لا يوجب ذلك . فمن لم يجد ذلك ، فلا ينبغي له أن يتوقف ؛ لأنه يلتحق ذلك بالقسم الأول عنده . ومن وجد ذلك توقف وتورَّع وإن أفتا المفتون بالرَّاجح ؟ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به الباس )). وهنا يصدق قولهم : استفت قلبك وإن أفتوك . لكن هذا إنما يصج ممن نوَّر الله قلبه بالعلم ، وزين جوارحه بالورع ، بحيث يجد للشبهة أثرًا في قلبه . كما يحكى عن كثير من سلف هذه الأمَّة ، كما نقل عنهم في "الحلية" و"صفة الصفوة" ، وغيرهما من كتب ذلك الشأن .
وأما إن لم يترجح الفعل على الترك ، ولا الترك على الفعل : فهذا هو الأحق باسم الشبهة ، والمتشابه ؛ لأنه فد تعارضت فيه الأشباه . فهذا النوع يجب فيه التوقف إلى الترجيح ، لأن الإقدام على أحد الأمرين من غير رجحان حكم بغير دليل . فيحرم ، إذ لا دليل مع التعارض . ولعل الذي قال : إن الإقدام على الشبهة حرام ؛ أراد هذا النوع . والذي قال : إن ذلك مكروه ؛ أراد النوع الذي قبل هذا ، والله أعلم .
وقوله : "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام )) ؛ وذلك يكون بوجهين :
(14/112)
أحدهما : أن من لم يتق الله تعالى ، وتجرَّأ على الشبهات ، أَفْضَتْ به إلى المحزمات بطريق اعتياد الجرأة ، والتساهل في أمرها ، فيحمله ذلك على الجرأة على الحرام المحض ؛ ولهذا قال بعض المتقين : الصغيرة تجر إلى الكبيرة . والكبيرة تجر إلى الكفر . ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المعاصي بريد الكفر )). وهو معنى قوله تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }.
وثانيهما : أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه ، لفقدان نور العلم ، ونور الورع ، فيقع في الحرام ، ولا يشعر به. وإلى هذا النور الإشارة بقوله تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه }. وإلى ذلك الإظلام الإشارة بقوله : { فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله }(@).
وقوله : (( كالرَّاعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه )) ؛ هذا مثل ضربه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمحارم الله تعالى. وأصله : أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها الخاصة بها ، وتُحرَّجُ بالتوعد بالعقوبة على من قربها . فالخائف من عقوبة السلطان يَبْعُد بماشيته من ذلك الحمى ؛ لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع فيه ، وإن كثر الحذر ؛ إذ قد تنفرد الفاذة ، وتشذ الشاذة ولا تنضبط ، فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة بحيث يأمن فيها من وقوع الشاذة والفاذة . وكذلك محارم الله تعالى ، لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها على الطريقتين المتقدمتين.
و (( يوشك )) بكسر الشين ، مضارع (( أوشك )) بفتحها . وقد قدَّمنا : أنها من أفعال المقاربة ، والملابسة ، ومعناها هنا : يقع في الحرام بسرعة .
و (( يرتع )) بفتح التاء مضارع (( رتع )) بفتحها أيضًا . وفتحت في المضارع مراعاة لحرف الحلق ؛ ومعناه : أكل الماشية من المرعى . وأصله : إقامتها فيه ، وتبسطها في الأكل . ومنه قوله تعالى : { نرتع ونلعب }.
(14/113)
وقوله : (( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله )) الحديث ، المضغة : القطعة من اللحم . وهي قدر ما يمضغه الماضغ ؛ يعني بذلك : صغير جرمها ، وعظيم قدرها. و(( صلحت )) رويناه بفتح العين في الماضي ومضارعه : يصح بضمها ، وكذلك مقابلها . وهي : فسد ، يفسد. ومعناه : إذا صارت تلك المضغة ذات صلاح أو ذات فساد. وقد يقال : صلح ، وفسد - بضم العين فيهما- : إذا صار الصلاح
أو الفساد هيئة لازمة لها. كما يقال : ظَرُف ، وشَرُف .
وقوله : (( ألا وهي القلب )) ؛ هذا اللفظ في الأصل مصدر : قلبت الشيء ، أقلبه ، قلبًا : إذا رددته على بدأته . وقلبت الإناء : إذا رددته على وجهه . وقلبت الرَّجل عن رأيه : إذا صرفته عنه ، وعن طريقه ، كذلك . ثم نقل هذا اللفظ ، فسُمِّي به هذا العضو الذي هو أشرف أعضاء الحيوان ، لسرعة الخواطر فيه ، ولترددها عليه . وقد نظم بعض الفضلاء هذا المعنى فقال :
ماسُمِّي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القَلْبِ من قَلْبٍ وتَحْوِيلِ
ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو التزمت فيه تفخيم قافه ؛ تفريقًا بينه وبين أصله ، وليحذر اللبيب من سرعة انقلاب قلبه ؛ إذ ليس بين القلب والقلب إلا التفخيم ، وما يعقلها إلا كل ذي فهم مستقيم .
(14/114)
ثم اعلم : أن الله خلق جنس الحيوان بهذا العضو المسمى : بالقلب ، وأودع كل فيه المعنى الذي تنتظم به المصالح المقصودة من ذلك النوع ، فتجد البهائم تدرك اك مصالحها ومنافعها ، وتميز بين مفاسدها ومضازها مع اختلاف أشكالها ، وصورها ، إذ منها من يمشي على بطنه ، ومنهم ما يمشي عنى أربع ، ومنها ما يطير بجناحيه . ثم خص الله تعالى من بين سائر الحيوان نوع الإنسان ؛ الذي هو المقصود الأول من الكونين ، والمعني في العالمين بهذا القلب المخصوص المشتمل على هذا المعنى المخصوص ، الذي به تميز الإنسان . ووقع به بينه وبين سائر الحيوانات الفرقان . وهو المعنى الذي به يفهم القلب المفهومات ، وبحصل به على معرفة الكليات والجزئيات ، ويعرف به فرَّق ما بين الواجبات والجائزات والمستحيلات . وقد أضاف الله تعالى العقل إلى القلب ، كما أضاف السمع إلى الأذن ، والإبصار إلى العين . فقال تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } ، وهو ردٌّ على من قال من أهل الضلال : إن العقل في الدماغ . وهو قول من زل عن الصواب ، وزاغ . كيف لا ، وقد أخبرنا عن محلّه خالقه القدير : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير }. وقد روي ذلك عن أبي حنيفة ، وما أظنها عنه معروفة .
(14/115)
وإذا فهمت : أن الإنسان إنما شرَّفه الله تعالى على سائر الحيوان بهذا القلب ، وأن هذا القلب لم يشرف من حيث صورته الشكلية ، فإنها موجودة لغيره من الحيوانات البهيمية ، بل من حيث هو مقرّ لتلك الخاصية الإلهية ؛ علمت أنه أشرف الأعضاء ، وأعزَّ الأجزاء ؛ إذ ليس ذلك المعنى موجودًا في شيء منها . ثم إن الجوارح مسخرة له ، ومطيعة ، فما استقرَّ فيه ظهر عليها ، وعملت على مقتضاه : إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر. وعند هذا انكشف لك معنى قوله : (( إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله )). ولما ظهر ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصلح بها القلب ، ليتصف بها ، وبالأمور التي تفسد القلب ليتجنبها . ومجموع ذلك علوم ، وأعمال ، وأحوال. فالعلوم ثلاثة :
الأول : العلم بالله تعالى ، وصفاته ، وأسماته ، وتصديق رسله فيما جاءوا به .
والثاني : العلم بأحكامه عليهم ، ومراده منهم .
والثالث : العلم بمساعي القلوب من خواطرها ، وهمومها ، ومحمود أوصافها ، ومذمومها .
وأمَّا أعمال القلوب : فالتحلِّي بالمحمود من الأوصاف ، والتخلِّي عن المذموم منها ، ومنازلة المقامات ، والترقي عن مفضول المنازلات إلى سَنِي الحالات .
وأما الأحوال : فمراقبة الله تعالى في السر والعلن ، والتمكن من الاستقامة على السُّنن . وإلى هذا أشار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال : (( أن تعبد الله كانك تراه )). وتفصيل هذه المعاقد الجميلة توجد في تصانيف محققي الصوفية .
(14/116)
تنبيه : الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب بأعمالها ، للارتباط الذي ال بين الباطن والظاهر. والقلب مع الجوارح كالملك مع الرَّعية ؛ إن صلح صلحت ، ثم يعود صلاحها عليه بزيادة مصالح ترجع إليه . ولذلك قيل : الملك سوق ، ما نفق عنده جلب إليه . وقد نصَّ على هذا المعنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( إن الرَّجل ليصدق فينكت في قلبة نكتة بيضاء ، حتى يكتب عند الله صديقًا . وإن الرَّجل ليكذب الكذبة فيسودّ قلبه حتى يكتب عند الله كذابًا )). وفي "الترمذي" عن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ مرفوعًا : (( إن الرَّجل ليصيب الذنب ، فيسودّ قلبه ، فإن هو تاب صقل قلبه )) ، قال : وهو الرَّان الذي ذكر الله تعالى في كتابه : {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }. وقال مجاهد : القلب كالكف تقبض منه بكل ذنب أصبع ، ثم يطبع . هذا المعنى الإشارة بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد )) متصلاً بقوله : (( الحلال بيِّن ، والحرام بيِّن )) ؛ إشعارًا بأن الحلال ينوِّره ، ويُصلحه ، وأكل الحرام والشبهة يفسده ، ويقسيه ، ويظلمه . وقد وجد ذلك أهل الورع ، حتى قال بعضهم : استسقيت جنديًا فسقاني شربة ماء ، فعادت قسوتها على قلبي أربعين صباحًا . وقيل : الأصل المصحِّح للقلوب والأعمال : أكل الحلال . ويخاف على أكل الحرام ، والمتشابه ، ألا يقبل له عمل ، ولا تسمع له دعوة . ألا تسمع قوله تعالى : { إنَّما يتقبل الله من المتقين } ، وأكل الحرام ، والمسترسل في الشبهات ليس بمتق على الإطلاق . وقد عضد ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أيها الناس ! إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبًا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ، وقال : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا }. ثم ذكر الرَّجل يطيل السفر أشعث أغبر ، يقول : يارب ! يارب ! ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنَّى يستجاب لذلك؟! ، ولَمَّا شرب أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ جرعة(14/117)
لبن من شبهة استقاءها ، فاجهده ذلك حتى تقيأها. فقيل له : أكل ذلك في شربة ؟! فقال : والله! لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها ، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به )).
وعند هذا يعلم الواحد منذَا قدر المصيبة التي هو فيها ، وعظم المحنة التي ابتلي بها ؛ إذ المكاسب في هذه الأوقات قد فسدت ، وأنواع الحرام والشبهات قد عمَّت ، فلا يكاد أحدٌ منَّا اليوم يتوصل إلى الحلال ، ولا ينفك عن الشبهات . فإن الواحد منَّا - وإن اجتهد فيما يعمله - فكيف يعمل فيمن يعامله ، مع استرسال الناس في المحرمات والشبهات ، وقلَّة من يتقي ذلك من جميع الأصناف ، والطبقات ، مع ضرورة المخالطة ، والاحتياج للمعاملة . وعلى هذا : فالخلاص بعيد ، والأمر شديد ، ولولا النهي عن القنوط واليأس ، لكان ذلك الأولى بأمثالنا من الناس . لكنَّا إذا دفعنا عن أنفسنا أصول المرزمات ، واجتهدنا في ترك ما يمكننا من الشبهات ، فعفو الله تعالى مأمول ، وكرمه مرجوّ ، ولا ملجأ إلا هو ، ولا مفزع إلا إليه ، ولا استعانة إلا به ، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم .
تنبيه : هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة . حتى لقد قال أبو داود : كتبت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمسمائة ألف حديث ، الثابت منها : أربعة آلاف حديث . وهي ترجع إلى أربعة أحاديث : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّما الأعمال بالنيات )) ، و(( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) ، و((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) ، و(( الحلال بيِّن والحرام بيِّن )). وقد جعل غيره مكان (( يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) ، قوله : (( ازهذ في الدنيا يحبك الله )). وقد نظم هذا المعنى أبو الحسن طاهر بن مفوز فقال :
عُمْدَةُ الدِّين عندنا كلمات أربع من كلام خير البرية
اتق المشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية
(14/118)
قلت : وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة ـ رضى الله عنهم ـ أجمعين حسن ، غير أنهم لو أمعنوا النظر في هذا الحديث كله ، من أوَّله إلى آخره ، لوجدوه متضمنًا لعلوم الشريعة كلها ، ظاهرها وباطنها . وإن أردت الوقوف على ذلك فأعد النظر فيما عقدناه من الجمل في الحلال ، والحرام ، والمتشابهات ، وما يصلح القلوب ، وما يفسدها ، وتعلُّق أعمال الجوارح بها. وحينئذ يستلزم ذلك الحديث معرفة تفاصيل أحكام الشريعة كلَّها ، أصولها وفروعها . والله هو المسؤول أن يستعملنا بما علمنا ، ويوفقنا لما يرضى به عنَّا . إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وقوله : (( لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آكل الرِّبا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه )). وقال : (( هم سواء )) . آكل الربا : آخذه . وعبَّر عن الأخذ بالأكل ؛ لأن الأخذ إنما يُرَاد للأكل غالبًا ؛ ومنه قوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا } ؛ أي : يأخذونها ، فإنه لم يعلّق الوعيد على أموال اليتامى من حيث الأكل فقط ، بل من حيث إتلافها عليهم بأخذها منهم . وموكل الربا : معطيه . وهذا كما قال في الحديث الآخر : (( الآخذ والمعطي فيه سواء )) ، وفي معنى المعطي : المعين عليه ، وكاتبه : الذي يكتب وثيقته . وشاهداه : من يتحمَّل الشهادة بعقده ، وإن لم يؤدها. وفي معناه : من حضره فاقرَّه . وإنما سوَّى بين هؤلاء في اللعنة ؛ لأنه لم يحصل عقد الرِّبا إلا بمجموعهم . وجب على السلطان إذا وقع له أحذ من هؤلاء أن يُغلِّظ العقوبة عليهم في أبدانهم بالضرب ، والإهانة ، وبإتلاف مال الربا عليهم بالصدقة به ، كما يفعل بالمسلم إذا أجر نفسه في عمل الخمر ، فإنه يتصدَّق بالأجرة ، وبثمن الخمر إذا باعها . ويدلّ على صحة ما ذكرناه قوله تعالى : { يمحق الله الربا } ؛ أي : يفسخ عقده ، ويرفع بركته ، وتمام المحق بإتلاف عينه .
ومن باب بيع البعير البعير واستثناء حملانه
(14/119)
البعير من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس . يقال للجمل : بعير. وللناقة : بعير. تقول العرب : صرعني بعيرك. وشربت من لبن بعيري . وإنما يقال له بعير : إذا أجذع ، والجمع : أبعرة ، وأباعر ، وبعران .
حديث جابر هذا : كثرث طرقه ، واختلفت روايته ، وألفاظه ، وخصوصًا ثمن الجمل . فقد اضطربت فيه الرواة اضطرابًا لا يقبل التلفيق . وتكلُّف ذلك بعيدٌ عن التحقيق . ومع ذلك فهو حديث عظيم ، فيه أبواب من الفقه ، أكثرها واضحة . فلنقصد إلى إيضاح ما يمكن أن يخفى منها ؛ فمنها :
قوله : (( أفتبيعنيه )) ؛ دليل على جواز مساومة من لم يعرض سلعته للبيع.
وقوله : (( فبعته بأوقية على أن لي فقار ظهره إلى المدينة )) ، وفي الأخرى : (( فقال : لك ظهره إلى المدينة )). وهذا صريحٌ في جواز بيع الدابة واسثتناء ركوبها. قال به ابن شبرمة وغيره من الناس . ومنعه أبو حنيفة ، والشافعي أخذًا بنهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع وشرط . ورأوا : أن هذا النهي أولى من حديث جابر . إما لأنَّه ناسخ له ، أو مرجَّح عليه . وقال مالك : يجوز ذلك إذا كانت المسافة قريبة معلومة . وحمل هذا الحديث عليه .
وقد اختلفوا في جواز البيع والشرط . فصحَّحهما ابن شبرمة ، وأبطلهما أبوحنيفة . وصحح ابن أبي ليلى البيع وأبطل الشرط تمسُّكًا بحديث بريرة المتقدم. وأما مالك رحمه الله فيحمل النهي عن بيع وشرط عنده على شرط يناقض مقصود العقد . كقوله : أبيعك هذه الجارية على ألا تطأها. أو : على ألا تبيع . وما شاكل ذلك . فجمع بين الأحاديث . وهي طريقته في القديم والحديث .
و (( فقار الظهر )) : كناية عن ركوب الظهر . ومنه : أفقرت الرجل : إذا أعرته ذلك . والفقار : جمع فقارة ، وهي : خرزات الصلب .
و (( الناضح )) : البعير الذي يستقى عليه الماء . وقد تقدَّم أيضًا الكلام على ما تضمنه هذا الحديث من ذكر النكاح في كتابه .
و (( المماكسة )) هي : الكلام في مناقصة الثمن .
(14/120)
وقوله لبلال : (( أعطه وزده )) ؛ دليل : على صحة الوكالة ، وعلى(5) جواز الزيادة في القضاء . وهي من باب قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن خيركم أحسنكم قضاءً )) ، وهذا لا يختلف فيه إذا كان من بيع . وإنما يختلف فيه إذا كان من قرض. فاتفق على جوازه في الزيادة في الصفة ؛ إذا كان بغير شرط ، ولا عادة . وزاد أصحابنا : ولا قصد من المقرض للزيادة ، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((كل قرض جرَّ نفعًا فهو ربا )). وأما الزيادة في العدد والوزن ، فمنعها مالك في مجلس القضاء حسمًا للذريعة . وأجازها ابن حبيب . ولم يختلف في جواز ذلك ؛ إذا كانت الزيادة بعد مجلس القضاء .
وقوله : (( أعطه أوقية من ذهب )) ؛ قال أبو جعفر الداودي : ليس لأوقية الذهب وزن يعرف . وأما أوقية الفضة : فأربعون درهمًا .
وفيه دليل على أن وأ رزن الثمن وكَيْله على المشتري ، كما أنه على البائع إن كان المبيع مما يكال ، أو يوزن. ولأن على كل واحد منهما أن يسلِّم ما لزمه دفعه. ولا يتحقق التسليم إلا بذلك .
وقوله : (( وزادني قيراطًا )) ، وفي أخرى : (( درهمًا أو درهمين )) ؛ هذا اضطراب ، وقد تكلًّف القاضي أبوالفضل الجمع بين هذه الروايات المختلفة التي في الثمن ، وفي الزيادة ، تكلُّفًا مبنيًا على تقدير أمر لم يصح نقله ، ولا استقام ضبطه ، مع أنه لا يتعلَّق بتحقيق ذلك حكم ، ولا يفيد حكمة . والحاصل : أنَّه باعه البعير بثمن معلوم لهما ، وزاده عند القضاء زيادة محققة ، ولا يضرنا جهلنا بمقدار ذلك .
(14/121)
وقوله : (( خذ جملك ودراهمك ، فهو لك )) ؛ هذا يدلُّ على أن هذا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عطية مبتدأة بعد صحة شرائه ، وملكه للبعير . وهذا مبطل لتأويل بعض الشافعية في هذا الحديث ؛ إذ قال : إن ذلك لم يكن من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شراء للبعير ، ولا بيعًا من جابر حقيقة . وهذا من قائله تغيير وتحريف ، لا تأويل. وكيف يقبل هذا التأويل مع قوله : ((أتبيعنيه بأوقية)) ، فقال : قد بعته منك بأوقية ، على أن لي ظهره إلى المدينة . بعد المماكسة. وهذا نصٌّ لا يقبل التأويل . وكذلك قوله : (( فهو لك )) بعد قوله : ((خذ جملك ودراهمك )) ، وذلك واضح لمن تأمل أفراد تلك الكلمات ومركّباتها .
وقوله : (( أتراني ما كسك لكي آخذ جملك )) ؛ بكسر لام كي ، ونصب الفعل المضارع بعدها . كذا لجميع الرواة . وقُيِّد على أبي بحير. ((لا ، خذ جملك )) على (( لا )) النافية ، و(( خذ )) على الأمر . والمعنيان واضحان .
وقوله : (( فما زال يزيدني )) ؛ يدلُّ على أنه زاده بعد القيراط شيئًا آخر. ولعلها : الدرهم ، والدرهمان اللذان قال في الرواية الأخرى .
وقوله : (( والله يغفر لك )) ؛ قال أبو نضرة : وكانت كلمة يقولها المسلمون : افعل كذا ، والله يغفر لك .
قلت : وهو كلام يخرجه فرط المحبة ، والشفقة ، وإرادة الخير للمسلمين ، وهو على معنى الدعاء .
وقوله : (( اركب باسم الله )) ؛ دليل : على استحباب التبرك ببسم الله عند افتتاح كل فعل ، وإن كان من المباحات ، فليس مخصوصًا بالقرب ، فإنه كما قال في الوضوء : (( توضؤوا باسم الله )) قال هنا في الزكوب : (( اركب باسم الله )) .
ومن باب جواز الاستقراض وحسن القضاء فيه
(14/122)
قوله : (( استسلف بَكْرًا )) ؛ استسلف : طلب السَّلف ، وهو القرض . ويدل : على جواز الأخذ بالدَّين ، ولا يختلف العلماء في جواز سؤاله عند الحاجة إليه ، ولا نقص على طالبه ، ولا تثريب ، ولا منه تلحق فيه. ولو كان فيه شي من ذلك لما استسلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإنه كان أنزه الناس ، وأبعدهم عن تلك الأمور .
و (( البَكْر )) : الفتي من الإبل ، وهو فيها كالغلام في الرجال. والقلوص فيها : كالجارية في النساء. وخيار الإبل والشيء : أحسنه ، وأفضله . و(( الرباعي )) : هو الذي في السَّنَة السابعة ؛ لأنَّه يُلقي فيها رباعيته . وهي التي تلي الثنايا . وهي أربع رباعيات - مخفَّفة الياء- والذكر : رباع . والأنثى : رباعية .
وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان . وهو مذهب الجمهور. ومنع ذلك الكوفيون . وهذا الحديث الصحيح حجَّة عليهم . واستثنى من الحيوان أكثر العلماء الجواري . فمنعوا قرضهن ؛ لأنه يؤدي إلى عارية الفروج . وأجاز ذلك بعض أصحابنا بشرط أن يردَّ غيرها . وأجاز ذلك مطلقًا الطبري ، والمزني ، وداود الأصبهاني . وقصر بعض الظاهرية جواز القرض على ما لا مثل من المعيَّن ، والمكيل ، والموزون . وهذا الحديث حجَّة عليهم .
(14/123)
واختلف أرباب التاريل في استسلاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا البَكْر ، وقضائه عنه من مال الصدقة . هل كان ذلك السَّلف لنفسه ، أو لغيره ؛ فمنهم من قال : كان لنفسه ، وكان هذا قبل أن تحرم عليه الصدقة. وهذا فاسد ؛ فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تزل الصدقة محرمة عليه منذ قدوم المدينة . وكان ذلك من خصائصه ، ومن جملة علاماته المذكورة في الكتب المتقدَّمة ؛ بدليل قصة سلمان الفارس ، فإنه عند قدوم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة جاءه سلمان بتمر ، فقدَّمه إليه ، وقال : كُل ، فقال : (( ما هذا ؟ )) قال : صدقة . فقال لأصحابه : (( كلوا )) ولم يكل . وأتاه يومًا آخر بتمر فقال : هدية ، فأكل. فقال سلمان : هذه واحدة . ثم رأى خاتم النبوَّة فأسلم . وهذا واضح . وقيل : استسلفه لغيره ممن يستحق أخذ الصدقة ، فلما جاءت إبل الصدقة دفع منها. وقد استبعد هذا من حيث : إنه قضى أزيد من القرض من مال الصدقة . وقال : (( إن خيركم أحسنكم قضاء )) ، فكيف يعطي زيادة من مال ليس له ؟ ويجعل ذلك من باب حسن القضاء ؟! وقد أجيب عن هذا : بأن قيل : كان الذي استقرض منه من أهل الصدقة ، فدفع الرُّباعية بوجهين : بوجه القرض ، وبوجه الاستحقاق .
وقيل وجه ثالت ، وهو أحسنها ، إن شاء الله تعالى . وهو : أن يكون استقرض البَكْر على ذمته ، فدفعه لمستحق ، فكان غارمًا ، فلما جاءت إبل الصدقة أخذ منها بما هو غارم جملاً رباعيًا ، فدفعه فيما كان عليه ، فكان أداء عمَّا في ذمته وحسن قضاء بما يملكه . وهذا كما روي : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر ابن عمرو أن يجهز جيشًا ، فنفدت الإبل ، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة . فظاهره : أنَّه أخذ على ذمَّته . فبقي أن يقال : فكيف يجوز له أن يؤدِّي دينه ، ويبريء ذمته مِمَّا لا يجوز له أخذه .
ويجاب عنه : بأنه لَمَّا لم يأخذه لنفسه صار بمنزلة من ضمنه في ذمته إلى وقت مجيء الصدقة . فلو لم يجئ من إبل الصدقة شيء لضمنه لمقرضه من ماله ، والله أعلم . وقد تقدَّم الكلام على الزياده في القضاء .
(14/124)
فإن قيل : كيف شغل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذمَّته بدين ، وقد قال : (( إياكم والدَّين ، فإنه شين ، الدَّين هَمٌّ بالليل ، ومذلة بالنهار )) ، وقد كان كثيرًا ما يتعوَّذ منه ، حتى قيل له : ما أكثر ما تستعيذ من المغرم . فقال : (( إن الرَّجل إذا غرم حدَّث فكذب ، ووعد فأخلف )). لا يقال : إنما استقرض عند الحاجة والضرورة ؛ لأنا نقول : لم يكن في ضرورة إلى ذلك ، فإن الله تعالى خيَّره بين أن يجعل له بطحاء مكة ذهبًا ، كما رواه الترمذي من حديث أبي أمامة ، واستحسنه ؛ ومن كانت هذه حاله لم يكن في ضرورة ، ولا حاجة . ولذلك قال الله تعالى له : {ووجدك عائلاً فأغنى }(4).
قلت : أما الأخذ بالدَّين عند الحاجة ، وقصد الأداء عند الوجدان : فلا يختلف في جوازه . وقد يجب في بعض الأوقات عند الضرورات المتعينة . وأما النص عن أخذه -إن صحَّ - : فإنما ذلك لمن لم تدعه إليه حاجة ، لما يطرأ من تحمله من الأمور التي ذكرناها ، من الإذلال ، والمطالبة ، وما يخاف من الكذب في الحديث ، والإخلاف في الوعد . وقد عصم الله نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك كئه ، فلم يحوجه إلى شيء من ذلك ، ولا أجراه عليه .
وأما قولهم : إنه لم يكن في ضرورة ؛ لأن الله خيَّره . فجوابه : إن الله تعالى لما خيَّره ، فاختار أن يجوع ثلاثًا ، ويشبع يومًا ؟ أجرى الله تعالى عليه ما اختاره لنفسه ، وما أشار إليه به صفيَّه ، ونصيحه جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فسلك اللة تعالى به أعلى السبيل ، ليصبر على المشقات والشدائد ، كما صبر أولو العزم من الرسل ، ولينال أعلى المقامات الفاخرة. ألا تسمع قوله لعمر ـ رضى الله عنه ـ : (( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ )) ، ثم لَمَّا أخلص الله جوهره . وطيَّب خُبْرَهُ وخَبَرَهُ ؛ أغناه بعد العيلة ، وكثَّره بعد القِلَّة ، وأعزه به بعد الذلة . ومن تمام الحكمة في أخذه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدِّيون ليقتدَى به في ذلك المحتاجون .
(14/125)
وقوله : (( كان لرجل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دين ، فأغلظ له )) ؛ هذا الرجل كان من اليهود ، فإنهم كانوا أكثر من يعامل بالدَّين . وحكي : أن القول الذي قاله ، إنما هو : إنكم يا بني عبد المطلب مُطل . وكذب اليهودي ؛ لم يكن هذا معروفًا من أجداد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا أعمامه. بل المعروف منهم : الكرم ، والوفاء ، والسَّخاء . وبعيد أن يكون هذا القائل مسلمًا ؛ إذ مقابلة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك أذىً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأذاه كفر .
وقوله : (( فهمَّ به أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ، أي : بأخذه لِيُقام عليه الحكم.
وقوله لأصحابه : (( دعوه )) ؛ دليل : على حسن خلقه ، وحلمه ، وقوة صبره على الجفاء مع القدرة على الانتقام .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فإن لصاحب الحق مقالا )) ؛ يعني به : صولة الطلب ، وقوَّة الحجَّة ، لكن على من يمطل ، أو يسيء المعاملة . وأما من أنصف من نفسه : فبذل ما عنده ، واعتذر عما ليس عنده ، فيقبل عذره ، ولا تجوز الاستطالة عليه ، ولا كهره .
وقوله : (( اشتروا له سنًّا فأعطوه إياه )) ؛ دليلٌ على أن هذا الحديث قضية أخرى غير قضية حديث أبي رافع . فإن ذلك الحديث يقتضي : أنه أعطاه من إبل الصدقة ، وهذا اشتري له .
وفيه دليل : على صحة الوكالة في القضاء .
وفيه : جواز الزيادة فيه . وقد تقدَّم تفصيله ، وذكر الخلاف فيه .
وقوله : (( خيركم أحسنكم قضاء )) ، هذا هو اللفظ الفصيح الحسن . وقد روي : (( أحاسنكم )) ، وهو جمع : أحسن . ذهبوا به مذهب الأسماء ، كأحمد ، وأحامد . وقد وقع في "الأم" في بعض طرقه : ((محاسنكم )) بالميم ، وكأنَّه جمع : مَحْسِن ، كمطلِع ومطالع . وفيه بُعْد. وأحسنُها الأول ، والله أعلم .
(14/126)
وقوله : (( جاء عبدٌ فبايع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الهجرة ، ولم يشعر : أنَّه عبد )) ؛ فيه دليل : على أن الأصل في الناس الحرِّية ، ولذلك لم يسأل ؛ إذ حمله على ذلك الأصل ، حيث لم يظهر له ما يخرجه عن ذلك . ولو لم يكن الأمر كذلك لتعيَّن أن يسأله . وهذا أصل مالك في هذا الباب . فكل من ادعى ملك أحد من بني آدم كان مدفوعًا إلى بيان ذلك ، لكن إذا ناكره المدعي رقَّه ، وادعى الحرية ، وسواءٌ كان ذلك المدَّعى رقُّه ممن كثر ملك نوعه ، أو لم يكن . فإن كان في حَوْز المدعي لرقِّه كان القول قوله ؛ إذا كان حَوْز رِقٍّ ، فإن لم يكن فالقول قول المدَّعى عليه مع يمينه .
وقوله : (( فجاء سيِّده يريده ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بعنيه )) ؛ لم يرد في شيء من طرقه : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ طالب سيِّده بإقامة بينته . فيحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم صحة ملكه له حين عرفَ سيِّده. ويحتمل أن يكون اكتفى بدعواه ، وتصديق العبد له. فإن العبد بالغٌ عاقلٌ ، يُقبل إقراره على نفسه . ولم يكن للسيِّد من ينازعه ، ولا يستحلف السيِّد ، كما إذا ادعى اللقطة وعرف عفاصها ، ووكاءها ، أخذها ولم يستحلف لعدم المنازع فيها .
وقوله : (( فاشتراه منه بعبدين )) ؛ هذا إنما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مقتضى مكارم أخلاقه ، ورغبة في تحصيل ثواب العتق ، وكراهية أن يفسخ له عقد الهجرة . فحصل له العتق ، وثبت له الولاء. فهذا المعتق مولى للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، غير أنه لا يعرف اسمه .
وفيه دليل على جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً نقدًا . وهذا لا يختلف جوا فيه . وكذلك في سائر الأشياء ما عدا ما يحرم التفاضل في نقده من الرِّبويات على غالب ما قدمناه .
وأما بيع ذلك بالنسيئة ففيه تفصيل وخلاف نذكره . فذهب الكوفيون إلى منع ذلك في الحيوان . فلا يجوز عندهم فرس بفرسين . ولا شاة بشاتين مطلقًا إلى أجل ، اختلفت صفاتها أو اتفقت ؛ لنهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة . خرَّجه البزَّار من حديث ابن عباس ،
(14/127)
والترمذي من حديث الحسن ، عن سَمُرة . وقال : إنه حسن صحيح .
قلت : ويلزمُهم على هذا : ألا يجيزوا بيع الحيوان بمثله ، ولا بخلافه. فلا يجيزون بيع شاة بشاه ، ولا بفرس إلى أجل . ويلزمهم عليه ألا يجيزوا فيه القرض وكل ذلك معلوم البطلان من الشرع . ويدل على خلاف ما قالوه ما روي من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره أن يجهز جيشًا فنفدت الإبل ، فأمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى الصدقة. ومنع ذلك مالك في الجنس الواحد. والجنسية المعتبرة عنده هي اتفاق الأغراض والمنافع ، دون الخلق والألوان ، مخافة الوقوع في سلف يجرّ نفعًا . فإذا تباينت المقاصد ، واختلفت المنافع ؛ جاز ذلك . فيجوز عنده حمار فارهٌ في حمارين من حواشي الحمر إلى أجل ، ونقدًا. ولا يجوز في مثله إلى أجل ؛ لأنه سلف جرَّ نفعًا. وكذلك في الثياب وسائر العروض . وقد روي نحو ذلك عن عليّ ، وابن عمر ، والزهري . وأجاز الشافعي ذلك كله مع الاتفاق والاختلاف . وتابعه على ذلك الثوري ، وأبو ثور. وروي عن ابن عباس مثله لحديث عبدالله بن عمرو المتقدم . ولم يروا : أنَّه يلزم منه ما حذره مالك . وقد انفصلت المالكية عن حديث عبدالله بن عمرو بأنه محمول على مختلفَي الجنسين بحسب اختلات الأسنان والمقاصد ، بدليل قوله فيه : أمره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين . فلو كان البعير المأخوذ ناجزًا من جنس البعيرين المأخوذين إلى أجل لكان هذا السلف الجارّ نفعًا المتفق على منعه ؛ لأنه لم يقترن به صيغة بيع ، ولا شيء يدل عليه . فالصورة صورة القرض ، ولا مفرق بينها وبين البيع فيمنع ، فلا بدّ أن يُقدر فيها اختلاف الجنسين كما تقدم .
(14/128)
وبهذا التأويل يصح الجمع بين الأحاديث ؛ أعني : بين هذا الحديث ، وبين النهي عن سلف جرّ نفعًا. والجمع أولى من الترجيح . فإن لم يقبل هذا التأويل ؛ فالقضية محتملة ، مترددة بين أن يكون البعير من جنس البعيرين ، أو من غير جنسهما على حدٍّ سواء . فتلحق بالمجملات ، فلا يبقى فيه حجَّة لهم. ونبقى نحن متمسكين بالقاعدة الكلية ؛ التي هي : حماية المحرَّمات ، والله أعلم .
وقوله : (( فلم يبايع أحدًا بعد حتى يسأله : أعبد هو ؟ )) يعني : أنه لما وقعت له هذه الواقعة أخذ بالحزم والحذر ، فكان يسأل من يرتاب فيه . وفيه من الفقه : الأخذ بالأحوط .
ومن باب السلم والرهن
قوله : (( قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة وهم يسلفون في الثمار السَّنه والسنتين )) ، (( يسلفون )) معناه : يسلمون . وقد جاء هذا اللفظ في رواية أخرى. فالسَّلم ، والسلف هنا : عبارتان عن معنى واحد ، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب السَّلم ؛ لأن السَّلف بمال على القرض ، كما تقدَّم . والسَّلم في عرف الشرع : بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق . غير أنَّه مختص بشروط . منها متفق عليها ومنها مختلف فيها. وقد حدَّه أصحابنا بأن قالوا : هو بيع معلوم في الذمَّة ، محصور بالصفة ، بعين حاضر ، أو ما هو في حكمها ، إلى أجل معلوم . فتقييده بمعلوم في الذمة يفيد التحرز من المجهول ، ومن السَّلم في الأعيان المعينة ، مثل الذي كانوا يسلفون في المدينة حين قدم عليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنهم كانوا يسلفون في ثمار بأعيانها. فنهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك ، لما فيه من الغرر ؛ إذ قد تخلف تلك النخيل
فلا تثمر شيئًا .
(14/129)
وقولنا : (( محصور بالصفة )) تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل. كما لو أسلم في ثمر ، أو ثياب ، ولم يبين نوعها ، ولا صفتها المعينة . وقولنا : (( بعين حاضر )) تحرز من الدَّين بالدَّين . وقولنا : (( أو ما هو في حكمها )) تحرز من اليومين والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السَّلم إليها. فإنه يجوز عندنا تأخيره ذلك القدر بشرط ، وبغير شرط ؛ لقرب ذلك . ولا يجوز اشتراط زيادة عليها . وقولنا : (( إلى أجل معلوم )) تحرز من السَّلم الحال . فإنه لا يجوز على المشهور. ووصف الأمد بالمعلوم : تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه . وسيأتي تفصيل ذلك كله .
وقوله : (( من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم )) ؛ إنما جرى ذكر التمر في هذه الرواية ؛ لأنه غالب ما يسلم فيه عندهم . وقد سكت عنه في الرواية الأخرى ، فكانت هذه الرواية دليلاً على جواز السَّلم في كل شيء من الحيوان وغيره من العروض مما تجتمع شروط السَّلم فيه ، وهو مذهب الجمهور من الصحابة ، والتابعين ، وأئمة الفتوى. وقد منع السَّلم والقرض في الحيوان الأوزاعي ، والثوري. وروي عن ابن عمر ، وابن مسعود. والكتاب والسُّنة حجة عليهم. فمن الكتاب عموم قوله تعالى : { وأحل البيع وحرَّم الربا} ، وقوله : { إذا تداينتم بدين إلى أجل}. ومن السُّنة الحديث المتقدم ، وقياس الحيوان على العروض ، ولا فارق بينهما .
(14/130)
وفيه دليل : على اشتراط كون الْمُسْلَم فيه معلوم المقدار. وكذلك لابُدَّ أن يكون معلوم الصفة المقصودة المعينة ، ليرتفع الغرر والجهالة . وهو مجمع عليه ، وإنما لم يذكر اشتراطها في هذا الحديث ؛ لأنهم كانوا يشترطونها ويعملون عليها ، فاستغني عن ذكرها ، واعتني بذكر ما كانوا يُخِلُّون به من المقدار والأجل . وأما رأس مال السَّلم : فقد اشترط فيه أبو حنيفة أن يكون معلوم الكيل ، أو الوزن . وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز السَّلم بما كان معينًا ، ولم يعلم كيله ، ولا وزنه . وبه قال الشافعي في أحد قوليه . ولم يرد عن مالك فيه نصٌّ ، لكن يتخرج من مسألة جواز بيع الجِزاف فيما يجوز فيه جواز السَّلم بالمعين جزافًا . وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ؛ لأن التقدير في الجزاف كالتحقيق ، فيستوي في جواز ذلك رأس مال السَّلم وغيره .
وفيه دليل : على اشتراط الأجل في السَّلم . وهو قول أبي حنيفة . والمشهور من قول مالك ، غير أن أبا حنيفة لم يُفرق بين قريب الأجل وبعيده . وأما أصحابنا فقالوا : لا بدَّ من أجل تتغير فيه الأسواق . وأقله عند ابن القاسم خمسة عشر يومًا . وقال غيره : ثلاثة أيام . ولم يَحُدَّها ابن عبد الحكم في روايته عن مالك . بل قال : أيامًا يسيرة . وهذا في البلد الواحد وأما في البلدين فيغني ما بينهما من المسافة عن اشتراط الأجل إذا كانت معلومة وتعين وقت الخروج .
(14/131)
وقال الشافعي : يجوز السَّلم الحالّ . وهذا الحديث حجة عليه ، ولا سيما على رواية من رواه : (( من أسلم فلا يسلم إلا في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم )). وكذلك الحديث الذي قال فيه : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع ما ليس عندك ، وأرخص في السَّلم )) ؛ لأن السَّلم لما كان بيعٌ معلومٌ في الذمة كان بيعَ غائبٍ ، فإن لم يكن فيه أجل كان هو البيع المنهي عنه . وإنما استثنى الشرع السَّلم من بيع ما ليس عندك ؛ لأنه بيع تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين ، فإن صاحب رأس المال محتاج أن يشتري الثمر ، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبَّانها لينفقه عليها . فظهر : أن صفقة السَّلم من المصالح الحاجيَّة . وقد سَمَّاها الفقهاء بيع المحاويج . فإن جاز حالاًّ بطلت هذه الحكمة ، وارتفعت هذه المصلحة ، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة . والله أعلم .
وأما رأس مال السَّلم : فيجوز أن يتأخر عندنا ثلاثة أيام بشرط وبغير شرط ، ولا يجوز تأخيره زيادة عليها بالشرط . وإن وقع كذلك بطل ؛ لأنه ظهر مع الزيادة عليها مقصود الدَّين بالدَّين ، فلا يجوز بخلاف ما قبلها ؛ إذ لا يتبيَّن فيه المقصد إلى ذلك ؛ إذ يكون تأخير اليومين والثلاثة ليهيِّيء الثمن ، ويحتال في تحصيله . ولم يجز الكوفيون ، ولا الشافعي تأخيره عن العقد والافتراق ، ورأوا : أنه كالصَّرف ، وهذا القياس غير مسلم لهم ؛ لأن البابين مختلفان بأخص أوصافهما ، فإن الصَّرف بابه ضيق ، كثرت فيه التعبُّدات والشروط بخلاف السَّلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر. وأيضًا : فإنه على نقيضه . ألا ترى : أن مقصود الشرع في الصَّرف المناجزة ، والمقصود في السَّلم التوسيع بالتأخير ؛ فكيف تحمل فروع أحدهما على الآخر مع وجود هذه الفوارق؟
(14/132)
والسَّلم عندنا له شروط : أن يكون مضمونًا ، ومعلوم المقدار ، والصِّفة ، ثم وإلى أجل لا يتعذر عنده وجود المسَّلم فيه ، وأن يكون رأس ماله حاضرًا ، أو في حكمه ، معلوم المقدار ، أو في حكمه . وليس من شرطه أن يكون المسلم إليه مالكًا للمسلم فيه ، خلافًا لبعض السلف ، ولا أن يكون مما لا ينقطع من أيدي الناس جملة ، خلافًا لمن شرط ذلك ، ولا أن يكون موجودًا حين العقد خلافًا لأبي حنيفة ، ولا يشترط فيه أن يذكر موضع القبض ، خلافًا للكوفيين ، فإنهم اشترطوا ذلك فيما له حمل ومؤونة . وعندنا : أنهم لو سكتوا عنه لم يفسد العقد ، ويتعيَّن موضع العقد . وليس من شرطه ألا يكون رأس ماله جزافًا ، ولا أن لا يتأخر ، ولا أن لا(@) يكون المسلم فيه حيوانًا ، خلافًا لمن تقدم ذكرهم . ومسائل السلم كثيرة ؛ فلتنظر في كتب الفقه ، وفيما ذكرناه كفاية .
وقوله : (( إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل ، ورهنه درعًا له من حديد )) ؛ فيه دليل على جواز معاملة أهل الذمة - مع العلم بأنهم يبيعون الخمر ، ويأكلون الرِّبا - لأنَّا قد أقررناهم على ما بأيديهم من ذلك ، وكذلك : لو أسلموا لطاب لهم ذلك ، وليس كذلك الْمُسْلِم الذي يعمل بشي من ذلك ، لا يقرّ على ذلك ، ولا يترك بيده على ما تقدَّم ، ولا يجوز أن يعامل من كان كسبه من ذلك ، وإذا تاب تصدَّق بما بيده منه. وأما أهل الحرب : فيجوز أن يعاملوا ، ويُشترى منهم كل ما يجوز لنا شراؤه وتملكه . ويُباع منهم كل شيء من العروض ، والحيوان ما لم يكن ذلك مضرًّا بالمسلمين مما يحتاجون إليه ، وما خلا آلة الحرب ، وعدَّته ، وما يخاف أن يتقوَّوا به على المسلمين ، فلا يباع منهم شيء منه ، ولا يباع منهم ولا من أهل الذمَّة مسلم ولا مصحف . وقال ابن حبيب : لا يباع من أهل الحرب : الحرير ، ولا الكتان ، ولا البسط ؛ لأنهم يتجمَّلون بذلك في حروبهم ، ولا الطَّعام ، لعلهم أن يضعفوا .
(14/133)
وفيه من الفقه : جواز الأخذ بالدَّين عند الحاجة كما تقدَّم ، وجواز الاستيثاق بالرهن والكفالة في الدَّين والسَّلم . وقد منع الرَّهن في السَّلم زفر ، والأوزاعي . وهذا الحديث ؛ أعني : حديث عائشة حجَّة عليهم ؛ إذ لا فرق بين الدَّين والسَّلم . وكذلك عموم قوله تعالى : { إذا تداينتم بدين إلى أجل} ، الآية .
وفيه دليل : على جواز الرَّهن في الحضر ، وهو قول الجمهور . ومنعه مجاهد ، وداود ، وهذا الحديث حجَّة عليهم . ولا حجَّة لهم في قوله تعالى : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة } ؛ لأنه تمسُّك بالمفهوم في مقابلة المنطوق. وهو فاسد بما قررناه في الأصول . ومعنى الرَّهن عندنا : احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها ، أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم . ويلزم الرَّهن بالعقد ، ويجبر الرَّاهن على دفع الرَّهن ليحوزه المرتهن عندنا خلافًا للشافعي ، وأبي حنيفة ، فإنهما قالا : لا يجبر عليه ، ولا يلزم . والحجَّة عليهما قوله تعالى : { وأوفوا بالعقود } ، وهذا عقد ، وقوله : {وأوفوا بالعهد} ، وهذا عهد ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المؤمنون عند شروطهم )). وهذا شرط ، والقبض عندنا شرط في كمال فائدته ، واختصاص الراهن به ، خلافًا لهما ، فإن القبض عندهما شرط في لزومه وصحته . ثم إذا حصل الحوز فمتى رجع إلى الرَّاهن باختيار المرتهن بطل الرَّهن عندنا وعند أبي حنيفة. غير أن أبا حنيفة قال : إن رجع إلى يده بعارية أو وديعة لم يبطل . وقال الشافعي : إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقًا لا يبطل حكم القبض المتقدِّم . ودليلنا قوله تعالى : { فرهان مقبوضة } ، فإذا خرج عن يد القابض إلى يد المقبوض منه لم يصدق عليه ذلك اللفظ لغة ، فلا يصدق عليه حكمًا. واستيفاء هذه المباحث في المطوَّلات .
ومن باب النَّهي عن الحكرة
(14/134)
قوله : (( لا يحتكر إلا خاطيء )). الاحتكار في اللغة : الادِّخار و((خاطيء )) : اسم فاعل من : خطيء - بكسر العين ، وهمز اللام - يخطأ -بفتح العين - خطئًا في المصدر -بكسر الفاء ، وسكون العين - ؛ إذا أثم في فعله ، على وزن : علم ، يعلم ، علمًا ، والاسم منه : الخطأ - بفتح الخاء ، والظاء -. وأخطأ : إذا سلك سبيل خطأ عامدًا ، أو غير عامد . قاله أبو عبيد . وقال : سمعت الأزهري يقول : خطيء : إذا تعمَّد ، وأخطأ : إذا لم يتعمَّد ، إخطاء ، وخطئًا . والخطأ : الاسم .
قلت : وهذا الحديث بحكم إطلاقه ، أو عمومه يدل : على منع الاحتكار في كل شيء . غير أن هذا الاطلاق قد تقيّد ، أو العموم قد تخصص بما قد فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنَّه قد ادَّخر لأهله قوت سنتهم. ولا خلاف في أن ما يدخره الإنسان لنفسه وعياله من قوت ، وما يحتاجون إليه جائز لا باس به . فإذًا مقصود هذا منع التجار من الادخار. وإذا ظهر ذلك. فهل يمنعون من ادِّخار كل شيء مطلقًا ، أو إنما يمنعون ادّخار كل شيء من الأقوا ت ، والحيوان ، والعلوفة ، والسَّمن ، واللَّبن ، والعسل ، وغير ذلك - أضر بالناس أو لم يضر - إذا اشتري في أسواقهم ، كما قاله ابن حبيب أخذًا بعموم الخبر أو بإطلاقه ؟ أو : إنما يمنعون من ادِّخار ما يضر بالناس ادِّخاره عند الحاجة إليه من الأقوات ؟ وهو قول أبي حنيفة والشافعي ، وهو مشهور مذهب مالك . وحملوا النهي على ذلك .
(14/135)
قلت : وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى. لأن ما لا يضر بالناس شراؤه ، واحتكاره لا يخطا مشتريه بالاتفاق . ثم إذا اشتراه وصار ملكه فله أن يحتكره ، أو لا يحتكره . ثم قد يكون احتكار ذلك مصلحة ينتفع بها في وقت آخر . فلعل ذلك الشيء ينعدم ، أو يقل ، فتدعو الحاجة إليه ، فيوجد ، فترتفع المضرة ، والحاجة بوجوده ، فيكون احتكاره مصلحة ، وترك احتكاره مفسدة . وأما الذي ينبغي أن يمنع ما يكون احتكاره مضرة بالمسلمين . وأشدُّ ذلك في الأقوات لعموم الحاجة ، ودعاء الضرورة إليها ؛ إذ لا يتصور الاستغناء عنها ، ولا يتنزل غيرها منزلتها . فإن أبيح للمحتكرين شراؤها ارتفعت أسعارها ، وعز وجودها ، وشحت النفوس بها ، وحرصت على تحصيلها ، فظهرت الفاقات ، والشدائد ، وعمت المضار ، والمفاسد ، فحينئذ يظهر : أن الاحتكار من الذنوب الكبار. وكل هذا ا فيمن اشترى في الأسواق . فأمَّا من جلب طعامًا ؛ فإن شاء باع ، وإن شاء احتكر ، وهو ضيف عمر ، ولا يعرض له إلا إن نزلت حاجة فادحة ، وأمر ضروري بالمسلمين ، فيجب على من كان عنده ذلك أن يبيعه بسعر وقته ، فإن لم يفعل جبر على ذلك ، إحياء للمهج ، وإبقاء للرَّمق . وأما إن كان اشتراه من الأسواق ، واحتكره ، وأضر بالناس ؛ فيشترك فيه الناس بالسعر الذي اشتراه به .
وقول يحيى بن سعيدٍ لسعيد : (( إنك تحتكر )) ؛ يدل على أنهم كانوا لا يتسامحون في ترك العمل بها يروُونه من الحديث . وجواب سعيد أن معمرًا كان يحتكر دليل على أن العموم يخصص بمذهب الرَّاوي . وقد أوضحنا هذه الطريقة ، في الأصول . وذلك منهم محمول على أنهم كانوا يحتكرون ما لا يضر بالناس ؛ كالزيت ، والأدم ، والثياب ، ونحو ذلك .
وقوله : (( الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ للسلعة مَمْحَقَةٌ للربح )) ؛ الرواية : مَنْفَقَةٌ ،
(14/136)
مَمْحَقَةٌ -بفتح الميم ، وسكون ما بعدها ، وفتح ما بعدها- وهما في الأصل : مصدران مزيدان محدودان بمعنى : النَّفاق . والمحق ؛ أي : الحلف الفاجرة ، تنفق السِّلعة ، وتمحق بسببها البركة ، فهي ذات نفاق ، وذات مَحْق ؛ أي : الحلف الكاذبة تنفق السلعة ثم تمحق البركة : أي تذهبها . وقد تذهب رأس المال والربح ، كما قال الله تعالى : { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } ، وقد يتعدى المحق إلى الحالف ، فيعاقب بإهلاكه ، وبتوالي المصائب عليه . وقد يتعدَّى ذلك إلى خراب بيته وبلده ، كما روي : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ((اليمين الفاجرة تذر الدِّيار بلاقع )) ؛ أي : خالية من سكانها إذا توافقوا على التجرؤ على الأيمان الفاجرة . وأما مَحق الحسنات في الآخرة : فلا بدّ منه لمن لم يتب. وسبب هذا كلِّه : أن اليمين الكاذبة يمين غموس ، يؤكل بها مال المسلم بالباطل .
وقوله : (( إيَّاكم وكثرة الحلف فإنه ينفق ثم يمحق )) ، (( إياكم )) معناه : الزَّجر ، والتحذير . و(( كثرة )) منصوب على الإغراء ، كما تقول : إياك والأسد ؛ أي : احذره واتقه . وإنما حذر عن كثرة الحلف ؛ لأن الغالب ممن كثرت أيمانه وقوعه في الكذب والفجور ، وإن سلم من ذلك على بعده لم يسلم من الحنث ، أو النَّدم ؛ لأن اليمين حنث أو مندمة . وإن سلم من ذلك لم يسلم من مدح السلعة المحلوف عليها ، والإفراط في تزيينها ليروجها على المشتري ، مع ما في ذلك من ذكر الله تعالى لا على جهة التعظيم ، بل على جهة مدح السِّلعة ، فاليمين على ذلك تعظيم للسِّلع ، لا تعظيم لله تعالى . وهذه كلها أنواع من المفاسد لا يقدم عليها إلا من عقله ودينه فاسد .
ومن باب الشفعة
قوله : (( قضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشُّفعة في كل شرك لم يُقْسَم )) ؛ أي : حكم ، وألزم .
(14/137)
والشُّفعة في اللغة : هي الضم ، والجمع ، كما قدمناه في الإيمان . وهي في عرف الشرع : أخذ الشريك الجزء الذى باعه شريكه من المشتري بما اشتراه به ، وهي حق للشريك على المشترى ، فيجب عليه أن يُشْفِعَهُ ، ولا يحل له الامتناع من ذلك .
و (( الشرك )) : النصيب المشرك . وقد يقال على الشريك ، كقوله تعالى : { جعلا له شركاء فيما آتاهما } ؛ أى : شريكًا . ويدل على أن الشفعة إنما تستحق بالاشتراك في رقبة الملك ، لا باستحقاق منفعة في الملك ، كممر طريق ، ومسيل ما ، واستحقاق سكنى ؛ لأن كل ذلك ليس بشرك .
وقوله : (( لم يقسم )) ؛ يفيد أن الشفعة لا تجب إلا بالجزء المشاع ؛ الذي يتأتى إقراره بالقسمة ، فلا تجب فيما لا ينقسم ، كالحمَّام ، والرَّحا ، وفحل النخل ، والبئر ، وما أشبه ذلك مما لا ينقسم . وأعني بكونه لا ينقسم : أنه لو قسم لبطلت المنفعة المقصودة منه قبل القسم . كالحمَّام إذا قسم بطل كونه حمامًا ، وكذلك الرَّحا. وهذا هو مشهور المذهب . وقيل : تجري الشفعة في ذلك لأنه وإن بطل كونه حمامًا فيصح أن ينقسم بيوتًا مثلاً ، أو دكاكين . والظاهر الأول ، وهو قول ابن القاسم ؛ لأنه يلزم من قسمه إفساد مالية عظيمة ، وذلك ضرر عظيم فيدفع .
وقوله : (( رَبْعَة ، أو حائط ، أو أرض )) ، الرواية الصحيحة فيه بخفض ربعة وما بعده على البدل من : (( كل شرك )) ، فهو تفسير له ، وتقييد . والرَّبعة : تأنيث الرَّبع . وهو : المنزل . ويجمع ربوعًا ، وإنما قيل للمنزل ربع ؛ لأن الإنسان يربع فيه ؛ أي : يقيم . يقال : هذه ربع ، وهذه ربعة. كما يقال : دار ، ودارة . والحائط : بستان النخل . والأرض يعني بها : البراح الذي لا سكن فيها ولا شجر ، وإنما هي معدَّة للزراعة .
(14/138)
وقد دلَّ هذا الحديث : على أن الشفعة إنما تستحق في العقار المشترك الذي يقبل القسمة . وهذا هو المحل المتفق على وجوب الشفعة فيه . واختلف فيما عدا ذلك . فذهب بعض المكيين إلى وجوبها في كل شيء من العقار ، والحيوان ، والعروض ، والأطعمة . وإليه ذهب عطاء في إحدى الروايتين عنه معتمدًا في ذلك على ما خرَّجه الترمذي من حديث ابن عباس مرفوعًا : (( الشريك شفيع ، والشفعة في كل شيء )). وروى الطحاوي نحوه عن جابر مرفوعًا ، ومُتمسِّكًا في ذلك بقياس غير العقار عليه ، بعلِّة وجود الاشتراك ، ولا حجة في ذلك ؛ لأن الحديث ليس بصحيح الإسناد . وإنما صحيحه مرسل ، ولو سلمنا صحته ، لكنه مقيّد بما ذكرناه من قوله : (( ربعة ، أو حائط ، أو أرض )). ومثل هذا التقييد متفق على قبوله عند أهل الأصول ؛ لأنه قد اتفق فيه الموجب والموجب ، وبدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما الشفعة فيما لم يقسم : ربعة ، أو حائط ، أو أرض )). فأتى بـ (( إنَّما )) التي هي للحصر . وهو أيضًا مفهوم من الألف واللام في قوله : (( الشفعة فيما لم يقسم )) ، وبدليل : زيادة البخاري في هذا الحديث : (( فإذا ضربت الحدود ، ومزقت الطرق فلا شفعة )) ، وهذا نصٌّ في أن الشفعة مخصوصة بما ذكر في ذلك الحديث . وأما ذلك القياس : فليس بصحيح لوجود الفرق بين الفرع والأصل ، فإن الأصل الذي هو العقار يعظم الضرر فيه على الشريك بمشاركة الأجنبي له ، ومخالطته ، نقد يؤديه ، ولا يقدر على التخلص منه لصعوبة بيع العقار ، وتعذر ذلك في كثر الأوقات ، وليست كذلك العروض ، وما ينقل ويحوَّل ، فإن الانفصال عن الشركة فيه يسير لسهولة بيعها ، والخروج عنها في كل الأوقات ، وأكثر الحالات ؛ فانفصلا ، فلا يصح القياس . وإذا ثبت : أن الشفعة شرعت لرفع الضرر الكثير اللازم . فهل الوصفان جُزءا علَّة ، فلا تجري الشفعة إلا فيما اجتمعا فيه ، أو يكون كل واحد منهما علّة مستقلّة ؟ فيه احتمال . وعليه ينبني الخلاف الذي عند(14/139)
أصحابنا في الشفعة في الثمرة ، والدِّيون ، وكتابة المكاتب ، والكراء ، والمساقاة . فإن الضرر فيها يعظم ، وإن لم يلازم . فمن رأى أنه علَّة مستقلة أوجب الشفعة ، ومن رأى أن العلَّة مجموع الوصفين منعها في ذلك كله . وذهب الشعبي : إلى أنه لا شفعة في مشاع لا يسكن . وقال ابن شعبان مثله عن مالك . فلا شفعة على هذا في أرض ، ولا عقار يتخذ للغلَّة . وهو مخالف للحديث المتقدم . فإنه قد نص فيه على الحائط . وهو المتخذ للغلَّة. وعلى الأرض ، وهي تراد للزراعة . والصحيح : الأول .
وذهب الجمهور : إلى أن الشفعة لا تجب بالجوار ؛ وهو مذهب عمر ، وعلي ، وعثمان ، ومن بعدهم ، كسعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبدالرحمن ، وربيعة ، والأرزاعي ، ومالك ، والشا فعي ، وأحمد ، وإسحاق. وذهب أبو حنيفة والكوفيون : إلى أنه تجب به الشفعة ، وبه قال ابن مسعود. وسببهما معارضة حديثين صحيحين :
أحدهما : حديت جابر المتقدم . وقد خرَّجه البخاري . ولفظه فيه : (( الشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق ، فلا شفعة )).
وثانيهما : خرَّجه البخاري عن أبي رافع قال : سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ((الجار أحق بصقبه )). وقد خرَّجه الترمذي من حديث جابر قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الجار أحق بشفعته ، ينتظر إن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا )). وقد تأوَّل بعض العلماء (( الجار )) في حديث البخاري بأنَّه الشريك ، كما قد تأول بعضهم : أن (( الصقب )) المذكور فيه حق الجوار ، كما قال في الحديث الآخر : أن رجلا قال : يا رسول الله ! إن لي جارين . فإلى أيُّهما أُهدى ؟ قال : (( إلى أقربهما منك بابا )). وهذان التأويلان فيهما بُعْدٌ . فإن حديث الترمذي ينصّ على خلاف ذلك . وأشبه ما يقال في ذلك - فيما يظهر لي - : إن حديث جابر الأول أرجح ، لما قارنه من عمل الخلفاء ، وجمهور العلماء ، وأهل المدينة ، وغيرهم ، والله أعلم .
(14/140)
وأيضًا فإن أحاديث الجمهور مشهورة متفق على صحتها. وأحاديث الكوفيين ليست بمنزلتها في ذلك ، فهي أولى .
تفريع : قال سفيان : الشريك أولى بالشفعة ، ثمَّ الجار الذي حدُّه إلى حدَّه . وقال أبو حنيفة : الشريك في الملك ، ثم الشريك في الطريق ، ثم الجار الملاصق ، ولا حق للجار الذي بينك وبينه الطريق .
وقوله : (( لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه )) ، وفي طريق أخرى : (( لا يصلح )) ، مكان : (( لا يحل )). هو محمول على الإرشاد إلى الأولى ، بدليل قوله : (( فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به )). ولو كان ذلك على التحريم لذمَّ البائع ، ولفسخ البيع ، لكنه أجازه وصحَّحه ، ولم يذمّ الفاعل ، فدلَّ على ما قلناه . وقد قال بعض شيوخنا : إن ذلك يجب عليه.
وقوله : (( فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك )) ؛ يعني : إن شاء أخذ الشفعة بما أعطي به من الثمن ؛ لأنه أحق به بعد البيع ، فيكون له بما أعطي به من الثمن قبله. وفيه دليل : على أن من نزل عن الشفعة قبل وجوبها لزمه ذلك إذا وقع البيع ، ولم يكن له أن يرجع فيه . وبه قال الثوري ، وأبو عبيد ، والحكم . وهي إحدى الروايتين عن مالك ، وأحمدبن حنبل . وذهب مالك في المشهور عنه ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وعثمان البتي ، وابن أبي ليلى : إلى أن له الرُّجوع في ذلك ، وهذا الخلاف جار في كل من أسقط شيئًا قبل وجوبه ، كإسقاط الميراث قبل موت الموروث ، وإجازة الوارث الوصية قبل الموت ، وإسقاط المرأة ما يجب لها من نفقة وكسوة في السَّنة القابلة . ففي كل واحدة من تلك المسائل قولان .
(14/141)
وقوله : (( وإن باع فهو أحق به )) ؛ يعني : أن الشريك أحق به بالثمن الذي اشتراه به المشتري من عين أو عرض ، من نقد أو إلى أجل . وهو قول مالك وأصحابه . وذهب أبو حنيفة والشافعي : إلى أنَّه لا يشفع إلى الأجل ، وأنه إن شاء شفع بالنقد ، وإن شاء صبر إلى الأجل ، فيشفع عنده . واختلف أصحابنا إذا لم يعلم الشفيع إلا بعد حلول الأجل . هل يضرب له مثل ذلك الأجل ، أو يأخذه بالنقد ؛ على قولين .
وقوله : (( من كان له شرك )) ؛ عموم في المسلم وفي الذمِّي . وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة . وحكي عن الشعبي ، والثوري : أن لا شفعة للذمِّي ؛ لأنه صاغر . وهو قول أحمد . والصواب : الأول للعموم ، ولأنَّه حق جرى بسببه ، فيترتب عليه حكمه من استحقاق طلبه وأخذه ، كالدَّين ، وأرش الجناية .
وقوله في حديث البخاري : (( فإذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق فلا شفعة )) ؛ حجَّة للجمهور على الكوفيين القائلين بوجوب الشفعة لجار الدار. وقد ذهب بعض شيوخنا : إلى أن حديث الترمذي في شفعة الجار محمول على الندب ، لا على الوجوب .
قلت : أحاديث الشفعة إنما جاءت في انتقال الملك بالبيع ، ويلحق به ما في معناه من المعاوضات ، كدفع الشَّقص في صداق ، أو أجرة ، أو أرش جناية ، وما أشبه ذلك . فهذا فيه الشفعة. ولا ينبغي أن يختلف فيه ؛ لأنه من أقوى مراتب الإلحاق . وأما انتقال الملك بالميراث فلا شفعة فيه ؛ لأنه لا يصح إلحاقه بالمعاوضات ؛ لأنه انتقال عن غير عوض ؛ ولا اختيار ، فلا شفعة فيه بوجه . وقد حكي الاتفاق على ذلك ، غير أنه قد انفرد الطابقي فحكى عن مالك : أنه رأى الشفعة في الميراث . وهو قول شاذّ ، منكر نقلاً ونظرًا .
(14/142)
واختلف في المنتقل بالهبة ، والصدقة. هل فيه شفعة أو لا ؟ على قولين مشهورين . سببهما : تردّد الصدقة والهبة بين المعاوضة والميراث . فمن حيث أنه انتقال عن اختيار يشبه البيع ، ومن حيث أنه خلي عن العوض أشبه الميراث . والأولى - والله أعلم - إجراء الشفعة فيها ؛ لعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الشفعة في كل شرك لم يقسم )) ، ولم يفرق بين جهات الأملاك . وللحوق الضرر الشديد الملازم الداخل على الشريك اختيارًا. ولا يُرَدُّ الميراث ؛ لأنَّه ملك جبري ، لا اختيار فيه للمنتقل إليه ، والله أعلم .
ومن باب غرز الخشب في جدار الغير ، وإذا اختُلِف في الطريق
قوله : (( لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره )) ؛ اختلف العلماء في تمكين رب الحائط من هذا عند السؤال . فصار مالك في المشهور عنه ، وأبو حنيفة : إلى أن ذلك من باب الندب ، والرفق بالجار ، والإحسان إليه ، ما لم يضر ذلك بصاحب الحائط . ولا يجبر عليه من أباه ، متمسكين في ذلك بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه )) ، ولأنه لما كان الأصل المعلوم من الشريعة : أن المالك لا يجبر على إخراج ملك عن يده بعوض ، كان أحرى وأولى ألا يخرج عن يده بغير عوض . وصار آخرون : إلى أن ذلك على الوجوب ، ويجبر من أباه عليه. وممن ذهب إلى ذلك : الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وداود بن علي ، وأبو ثور ، وجماعة من أهل الحديث ، وهو مذهب عمر . وحكي ذلك عن الْمُطَّلب - قاضٍ كان بالمدينة - يقضي به ، متمسكين بظاهر النهي المذكور ، ولأنه قد روي من طريق آخر عن أبي هريرة في هذا الحديث : (( لا يحل لامرئ مسلم أن يمنع جاره أن يغرز خشبات في جداره )). وبقضاء عمر ـ رضى الله عنه ـ على محمد بن مسلمة وعلى يحيى المازني بمثل ذلك من المرور بالربيع ، وتحويله في أرضهما ، على ما رواه مالك في "الموطأ". ولم يسمع بمخالف له في ذلك من الصحابة غير محمد بن مسلمة . وهو المحكوم عليه .
(14/143)
قلت : وقد دفعت كل طائفة ما احتخت به الأخرى بوجوه من التأويلات لا تبعد على من تأملها ، تركناها لطولها. والأولى : القول الأول ؛
لأنه الذي تشهد له الاصول .
فرع على القول بالندب : إذا أذن له في ذلك إذنًا مطلقًا لم يكن له أن يطالبه بقلعها إلا إن دعت إلى ذلك ضرورة ، كبناء الجدار ، أو شيء لا بدّ منه ؛ لأن الإذن المطلق يقتضي التأبيد ، فإن أذن له إلى مدَّة معينة فله ذلك عند انقضائها .
وقوله : (( أن يغرز خشبة )) ، روي بتوحيد (( خشبة )) ، وبجمعها ، قال الطحاوي عن روح بن الفرج : سالت أبا زيد ، والحارث بن مسكين ، ويونس بن عبد الأعلى عنه. فقالوا : (( خشبة )) بالنصب والتنوين واحدة. قال عبد الغني : كل الناس يقولون بالجمع إلا الطحاوي .
قلت : وإنما اعتنى هؤلاء الأئمة بتحقيق الرواية في هذا الحرف ؛ لأن أمر الخشبة الواحدة تخف على الجار المسامحة به . وأما إذا قال : خُشُبَهُ ؛ فقد لا يتسامح في الكثير منها ، ويثقل ذلك للحوق الضرر بذلك. حكي : أن يونس بن عبد الأعلى الصُّدفي سأل عبد الله بن وهب : كيف تروي الحديث : (( خشبة )) على الإفراد ؛ فقال : الذي سمعناه من جماعة : (( خشبة )) على لفظ الواحد . وقال عبد الغني بن سعيد الحافظ : كل الناس يقوله على الجمع إلا الطحاوي . ورجَّح بعض الأشياخ ما قاله عبد الغني بن سعيد بالألفاظ الواردة في طرق الحديث منها : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((ليس لجار أن يمنع جاره أن يضع أعواده على جداره )). وفي رواية أخرى : (( أن يضع جذوعه )) ، وفي أخرى : (( أن يغرز خشبًا )) ، وفي أخرى : (( أطراف خشب )). فهذه الالفاظ جميعها توضح : أنه جمع .
وقوله : (( ما لي أراكم عنها معرضين )) ، الضمير في (( عنها )) يعود على المقالة التي صدرت منه لهم . وأنثها على المعنى . وهذا القول منه إنكارٌ عليهم ، لما رأى منهم الإعراض واستثقال ما سمعوه منه ، وذلك : أنهم لم يقبلوا عليه ، بل طأطؤوا رؤوسهم ، كما رواه الترمذي في هذا الحديث .
(14/144)
وقوله : (( والله لأرمين بها بين أظهركم )) ، وفي أخرى : (( لأضربن بها بين أعينكم وإن كرهتم )) ذكرها أبو عمر ؛ أي : لأحدثنكم بتلك المقالة التي استثقلتم سماعها من غير مبالاة . ولا تقيا! ، وا ، وتعها بينكم كما يوقع السهم بين الجماعة .
ففيه من الفقه : تبليغ العلم لمن لم يرده ، ولا استدعاه ؛ إذا كان من الأمور المهمة . ويظهر منه : أن أبا هريرة كان يعتقد وجوب بذل الحائط لغرز الخشب ، وأن السامعين له لم يكونوا يعتقدون ذلك . وأما رواية : ((لأضربن بها أعينكم )) : فهي على جهة المثل ؛ الذي قصد به الإغياء في الإنكار ؛ لأنه فهم عنهم الإعراض عما قال ، والكراهة ، فقابلهم بذلك . والرواية المشهورة : (( أكتافكم ))- با لتاء باثنتين من فوتها - جمع : كتف. وقد وقع في "الموطأ" من رواية يحيى : (( أكنافكم )) بالنون ، جمع : كنف ، وهو : الجانب .
(14/145)
وقوله : (( إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبع أذرع )) ؛ هذا محمول على أمهات الطرق ؛ التي هي ممر عامة الخلق بأحمالهم ، ومواشيهم. فإذا تشاح من له أرض تتصل بها مع من له فيها حق جعل بينهما سبع أذرع ، بالذراع المتعارفة في ذلك طريقًا للناس ، وخلي بينهما وبين ما زاد على ذلك . وأما بنيات الطرق فبحسب ما تدل عليه العادة ، وقد عو إليه الحاجة ، وذلك يختلف بحسب اختلاف أحوال المتنازعين . فليست طريق من عادته استعمال الدواب والمواشي وأهل البادية كعادة من لا يكون كذلك من أهل الحاضرة ، ولا مسكن الجماعة كمسكن الواحد والاثنين ، وإنما ذلك بحسب مصلحتهم . وعلى هذا يحتاج أهل البادية من توسيع الطريق إلى ما لا يحتاج إليه أهل الحاضرة . وتحتاج طرق الفيافي والقفار من التوسيع أكثر من سبع أذرع ؛ لأنها مجرُّ الجيوش والرِّفاق الكبار. وكل هذا تفصيل أصحابنا ، وصحيح مذهب مالك . ولو جعل الطريق في كل محل سبع أذرع لأضر ذلك بأملاك كثير من الناس . ويلزم أن تجعل بنيَّات الطرق من الأزقة وغيرها كالأمهات المسلوكة للناس ، وكطرق الفيافي . وذلك محالٌّ عادي ، وفساد ضرورى .
ومن باب إثم من غصب شيئًا من الأرض
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه إلى سبع أرضين )) ؛ هذا وعيدٌ شديدٌ ، يفيد : أن أخذ شيء من الأرض بغير حقه من أكبر الكبائر على أي وجه كان من غضب ، أو سرقة ، أو خديعة ، قليلاً كان ، أو كثيرًا. ألا تسمع قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وإن كان قيد شبر )).
(14/146)
واختلف في معنى : (( طوقه )). فقيل : معناه : كلّف أن يطيق حمله ، كما قال تعالى : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيلمة }. وقد جاء في غير "مسلم" : (( جاء يحمله يوم القيامة إلى سبع أرضين )) ، وفي أخرى : ((كُلِّف أن يحمل ترابها إلى المحشر )). وقيل : جعلت في عنقه كالطَّوق ؛ كما قال تعالى : { سيطوقون ما بخل به يوم القيامة } ، وهو ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها : (( طوقه من سبع أرضين )). وقيل : خسف به في مثل الطوق منها . وهو ظاهر قوله : (( طوقه الله إلى سبع أرضي )). وفي "البخاري" نصًّا : (( خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين )). وقيل : يجمع ذلك كل عليه . وقد دلّ على ذلك ما رواه الطبري في هذا الحديث ، وقال : (( كلفه الله حمله حتى يبلغ سبع أرضين ، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يُقْضَى بين الناس )). والله أعلم .
وفيه ما يدل : على أن الأرضين سبع ، كما قال تعالى : { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } ؛ أي : في العدد ؛ لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار ، فتعيَّن العدد ، والله أعلم . وقد استدل به الداودي : على أن السبع الأرضين لم يفتق بعضها من بعض . قال : لأنه لو فتق بعضها من بعض لم يطوق منها ما ينتفع به غيره . وقد جاء في غلظهن ، وما بينهن خبر ، وليس في ذلك شيء صحيح . وقد استدل غيره به : على أن من ملك شيئًا من الأرض ملك ما تحته مما يقابله. فكل ما يجد فيه من معدن ، أوكنز فهو له . وقد اختلف في ذلك في المذهب . فقيل ذلك ، وقيل : هو للمسلمين . وعلى ذلك فله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره . وكذلك : أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد ، فيُمْنَع .
(14/147)
وقول مروان لما سمع الحديث : (( لا أسالك بينه )) ، قرأناه بفتح الكاف على خطاب سعيد ، وهو صحيح ، وفيه إشكال ، وذلك : أن الأرض كانت في يد سعيد وادعت المرأة : أنَّه غصبها إيَّاها . ألا ترى قول عروة : إن أروى ادعت على سعيد : أنه أخذ لها شيئًا من أرضها ، فهو المدَّعى عليه ، وكيف يكلف المدَّعى عليه إقامة البينة على إبطال دعوى الْمُدَّعِي ؟! وإنما القضاء كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للحضرمي المدَّعِي : ((شاهداك أو يمينه )) ، وإنما يصلح أن يخاطب بهذه الكاف المدَّعِية . وعلى هذا : فينبغي أن تكون مكسورة ، ويكون مروان قال لها ذلك كفًّا لها عن تماديها على دعواها ؛ لعلمه بصدق سعيد من جهة قرائن أحواله ، لا أن الخبر الذي ذكره يدلُّ على براءته من دعواها ، لكن ما كان معلومًا من دين سعيد ، ومن ورعه ، وفضله ، وأنه مشهود له بالجنة ، وعظم هذا الوعيد الشديد الذي سمعه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشافهة مع نزارة هذا القدر المدّعى عليه به . فحصل عند مروان العلم بصدقه ، فقال للمرأة : لا أسألك بينة ؛ أي : لأنك لا تجدينها بوجه . ثم إنه لم يقض بينهما بشيء ، ولم يحوجه سعيدٌ إلى قضاء ، بل بادر إلى أن سلم لها ما ادَّعته وزادها من أرضه . فقال : دعوها لها .
قلت : فهذا الذي ظهر لي في هذا الخطاب ، فإنه إن كان متوجهًا لسعيد لزم أن يكون مروان عدل عن جهة القضاء المنصوص عليها ؛ التي لا اختلاف فيها ، وأن سعيدًا أقرَّه عليها . وكل ذلك باطل ، فتعيَّن ما اخترناه ، والله أعلم .
وينبغي بـ (( البينة )) : من يشهد لسعيد بصحة الحديث الذي رواه ، لأنه صدقه في الرواية ، ولم يحتج إلى الاستظهار بزيادة شهادة غيره على ذلك ، ولم يرد بالبينة هنا : الشهادة التي يستند حكم الحاكم إليها ؛ لأنها لا تلزم المدّعى عليه ، فكيف يسقط عنه ما لا يلزم ؟
(14/148)
وقول سعيد : (( اللهم ! إن كانت كاذبة فاعم بصرها ، واقتلها في أرضها )) ؛ دليلٌ على أن سعيدًا استجاز الدُّعاء على الظالم بأكثر مما ظلم فيه. وفيه إشكال مع قوله تعالى : { وجزاء سيئةِ سيئة مثلها } ، وقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ، ووجة الإشكال : أنه كما لا يجوز أن يأخذ من الظالم ، أو الغاصب زيادة على القصاص ، أو على مقدار ما أخذ ، كذلك لا يجوز أن يدعو عليه بزيادة على ذلك ، لإمكان الإجابة ، فتحصل الزيادة الممنوعة ، ولو لم يستجب له ؛ أليس قد أراد وتمنى شرًّا زائدًا على قدر الجناية للمسلم ؟! وهو ممنوع منه ، وإنما الذي يجوز أن يدعو به على الظالم : أن يقول : اللهم خذ لي حقي منه . اللهم افعل به مثل ما فعل ، وما أشبه ذلك { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور }.
ويجاب عنه بالفرق بين الدذَعاء على الظالم بأكثر مما ظلم فيه ، وبين أن يفعل به ؛ بأن الدعاة ليس مقطوعًا بإجابته ، فإذا صدر عن المظلوم بحكم حرقة مظلمته ، وشدَّة موجدته ، لم نقل : إنه صدر عنه محرَّم ، وغاية ذلك : أن يكون ترك الأولى ؛ لأنه منتصر ، ولأنه لم يصبر . ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إيَّاك ودعوة المظلوم ، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب )) ، ويدل على جواز ذلك : ما روي : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى رجلاً خَلِق الثياب ، فأمره أن يلبس ثوبيه ، فلما لبسهما قال : (( ما له ؟ - ضرب الله عنقه - أليس هذا خيرًا )) ، وفي كتاب أبي داود : عن سعيد بن غزوان ، عن أبيه : أنه مرَّ بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتبوك ، وهو يصلي ، فقال : (( قطع صلاتنا ، قطع الله أثره )) ، قال : فما قمت عليهما إلى يومي هذا - يعني : رجليه- ؛ فدلَّ هذا على أن الدَّعاء المذكور ليس محرَّمًا .
(14/149)
وأما قوله : إنه أراد الشرَّ للظالم وتمنَّاه . فنقول بجواز ذلك ، ليرتاع الظالم عن شره ، أو غيره ممن يريد الظلم والشر . ولو سلمنا : أن ذلك لا يجوز لأمكن أن يقال : إنه لا يلزم من الدُّعاء بالشر أن يكون ذلك الشر متمنَّى ، ولا مرادًا للدَّاعي ، فإن الإنسان قد يدعو على ولده وحبيبه بالشر ؛ بحكم بادرة الغضب ، ولا يريد وقوعه به ، ولا يتمناه ، والله تعالى أعلم .
كتاب الوصايا والفرائض
باب الحث على الوصية وأنها بالثلث لا يتجاوز
الوصايا : جمع وصية ؛ كالقضايا : جمع قضية ، وهي في الأصل : عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ، ويعهد به في الحياة ، وبعد الموت . وخصَّصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت .(14/150)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده )) ؛ الحق في اللغة هو : الثابت مطلقًا. فإذا أطلق في الشرع ، فالمراد به : ثبوت الحكم فيه . ثم الحكم الثابت في الشريعة يكون : واجبًا ، ومندوبًا ، ومباحًا ؛ إذ كل واحد منها ثابث وموجود فيها ، لكن إطلاق الحق على المباح قلَّ ما يقع في الشريعة ، وإنما يوجد فيها بمعنى الواجب ، والندب . فإن اقترن به (( على )) أو ما في معناها ؛ ظهر فيه قصد الوجوب. وإن لم يقترن به ذلك ؛ كان محتملاً للأمرين ، كما قد جاء في هذا الحديث . وعلى هذا : فلا حجة لداود في التمسك بحق الذي في هذا الحديث على وجوب الوصيا ؛ لأنه لم يقترن به قرينة تزيل إجماله ، فإن أبى إلا دعوى ظهوره قابلناه بما قاله بعض أصحابنا في هذا الحق : إنه قد اقترن به ما يدلّ على الندب . وهو إضافته للمسلم ، وتعليق الوصية على الإرادة في قوله : (( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه )). واقتران مثل هذا يقوِّي إرادة الندب . ثم لو سلمنا : أن ظاهره الوجوب فنقول بموجبه ، فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم ، أو كانت له حقوق عند أناس يخاف تلفها على الورثة ، فهذا تجب عليه الوصية . ولا يختلف فيه إذا خاف ضياعها بسبب الموت .
(15/1)
وإذا تقرر هذا ؛ فاعلم : أن الوصيا في أول الإسلام كانت واجبة للوالدين والأقربين قبل نزول المواريث ، كما قال تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربيب بالمعروف حقًّا على المتقين } ، وهي بمجموع قرائنها نصٌّ في وجوب الوصية لمن ذكر فيها ، ثم : إنها بعد ذلك نسخت . واختلف في ناسخها. فقيل : آية المواريث . وفيه إشكال ؛ إذ لا تعارض بين أن يجمع بينهما ، فيكون للقرابة أخذ المال بالوصية عن المورث ، وبالميراث إن لم يوص ، أو ما بقي بعد الوصية ، لكن هذا قد منع الإجماع منه . وهو خلاف نص قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصيه لوارث )). فإذًا آية المواريث لم تستقل بنسخ آية الوصيا ، بل بضميمةٍ أخرى ، وهي السُّنَّة المذكورة ، ولذلك قال بعض علمائنا : إن نسخ الوصية للقرابة إنما كان بالسُّنة المذكورة ، غير أنه يرد عليه : أن هذا نسخ القرآن بخبر الواحد.
والجواب عنه : إنَّ ذلك قد كان معمولاً به في الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ، كما قد حكاه الأصوليون في كتبهم . ولو سلمنا : أن ذلك لا يجوز ؛ فلم يكن ذلك الخبر آحادًا ، بل كان متواترًا . فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألقاه على أهل عرفة يوم عرفة ، وأخبرهم بنسخ ذلك بسنَّته . وأهل عرفة عدد كثير ، وجم غفير ، لا يحيط بهم بلد ، ولا يحصرهم عدد ، فقد كان متواترًا ، فنسخ المقطوع بالمقطوع . ونحن وإن كان هذا الخبر قد بلغنا آحادًا ؛ لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين : أنَّه لا تجوز الوصية لوارث ، فقد ظهر : أن وجوب الوصية للأقربين منسوخ بالسُّنة ، وأنها مستند المجمعين ، غير أنه قد ذهبت طائفة ؛ وهم : الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وطاووس : إلى أن وجوب الوصية ليس منسوخًا في حق جميع القرابة ، بل في حق الوارثين خاصة . واختاره الطبري .
(15/2)
قلت : وعلى هذا فلا يكون هذا نسخًا عند هؤلاء ، بل : تخصيصًا لعموم قوله تعالى : { والأقربين } بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا وصية لوارث )) ، وهذا لا يحتاج فيه أن يكون قوله : (( لا وصية لوارث )) متواترًا ؛ لأنه يجوز تخصيص القرآن بالسنة غير المتواترة اتفاقًا من الأكثر . وهو الصحيح على ما ذكرناه في الأصول .
وقوله : (( له شيء يوصي فيه )) ؛ عامٌّ في الأموال والبنين الصغار ، والحقوق التي له وعليه كلها ، من ديون ، وكفارات ، وزكوات فرَّط فيها ، فإذا وصَّى بذلك ؛ أخرجت الذيون من رأس المال . والكفارات ، والزكوات من ثلثه ، على تفصيل يعرف في الفقه .
وقوله : (( يبيت ليلتين )) ؛ المقصود بذكر الليلتين ، أو الثلاث : التقريب ، وتقليل المدَّة ترك كتب الوصية . ولذلك لَمَّا سمعه ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ لم يبت ليلة إلا بعد أن كتب وصيته . والحزم المبادرة إلى كتبها أول أوقات الإمكان ، لإمكان بغتة الموت التي لا يأمنها العاقل ساعة . ويحتمل أن يكون إنما خصَّ الليلتين بالذكر فسحة لمن يحتاج إلى أن ينظر فيما له وما عليه ، فيتحقق بذلك ، ويروي فيها ما يوصي به ، ولمن يوصي ، إلى غير ذلك .
(15/3)
وقوله : (( إلا ووصيته مكتوبة عنده )) ؛ ذِكْرُ الكتابة مبالغة في زيادة الاستيثاق بها ؛ لأنه إنما يعي : بكونها مكتوبة ، مشهودًا بها . وهي الوصية المتفق على العمل بها ، فلو أشهد بها العدول ، وقاموا بتلك الشهادة لفظًا لعُمِل بها ، وإن لم يكتب خطًا ، فلو كتبها بيده ، ولم يشهد بها ؛ فلم يختلف قول مالك : أنه لا يُعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه ، فيلزم تنفيذه . واختلف عن مالك فيما إذا كتبها ، وأشهد عليها ، فقال فيها : إن مت في سفري هذا ، أو في مرضي هذا ، فسلم من الموت في ذلك السَّفر والمرض ، ولم يخرجها من يده حتى مات بعد ذلك . فهل تنفذ أو لا ؟ قولان . فلو وضعها على يد غيره نُفِّذَت . ولو لم يقيدها بذلك المرض ولا بذلك السَّفر ، وأمسكها عنده إلى أن مات نُفِّذت قولاً واحدًا . وتفصيل مسائل الوصايا في الأمهات .
وقوله في حديث سعد : (( عادني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجع أشفيت منه على الموت )) ؛ عادني : زارني . ولا يقال ذلك إلا لزيارة المريض . فأما الزيارة فأكثرها للصحيح . وقد تقال للمريض . فأمَّا قوله تعالى : { حتى زرتم المقابر } ، فكناية عن الموت .
و (( الوجع )) اسم لكل مرض . قاله الحربي . و(( أشفيت )) : أشرفت . يقال : أشفى وأشاف بمعنى واحد . قاله الهروي . وقال القتبي : لا يقال : أشفى إلا على شرّ .
وفيه : عيادة الفضلاء والكبراء للمرضى ، وتفقد الرَّجل الفاضل أصحابه وإخوانه .
وقوله : (( بلغني من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة ، أفأتصدق بثلثي مالي )) ، فيه ما يدلُّ على أن إخبار المريض بحاله لا على جهة التشكّي ، والتَّسخُّط جائز ، وغير منقص لثوابه . ألا ترى : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصدر عنه إنكار ، ولا تنبية على تنقيص أجر ولا غيره .
و (( ذو مال )) : وإن صلح للكثير والقليل الذي ليس بتافه ؛ فالمراد به ها هنا : المال الكثير بقرينة الحال .
(15/4)
وقوله : (( ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة )) ؛ ظاهر هذا : أنه ليس له وارث إلا ابنة واحدة . وليس كذلك . فإنَّه كان له ورثة وعصبة. وإنما معنى ذلك : لا يرثني بالسَّهم إلا ابنة واحدة . وقيل : لا يرثني من النساء إلا ابنة واحدة . وكلاهما محتمل. ثم أفاق من مرضه ، وكان له بعده ثلاثة من الولد ذكور ؛ أحدهم : اسمه عامر ، وهو راوي هذا الحديث عن أبيه كما ذكرناه.
وقوله : (( أفاتصدَّق بثلثي مالي ؛ قال : لا )) ؛ ظاهر هذا السؤال : إنما سأل عن الوصية بثلثي ماله لتنفذ بعد الموت . يدل على ذلك : قرائن المرض ، وذكر الورثة ، وغير ذلك . ويحتمل : أن يكون عن صدقة بتلة ، يخرجها في الحال . وفيه بُعْدٌ . وكيف ما كان فقد أجيب : بأن ذلك لا يجوز إلا في الثلث خاصة .
قال القاضي عياض : أجمع العلماء : على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله إلا شيئًا روي عن بعض السَّلف ، أجمع الناس بعده على خلافه . والجمهور : على أنه لا يوصي بجميع ماله ، وإن لم يكن له وارث . وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، وإسحاق ، وأحمد ، ومالك - في أحد قوليهما - إلى جواز ذلك. وروي عن علي ، وابن مسعود . وسبب هذا الخلاف : الخلاف في بيت المال هل هو وارث ، أو حافظ لما يجعل فيه .
وفيه دليل : على أن المريض محجور عليه في ماله . وهو مذهب الجمهور. وشذَّ أهل الظاهر ، فقالوا : لا يحجر عليه في ماله وهو كالصحيح . وظاهر هذا : الحديث ، والنظر ، والمعنى : حجة عليهم. ومنع أهل الظاهر الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة . وأجاز ذلك فى الكافة إذا أجازها الورثة . وهو الصحيح ؛ لأن المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الورثة ، بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة )) ، فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزًا وصحيحًا.
(15/5)
وقوله : (( الثلث ، والثلث كثير )) ، وروي : (( الثلث )) الأول بالرفع على الابتداء ، وإضمار الخبر ؛ أي : الثلث كافيك . وقيل : يجوز على أن يكون فاعلاً لفعل مضر .
قلت : وفيه ضعف ؛ لأنه لا يكون ذلك إلا بعد أن يكون في صدر الكلام ما يدل على الفعل دلالة واضحة ، كقوله تعالى : { وإن أحدٌ من المشركين استجارك } ، على خلاف بين الكوفيين والبصريين . فالبصريون يرفعونه بالفعل . والكوفيون بالابتداء . وروي بالنصب على أن يكون مفعولاً بفعل مضمر تقديره : نفذ الثلث . أو : أمض. وما أشبهه ، وقيل : على الإغراء . وفيه بُعْدٌ . وهو حجة للجمهور على جواز الوصية بالثلث على من شذّ ، وخالفهم ، وقال : لا يجوز إلا بالربع ، لكن لما استكثر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الثلث ؛ قال ابن عباس : لو باك أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع حَضًّا على ذلك . وكل ذلك رفق بالورثة ، وترجيح لجانبهم على الصدقة للأجانب .
قلت : وعلى هذا فمن حسنت نيَّته فيما يبقيه لورثته كان أجره في ذلك أعظم من الصدقة به ، لا سيما إذا كانوا ضعافًا ، والله أعلم .
وقوله : (( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة )) ، روايتنا في (( أن تذر )) بفتح الهمزة ، و(( أن )) مع الفعل بتأويل المصدر في موضع رفع بالابتداء ، وخبره (( خير )) المذكور بعده ، والمبتدأ وخبره خبر ((إنك )) تقديره : إنك تركك ورثتك أغنياء خير من تركهم فقراء . وقد وهم من كسر الهمزة من (( أن )) وجعلها شرطًا ؛ إذ لا جواب له ويبقى ((خير )) لا رافع له . فتأمله .
و (( العالة )) : الفقراء . و(( يتكففون الناس )) : يسألون الصدقة من أكف الناس : أو يسألونهم بأكفهم . وهذا يدلُّ على أنَّه كان له ورثة غير الابنة التي ذكرها ، ويصحح ذلك التأويل الذي ذكرناه .
وفيه دليل : على صحة ميراث ذي السهم مع العصبة. ولاخلاف فيه.
(15/6)
وقوله : (( ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها )) ؛ هذا يفيد بمنطوقه : أن الأجر في النفقات لا يحصل إلا بقصد القربة إلى الله عز وجل وإن كانت واجبة . وبمفهومه : أن من لم يقصد القربة لم يؤجر على شيء منها . والمعنيان صحيحان . يبقى أن يقال : فهل إذا أنفق نفقةً واجبةً على الزوجة ، أو الولد الفقير ، ولم يقصد التقرب ؛ هل تبرأ ذمته ، أم لا ؟ فالجواب : أنها تبرأ ذمته من المطالبة ؛ لأن وجوب النفقة من العبادات المعقولة المعنى ، فتجري بغير نيَّة ، كالدِّيون ، وأداء الأمانات ، وغيرها من العبادات المصلحية ، لكن إذا لم ينو لم يحصل له أجر . وقد قرَّرنا هذا في أصول الفقه . ويفهم منه بحكم عمومه : أن من أنفق نفقة مباحة ، وصحَّت له فيها نيَّةُ التَّقرب أثيب عليها ، كمن يطعم ولده لذيذ الأطعمة ولطيفها ليردَّ شهوته ، ويمنعه من التشوُّف لما يراه بيد الغير من ذلك النوع ، وليرق طبعه ، فيحسن فهمه ، ويقوى حفظه ، إلى غير ذلك مما يقصده الفضلاء .
(15/7)
وقوله : (( حتى اللقمة تضعها في فِيِّ امرأتك )) ؛ يجوز في (( اللقمة )) النصب على عطفها على (( نفقة )). وأظهر من ذلك أن تنصبها بإضمار فعل ؛ لأن الفعل قد اشتغل عنها بضميره . وهذا كقول العرب : أكلتُ السمكةَ حتى رأسها أكلته . وقد أجاز في (( رأسها )) الرفع ، والنصب ، والجر ، وأوضح هذه الأوجه : النصب . وأبعدها الخفض . وكل ذلك جائز في (( حتى اللقمة )) ها هنا فَنَزِّلْهُ عليه . والذي به قرأت هذا الحرف : النصب لا غير . وإنما خصَّ الزوجة بالذِّكر لأن نفقتها دائمة ، تعودُ منفعتُها إلى المنفق ، فإنها تحسنها في بدنها ، ولباسها ، وغير ذلك . فالغالب من الناس : أنه ينفق على زوجته لقضاء وطره ، وتحصيل شهوته ، وليس كذلك النفقة على الأبوين ، فإنها تخرج بمحض الكلفة ، والمشفة غالبًا ، فكانت نية التقرُّب فيها أقرب وأظهر . والنفقة على الولد فيها شبة من نفقة الزوجة ، ومن نفقة الأبوين ، من حيث المحبة الطبيعية ، والكلفة الوجودية .
وإنما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسعد هذا الكلام في هذا الموطن تنبيها على الفوائد التي تحصلُ بسبب المال ، فإنه إن مات أُثيب على ترك ورثته أغنياء من حيث ؛ أنه وصل رحمهم ، وأغانهم بماله على طاعة الله تعالى ، كما قال : (( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيز لك من أن تذرهم عالة )) ؛ أي : ذلك أفضل من صدقتك بمالك ، وإن لم تمت حصل لك أجر النفقات الواجبة والمندوب إليها . وشرح من هذا الحديث : أن كسب المال وصرفه على هذه الوجوه أفضل من ترك الكسب ، أو من الخروج عنه جملة واحدة . وكل هذا : إذا كان الكسب من الحلال الخلي عن الشبهات ؛ الذي قد تعسَّر الوصول إليه في هذه الأوقات .
(15/8)
وقوله : (( أَأُخلَّفُ بعد أصحابي ؟ )) هذا الاستفهام إنما صدر عن سعد مخافة أن يكون مقامه بمكة بعد أصحابه إلى أن يموت بها قادحًا في هجرته ، كما قد نصَّ عليه في الرواية الأخرى ؛ إذ قال فيها : (( لقد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها )). فاجابه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يقتضي : أن ذلك لا يكون ، وأنه يطول عمره إلى أن ينتيع به قومٌ ، ويستضرُّ به آخرون . وقد كان ذلك . فإنه عاش بعد ذلك نيفًا وأربعين سنة ، وولي بالعراق أميرًا ، وفتحها الله تعالى على يديه ، وأسلم على يديه بشرٌ كثير ، فانتفعوا به ، وقتل وأسر من الكفار خلقًا كثيرًا ، فاستضروا به ، فكان ذلك القول من أعلام نبوَّته ، وأدلَّة صدق رسالته .
وقوله : (( اللهم ! أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم )) ؛ يقتضي أن تبقى عليهم حال هجرتهم وأحكامها . ويفيد : أن استصحاب أحكامها كان واجبًا على من هاجر ، فيحرم عليه الرجوع إلى وطنه ، وترك المدينة إلى أن يموت بها ، وان كان قد ارتفع حكم وجوب أصلها عن لم يهاجر يوم الفتح ، حيث قال : (( لا هجرة بعد الفتح )) ، وقال : (( إن الهجرة قد مضت لأهلها )) ؛ أى : من كان هاجر قبل الفتح صحَّت له هجرته ، ولزمه البقاء عليها إلى الموت . ومن لم يكن هاجر سقط ذلك عنه . ومن نقض الهجرة خاف المهاجرون ، حيث تحرَّجوا من مقامهم بمكة في حجة الوداع . وهذا هو الذي خاف منه سعد . فإن قضيته هذه كانت في حجَّة الوداع . وهذا هو الذى نقمه الحجَّاجُ على ابن الأكوع لما ترك المدينة ولزم الربذة فقال : تغربت يا بن الأكوع؟! فأجابه : بأن قال له : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذن لي في البدو . وهذا هو الظاهر من جملة ما ذكرناه من هذه الأحاديث . وبه قال بعض أهل العلم . وهو الذي يدلُّ عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لكن البائسُ سعدُ بن خولة )) ؛ رثى له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن توفي بمكة ، وسيأتي الكلام عليه .
(15/9)
وقال آخرون : إن وجوب الهجرة ؛ وجوب استدامة حكمها ؛ قد ارتفع يوم الفتح ، وإنما لزم المهاجرون المقام بالمدينة بعد الهجرة في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنصرته ، ولأخذ شريعته ، ومشافهته ، وللكون معه اغتنامًا لبركته . ثم لما مات : فمنهم من أقام بالمدينة ، وأكثرهم ارتحل عنها . ولما فتحت الأمصار استوطنوها ، وتركوا سكنى المدينة . فاستوطن الشام قوم منهم ، واستوطن آخرون العراق ، وآخرون مصر .
وتأؤل أهل هذا القول ما تقدَّم : بأن ذلك إنما كان منهم مخافة أن تنقص أجورهم في هجرتهم متى زالوا عن شيء من أحكامها ، فدعا لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بألا يُنْقِصَهم شيئًا من ذلك . وللأولين أن ينفصلوا عن هذا ، بأن يقولوا : إنما استوطنوا تلك الأمصار للجهاد وفتح البلاد ، وإظهار الذين ، ونشر العلم ، حتى أنفذوا في ذلك أعمارهم ، ولما يقضوا من ذلك أوطارهم .
وقوله : (( لكن البائس سعد بن خولة )) ؛ البائس : اسم فاعل من بئس ، يباس : إذا أصابه بؤسٌ ، وهو الضرر. وسعد بن خولة : هو زوج سبيعة الأسلمية ، وهو رجل من بني عامر بن لؤي ، من أنفسهم . وقيل : حليفٌ لهم . وقيل : إنه مولى أبي رُهْم بن عبدالعزى العامري .
واختلف في أمره ؛ فقال ابن مزين ، وعيسى بن دينار : إنه لم يهاجر من مكة حتى مات فيها. والأكثر على أنَّه هاجر ثم رجع إلى مكة مختارًا. وعلى هذين القولين يكون بؤسُه ذمًّا له ؛ إما لعدم هجرته ، وإما لسقوطها برجوعه عنها . وقال ابن هشام : إنَّه هاجر الهجرة إلى الحبشة ، والهجرة الثانية ، وشهد بدرًا ، وغيرها ، وتوفي بمكة في حجة الوداع . وعلى هذا فلا يكون بؤسه ذمًّا له ، بل توجُّعًا له ورحمة ؛ إذ كان منه : أنه هاجر الهجرتين ، ثم إنَّه مات بعد ذلك بمكة ، فيكون إشعارًا بما قدَّمناه من نقص ثواب من اتفق له ذلك . ومن ذلك تحرَّج سعد ، والمهاجرون . والله أعلم .
(15/10)
وظاهر هذا القول : أنه من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولذلك قال المحدِّثون : انتهى كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله : (( لكن البائس سعد بن خولة )) ، وأما قوله بعد ذلك : قال رثى له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن توفي بمكة ؛ فظاهره : أنه من كلام غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فقيل : هو قول سعد بن أبي وقاص . وقد جاء ذلك في بعض طرقه . وأكثر الناس على أنَّه من قول الزهري . والله تعالى أعلم .
وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث انقطاع في أصل كتاب مسلم . وهو من المواضع المنقطعة الأربعة عشر ، لكن لا يضر ذلك إن صحَّ ؛ لأنه قد رواه من طرق متصلة .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم ! اشف سعدًا - ثلاث مرارٍ )) ؛ يدلُّ على ندبية تطييب قلب المريض بالدعاء ، وعلى إجابة دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإنَّه أفاق ، وعاش مدة طويلة ، وفتح ، وملك ، كما قدَّمناه .
وقوله : (( إن لي مالاً كثيرًا )) ؛ دليل : على جواز الاستكثار من المال الحلال ؛ لحصول الفوائد التي ذكرناها .
وقوله : (( إنَّ صدقتك من مالك صدقة )) ؛ أي : مقبولة عند الله ، حاصل لك ثوابها .
وقوله : (( وإنَّ نفقتك على أهلك صدقة )) ؛ أي : يحصل لك عليها من الثواب مثل ما يحصل من ثواب الصَّدقة ، واجبها كواجبها ، ونفلها كنفلها .
وقوله : (( بخير )) ؛ أو : (( بعيش )) مِن الرَّاوي في هذه الرِّواية . والخير هنا : هو المال . وكذلك هو في أكثر مواضع القرآن . والعيش هنا : هو ما يعاش به ، وهو : المال .
وقوله : (( لو أن النَّاس غضوا من الثلث إلى الربع )) ، (( لو )) هنا : حرف تمن بمعنى : ليت . وقد ذكرنا مواضعها في أول كتاب الإيمان .
(15/11)
و (( غضوا )) بالغين المعجمة ؛ أي : نقصوا . وأصله من غضِّ العين . واختلف في المستحب من الوصية ، فالجمهور : على أنَّه الثلث . وذهب بعضهم : إلى أن ذلك إنَّما يستحب لمن لا وارث له ، وروي عن بعض السَّلف : النقص منه . فأوصى أبو بكر بالخمس ، وقال : إن الله تعالى رضي من عباده به . ونحوه عن علي . وأوصى عمر بالربع. وهو ظاهر قول ابن عباس . وبه قال إسحاق . وقال الحسن : السدس ، أو الخمس ، أو الربع. وقال النخعي : كانوا يكرهون الوصيا بمثل نصيب أحد الورثة . واختار آخرون : العشر ؛ لما قد روي في حديث سعدٍ- إن صحَّ - ؛ أنه قال : العشر . وروي عن عليّ ، وابن عباس ، وعائشة ، وغيرهم : لِمَنْ ماله قليل ، وله ورثة ، ترك الوصية ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة )).
وقوله : (( الثلث ، والثلث كثير - أو كبير - )) ؛ شكٌّ من الرَّاوي . والمعنى فيهما واحد . والحاصل منهما : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استكثر الثلث ، مع أنه أجازه أولاً بقوله . فينبغي أن ينقص منه شيءٌ له بالٌ ، وهو غير محدود .
ومن باب الصدقة عمَّن لم يوص
(15/12)
قوله : (( إن أبي مات وترك مالاً ، ولم يوص فيه . فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه ؟ قال : نعم )) ؛ ظاهر قوله : (( فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه )) : أنه علم أن أباه كان فرَّط في صدقات واجبة ، فسأل : هل يجزيء عنه أن يقوم بها عنه ؛ فأجابه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نعم )). وعلى هذا فيكون فيه دليل على أن من قام عن آخر بواجب مالي في الحياة ، أو بعد الموت أجزأ عنه ، وهذا مما تجوز النيابة فيه بالإجماع ، وأنه مما يستحب ، وخصوصًا في الآباء ؛ فإنَّها مبالغة في برهم ، والقيام بحقوقهم . وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه إن شاء )) ، وقد تقدم في كتاب الصوم. وإذا كان هذا في الصيام ؛ كان الحق المالي بذلك أولى . وقيل : إنَّما سأل : هل يُكفَّر بذلك خطاياه ؟ ولا ينبغي أن يُظَنَّ بصحابي تفريط في زكاة واجبة إلى أن مات . فإن هذا بعيد في حقوقهم . فالأولى به أن يحمل على أنَّه سأل : هل لأبيه أجرٌ بذلك فيكفر عنه به ، كما قال السائل الآخر في حق أمه : أفلها أجر ؟ ويحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي كانت فيه الوصية واجبة .
قلت : وهذا محتمل لا سبيلَ إلى دفعه .
وعلى القول الأول : فإذا علم الوارث أن مورثه فرط في زكوات ، أو واجبات مالية ، فقال الشافعي : وأحمد على الوارث إخراج ذلك من رأس المال ، كالدِّيون. وقال مالك : إن أوص بذلك أخرج من الثلث . وإلا فلا. وقال بعض أصحابه : إذا علم أنه لم يخرج الزكاة ؛ أخرجت من رأس المال ؛ وصى بها ، أو لم يوص ، قاله أشهب . وهو الصحيح ؛ لأن ذلك دين الله. وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دين الله أحق بالقضاء )) ، أو نقول : هو من جملة ديون الآدميين ؛ لأنه حق الفقراء ، وهم موجودون ، وليس للوارث حق إلا بعد إخراج الذين والوصايا .
وقوله : (( إن أمّي افتُلِتَتْ نفسُها )) ؛ أي : ماتت فلتة ؛ أي : بغتة .
و (( افتُلِتَت )) تقييده : بضم التاء ، وكسر اللام ، مبنيًا لما لم يسم فاعله.
(15/13)
(( نفسها )) مرفوع ؛ لأنه مفعول لم يسم فاعله . وقد روي بنصب ((نفسها )) على أن يضمر المفعول الذي لم يسم فاعله في (( اقتلتت )) وبنصب ((نفسها )) على المفعول الثاني .
وقوله : (( وأظنُّها لو تكلمت تصدقت )) ؛ ظن ذلك بما علم من قصدها للخير ، وفعلها للمعروف . وقد روي : أن هذا السائل كان سعد ابن عبادة (( احتضرت أمه في غيبة سعد )) ، فقيل لها : أوصي ! فقالت : إنما المال لسعد ، فتوفيت قبل قدومه . فسأل سعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك .
وقوله : (( فلها أجر ؟ )) ، وفي الرواية الأخرى : (( فلي أجر )). لا تناقض بين الروايتين ؛ لأنه يمكن أن يكون سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصيغتين ، فأجابه بمجموعهما ، غير أنه حدَّث تارة بأحداهما ، وتارة أخرى بالأخرى ، أو يكون من نقل بعض الرواة عنه . ومعنى الجمع بينهما صحيح ؛ لأنها يكون لها أجر بما تصدَّق عنها ، وله أجرٌ بما برَّها به ، وأدخله عليها .
وقوله : (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث... )) الحديث ، هذه بعد الثلاثُ الخصال إنما جرى عملها بعد الموت على من نسبت إليه ؛ لأنه تسبب في ذلك ، وحرص عليه ، ونواه . ثم إن فوائدها متجددة بعده دائمةٌ ؛ فصار كأنَّه باشرها بالفعل ، وكذلك حكم كل ما سنَّ الإنسان من الخير ، فتكرر بعده ؛ بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها ، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة )). وقد تقدَّم الكلام على هذا الحديث في كتاب الزكاة. وإنما خصَّ هذه الثلاثة بالذكر في هذا الحديث ، لأنَّها أصول الخير ، وأغلب ما يقصد أهل الفضل بقاءه بعدهم . والصدقة الجارية بعد الموت هي : الْحُبُس ، فكان حجَّة على من ينكر الْحُبُس .
وفيه ما يدل على الحضِّ على تخليد العلوم الدينية بالتعليم والتصنيف ، وعلى الاجتهاد في حمل الأولاد على طريق الخير والصلاح ، ووصيتهم بالدعاء عند موته.
ومن باب ما أوصى به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(15/14)
قول طلحة لابن أبي أوفى : (( هل أوصى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ ظاهره : أنه سأله : هل كانت من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصيَّةٌ بشيء من الأشياء ؛ لأنه لو أراد شيئًا واحدًا لعيَّنه ، فلمَّا لم يقيِّده بقي على إطلاقه . فأجابه بنفي ذلك . فلمَّا سمع طلحة هذا النفي العام قال مستبعدًا : كيف كتب على المسلمين الوصية ؟ ومعناه : كيف ترك النبي الوصية ، والله تعالى قد كتبها على الناس ؟! وهذا يدل : على أن طلحة ، وابن أبي أوفى كانا يعتقدان أن الوصية واجبة على النَّاس ، وأن ذلك الحكم لم ينسخ . وفيه بُعد .
ثم : إن ابن أبي أوفى غفل عمَّا أوصى به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهي وصايا كثيرة ؛ فمنها : أنه قال : (( لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا )) ، و((لا نورث ما تركنا صدقة )) ، وقال عند موته : (( لا يبقين دينان بجزيرة العرب . وأخرجوا المشركين منها . وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم )). وكان من آخر ما وصَّى به - وهو ما يفيض - أن قال : (( الصلاة وما ملكت أيمانكم )) ، وهذه كلها وصايا منه ؛ ذهل ابن أبي أوفى عنها. وذكر ابن إسحاق : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوصى عند موته لجماعة من قبائل العرب بجِدَاد أوساقٍ من تمر سهمه بخيبر . ذكره في "السيرة". ولم يذكر ابن أبي أوفى من جملة ما وصَّى به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا كتابَ الله ، إمَّا ذهولاً ، وإما اقتصارًا عليه ؛ لأنه أعظمُ وأهمُّ من كل ما وصَّى به . وأيضًا : فإذا استوصى النَّاس بكتاب الله ، فعملوا به قاموا بكل ما أوصى به . والله تعالى أعلم .
وأما قول عائشة رضي الله عنها : (( ما أوصى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء )) ؛ فإنَّها أرادت في شيء من أمر الخلافة ، بدليل الحديث المذكور .
(15/15)
ثانيا : إنهم لما ذكروا : أن عليًّا كان وصيًّا قالت : ومتى أوصى إليه ؟ وذكرت الحديث . وقد أكثرَ الشِّيعةُ والرَّوافض من الأحاديث الباطلة الكاذبة ، واخترعوا نصوصًا على استخلاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليًّا ، وادعوا أنَّها تواترت عندهم . وهذا كلُّه كذبٌ مركبٌ . ولو كان شيء من ذلك صحيحًا ، أو معروفًا عند الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ يوم السَّقيفة لذكروه ، ولرجعوا إليه . ولذكره عليٌّ ـ رضى الله عنه ـ مُحتجًّا لنفسه ، ولما حل أن يسكت عن مثل ذلك بوجه ، فإنَّه حق الله تعالى ، وحق نبيِّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحق المسلمين . ثم ما يعلم من عظيم علم عليّ ـ رضى الله عنه ـ ، وصلابته في الدين ، وشجاعته يقتضي : ألا يتَّقِي أحدًا في دين الله عز وجل ، كما لم يتِّقي معاويةَ ، وأهل الشام حين خالفوه ، ثم : إنه لما قُتِل عثمان ـ رضى الله عنه ـ ولَّى المسلمون باجتهادهم عليًّا. ولم يذكر هو ، ولا أحدٌ منهم نصًّا في ذلك . فعُلم قطعًا كذب من ادعاه . وما التوفيق إلا من عند الله .
وقولها : (( ولقد انخنث في حجري )) ؛ انخنث : مال ؛ تعني : حين مات . والمخنَّث من الرجال : هو الذي يميل ويتثنى تشبُّهًا بالنساء . واختناث السقاء : هو إمالةُ فمه بعضه على بعض وتليينه ليُشربَ منه . والْحَجْر هنا : هو حَجْر الثوب . وفصيحة بفتح الحاء ، ويقال بكسرها. فأمَّا الْحَجْر على السَّفيه : فهو بالفتح لا غير ، وهو بمعنى : المنع . فأما الْحِجْر -بالكسر - فهو : العقل . ومنه قوله تعالى : { لِذِ حِجْرٍ } ، والحرام ، ومنه قوله تعالى : { حِجْرًا محجُورًا } ،
(15/16)
وقوله : (( يوم الخميس ! وما يوم الخميس ؟! )) تعظيم ، وتفخيم لذلك اليوم على جهة التفجع على ما فاتهم في ذلك من كتب كتاب لا يكون معه ضلالٌ . وهو حقيقٌ بأكثر من ذلك التفجُّع . وهذا نحو قوله تعالى : { الحآقَّة ما الحآقَّة } ، و{ القارعة ما القارعة }. وهذا المعنى الذى همَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكتابته يحتمل أن يكون تفصيل أمور مهمَّةٍ ، وقعت في الشريعة جملية ، فأراد تعيينها . ويحتمل أن يريد به بيان ما يرجعون إليه عند وقوع الفتن ، ومن أولى بالاتباع والمبايعة . ويحتمل أن يريد به بيان أمر الخلافة ، وتعيين الخليفة بعده ، وهذا أقربها . والله أعلم .
(15/17)
وقوله : (( ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده )) ؛ لا شك في أن (( ائتوني )) في أمرٌ وطلبٌ توجَّه لكل من حضر ، فكان حق كل من حضر المبادرةُ للامتثال ، ولا سيما وقد قرنه بقوله : (( لا تضلُّون بعده )) ، لكن ظهر لعمر ـ رضى الله عنه ـ ولطائفة معه : أن هذا الأمر ليس على الوجوب ، وأنَّه من باب الإرشاد إلى الأصلح مع أن ما في كتاب الله يرشد إلى كل شيء ، كما قال تعالى : { تبينًا لكل شيء } ، مع ما كان فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الوجع ، فكره أن يتكلَّف من ذلك ما يشق ويثقل عليه ، فظهر لهم : أن الأوَّلى ألا يكتب ، وأرادت الطائفة الأخرى : أن يكتب ، متمسِّكة بظاهر الأمر ، واغتنامًا لزيادة الإيضاح ، ورفع الإشكال . فيا ليتَ ذلك لو وقع وحصلَ ! ولكن قدَّر الله ، وما شاءَ فعل . ومع ذلك : فلا عتب ، ولا لوم على الطائفة الأولى ؛ إذ لم يعنفهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا ذمَّهم ، بل قال للجميع : (( دعوني فالذي أنا فيه خير )). وهذا نحو مِمَّا جرى لهم حيث قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الأحزاب : (( لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة )). فتخوَّف ناسٌ فوت الوقت ، فصلُّوا دون بني قريظة . وقال آخرون : لا نصلِّي إلا حيث أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإن فاتنا الوقت . قال : فما عنف واحدًا من الفريقين . وسبب ذلك : أن ذلك كله إنَّما حمل عليه الاجتهاد المسوَّغ ، والقصد الصالح . وكل مجتهد مصيب ، أو أحدهما مصيب ، والآخر غير مأثوم ، بل مأجور ، كما قررناه في الأصول .
وقوله : (( وما ينبغي عند نبيٍّ تنازع )) ؛ أي : اختلاف . هذا إشعار بأن الأولى ا المبادرة إلى امتثال أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأن لا يتوتف في شيء منه إذا فهم مقصوده ، ولم يُشكل منه شيء ، كيف لا ؟! وهو المبلِّغ عن الله تعالى أحكامه ، ومصالح الدنيا والدين .
(15/18)
وقوله : (( أهجرَ ؟ استفهموه )) ؛ كذا الرِّواية الصحيحة في هذا الحرف (( أهَجَرَ ؟ )) بهمزة الاستفهام . و(( هَجَرَ )) بالفتح بغير تنوين على أنَّه : فعل ماض . وقد رواه بعضهم : (( أهُجُرًا )) بفتح الهمزة ، وبضم الهاء ، وتنوين الراء ، على أن يجعله مفعولاً بفعل مضمر ؛ أي : أقال هُجْرًا . وقد روي في غير "الأم" : (( هَجَرَ )) بلا استفهام . والهجر : يراد به هذيان المريض ، وهو : الكلام الذي لا ينتظم ، ولا يعتد به لعدم فائدته . ووقوع مثل هذا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حال مرضه ، أو صحته محال لأن الله تعالى حفظه من حين بعثه إلى حين قبضه عمَّا يُخِلّ بالتبليغ . ألا تسمع قوله تعالى : { وماينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } ، وقوله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }. وقد شهد له بأنه على صراط مستقيم ، وأنه على الحق المبين ، إلى غير ذلك . ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خذوا عني في الغضب والرضا ، فإني لا أقول على الله إلا حقًّا )). ولمَّا علم أصحابه هذا : كانوا يأخذون عنه ما يقوله في كل حالاته ، حتَّى في هذه الحالة ، فإنهم تلقَّوا عنه ، وقبلوا منه جميع ما وصَّى به عند موته ، وعملوا على قوله : (( لا نورث )) ، ولقوله : (( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )) ، و(( أجزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم )) ، إلى غير ذلك . ولم يتوقفوا ، ولا شكُّهوا في شيء منه . وعلى هذا : يستحيل أن يكون قولهم : أَهَجَرَ ، لشكٍّ عرض لهم في صحة قوله زمن مرضه ، وإنَّما كان ذلك من بعضهم على جهة الإنكار على من توقف في إحضار الكتف والدواة ، وتلكَّأ عنه ، فكانه يقول لمن توقف : كيف تتوقف ، أتظن : أنه قال هذيانًا ؟ فدع التوقف وقرِّب الكتفَ ، فإنه إنما يقول الحق ، لا الْهَجَرَ. وهذا أحسنُ ما يحمل ذلك عليه . فلو قدَّرنا : أن أحدًا منهم قال ذلك عن شكٍّ عرض له في صحَّة قوله ؛ كان خطأ منه . وبعيدٌ أن يقرَّه على ذلك القول من كان هناك ممن سمعه من خيار الصحابة ، (15/19)
وكبرائهم ، وفضلائهم . هذا تقديرٌ بعيدٌ ، ورأيٌّ غير سديد . ويحتمل : أن يكون هذا صدَرَ عن قائله عن دهشٍ وحيرةٍ أصابه في ذلك المقام العظيم ، والمصاب الجسيم ، كما قد أصاب عمر وغيره عند موته .
وقوله : (( أوصيكم بثلاث )) ؛ نصٌّ في أنه أوصى عند موته . وهو مخصِّصٌ لقول مَنْ قال : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يوص بشيء . وقدتقدَّم ذلك .
وقوله : (( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )) ؛ يعني بالمشركين : اليهود ؛ لأنه ما كان بقي مشرك في أرض العرب في ذلك الوقت غيرهم ، فتعيَّنوا ، وقد جاء في بعض طرقه : ((أخرجوا اليهود من جزيرة العرب )) ؛ مفسّرًا .
والجزيرة : فعيلة بمعنى : مفعولة . وهي مأخوذة من الجزر ، وهو : القطع . ومنه : الجزار ، والجزارة من الغنم ، والجزور من الإبل ؛ وكل ذلك راجع إلى القطع . وسُميَّث أرض العرب بالجزيرة لانقطاعها بإحاطة البحار بها والحرار. وأضيفت إلى العرب لاختصاصهم بها ، ولكونهم فيها ومنها .
(15/20)
واختلف في حدِّها ، فقال الأصمعي : هي ما بين أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ، وفي العرض : من جدِّة وما والاها إلى أطراف الشام . وقال أبو عبيد : هي ما بين حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن ، وما بين رمل يَبْرِين إلى منقطع السَّماوة . وقال المخزومي عن مالك : هي مكة ، والمدينة ، واليمامة ، واليمن . وحكى الهروي عنه : المدينة . والأول : المعروف عنه . فقال مالك : يخرج من هذه المواضع التي ذكر المخزومي كل من كان على غير دين الإسلام ، ولا يمنعون من التردُّد بها مسافرين ، وكذلك قال الشافعي ، غير أنه استثنى من ذلك اليمن ، ويضرب لهم أجل ثلاثة أيَّام ، كما ضربه لهم عمر حين أجلاهم. وقال الشافعي : ولا يدفنون فيها موتاهم ، ويلجؤون إلى الدَّفن بغيرها . وقد رأى الطبري : أن هذا الحكم ليس خاصًّا بجزيرة العرب ؛ فقال : الواجب على كل إمام إخراجهم من كل مصر غلب عليه المسلمون إذا لم يكن من بلادهم التي صولحوا عليها ، إلا أن تدعو ضرورة لبقائهم بها لعمارتها . فإذا كان ذلك ؛ فلا يدعهم في مصر مع المسلمين أكثر من ثلاث ، وليسكنهم خارجًا عنهم ، ويمنعهم اتخاذ المساكن في أمصار المسلمين ، فإن اتخذوها باعها عليهم ، واستدل على ذلك بما رواه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله : (( لا تبقى قبلتان بأرض )) ، وبقول ابن عبَّاس : لا يساكنكم أهل الكتاب في أمصاركم. وبإخراج أهل الذِّمَّة من الكوفة إلى الحيرة . قال : وإنما خصَّ في الحديث جزيرة العرب ؛ لأنه لم يكن يومئذ للإسلام ظهور إلا بها .
قلت : وتخصيص الحكم بجزيرة العرب هو قولُ المتقدمين والسلف الماضين ، فلا يُعْدَلُ عنه . ولم يعرِّج أبو حنيفة على هذا الحديث ، فأجاز استيطان المشركين بالجزيرة ، ومخالفة مثل هذا جريرة .
(15/21)
وقوله : (( وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم )) ؛ الوفد : جمع وافد ، كصحب ، وصاحب. وركب ، وراكب . وجمع الوفد : أوفاد ، ووفود. والوفادة : الاسم ، وهو : القادم على القوم ، والرسول إليهم . يقال : أوفدته : أرسلته . والإجازة : العطية . وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهدٌ ووصيةٌ لولاة المسلمين بإكرام الوفود ، والإحسان إليهم ، قضاء لحق قصدهم ، ورفقًا بهم ، واستئلافًا لهم .
قال القاضي أبو الفضل : وسواء في ذلك عند أهل العلم ؛ كانوا مسلمين أو كفارًا ؛ لأن الكافر إنَّما يفد في مصالح المسلمين . قال : وهذه سنة لازمة للأمة بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( وسكت عن الثالثة ، أو قال : أنسيتها )) ، يريد : سعيد بن جبير . قال المهلِّبُ : هو تجهيزُ جيش أسامة . قال غيره : ويحتمل أن تكون هي قوله : (( لا تتخذوا قبري وثنًا يُعبد )). وقد ذكر مالك في "الموطأ" ما يدل على ذلك من حديث عمر ، فإنه قال فيه : [ آخر] ما تكلَّم به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، لا يبقين دينان بجزيرة العرب )).
و (( الكف )) هنا : يراد به : عظم الكتف ، فإنهم كانوا يكتبون فيها. و(( اللوح )) من الخشب . وفيه دليل : على جواز كتابة العلم والحديث . وهذا وأشباهه ناسخٌ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن ، ومن كتب شيئًا فليمحه )) ، وقد قدَّمنا ذلك.
ومن باب ألحقوا الفرائض بأهلها
الفرائض : جمع فريضة . وأصل الفرض : القطع . والألف واللام في الفرائض للعهد ، لأنَّه يعني بها : الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى ، وهي ستة : النصف ، والرُّبع ، والثُّمن ، والثلثا ن ، والثلث ، والسُّدس.
فالنصف فرض خمسة : ابنة الصُّلب ، وابنة الابن ، والأخت الشقيقة ، والأخت للأب ، والزوج . وكل ذلك إذا انفردوا عمَّن يحجبهم عنه .
والربع : فرض الزوج مع الحاجب ، وفرض الزوجة ، أو الزوجات مع عدمه .
والثُّمن : فرض الزوجة ، أو الزوجات مع الحاجب .
(15/22)
والثلثان فرض أربع : الاثنتين فصاعدا من بنات الصلب ، أو بنات الابن ، أو الأخوات الأشقاء ، أو للأب . وكل هؤلاء إذا انفردن عمَّن يحجبهن عنه .
والثلث فرض صنفين : الأُمُّ مع عدم الولد ؛ وولد الابن ؛ وعدم الاثنين فصاعدًا من الإخوة والأخوات . وفرض الاثنين فصاعدًا من ولد الأُمِّ . وهذا هو ثلث كل المال .
فأما ثلث ما يبقى : فذلك للأُم في مسألة : زوج أو زوجة وأبوان ؛ فللأم فيها ثلث ما يبقى . وفي مسائل الجدِّ مع الإخوة إذا كان معهم ذو سهم ، وكان ثلث ما يبقى أحظى له .
والسُّدس فرض سبعة : فرض كل واحد من الأبوين والجد مع الولد وولد الابن ، وفرض الجدة والجدَّات إذا اجتمعن ، وفرض بنات الابن مع بنت الصُّلب ، وفرض الأخوات للأب مع الأخت الشقيقة ، وفرض الواحد من ولد الأم ذكرًا كان أو أنثى .
وهذه الفروض كلّها مأخوذةٌ من كتاب الله تعالى ، إلا فرض الجدَّات فإنَّه مأخوذ من السُّنَّة. فهؤلاء أهل الفرانض الذين أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقسم المال عليهم لَمَّا قال : (( اقسموا المال بين أهل الفرائض )) ، وهو معنى قوله : (( ألحقوا الفرائض باهلها )).
وقوله : (( فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر )) ، وفي غير مسلم : (( لأولى عصبة ذكر )). تقييد (( أوَّلى )) بفتح الهمزة ، وواو ساكنة ، بعدها ياءٌ : تأنيث (( أوَّل )). وهذه الرواية المشهورة . وقد رواها ابن الحذَّاء عن ابن ماهان : (( لأدنى )) وهو تفسير لـ (( أولى )) ؛ ويعني به : الأقرب للميت .
(15/23)
وقد اختلفوا في وصف الرَّجل بالذُّكوريَّة هنا ؛ هل له فائدة ، أو لا ؟ فقال بعضهم : لا فائدة له غير التأكيد اللفظيِّ ؛ فإن العرب قد تعيد اللفظ الأول بحاله ، وقد تأتي في كلامها متبعة على جهة التأكيد ، كما قالوا : حسن بَسَنٌ ، وقبيح شقيحٌ . وكذلك قالوا هنا : رجل ذكر ، وابن لبون ذكر ، ويطير بجناحيه ، وعشرة كاملةٌ . فهذا كلامُ العرب . وأجيبوا : بأن العرب لا تؤكد إلا حيث تفيدُ به فائدةً ؛ إمَّا تمكين المعنى في النفس ، أو رفع المجاز المتوهَّم . وكل ذلك معدومٌ فيما نحن فيه . وقيل : أفاد بقوله : (( ذكر )) هنا ، وفي قوله : (( ابن لَبُون ذكر )) التحرز من الخناثي ، فلا تُؤخذ الخنثى في فريضة الزَّكاة ، ولا يحوز المال إذا انفرد ، وإنَّما له نصف الميراثين . وقيل في اللَّبُون : إنَّما وصف بالذُّكوريَّة ليتحرز ممن يتوهم إطلاق (( ابن )) على الأنثى ، كما قد أطلق (( ولد )) على الذكر والأنثى . وقيل : إنَّما نبَّه بالذكورية في المحلين لينبِّه على معنى مُشْعرٍ بتعليل ، وذلك : أن ابن اللبون أفضل من بنت المخاض من حيث السِّن ، وقد نزَّله الشارعُ بمنزلتها في الأخذ ، فقد يخفى على من بعد فهمه ، ويقول : كيف يَجْعَلُهُ بدلها وهو أفضل ؛ فوصفه بـ (( ذكر )) ليشعر بنقصه عنها بالذكورية ، وإن زاد عليها بالسِّن . وكذلك : وصف الرَّجل بالذُّكوريَّة مشعرٌ بأن الذي استحق به التعصيب هو كمال الذُّكوريَّة ؛ التي بها قوام الأمور ، ومقاومة الأعداء . والله أعلم .
و (( العصبة )) كل رجل بينه وبين الميت نسب يحوز المال إذا انفرد ، فيرث ما فضل عن ذوي السِّهام .
والعصبات ثلاثة أصناف : الأبناء وبنوهم ، والآباء وبنوهم ، والأجداد وبنوهم . وتفصيل هذه الجملة في كتب الفقه .
(15/24)
ويُستفاد من هذا الحديث : أن النساء لا يكنَّ عصبةً . وقد أطلق الفقهاءُ على الأخت مع البنت أنَّها عصبة ، وذلك تجوُّز ؛ لأن الأخت لا تحوز المالَ إذا انفردت ، لكنَّها لما كانت في هذه المسألة تأخذ ما فضل عن البنت أشبهت العاصب فأطلق عليها اسمه .
وقوله : (( لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم )) ؛ تضمَّن هذا الحديث أمرين :
أحدهما مجمع على منعه ؛ وهو : ميراث الكافر للمسلم.
والثاني مختلف فيه ؛ وهو : ميراث المسلم الكافر ؛ فذهب إلى منعه الجمهور من السَّلف ومن بعدهم ؛ فمنهم : عمر ، وعلي(2) ، وابن مسعود(2) ، وزيد بن ثابت(2) ، وابن عباس(2). وجمهور أهل الحجاز والعراق : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وابن حنبل ، وعامة العلماء. وذهب إلى توريث المسلم من الكافر معاذ ، ومعاوية ، وابن المسيب ، ومسروق ، وغيرهم . وروي عن أبي الدرداء ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وإسحاق . والحديث المتقدِّم حجُّةٌ عليهم. ويَعْضُده حديث أسامة بن زيد ؛ وهو : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( لا يتوارث أهل ملتين )) ، ونحوه في كتاب أبي داود من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه . وقد احتجَّ للقول الثاني بما خرَّجه أبو داود من حديث يحيى بن يعمر ؛ واختصم إليه أخوان - يهودي ومسلم ، فورَّث المسلم منهما . وقال : حدثني أبو الأسود : أن رجلا حدثه : أن معاذًا قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( الإسلام يزيد ولا ينقص )) ؛ فورَّث المسلم . وبما يحكى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنَّه قال إن صحَّ : (( إن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه )) ، وبقياس الميراث على النكاح قالوا : كما يجوز لنا أن ننكح نساءهم ، ولا يجوز لهم أن ينكحوا نساءنا ؛ كذلك يجوز لنا أن نرثهم ولا يرثونا .
(15/25)
قلت : ولا حجَّة لهم في شيء مما ذكروه . وأمَّا الحديثان : فلا يصحُّ منهما شيء . أمَّا الأول : فلأن فيه مجهولاً . وأمَّا الثاني : فكلام يحكى ولا يُروى ، سلَّمنا صحتهما ، لكنَّا نقول بموجبهما ، فإن دين الإسلام لم يزل يزيد إلى أن كمل في الحين الذي أنزل الله تعالى فيه : {اليوم أكملت لكم دينكم } ، ولم ينقص من أحكامه ولا شريعته التي شاء الله تعالى بقاءها شيءٌ . وقد أعلاه الله تعالى ، وأظهرَه على الدِّين كلِّه ، وكما وعدنا تعالى . سلَّمنا ذلك ، لكن الأحاديث الأول أرجح ؛ لأنها متفق على صحتها ، وهي نصوص في المطلوب ، والقياس الذي ذكروه فاسد الوضع ؛ لأنَّه في مقابلة النَّصّ ، ولخلوه عن الجامع . فإذا ثبت هذا فاعلم : أن المسلم والكافر المذكورين في الحديث للعموم ، فلا مسلمًا ما يرث كافرًا ما ، ولو كان مرتدًّا ، وهو مذهب مالك ، وربيعة ، والشافعي ، وابن أبي ليلى ؛ قالوا : لا يرث المرتدَّ أحدٌ من المسلمين . ومالُهُ فَيءٌ لبيت المال .
وخالفهم في ذلك طائفة أخرى فقالوا : إن ورثته من المسلمين يرثونه. وبه قال الأوزاعي ، وإسحاق ، والحسن البصري ، والشعبي ، وعمر بن عبد العزيز . وروي ذلك عن عليّ وابن مسعود.
وفرَّقت طائفة ثالثة ؛ فقالت : يرث ماله الذي كان له قبل ردَّته ورثته المسلمون ، وما استفاده بعد الرَّدة فيءٌ . وهو قول الثوريِّ ، وأبي حنيفة. والعموم المتقدم حجَّة على هؤلاء الطائفتين .
(15/26)
وقوله : (( لا يتوارث أهل ملَّتين )) ، قال بظاهره مالك ، فلا يرث اليهودي النصرانيَّ ، ولا يرثان المجوسيَّ . وهكذا جميع أهل الملل أخذًا بظاهر هذا الحديث . وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وداود : إن الكفار كلهم أهل ملة واحد ، وإنهم يتوارثون . محتجِّين بقوله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النَّصارى حتى تتبع ملتهم } ، فوحَّد الْمِلَّة . وبقوله تعالى : { لكم دينكم ولي دين } ، والخطاب بـ{ لكم } للكفار كلهم مع توحيد { دين }. وتأولوا قوله : (( لا يتوارث أهل ملتين )) : على أن المراد به الإسلام والكفر ، كما قال في الحديث الأول : (( لا يرث المسلم الكافر )). ولا حجَّة في ذلك .
أمَّا الآية الأولى فلأن ملّتهم وإن كانت موحدة في اللفظ ، فهي مكثرة في المعنى ؛ لأنه قد أضافها إلى ضمير الكثرة ، كما تقول : أخذتُ عن علماء المدينة علمهم - مثلاً علمهم- ، وسمعتُ عليهم حديثهم ؛ يعي : علومهم ، وأحاديثهم .
وأمَّا الثانية : فلأن الذين نزلت الآية جوابًا لهم إنَّما هم مشركو قريش ، قالوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : تعال نشترك في أمرنا وأمرك ، تدين بديننا ، وندين بدينك ، فنستوي في الأخذ بالخير . فأنزلها الله تعالى مخاطبةً لهم. وهم صنفٌ واحدٌ من الكفار ، وهم الوثنيون . وكيف لا يكون ما قاله مالك . وقد قال الله تعالى : { لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا } ، فالعربُ تزعم أنها على شريعة إبراهيم ، واليهود على شريعة موسى ، والنَّصارى على شريعة عيسى . في ملل متعددة ، وشرائع مختلفة .
ومن باب ميراث الكلالة
قول جابر ـ رضى الله عنه ـ : (( مرضت فأتاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر يعوداني ماشِيَيْنِ )) ؛ إنَّما أتياه ماشيين مبالغة في التواضع ، وفي كثرة أجر المشي ؛ لأن المشي في للقرب التي لا يحتاج فيها إلى كبير مؤونة ، ولا نفقة أفضل من الركوب بدليل ما ذكرناه في الجمعة . وقد ذكر الخلاف في ذلك في الحج .
(15/27)
وقوله : (( فاغمي عليّ ، فتوضأ ، فصبَّ عليَّ من وَضُوئه ، فأفقتُ )) ؛ فيه دليل على جواز المداواة ، ومحاولة دفع المرض بما يُرجى فائدته ، وخصوصًا بما يرجع إلى التَّبَرُّك بما عظمه الله ورسوله .
وفيه : ظهور بركة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما باشره أو لمسه . وكم له منها وكم ؟! وقد ذكرنا من ذلك جملة صالحة في كتاب "الإعلام بمعجزات النبي عليه الصلاة والسلام ".
(15/28)
وقوله : (( فقلت : يا رسول الله ! كيف أقضي في مالي ؟ إنَّما يرثني كلالة )) ؛ ، هذا السؤال كان قبل نزول آيات المواريث على ما يدل عليه قوله : فنزلت { يوصيكم الله في أولادكم } ، وقد تقدَّم : أن الحكم كان قبل ذلك وجوب الوصية للأقربين . وعلى هذا فيكون سؤال جابر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : كيف اقضي في مالي ؟ كيف أوصي فيه ؟ وبماذا أوصي ؟ ولمن أوصي ؟ فأنزل الله تعالى : { يوصيكم الله ... } ، فنسخت وجوب الوصيَّة للأقربين على ما قدَّمناه . وأما إن كان الذي نزل في جوابه : {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } ، فيكون هذا السؤال بعد نزول { يوصيكم الله } ، وقبل نزول آية الكلالة . وهذا هو الأقرب والأنسب لقوله : (( إنما يرثني كلالة )). وذلك السؤال هو الذي عنى الله تعالى بقوله : { يستفتونك } ، ثم قال : { قل الله بفتيكم في الكلالة }. وقد تقدم ذكر الاختلاف في اشتقاق الكلالة ، وفي معناها في كتاب الصلاة ، والقول هنا في بيان المختار من الأقوال . ولا شكَّ أن جابرًا قد أطلق على ورثته : كلالة ، وما كان له وارث يومئذ سوى أخواته ، فإن أباه كان قتل يوم أحد ، وترك سبع بنات وجابرًا . فهنَّ اللاتي سَمَّاهنَّ كلالة ، وهنَّ اللاتي أجيب فيهنَّ بقوله : { قل الله يفتيكم في الكلالة } ، ولم يكن له ولد ، ولا والد . فقد ظهرت صحَّة قول من قال : إن الكلالة هي الولدَ والوالد. وإن الإخوة المذكورين فيها ليسوا إخوة لأم قطعًا ؛ لأن أخوات جابر لم يكن لأم ، ولأن الإخوة للأم لا يقتسمون للذكر مثل حظِّ الأنثيين . ومقصود هذه الآية : بيان حكم الإخوة ، والأخوات للأب والأُمّ ، أو للأب إذا لم يكن معهنَّ ولدٌ ، ولا والدٌ ، وإنما قلنا ذلك : لأن الولد مصرَّحٌ بنفيه في الآية بقوله : { ليس له ولدٌ } ، والأب أيضًا لا بدَّ من نفيه في هذه الآية ؛ لأنه لو كان أبٌ مع الإخوة لحجَبهم كلَّهم جملة بغير تفصيل . وأمَّا الجدَّ مع الإخوة الأشقاء ، أو للأب ، فيقاسمهم ما لم تنقصه(15/29)
المقاسمة من الثلث ، فله أن يأخذه . وعلى هذا فالجدّ تصحُّ معه الكلالة ؛ لأنه كالأخ معهم . وأما الآية التي في أول السورة فالمراد بالكلالة فيها : الإخوة للأم إذا لم يكن معهم ابن ، ولا أب ، ولا جدّ ؛ لأن هؤلاء كلّهم يحجبون الإخوة للأم . ولقراءة سعد : { وله أخ أو أخت لأم } ؛ ولأن الإخوة الأشقاء أو للأب لا يرث الواحد منهم السدس ، ولا الاثنان فصاعدا الثلث . وإنما ذلك فرض الاخوة للأم . فقد ظهر بهذا البحث الدقيق : أن القول ما قاله أبو بكر الصدِّيق . وأمَّا قولا الاشتقاق : فكلاهما معنى صحيح بالاتفاق لأن من فقد الطرفين فقد تَكلَّله نفي المانعين ، أو لأنه لما كلَّ منه الرحم الوالد وثب على متروكه الأباعد .
وقوله تعالى : { وإن كان رجل يورث كلالة } ، القراءة المشهورة : { يُورَث } بفتح الراء على أنَّه فعل مضارغ مبني لما لم يستم فاعله ، وفيه ضمير مفعولي لم يُسم فاعله عائدًا على { رجل } ، و{ كلالة } حال من ذلك الضمير . فتكون الكلالة : الميِّت . وقرأه الحسن {يورِث } بكسر الراء مبنيًا للفاعل ، وتكون{ كلالة } مفعولاً بـ{يورِث }. وقرئ كذلك مضعف الرَّاء ، وعلى هذا فيصحُّ أن تكون الكلالة الوارث . ويصحُّ أن تكون المالَ . وأحد مفعولي { يورَّث } مسكوت عنه ؛ لأنه يجوز الاقتصار على أحدهما . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( ما راجعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شيء ما راجعته في الكلالة ، ولا أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه )) ؛ هكذا جاء هذا الضمير مذكَّرًا وقبله الكلالة ، وكان حقُّه أن يكون مؤنثًا ، لكنه لما كان السؤال عن حكم الكلالة أعاده مذكَّرًا على الحكم المراد .
وقوله : (( حتى طعن بإصبعه في صدري )) ؛ هذا الطَّعن مبالغة في الحث على النظر والبحث ، وألا يرجع إلى السؤال مع التمكُّن من البحث والاستدلال ليحصل على رتبة الاجتهاد ، ولينال أجر من طلب فأصاب الحكم ، ووافق المراد .
(15/30)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ألا تكفيك آية الصيف )) ؛ يعني به : آخر سورة النساء ، فإنها نزلت في الصَّيف ، وإنما أحاله على النظر في هذه الآية ، لأنه إذا أمعن النظر فيها علم أنها مخالفة للآية الأولى في الورثة ، وفي القسمة ، فيتبين من كل آية معناها ، ويُرتِّب عليها حكمها ، فيزول الإشكال ، والله تعالى يعصم من الخطأ والضلال . وقد تقدَّم القول في قول عمر : وإن أعش أقضِ فيها بقضيَّة .
وقول البراء : (( آخرُ آيةٍ أُنزلت آية الكلالة )) إلى آخره .اختلف في آخر آية أنزلت . فقيل ما قال البراء . وقال ابن عباس : { اليوم أكملت لكم دينكم } ، وقيل : { قل لا أجد ...}. والتلفيق : أن يقال : إن آية الكلالة آخر ما نزل من آيات المواريث ، وآخر آية أنزلت في حصر المحرمات : { قل لا أجد ... } ، والظاهر أن آخر الآيات نزولاً : { اليوم أكملت لكم دينكم } ؛ لأن الكمال لما حصل لم يبق بعده ما يزاد ، والله أعلم .
وأما قوله : (( آخر سورة نزلت براءة )) ؛ فقد فسَّر مراده بقوله في الرواية الأخرى : (( أنزلت كاملة )) ، ومع ذلك : فقد قيل : إن آخر سورة نزلت : { إذا جاء نصر الله والفتح } ، وكانت تسمى سورة التوديع.
وقد اختلف في وقت نزولها على أقوال : أشبهها قول ابن عمر : إنها نزلت في حجَّة الوداع ، ثم نزلت بعدها : { اليوم أكملت لكم دينكم } ، فعاش بعدها ثمانين يومًا ، ثم نزلت بعدها آية الكلالة ، فعاش بعدها خمسين يومًا ، ثم نزل بعدها : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } ، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يومًا ، ثم نزلت بعدها : { واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله } ، فعاش بعدها أحدًا وعشرين يومًا . وقال مقاتل : سبعة أيام . والله أعلم .
ذكر هذا الترتيب أبو الفضل محمد بن يزيد بن طيفور الغزنوي في كتابه المسمَّى بـ"عيون معاني التفسير".
ومن باب من ترك مالاً فلورثته
(15/31)
سؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الميت : (( هل عليه دين ، أو لا ؟ )) وامتناعه من الصلاة على من مات وعليه دين ، ولم يترك وفاءً ، إشعار بصعوبة أمر الدِّين ، وأنه لا ينبغي أن يتحلله الإنسان إلا من ضرورة ، وأنَّه إذا أخذه فلا ينبغي أن يتراخى في أدائه إذا تمكن منه ، وذلك لما قدمناه من أن الدَّين شَيْنٌ ، الدَّين همٌّ بالليل ومذلةٌ بالنهار ، وإخافة للنفوس ، بل وإرقاقٌ لها . وكان هذا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليرتدعَ من يتساهلُ في أخذ الدَّين حتى لا تتشوش أوقاتهم عند المطالبة . وكان هذا كله في أول الإسلام . وقد حكي أن الْحُرَّ كان يُباع في الدَّين في ذلك الوقت ، كما قد رواه البزار من حديث رجل من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُقال له : سُرَّق ، ثم نسخ ذلك كله بقوله تعالى : { وإن كان ذو عُسرة فنظرة إلى ميسرة }. وقيل : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنَّما كان يمتنع من الصلاة على من ادَّان دينًا غير جائز أو في سعة. والأول أظهر ؛ لقول الرَّاوي في الحديث : فلما فتح الله عليه الفتوح قال : (( أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، مَنْ توفي وعليه دَيْنٌ فعلي قضاؤه ، ومن ترك مالاً فلورثته )) ، فهذا يعمُّ الدُّيون كلَّها . ولو افترق الحال لتعيَّن التنويع ، أو السؤال . ويحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تبرَّع بالتزام ذلك على مقتضى كرم أخلاقه ؛ لا أنه أمرٌ واجبٌ عليه. وقال بعض أهل العلم : بل يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين هل الفقراء ، اقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فإنَّه قد صرَّح بوجوب ذلك عليه ، حيث قال : (( فعلي قضاؤه )) ، ولأن الميِّت الذي عليه الدَّين يخاف أن يعذب في قبره على ذلك الدَّين ، كما قد صحَّ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث دُعِي ليصلي على ميِّت ، فأُخبر أن عليه دينًا ، ولم يترك وفاءً ، فقال : (( صلوا على صاحبكم )) ، فقال أبو قتادة : صل عليه يا رسول الله ! وعلي دينه . فصلَّى عليه . ثم قال له : (( قم فأده عنه )) ، فلمَّا أدَّى عنه قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الآن حين بردت عليه جلدته )). وكما كان على الإمام(15/32)
أن يسدَّ رمقه ، ويراعي مصلحته الدنيوية كان أحرى وأولى أن يسعى فيما يرفع عنه به العذاب الأخروي .
و (( المولى )) : الذي يتولَّى أمور الرَّجل بالإصلاح والمعونة على الخير ، والنصر على الأعداء ، وسدّ الفاقات ، ورفع الحاجات .
وقوله : (( فأيُّكم ما ترك ضياعًا فأنا مولاه )) ، (( ما )) هنا : زائدة . تقدير الكلام : فاتكم ترك . و(( ضياعًا )) بفتح الضاد لا غير . وهو ما يحتاج للاصلاح. والضياع في الأصل : مصدر ضاع . ثم جعل اسمًا لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم ، ومال لا قيِّم له. وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع . وتجمع : ضياعًا - بكسر الضاد -. وفي رواية : (( من ترك كلالاً )) مكان (( ضياعًا )) ، والكل بفتح الكاف : ما يتحمله الإنسان مما يشق عليه ، ويثقله ، فكأنه قد كلَّ تحته لثقله كلالاً .
وقوله : (( من ترك مالاً فليؤثر به عصبته من كان )) ؛ يعي : إذا لم يكن معه ذو سهم ، أو فضل شيء عن ذوي السِّهام . ورواية من رواه : (( فهو لورثته )) ، أتقن .
وقد تقدم القول في كتاب الجهاد على قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا نورث ، وما تركنا صدقة )) بما فيه كفاية .
كتاب الصَّدقة والْهِبَة والْحَبْس
ومن باب النهي عن العود في الصدقة
قول عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( حملت على فرس عتيق في سبيل الله )) ؛ يعني : أنه تصدَّق به على رجل ليجاهد عليه ، ويتملَّكه ، لا على وجه الحبس ؛ إذ لو كان كذلك لما جاز له أن يبيعه ، وقد وجده عمر ـ رضى الله عنه ـ في السوق يباع ، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تبتعه ، ولا تَعُدْ في صدقتك )). فدلَّ : على أنه ملكه إيَّاه على جهة الصَّدقة ليجاهد عليه في سبيل الله . والعتيق من الخيل : الكريم الأبوين. و(( سبيل الله )) : الجهاد هنا . وهو العُرْف فيه .
(15/33)
وقوله : (( فأضاعه صاحبه )) ؛ أي : فرَّط فيه ، ولم يحسن القيام عليه. وهذا الذي قلناه أولى من قول من قال : إنه حبسٌ في سبيل الله ، قال : وبيعه إنما كان لما أضاعه صاحبه صار بحيث لا يصلح للجهاد . وهذا هو الذي صار إليه مالك تفريعًا على القول بجواز تحبيس الحيوان : أنه يباع إذا هرم ، ويُستبدل بثمنه في ذلك الوجه المحبس فيه ، أو يعين بثمنه فيه. والقول الأول أظهر ؛ لما ذكرناه ، ولأنه لو كان ذلك لسأل عن هذا الفرس : هل تغيَّر عن حاله أم لا ، ولنظر في أمره .
وقوله : (( فظننت أنه بائعُه بِرُخْصٍ )) ؛ إنَّما ظن ذلك ؛ لأنه هو الذي كان أعطاه إيَّاه ، فتعلَّق خاطره بأنه يسامحه في ترك جزء من الثمن ، وحينئذ يكون ذلك رجوعًا في عين ما تصدَّق به في سبيل الله . ولَمَّا فهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا نهاه عن ابتياعه ، وسمَّى ذلك عودًا ، فقال : (( لا تبتعه ، ولا تَعُدْ في صدقتك )).
واختلف في هذا النَّهي ؛ هل يحمل على ظاهره من التحريم ؟ ولأنه يفهم من تشبيهه بالكلب التحريم ؛ كما قال تعالى : { فمثله كمثل الكلب } ، أو على الكراهة ؛ لأن تشبيهه بالقيء إثما يدلُّ على الاستقذار والعيافة للنَّفرة الموجودة من ذلك ، لا أنه يحرم العود في القيء إلا أن يتغير للنجاسة ، فحينئذ يحرم لكونه نجاسة ، لا لكونه قيئًا . والأول في كتاب ابن المواز . وقال به الداودي . والثاني : عليه أكثر النَّاس .
قلت : ويحتاج موضع الخلاف إلى تنقيح . فنقول : أما الصَّدقة في السَّبيل ، أو على المسكين ، أو على ذي الرَّحم إذا وصلت للمتصدِّق عليه فلا يحل الرُّجوع فيها بغير عوض ، قولا واحدًا ؛ لأنه قد أخرجها عن ماله على وجه القربة لله تعالى ، واستحقها المتصدق عليه ، وملكها بالصدقة ، والحوز ، فالرجوع فيها ، أو في بعضها حرام . وأما الرُّجوع فيها بالشراء الذي لا يُحَطُّ عنه فيه من ثمنها شيءٌ فمكروه ؛ لأنه قد استرد عينًا أخرجها لله تعالى .
(15/34)
والأولى : حمل النهي الواتع في الحديث المذكور عن الابتياع على التحريم ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهم عن عمر ـ رضى الله عنه ـ ما كان وقع له ، من أنَّه يبيعه منه بحطيطة من الثمن . وهذا رجوع في بعض عين الصَّدقة ، إلا أن الكراهية هي المشهورة في المذهب في هذه المسألة ، وكأنَّهم رأوا : أن هذه عطية مبتدأة من المتصَدَّق عليه ، أو الموهوب له ؛ لأنها عن طيب نفس منه ، فكان ذلك للمتصدق أو الواهب مِلكًا جديدًا بطريق آخر. وهذا كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن وهب أمةً لأمِّه فماتت أمُّه ، فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك ، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وجب أجرك ، وردَّها عليك الميراث )). غير أنه لا يليق بمكارم الأخلاق أن يعود في شيء أُخرج عنه على وجه المعروف ، ولا بأهل الدِّين أن يرجعوا في شيء خرجوا عنه لله تعالى بوجه ، فكان مكروها من هذا الوجه . وهذا نحو مما قررناه في قصَّة تحرّج المهاجرين من المقام بمكة .
قلت : والظاهر من ألفاظ الحديث ومساقه التحريم . فأجمع ألفاظه ، وقد َّبر معانيها ؛ يلح لك ذلك إن شاء الله تعالى .
(15/35)
وقوله : (( مثل الذي يرجع في هبته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه )) ؛ حس إن كان المراد بالهبة الصدقة ، كما قد جاء في الرواية الأخرى ، فقد تكلّمنا عليها . وإن كان المراد مطلق الهبة ، فهي مخصوصة ؛ إذ يخرج منها الهبة للثواب ، وهبة أحد الأبوين . فأما هبة الثواب : فقد قال بها مالك ، وإسحاق ، والطبري ، والشافعي - في أحد قوليه - : إذا علم أنه قصد الثواب ؛ إما بالتصريح به ، وإما بالعادة والقرائن ، كهبة الفقير للغني ، والرَّجل للأمير . وبها قال أبو حنيفة : إذا شرط الثواب ، وكذلك قال الشافعي في القول الآخر . وقد روي عنهما ، وعن أبي ثور : منعها مطلقًا. ورأوا أنَّها من البيع المجهول الثمن والأجل. والأصل في جواز هبة الثواب : ما خرَّجه الدارقطني من حديث ابن عمر ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يُثَبْ عليها منها )). قال : رواته كلهم ثقات . والصواب عن ابن عمر عن عمر قوله ، وما خرَّجه مالك عن عمر أنه قال : من وهب هبة لصلة الرَّحم ، أو على وجه الصَّدقة أنه لا يرجع فيها ، ومن وهب هبة يرى أنَّه إنما أراد بها الثواب ، فهو على هبته يرجع فيها ما لم يرض منها ، وما خرَّجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال : أهدى رجل من بني فزارة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناقة ، فعوضه منها بعض العوض ، فتسخَّطه. وفي رواية : أهدى له بكرة ، فعوَّضه ستَّ بكرات ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المنبر : (( إن رجالاً من العرب يُهدي أحدُهم الهديَّة ، فأعوِّضه منها بقدر ما عندي ، فيظل يتسخَّطُ عليِّ . وايم الله ! لا أقبل بعد يومي هذا من رجل من العرب هديَّة إلا من قرشيٍّ ، أو أنصاريٍّ ، أو ثقفيٍّ ، أو دوسيٍّ )). وهذا الحديث وإن لم يكن إسناده بالقوي ، فيعضده كل ما تقدم . وما حكاه مالك من أن هبة الثواب مجتمعٌ عليها عندهم ، وكيف لا تجوز وهي معاوضةٌ تشبه البيع في جميع وجوهه ، إلا وجهًا واحدًا ؟! وهي : أن العوض فيها غير معلوم حالة العقد . وإنما سامح(15/36)
الشرع في هذا القدر ؛ لأنهما دخلا في ذلك على وجه المكارمة ، لا المشاحَّة ، فعفا عن تعيين العوض فيه ، كما فعل في نكاح التفويض .
وأما هبة الأب لولده : فللأب الرجوع فيها . وإلى هذا ذهب مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، والأوزاعي . وقد اتفق هؤلاء على أن ذلك للأب . وهل يلحق بالأب الأم والجد . اختلف في ذلك قول مالك ، والشافعي . ففي قول : يُقْصَرُ ذلك على الأب . وفي قول آخر : إلحاقهما به . والمشهور من مذهب مالك : إلحاق الأم . ومن مذهب الشافعي : إلحاق الأم ، والأجداد ، والجدَّات مطلقًا . والأصل في هذا الباب : ما خرَّجه النسائي من حديث ابن عمر ، وابن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه قال : (( لا يحل لرجل يعطي عطية يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ، ومثل الذي يعطي عطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب ، أكل حتَّى إذا شبع قاء ، ثم عاد في قيئه )) ، وهذا حديث صحيح . وقال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا : أن من أعطى ولده عطيَّة ليس بصدقة أن له أن يعتصرها ؛ ما لم يستحدث الولد دينًا ، أو ينكح ، فليس للأب الاعتصار . وسبب اختلافهم في إلحاق غير الأب بالأب : هو أنَّه هل يتناول الملحق اسم الأبوة ، أو الوالد ، أم لا ؟ وهل هم في معنى الأب ، أو يُفرَّق بينهم وبينه ؟ فإن للأب من الحق في مال الولد ما ليس لغيره ، وله من خصوصية القرب ما ليس لهم .
قلت : وأما إلحاق الأم فلا إشكال فيه ، وقد أوغل الشافعي في استرجاع الأب لما وهب ، وتعلَّق بالولد من الدين والتزويج كل طلب ، وللأب أن يعتصرها من كل من يقع عليه اسم ولد حقيقة ، أو مجازًا ، مثل ولده لصُلْبه ، وولد ولده من أولاد البنين والبنات .
(15/37)
وحملت طانفة حديث النَّهي عن الارتجاع في الهبة على عمومه ، ولم يستثنوا من ذلك ولدًا ولا غيره ، وبه قال طاووس ، وأحمد . والرجوع عندهم في الهبة محرم مطلقًا. والحجَّة عليهم ما تقدَّم من الحديث ، وعمل أهل المدينة الدَّالّين على استثناء الأب . وقالت طائفة أخرى : إن المراد بذلك النهي : من وهب لذي رحم ، أو زوج ، فلا يجوز له الرُّجوع . وإن وهب لغيرهم جاز الرُّجوع . وهو قول الثوري ، والنخعي ، وإسحاق . وقصره أبو حنيفة ، والكوفيون على كل ذي رحم محرم فلا رجوع له فيما يهبه لهم ، ويرجع فيما وهبه لغيرهم ؛ وإن كانوا ذوي رحم .
قلت : وهذه تحكُّمات على ذلك العموم. فيا لله من تلك الفهوم!!
ومن باب من نحل بعض ولده دون بعض
حديث النعمان بن بشير في هذا الباب كثرت طرقه ، فاختلفت ألفاظه ، حتَّى لقد قال بعض الناس : إنَّه مضطرب ، وليس كذلك ؛ لأنه ليس في ألفاظه تناقض ، بل يمكن الجمع بينها على ما نبيِّنه إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( إني نَحَلْتُ ابني هذا غلامًا كان لي )) ؛ كان هذا النُّحل منه بعد أن سألته أمُّه - وهي : عمرة بنت رواحة - بعض الموهبة من ماله ، كما قال قد جاء في الرواية الأخرى .
و (( نحلت )) : أعطيت . و(( النحلة )) : العطية بغير عوض . و(( النحل )) : الشيء المنحول . و(( الموهبة )) رواية ابن عيسى. وهي مصدرٌ مزيدٌ من : وهب ، يهب ، هبة ، وموهبة . وهي هنا بمعنى الشيء الموهوب . وعند كافة الرواة : الموهوبة ؛ أي : بعض الأشياء الموهوبة . وجاء في الرواية الأخرى : (( وهبت )) بدل (( نحلت )) ، وهو بمعناه . وفي رواية : قال النعمان : (( تصدق عليَّ أبي ببعض ماله )) ؛ فسمَّي ذلك : صدقة - تجوُّزًا -. فأمَّا أبوه بشير فسمَّاها : نحلة ، وهبة - حقيقة - ، وهو أعلم بنيَّته ، وأثبت في قضيَّته ؛ لأن النعمان إذ ذاك كان غلامًا .
(15/38)
وقوله : (( أكل ولدك نحلته مثل هذا )) ؛ تنبية على أن الإنسان إذا أعطى بنيه سوَّى بينهم ، ذكرهم وأنثاهم . وأن ذلك الأفضل ، وإليه ذهب القاضي أبو الحسن ابن القصار من أصحابنا ، وجماعة من المتقدِّمين. وذهب آخرون ؛ منهم : عطاء والثوري ، ومحمد بن الحسن ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن شعبان من أصحابنا : إلى أن الأفضل : للذكر مثل حظ الأنثيين . على قسمة الله تعالى المواريث .
وقوله في الرِّواية الأخرى : (( أفعلت هذا بولدك كلهم ؟ )) هذه الرواية بمعنى اللفظ الأول ، فهو نقل بالمعنى . وكان هذا القول من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعد أن ساله ، فقال له : (( ألك ولدٌ غيره ؟ )) كما جاء في الرواية الأخرى ، فلما أجابه عن قوله : (( أفعلت هذا بولدك كلهم ؟ )) بقوله : لا. قال : (( اتقوا الله ، واعدلوا بين أولادكم )) ، وحينئذ قال : (( لا تشهدني ، لا يصلح هذا ، أشهد غيري ، فإني لا أشهد على جَوْر )). وفي الأخرى : (( فإني لا أشهد إلا على حق )) ، وهو بمعنى : (( لا أشهد على جَوْر )). وكان هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما سأله بشير أن يشهد على الهبة ، كما قال : (( إن ابنة رواحة أعجبها أن أشهدك على ما وهبت لابنها )). ثم نبهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على علَّة أمره بالتسوية بينهم بقوله : (( أتحبُّ أن يكونوا لك في البرِّ سواء ؟ )) قال : نعم . قال : (( فلا إذًا )). وإذا تأملت هذا تبيَّنْتَ : ألا اضطراب في الروايات ، وانتظام ما يظهر في بادئ الأمر من الشَّتات . ولما تبيَّن هذا : تعيَّن أن نبحث عمَّا فيه من الأحكام . والله المستعان .
(15/39)
فأول ذلك : أنَّه لا يجوز أن يخصَّ بعض ولده بعطاء ابتداء . وهل ذلك على جهة التحريم ، أو الكراهة ؟ قولان لأهل العلم . وإلى التحريم ذهب طاووس ، ومجاهد ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق . وأن ذلك يُفْسَخُ إن وقع . وذهب الجمهور : مالك في المشهور عنه ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وغيرهم : إلى أن ذلك لا يُفْسَخ إذا وقع . وقد حكى ابن المنذر عن مالك وغيره جواز ذلك ؛ ولو أعطاه ماله كله . وحكى غيره عن مالك : أنَّه إن أعطاه ماله كله ارتجعه . قال سحنون : من أعطى ماله كله ولدًا أو غيره ، ولم يبق له ما يقوم به ؛ لم يجز فِعْله . فمن قال بالتحريم تمسَّك بظاهر النهي . وبقوله : (لا يصلح هذا ، ولا أشهد على جؤر" ، وبقوله : (( اتقوا الله ، واعدلوا بين أولادكم )) ، وبأمره بردّ ذلك . ومن قال بالكراهة ؛ انصرف عن ذلك الظاهر بقوله : (( أشهد على هذا غيري )). قال : ولو كان حرامًا لما قال هذا . وأنه كان يذمُّ من فَعَلَ ذلك ، ومن يشهد فيه ، ويغلِّظ عليه ، كعادته في المعقود المحرَّمة . وبقوله : (( أيسرُّك أن يكونوا لك في البرِّ سواء ؟ )) فإنه نبَّه على مراعاة الأحسن . وبأن أبا بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ نحل عائشة رضي الله عنها جادَّ عشرين وسقًا من ماله بالغابة ، ولم ينحل غيرها من ولده شيئًا من ذلك ، ولأن الأصل جواز تصرُّف الإنسان في ماله مطلقًا . وتأول هؤلاء ما احتجَّ به المتقدِّمون من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يصلح هذا )) ، وأن ذلك ((جَوْر )) على أن ذلك على الكراهة ؛ لأن من عدل عن الأولى والأصلح يصدق عليه مثل ذلك الإطلاق ؛ لأنه مما لا ينبغي أن يُقْدِم عليه . ولذلك لم يشهد فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(15/40)
وأما أمره بالارتجاع ، أن بذلك ؛ لأنه يجوز للأب أن يرجع فيما وهب لولده ، كما تقدَّم ، وهو يدل على صحَّة الهبة المتقدمة ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مُره فليراجعها )) ، وكان ذلك دليلاً على صحة الطلاق الواقع في الحيض . وللطائفة الأولى أن تنفصل عن ذلك بمنع : أن قوله : (( أشهد على هذا غيري )) ليس إذنًا في الشهادة ، وإنَّما هو زجرٌ عنها ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد سمَّاه جورًا ، وامتنع من الشهادة فيه ، فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين في ذلك بوجه .
وعن قوله في قوله : (( أيسرك أن يكونوا في البر سواء ؟ )) : أن ذلك تنبية على الأحسن ، بإن ذلك ممنوع ، بل ذلك تنبية على مدخل المفسدة الناشئة عنه ، وهو العقوق ؛ الذي هو من الكبائر . وعن نُحْلِ أبي بكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن ذلك يحتمل أنَّه كان قد نحل أولاده نحلاً يعادل ذلك ، ولم ينقل . ثم إن ذلك الفعل منه لا يعارض به قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعن التمسك بالأصل : أن ذلك غير قادح ؛ لأن الأصل الكلِّيّ والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل في حكمه لا تعارض بينهما ، كالعموم والخصوص . وقد تقرر في الأصول : أن الصحيح بناء العام على الخاص. وعن التأويل : أن ذلك مجاز ، وهو على خلاف الأصل . وعن الارتجاع : بمنع أن يحمل ذلك على الاعتصار ؛ فإن لفظ الردِّ ظاهر في الفسخ ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ )) ؛ أي : مفسوخ . ويؤيد ذلك قوله : فردَّ أبي تلك الصدقة . والصَّدقة لا يعتصرها الأب بالاتفاق .
وعند هذا الانفصال يتبيَّن للناظر : أن القائل بالتحريم هو الذي صال. وأمَّا القول بالجواز فلم يظهر له وجه فيه يجاز .
تنبيه : مِن أبعد تأريلات ذلك الحديث قول من قال : إن النهي فيه إنَّما يتناول من وهب ماله كلَّه لبعض ولده ، وكأنه لم يسمع في الحديث نفسه : إن الموهوب كان غلامًا فقط ، وإنما وهبه له لمَّا سألته أمُّه بعض الموهبة من ماله . وهذا يعلم منه على القطع : أنه كان له مالٌ غيره .
(15/41)
وفي هذا الحديث ما يدل على الاحتياط في العقود بشهادات الأفضل والأكبر ، وعلى حضِّ الأب على سلوك الطرق المفضية بابنه إلى برِّه ، وتجنب ما يفضي إلى نقيض ذلك .
وفيه دليل : على أن حَوْز الأب لابنه الصغير ما وهبه له جائز ، ولا يحتاج إلى أن يحوزه غيره ؛ فإن النُّعمان كان صغيرًا ، وقد جاء به أبوه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يحمله .
قال عياض : ولا خلاف في هذا بين العلماء فيما يعرف لا بعينه . واختلف المذهب فيما لا يعرف بعينه ، كالمكيل ، والموزون ، وكالدراهم. هل يجزئ تعيينه ، والإشهاد عليه ، والختم عليه في الحوز ، أم لا يجزىء ذلك حق يخرجها من يده إلى يد غيره ؟ وأجاز ذلك أبو حنيفة وإن لم يخرجه من يده . وكذلك اختلف في هبته له جزءًا من ماله مشاعًا .
قلت : وهذا الحكم إنما ينتزعه من هذا الحديث من حمل قوله : ((فارجعه )) على الاعتصار .
واختلف العلماء فيما لم يفبض من الهبات . هل تلزم بالقول ، أم لا حتى تقبض ؛ فذهب الحسن البصري ، وحمَّاد بن أبي سليمان ، وأبو ثور ، وأحمد بن حنبل : إلى أنَّها تلزم بالقول ، ولا تحتاج إلى حوزٍ ، كالبيع . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تلزم بالقول ، بل بالحوز. وذهب مالك : إلى أنها تلزم بالقول ، وتتم بالحوز . وقد تقدذَم ذلك . والعلماء مُجْمِعُون على لزومها بالقبض . وهبة المشاع جائزة عند الجمهور . ومنعها أبو حنيفة .
ومن باب المنحة مردودة
(15/42)
ظاهر قول أنس : فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف أموالهم كل عام ، ويكفونهم المؤونة يقتضي : أن الأنصار ساقَوْا المهاجرين . فيكون فيه حجَّة على من أنكر المساقاة . وهو أبو حنيفة . غير أن هذا لم يكن من جميع الأنصار ، بل كان منهم من فعل هذا ، ومنهم من أعطى الثَّمرة من غير عمل ، كما فعلت أم سليم مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكما قال أنس في الرواية الأخرى : إن الرَّجل كان يعطي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ النخلات من أرضه ، وكان هذا من المهاجرين تنزها عن الأخذ العَرِيِّ عن المعاوضة على مقتضى كرم أخلاقهم ، ولم تفعل(2) الأنصار ذلك إلا عند امتناع المهاجرين من القبول . وذلك : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما(3) آخى بين المهاجرين والأنصار ؛ كان الأنصاري يقول للمهاجري : إن عندي من المال كذا ، فتعال أشاطرك عليه ، وكان منهم من يقول : إن عندي زوجتين ؛ أنزل لك عن أحسنهما ، فيقول المهاجري : بارك الله لك في أهلك ومالك ، دُلَّني على السوق. وإنَّما أعطى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمِّم أيمن ما كان يملكه من ثمر ذلك العَذْق ، وظنت أمُّ أيمن : أنَّه إنما أعطاها الأصل ، فلذلك امتنعت من ردِّه بناء منها على أنه كان يملكه ، فكان منها ما يأتي بعد .
وهذا الحديث كله يدلُّ على جواز هبة المجهول ؛ فإن الثمرة مجهولة . ولا وجه لمنع ذلك ؛ إذ لا يؤدي إلى فساد في عوض ، ولا إلى غرر في عقد ؛ لأن هذه الهبة إن قصد بها الأجر ؛ فهو حاصل بحسب نيَّه الواهب ، وصل الموهوب لتلك الهبة أو لا . وإن أراد المحبَّة والتودد ؛ فإن حصلت الهبة للموهوب حصل ذلك المقصود ، وإلا فقد علم الموهوبُ له اعتناءَ الواهب به ، وإرادة إيصال الخير له .
(15/43)
وفعل أم أيمن بأنس ما فعلت بحضرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وامتناعها من ردِّ ما أمرها بردِّه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . إنما صدر عنها كل ذلك ، لما كان لها على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الدلال والانبساط بحكم أنها كامه من جهة الحضانة ، والتربية ، والكفالة . ومسامحة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها في ذلك على جهة الإكرام لها(2) ، والقيام بحقها . ومع ذلك : فلم يزل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسوسها ، ويتلطف بها إلى أن أخذ منها ما ليس لها ، وأعطاها ما كان لها ، مُسْتَرْضِيًا لها ، ومطيِّبًا قلبها ، على كرم خلقه ، وحُسن محاولته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وفيه دليلٌ على أن ما وُهِبَت منفعته ، فإذا انقضت وَجَب ردُّ الأصل. ولا خلاف فيه .
ومن باب العمرى
قوله : (( أيُّما رجل أعمر عُمْرى له ولعقبه )) ؛ العمرى في اللغة : هي أن يقول الرَّجل للرَّجل : هذه الدار لك عمري أو عمرك . وأصلها من العمر ؛ قاله أبو عبيد . وقال غيره : أعمرته الدَّار جعلتها له عمره . وقال الحربي : سمعت ابن الأعرابي يقول : لم يختلف العرب أن هذه الأشياء على ملك أربابها : العمرى ، والرُّقبى ، والسُّكنى ، والإطراق ، والمنحة ، وا لعريه ، والعارية ، والأفقار . ومنافعها لمن جعلت له .
قلت : وعلى هذا : فالعُمْرى الواردة في الحديث حقها أن تحمل على هذا . فتكون : تمليك منافع الرَّقبة مدة عمر من قُيِّدت بعمره ، فإن لم يذكر عقبًا ؛ فمات الْمُعْمَرُ رجعت إلى الذي أعطاها ولورثته . فإن قال : هي لك ولعقبك ؛ لم ترجع إلى الذي أعطاها إلا أن ينقرض العَقِبُ .
وعلى هذا : فيكون الإعمار بمعنى الإسكان ؛ إذا قيّد بالعمر ، غير أن الأحاديث التي جاءت في هذا الباب تقتضي بحكم ظاهرها أنَّها تمليك الرَّقبة على ما هي مسرودة في الأصل ، فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال :
(15/44)
أحدها : ما تقدَّم ، وهي أنها تمليك منافع الرَّقبة . وهو قول القاسم بن محمد ، ويزيد بن قُسَيط ، واللَّيث بن سعد ، وهو مشهور مذهب مالك ، وأحد أقوال الشافعي . وقال مالك : وللمُعْمِر أن يُكريها ولا يُبْعِد ، وله أن يبيعها من الذي أعطاها ، لا من غيره .
وثانيها : أنها تمليك الرَّقبة ومنافعها ، وهي هبة مبتولة . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، والثوري ، والحسن بن حيّ ، وأحمد بن حنبل ، وابن شبرمة ، وأبي عبيد ؛ قالوا : من أعمر رجلاً شيئًا حياته فهو له حياته ، وبعد وفاته لورثته ؛ لأنه قد ملك رقبتها . وشرط المعطي الحياة أو العمر باطل ؛ لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أبطل شرطه ، وجعلها بتلةً . وسواء قال : هي لك حياتك ، أو : هي لك ولعقبك بعدك .
وثالثها : إن قال : عمرك ؛ ولم يذكر العقب كان كالقول الأول. وإن قال : لك ولعقبك ؛ كان كالقول الثاني . وبه قال الزهري ، وأبو ثور ، وأبو سلمة بن عبدالرحمن ، وابن أبي ذنب ، وقد روي عن مالك . وهو ظاهر قوله في "موطأ" بحيى بن يحيى .
فأهل القول الأول تمسَّكوا بأصل اللغة ، وعضدوا ذلك بما رواه ابن القاسم عن مالك قال : رأيت محمدًا وعبدالله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعبدالله يعاتب محمدًا - وهو يومئذ قاض - فيقول له : ما لك لا تقضي بحديث ابن شهاب في العُمْرى ؟ فقال : يا أخي ! لم أجد النَّاس عليه ، وأباه الناس . قال مالك : ليس عليه العمل ، ولوددت : أنه مُحِي . وعضدوه أيضًا بأن قالوا : الأصل بقاء ملك المعطي للرَّقبة بإجماع ، ولم يرد قاطع بإخراجه عن يده قبل الإعمار ، وتأولوا جميع تلك الظواهر الواردة في الباب .
(15/45)
وأما أهل القول الثاني : فظواهر الأحاديث معهم ، غير أنَّهم لا يُسلَّم لهم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبطل شرط العمر ؛ لأنَّه لو أبطله لبطلت العمرى بالكليَّة ، ولامتنع إطلاق ذلك الاسم عليها ، ولم تبطل ؛ لأن الأصل في شروط المسلمين صحتها وبقاؤها بدليل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المسلمون على شروطهم )) ؛ ذكره أبو داود وغيره عن أبي هريرة . فإن قيل : هذا من الشروط التي قد أبطلها الشرع بقوله : (( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )) ؛ قلنا : لا نسلّم : أنَّه ليس في كتاب الله ؛ لأن كتاب الله هنا يراد به : حكم الله ؛ بدليل السبب الذي خرج عليه الحديث المتقدَّم. وقد تقدَّم في العتق . ثم يلزم على هذا إبطال المنحة ، والإفقار ، والعارية ، فإنَّها كلها عطايا بشروط ، وليست كذلك باتفاق. فإن قيل : فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه ابن أبي ذئب في "موطئه" من حديث جابر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنَّه قضى فيمن أعمر عُمْرى له ولعقبه : فهي بتلةٌ لا يجوز للمعطي فيها شرط ، ولا مثوبة . وهذا صريح في إبطال الشرط . فالجواب : إنا لا نسلم : أن هذا الشرط المنهي عنه هو نفس الإعمار في قوله : هي لك عمرك ؛ لأنه لو كان كذلك لبطلت حقيقة العمرى ، كما قلناه ، ولأنه لو بطل ذلك لبطل قول المعطي : هي لك سنة من عمرك ، ولم يبطل بالاتفاق ، فلا تبطل . والجامع بين الصورتين : أن كل واحد منهما إعطاء ذكر فيه العمر . وقد قال القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم . ومما يتمسكون به قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث )) ، فقد صيَّرها ملكًا ؛ لأنه لا يورث عن الإنسان إلا ما كان يملك. ويجابون عن ذلك : بأن اللفظ ليس من كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإنما هو من قول أبى سلمة بن عبدالرحمن ؛ كما قد رواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب ، عن أى سلمة ، وذكر الحديث المتقدِّم ، فلما فرغ قال : قال أبو سلمة : (( لأنه أعطى عطاة وقعت فيه المواريث )). ولئن سلم ذلك ؛ فإنما جاء ذلك من(15/46)
حيث ذكر العقب ، فيكون فيه حُجَّة لأهل القول الثالث ، لا للثاني . وأما أهل القول الثالث ، فكأنهم أعملوا الاسم فيما لم يذكر فيه العقب ، وتركوا مقتضاه ، حيث منع منه الشرع . وكأنهم جمعوا بين الاسم والأحاديث التي في الباب . وقد شهد لصحة هذا رواية من قال عن جابر : إنَّما العُمْرى التي أجاز رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقول : هي لك ولعقبك . فأمَّا إذا قال : هي لك ما عشت : فإنها ترجع إلى صاحبها. قال : وبه كان الزهري يُفتي . ثم ما ورد من الروايات مطلقًا فإنه مقثد بهذا الحديث . غير أن كلام الني ـ صلى الله عليه وسلم ـ انتهى عند قوله : ((هي لك ولعقبك )) ، وما بعده من كلام الزهري ، على ما قاله محمد بن يحيى الذهلي . وهو مما انفرد به عن الزهري . وخالفه في ذلك سائر من رواه عن الزهري من الأئمة الحفاظ ، كالليث ، ومالك ، وابن أخي الزهري ، وابن أبي ذئب . ولم يذكروا ذلك. .
قلت : والذي يظهر لي ، وأستخير الله في ذكره : أنَّ حديث جابر في العُمْرى رواه عنه جماعة ، واختلفت ألفاظهم اختلافًا كثيرًا ، ثم رواه عن كل واحد من تلك الجماعة قوم آخرون . واختلفوا كذلك . ثم كذلك القول في الطبقة الثالثة . وخلط فيه بعضهم بكلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما ليس منه ، فاضطرب ، فضعفت الثقة به ، مع ما ينضاف إلى ذلك من مخالفته للأصل المعلوم المعمول به : من أن الناس على شروطهم في أموالهم ، كما قال القاسم بن محمد ، وكما دلَّ عليه الحديث المتقدم في الشروط . وينضاف إلى ذلك : أن الناس تركوا العمل به ؛ كما قال محمد بن أيي بكبر . فتعيَّن تركه ، كما قاله مالك : ليته مُحِي . ووجب التمسك بأصل وضع العُمْرى ، كما تقدَّم ، وبالأصل المعلوم من الشريعة : من أن الناس على ما شرطوه في أعطياتهم . وهُو القول الأول ، وليس على غيره معوَّل . وإذا تقرر ذلك فلنبيِّن وجه ردِّ تلك الروايات إلى ما قررناه .
(15/47)
فأمَّا قوله : (( وإنها لا ترجع إلى صاحبها ، من أجل : أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث )). فيعني به : أنه لما جعلها للعقب ؛ فالغالب أن العقب لا ينقطع ، فلا تعود لصاحبها لذلك .
وأمَّا قوله : (( وقعت فيه المواريث )) ، فإن سلَّمنا أنه من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمعناه - والله أعلم - : أنَّها لما كانت تنتقل للعقب بحكم تلقيهم عن مورِّثهم ، ويشتركون في الانتفاع بها أشبهت المواريث ، فأطلق عليها ذلك .
وأمَّا قوله : (( أمسكوا عليكم أموالكم ، ولا تفسدوها )) ؛ فإنه من باب الإرشاد إلى الأصلح ؛ لأن الإعمار يمنع المالكَ من التصرف فيما يملكُ رقبته آمادًا طويلة ، لا سيما إذا قال : هي لك ولعقبك ؛ فإن الغالب : أنها لا ترجع إليه ، كما قررناه . ولا يصح حمل هذا النهي على التحريم ؛ لأنَّه قد قال في الرِّواية الأخرى : (( العمرى جائزة لمن وهبت له )) ؛ أي : عطيَّة جائزة ، ولأنها من أبواب البر ، والمعروف ، والرفق . فلا يمنع منه . وقول ابن عباس : لا تحِلُّ العُمْرى ولا الرُّقْبى ؛ محمول على ذلك ، فإنه قال إثر ذلك : فمن أعمر شيئًا فهو له ، ومن أرقب شيئًا فهو له . فقد جعلهما طريقين للتملك. فلو كان عقدهما حرامًا كسائر العقود المحرَّمة لأمر بفسخهما.
وأمَّا قوله : (( فهي للذى أعمرها حيًّا وميتًا )) ؛ فيعني بذلك : إذا قال : هي لك ولعقبك ؛ فإنَّه ينتفع بها في حياته ، ثم ينتقل نفعها إلى عقبه بعد موته . وهذه الرراية وإن وقعت هنا مطلقة ؛ فهي مقيدة بالروايات الأخر التي ذكر فيها العقب ، لا سيما والرَّاوي واحد ، والقضية واحدة . فيحمل المطلق فيها على المقيَّد قولاً واحدًا ، كما قررناه في الأصول .
وقوله : إنما العمرى التي أجاز رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن يقول : هي لك ولعقبك ؛ أي : أمض جوازها وألزمه دائمًا على ما ذكرناه .
(15/48)
وقوله : (( وأمَّا إذا قال : فهي لك ما عشت )) ؛ فإنها ترجع إلى صاحبها ، فإن كان من قول الرَّاوي فهو نصٌّ ، فيما اخترناه . وإن كان من قول الرَّاوي ؛ فهو أقعد بالحال ، وأعلم بالمقال .
تنبيه : القائلون : بأن العمرى تمليك الرقبة ؛ فرَّقوا بينها وبين السُّكنى . فلو قال : أسكنتك حياتك . فإذا مات رجعت إلى صاحبها. إلا الشَّعبي : فإنه سوَّى بينهما ، وقال في السَّكن : لا ترجع إلى صاحبها بوجه . وهو شاذٌّ لا يعضده نظر ، ولا خبر . فإن العمرى عند القائلين : بأنها تمليك الرَّقبة ، خارجة في القياس . وإنما صاروا إليه من جهة ظواهر الأخبار ، فلا تقاس السُّكنى عليها ؛ لأن الخارج عن القياس لا يُقَاس عليه كما قررناه في الأصول . ولا خبر فيه ، فلا يصار إليه . والله أعلم .
ومن باب الْحُبْس
قول عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( يا رسول الله ! إنِّي أصبت أرضًا بخيبر لم أُصِبُ مالاً قطُّ هو أنفسُ منه )) ؛ يعني : أنَّه صارت له هذه الأرض بالقسمة . فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قسم أرض خيبر التي افتتحث عُنوة كما قررناه في الجهاد . والمال النفيس : المغتبط به لجودته . ويُسَمَّى هذا المال : ثَمْغ . ولما كان هذا المال أطيب أموال عمر ، وأحبَّها إليه أراد أن يتصدَّق به لينالَ البرَّ الذي ذكر الله تعالى في قوله : { لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تُحِبُّون } ، وهذا كما قال الأنصاري صاحبُ بيرحاء ، فأرشده رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الأصلح في الصَّدقة وهو التحبيس ؛ من حيث أن صدقته جارية ، وأجره دائم في الحياة ، وبعد الموت . كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )) .
(15/49)
وقوله : (( فما تأمر به ؟ )) استشارة من عمر مع حُسن أدب ، ولذلك أجابه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( إن شئت جعلت أصلها ، وتصدَّقت بها )) ؛ أي : بثمرها ، كما قد قال في الرِّواية الأخرى ، وليس هذا أمرًا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له ، ولا حُكمًا عليه بالتحبيس. وإنما هي إشارة إلى الأصلح ، والأولى . ففيه دليلٌ على جواز الاستشارة في الأمور ؛ وإن كانت من نوع القرب . وعلى أن المستشار يجب عليه أن يشير بأحسن ما يظهر له ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره ؛ فقد خانه )) ، وقال : (( المستشار مؤتمن )). ولما فهم عمر ـ رضى الله عنه ـ أنَّه أشار عليه بالأصلح بادر إلى ذلك ، فتصدَّق به على جهة تقتضي تحبيس الأصل ، والتصدُّق بالثمرة ، فكان ذلك دليلاً لجمهور العلماء على جواز الْحُبْس ، وصحته على من شذَّ ومنعه . وهذا خلاف لا يُلتفت إليه . فإن قائله خرق إجماع المسلمين في المساجد ، والسقايات ؛ إذ لا خلاف في ذلك . وهو أيضًا حجة للجمهور على قولهم : إن الْحُبْس لازم ، وإن لم يقترن به حكم حاكم. وخالف في ذلك أبو حنيفة ، وزفر ، فقالا : لا يلزم ، وهو عطيَّة ، يرجع فيها صاحبها ، وتورث عنه إلا أن يحكم به حاكم ، أو يكون مسجدًا ، أو سقاية ، أو يوصي به ، فيكون في ثلثه .
ووجه الحجَّة عليه من هذا الحديث : أن عمر ـ رضى الله عنه ـ لما فهم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إشارته بالتحبيس بادر إلى ذلك بحضرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : إنه لا يباع ، ولا يوهب ، ولا يورث. ثم إنه أمضى ذلك من غير أن يحكم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ لم يصدر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر من الإشارة.
وأيضًا : فإن الصحابة قد أجمعت على ذلك من غير خلاف بينهم فيه. فقد حبس الأئمة الأربعة ـ رضى الله عنهم ـ ، وطلحة ، وزيد بن ثابت ، والزبير ، وابن عمر ، وخالد بن الوليد ، وأبو رافع ، وعائشة ، وغيرهم . واستمرت أحباسهم معمولاً بها على وجه الدَّهر ، من غير أن يقف شيء من ذلك على حكم حاكم . ولم يُحْكَ أن شيئًا من تلك الأحباس رجعت إل المحبِّس ، ولا إلى ورثته.
(15/50)
ومن جهة المعنى : فإنَّها عطية على جهة القربة ، فتلزم ؛ كالهبة للمساكين ، ولذي الرَّحم ، وكالصَّدقة. ولأنه قد أُجمع على تحبيس المساجد من غير حكم . ولا فرق بين تحبيسها وتحبيس العقار لا سيما على الفقراء والمساكين . فإذا ثبت هذا : فالْحُبْس لازم في كل شيء تمكن العطية فيه .
واختلف عن مالك في تحبيس الحيوان ؛ كالإبل ، والخيل ، على قولين : المنع ؛ وبه قال أبوحنيفة ، وأبو يوسف .
والصحة : وبه قال الشافعي ، وهو الصحيح ؛ لأنه عطية على وجه القربة ، يتكرر أجرها ، كالعقار ، وغيره ، ولأن المسلمين على شروطهم ، وقد شرط صاحب الفرس في صدقته : أنه لا يباع ، ولا يوهب ، ولا يورث . فَيْنْفُذُ شرطه . وقد تقدم القول على هذا المعنى في باب العُمْرى . فإذا فهمت هذا ؛ فاعلم : أن الألفاظ الواقعة في هذا الباب إما أن يقترن معها ما يدل على التأبيد أو لا .
فالأوَّل : نحو قوله : لا يباع ، ولا يوهب ، ولا يورَّث ، أو : أبدًا ، أو : دائمًا ، أو : على مجهولين ، أو : على العقب . فهذا النَّوع لا يبالي بأيِّ لفظ نُسِق معه ؛ لأنه يفيد ذلك المعنى ؛ كقوله : وقف ، أو : حبس ، أو : صدقة ، أو : عطية .
فأما الثاني : وهو إذا تجزد عئا يدذ على ذلك ، فلفظ الوقف صريح الباب ، فيقتضي التأبيد ، والتحريم . ولم يختلف المذهب في ذلك . وفي الْحُبْس روايتان : إحداهما : أنه كالوقف . والثانية : أنه يرجع إلى المحبِّس بعد موت المحبَّس عليه . والظاهر الأول ؛ لأنه يستعمل في ذلك شرعًا وعرفًا . وأما الصدقةُ : فالظاهر منها أنها تمليك الرَّقبة . وفي رواية : أنها كالوقف . وفيها بُعْدٌ إلا عند القرينة . واختلف فيما لو جمع بينهما فقال : حُبْسُ صدقةٍ . والظاهر : أن حكمه حكم الْحُبْس. وصدقة : تأكيد .
(15/51)
وقوله : (( فتصدَّق بها عمر في الفقراء ، وفي القربى ، وفي الرِّقاب ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، والضيف )) ؛ قد تقدَّم القول في الفقير في كتاب الزكاة ، وكذلك : في الرِّقاب ، وفي سبيل الله ، وفي ابن السبيل. وأما القربى : فظاهره أنه أراد به قرابته . ويحتمل أن يريد به : قرابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المذكورين في الخمس والفىء . وفيه بُعْد ؛ لأنه قد أطلق على ذلك الحبس صدقة ، وهم قد حرموا الصدقة ، إلا إن تنزَّلنا : على أن الذي حرموه هي الصدقة الواجبة فقط . والرَّافع لهذا الاحتمال الوقوف على ما صنع في صدقة عمر . فينبغي أن يبحث عن ذلك . والأولى حمله على قرابة عمر الخاصة به . والله أعلم .
(15/52)
وقوله : (( لا جناح على من وليها أن ياكل منها بالمعروف )) ؛ هذا رفج للحرج عن الوالي عليها ، والعامل في تلك الصَّدقة في الأكل منها ، على ما جرت عادة العمَّال في الحيطان من أكلهم من ثمرها حالة عملهم فيها . فإن المنع من ذلك نادر ، وامتناع العامل من ذلك أندر ، حتى أنه لو اشترط رب الحائط على العامل فيه ألا يأكل لاستُقْبِح ذلك عادة وشرعًا . وعلى ذلك : فيكون المراد بالمعروف : القدر الذي يدفع الحاجة ، ويردُّ الشَّهوة ، غير أكل بسرفٍ ، ولا نَهْمةٍ ، ولا متخذًا خيانة ولا خُبْنَة. رتيل : مراد عمر بذلك : أن يأكل العامل منها بقدر عمله . وفيه بُعْدٌ ؛ لأنه لا يصح ذلك حتى يُتأوَّل (( يأكل )) بمعنى : (( يأخذ )) ؛ لأن العامل إنَّما يأخذ أجرته ، فيتصرَّف فيها بما شاء من بيع ، أو أكل ، أو غير ذلك . و(( أكل )) بمعنى : (( أخذ )) على خلاف الأصل ، ولأن مساق اللفظ لا يشعر بقصد إلى أن تلك الإباحة إنما هي حسب العمل وبقدره. فتأمله ، لا سيما وقد أردف عليه : ويطعم صديقًا غير متأثلٍ مالاً ؛ يعني به : صديقًا للوالي عليها ، وللعامل فيها . ويحتمل : صديقًا للمحيِّس. وفيه بُعْدٌ . والمتأثل للشيء هو : المتَّخِذُ لأصله ، حتى كأنَّه قديم عنده . ومنه قول الشاعر :
ولكنَّما أَسْعى لِمَجْدٍ مُؤثَّلٍ وقد يُدْرِكُ الْمَجْد المؤَثَّلَ أَمْثَالي
أي : المجد القديم المؤصَّل . وأثلةُ الشيء : أصله . وفيه ما يدلُّ على أنه يجوز الحبس على الأغنياء .
كتاب النذور والأيمان
النُّذور : جمع نَذْر ، كفَلْسٍ ، وفلوس . وهو عبارة عن التزام فعل الطَّاعة بصيغ مخصوصة ؛ كقوله : للهِ عليَّ صومٌ ، أو صلاةٌ ، أو صدقة.
(15/53)
والأيمان : جمع يمين ، وهو في أصل اللغة : الْحَلْفُ بمعظَّم - في نفسه ، أو عند الحالف - على أمر من الأمور ؛ من فعل ، أو ترك ، بصيغ مخصوصة ؛ كقوله : والله لأفعلن ، وبحياتك لأتركن . وأمَّا تسمية التزام العتق ، والطلاق ، والصَّدقة المعلقات على أمر مستقبل أيمانًا ؛ فليست كذلك ، ولا ورد في كلام الشارع تسميتها أيمانًا ، لكن الفقهاء سَمُّوا ذلك أيمانًا ، فيقولون : كتاب الأيمان بالطلاق . ومن حلف بطلاق زوجته ، أو بعتق أمته فقال : إن شاء الله ؛ لم ينفعه الاستثناء . وهم يريدون : إن دخلتِ الدَّار فأنتِ طالق إن شاء الله . وتسمية هذه أيمانًا وَضْعٌ من جهتهم . والأحق بهذا النَّوع أن يُسمَّى التزامًا ؛ لأنه شرط ومشروط ، وليس من نوع ما تسمِّيه العرب يمينًا .
ومن باب الوفاء بالنَّذر
قوله : استفتى سعدٌ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نذرٍ كان على أمِّه توفيت قبل أن تقضيه )) ؛ فيه من الفقه : استفتاء الأعلم ما أمكن . وقد اختلف أهل الأصول في ذلك . هل يجب على العامِّيّ أن يبحث عن الأعلم ، أو يكتفي بسؤال عالم - أي عالم كان - على قولين . وقد أوضحناهما في الأصول ، وبيَّنا : أنه يجب عليه أن يبحث عن الأعلم ؛ لأن الأعلم أرجح ، والعمل بالرَّاجح واجب .
وقد اختلف في هذا النذر الذي كان على أم سعد ؛ فقيل : إنه كان نذرًا مطلقًا . وقيل : صومًا . وقيل : عتقًا. وقيل : صدقةً . والكل محتمل ، ولا مُعيِّن ، فهو مُجْمَل . ولا خلاف : أن حقوق الأموال من العتق ، والصَّدقة تصحّ فيها النيابة ، وتصحّ توفيتها عن الْمَيِّت والحيِّ . وإنَّما اختلف في الحجِّ والصوم كما تقدم ذلك فى كتابيهما .
(15/54)
وقوله : (( فاقضه عنها أمرٌ بالقضاء على جهة الفتوى فيما سئل عنه ، فلا مالم يحمل على الوجوب ، بل على جهة بيان : أنه إن فعل ذلك صحَّ ، بل نقول : لو ورد ذلك ابتداءً وافتتاحًا لما حمل على الوجوب ، إلا أن يكون ذلك النذر ماليًّا ، وتركت مالاً ، فيجب على الوارث إخراج ذلك من رأس المال ، أو من الثلث ، كما قد ذكرنا في الوصايا . وإن كان حقًّا بدنيًا : فمن يقول بأن الوليَّ يقضيه عن الميت ؛ لم يقل : إن ذلك يجب على الوليِّ ، بل ذلك على النَّدب إن طاعت بذلك نفسُه . ومن تخيَّل شيئًا من ذلك فهو محجوج بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه لمن شاء )) ؛ وهو نصٌّ في الغرض .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تنذروا ! فإن النَّذر لا يردّ من قدر الله شيئًا هذا النذر محله أن يقول : إن شفى الله مريضي ، أو قدم غائبي فعليَّ عتق رقبة ، أو صدقة كذا ، أو صوم كذا . ووجه هذا النهي هو : أنه لما وقف فعل هذه القربة على حصول غرض عاجل ظهر : أنه لم يتمحض له نيَّة التقرب إلى الله تعالى بما صدر منه ، بل سلك فيها مسلك المعاوضة . ألا ترى : أنَّه لو لم يحصل غرضه لم يفعل ؟! وهذه حال البخيل ؛ فإنَّه لا يخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يربي على ما أخرج . وهذا المعنى هو الذي أشار إليه بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وإنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه )) ، ثم ينضاف إلى هذا اعتقاد جاهل يظن : أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض ، أو : أن الله تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر . وإليهما الإشارة بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فإن النَّذر لا يردُّ من قدر الله شيئًا )). وهاتان جهالتان . فالأولى تُقارب الكفر . والثانية خطأ صراح . وإذا تقرر هذا ، فهل هذا النهي محمول على التحريم ، أو على الكراهة ؛ المعروف من مذاهب العلماء الكراهة .
(15/55)
قلت : والذي يظهر لي : حمله على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد. فيكون إقدامه على ذلك محرما . والكراهة في حق من لم يعتقذ ذلك . والله أعلم .
وإذا وقع هذا النذر على هذه الصفة لزمه الوفاء به قطعًا من غير خلاف . ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه )) ولم يفرق بين النذر المعلَّق ولا غيره . ومما يلحق بهذا النَّهي في الكراهة : النذر على وجه التبرُّم والتَّحرُّج . فالأول : كمن يستثقل عبدًا لقلَّة منفعته ، وكثرة مؤنته ، فينذر عتقه تخلُّصًا منه ، وإبعادًا له . وإنما يكره ذلك لعدم تمحُّض نية القربة . والثاني : أن يقصد التضييق على نفسه ، والحمل عليها ؛ بأن ينذر كثيرًا من الصوم ، أو من الصلاة ، أو غيرهما مما يؤدي إلى الحرج والمشقة مع القدرة عليه . فأمَّا لو التزم بالنذر ما لا يطيقه لكان ذلك محرَّمًا. فأمَّا النذر الخارج عمَّا تقدَّم : فما كان منه غير معلَّق على شيء ، وكان طاعة ؛ جاز الإقدام عليه ، ولزم الوفاء به . وأمَّا ما كان منه على وجه الشكر : فهو مندوب إليه ؛ كمن شُفي مريضه فقال : للهِ عليَّ أن أصوم كذا ، أو أتصدق بكذا شكرًا لله تعالى .
(15/56)
وقد روي عن مالك كراهة النذر مطلقًا . فيمكن حمله على الأنواع التي بينَّا كراهتها . ويمكن حمله على جميع أنواعه ؛ لكن من حيث : إنَّه أوجب على نفسه ما يخاف عليه التفريط فيه ، فيتعرض للوم الشَّرع وعقوبته . كما قد كره الدُّخول في الاعتكاف . وعلى هذا فتكون هذه الكراهة من باب تسمية ترك الأولى مكروها . ووجه هذا واضح . وهو : أن فعل القرب من غير التزامها خير محض ، عَرِيّ عن خوف العقاب ، بخلاف الملتزم لها ؛ فإنَّه يخاف ذلك فيها . وقد شهد لهذا ذمُّ من قصَّر فيما التزم في قوله تعالى : { فما رعوها حق رعايتها" }. ولا إشكال في أن النذر من جملة العقود والعهود المأمور بالوفاء بها ، وأن الوفاء بذلك من أعظم القرب المثنى عليها . وكفى بذلك مدْحًا وتعزيزًا قوله تعالى : { يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شرُهُ مًستطيرًا }.
ومن باب لا وفاء لنذرٍ في معصية الله ، ولا فيما لا يملك العبد
الحلفاء : جمع حليف ، كظرفاء : جمع ظريف . والحليف : اسم فاعل من حلف ، عدل عن حالف للمبالغة . وقد كثر حتى صار كالأسماء. والمحالفة ، والتحالف : التعاهد والتعاقد على التناصر والتعاضد . والأسر : الأخذ . وأصله : الشَّدُّ والرَّبط ؛ قاله القتبي . والعضباء : اسم للناقة . وهي التي صارت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إما بحكم سهمه الخاص به من المغنم المسمَّى بـ (( الصفيِّ )) ، وإمَّا بالمعاوضة الصحيحة . وهي المسمَّاة بالجدعاء ، والقصواء ، والخرماء في روايات أخر . وقد ذكرنا الخلاف فيها فيما تقدَّم. والعضب ، والقصو ، والجدع ، والخرم ، كلها بمعنى القطع . وسميت هذه الناقة بتلك الأسماء ؛ لأنها كان في أذنها قطع ، وسميت به ، فصدقت عليها تلك الأسماء كلها . وعلى هذا : فأصول هذه الأسماء تكون صفات لها ، ثم كثرت فاستعملت استعمال الأسماء .
(15/57)
وقول الرجل المأسور : (( يا محمد ! أخذتني ، وأخذتَ سابقةَ الحاجِّ ؟ )) هو استفهام عن السبب الذي أوجب أخذه وأخذ ناقته . وكأنَّه كان يعتقد : أن له ولقبيلته عهدًا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فأجابَه النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذكر السبب إعظامًا لحق الوفاء ، وإبعادًا لنسبة الغدر إليه . فقال : (( أخذتُك بجريرة حلفائِك ثقيفٍ )) ؛ أي : بما فعلته ثقيفٌ من الجناية التي نقضوا بها ما كانَ بينَهم وبينَ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العهد . وكانت بنو عقيل دخلوا معهم في ذلك . فإمَّا بحكم الشرط ، وفيه بُعْد ، والظاهر أنَّهم دخلوا معهم بحكم الحِلْف الذي كان بينَهم . ولذلك ذكر حلفهم في الحديث . ولما سمع الرَّجلُ ذلك لم يجدْ جواباً ، فسكتَ. وعنى بسابقة الحاجِّ : ناقته العضباء. فإنها كانت لا تُسبق . وقد كانت معروفة بذلك ، حتى جاء أعرابيٌّ بقَعودٍ له فسبقَها ؛ فعظمَ ذلك على أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقالوا : سُبقت العضباء . فقال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن حقًّا على اللهِ ألا يُرفعَ شيء من الدُّنيا إلا وضعه )).
وقوله : (( ثم انصرف ، فنادَاه : يا محمَّدُ ! يا محمَّدُ ! )) هذا النِّداء من الرَّجل على جهة الاستلطاف ، والاستعطاف ، ولذلك رقَّ له رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرجعَ له وقال له : (( ما شأنك ؟ ))- رحمةً ورفقًا - على مقتضى خلقه الكريم ، ولذلك قال الرَّاوي : (( وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحيمًا رفيقًا )).
وقوله : (( إني مسلمٌ )) ؛ ظاهر هذا اللفظ : أنَّه قد صار مسلمًا بدخوله في دين الإسلام .
وظاهر قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لم يقبل ذلك منه ؛ لما أجابه بقوله : (( لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح )) ، وحينئذ يلزم منه إشكال عظيم ؛ فإن ظاهره : أنه لم يقبل إسلامه لأنه أسيرٌ مغلوبٌ عليه ، لا يملك نفسه . وعلى هذا : فلا يصح إسلام الأسير في حال كونه أسيرًا ، وصحة إسلامه معلوم من الشريعة ، ولا يختلف فيه ، غير أن إسلامه لا يزيل ملك مالكه بوجه . وهو أيضًا معلوم من الشرع.
(15/58)
ولما ظهر هذا الاشكال اختلفوا في الانفصال عنه . فقال بعض العلماء : يمكن أن يكون علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حاله : أنه لم يصدق في ذلك بالوحي. ولذلك لما سأله في المرَّة الثانثة فقال : (( إني جائع فأطعمني ، وظمآن فاسقني )) ؛ فقال : (( هذه حاجتك )). وقال بعضهم : بل إسلامه صحيح ، وليس فيه ما يدل على أنه ردَّ إسلامه . فأمَّا قوله : (( لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح )) ؛ أي : لو قلت كلمة الإسلام قبل أن تؤسر لبقيت حرًّا من أحرار المسلمين ، لك ما لهم من الحرية في الدُّنيا ، وثواب الجنة في الآخرة . وأمَّا إذا قلتها وأنت أسير : فإن حكم الرق لا يزول عنك بإسلامك . فإن قيل : فلو كان مسلمًا فكيف يفادى به من الكفار رجلان مسلمان ؟! فالجواب : أنَّه ليس في الحديث نصٌّ على أنه رجع إلى بلاده بلاد الكفر . فيمكن أن يُقال : إنما فدي بالرَّجلين من الرِّق فاعتق منه بسبب ذلك ، وبقي مع المسلمين حرًّا من الأحرار . وليس في قوله : (( هذه حاجتك )) ما يدلُّ على أن إسلامه ليس بصحيح ، كما ظنه القائل الأول . فإنما معنى ذلك : هذه حاجتك حاضر : مُتيسِّرة .
قلت : وهذا الوجه الثاني أولى ؛ لأنه لا نص في الحديث يردَّه ، ولا قاعدة شرعية تبطله . والله أعلم .
وقوله : (( وكان القوم يريحون نعمهم بين أيدي بيوتهم )) ؛ النعم هنا : الإبل ، وإراحتها : إناختها لتستريح من تعب السَّير ومشقة السفر .
و (( بين أيدي بيوتهم )) بمعنى : عند بيوتهم ويحضرتها .
(15/59)
وقوله : (( وناقة مُنوَّقةٌ )) ؛ أي : مذللة ، مدرَّبة ، لا نقرة عندها . وهي المجرَّبة أيضًا . هذا قول العلماء ، ويظهر لي : أن كونها مدرَّبة ليس موجبًا لئلا ترغو ؛ لأنا قد شاهدنا من الأباعر والنُّوق ما لم يزل مدرَّبًا على العمل ومع ذلك فيرغو عند ركوبه ، وعند الحمل عليه ، وكان هذه الناقة إنما كانت كذلك إما لأنها دربت على ترك الرُّغاء من صغرها ، وإما لأئها كان لها هوًى في السَّير والجري لنشاطها ، فكلما حركت بادرت لما في هواها ، وإما لأنها خصَّت في أصل خلقتها بزيادة هدوء ، أو كان غير ذلك ببركة ركوب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها .
وقوله : (( فقعدت في عجزها )) ؛ أي : ركبتها . والعجز : المؤخر . وقوله : (( نذروا بها )) ؛ أي : علموا بها. وهو بكسر الذال المعجمة في الماضي ، وفتحها في المستقبل (( نذارة )) في المصدر . ونذر ، ينذر - بفتحها في الماضي ، وكسرها في المستقبل- نذرًا ؛ أى : أوجب . يقال : نذرت بالشيء ؛ أي : علمته ونذزت الشيء ؛ أي : أوجبته . ابن عرفة : النذر : ما كان وعدًا على شرط ، فإن لم يكن شرط لم يكن نذرًا. فلو قال : لله عليَّ صدقة ؛ لم يكن ناذرًا حتى يقول : إن شفى الله مريضي ، أو قدم غائبى .
قلت : والمشهور عدم التفرقة ، وأن كل ذلك نذر عند اللغويين والفقهاء . والإنذار : الإعلام بما يخاف منه .
وقوله : (( أعجزتهم )) ؛ أى : سبقتهم ، ففاتتهم ، فعجزوا عنها . ومنه قوله تعالى : { وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربًا } ؛ أي : لن نفوته ، فلا يعجز عنا .
وقوله : (( فنذرت لله : إن نجَّاها الله عليها لتنحرنَّها )) ؛ ظنت هذه المرأة : أن ذلك النَّذر يلزمها بناء منها على أنها لما استنقذتها من أيدي العدو ملكتها ، أو جاز لها التصرُّت فيها لذلك . فلمَّا أُعلم بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجابها بما يوضح لها : أنَّها لم تملكها ، وأن تصرُّفها فيها غير صحيح .
(15/60)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بئس ما جَزَتْها )) ؛ ذمٌّ لذلك النذر ، من حيث أنه لم يصادف محلاً مملوكًا لها ، ولو كانت ملكًا لها للزمها الوفاء بذلك النذر ؛ إذ كان يكون نذر طاعةٍ ، فيلزم الوفاء به اتفاقًا . هذا إن كان ذلك الذمُّ شرعيًّا . ويمكن أن يقال : إنَّما صدر هذا الذمُّ منه لأن ذلك النذر مستقبحٌ عادة ؛ لأنه مقابلة الإحسان بالإساءة . وذلك : أن النَّاقة نجتها من الهلكة ، فقابلتها على ذلك بأن تُهلكها . وهذا هو الظاهر من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( سبحان الله ! بئس ماجزتها ! نذرت لله : إن نجاها الله عليها لتنحرنَّها )).
وفي هذا الحديث حجُّة : على أن ما وجد من أموال المسلمين بأيدي الكفار ، وغلبوا عليه ، وعرف مالكه ؛ أنَّه له دون آخذه. وفيه مستروحٌ لقول من يقول : إن الكفار لا يملكون . وقد تقدَّم الكلام في ذلك .
(15/61)
وقوله : (( لا وفاء لنذر في معصية ، ولا فيما لا يملك العبد )) ؛ ظاهرهذه الكلمة يدل على أن ما صدر من المرأة نذر معصية ؛ لأنَّها التزمت أن تتلف ملك الغير ، فتكون عاصية بهذا القصد . وهذا ليس بصحيح ؛ لأن المرأة لم يتقدَّم لها من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيان تحريم ذلك ، ولم تقصد ذلك ، وإنَّما معنى ذلك - والله أعلم - : أن من أقدم على ذلك بعد التقدمة فيه ، وبيان : أن ذلك محرَّم : كان عاصيًا بذلك القصد. ولا يدخل في ذلك المعلَّق على الملك ، كقوله : إن ملكت هذا البعير فهو هدي ، أو صدقة ؛ لأن ذلك الحكم معلَّق على ملكه ، لا ملك غيره . وليس مالكًا في الحال ، فلا نذر. وقد تقدَّم الكلام على هذا في الطلاق والعتق المعلَّقين على الملك . وأن الصحيح لزوم المشروط عند وقوع الشرط . وفيه دليل : على أن من نذر معصية حرم عليه الوفاء بها ، وأنَّه لا يلزمه على ذلك حكم بكفارة يمين ، ولا غيره . إذ لو كان هنالك حكم لبيَّنه للمرأة ؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة . وعليه جمهور العلماء . وذهب الكوفيون : إلى أنه يحرم عليه الوفاء بالمعصية ، لكن تلزمه كفارة يمين ؛ متمسكين في ذلك بحديث معتل عند أهل الحديث . وهو ما يروى من حديث عائشة رضي الله عنها ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين )) ، ذكره أبو داود ، والطحاوي ، والصحيح من حديث عائشة ما خرَّجه البخاري عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه )) ، وليس فيه شيء من ذلك . والله أعلم .
(15/62)
ثم : النذر إمَّا طاعة ، فيجب الوفاء به بالاتفاق ، أو : معصية ، فيحرم الوفاء به بالاتفاق . أو : لا طاعة ، ولا معصية ، وهو المكروه والمباح ، فلا يلزم الوفاء بشيء منهما . وهو مكروه ؛ لأنه من تعظيم ما لا يعظم . وهو مذهب الجمهور . وشذَّ أحمد بن حنبل ، فقال : إذا نذر مباحًا لزمه : إمَّا الوفاء به ، أو : كفارة يمين . أو حيث قلنا : بلزوم الوفاء فلا اعتبار بالوجه الذى يخرج عليه النذر من تبزر ، أو لجاج ، أو غضبٍ ، أو غير ذلك . وهو مذهب الجمهور . وقال الشافعي في نذر الحرج المعيَّن : مخرجه : هو بين الوفاء به ، وبين كفارة يمين. وعموم قوله : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه )) ؛ حجَّة عليه. وكل ما روي في هذا الباب عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله : (( لا نذر في غضب ، أو غيظ ، وكفارته كفارة يمين )) ، لا يصح من طرقه شيء عند أئمة المحدثين . ومن أوضح الحجج في عدم وجوب الكفارة على أن من نذر معصية ، أو ما لا طاعة فيه أنه لا يلزمه(2) كفارة حديث أبي إسرائيل الذي خرَّجه مالك مرسلاً ، والبخاري ، وأبو داود مسندًا عن ابن عبَّاس ، وهذا لفظه. قال : بينما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه ، فقالوا : هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ، ولا يقعد ، ولا يستظل ، ولا يتكلم ، ويصوم . فقال : (( مروه فليتكلم ، وليستظل ، وليقعد ، وليتم صومه )). قال مالك : ولم أسمع أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره بكفارة .
ومن باب نذر المشي إلى بيت الله عز وجل
(15/63)
قوله : (( إنه رأى شيخًا يهادى بين رجلين )) ؛ أي : يمشي بينهما متوكئًا عليهما ، كما فسَّره في الرواية الثانية . وكان يفعل ذلك لضعفه عن المشي . وفي هذا الحديث وحديث أخت عقبة المذكور بعد هذا - وهو أنصُّ مما قبله- ؛ دليل على أن نذر المشي إلى البيت الحرام يجب الوفاء به لمن قدر عليه ، فإن لم يقدر وجب عليه المضي راكبًا . وظاهرهما : لزوم المشي ، وإن لم يذكر حجًّا ولا عمرة ، كما هو مذهب مالك ؛ لأنه لما سأله عقبة عمَّن نذر المشي إلى البيت مطلقًا ، فأجاب عنه ، ولم يستفصل ، تعيَّن حملُ الجواب على إطلاق ذلك السؤال ؛ إذ لو اختلف الحال بقيدٍ لسأل عنه ، أو لبيَّنه ؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة . وإلى هذا ذهب الشافعي . وهو مروي عن عليّ ، وابن عباس. وقال أبو حنيفة : إن لم يعلم حجًّا ولا عمرة لم يلزمه مشيٌ ، ولا شيء جملة واحدة . وقال الحسن البصري : إن نذر حجًّا أو عمرة فلا مشي عليه ، ويركب وعليه دم . وقاله أبو حنيفة أيضًا. والحجَّة عليهما ما تقدَّم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني )) ؛ أي : لم يكلفه بذلك ، ولم يحوجه إليه ؛ لأنه غير مستطيع . وفي اللفظ الآخر : (( إن الله لغني عنك وعن نذرك )) ؛ أي : عن مشيك الذي لا تستطيعه ، لا أنَّ أصل النذر يسقط عنه ؛ فإنَّه قد أمره بالرُّكوب . وخرجت هذه العبارة على ما تعارفناه بيننا : من أنَّ من استغنى عن شيء لم ينتمي إليه ، ولم يعبأ به . وكيف لا ، والله تعالى هو الغني الحميد ، وكل الموجودات مفتقرة إليه افتقار ضعفاء العبيد .
(15/64)
وظاهر حديث هذا الشيخ : أنَّه كان قد عجز عن المشي في الحال ، وفيما يأتي بعد ، ولذلك لم يقل له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قال لأخت عقبة : (( مُرْها فلتمش ولتركب )) ؛ فإنَّها كانت ممن تقدر على بعض المشي ، فأمرها أن تركب ما عجزت عنه ، وتمشي ما قدرت عليه. وهذا هو المناسب لقواعد الشريعة . ولم يذكر لواحد منهما وجوب دم عليه ، ولا ذكر لأخت عقبة وجوب الرُّجوع لتمشي ما ركبته .
فأمَّا من يئس عن المشي فلا رجوع عليه قولاً واحدًا ، ولا يلزمه دم ؛ إذ لم يخاطب بالمشي ، فيكون الدَّم بدله ، وإنما هو استحباب عند مالك .
وأمَّا من خوطب بالمشي فركب لموجب من مرض ، أو عجز : فيجب عليه الهدي عند الجمهور . وقال الشافعي : لا يجب عليه الهدي ، ويختار له الهدي . وروى عن ابن الزبير : أنه لم يجعل عليه دمًا ؛ متمسِّكًا بما قررناه من الظاهر . وقد تمسَّك الجمهور بزيادةٍ زادها أبو داود والطحاوي في حديث عقبة ، وهذا لفظه : قال عقبة بن عامر : أنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره : أن أخته نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية ناشرة شعرها . فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مرها فلتركب ، ولتختمر ، ولتهد هديًا )). وعند أبي داود : بدنة ، وليس فيه : ناشرة شعرها . وزيادة الهدي قد رواها عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع عقبة ابنُ عبَّاس . ورواها عنهما الثقات ، فلا سبيل إلى ردَّها . وليس سكوت من سكت عنها حجَّة على من نطق بها. وقد عمل بها الجماهير من السلف وغيرهم . ثم هل يجب عليه مع الهدي الرجوع فبمشي ما ركبه أم لا يجب ؟ اختلف فيه : فقيل : لا يجب عليه مطلقًا. وإليه ذهب الشافعي ، وأهل الكوفة ، وهذا أحد قولي ابن عمر. وقيل : يرجع ، وإليه ذهب سلف أهل المدينة ، وابن الزبير ، وهو القول الآخر عن ابن عمر . وفرَّق مالك فقال : إن كان المشي يسيرًا لم يرجع ، ويرجع في الكثير ، ما لم يرجع لبلده البعيدة ، فيكفيه الدَّم .
قلت : والتمسَّك بحديث عقبة في ترك إيجاب الرُّجوع ظاهر ، وعمل سلف أهل المدينة باهر .
(15/65)
وقوله : (( إن الشيخ نذر أن يمشي )) ؛ يعني به : إلى بيت الله تعالى ؛ لأنَّه عرَّف نذر المشي ، كما قال عقبة : إن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله تعالى. وقال الطحاوي : إلى الكعبة . ولم يرد فيما صحَّ من الحديث أكثر من هذين اللفظين : بيت الله ، والكعبة . وألحق العلماء بهما ما في معناهما ، مثل أن يقول : إلى مكة ، أو ذكر جزءًا من البيت. وهذا قول مالك وأصحابه . واختلف أصحابه فيما إذا قال : إلى الحرم ، أو مكانًا فيه ، أو مكانًا من مدينة مكة ، أو المسجد . هل يرجع إلى البيت أم لا ؟ على قولين . وقال الشافعي : متى قال : عليَّ المشي إلى شيء مما يشتمل عليه الحرم ؛ لزمه . وإن ذكر ما خرج عنه ، لم يلزمه. وبه قال أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وابن حبيب من أصحابنا ، إلا إذا ذكر عرفات ؛ فيلزمه وإن كانت خارج الحرم . وقال أبو حنيفة : لا يلزمه في هذا مشي ولا مسير في القياس ، لكن الاستحسان في قوله : إلى بيت الله ، أو الكعبة ، أو مكة فقط . وكل هذا إذا ذكر المشي ، فلو قال : علي المسير إلى مكة ، أو الانطلاق ، أو الذهاب ؛ فلا شيء عليه ؛ إلا أن يقول : في حجٍّ ، أو عمرةٍ ، أو ينويهما . وتردد قول مالك في الرُّكوب ، وأوجب أشهب الحج والعمرة فيهما ، كالمشي . وكل هذا : إذا ذكر مكة ، أو موضعًا منها على ما فضلناه . فلو قال : عليَّ المشي إلى مسجد من المساجد الثلاثة لم يلزمه المشي عند ابن القاسم ، بل المضي إليها . وقال ابن وهب : يلزمه المشي . وهو القياس . ولو قال : إلى مسجد غير هذه الثلانة ، قال ابن الموَّاز : إن كان قريبًا كالأميال ، لزمه المشي إليه ، وإن كان بعيدًا لم يلزمه .
ومن باب كفارة النذر غير المسمى
قوله : (( كفارة النَّذر كفارة اليمين )) ؛ يعني به : النذر الذي لم يسمَّ مخرجه بدليلين :
(15/66)
أحدهما : أن هذا الحديث قد رراه أبو داود من حديث ابن عبَّاس مرفوعًا : (( من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين )) ، فقيَّد في هذا الحديث ما أطلقه في حديث عقبة .
وثانيهما : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم الذي نذره ، وقال : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعص الله فلا يعصه )). ولا يتميَّزُ آحاد النوعين إلا بالتعيين والتسمية . والمفهوم من الأمر بالوفاء بالنذر : أن يفعل عين ما التزمه . وأما ما لم يعيّن لفظًا ولا نية : فالأصل عدم لزومه . وما ذكرناه هو مذهب مالك ، وأصحابه ، وكثير من أهل العلم . وقد ذهبت طائفة من فقهاء المحدثين وأبو ثور : إلى أن كفارة اليمين تجري في جميع أبواب النذر تمسُّكًا بإطلاق الحدبث الأول . والحجَّة علهيم ما ذكرناه .
(15/67)
وقوله : (( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم )) ؛ إنما نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الحلف بالآباء لما فيه من تعظيمهم بصيغ الأيمان ؛ لأن العادة جارية بأن الحالف منَّا إنما يحلفُ بأعظم ما يعتقد ؛ كما بينَّاه . وإذا كان ذلك : فلا أعظم عند المؤمن من الله تعالى ، فينبغي له ألا يحلف بغيره ، فإذا حلف بغير الله فقد عظم ذلك الغير بمثل ما عظم به الله تعالى ، وذلك ممنوع منه. وهذا الذي ذكرناه في الآباء جار في كل محلوف به غير الله تعالى ، وإنما جرى ذكر الآباء هنا لأنه هو السبب الذي أثار الحديث حين سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمر يحلف بأبيه . وقد شهد لهذا المعنى قوله : (( من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله )) ، وهذا حصرٌ ، وعلى ما قررناه فظاهر النهي التحريم. ثم هأ. ا النهي وإن كان ظاهره التحريم فيتحقق فيما إذا حلف بملة غير الاسلام ، أو بشيء من المعبودات دون الله تعالى ، أو ما كانت الجاهلية تحلف به كالدُّمى ، والدِّماء ، والأنصاب . فهذا لا يُشكُّ في تحريمه . وأما الحلف بالآباء ، والأشراف ، ورؤوس السلاطين ، وحياتهم ونعمهم ، وما شاكل ذلك فظاهر هذا الحديث يتناولهم بحكم عمومه ، ولا ينبغي أن يختلف في تحريمه . وأما ما كان معظمًا في الشرع مثل : والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والكعبة ، والعرش ، والكرسي ، وحرمة الصالحين : فأصحابنا يطلقون على الحلف بها الكراهة . وظاهر الحديث وما قدَّمناه من النظر في المعنى يقتضي التحريم . والله أعلم .
فإن قيل : كيف يحكم بتحريم الحلف بالآباء والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حلف بذلك لما قال : (( أفلح وأبيه إن صدق )) ؟ وكيف يًحْكَمُ بتحريم الحلف بغير الله وقد أقسم الله تعالى بغيره فقال : { والضحى } ، {والشمس } ، { والعاديات } ، { والنازعات } ، وغير ذلك مما في كتاب الله تعالى من ذلك ؟
(15/68)
فالجواب : أما عن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أفلح وأبيه )) : فقد تقدَّم في الإيمان . وحاصله : أن ذلك يُحْتَمَل أن يكون صدر منه قبل أن يوحى إليه بهذا النهي . ويحتمل أن يكون جرى هذا على لسانه من غير قصد للحلف به ، كما يجرى لغو اليمين ؛ الذي هو : لا والله ، وبلى والله .
وأما عن قسم الله تعالى بتلك الأمور فمن وجهين :
أحدهما : أن المقسم به محذوف . تقديره : ورب الضحى . ورب الشمس ، ونحو ذلك . قاله أكثر أئمة المعاني .
وثانيهما : أن الله تعالى يقسم بما يريد كما يفعل ما يريد ؛ إذ لا حكم عليه ، ولا حاكم فوقه ، ونحن المحكوم عليهم ، وقد أبْلَغَنا حكمه على لسان نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت )) ، و(( من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله )) . فيجب الانقياد ، والامتثال لحكم ذي العزة والجلال .
وقوله : (( من كان حالفًا فليحلف بالله )) ، لا يفهم منه قَصْرُ اليمين الجائزة على الحلف بهذا الاسم فقط ، بل حكم جميع أسماء الله تعالى حكم هذا الاسم . فلو قال : والعزيز ، والعليم ، والقادر ، والسميع ، والبصير ؛ لكانت يمينًا جائزة . وهذا متفق عليه . وكذلك الحكم في الحلف بصفات الله تعالى ؛ كقوله : وعزة الله ، وعلمه ، وقدرته ، وما أشبه ذلك مما يَتَمَحَّضُ فيه الصفة لله ، ولا ينبغي أن يختلف في هذا النوع أنها أيمان كالقسم الأول .
وأما ما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة له كقوله : وخلق الله ، ونعمته ، ورزقه ، وبيته ؛ فهذه ليست بأيمان جائزة ؛ لأنها حلف بغير الله عز وجل ؛ على ما تقدم.
وبين هذين القسمين قسم آخر متردد بينهما ، فاختلف فيه لتردده ، كقوله : وعهد الله ، وأمانته ، وكفالته ، وحقه . فعندنا : أنَّها أيمان ملحقة بالملحق بالقسم الأول ؛ لأنها صفات . وعند الشافعي : ليست بأيمان . ورأى : أنها من القسم الثاني .
(15/69)
وقول عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( فما حلفت بها ذاكرًا ولا أثرًا )) ؛ أي : لم يقع مني الحلف بها . ولا تحدثت بالحلف بها عن غيري . وأثرت الحديث : نقلتَهُ عن غيرك .
ومن باب النهي عن الحلف بالطواغي
الطواغي : جمع طاغية ، كالروابي : جمع رابية. والدوالي : جمع دالية . وهي مأخوذة من الطغيان ، وهو : الزيادة على الحد . ومنه قوله تعالى : { إنا لَمَّا طغا الماء حملناك في الجارية } ؛ أي : زاد . وقد تقدَّم أن الطواغي ، والطواغيت : كل معبود سوى الله تعالى في كتاب الإيمان. وقد تقرر أن اليمين بذلك محرم ، ومع ذلك فلا كفارة فيه عند الجمهور لأجل الحلف بها ، ولا لأجل الحنث فيها .
أمَّا الأول ؛ فلأن ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال : (( من قال : واللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله )) ، ولم يذكر كفَّارة . ولو كانت لوجب تبيينها لتعيُّن الحاجة لذلك .
وأمَّا الثاني : فليسث بيمين منعقدة ، ولا مشروعة فيلزم بالحنث فيها الكفارة. وقد شذَّ أبو حنيفة تناقَضَ ، فيما إذا قال : أشرك بالله ، أو كفر بالله ، أو هو يهودي ، أو نصراني ، أو بريء من الإسلام ، أو من النبي ، أو القرآن ، وما أشبه ذلك . فقال : هي أيمانٌ يلزم بها كفارةٌ إذا حنث فيها.(15/70)
أما شذوذه : فلأنَّه لا سلفَ له فيه من الصحابة ، ولا موافق له من أئمة الفتوى فيما أعلم . وأما تناقضه : فلأنَّه قال : لو قال : واليهودية ، والنصرانية ، والنبي ، والكعبة ؛ لم يجب عليه كفارة عنده مع أنها على صيغ الأيمان اللغوية ، فأوجب الكفارة فيما لا يقال عليه يمين لا لغة ولا شرعًا ، وليس من ألفاظها ، وأسقط الكفارة فيما يقال عليه يمين لغة وهو من ألفاظها . ولو عكس لكان أولى ، وأمسَّ . ولا حُجَّة له في آية كفارة اليمين ؛ إذ تلك الكلمات ليست أيمانًا ، كما بيَّناه . ولو سلَّمنا : أنها أيمان ؛ فليست بمنعقدةٍ ، فلا يتناولها العموم . ثم يلزم بحكم العموم أن يوجب الكفارة في كل ما يقال عليه يمين لغة ، وعرفًا ، ولم يقل بذلك. والله أعلم .
وقوله : (( من قال : واللات ؛ فليقل : لا إله إلا الله )) ؛ اللات ، والعزى ، ومناة : أصنام ثلاثة كانت في جوف الكعبة . وقيل : كانت اللات بالطائف . والعزى بغطفان ، وهي التي هدمها خالد بن الوليد. ومناة بقديد . وقيل بالمشلل . فأمَّا اللأت فقيل : إنَّهم أرادوا به تأنيث اسم الله تعالى . وقيل : أرادوا أن يسموا بعض آلهتهم باسم الله تعالى ، فصرف الله ألسنتهم عن ذلك ؛ فقالوا : اللات ؛ صيانة لذلك الاسم العظيم أن يُسمَّى به غيره ، كما صرف ألسنتهم عن سب مححمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى : مُذَمَّم ، فكانوا إذا تكلموا باسمه في غير السَّبِّ قالوا : محمَّد ، فإذا أرادوا أن يسبُّوه قالوا : مُذَمَّم . حتى قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ألا تعجبون ! مِمَّا صرف الله عني من أذى قريش ، يسبون مذمَّمًا ، وأنا مُحمَّد )). ولَمَّا نشأ القوم على تعظيم تلك الأصنام ، وعلى الحلف بها ، وأنعم الله عليهم بالإسلام بقيت تلك الأسماء تجري على ألسنتهم من غير قصد للحلف بها ، فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نطق بذلك أن يقول بعده : لا إله إلا الله ؛ تكفيرًا لتلك اللفظة ، وتذكيرًا من الغفلة وإتمامًا للنعمة .
(15/71)
وخص اللات بالذكر في هذا الحديث لأنها كانت أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم . وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها ؛ إذ لا فرق بينها . والعزى : تأنيث الأعز ، كالْجُلَّى : تانيث الأجل .
وقوله : (( من قال : تعال أقامرُك فليتصدق )) ؛ القول فيه كالقول في اللات ؛ لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة . وهي من أكل المال بالباطل . ولما ذمَّها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالغ في الزجر عنها ، وعن ذكرها ، حتَّى إذا ذكرها الإنسان طالبًا للمقامرة بها ؛ أمره بصدقة . والظاهر : وجوبها عليه ؛ لأنها كفارةٌ مأمور بها ، وكذلك قول : لا إله إلا الله ؛ على من قال : واللات . ثم هذه الصَّدقة غير محدودة ، ولا مقدَّرة ، فيتصدق بما تيسَّر له مِمَّا يصدق عليه الاسم. كالحال في صدقة مناجاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله تعالى : { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } ، فإنها غير مقدَّرة . وقال الخطابي : يتصدَّق بقدر ما أراد أن يقامر به ، وليس في اللفظ ما يدل عليه ، ولا في قواعد الشرع ، ولا للعقل مجال في تقدير الكفارات . فهو تحكم . وأبعد من هذا قول من قال من الحنفية : إن المراد بها : كفارة اليمين . وهذا فاسد قطعًا ؛ لأن كفارة اليمين ما هي صدقة فقط ، بل عتق ، أو كسوة ، أو إطعام ، فإن لم يجد فصيام . فكيف يصح أن يقال : أطلق الصدقة ، رهو يريد به إطعام عشرة مساكين ، وأنه مخيَّر بينه وبين غيره من الخصال المذكورة معه في الآية ؛ وأيضًا : فإنه لا يتمشى على أصل الحنفية المتقدم الذكر ، فإنهم قالوا : لا تجب الكفارة إلا بالحنث في قوله : هو يهودي ، أو نصراني ، إلى غير ذلك مما ذكروه. وهذا حكم معلَّق على نطق بقول ليس فيه يمين ، ولا التزام ، وإنما هو استدعاء للمقامرة . فأين الأرض من السماء ، والعرش من الثَّرى .
ومن باب من حلف يمبن فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر
(15/72)
قوله : (( إن أبا موسى دعا بمائدته وعليها لحم دجاج )) ؛ يدل على أن أكل الطيِّبات على الموائد جائز معمولٌ به عندهم . وأن ذلك لا ينافى الزهد ، ولا يُنقصه خلافًا لبعض متقشِّفة المتزهدة .
وقول الرَّجل : (( رأيته يأكل شيئًا فقذرته )) ؛ يعني به : أنه رأى الدَّجاج يأكل نجاسة فاستقذره ، فحلف ألا يأكله لذلك . وظاهر قول هذا الرجل ؛ أنه كان يكره أكل ما يأكل النجاسات من الحيوانات . وقد اختلف في ذلك . فكرهه قوم ، فكان ابن عمر لا يأكل الدَّجاجة حتَّى يقصرها أيامًا . ومثل ذلك روي عن ابن القاسم في الجدي الذي ارتضع خنزيرة : إنَّه لا يذبح حتَّى يذهب ما في بطنه . وكره الكوفيون أكل لحوم الجلاَّلة ، والشافعي : إن كان أكلُها أو غالبُه النجاسة ، فإن كان غالبه الطَّهارة لم يكرهه . وأجاز مالك أكل لحوم الإبل الجلاَّلة ، وكل ما يأكل الجيف من الطَّير وغيره لبعد الاستحالة .
قلت : وهذا محمول على ما إذا ذهب ما في بطونها من ذلك ، كما حكيناه عن ابن القاسم ، لأن مالكًا قد قال في روث ما يأكل النجاسة وبوله : أنَّه نجس ، بخلاف أصله في أن الأبوال تابعة للُّحوم . وكره ابن حبيب من أصحابنا أكل ما يأكل النجاسات مطلقًا .
قلت : وقد روى أبو داود من حديث ابن عباس : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن أكل الجلاَّلة وألبانها . وهو حجَّة لابن حبيب ؛ لولا أنَّه من رواية محمد بن إسحاق .
وقوله : (( فتَلَكَّأ )) ؛ أي : تثاقل ، وتأخر . و(( نستحمله )) : نسأله أن يحملنا ؛ أى : يعطينا ما نتحمَّل عليه وبه ، و(( نَهْبُ إبل )) ؛ أي : غنيمتها . والنهب : الغنيمة . وكان أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ إذا أوتر من أول الليل قال : أحرزت نهبي ؛ أي : غنيمتي . وقد تقدَّم الكلام في الذَّوْد في كتاب الزكاة .
(15/73)
وقوله : (( غُرِّ الذُّرى )) ؛ غرُّ : جمع أغرُّ . وأصله : الذي في جبهته بياض من الخيل . و(( الذُّرى )) : جمع ذروة ، وهي : من كل شيء أعلاه . والمراد بـ (( غُرّ الذُّرى )) : أن تلك الإبل كانت بيض الأسنمة . وقد روي : (( بُقْعُ الذُّرى )) ؛ أي : فيها لمعٌ بيضٌ وسودٌ . ومنه قيل : الغراب الأبقع ، والشَّاة البقعاء : إذا كانا كذلك .
وقوله : (( أغفَلْنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمينه )) ؛ أي : وجدناه غافلاً عنها . كما تقول العرب : أحمدت الرَّجل : وجدته محمودًا . وأذممته : وجدته مذمومًا . فكأنه قال : وجدناه غافلاً عنها ، فاغتنمنا غفلته ، فأخذنا منه في حال غفلته .
وقوله : (( لا يبارك لنا )) ؛ أي : فيما أعطانا إن سكتنا عن ذلك ولم نعرّفة . وفيه من الفقه ما يدل على جواز اليمين عند التبرُّم ، وجواز ردّ السَّائل المثقل عند تعذر الإسعاف ، وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول . وذلك : أنَّهم سألوه في حال تحقق فيها : أنَّه لم يكن عنده شيء فأدَّبهم بذلك القول ، ثم : إنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقي مترقِّبًا لما يُسعِفُ به طِلْبتَهُم ، ويجبرُ به انكسارهم ، فلمَّا يسَّر الله تعالى ذلك عليه ذلك أعطاهم ، وجبرهم على مقتضى كرم خلقه .
(15/74)
وقوله : (( إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحلَّلتها )) ، وفي الرواية الأخرى : (( إلا كفَّرتُ عن يميني ، وأتيت الذي هو خير )) ؛ اختلاف هاتين الروايتين أوجب اختلاف العلماء في الكفارة قبل الحنث هل تجزئ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال : جوازها مطلقًا . وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة ، وجمهور الفقهاء . وهو مشهور مذهب مالك . وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا تجزئ بوجه. وهي رواية أشهب عن مالك . وقال الشافعي : تجزئ بالإطعام ، والعتق ، والكسوة . ولا تجزئ بالصَّوم . وقد ذكر أصحابنا للخلاف في هذه المسألة سببًا آخر. وهو اختلافهم في اليمين. هل هو جزء السبب ، والحنث الجزء الآخر ؟ أم ليس كذلك ؟ بل وجود اليمين هو السبب فقط ، والحنث شرط وجوب الكفارة. وبسط هذا في مسائل الخلاف .
وذكر مسلم في بعض طرق حديث أبي موسى الأشعري المردفة . حدثنا شيبان بن فرُّوخ ، حدثنا الصَّعِقُ بن حَزْن - بكسر العين - من الصعق ، قال : حدثنا مطر الوَّراق ، قال : حدثنا زَهْدَم الْجَرْمِي. وهذا سندٌ فيه نظر . وذلك : أن الدارقطني استدركه على مسلم(3) ؛ فقال : ابن الصَّعِق ، ومطر ليسا بالقويين ، ولم يسمع مطر من زُهدم .
(15/75)
قلت : وهذا لا عيب على مسلم فيه ، ولا نقص يلحق كتابه بسبب ذلك ؛ لأنَّه قد أخرج الحديث من طرق كثيرة صحيحة ، ثم أردف هذا السَّند بعد تلك الطرق الصحيحة المتصلة ، ولذلك قال فيه : عن زهدم قال : دخلت على أبي موسى ، وهو يأكل لحم دجاج ، وساق الحديث بنحو حديثهم ، وزاد فيه : قال : إني والله ما نسيت . فذكره مردفًا لأجل هذه اللفظة الزائدة ، ثم هذا على ما شرطه في أول كتابه ؛ حيث(5) قَسَم الأسانيد إلى ثلاثة أقسام ، وثلاث طبقات . فهذا السَّند من الطبقة الأخيرة ؛ التي هي دون من قبلها ، وفيها مغمزٌ بوجه ما . وهذا يدل على أنه أدخل الثلاث الطبقات(7) في كتابه خلافًا لمن زعم : أنه لم يدخل فيه من الطبقة الثالثة أحدًا. وذكر مسلم بعد هذا السند : ضُرَيْب بن نُقَيْر عن زهدم .
قال القاضي عياض : ضُرَيْب بن نُقَيْر : مصغران ، ونُقَيْر هذا بالقاف أشهر . وهي رواية الصَّدفي ، والأسدي ، والتميمي من أشياخنا . وكذا قيَّدناه عنهم . وكان الخشني قيَّده بالفاء . وقال الحافظ أبو علي : يقال بهما ، والقاف أشهر . وأمَّا جُبَيْر بن نُفَيْر : فلم يختلف أنه بالفاء.
وقول أبي موسى : (( وافقته وهو غضبان )) ؛ وحلفه في تلك الحال يدلُّ لمالك : على صحة قوله بلزوم حكم اليمين الواقعة في حال الغضب. وهو له حجَّة على الشافعي حيث قال : إنَّها لا تلزم ، كما تقدَّم . ويدلُّ أيضًا على قول مالك حديث عدي بن حاتم المذكور.
وقوله : (( أَعْتَم رجل عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ أي : تأخر عنده إلى عتمة الليل. وهي شدَّة ظلمته . ولعله يريد بذلك : أنه صلى مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العتمة ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخرها منتظرًا للناس ، فإنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا رآهم قد اجتمعوا عجَّل ، وإذا راهم قد أبطؤوا أخر ؛ يعني : في العشاء الآخرة.
(15/76)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفِّر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير )) ؛ هذا أمرٌ من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتقديم الكفَّارة على الحنث . وهو نصٌّ في الردِّ على أبي حنيفة ، فإن أقل مراتب هذا الأمر أن يكون من باب الإرشاد إلى المصلحة . وأقلّ مراتب المصلحة أن تكون مباحة . فالكفارة قبل الحنث جائزة مجزية . وقد تضافر على هذا المعنى فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتقدِّم في حديث أبي موسى ، وأمره هذا ، وكذلك حديث عدي الآتي بعد هذا .
وقوله : (( فليفعل الذي هو خير )) ؛ أي : الذي هو أكثر خيرًا ؛ أي : الذي هو أصلح ؛ يعني : من الاستمرار على موجب اليمين ، أو ما يخالف ذلك مما يحنث به . والأصلح تارة يكون من جهة الثواب وكثرته. وهو الذي أشار إليه في حديث عدي ، حيث قال : (( فليات التقوى )). وقد يكون من حيث المصلحة الراجحة الدنيويَّه التي تطرأ عليه بسبب تركها حرجٌ ومشقَّةٌ . وهي التي أشار إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يكفر )) ؛ يعني بذلك : أن استمراره على مقتضى يمينه إذا أفضى به إلى الحرج - وهو المشقة - قد يفضي به إلى أن يأثم ، فالأولى به أن يفعل ما شرع الله له من تحنيثه نفسه وفعل الكفارة .
(15/77)
وغضب عدي في الحديث الأول ويمينه سببهما : أن الرَّجل السائل لم يرضى بالدِّرع والمغفر مع أنه لم يكن عنده غيرهما . ويمينه في الحديث الثاني وما يفهم من غضبه فيه سببه فيما يظهر من مساق الحديث : أن عديًّا استقلَّ ما سُئِل منه . ألا ترى قوله : تسالني مئة درهم ، وأنا ابن حاتم ؟! فكأنه قال : تسألني هذا الشيء اليسير وأنا من عرفت ؛ أي : نحن معروفون ببذل الكثير . فهذا سبب غير السبب الأول . هذا ظاهر الحديث ، غير أن القاضي عياضًا قال : معنى قوله عندي : وأنا ابن حاتم ؛ أي : قد عُرِفت بالجود ، وورثتُهُ ، ولا يمكنني ردَّ سائلٍ إلا لعذر ، وقد سأله ويعلم : أنه ليس عنده ما يعطيه ، فكأنه أراد أن يبخله . فلذلك قال : والله لا أعطيك ؛ إذ لم يعذره .
قلت : وهذا المعنى إنما يليق بالحديث الأول ، لا بالثاني . فتأمَّلهما .
وفيه من الفقه : أن اليمين في الغضب لازمة كما تقدم .
ومن باب اليمين على نية المستحلف
قوله : (( يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك )) ؛ يعني : أن يمينك التي يجوز لك أن تحلفها ؛ هي التي تكون صادقة في نفسها ، بحيث لو اطَّلع عليها صاحبك لعلم : أنها حقٌّ وصدقٌ ، وأن ظاهر الأمر فيها كباطنه ، وسرَّه كعَلَنِه ، فيصدقك فيما حلفت عليه . فهذا خطاب لمن أراد أن يُقْدِم على يمين ، فحقُّه أن يعرض اليمين على نفسه ، فإن رآها كما ذكرناه حلف إن شاء ، وإلا أمسك ؛ فإنَّها لا تحل له . هذا فائدة هذا اللفظ .
فأمَّا قوله : (( اليمين على نيِّة المستحلف )) ؛ فمقصوده : أن من توجَّهت عليه يمين في حق ادُّعي عليه به ؛ فحلف على ذلك لفظًا ، وهو ينوي غيره ، لم تنفعه نيَّته ، ولا يخرج بها عن إثم تلك اليمين . ويظهر من كلام الأئمة على هذين الحديثين : أن معنى الأول مردودٌ إلى الثاني ، وما ذكرته أولى إن شاء الله تعالى . ويتبيَّن لك ذلك من سياق اللفظين . فتأملهما تجد ما ذكرته .
(15/78)
وإذا تقرر هذا ؛ فاعلم : أن اليمين إما أن يتعلَّق بها حق لآدمي أو لا. فإن لم يتعلَّق بها حق لآدمي ، وجاء صاحبها مستفتيًا ، ولم يضبط بشهادة ؛ فله نيته . قال القاضي : ولا خلاف في ذلك نعلمه . وأما إن حلف لغيره في حق عليه ؛ فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه إذا قامت عليه بيّنَة ، سواء حلف متبرعًا ، أو مُسْتَحْلفًا . وأمَّا فيما بينه وبين الله تعالى : فاختلف فيه قول مالك وأصحابه اختلافًا كثيرًا. فقيل : على نية المحلوف له . وقيل : على نية الحالف . وقيل : إن كان مستحلفًا ؛ فاليمين على نيِّة المحلوف له . وإن كان متبرعًا ؛ فعلى نيِّة الحالف . وهو ظاهر قول مالك ، وابن القاسم . وقيل : عكسه . وقيل : تنفعه نيَّته فيما لا يقضى عليه فقط .
وروي عن مالك : إن كان على وجه المكر والخديعة ؛ فهو آثم . وإن كان على وجه العُذر فلا . وعكسه ابن حبيب . ذكر هذه الأقوال كلها القاضي عياض ، وقال : ولا خلاف في أن الحالف بما يقتطع بها حق غيره ظالم ، آثم ، حانث .
(15/79)
وقول سليمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لأطيفن الليلة على سبعين امرأة )) ؛ هذا الكلام قَسَمٌ ، وإن لم يذكر فيه مُقْسَم به ؛ لأن لام (( لأطينن )) هي التي تدخل على جواب القسم . فكثيرًا ما تحذف معها العرب المقسم به اكتفاءً بدلالتها على الْمُقْسَم به ، لكنها لا تدلُّ على مُقْسَم به مُعَيَّن . وعلى هذا : ففيه من الفقه ما يدل على أن من قال : أحلف ، أو أشهد ، أو ما أشبه ذلك مما يفيد القسم ، ونوى بذلك الحلف بالله تعالى ؛ كانت يمينًا جائزة ، منعقدة . وهو مذهب مالك . وقد قال الشافعي : لا تكون يمينًا بالله تعالى حتى يتلفظ بالْمُقْسَم به . وقال أبو حنيفة : هي يمين أراد بها اليمين بالله تعالى أم لا . وكان الأولى ما صار إليه مالك ؛ لأن ذلك اللفظ صالح وضعًا للقَسَم بالله تعالى ، فإذا أراده الحالف ؛ لزمه كسائر الألفاظ المقيدة بالمقاصد من العمومات ، والمطلقات ، وغير ذلك . وأمَّا إذا لم يرد باللفظ القَسَم أو القَسَم بغير الله تعالى ؛ فلا يلزمه به شيء ؛ لأن الأوَّل لا يكون يمينًا ، والثاني غير جائز ، ولا مُنْعَقد ، فلا يلزم به حكم على ما تقدَّم .
وقوله : (( كُلُّهُنَّ تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله )) ، وفي اللفظ الآخر : (( بفارس )). قد تقدَّم القول في الغلام ، وأنه الصغير . وأراد به ها هنا : الشاب المطيق للقتال . وهذا الكلام من سليمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظاهره الجزم على أن الله يفعل ذلك الذي أراد ، لكن الذي حمله على ذلك صدق نيته في حصول الخير ، وظهور الدِّين ، وفعل الجهاد ، وغلبة رجاء فضل الله تعالى في إسعافه بذلك . ولا يظن به : أنه قطع بذلك على الله تعالى إلا من جهل حالة الأنبياء في معرفتهم بالله تعالى وبحدوده ، وتأدبهم معه .
(15/80)
ورواية العذري : (( لأطوفن )). ورواية الجماعة كما تقدم . وكلاهما صحيح في اللغة . يقال : أطفت بالشيء ، أطيف به ، وأنا مطيف . وطفت على الشيء ، وبه ، أطوف ، وأنا طائف ، كما قال تعالى : {فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون }. وأصله : الدَّوران حول الشيء . ومنه : الطواف بالبيت . وهو في هذا الحديث كناية عن الجماع ، كما جاء عن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنَّه كان يطوف على نسائه ، وهن تسع ، في ساعة واحدة من ليل أو نهار . وهذا يدل على ما كان الله تعالى خصَّ به الأنبياء من صحة البنية ، وقوة الفحولية ، وكمال الرُّجولية ، مع ما كانوا فيه من الجهد ، والمجاهدات ، والمكابدات على ما هو المعلوم من حال نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنَّه توفي ولم يشبع من خبز البرِّ ثلاث ليال تباعًا. وقد روي عن سليمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه كان يفترش الرَّماد ، ويأكل خبز الرَّماد. وهذا هو المعلوم من حال الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ، ومن كان هذه حاله فالعادة جارية بأن يضعف عن الجماع ، لكن خرق الله تعالى لهم العادة في أبدانهم ، كما خرقها لهم في معجزاتهم ، وأكثر أحوالهم .
وقد اختلفت الرِّوايات في عدد النساء اللواتي طاف عليهن سليمان . ففي الأصل : ستون ، وسبعون ، وتسعون. وفي غير كتاب مسلم : مائة. والله أعلم أيُّ ذلك كان .
وقوله : (( قال له صاحبه أو الملك )) ؛ هذا شكٌّ من أحد الرراة في الذي قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهما. فإن كان صاحبه ، فيعني به : وزيره من الإنس ، أو الجن . وإن كان الملك ؛ فهو الذي كان يأتيه بالوحي . وقد أبعد من قال : هو خاطره .
(15/81)
وقوله : (( قل : إن شاء الله )) ؛ هذا تذكير له بان يقول بلسانه ، لا أنه غفل عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه ؛ فإن ذلك بعيدٌ على الأنبياء ، وغير لائق بمناصبهم الرفيعة ، ومعارفهم المتوالية . وإنَّما هذا كما قد اتفق لنبينا ؛ لما سئل عن الرُّوح ، والخضر ، وذى القرنين ؛ فوعدهم بأن يأتي بالجواب غدًا ، جازمًا بما عنده من معرفته بالله تعالى ، وصدق وعده في تصديقه ، وإظهار كلمته ، لكنه ذهل عن النطق بكلمة : (( إن شاء الله )) ، لا عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه ، فأُدِّب بأن تأخر الوحي عنه ؛ حتى رموه بالتكذيب لأجلها . ثم إن الله تعالى علَّمه وأدَّبه بقوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعلٌ ذلك غدًا إلا أن يشاء الله } ، فكان بعد ذلك يستعمل هذه الكلمة في الواجب . وهذا لعلوِّ مناصب الأنبياء ، وكمال معرفتهم بالله تعالى ، يناقشون ، ويعاتبون على ما لا يعاتب عليه غيرهم ، كما قد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حق لوط : (( يرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد )) ؛ فعتب عليه نطقه بكلمة يسوغ لغيره أن ينطق بها ، وقد استوفينا هذا المعنى فيما تقدَّم .
وقوله : (( فلم يقل ، ونسي )) ؛ أي : لم ينطق بتلك الكلمة ذهولاً ونسيانًا ، أنساه الله تعالى إيَّاها لينفذ قدر الله تعالى الذي سبق به علمه ، من جعل ذلك النسيان سببًا لعدم وقوع ما تمنَّاه وقصده سلبمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( فلو قال : إن شاء الله لم يحنث )) ؛ دليل على جواز قول : (( لو )) و(( لولا )) بعد وقوع المقدور . وقد وقع من ذلك مواضع كثيرة في الكتاب ، والسُّنه ، وكلام السَّلف ، كقوله تعالى : { لو أن لي بكم قوة أو أوى إلى ركن شديد } ، ولقوله : { ولولا رجال مؤمنون ونساءٌ مؤمنات } ، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدَّهر ، ولولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ، ولم يخنز اللحم )).
(15/82)
فأمَّا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في "الصحيح" : (( لا يقولن أحدكم : لو ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان )) ؛ فمحمول على من يقول ذلك معتمدًا على الأسباب ، مُعرضًا عن " المقدور ، أو متضجرًا منه ، كما حكاه الله تعالى من قول المنافقين حيث قالوا : { لو أطاعونا ما قتلوا } ، ثم ردَّ الله تعالى قولهم ، وبيَّن لهم عجزهم ، فقال : { قل فادرءُوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين }(2) ، ولذلك قال في ذلك الحديث : ((المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير . احرص على ما ينفعك ، واستعن بإلله ولا تعجز ، ولا تقل : لو كان كذا لكان كذا ؟ فإن لو تفتح عمل الشيطان . قل : ما شاء الله كان ، وما شاء فعل )) ؛ فالواجب عند وقوع المقدور التسليم لأمر الله ، وترك الاعتراض على الله ، والاعراض عن الالتفات إلى ما فات . فيجوز النطق بـ (( لو )) عند السلامة من تلك الآفات . والله أعلم .
(15/83)
وفيه دليل على أن اليمين بالله تعالى إذا قرن بها (( إن شاء الله )) لفظًا منويًّا ؛ لم يلزم الوفاء بها ، ولا يقع الحنث فيها . ولا خلاف في ذلك . واختلفوا فيما إذا وقع الاستثناء منفصلاً عن اليمين . فالجمهور : على أنه لا يقع الاستثناء حتى يكون متصلاً به ، منوتًا معه ، أو مع اخر حرف من حروفه . وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، والجمهور . وقد اتفق مالك والشافعي : على أن السُّعال ، والعِطَاس ، وما أشبه ذلك لا يكون قاطعًا إذا كان ناويًا له . وقال بعض أصحابنا : لا ينفع الاستعناء إلا أن ينويه قبل نطقه بجميع حروف اليمين . وعند هؤلاء : أن السكوت المختار الذي يقطع به كلامه ، أو يأخذ في غيره لا ينفع معه الاستثناء . وكان الحسن ، وطاووس ، وجماعة من التابعين يرون للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة : ما لم يقرأ أو يتكلم. وعن عطاء : قَدْر حلبة ناقة . وعن سعيد بن جبير : بعد أربعة أشهر. وروي عن ابن عباس : بعد سنة. وقد أنكرت هذه الرواية عنه ، وضُعفت ، وتأولها بعضهم : بأن له أن يستثني إمتثالاً لأمر الله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله } ، لا لحل اليمين. والصحيح الأول إن شاء الله ؛ لأنه لو لم يشترط الاتصال لما انعقدت يمين ، ولا تصوَّر عليها ندم ، ولا حنث ، ولا احتيج للكفَّارة فيها . وكل ذلك حاصل بالاتفاق . فاشتراط الاتصال صحيح . ولتفصيل هذه الجملة علم الخلاف .
وقد احتجَّ من قال بفصل الاستثناء بما قال في هذا الحديث : إن سليمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما حلف قال له صاحبه - أو الملك - : قل : إن شاء الله . ووجهه : أنَّه إنَّما عرض عليه الاسثناء بعد فراغه من اليمين . فلو قالها بعد فراغ قول الصَّاحب لكان قولها غير متصل باليمين ، ومع ذلك ، فلو قالها لكانت تنفع ، ولم يحنث ، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لو قال : إن شاء الله لم يحنث )).
(15/84)
والجواب : منع أنه قاله بعد فراغه من اليمين . بل لعلَّه قال ذلك في أضاف يمينه ؛ لأن يمينه تلك كثرت كلماتها فطالت . وليس ذلك الاحتمال بأولى من هذا ، فلا حجَّة فيه ، لا له ، ولا عليه . وقد احتجَّ المخالف أيضًا بما رواه أبو داود عن عكرمة - مولى ابن عباس - : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( والله لأغزون قريشًا ! والله لأغزون قريشًا(2)! والله لأغزون قريشًا(2)! )) ، ثم قال : (( إن شاء الله )) ، وفي رواية : ثم سكت ، ثم قال : (( إن شاء الله )). وهذا مرسل . وقد أُسند من حديث عبد الواحد بن صفوان . وليس حديثه بشيء على ما قاله أهل الحديث . والمرسل هو الصحيح .
قلت : وهذا الحديث حجة ظاهرة على جواز الفصل بالسُّكوت اليسير ، وأن ذلك القدر ليس بقاطع ؛ لأن الحال شاهدة على الاتصال ، لكن عند من يقبل المرسل . ويحتمل أن يكون ذلك السكوت عن غلبة نفس خارج أو أمر طارئ . وفيه بُعد .
ثم اختلف العلماء في الاستثناء بمشيئة الله تعالى ؛ هل يرفع حكم الطلاق ، والعتاق ، والمشي لمكة ، وغيرها من الأيمان بغير الله تعالى ، أم لا ؟ فذهب مالك والاوزاعي : إلى أن ذلك لا يرفع شيئًا من ذلك . وذهب الكوفيون ، والشافعي ، وأبو ثور ، وبعض السَّلف : إلى أنه يرفع ذلك كله . وقصر الحسن الرفع على العتق ، والطلاق خاصة.
قلت : وسببُ الخلاف اختلافهم في معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه النسائي من حديث ابن عمر من طرق متعددة ، وهو صحيح ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( من حلف على يمين ؛ فقال : إن شاء الله ؛ فهو بالخيار ، إن شاء مضى ، وإن شاء ترك )) ، وفي رواية : (( إن شاء ترك غير حنث )). فحمل مالك ومن قال بقوله هذا الحديث على اليمين الجائزة ، وهي اليمين بأسماء الله تعالى وصفاته بناء على أنه هو المقصود الأصلي ، واليمين العرفي . وحمله المخالف على العموم في كل ما يمكن أن يقال عليه يمين .
(15/85)
قلت : والصحيج الأول ؛ لما قدَّمناه : من أن هذا النوع الذي قد أطلق عليه الفقهاء يمينًا لا يُسمَّى يمينًا لا لغةً ، ولا شرعًا ؛ إذ ليس من ألفاظها اللغوية ، ولا من معانيها الشرعية ، كما بيَّناه .
وقوله : (( قل : إن شاء الله )) ؛ دليل على صحة قول من يقول : إن الاستشاء لا يصحُّ إلا بالقول ، ولا يصح بالنيَّة المجردة . وهو قول كافة العلماء ، وأئمة أهل الفتيا. وقال بعض متأخري شيوخنا : إنه يصحُّ بالنيَّة كالمحاشاة ؛ فإنَّهم اتفقوا على أنها تصحُّ بالنيَّة. وفرَّق المتقدمون بين الاستثناء والمحاشاة ؛ بأن الاستثناء رفعٌ لأصل اليمين . والمحاشاة رفعٌ لبعض ما تناولته اليمين ، فافترقا .
وقوله : (( وايم الذي نفس محمدٍ بيده ! )) ؛ قد قدمنا ذكر خلاف النحويين في : (( ايم الله )) واللغات المذكورات فيه فيما تقدَّم. والكلام هنا في بيان حكمها . فحكى ابن خواز منداد ، والظحارقي عن مالك : أنَّها يمين . وبه قال الشافعي ، وأصحاب أبي حنيفة ، وابن حبيب من أصحابنا . وفي كتاب محمَّد عن مالك : أخشى أن تكون يمينًا .
قلت : وعلى كونها يمينًا جائزة يدلُّ قَسَم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها ، ويتمشى ذلك على قول الفراء : إنها جمعُ يمين . وهو الذي اختاره أبوعبيد. واستدل عليه بقول زهير :
فَتُجْمَع أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُم
قال : وكثر استعمالهم فيه ، فحذفوا النون ، كما حذفوا نون (( لم يك )).
قلت : ويلزم على هذا : أن الحالف به يلزمه ثلاثة أيمان ؛ لأن الثلاثة أقل مراتب الجمع. وأمَّا على ما فسَّره سيبويه : من أنه مأخوذ من اليُمْن والبركة فلا يلزم بها كفارة ؛ لأن الحالف بها كأنَّه قال : وبركة الله ، ويُمْن الله . وذلك راجع إلى الحلف بفعل من أفعال الله تعالى ؛ كما لو قال : ورزق الله ، وفضل الله . وحينئذ تكون يمينًا غير جائزة ، ولو كان ذلك لما حلف بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فإذًا قول الفراء أولى ، إن شاء الله تعالى.
ومن باب ما يخاف من اللجاج في اليمين
(15/86)
قوله : (( والله لأن يلج أحدكم في يمينه )) ؛ اللجاج في اليمين : هو المضي على مقتضاها ؛ وإن لزم من ذلك حرج ، ومشقَّة ، أو ترك ما فيه منفعة عاجلة ، أو آجلة . فإن كان فيه شيء من ذلك فالأولى له : تحنيث نفسه ، وفعل الكفارة على ما تقدَّم .
وقوله : (( آثم له عند الله من أن يعطي ما فرض الله من الكفارة )) ؛ أي : أكثر إثما . وذلك إنما يكون إذا لزم من المضي في اليمين ترك واجب ، هذا ظاهره . ويحتمل ما قدمناه في معنى هذا الحديث . وفيه ما يدل : على أن الكفارة واجبة على من حنث . وهو ظاهر قوله تعالى : {فكفارته إطعام عشرة مساكين } ، ولا خلاف في ذلك .
وقول عمر : (( إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة )) ، وفي الرواية الأخرى : (( يومًا في المسجد الحرام )). فقال : (( أوف بنذرك )) ، ظاهره : لزوم نذر الكافر إذا أوجبه على نفسه في حال كفره ؛ إذا كان من نوع القرب ؛ التي يوجبها المسلمون ، غير أنه لا يصح منه إيقاعه في حالة كفره لعدم شرط الأداء ؛ الذي هو الإسلام . فأمَّا إذا أسلم وجب عليه الوفاء . وبذلك قال الشافعي ، وأبو ثور ، والمغيرة المخزومي ، والبخاري ، والطبري. ورأوا أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أوف بنذرك )) على الوجوب . وذهب مالك ، والكوفيون : إلى أنَّه لا يلزمه شيء من ذلك ؛ لا عتق ، ولا صوم ، ولا اعتكاف ؛ لعدم تصوُّر نيَّة القربة منهم حالة كفرهم . واعتذروا عن ظاهر الحديث : بأن قول عمر : نذرت في الجاهلية . إنما يريد : في أيام الجاهلية ، لا أنه كان هو في الجاهلية . ومنهم من قال : إن هذا الأمر على جهة النَّدب .
(15/87)
قلت : والاعتذاران ضعيفان ؛ لأنهما خلاف الظاهر من مساق الحديث ، ومن ظاهر الأمر . وأما قولهم : لا يلزمهم شيء من نذر تلك القرب ؛ لأنه لا تصح نيَّة التقرُّب منهم ؛ فقول لا يصبر على السير ؛ لأنا نقول : لا يلزم من كون العبادة لا تصحُّ من المكلَّف إلا أن يكون مخاطبًا بها ؛ لأنَّا نجوّز التكليف بالمشروط حالة عدم شرطه الممكن التحصيل . كما يؤمر الكافر بالايمان بالرُّسول حالة عدم معرفته بالرسل ، والمحدث بالصلاة حالة الحدث ، والبعيد عن مكة بالحج . وسر هذا : أنه لما كانت هذه الشروط ممكنة التحصيل للمكلَّف ؛ أُمِر بفعل المشروط .
ويتضمن ذلك الأمر الأمر بتحصيل ما لا يصح ذلك المشروط إلا به . وهذه مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة . وقد ذكرنا في أصول الفقه : أن الصحيح أنهم مخاطبون بها ، وأنه الصحيح من مذهب مالك وغيره من العلماء . وعلى هذا : فيلزم الكافر ما نذره في حال كفره ، كما هو الظاهر من حديث عمر ـ رضى الله عنه ـ هذا. وكذلك يلزمه عتق ما أعتق ، وصدقة ما تصدَّق به . فإن أسلم صحَّت له تلك الأعمال كلّها ، وأُثيب عليها ، كما هو الظاهر من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحكيم بن حزام : (( أسلمتَ على ما أسلفتَ عليه من خير )). ومالك - حيث لم يلزمه بشيء من ذلك - إنما بناه على القول الآخر عنه : في أن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع . والصحيح المشهور من مذهبه ، ومذهب أصحابه : أنهم مخاطبون بها . وعلى هذا : يخرج من مذهبه قول آخر في إلزام الكفار ما التزموه من النَّذر والعتق في حالة الكفر . والله أعلم .
(15/88)
وقوله : (( أنه نذر أن يعتكف ليلة )) ؛ يحتجُّ به من يجيز الاعتكاف بالليل وبغير صوم . ولا حجَّة له فيه ؛ لأنه قد قال في الرواية الأولى : ((أنَّه نذر أن يعتكف يومًا )) ، والقصة واحدة . فدلَّ مجموع الروايتين : على أنَّه نذر يومًا وليلة ، غير أنه أفرد أحدهما بالذكر لدلالته على الآخر ، من حيث : أنهما تلازما في الفعل ، ولهذا قال مالك : إن أقلَّ الاعتكاف يومٌ وليلةٌ ، فلو نذر أحدهما لزمه تكميله بالآخر . ولو سلمنا : أنَّه لم يجئ لليوم ذكر لما كان في تخصيص الليلة بالذكر حجَّة ؛ لإمكان حمل ذلك الاعتكاف على المجاورة ؛ فإنَّها تُسمَّى اعتكافًا لغةً . وهي تصحُّ بالليل والنهار ، وبصوم وبغير صوم . والله أعلم .
(15/89)
كتاب القسامة والقصاص
ومن باب كيفية القسامة وأحكامها
في الصِّحاح : يقال : أقسمت : حلفت. وأصله من القسامة ، وهي : الأيمانُ تُقْسَمُ على الأولياء في الدَّم . والقَسَمُ - بالتحريك - : اليمين . وكذلك : الْمَقْسَم . وهو المصدر. مثل : الْمَخْرَج . والْمَقْسَم أيضًا : موضع القسم . قال زهير :
بِمَقْسَمةٍ تَمُورُ بها الدِّماءُ
يعني : بمكة .
وقوله : (( فإنِّي مُحَيِّصةُ يهود ، فقال : أنتم والله قتلتموه )) ؛ ظاهره : أنَّه لم يكن هنالك لوثٌ يستند إليه في دعواه على اليهود إلا كون القتيل وجد في محلَّتِهم وقريتهم . وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ، والثوري ، ومعظم الكوفيين. فرأوا : أن ذلك لوثٌ يوجب القسامة ، ولم يروا لوثًا غيره تمسُّكًا بهذا الحديث . ولم ير الجمهور : مالك ، والشافعي ، والليث ، وأحمد ، وداود ، وغيرهم ، ذلك لوثًا موجبًا للقسامة ، والقتيل هَدْر ؛ لأنه قد يقتل الرَّجلُ الرَّجل ويلقيه في محلَّة القوم لِيُلَطِّخَهُم به ، غير أن الشافعي قال : إلا أن يكون مثل القصة التي حكم فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خيبر فتجبُ بها القسامة ؛ لما بين اليهود والأنصار من العداوة ، ولأنه لم يكن هنالك سواهم ؛ ولأن عبدالله خرج بعد العصر ، فوُجد قتيلاً قبل الليل . ونحوه قال أحمد . وقد تأول النسائي هذا على مالك.
قلت : وحاصل ما قال هؤلاء : إن هذه القضية اجتمعت فيها قرائن غير كون القتيل وجد في محلتهم ، وإنَّ المحلَّة لم تنفرد باللوث ، بل مجموع ما أبدوه من القرائن . وما قالوه صحيح ؛ إذ لا مُعيّن ، ولا مخصص ، ولا ما يدل على إلغاء ما أ بدوه .
وقد اختلف العلماء في الأمور التي تكون لوثًا. ومجموع ما اختلف فيه من سبعة أمور :
أحدها : ا لمحلَّة ، وقد ذكرناها .
(15/90)
وثانيها : قول القتيل : دمي عند فلان . أو فلان قتلني عمدًا . أو ضربني ؛ وجد به أثر ، أو لم يوجد . فقال مالك ، والليث : إنه لوث يوجب القسامة . قال مالك : إنه مِمَّا اجتمع عليه في الحديث والقديم ، وروي عن عبد الملك بن مروان . وشَرَط بعض أصحاب مالك وجود الأثر والجرح ، وتمسَّك مالك في ذلك بقصّة قتيل بقرة بني إسرائيل ، فإنَّه لَمَّا حيي القتيل قال : فلان قتلني . فاغتمد على ذلك ، وبأن المسلم الْمُشْرِف على الموت لا يُتَّهم بكذبٍ يُسْفَكُ به دمُ مسلم عند آخر عهده بالدنيا ، فظاهر حاله الصدق . وقد خالفه في ذلك سائر العلماء ، ولم يروا شيئًا من ذلك لوثا .
وثالثها : شهادة غير البيِّنة القاطعة . ولم يختلف قول مالك ، والشافعي ، والليث : في أن الشاهد الواحد العدل ولفيف الناس لوث ؛ واختلف قول مالك في الواحد غير العدل ، وفي المرأة . هل ذلك لوث ، أم لا ؟ وجعل الليث ، وربيعة ويحيى بن سعيد شهادة النِّساء ، والعبيد ، والذميين لوثًا . وقال بعض أصحابنا : شهادة النِّساء والصبيان لوث . وأباه أكثرهم .
ورابعها : أن يشهد شاهدان على الجرح ، ثمَّ يحيا المجروح حياة بيِّنة ، ثم يموت . فذلك لوث يوجب القسامة عند مالك ، وأصحابه ، واللَّيث . واختلف عندنا فيما إذا شهد بالجرح شاهد واحد ؛ هل يوجب ذلك قسامة ، أم لا ؟ على قولين ، والأصح : أنها لا تجب إلا بشاهدين . ولم ير الشافعي ، ولا أبو حنيفة في هذا قسامة ، بل القصاص من غير قسامة.
وخامسها : وجود المتهم عند المقتول ، أو قربه ، أو آتيًا من جهته وعليه آثار القتل من التلطُّخ بالدَّم وشبهه . فهو لوث عند مالك . وقال الشافعي نحوه . قال : وذلك : إذا لم يوجد هنالك أحد به أثر ، ولا سَبُغٌ. قال : ولو وجد في بيت ، أو دار ، أو صحراء قتيل ليس فيها أحدٌ سواهم فيتفرقون عن قتيل . فهذا كلُّه شبهة توجب القسامة .
وسادسها : فئتان يقتتلان ، فيوجد بينهما قتيل ؟ ففيه روايتان :
(15/91)
إحداهما : أن أولياءه يقسمون على من يدَّعون عليه ، أو من يدَّعي عليه المقتول ؛ كان من الفئتين ، أو غيرهم .
والأخرى : لا قسامة فيه في هذه الوجوه ، وفيه الدِّية على الطائفة التي نازعت طائفته ؛ إن كان منها ، وعلى الطائفتين إن كان من غيرهما ، وبالقسامة في هذا قال الشافعي . وقال أحمد وإسحاق : عقله على الفئة المنازعة ؛ فإن عيّنوا رجلاً ؛ ففيه القسامة .
وسابعها : الميِّت في مزاحمة الناس . قال الشافعي : تجب بذلك القسامة ، وتكون فيه الدِّية . وعند مالك : هو هدر . وقال إسحاق ، والثوري : ديته على بيت المال . وروي مثله عن عمر ، وعلي رضي الله عنهما ، وقال الحسن ، والزهري : ديته على من حضر .
وقوله : (( ثم أقبل هو وأخوه حُوَيِّصَة )) ؛ يعني به : مُحَيِّصَة . وهما ابنا مسعود ابن زيد . والمشهور في (( حُوَيْصَة ومُحَيِّصَة )) تخفيف الياء . وقد رويا بكسر الياء وتشديدها . وعلى الوجهين فهما مصغران ، والمقتول : عبدالله بن سهل بن زيد ، وأخوه عبد الرحمن بن سهل ، فالأربعة بنو عم ، بعضهم لبعض . وإنَّما تقدم مُحَيِّصَة بالكلام لكونه كان بخيبر حين قُتل عبدالله ، غير أنه كان أصغر سنًّا من حُوَيِّصَة ؛ ولذلك قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كَبِّر ، كَبِّر )) ؛ أي : قدِّم بالكلام قبلك من هو أكبر سنًّا منك . فتقدم حويصةُ ، وكأنه كان أكبر منه ومن عبدالرحمن أخي المقتول .
(15/92)
ففيه من الفقه : أن المشتركين في طلب حقّ ينبغي لهم أن يقدِّموا للكلام واحدًا منهم ، وأحقهم لذلك أسنُّهم ؛ إذا كانت له أهلية القيام بذلك . وهذا كما قال في "الإمام" : فإن كانوا في السُّنَّة سواءً فأقدمهم سنًّا . وقد قدَّمنا أنَّ كبر السنِّ لم يستحق التقديمَ إلا من حيث القدم في الإسلام ، والسبق إليه ، والعلم به ، وممارسة أعماله وأحواله ، والفقه فيه ، ولو كان الشيخُ عَرِيًّا عن ذلك لاستحق التأخير ، ولكان المتصفُ بذلك هو المستحق للتقديم - وإن كان شابًا - ، وقد قدِم وفدٌ على عمر بن عبدالعزيز ـ رضى الله عنه ـ ، فتقدَّم شابٌّ للكلام ، فقال له عمرُ : كبِّر ، كبِّر. فقال : يا أمير المؤمنين ! لو كان الأمرُ بالسنِّ لكان هنا من هو أولى بالخلافة منك! فقال : تكلَّم . فتكلم فأبلغ ، وأوجز .
وقوله - بعد سماع كلام المدَّعين - : (( إمَّا أن يَدُوا صاحبكم ، وإمَّا أن يُؤْذِنُوا بحربٍ )) ؛ هذا الكلامُ من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جهة التأنيس ، والتسلية لأولياء المقتول ، وعلى جهة الإخبار بالحكم على تقدير ثبوت القتل عليهم . ذلك كان حكمًا من النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على اليهود في حال غيبتهم ، فإنَّه بَعْدُ لم يسمع منهم ، ولا حضروا حتى يسألهم . ولذلك كتبَ إليهم بعد أن صدر منه ذلك القول . ثم إن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن سمعَ الدعوى لم يستحضر المدَّعى عليهم إليه.
وفيه من الفقه : أنَّ مجرَّدَ الدَّعوى لا يُوجب إحضارَ المدَّعى عليه ؛ لأنَّ في إحضاره منعًا له من أشغاله ، وتضييعًا لما له من غير مُوجبٍ ثابتٍ. فلو ظهرَ هنالك ما يقوِّي دعوى المدَّعي من لطخ ، أو شبهة لتعيَّن أن يستحضر ويسمع جوابه عمَّا ادعي عليه . ثم قد يختلف هذا بالقرب ، والبعد ، وشدة الضرر ، وقلَّته .
وقوله : (( فكتبوا : إنَّا والله ما قتلناه ! )) فيه من الفقه : الاكتفاء بالكتْبِ ، وبإاخبار الآحاد مع إمكان المشافهة ، وأن اليمين قبل استدعائها ، وتوجهها لا اعتبار بها .
(15/93)
وقوله للمدَّعين : (( أتحلفون خمسين يمينًا )) ؛ دليل : على أن القسامة يبدأ فيها المدَّعون بالأيمان . وهو قول معظم القائلين : بأن القسامة يُستوجب بها الدَّم . قال مالك : الذي أجمعت عليه الأمة في القديم والحديث : أن المدَّعين يبدؤون في القسامة ، وخالف في ذلك الكوفيون ، وكثير من البصريين ، والمدنيين ، والأوزاعي. وروي عن الزهري ، وعمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ، وقالوا : يُبْدَأ بالمدَّعى عليه ؛ متمسكين في ذلك بالأصل الذي دلَّ عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمدَّعي : (( شاهداك ، أو يمينه )) ، وبأنه قد روي هذا الحديث من طرق ذكرها أبو داود ، والنسائي . ذكر فيها : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ طالب المدَّعين بالبينة . فقالوا : ما لنا بيِّنة ، قال : (( فتحلف لكم يهود خمسين يمينًا )). وهذا هو الأصل المقطوع به في باب الدَّعاوى ؛ الذي نبَّه الشرع على حكمته بقوله : (( لو أعطي الناس بدعاويهم لاستحل رجال دماء رجال وأموالهم ، ولكن البيِّنة على المدَّعي ، واليمين على من أنكر )). وقد أجاب الجمهور عن ذلك : بأن الصحيح المشهور المعروف من حديث حُويصة تبدئة المدَّعين بالأيمان. وهي رواية الأئمة الحفَّاظ بالطرق المسندة المستفيضة ، وما ذكروه مما رواه أبو داود والنسائي : مراسيل ، وغير معروفة عند المحدِّثين ، وليست مِمَّا تعارض بها الطُّرُق الصِّحاح ؛ فيجب ردَّها بذلك . وأجابوا عن التمسك بالأصل : بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدِّماء ، ولتعذر إقامة البيِّنة على القتل غالبًا . فإن القاصد للقتل إنَّما يطلب الخلوة ، والغيْلة ، بخلاف سائر الحقوق ، وبشهادات الروايات الصحيحة لهذا الأصل الخاص بهذا الحكم الخاص ، وبقي ما عداه على ذلك الأصل الآخر . ثم ليس ذلك خروجًا عن ذلك الأصل بالكلية . وذلك أن المدَّعي إنَّما كان القول قوله لقوَّة جنبته بشهادة الأصل له بالبراءة مما ادُّعي به عليه ، وذلك المعنى موجود هنا ، فإنَّه إنما كان القول قول المدَّعين لقوة جنبتهم باللوث الذي يشهد لهم(15/94)
بصدقهم . فقد أعملنا ذلك الأصل ، ولم نطرحه بالكليَّه .
وقوله : (( أتحلفون خمسين يمينًا ؟ )) ، وفي الرواية الأخرى : (( أيُقسم خمسون منكم ؟ )) دليل : على استحقاق هذا العدد من الأيمان ، فلا يجزىء فيها أقل من ذلك . فإن كان المستحقون خمسين ؛ حلف واحد منهم يمينًا واحدة . فإن كانوا أقل من ذلك ، أو نكل منهم من لا يجوز عفوه رُدَّت الأيمان عليهم بحسب عددهم . ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال ، لا يحلف فيه الواحد من الرِّجال ولا النساء ، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينًا . هذا مذهب مالك ، والليث ، وربيعة ، والثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ة وداود ، وأهل الظاهر. واختلف عن مالك فيما إذا زاد الأولياء على الخمسين . هل يحلف كلهم يمينًا ، يمينًا ، أو يقتصر منهم على خمسين ، وهذا هو الأولى لقوله : (( يحلف خمسون منكم )) ، و(( من )) للتبعيض. والخطاب لجميع الأولياء . فأفادَ ذلك : أنه إذا حلف منهم خمسون أجزأ .
وأمَّا القسامة في الخطأ عند القائلين بها : فيحلف فيها الواحد من الرجال ، والنساء ، فمهما كملت خمسون يمينًا من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه ، ومن نكل لم يستحق شيئًا . فإن جاء من غاب حلف من الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه . هذا قول مالك المشهور عنه . وقد روي عنه : أنه لا يرى في الخطأ قسامة . وقال الليث : لا ينقص من ثلاثة أنفس . وقال الشافعي : لا يخلف في العمد ، ولا في الخطأ إلا أهل الميراث على قدر مواريثهم . ولا يخلف على مال مَنْ لا يستحفه . وهو قول أبي ثور ، وابن المنذر .
(15/95)
وقوله : (( وتستحفون دم صاحبكم )) ، وفي الرواية الأخرى : (( فيُدْفَع إليكم برمَّتِه )) ؛ نصٌّ في أن القسامة يُستحقُّ بها الدَّم . وهو مذهب معظم الحجازيين ، وهو قول الزهري ، وربيعة ، والليث ، ومالك ، وأصحابه ، وا لأوزاعي ، وأبي ثور ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود ، وأحد قولي الشافعي . وروي ذلك عن ابن الزبير ، وعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهم . قال أبو الزناد : قتلنا بالقسامة وأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ متوافرون ؛ إني لأراهم ألف رجل ، فما اختلف منهم في ذلك اثنان. وقال الكوفيُّون ، وإسحاق ، والشافعي - في قوله الآخر - : إنَّما تجب بها الدِّية . وهو قول الحسن البصري ، والحسن بن حيٍّ ، والبتِّي ، والنخعي ، والشعبي. وروي عن أبي بكر ، وعمر ، وابن عبَّاس ، ومعاوية. والحديث المتقدِّم نصٌّ في موضع الخلاف ، فلا ينبغي أن يُعْدَل عنه .
وقوله : (( على رجل منهم )) ، وفي اللفظ الآخر : (( وتستحِقُّون دم صاحبكم )) ؛ دليلٌ على أن القسامة إنما تكون على واحد . وهو قول أحمد ، ومشهور قول مالك . وقال أشهب : لهم أن يقسموا على جماعة ، ويختارون واحدا للقتل ، ويسجن الباقون عامًا ، ويضربون مائة. وقال المغيرة : يقتل بها الجماعة . وهو قول الشافعي في القديم . وذهب ابن سريج من أصحابه : إلى أنه يقسم على الجماعة ، ويقتل منهم واحد. وقد فهم الشافعي من قوله : (( وتستحقون دم صاحبكم )) : أنَّه لا يحلف إلا الورثة الذين يستحقون المال . وهو فهم عجيب ينبني على أن المستحق بالقتل العمد تخيير الولي بين القصاص وبين الدِّية . وسيأتي ذلك إن شاء الله . وقد بناه بعضهم على قولته الأخرى : في أن المستَحَقَّ بالقسامةِ الدِّيةَ لا القصاص . وهو خلاف نص الحديث .
(15/96)
وقوله : (( ما حضرنا ، ولا شهدنا )) ، وفي اللفظ الآخر : (( أمرٌ لم نحضرْه ، فكيف نشهد؟! )) ؛ فيه دليلٌ : على أن الأيمان في القسامة على القطع . وهو الأصل في الأيمان ، إلا أن يتعذر ذلك فيها ، كما سيأتي تفصيل ذلك . وسبب ذلك : أن الحالف جازم في دعواه ، فلا يحلف إلا على ما تحققه ، كالشاهد ، غير أنَّه لا يشرط في تحقيق ذلك الحضور والمشاهدة ؛ إذ قد يحصل له التحقيق من الأخبار ، والنَّظر في قرائن الأحوال .
وقوله : (( فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم )) ؛ دليل : على أن من توجهت عليه يمين فنكل عنها : أنَّه لا يُقضى عليه بمجرد النُّكول حتى تردَّ اليمينُ على الآخر ، ويحلف. وهو قول مالك ، والشافعي . وروي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وجماعة من السلف . وقال أبو حنيفة ، والكوفيون ، وأحمد بن حنبل : يُقضى عليه دون رد اليمين . وقال ابن أبي ليلى : يُؤخذ باليمين. ومعنى تبرئكم يهود : أي : يبرؤون إليكم مما طالبتموهم به ، فتبرؤون أنتم منهم ؛ إذ ينقطع طلبكم عنهم شرعًا .
(15/97)
وفيه دليل على أن الأيمان المردودة لا تكون أقل من خمسين يمينًا من خمسين رجلاً إذا كان المدَّعى عليهم خمسين. فإن كانوا أقل من ذلك ؛ حلفوا خمسين يمينًا ، ورُدَّت عليهم بحسب عددهم . وهل لهم أن يستعينوا بمن يحلف معهم من أوليائهم أم لا ؟ قولان . فمشهور مذهب مالك : لهم الاستعانة. وعليه فلا يحلف فيها أقل من اثنين . ولا يحلفُ المدَّعى عليه معهم إلا أن لا يجد من يحلفُ معه ، فيحلفُ هو خمسين يمينًا. وروى مطرف عن مالك : أنَّه لا يحلفُ مع المدَّعى عليه أحدٌ ، ويحلفُ هم أنفسهم كانوا واحدًا أو أكثر خمسين يمينًا يبرئون بها أنفسهم . وهو قول الشَافعي . وهو الصحيح ؛ لأن من لم يُدَّع عليه لم يكن له سبب يتوجَّه عليه به يمين ، ثم مقصود هذه الأيمان : البراءة من الدَّعوى . ومن لم يُدَّع عليه بريء ، ولأن أيمانهم على أن وليَّهم لم يُقتل شهادةٌ على نفي ، وهي باطل . وأيضًا فقد قال الله تعالى : { وَلا تَزِرُوَا وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }.
وقوله : (( فيُدفع بِرُمَّتِه )) ؛ هو بضم الراء ، وهو : الحبل البالي. وأصله : أنَّ رجلاً سلَّم رجلاً لآخر بحبلٍ في عنقه ليقتلَه ، فقيل : ذلك لكل من سقَم شيئًا بكلِّيته ، ولم يبق له به تعلُّق . والرِّمَّةُ - بكسر الراء - : العظم البالي . يقال : رمَّ العظم ، وأرم : إذا بلي . والرميم : الشيء البالي ، المتفتت كالورق ، المتهشم . ومنه قوله تعالى : { مَا تَذَرُ مِن شَيءٍ أَتَت عَلْيه إلا جَعَلَتهُ كالرَّمِيم } ،
وقول المدَّعين : (( كيف نقبل أيمانَ قومٍ كُفَّار )) ؛ هذا استبعاد لصدقهم وتقريبٌ لإقدامهم على الكذب ، وجرأتهم على الأيمان الفاجرة . وعلى هذا يدل قولهم : (( ليسوا بمسلمين )) ؛ أي : ما هم عليه من الكفر والعداوة للمسلمين يجرؤهم على الأيمان الكاذبة ، لكنهم مع هذا كله لو رضوا بأيمانهم لحلفوا ، ولا خلاف أعلمه في أن الكافر إذا توجَّهت عليه يمين : أنه يحلفها أو يُعَدُّ ناكلاً .
(15/98)
وبماذا يحلف ؛ فالمشهور عن مالك : أنَّه إنما يحلف بالله ؛ الذي لا إله إلا هو . سواء كان يهوديًّا ، أو نصرانيًّا ، أو غيرهما من الأديان ، كما يحلف المسلم . وفيه نظر . وروى الواقدي عن مالك : أن اليهودي يحلف بالله الذي إنزل التوراة على موسى . والنصراني : بالله الذي أنزل الانجيل على عيسى . وهذا القول أمشى على الأصل من الأول. وذلك : أنَّا إذا أجبرنا النصراني على أن يحلف بالتوحيد مع قطعنا : بأنَّه خلاف معتقده ، ودينه ؛ فقد أجبرناه على الخروج عن دينه ، مع أنا قد عاهدناه على إبقائه على اعتقاده ، ودينه . وأيضًا : فلا مانع له من أن يقدم على الحلف بذلك ؛ إذ هو في اعتقاده ليس بصحيح . فالأولى القول الثاني . ويحلف في المواضع التي يعتقد تعظيمها .
وقوله : (( فودَاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عنده )) ؛ إنَّما فعل ذلك على مقتضى كرم خلقه ، وحسن إيالته ، وجلبًا للمصلحة ، ودفعًا للمفسدة ، وإطفاءً للثائرة ، وتأليفًا للأغراض المتنافرة عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق لتعذر طرقه . وهذا اللفظ الذي هو : (( من عنده )) ؛ ظاهر في أن الإبل التي دفع كانت من ماله . وهذا أصحُّ من رواية من روى : أنها كانت من إبل الصَّدقة ؛ إذ قد قيل : إنَّها غلط من بعض الرُّواة ؛ إذ ليس هذا من مصارف الزكاة .
قلت : والأولى ألا يغلَّظ الراوي العدل الجازم بالرواية ما أمكن . ويحتمل ذلك أوجهًا من التأويلات :
أحدها : أنَّه تسلَّف ذلك من مال الصَّدقة ؛ حتَّى يؤديها من الفيء .
وثانيها : أن يكون أولياء القتيل مستحقين للضدقة ، فاعطاها إياهم في صورة الدِّية ، تسكينًا لنفرتهم وجبرًا لهم ؛ مع أنَّهم مستحقون لها .
وثالثها : أنَّه أعطاهم تلك من سهم المؤلفة قلوبهم استئلافًا لهم ، واستجلابًا لليهود .
(15/99)
ورابعها : قول من قال : (( من الصدقة)) ؛ أنَّه يجوز صرف الصدقة في مثل هذا ؛ لأنَّه من المصالح العامَّة . وهذا أبعد الوجوه ؛ لقوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } ، تفسير غريبه : الفريضة : واحدة الفرائض ، وهي : النوق المأخوذة في الزكاة والدِّية . وقد فسَّرها في الرِّواية التي قال فيها : (( فلقد ركضتني منها ناقة حمراء )). وأصل الفرض : التقدير ، كما تقدم . ولا معنى لقول من قال : إنَّها هنا المسنة من الإبل . والشَّرَبة - بفتح الشِّين والرَّاء - هي : حوض في أصل النَّخلة تشرب منه النخلة . وجمعه : شَرَب - بفتح الرَّاء - ؛ وهي التي عبَّر عنها في الرواية الأخرى بـ (( الفقير )). وقيل : الفقير : هو الحفر العميق الذي يحفر للفسيلة. والجفد -بفتح الجيم - : الشدَّة والمشقَّة . والجفد - بضمها - : غاية الوسع والطَّاقة . والعقل : الدِّية . وسمِّيت بذلك : لأن الإبل كانت تعقل بفناء المستحقين للدِّية . وقد تقدم القول في (( الرِّمَّة )).
وفيه من الفقه : أن أهل الذِّمَّة يحكم عليهم بحكم الإسلام ، لا سيما إذا كان الحكم بين ذمِّي ومسلم ، فإنَّه لا يختلف في ذلك . وكذلك لو كان المقتول من أهل الذمة فادَّعي به على مسلم ؛ فإن ولاة الدَّم يحلفون خمسين يمينًا ، ويستحقون دِّية ذمِّي . هذا قول مالك . وقال بعض أصحابه : يحلف المسلم المدَّعى عليه خمسين يمينًا ، ويبرأ ، ولا تحمل العاقلة ديته . فلو قام للذميِّ شاهدٌ واحدٌ بالقتل ؛ فقال مالك : يحلف ولاته يمينًا واحدة ويستحقون الدِّية من ماله في العمد ، ومن عاقلته في الخطأ. وقال غيره : يحلف المدَّعى عليه خمسين يمينًا ويجلد مائة ، ويحبس عامًا .
وفيه ما يدلُّ على جواز سماع حجَّة أحد الخصمين في غيبة الآخر. وأن أهل الذمِّة إن امتنعوا من فعل ما وجب عليهم انتقض عهدهم .
(15/100)
والحديث كل حجَّة واضحة للجمهور من السَّلف والخلف على من أنكر العمل بالقسامة ؛ وهم : سالم بن عبدالله ، وأبو قلابة ، ومسلم بن خالد ، وقتادة ، وابن عُلَيَّة ، وبعض المكيين . فنفَوْا الحكم بها شرعًا في العمد والخطأ. وقد روي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز ، والحكم بن عتَيْبة. وقد روي عنهما العمل بها . وقد روي نفي العمل بها عن سليمان بن يسار . والصحيح عنه روايته المذكورة عنه هنا . حيث قال عن رجال من الأنصار : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرَّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية . وظاهر هذا : أنَّه يقول بها . وهذا الحديث أيضًا حجة للجمهور على من أنكر العمل بها . فإن ظاهره : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجدَ الناس على عمل ، فلمَّا أسلموا ، واستقل بتبليغ الأحكام أقرَّها على ما كانت عليه ، فصار ذلك حكما شرعيًّا يُعمل عليه ، ويحكم به ، لكن يجب أن يبحث عن كيفية عملهم الذي كانوا يعملونه فيها ، وشروطهم التي اشترطوها ، فيعمل بها من جهة إقرار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها ، لا من جهة الاقتداء بالجاهلية فيها .
ومن باب القصاص في العين وحكم المرتد
قوله : (( إن ناسًا من عُرَيْنَة قدموا المدينة فاجتَوَوْها )) ؛ أي : لم توافقهم في صحتهم . يقال : اجتوى البلد ، واستوبله ، واستوخمه : إذا سقم فيه عند دخوله . و(( استاقوا الذود )) ؛ أي : حملوا الإبل معهم ، وهو من السَّوق ، وهو : السير السَّريع العنيف . وفي الرِّواية الأخرى : مكان : (( الذود )) : (( لقاح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ، وهي : جمع : لِقْحَة . وهي : الناقة ذات اللبن . و(( سَمَلَ أعينهم )) ؛ أي : غرز فيها الشوك حتَّى فقأها . قال أبو ذُؤَيْب :
والعَيْنُ بَعْدَهُمُ كأنَّ حِدَاقِهَا سُمِلَتْ بشوْكٍ فهي عُورٌ تدْمَعُ
و (( سَمَرَ )) ؛ أي : فقأها بمسامير محميَّةٍ ؛ قاله أبو عبيد . وقال غيره : ((سَمَلَ )) و(( سَمَّرَ )) بمعنى واحد . أبدلت الرَّاء من اللام . وفيه بُعْدٌ .
(15/101)
و (( يستسقون )) : يسألون أن يسقوا . وفي الأصل : (( وقد وقع بالمدينة ألْمُوم ، وهو البرسام )). والبرسام : لفظة يونانية تستعملها الأطبَّاء في كتبهم ، يعنون به : وجعَ الرأسِ أو الصَّدر .
وفي الحديث أبواب من الفقه ؛ منها : جواز التطيُّب ، وأن يطب كل جسم بما اعتاد . فإن هؤلاء القوم أعراب البادية ، عادتهم شرب أبوال الإبل وألبانها ، وملازمتهم الصحارى . فلمَّا دخلوا القرى ، وفارقوا أغذيتهم ، وعادتهم ؛ مرضوا . فأرشدهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ذلك ، فلمَّا رجعوا إلى عادتهم من ذلك ، صحُّوا ، وسمنوا .
وفيه دليل لمالك على طهارة بول ما يؤكل لحمه . وقد تقدَّم .
وفي جواز قتل المرتدين من غير استتابةٍ .
وفيه : القصاص من العين بمثل ما فقئت به ، كما قال أنس : إنما سَمَل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعينهم ؛ لأنهم سَمَلوا أعين الرِّعاء ، وإنَّما قطع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيديهم وأرجلهم لأنهم فعلوا كذلك بالرَّاعي ؛ كما حكاه أهل التاريخ والسِّير . قالوا : كان هذا الفعل من هؤلاء المرتدِّين سنة ست من الهجرة . واسم الرَّاعي : يسار ، وكان نوبيًّا. فقطعوا يديه ، ورجليه ، وغرزوا الشوك في عينيه حتَّى مات ، وأدخل المدينة ميتًا . ففعل بهم رسول الله مثل مافعلوا به .
قلت : وعلى هذا : فلا يكون فيه إشكال . ويكون فيه دليل على القصاص من الجماعة بالواحد في النفس والأطراف . وهو قول مالك ، وجماعة . وخالف ذلك أبو حنيفة فقال : لا تقتل الجماعة بالواحد. والحديث حجَّة عليه .
وقول عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به )). غير أن ذلك الحديث يُشْكِل بما زاده أبو داود فيه من حديث أنس أيضًا قال : فبعث رسول الله في طلبهم قافة ، فأُتي بهم ، فأنزل الله تعالى في ذلك : { إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} ، الآية.
(15/102)
وعلى هذا فإنما قطعهم وقتلهم لأنهم محاربون ، فلا يكون فيه حجَّة على ما ذكر قبل هذا من الأوجه المستنبطة ؛ لأنَّهم إذا كانوا محاربين فهو مخيَّر فيهم . ثم يشكل هذا بما زاده أبو داود فيه من حديث أنس ، فإنَّه قال فيه بعد ذلك : ثم نهى عن المثلة .
وفيه من حديث أبي الزناد : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قطع أيدي الذين سرقوا لقاحه ، وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله في ذلك ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ في ذلك : { إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ...} ، الآية. فإن كان فعل ذلك قصاصًا منهم ، أو حدًّا ؛ لأنهم محاربون ؛ فذلك ليس بمثلة منهيًّا عنها ، ولا يعاتب عليه .
قلت : والذى يرتفع به الإشكال -إن شاء الله - : أن طرق حديث أنس في الواقعة في كتاب مسلم والبخاري أشهر وأصح من طرق أبي داود . وتلك الطرق متوافقة : على أن ذلك من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قصاصًا منهم بما فعلوا غير تركهم حتى ماتوا عطاشًا ، وتكحيلهم بمسامير محمَّاة ، كما ذكره أبو داود ، وكما دل عليه قوله : (( سمر أعينهم )). فيمكن أن يقال : إن الله تعالى عاتبه على ذلك القدر الذي زاده فقط ، دون القصاص والقتل ، فإن ذلك كان حكمهم . ولم يَسْتَتِبْهُم من الرِّدة ، إما لأن الاستتابة لم تكن إذ ذاك مشروعة ، وإمَّا لأنهم كانوا قد وجب قتلهم إمَّا بالقصاص ، وإمَّا بالحرابة ؛ فلا بدَّ من قتلهم ، فلا يظهر للاستتابة فائدة ، فاستغنى عنها ، والله تعالى أعلم .
غير أنه يبقى على هذا إشكال آخر ، وهو : أن من قطع يد رجل أو رجله ، أو فقأ عينه ، ثم قتله ، قتل به ، ولم يُفعل به شيء مما فعل بالمقتول من قطع ، أو جرح . بل يُقتل خاصة إلا أن يكون قد مَثَّل به فيُفعل به كما فعل ، ثمَّ يقتل . هذا مذهب مالك . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : يجرح ، أو يقطع ، ثم يُقتل. فعلى قولهما لا إشكال فيه . ويزول الاشكال على قول مالك بأنهم مثَّلوا بالرَّاعي فمُثِّل بهم ، ثم قُتِلوا .
(15/103)
وقد اختلف العلماء فيما إذا نزلت : { إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ...} ؟ فقيل : نزلت في هؤلاء العُرَنيَّين كما ذكرناه في حديث أبي داود . وذهب الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح : إلى أنها نزلت في المشركين . وذهب ابن جرير : إلى أنها نزلت في اليهود. قال : ويدخل تحتها كلُّ ذِمِّي وملِّيٍّ . وذهب مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي : إلى أنها نزلت في المسلمين المحاربين . وهذا القول أصحها إن شاء الله تعالى ؛ لوجهين :
أحدهما : أن الكفار لا تخيير فيهم بين القتل والصَّلب ، وقطع الأيدي والأرجل . وإنَّما حكم الكافر الأصلي : إمَّا القتل ، وإمَّا السباء ، أو الجزية . وإمَّا المرتد : فالقتل . وهل يستتاب أو لا ؟ هذا محل الخلاف كما تقدم .
(15/104)
وثانيهما : أن الكافر لو تاب فأسلم بعد القدرة عليه لصحت توبته ، وحرم قتله بالإجماع . وآية المحاربة بنصِّها مخالفة لهذين الوجهين . فدلَّ اختلاف حكم الكافر لحكم المحارب : أن المحارب إنَّما هو مسلمٌ بحكم اعتقاده ، محارب بفعله . فحكمه ما ذكره الله تعالى في آية المحاربة . ثم المحاربة عندنا هي : إخافة السبيل ، وإشهار السلاح ، قصدًا لأخذ الأموال بالفساد في الأرض ، وتكون خارج المصر وداخله عندنا ، وعند الشافعي. وقال أبو حنيفة ، وعطاء : لا تكون في المصر . وقد فسَّر مجاهد المحاربة بالزنى والسرقة . وليس بصحيح ؛ لأن الله تعالى قد بيَّن في كتابه ، وعلى لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أن السارق تقطع يده فقط ، وأن الزاني يجلد ويغرَّب إن كان بكرًا ، أو يرجم إن كان ثيِّبًا محصنًا )). وأحكام المحارب في هذه الآية خلاف ذلك ؛ اللهم إلا أن يريد مجاهد : إخافة الطُّرق بإظهار السِّلاح قصدُا للغلبة على الفروج ؛ فهذا أفحش المحاربة ، وأقبح من أخذ الأموال . ولا ينبغي أن يختلف في ذلك . وقد دخل ذلك في قوله تعالى : { ويسعون في الأرض فسادًا } ، وأيُّ فسادٍ أعظم من الهجم على حرم المسلمين وأولادهم ، وإشهار ذلك ، وإظهار السلاح لأجله . وقد كثر ذلك في بلاد الأندلس في هذه الْمُدَد القريبة ، وظهر فيهم ظهورًا فاحشًا ، بحيث اشترك فيه الشُّبَّان بالفعل ، وأشياخهم بالإقرار عليه ، وترك الإنكار. فسلط الله عليهم عدوَّهم فأهلكهم ، واستولى على بلادهم . فإنا لله ، وإنَّا إليه راجعون .
(15/105)
فأمَّا حكم المحارب : فأولى الأقوال فيه ما شهد له ظاهر الآية . وهو : تخيير الإمام بين القتل مع الصَّلب ، والقطع ، والنفي . فأيُّ ذلك رأى الإمام أنكى ، أو أحق ، فعل . وهو مروي عن ابن عباس. وإليه ذهب عطاء ، والحسن البصري ، والنخعي ، ومجاهد ، والضحاك ، ومالك ، وأبو ثور . واختلف عن مالك في الصَّلب . هل يكون قبل القتل ، أو بعده ؟ وروي أيضًا عن ابن عباس : (( أنه إن أخاف السبيل وأخذ المال ؛ قُطعت يده ورجله من خلاف . وإن أخذ المال وقَتَل ؛ قُطعت يده ورجله ، ثم قُتل . وإن قتل ، ولم يأخذ مالاً ؛ قُتل . وإن لم يأخذ مالاً ولم يقتل : نُفي )). وبه قال قتادة وأبو مجلز . وقال الأرزاعي : إن أخاف السبيل ، وشهر السلاح ؛ قتل ، ولم يصلب . وإن أخذ ، وقتل ؛ قتل مصلوبًا. وإن أخاف السبيل ولم يقتل ؛ قطع : أخذ المال ، أو لم يأخذ . وقال الشافعي : إن قتل ، وأخذ ؛ قتل ، وصلب . وإن قتل ولم يأخذ ؛ قُتل ولم يصلب ، ودُفع إلى أوليائه ، وإن أخذ ولم يقتل ؛ قطعت يده اليمنى ، ثم حسمت بالنار ، ثم رجله اليسرى ، ثم حسمت . وقال أحمد : من قَتَل قُتِل ، ومن أخذ المال قُطِع . والأولى : القولُ بالتخيير . والله العليم الخبير .
ومن باب القصاص في النفس
قوله : (( إن جارية وجد رأسها قد رضَّ بين حجرين فجيء بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبها رمق )) ؛ الرَّضُّ : الكسر غير الْمُبَان . و(( الرَّمَق )) : بقية الحياة ؛ يعني : أنها قد أشرفت على الموت . ولذلك لما سُئلت عمَّن أصابها أومأت برأسها لما ذُكِر لها القاتل ، ولم تقدر على الكلام بلسانها . ومن قال من الرواة : إنَّها قالت : نعم . فإنما عبَّر عمَّا فهم عنها من الإشارة بالقول ، فإنَّها تنزلت منزلة القول .
ففيه من الفقه : قتل الرَّجل بالمرأة . وهو قول الجمهور خلافًا لمن شذَّ فقال : لا يقتل بها . وهو عطاء ، والحسن . وقد روي عن علي ـ رضى الله عنه ـ .
(15/106)
وأمَّا القصاص بينهما في الأطراف : فهو أيضًا مذهب الجمهور . وقد ذهب إلى نفيه فيها من نفاه في النفس ، وأبو حنيفة ، وحئاد ، وإن قالا به في النفس . والصحيح قول الجمهور في المسألتين ؛ لقوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس }. إلى آخر الآية .
وفيه : جواز ذكر من اتُّهم ، وعرضهم على المقتول واحدًا ، واحدًا بعينه واسمه ، وإن لم تتم دلالة على لطخه أكثر من أنَّه يحتمل ذلك احتمالاً قريبًا . ولا يكون ذلك عرضًا يستباح .
وفيه : ما يدلُّ على اعتبار التَّدمية على الجملة . وقد تقدَّم الكلام فيها ، لكن الصحيح في هذا الحديث : أن اليهودي إنَّما قتل بالمرأة باقراره ، لا بمجرد التَّدمية . والرواية التي يظهر منها : أنَّه قتل بمجرد التَّدمية مردودة إلى الرواية التي ذكر فيها : أنه قتل بإقراره لوجهين :
أحدهما : أن القصِّة واحدة وإن اختلفت الرِّوايات ، فيحمل مطلقها على مقيَّدِها .
والثاني : أن ظاهر تلك الرِّواية المطلقة مجمع على تركه ؛ إذ لم يقل أحد من المسلمين : أن التَّدمية بمجردها يقتل بها ، وإنَّما هي عند من قال بها لوثٌ يقسم معها . ولم يسمع قطّ في شيء من طرق هذا الحديث ، ولا رواياته أن أولياء هذه الجارية أقسموا على اليهودي .
وفيه : قتل الكبير بالصَّغير ؛ لأن الجارية اسم لمن لم يبلغ من النساء ، كالغلام من الرجال . وهذا لا يختلف فيه .
(15/107)
وفيه : أن من قَتَل بشيء قُتل به . وقد اختلف فيه ، فذهب الجمهور : إلى أنَّه من يُقتل بمثل ما قَتَل من حجر ، أو عصا ، أو تغريق ، أو خنق ، أو غير ذلك ما لم يقتله بفسق كاللوطية ، وإسقاء الخمر ؛ فيقتل بالسيف. وحجَّتهم هذا الحديث ، وقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ، وقوله تعالى : { والجروح قصاص }. والقصاص أصله : المساواة في الفعل . ومن هؤلاء من خالف في التحريق بالنار ، وفي قتله بالعصا . فجمهورهم : على أنَّه يقتل بذلك . وقال ابن الماجشون وغيره : لا يحرَّق بالنار لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يعذب بالنَّار إلا الله )). وقال مالك في إحدى الروايتين عنه : أنَّه إن كان في قتله بالعصا تطويل ، وتعذيب قتل بالسَّيف . وفي الأخرى : يقتل بها وإن كان فيه ذلك ، وهو قول الشافعي . وقال الشافعي فيمن حبس رجلاً أيَّامًا في بيت حتَّى مات جوعًا ، أو عطشًا ، أو قطع يديه ورجليه ، ورمى به من جبل أنَّه يُفعل به مثل ذلك ، فإن مات ، وإلا قتل . وذهبت طائفة إلى خلاف ذلك كلِّه فقالوا : لا قود إلا بالسيف ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والشعبي ، والنخعي . واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( لا قود إلا بحديدة )) ، وبالنهي عن المثلة . والصحيح مذهب الجمهور لما تقدم ، ولأن الحديث الذي هو : (( لا قود إلا بحديدة )) ضعيف عند المحدثين ، لا يروى من طريق صحيح ، ولأن النهي عن المثلة نقول بموجبه إذا لم يمثل بالمقتول ، فإذا مَثَّل به مثَّلنا به ؛ لقوله تعالى : { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ، ولحديث العُرَنِيِّين على ما تقدم .
(15/108)
وقد شذَّ بعضهم فقال فيمن قتل بخنق ، أو بسم ، أو تردية من جبل أو في بئر ، أو بخشبة : أنه لا يقتل ، ولا يقتص منه إلا إذا قتل بمحدد : حديد ، أو حجر ، أو خشب ، أو كان معروفًا بالخنق والتردية . وهذا منه ردٌّ للكتاب ، والسُّنة ، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الأمَّة ، وذريعةٌ إلى رفع القصاص الذي شرعه الله حياة للنفوس ، فليس عنه مناصٌ .
ثم اختلف العلماء فيما إذا قَتَل بما لا يَقْتُل مِثْلُه غالبًا ، كالعضَّة واللَّطمة ، وضربة السَّوط ، والقضيب ، وشبه ذلك . فقال مالك ، والليث : هو عمدٌ ، وفيه القود . قال أبو عمر : وقال بقولهما جماعة من السلف من الصحابة والتابعين . وذهب جمهور فقهاء الأمصار : إلى أن هذا كلُّه شبه عمد ، إنما فيه الدِّية مغلظة. وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وقد ذكر عن مالك ، وقاله ابن رهب ، وجماعة من الصحابة والتابعين .
(15/109)
قلت : وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ؛ إذ العمد : القصدُ إلى القتل ، وهو أمر لا يُطَّلعُ عليه ، فلا بُدَّ من دليل عليه ، ولا بدَّ أن تكون تلك الدَّلالة واضحة رافعة للشَّك . ودلالة ما يقتل مثله غالبًا دلالة محقَّقة ، صحيحة ، وليس كذلك اللطمة ، وضربة السوط ، فلا دلالة فيها. والدِّماء أحق ما احتيط لها ؛ إذ الأصل صيانتها في أهبها ، فلا نستبيحها إلا بأمر بيِّن ، لا إشكال فيه ، وهذا فيه إشكال ، ولا نستبيح به دمًا ، ولما كان مترددًا بين العمد والخطأ ؛ حكم له بشبه العمد ، وهو حُكْمٌ بين حُكمين ، فلا هو عمد محضّ ، ولا خطأ محضّ ، فلا قود فيه ؛ إذ لم يتحقق العمد . ومع ذلك فيمكن أن يكون قصد القتل ، فتكون فيه الدِّيه المغلظة ، هذا مع ما قد رواه أبو داود من حديث عبدالله بن عمرو : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطب يوم الفتح بمكة ، فذكر الحديث ، وقال فيه : ((ألا وإن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسَّوط ، أو العصا مائة من الإبل ، أربعون في بطونها أولادها )). وهذا نصٌّ في الباب ، فلا ينبغي أن يعدل عنه .
(15/110)
ثمَّ اختلف القائلون بشبه العمد في الدِّية المغلظة ما هي ؟ فقال عطاء ، والشافعي : هي ثلاثون حِقَّة ، وثلاثون جَذَعة ، وأربعون خَلِفَة . وقد روي ذلك عن عمر ، وزيد بن ثابت ، والمغيرة ، وأبو موسى. وهو مذهب مالك حيث يقول : بشبه العمد . ومشهور مذهبه : أنه لم يقل به إلا في مثل فعل المدلجيّ بابنه حيث ضربه بالسَّيف. وقيل : إن دية شبه العمد أربعون جَذَعة إلى بازلٍ عامها ، وثلاثون حِقَّة ، وثلاثون بنت لبون . وروى هذا عن عثمان. وبه قال الحسنُ ، وطاووس ، والزُّهري. وأمَّا ديةُ العمد : فهي عند الشافعي ثلاثون حِقَّةً ، وثلاثون جَذَعةً ، وأربعون خلفة ، كما قال في شبه العمد . وقال مالك : هي أرباع : ربع بنات مخاض ، وربع بنات لبون ، وربع جِذاعٌ ، وربعٌ حقاقٌ . وبه قال الزهري ، وربيعةُ ، وأحمدُ . وقال أبو ثور : أخماس ، ويزيد على الأربعة الأسنان المتقدِّمة بني لبون . وهي عنده ديةُ شبه العمد .
وأمَّا دية الخطأ : فهي عنده أخماسٌ كما ذكرناه آنفًا . وبه قال عمر بن عبدا لعزيز ، وسليمان بن يسار ، والزهريُ ، وربيعةُ ، والشا فعي. ونحوه قال أبو حنيفة ، غير أنه جعل بدل بني لبون بني مخاضٍ . وبه قال النَّخعي ، وأحمدُ ، ويعقوبُ ، ومحمد . ورُوِي عن ابن مسعودٍ. وقيل : إنها أرباعٌ كما تقدَّم في دية العمد . وبه قال الشعبي ، والحسن البصريُ ، والنخعي ، وإسحاق بن راهويه .
(15/111)
قلتُ : وهذا في أهل الإبل مجمعٌ عليه : أن في النَّفس مائة من الإبل. واختلف في غيرهم. فقالت طائفة : يجب على أهل الذهبِ الذهبُ ، وعلى أهل الورِقِ الورِقُ. وروي ذلك عن عمر ، وعروة ، وقتادة ، وما لك ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي ، ولم يختلف هؤلاء : أن دية الذهب ألفُ دينار . واختلفوا في الفضة . فقال الثوري ، والنعمان ، وصاحباه ، وأبو ثورٍ : هي عشرةُ آلاف درهم . وقال الحسن البصري ، وعروةُ ، ومالكٌ ، وأحمدُ ، وإسحاقُ : اثنا عشر ألف درهم. وقال مالك ، وأبو حنيفة : الدِّيةُ من الإبل ، والذهب ، والفضة ، ولم يعرفا الْحُلَل ، ولا البقر . وقال آخرون : هي على أهل البقر مائتا بقرة . وعلى أهل الشاء ألفا شاة . وعلى أهل الْحُلَل مائتا حُلَّة . وروي هذا عن عمر ، والحسن البصرى . وبه قال عطاء ، والزهري ، وقتادة ، غير أن هؤلاء الثلاثة لم يقولوا بالحلل .
قلت : وسبب هذا الخلاف اختلاف الأحاديث الواردة في الباب ، والاختلات في تصحيحها ، وذلك : أنه ليس شيء منها متفقًا على صحته ، وهي ما بين مرسلٍ ، وضعيفٍ . فلنذكرها ؛ فمنها ما خرَّجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جدِّه : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من قَتَل متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول ؛ فإن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا أخذوا الدِّية ، وهي : ثلاثون حِقَّة ، وثلاثون جَذَعة ، وثلاثون خَلِفة ، وما صالحوا عليه فهو لهم ، وذلك لتشديد العقل )).
(15/112)
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . وروى أبو داود عن حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّ : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل : ثلاثون بنت مخاض ، وثلاثون بنت لبون ، وثلاثون حِقَّة ، وعشر ابن لبونٍ ذكر . وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كانت قيمة الدية على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثمانمائة دينار ، أو ثمانية آلاف درهم ، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين . قال : فكان ذلك حتى استخلف عمر ، فقام خطيبًا فقال : ألا إن الإبل قد غلت ، ففرضها على أهل الثمن ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة . قال : وترك دية أهل الذمَّة لم يرفعها فيما رفع من الدِّية. وفي رواية أخرى عنه قال : عقل شبه العمد مغلَّظة مثل العمد ، ولا يقتل صاحبه . وعن عطاء ، عن جابر : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرض في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلَّة . وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دية الخطأ عشرون حِقَّة ، وعشرون جَذَعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون بني مخاض ذكر. وعن عكرمة ، عن ابن عبَّاس : أن رجلاً من بني عدي قتل ، فجعل رسول الله ديته اثني عشر ألفًا .
فهذه الأحاديث التي دارت بين العلماء الذين تقدم ذكر مذاهبهم ، فصار كل فريق منهم إلى ما صحَّ عنده منها ، وعمل به ، ومن بلغه جميعها فلا بد له من البحث عنها حتى يتبيَّن له الأرجح منها .
وقوله في الرواية الأخرى : (( أن رجلاً من اليهود قتل جارية من الأنصار على حليّ لها )) ، وفي رواية : (( على أوضاح ، فألقاها في القليب )).
(15/113)
(( الأوضاح )) : جمع : وضح ، وهو الْحُلِي من الفضة ؛ قاله أبو عبيد. وقال غيره : هو من حجارة ، وفي "الصّحاح" : الوضح : الدرهم الصَّحيح ، والأوضاح : الحليُّ من الدّرهم الصَّحاح .
و (( القليب )) : البئر غير ا لمطوية . و(( رضخ رأسها )) : شدخه .
وقوله : (( فأمر به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرجم حتى يموت ، فرجم حتى مات )) ؛ هذا مخالف لمساق الرِّواية الأولى ، فلذلك قيل في هذا : إنَّها قضية أخرى غير تلك . والأولى : أن القضية واحدة ، غير أن الرَّاوي عبَّر عن رضخ رأس اليهودي بالحجارة بالرَّجم . ولا بُعد في ذلك ؛ فإنَّه من تسمية الشيء بما يشبهه .
ومن باب من عَضَّ يد رَجُلٍ
قوله : (( قاتل يعلى بن أمية - أو : ابن مُنْيَة - رجلاً )) ؛ كذا صواب هذا اللفظ . وصحيح مُنْيَة : بميم مضومة ، ونون ساكنة ، وياء باثنتين من تحتها . وهي امرأة ، وبها كان يُعرف . واختلف فيها ؛ هل كانت أمُّه ، أو جدَّته ؟ قال أبو الحسن الدارقطني : مُنْيَة بنت الحارث هي جدة يعلى ، وبها كان يعرف . قاله الزبير بن بكَّار . وقال أهل الحديث : يقولون : هي أمَّه ، وأنها مُنْيَة بنت غزوان . وقال الطبري : يعلى بن أمية ، أمُّه : مُنْيَة بنت جابر . ومن قال : (( مُنَبِّه )) بنون مفتوحة ، وباء مكسورة بواحدة تحتها فقد صحَّف ؛ قاله القاضي عياض .
قلت : ويُعرف أيضًا بأبيه ، وقد صحَّت نسبته إليهما في كتب الحديث. فمرة نُسب إلى أبيه ، وهو : أميَّة ، ومرة نسب إلى هذه المرأة. وهذه الرِّواية يظهر منها : أن يعلى هو الذي قاتل الرَّجل . وفي الرواية الأخرى : أن أجيرًا ليعلى بن أميَّة عضَّ يد رجل . وهذا هو الأولى ، والأليق ؛ إذ لا يليق هذا الفعل بيعلى بن أميَّه مع جلالته وفضله .
(15/114)
وقوله : (( أن يدع يده في فيك يقضمها كما يقضم الفحل )) ؛ أي : يعضها كما يعض الفحل ، كما جاء مبينًا في الرواية الأخرى . يقال : قضمت الدَّابة شعيرها - بكسر الضاد - تقضمه - بفتحها - على اللغة الفصيحة : إذا أكلته بأطراف أسنانها . وخضته -بالخاء المنقوطة بواحدة من فوقها - : إذا أكلته بفيها كلِّه . ويقال : الخضم : أكل الرُّطب واللَّيِّن . والقضم : أكل اليابس . ومنه قول الحسن : تخضمون ونقضم ، والموعد : الحساب .
وقوله : (( ادفع يدك حتى يقضمها ثم انتزعها )) ؛ هو أمرٌ على جهة الإنكار ، كما قال قبل هذا : (( بم تأمرني ؟ تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها؟! )) ؛ فمعناه : أنك لا تدع أنت يدك في فمه يقضمها ، ولا يمكن أن يؤمر بذلك .
وقوله : (( لا دية له )) ، وفي الأخرى : فأبطله )) ؛ نصٌّ صريحٌ في إسقاط القصاص والدِّية في ذلك . ولم يقل أحدٌ بالقصاص فيما علمت ، وإنما الخلاف في الضمان . فاسقطه أبو حنيفة وبعض أصحابنا ، وضمنه الشافعي . وهو مشهور مذهب مالك. ونزَّل بعض أصحابنا القول بالضَّمان على ما إذا أمكنه نزع يده برفق ، فانتزعها بعنف . وحمل بعض أصحابنا الحديث على أنه كان متحرك الثنايا . وهذا يحتاج إلى خُطُم ، وأزمَّة ، ولا ينبغي أن يُعْدل عن صريح الحديث . وقد روي عن مالك والشافعي في الجمل الصائل إذا دفعه الرَّجل عن نفسه ، فأدَّى إلى تلف الصائل ، لم يكن فيه ضمان ؛ لأنَّه مأمور بالدَّفع عن نفسه . ومن فعل ما أمر به لم يلزمه ضمان .
قلت : وعلى هذا : يتخرج من هذه المسألة قول بإسقاط الضمان في مسألة العضّ المتقدمة عن مالك ، والشافعي ؛ لأنَّه ماموز بنزع يده من فيه ، وأبو حنيفة في ينزم الضمان في مسألة الصائل ، لكنه يجيب عن هذا المعنى بأنه وإن سلَّم أنه مأمور بالدَّفع عن نفسه ، فلم يؤذن له في إتلاف مال فيضمن .
(15/115)
قلت : ويخرج من هذا قول عن أبي حنيفة في إثبات الضمان في مسألة العضّ . ويقرب من هذا مسألة من اطَّلع من باب بيتٍ ففقئت عينه لذلك ، فاختلف أصحابنا في ذلك . فأكثر منهم على الضمان . وبه قال أبو حنيفة ، وبعضهم قال بنفيه . وبه قال الشافعي .
قلت : وهو الظاهر من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لو أن امرأً اطَّلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاةٍ ، ففقأت عينه لم يكن عليك جناح )) ، وأيضًا : فقد رام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يطعن بالمدراة في عين من أراد أن يطَّلع من حُجْرٍ في باب بيته . وقال : (( لو أعلم أنك تطَّلع لطعنت به في عينك )) ، وما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالذي يريد أن يفعل ما لا يجوز ، أو ما يؤدي إلى ديةٍ . وأيضًا : فقد جاء عنه أنه قال : (( من اطَّلع في بيت قومٍ بغير إذنهم فقد حلَّ لهم أن يفقؤوا عينه )). وإمَّا من زعم : أنه يضمن فمن حُجَّته : أنَّه لو نظر إنسان إلى عورة آخر لما أباح ذلك منه فقء عينه ، ولما سقط عنه الضمان بالاتفاق. فكذلك هذا. وحملوا قوله : (( لا جناح عليك )) ؛ أي : لا إثم . ومنهم من قال : يحمل الحديث على أنَّه رماه بحصاةٍ . ولم يرد فقء عينه ، فانتفى عنه الإثم لذلك .
قلت : وهذا تحريف وتبديل ، لا تأويل ، ولا قياس مع النصوص .
ومن باب القصاص في الجراح
(15/116)
قوله : (( إن أخت الرُّبيِّع أم حارثة جرحت إنسانًا )) ؛ كذا وقع هذا اللفظ في كتاب مسلم . قال القاضي عياض : المعروف : أن الرَّبيع هي صاحبة القضة. وكذا جاء الحديث في البخاري في الروايات الصحيحة : أنها الرَّبيع بنت النضر ، وأخت أنس بن النَّضر ، وعمَّة أنس بن مالك. وأن الذى أقسم هو أخوها أنس بن النَّضر ، وكذا في المصنفات ، وجاء مفسَّرًا عند البخاري وغيره : أنها لطمت جارية ، فكسرث ثنيَّتها . ورواية البخاري هذه تدل : على أن الإنسان المجروح المذكور في رواية مسلم هو جارية . فلا يكون فيه حجَّة لمن ظن أنَّه رجل ، فاستدلَّ به : على أن القصاص جار بين الذكر والأنثى فيما دون النفس . والصحيح : أن الإنسان ينطلق على الذكر والأنثى وهو من أسماء الأجناس . وهي تعمُّ الذكر والأنثى ، كالفرس يعمُّ الذكر والأنثى . والجمهور من السلف ، والخلف على جريان القصاص بين الذكر والأنثى ، فيقتل الذكر بالأنثى إلا خلافًا شاذًّا عن الحسن وعطاء ، وروي في ذلك عن علي. وهم محجوجون بقوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ، فعمَّ ، وبأنه قد تقدم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتل اليهودي بالجارية. فأمَّا قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ، إلى آخر الآية ؛ فإنما اقتضت بيان حكم النوع إذا قتل نوعه ، فبيَّنت حكم الحرِّ إذا قتل حرًّا ، والعبد إذا قتل عبدًا ، والأنثى إذا قتلت أنثى . ولم تتعرض لأحد النَّوعين إذا قتل الآخر ، لكن بين ذلك بقوله تعالى : {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ، وبيَّنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسنَّته لما قتل اليهوديَّ بالمرأة . وأمَّا القِصاص بين الرَّجل والمرأة فيما دون النفس : فهو قول الجمهور أيضًا ، وخالفهم في ذلك ممن يرى القصاص بينهما في النفس أبو حنيفة ، وحمَّاد ، فقالا : لا قصاص بينهما فيما دون النفس . وهما محجوجان بإلحاق ما دون النَّفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى . وذلك : أنهما قد وافقا الجمهور(15/117)
: على أن الرَّجل يقتل بالمرأة مع عظم حرمة النَّفس . ولا شكَّ : أن حرمة ما دون النفس أهونُ من حرمة النَّفس . فكان القِصاص فيها أحرى وأولى . وفي المسألتين مباحث مستوفاة في علم الخلاف .
وقوله : (( القصاصَ ، القصاصَ! )) الرِّواية بنصب القصاص في اللفظين. ولا يجوز غيره . وهو منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره . تقديره : ألزمكم القصاص . أو : أقيموا القصاص. غير أن هذا الفعل لا تظهره العرب قطّ ؛ لأنهم استغنوا عنه بتكرار اللفظ . كما قالوا : الجدارَ الجدارَ . والصبيَّ ، الصبيَّ . ولما فهم أنس بن النضر - على ما ذكر البخاري ، أو أمّ الرَّبيع على ما ذكره مسلم - لزرم القصاص ؛ عظم عليه أن يخسر ثنية الجانية ، فبذلوا الأرش ؛ فلم يرضَ أرلياء المجنيِّ عليها به ، فكلَّم أهلها في ذلك ، فأبَوا ، فلما رأى امتناعهم من ذلك ، وأن القصاص قد تعيَّن قال : أيُقْتَصُّ من فلانة ، والله لا يُقتصُّ منها ؟! ثقة منه بفضل الله تعالى ، وتعويلاً عليه في كشف تلك الكُرْبة ، لا أنه ردَّ حكم الله وعانده ، بل هو مُنزَّهٌ عن ذلك لما علم من فضله ، وعظيم قدره ، وبشهادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له بما له عند الله تعالى من المنزلة . وهذا التأويل أولى من تأويل من قال : إن ذلك القسم كان منه على جهة الرَّغبة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو للأولياء ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أنكر ذلك عليه بقوله : ((سبحان الله! كتاب الله القصاص )). ولو كان رَغِبَهُ لما أنكره. وأيضًا : فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد سمَّاه قسمًا ، وأخبر : أنه قسم على الله ، وأن الله تعالى قد أبرَّه فيه لما قال : (( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه )).
(15/118)
ففيه : العمل بشرع من قبلنا إذا صحَّ عندنا ، ولم يثبث في شرعنا ناسخ له . ولا مانع منه. وقد اختلف فى ذلك الفقهاء ، والأصوليون . وفي المذهب فيه قولان ، ووجه هذا الفقه قوله : (( كتاب الله القصاص )) ، وليس في كتاب الله القصاص في السِّن إلا في قوله تعالى حكاية عمَّا حكم به في التوراة في قوله تعالى : {وكتبنا عليهم فيها } الآية ، إلى قوله : { والسِّنَّ بالسِّنِّ }.
وفيه : القصاص في السِّن إذا قُلِعَت أو طُرِحَت. وفي كسرها وكسر عظام الجسد خلاف ؛ هل يُقْتَصُّ منها ، أو لا ؟ فذهب مالك إلى القصاص في ذلك كلِّه إذا أمكنت المماثلة وما لم يكن مخوفًا ، كعظم الفخذ ، والصُّلب أخذًا بقوله تعالى : { فمن اعتدى عليه فاعتدوا عليه بمثل ما أعتدى عليكم} ، وبقوله : { والسِّنَّ بالسِّنِّ والجروحَ قِصَاص}. وذهب الكوفيون ، والليث ، والشافعي : إلى أنَّه لا قود في كسر عظم ما خلا السِّن لعدم الثقة بالمماثلة . وفيه ما يدلّ على كرامات الأولياء .
ومن باب لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنَّفس بالنَّفس ، والتَّارك لدينه المفارق للجماعة )) ؛ الثيب هنا : هو المحصن . وهو اسم جنس يدخل فيه الذكر والأنثى . وهو حجَّة على ما اتفق المسلمون عليه من أن حكم الزاني المحصن الرَّجم . وسيأتي شروط الإحصان ، وبيان أحكام الرَّجم .
(15/119)
وقوله : (( النفس بالنَّفس )) ؛ موافق لقوله تعالى : {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ، ويعني به : النفوس المتكافئة في الإسلام ، والحرِّيَّه ؛ بدليل قوله : (( لا يقتل مسلم بكافر )) ؛ خرَّجه البخاري عن علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ ، وهو حجَّة للجمهور من الصَّحابة ، والتابعين على من خالفهم ، وقال : يقتل المسلم بالذمي . وهم أصحاب الرأي ، والشَّعبي ، والنَّخعي ، ولا يصحُّ لهم ما رووه من حديث ربيعة : أن النبي قتل يوم خيبر مسلمًا بكافر ؛ لأنَّه منقطع ، ومن حديث ابن البيلماني ، وهو ضيف ، ولا يصحُّ في الباب إلا حديث البخاري المتقدم .
وأما الحرية فشرط في التكافؤ ، فلا يقتل حر بعبد عند مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور . وهو قول الحسن ، وعطاء ، وعمرو بن دينار ، وعمر بن عبد العزيز ؛ محتجِّين في ذلك : بأن العبد لما كان مالاً متقوَّمًا كان كسائر الأموال إذا تلفت ؛ فإنما يكون فيها قيمة المتلف بالغة ما بلغت ، والحرُّ ليس بمال بالاتفاق ، فلا يكون كفؤًا للعبد ، فلا يقتل به ، ويغرم قيمته ولو فاقت على دية الحرِّ ، ويجلد القاتل مائة ، ويحبس عامًا عند مالك .
وذهبت طائفة أخرى : إلى أنَّه يُقتل به . وإليه ذهب سعيد بن المسيب ، والنخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والثوري ، وأصحاب الرأي ؛ محتجين بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم )) ، وذهب النخعي ، والثوري في أحد قوليه : إلى أنه يقتل به ، وإن كان عبده ، محتجين في ذلك بما رواه النسائي من حديث الحسن عن سمرة : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من قتل عبده قتلناه ، ومن جدعه جدعناه ، ومن أخصاه أخصيناه )). قال البخاري عن علي بن المديني : سماع الحسن من سمرة صحيح . وأخذ بهذا الحديث . وقال البخاري : وأنا أذهب إليه . وقال غيره : لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة .
(15/120)
وقوله : (( التارك لدينه )) ؛ يعي به : المرتد ؛ الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((من بدَّل دينه فاقتلوه )). وهذا الحديث يدل على أن المرتد الذي يقتل هو الذي يبدل بدين الإسلام دين الكفر ؛ لأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ استثناه من قوله : (( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث )) ، ثم ذكرهم ، وذكر منهم : التارك لدينه . وقد تقدم الكلام في الرِّدَّة ، وأحكامها .
وقوله : (( المفارق للجماعة )) ؛ ظاهره : أنَّه أتى به نعتًا جاريًا على التارك لدينه ؛ لأنَّه إذا ارتد عن دين الإسلام ، فقد خرج عن جماعتهم ، غير أنه يلحق بهم في هذا الوصف كل من خرج عن جماعة المسلمين ، وإن لم يكن مرتدًّا ، كالخوارج ، وأهل البدع إذا منعوا أنفسهم من إقامة الحدِّ عليهم ، وقاتلوا عليه ، وأهل البغي ، والمحاربون ، ومن أشبههم ؛ فيتناولهم لفظ (( المفارق للجماعة )) بحكم العموم ، وإن لم يكن كذلك لم يصحّ الحصر المذكور في أول الحديث الذي قال : (( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث )) ، فلو كان قوله : (( المفارق للجماعة )) إنما يعني به : المفارقة بالرِّدَّة فقط لبقي من ذكرناه من المفارقين للجماعة بغير الردة لم يدخلوا في الحديث ، ودماؤهم حلال بالاتفاق ، وحينئذ لا يصحُّ الحصر ، ولا يصدق ، وكلام الشارع مُنَزَّهٌ عن ذلك ؛ فدلَّ على أن ذلك الوصف يعم جميج ذلك النوع ، والله تعالى أعلم . وتحقيقه : أنَّ كلَّ من فارق الجماعة يصدق عليه : أنه بدَّل دينه ، غير أن المرتدَّ بدَّل كلَّ الدِّين ، وغيره من المفارقين بدَّل بعضه .
وقوله : (( لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن إم الأول كفل من دمها )) ؛ يدخل فيه بحكم عمومه نفس الذمِّي ، والمعاهد إذا قتلا ظلمًا ؛ لأنَّ (( نفسًا )) نكرة في سياق النفي ، فهي للعموم .
و (( الكفل )) : الجزء والنصيب ، كما قال تعالى : { ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها } ؛ أي : نصيب . وقال الخليل : الكفل من الأجر والإثم : الضعف .
(15/121)
وقوله : (( لأنَّه أول من سنَّ القتل )) ؛ نصٌّ على تعليل ذلك الأمر ؛ لأنَّه لما كان أول من قتل كان قتله ذلك تنبيهًا لمن أتى بعده ، وتعليمًا له . فمن قتل كأنَّه اقتدى به في ذلك ، فكان عليه من وزره . وهذا جار في الخير والشَّرِّ ؛ كما قد نصَّ عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتقدم بقوله : ((من سنَّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها ، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة . ومن سن في الإسلام سنه سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة . وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفل من معصية كل من عصى بالسجود ؛ لأنَّه أول من عصى به . وهذا - والله أعلم - ما لم يتب ذلك الفاعل الأول من تلك المعصية ؛ لأنَّ آدم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول من خالف في أكل ما نهي عنه ، ولا يكون عليه شيء من أوزار من عص بأكل ما نهي عنه ، ولا شربه ممن بعده بالإجماع ؛ لأنَّ آدم عليه السلام تاب من ذلك ، وتاب الله عليه ، فصار كمن لم يخن ؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له . والله تعالى أعلم .
وابن آدم المذكور هنا هو : قابيل ، قتل أخاه هابيل لما تنازعا تزويج إفليمياء ، فأمرهما آدم أن يقربا قربانًا ، فمن تقبل منه قربانه ؛ كانت له. فتُقُبِّل قربان هابيل ، فحسده قابيل ، فقتله بغيًا وعدوانًا . هكذا حكاه أهل التفسير .
وقوله : (( إن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدِّماء )) ؛ هذا يدل : على أنه ليس في حقوق الآدميين أعظم من الدماء . ولا تعارض بين هذا وبين قوله : (( أول ما يحاسب به العبد من عمله الصلاة )) ؛ لأنَّ كل واحد منهما أول في بابه . فأول ما ينظر فيه من حقوق الله الصلاة. فإنَّها أعظم قواعد الإسلام العملية . وأول ما ينظر فيه من حقوق الآدميين الدِّماء ؛ لأنَّها أعظم الجرائم . وقد تقدم هذا في كتاب الصلاة .
ومن باب تحريم الدماء والأموال والأعراض
(15/122)
قوله : (( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض )) ؛ اختلف في معنى هذا اللفظ على أقوال كثيرة . وأشبه ما فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : قاله إياس بن معاوية ، وذلك : أن المشركين كانوا يحسبون السنة اثني عشر شهرًا وخمسة عشر يومًا ، فكان الحجُّ يكون في رمضان ، وفي ذي القعدة ، وفي كل شهر من السَّنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يومًا ، فحجَّ أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ سنة تسع في ذى القعدة ، بحكم الاستدارة ، ولم يحج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فلما كان في العام المقبل وافق الحجّ ذا الحجَّة في العشر ، ووافق ذلك الأهلة . وقد روي أن أبا بكر إنما حجَّ في ذي الحجة .
الثاني : روى عن ابن عباس : أنَّه قال : كانوا إذا كانت السنه التي ينسأ فيها ، قام خطيبهم وقد اجتمع إليه الناس يوم الصَّدر فقال : أيها الناس ! إني قد نسأت العام صفرًا الأول . يعني : الْمُحَرَّم . فيطرحونه من الشهور ، ولا يعتدُّون به . ويبدؤون العدَّة ، فيقولون لصفر وشهر ربيع الأول : صفران ، ولربيع الآخر وجمادى الأولى : شهرًا ربيع ، ولجمادى الآخرة ورجب : جماديان ، ولشعبان : رجب ، ولرمضان : شعبان ، وهكذا إلى محرَّم . ويبطلون من هذه السَّنة شهرًا ، فيحجون في كل سنة حجتين . ثم ينسأ في السَّنة الثالثة صفرًا الأوّل في عدَّتهم ، وهو الأخير في العدَّة المستقيمة ، حتى يكون حجهم في صفر حجتين . وكذلك الشهور كلها حتى يستدير الحجَّ في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الشهر الذي ابتدؤوا فيه النَّساء . ونحوه قال ابن الزبير ، إلا أنه قال : يفعلون ذلك في كل ثلاث سنين ، يزيدون شهرًا . قيل : وكانوا يتصدون بذلك موافقة شهور العجم لشهور الأهلة حتى تأتي الأزمان واحدة .
الثالث : قيل : كانت العرب تحجُّ عامين في ذي القعدة ، وعامين في ذي الحجة ، فصادفت حجَّة أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ ذا القعدة من السَّنة الثانية . وصادفت حجَّة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذا الحجة بالاستدارة .
(15/123)
والأشبه القول الأول ؛ لأنَّه هو الذي استفيد نفيه من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الزمان قد استدار )) ؛ أي : زمان الحجِّ عاد إلى وقته الأصلي ؛ الذي عينه الله تعالى له يوم خلق السموات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه ، ونفذ بها حكمه . ثم قال : (( السَّنة اثنا عشر شهرًا )) ؛ ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنَّة ؛ وهي الخمسة عشر يومًا بتحكمهم . ثمَّ هذا موافق لقوله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا فى كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم } ، فتعيَّن الوقت الأصلي ، وبطل التحكُّم الجهليّ . والحمد لله.
قلت : وهذه أقوال سلف هذه الأمَّة ، وعلماء أهل السُّنة ، وقد تكلَّم على هذا الحديث بعض من يدَّعي علم التعديل بقولٍ صدر عنه من غير تحقيق ولا تحصيل ، فقال : إن الله سبحانه أول ما خلق الشمس أجراها في برج الحمل ، وكان الزمان الذي أشار إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صادف حلول الشمس في برج الحمل .
قلت : وهذا تقوُّل بما لم يصحّ نقله ؛ إذ مقتضى قوله : إن الله تعالى خلق البروج قبل الشمس ، وأنه أجراها في أول برج الحمل . وهذا لا يتوصل إليه إلا بالنقل عن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم - ولا نقل صحيحًا عنهم بشيء من ذلك . ومن ادَّعاه فليُسْنده . ثمَّ : إن العقل يجوز خلاف ما قال . وهو : أن يخلق الله تعالى الشمس قبل البروج . وبجوز أن يخلق كل ذلك دفعة واحدة . ثم إن علماء التعديل قد اختبروا كلام ذلك الرجل فوجدوه خطأ صراحًا ؛ لأنَّهم اعتبروا بحساب التعديل اليوم الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك القول ، فوجدوا الشمس فيه في برج الحوت بينها وبين الحمل عشرون درجة . ومنهم من قال : عشر درجات ، والله تعالى أعلم .
(15/124)
وقوله : (( منها أربعة حرم )) ؛ أي : من الاثني عشر شهرًا ، وأولها المحرم . سُمي بذلك : لتحريم القتال فيه . ثمَّ صفر. سُمي بذلك : لخلوِّ مكة من أهلها فيه. وقيل : وقع فيه وباءٌ فاصفرَّت وجوههم. أبو عبيد : لصفر الأواني من اللَّبن . ثم الربيعان : لارتباع الناس فيهما ؛ أي : لإتامتهم في الربيع . ثم جماديان ، وسُميا بذلك : لأن الماء جمد فيهما . ثم رجب ، وسُمي بذلك : لترجيب العرب إياه ؛ أي : لتعظيمهم له ، أو لأنَّه لا قتال فيه . والأرجب : الأقطع . ثم شعبان . وسُمي بذلك : لتشعب القبائل فيه . ثم رمضان . وسمي بذلك : لشدَّة الرمضاء فيه . ثم شوَّال . وسُمي بذلك : لأن اللقاح تشول فيه أذنابها . ثم ذو القعدة ، سُمي بذلك لقعودهم فيه عن الحرب . ثم ذو الحجَّة ، وسمي بذلك : لأن الحجَّ فيه . ويجوز في (( فاء )) : ذي القعدة وذي الحجَّة الفتح والكسر ، غير أن الفتح في (( القعدة )) أفصح .
(15/125)
وسميت الْحُرُم حرمًا : لاحترامها وتعظيمها بما خصَّت به من أفعال البر ، وتحريم القتال ، وتشديد أمر البغي والظلم فيها. وذلك : أن العرب كانت في غالب أحوالها ، ومعظم أوقاتها قبل مجيء الإسلام أهل غارة ، ونهب ، وقتال ، وحرب ، يأكل القوي الضعيف ، ويصول على المشروف الشريف ، لا يرجعون لسلطان قاهر ، ولا لأمر جامع ، وكانوا فوضى فضا ، من غلب سلب ، ومن عز بزَّ ، لا يأمن لهم سِرب ، ولا يستقر لهم حال . فلطف الله بهم أن جعل في نفوسهم احترام أمور يمتنعون فيها من الغارة ، والقتال ، والبغي ، والظلم ، فيأمن بها بعضهم من بعض ، ويتصرَّفون فيها في حوائجهم ، ومصالحهم ، فلا يهيج فيها أحدٌ أحدًا ، ولا يتعرَّض له ، حتى إن الرَّجل يلتقي فيها بقاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له بشيء ، ولا بغدر ؛ بما جعل الله في قلوبهم من تعظيم تلك الأمور . ولا يبعد أن يكون أصل ذلك مشروعًا لهم من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ؛ كالحجِّ ، والعمرة ، وغيرهما مما كان عندهم من شرائعهما .
(15/126)
وهذه الأمور من الزمان : الأشهر الحرم . ومن المكان : حرم مكة. ومن الأموال : الهدى والقلائد . ويشهد لما ذكرناه قوله تعالى : { يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه } ، وقوله تعالى : { منها أربعة حُرُم } ، ثم قال : { ذلك الدِّين القيّم } ، وقوله تعالى في الحرم : { ومن دخله كان آمنًا } ، وقوله : { أولم يروا أنَّا جعلنا حرمًا آمنًا ويتخطف الناس من حولهم } ، وقوله : { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنًا } ، وقوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } ، ومعنى كون هذه الأمور قيامًا للناس ؛ أي : تقوم بها أحوالهم ، وتنتظم بها مصالحهم من أمر أديانهم ومعايشهم . هذا معنى ما قاله المفسرون . فلما جاء الإسلام لم يزد تلك الأمور إلا تعظيمًا وتشريفًا ، غير أنه لما حدَّ الحدود ، وشرع الشرائع ، ونصب العقوبات والزواجر ؛ اتفقت كلمة المسلمين ، والتزمت شرائع الدين ، فأمن الناس على دمائهم ونفوسهم ، وأموالهم ، فامتنع أهل الظلم من ظلمهم ، وكف أهل البغي عن بغيهم ، واستوى في الحق القويّ والضعيف ، والمشروف والشريف . فمن صدر عنه بغي ، أو عدوان قمعته كلمة الإسلام ، وأقيمت عليه الأحكام ، فحينئذ لا يعيده شيء من تلك المحرَّمات ، ولا يحول بينه وبين حكم الله تعالى أحدٌ من المخلوقات . فالحمد لله الذي هدانا لهذا الدِّين القويم ، والمنهج المستقيم. وهو المسؤول بأن ينعم علينا بالدَّوام ، والتَّمام ، ويحشرنا في زمرة واسطة النظام محمد عليه الصلاة والسلام .
والْهَدْي : ما يُهدى من الأنعام إلى البيت الحرام والقلائد ؛ يعني به : ما تُقلَّدُ به الهدايا ، وذلك بأن يجعل في عنق البعير حبل يُعلَّق فيه نعل ، كما تقدَّم في كتاب الحج . ويعني بذلك : أن الهدي مهما أُشعر وقُلِّد لم يجز لأحد أن يتملَّكه ، ولا أن يأخذه إن وجده . بل يجب عليه أن يحمله إلى مكة إن أمكنه ذلك حتى يُنْحَر هناك على ما تقدَّم .
(15/127)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ثلاثة متواليات )) ؛ أي : يتلو بعضها بعضًا ، كما قد قال في الرواية ا لأخرى : (( ثلاثة سردٌ ، وواحدٌ فرد )).
وقوله : (( رجب شهر مُضَر الذي بين جمادى وشعبان )) ؛ هذه مبالغةٌ في تعيين هذا الشهر ليتميَّز عمَّا كانوا يتحكَّمون به من النَّساء ، ومن تغيير أسماء الشهور . وقد تقدَّم : أنهم كانوا يسقطون من السَّنة شهرًا وينقلون اسم الشهر للَّذي بعده ، حتى سَمُّوا شعبان رجبًا . ونسبة هذا الشهر لِمُضَر : إما لأنهم أول من عظمه ، أو : لأنهم كانوا أكثر العرب له تعظيمًا ، واشتهر ذلك حتى عرف بهم .
وقوله : (( أيُّ شهر هذا ؟ )) و: (( أيُّ بلد هذا ؟ )) و: (( أيُّ يوم هذا ؟ )) وسكوته بعد كل واحد منها ؛ كان ذلك منه استحضارًا لفهومهم ، وتنبيهًا لغفلتهم ، وتنويهًا بما يذكره لهم ؛ حتى يُقبلوا عليه بكليتهم ، ويستشعروا عظمة حرمة ما عنه يخبرهم . ولذلك قال بعد هذا : (( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا )). وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء ، وإغياءٌ في التنفير عن الوقوع فيها ؛ لأنَّهم كانوا قد اعتادوا فعلها ، واعتقدوا حليتها ، كما تقدَّم من بيان أحوالهم ، وقبح أفعالهم.
وقوله : (( وسَتَلْقُون ربكم فيسألكم عن أعمالكم )) ؛ أي : ستوقفون في موقف العرض موقف من لقي فحبس حتَّى تعرض عليه أعماله ، فيسأل عنها ، وهذا إخبارٌ بمقام عظيم ، وأمر هائل ، لا يُقْدَرُ قدرُه ، ولا يتصؤر هؤله ، أصبح الناس عن التذكر فيه معرضين ، وعن الاستعداد له متشاغلين . فالأمر كما قال في كتابه المكنون : { قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون }. فنسأل الله تعالى من فضله أن يوقظنا من رقدتنا ، وينبهنا من غفلتنا ، وبجعلنا ممن استعدَّ للقائه ، وكُفِي فواجِىءَ نِقْمَه وبلائه .
(15/128)
وقوله : (( فلا ترجعوا بعدي ضُلالاً - وفي أخرى : كفارًا - يضرب بعضكم رقاب بعض )) ؛ بهذا وأشباهه كفر الخوارج عليًّا ، ومعاوية ، وأصحابهما . وهذا إنما صدر عنهم ؛ لأنَّهم سمعوا الأحاديث ولم يُحظ بها فهمهم ، كما قرؤوا القرآن ولم يجارز تراقيهم ، فكأنهم ما قرؤوا قول الله عز وجل : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } إلى قوله : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ، فأبقى عليهم اسم الإيمان وأخوّته ، مع أنهم قد تقاتلوا ، وبغت إحداهما على الأخرى ، وقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء } ، والقتل ليس بشرك بالاتفاق والضرورة . وكأنهم لم يسمعوا قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق . فمن وفيّ منكم فأجره على الله ، ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارةٌ له )) ، وقد تقدم هذا المعنى في كتاب الايمان.
وإنَّما يُحمل الحديث على التشبيه تغليظًا ؛ وذلك : أن المسلمين إذا تحاجزوا ، وتقاتلوا ؛ فقد ضلَّت الطائفة الباغية منهما ، أو كلاهما إن كانتا باغيتين عن الحق ، وكفرت حق الأخرى وحرَّمتها . وقد تشبَّهوا بالكفار . وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اطَّلع على ما يكون في أمَّته من الْمِحَن والفتن ، فحذَّر من ذلك ، وغلَّظه بذلاً للنصيحة ، ومبالغة في الفقة .
وقوله : (( ألا ليبلِّغ الشاهد الغائب )) ؛ أمرٌ بتبليغ العلم ، ونشره . وهو فرض من فروض الكفايات .
وقوله : (( فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له ممن سمعه )) ؛ حجة على جواز أخذ العلم والحديث عمَّن لا يفقه ما ينقل ؛ إذا أدَّاه كما سمعه. وهذا كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما خرَّجه الترمذي : (( نضَّر الله امرأً سمع منَّا حديثًا فبلَّغه غيره كما سمعه ، فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه ، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه )).
(15/129)
فأمَّا نقل الحديث بالمعنى : فمن جوَّزه إنَّما جوَّزه من الفقيه العالم بمواقع الألفاظ . ومن أهل العلم من منع ذلك مطلقًا . وقد تقدَّم ذلك .
وفيه حجَّة : على أن المتأخر قد يفهم من الكتاب والسُّنة ما لم يخطر للمتقدم ؛ فإن الفهم فضل الله يؤتيه من يشاء . لكن هذا يندر ويقل ، فأين البحر من الوَشَل. والعَلُّ من العَلَلِ . ليس التكحُّل في العينين كالكَحَل .
وقوله : (( ألا هل بلَّغت )) ؛ استفهام على جهة التقرير ؛ أي : قد بلغتكم ما أمرت بتبليغه لكم ، فلا عُذر لكم ؛ إذ لم يقع مي تقصير في التبليغ . ويحتمل : أن يكون على جهة استعلام ما عندهم ، واستنطاقهم بذلك ، كما تقدَّم في حديث جابر ، حيث ذكر خطبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعرفة فقال : (( وأنتم تسألون عنِّي ، فما أنتم قائلون ؟ )) قالوا : نشهد : أنك قد بلَّغت ، وأدَّيت ، ونصحت . فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ، ويَنْكُبُها إلى الناس : (( اللهم ! اشهد - ثلاث مرات - )).
وقوله : (( ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما )) ؛ وإلى جُزَيْعَةٍ من الننم فقسمها بيننا . (( انكفأ )) : انقلب ومال . و(( الملحة )) : أن يكون في الشاة لمعٌ سودٌ ، ويكون الغالب البياض . و(( الجزيعة )) : القطيعة . والجزع : منقطع الوادي . ورواية الكافة : (( جزيعة )) بالزاي . وقد قيَّدها بعضهم : (( جذيعة )) بالذَّال ، وهو وَهْمٌ .
قال الدارقطني : قوله : (( ثم انكفأ إلى كبشين ... )) الخ ، وهم من عون فيما قيل ؛ وإنما رواه ابن سيرين عن أنس .
(15/130)
قلت : إنما نسب هذا الوهم لابن عون ؛ لأنَّ هذا الحديث قد رراه عن ابن سيرين أيوب السّختياني ، وقرَّة بن خالد ، وانتهى حديثهما في خطبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجَّته يوم النَّحر عند قوله : (( ألا هل بلغت )) في رواية أيوب . وزاد قرَّة إلى هذا : قالوا : نعم . قال : (( اللهم اشهد )). وبعد قوله : (( ألا هل بلغت )) زاد ابن عون عن محمد بن سيرين ، عن أبي بكرة : ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما ... الخ . وهذا الكلام إنما كان من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خطبة عيد الأضحى ؛ على ما رواه أيوب وهشام ، عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك ؛ على ما ذكره مسلم في الضحايا ، عنه ، قال أنس : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى ثمَّ خطب ، فأمر مَنْ كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحًا. قال : وانكفأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى كبشين ، فذبحهما ، فقام الناس إلى غنيمة ، فتوزعوها . أو قال : فتجزعوها. فكان ابن عون اختلط عليه الحديثان فساقهما مساقًا واحدًا. وأن ذلك كان في خطبة عرفة . وهو وَهْمٌ لا شكَّ فيه .
وقد فهم بعض علمائنا : أن يوم الحج الأكبر يوم النحر من تعظيمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليوم النَّحر بما ذكره في هذا الحديث . وفيه نظر ، غير أنَّه قد ورد في بعض روايات البخاري : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( أيُّ يوم تعلمونه أعظم ؟ )) ، قالوا : يومنا هذا . وهذا حجَّة واضحة على ذلك . وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في كتاب الحج .
ومن باب الحث على العفو عن القصاص بعد وجوبه
قوله : (( جاء رجل يقود آخر بنِسعَةٍ )) ؛ النِّسعة : ما ضفر من الأدم كالحبال . وجمعها : أنساع . فإذا فُتل ولم يُضْفر ؛ فهو الجديل . والجدْل : الفَتْل . وفيه من الفقه : العنف على الجاني ، وتثقيفه ، وأخذ الناس له حتى يحضروه إلى الإمام ، ولو لم يجعل ذلك للناس لفرَّ الجناة ، وفاتوا ، ولتعثر نصر المظلوم ، وتغيير المنكر .
(15/131)
وقوله : (( هذا قتل أخي ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أقتلته )) ؛ فيه من الفقه سماع ، دعوى المدَّعي في الدَّم قبل إثبات الموت والولاية . ثم لا يثبت الحكم حتى يثبت كل ذلك . فإن قيل : فقد حكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على القاتل في هذا الحديث من غير إثبات ولاية المدَّعي . فالجواب : إن ذلك كان معلومًا عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعند غيره ، فاستغنى عن إثباته لشهرة ذلك .
وفيه : استقرار المدَّعى عليه بعد سماع الدعوى لإمكان إقراره ، فتسقط وظيفة إقامة البينة عن المدَّعي . كما جرى في هذا الحديث .
وقوله : (( لو لم يعترف أقمت عليه البينة )) ؛ بيان : أن الأصل في ثبوت الدِّماء الإقرار ، أو البيِّنة . وإمَّا القسامة : فعلى خلاف الأصل ، كما تقدم ؛ وفيه : استقرار المحبوس ، والمتهدَّد ، وأخذه باقراره . وقد اختلف في ذلك العلماء ، واضطرب المذهب عندنا في إقراره بعد الحبس والتهديد . هل يُقبل جملة ، أو لا يقبل جملة ؟ والفرق فيقبل إذا عيَّن ما اعترف به من قتل ، أو سرقة ، ولا يُقبل إذا لم يعين ثلاثة أقوال.
وقوله : (( كيف قتلته ؟ )) سؤال استكشاف عن حال القتل ، لامكان أن يكون خطأ ، أو عمدًا . ففيه من الفقه : وجوب البحث عن تحقيق الأسباب التي تنبني عليها الأحكام ، ولا يكتفى بالإطلاق . وهذا كما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ماعز حين اعترف على نفسه بالزنى على ما يأتي.
وقوله : (( كنت أنا وهو نختبط من شجر ، فسبَّني ، فأغضبني ، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته )). نختبط ، نفتعل من الخبط ، وهو ضرب الشجرة بالعصا ليقع يابسُ ورقها ، فتأكله الماشية . وقرن الرأس : جانبه الأعلى . قال :
وضَرَبْتُ قَرْنِي كَبْشِها فَتَجَدَّلا
(15/132)
وقوله : (( هل لك من شيء تؤدِّيه عن نفسك )) ؛ يدلّ على أنه قد ألزمَه حكم إقراره ، وأن قتله كان عمدًا ؛ إذ لو كان خطأ لما طالبه بالدِّية ، ولطولب بها العاقلة ، ويدلُّ على هذا أيضًا قوله : (( أترى قومك يشترونك ؟ )) لأنه لما استحق أولياء المقتول نفسه بالقتل العمد صاروا كالمالكين له ، فلو دفع أولياء القاتل عنه عوضًا فقبله أولياء المقتول لكان ذلك كالبيع . وهذا كله إنما عرضه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على القاتل بناء منه : على أنه إذا تيسَّر له ما يؤدي إلى أولياء المقتول سألهم في العفو عنه .
ففيه من الفقه : السعي في الإصلاح بين الناس ، وجواز الاستشفاع ، وإن رفعت حقوقهم للإمام ؛ بخلاف حقوق الله تعالى ، فإنَّه لا تجوز الشفاعة فيها إذا بلغت الإمام .
وقوله : (( مالي إلا كسائي وفاسي )) ؛ فيه ما يدل على أنَّ المال يُقال على كل ما يتموَّل من العروض وغيرها . وأن ذلك ليس مخصوصًا بالإبل ولا بالعين . وقد تقدَّم ذلك .
وقوله : (( فرمى إليه بنِسْعَة وقال : دونك صاحبك )) ؛ أي : خذه فاصنع به ما شئت . هذا : إنَّما حكم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمَّا تحقق السبب ، وتعذَّر عليه الإصلاح ، وبعد أن عرض على الولي العفو فأبى ، كما قاله ابن أشوع ، وبعد أن علم : أنه لا مستحِقَّ للدَّم إلا ذلك الطالب خاصة . ولو كان هناك مستحقٌّ آخر لتعيَّن استعلام ما عنده من القصاص أو العفو.
وفيه ما يدلُّ على أن القاتل إذا تحقق عليه السبب ، وارتفعت الموانع لا يقتلُه الإمام ، بل يدفعه للولي يفعل فيه ما يشاء من قتل ، أو عفو ، أو حبس ، إلى أن يرى رأيه فيه. ولا يسترقَّه بوجه ؛ لأنَّ الحرَّ لا يملك . ولا خلاق فيه فيما أعلمه .
(15/133)
وقوله : (( فانطلق به فلمَّا ولى : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن قتله فهو مثله )) ؛ ظاهره : أنه إن قتله كان عليه من الإثم مثل ما على القاتل الأول . وقد صرَّح بهذا في الرواية الأخرى التي قال فيها : (( القاتل والمقتول في النَّار )) ، وهذا فيه إشكال عظيم . فإن القاتل الأوَّل قَتَل عمدًا. والثاني يَقْتُلُ قِصَاصًا ، ولذلك : لما سمع الولي ذلك قال : (( يا رسول الله ! قلت ذلك ؟! وقد أخذته بأمرك )).
فاختلف العلماء في تأويل هذا على أقوال :
الأول : قال الإمام أبو عبدالله المازري : أمثلُ ما قيل فيه : أنَّهما استويا بانتفاء التِّباعةِ عن القاتل بالقِصاص .
قلت : وهذا كلامٌ غير واضح . ويعني به - والله أعلم - : أن القاتل إذا قَتَل قِصَاصًا لم تَبق عليه تبعة من القتل . والمقتصّ : لا تبعة عليه ؛ لأنَّه استوفى حفه ، فاستوى الجاني والولي المقتصُّ في أن كل واحد منهما لا تبعة عليه .
الثاني : قال القاضي عياض : معنى قوله : (( فهو مثله )) ؛ أي : قاتل مثله ، وإن اختلفا في الجواز والمنع ، لكنهما اشتركا في طاعة الغضب ، وشِفَاء النفس ، لاسيما مع رغبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العفو ، على ما جاء في الحديث .
(15/134)
قلت : والعجيبُ من هذين الإمامين : كيف قنعا بهذين الخيالين ولم يتأمَّلا مساق الحديث ، وكأنهما لم يسمعا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين انطلق به يجرُّه ليقتله : (( القاتل والمقتول في النار )). وهذه الرواية مفسِّرة لقوله في الرواية المتقدمة : (( إن قَتَلَه فهو مِثْلُه )) ؛ لأنها ذُكِرت بدلاً منها ، فعلى مقتضى قوله : (( فهو مثله )) ؛ أي : هو في النار مثله ، ومن هنا عظم الإشكال . ولا يلتفت لقول من قال : إن ذلك إنما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للولي لِمَا عَلِمَه منه من معصية يستحق بها دخول النار ؛ لأنَّ تلك المعصية المقدرة ، إما أن يكون لها مدخل في هذه القصَّة ، أو لا مدخل لها فيها. فإن كان الأول فينبغي لنا أن نبحث عنها حتى نتبيَّنها ونعرف وجه مناسبتها لهذا الوعيد الشديد . وإن لم يكن لها مدخل في تلك القِصَّة لم يلق بحكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا ببلاغته ، ولا ببيانه أن يذكر وعيدًا شديدًا في قضية ذات أحوال وأوصاف متعددة ، ويقرن ذلك الوعيد بتلك القصَّة ، وهو يريد أن ذلك الوعيد إنَّما هو لأجل شيء لم يذكره هو ، ولا جرى له ذكر من غيره . ثمَّ إن المقول له ذلك قد فهم : أن ذلك إنما كان لأمر جرى في تلك القصة ، ولذلك قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : تقول ذلك ، وقد أخذته بأمرك ؟! ولو كان كما قاله هذا القائل ؛ لقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنَّما قلت ذلك للمعصية التي فعلت ، أو : للحالة التي أنت عليها ، لا لهذا ، ولما كان يسكت عن ذلك ، ولبادر لبيانه في تلك الحال ؛ لأنَّ الحاجة له داعية ، والنصيحة والبيان واجبان عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والله تعالى أعلم .
(15/135)
الثالث : أن أبا داود روى هذا الحديث من طريق أبي هريرة وقال فيه : قتل رجل على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرفع ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدفعه إلى ولي المقتول. فقال القاتلُ : يا رسول الله! والله ما أردت قتله! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للولي : (( أما إنَّه إن كان صادقًا ثمَّ قتلته دخلت النار )) ؛ فحاصله : أن هذا المعترف بالقتل زعم أنه لم يرد قتله ، وحلف عليه ، فكان القتل خطأ ، فكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاف أن يكون القاتل صدق فيما حلف عليه ، وأن القاتل يعلم ذلك ؛ لكن سلمه له بحكم إقراره بالعمد ولا شاهد يشهد له بالخطأ . ومع ذلك فتوقَّع صدقَهُ ، فقال : إن قتلته دخلت النَّار . فكأنه قال : إن كان صادقًا وعلمت أنت صدقه ، ثمَّ قتلته فأنت في النار . وهذا - على ما فيه من التكلُّف - يبطله قوله : (( القاتل والمقتول في النار )) ، فسوَّى بينهما في الوعيد . فلو كان القاتلُ مُخطِئًا لما استحق بذلك النَّار ، ولَمَا باء بإثْمِه وإثم صاحبه ؛ فإن المخطئ لا يكون آثِمًا ، ولا يتحمَّل إثمَ من أخطأ عليه .
(15/136)
الرابع : أن أبا داود روى هذا الحديث عن وائل بن حجر ، وذكر فيه ما يدلّ : على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصد تخليصه فعرض الدِّية ، أو العفو على الأول ثلاث مرَّات ، والولي في كل ذلك يأبى إلا القتل معرضًا عن شفاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن حرصه على تخليص الجاني من القتل ، وكأن الولي صدر منه جفاء في حق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث ردَّ شفاعته ، وخالفه في مقصوده . ويظهر هذا من مساق الحديث . وذلك : أن وائل بن حجر قال : كنت عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ جيء برجل قاتل في عنقه نسعة . قال : فدعا ولن المقتول ، فقال : (( أتعفو ؟ )) ، قال : لا . فقال : (( أتأخذ الدِّية ؟ )) قال : لا. قال : (( أتقتل ؟ )) قال : نعم . قال : (( اذهب به )) ، فلمَّا ولى ، قال : (( أتعفو ؟ )) قال : لا . قال : (( أفتأخذ الدِّية ؟ )) قال : لا . قال : (( أفتقتل ؟ )) قال : نعم . قال : (( اذهب به )) ، فلمَّا كان في الرابعة قال : (( أما إنَّك إن عفوت عنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه )) ، قال : فعفا عنه. فهذا المساق يفهم منه : صحَّة قصد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتخليص ذلك القاتل ، وتأكيد شفاعته له في العفو ، أو قبول الدِّية . فلمَّا لم يلتفت الولي إلى ذلك كله صدرت منه تلك الأقوال الوعيدية مشروطة باستمراره على لَجَاجه ، ومضيه على جفائه . فلما سمع الولي ذلك القول عفا وأحسن ، فقُبِلَ ، وأُكرِمَ . وهذا أقرب من تلك التأويلات والله أعلم بالمشكلات . وهذا الذي أشار إليه ابن أشوع حيث قال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سأله أن يعفو فأبى .
تنبيه : إنَّما عظم الإشكال من جهة قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( القاتل والمقتول في النار )) ، ولما كان ذلك قال بعض العلماء : إن هذا اللفظ أعني : قوله : ((القاتل والمقتول في النار )) ؛ إنما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث آخر ، وهو قوله : (( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار )). فوهم بعض الرواة ، فضمه إلى هذا الحديث الآخر.
قلت : وهذا فيه بُعد . والله تعالى أعلم .
(15/137)
وقوله : (( أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك ؟ )) أي : ينقلب ، ويرجع . وأكثر ما يُستعمل : (( باء بكذا )) في الثمر . ومنه قوله تعالى : { فباءوا بغضب على غضب } ، ويعني بذلك - والله تعالى أعلم - : أن المقتول ظلمًا تُغفر له ذنوبه عند قتل القاتل له . والولي يغفر له عند عفوه عن القاتل . فصار ذهاب ذنوبهما بسبب القاتل ، فلذلك قيل عنه : أنَّه باء بذنوب كل واحد منهما . هذا أحسن ما قيل فيه . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( ألك شيء تؤدِّيه عن نفسك )) ؛ يفيد : أنَّه لو حضرت الدِّية لدفعت للولي ، ولسقط القصاص لكن يرضى الولي ، ولا يُجبر على أخذها ؛ لأنَّ الذي للولي القصاص أو التخيير . وهو حقه ، ولا يختلف في هذا. لو إنَّما اختلف في إجبار القاتل على إعطاء الدية إذا رضي بها الولي. فذهبت جماعة : إلى إجباره عليها ؛ منهم : الشافعي وغيره على ما تقدَّم في كتاب الحجِّ . وقالت طائفة أخرى : لا يجبر عليها ، ولا يكون ذلك إلا برضا القاتل والولي ، وإليه ذهب الكوفيون . وهو مشهور مذهب مالك . وسبب هذا الخلاف معارضة السُّنة للقرآن . وذلك : أن ظاهر القرآن وجوب القصاص . وذلك قوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } ، وفي قوله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ، وقد ثبت : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ، بين أن يأخذوا العقل ، وبين أن يقتلوا )) ، وهذا نصَّ في التخيير . وبيان الأرجح يستدعي تطويلاً . وبسطه في كتب الخلاف .
ومن باب دية الخطأ على عاقلة القاتل ، وما جاء في دية الجنين
قوله : (( اقتتلت امرأتان من هذيل - وفي أخرى : من بني لحيان- ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر )) . وفي حديث المغيرة : ضربتها بعمود فسطاط . لا تباعد بينهما ؛ إذ يحتمل أن تكون جمعت ذلك عليها ، فأخبر أحدهما بإحدى ا لآلتين ، والثاني بالأخرى .
(15/138)
وقوله : (( فقتلتها وما في بطنها )) ؛ ظاهر العطف بالفاء : أن القتل وقع عقيب الضرب ، وليس كذلك لما رواه سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : إن رسول الله قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتًا بغرة أو وليدة ، ثمَّ : إن المرأة توفيت )) ، وهذا نصٌّ في تأخر موتها عن وقت الضرب . وفي هذه الرواية أيضًا : بيان أن الجنين خرج ميتًا . والأولى محتملة لأن يكون خرج ، ولأن يكون لم يخرج ، لكنه مات ، وبينهما فرقان ، فإنَّه إذا مات في بطنها ولم يخرج فلا شيء فيه عند كافة العلماء ؛ لأنَّه لم تتحقق حياته ، ولأنَّه كالعضو منها ، ولم ينفصل عنها ، فلا شيء فيه . وأجمع أهل العلم : على أن في الجنين الذي يسقط من ضرب أمه حيًّا ، ثم يموت ؛ الدِّية كاملة في الخطأ وفي العمد بعد القسامة . وقيل : بغير قسامة ، لكن اختلفوا فيما به تُعلم حياته . وقد اتفقوا : على أنه إذا استهل صارخًا ، أو ارتضع ، أو تنفس نفسًا محققًا حيّ ، فيه الدِّية كاملة. واختلفوا فيما إذا تحرَّك . فقال الشافعي ، وأبو حنيفة : حركته تدل على حياته . وقال مالك : لا ؛ إلا أن يقارنها طول إقامة . وسببه اختلاف شهادة الحركة في الوجود للحياة .
وقوله : (( فقضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن دية جنينها غرة عبد ، أو وليدة )). قضى : حكم وألزم . و(( غزة عبد أو وليدة )) روي : (( غرة )) بالتنوين ورفع (( عبدٌ )) على البدل . وروي بغير تنوين وخفض عبد بالإضافة . ومعناهما متقارب وإن اختلف توجيههما النحوي .
(15/139)
وقوله : (( أو وليدة )) معطوف على (( عبد )) رفعًا وخفضًا . وأو فيه للتنويع ، أو للتخيير ، لا للشكِّ . وكذلك فهمه مالك وغيره . ويعني بالوليدة : الأمَة . وقد جاء في بعض ألفاظه : (( أو أمة )) مكان : (( وليدة )). وغرَّة المال : خياره. قال ابن فارس : فى غرة كل شيء : أكرمه وأنفسه . وقال أبو عمرو : معناه : الأبيض . ولذلك سميت : غرة . فلا يؤخذ فيها أسود. ولذلك : اختار مالك أن تكون من الْحُمر. ومقتضى مذهب مالك : أنَّه مخيَّر بين إعطاء غرة ، أو عُشْر دية الأمِّ ، من نوع ما يجري بينهم ؛ إن كانوا أهل ذهب خمسون دينارًا ، أو أهل ورق فستمائة درهم ، أو خمس فرائض من الإبل . وقيل : لا يعطى من الإبل . وعلى هذا في قيمة الغرة الجمهور . وخالف الثوري ، وأبو حنيفة ، فقالا : الغرة خمسمائة درهم ؛ لأنَّ دية أمِّه عندهم خمسة الآف درهم . وعمدة الجمهور في تقويم الغرَّة بما ذكر قضاء الصحابة بذلك . وذهب بعض السَّلف ؛ منهم : عطاء ، ومجاهد ، وطاووس : إلى غرة عبد ، أو وليدة ، أو فرس. وقال بعضهم : أو بغل. وقال ابن سيرين : عبد ، أو وليدة ، أو مائة شاة. ومتمسك هؤلاء ما رواه أبوداود من حديث أبي هريرة قال : قضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجنين بغرة عبد ، أو أمة ، أو فرس ، أو حمار ، أو بغل . وفي بعض طرقه : خمسمائة شاة . وهو وهْمٌ . وصوابه : مائة شاة. وفي "مسند الحارث بن أبي أسامة" : في المجنين غرَّة عبد ، أو أمة ، أو عشر من الإبل ، أو مائة شاة . خرَّجه من حديث حمل بن مالك . والصحيح : ما خرَّجه مسلم . وقال داود وأصحابه : كل ما وقع عليه اسم (( غرة )) يجزىء . وأقل سن الغرَّة عند الشافعي سبع سنين في أحد قوليه . وقد شذَّت شرذمة فقالوا : لا شيء في الجنين . وهي محجوجةٌ بكل ما تقدم في الباب ، وبإجماع الصحابة على أن فيه حكمًا ، وبحديث المغيرة الآتي بعده .
(15/140)
وقوله : (( فطرحت جنينها )) ، وفي اللفظ الآخر : (( سقط ميتًا )). الجنين : اسم لما يجتنُّ في بطن المرأة من الولد. والمتفق على اعتباره من أحواله أن يزايل أُمَّه وهو تامُّ التصوير والتخطيط .
واختلف فيما قبل ذلك من كونه : علقة ، أو مضغة ؛ هل يعتبر أم لا ؟ فعندنا وعند أبي حنيفة : يعتبر . وعند الشافعي : لا ، حتى يتبيَّن شيء من خلقه وتصويره ، ولا فرق بين أن يكون ذكرًا ، أو أنثى ؛ إذ كل واحد منهما يسمَّى جنينًا ، وكأن الشرع قصد بمشروعية الغرَّة في الجنين دفع الخصومة والتنازع . كما قد فعل في باب المصرَّاة ، حيث قدر فيها الصاع من الطعام رفعًا للتنازع ، وجبرًا للمتلف بما تيسَّر . وقد بالغت الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ في هذا المعنى ، حيث قدَّروا الغرَّة بخمسين دينارًا ، أو ستمائة درهم . والله تعالى أعلم . فإن زايل الجنين أمَّه بعد موتها ، فهل فيه غرَّة أم لا ؟ قولان :
الأول : لربيعة ، وا لليث ، وا لزهري ، وأشهب ، وداود .
والثاني : لمالك ، والشافعي ، وعامة العلماء .
وقوله : (( فقضى فيه بغرَّة ، وجعله على أولياء المرأة )) ؛ يعني : الضاربة . وهذا نصٌّ : في أن الغرة تقوم بها العاقلة . وبه قال الكوفيون ، والشافعي . وهو أحد قولي مالك . وقيل : على الجاني . وهو المشهور من قول مالك . وقاله أهل البصرة. واختلفوا : هل تلزمه الكفارة مع الغرَّة أم لا ؟ قولان . الأول لمالك .
قلت : وهذه الأحاديثُ كلُّها إنَّما جاءث في جنين واحد كامل ، انفصل من حرَّة مسلمة ميتًا. فلو خالف شيئًا من هذه القيود ففيه تفصيل. وذلك يعرف بمسائل :
الأولى : لو ألقت أجنه لكان في كل جنين غرَّة . هذا قول الكافة ، ولا يعرف فيه خلاف .
الثانية : لو ألقت بعضه فلا غرَّة فيه . وقال الشافعي : فيه الغرَّة .
(15/141)
الثالثة : لو كان جنين أمة ففيه عشر قيمة أمَّه . هذا قول عامة أهل العلم . وذهب الثوري ، والنعمان ، وابن الحسن : إلى أن فيه عشر قيمته لو كان حيًّا ذكرًا كان أو أنثى . وذهب الحسن : إلى أن فيه نصف عشر ثمن أمَّه . وذهب سعيد بن المسيب : إلى أن فيه عشرة دنانير . وقال حمَّاد بن أبي سليمان : فيه حُكم .
الرابعة : جنين الكتابية. فيه عشر دية أمَّه ، ولا يحفظ فيه خلاف.
الخامسة : من أعتق ما في بطن جارية ، فضربها ضارب ، فطرحته ، فديته دية المملوك . وهو قول الزهري ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق .
السادسة : إذا اختلف الجاني والمجني عليه ، فقال الجاني : طرحته ميتًا . وقال المجني عليه : بل حيًّا . فالقول قول الجاني . وبه قال الشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي .
السابعة : دية الجنين موروثة على كتاب الله تعالى . وقال الزهري والشافعي : إن كان الضارب هو الأب لم يرث من الغرَّة شيئًا. وقال الليث ، وربيعة : هي للأم خاصَّة .
وقول حمل بن النابغة : (( أنغرم من لا شربَ ، ولا أكلَ ، ولا نطقَ ، ولا استهلَ )) ؛ يدل على أن عاقلة الجاني تحمل الغرَّة كما هو أحد القولين.
وقوله : (( فمثل ذلك يُطَلُّ )) ؛ رويناه بالياء باثنتين من تحتها ، بمعنى : يُهدر ولا يطلب به. ورويناه بالباء بواحدة من تحتها ، من البطلان ؛ أي : هو ممن ينبغي أن يبطل . والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد ؛ أي : هذا لا ينبغي أن يكون فيه شيء .
(15/142)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّما هذا من إخوان الكهَّان )) ؛ فسَّره الراوي : بقوله : من أجل سجعه ؛ يعني بذلك : أنه تشبَّه بالكهَّان ، فسجع كما يسجعون حين يخبرون عن المغيِّبات ، كما قد ذكر ابن إسحاق من سجع شقّ وسطيح وغيرهما . وهي عادةٌ مستمرَّة في الكهَّان . وقيل : إنما أنكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك السَّجع لأنه جاء به في مقابلة حكم الله مستبعدًا له ، ولا يذمُّه من حيث السَّجع ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تكلم بكلام يشبه السجع في غير ما موضع . وقيل : إنما أنكر عليه تكلّف الإسجاع على طرق الكهَّان وحوشية الأعراب . وليس بسجع فصحاء العرب ، ولا على مقاطعها .
قلت : وهذا القول الأخير إنَّما يصحُّ أن يقال على قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((أسجع كسجع الأعراب )) ، لا على قوله : (( إنَّما هذا من إخوان الكهَّان)) ، فتامله .
وحَمَل بن النابغة - بفتح الحاء المهملة والميم -. وقال فيه في الرواية الأخرى : حمل بن مالك . وهو هذلي من قبيل القاتلة . ولحيان : فخذ من هذيل ، ولذلك صدق أن يقال على القاتلة : أنها هذلية لحيانية . ولحيان يقال بفتح اللام وكسرها .
قلت : وقد ذكر الحديث الحارث بن أبي أسامة عن أبي المليح مرسلاً قال : إن حمل بن مالك كانت له امرأتان : مليكة ، وأم عفيف ، فحذفت إحداهما الأخرى بحجر فأصابت قبلها ، فماتت ، وألقت جنينها ميِّتًا ، وذكر الحديث كنحو ما تقدم . وعلى هذا فكأن حَمَلٌ زوجَ المقتولة والقاتلة ، وعاصبَ القاتلة ، ووالدَ الجنين . وحينئذ يكون قوله : أنغرم من لا شربَ ولا أكلَ ؛ دليل : على أنه غارم وليس بوارث . فلهذا قال الليث بن سعد ، وربيعة : إن الغرَّة للأمّ خاصة . ويحتمل : أن يكون معبِّرا عن العصبة دون نفسه ، مستبعدًا للحكم ، كما تقدم . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( وقضى بدية المرأة على عاقلتها )) ؛ فيه تلفيف في الضمائر أزالته الرِّواية الأخرى ؛ التي قال فيها : (( فجعل دية المقتولة على عصبة القاتلة )).
(15/143)
وقد احتج بظاهر الحديث من رأى : أنه لا يستقاد ممن قتل بمثقل ، وإنَّما عليه الدِّية . وهم الحنفية . ولا حجَّة لهم في ذلك لما تقدم : من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أقاد ممن قتل بحجر ، كما تقدم في حديث اليهودي ، ولقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} ، والمماثلة بالمثقَّل ممكنة ، ولإمكان كون هذا القتل خطأ أو شبه عمد فاندفع القصاص لذلك ، ولو سلّم : أنه كان عمدًا لكان ذلك برضا العصبة ، وأولياء الدَّم لا بالحكم ، وكل ذلك محتمل ، فلا حجَّة لهم فيه .
وفيه ما يدل : على أن العاقلة تحمل الدِّية . وقد أجمع المسلمون : على أنَّها تحمل دية الخطأ ، وما زاد على الثلث . واختلفوا في الثلث . فقال الزهري : الثلث فدونه هو في مال الجاني ، ولا تحمله العاقلة . وقال سعيد بن المسيب : الثلث فما زاد على العاقلة ، وما دون الثلث في مال الجاني ، وبه قال مالك ، وعطاء ، وعبدالعزيز بن أبي سلمة . وأمَّا ما دون الثلث فلا تحمله العاقلة عند من ذكر ، ولا عند أحمد . وقالت طائفة : عقل الخطأ على عاقلة الجاني ؛ قَلَّتْ الجنايةُ أو كثرت . وهو قول الشافعي . وقد تقدم القول في الدِّيات وانقسامها . فإن قيل : كيف ألزم العاقلة الدية والقتل عمدٌ ؟ والعاقلة لا تعقل عمدًا ، ولا صلحًا ، ولا اعترافًا .
فالجواب : أن هذا الحديث قد خرَّجه النَّسائي من حديث حَمَل بن مالك . وقال فيه : فقضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جنينها بغرَّة ، وأن تقتل بها . وهو طريق صحيح . وهذا نصٌّ : في أنه قضى بالقصاص من القاتلة ؛ بخلاف الأحاديث المتقدمة ؛ فإن فيها : أنه قضى على العاقلة بالدِّية .
ووجه التلفيق ؛ وبه يحصل الجواب على التحقيق : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى بقتل القاتلة أولاً ، ثم إن العصبة ، والأولياء اصطلحوا : على أن التزم العصبة الدِّية ويعفو الأولياء . فقضى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدِّية على العصبة لما التزموها. والله تعالى أعلم .
(15/144)
وقوله : (( وورثها عصبتها ومن معهم )) ؛ أعاد الضمير الأول على الدِّية ، والثاني على المقتولة . وعنى بالعصبة : بنيها ، وبمن معهم من الزوج . ولم يختلف : في أن الزوج يرث هنا من دية زوجته فرضه ، وإن كانوا قد اختلفوا فيه : هل يرث من دية الجنين ؛ على ما تقدم . والدِّية موروثة على الفرائض سواء كانت عن خطأ ، أو عن عمدٍ تعذَّر فيه القود . والذي يبين الحق في هذا الباب حديثان خرَّجهما الترمذي .
أحدهما : عن سعيد بن المسيب . قال : قال عمر : الدِّية على العاقلة ، ولا ترث المرأة من زوجها شيئًا. فأخبره الضحَّاك بن سفيان الكلابي : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتب إليه : أن ورث امرأة أشيم الضَّبابي من دية زوجها . وقال : هذا حديث حسن صحيح .
وثانيهما : عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتًا بغرَّة عبد أو أمة ، ثم إن المرأة التي قضى عليها بغرة توفيت ، فقضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بأن ميراثها لبنيها وزوجها ، وإن عقلها على عصبتها.
ثمَّ حيث وجبت الدِّية على العاقلة ؛ فلا تؤخذ منهم حالَّة ، بل مُنجَّمة في ثلاث سنين . وهو قول عامَّة أهل العلم من السَّلف والخلف . وتوزع على الأحرار ، البالغين ، الأغنياء ، الذكور . فلا تؤخذ من عبدٍ ، ولا من صبي ، ولا من امرأة ، ولا من فقير بالإجماع على ما حكاه ابن المنذر. واختلفوا في قدْر ما توزع على من يُطالَب بها . فقال الشافعي : من كثر ماله أخذ منه نصف دينار ، ومن كان دونه ربع دينار ، لا ينقص منه ، ولا يزاد عليه . وحكى أبو ثور عن مالك : أنه قال : على كل رجل ربع دينار . وبه قال أبو ثور . وقال أحمد : يحملون بقدر ما يطيقون . وقال أصحاب الرأي : ثلاثة دراهم ، أو أربعة دراهم.
قلت : والقول ما قاله أحمد . فإن التحديد يحتاج إلى شرع جديد .
(15/145)
وقوله : (( استشار عمر بن الخظاب الناس في ملاص المرأة )) ؛ كذا صحيح الرواية : (( ملاص )) بغير ألف . وقد وقع في بعض نسخ الأئمة : ((إملاص )) ، وكذا قيَّده الحميدي. وكلاهما صحيح في اللغة. فإنَّه قد جاء : أملص ، وملص : إذا أفلت . قال الهروي : وسُئل عمر عن إملاص المرأة الجنين قال : يعني : أن تزلقه قبل وقت الولادة . وكل ما زلق من اليد فقد ملَص يملَص . ومنه حديث الدَّجال : وأملصت به أمُّه . قال أبو العبَّاس : يقال : أملصت به . وأزلقت به . وأسهلت به ، وخطأت به .
قلت : وإملاص فيما حكاه الهروي عن عمر هو المصدر ؛ لأنَّه ذكر بعده الجنين ، وهو مفعوله . وفيما ذكره مسلم : (( ملاص )) ؛ ويعني به : الجنين نفسه ، فلا يتعدَّى هنا لأنه نقل من المصدر المؤكد ، فسمِّي به . فإن أصله : ملص يملص ملاصًا ؛ كـ (( لزم ، يلزم ، لزامًا )).
وفيه من الفقه : الاستشارة في الوقائع الشرعية ، وقبول أخبار الآحاد ، والاستظهار بالعدد في أخبار العدول . وليس ذلك عن شك في العدالة ، وإنَّما هو استزادة يقين ، وطمأنينة نفس . ولا حجَّة فيه لمن يشترط العدد في قبول أخبار الآحاد ؛ لأنَّ عمر ـ رضى الله عنه ـ قد قبل خبر الضَّحَّاك وغيره من غير استظهار . والله تعالى أعلم .
كتاب الحدود
وهي : جمع حدّ . وأصل الحدّ : المنع حيث وقع وإن اختلفت أبنيته وصيغه . وسميت العقوبات المترتبة على الجنايات : حدودًا ؛ لأنَّها تمنع من عود الجاني ومن فعل المعتبر بها .
ومن باب حدّ السَّرِقة وما يقطع فيه
(15/146)
السَّرِقةُ والسَّرِقُ - بكسر الراء فيهما - : هو اسم الشيء المسروق ، والمصدر من (( سَرَق ، يَسْرِقُ )) : سَرَقًا - بفتح الرَّاء - كذا قاله الجوهري . وأصل هذا اللفظ إنما هو : أخذ الشيء في خفية . ومنه : اسْتَرَق السَّمع . وسَارَقَه النظر . قال ابن عرفة : السارق عند العرب هو : من جاء مستترًا إلى حرزٍ فأخذ منه ما ليس له . فإن أخذ من ظاهرٍ فهو مختلس ، ومستلبٌ ، ومنتهبٌ ، ومحترسٌ . فإن منع مما في يده فهو غاصبٌ له .
قلت : وهذا الذي قاله ابن عرفة هو السارق في عُرْفِ الشرع . ويسدعي النَّظر في هذا الباب النَّظر في : السَّارق ، والمسروق منه ، والشيء المسروق ، وحكم السَّارق . ولا خلاف في أن السَّارق إذا كملت شروطه يقطع دون الغاصب ، والْمُخْتَلِس ، والْخَائِن . وفيمن يستعير المتاع فيَجْحَدُهُ خلاف شاذٌّ . وحكي عن أحمد ، وإسحاق ، فقالا : يقطع . والسَّلف والخلف على خلافهما . وسيأقي القول في حديث المخزوميَّة .
وإنَّما خصَّ الشرع القطع بالسَّارق لأن أخذ الشيء مُجاهَرَة يمكن أن يُسْتَرجع منه غالبًا . والخائن مكَّنَهُ ربُّ الشيء منه ، وكان متمكنًا من الاستيثاق بالبينة . وكذلك الْمُعير . ولا يُمَكَّن شيء من ذلك في السَّرِقة ، فبالغ الشرع في الزجر عنها ؛ لما انفردت به عن غيرها بقطع اليد .
وقد أجمع المسلمون : على أن اليمنى تقطع إذا وجدت ؛ لأنَّها الأصل في محاولة كل الأعمال .
(15/147)
وقول عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْطع في ربع دينار فصاعدً )). وفي الطريق الأخر : (( لا تُقطع يد السَّارق إلا في ربع دينار فصاعدًا )). هذا تقرير لقاعدة ما تقطع فيه يد السَّارق من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبلفظه . لكنَّه ظاهر فيما إذا كان المسروق ذهبًا ، فلو كان غير ذهب ، وكان فضة ، فهل يعتبر قيمتها بالذهب ؛ فإن سوّيت ربع دينار فصاعدًا قطع فيها ، أو إنما تعتبر بنفسها ؛ فاذا بلغت ثلاثة دراهم وزنًا قطع فيها ، فيكون كل واحد من الذهب والفضة أصلاً معتبرًا بنفسه ؛ قولان :
الأول : للشافعي ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأبي ثور ، وهو مروي عن عمر ، وعلي ، وعثمان ، وبه قالت عائشة ، وعمر بن عبدالعزيز.
والثاني : لمالك وأصحابه .
وقال أحمد وإسحاق : إن سرق ذهبًا فربع دينار ، وإن سرق غير الذهب والفضة فكانت قيمته ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم من الورق . وهذا نحو مما صار إليه مالك في أحد القولين . وفي المشهور : أنه إنما تقوَّم العروض بالدراهم ، كما قال في حديث ابن عمر . وقال بعض أصحابنا : يقوَّم بالغالب في موضع السَّرِقة من الذهب والفضة كما تقوَّم المتلفات . وهو القياس . وهذان القولان ناشئان من حديثي عائشة ، وابن عمر المذكورين في هذا الباب .
وقد نقلت أقوال عن كثير من السلف والعلماء في تحديد نصاب السَّرِقة لم يثبث فيها عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث معتمد ، ولا لها في الأصول ظاهر مستند ؛ فمنها ما روي عن عمر ، وقال به سليمان بن يسار ، وابن شبرمة . وهو : أنَّ الْخَمْسَ لا تقطع إلا في خَمْسٍ .
ومنها : أنَّها لا تقطع إلا في عشرة دراهم . وبه قال عطاء ، والنُّعمان ، وصاحباه .
ومنها : أنها تقطع في أربعة دراهم فصاعدًا . وهو مروي عن أبي هريرة ، وأبي سعيد .
ومنها : أنها تقطع في درهم فما فوقه ، وهو مروي عن عثمان.
ومنها : أنها تقطع في كل ماله قيمة ، وروي عن الحسن في أحد أقواله ، وهو قول الخوارج ، وأهل الظاهر . واختاره ابن بنت الشافعي.
(15/148)
ومنها : أنها لا تقطع في أقل من درهمين ، وروي عن الحسن .
ومنها : أنها لا تقطع في أقل من أربعين درهما ، أو أربعة دنانير . وروي عن النخعي .
قلت : وهذه كلها أقوال متكافئة ، خلية عن الأدلة الواضحة الشافية ، ولا يصحُّ ما رواه الحجَّاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا : ((لا تقطع يد السَّارق في أقل من عشرة دراهم )) ؛ لضعف إسناده ، ولما يعارضه من قوله في "الصحيح" : (( لا تقطع يد السَّارق إلا في ربع دينار فصاعدًا )). ولا حجَّة لمن احتجَّ بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لعن الله السَّارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده )) ؛ لأنَّه وإن احتمل أن يراد بالبيضة بيضة الحديد ، وبالحبل حبل السُّفن ، كما قد قيل فيه : فالأظهر من مساقه : أنَّه يراد به التقليل ، لكن أقل ذلك القليل مقيَّد بقوله : (( لا تقطع يد السَّارق إلا في ربع دينار )) ، وهذا نصٌّ ، وبقول عائشة : لم تكن يد السَّارق تقطع في الشيء التَّافه ، خرَّجه البخاري وغيره . وهذا منها خبر عن عادة الشرع الجاربة عندهم . ومعلوم : أن الواحدة من بيض الدَّجاج ، والحبل الذي يشدّ به المتاع والرَّحل تافهٌ . وإنَّما سلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث مسلك العرب فيما إذا أغْيَت في تكثير شيء أو تحقيره ، فإنَّها تذكر في ذلك ما لا يصحّ وجوده ، أو ما يندر وجوده إبلاغًا في ذلك ، فتقول : لأصْعَدنَّ بفلان إلى السماء ، ولأهبطنَّ به إلى تخوم الثَّرى . وفلانٌ مناطُ الثُّريَّا . وهو مِنِّي مقعد القابلة . و: (( من بنى لله مسجدًا ولو مثل مفحص قطاة بُني له بيتٌ في الجنة )). ولا يُتصوَّر مسجد مثل ذلك . و: (( تصدَّقن ولو بظلفٍ مُحرَّقٍ )). وهو مِمَّا لا يُتصدقُ به . ومثل هذا كثير في كلامهم ، وعادة لا تستنكر في خطابهم . وقيل في الحديث : أنَّه إذا سرق البيضة أو الحبل ربما حمله ذلك على أن يسرق ما يقطع فيه ، لأنه ربما يجتريء على سرقة غيرهما ، فيعتاد ذلك فتقطع يده .
(15/149)
وقوله : (( لعن الله السَّارق )) ؛ أي : أبعده الله . وقد تقدَّم : أن أصل اللعن : الطرد ، والبعد .
وفيه ما يدلّ على جواز لعن جنس العصاة ؛ لأنَّه لا بدَّ أن يكون في ذلك الجنس من يستحق ذلك اللعن ، أو الإثم ، أو الدُّعاء عليه . وليس كذلك العاصي المعيَّن ؛ لأنَّه قد لا يستحق ذلك ، فيعلم الله أنَّه يتوب من ذلك ، فلا يستحق ذلك اللعن بذلك .
وقد ذهب بعض النَّاس : إلى أنَّه يجوز لعن المعيَّن من أهل المعاصي ما لم يُحَدّ . فإذا حدّ لم يجز ؛ لأن الحدود كفارة . وهذا فاسد ؛ لأنَّ العاصي المؤمن لم يخرج بمعصيته عن اسم المؤمن . وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لعن المؤمن كقتله )). وقد نهى عن اللَّعن . وهو كثير . وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن لعن الملقب بـ (( حمار )) ؛ الذي كان يشرب الخمر كثيرًا ، فلعنه بعضهم ، فنهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن لعنه . وهو صحيح نصٌّ في الباب . وفرق بين لعن الجنس والشخص ؛ لأنَّ لعن الجنس تحقيق وتحذير ، ولعن الشخص حسبان وتعيير . وأمَّا الكافر فلا حُرْمةَ له. ويجب الكفُّ عن أذى مَنْ له ذمَّة .
ولا حجَّة لمن رأى : أنَّه لا يُقطع الْخَمْس إلا في خَمْسٍ بما رواه أنس عن أبي بكر : أنَّه قَطَع في خمسة دراهم ؛ لأنَّه ليس فيه دلالة على أن هذا أقلّ ما تُقطع فيه ، ولو كان نصًّا لكان معارضًا لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((لا تقطع يد السَّارق في أقل من ربع دينار )). فإن هذا نصٌّ من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يعارض بغيره . واختلف العلماء في الحدّ الذى تقطع منه اليد . وفيمن قطعت يده ثمَّ سرق ؛ ما الذي يقطع له ، وفيمن كانت له يمين شَلاَّء . فهذه مسائل :
(15/150)
الأولى : لا خلاف : أن اليمين هي التي تقطع أولاً . ثمَّ اختلفوا إن سرق ثانية . فقال مالك ، وأهل المدينة ، والشافعي ، وأبو ثور ، وغيرهم : تقطع رجله س اليسرى ، ثمَّ في الثالثة يده اليسرى ، ثمَّ في الرابعة رجله اليمنى ، ثم بعد هذا يعزر ويحبس . قال أبو مصعب من أصحابنا : يقتل بعد الرابعة . وقد ثبت عن أبي بكر وعمر : أنهما قطعا اليد بعد اليد ، والرِّجل بعد الرِّجل . وقيل : تقطع في الثانية رجله اليسرى ، ثمَّ لا قطع في غيرها ، فإن عاد حبس ، وعزر . روي ذلك عن علي(1) ، وبه قال الزهري ، وحمَّاد ، وأحمد .
فلو كانت اليمنى شلاَّء ، أو مقطوعة أكثر الأصابع ، أو لا يمين له - وهي المسألة الثانية - ؛ ففيه عن مالك روايتان :
إحداهما : تُقطع يده اليسرى . والأخرى : رِجله اليسرى . وقال الزُّهري : تُقطع الشَّلاَّء ؛ لأنَّها جمال . وبه قال إسحاق ، وأبو ثور. وقال أحمد : إذا كان يُحَرِّكُها قُطِعت. وعند الحنفية تفصيلٌ بعيدُ التحصيل.
ثم إلى أين تُقطع- وهي المسألة الثالثة - ؛ فعند الكافة : تقطع اليد من الرُّسغ ، والرِّجل من المفصل . وهو مروي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما . وقال علي ـ رضى الله عنه ـ : تُقطع الرجل من شطر القدم ، ويُترك له العقب ، وبه قال أحمد ، وأبو ثور . وقيل : تُقطع اليد إلى المرفق . وقيل : إلى المنكب . وهما شاذان .
تنبيه : آيةُ السَّرقة وردت عامة مطلقة ، لكنها مخصَّصة مقيَّدة عند كافة العلماء ؛ إذ قد خرج من عموم السَّارق من سرق ملكه ، ومن سرق أقل من نصاب ، وغير ذلك . وتقيَّدت باشتراط الحِرز ، فلا قطع على من سرق شيئًا من غير حرز بالإجماع إلا ما شذَّ فيه الحسن ، وأهل الظاهر ، فلم يشترطوا الحِرز . وقد روى النسائي من حديث رافع بن خديج : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( لا قطع في كَثَرٍ ولا ثَمَرٍ )) ، والكَثَر : الْجُمَّار .
(16/1)
وروي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أنَّه سُئل عن الثمر الْمُعَلَّق ؟ فقال : (( من أصاب منه من ذي حاجة غير مُتَّخِذٍ خُبْنَة فلا شيء عليه ، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ، ومن سرق شيئًا منه بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن الْمِجَنِّ فعليه القطع ، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة )). وفي رواية : (( وليس في الماشية قطعٌ إلا فيما آواه المراح فبلغ ثمن الْمِجَنِّ ففيه قطع اليد ، وما لم يبلغ ثمن الْمِجَنِّ ففيه قطع اليد ، ومالم يبلغ ثمن الْمِجَنِّ غرامة مثليه وجلدات )).
قال أبو عمر : قوله : وغرامة مثليه : هو منسوخ . لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال به إلا رواية أحمد . ومحمل هذا على التشديد ، والعقوبة . وأبو عمر يصحح حديث عمرو بن شعيب إذا كان الرَّاوي عنه ثقةٌ ، والراوي عنه لهذا الحديث ابن عجلان ، وهو ثقة .
وإذا تقرَّر اشتراط الحِرز في السرقة : فالحِرز عبارة عن المحلّ الذي يحفظ فيه ذلك الشيء عادة . ثم هو مختلف بحسب اختلاف الشيء الْمُحْرز . وتفصيل ذلك وبقية ما يتعلَّق بالسَّرِقة في الفروع .
ومن باب النهي عن الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام
قولها : (( إن قريشًا أهمَّهم شأن المخزومية التي سرقت )) ؛ هذا هو الصحيح : أن هذه المرأة سرقت ، وقطعت يدها لأجل سرقتها ، لا لأجل جحد المتاع . ويدلّ على صحة ذلك أربعة أوجه :
أولها : إن رواية من روى : (( أنها سرقت )) ؛ أكثر وأشهر من رواية من قال : (( إنَّها كانت تجحد المتاع )). وإنَّما انفرد معمر بذكر الجحد وحده من بين الأئمة الحفاظ ، وقد تابعه على ذلك من لا يعتد بحفظه كابن أخي ابن شهاب ونَمَطِه . هذا قول ا لمحدِّثين .
(16/2)
ثانيها : إن معمرًا وغيره ممن روى هذه القِصَّة متفق : على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال - حيث أنكر على أسامة - : (( لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها )) ، ثم أمر بتلك المرأة فقطعت . وهذا يدلُّ دلالة قاطعة : على أن المرأة قطعت في السَّرِقة ؛ إذ لو كان قطعها لأجل جحد المتاع لكان ذكر السِّرِقة هنا لاغيًا ، لا فائدة له ، وإنما كان يقول : لو أن فاطمة جحدت المتاع لقطعت يدها .
وثالثها : إن جاحد المتاع خائن ، ولا قطع على خائن عند جمهور العلماء خلافًا لما ذهب إليه أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الترمذي من حديث جابر مرفوعًا : (( ليس على خائن ، ولا منتهب ، ولا مختلس قطع )). وقال : حديث حسن صحيح . وهذا نصٌّ . ولأنَّه لو كان في جَحْدُ المتاع قطعٌ لكان يلزم القطع كلَّ من جَحَد شيئًا من الأشياء ثمَّ ثبت عليه . وهذا لا قائل به فيما أعلم.
ورابعها : إنَّه لا تعارض بين رواية من ررى : (( سرقت )) ولا بين رواية من روى : (( جحدت ما استعارت )) ؛ إذ يمكن أن يقال : إن المرأة فعلت الأمرين ، لكن قطعت في السرقة ، لا في الجحد ، كما شهد به مساق الحديث ، فتأمله
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أتشفع في حدٍّ من حدود الله ؟! )) إنكارٌ على أسامة ، يُفْهَم منه : تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام ، فيَحْرُم على الشافع وعلى الْمُشَفَّع ، وهذا لا يختلف فيه . وقد ذكر الدارقطني عن عروة بن الزبير قال : شفع الزبير في سارق ، فقيل : حتى نُبْلِغَهُ الإمامَ . قال : إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والْمُشَفَّع ، كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ورواه مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن : أن الزبير قال ذلك ، ولم يذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والموقوف هو الصحيح .
وإمَّا الشفاعة قبل بلوغ الإمام : فقد أجازها أكثر أهل العلم لما جاء في السِّير على المسلم مطلقًا ، لكن قال مالك : ذلك فيمن لم يُعرف منه أذى للنَّاس ، فأما من عرف منه شرٌّ ، وفسادٌ : فلا أحبُّ أن يُشْعَفع فيه .
(16/3)
وأمَّا الشفاعة فيما ليس فيه حدٌّ وليس فيه حق لآدمي ، وإنَّما فيه التعزير فجائزة عند العلماء بلغ الإمام أم لا .
وقوله : (( إنَّما أهلك الذين قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ )) ؛ تهديد ، ووعيد شديد على ترك القيام بالحدود ، وعلى ترك التسوية فيما بين الدَّنيء والشريف ، والقوي والضعيف . ولا خلاف في وجوب ذلك .
وفيه حجَّة لمن قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا .
وقوله : (( لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها )) ؛ إخبارٌ عن مقدَّر يفيد القطع بأمر محقق . وهو وجوب إقامة الحد على البعيد والقريب ، والبغيض والحبيب ، لا تنفع في ذريةٍ شفاعة ، ولا تحولُ دونه قرابة ولاجماعة .
وقولها : (( فحسنت توبتها ، وتزوَّجت ... )) إلى آخره ؛ يدلّ على صحة توبة السَّارق ، وأنها ماحيةٌ لإثم السَّرِقة ، وللمعرَّة اللاحقة ، فيحرم تعييره بذلك . أو يعاب عليه شيء مما كان هنالك . وهكذا حكم أهل الكبائر إذا تابوا منها ، وحسنت أحوالهم بعدها ، تُسمعُ أقوالهم ، وتُقبل شهادتهم. وهذا مذهب الجمهور ، غير أن أبا حنيفة قال : لا تقبل شهادة القاذف المحدود مطلقًا وإن تاب . وقال مالك : لا تُقبل شهادة المحدود فيما حدّ فيه ، وتُقبل في غيره .
ومن باب حدّ البكر والثيِّب إذا زنيا
(16/4)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً )) ؛ أي : افهموا عني تفسير السبيل المذكور في قوله تعالى : { فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهنَّ الموت أو يجعل الله لهنَّ سبيلاً } ، واعملوا به. وذلك : أن مُقْتضى هذه الآية : أن من زنى حبس في بيته إلى أن يموت . وكذا قاله ابن عباس في النساء ، وحكي عن ابن عمر : أن ذلك حكم الزانيين ؛ يعني : الرَّجل والمرأة . فكان ذلك الحبس هو حدّ الزناة ؛ لأنَّه كان يحصل به إيلام الجاني وعقوبته ؛ بأن يمنع من التصرف والنكاح وغيره طول حياته ، وذلك عقوبةٌ وزجرٌ ، كما يحصل من الجلد والتغريب . فحقيق أن يُسمّى ذلك الحبس حدًّا ، غير أن ذلك الحكم كان محدودًا إلى غاية وهو أن يبين الله لهن سبيلاً آخر غير الحبس ، فلما بلغ وقت بيانه المعلوم عند الله أوضحه الله تعالى لنبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبلَّغه لأصحابه ، فقال لهم : (( خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً : البكر بالبكر جلد مائة ، وتغريب عام ، والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرَّجم )) ، فارتفع حكم الحبس في البيوت لانتهاء غايته . وهذا نحو قوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } ، فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام ، لانتهاء غايته ، لا لنسخه. ولهذا يعلم بطلان قول من قال : إن الحبس في البيوت في حق البكر منسوخ بالجلد المذكور في النور ، وفي حق الثيِّب بالرَّجم المجمع عليه . وهذا ليس بصحيح لما ذكرناه أولاً ، ولأن الجمع بين الحبس ، والجلد ، والرَّجم ممكن ، فلا تعارض ، وهو شرط النسخ مع علم المتأخر من المتقدم ، كما قدَّمناه في باب النسخ في الأصول . وإذا تقرر هذا فاعلم : أن الأمَّة مُجْمِعة : على أن البكر ، وتعني به : الذى لم يحصن إذا زنى جلد الحدّ . وجمهور العلماء من الخلفاء ، والصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم ، على وجوب التغريب مع الحدّ إلا أبا حنيفة ، وصاحبه محمد بن الحسن ، فإنَّهما قالا : لا تغريب عليه . فإن النصّ الذي في الكتاب إنَّما(16/5)
هو على جلد الزاني ، والتغريب زيادةٌ عليه ، والزيادة على النصّ نسخ فيلزم عليه نسخ القرآن القاطع بخبر الواحد ، فإن التغريب إنما ثبت بخبر الواحد .
والجواب : أنا لا نسلِّم : أن الزيادة على النص نسخٌ ، بل زيادة حكم آخر مع الأصل ، فلا تعارض ، فلا نسخ . وقد بيَّنا ذلك في الأصول ، سلمنا ذلك ، لكن هذه الآية ليست بنصٍّ ، بل عموم ظاهرٌ ، فيخصّص منها بعض الزناة بالتغريب ، كما يخصِّص بعضهم بالرَّجم ، ثمَّ يلزمهم ردَّ الحكم بالرجم فإنه زيادة على نصّ القران ، وهو ثابت بإخبار الآحاد . ولو سلَّمنا : أن الرَّجم ثبت بالتواتر ، فشرطه الذي هو الإحصان ثبت باخبار الآحاد ، ثم هم قد نقضوا هذه القاعدة التي تعدوها في مواضع كثيرةٍ بيَّناها في الأصول .
ومن أوضح ذلك : أنهم أجازوا الوضوء بالنبيذ معتمدين في ذلك على خبر ضعيف لم يصحّ عند أهل العلم بالحديث ، وهو زيادة على ما نصّ عليه القران من استعمال الماء .
ثم القائلون بالتغريب اختلفوا فيه . فقال مالك : ينفى من مصر إلى الحجاز وشَغْب وأسوان ونحوها . ومن المدينة إلى خيبر وفدك ، وكذلك فَعَل عمر بن عبد العزيز . وقد نفى عليٌّ ـ رضى الله عنه ـ من الكوفة إلى البصرة . قال مالك : ويحبس في البلد الذي نُفي إليه . وقيل : يُنفى إلى عمل غير عمل بلده . وقيل : إلى غير بلده. وقال الشافعي : أقلُّ ذلك يوم وليلة .
قلت : والحاصل : أنَّه ليس في ذلك حدٌّ محدود ، وإنَّما هو بحسب ما يراه الإمام ، فيختلف بحسب اختلاف أحوال الأشخاص على حسب ما يراه أردع .
ثمَّ القائلون بالتغريب لم يختلفوا في تغريب الذكر الحرّ . واختلفوا في تغريب المرأة والعبد . فمن رأى التغريب فيهما ؛ أخذ بعموم حديث التغريب
(16/6)
وممن رأى التغريب ابن عمر ، وقد حدّ مملوكة له في الزنى ، ونفاها إلى فدك . وبه قال الشافعي ، وأبو ثور ، والثوري ، وا لطبري ، وداود . وهل يُنْفى العبد والأمة سنة أو نصف سنة ؟ قولان عند الشافعي . وذهب معظم القائلين بالنفي إلى أنه لا نفي على مملوك وبه قال الحسن وحماد بن أبي سليمان ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق . ولم ير مالك ، والأوزاعي على النساء نفيًا . وروي مثله عن علي بن أبي طالب بناءً على تخصيص حديث النفي .
أما في الأَمَة : فبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ثلاثًا )). ثم قال بعد ذلك : (( ثم إن زنت فبيعوها ولو بِضَفِير )) ، ولم يذكر النفي ، وهو موضع بيان ، ووقته ، ولا يجوز تأخيره عنه ، ولأن تغريب المملوك عقوبة لمالكه يمنعه من منافعه في مدة تغريبه ، ولا يناسب ذلك تصرُّف الشرع ، فلا يعاقب غير الجاني ، ألا ترى أن العبد لا يجب عليه الحجَّ ، ولا الجمعة ، ولا الجهاد لحق السيِّد ؟ فِبأنْ لا يغرب أولى .
وإمَّا في حق الحرَّة : فلأنها لا تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم أو زوج ، فإن أوجبنا التغريب على هؤلاء معها كنا قد عاقبناهم وهم برءاءُ ، وإن لم نوجبه عليهم لم يجز لها أن تسافر وحدها فتعذَّر سفرها . فإن قيل : تسافر مع رفقة مأمونة أو النساء ؛ كما يقوله مالك في سفر الحجّ . فالجواب : إن ذلك من مالك سعيٌ في تحصيل وظيفة الحجّ لعظمها وتأكد أمرها ، بخلاف تغريب الزانية ؛ فإن المقصود منه المبالغة في الزجر والنكال ، وذلك حاصل بالجلد ، ولأن إخراج المرأة من بيتها الأصل منعه . ألا ترى : أن صلاتها في بيتها أفضل ، ولا تخرج منه في العِدَد. وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَعْرُوا النساء يَلْزَمْن الحِجالَ )).
(16/7)
وحاصل ذلك : أن في إخراجها من بيتها إلى بلد آخر تعريضها لكشف عورتها ، وتضييعٌ لحالها ، وربما يكون ذلك سببًا لوقوعها فيما أخرجت من سببه ، وهو الفاحشة . ومآل هذا البحث تخصيص عموم التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار ، وهو مختلف فيه ، كما ذكرناه في الأصول .
وقوله : (( والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرَّجم )) ؛ الثيب هنا : هو المحصن ، وهو البالغ ، العاقل ، الحرّ ، المسلم ، الواطيء وطئًا مباحًا في عقد صحيح . هذه شروط الإحصان عند مالك ، وقد اختلف في بعضها. ولبيان ذلك موضع آخر . فإذا زنى المحصن وجب الرَّجم بإجماع المسلمين ، ولا التفات لانكار الخوارجِ والنّظَّامِ الرَّجْمَ ، إمَّا لأنهم ليسوا بمسلمين عند من يكفِّرهم ، وإما لأنَّهم لا يعتد بخلافهم ؛ لظهور بدعتهم وفسقهم على ما قرَّرنا في الأصول .
وهل يجمع عليه الجلد والرَّجم ؟ كما هو ظاهر هذا الحديث ؛ وبه قال الحسن البصري ، وإسحاق ، وداود ، وأهل الظاهر . وروي عن علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ : أنَّه جمع ذلك على شراحة ، وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . أو يقتصر على الرَّجم وحده ؟ وهو مذهب الجمهور ، متمسكين بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجم ماعزًا والغامدية ولم يجلدهما ، وقال : (( أُغْدُ يا أُنَيْس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها )) ، ولم يذكر الجلد ، فلو كان مشروعًا لما سكت عنه ، وكأنَّهم رأوا : أن هذا أرجح من حديث الجمع بين الجلد والرَّجم ، إما لأنَّه منسوخ إن عرف التاريخ ، وإمَّا لأن العمل المتكرر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أوقات متعددة أثبت في النفوس ، وأوضح ، فيكون أرجح . وقد شذَّت طائفة فقالت : يجمع الجلد والرجم على الشيخ ، ويُجلد الشابُّ تمسُّكًا بظاهر لفظ ((الشيخ )). وهو خطأ ، فإنَّه قد سَمَّاه في الحديث الآخر : ((الثيب )).
(16/8)
وقوله في الأصل : (( كرب لذلك وتَرَبَّد وجهه )) ؛ أي : أصابه كربٌ ، وعلت وجهه غَبَرَةٌ . والرَّبدة : تغيير البياض للسواد ، وقد تقدم في الإيمان.
وقول عمر : (( كان مما أنزل الله تعالى على نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ آية الرَّجم ، فقرأناها ، ووعيناها ، وعقلناها )) ؛ هذا نصٌّ من عمر ـ رضى الله عنه ـ على أنَّ هذا كان قرآنًا يُتلى. وفي آخره ما يدلُّ على أنَّه نُسخً كَونُها من القرآن ، وبقي حُكْمُها معمولاً به ، وهو الرَّجم . وقال ذلك عمر بمحضرِ الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ . وفي مَعْدن الوحي ، وشاعت هذه الخطبة في المسلمين ، وتناقلها الرُّكبان ، ولم يسمع في الصحابة ولا فيمن بعدهم من أنكر شيئًا مِمَّا قاله عمر ، ولا راجعه في حياته ولا بعد موته ، فكان ذلك إجماعًا منهم على صحة هذا النوع من النسخ. وهو نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ، ولا يلتفت لخلاف من تأخر زمانه ، وقل علمه في ذلك . وقد بيَّنا في الأصول : أن النسخ على ثلاثة أضرب : نسخ التلاوة ، ونسخ الحكم مع بقاء التلاوة ، ونسخ التلاوة مع بقاء الحكم .
وقوله : (( فرجم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجمنا بعده )) ؛ يعني : نفسه وأبا بكر رضي الله عنهما .
وقوله : (( فأخشى إن طال زمان أن يقول قائل : ما نجدُ الرَّجم في كتاب الله فيضلُّوا بترك فريضةٍ أنزلها الله تعالى )) ؛ هذا الذى توقعه عمر قد وقع بعده للخوارج ، والنّظَّام ؛ فإنَّهم أنْكَرُوا الرَّجم ، فهم ضالون بشهادة عمر ـ رضى الله عنه ـ ، وهذا من الحق الذي جعل الله تعالى على لسان عمر وقلبه ـ رضى الله عنه ـ ، ومما يدلُّ على أنَّه كان محدِّثًا بكثير مما غاب عنه ، كما شهد له بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(16/9)
وقوله : (( فإن الرَّجم في كتاب الله )) ؛ أي : في حكم الله الذي كان نزل في الكتاب ، وكان فيه ثابتًا قبل نسخه ، كما قدَّمناه . وقد نصَّ على هذا المعنى فيما ذكره عنه مالك في "الموطأ" ؛ فقال : لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله لكتبته بيدي : (( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة )). وهذا من قوله يدلّ على أن الكتاب قد أحكمت آياته وانحصرت حروفه وكلماته ، فلا يقبل الزيادة ولا النقصان .
وقوله : (( حقٌّ )) ؛ أي : ثابت يعمل به إلى يوم القيامة .
وقوله : (( على من زنى من الرِّجال أو النساء إذا أحصن )) ؛ هذا مجمع عليه ؛ إذ لم يسمع بمن فرَّزق فيه بين الرجال والنساء. وقد رجم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماعزًا والغامدية على ما يأتي .
وقوله : (( إذا قامت البينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف )) ؛ فيعني بالبينة الأربعة الشهداء العدول ، المؤدين للشهادة في فَوْرٍ واحد ؛ الذين يَصفُون رؤية فرجه في فرجها كالْمِرُّود في المكحلة ، المقيمين على شهادتهم إلى أن يقام الحدّ على ما يُعرف في كتب الفته .
(16/10)
و (( الْحَبَلُ )) : يعني به : أن يظهر بامرأة لا زوج لها ، ولا سيِّد ، وكانت غير طارِئةٍ - حَبَلٌ ، ولم يظهر ما يدلُّ على الإكراه مثل أن تتعلق به ، وتفضح نفسها ، وهي تُدْمَى ، فأما لو لم يكن إلا قولها أنها أكرهت ، ولم يظهر ما يدلّ على الإكراه ، فإنَّها لا يَدْفَع الحدّ عنها مجرَّدُ قولِها ، ولا يكون قولها شبهة عندنا ، وهو شبهة عند أبي حنيفة يدْرأ بها الحدّ . وبه قال ابن المنذر ، والكوفيون ، والشافعي ، قالوا : إذا وجدت المرأة حاملاً فلا حدّ عليها إلا أن تقرَّ بالزنى ، أو تقوم عليها بيِّنة . ولم يفرِّقوا بين الطارئة وغيرها . ويرد عليهم قول عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( أو الْحَبَل )) بحضرة الصحابة ولا منكر . وأيضًا : فمثل هذا لا يقوله عمر ـ رضى الله عنه ـ عن اجتهاد إنَّما يقوله عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصرَّح بالرفع . ولا يضرُّنا ذلك . ولو سلَّمنا : أنَّه قاله عن اجتهاد فاجتهاده راجحٌ على اجتهاد غيره ؛ لشهادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( بأن الله تعالى جعل الحق على لسانه وقلبه )). وسيأتي الكلام في الاعتراف ، إن شاء الله تعالى.
ومن باب إقامة الحد على من اعترف على نفسه بالزنى
قول ماعز ـ رضى الله عنه ـ في هذه الرِّواية : (( يا رسول الله ! طهرني )) ؛ ولم يذكر فيها مماذا يُطهَّر ؟ وإنما أراد به : من إثم الزنى ، بإقامة الحدّ ، كما قد جاء في الرِّواية الأخرى ، فإنَّه قال : يا رسول الله ! إني قد ظلمت نفسي ، وزنيت ، وإني أريد أن تطهرني . وهذه رواية محكمة ، وهكذا هذا الحديث روي بألفاظ متعددة بعضها يفسر بعضًا ، أو يُقيِّد.
(16/11)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ويحك ! ارجع فاستغفر الله وتب إليه )) ؛ يدل : على أن ما كان من حقوق الله تعالى يكفي في الخروج من إثمه التوبة ، والاستغفار ، وإن كان فيه حدٌّ . وفيه : جواز ستر الإمام على الزاني ما لم يتحقق السبب ، فاذا تحقق السبب الذي يترتب عليه الحدّ فلا بدَّ من إقامته ، كما ذكره مالك في "الموطأ" من مراسيل ابن شهاب ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( من بلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر ، فإنَّه من يُبْد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله )). فأمَّا حقوق الآدميين : فلا بدَّ مع التوبة من الخروج منها .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أبك جنون ؟ )) هذا سؤال أوجبه ما ظهر على السَّائل من الحال التي تشبه حال المجنون ، وذلك : أنَّه كان دخل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منتفش الشعر ، ليس عليه رداء ، يقول : زنيت فطهرني . كما قد صحَّ في الرِّواية ، وإلا فليس من المناسب أن ينسب الجنون لمن أتى على هيئة العقلاء ، وأتى بكلام منتظم مُفيد ، لا سيما إذا كان فيه طلب الخروج من مأثم .
وقوله : (( أَشرِبَ خمرًا ؟ )) و(( استِنْكَاهُهُم له )) ؛ يدلُّ على أن مَنْ وجدت منه رائحة الخمر حكم له بحكم من شربها . وهو مذهب مالك ، والشافعي . وهو قول عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وعمر بن عبدالعزيز . وقال آخرون : لا يُحَدُّ بالرِّيح بل بالاعتراف ، أو البيِّنة ، أو يُوجد سكران . وإليه ذهب عطاء وعمرو بن دينار ، والثوري ، غير أنه قال : يعزر من وجد منه ريح الخمر .
وفيه من الفقه ما يدلُّ على أن المجنون لا تعتبر أقواله ، ولا يتعلَّق بها حكم ، وهذا لا يختلف فيه .
(16/12)
وظاهر هذا الحديث : أن السَّكران مثل المجنون في عدم اعتبار إقراره ، وأقواله . وبه قالت طائفة من أهل العلم . وقالت طائفة أخرى ، وهو مالك ، وجل أصحابه : يؤخذ بإقراره ؛ لأنه لا يعرف المتساكر من السَّكران ، ولأنَّه لَمَّا كان مختارًا لإدخال السُّكر على نفسه صار كأنه مختار لما يكون في سكره . وهذا مع أنا نقول : إن من ذهب عقله حتى لا يميز شيئًا فليس بمكلَّف ، ولا مخاطب خطاب تكليف في تلك الحال بالإجماع ، على ما حكاه ابن العريف . وإنَّما يتعلَّق به خطاب الإلزام المسمَّى بخطاب الوضع والإخبار ؛ على ما بيَّناه في الأصول .
واعترافه على نفسه مول أربع مرَّات يَسْتدلُ به من يشترط في قبول إقرار الزاني العدد . وهم : الحكم ، وابن أبي ليلى ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي ؛ فقالوا : لا يقام عليه الحدّ إلا إذا أقرَّ على نفسه أربع مرَّات تمسُّكًا بهذا الحديث ، وبأن الإقرار بالزنى كالشهادة عليه ، وقد انعقد الإجماع : على أن شهود الزنى أربعة ، فيكون الإقرار أربعة . ومن هؤلاء من شرط أن تكون الأربع الإقرارات في مجلس واحد . وإليه ذهب ابن أبي ليلى ، وأحمد . وقال أصحاب الرأي : إذا أقرَّ أربع مرَّات في مجلس واحد فهو بمنزلة مرة واحدة .
(16/13)
قلت : والأوَّل مقتضى قياس الإقرار بالزنى على الشهادة به ، وعلى القول الثاني يمتنع الإلحاق . والصحيح : أنَّه لا يشترط في الإقرار بالزنى ، ولا غيره عدد . وهو مذهب الجمهور : مالك ، والشافعي ، وأبي ثور . وبه قال الحسن ، وحمَّاد . والدَّليل على صحة ذلك : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجم الغامدية بإقرارها مرة واحدة ، ولم يستعد منها الإقرار ، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((وأغْدُ يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )) ، ، ولم يأمره بأن يستعيد إقرارها بذلك أربع مرَّات . وأما تكرار اعتراف ماعز فإنما كان لأجل إعراضه عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الثلاث المرَّات ليستر نفسه ، وليتوب ، ولم يأمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإعادة ذلك . وأمَّا قياسهم الإقرار على الشهادة فليس بصحيح ، للفرق بينهما من وجوه متعددة . وذلك : أن إقرار الفاسق والعبد على نفسه مقبوذ بخلاف شهادتهما ، ويكفي منه في سائر الحقوق مرة واحدة بالإجماع ، إلا من شذَّ فقال : إنَّ الإقرار بالقتل لا يكون إلا مرَّتين كالشهادة به ، ولو كان الإقرار كالشَّهادة مطلقًا لاشترط فيه العدد مطلقًا ، ولو كان كالشهادة لما قُبل إقرار المرأة على نفسها بأنها جُرِحت أو أعتقت ؛ لأنَّها لا تقبل شهادتها في ذلك ، فظهر بطلان تمسكهم با لخبر والقياس . والله الموفق .
(16/14)
وقوله : (( أزنيتَ ؟ فقال : نعم )) ؛ جاء هذا المعنى في كتاب أبي داود بأوضح من هذا : قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنكتها ؟ )) قال : نعم . قال : (( حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ؟ )) قال : نعم . قال : (( كما يغيب الْمِرْوَد في الْمُكْحُلَة ، والرِّشاء في البِئْر ؟ )) قال : نعم . قال : (( هل تدري ما الزنى ؟ )) قال : نعم ، أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرَّجُل من أهله حلالاً )). وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ لماعز بغاية النصّ الرافع لجميع الاحتمالات كلها تحقيقًا للأسباب ، وسعيًا في صيانة الدماء . ثمَّ لما فرغ ـ صلى الله عليه وسلم ـ من استفصاله عن ذلك سأله عن الإحصان . فقال : (( فهل أحصنت ؟ )) فقال : نعم ؛ يعني : هل تزوجت تزويجًا صحيحًا ، ووطئت وطئًا مباحًا ؟ فعندما أجابه بنعم ، أمر برجمه ، وذلك عند تحقق السبب الذي هو الزنى بشرطه ؛ الذي هو الإحصان . وقد أخذ علماؤنا من حديث أبي داود : أن شهود الزنى يصفون الزنى كما وصف ماعز ، فيقول الشاهد : رأيت فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة . وإليه ذهب معاوية ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وأبوثور ، وأصحاب الرأي .
وقوله : (( فأمر به ، فرجم )) ، وفي الرِّواية الأخرى : (( فأمر به فحفر له )) ، وفي الرواية الأخرى قال : (( فما أوثقناه ، ولا حفرنا له )) ، وفي حديث الغامدية : (( أنها حُفِر لها إلى صدرها )) ؛ اختلاف هذه الروايات هو الموجب لاختلاف العلماء في هذا الحكم الذي هو : الحفر . فلم يبلغ مالكًا من أحاديث الحفر شيء ، فلم يقل به ، لا في حق المرأة ، ولا في حق الرَّجل ، لا هو ، ولا أصحابه . وكذلك قال أحمد ، وأصحاب الرأي. وقالوا : إن حفر للمرأة فحسن . وقيل : يحفر لهما . وبه قال قتادة وأبو يوسف . وروي في ذلك عن علي ، ووسَّع الشافعي ، وابن وهب للإمام في ذلك ، وخيراه .
(16/15)
ثم قال في هذه الرواية الأخيرة : (( فرميناه بالعظم ، ثمَّ المدر ، والخزف )) ، قال : (( فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عُرْض الْحَرَّة ، فانتصب لنا ، فرميناه بِجَلامِيد الحرَّةِ حتى سكت )) ؛ يعني بالعظم : العظام ، والمدر : التراب الأحمر المنعقد ، والخزف : الشِّقاف ، وهي : كِسَر الفخَّار. وعُرْض الْحَرَّة - بضم العين - : جانبها ، وسكت : معناه : سكن ؛ أي : مات . وقال أبو داود فيه من حديث هَزَّال ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((هلاَّ تركتموه لعلَّه أن يتوب فيتوب الله عليه )). وقال أيضًا من حديث جابر : أن جابرًا قال : لنا خرجنا به فرجمناه ، فوجد مس الحجارة صرخ بنا : يا قوم ! ردوني إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإن قومي قتلوني ، وغرُّوني من نفسي ، وأخبروني : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير قاتلي . فلم ننزع عنه حتى قتلناه ، فلمَّا رجعنا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأخبرناه فقال : (( هلا تركتموه وجئتموني به )) ؛ ليتثبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه ، فأمَّا لترك حدّ فلا .
هذه الروايات متواردة : على أن ماعزًا لَمَّا وجد ألم الحجارة صدر منه ما يدلّ على أنه أراد أن يردَّ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا سيما وقد صرح بذلك في حديث جابر ، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( فهلا تركتموه ، وجئتموني به )) ، فاستنبط منه كثير من العلماء : أن المعترف بما يجب عليه من الحد إن رجع عن إقراره مطلقًا لم يُحدَّ ، وممن ذهب إلى هذا : عطاء ، ويحيى بن يعمر ، والزهري ، وحمَّاد ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والنعمان ، ومالك في رواية القعنبي. وقيل : لا ينفعه رجوعه مطلقًا. وبه قال سعيد بن جبير ، والحسن ، وابن أبي ليلى ، وأبو ثور . وهي رواية ابن عبدالحكم عن مالك . وقال أشهب : قال مالك : إن جاء بعذر قُبل منه ، وإلا لم يقبل ذلك منه .
(16/16)
قلت : وليس في شيء من هذه الروايات ما ينصّ على أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقبل رجوعه مطلقًا لا سيما مع قول جابر : ليتثبت في أمره ، فأمَّا لترك حدّ فلا. ولعلَّه كان يستدعي منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرُّجوع إلى شبهة كما صار إليه مالك في رواية أشهب . وهذا القول أعجب ما في هذه المسألة . أنَّه إن رجع إلى شبهة دريء عنه الحد ، وإلا فلا . وقد قال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور : إذا هرب تُرك اتِّباعًا لهذه الزيادة . وقاله بعض أصحابنا . وقال : إن وُجد بالفور كمل عليه الحد . وإن وجد بعد زمان تُرِكَ .
وقوله : (( فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة )) ؛ الإشارة بـ (( ذلك )) إلى ما وقع لهم من الاختلاف في شأن ماعز ؛ يعني : أنَّهم بقوا كذلك إلى أن تبيَّن لهم حاله بقوله : (( لقد تاب توبة لو قُسِمَت بين أُمَّةٍ لوسعتهم )). والأمَّة : الجماعة من الناس . وقد يقال على الجماعة مما لا يعقل . فيقال : أمَّة من الحمير ، ومن الطير . ومنه قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض ولاطائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم }. ويعني بالأمَّة في هذا الحديث السبعين الذين ذكروا في حديث الغامدية . وزاد أبو داود من رواية ابن عباس : أن ماعزًا لما رجم سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه ، فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ، فسكت عنهما ، ثم سار ساعة حتى مرَّ بجيفة حمار شائلٍ بِرِجْلِه . فقال : (( أين فلان وفلان ؟ )) فقالا : نحن ذانِ يا رسول الله ! فقال : (( انزلا وكلا من جيفة هذا الحمار )) فقالا : يا رسول الله ! من يأكل من هذا ؟ قال : (( فما نِلْتُما من عِرْضِ أَخِيكُما آنفًا أشد من أكلٍ منه ، والذي نفسي بيده ! إنَّه الآن في أنهار الجنة ينغمسُ فيها )).
(16/17)
قلت : فهذه الروايات كلها متواردة على أن الحدّ كفارة ، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت حيث قال : (( فمن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارة. وقد زاد أبو داود في حديث ماعز من حديث خالد بن اللجلاج : أنه لَمَّا رجم جاء رجل يسأل عن المرجوم ، فانطلقنا به إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلنا : هذا جاء يسأل عن الخبيث . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لهو أطيب عند الله من ريح المسك )) ، فاذا هو أبوه ، فأعنَّاه على غسله وتكفينه ، ودفنه . قال : وما أدري ؛ قال : والصلاة عليه ، أم لا ؟
وفيه دليل : على أن المرجوم يُغسَّل ، ويكفَّن ، ويصلَّى عليه . وفي معناه : كل من قتل في حدّ من المسلمين ، غير أن الإمام يجتنب الصلاة على من قتله في حدّ ؛ على مذهب مالك ، وأحمد بن حنبل ؛ لأنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصل على ماعز . وعند أبي بكر بن أبي شيبة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بالغامدية فصُلِّي عليها - بضم الصاد -كذا الرواية . وفي كتاب أبي داود : أنَّه أمرهم : أن يصلوا عليها. وظاهر هذين الحديثين : أنَّه لم يصل عليها ، غير أنَّه في كتاب مسلم : صَلَّى عليها . وظاهره : أنَّه صلَّى بنفسه ، حتى قال له عمر : أتصلي عليها وقد زنت ؟! وبهذا استدل من قال : إن الإمام يُصلِّي على من قتله في حدّ ، على أنه يحتمل أن قول الراوي : صلَّى عليها ؛ أي : دعا لها ، واستغفر لها . أو يكون معناه : أنه أمر أن يصلِّى عليها . ولمجتضد هذا بائه لم يُصلِّ على ماعز ، كما قد روي من حديث معمر : أنه لم يصلِّ عليه . وفي بعض طرقه : أنَّه ما صلَّى عليه ، ولا استغفر له ، مع أنَّه قد صحَّ قوله : (( استغفروا لأخيكم )). فقالوا : غفر الله له . ولم يتلفظ هو بالاستغفار ، ولكنه أمر به ، فيجوز أن يكون جرى في الصلاة عليه كذلك .
وقوله : (( لعلك قبَّلت أو غمزت )) ، وفي بعض طرقه : (( لعلك )) ، واقتصر عليها .
(16/18)
فيه من الفقه : جواز تلقين الإمام للمقرِّ ما يدرأ عنه الحدّ . وقد روي ذلك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأئمة العلماء . وروي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّه قال لسارقٍ : (( ما أخالُك سَرَقْتَ )) ، وروي عن أبي بكر ، وعمر ، وأبي الدرداء قالوا لسارقٍ : (( أسرقتَ ؟ قُل : لا )). وعن عمر : ما أَرَى يد سارقِ . وعن ابن مسعود : لعلك وجدته . وعن عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ وقال لِحُبْلَى : لعلَّكِ استُكْرِهْتِ ، لعلَّك وُطِئْتِ نائمةً . وقال للحُبْلى الباكِيَة : إن المرأة قد تُسْتَكْرَه . وقد أجاز ذلك أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وغير هم .
وقوله : (( جاءت امرأة من غامد من الأزد )) ؛ كذا قال في هذه الرِّواية . وفي الرواية الأخرى : (( من جهينة )) ، ولا تباعد بين الروايتين ؛ فإن غامدًا قبيلة من جهينة ، قاله عياض . وأظن أنَّ جهينة من الأزد . وبهذا تتفق الروايات .
وقولها : (( إنَّها لَحُبْلَى من الزنى )) ؛ اعتراف منها من غير تكرار يطلب منها. ففيه دليلٌ على عدم اشتراطه على ما مرَّ . وكونه شر لم يستفصلها كما استفصل ماعزًا ؛ لأنَّها لم يظهر عليها ما يُوجب ارتيابًا في قولها ، ولا شكًّا في حالها ، بخلاف حال ماعز ، فإنَّه ظهر عليه ما يشبه الجنون ، فلذلك استفصله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِيَستَثْبِت في أمره ، كما تقدَّم.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( حتى تضعي ما في بطنك )) ؛ يدل على أن الجنين وإن كان من زنى - له حُرْمَة ، وأن الحامل لا تُحَدُّ حتى تضع حملها. وهذا لا خلاف فيه إلا شيء روي عن أبي حنيفة على خلاف عنه فيه .
وقال في الرواية الأخرى : (( إمَّا لا ، فاذهبي حتى تلدي )) ؛ إمَّا بكسر الهمزة التي هي همزة (( إن )) الشَّرطية ، زيدت عليها (( ما )) المؤكدة ؛ بدليل دخول الفاء في جوابها . و(( لا )) التي بعدها للنفي . فكأنه قال : إن رأيت أن تستري على نفسك وترجعي عن إقرارك فافعلي ، وإن لم تفعلي فاذهبي حتى تلدي .
(16/19)
ثمَّ اختلف العلماء فيها إذا وضعت . فقال مالك : إذا وضعت رجمت ، ولم ينتظر بها أن تكفل ولدها . وقاله أبو حنيفة ، والشافعي في أحد قوليه . وهذا قول من لم تبلغه هذه الرواية الي فيها تأخير الغامدية إلى أن فطمت ولدها . وقد روي عن مالك : أنها لا ترجم حتى تجد من يكفل ولدها بعد الرَّضاع . وهو مشهور قول مالك ، والشافعي ، وقول أحمد ، وإسحاق .
وقد اختلفت الروايات في رجمها متى كان ؟ هل كان قبل فطام الولد ، أو بعد فطامه . والأولى : رواية من روى : أنها لم ترجم حتى فطممت ولدها ، ووجدت من يكفله ؛ لأنَّها مُثْبِتةٌ حكما زائدًا على الرواية الأخرى التي ليس فيها ذلك ، ولمراعاة حق الولد . وإذا روعي حقه وهو جنين ، فلا ترجم لأجله بالإجماع ، فمراعاته إذا خرج للوجود أولى .
ويستفاد من هذه الرِّواية : أن الحدود لا يبطلها طول الأزمان . وهو مذهب الجمهور . وقد شذَّ بعضهم فقال : إذا طال الزمان على الحدّ بطل. قاله أبو حنيفة في الشهادة بالزِّنى والسَّرِقة القَدِيمين. وهو قول لا أصل له .
باب يحفر للمرجوم حفرة إلى صدره ويشد عليه ثيابه
وقوله : (( وأمر الناس فرجموها )) ؛ ظاهره : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يرجمها معهم ، لا في أول الأمر ، ولا في آخره. فلا يلزم الإمام أن يبدأ بالرجم . وهو مذهب الجمهور . وقد ذهب أبو حنيفة : إلى أنَّه إن ثبت الزنى بالإقرار حضر الإمام ، وبدأ قبل الناس بالرَّجم . وإن كان بالشهادة حضر الشهود ، وبدؤوا بالرَّجم قبل الناس .
قلت : وأحاديث هذا الباب كلُّها تردُّ ما قال أبو حنيفة ، غير أنَّه وقع في كتاب أبي داود من حديث الغامدية : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ حصاة مثل الحِمَّصَة فرماها بها. وهي رواية شاذةٌ ، مخالفة للمشهور من حديث الغامدية .
(16/20)
وقوله : (( فَتَنَضَّخ الدَّم على وجه خالد )) ؛ أي : تطاير متفرقًا ، وهو بالخاء المعجمة . والعين النضاخة هي : الفوارة بالماء الغزير ؛ الذي يسيل ويتفرَّق . وقد روي بالحاء المهملة ، وهو الرشُّ الخفيف ، وهو أخف من النضخ - بالخاء المعجمة -.
وقوله : (( مهلاً يا خالد ! )) أي : كفَّ عن سبِّها . ففيه دليل : على أن من أقيم عليه الحدَّ لا يُسَبُّ ، ولا يُؤْذَى بِقَذَعٍ كلامٍ .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مَكْسٍ لغُفِر له )). صاحب المكس : هو الذي يأخذ من الناس ما لا يلزمهم شرعًا من الوظائف المالية بالقهر والجبر . ولا شك في أنه من أعظم الذنوب ، وأكبرها ، وأفحشها ، فإنَّه غصب ، وظلمٌ ، وعَسفٌ على الناس ، وإشاعةٌ للمنكر ، وعملٌ به ، ودوامٌ عليه . ومع ذلك كلِّه : فإن تاب من ذلك ، وردَّ المظالم إلى أربابها صحَّت توبته ، وقبلت ، لكنَّه بعيد أن يتخئص من ذلك ؟ لكثرة الحقوق وانتشارها في النَّاس ، وعدم تعيين المظلومين ، وهؤلاء كضمان ما لا يجوز ضمان أصله من الزكوات ، والمواريث ، والملاهي ، والمرتَّبين في الطرق ، إلى غير ذلك مِمَّا قد كثر في الوجود ، وعمل عليه في سائر البلاد .
وقوله : (( فشدَّت عليها ثيابها )) ؛ أي : جمع بعضها إلى بعض بشوك أو خُيُوط ، ومنه : الْمِشَكُّ ، وهي : الإبرة الكبيرة . وشككت الصيد بالرَّمح ؛ أي : نفذته به.
وقوله : (( فخرجنا به إلى بقيع الغرقد )) ؛ الغرقد : شجر من شجر البادية كانت في ذلك الموضع ، فنسب إليها ، فذهبت تلك الشجر ، واتخذ ذلك الموضع مقبرةٌ ، وهو الذي عبَّر عنه في الرِّواية الأخرى بـ((المصلى )) ؛ أي : مصلى الجنائز .
وقوله : (( له نبيب كنبيب التَّيس )) ؛ وهو صوت التيس عند السفاد.
وقوله : (( يننح أحدهم الكثبة )). (( يمنح )) : يعطي . و(( الكثبة )) : القليل من اللَّبن ، والطعام . والجمع : كُثَُب . وقد كَثَبْتُهُ ، أكْثِبُهُ ؛ أي : جَمَعْتُه .
(16/21)
وقوله : (( على ألا أُوتَى برجل فعل ذلك إلا نَكَّلْتُ به )) ؛ أي : فعلت به ما ينكِّله ؛ أي : ما يسوؤه ، ويكدره . وأصله من النَّكَل ، وهو : القيد. ومنه قوله تعالى : { إنَّ لدينا أنكالاً } ؛ أي : قيودًا . قاله الأخفش . وقال الكلبي : أغلالاً . ويعني به : الرَّجم لمن كان محصنًا ، أو الجلد لمن لم يحصن .
وقوله في صفة ماعز : (( أعضل )) ؛ أي : ذو عضلات . والعضلة : كل ما اشتمل من اللحم على عصب . وماعز هذا : هو ابن مالك الأسلمي . قيل : يكنى : أبا عبدالله بولدٍ كان له . وفي الصَّحابة : ماعز التميمي غير منسوب لأبٍ. ويقال : هو المكنى بأبي عبدالله . وكان ماعز هذا تحت حِجر هزَّال بن رئاب ، أبي نُعَيْم الأسلمي ، فوقع على جارية هزَّال ، فجاء به إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له : (( هلاَّ سترته بردائك ؟! ))
وقوله : (( فلمَّا أذلقته الحجارة )) ؛ أي : أصابته بحدِّها . وذلق كل شيء : حدَّه . ومنه : لسان ذَلِق . وفي حديث ابن عبَّاس : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لماعز : (( أحقٌّ ما بلغني عنك ؟ )) قال : وما بلغك عني ؟ قال : ((بلغني أنَّك وقعت بجاربة آل فلان )) ، قال : نعم .
هذه الرِّواية مخالفة لما تقدَّم ؛ لأنَّها تضمنت : أن ماعزًا هو الذي بدأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسؤال ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُعْرضٌ عنه ؟ حتى أقرَّ أربع مرات ، وهذا أحد المواضع الثلاثة المضطربة في حديث ماعز .
والثاني : في الحفر له ، ففي بعضها : أنه حُفِر له ، وفي بعضها : أنَّه لم يُحْفَر له ، وفي بعضها : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى عليه بعد ما رُجِمَ . وفي بعضها : لم يصلِّ عليه . وكذلك في الاستغفار له ، وكلُّها في الصحيح - والله تعالى أعلم - بالسقيم من الصحيح .
(16/22)
وفي حديث ماعز والغامديَّة ما يدلُّ على : أن التوبة وإن صحت لا تسقط حدّ الزنى ، وهو متفق عليه . واختلف فيما عداه من الحدود ، فالجمهور : على أنَّها لا تسقط شيئًا من الحدود إلا حدّ الحرابة ؛ فإنَّه يسقط لقوله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فعلموا أن الله غفور رحيم } ، فتسقط عنه الحدود ، ويؤخذ بحقوق الآدميين من الدِّماء والأموال . وروي عن عليّ ـ رضى الله عنه ـ : أن التوبة تسقط عنه كل شيء. وروي عن ابن عبَّاس وغيره : أن التوبة لا تُسقط عن المحارب حقًّا ولا حدًّا . وروي عن الشافعي : أن التوبة تُسقط حدّ الخمر .
ومن باب : لا تغريب على امرأة ، ويقتصر على رجم الزاني الثيِّب ، ولا يجلد قبل الرَّجم
قوله : (( يا رسول الله! أنشدك إلا قضيت لي بكتاب الله )) ؛ هكذا وقع في صحيح الرواية : (( أنشدك )) من غير ذكر اسم الله. وهو المراد ، لكنَّه حُذِف لفظًا للعلم به . وقد وقع في بعض النُّسخ : (( أنشدك الله! )) ومعناه : أقسم عليك بالله . وكتاب الله هنا : يُراد به : حكم الله إن كانت هذه القضية وقعت بعد فسخ تلاوة آية الرَّجم كما تقدم . وإن كانت قبل ذلك : فكتاب الله محمول على حقيقته .
وقوله : (( فقال الخصم الآخر -وهو أفقه منه - : نعم ، فاقض بيننا بكتاب الله ، وائذن لي )) ؛ إنما فضل الراوي الثاني على الأول بالفقه ؛ لأنَّ الثاني ترفق ولم يستعجل ، ثمَّ تلطَّف بالاستئذان في القول ، بخلاف الأوَّل ، فإنَّه استعجل ، وأقسم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شيء كان يفعله بغير يمين ، ولم يستأذن ، وهذا كله من جفاء الأعراب ، فكان للثاني عليه مزيَّه ، في الفهم والفقه . ويحتمل : أن يكون ذلك ؛ لأنَّ الثاني وصف القضية بكمالها ، وأجاد سياقتها .
وقوله : (( إن ابني كان عَسِيفًا على هذا ، فزنى بامرأته )) ؛ العسيف : الأجير ، على ما قاله مالك . ولم يكن هذا من الأب قذفًا لابنه ، ولا للمرأة ؛ لاعترافهما بالزنى على أنفسهما .
(16/23)
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه . فمنها : أن كل صلح خالف السُّنَّة فهو باطل ، ومردودٌ . وأن الحدود التي هي ممحَّصَةٌ لحقِّ الله تعالى لا يصح الصُّلح فيها .
واختلف في حدّ القذف ؛ هل يصحُّ الصلح فيه أم لا ؟ ولم يختلف في كراهته لأنَّه ثمنُ عِرْضٍ . ولا خلاف في أنَّه يجوز قبل رفعه . وأمَّا حقوق الأبدان من الجراح ، وحقوق الأموال : فلا خلاف في جوازه مع الإقرار. واختلف في الصلح على الإنكار . فأجازه مالك ، ومنعه الشافعي .
وفيه : جواز استنابة الحاكم في بعض القضايا من يحكم فيها مع تمكُّنه من مباشرته .
وفيه : أن الإقرار بالزنى لا يشترط فيه تكرار أربع مرَّات ، ولا أن المرجوم يجلد قبل الرَّجم . وقد تقدم الخلاف فيهما . وفيه : أن ما كان معلومًا من الشروط والأسباب التي تترتب عليها الأحكام لا يحتاج إلى السؤال عنها . فإن إحصان المرأة كان معلومًا عندهم ، فإنَّها كانت ذات زوج معروف الدخول عليها . وعلى هذا : يحمل حديث الغامدية ؛ إذ لو لم تكن محصنة ؛ لما جاز رجمها بالإجماع .
(16/24)
وفيه : إقامةُ الحاكم الحدّ بمجرَّد إقرار المحدود وسماعه منه من غير شهادة عليه. وهو أحد قولي الشافعي ، وأبي ثور . ولا يجوز ذلك عند مالك إلا بعد ضبط الشهادة عليه . وانفصل عن ذلك بأنه ليس في الحديث ما ينصُّ على أنها لم يسمع إقرارها إلا أُنَيْس خاصَّة ، بل العادة قاضية بأن مثل هذه القضيَّة لا تكون في خلوةٍ ، ولا ينفرد بها الآحاد ، بل لا بدَّ من حضور جمع كثير تلك القضيَّة ، وشهرتها ، لا سيما قضية منل هذه تُرفع إلى الإمام ، ويَبْعَث من يكشفها ويرجم فيها . ولا بدَّ من إحضار طائفة من المؤمنين لإقامة الحدّ كما قال تعالى ، مع صغر المدينة ، فمثل هذا لا يخفى ، ولا ينفرد به الواحد ولا الاثنان . وهذا كلُّه مبنيٌّ : على أن أنيسًا كان حاكمًا ، ويحتمل أن يكون رسولاً لها ليستفصلها ، ويعضد هذا التأويل قوله في آخر الحديث : (( فاعترفت فأمر بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرجمت )) ؛ فهذا يدلُّ على أن أنيسًا إنَّما سمع إقرارها ، وأن تنفيذ الحكم ؛ إنما كان من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد سماع إقرارها من أُنَيس ، حين أبلغه إيَّاه ، وحينئذ يتوجَّه إشكال آخر . وهو : أن يقول : فكيف اكتفى في ذلك بشاهد واحد ؟!
وقد اختلف في الشهادة على الإقرار بالزنى . هل يكتفى فيه بشهادة شاهدين كسائر الإقرارات أو لا بدَّ من أربعة كالشهادة على رؤية الزنى ؟ على قولين لعلمائنا ، ولم يذهب أحدٌ من المسلمين إلى الإكتفاء بشهادة واحد .
(16/25)
والجواب : أن هذا اللفظ ؛ الذي قال فيه : فاعترفت ، فأمر بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرجمت . هو من رواية الليث عن الزهري. وقد روى هذا الحديث عن الزُّهري مالك ، وقال فيه : فاعترفت ، فرجمها . ولم يذكر : (( فأمر بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرجمت )). وعند التعارض : فحديت مالك أولى لما يعلم من حال مالك ، وحفظه ، وضبطه ، وخصوصًا في حديث الزهري ، فإنَّه أعرف الناس به . وعلى رواية مالك فظاهرها : أن أُنيسًا كان حاكمًا ، فيزول الإشكال ، ولو سلَّمنا : أنَّه كان رسولاً ؛ فليس في الحديث ما ينصُّ على انفراد أُنيس بالشهادة عليها ، فيكون غيره شهد عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك . ويعتضد هذا بما ذكرناه : من أن القضيَّة انتشرت ، واشتهرت . فيَبُعد أن ينفرد بها واحدٌ ، سلَّمناه ، لكنَّه خبر ، وليس بشهادة ، فلا يشترط فيه العدد . وحينئذ يستدلُّ به على قبول أخبار الآحاد والعمل بها في الدِّماء وغيرها . والله تعالى أعلم .
وفيه دليل على جواز الاستفتاء والفُتيا في زمان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع إمكان الوصول إليه . وجواز استفتاء المفضول مع وجود الأفضل . ولو كان ذلك غير جائز لأنكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وفيه دليل : على جواز اليمين بالله تعالى ، وإن لم يُسْتَحْلَف . وعلى أنَّ ما يفهم منه اسم الله تعالى يمين جائزة وإن لم يكن من أسمائه تعالى ، فإنَّ قوله : (( والذي نفسي بيده ! )) ليس من أسماء الله تعالى ، ولكنه تنزل منزلة الأسماء في الدلالة ، فيلحق به كل ما كان في معناه ، كقوله : والذي خلق الخلق ، وبسط الرزق . وما أشبه ذلك .
وقوله : (( وأغْدُ يا أنيس على امرأة هذا )) ؛ معناه : امضِ ، وسِر . وليس معناه : سر إليها بُكْرةً ، كما هو موضوع الغداة . وكذلك قوله : (( فغدا عليها )) ؛ أي : مشى إليها ، وسار نحوها .
(16/26)
وفيه ما يدلُّ على أن زنى المرأة تحت زوجها لا يفسخ نكاحها ، ولا يوجب تفرقة بينها وبين زوجها ؛ إذ لو كان ذلك لفرَّق بينهما قبل الرَّجم ولَفَسَخَ النِّكاحَ . ولم يُنْقَل شيءٌ من ذلك ، ولو كان لَنُقِل كما نُقِلَت القضيَّة ، وكثيرٌ من تفاصيلها .
وفيه دليلٌّ على صحة الإجَارَة .
ومن باب إقامة الحدّ ملى من ترافع إلينا من زناة أهل الذمة
(16/27)
قوله : (( إنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أٌتِيَ بيهوديٍّ ويهوديَّةٍ قد زنيا )) ، وفي الرواية الأخرى : (( إن اليهود جاؤوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجل وامرأة قد زنيا )) ، وفي الثالثة : (( مرَّ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيهوديٍّ مُحَمَّمٍ مَجْلُودٍ )) ؛ هذه الروايات كلها متقاربة في المعنى ، ولا يعدُّ مثل هذا اضطرابًا ؛ لأن ذلك كلُّه حكاية عن حال قضيَّة وقعت ، فعبَّر كلٌّ منهم بما تيسَّر له . والكلُّ صحيحٌ إذ هي متواردة : على أنَّه حضر بين يديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهوديّ زنى بيهوديةٍ ، وهو في موضعه . وفي كتاب أبي داود : أنَّه كان في المسجد . غير أنَّه قد جاء في كتاب أبي داود أيضًا من حديت ابن عمر ما يظهر منه تناقضٌ ، وذلك أنَّه قال : (( أَتَى نفرٌ من يهود فدعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى القُفِّ ، فأتاهم في بيت الْمِدْرَاس . فقالوا : يا أبا القاسم ! إن رجلاً مِنَّا زنى بامرأة فاحكم بينهم . وظاهر هذا : أنه مشى إليهم ، وأن ذلك لم يكن في مسجده ، بل في بيت دَرْسِهم . ويرتفع هذا التَّوهُم بحديث أبي هريرة الذي ذكره أبو داود أيضًا . واستوفى هذه القصَّة ، وساقها سياقة حسنة فقال : زنى رجل من اليهود وامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي - ـ صلى الله عليه وسلم ـ - ، فإنَّه نبيٌّ بُعِثَ بالتخفِيفَات ، فإن أفتى بالفتيا دون الرَّجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله . وقلنا : فتيا نبي من أنبيائك . قال : فأتَوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو جالسٌ في المسجد في أصحابه . فقالوا : يا أبا القاسم ! ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يُكلِّمْهُمُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أتى بيت مدراسهم ، فقام على الباب فقال : (( أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ! ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ )) قالوا : يُحَمَّم ، ويُجَبَّه ، ويُجْلَد - والتَّجْبيهُ : أن يحمل الزانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما - قال : وسكت شابٌّ منهم . فلمَّا رآه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سكت : أَلَظَّ به النُّشْدَةَ ، فقال : اللَّهم إِذْ(16/28)
أنشدتنا ، فإنا نجد في التوراة الرَّجم . وساق الحديث إلى أن قال : قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فإني أحكم بما في التوراة )) ، فأمر بهما فرجما .
فقد بيَّن في هذا الحديت : أن اليهود جاؤوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في مسجده ، ثمَّ بعد ذلك مشى معهم إلى بيت المدراس بعد أن سألوه عن ذلك ، على ما رواه ابن عمر . وذكر في هذا الحديث أيضًا السبب الحامل لهم على سؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وعليه يدلُّ مساق قوله تعالى : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } إلى آخر الآيات . وذكر أبو داود أيضًا من حديث جابر ؛ قال : جاءت اليهود برجلٍ وامرأةٍ منهم زنيا ، فقال : ((إِيتُوني بأعلم رجلين منكم )) ، فأتوا بابني صوريا ، فنشدهما : (( كيف تجدا في التوراة ؟ )) قالا : نجد في التوراة : إذا شهد أربعة : أنَّهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في الْمُكْحُلة رجما . وذكر الحديث . قال : فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشهود ، فجاؤا أربعة فشهدوا : أنهم رأوا فرجه في فرجها مثل الْمِيل في المكحلة . فأمر برجمهما .
قلت : فالحاصل من هذه الروايات : أن اليهود حَكَّمَت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَحَكَم عليهم بمقتضى ما في التوراة ، واستند في ذلك إلى قول ابني صزريا . وأنَّه سمع شهادة اليهود وعمل بها ، وأنَّه ليس الإسلام شرطًا في الإحصان . وهذه مسائل يجب البحث عنها فلنشرع في ذلك مستعينين بالله .
(16/29)
المسألة الأولى في التحكيم : فإذا ترافع أهل الذمَّة إلى الإمام ؛ فإن كان ما رفعوه ظلمًا ، كالقتل العدوان ، والنصب ؛ حكم بينهم ، ومنعهم منه بلا خلاف . وإمَّا إن لم يكن كذلك ؛ فالإمام مخيَّر في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي ، غير أن مالكًا رأى الاعراض عنهم أولى ، فإن حكم حكم بحكم الإسلام ، غير أن الشافعي قال : لا يحكم بينهم في الحدود . وقال أبو حنيفة : يحكم بينهم على كل حال . وهو قول الزهري ، وعمر بن عبدالعزيز ، والْحَكَم ، وروي عن ابن عبَّاس ، وهو أحد قولي الشافعي . والأولى ما صار إليه مالك لقوله تعالى : {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } ، وهو نصٌّ في التخيير . ثم إنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث حكم عليهم فعل أحد ما خيَّره الله تعالى فيه ، غير أنَّه يبقى على مالك أن يقال له : لِمَ قلتَ : إن الإعراض عنهم أولى مع أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حكم بينهم ، ولا يُتلَّخص من ذلك بأن يقال : لأنهم يستهزئون بأحكام المسلمين ؛ لأنَّا نقول : إن أظهروا ذلك عاتبناهم ، وإن أخفوه فما يخفون من اعتقادهم تكذيب نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكبر ، مع قطعنا بأنَّهم يعتقدون ذلك ، لكنا عاقدناهم على ذلك ، ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد علم منهم : أنهم يهزؤن بديننا وأحكامنا ، ومع ذلك فحكم عليهم ، وأقرَّهم. ألا تسمع قوله تعالى : { وإذا ناديت إلى الصلاة اتخذوها هزوًا} ؟!
(16/30)
وأمَّا قول الشافعي : إنه لا يحكم بينهم في الحدود ؛ فمخالف لنصّ الحديث المذكور في الواقعة ، فلا يعول عليه . وقد تأوَّل الشافعي حكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على اليهود بالرجم بأن ذلك منه كان إقامة لحكم كتابهم لَمَّا حرفوه ، وأخفوه ، وتركوا العمل به . ألا ترى أنَّه قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم ! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه )). وأيضًا : فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن بعد نزل عليه حكم الزاني ، ولذلك جاء في بعض طرق هذا الحديث : أن ذلك كان حين قدم المدينة ، وأيضًا : فلأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد استثبت ابني صُوريا عن حكم التوراة ، واستحلفهما على ذلك . وأقوال الكُفَّار في الحدود وفي شهاداتهم عليها غير مقبولة بالإجماع ، لكن فعل ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به . وقد قال هذا كله بعض أصحابنا . وهذا البحث هو المسألة الثانية .
والجواب عنه أن نقول : إنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم بما علم أنَّه حقٌّ في التوراة ، وأنه حكم الله ، ولولا ذلك لما أقدم على قتل من ثبت له عهدًا . ثمَّ لا يلزم أن يكون طريق في حصول العلم بذلك له قول ابني صوريا ، بل الوحي ، أو ما ألقى الله تعالى في روعه من تعيين صدقهما فيما قالاه من ذلك . ولا نسلِّم : أن حكم الرَّجم لم يكن مشروعًا له قبل ذلك ، فإنَّها دعوى يُحتاج إلى إثباتها بالنقل . سلمنا ذلك ، لكنا نقول : من ذلك الوقت بيان مشروعية الرَّجم ومبدؤه ، فيكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفاد بما فعله إقامة حكم التوراة ، وبيان : أن ذلك حكم شريعته ، وأن التوراة يحكم بما صحَّ وثبت فيها : أنَّه حكم الله . وعلى هذا يدلُّ قوله تعالى : { إنَّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } ، وهو نبي من الأنبياء . وقد قال عنه أبو هريرة : (( فإني أحكم بما في التوراة على ما ذكره أبو داود. وقد استوفينا هذا المعنى في الأصول .
(16/31)
المسألة الثالثة في شهادة أهل الذمَّة : فالجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم ، ولا على كافر ؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد شرط في الشهادة العدالة . والكافر ليس بعدل ؛ ولأن الفاسق المسلم مردود الشهادة بالنص ، فالكافر أولى ؛ ولأن العبد المسلم مسلوب أهلية الشهادة للكفر الأصلي الذي كان سبب رقِّه . فالكفر الحاصل في الحال أولى بأن يكون مانعًا ، ولا فرق بين الحدود وغيرها ، ولا بين السفر والحضر . وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين ، وأهل الظاهر إذا لم يوجد مسلم ؛ تمسُّكًا بما ذكرناه من حديث أبي داود المتقدم . وقال أحمد بن حنبل : تجوز شهادة أهل الذمَّة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين تمسُّكًا في ذلك بما جاء في كتاب أبي داود عن الشعبي : أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه ، ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهد على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعري ، فاخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمرٌ لم يكن بعد الذى كان في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأحلفهما بعد العصر بالله : ما كذبا ، ولا خانا ، فأمضى شهادتهما . ولا حجة فيه ؛ لأنَّه مرسل وموقوف . ولو صحَّ ؛ فلم يحكم بمجرد شهادتهما حتى ضم إليها يمينهما ، والشاهد لا يستحلف . وإنَّما كان هذا من أبي موسى عملاً بما تُفِيدُه القرائن . والله تعالى أعلم .
وأمَّا إِخْبَار أهل الكفر فيما لا يُعْرَف إلا من جهتهم ، كإخبارهم عن ذبائحهم ، ونسائهم ، وأحكامهم ، وأقوال أطِبَّائهم ، فتُسْمَع إذا احتيج إلى ذلك لضرورة الحال ، وهي أخبار لا شهادات . والله تعالى أعلم .
(16/32)
ويُعْتَذَر للجمهور عن رجم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزانيين عند شهادة اليهود : بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، نفَّذ عليهم ما علم أنَّه حكم التوراة ، وألزمهم العمل به على نحو ما عملت به بنو إسرائيل إلزامًا للحجَّة عليهم ، واظهارًا لتحريفهم وتغييرهم ، فكان منفِّذًا لا حاكمًا . وهذا يمشي على تأويل الشافعي المتقدم . وأمَّا على ما قرَّرناه من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان حاكمًا في القضيَّة بحكم الله ، فيكون العذر عن سماع شهادة اليهود : أن ذلك كان خاصًّا بتلك الواقعة ؛ إذ لم يُسمع في الصدر الأول شهاداتهم في مثل ذلك. والله تعالى أعلم .
المسألة الرابعة : وهي أن هذا الحديث يدلُّ على أن الإسلام ليس شرطًا في الإحصان . فإنه رجم اليهودتين ، ولو كانا شرطًا لما رجمهما . وبهذا قال الزهري ، وابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد . وقالت طائفة أخرى : إنَّه من شروط الإحصان . وله قال مالك ، والشافعي - في أحد قوليه - متمسكين بأن الشرع إنَّما حكم برجم الحرِّ ، المسلم ، الثيب ، إذا زنى ؛ لعلو منصبه ، وشرفيته بالحرية والإسلام ؛ بدليل : أن العبد لا يرجم ، وينصف عليه الحدّ لخسَّة قدره . والكافر أخس من العبد المسلم ، فكان أولى بألا يرجم ، ولأن من شرط الإحصان صحة النكاح ، وأنكحة الكفار فاسدة ، فلا يصح فيهم الإحصان لعدم شرطه ، واستيفاء مباحثها في الخلاف . ويُعتذر لمالك ، ولمن قال بقوله بما تقدم ، وبما رواه عيسى عن ابن القاسم : أنَّه قال : إن اليهوديين المرجومين لم يكونا أهل ذِمَّة ، وإنَّما كانا أهل حرب ، كما رواه الطبرى وغيره : أن الزانيين كانا من أهل فدك وخيبر ، وكانوا حربًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . واسم المرأة الزانية : بُرْة . وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة ليسألوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا لهم : سلوا محمدًا عن هذا ، فإن أفتاكم بغير الرَّجم فخذوا به ، وإن أفتى بالرَّجم فاحذروا .
(16/33)
قلت : وهذا الاعتذار يحتاج أن يعتذر عنه . وسبب ذلك بعد تسليم صحة الحديث : أن مَجِيئهم سائلين يوجب عهدًا لهم ، كما إذا جاؤونا ، ودخلوا بلادنا لغرضٍ مقصود : من تجارة ، أو رسالة ، أو ما أشبه ذلك . فإن ذلك يوجب لهم أمانًا ، فإمَّا أن يقضي غرضهم ، أو يُرَدُّوا إلى مأمنهم ، ولا يحل قتلهم ، ولا أخذ مالهم . قاله القاضي أبو بكير بن العربي .
المسألة الخامسة : قد يحتجُّ بهذا الحديث من يرى على الإمام إقامة الحدّ على زناة أهل الذمِّة وإن لم يتحاكموا إلينا ، وهو قول أبي حنيفة ، وأحد قول الشافعي . وقد روي عن ابن عباس. وقال مالك : لا يعرض لهم الإمام ، ويردُّهم إلى أهل دينهم إلا أن يظهر منهم ذلك بين المسلمين ؛ فيمنعوا من ذلك . ولا حجَّة لمن خالف مالكًا في هذا الحديث ، لما قدَّمناه من أنهم حكَّموا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك ، فحكم بأحد ما خيَّره الله تعالى فيه على ما تقدَّم .
الغريب : الْحُمَم : الفَحْم ، واحدته : حُمَمَة . والْمُحمَّمُ : المسوَّد . وروى العذري ، والشمرقندي : نُسَوِّد وجوههما ونُحمِّمهُما. ورواها السَّجري : نُجْمِلْهُما - بنون مضومة ، وجيم - ؛ بمعنى : نحملهما على جمل ، ويطاف بهم. ورواها الطبري : نَحْمِلهما - بنون مفتوحة ، وحاء مهملة - من الحمل . وكلتا الروايتين أحسن من رواية العذري ، لأن فيها تكرارًا . فإن قوله : نسوِّدهما . هو بمعنى : نُحَمِّمهُما. وقد تقدم ذكر (( التَّجبيه )) ، وقد تقدم : أن هذا الفعل إنما كان مما اخترعته اليهود ، وابتدعوه ، وجعلوه عوضًا عن حكم الرَّجم ، ولذلك لم يقل به أحدٌ من أهل الإسلام في الزنى ، وإنَّما عمل به بعض أهل العلم في شاهد الزور ، فرأى أن يحمم وجهه ، ويجلد ، ويحلق رأسه ، ويطاف به . وروي ذلك عن عمر بن الخطاب. وقد روي ذلك عن بعض قضاة البصرة . ولم يره مالك .
وقوله : (( فأتوا بالتوراة )) ؛ دليل على جواز المطالبة بإقامة الحجج على ا لأحكام .
(16/34)
وقوله : (( فلقد رأيته يقيها الحجارةَ بنفسه )) ؛ هذا يدلُّ على أنهما لم يُحفر لهما ، ولا رُبِطا . وقد تقدَّم القولُ في ذلك . وقد وقع هذا اللفظُ في "الموطأ" : فرأيتُ الرَّجلَ يحني على المرأة ، يقيها الحجارة . رويناه : ((يَحْنِي )) بياء مفتوحةٍ ، وبحاء مهملة ، من الْحنُوِّ ، وهو الصواب. ورويناه : ((( يَجْنِي )) بالجيم من غير همزٍ ، وليست بصوابٍ . وحكى بعضُ مشايخنا : أن صوابها : (( يَجْنَأ )) بفتح الياء وبالجيم وهمزة ، وحكاها عن أبي عبيد ، وأظنه : القاسم بن سلاَّم. والذي رأيته في "الغريبين" لأبي عبيد الهروي : قال : (( فجعل الرَّجل يُجْنِئ عليها )) ، بياء مضمومة وهمزةٍ . قال : أي : يكبُّ عليها. يقال : أجنأ عليه ، يُجنئ ، إجناءً : إذا أكبَّ عليه يقيه شيئًا . قال : وفي حديثٍ آخر : فلقد رأيته يُجانىءُ عليها يقيها الحجارة بنفسه . هذا نصُّه . وفي الصِّحاح : جنأ الرَّجل على الشيء ، وجانأ عليه ، وتجانأ عليه : إذا أكبَّ عليه . قال الشاعر :
أغَاضِرُ لَوْ شهدتِ غَداةَ بِنْتُم جُنُوءَ العَائِداتِ على وِسَادِي
ورجلٌ أجنأُ : بيِّن الْجَنَأ ؛ أي : أحدب الظهر . والْمُجنأُ - با لضم- : الترس .
قلت : ويحصل من مجموع حكاية أبي عبيد وصاحب الصِّحاح : أنَّه يُقال : جنأَ - مهموزًا ثلاثيًّا ورباعيًّا .
(16/35)
وقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) ؛ يحتجُّ بظاهره من يُكفِّرُ بالذنوب ، وهم الخوارج ، ولا حجَّة لهم فيه ؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت في اليهود المحرفين كلام الله تعالى ، كما جاء في هذا الحديث ، وهم كفار ، فيشاركهم في حكمها من يشاركهم في سبب نزولها . وبيان هذا : أن المسلم إذا علم حكم الله تعالى في قضيَّة قطعًا ، ثم لم يحكم به ؛ فإن كان عن جَحْدٍ كان كافرًا ، لا يختلف في هذا . وإن كان لا عن جَحْدٍ كان عاصيًا مرتكب كبيرة ؛ لأنَّه مصدق بأصل ذلك الحكم ، وعالم بوجوب تنفيذه عليه ، لكنه عصى بترك العمل به ، وهكذا في كل ما يعلم من ضرورة الشرع حكمه ، كالصلاة ، وغيرها من القواعد المعلومة . وهذا مذهب أهل السُّنه. وقد تقدم ذلك في كتاب الإيمان ؛ حيث بيَّنَّا : أن الكفر هو الجحد والتكذيب بأمرٍ معلوم ضروري من الشرع ، فما لا يكن كذلك فليس بكفر . ومقصود هذا البحث : أن هذه الآيات المراد بها : أهل الكفر ، والعناد . وأنها كانت ألفاظها عامة ، فقد خرج منها المسلمون ؛ لأنَّ ترك العمل بالحكم مع الإيمان بأصله هو دون الشرك . وقد قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }. وترك الحكم بذلك ليس بشرك بالاتفاق ، فيجوز أن يُغفر ، والكفر لا يُغفر ، فلا يكون ترك العمل بالحكم كفرًا . ويعتضد هذا بالقاعدة المعلومة من الشرع المتقدمة. والظلم والفسق في هاتين الآيتين المراد به : الكفر ؛ لأنَّ الكافر وضع الشيء في غير موضعه ، وخرج عن الحق ، فصدق على الكافر : أنَّه ظالم وفاسق ، بل هو أحق بذينك الإسمين ممن ليس بكافر ؛ لأنَّ ظلمه أعظم الظلم ، وفسقه أعظم الفسق . وقد تقدَّم في الإيمان بيان كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم .
ومن باب إقامة السَّادة الحدَّ على الأرقَّاء
(16/36)
قوله : (( إذا زنت أَمَةُ أحدكم فتبيَّن زناها فليجلدها )) ، الأمة : هي المملوكة . وتجمع الأمة : إماءٌ وأَمَوانٌ . قال :
أمَّا الإماء فلا يدعونني ولدًا إذا ترامى بنو الأُموانِ بالعار
وتبيُّنُ زنى الأمة يكون بالإقرار وبالْحَبَل ، وبصحة الشهادة عند الإمام . وهل يكتفي السيِّد بعلم الزنى أو لا ؟ عندنا في ذلك روايتان .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فليجلدها )) ، أمرٌ للسيِّد بجلد أمنه الزانية وعبده . وبه قال الجمهور من الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء ، خلا أهل الرأي أبا حنيفة وأصحابه ، فإنَّهم قالوا : لا يقيم الحدّ إلا السلطان . وهذه الأحاديث - النصوص الصحيحة - حجَّة عليهم . وفي معنى حدّ الزنى عند الجمهور سائر الحدود ، غير أنهم اختلفوا في حد السَّرِقة ، وقصاص الأعضاء . فمنع مالك وغيره إقامة السيِّد ذلك مخافه أن يمثل بعبده ، ويدعي أنَّه سرق وأقام الحدّ عليه ، فيسقط العتق الواجب بالْمُثْلَة .
قلت : وعلى هذا لو قامت بيِّنة توجب حدّ السَّرِقة أقامه . وقاله بعض أصحابنا إذا قامت على السَّرِقة بيِّنة. وقال الشافعي : يقطع السيِّد عبده إذا سرق .
قلت : وعلى هذا فله أن يَقْتل عبده إذا قتل ؛ لكن إذا قامت البيِّنة .
وكل من قال بإقامة السيِّد الحدّ على أمته لم يفرِّق بين أن تكون الأمة ذات زوج ، أو غير ذات زوج ؛ خلا مالكًا فإنَّه قال : إن كانت غير ذات زوج ، أو كانت متزوجة بعبد السيِّد أقام عليها الحدّ ، فلو كانت متزوجة بأجنبي لم يقم سيِّدها عليها الحدّ لحق الزوج ؛ إذ قد يُعِيبُها عليه ، وإنَّما يقيمه الإمام .
والجلد المأمور به هنا : هو نصف حدِّ الحرِّ . الذي قال الله تعالى فيه : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب }.
(16/37)
وقوله : (( ولا يُثَرِّب عليها )) ؛ أي : لا يُوبِّخ ، ولا يُعيِّر ، ولا يُكْثِر من اللَّوم ، فإنَّ الإكثار من ذلك يزيل الحياء والحشمة ، ويُجزئ على ذلك الفعل . وأيضًا : فإن العبد غالب حاله : أنَّه لا ينفعه اللوم والتوبج ، ولا يؤثر ، فلا يظهر له أثر ، وإنما يظهر أثره في حق الحر . ألا ترى قول الشاعر :
واللَّوم للحرِّ مُقيمٌ رادِعٌ والعبدُ لا يَرْدَعُهُ إلا العصا
وأيضًا : فإن التوبيخ واللَّوم عقوبة زائدة على الحد الذي نصّ الله تعالى عليه فلا ينبغي أن يلتزم ذلك . ولا يدخل في ذلك الوعظ والتخويف بعقاب الله تعالى ، والتهديد إذا احتيج لذلك ؛ إذ ليس بتعريب ولأن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ قد قالوا لشارب الخمر : أما اتَّقيت الله ، أما استحيت من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير )) ، الضفير : الحبل المضفور ، فعيل بمعنى : مفعول . وفي الرِّواية الأخرى : (( ولو بحبل من شعر )) ، فوصف الحبل بكونه من شعرًا ؛ لأنَّه أكثر حبالهم . وهذا خرج مخرج التقليل والتزهيد في الجاربة الزانية ، فكأنَّه قال : لا تمسكها ، بعها بما تيسَّر . ففيه دليل على إبعاد أهل المعاص واحتقارهم .
(16/38)
فرع : إذا باعها عرَّف بزناها ، لأنَّه عيبٌ ، فلا يحلُّ أن يكتم . فإن قيل : إذا كان مقصود هذا الحديث إبعاد الزانية ، ووجب على بائعها التعريف بزناها ، فلا ينبغي لأحد أن يشتريها ، لأنها مِمَّا قد أُمِرَ بإبعادها . فالجواب : أنَّها مالٌ ولا يُضاع للنهي عن إضاعة المال ، ولا تُسيَّب ، ولا تحبس دائمًا ؛ إذ كل ذلك إضاعة مال ، ولو سُيِّبت لكان ذلك إغراءً لها بالزنى وتمكينًا منه ، فلم يبق إلا بيعها . ولعل السيِّد الثاني يُعِفُّها بالوطء ، أو يبالغ في التحرز بها ، فيمنعها من ذلك . وعلى الجملة فعند تَبَدُّل الأملاك تختلف عليها الأحوال . وجمهور العلماء حملوا الأمر ببيع الجارية الزانية على النَّدب ، والإرشاد للأصلح ما خلا داود وأهل الظاهر فإنهم حملوه على الوجوب تمسُّكًا بظاهر الأمر ، والجمهور صرفوه عن ظاهره تمُّسكًا بالأصل الشرعي ، وهو : أنَّه لا يجبر أحدٌ على إخراج ملكه لملك آخر بغير الشفعة . فلو وجب ذلك عليه لجبر عليه ، ولم يجبر عليه فلا يجب . وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث جواز البيع بالغَبْن ، قال : لأنه بيع خطير بثمن يسير . وهذا ليس بصحيح ؛ لأنَّ الغبن المختلف فيه إنَّما هو مع الجهالة من المغبون . وإمَّا مع علم البائع بقدر ما باع وبقدر ما قبض فلا يختلف فيه ؛ لأنَّه عن علم منه ورضًا ، فهو إسقاط لبعض الثَّمن ، وإرفاق بالمشتري ، لاسيَّما وقد بيَّنَّا : أن الحديث خرج على جهة التزهيد ، وترك الغبطة .
وقوله : (( سُئِل عن الأَمَة إذا زنت ولم تحصن )) ؛ هذه الزيادة التي هي قوله : (( ولم تحصن )) هي رواية مالك عن ابن شهاب . قال الطحاوي : لم يقله غير مالك . قال غيره : ليس ذلك بصحيح ، بل قد رواه سفيان بن عيينة ، ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب ، كما قاله مالك .
(16/39)
واختلف في تأويل قوله : (( ولم تحصن )). فقيل : لم تعتق ، وتكون فائدته : أنها لو زنت وهي مملوكة فلم يحدَّها سيِّدها حتى عتقت لم يكن له سبيل لجلدها. والإمام هو الذي يقيم ذلك عليها إذا ثبت عنده . وقيل : ما لم تتزوَّج . وفائدة ذلك : أنَّها إذا تزوَّجت لم يكن للسِّيد أن يجلدها لحق الزوج ؛ إذ قد يضره ذلك . وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج ملكًا للسيِّد ، فلو كان جاز للسيِّد ذلك ؛ لأنَّ حقَّهُما حقُّه . وقيل : لم تسلم . وفائدته : أن الكافرة لا تُحدُّ ، وإنما تُعزر وتُعاقب . وعلى هذا فيكون الجلد المأمور به في هذا الحديث على جهة التعزير ، لا الحدّ . وهذا كله إنَّما هو تَنَزُّل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علَّق الجلد المأمور به في الجواب على نفي الإحصان المأخوذ قيدًا في السؤال ، وعلى القول بدليل الخطاب . وحينئذ يكون هذا الحديث على نقيض قوله تعالى : { فإذا أحصنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نضف ما على المحصنات من العذاب} ، فإن شرط الجلد في الإحصان ، وشرط الحدِّ في الآية ثبوت الإحصان ، فلا بدَّ أن يكون أحد الإحصانين غير الآخر . ولو قدَّرناه واحدًا فيهما للزم أن يكون الجلد المترتب على نفي الإحصان في الحديث غير الحد المترتب على الإحصان المثبت في الآية .
(16/40)
وقد اختلف في إحصان الآية ، كما اختلف في الإحصان المنفي في الحديث . فقال قوم : هو الإسلام . قاله ابن مسعود ، والشعبي ، والزهري ، وغيرهم . وعلى هذا : فلا تُحدُّ كافرةٌ . وقال آخرون : إنَّه التزويج . قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير. وعلى هذا فتُحدُّ المتزوجة وإن كانت كافرة ، كما قاله الشافعي . وقال آخرون : أنَّه الحرية . وروي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وعلي . وعلى هذا : فلا تُحدُّ أمةٌ ؛ بوجه وإن كانت مسلمة ، لكنها يجلدها سيِّدها تعزيرًا . وكل هذا الخلاف أوجبه اشتراك الإحصان ، فإنَّه قد جاء في كتاب الله تعالى بمعنى : الإسلام ، والحرية ، والتزويج ، والعفاف . والعفاف غير مراد في هذا الحديث ، ولا في هذه الآية بالاتفاق ، فبقي لفظ الإحصان محتملاً لأن يراد به واحد من تلك المعاني الثلاثة ، فترتب عليه الخلاف المذكور .
والذى يرفع الإشكال عن الحديث إن شاء الله تعالى : أن نفي الإحصان إنما هو من قول السَّائل ، ولم يصرَّح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأخذه قيدًا في الجلد . فيحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعرض عنه ، وأجابه بالجلد مطلقًا. ويشهد لهذا التأويل : الأحاديث الواردة في جلد الأمة إذا زنت ، ليس فيها ذكر لذلك القيد من كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوله : (( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ )) ولو سلمنا : أن ذلك القيد من كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتنزلنا على القول بدليل الخطاب ، فأولى الأقوال به أن يحمل على التزويج .
(16/41)
ويستفاد منه صحة مذهب مالك على ما قدَّمناه للاشتراك ، وتنزيلاً للحديث على فائدة مستجدَّة . والذى يحسم مادة الإشكال عن الحديث والآية حديث علي بعد هذا ، وهو قوله في حال خطبته : يا أيها النَّاس أقيموا على أرقائكم الحدّ ، من أحصن منهم ومن لم يحصن . وهذا الحديث وإن كان موقوفًا على علي ـ رضى الله عنه ـ في كتاب مسلم ، فقد رواه النسائي ، وقال فيه : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ؛ من أحصن منهم ، ومن لم يحصن )) ؛ وهذا ينصّ على أمر السَّادة بإقامة الحد الذي ذكر الله تعالى ، وليس بتعزير ، فإنَّه قد سمَّاه حدًّا ، وصرَّح بإلغاء اعتبار الإحصان مطلقًا ؛ إذ سوَّى بين وجوده وعدمه ، فتُحدُّ الأَمَة الزانية على أي حال كانت . ويعتذر عن تخصيص الإحصان في الآية بالذكر : بأنه أغلب حال الإماء ، أو الأهم في مقاصد الناس ، لا سيما إذا حمل الإحصان على الإسلام . وهو أولى الأقوال على ما قد أوضحه القاضي أبو بكر بن العربي . والله تعالى أعلم .
(16/42)
وقوله : (( فإن أمة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زنت )) ؛ كذا جاء في كتاب مسلم. وفي كتاب أبي داود : (( فجرت جارية لآل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )). وظاهره : أن هذه الجارية كانت لبعض عشيرته . وهذه الزيادة أحسن من رواية مسلم وأليق بحال من ينتسب لحضرة بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وملكه ، استصحابًا لما شهد الله تعالى به من الطهارة لذلك الجناب الكريم ، كما قال تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا } ، وكيف يليق بمن كان في مثل ذلك البيت الكريم ، وبمن صحَّ له ذلك الملك الشريف أن تقع منه فاحشة الزنى . هذا والله من البعد على الغاية القصوى ، فإن العبد من طينة سيِّده . ألا ترى أنَّه لما كثر المنافقون على مارية في ابن عمها ؛ الذي كان يزورها ، فبعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليّ بن أبي طالب ليقتله ، فدخل عليه ، فلما رآه كشف عن فرجه فاذا هو أَجَبُّ ، فقرأ عليٌّ ـ رضى الله عنه ـ : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا }. هذا كله مع احتمال أن يراد بآل محمد نفسه ، كما قدمنا في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللَّهم صلِّ على آل أبي أوفى )) ، وفي قوله : (( لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود )). وتكون هذه الأمة من الأَمَة الْمُتخذات للخدمة والتصرف ، ولعلَّها قريبة عهد بالجاهلية . لكن الأوَّل أليق وأسلم . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( فأمرني أن أجلدها )) ؛ هذا إنَّما كان لما ظهر زناها بالْحَبَل ، كما دلَّ عليه قوله : (( فاذا هي حديثة عهد بنفاس )).
وقوله : (( فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها )). هذا فيه أصل من أصول الفقه . وهو ترك العمل بالظاهر لِمَا هو أولى منه ، وتسويغ الاجتهاد. ألا ترى أن عليًّا ـ رضى الله عنه ـ قد ترك ظاهر الأمر بالجلد مخافة أمر آخر ؛ هو أولى بالمراعاة ، فحسَّنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له وصوَّبه . ولو كان الأمر على ما ارتكبه أهل الظاهر من الأصول الفاسدة لجلدها وإن هلكت .
(16/43)
وفيه من الفقه ما يدلُّ على أن من كان حدُّه دون القتل لم يقم عليه الحدّ في مرضه حتى يفيق ، لا مُفَرَّقًا ، ولا مجموعًا ، ولا مخففًا ، ولا مثقلاً . وهو مذهب في الجمهور تمسُّكًا بهذا الحديث ، وهو أولى مما خرَّجه أبو داود من حديث سهل بن حنيف : أن رجلاً من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اشتكى حتى أَضْنَى ، فعاد جِلْدَةً على عَظْمٍ ، فوقع على جارية لغيره ، ثمَّ ندم ، فاستُفْتِيَ له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة ؛ لأنَّ إسناده مختلف فيه . ولحديث سهل هذا ؛ قال الشافعي : يضرب المريض ضربة بِعثْكُولِ نخل تصل شماريخه كلها إليه ، أو بما يقوم مقامه . وهذا في مريض ليس عليه حدُّ القتل . فلو كان عليه جلدٌ وقتلٌ ؛ يجلد الحدّ ثم يقتل بعد ذلك . وحديث عليّ هذا : قد خرَّجه النسائي ، والترمذي ، وزاد فيه : فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دعها حتى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحدّ ، وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم )) ، وهذا لفظ أبي داود. وهو نصٌّ على صحة مذهب الجمهور ، وهو أصحُّ من حديث سهل وأعلى ، فالعمل به أوجب وأولى ، والحدُّ الذي أمر علي بإقامته هو نصف حدّ الحرَّة الذي قال الله تعالى فيه : { فعليهنَّ نصف ما على المحصنات من العذاب }. وهو قول الجمهور . ولا رجم على أمة وإن كانت متزوجة بالإجماع .
(16/44)
فروع : قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم : أن الجلد بالسَّوط ؛ والسَّوط الذي يجلد به سوط بين سوطين ، ولا تُجَرَّد المرأة ، وتُسْتَر ، ويُنزع عنها ما يقيها . وهو مذهب مالك وغيره ، بل لا خلاف فيه فيما أعلم . وأمَّا الرَّجل : فاختلف في تجريده . فقيل : لا يجرد. وبه قال طاووس ، والشعبي ، وقتادة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور . وروي ذلك عن ابن مسعود ، وأبي عبيدة بن الجرَّاح. وقالت طائفة أخرى : يجرَّد وتستر عورته . وبه قال عمر بن عبدالعزيز ، ومالك . وقال الأوزاعي : ذلك إلى الإمام ، إن شاء جرَّد ، وإن شاء لم يجرد. واتفقوا على أن المجلود وعليه قميصه مجلود .
وتُضرب المرأة قاعدة عند الجمهور . واختلف في الرِّجال . فالجمهور على أنهم يجلدون قيامًا . قاله الشافعي ، وغيره . وقال مالك : قعودًا . واتفقوا : على أن الجلد كيفما وقع أجزأ . ولا يُمدُّ المجلود ، ولا يُربط . وتُترك له يداه عند الجمهور . قال ابن مسعود : لا يحل في هذه الأُمَّة تجريدٌ ، ولا مَدٌّ . والضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلِمًا ؛ لا يجرح ، ولا يبضع ، ولا يُخرج الضارب يده من تحت إبطه . وبه قال الجمهور ، وبه قال علي ، وابن مسعود. وابن عمر ـ رضى الله عنهم ـ برجلٍ في حدٍّ ، فأُتي بسوط بين سوطين ، وقال للضارب : اضرب ، ولا يُرى إبطك ، وأعط كل عضو حقَّه. واتفقوا : على أنه لا يضرب في الوجه ؛ لنهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك ، ولا يُضرب في الفرج عند العلماء . والجمهور على اتِّقاء الرأس . وقال أبو يوسف : يُضرب في الرأس . وقد روي : أن عمر ضرب صَبِيغًا في رأسه ، وكان تَعْزِيرًا ، لا حدًّا .
قلت : وإنَّما منع من الضرب في الفرج مخافة الموت . فيجب أن تُتَّقَي المقاتل كلُّها ، كالدماغ ، والقلب ، وما أشبه ذلك . وهذا لا يُخْتَلف فيه إن شاء الله تعالى .
ومن باب الحدّ في الخمر
(16/45)
قوله : (( أُتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجل قد شرب الخمر فجلده )) ؛ ظاهره يقتضي : أن شرب الخمر بمجرَّده موجبٌ للحدِّ ؛ لأن الفاء للتعليل ، كقولهم : سها فسجد ، وزنى فرُجِم . وهو مذهب الجمهور من الصحابة وغيرهم . ولم يفرِّقوا بين شرب خمر العنب وغيره ، ولا بين شرب قليله وكثيره ؛ إذ الكل خمر ، كما قدَّمناه ، وللكوفيين تفصيل ينبني على ما تقدَّم ذكره في باب تحريم الخمر . وهو : أن من شرب شيئًا من خمر العنب النيَّئة وجب عليه الحدّ ، قليلاً كان أو كثيرًا ، لأن هذا هو المجمع عليه ، فإن شرب غيره من الأشربة فسكر : حُدَّ ، وهذا أيضًا مجمع عليه ، فإن لم يسكز لم يُحدَّ عندهم . وكذلك قالوا في مطبوخ العنب. وذهب أبو ثور : إلى أن من رأى تحريم القليل من النبيذ جلد ومن لم يره لم يجلد ؛ لأنَّه متأوِّل . وقد مال إلى هذا الفرق بعض شيوخنا المتأخرين. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور بما سبق ذكره في باب تحريم الخمر ، وبدليل قوله : (( من شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاقتلوه )) ، فعلَّق الحكم على نفس شرب ما يقال عليه خمر ، ولم يفرق بين قليل ، ولا كثير . وقد بيَّنَّا : أن الكل يقال عليه خمر لغة وشرعًا ، بالطرق التي لا مدفع لها .
فأما قتل الشارب في الرابعة : فمنسوخ بما روي من حديث جابر الذي خرَّجه النسائي : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُتي بنعيمان ، فضربه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربع مرات . قال : فرأى المسلمون أن الحدّ قد وقع ، وأن القتل قد رفع .
(16/46)
فيحصل من هذا الحديث معرفة التاريخ ومعرفة إجماع المسلمين على رفع القتل . ومن حكي عنه خلاف ذلك فإنما هو خلاف متأخر مسبوق بالإجماع المتقدم.وقد عضد حديث جابر ما خرَّجه البخاري من حديث عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ : أن رجلاً كان اسمه : عبدالله ، وكان يلقب حمارًا ، وكان يُضْحِك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد جلده في الشراب ، فأُتي به يومًا ، فأمر به فجلد . فقال رجل من القوم : اللهم العنه ، ما أكثر ما يُؤتى به ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تلعنوه ، فوالله ما علمت : إلا أنه يحب الله ورسوله . وظاهره : أن هذا الشارب شرب أكثر من أربع مرَّات ، ثم لم يقتله ، بل شهد له : أنَّه يحب الله ورسوله .
وقوله : (( فجلده بجريدتين نحو أربعين )) ، وفي الرواية الأخرى : (( جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين )). هذه الروايات تدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحد في الخمر حدًّا محدودًا ، وإنما كان ذلك منه تعزيرًا وأدبًا ، لكن انتهى في ذلك إلى به أربعين . ومما يدلّ على ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُتي برجل قد شرب ، فقال : (( اضربوه )). قال : فمنا الضارب بيده ، والضارب بنعله ، والضارب بثوبه . ثم قال لأصحابه : (( بكتوه )) ، فأقبلوا عليه يقولون : أما اتقيت الله ؟! أما استحييت من رسول الله ؟! وهذا كله يدلّ : على أن ذلك كله أدب ، وتعزيز . ولذلك قال علي ـ رضى الله عنه ـ : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَسُنَّه ؛ أي : لم يحدَّ فيه حدًّا ، ولذلك اجتهدت الصحابة فيه ، فألحقوه بأخف الحدود ، وهو حدُّ القذف . هذا قولُ طائفةٍ من علماء أصحابنا وغيرهم ، وهو ظاهرٌ من الأحاديث التي ذكرناها. غير أنه يرد عليهم أن يقال : هذا معارضٌ بوجهين :
(16/47)
أحدهما : أن عليّ بن أبي طالب قد قال : جلد رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعين ، وأبو بكرٍ أربعين ، وجلد علي بحضرة عثمان ، والصحابة ـ رضى الله عنهم ـ أربعين ، ودوامهم على مراعاة هذا العدد يدل على أنَّه حدٌّ محدود ، ولو كان تعزيراً لاختلف بحسب اجتهاد كلّ واحدٍ منهم .
وثانيهما : أن الأمَّة مُجمعون على أنَّ الحدَّ في الخمر أحد العددين ؛ إمَّا أربعون ، وإمَّا ثمانون . قال القاضي عياض : أجمع المسلمون على وجوب الحدِّ في الخمر. وكيف تُجْمِعُ الأمَّةُ على خلاف ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟!
فالجواب عن الوجهين : أن الصحابة رضوان الله عليهم هم الذين نقلوا عن النبيٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يدلُّ على التعزير ، وهم الذين نقلوا ما يدل على التحديد . والذين قاسوا واجتهدوا هم الذين عدَّدوا وحدَّدُوا ، ولم ينصَّ أحدٌ منهم على نفي أحد الوجهين وثبوت الآخر ، وإنما هو نقل أحوالٍ محتملة ، فلا بدَّ من التلفيق بين أقوالهم ؛ لاستحالة التناقض والكذب عليهم .
(16/48)
ووجهُ التلفيق : أن الصحابةَ ـ رضى الله عنهم ـ فهمت عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنَّ جَلده كان تعزيرًا ؛ لأنَّه قد اختلف حاله فيه : فمرةً جلد فيه بالأيدي ، والنِّعال ، والثياب من غير عددٍ . ومرَّةً جلد فيه بالجريد والنعال أربعين . ومرَّةً جلد فيه بجريدتين نحو الأربعين ، فهذه نحو الثمانين . فهذا تعزيز بلا شك ، لكن لَمَّا كان أكثر جلده أربعين اختاره أبو بكر ، وعمر في أول أمره ، فلمَّا كثر إقدامُ الناس على شرب الخمر ، تفاوضت الصحابة في ذلك ونظروا ، فظهر لهم : أن ذلك القدر لا يزجرهم ، ولا يبالون به ، فظهر لهم أن يلحقوه بأخف حدود الأحرار المذكورة في القرآن ، فوجدوه القذف ، مع أنهم قد ظهر لهم جامع بينهما ، فقالوا : إذا سَكِرَ هَذَى ، وإذا هَذَى افترى . ومع ما تقدَّم لهم : من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قارب فيه الثمانين ، فأثبتوها ، ومنعوا من الزيادة عليها . ولما ظهر هذا المعنى لعليّ بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ قال مصرِّحاً به : جلد رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعين ، وأبو بكرٍ أربعين ، وعمر ثمانين ، وكل سُنَّة . ثمَّ إنَّه جلد هو أربعين ، وأقرَّه على ذلك عثمان ، ومَن حضر من الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ . وظهر له : أن الاقتصار على أربعين أولى من الثمانين ؛ مخافةَ أن يموتَ فتلزمه الدِّية ، كما قد صرَّح به ؛ حيث قال : ما كنت أقيمُ على أحدٍ حدًّا فيموت فيه ، فأجد في نفسي ، إلا صاحب الخمر ، لأنه إنْ مات وَدَيْتُهُ . وهذا يدلُّ على أنَّه جلد فيه ثمانين في ولايته ، وأنَّه لم يخالف عمر في الثمانين ، وإيَّاها عَنَى بقوله : (( فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَسُنَّه )) ، ولا يصحُّ أن يريدَ بذلك إلأربعين ؛ لأنه هو الذي روى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جلد فيه أربعين . ولو مات في الأربعين لم تجب له ديةٌ بوجهٍ . ولذلك قال الشافعيُّ : لو مات في الأربعين فالحقُّ قَتَلَهُ ، كما تقدَّم . فتفهَّم هذا البحث ، فإنَّه حسن .
(16/49)
وحاصله : أن الجلدَ على الخمر تعزيزٌ مُنِع من الزيادة على غايته. فرأت طائفه : أن غايته أربعون ، فلا يُزاد عليه . وبه قال الشافعيُّ من الفقهاء ، والإجماع : على أنَّه لا يزاد على الثمانين ، فإن قيل : كيف يكون تعزيرًا وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يُخلَدُ أحدٌ فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود الله ؟ فمقتضى هذا : ألا يُزاد في التعزير على العشرة . وبه قال من يأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى . فالجواب : أنَّه سيأتي الكلام على ذلك الحديث .
(16/50)
وقوله : فلمَّا كان عمر ودنا النَّاس من الرِّيف والقرى )) ؛ كان هنا تامَّهٌ . وفي الكلام حذفٌ ؛ أي : لما وقع ، ووجد زمن خلافة عمر. والرِّيف : أرض الزرع والخصب . والجمع : أرياف . يقال : أَرَافَتْ الأرض - رباعيًّا - أخصبت . ورافت الماشية : إذا رعت الريف. وأَرْيَفْنا : أي : صرنا إلى الريف . (( من الصحاح )) ؛ ويعني بذلك : أنَّه لما فتحت البلاد بالشَّام وغيرها ، وكثرت الكروم ظهر في الناس شُرْبُ الخمر ، فشاور عمرُ الصحابةَ ـ رضى الله عنه ـ في التشديد في العقوبة عليها ، فتفاوضوا في ذلك ، واتفقوا على إلحاقها بحدِّ القذف ؛ لأنَّه أخف الحدود ، كما قال عبد الرحمن. وقد جاء في "الموطأ" : أن عمر لَمَّا استشارهم في ذلك قال علي : نرى أن تجلده ثمانين ، فإنه إذا شرب سكر ، وإذا سَكِرَ هَذَى ، وإذا هَذَى افترى . فصرَّح بكيفية الإلحاق . وحاصلها راجعٌ : إلى أنه أقام السُّكر مقامَ القذف ؛ لأنه لا يخلو عنه غالبًا ، فأعطاه حكمه ، فكان هذا الحديث من أوضح حجج القائلين بالقياس والاجتهاد ؛ إذ هذه القضيةُ نصٌّ منهم على ذلك . وهم الملأ الكريم . وقد انتشرت القضيةُ في ذلك الزَّمان ، وعمل عليها في كل مكانٍ ، ولم يتعرَّض بالإنكار عليها إنسان ، مع تكرار الأعصار ، وتباعد الأقطار ، فكان ذلك إجماعًا على صحة العمل بالقياس الذي لا ينكره إلا الأغبياء من الناس. وقد أورد بعض من يتعاطى العلم الجدلي على هذا النظر الشديد العَلَوِي أن قال : إن حكم للسُّكر بحكم القذف - لأنه مظنَّته - فليحكم له بحكم الزِّنى والقتل لأنه مظنتهما . وأيضاً : فلأنه يلزم عليه ألا يُحَدَّ على مجرد الشرب ، بل على السُّكر خاصةً ، لأنَّه هو المظنَّة ، لا الشُرب . وقد حدُّوا على شرب الخمر وإن لم يسكر . فدلَّ على أن السُّكر ليس معتبرًا في الحدِّ ، فلا يكون علَّة له ، ولا مظنَّة .
(16/51)
والجواب عن الأول : منع كون السُّكر مظنة للزنى والقتل ؛ لأنَّ المظنَّة اسم لما يظن فيها تحقق المعنى المناسب غالبًا . ومن المعلوم : أن السُّكر لا يخلو عن الهذيان والقذف غالبًا في عموم الأوقات والأشخاص ، وليس كذلك الزنى والقتل ؛ فإن ذلك إن وقع فنادرٌ ، وغير غالبٍ . والوجود يحققه .
والجواب عن الثاني : أن الحدّ على قليل الخمر لما هو من باب سدِّ الذرائع ؛ لأنَّ القليل يدعو إلى الكثير ، والكثير يُسكر ، والسُّكر المظنَّة ، كما قررته الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ؛ فهم الأسوة ، وفيهم القدوة .
وقوله في "الأم" : (( عبدالله الدَّاناج )) بالجيم . ويقال : الدَّاناء . بهمزة مكان الجيم . ويقال بهاء. وهو بالفارسية : العالم . عن حُضَيْن بالحاء المهملة ، والضاد المعجمة : تصغير (( حُضن )) وهو ما دون الإبط إلى الكتف . وحضن الشيء : جانبه . ونواحي كل شيء : أحضانه. و(( الوليد )) هو ابن عقبة بن أبي مُعيط ، ظهر عليه : أنَّه شرب الخمر ، فَكُثِّرَ على عثمان فيه ، فلما شهد عنده بأنَّه شربها أقام عليه الحدّ كما ذكر .
(16/52)
وقوله : (( فشهد حمران : أنَّه شربها ، وشهد آخر : أنَّه رآه يتقيَّأ )) : فيه من الفقه : تلفيق الشهادتين إذا أدَّتا إلى معنى واحد ، فإن أحدهما شهد برؤية الشرب . والآخر بما يستلزم الشرب ، ولذلك قال عثمان : أنَّه لم يتقيَّأ حتى شربها . غير أنَّه قد ذكر الْحُمَيْدِي محمد بن نصبر في حديث عمر حين شهد عنده الجارود : بأن قدامة شرب الخمر ثمَّ دعا بأبي هريرة وقال : علام تشهد ؟ قال : لم أره حين شرب ! وقد رأيته سكران يقيء . فقال عمر : لقد تنطَّعتَ يا أبا هريرة في الشهادة ! فلمَّا استحضر قُدامة أنكر . فقال أبو هريرة : يا أمير المؤمنين ! إن كنت تشك في شهادتي فَسَلْ بنت الوليد امرأة ابن مظعون . فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله . فأقامت هند على زوجها الشهادة ، فجلده . فظاهر هذا : أن عمر لم يسمع شهادة أبي هريرة لما قال له : أنَّه لم يره يشرب ، وإنَّما رآه يتقيَّأ .
والجواب : أن عمر ـ رضى الله عنه ـ إنَّما توتف في شهادة أبي هريرة ؛ لأنَّ أبا هريرة سلك في أداء الشهادة مسلك من يُخبر بتفصيل قرائن الأحوال التي أفادته العلم بالمشهود فيه ، ومهما شرع الشاهد في تفصيل ذلك وحكايته لم يحصل لسامع الشهادة الجزم بصحتها ؛ لأنَّ قرائن الأحوال لا تنضبط بالحكاية عنها ، وإنما حق الشاهد أن يعرض عنها ، ويُقْدِم على الأداء إقدام الجازم المخبر عن علم حاصل ، فكان توقف عمر لذلك . ثمَّ إن أبا هريرة لما جزم في الشهادة سمعها عمر وحكم بها ، لكنه استظهر بقول هند على عادته في الاستظهار في الشهادات والإخبار ، ولا يظن به : أنه ردَّ شهادة أبي هريرة ، وقبل شهادة امرأة في الحدود ، إلا من هو عن المعارف مصدود.
(16/53)
وقول عثمان لعليّ : (( قم يا علي فاجلده )) ؛ دليل على أن الحدَّ إنَّما ينبغي أن يقيمه بين أيدي الخلفاء والحكام فضلاء الناس ، وخيارهم . وكذلك كانت الصحابة تفعل كلَّما وقع لهم شيء من ذلك . وسبب ذلك : أنَّه قيامٌ بقاعدةٍ شرعية ، وقُربة تعبديِّة تجب المحافظة على فعلها ، وقدْرها ، ومحلِّها ، وحالها ، بحيث لا يُتَعَدَّى من شروطها ، ولا أحكامها. ولذلك يجب عند جميع العلماء أن يختار لها أهل الفضل ، والعدل ؛ إذا أمكن ذلك مخافة التعدِّي في الحدود . وقد وقع في زماننا من جلد في الخمر ثمانين ، فتعدَّى عليه الضاربُ ، فقتله بها ، وحُرْمةُ دم المسلم عظيمة ، فتجب مراعاتها بكل ممكن .
وقول عليّ ـ رضى الله عنه ـ : (( قم يا حسن فاجلده )) ؛ دليل على أن من استنابه الإمام في أمر فله أن يستنيب من يتنزل منزلته في ذلك الأمر .
وقول حسن : (( ولِّ حارَّها من تولى قارَّها )). هذا مثل من أمثال العرب . قال الأصمعي : معناه : وَلِّ شدَّتها من تولى هنيئها . والقارُّ : البارد . ويعني الحسن بهذا : ولِّ شدة إقامة الحدّ من تولى إمرة المسلمين ، وتناول حلاوة ذلك .
وقوله : (( فكأنه وجد عليه )) ؛ أي : غضب عليه لأجل توقفه فيما أمره به ، وتعريضه بالأمراء .
وقوله : (( فقال : يا عبد الله ! قم فاجلده )) ؛ يحتمل أن يكون الآمر لعبد الله عليًّا ، فكأنه أعرض عن الحسن لَمَّا توقف . ويحتمل أن يكون الحسن استناب عبدالله فيما أمره به عليِّ طلبًا لرضا عليّ . والله تعالى أعلم .
(16/54)
وقوله : (( فجلده وعلي يعدُّ حتى بلغ أربعين ، فقال : أمسك )) ؛ ظاهر هذا : أنَّه لم يزد على الأربعين . وفي البخاري من حديث المسور بن مخرمة ، وعبدالرحمن بن الأسود وذكر هذا الحديث طويلاً ، وقال في آخره : إن عليًّا جلد الوليد ثمانين . وهذا تعارض ، غير أن حديث حضين أولى ، لأنَّه مفضل في مقصوده ، حسنٌ في مساقه ، ساقه روايه مساق الْمُتثبِّت. والأقرب أن بعض الرواة وَهِمَ في حديث المسور ، فوضع (( ثمانين )) مكان (( أربعين )).
وقول علي : (( جلد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعين . وأبوبكر أربعين . وعمر ثمانين وكل سُنَّه )) ؛ دليل واضح على اعتقاد علي ـ رضى الله عنه ـ صحة إمامة الخليفتين أبي بكر ، وعمر ، وأن حكمهما يقال عليه : سُنَّه ؛ خلافًا للرافضة والشيعة ، وهو أعظم حُجَّة عليهم ؛ لأنَّه قول متبوعهم ؛ الذى يتعصبون له ، ويعتقدون فيه ما يتبرأ هو منه . وكيف لا تكون أقوال أبي بكر وعمر ، وأفعالهما سنة وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ))؟! .
وقوله : (( وهذا أحبُّ إليّ )) ؛ ظاهره : أنَّه أشار إلى الأربعين التي أمر بالإمساك عليها . وقد روي : أن المعروف من مذهبه الثمانون . فيكون له في ذلك القولان ، لكنه دام هو على الثمانين لما كثر الإقدام على شرب الخمر .
وحاصل هذا الاختلاف في الأحاديث ، وبين الصحابة راجع إلى أنه لم يتقدَّر في الخمر حدٌّ محدود . وإنما كان الأدب والتعزير ، لكن استقر الأمر : أن أقصى ما بلغ فيه إلى الثمانين ، فلا يزاد عليها بوجه . وقد نصَّ على هذا المعنى السائب بن يزيد فيما خرَّجه البخاري قال : كنَّا نُؤتى بالشارب على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإِمرة أبي بكر ، وصدرًا من خلافة عمر ، فنقوم إليه بأيدينا ، ونعالنا ، وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر ، فجلد أربعين ، حتى إذا عَتَوا وفَسَقُوا جلد ثمانين . وعلى هذا : فلا ينبغي أن يعدل عن الثمانين ؛ لأنَّه الذي استقرَّ عليه آخر أمر الصحابة أجمعين .
(16/55)
وقول علي : (( ما كنت لأقيم على أحد حدًّا فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر ؛ لأنَّه إن مات وديته )) ؛ يدلُّ على أن ما كان فيه حدٌّ محدود فأقامه الإمام على وجهه ، فمات المحدود بسببه ؛ لم يلزم الإمام شيء ، ولا عاقلته ، ولا آل بيت المال . وهذا مجتمعٌ عليه ؛ لأنَّ الإمام قام بما وجب عليه ، والميت قتيل الله . وأمَّا حدّ الخمر فقد ظهر : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحدّ فيه حدًّا . فلما قصرته الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ على عدد محدود ، وهو الثمانون ، وجد علي ـ رضى الله عنه ـ في نفسه من ذلك شيئًا ، فصرَّح بالتزام الدِّية إن وقع له موت المجلود احتياطًا ، وتوقيًّا ، لكن ذلك- والله أعلم - فيما زاد على الأربعين إلى الثمانين . وإمَّا الأربعون : فقد صرَّح هو على أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبا بكر جلداها ، وسمى ذلك سنة . فكيف يخاف من ذلك ؟
وهذا هو الذي فهمه الشافعي من فعل علي هذا ، فقال : إن حدّ أربعين بالأيدي ، والنعال ، والثياب فمات ؛ فالله قتله . وإن زِيدَ على الأربعين بذاك ، أو ضرب أربعين بسوط فمات ؛ فديته على عاقلة الإمام .
(16/56)
قلت : ويظهر لي من فعل عمر ـ رضى الله عنه ـ خلافُ ذلك : إنه لما شُهِدَ على قُدامة بشُرب الخمر استشار من حضره في جَلْدِه ، فقال القوم : لا نرى أن تَجْلِدَه ما دام وَجِعًا ، فسكت عمر عن جلده أيامًا ، ثم أصبح يومًا قد عزم على جلده ، فاستشارهم . فقالوا : لا نرى أن تجلده ما دام وَجِعًا . فقال عمر ـ رضى الله عنه ـ : والله لأن يلقى الله تحت السياط أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله وهي في عنقي . والله لأجلدنَّه . فجلده بسوط بين سوطين. وهذا يدلُّ : على أنَّه لا يلزم في ذلك دية لا على العاقلة ، ولا في بيت المال ؛ لأنَّ عمر سلك في حد الخمر مسلك الحدود المحدودة بالنصّ . وأمَّا جند عمر لقدامة على ما ذكروا له من وَجَعِه ، فكأنه فهم أن وجعه لم يكن بحيث يبالى به ، ولا يخاف منه . وكأنهم اعتذروا به ليتأخر ضربه شفقة عليه ، وحُنُوًّا . وقد ظهر ذلك منهم لما أَتَوه بسوطٍ دقيق صغير. فقال لأسلم : أخذتك دقرارة أهلك ؛ أي : حميتهم الحاملة على المخالفة.
واختلفوا فيمن مات من التعزير . فقال الشافعي : عَقْلُه على الإمام ، وعليه الكفارة . وقيل : على بيت المال . وجمهور العلماء : على أنَّه لا شيء عليه .
(16/57)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يجلد أحدٌ فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله )) ؛ أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد بن حنبل ، وأشهب من أصحاب مالك في بعض أقواله . وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى : لا يضرب في الأدب أكثر من ثلاثة . وقال أشهب في مؤدِّب الصبيان . قال : وإن زاد اقتَّص منه . والجمهور : على أنَّه يُزاد في التعزير على العشرة . فمنهم من قصره على عدد بحيث لا يزاد عليه . فقال أبو حنيفة : أربعين . وقاله الشافعي ، وقال أيضًا : عشرين . وروي عن مالك : خمسة وسبعين سوطًا . واليه مال أصبغ بن الفرج ، وقاله ابن أبي ليلى ، وأبو يوسف . وقال محمد بن مسلمة : لا أرى أن يبلغ به الحدّ . وقد روي عن عمر : ما يبلغ به ثمانون. وعن ابن أبي ليلى وابن شبرمة : لا يبلغ به مائة . ومنهم من رأى ذلك موكولاً إلى رأي الإمام بحسب ما يراه أردع ، وأليق بالجاني ، وإن زاد على أقصى الحدود . وهو مشهور مذهب مالك ، وأبي يوسف ، وأبي ثور ، والطحاوي ، ومحمد بن الحسن . وقال : وان بلغ ألفًا . وقد روي عنه مثل قول أبي حنيفة . والصحيح عن عمر : أنَّه ضرب من نقش على خاتمه مائة . وضرب صَبِيغًا أكثر من الحدّ. وقد روي عن الشافعي : أنَّه يُضرب في الأدب أبدًا ، وإن أتى على نفسه حتى يُقرَّ بالانابة . وقال الْمُزني من أصحاب الشافعي : تعزير كل ذنب مستنبط من حدِّه لا يجاوز.
قلت : والصحيح : القول العمري ، رالمذهب المالكي ؛ لأنَّ المقصود بالتعزير الرَّدع ، والزجر . ولا يحصل ذلك إلا باعنبار أحوال الجنايات والجناة . فأمَّا الحديث فخرج على أغلب ما يحتاج إليه في ذلك الزمان . والله تعالى أعلم .
ومن باب من أقيم عليه الحدَّ فهو كفارة له
(16/58)
قوله : (( أَخَذَ علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما أخذ على النساء )) ؛ يعني : أنَّه بايعهم على التزام هذه الأمور المذكورة كما بايع النساء عليها . وإنَّما نبَّه بهذا على أن هذه البيعة لما لم يكن فيها ذكر القتال استوى فيها الرِّجال والنساء ؛ ولذلك كانت تسمى هذه البيعة ببيعة النساء . وهذه البيعة كانت بالعقبة خارج مكة . وهي أول بيعة بايعها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنقباء الأنصار ، وذلك قبل الهجرة ، وقبل فرض القتال .
وقوله : (( ولا يَعْضَهُ بعضنا بعضًا )) ؛ هكذا رواية الجماعة ، وقيل فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه السِّحر ؛ أي : لا يسحر بعضنا بعضا . والعَضْهُ ، والعَضِيهَة : السِّحر . والعاضِهُ : السَّاحر . والعاضِهَةُ : السَّاحرة .
والثاني : أنَّه النَّمِيمَة والكذب . والثالث : البُّهْتان .
قلت : وهذه الثلاثة متقاربة في المعنى ؛ لأنَّ الكل كذبٌ وزور. ويقال لكلِّها عَضْهٌ ، وعَضِيهةٌ . ويُصرف فعلها كما سبق . وقد روى العذري هذه اللفظة : (( ولا يَعْضِي بعضنا بعضًا ))-بالياء مكان الهاء - على وزن : يقضي . ويكون من التعضية ، وهي التفريق والتجزئة . ومنه قوله تعالى : { الذين جعلة القرآن عضين } ، قال ابن عباس : فرَّقوه فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعض . وعلى هذا : فيكون عضين : جمع عضه . يكون منقوضًا ؛ لأنَّ أصله : عِضَْوةٌ ، فحذفوا الواو ، ونقلوا حركتها إلى الساكن قبلها ، كما فعلوه في عزة ، فيكون معناه في الحديث : لا تكذب عليه فتبهته بأنواع من البهتان والكذب ، فتفرقها عليه في أوقات ، وتنسبها إليه في حالات . ورواية الجماعة أوضح .
و (( النُّقَباء )) : جمع نقيب ، كظريف ، وظرفاء . وهو الذي ينقب عن أخبار أصحابه ، وأحوالهم ، فيرفعها للأمراء . وهم المسمُّون بالعرفاء أيضًا : جمع عريف ، لتعرُّفهم بالأحوال ، وتعريفهم بها . وقد تقدم الكلام في ((النهبة )).
(16/59)
وقوله : (( ولا نقتل أولادنا )) ؛ يعني بهم : البنات اللواتي كانوا يدفنونهم أحياء . وهي الموءودة . وكانوا يفعلون ذلك للأنفة الجاهلية وخوف الفقر ، والإملاق . ولا يُعارض هذا قوله في الرواية الأخرى : ((ولا نقتل النَّفس التي حرَّم الله إلا بالحق )) ؛ لأنَّ هذه البيعة كانت فيها أمورٌ كثيرة منعهم منها ، ونهاهم عنها ؛ قد تقدم ذكر بعضها في كتاب الإمارة . وقد شمل ذلك كُلَّه بقوله : (( ولا نعصي )) ، وكذلك قال تعالى في حق النساء : { ولا يعصينك في معروف }.
وقوله : (( فمَنْ وَفَى منكم )) ؛ بتخفيف الفاء . وقاله الأصيلي بتشديدها ، ومعناهما واحد ؛ أي : فعل ما أمر به ، وانتهى عمَّا نُهِي عنه.
وقوله : (( فأجره على الله )) ؛ أي : إن الله تعالى ينجيه من عذابه وإهانته ، ويوصله إلى جنته وكرامته .
وقوله : (( ومن أتى منكم حدًّا فأُقِيم عليه فهو كفارته )) ؛ هذا حجَّة واضحة لجمهور العلماء على أن الحدرد كفارات. فمن قتل فاقتُصَّ منه لم يبق عليه طِلْبَةٌ في الآخرة ؛ لأنَّ الكفارات ماحيةٌ للذنوب ، ومصَيِّرةٌ لصاحبها كأن ذنبه لم يكن. وقد ظهر ذلك في كفارة اليمين والظِّهار وغير ذلك . فإن بقي مع الكفارة شيء من آثار الذنب لم يصدق عليها ذلك الاسم . وقد سمعنا من بعض علماء مشايخنا : أن الكفارة إنَّما تكفر حق الله تعالى ، ويبقى على القاتل حق المقتول يطلبه به يوم القيامة . وتَطَّرِدُ هذه الطريقة في سائر حقوق الآدميين .
قلت : وهذا ليس بصحيح ؛ لأنَّه تخصيص لعمرم ذلك الحديث بغير دليل ، وما ذكره من اختلاف الحقوق صحيحٌ ، غير أنَّه لما أباح الله دم القاتل بسبب جريمته ، وقتل ، فقد فعل به مثل ما فعل من إيلام نفسه واستباحة دمه ، فلم يبق عليه شيء . وهذا معنى القصاص .
(16/60)
وقوله : (( ومن ستر الله عليه ، فأمره إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له )) ؛ يعني : إذا مات عليه ولم يَتُب منه . فأمَّا لو تاب منه لكان كمن لم يُذنب ؛ بنصوص القرآن والسُّنه كما قد تقدم . وهذا تصريحٌ بأن ارتكاب الكبائر ليس بكفر ؛ لأنَّ الكفر لا يغفر لمن مات عليه بالنصّ والإجماع. وهي حجَّة لأهل السُّنة على الْمُكَفِّرة بالذنوب ، وهم الخوارج ، أهل البدعة .
وقوله : (( فإن غَشينا شيئًا من ذلك كان تضاء ذلك إلى الله تعالى )) ؛ أي : إن ارتكبنا شيئًا من ذلك ، وفعلناه ؛ كان حكمه لله ؛ أي : إن شاء عذب ، وإن شاء عفا . كما فسَّره في الرواية الثانية .
ومن باب الْجُبَار الذي لا دية فيه
قوله : (( العجماه جرحها جبار ، والبئر جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس )) ؛ هكذا جاء هذا الحديث بمجموع هذه الأمور. فظاهره : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكرها في وقت واحد متصلة مجموعة ، ويكون فيه حجَّة لمالك على أبي حنيفة : في أن الركاز ليس هو المعدن ؛ إذ قد عدل عن لفظ المعدن إلى اسم آخر في مساقط واحد ، وذكره بعده . فلو كان الركاز هو المعدن لقال : والمعدن جُبار وفيه الخمس . وكان يكون أيسر ، وأفصح ، وأبعد عن الإشكال ، بل لو ذكر لفظ المعدن نفسه بدل الرِّكاز فقال : وفي المعدن الخمس ، لكان مستقبحًا عند الفصحاء ، فإنَّه وضع الظاهر موضع المضمر من غير فائدة ، ولا تفخيم ، بل مع مايجرُّه من اللَّبس . وهذا النوع من الكلام ركيك ، ويُجَلُّ كلام الشارع أن يحمل عليه . ويحتمل أن يقال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر هذه الأمور في أوقات مختلفة ، فجمعها الرَّاوي ، وساقها سياقة واحدة ، وحينئذ لا يكون فيه حجَّة على ما ذكرناه ، لكن الظاهر الأول ، والله تعالى أعلم .
(16/61)
و (( الْجُبار )) : الذي لا قود فيه ، ولا دية ، ولا شيء . وهو بضم الجيم ، على وزن : غُرَاب . و(( العجماء ))- ممدودة ، مهموزة- : اسم جنس لجميع البهائم ، سُمِّيث بذلك لأنَّها لا تنطق . فظاهر قوله : ((العَجْمَاء جرحها جُبار )) ؛ أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء ، وهذا مُجمعٌ عليه . فلو كانت معها قائد ، أو سائق ، أو راكب فحملها أحدهم على شيء فأتلفته لزمه حكم الْمُتْلَف . فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص ، وكان الحمل عمدًا ؛ كان فيه القصاص . ولا يختلف فيه ؛ لأنَّ الدَّابة كالآلة . وإن كان عن غير قصد كانت فيه الدية على العاقلة . وفي الأموال الغرامة في مال الحامل قصدًا كان أو غير قصد . وهذا كلُّه لا يختلف فيه إن شاء المه تعالى .
واختلفوا فيما أصابته برجلها أو ذنبها . فلم يُضمِّن مالك ، والليث ، والأوزاعي صاحبها ، وضَمَّنه الشافعي ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة . واختلفوا في الضَّارِيَة. فجمهورهم : على أنَّها كغيرها. ومالك وبعض أصحابه يُضَمِّنُونَه .
واختلفوا فيما رعت المواشي . فضَمَّن مالك ربَّها ما أفسدته ليلاً دون ما أفسدته نهارًا . وبه قال الشافعي ، والجمهور. ومعتمد التفرقة : أن على أرباب الحوائط والمراعي حفظها نهارًا ؛ إذ غالب المواشي أنَّها تسرح فيه ، ولا تنضبط ، وعلى أرباب المواشي حفظها بالليل ، فكان رعي النهار تمكين من أرباب الزروع للماشية من الرَّعي ، ورَعْي الليل تسليط من أرباب المواشي على الرَّعي. وقال أبو حنيفة : لا ضمان فيما رعته المواشي ليلاً ولا نهارًا تمسُّكًا منه بالحديث . وهذا إنما يليق بأهل الظاهر لا بأبي حنيفة . وقال الليث ، وسحنون : يضمن ما رعت نهارًا .
(16/62)
وقوله : (( والبئر جُبار )) ؛ يعني : إذا حفرها الإنسان في ملكه على الوجه الجائز. فلو حفرها في ملك غيره بغير إذنه ، أو في طريق فهلك فيها شيء ؛ ضمنه عند مالك ، والشافعي . فإن هلك فيها إنسان كانت ديته على الجاني . وكذلك لو حفرها لسارق فهلك فيها . وقال الليث : لا دية فيه ولا ضمان . وكذلك الحكم في المعدن . فلو انهار المعدن على العملة ؛ فإن كان ربُّ المعدن قد غرَّهم ؛ كانت دياتهم على عاقلته ، وإن لم يَفُرَّهُم فهلكوا فيه ؛ لم يلزمه شيء ، ولا عاقلته .
والركاز عند مالك هو : مايوجد من دفين الجاهلية . فخمسه لبيت مال المسلمين ، وأربعة أخماسه لواجده . وهل هذا حُكم كل ركاز . أو يختلف ذلك بحسب نوعه وأرضه ؛ فيه خلاف بين أصحابنا وغيرهم . وكله مذكور في كتبهم .
وقوله في حديث أنس : (( أن رجلاً كان يُتهم بأمِّ ولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ هذه مارية أمّ إبراهيم ، ولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يزورها رجل قبطي ، فتكلم المنافقون في ذلك ، وشنَّعوا ، فأظهر الله براءتها بما ظهر من حال الرَّجل ، وهذا نحو مِمَّا جرى لعائشة رضي الله عنها حتَّى برَّأها الله تعالى ، وأظهر من حال المرمي أنَّه حصور . كل ذلك مبالغةٌ في صيانة حرم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإظهار تكذيب من تَفَوَّهَ بشيء من ذلك.
(16/63)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي : (( اذهب فاضرب عنقه )) ؛ في هذا اللفظ إشكال ، وهو : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف يأمر بضرب عنق هذا الرجل ولم يكن هناك موجبٌ للقتل ، وقد ظهر ذلك حين انكشف حال الرَّجل ؟ ويزول هذا الإشكال : بأن هذا الحديث رواه أبو بكر البزار ، بمساق أكمل من هذا ، وأوضح فقال فيه : عن علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ قال : كثر على مارية في قبطي ابن عم لها كان يزورها ، ويختلف إليها ، فقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خذ هذا السيف فانطلق ، فإن وجدته عندها فاقتله )) ؛ قال : قلت : يا رسول الله ! أكون في أمرك كالسِّكة المحماة ، لا يثنيني شيء ، حتى أمضي لما أمرتني ، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؛ فقال : (( بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب )) ، وذكر الحديث بنحو ما تقدم . فهذا يدلّ على أن أمره بقتله إنَّما كان بشرط أن يجده عندها على حالة تقتضي قتله . ولما فَهِمَ عنه علي ـ رضى الله عنه ـ ذلك سأله ، فبيَّن له بيانًا شافيًا ، فزال ذلك الإشكال ، والحمد لله ذي الجلال . ويحتمل أن يقال : إن ذلك خرج من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر على موجب الغيرة الْجِبِلِّيَّة . والأول أليق وأسلم . والله بحقائق الأمور أعلم .
وفيه من الفقه : إعمال النظر ، والاجتهاد ، وترك الجمود على الظواهر ، وأنَّه يجوز الاطلاع على العورة عند الضرررة ، كتحمُّل شهادة الزنى ، كما صار إليه مالك .
كتاب الأقضية
ومن باب اليمين على المدَّعَى عليه
قوله : (( لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعَى ناسٌ دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدَّعَى عليه )) ؛ هذا الحديث رواه مسلم والبخاري مرفوعًا من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس . قال : الأصيلي : لا يصح رفعه ، وإنَّما هو من قول ابن عباس ، كذلك رواه أيوب ونافع الجمحي عن ابن أبي مليكة .
(16/64)
قلت : إذا صحَّ رفعه بشهادة الإمامين فلا يضرُّه من وقفه ، ولا يكون ذلك تعارضًا ، ولا اضطرابًا ، فإن الرَّاوي قد يعرض له ما يوجب السكوت عن الرفع من نسيان ، أو اكتفاء بعلم السَّامع ، أو غير ذلك . والرَّافع عدلٌ ، ثبتٌ ، ولم يكتبه الآخر فلا يُلتفت إلى الوقف إلا في الترجيح عند التعارض ، كما بيَّنَّاه في الأصول . وهذا الحديث أصل من أصول الأحكام ، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام ، يقتضى ألا يحكم لأحد بدعواه وإن كان فاضلاً شريفًا - في حقٍّ من الحقوق - وإن كان محتقرًا يسيرًا - حتَّى يستند المدَّعي إلى ما يقوي دعواه ، وإلا فالدَّعاوي متكافئة ، والأصل : براءة الذمم من الحقوق ، فلا بدَّ مما يدلّ على تعلُّق الحق بالذمَّة ، وتترجَّحُ به الدعوى .
وقوله : (( لادَّعَى ناسٌ دماء رجال وأموالهم )) ؛ استدل به بعض الناس على إبطال قول مالك في التَّدْمِية . ووجه استدلاله : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد سوَّى بين الدماء والأموال في أنَّ المدَّعِي لا يسمع قوله فيهما ، فإذا لم يُسمع قول المدَّعِي في مرضه : لي عندَ فلانٍ دينارٌ أو درهم ؛ كان أحرى ، وأولى ألا يُسمع قوله : دَمِّي عند فلان ؛ لحرمة الدماء ، ولا حجَّة لهم فيه ؛ لأنَّ مالكًا رحمه الله لم يسند القصاص أو الدِّية في التَّدْمِية لقول المدَّعِي : دمِّي عند فلان ؛ بل للقسامة على القتل ، والتَّدْمِية لوث يقوي جنبة المدَّعِين حتى يبدؤوا بالأيمان كسائر أنواع اللَّوث التي تقدم ذكرها في كتاب القسامة . وقد بيَّنَّا ذلك فيه ، وعلى هذا : فنقول بموجب الحديث فتأمَّلْهُ .
(16/65)
وقوله : (( ولكن اليمين على المدَّعَى عليه )) ؛ المدَّعَى عليه : هو المطلوب منه . والمدَّعِي : هو الطالب . وإنَّما كانت اليمين على المدَّعَى عليه ؛ لأنَّ الأصل براءة ذمته عمَّا طُلِبَ منه ، وهو متمسّك به . لكن يمكن أن يقال : قد شغلها بما طلب منه ، فيدفع ذلك الاحتمال عن نفسه باليمين إن شاء . وظاهر عموم هذا اللفظ يقتضي : أن اليمين تتوجَّه على كل من ادُّعِيَ عليه ؛ كانت هنالك مخالطة أو لم تكن . وهو قول أكثر الفقهاء ، وابن نافع ، وابن لبابة من أصحابنا . وذهب مالك وجل أصحابه : إلى أن اليمين لا تتوجَّه على المدَّعَى عليه حتى يثبت بينهما خلطة . وهو مذهب الفقهاء السبعة . وبه قضى علي ـ رضى الله عنه ـ . وإنما صار هؤلاء إلى هذا مراعاة للمصلحة ، ودفعًا للمفسدة الناشئة من ذلك . وذلك : أنَّ السُّفهاء يتبذلون الأفاضل والعلماء بتكثير الأيمان عليهم مهما شاؤوا ، حتى يحلف الرَّجل الجليل القدر في العلم والدين في اليوم الواحد مرارًا ، وبكون ذلك الوضيع يقصد ذلك به ليتخلَّص منه بما يبذله . ويهون على أهل الدِّين والفضل بذل الجزيل من المال في مقابلة دفع هذا الإمتهان والإبتذال .
(16/66)
ثم اختلف مشايخنا في معنى الخلطة . فقيل : معرفة المعاملة والمداينة معه بشاهدٍ أو شاهدين . وقيل : أن يكون المدَّعى عليه يشبه أن يعامل المدَّعي . وقيل : يجزئ من ذلك الشبهة . وأجمع العلماء على استحلاف المدَّعَى عليه في الأموال ، واختلفوا في غير ذلك . فذهب الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور إلى وجوبها على كل مدَّعَى عليه في حدٍّ ، أو طلاقٍ ، أو نكاح ، أو عتقٍ ؛ أخذًا بظاهر عموم الحديث ، فإن نَكَلَ ؛ حلف المدَِّعي ، وثبتت دعواه . وقال أبو خنيفة ، وأصحابه : يحلف على النكاح ، والطلاق ، والعتق ، وإن نَكَلَ لزمه ذلك كلُّه . وقال الثوري ، والشعبي ، وأبو حنيفة : لا يستحلف في الحدود ، والسَّرِقة . وقال نحوه مالك . قال : ولا يستحلف في السَّرِقة إلا إذا كان متَّهمًا ، ولا في الحدود ، والنكاح ، والطلاق ، والعتق ، إلا أن يقوم شاهدٌ واحد ، فيستحلف المدَّعَى عليه لقوة شبهة الدَّعوى .
واختَلَف قوله إذا نَكَلَ ؛ هل يحكم عليه بما ادّعى عليه ، أو يسجن حق يحلف ، أو حتى يطول سجنه . وفي كتاب الدارقطي من حديث عمرو بن شعبب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( إذا ادَّعت المرأة طلاق زوجها ، فجاءت على ذلك بشاهد عدلٍ ؛ استحلف زرجها ، فإن حلف بطلت شهادة الشاهد ، وإن نَكَلَ ؛ فنكوله بمنزلة شاهد آخر ، وجاز طلاقه )). وهذا الحديث نصٌّ في الباب ، لكنه يحتاج إلى قوائم وأطناب .
(16/67)
وقوله : (( البيَّنةُ على المدَّعِي )) ؛ هذا بيان حكم المدَّعِي ، وإن لم يتعرض لبيان حكم المدَّعَى عليه ، وهو تعيين اليمين عليه ، لكنه قد بيَّن ذلك في حديث الحضرمي ؛ الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمدَّعِي : (( شاهداك أو يمينه )) وقد تقدم في الأيمان . وقد ذكر أبو عمر بن عبدالبر من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( البيِّنَة على المدَّعِي ، واليمين على من أنكر ؛ إلا في القسامة )). وهذا الحديث وإن كان ضيف السند ؛ لأنه من حديث مسلم بن خالد الزنجي ، ولا يحتجُّ به ، فمعناه صحيح ، يشهد له قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( شاهداك أو يمينه )) ، وقول ابن عباس في الطريق الأخرى : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى باليمين على المدَّعَى عليه .
وقوله : (( إن رسول الله قضى بيمين وشاهد )) ؛ ظاهره : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم في قضية معيَّنة تُحُوكِمَ عنده فيها بيمين وشاهد . ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن تقعيد هذه القاعدة . فكأنه قال : أوجب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحكم باليمين والشاهد . ومِمَّا يشهد لهذا التأويل : ما زاده أبو داود في حديث ابن عباس : أن رسول الله قضى بشاهد ويمين في الحقوق . وهذا الذي يظهر من حديث أبي هريرة الذي قال فيه : قضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ باليمين مع الشاهد . فعلى الظاهر الأول من حديث مسلم لا يكون له عموم ؛ لأنَّها قضيَّة في عين ، وعلى زيادة أبي داود ، وظاهر حديث أبي هريرة يكون له عموم . ومع ذلك فهو مخصوصٌ بالأموال وما يتعلَّق بها .
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله : ذلك في الأموال وما يتعلَّق بها دون حقوق الأبدان للإجماع على ذلك من كلِّ قائل باليمين مع الشاهد . قال : لأن حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان ، بدلالة قبول شهادة النساء فيها . وقد اختلف قول مالك في جراح العمد. هل يجب القود فيها بالشاهد واليمين ؛ فيه روايتان :
أحداهما : أنه يجب به التخيير بين القود والدِّية .
(16/68)
والأخرى : أنَّه لا يجب به ؛ لأنَّه من حقوق الأبدان . قال : وهو الصحيح . قال مالك في "الموطأ" : وإنما يكون ذلك في الأموال خاصَّة . وقال الإمام أبو عبدالله : يُقبل ذلك في المال الْمَحْض من غير خلاف ، ولا يُقبل في النكاح والطلاق المحضين من غير خلاف . وإن كان مضون الشهادة ما ليس بمال ، ولكنه يُؤدي إلى المال كالشهادة ، والوضية ، والنكاح بعد الموت حتى لا يُطلب من ثبوتها إلا المال ، إلى غير ذلك ؛ ففي قبوله اختلاف . فمن راعى المال قبله ، كما يُقبل في المال . ومن راعى الحال لم يقبله .
قلت : والعذر لمالك عن خروجه عن ذلك الأصل المجمع عليه فيما كان المقصود منه المال فقط واضح . وإمَّا الجراح العمد فليست بمال ، ولا تؤدي إليه ، وإنما يدخل المال فيها برضا المجروح . ثم يلزمه عليه أن يعمل بالشاهد واليمين في قتل النفس العمد ؛ لأنَّه قد يرض بها الأولياء ولا قائل به ، ولا يلتفت لتفريق من فرَّق من أصحابنا بين الجراح والنفس ، بأن من جنس الجراح ما لا يكون فيه إلا المال ؛ لأنَّا كذلك نقول في القتل ، فإن من جنسه ما لا يكون فيه إلا المال ، وهو قتل الخطأ . فالصحيح من هذا : أنَّه لا يحكم بالشاهد واليمين في الجراح بوجه .
ثمَّ : أحاديث هذا الباب كلها حجَّة للجمهور على الكوفيين ، والأوزاعي ، والنَّخعي ، وابن أبي ليلى ، والزهري ، والليث ، والحكم ، والشعبي ، حيث نَفَوا الحكم بالشاهد واليمين ، ونقضوا حكم من حكم به ، وبدَّعوه ، وقال الحكم : الشاهد واليمين بدعة ، وأول من حكم به معاوية .
(16/69)
قلت : يا للعجب ! ولضيعة العلم والأدب ! كيف ردَّ هؤلاء القوم هذه الأحاديث مع صحتها ، وشهرتها ؟! وكيف اجترؤوا على تبديع من عمل بها حتى نقضوا حكمه ، واستقصروا علمه ، مع أنَّه قد عمل بذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وأبي بن كعب ، ومعاوية ، وشريح ، وعمر بن عبدالعزيز ، - وكتب به إلى عمَّاله - ، وإياس بن معاوية ، وأبو سلمة بن عبدالرحمن ، وأبو الزناد ، وربيعة . ولذلك قال مالك : وإنَّه ليكفي من ذلك ما مضى من السُّنة . أترى هؤلاء تنقض أحكامهم ، ويحكم ببدعتهم ؟!
قالوا : والذي حمل هؤلاء المانعين على هذا اللجاج ما اغترُّوا به من واهن الحِجَاج ، وذلك : أنَّهم وقع لهم : أن الحكم باليمين مع الشاهد زيادة على نصِّ قوله تعالى : { وأستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ، ووجه تمسُّكهم : أنها حاصرة للوجوه التي يستحق بها المال نصٌّ في ذلك ، والزيادة على ذلك نسخ . ونسخ القاطع بخبر الواحد لا يجوز إجماعًا ، والقضاء بالشاهد واليمين إنَّما جاء بخبر الواحد فلا يُقبل .
والجواب : منع كون الزيادة على النصِّ نسخًا ؛ إذ الجمع بين النصّ والزيادة يصحّ ، وليس ذلك نسخًا لحكم شرعي ، كما بيَّنَّاه في الأصول. سلَّمناه ، لكن لا نُسلِّم : أن الآية نصٌّ في حصر ذلك ؛ لأنَّ ذلك يبطل بنكول المطلوب ، ويمين الطالب ، فإن ذلك يستحق به المال إجماعًا . وهذا معنى ما أشار إليه مالك في "الموطأ" ، وهو واضح . ثمَّ نقول بموجب الآية ؛ إذ نصُّها الأمر بمن يستشهد في المعاملات ، لا ما يُقضي به عند الدَّعاوي والخصومات .
ومن باب حكم الحاكم في الظاهر لا يغير حكم الباطن
(16/70)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّما أنا بشرٌ )) ؛ تنبية على : أن أصل البشرية عدم العلم بالغيب ، وبما يخفى من البواطن ؛ إلا من أطلعه الله تعالى على شيء من ذلك ، وعلى جواز الغلط والسَّهو عليهم ؛ إلا من عصه الله من ذلك . وقد كان الله تعالى قادرًا أن يُطلع نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بواطن كل من تخاصم إليه ، فيحكم بخفي ذلك ويخبر به ، كما قد اتفق له في مواضع ، كقصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة ، وحديث فضالة بن عمير ، وذلك : أنه أراد قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يطوف بالبيت . قال : فلما دنوت منه قال : (( أفضالة ؟ )) قلت : نعم . قال : (( ما كنت تحدث به نفسك ؟ )) قلت : لا شيء ، فضحك ، وأخبرني بذلك ، واستغفر لي ، ووضع يده على صدري ، فسكن قلبي . وغير ذلك من الوقانع التي أخبر بها ، فوجدث كما أخبر . وكما قد اتفق ذلك للخضر في قصة السفينة ، والغلام ، والجدار ، لكن إنَّما كان ذلك للأنبياء من جملة كراماتهم ، ومعجزاتهم . ولم يجعل الله ذلك طريقًا عامًّا ، ولا قاعدة كليَّة ، لا لهم ، ولا لغيرهم ؛ لاستمرار العادة بأن ذلك لا يقع من غير الأنبياء ، ولأنَّ وقوع ذلك من الأنبياء نادرٌ . وتلك سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً . وقد شاهدت بعض الممخرقين ، وسمعنا منهم : أنهم يعرضون عن القواعد الشرعية ، ويحكمون بالخواطر القلبية ، ويقول : الشاهد المتصل بي أعدل من الشاهد المنفصل عني . وهذه مَخْرَقةٌ أبرزتها زندقة ، يقتل صاحبها ، ولا يستتاب من غير شكٍّ ولا ارتياب . وهذا خير البشر ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في مثل هذا الموطن : (( إنَّما أنا بشرٌ )) ؛ معترفًا بالقصور عن إدراك المغيبات ، وعاملاً بما نصبه الله تعالى له من اعتبار الأيمان والبينات.
وقوله : (( يأتيني الخصم )) ؛ أي : الخصوم. فهو هنا للجنس . ويقال للواحد ، وللاثنين ، والجمع ، والمذكَّر ، والمؤنث بلفظ واحد : خصم . كما قال تعالى : { وهل أتاك نبؤ الخصم } ؛ أي : الخصوم ، فإنَّه قال بعد ذلك : { إذ تسوروا المحراب}.
(16/71)
وقوله : (( ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجَّته من بعض )) ؛ أي : أفصح وأفطن . قال أبو زيد : لَحَنْتُ له - بالفتح - أَلْحَنُ لَحْنًا : إذا قلت له قولاً يفهمه عنك ، ويخفى على غيره . ولَحِنَهُ هو عَنِّي - بالكسر- يَلْحَنْهُ لَحْنًا ؛ أي : فَهِمَهُ . وأَلْحَنْتُه أنا إيَّاه ، ولاحَنْتُ النَّاس ؛ أي : خاطبتهم . قال الشاعر :
ولقد وصيت إليكم كي تفهموا ولحنت لحنًا ليس بالمرتاب
وقال غير أبي زيد : اللَّحن-بالتحريك- : الفِطْنَة.وقد لَحِنَ -بالكسر- قاله الجوهري .
قلت : وعلى هذا : يقال فيه بمعنى الفطنة : بفتح الماضي وكسره ، وفي المصدر : بفتح الحاء وإسكانها. ويقال : اللَّحن ، على الخطأ في القول ، وعلى تلحين الشعر ، وعلى القصد إلى الشيء ، والإشارة إليه .
قلت : وقد جاء هذا اللفظ مفسَّرًا في الرواية الأخرى ، فقال : (( فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض )) ؛ أي : أكثر بلاغة ، وإيضاحًا لحجَّته .
وقوله : (( فاقضي له على نحوٍ مما أسمع منه )) ، تمسَّك به من قال : إن الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء من الأشياء إلا بما يعلمه في مجلس حكمه. ووجه تمسُّكه : أن كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفضي إلى أنَّه لا يحكم إلا بما سمع في حال حكمه. وقد رُوي هذا الحرف : (( إنما أحكم بما أسمع )) ، و(( إنما )) للحصر . فكأنه قال : لا أحكم إلا بما أسمع .
(16/72)
وقد اختلف في هذا. فقال مالك في المشهور عنه : إن الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء . وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، والشعبي ، ورري عن شريح ، وذهبت طائفة : إلى أنَّه يقضي في كل شيء من الأموال والحدود وغير ذلك مطلقًا . وبه قال أبو ثور ومن تبعه ، وهو أحد قولي الشافعي . وذهبت طوائف إلى التفريق . فقالت طائفه : يقضي بما سمعه في مجلس قضائه خاصة ، لا قبله ، ولا في غيره ؛ إذا لم تحضر مجلسه بيِّنة ، وفي الأموال خاصة . وبه قال الأوزاعي ، وجماعة من أصحاب مالك ، وحكوه عنه . وقالت طائفة : يحكم بما سمعه في مجلس قضائه ، وفي غيره ، لا قبل قضائه ، ولا في غير مِصْرِه في الأموال خاصة ، وبه قال أبو حنيفة . وقالت طائفة : إنَّه يقضي بعلمه في الأموال خاصة سواء سمع ذلك في مجلس قضائه وفي غيره ، قبل ولايته أو بعدها. وبه قال أبو يوسف ، ومحمد. وهو أحد قولي الشافعي . وذهب بعض أصحابنا : إلى أنَّه يقضي بعلمه في الأموال ، والقذف خاصة ، ولم يشترط مجلس القضاء . واتفقوا : على أنَّه يحكم بعلمه في الجرح والتعديل ؛ لأنَّ ذلك ضروري في حقِّه .
(16/73)
والصحيح : الأول ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث هلال بن أمية ، لَمَّا لاعن زوجته : (( أبصروه ، فإن جاءت به - يعني : الولد - على نعت كذا ؛ فهو لهلال ، وإن جاءت به على نعت كذا ؛ فهو لشريك )). فجاءت به على النعت المكروه . وقال : (( لو كنت راجمًا بغير بيِّنة لرجمت هذه ، فلم يحكم بعلمه ، لعدم قيام البينه . وعند المخالف : يجب أن يرجمها إذا علم ذلك . قاله عبد الوهاب . فهذا ظاهرٌ قوي في الحدود . وإمَّا في غيرها فيدلّ عليه حديث خزيمة ، حيث اشترى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أعرابي بعيرًا ، فمشى معه ليعطيه ثمنه ، فعرض للأعرابي من زاده في الثمن ، فأراد أن يبيعه ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قد بعته مني )) ، فأنكر الأعرابي وقال : من يشهد لك ؟ فاستدعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يشهد ، فشهد خزيمة . فهذا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحكم بعلمه حتى قامت الشهادة . ولا ينفصل عن هذا بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل هذا لأن الحق كان له ، ولا يشهد أحدٌ لنفسه ، ولا يحكم لها ، ولأنَّه لا يُعطَى أحد بدعواه ، ولأنه لا قصد قطع حجَّة الأعرابي لما طلب منه الشهادة ؛ لأنَّا نقول : إنَّما اعتبر ذلك كلَّه في حق غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإمكان ادِّعاء الباطل والكذب ، وإرادة أخذ مال الغير ، ودفعه عن حقِّه. وكل ذلك معدومٌ في حق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطعًا . ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمناففين : ((أَيَأْمَنُنِي الله تعالى على خزائنه ولا تأمنوني ، والله إني لأمين من في السماء )).
وإمَّا قوله : إنما فعله لقطع حجَّة الخصم . فإنَّه باطل ؛ إذ لا حجَّة له ، ولا لغيره ، على خلاف ما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فإن هذا الأعرابي إن كان مسلمًا ؛ فقد علم صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وإن كان كافرًا ؛ فلا مبالاة بقوله ؛ إذ قد قام دليل على صدقه ، وعلمه العقلاء ، كما لم يُبال بقول من كذَّبه من الكُفَّار ، ولا بقول الذي اتهمه في القسمة ؛ حيث قال : يا محمد ! اعدل ، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله .
(16/74)
ومن أوضح ما يدلّ على المطلوب ، وأصحُّهُ حديث أبي جهم ؛ حيث بعثه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مصدِّقًا ، فلاحاه رجلان ، فشجَّهما ، فأتيا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطلبان القصاص ، فبذل لهما مالاً ، فرضيا به ، فقال : (( إني أخطُبُ الناس ، وأذْكُرُ لهم ذلك ، أفرضيتما ؟ )) قالا : نعم . فخطب الناس ثم قال : (( أرضيتما ؟ )) قالا : لا . فهمَّ بهما المهاجرون والأنصار ، فمنعهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثمَّ نزل فزادهما ، فرضيا ، ثم صعد المنبر فقال : ((أرضيتما ؟ )) فقالا : نعم .
وموضع الحجَّة : أنَّه لم يحكم عليهما بعلمه لما جحدا . وهو المطلوب. ذكره أبو داود من حديث عائشة . وهو صحيح . وذكر : أن المشجوج إنَّما كان رجلاً واحدًا ، وقد ذكر غيره : أنهما كانا اثنين . وحاصل هذا : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحكم بعلمه تعليمًا لأمته ، وسعيًا في سدِّ باب التُّهم ، والظنون . والله تعالى أعلم .
وقوله في الرواية الأخرى : (( فأحسب أنَّه صادق )) ؛ دليل على العمل بالظنون وبناء الأحكام عليها . وهو أمرٌ لم يختلف فيه في حق الحاكم والمفتي .
وقوله : (( فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه )) ؛ نصٌّ في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغيِّر حكم الباطن . وسواء كان ذلك في الدِّماء ، والأموال ، والفروج . وهو قول الكافة ، إلا ما حكي عن أبي حنيفة من أن حكم الحاكم يغير حكم الباطن في الفروج خاصة . وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته ، وحكم الحاكم بشهادتهما ، فإن فرجها يحل لمتزوجها ممن يعلم : أن القضيِّة باطل ، وقد شنع عليه بإعراضه عن الحديث الصحيح الصريح ، وبأنه صان الأموال ، ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة في الباطن ، ولم يصن الفروج عن ذلك . والفروج أحق أن يحتاط لها وتصان .
وقوله : (( فإنَّما أقطع له قطعة من النار )) ؛ أي : ما يأخذه بغير حقه سببٌ يوصل آخذه إلى النَّار . وهو تمثيل يفهم منه شدة العذاب والتنكيل.
(16/75)
وقوله : (( فليحملها أو يذرها )) ؛ لفظه : لفظ الأمر ، ومعناه : التهديد ، والوعيد .
وقول هند : (( يا رسول الله ! والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباءٍ )) ؛ أي : أهل بيت ، كما قد جاء مفسَّرًا في بعض طرقه ، وسُمِّي البيت : خباءً ؛ لأنَّه يخبَّأ ما فيه . والخباء في الأصل : مصدر . تقول : خبأتُ الشيء خَبَاءً ، وخِبَاءً . ووصف هند في هذا الحديث حالها في الكفر ، وما كانت عليه من بغض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبغض أهل بيته ، وما آلت إليه حالها لما أسلمت ، تذكر لنعمة الله تعالى عليها بما أنقذها الله منه ، وبما أوصلها إليه ، وتعظيم لحرمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولتنبسط فيما تريد أن تسأل عنه ، ولتزول آلام القلوب لما كان منها يوم أحد في شأن حمزة وغير ذلك .
وقولها : (( إن أبا سفيان رجل ممسك )) ، وفي أخرى : (( مسيك )). وكلاهما بمعنى : شحيح ، كما جاء في الرواية الأخرى . ولم ترد : أنه شحيح مطلقًا ، فتذمُّه بذلك ؛ وإنما وصفت حاله معها ، فإنَّه كان يقتر عليها ، وعلى أولادها ، كما قالت : (( لا يعطيني وبني ما يكفيني )) ، وهذا لا يدلّ على البخل مطلقًا ، فقد يفعل الإنسان مع أهل بيته ، لأنه يرى غيرهم أحوج ، وأولى ليعطي غيرهم . وعلى هذا : فلا يجوز أن يُستدل بهذا الحديث على أن أبا سفيان كان بخيلاً ، فإنه لم يكن معروفًا بهذا .
و (( مسيك )) : يروى بفتح الميم ، وكسر الشين ، وتخفيفها. وبكسر الميم ، وتشديد الشين مكسورة . وكلاهما للمبالغة. الأول : كعليم ، وكبير . والثاني : كسكِّير ، وخِمِّير .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهندٍ : (( وأيضًا ؛ والذي نفسي بيده )) ؛ أي : سيتمكَّن الإيمان من قلبك ، ويزيد حبُّك لله ولرسوله ، ويقوى رجوعك عن بغضه. وأصل (( أيضًا )) : أنه مصدر : آضَ إلى كذا ، يَئِيضُ ، أيضًا ، أي : رجع رجوعًا .
(16/76)
وقوله : (( خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ، ويكفي بنيك )) ، هذا الأمر على جهة الإباحة ؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى : (( لا جناح عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف )). ويعني بالمعروف : القدر الذي عرف بالعادة أنه كفاية ، وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظًا في مقيدة معنى ، فكأنه قال : إن صحَّ أو ثبت ما ذكرت فخذي .
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه :
فمنها : وجوب نفقة الزوجة والأولاد على أبيهم ، وإن لأمهم طلب ذلك عند الحاكم ، وسماع الدعوى على النائب ، والحكم عليه ، وإن كان قريب الغَيْبَة ؛ إذا دعت حاجة الوقت إلى ذلك. وهو قول الجمهور. وقال الكوفيون : لا يقضي عليه بشيء .
وفيه دليل : على أن النفقة ليست مقدَّرة بمقدار مخصوص ؛ وإنما ذلك بحسب الكفاية المعتادة ، خلافًا لمن ذهب : إلى أنَّها مقدَّرة .
وفيه دليل : على اعتبار العرف في الأحكام الشرعية خلافًا للشافعية وغيرهم من المنكرين له لفظًا ، الآخذين به عملاً . وقد استنبط البخاري منه : جواز حكم الحاكم بعلمه فيما اشتهر وعرف . فقال : باب حكم الحاكم بعلمه إذا لم يخف الظنون والتُّهم ، وكان أمرًا مشهورًا ، وقد تقدم.
وفيه دليل : على أن من تعذرعليه أخذ حقَّة من غريمه ، ووصل من مال الغريم إلى شيء ؛ كان له أخذه بأي وجه توصل إليه . واختلف فيما إذا ائتمنه الغريم ، على مال فهل يأخذ منه حقَّه أم لا ؟ على قولين . حكاهما الداودي عن مالك . ومشهور مذهبه المنع . وبه قال أبو حنيفة تمسُّكًا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك )) ، وإلى الإجازة ذهب الشافعي ، وابن المنذر ، بناءً على أن ذلك ليس بخيانة ، وإنَّما هو وصول إلى حقٍ .
(16/77)
وفيه دليل : على أن المرأة لا يجوز لها أن تأخذ من مال زوجها شيئًا بغير إذنه ، قَلَّ ذلك ، أو كَثُرَ . وهذا لا يختلف فيه . ألا ترى : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لهند في الرواية الأخرى - لما قالت له : فهل عليّ جناحٌ أن أطعم من الذي له عيالنا ؟- قال لها : (( لا )) ، ثم استثنى فقال : (( إلا بالمعروف )). فمنعها من أن تأخذ من ماله شيئًا إلا القدر الذي يجب لها.
ومن باب الاعتصام بحبل الله
قوله : (( إن الله يرضى لكم ثلاثًا )) ؛ أي : شرع هذه الثلاثة ، وأمر بها ، وجعلها سببًا لكل ما عنده من الكرامة في الدنيا والآخرة .
وقوله : (( ويكره لكم ثلاثًا )) ، وفي الرواية الأخرى : (( سخط )) ؛ أي : نهى عنها وحرَّمها ، وجعلها سبب إهانته ، وعقوبته في الدنيا والآخرة . وهذا كما قاله تعالى : { ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } ، هذا أولى مما قيل فيه . وقد تقدم القول على الرضا والسَّخط ، وعلى العبادة والشرك في الإيمان .
وقوله : (( وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا )) الاعتصام بالشيء : هو التمسُّك به ، والتحرز بسببه من الآفات . وأصل العصمة : المنع . تقول العرب : عصم فلانًا الطعام ؛ أي : منعه من الجوع ، وكنُّوا السَّويق بأبي عاصم لذلك ، فالمعتصم بالشيء يمتنع به من أسباب الهلاك والشدائد .
و (( حبل الله )) هنا : شَرْعُهُ الذي شَرَعَهُ ، ودينه الذي ارتضاه . قال قتادة : هو القرآن . وهو بمعنى القول الأول . والحبل ينصرف على وجوه :
منها : العهد والوصل ، وما يُنْجَى به من المخاوف .
ومنها : الأمان . وكلُّها متقارية المعنى ؛ لأنَّ الحبل في الأصل : واحد الحبال التي تُرْبَط بها الآلات ، وتجمع بها المتفرقات ، ثمَّ استعير لكل ما يعول عليه ، ويتمسك به ، ثمَّ كثر استعماله في العهد ونحوه . ومعى هذا : أن الله تعالى أوجب علينا التمسُّك بكتابه ، وسُنَّه نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والرجرع إليهما عند الاختلاف .
(16/78)
وقوله : (( ولا تفرَّقوا )) ؛ أي : اجتمعوا على الاعتصام بالكتاب والسُّنة اعتقادًا ، وعملاً ، فمثمق كلمتكم ، وينتظم شتاتكم ، فتَتمُّ لكم مصالح الدنيا والدِّين ، وتسلمون من الاختلاف والافتراق الذى حصل لأهل الكتابين .
وفيه دليلٌ : على صحة الإجماع كما بيَّنَّاه في أصول الفقه .
وقوله : (( وكره لكم : قيل وقال )) ؛ كلاهما مبنيٌّ على الفتح ، فِعْل ماضٍ . هكذا الرواية التي لا يُعرف غيرها . ومعناه : أن الله تعالى حرَّم الخوض في الباطل ، وفيما لا يعني من الأقوال ، وحكايات أحوال الناس التي لا يسلم فاعلها من الغيبة ، والنميمة ، والبهتان ، والكذب . و(( من كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه كانت النار أولى به )).
قال القاضي عياض : (( قيل )) منصوبة ، فعل ما لم يسم فاعله. و((قال)) : فعل ماض أيضًا . ويصحُّ أن يكونا اسمين ، ويكونا مخفوضين . يعني : على رواية من رواه : (( نهى عن قيل وقال )).
قلت : هكذت وجدنا هذا الكلام في "الإكمال" ، وهو كلام مُخْتلٌّ لأنهما لو كانا اسمين لَنُوِّنا ؛ إذ لا مانع لهما من الصرف ، ولكانا منصوبين نكرة ؛ ولا موجب لِخَفْضهما ، وأظنُّ أن هذا خللٌ وقع من بعض النُّسَّاخ . ثم قال بعد هذا : والقيل ، والقال ، والقول : كلُّه بمعنى ، وكذلك القالة . وهذا كلُّه صحيحٌ ؛ فإن مصدر (( قال )) يقال فيه ذلك كلُّه . لكن لا يصلح شيء منه هنا ، فإنَّ الرواية كما أخبرتك.
وقوله : (( وكثرة السؤال )) ؛ يحتمل أوجهًا :
أحدها : أن يريد به كثرة سؤال الناس الأموال ، والحوائج إلحاحًا ، واستكثارًا .
وثانيها : أن يكثر من المسائل الفقهية تنطُّعًا وتكلُّفًا فيما لم ينزل . وقد كان السَّلف يكرهون ذلك ، ويرونه من التكلُّف . وقال مالك في هذا الحديث : لا أدري أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل ، فقد كره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسائل وعابها ، أو هو : مسألة الناس أموالهم .
(16/79)
وثالثها : أن يكثر من السؤال عمَّا لا يعنيه من أحوال النَّاس ، بحيث يُؤدِي ذلك إلى كشف عوراتهم ، والإطلاع على مساوئهم .
قلت : والوجه : حمل الحديث على عمومه ، فيتناول جميع تلك الوجوه كلِّها .
(( وإضاعة المال )) هي : إتلافه وإهلاكه ، كما قد حكي عن بعض جُهَّال المتزهدة : أنَّه رمى مالاً كان عنده . وحرَّق آخر منهم كتب علم الحديث كانت عنده . وربما أمر بهذا بعض الشيوخ الْجُهَّال . وهذا محرَّم بإجماع الفقهاء . ويلحق بإتلاف عينه منع صرفه في وجوهه من مصالح دنياه ودينه ، كما يفعله أهل البُّخل ، ودناءة الهمم ؛ يدَّخرون المال ، ويكثرونه ، ولا ينفعون نفوسهم بإنفاق شيء منه ، ولا يصونون به وجوههم ، ولا أديانهم . فهذا الصنف هو المحروم الخاسر ؛ الذي قال فيه الشاعر :
رزقت مالاً ولم ترزق منافعه إنَّ الشقيَّ هو المحروم ما رُزِقا
وأشدُّ من هذا كلِّه قبحًا وإثْمًا من يتلف ماله في معاصي الله تعالى ، فيستعين بمال الله على معاصيه ، ويخرجه في شهواته المحرمة ، ولا يباليه ، ويدخل في عموم النهي عن إضاعة المال القليل منه والكثير ، لأن المال هنا : هو كلُّ ما يُتَمَوَّل ؛ أي : يُتَملَّك ؛ حتى لو رمى بثمن درهم في البحر مثلاً لكان ذلك محرمًا . وكذلك لو منعه من صرفه في وجهه الواجب ، وكذلك لو أنفقه في معصية. ولا خلاف في هذا إن شاء الله.
وقوله : (( وحرَّم عليكم عقوق الأمهات )) ؛ العقوق : مصدر عق ، يعق ، عقوقًا ؛ أي : قطع وشقَّ . فكأنَّ العاقَّ لوالديه يقطع ما أمره الله تعالى به من صلتهما ، ويشق عصا طاعتهما . ولا خلاف أن عقوقهما من أكبر الكبائر. وخصَّ الأمهات هنا بالذِّكر لتأكيد حرمتهن على الآباء ؛ لأنَّ الأثم لها ثلاثة أرباع البرِّ ، كما قد بيَّنَّا وجه ذلك في الأيمان.
و (( وأد البنات )) : هو دفنهن أحيا" كما كانت الجاهلية تفعل بهن . وقد بيَّنَّا ذلك فيما تقدم .
(16/80)
وقوله : (( ومنعًا وهات )) ، وفي الرواية الأخرى : (( ولا وهات )) ؛ ومعناهما واحد ، وهو أن يمنع ما يجب عليه بذله ، أو يطلب شيئًا يحرم عليه طلبه . هذا إن حملنا (( كره )) على معنى : (( حرَّم )) ، كما قد بيَّنَّاه ، حيث فَسَّر (( كره )) : بمعنى : (( سخط )). وعدل عن لفظ هذا الحديث عن لفظ (( حرَّم )) الذي ذكره قبل هذا اللفظ ؛ لأنَّ تلك الأمور التي قرن بها لفظ (( حرم )) أفحش وأكبر من هذه الأمور التي قرن بها لفظ (( كره )). وقد قيل : إن الكراهة هنا من باب التنزيه . وفيه بُعْدٌ لما بيَّنَّاه في إضاعة المال. والله أعلم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر )) ؛ كذا وقع هذا اللفظ في كتاب مسلم : (( إذا حكم فاجتهد )). فبدأ بالحكم قبل الاجتهاد ، والأمر بالعكس ، فإنَّ الاجتهاد مقدَّمٌ على الحكم ؛ إذ لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع . ووجهُ مساق هذا اللفظ : أن قوله : (( إذا حكم )) ؛ معناه : إذا أراد أن يحكم ، فعند ذلك يجتهد في النازلة ، ويفيد هذا صحة ما قاله الأصوليون : إن المجتهد يجب عليه أن يجدد النَّظر عند وقوع النازلة ، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم ، لإمكان أن يظهر له ثانيًا خلاف ما ظهر له أولاً . اللهم إلا أن يكون ذاكرًا لأركان اجتهاده ، مائلاً إليه ، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في إمارة أخرى .
(16/81)
وقوله : (( فأصاب )) ؛ أي : حكم فأصاب وجه الحكم . وهو أن يحكم بالحق لمستحقه في نفس الأمر عند الله تعالى . فهذا يكون له أجرٌ بحسب اجتهاده ، وأجر بسبب إصابة ما هو المقصود لنفسه . والخطأ الذي يناقض هذا هو : أن يجتهد في حجج الخصمين ، فيظن : أن الحق لأحدهما ، وذلك بحسب ما سمع من كلامه وحجَّته ، فيقضي له ، وليس كذلك عند الله تعالى . فهذا له أجر اجتهاده خاصَّة ؛ إذ لا إصابة . وهذا المعنى هو الذي أراده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( فلعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على حسب ما أسمع )) ، وفي الأخرى : (( فأحسب : أنَّه صادق ، فاقضي له )). وهذا في الحاكم بين الخصوم واضحٌ ؛ لأن هنالك حقًّا معيَّنا عند الله تعالى تنازعه الخصمان ، لأن أحد الخصمين مبطل قطعًا ؛ لأنَّهما تقاسما الصدق والكذب ، فمتى صدق أحدهما كذب الآجر . والحاكم إنما يجتهد في تعيين الحق ، فقد يصيبه وقد يخطئه . وعلى هذا : فلا ينبغي أن يختلف هنا في أنَّ المصيب واحدٌ ، وأنَّ الحق في طرف واحد . وإنَّما ينبغي أن يختصَّ الخلاف بالمجتهد في استخراج الأحكام من أدلَّة الشريعة بناءً على الخلاف في أن النوازل غير المنصوص عليها ؛ هل لله تعالى فيها أحكام معيَّنة أم لا ؟ وللمسألة غَورٌ ، وفيها أبحاث استوفيناها في كتابنا في الأصول .
(16/82)
وأعظم فوائد هذا الحديث : أن الحاكم لا بدَّ أن يكون من أهل الاجتهاد ، فإذا اجتهد وحكم فلا بدَّ له من الأجر ؛ فإمَّا ضعفان مع الإصابة ، وإمَّا ضعف واحد مع الخطأ . فأمَّا لو كان جاهلاً ، أو مقصرًا في اجتهاده فهو عاصٍ آثمٌ في كل ما يحكم به . أمَّا الجاهل : فلعدم أهليته. وأمَّا المقصِّر : فلعدم استيفاء شرطه . وكلاهما حَكَمَ بغير حكم الله ، بل بالباطل ، والاختلاق على الله . وقد دلَّ على هذا أيضًا ما خرَّجه النسائي من حديث بريدة ، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((القضاة ثلاثة : اثنان في النار ، وواحد في الجنة . رجل عرف الحق فقضى به ، فهو في الجنَّة . ورجل عرف الحق فلم يقضِ به ، وجار في الحكم ، فهو في النار . ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل ، فهو في النار )).
فإذا تقرَّر ذلك فاعلم : أنَّ المجتهد ضربان :
أحدهما : المجتهد المطلق ، وهو : المستقل باستنباط الأحكام من أدلَّتها . فهذا لا شكَّ في أنَّه إذا اجتهد مأجور ، كما قدمناه ، لكنه يُعزُّ وجوده ، بل قد انعدم في هذه الأزمان . فلو لم ينفذ إلا حكم من كان كذلك لتعطلت الأحكام ، وضاعت الحقوق .
وثانيهما : مجتهد في مذهب إمام . وهذا غالب قضاة العدل في هذا الزمان . وشرط هذا أن يحقق أصول إمامه ، وأدلَّته ، وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصًا من مذهب إمامه . وإمَّا ما وجده منصوصًا : فإن لم يختلف قول إمامه ؛ عمل على ذلك النَّصَّ ، وقد كُفِي مؤنة البحث . والأولى به : تَعَرَّفُ وجه ذلك الحكم . وأما إن اختلف قول إمامه : فهناك يجب عليه البحث في تعيين الأولى من القولين على أصول إمامه .
(16/83)
واختلف أصحابنا فيمن يحفظ أقوال إمامه فقط . هل يصلح للحكم عند الضرورة أو لا ؟ على قولين ؟ فمن أجازه شرط فيه : أنَّه لا يخرج عن نصوص إمامه ، أو نصوص من فهم عن إمامه ، فإذا تعارضت عنده الأقوال لم يحكم بشيء منها أصلاً حتى يسأل عن الأرجح من له أهلية الترجيح . ولا يحكم بنظره أصلاً ؛ إذ لا نظر له . ومتى فعل شيئًا من ذلك كان حكمه منقوضًا ، وقوله مردودًا . وقد كان أهل الأندلس يرجحون الأقوال بالناقلين لها من غير نظر في توجيه شيء منها. فيقولون : إن قول ابن القاسم ونقله أولى من نقل غيره وقوله ، بناءً على أن ابن القاسم اقتصر على مالك ، ولم يتفقَّه بغيره ، ولطول ملازمته له . فإن لم نجده لابن القاسم قولاً كان قول أشهب أولى من قول ابن عبدالحكم ؛ لأنَّه أخذ عن الشافعي ، فخلَّط ، وهكذا . وقد بلغني : أنهم كانوا بالأندلس يشترطون على القضاة في سجلاتهم مراعاة ذلك الترتيب .
قلت : وهذه رتبة لا أخسَّ منها ؛ إذ صاحبها معزولٌ عن رتبة الفقهاء ، ومنخرط في زمرة الأغبياء ؛ إذ لا يفهم معاني الأقوال ، ولا يعرف فضل ما بين الحلال والحرام ، فحق هذا ألا يتعاطى منصب الأحكام ، فإنَّه من جملة العوام . والمشهور : أنَّه لا يُسْتَقْضَى من عَرِي عن الاجتهاد المذكور ، ولذلك قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : ولا يُستقضى إلا فقيه من أهل الاجتهاد . وهذا محمولٌ على ما تقدم ، والله تعالى أعلم .
والإجتهاد المعني في هذا الباب هو : بذل الوسع في طلب الحكم الشرعي في النوازل على ما قلناه .
ومن باب لا يقضي القاضي وهو على حال تشوش عليه فكره
(16/84)
قوله : (( لا يحكم أحدٌ بين اثنين وهو غضبان )) ؛ إنَّما كان الغضب مانعًا من الحكم ؛ لأنَّه يشوِّش على الحاكم فكره ، ويخلُّ بفهمه ، فيجب أن يُلحق به ما في معناه ، كالجوع ، والألم ، والخوف ، وما أشبه ذلك . وذلك بطريق الأولى ، كالخوف ، والمرض ، فإنهما أولى بذلك من الغضب . وإما بطريق توسيع المناط ، وذلك أن تَحذِف خصوصية ذكر الغضب ، وتُعدِّيه إلى ما في معناه. وهذا النوع من القياس من أجلَى أنواعه ، ولذلك قال به جماعة الفقهاء ، وكثير من نفاة القياس . وقد استوفينا ذلك في الأصول ، ولا يعارض هذا الحديث بحكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للزبير بإمساك الماء إلى أن يبلغ الجدُر . وقد غضب من قول الأنصاري : أن كان ابن عمتك ؟! لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم من الهوى ، والباطل ، والخطأ في غضبه ، ورضاه ، وصحته ، ومرضه . ولذلك قال : (( اكتبوا عني في الغضب والرضا )). ولذلك نفذت أحكامه ، وعمل بحديثه الصادر منه في حال شدَّة مرضه ونزعه ، كما نفذ ذلك في حال صحته ونشاطه .
وقوله : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ )) ؛ أي : من اخترع في الشرع ما لا يشهد له أصل من أصوله فهو مفسوخ ، لا يعمل به ، ولا يلتفت إليه ؛ وفيه حجَّة : على أن النهي يدلُّ على الفساد . وهو قول جمهور الفقهاء . وذهب بعض أصحابنا ، وأكثر المتكلمين : إلى أنه لا يدل على الفساد ، وإنما مدلوله المنع من إدخال المنهي عنه في الوجود فقط . وأما حكمه إذا وقع من فساد أو صحة : فالنَّهي لا يدلُّ عليه ، وينظر دليل ذلك من خارج النَّهي .
وقد اختلف حال المنهيات في الشرع ؛ فبعضها يصحُّ إذا وقع ، كالطلاق في الحيض . وبعضها لا يصحُّ ، كبيع الملاقيح والمضامين. وبعضها يختلف فيه أصحابنا والفقهاء ، كالبيع وقت النداء . وللمسألة غَوْرٌ . وقد بيَّنَّاه في الأصول .
(16/85)
وفتيا القاسم بن محمد فيمن له مساكن ، فأوصى بثلث كل مسكن منها ، بأنَّه : يجمع ذلك كلُّه في مسكن واحد . فيه إشكال ؛ إذ هي مخالفة لما أوصى به الموصي . والأصل اتِّباع أقواله والعمل بظاهرها ؛ فإنَّه كالمشرع . ففتيا القاسم ليس على ظاهرها ، وإنما هي محمولة على ما إذا أراد أحد الفريقين من الورثة ، أو الموصى لهم القسمة ، وتمييز حقه ، وكانت المساكن متقاربة ، بحيث يضم بعضها إلى بعض في القسمة ، فحينئذ تقوَّم تلك المساكن قيمة التعديل ، وتقسم بينهم ، فيجمع نصيب الموصى لهم في موضع واحد يشتركون فيه بحسب وصاياهم ، ويبقى نصيب الورثة فيما عدا ذلك ، بحسب مواريثهم .
فإن قيل : فقد استحالت الوصية عن أصلها .
فالجواب : أن ذلك بحسب ما أدَّت إليه سُنَّه القسمة عند الدُّعاء إليها ، فإن الموصي لو أوصى بثلت كل مسكن ، ومنع من القَسْم لم يلتفت إلى منعه ، وكان ذلك المنع مردودًا . وهو الذي استدلَّ على ردِّه القاسم بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ )) ؛ فلو لم يطلب أحدٌ من الفريقين تسمة ، أو كانت المساكن لا يُضمُّ بعضها إلى بعض لبعدها ، وتباين اختلافها بقي كلُّ واحد منهم على نصيبه حسب ما وُصِّي له به . وهذا كلُّه مذهب مالك .
وقوله : (( ألا أخبركم بخير الشهداء )) ؛ الشهداء : جمع شهيد ، كظرفاء : جمع ظريف ، ويجمع أيضًا على : شهود ، لكنه جمع شاهد ، كحضور جمع حاضر ، وخروج جمع خارج . ويعني بخير الشهداء : أكملهم في رتبة الشهادة ، وأكثرهم ثوابًا عند الله تعالى .
(16/86)
وقوله : (( الذي يأتي بشهادته قبل أن يًسأَلَها )) ؛ يعني به الشهادة التي يجب في أداؤها ، وإن لم يَسْاَلَها ؛ كشهادة بحق لم يحضر مستحقه ، أو بشيء يخاف ضياعه ، أو فوته ، أو بطلاق ، أو عتق على من أقام على تصرُّفه من الاستمتاع بالزوجة ، واستخدام العبد ، إلى غير ذلك ، فيجب على من تحمَّل شيئًا من ذلك أداء تلك الشهادة ، ولا يقف أداؤها على أن تُسْأَلَ منه ، فيضيع الحق ، وقد قال تعالى : { وأقيموأ الشهادة لله } ، ولا يعارض هذا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيح : (( ثم يأتي من بعد ذلك قوم يشهدون ولا يُستشهدون )) ؛ لأن هذا محمولٌ على أحد وجهين :
أحدهما : أنه يراد به : شاهد الزرر ؛ فإنَّه يشهد بما لم يشهد ؛ أي : بما لم يحمله .
والثاني : أن يراد به الذى يحمله الشَّرَهُ على تنفيذ ما يشهد به فيبادر بالشهادة قبل أن يُسْأَلَها . فهذه شهادة مردودة ، فإن ذلك يدلُّ على هوى غالب على الشاهد . ولا خلاف عندنا في هذا إن شاء الله تعالى . وما ذكرناه أحسن ما حمل عليه هذا الحديث .
وقد روي عن النَّخعي : أنَّه قال : المراد بالشهادة في هذا الحديث : اليمين . واستدلَّ عليه بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بقيَّة الحديث : (( تسبق يمين أحدهم شهادته ، وشهادته يمينه )) ، وفيه نظر. وسيأتي إن شاء الله تعالى .
فرع : لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادة على أحد الأوجه التي ذكرناها فلم يؤدها أنَّها جُرْحَةٌ ، في الشَّاهد والشهادة . ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين . هذا قول ابن القاسم وغيره. وذهب بعضهم : إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جُرْحَةٌ في تلك الشهادة نفسها خاصة ، فلا يصلح له أداؤها بعد ذلك .
قلت : وهذا ليس بشيء ؛ لأنَّ الذي يوجب جرحته : إنما هو فسقه بامتناعه من القيام بما وجب عليه من غير عُذْرٍ . والفسق يسلب أهلية الشهادة مطلقًا . وهذا واضح .
ومن باب تسويغ الاجتهاد(16/87)
قوله : (( نادى فينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ أي : أمر من بنادي فنادى ، فنسب النداء إليه ؛ لأنَّه أمر به .
وقوله : (( ألا لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة )) ؛ كان هذا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما هزم الله تعالى الأحزاب ، ورجع هو وأصحابه إلى المدينة ، فألقوا السِّلاح ، فجاءه جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له : ألقيت السِّلاح ؛ ولا والله ما ألقت الملائكة السِّلاح ، فاخرخ إلى بني قريظة فإني منطلق إليهم ، ومزلزلٌ بهم حصونهم . فحينئذ نادى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك النداء ، فأخذ قومٌ من أصحابه بظاهر الأمر ، وقالوا : لا نُصلِّي إلا حيث أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن فاتنا الوقت . ونظر آخررن إلى المعنى ، فقالوا : إن المقصود من ذلك الأمر الاستعجال ، فصلُّوا قبل أن يَصِلُوا إلى بني قريظة . وعجَّلوا السَّير ، فجمعوا بين المقصودين ، فاقرَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ر كلاًّ منهم على ما ظهر له من اجتهاده ، فكان فيه حجَّة لمن يقول : إنَّ كلَّ مجتهد مصيبٌ ؛ إذ لو كان أحد الفريقين مخطئًا لعيَّنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ويمكن أن يقال : لعله إنما سكت عن تعيين المخطيء ؛ لأنَّه غير إثم ، بل مأجور ، فاستغنى عن تعيينه ، والله أعلم .
ومن باب اختلاف المجتهدين بالحكم لا ينكر
(16/88)
وقوله : (( فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى )) ؛ قد أشكل هذا على كثير من الشارحين ، حتى قال بعضهم : إن هذا لم يكن من داود حكمًا ، وإنَّما كان فتيا . وهذا فاسدٌ لنصِّه ؛ على أنه قضى ، ولأن فتيا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكمه سواء ؛ إذ يجب تنفيذ ذلك . وقالت طائفة أخرى : إن ذلك كان من شرع داود أن يحكم به للكبرى ؛ يعني : من حيث هي كبرى . وهذا أيضًا فاسدٌ ؛ لأنَّ اللفظ ليس نصًّا في ذلك ، ولأن الكُبْر والصغر طَرْدٌ محض عند الدعاوى ، كالطول والقصر ، والسّواد والبياض ؛ إذ لا يوجب شيء من ذلك ترجيح أحد المتداعيين ، حتى يحكم له ، أو عليه لأجل ذلك ، وهذا مما يقطع به من فهم ما جاءت به الشرائع ، كما بيَّنَّاه في الأصول ، والذي ينبغي أن يقال : إن داود ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما حكم به للكبرى لسبب اقتضى عنده ترجيح قولها ، ولم يذكر في الحديث تعيِّينه ؛ إذ لم تَدْعُ حاجةٌ إليه ، فيمكن أن يقال : إن الولد كان في يد الكبرى ، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البيِّنة ، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان . وهذا تأويل حسن لا يمنعه اللفظ ، وتشهد له قاعدة الدعاوي الشرعية التي يبعد اختلاف الشرائع فيها. فإن قيل : فإن كان داود ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى بسبب شرعي ، فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه ؟!
(16/89)
فالجواب : أن سليمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتعرَّض لحكم أبيه بالنقض ، وإنَّما احتال حيلة لطيفة ، ظهر له بسببها صدق الصغرى . وهي : أنَّه لَمَّا قال : هات السكين أشقه بينهما ، فقالت الصغرى : لا . ظهر له من قرينة الشفقة في الصغرى ، وعدم ذلك في الكبرى ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن ما حصل له العلم بصدقها فحكم لها . ولعله كان ممن سُوِّغ له أن يحكم بعلمه ، ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عندما رأت من سليمان الجزم والجِدّ في ذلك ، فقضى بالولد للصغرى . ويكون هذا كما إذا حكم الحاكم باليمين ، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره ، فإنَّه يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين ، وبعدها ، ولا يكون هذا من باب نقض الحكم الأول ، ولكن من باب : تبدل الأحكام بحسب تبدل الأسباب . والله أعلم .
وفي هذا الحديث : أن الأنبياء عليهم السلام سُوِّغ لهم الحكم بالإجتهاد ، وهو مذهب المحققين من الأصوليين ، ولا يُلتفت لقول من يقول : إن الاجتهاد إنما سُوِّغ عند فقد النَّصِّ ، والأنبياء عليهم السلام لا يفقدون النصّ ، فإنَّهم مُتَمِكِّنون من استطلاع الوحي وانتظاره ؛ لأنَّا نقول : إذا لم يأتهم الوحي في الواقعة صاروا كغيرهم في البحث عن معاني النصوص التي عندهم . والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين : أنَّهم معصومون عن الغلط والخطأ ، وعن التقصير في اجتهادهم ، وغيرهم ليس كذلك .
وفيه من الفقه : استعمال الحكَّام الحيل التي تُستخرج بها الحقوق ، وذلك يكون عن قوة الذكاء ، والفطنة ، وممارسة أحوال الخليقة . وقد يكون في أهل التقوى فراسةٌ دينية ، وتوسُّمات نورِّية ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
(16/90)
وقولها : (( لا )) ؛ أي : لا تفعل . ثمَّ دعت له بقولها : (( يرحمك الله )) فينبغي للقارئ أن يقف على (( لا )) وقيفة ؛ حتى يتبيَّن للسامع : أن ما بعده كلام مستأنف ؛ لأنَّه إذا وصل بما بعده توهَّم السَّامع : أنَّه دعاء عليه ، وهو دعاء له . وقد روي عن أبي بكر الصِّديق ـ رضى الله عنه ـ أنه قال لرجل سمعه يقول مثل ذلك القول : لا تقل هكذا ، وقل : يرحمك الله ، لا. قلت : وقد يزول ذلك الإبهام بزيادة (( واو )) ، فيقال : لا ، ويرحمك الله .
وفيه حجَّة لمن يقول : إن الأمّ تَسْتَلِقُ ، وليس مشهور مذهب مالك ، ولا يلحق الولد عند مالك بأحداهما إلا ببيِّنة . وقد تقدم القول في الاستلحاق في النكاح .
ومن باب للحاكم أن يصلح بين الخصوم
العقار : أصول الأموال من الأرض وما يتصل بها ، وعقر الشيء : أصله - ومنه : عَُقْرُ الأرض - بفتح العين وضمها -.
وقوله : (( فقال الذى شَرَى الأرض : إنَّما بعتك الأرض وما فيها )) ؛ هكذا للسمرقندى ، ومعنى (( شَرَى )) : باع ، كما قال تعالى : { وشَروه بثمن بخسٍ } ؛ أي : باعوه . وقد تقدَّم : أن (( شرى )) من الأضداد. يقال : شريت الشيء : بعته واشتريته . وقد رراه غير السمرقندي : ((الذي اشترى الأرض )) ، وفيها بُعْدٌ ؛ لأنَّ المشتري هو الذي تقدَّم ذكره ، وهو هنا البائع ، ولا يصحُّ أن يقال عليه : مُشترٍ ؛ إلا أن صحَّ في ((اشترى )) : أنه من الأضداد ، كما قلناه في (( شَرَى )). والاول هو المعروف .
(16/91)
وقوله : (( فتحاكما إلى رجل )) ؛ ظاهره : أنهما حكَّماه في ذلك ، وأنَّه لم يكن حاكمًا منصوبًا للناس ، مع أنَّه يحتمل ذلك . وعلى ظاهره يكون فيه لمالك حجَّة إن المتداعيين حَكَّما بينهما من له أهلية الحكم صحَّ ، ولزمهما حكمه ، ما لم يكن جوَّرًا ، سواء وافق ذلك الحكم رأي قاضي البلد ، أو خالفه . وقال أبو حنيفة : إن وافق رأيه رأي قاضي البلد نَفَذَ ، وإلا فلا . واختلف قول الشافعي ، فقال مثل قول مالك ، وقال أيضًا : لا يلزم حكمه ، ويكون ذلك كالفتوى منه . وله قال شريح .
وهذا الرَّجل الْمُحكَّم لم يحكم على أحد منهما ؛ وإنما أصلح بينهما ، بأن ينفقا ذلك المال على أنفسهما وعلى ولديهما ، ويتصدَّقا . وذلك أن هذا المال ضائع ، إذا لم يدَّعِه أحدٌ لنفسه . ولعلهم لم يكن لهم بيت مال ، فظهر لهذا الرَّجل : أنهما أحق بذلك المال من غيرهما من المستحقين لزهدهما ، وورعهما ، ولحسن حالهما ، ولِمَا ارتجي من طيب فعلهما ، وصلاح ذريتهما.
قال الشيخ أبو عبد الله المازري : واختلف عندنا فيمن ابتاع أرضًا فوجد فيها شيئًا مدفونًا ؛ فهل يكون ذلك للبائع أو للمشتري ؛ فيه قولان.
قلت : وشي بذلك ما يكون من أنواع الأرض ، كالحجارة ، والعمد ، والرُّخام ، ولم يكن خِلْقَةً فيها . وأمَّا ما يكون من غير أنواع الأرض ، كالذهب والفضة ، فإن كان من دفن الجاهلية كان ركازًا . وإن كان من دفن المسلمين فهي لُقَطة . وإن جُهِل ذلك كان مالاً ضائعًا. فإن كان هناك بيت مالٍ حفظ فيه . وإن لم يكن ؛ صرف للفقراء والمساكين . وفيمن يستعين به على أمور الدِّين ، وفيما أمكن من مصالح المسلمين . والله تعالى أعلم .
(16/92)
وقوله : (( إن أبغض الزجال إلى الله الألد الْخَصِم )) ؛ الألد : اسم فاعل من : لدَّ في الخصومة ، يَلَدُّ -بفتح العين - لَدًّا : إذا اشتدَّ في خصومته ، فهو ألدُّ ، والجمع : لُدٌّ . ومنه قوله تعالى : { قومًا لُدًّا } ، وامرأة لَدَّاءٌ . وسمي الْخَصِم بذلك لإعماله لدَيْدَيهِ في الخصومة ، وهما جانبا الفم . وقيل : لأنك كلما أخذت في جانب من الحجَّة أخذ جانبًا آخر منها. وعلى هذا : فالألد صفة . فكان حقَّه أن يكون تابعًا للخصم. فيقول : الخصم الألد . لكنه لما كثر استعماله عومل معاملة الأسماء وحُذي به حَذْوَ قوله تعالى : { وغرابيب سود } ؛ لأن الأصل أن يقال : أسودٌ غِرْبِيب . فلو جاء على الأصل لقال : وسودٌ غرابيب . وهذا الخصم المذموم هو : الذي يعدل عن الحق في خصومته ، ويُوَهِّيه ، ويَعْضِدُ الباطلَ ، ويُقَوِّيه . فأمَّا من اشتدت خصومته في حق حتى يظهره ، ويبديه ، ويزيح الباطل ، ويخفيه ؛ فهي حالةُ القائمين بالحق ، الناصرين له ، الذين لا يزالون ظاهرين إلى يوم الدِّين .
ومن باب حكم اللقطة والضوال
قد تقدم القول في اللقطة وإنشادها في كتاب الحجِّ . و(( العِفَاص )) : الوعاء . وأصله : جلدٌ يلبسه رأس القارورة . يقال : عفصت القارورة : شددت عليها العِفاص . و(( الوكاء )) : الخيط الذي يشدُّ به الوعاء . تقول : عفصتُ عفصًا : إذا شددت العِفاص ، فإن جعلت العِفاص ؛ قلت : أعفصته . وتقول : أوكيت إيكاءً ، والشيءَ مُوكى ، كما تقول : أعطيت إعطاء ، والشيء مُعطَى .
والكلام في اللقطة في مسائل :
(16/93)
الأولى : في حدِّها ، وهي عندنا : وجدان مالٍ معصوم لمعصوم معرَّض للضياع ، فيدخل في المال كلُّ ما يُتمَّول من جمادٍ وحيوانٍ . ونعني بالمعصوم : كل مال لمالكه حرمة شرعيَّة ، فيدخل فيه مال المسلم ، والذمِّي ، والمعاهد ، ويخرج عنه مال الحربيِّ إذ لا حرمة له . وأموال الجاهلية ؛ إذ هي ركاز ، ويدخل فيه القليل من المال والكثير منه ، سواء كان في عامر من الأرض أو غامرها ، مدفونًا أو غير مدفون . وتحرزنا بقولنا : (( مُعرَّض للضياع )) عمَّا يكون في حرز مُحترم ، أو عليه حافظ.
المسألة الثانية : في أقسام اللقطة ، وهي : جمادٌ ، وحيوان . والحيوان : إنسان وغير إنسان ، والإنسان إمَّا صغير أو كبير . فالصغير إن علم : أنه مملوك ؛ فهو لُقطة . وإلا فهو اللقيط ، ويجب حفظه ، والقيام به على المسلمين ؛ إذا كان ذلك في بلادهم وجوب كفاية ، وله أحكام مذكورة في الفروع. ولا يكون المملوك الكبير لُقطة إلا إذا كان مِمَّن لا يفهم . وإمَّا غير الإنسان : فإبل ، وبقر ، وغنم ، وخيل ، وبغال ، وحمير.
المسألة الثالثة : في بيان حكمها . فأمَّا الجماد : فاختلف في حكم التقاطه ؛ فذهب الشافعي إلى استحباب ذلك مطلقًا ، وعندنا فيه تفصيل. فقيل : لا يجب إلأ أن يكون بين قوم غير مأمونين ، والإمام عدل ؛ فيجب أخذها بنيَّة الحفظ على من وثق بأمانة نفسه ، فإن علم خيانة نفسه حرم الأخذ عليه ، وإن ظن ذلك كره له ، وإذا كانت بين مأمونين ، ووثق بأمانة نفسه ، فقيل : يستحب له أخذها بنيَّة الحفظ . ورري عن ابن القاسم كراهه التقاطها ؛ إلا أن يكون لها قدر وبال . وكذلك روى أشهب في الدنانير ، فأمَّا الدرهم وما لا بال فيه ؛ فلا أحِبُ له أن يأخذه . وقد رويت عن مالك الكراهة مطلقًا . وباقي ما يتعلّق بها من المسائل يأتي مع البحث في الحديث .
(16/94)
وقوله : (( اعرف عِفاصها ووكاءها )) ، وفي رواية : (( وعددها )) ؛ هذا الأمر للملتقط بتعرف هذه الأمور الثلاثة يُفيد إباحة حل وكائها ، والوقوف على عينها ، وعددها للملتقط . وفائدة ذلك : أنَّه إذا جاء من عرف أولئك الأوصاف دفعت له ، كما قال : (( فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها ، وعددها ، ووكاءها ، فادفعها إليه )) ؛ وظاهره : إشتراط معرفة مجموع تلك الأوصاف ، وأنها تدفع له بغير بيِّنة . وقد اختلف في المسألتين .
فأمَّا المسألة الأولى : فقال ابن القاسم : لا بدَّ من ذكر جميعها ؛ يعني : الوكاء ، والعِفاص ، والعدد . ولم يعتبر إصبغ العدد . وظاهر الحديث حجَّة لابن القاسم ، ولاصبغ التمسك بالحديث الذي ليس فيه ذكر العدد . وحجَّة ابن القاسم أوضح ؛ لأن من ذكر شيئًا حجَّة على من سكت عنه ، ولأنَّه من باب حمل المطلق على المقيد ، فإذا أتى بجميع أوصافها ؛ فهل يُحَلَّف مع ذلك أو لا ؟ قولان . النَّفي لابن القاسم . وتحليفه لأشهب .
ولا يلزمه بينة عند مالك وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم . وقال أبو حنينة ، والشافعي : لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له . والأول أولى ؛ لنصّ الحديث على ذلك ، ولأنَّه لو كان إقامة البيِّنة شرطًا في الدَّفع لما كان لذكر العِفاص ، والوكاء ، والعدد معنًى ؛ فإنَّه يستحقها بالبيِّنة على كل حال ، ولما جاز سكوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك ، فإنه تأخير للبيان عن وقت الحاجة . وقال إصبغ : إن عرف العِفاص وحده استُبرئ له ، فإن جاء أحدٌ ، وإلا أُعطيها . وقال ابن عبد الحكم : لو أصاب تسعة أعشار الصفة ، وأخطأ العشر لم يعطها إلا أن يصف العدد ، فيصاب أقل . وقال أشهب : إن عرف منها وصفين ، ولم يعرف الثالث دفعت إليه .
(16/95)
وقوله : (( ثم عرِّفها سنة )) ؛ تعريفها هو : أن ينشدها في مجتمعات الناس ، وحيث يظن : أن ربَّها هنالك ، أو قربه ، فيعرفها تعريفًا لا يضرُّ به ، ولا يُخُفِي أمرها . والتعريف واجبٌ ؛ لأنَّه مأمورٌ به . ثمَّ يختص ن الوجوب بسنة في المال الكثير ؛ الذى لا يفسد ، ولا ينقص منها . وهو قول فقهاء الأمصار . ولم يذهب أحدٌ منهم إلى زيادة على السُّنة إلا شيء روى عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ، فإنَّه قال : يعرفها ثلاثة أعوام. وإلا ما تقدَّم من الخلاف في لقطة الحاجِّ .
فأما الشيء القليل التافه ؛ الذى لا يتعلَّق به نفس مالكه كالثمرة ، والكِسرة ، فلا تعريف فيه . وقد مرَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتمر في الطريق فقال : ((لولا أني أخاف أن تكون من الصَّدقة لأكلتها )) ، ولم يعرِّفها .
ولو كانت من القليل الذي تتعلَّق به النفس غالبًا ، فهل يُعرَّف أو لا ؟ وإذا عُرِّف ؛ فهل يُعرَّف سنة ، أو يجزئ أقل من ذلك ؛ كل ذلك مختلف فيه . فظاهر رواية ابن القاسم : أنَّه يُعرَّف سنة كالكثير . وهو قول الشافعي . وقال ابن القاسم في الكتاب : يُعرِّفه أيَّامًا . وبه قال ابن وهب ، ولم يحدد الأيام ، بل بحسب ما يظن أن مثلها يطلب فيها . وهذا كالحبل ، والمخلاة ، والدَّلو ، والعصا ، والسَّوط ، والسِّقاء ، والنَّعل. وقال أشهب : إن لم يعرفها فأرجو أن يكون واسعًا . وقال بعض العلماء : لا يلزم تعريف شيء من ذلك ، وألحقوه بالقسم الأول . وفيه بُعْدٌ ؛ لأنَّ ما تشُّوف النفسُ إليه فالغالب : أن صاحبه يطلبه ، فلا بدَّ من تعريفه ، لكنه لا ينتهي التعريف فيه إلى السَّنة ؛ لأنَّ صاحبه لا يستديم طلبه فيها غالبًا ، فحينئذ تضيع استدامة التعريف. فإن قيل : فقد جاء في كتاب أبي داود من حديث جابر : رخَّص لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السوط ، والعصا ، والحبل ، وأشباهه ، يلتقطه الرَّجل ينتفع به . وظاهره : أنه لا يحتاج مثل هذا إلى تعريف .
(16/96)
فالجواب : أن هذا لا يصحُّ رفعه ؛ لأنَّه من رواية المغيرة بن زياد ، عن أبي الزبير ، عن جابر . وقد رواه المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : كانوا ، ولم يذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والمغيرة بن مسلم أصلح حديثًا ، وأصح من حديث المغيرة بن زياد . هكذا قاله أبو محمد عبد الحق .
قلت : مع أن حديث أبي الزبير عن جابر لا يؤخذ منه إلا ما ذكر فيه سماعه منه ؛ لأنَّه كان يُدلِّس في حديث جابر ، ولم يذكر سماعه في هذا الحديث ، سلمنا صحته ، لكنه يحتمل أن تكون هذه الإباحة بعد التعريف . ويعتضدُ هذا بما رواه أبو محمد بن أبي حاتم عن حكيمة بنت غيلان عن أبيها : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من التقط لقطة يسيرة ، درهمًا ، أو حبلا ، أو شبه ذلك ؛ فليعرفه ثلاثة أيام ، فإن كان فوق ذلك فليعرِّفه ستة أيام )). وأصح من هذا وأحسن ما خرَّجه النسائي عن عياض بن حمار المجاشعي : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من أخذ لقطة فليشهد ذوي عدل ، وليحفظ عفاصها ، ووكاءها ، ولا يكتم ، ولا يُغيِّب ، فإن جاء صاحبها ، فهو أحق بها ، وإن لم يجئْ صاحبها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء )) ، وهذا عام في كل لُقطة .
وقوله : (( فليشهد ذوي عدلٍ )) ؛ أمرٌ للملتقط بأن يشهد على نفسه بأنه وجد كذا على جهة الإحتياط للُّقطة مخافة طايءٍ يطرأ على الملتقط من موت ، أو آفة ، أو طروء خاطر خيانةٍ .
وقوله : (( ولا يكتم ، ولا يُغيِّب )) ؛ يعني به : أنَّه يعرِّفها بأعمِّ أوصافها ، ويستدعي من الْمُدَّعي أخصَّ أوصافها المميَّزة لها ، كما تقدم.
(16/97)
وأمَّا ما رواه أبو داود من حديث عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ : أنَّه وجد دينارًا فرهنه في درهم لحمًا ، وأنه أعلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ، فاقرَّه ، ولم يُنكر عليه تصرَّفه في الدينار بالرَّهن . فلا حجَّة فيه لمن يستدلُّ به : على أن القليل من اللقطة لا يُعرَّف ؛ لأنَّ عليًّا ـ رضى الله عنه ـ إنما فعل ذلك في حال ضرورة ؛ لأنه دخل بيته والحسن والحسين يبكيان من الجوع ، فخرج فوجد الدينار ، ففعل ذلك حين لم يجد شيئًا آخر ، وفي مثل هذه الحال تحل الميتة ، فأحرى التصرف في الوديعة ، ثم إنَّه لم يُتلف عين الدينار ، وإنَّما رهنه ، فلمَّا جاء صاحبه ، إِفْتَكَّهُه ودفعه إليه . وذكر في هذا الحديث : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استدعى مدَّعِي الدينار ، فسأله ، فقال : سقط مني في السُّوق . فأمر عليًّا بافتكاكه ، ثم دفعه إلى الرَّجل . من غير أن يسأل عن وصف من أوصاف الدينار ، فيحتمل أن يكون اكتفى منه بقوله : أنَّه ضاع مني في السُّوق ، وقد كان عليٌّ وحده في السُّوق ؛ لأنَّ الدينار الواحد ليس فيه عدد ، وقد لا يكون له وعاء ، ولا وكاء ، والدنانير متساوية الأشخاص غالبًا . ويحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم : أنه صاحبه بوحي ، أو بقرائن ، فلا حجَّة فيه على سقوط السؤال عن الأوصاف . والله تعالى أعلم .
وقد حصل من هذا : أن اللقطة لا بدَّ لها من تعريف ؛ فإن كانت مما لها بال ومقدار عُرِّفت سنة . وإن كانت مما ليس لها ذلك المقدار ؛ كان تعريفها بحسبها من غير حدٍّ بعدد مخصوص ، ولا زمان مخصوص ، بل على الاجتهاد . وأما الثمرة ، والكِسرة : فلا تحتاج إلى تعريف ؛ لأنها مزهودٌ فيها ، ولا تتشوف نفس صاحبها إليها . وهذا مذهب مالك وغيره . والله أعلم .
(16/98)
وقوله : (( فإن جاء صاحبها ، وإلا فشأنُك بها - أو : (( فهي لك )) ، أو : (( فاستنفقها )) ، وفي حديث أبي : (( وإلا فاستمتع بها )). وفي كتاب الترمذي : (( ثمَّ كُلها )). وفي كتاب النسائي من حديث عياض بن حمار : (( وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء )). أفادت هذه الروايات كلها : أن واجد اللقطة بعد التعريف أحق بالنظر فيها من غيره ، فلا ينتزعها منه السلطان ولا غيره . وهو قول أهل العلم . غير أن الأوزاعي قال : إن كان مالاً كثيرًا جعله في بيت المال .
واختلفوا إن كان غير مأمون ؛ هل يتركها السلطان بيده ، أو يأخذها منه ؛ فعن الشافعي في ذلك قولان . قال القاضي عياض : ومقتضى مذهب مالك ، وأصحابه : أن يأخذها منه إن كان غير مأمون. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى . فاذا أقرَّت بيده ؛ فما الذي يفعل بها؟! الجمهور : على أن له أن يمسكها عنده ، ولا ضمان عليه ؛ لأنَّها وديعة ، كما جاء في بعض طرقه : (( ولتكن وديعة عندك )). وله أن يصرفها في مصالحه من أكل ، أو انتفاع. وله أن يتصدَّق بها ، ولا بدَّ في هذين من الضمان متى جاء صاحبها . وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب ، وابنه ، وابن مسعود ، وعائشة ، وعطاء ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة . غير أنه - أعني : أبا حنيفة - لم يُبْح أكلها إلا للفقير . وشذَّ داود فأسقط عنه الضمان بعد السَّنه .
(16/99)
وموجب الخلاف اختلاف تلك الروايات ، وذلك : أن ظاهر قوله : (( فهي لك )) ، وقوله : (( ثم كُلها )) ، وقوله : (( وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء )) : التمليك ، وسقوط الضمان ، وبه اغتَرَّ داود ، لكن قد أزال ذلك الظاهر ، ودَحَضَه رواية العدل ، الضابط الحافظ ، الإمام يحيى بن سعيد عن يزيد - مولى المنبعث - : أنَّه سمع زيد بن خالد الجهني يقول : سُئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اللقطة ؛ الذهب والورق ؟ فقال : (( اعرف وكاءها ، وعِفاصها ، ثمَّ عرِّفها سَنَة ، فإن لم تُعرف فاستنفقها ، ولتكن وديعة عندك ، فإن جاء طالبها يومًا من الدَّهر ، فأدِّها إليه )). فهذه أحسن الروايات ، وأنصُّها على المطلوب ، وهي المبيِّنة لتلك الظواهر الحاكمة عليها . والعجب من داود كيف صُرف عنها وهي بين يديه ؟ وأنَّى تغافلَ عنها ؟ وهي حجَّة عليه ؛ لكن من حرم التوفيق استدبر الطريق .
وقوله : (( ولتكن وديعة عندك )) بعد قوله : (( استنفقها )) ؛ معناه : ولتكن في ضمانك على حُكم الوديعة ؛ يعني : إذا أنفقها الْمُودَعُ عنده فإنَّه يضمنها ، وإلا : فإذا أنفقها لم تبق عَيْنُها ، فكيف تبقى وديعة إلا على ما ذكرناه ؟ والله تعالى أعلم .
(16/100)
وقوله : (( فضالةُ الغنم ؟ )) فقال : (( هي لك ، أو لأخيك ، أو للذنب )) ؛ أي : لا بدَّ لها من حال من هذه الأحوال الثلائة . و(( أو)) هذه للتقسيم والتنويع . ويفيد هذا : الغنم إذا كانت في موضع يخاف عليها فيه الهلاك جاز لملتقطها أكلها ، ولا ضمان عليه ؛ إذ قد سوّى بينه ويين الذئب ، والذئب لا ضمان عليه ، فالملتقط لا ضمان عليه. وهو مذهب مالك وأصحابه ، وقد ضمَّنه الشافعي ، وأبو حنيفة تمسُّكًا ببقاء ملك ربِّها عليها ، وبما قد روي من حديث عمرو بن يثربي : أنَّه قال : (( إن لقيتها لقحة تحمل شفرةً وأزنادًا فلا تمسَّهًا )). ولا حجَّة في شيء من ذلك ؛ قد اتفقنا على أن لواجدها أخذها ، وأكلها . والأصل : أنَّه لا يجوز التصرُّف في ملك الغير ؛ فقد تركنا هذا الأصل ، فلا نتمسك به في باب اللقطة ؛ لأن الشرع قد سلَّط الملتقط عليها ، ولما كانت هذه مآلها الهلاك إن تُركت ولا ضمان ؛ كان أكلها لواجدها أولى بغير ضمان ؛ لأنَّه انتفع بها رجل مسلم ، ولا حجَّة أيضًا في الحديث لأنَّه من رواية عمارة بن حارثة ، وليس بالمشهور بالرواية ، ولو سُلِّم أنه صحيح فلا حجَّة فيه أيضًا ؛ لأنَّ ذلك القول إنما صدر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوابًا لمن قال له : أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي فأخذت منها شاة فأجزرتها ؛ أعلي في ذلك شيء ؟ فاجابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك . فلم يسأله عن ضالة الغنم ، بل عن غنم ابن عمِّه ، وذلك عندما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفسٍ منه )). فحينئذ سأله عن ذلك ، فأجابه بذلك . ويلحق بالغنم عند مالك : ما لا يبقى من الأطعمة ، ويخافُ عليه الفساد ، وكان بموضع لا ينحفظ فيه ، ولا يوجد من يشتريه ، فله أكله ، ولا ضمان . وضمَّنه الإمامان ، كما قذمناه ، فإن كان شيء من ذلك قريبًا من العمران ، وأمن الهلاك عليه فلا يجوز له أكله ، ولا خلاف فيه ، فإن شاء أخذها بنيَّة حفظها ، وإن شاء تركها على ما تقدم.
(16/101)
وقوله في ضالَّة الإبل : (( ما لك ولها ؟ )) إلى آخر الكلام ، وغضبه حين قال ذلك يدلُّ على تحريم التعرُّض لضالَّة الإبل ؛ لأنَّها يؤمن عليها الهلاك لاستقلالها بمنافعها . وقد نصّ على ذلك بقوله في الرراية الأخرى : (( دعها عنك )). ومقتضاه : المنع من التصرف فيها مطلقًا ، وأن تترك حيث هي . لكن هذا إذا لم تكن بأرض مشبعة . وعلى هذا يدلُّ قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((ضالة المسلم حرق النار )). قال العلماء : هكذا كان في أول الإسلام ، وعلى ذلك استمر زمن أبي بكر ، وعمر ، فلمَّا كان زمن عثمان وعليّ ، وكثر فساد الناس ، واستحلالهم : رأوا التقاطها ، وضمَّها ، والتعريف بها ، وهذا كلُّه منهم وفاءً بمقصود هذا الحديث في لقطة الإبل ؛ فإن مقصوده : أنها إذا أمن عليها الهلاك ، وبقيث بحيث تتمكن مما تعيش به من الأكل والشرب حتى يجئ ربُّها ، فيجدها سليمة ، فحينئذ لا يتعرَّض لها أحدٌ ، فلو تعذر شيء من ذلك ، وخِيف عليها الهلاك أو السَّرق ؛ التقطت ، وحفظت ؛ لأنَّها مال مسلم ؛ فيجب حفظه ، ولا تُؤكل. ولو كانت بالمواضع المنقطعة عن العمران البعيدة ؛ لأنَّ سَوْقها ممكن ، ومؤونتها متيسرة بخلاف الغنم .
وهل يلحق بها البقر أو بالغنم ؟ عندنا في ذلك قولان . فرأى مالك إلحاقها بالغنم لضفها عن الإمتناع عند انفرادها . ورأى ابن القاسم : إلحاقها بالإبل إذا كانت بموضع لا يخاف عليها فيه من السِّباع .
قلت : وكان هذا تفصيل أحوال ، لا اختلاف أقوال . وقد بيَّنَّا : أن مثله جار بل في الإبل ، فالأولى : إلحاقها بها .
وكذلك اختلف في التقاط الخيل ، والبغال ، والحمير . وظاهر قول ابن القاسم : أنها تلتقط . وقال أشهب ، وابن كنانة : لا تلتقط .
(16/102)
و (( حذاء الإبل )) : خِفافُها. وأصل الحذاء : ما يحتذي به الإنسان من نعل أو غيره. و(( السِّقاء )) ما يشرب به ، فيعني : أن الإبل لا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه غيرها من المواشي ، فإنَّها تمشي حيث شاءت ، وتأكل من الأشجار ، وترد على ا لأنهار.
ومن باب الاستظهار في التعريف
استدلال أُبيِّ بن كعب بحديث المائة الدينار حيث سُئل عن التقاط السَّوط ؛ يدلُّ على أن مذهبه التسوية بين قليل اللقطة وكثيرها في وجوب التعريف بها سَنَةً ، وأنَّه يستظهر بعد ذلك بحولين ، وهذا لم يقل به أحدٌ في الشيء اليسير . وقد قدمنا : أنَّه لم يأخذ أحد من العلماء بتعريف ثلاثة أعوام إلا شيء روي عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ، والجمهور على أن التعريف فيما له بال سَنَةً ؛ لأنَّ صاحبها إن كان حاضرًا تنبَّه لها ، وتذكرها ، وظهر طلبه لها في هذه السَّنَة . وإن كان غائبًا أمكن عوده وطلبها في هذه السَّنه ، أو يسمع خبره فيها ، فاذا لم يأت بعد السَّنة ؛ فالظاهر الغالب : أنَّه هلك ، وأن هذا المال ضائع ؛ فواجده أولى به ، لما تقدم في الشيء الكثير ، فأمَّا في الشيء اليسير : فيمكن أن يكون صاحبه تركه استسهالاً واستخفافًا ، وأنَّه غير محتاج إليه . وهذا في التمرة والكِسرة واضح ، فلا يحتاج إلى تعريف . وألحق بعض أصحابنا أقل من الدرهم بذلك . وأبعد أبو حنيفة فقال : لا تعريف في أقل من ثمانية دراهم . وأبعد من هذا قول إسحاق : إن الدينار لا يحتاج إلى تعريف ، تمسُّكًا بحديث علي المتقدم ، وقد قدَّمنا : أنَّه لا حجَّة فيه .
وإمَّا أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأُبَيٍّ بزيادة التعريف على سَنَة بسَنَةٍ أو سَنَتين ، على اختلاف الرواية فذلك مبالغة ، واحتياط على جهة الاستحباب كما تقدم ، لا سيما مع استغناء الملتقط عن الانتفاع بها. قالوا : وكذلك كان أُبيّ ـ رضى الله عنه ـ مستغنيًا عنها .
(16/103)
وقول شعبة : (( فسمعته بعد عشر سنين يقول : عَرَّفَهَا عامًا واحدًا )) ؛ يعني : سلمة بن كُهَيْل ؛ الذي روى عنه هذا الحديث . يعني : أنَّه لقيه بعد أن سمع الحديث منه بعشر سنين ، فأعاد سلمة الحديث ، فقال : عَرَّفَها عامًا واحدًا ؛ يعني : في الاستظهار ، وكان شعبة شكَّ في عدم الاستظهار. هل هو في سَنَه واحدة ؟ فلقيه بعد ذلك بعشر سنين ، فسأله ، فأخبره : أنه كان عامًا واحدًا ، فزال شيء . والله تعالى أعلم .
ومن باب النَّهي عن لقطة الحاج ،
وعن أن يَحْلِب أحدٌ ماشية أحد إلا بإذنه
قد تقدم القول في لقطة الحاجِّ ، والخلاف فيها .
وقوله : (( من آوى ضالَّة فهو ضالٌّ ، ما لم يُعرِّفها )) ؛ يعني : أنَّها إذا كانت مِمَّا تُعرَّف فلم يعرفها كان ذلك دليلاً : على أنَّه قصد الخيانة فيها ، وأنَّه إنَّما أخذها آلة لنفسه ، لا ليحفظها على صاحبها. وقد قلنا : أن من أخذها وجب عليه أن يأخذها بنيَّة حفظها على مالكها ، وأداء الأمانة فيها ، وإلا فهو ضالٌّ عن طريق الحق فيها ، خائن ، آثمٌ .
(16/104)
وقوله : (( لا يحلبن أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه )) ؛ إنَّما كان هذا لأن أصل الأملاك بقاؤها على ملك مُلاَّكِها ، وتحريمها على غيرهم ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا )) ، وكما قد تقدم من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّه لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفسي منه )) ، إلى غير ذلك . وهذا أصل ضروري معلومٌ من الشرائع كلها . وإنما خصَّ اللَّبن بالذكر لتساهل الناس في تناوله ، ولا فرق بين اللَّبن والثمرة وغيرها في ذلك ، غير أن العلماء قد اختلفوا فيهما . فذهب الجمهور : إلى أنَّه لا يحل شيء من لبن الماشية ، ولا من التمر إلا إذا علم طيب نفس صاحبه به ، تمسُّكًا بالأصل المذكور ، وبهذا الحديث . وذهب بعض المحدثين : إلى أن ذلك يحل وإن لم يُعلم حال صاحبه ؛ لأنَّ ذلك حقٌّ جعله الشرع له ، تمسُّكًا بما رواه أبو داود عن الحسن ، عن سمرة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( إذا أتى أحدكم على ماشية ؛ فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه ، فإن أذن له فليحلب ، وليشرب ، وإن لم يكن فيها فليصوِّت ثلاثًا ؛ فإن أجاب فليستأذنه ، فإن أذن له ، فليحلب(2) وليشرب ولا يحمل )).
وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم ، عن عبيدالله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من دخل حائطًا فليأكل ، ولا يتخذ خبنة )). قال : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سُليم . وذكر(2) من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن الثمر المعلَّق فقال : (( من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه )). قال فيه : حديث حسن .
قلت : ولا حجَّة في شيء من هذه الأحاديث لأوجه :
أحدها : أن التمسك بالقاعدة المعلومة أولى .
وثانيها : أن حديث النهي أصحُّ سندًا ، فهو أرجح .
وثالثها : أن ذلك محمولٌ على ما إذا علم طيب نفوس أرباب الأموال بالعادة أو بغيرها .
(16/105)
ورابعها : أن ذلك محمول على أوقات المجاعة والضرورة ، كما كان ذلك في أول الإسلام . والله تعالى أعلم .
فرع : لو اضطر فلم يجد ميتة وجب عليه إحياء رمقه من مال الغير . وهل يلزمه قيمة ما أكل أم لا ؟ قولان في المذهب ، والجمهور على وجوبها عليه إذا أمكنه ذلك ، فإن وجد ميتة وطعامًا للغير ؛ فإن أمن على نفسه من القطع والضرر أكل الطعام ويغرم قيمته . وقيل : لا يلزم . وإن لم يأمن على نفسه أكل الميتة ، قاله مالك .
غير أنه قد جرت عادة بعض الناس بالمسامحة في أكل بعض الثمر ، كما قد اتفق في بعض بلادنا ، وفي شرب بعض لبن الماشية ، كما كان ذلك فى أهل الحجاز ، فيكون استمرار العادة بذلك وترك النكير فيه دليلاً على إباحة ذلك ، ولذلك شرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأبو بكر ـ رضى الله عنه ـ من لبن غنم الراعي في طريق الهجرة ، ويمكن أن تُحمل الأحاديث المتقدمة على العادة الجارية عندهم في اللبن والثمرة .
وقوله : (( أيحبُّ أحدكم أن تؤتى مشربته ، فتكسر خزانته ، فينتقل طعامه )). المشربة : سقيفة يختزن فيها الطعام . وقيل : هي كالغرفة ، ويقال : بضم الراء وفتحها .
فيه من الفقه : استعمال القياس ، وإباحة خزن الطعام واحتكاره إلى حاجة وقت الحاجة ، خلافًا لغلاة المتزهدة القائلة : لا يجوز الإدِّخار مطلقًا .
و (( يُنتقل طعامُه )) ؛ معناه : يؤخذ وينقل إلى موضع آخر . وهو معنى : (( يُنْتَثَل )) في الرواية الأخرى ، إلا أنَّ النَّثْل : النثر بمرةٍ واحدة . يقال : نَثَلَ ما في كنانته ؛ أي : صبَّها .
وقوله : (( فإنما تُخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم )) ؛ ظاهر تشبيه ضرع الماشية بالخزانة يقتضي : أن من حلب ماشية أحد في خفية ، وكان قيمة ما حلب نصابًا قُطِعَ ، كما يُقطع مَنْ أخذه من خزانته ، فيكون ضرع الماشية حرزًا . وقد قال به بعض العلماء . فأمَّا مالك : فلم يقل به ، إلا إذا كانت الغنم في حرز .
(16/106)
وفيه من الفقه : تسمية اللَّبن طعامًا . فمن حلف : ألا يأكل طعامًا ؛ فشرب لبنًا ؛ حنث ، إلا أن يكون له نيَّةٌ في نوع من الأطعمة .
وفيه حجَّة لمن منع بيع الشاة اللبون باللَّبن إذا كان في ضرعها لبن حاضر . وهو مذهب مالك والشافعي . فإن لم يكن فيها لبن حاضر أجازه مالك نقدًا ، ومنعه إلى أجل . واختلف أصحابه ، فحمله جلُّهم على عمومه . وقال بعضهم : إنَّما هذا إذا قدَّم الشاة ، فلو كانت هي المؤخرة جاز ، وأجاز بيعها بالطعام نقدًا ، وإلى أجل . وأجاز الأوزاعي شراءها باللبن وإن كان في ضرعها لبن . ورأوه لغوًا وتابعًا . ولم يجز الشافعي ، ولا أبو حنيفة بيعها بطعام إلى أجلٍ .
ومن باب الأمر بالضيافة والحكم فيمن منعها
قوله : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته )) ؛ قد تقدم القول في حكم الضيافة ، وأن الأمر بها عند الجمهور على جهة الندب ، لأنَّها من مكارم الأخلاق ، إلا أن تتعين في بعض الأوقات بحسب ضرورة أو حاجة ، فتجب حينئذ .
وقد أفاد هذا الحديث : أنها من أخلاق المؤمنين ، ومما لا ينبغي لهم أن يتخلَّفوا عنها ، لما يحصل عليها من الثواب في الآخرة ، ولما يترب عليها في الدنيا من إظهار العمل بمكارم الأخلاق ، وحُسن الأحدوثة الطيبة ، وطيب الثناء ، وحصول الرَّاحة للضيف المتعوب بمشقَّات السَّفر ، المحتاج إلى ما يخفف عليه ما هو فيه من المشقَّة ، والحاجة .
ولم تزل الضيافة معمولاً بها في العرب من لدن إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنَّه أول من ضيَّف الضيف . وعادة مستمرة فيهم ، حتى أنَّ من تركها يُذَمُّ عُرْفًا ، ويُبَخَّلُ ويُقَبَّحُ عليه عادة ، فنحن وإن لم نقل : إنَّها واجبة شرعًا فهي متعيِّنة لما يحصل منها من المصالح ، ويندفع بها من المضار عادة وعُرفًا.
(16/107)
و (( الجائزة )) : العطية . يقال : أجزته جائزة ، كما تقول : أعطيته عطية . و(( جائزته )) هنا منصوب ، إما على إسقاط لفظ حرف الجر ، فكأنه قال : فليكرم ضيفه بجائزته . وإما بأن يُشْرِبَ (( فليكرم )) معنى (( فليُعط )) ، فيكون مفعولا ثانيًا لـ (( يكرم )).
وقوله : (( وما جائزته ؟ )) استفهام عن مقدار الجائزة ، لا عن حقيقتها ، ولذلك أجابهم بقوله : (( يومه وليلته )) ؛ أي : القيام بكرامته في يومه وليلته ؛ أي : أقل ما يكون هذا القدر ، فإنَّه إذا فعل هذا حصلت له تلك الفوائد .
فى وقوله بعد ذلك : (( والضيافة ثلاثة أيام )) ؛ يعني به بالكاملة التي إذا فعلها المضيف فقد وصل إلى غاية الكمال ، وإذا أقام الضيف إليها لم يلحقه ذمٌّ بالمقام فيها ؛ فإن العادة الجميلة جاريةٌ بذلك . وإمَّا ما بعد ذلك فخارج عن هذا كله ، وداخل في باب : إدخال المشاقِّ والكُلَف على الْمُضيِّف ، فإنَّه يتأذى بذلك من أوجه متعددة. وهو المعني بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه )) ؛ أي : حتى يشق عليه ، ويثقل ، لا سيما مع رقة الحال ، وكثرة الكلف . وقيل : معنى (( يؤثمه )) : يحرجه ، فيقع في الإثم . وقد جاء ذلك مفسَّرًا في بعض الروايات : ((حتى يحرجه )). فإن تحمَّل المضيِّف شيء من ذلك ؛ فهو صدقًا منه على الضيف ، فحقُّه أن يأنف منها ، ولا يقبلها ، لا سيما إن لم يكن أهلاً لها ، فإنَّها تحرم عليه.
وقيل : معنى قوله : (( جائزته يوم وليلة )) ؛ أن ذلك حق المجتاز ، ومن أراد الإقامة فثلاثة أيام .
و (( جائزته )) هنا : مرفوعٌ بالابتداء ، وخبره : (( يوم وليلة )). وقيل : الجائزة غير الضيافة ، يضيفه ثلاثة أيام ، ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلتن . قال الهروي : والجيزة : قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل . وما ذكرناه أولى للمساق والمعنى .
(16/108)
وقوله : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت )) ؛ يعني : أن المصدِّق بالثواب والعقاب الْمُترتبين على الكلام في الدَّار الآخرة لا يخلو من إحدى الحالتين . إما أن يتكلَّم بما يحصل له ثوابًا وخيرًا فيغنم ، أو يسكت عن شيء يجلب له عقابًا وشرًّا فيسلم . وعلى هذا : فتكون (( أو )) للتنويع والتقسيم . وقد أكثر الناس في تفصيل آفات الكلام ، وهي أكثر من أن تدخل تحت حصر ونظام . وحاصل ذلك : أن آفات اللسان أسرع الآفات للإنسان ، وأعظمها في الهلاك والخسران . فالأصل : ملازمة الصمت إلى أن تتحقق السلامة من الآفات ، والحصول على الخيرات ، فحينئذ تخرج تلك الكلمة مخطومة وبأزمَّة التقوى مزمومة . والله الموفق .
وقوله : (( إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا )) ؛ هذا أمر على جهة النَّدب للضيف بالقبول . فحقه ألا يُرَّد لما فيه مِمَّا يؤدي إلى أذى المضيف بالامتناع من إجابة دعوته ، وغمِّ قلبه بترك أكل طعامه ، ولأنه ترك العمل بمكارم الأخلاق . وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا دعي أحدكم إلى طعامٍ فليجب عرسًا كان أو غيره ))..
وقوله : (( فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف )) ؛ هذا مما استدلَّ به الليث على وجوب الضيافة . وهو ظاهرٌ في ذلك ، غير أن هذا محمولٌ على ما كان في أول الإسلام من شدَّة الأمر ، وقلَّة الأزواد ، فقد كانت السَّرية يخرجها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يجد لها إلا مِزْوَدَي تمر . فكان أمير السَّرية يقوتهم إيَّاه ، كما قد اتفق في جيش أبي عبيدة ، وسيأتي .
(16/109)
فإذا وجب التضييف كان للضيف طلب حقه شرعًا ، وإن لم يكن الحال هكذا فيحتمل أن يكون هذا الحق المأمور بأخذه هو حقُّ ما تقتضيه مكارم الأخلاق ، وعادات العرب ، كما قررناه ، فيكون هذا الأخذ على جهة الحضِّ والترغيب بإبداء ما في الضيافة من الثواب والخير ، وحُسن الأحدوثة ، ونفي الذمِّ ، والبخل ، لا على جهة الجبر والقهر ؛ إذ الأصل ألا يحلَّ مالُ امرىء مسلم إلا بطيب قلبه ، ويحتمل أن يراد بالقوم الممرور بهم أهل الذمة ، فينزل بهم الضيف ، فيمنعونه ما قد جعل عليهم من التضييف ، فهؤلاء يؤخذ منهم ، ما جعل عليهم من الضيافة على جهة الجبر من غير ظلمٍ ولا تعدٍّ . وقد رأى مالك سقوط ما وجب عليهم من ذلك لما أحدث عليهم من الظلم . والله تعالى أعلم .
ومن باب الأمر بالمواساة وجمع الأزواد
(16/110)
قوله : (( جاء رجل على راحلته فجعل يضرب يمينًا وشمالاً )) ؛ كذا رواه ابن ماهان بالضاد المعجمة ، وبالباء الموحدة من تحتها ، من الضرب في الأرض ؛ الذي يراد به : الاضطراب والحركة ، فكأنه كان يجيء بناقته ، ويذهب بها فعل المجهود الطالب . وفي كتاب أبي داود : يضرب راحلته يمينًا وشمالاً . وقد رواه العذري فقال : (( يُصرِّف يمينًا وشمالاً)) بالصاد المهملة والفاء ، من الصَّرف ، ولم يذكر المصروف ما هو ؟ وقد رواه السَّمرقندي ، والصدفيُّ كذلك ، وبيَّنوا المصروف ، فقالوا : يصرف بصره يمينًا وشمالاً )). يعني : كان يقلب طرفه فيمن يعطيه ما يدفع عنه ضرورته . ولا تباعد بين هذه الروايات ؛ إذ قد صدر من الرجل كل ذلك ، ولما رآه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تلك الحال أمر كل من كان عنده زيادة على قدر كفايته أن يبذله ، ولا يمسكه ، وكان ذلك الأمر على جهة الوجوب لعموم الحاجة ، وشدَّة الفاقة ؛ ولذلك قال الصحابيُّ : حتى رئينا : أنَّه لا حق لأحد منا في فضل ؛ أي : في زيادة على قدر الحاجة . وهكذا الحكم إلى يوم القيامة ؛ مهما نزلت حاجة ، أو مجاعة ، في السَّفر ، أو في الحضر ، وجبت المواساة بما زاد على كفاية تلك الحال ، وحرم إمساك الفضل .
وقوله : (( حتى رئينا )) ؛ هكذا وقعت هذه الرواية بضم الراء وكسر ما بعدها مبنيًا لما لم يسم فاعله ؛ أي : أظهر لنا . وفي بعض النسخ : (( رأينا )) مبنيًا للفاعل . وفي بعضها : حتى قلنا. من القول بمعنى الظن ، كما قال الشاعر :
متى تقول القُلُصَ الرَّواسِمَا يُدنِين أُمَّ قاسمٍ وقاسما
وقوله : (( فجمعنا أزوادنا )) : هذه الرراية الواضحة المحفوظة . وقد وقع
لبعضهم : (( تزوادنا )) بالتاء باثنتين من فوقها ، بفتح التاء وكسرها ، وهو اسم من ا لزاد ؛ كالتِّسيار ، والتمثال . ووقع لبعضهم : (( مزاودنا )) ، والأول أوجه ، وأصح .
(16/111)
وقوله : (( فحزرته كربضة العَنْز )) ؛ أي : قدرته مثل جُثَّة العنز ، فحقُّه على هذا أن يكون مضموم الراء ؛ لأنَّه اسم . وكذلك حفظي عمَّن أثق به . فيكون : (( ظلمة )) و(( غرفة )). وقد روي بكسر الراء ، ذهب فيه مذهب الهيئات ، كالجلسة ، والمشية . وقد روي بفتح الراء ، وهي أبعدُها ؛ لأنَّه حينئذ يكون مصدرًا ، ولا يُحْزَر المصدر ، ولا يُقدَّر .
و (( النُّطْفة )) : القطرة ، ومراده بها هاهنا : القليل من الماء . يقال : نطف المطر ينطف ؛ أي : قطر .
و (( ندغفقه دغفقة )) ؛ أي : نأخذ منه ونصب على أيدينا صبًّا شديدًا .
و (( الْجُرُبُ )) : جمع جراب ، وهي الأوعية التي يجعل فيها الزاد. وتسمى أيضًا : مزاوِد .
وهذا الحديث قد اشتمل على معجزتين من معجزات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الطعام والشراب . وقد وقع ذلك منه مرات كثيرة . وروي من طرق عديدة ، ووقع منه في جموع كثيرة ، ومشاهد عظيمة ؛ فهي من معجزاته المتواترة ، وكراماته المتظاهرة ، وقد بيَّنَّا ذلك في كتابنا في "الردِّ على النصارى".
(16/112)
كتاب الصيد
الأصلُ في جواز الصيد على الجملة : الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة.
فأما الكتاب : فقوله تعالى : { يسألونك ماذا أُحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين } ؛ أي : وصيد ما علَّمتم ، الآية . وقوله تعالى : { يا أيها الذين ليبلونكم الله بشيء من الصيد } ، وقوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } الآية .
وأما السُّنة : فصحيحها الأحاديث الآتية .
وأما الإجماع : فمعلومٌ .
والصيد : ذكاة في المتوحش طبعًا ، غيرالمقدورعليه ، المأكول نوعه . والنظر فيه : في الصائد ، والمصيد ، والآلة التي يصاد بها . ولكل منها شروط يأتي ذكرها أثناء النظر في الأحاديث إن شاء الله تعالى .
ومن باب الصيد بالجوارح وشروطها
قوله : (( إذا أرسلت كلبك المعلَّم )) ؛ تعليم الكلب وغيره يصاد به هو : تأديبه على الصيد ، بحيث يأتمر إذا أمر ، وينزجر إذا زُجِر . ولا يختلف في هذين الشرطين في الكلاب وما في معناها من سباع الوحوش .
واختلف فيما يصاد به من الطير . فالمشهور : أن ذلك مشترطٌ فيها . وذكر ابن حبيب : أنه لا يشترط فيها أن تنزجر إذا زُجِرَت ؛ فإنَّه لا يتأتى ذلك فيها غالبًا . فيكفي أنها إذا أمرت أطاعت .
(16/113)
قلت : والوجود يشهد للجمهور ، بل الذي لا ينزجر نادرٌ فيها ، وقد شرط الشافعي ، وجمهور من العلماء في التعليم أن يمسك على صاحبه ، ولا يأكل منه شيئًا . ولم يشترطه مالك في المشهور عنه ، وسيأتي . وقد ألحق الجمهور بالكلب كلَّ حيوان مُعَلَّم يتأتى به الإصطياد تمسُّكًا بالمعنى ، وبما رواه الترمذي عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صيد البازي فقال : (( ما أمسك عليك فَكُل )) ؛ على أن في إسناده مجالدًا ، ولا يُعرف إلا من حديثه ، وهو ضعيف . والمعتمد : النظر إلى المعنى ، وذلك أن كل ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلاً ، فلا فارق إلا فيما لا مدخل له في التأثير ، وهذا هو القياس في معنى الأصل ، كقياس السيف على المِدْيَة ؛ التي ذبح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها ، وقياس الأَمَة على العبد في سراية العتق .
وقد خالف في ذلك قوم ، فقصروا الإباحة على الكلاب خاصة . ومنهم من يستثني الكلب الأسود ، وهو الحسن ، والنخعي ، وقتادة ؛ لأنَّه شيطان كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، متمسكين بقوله : (( مكلِّبين )) ، وبأنَّه ما وقع في الصحيح إلا ذكر الكلاب ، وهذا لا حجَّة لهم فيه ؛ لأنَّ ذكر الكلاب في هذه المواضع إنما كان لأنها الأغلب والأكثر . وأيضًا فإن ذكرها خصوصًا لا يدل على أن غيرها لا يصاد بها ؛ لأنَّ الكلب لقب ، ولا مفهوم للقب عند جماهير المحققين من الأصوليين ، ولم يصر إليه إلا الدَّفاق ، وليس هو فيه على توفيق ، ولا وفاق . ولو صحَّ زعمه ذلك لكفر من قال : عيسى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنَّه كان يلزم منه بحسب زعمه : أن محمدًا وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ليس رسولاً .
وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا أرسلت )) ؛ ما يدلُّ على أن الإرسال لا بدَّ أن يكون من جهة الصائد ، ومقصودًا له ؛ لأنَّ أفعل فعل الفاعل كأَخْرَج ، وأَكْرم ، ثم هو فعل عاقل ، فلا بدَّ أن يكون مفعولاً لغرض صحيح ، وفيه مسألتان :
(16/114)
الأولى : أن يقصد الصائد عند الإرسال قصد التذكية والإباحة ، وهذا لا يختلف فيه ، فلو قصد مع ذلك اللهو ؛ فكرهه مالك ، وأجازه ابن عبدالحكم . وهو ظاهر قول الليث : ما رأيت حقًّا أشبه بباطل منه . يعني : الصيد . فأما لو فعله بغير نيَّة التذكية : فهر حرام ؛ لأنَّه من باب الفساد وإتلاف نفس حيوان لغير منفعة . وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قتل الحيوان إلا لمأكلة .
الثانية : لا بدَّ أن يكون انبعاثُ الكلب بإرسالٍ من يد الصائد ، بحيث يكون زمامه بيده فيُخلِّي عنه ، ويُغرِيه عليه ، فينبعثُ ، أو يكون الجارح ساكنًا مع رؤية الصيد ، فلا يتحرَّك له إلا بإغراء الصائد . فهذا بمنزلة ما زمامه بيده فأطلقه مُغريًا له على أحد القولين . فأما لو انبعث الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال ، ولا إغراء : فلا يجوز صيده ، ولا يحل أكله ؛ لأنَّه إنَّما صاد لنفسه ، وأمسك عليها ، ولا صُتْعَ للصائد فيه ، فلا يُنْسبُ إليه إرساله ؛ لأنَّه لا يصدق عليه : (( إذا أرسلت كلبك المعلم )). ولا خلاف في هذا فيما علمت.
وقوله : (( وذكرت اسم الله )) ، وفي الأخرى : (( واذكر اسم الله )) على ا لأمر . وظاهر هذا : أنه لا بدَّ من التسمية بالقول عند الإرسال ، فلو لم توجد على أي وجه كان لم يؤكل الصيد . وهو مذهب أهل الظاهر وجماعة أهل الحديث ، ويعضدهم ظاهر قوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه }.
(16/115)
وذهب طائفة من أصحابنا ، وغيرهم : إلى أنه يجوز أكل ما صاده المسلم وذبحه ، وإن ترك التسمية عمدًا . وحملوا الأمر بالتسمية على الندب ، وكأنهم حملوا هذه الظواهر على ذكر اسم الله بالقلب ، وهو لا يخلو عنه المسلم غالبًا ، فإنَّه إذا نوى التذكية فقد ذكر الله تعالى بقلبه ، فإن معنى ذلك : القصد إلى فعل ما أباحه الله تعالى على الوجه الذى شرعه الله ، وهذا كما قاله بعض العلماء في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )) ؛ أي : من لم ينو ، وأصل هذا : أن الذِّكر إنما هو التنبه بالقلب للمذكور ، ثم سمي القول الدال على الذكر : ذكرًا ، ثم اشتهر ذلك حتى صار السابق إلى الفهم من الذكر : القول اللِّساني. فأما الآية : فمحمولة على أن المراد بها ذبائح المشركين ، كما هو أشهر أقوال المفسرين وأحسنها . وذهب مالك في المشهور عنه إلى الفرق بين ترك التسمية عمدًا ، أو سهوًا ، فقال : لا تؤكل مع العمد ، ويؤكل مع الشهو. وهو قول كافة فقهاء الأمصار ، وأحد قولي الشافعي .
ثم اختلف أصحاب مالك في تأويل قوله : (( لا يؤكل )) ، فمنهم من قال : تحريمًا ، ومنهم من قال : كراهةً . ووجه الفرق : أن الناسي غير مكلَّف بما نسيه ، ولا مؤاخذة عليه ، فلا يؤثر نسيانه بخلاف العامد .
وقوله : (( وإن قَتَلْن )) ؛ هذا لا يختلف فيه أن قتل الجوارح للصيد ذكاة إذا كان قتلها بِتَخْلِيب ، أو تَنْيِيب ، فأما لو قتلته صدْمًا ، أو نطحًا : فلا يؤكل عند ابن القاسم . وبه قال أبو حنيفة . وقال أشهب : يؤكل . وهو أحد قولي الشافعى . وسبب الخلاف : هل صدم الجارح له ، أو نطحه كالمعراض إذا أصاب بعرضه ، أم لا ؟ فشبهه ابن القاسم به ؛ فمنع ، وفرَّق الآخرون : بأن الجوارح حيوان ، وقد أمسك على صاحبه ، وقد قال الله تعالى : { كلوا مما أمسكهن عليكم } ، وليس كذلك المعراض ؛ فإنَّه لا يقال فيه : أمسك عليك .
(16/116)
قلت : وهذا الفرق لفظي لا فقه فيه ، فإن الْمِعْرَاض ، وإن لم يُقل فيه : أمسك عليك ؛ لكنه يقال فيه : أمسك مُطلقًا ؛ لأنَّه لما أصاب الصيد وقتله فقد أمسكه ، والأفقه : قول ابن القاسم ، والله أعلم .
فأما لو مات الصيد فزعًا ، أو دهشًا ، ولم يكن للجوارح فيه فعل : فلا يختلف في أنه لا يؤكل فيما علمت .
وقوله : (( فإن أدركته حيًّا فاذبحه )) ؛ هذا يدلُّ على أن المقدور عليه لا تكون ذكاته العقر ، بل الذبح ، أو النحر. وعلى هذا : فيجب على الصائد إذا أرسل الجوارح أن يجتهد في الجري مُهيِّئًا لآلة الذبح ؛ فإنَّه إن فرَّط في شيء من ذلك حتى هلك الصيد بين يدي الجوارح لم يجز أكله ؛ لأنَّه لما أمسكته الجوارح صار مقدورًا عليه . والصائد لو لم يُفرط كان متمكنًا من ذبحه ، فإن أدركه الصائد منفوذ المقاتل فحكمه حكم المقتول ؛ لأنَّه ميؤوس من بقائه . إلا أن مالكًا استحب ذكاته مراعاة للخلاف . هذا هو مشهور قوله .
وقوله : (( ما لم يشركها كلب ليس معها )) ، وفي أخرى : (( فإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل )) ، وفي الأخرى : (( وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره وقد قتل ، فلا تأكل ، فإنك لا تدري أيهما قتله )) ؛ هذه الروايات وإن اختلفت ألفاظها فمعناها واحد . وهذا الاختلاف يدل : على أنهم كانوا ينقلون بالمعنى . وتفيد هذه الروايات : أن سبب إباحة الصيد الذي هو عَقْرُ الجارح له لا بدَّ أن يكون متحققًا غير مشكوك فيه ، ومع الشكِّ لا يجوز الأكل . وهذا الكلب المخالط محمول على أنه غير مرسل من صائد آخر ، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه . ولا يختلف في هذا . فأما لو أرسله صائدٌ آخر على ذلك الصيد فاشترك الكلبان فيه : فإنَّه للصائدين ؛ يكونان شريكين . فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله ، ثم جاء الآخر ، فهو للذى أنفذ مقاتله .
(16/117)
وقوله : (( فإني أرمي بالمعراض )). قال أبو عبيد : المعراض : سهم لا ريش فيه ، ولا نصل . وقال غيره : المعراض : خشبة ثقيلة ، أو عصا غليظة في طرفها حديدة ، وقد تكون بغير حديدة ، غير أنها يُحدَّدُ طرفها. وهذا التفسير أولى من تفسير أبي عبيد ، وأشهر .
وقوله : (( إذا رميت بالمعراض فخزق فكل ، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل )) ، وفي أخرى : (( إن أصابه بحده فكل ، وإن أصابه(2) بعرضه فلا تأكل فإنَّه وقيذٌ )) ؛ معنى خزق : خرق ونفذ . والعرض : خلاف الطول. والوقيذ : الموقوذ ؛ أي : المضروب بالعصا حتى يموت . وبه فسر قوله تعالى : { والموقوذة }.
وبظاهر هذا الحديث قال جمهور العلماء من السلف والخلف . وقد شذَّ مكحول ، والأوزاعي ، فأباحا أكل ما أصاب المعراض بعرضه . وهو قول مردودٌ بالكتاب والسُّنَّة ؛ لأنَّه مخالف لنصوصهما .
وقوله : (( وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله )) ؛ هذا دليلٌ على جواز الصيد بمحدَّد السلاح ، وكذلك قوله في المعراض : (( إذا أصاب بحدِّه فكل )) ، وكذلك قوله تعالى : { تاله أيديكم ورماحكم } ، ولا خلاف فيه .
وقوله : (( فإن غاب عنك يومًا ، فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل )) ، ونحوه في حديث أبي ثعلبة ، غير أنه زاد : ((فكله بعد ثلاث ما لم ينتن )). وإلى الأخذ بظاهر هذه الأحاديث صار مالك في أحد أقواله ، وسوى بين السَّهم والكلب .
والقول الثاني : إنه لا يؤكل شيء من ذلك إذا غاب عنك .
والقول الثالث : الفرق بين السَّهم ، فيؤكل ، وبين الكلب فلا يؤكل . ووجهه : أن السهم يقتل على جهة واحدة فلا يُشكل ، والجارح على جهات متعدِّدة فيُشكل. والقول الثاني أضعفها .
(16/118)
وقوله : (( ما لم يُنْتِن )) ؛ اختلف العلماء في تعليل هذا المنع ، فمنهم من قال : إذا أنتن لحق بالمستقذرات التي تمجُّها الطِّباع ، فيكره أكلها تنزيهًا ، فلو أكلها لجاز ، كما قد أكل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإهالة السنخة ، وهي المنتنة . ومنهم من قال : بل هو مُعلَّلٌ بما يخاف منه الضرر على آكله . وعلى هذا التعليل يكون أصله محرَّمًا ؛ إن كان الخوف محققًا. وقيل : إن ذلك النتن يمكن أن يكون من نهش ذوات السُّموم . قال ابن شهاب : كُلْ مما قتل إلا أن يَنْعَطِن ، فإذا انعَطَن فإنَّه نهشٌ . وفسَّروا (( ينعطن)) بأنَّه إذا مُدَّ تَمَرَّط . قال ابن الأعرابي : إهاب معطون ، وهو الذي تَمَرَّط شعره .
وقوله : (( وإن وجدته غريقًا في الماء ، فلا تأكل ، فإنك لا تدري الماء قتله ، أو سهمك ؟ )) هذا محمله على الشك المحقق في السبب القاتل للصيد ، والشك : تروذ بين مُجوِّزين لا ترجيحَ لأحدهما على الآخر ، فما كان كذلك لم يؤكل ، وأما لو تحقق أن سهمه أنفذ مقاتله ، ثم وقع في الماء ، أو سقط من الهواء ، أو ما شاكل ذلك ، فإنَّه يؤكل . وهو مذهب الجمهور : مالك ، والشافعي ، وغيرهما . وقد روى ابن وهب عن مالك كراهة ذلك على ما حكاه ابن المنذر ، وهي من جهة الورع ، والله أعلم.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إلا أن يأكل الكلب ، فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه )) ؛ بهذا قال الجمهور من السلف وغيرهم ، منهم : ابن عباس ، والزهري ، وأبو هريرة ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، وعطاء بن أبي رباح ، وعكرمة ، وقتادة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحا ق ، وأبو ثور ، والنعمان .
(16/119)
وذهبت طائفة أخرى إلى جواز أكل ما أكل الكلب منه . منهم : ابن عمر ، وسعد بن مالك ، وسلمان ، وبه قال مالك ، متمسكين بحديث أبي ثعلبة الخشني الذي خرجه أبو داود وغيره . قال فيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا أرسلت كلبك المعلَّم ، وذكرت اسم الله فكل ، وإن أكل منه )). وقد روي مثل حديث أبي ثعلبة عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده . وروي أيضًا من طرق متعدِّدة عن عدي بن حاتم مثله ، والأشهر عنه : الحديث الأول ، وقد رام بعض أصحابنا الجمع بين حديثي : عدي بن حاتم ، وأبي ثعلبة ؛ بأن حملوا حديث النَّهي على التنزيه ، والورع ، وحديث الإباحة على الجواز . وقالوا : إن عديًّا كان موسَّعًا عليه ، فأفتاه بالكف ورعًا ، وأبو ثعلبة كان محتاجًا فأفتاه بالجواز ، والله تعالى أعلم. وقد دلَّ على صحة هذا التأويل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه )).
وقد روي عن قوم من السَّلف التفرقة بين ما أكل منه الكلب فمنعوه ، وبين ما أكل منه البازي فأجازوه . وبها قال النخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، والثوري ، وأصحابه . وحكي ذلك عن ابن عباس ، وفيها ضعفٌ وبُعدٌ ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( فإنك لا تدرى الماء قتله ، أم سهمك )) ؛ دليل على أن المشاركة في قتل الصيد لا تضر إذا تحقق : أن سهمه ، أو جارحه قتله ، وكذلك إذا أصابه السهم في الهواء ، فسقط ، أو تردَّى من جبل ، لكن هذا إنما يتحقق إذا وجد السهم ، أو الجارح قد أنفذ المقاتل ، فحينئذ لا تضرُّ المشاركة ، فلو لم يعلم ذلك حرم على نصَّ هذا الحديث ؛ خلافًا للشافعي ، فإنَّه قال : فيما رمي في الهواء ، فسقط ميتًا ، ولم يُدْر مِمَّا مات : إنه يؤكل . وقاله أبو ثور ، وأصحاب الرأي . قال ابن المنذر : وروى ابن وهب عن مالك نحو قول هؤلاء .
قلت : والصحيح الأول ، وهو المشهور من قول مالك . وهو قول الجمهور . وهو الذي يظهر من هذا الحديث .
(16/120)
وقوله : (( ما لم يُنتن )) ؛ هو رباعيّ مضموم الأول ، من : أنتن الشيء : إذا تغيرت رائحته. وقال بعض اللغويين : يقال : أنتن اللحم : إذا تغير بعد طبخه . و(( صَلَّ )) و(( أَصَلَّ )) : إذا تغير وهو نيئ .
قلت : وهذا الحديث الصحيح يَرُدُّ ما قاله هذا اللغوي ، بل يقال : أنتن اللحم نيئًا ومطبوخًا . ويقال في غير اللحم : أنتن أيضًا ، كما يقال : أنتن الأنف .
ومن باب النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع
قول أبي ثعلبة : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كل ذي ناب من السباع )) ؛ ظاهر هذا النص : التحريم ، وقد جاء نصًّا في حديث أبي هريرة إذ قال : (( ذي ناب من السباع فأكله حرام )). الناب : واحد الأنياب ، وهي ما يلي الرُّباعيات من الأسنان. ذهب الجمهور من السَّلف وغيرهم إلى الأخذ بهذا الظاهر في تحريم السباع ، وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، ومالك في أحد قوليه ، وهو الذي صار إليه في "الموطأ" ، وقال فيه : وهو الأمر عندنا ، وروى عنه العراقيون الكراهة ، وهو ظاهر "المدوَّنة" ، وبه قال جمهور أصحابه .
تنبيه : هذا الخلاف إنما هو في السباع العادية المفترسة كالأسد ، والنمر ، والذئب ، والكلب . وأما ما ليس كذلك فجُلِّ أقوال الناس فيه : الكراهة . وحيث صار أحدٌ من العلماء إلى تحريم شيء من هذا النوع ؟ فإنما ذلك لأنه ظهر للقائل بالتحريم أنَّه عاد ، وذلك كاختلافهم في الضَّبع ، والثعلب ، والهرِّ وشبهها . فرآها قوم من السباع فحكموا بتحريمها ، وأجاز أكلها : الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وهو قول علي ، وجماعة من الصحابة ، وكرهها مالك . حكى ذلك القاضي عياض .
(16/121)
تنبيه : إنما عدل القائلون بالكراهة عن ظاهر التحريم المتقدم ؛ لأنَّهم حب اعتقدوا معارضة بينه وبين قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعمٍ يطعمه إلا أن يكون دمًا مسفوحُا أو لحم خنزيرٍ } الآية . ووجه ذلك أنهم حملوا قوله : { فيما أوحي إليّ } ، على عموم وحي القرآن ، والسُّنَّة ، وقالوا : إن هذه الآية نزلت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو واقف بعرفة في حجة الوداع ، فهي متأخرة عن تلك الأحاديث ، والحصر فيها ظاهر ، فالأخذ بها أولى ؛ لأنها : إما ناسخة لما تقدمها ، أو راجحة على تلك الأحاديث . أما القائلون بالتحريم ، فظهر لهم ، وثبت عندهم أن سورة الأنعام : مكِّيَّة ، نزلت قبل الهجرة ، وأن هذه الآية قصد بها الرد على الجاهلية في تحريمهم البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحامي ، ولم يكن في ذلك الوقت مُحرَّم في الشريعة إلا ما ذكره في حرم الآية ، ثم بعد ذلك حرَّم أمورًا كثيرة ؛ كالحمر الإنسية ، والبغال ، وغيرها ، كما رواه الترمذي عن جابر قال : حرَّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحوم الحمر الأهلية ، ولحوم البغال ، وكلَّ ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطَّير . وذكر أبو داود عن جابر أيضًا قال : ذبحنا يوم خيبر الخيل ، والبغال " والحمير ، فنهانا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن البغال ، والحمير ، ولم ينهنا عن الخيل .
قلت : والصحيح ما ذهب إليه الجمهور . والله أعلم بحقائق الأمور.
(16/122)
وقوله : (( وعن كل ذى مخلب من الطير )) ؛ هو معطوف على قوله : ((نهى عن كل ذي ناب من السِّباع )). وقد تقرَّر أن ذلك النهي محمولٌ على التحريم في السباع ، فيلزم منه تحريم كل ذي مخلب من الطير ؛ لأنَّ الواو تُشَرِّك بين المعطوف والمعطوف عليه في العامل ومعناه ؛ لإنَّها جامعة . وقد صار إلى تحريم كل ذي ال مخلب من الطير طائفة ؛ تمسُّكًا بهذا الظاهر. وممن قال بذلك : أبوحنيفة ، والشافعي . وأمَّا مذهب مالك : فحكى عنه ابن أويس كراهة أكل كذ ذي مخلب من الطير . وجل أصحابه ، ومشهور مذهبه : على إباحة ذلك ؛ متمسكين بقوله تعالى : : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعمٍ يطعمه إلا أن يكون دمًا مسفوحُا أو لحم خنزيرٍ } الآية. وقد تقدم الكلام عليها ، والظاهر : التمسك بما قررناه من ذلك الحديث الظاهر .
وتقييد الطير بـ (( ذي المخلب )) يقتضي : منع أكل سباع الطير العادية : كالعقاب ، والشاهين ، والغراب ، وما أشبهها ، ولا يتناول : الْخَطَّاف ولا ما أشبهها .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي ثعلبة في أواني أهل الكتاب : (( إن وجدتم غير آنيتهم ، فلا تأكلوا فيها )) ؛ إنما كان هذا لأنهم لا يتوقَّون النجاسات فيأكلون لحم الخنزير ، وربما أكلوا الميتات ، فإذا طبخوا ذلك في القدور تنجست ، وربما سرت النجاسة في أجزاء قدور الفخار ، فإذا طبخ فيها بعد ذلك ، وبعد أن غسلت توقع مخالطة تلك الأجزاء النجسة للمطبوخ في القدر ثانية ؛ فاقتضى الورع الكفّ عنها . وقد أشار إلى هذا ابن عباس ؛ فإنه روي عنه أنه قال : إن كان الإناء من نحاس ، أو حديد : غسل ، وإن كان من فخار : أغلي فيه الماء ، ثم غسل .
(16/123)
وقوله : (( وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوه )) ؛ هذه إباحة عند الحاجة ، لكن بشرط الغسل ؛ فإن الماء طهور ، لكن ينبغي أن يكون الغسل على ما قاله ابن عباس كما حكيناه عنه آنفًا . وهذا فيما يطبخون فيه من أوانيهم ، فأما ما يستعملونه من غير أن يطبخوا فيه : فخفيف ، إن لم تظن فيه نجاسة ، وقد توضأ عمر ـ رضى الله عنه ـ من بيت نصراني في حُقِّ نصرانية. فأما لو كان الإناء من أواني الخمر ، أو مما يجعل فيه شيء من النجاسات ، فلا شك في المنع من استعماله ؛ إلا أن يغسل غسلاً بالغًا ؛ فإن كان منها ما يبعد انفصال النجاسة عنه ، لم يجز استعماله ألبتة .
قلت : ويظهر لي على مقتضى هذا الحديث ؛ أنه لا ينبغي للوَرِع أن يُقْدِم على أكل طعام أهل الكتاب ، ما وجد منه بدًّا ؛ بل هو أولى بالانكفاف عنه من الأواني . والله تعالى أعلم .
ومن باب إباحة أكل ميتة البحر
العير : الإبل الْمُحَفَّلة .
قوله : (( وزوَّدنا جرابًا من تمر لم يجد لنا غيره )) ؛ اختلفت ألفاظ الرواة في هذا المعنى ؛ فمنها : ما ذكرناه . وفي رواية : (( فكنا نحمل أزوادنا على رقابنا )) . وفي أخرى : (( ففني زادهم )) . وفي "الموطأ" : (( فكان مزودي تمر )) ، وفي أخرى : (( فكان يعطينا قبضة قبضة ، ثم أعطانا تمرة تمرة )) ، وتلتئم شتات هذه الروايات بأن يقال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زادهم ذلك المزود ، أو المزوديخن إلى ما كان عندهم من زاد أنفسهم الذي كانوا يحملونه على رقابهم ، ثم إنهم لما اشتدذَت بهم الحال جمع أبو عبيدة ما كان عندهم إلى المزود الذي زادهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان يُفرِّقُه عليهم قبضة قبضة ، إلى أن أشرف على النَّفاد ، فكان يعطيهم إيَّاه تمرة تمرة إلى أن فني ذلك .
(16/124)
وَجَمْعُ أبي عبيدة الأزواد ، وقسمتها بالسَّويَّة : إما أن يكون حكمًا حكم به لِمَا شاهد من ضرورة الحال ، ولِمَا خاف من تلف من لم يكن معه زاد ، فظهر له : أنه قد وجب على من معه زاد أن يُحيي من ليس له شيء ، أو يكون ذلك عن رضا من كان له زادٌ رغبةً في الثواب ، وفيما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأشعريين من أنهم إذا قل زادهم جمعوه فاقتسموه بينهم بالسَّويَّة . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فهم مني ، وأنا منهم )) ، وقد فعل ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير مرَّة . ولذلك قال بعض العلماء : إنه سنة .
و (( الْخَبَط )) بفتح الباء : اسم لما يُخبط فيتساقط من ورق الشجر. وبسكون الباء : المصدر . وتبليلهم الْخَبَط بالماء ليلين للمضغ . وإنَّما صاروا لأكل الخبط عند فقد التمرة الموزعة عليهم . وهذا كله يدلُّ على ما كانوا عليه من الجِدِّ ، والاجتهاد ، والصبر على الشدائد العظام ، والمشقات الفادحة ، إظهارًا للدِّين ، وإطفاءً لكلمة المبطلين . رضي الله عنهم أجمعين .
وساحل البحر ، وسيفه ، وشطِّه ، كل ذلك بمعنى واحد .
و (( رفع لنا )) ؛ أي : ظهر لنا ، واطَّلعنا عليه . وهو مبني لما لم يسم فاعله .
و (( الكثيب )) و(( الظرب )) : الجبيل الصغير ، والكوم أصغر منه. و(( الضخم )) : المرتفع الغليظ .
وقوله : (( تُدْعى العَنْبَر )) ؛ أي : تسمَّى بالعنبر ، ولعلها سميت بذلك لأنها الدابَّة التي تلقي العنبر ، وكثيرًا ما يوجد العنبر على سواحل البحر ، وقد وجد عندنا منه على ساحل البحر بقادس- موضع بالأندلس- قطعة كبيرة كالكويم ، حصل لواجديه منه أموال عظيمة.
(16/125)
وقول أبي عبيدة : (( مَيْتَه )) ؛ أي : هي مَيْتَة ، فلا تُقرب لإنَّها حرام بنصِّ القرآن العام ، ثم إنه أضرب عمَّا وقع له من ذلك لما تحقق من الضرورة المبيحة له ، ولذلك قال : (( لا ، بل نحن رسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد اضطررتم فكلوا )) ؛ وهذا يدلّ على جواز حمل العموم على ظاهره ، والعمل به من غير بحث عن المخصِّصات ، فإن أبا عبيدة حكم بتحريم ميتة البحر تمسُّكًا بعموم القرآن ، ثم إنه استباحها بحكم الإضطرار ، مع أن عموم القرآن في الميتة مخصَّصٌ بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته )) ، ولم يكن عنده خبر من هذا المخصِّص ، ولا عند أحد من أصحابه .
وقوله : (( فأقمنا عليها شهرًا حتى سَمِنَّا )) ؛ دليل لمالك ، ولمن يقول بقوله : على أن المضطرَّ يأكل من الميتة شبعه ، ويتبسط في أكلها ، فإنَّها قد أبيحت له ، وارتفع تحريمها في تلك الحال فاشبهت الذَّكيَّة ، وخالفه في ذلك جماعة ، منهم : الحسن ، والنخعي ، وقتادة ، وابن حبيب ، فقالوا : لا يأكل منها حتى يضطرَّ إليها ثانية ، ولا يأكل منها إلا ما يُقيم رمقه . وقال عبد الملك : إن تغدَّى حَرُمَت عليه يومه ، وإن تعشى حرمت عليه ليلته . وهذا الذى قاله هؤلاء تعضده القاعدة المقررة ، وهي : أن كل ما أبيح لضرورة فيتقدَّر بقدرها ، على أنَّه يمكن أن يقال في قضيَّة أبي عبيدة ، وأكلهم من تلك الميتة شهرًا حتى سمنوا : إن ذلك القَدْر كان قدر ضرورتهم ، وذلك أنهم كانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع ، والضعف ، وسقطت قواهم ، وهم مستقبلون سفرًا ، وعَدَوًّا ، فإن لم يفعلوا ذلك ضعفوا عن عدوهم ، وانقطعوا عن سفرهم ، وهذا كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه عند الفتح : (( تقوَّوا لعدوكم ، والفطر أقوى لكم )).
وقوله : (( حتى سَمِنَّا )) ؛ يعني به : تقوينا ، وزال ضعفنا ، كما قال في الرواية الأخرى : (( حتى ثابث إلينا أجسامنا )) ؛ أي : رجعت إلينا قوَّتنا . وإلا فما كانوا سِمَانًا قطُّ .
(16/126)
و (( حجاج العين )) ؛ يقال : بفتج الحاء وكسرها ، وهو الوقب أيضًا. وهو غار العين الذي فيه حبَّتها . وأصل الوقب : الحفرة في الحجر .
و (( الفِدَرُ )) : جمع فِدْرَة : وهي القطعة من اللحم ، والعجين ، وشبههما. وهي : (( الثَّور )) أيضًا ، وجمعه : أثوار . والمراد بها هنا : قطع العجين أو السويق ، ولذلك شبَّه قطع اللحم بها ؛ إذ قال : كفدر الثور .
فإن قيل : كيف جاز لهم أن يأكلوا من هذه الميتة إلى شهر ، ومعلوم : أن اللحم إذا أقام هذه المدَّة ، بل أقل منها ، أنه يُنتِن ، ويشتدُّ نَتَنُه ، فلا يحل الإقدام عليه ، كما تقدم في الصيد ؛ إذ قال : (( كله ما لم يُنْتِن )).
فالجواب : أن يقال : لعل ذلك لم يَنْتَهِ نَتَنُه إلى حال يخاف منه الضرر لبرودة الموضع ، أو يقال : إنهم أكلوه طريًّا ، ثم مَلَّحُوه ، وجعلوه وشائِق ؛ أي : قدَّدوه قدائد ، كما يُفعل باللحم . ويقال فيه : وشقت اللحم ، فاتَّشق ، والوَشيقَة : القديدة . وعلى هذا يدلّ قوله : (( ونقتطع منه الفدر )) ؛ أى : القطع الكبار .
وقوله : (( وتزوَّدنا من لحمه رشائق )) ؛ أى : قدائد . وهذا اللفظ يدلّ أيضًا : على أنه يتزوَّد من الميتة إذا خاف ألا يجد غيرها ، فإن وجد غيرها ، أو ارتجى وجوده يستصحبها . وهو قول مالك ، وغيره من العلماء .
وقوله : (( كنا نَغْتَرف من وَقْب عينها بالقلال الدُّهن )) ؛ دليل على أنهم كانوا يجيزون الانتفاع بشحوم الميتة ، وبالزيت النجس ، كما يقوله ابن القاسم ، ويجنب المساجد . وخالفه عبد الملك وغيره ، فقالوا : لا ينتفع بشيء من ذلك ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سمن الفأرة : (( إن كان مائعًا فلا تقربوه )).
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هو رزقٌ أخرجه الله لكم )) ؛ تذكير لهم بنعمة الله تعالى ليشكروه عليها .
(16/127)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فهل عندكم شيء منه تطعمونا )) ؛ وأكله منه ليبيِّن لهم بالفعل جواز أكل ميتة البحر في غير الضرورة ، وأنها لم تدخل في عموم الميتة المحرَّمة في القرآن ، كما قد بيَّن ذلك بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته )).
وفي هذا للجمهور ردٌّ على من قال بمنع ما طفا من ميتات الماء. وهو : طاورس ، وابن سيرين ، وحماد بن زيد ، وأصحاب الرأي - أبو حنيفة وأصحابه -. وروي عن جابر بن عبدالله أنه قال : يُؤكل ما وجد في حافتي البحر ، وما جَزَرَ عنه ، ولا يُؤكل ما طفا. ومثله روى عن ابن عباس ، وكأنهما قصرا الإباحة على حديث أبي عبيدة المذكور . والصحيح : الإباحة في الجميع لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته )) ، والله تعالى أعلم .
ومن باب النَّهي عن لحوم الحمر الأهلية
قد تقدم الكلام في تحريم نكاح المتعة في كتاب النكاح .
(16/128)
وقوله : (( حرَّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحوم الحمر الأهلية )) ؛ وفي الروايات الأخر : (( نهى )) ، والأُولى نصٌّ في تحريمها . وهي مفسِّرة للنَّهي الوارد في الروايات الأخر . وبالتحريم للحوم الحمر الأهلية قال جمهور العلماء سلفًا وخلفًا ، وفي مذهب مالك قولٌ بالكراهة المغلظة ، والصحيح : الأول ؛ لما تقدم . لا يقالُ : كيف يُجْزِم بتحريم أكلها مع اختلاف الصحابة في تعليل النهي الوارد فيها على أقوال ؛ فمنهم من قال : نهى عنها لأنَّها لم تُخَتَّس . ومنهم من قال : لأنها كانت حمولتهم . ومنهم من قال : لأنها كانت تأكل الْجَلَّة ، كما ذكره أبو داود. ومنهم من قال : لأنها رجس . وهذه كلها ثابتة بطرق صحيحة ، وهي متقابلة ، فلا تقوم بواحد منها حجَّة . فكيف يجزم بالتحريم ، وإذا لم يجزم بالتحريم فأقل درجات النهي أن يحمل على الكراهة ؛ لأنَّا نجيب عن ذلك : بأن الصحابيّ قد نصَّ على التحريم كما ذكرناه آنفًا ، وبأن أولى العلل ما صرَّح به منادي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال : (( إن الله ورسوله ينهيانكم عنها ، فإنَّها رجسٌ من عمل الشيطان )). والرِّجس : النَّجس . فلحومها نجسة ؛ لأنَّها هي التي عاد عليها ضمير (( إنها رجس )). وهي التي أمر بإراقتها من القدور ، وغسلها منها ، وهذا حكم النجاسة . فظهر : أن هذه العلَّة أولى من كل ما قيل فيها .
وأما التعليل الذي ذكره أبو داود من حديث غالب بن ابجر ، وهو الذي قال فيه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما حرمتها عليكم من أجل جوَّال القرية )) ؛ فحديث لا يصح ؛ لأنَّه يرويه عن عبد الله بن عمرو بن لويم ، وهو مجهول ، وقد رواه رجل يقال له : عبد الرحمن بن بشير ، وهو أيضًا مجهولٌ على ما ذكره أبو محمد عبدالحق .
(16/129)
وأما ما عدا ذلك من العلل التي ذكرنا فمتوهمة مقدَّرة ، لا يشهد لها دليل . فصح َّ ما قلناه ، والحمد لله . ثم نقول : ولا بُعْد في تعليل تحريمها بعلل مختلفة ، كل واحدة منها مستقلة بإفادة التحريم . وهو الصحيح من أحد القولين للأصوليين . وأمَّا تعليل من علَّلها بعدم التخميس فغير صحيح ؛ لأنَّه : يجوز أكل الطعام والعلوفة من الغنيمة قبل القسمة اتفاقًا ، لاسيما في حالة المجاعة ، والحاجة .
وقد تقدم القول في الإنسيَّة ، وأنها تقال بفتح الهمزة والنون . وهي الأشهر عند المحققين من أهل التقييد . ويقال أيضًا : بكسر الهمزة وسكون النون . وكلاهما منسوب إلى الإنس .
وقوله : (( أن أكفؤوا القدور )) ؛ الرواية المشهورة بوصل الألف ، وفتح الفاء من : كفأت القدر إذا قلبتها ، وقد روي بقطع الهمزة وكسر الفاء من : أكفأت . قال ابن السكيت وابن قتيبة : هما لغتان بمعنى واحد. وقال الأصمعي : كفأت الإناء ، وكلَّ شيء قلبته ، ولا يقال : أكفأت ، وقيل : كفأتُ القِدْر : كببتها فخرج ما فيها ، وأكفأتها : أملْتها .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القدور : (( أهريقوها ، واكسروها )) ، كان الأمر بكسر هذه القدور إنما صدر منه بناءً على أن هذه القدور لا ينتفع بها مطلقًا ، وأن الغسل لا يؤثر فيها لما يسري فيها من النجاسة ، كما نقوله في أواني الخمر المضرَّاة ، فلما قال له الرجل : (( أنهريقها ، ونغسلها )) ، فهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها مِمَّا تَنْغَسل ، فأباح له ذلك ، فتبدَّل الحكم لتبَدُّل سببه. ولهذا في الشريعة نظائر . وهي تدل على أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحكم بالإجتهاد فيما لم يُوح إليه فيه شيء . وقد تقدم التنبيه على هذا في في الحجِّ عند قول العباس : (( إلا الإذخر )). وفيه دليلٌ : على أن إزالة النجاسات إنما تكون بالماء ، خلافًا لأبي حنيفة ، وقد تقدم .
ومن باب إباحة لحوم الخيل
(16/130)
قول جابر : (( وأذن في لحوم الخيل )) ، وفي الرواية الأخرى : (( أكلنا زمن خيبر الخيل )) ، وقول أسماء : (( نحرنا فرسًا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأكلناه )) ؛ كلها ظاهرةٌ في إباحة لحوم الخيل ، وبذلك قال الجمهور من الفقهاء ، والمحدِّثين ، والسَّلف كالحسن ، وعطاء ، وحمَّاد بن أبي سليمان ، وسعيد بن جبير ، والشافعي ، والثوري ، وأبي يوسف ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وابن المبارك . وذهبت طائفة إلى كراهتها . منهم : ابن عباس ، ومجاهد ، ومالك ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وأبو عبيد : متمسكين بقول الله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة }. وبتقرر الاستدلال بها من وجهين :
أحدهما : أن الله تعالى ذكر الأنعام التي هي : البقر ، والإبل ، والغنم ، في صدر الآية ، ثم عدَّد جميع ما ينتفع به منها ، ومن جملتها الأكل . ثمَّ ذكر بعدها : الخيل ، والبغال ، والحمير ، وذكر منافعها ، ولم يذكر فيها الأكل ، فلو كان الأكل جائزًا لكان مذكورًا فيها ؛ لأنَّ مقصود الآية التذكير بالنعم ، وتعديد ما أنعم الله به علينا في هذه الحيوانات من الفوائد ، ثم إن الأكل من أهمِّ الفوائد ، فلو كان مشروعًا فيها لما أغفله مع القصد إلى تعديدها ، وذكر الامتنان بآحادها .
(16/131)
الثاني : أن الله تعالى قد سوي بين الخيل ، والبغال ، والحمير في العطف والنَّسق ، والبغال والحمير لا تؤكل بالاتفاق على ما تقدَّم ، فالخيل لا تؤكل ، ثم اعتذر القائلون بالكراهة عن الحديث بأن ذلك كان في حالة مجاعة وشدَّة حاجة ، فأباحها لهم ، وكانت الخيل بالإباحة أزلى من البغال ، والحمير لخِفَّة الكراهة فيها ، فكانت بالإباحة أولى. ويستمر من هذا : أن المضطرَّ مهما وجد شيئين أحدهما أغلظ في المنع ، عدل إلى الأخف ، واجتنب الأثقل ، وكذلك يفعل في المحرمات ؛ إذا كان أحدهما - مثلاً - مُتَّفقًا على تحريمه ، والثاني مختلفًا فيه ، فينبغي للمضطرِّ أن يأكل المختلف فيه . وقد شذَّت طائفة منهم ، فقالت بتحريم لحوم الخيل . منهم : الحكم بن عتيبة ، وفيه بُعْدٌ ؛ لأنَّ الآية لا تدل عليه ، والأحاديث تخالفه. والله تعالى أعلم .
وقول جابر : (( أكلنا يوم خيبر حمر الوحش )) ؛ يعني : أنهم صادوها ، ولا خلاف في جواز كلها فيما علمته ؛ لأنَّها من جملة الصَّيد الذي أباحه الله تعالى في كتابه ، وعلى لسان رسوله الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن باب أكل الضبِّ
وهو جُرْذونٌ كبير يكون بالصحراء. و(( الْمَحْنُوذ )) : المشوي بالرَّضف ، وهي الحجارة المحمَّاة ، وهو الحنيذ أيضًا . وقيل : المشوي مطلقًا . يقال : حَنَذَتْه النار ، والشمس ؛ إذا شوته .
(16/132)
وقوله في الضبِّ : (( لست بآكله ، ولا محرِّمه )) ، وقول خالد : ((أحرامٌ الضبُّ يا رسول الله ؟ فقال : لا )) ؛ دليل على أنه ليس بحرام . وهي تبطل قول من قال بتحريمه . حكاه المازري عن قومٍ ، ولم يُعيِّنهم . وحكى ابن المنذر عن عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ النهي عن أكله. والجمهور من السلف والخلف على إباحته لما ذكرناه ، وقد كرهه آخرون : فمنهم من كرهه استقذارًا ، ومنهم من كرهه مخافة أن يكون مما مسخ . وقد جاء في هذه الأحاديث التنبيه على هذين التعليلين . وقد جاء في غير كتاب مسلم : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كرهه لرائحته ، فقال : (( إني تحضرني من الله حاضرة )) ، يريد : الملائكة . فيكون هذا كنحو ما قال في الثوم : (( إِنِّي أناجي من لا تناجي)).
قلت : ولا بُعْد في تعليل كراهة الضب بمجموعها .
وإنما كان يُسمَّى له الطعام إذا وُضع بين يديه ليقبل على ما يحب ، ويترك ما لا يحب ؛ فإنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان يذمُّ ذواقًا ، فإن أحبَّه أكله ، وإن كرهه تركه ، كما فعل بالضبِّ .
وقوله : (( لم يكن بأرض قومي ، فأجدني أعافه )) ؛ أي : أكرهه . يقال : عِفْت الشيء أعافه عيفًا : إذا كرهته . وعِفْتُه أُعِيفُه عيافة : من الزجر . وعافَ الطيرُ يَعيفُ : إذا حام على الماء ليشرب .
وقوله : (( بأرض قومي )) ؛ ظاهره : أنه لم يكن موجودًا فيها ، وقد حكي عن بعض العلماء : أن الضبَّ موجودٌ عندهم بمكة ؛ غير أنه قليل ، وأنهم لا يأكلونه . والله تعالى أعلم .
وقول خالد : (( فاجتررته ، فأكلته ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينظر ، فلم يمنعني )) ؛ هذا تقرير منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جواز أكله ، ولو كان حرامًا لم يقرَّ عليه ، ولا أُكِلَ على مائدته ، ولا بحضرته ، فثبت : أنه حلال مطلقٌ لعينه . وإنَّما كرهه لأمور خارجةٍ عن عينه ، كما نصَّ عليها فيما ذكرناه آنفا .
(16/133)
وقول يزيد بن الأصم : (( دعانا عروسٌ بالمدينة ، فقرَّب إلينا ثلاثة عشر ضبًّا )) ؛ دليل : على أن أكلهم للضباب كان فاشيًا عندهم ، معمولاً به في الحاضرة ، وفي البادية ، ولذلك قال عمر ـ رضى الله عنه ـ : إنه طعام عامة الرُّعاء ، ولو كان عندي طعمته .
وإنكار ابن عباس على الذي نقل عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( لا آكله ، ولا أنهى عنه ، ولا أحرِّمه )) ؛ إنما كان لأنَّه فهم من القائل : أنه اعتقد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحكم في الضبِّ بشيء ، ولذلك قال له : بئس ما قلت ، ما بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا محرِّمًا ومحلِّلاً . ثم بيَّن له بعد ذلك دليل أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أباحه ، فذكر الحديث .
و (( الخوان )) : ما يجعل عليه الطعام ، يقال بكسر الخاء وضمها ، وجمعه : أَخْوِنَة وخُونٌ . ويُسمَّى بذلك إذا لم يكن عليه طعام ، وإذا وضع عليه الطعام وسُمِّي : مائدة .
وفيه دليل : على جواز اتخاذ الأخونة ، والأكل عليها ؛ فإنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد كان له خوان ، وأُكِل عليه بحضرته ، على ما اقتضاه ظاهر هذا الحديث . وما روي : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ـ رضى الله عنهم ـ لم تكن لهم موائد ، وأنَّهم كانوا يأكلون على السُّفَرِ ، فذلك كان غالب أحوالهم. والله تعالى أعلم .
وقول ابن عباس : (( أهدت خالتي أمُّ حُفيد )) ؛ مصغر بغير هاء . كذا صوابه ؛ لأنَّه الأشهر . واسمها : هزيلة. وهكذا ذكره أبو عمر في "الصحابة" ، وهي رواية النَّسفي في البخاري ، وما عدا هذه الرواية فاضطراب بين الرواة . فمنهم من قال : حُفيدة . ومنهم من قال : أمّ حُفيدة . ومنهم من قال : أمّ حُميد. وعند بعض رواة البخارى : أمُّ حذيفة . والأول الصواب . والله تعالى أعلم .
و (( الأَقِطُ )) : اللَّبن المجبَّن الْمُجَّفف .
باب ما جاء في أن الضب والفأر يُتوقع أن يكونا مما مسخ
(16/134)
وقول الأعرابي : (( إنِّي في غائطٍ مَضَبَّة )) ، الغائط : المنخفض من الأرض ، ومضبَّة ؛ أي : ذات ضِباب كثيرة ، وهي بفتح الميم والضاد كقولهم أرض مَسْبَعة ، ومأسدة ؛ أي : كثيرةُ ذلك . قال سيبويه : مَفْعَلَة -بالهاء والفتح - للتكثير ، وقد حكى غيره في مَضَبَّة : كسر الميم والضاد ، والأول المعروف . و(( السَّبْط )) : واحد الأسباط ، وهم كالقبائل في العرب .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله لعن - أو : غضب - على سبط من بني إسرائيل ، فمسخهم دوابَّ يَدِبُّون ، ولا أدري لعل هذا منها )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَوقُّعٌ ، وخوف لأن يكون الضَّبُّ من نسل ما مسخ من الأمم . ومثله ما ذكره في الفأرة لما قال : (( فُقِدت أمَّة من بني إسرائيل لا أدرى ما فَعَلت ، ولا أراها إلا الفأر )) ؛ كان هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظنًّا ، وحدسا قبل أن يوحى إليه : (( إن الله تعالى لم يجعل لمسخٍ نسلاً )). فلما أوحي إليه بذلك زال عنه ذلك التخوُّف ، وعلم أن الضَّبَّ ، والفأر ليسا من نسل ما مُسِخ . وعند ذلك أخبرنا بقوله : (( إن الله لم يجعل لمسخٍ نسلاً )).
وقد تقدَّمت النصوص بإباحة أكل الضَّبِّ ، وأما الفأر : فلا يأكل ، لا لأنه مسخ ، بل لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد استخبثه ، كما قد استخبث الوزغ ، وأمر بقتله ، وسَمَّاه : فويسقًا . وإذا ثبت ذلك فقد تناوله قوله تعالى : { ويحلُّ لهم الطيباتِ ويحرم عليهم الخبائث } ، فيكون أكلها حرامًا .
وأما الْهِرَّ : فقد تناوله عموم تحريم كل ذى ناب . فإنَّه من ذوات الأنياب على ما تقدم . وقد جاء فيه حديث صحيح ذكره أبو داود من حديث جابر بن عبدالله قال : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أكل الْهِرِّ ، وأكل ثمنه .
(16/135)
وقول أبي هريرة : (( آقرأ التوراة ؟ )) هو بمد همزة أَقرأُ ؛ لأنَّها للإستفهام على جهة الإنكار على كعب لَمَّا كرَّر عليه السؤال بقوله : أنت سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ وقد بيَّنه في الرواية الأخرى حيث قال : ((أَأُنْزِلَتْ عليَّ التوراة ؟! . وكان هذا من أبي هريرة تعريضًا بكعب ، فإنَّه كان يقرأ التوراة ، وكان أكثر أحاديثه منها . وأما أبو هريرة فما كان يُحَدِّثُ إلا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن باب أكل الجراد والأرنب
(16/136)
قوله : (( غزونا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبع غزوات نأكل الجراد )) ؛ ظاهره جواز أكل الجراد مطلقًا ، ولم يُختلف في جواز أكل الجراد على الجملة ، لكن اختلف فيه ؛ هل يحتاج إلى سبب يموت به أم لا يحتاج ؟ فعامَّة الفقهاء : على أنه لا يحتاج إلى ذلك . فيجوز أكل الميت منه . وإليه ذهب ابن عبدالحكم ، ومطرِّف من أصحابنا . وذهب مالك : إلى أنَّه لا بدَّ من سبب يموت به ، كقطع رؤسه ، أو أرجله ، أو أجنحته إذا مات من ذلك ، أو يشوى ، أو يُصْلَق. وقال اللَّيث : يُكره أكل ميت الجراد إلا ما أخذ حيًّا ثم مات ، فإن أخذه ذكاته ، وإليه ذهب سعيد بن المسيب ، والجمهور تمسُّكًا بظاهر حديث ابن أبي أوفى المتقدم ، وبما ذكره ابن المنذر : أن أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتهادين الجراد فيما بينهن . وبما ذكره الدارقطني عن ابن عمر : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( أحل لنا ميتتان : الحوت والجراد ، ودمان : الكبد والطحال )) ، على أنه لا يصحُّ لأنه من رواية عبدالله ، وعبدالرحمن ابني زيد بن أسلم ، ولا يحتج بحديثهما . ومن الجمهور من رأى : أنها من صيد البحر ، وعلى هذا فيجوز للمُحرِم صيدها ، من غير جزاء ، ويجوز أكل ما صاد المجوسي منه ، وإليه ذهب النَّخعي ، والشافعي ، والنعمان ، وأبو ثور . فأما مالك والليث فرأيا : أن الجراد من حيوان البر فميتته محرَّمة ؛ لأنَّها داخلة في عموم قوله : { حرمت عليكم الميتة } ، ولم يصح عندهم : (( أحلّت لنا ميتتان )) ، وقالا بموجب حديث ابن أبي أوفى ، ولما ذكره ابن المنذر بشرط الذكاة ؛ إذ ليسا بنصَّين . وإذا كان كذلك فلا بُدَّ فيها من ذكاة إلا أن ذكاة كل شيء بحسب ما يتأتى فيه . فرأى مالك : أنه لا بدَّ من فعلٍ يُفعل فيها حتى تموت بسببه . ررأى اللَّيث : أن أخذها وتركها إلى أن تموت سببٌ يبيحها . ولم ير مالك ذلك لأنه لم يفعل فيها شيئًا . وقال أشهب : لا يؤكل الجراد إلا إذا قُطعت رؤسه ، أو يُطرح حيًّا في نار ، أو ماء . فأما قطع أرجله ، (16/137)
وأجنحته فلا يكون ذلك ذكاة عنده ؛ وإن مات بسببه ، وعلى هذا : فلو صُلِقَ الحيُّ منه مع الميت فقال أشهب : يُطرح المجميع ، وقال سحنون : يؤكل الأحياء ، وتكون الموتى بمنزلة خشاش الأرض يموت في القِدْر .
قلت : وهذا من سحنون ميل إلى أنه من الحيوان الذي ليس له نفسٌ سائلةٌ . ويلزم على هذا ألا ينجس بالموت ، ولا ينجس ما مات فيه . وحينئذ يجوز أكله ميتًا . والله تعالى أعلم .
وقول أنس : (( اسْتَنْفَجْنا أرنبًا )) ؛ هذا الحرف صحيح روايته ومشهورها عند أهل التقييد واللغة بالنون والفاء ، لا يعرفرن غيره . ومعناه : اسْتَثَرنا الأرنب وأخرجناه من مكمنه . يقال : نفَجت الأرنب إذا وثبت . قال الهروي : أنفجتُ الأرنبَ من جحره فنفج ؛ أي : أثرتُه : فثار . وقد وقع للمازري : (( فبعجنا )) بالباء بواحدة من تحتها ، والعين المهملة . وفسَّره : بشققنا ، من : بعج بطنه ؛ إذا شقَّه ، وهذا لا يصحُّ رواية ولا معنى ، وإنما هو تصحيف ، وكيف يَشُقُّون بطنها ، ثم يسعون خلفها ؟!
(16/138)
و (( السَّعي )) : الجرى . و(( اللُّغوب )) : التعب والإعياء . وجمهور السَّلف والخلف من الفقهاء ، وغيرهم على العمل بحديث أنس هذا ، في جواز أكل الأرنب . وقد حكي عن عبدالله بن عمرو بن العاصي تحريمه. وعن ابن أبي ليلى كراهته . وقد ذكر عبدالرزاق من حديث عبدالكريم أبي أمية- وهو ضعيف - قال : سأل جريرُ بن أنس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الأرنب فقال : (( أُنبئت أنها تحيضُ ، لا آكُلُها )). وهو منتطع . وذكر النسائي أيضًا عن موسى بن طلحة ، قال : أتي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأرنب قد شواها رجل ، وقال : يا رسول الله ! إني رأيت بها دمًا . فتركها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يأكلها ، وقال لمن عنده : (( فإني لو اشتهيتها أكلتها )). وهذا مرسل . وليس في شيء من الأحاديث - وإن ضَعُفَت - ما يدلّ على تحريم الأرنب . وغاية هذين الخبرين أستقذارها مع جواز أكلها . فأمَّا من حَرَّم أكلها : فلا متمسك له فيما علمناه ، والحديث الأول حُجَّة عليه .
ومن باب الأمر بتحسين الذبح والنهي عن صبر البهائم
قوله : (( إن الله كتب الإحسان على كل شيء )) ؛ أي : أَمَر به ، وحضَّ عليه . وأصل كتب : ثبت وجمع . ومنه قوله تعالى : { وكتب فى قلوبهم الإيمان } ؛ أي : ثبَّته وجمعه . ومنه : كتبتُ البغلة ؛ إذا جمعتَ حياها. و(( على )) هنا بمعنى : (( في )) ، كما قال تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } ؛ أي : في ملكه . ويقال : كان كذا على عهد فلان ؛ أي : في عهده . حكاه القتبي .
و (( الإحسان )) هنا بمعنى : الإحكام ، والإكمال ، والتحسين في الأعمال المشروعة ، فحقُّ من شرع في شيء منها أن يأتي به على غاية كماله ، ويحافظ على آدابه المصححة ، والمكمِّلة ، وإذا فعل ذلك قُبِل عمله ، وكَثُر ثوابه .
و (( القِتلة )) بكسر القاف ، هي الرواية ، وهي : هيئة القتل .
(16/139)
و (( القَتلة )) بالفتح : مصدر قتل المحدود . وكذلك : الرِّكْبَة والْمِشْيَةُ : والْجِلْسَة ، وما أشبهها : الكسر للاسم ، والفتح للمصدر . والذَّبح أصله : الشقُّ ، والقطع . قال :
كأنَّ بين فَلِّها والفَكِّ فأرةَ مِسْكٍ ذُبِحتْ في سُكِّ
وإحسان الذبح في البهائم : الرفق بالبهيمة ، فلا يصرعها بعنف ، ولا يجرُّها من موضع إلى موضع ، وإحداد الآلة ، وإحضار نيَّة الإباحة ، والقُرْبَة ، وتوجيهها إلى القبلة ، والتَّسمية ، والإجهاز ، وقطع الودجين والحلقوم ، وإراحتها ، وتركها إلى أن تبرد ، والإعتراف لله تعالى بالمنَّة ، والشكر له على النعمة بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا ، وأباح لنا ما لو شاء لحرَّمه علينا . وقال ربيعة : من إحسان الذبح : ألا تذبح بهيمة ، وأخرى تنظر . وحكي جوازه عن مالك . والأوَّل أولى .
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة )) ؛ يحمل على عمومه في كل شيء من التذكية ، والقصاص ، والحدود ، وغيرها ، وليجهز في ذلك ، ولا يقصد التعذيب . ونهيه عن صبر البهائم مفسَّر في حديث ابن عباس حيث قال : (( لا تتخذوا شيئًا فيه الرُّوح غرضًا )). وأصل الصَّبْرِ : الحبس. وقد تقدم في "الأيمان". وهذا النَّهي على ظاهره من التحريم . وقد دلَّ على ذلك : لَعْنُ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِمَنْ فعل ذلك ، كما في حديث ابن عمر.
و (( خاطئة النبل )) ؛ هي : التي لا تُصيب . وظاهره : أن الذى جُعِل لصاحب الطير أن يأخذه السَّهم. ويحتمل : أن يتهون الذي جُعِل له جُعْلٌ غيرُ ذلك على المخطئ كُلَّما أخطأ ، وكل ذلك قِمَارٌ لا يجوز .
و (( الْخَذْفُ )) بالخاء المعجمة بواحدة من فوقها : الرَّمي بالحجر. وبالحاء المهملة : الضرب بالعصا .
وقوله : (( إنها لا تصيد صيدًا )) ؛ أي : لا يحلُّ ما يُصادُ بالبُنْدُق ، ولا بالْحَجَرِ ؛ لأنَّه ليس بمحددٍ ، ولا سلاح .
(16/140)
وقوله : (( لا تَنْكَأْ عدوًّا )) ؛ المشهور في هذا الحرف عند أكثر الرواة : الهمز ، وكذلك قيدته ورويته ، وهو من : نكأت القرحة ، وفيه بُعْدٌ. وقد وقع في بعض النسخ لبعض الرواة : (( لا تُنْكِي )) بغير همز ، من : نكاية العدو . وهو هنا أشبه ، وأوجه ، غير أن صاحب العين قد حكى عن قوم من العرب : أنهم يقولون : نكأت العدوّ . فعلى هذا تتمشى الرواية المشهورة .
وقول عبدالله للخاذف بعد التحذير : (( لا أُكلِّمك أبدًا )) ؛ دليلٌ على هجران من خالف الشرع على علمٍ تأديبًا لهم ، وزجرًا ، حتى يرجعوا . والله تعالى أعلم .
ومن باب لعن من ذبح لغير الله
قول عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ للسائل : (( ما كانَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُسِرُّ إليَّ شيئًا يكتمُه النَّاسَ )) ، وفي لفظ آخر : (( ما خصَّنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيءٍ لم يَعُتمَّ به النَّاسَ )) ، ، وتكذيب للفِرَق الغالية فيه ، وهم : الشيعةُ ، والإماميةُ ، والرافضةُ ، الزاعمين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصَّى لعليٍّ ، وولاه بالنَّصِّ ، وأسرَّ إليه دونَ الناس كلهم بعلومٍ عظيمةٍ ، وأمورٍ كثيرةٍ . وهذه كلها منهم أكاذيبُ ، وتُرَّهات ، وتمويهات ، يشهد بفسادها نصوصُ متبوعهم ، وما تقتضيه العاداتُ من انتشار ما تدعو الحاجةُ العامَّةُ إليه.
وغضبُ عليٍّ على ذلك دليلٌ على أنَّه لم يرتضِ شيئًا مما قيل هنالك. وإنما استحقَّ لاعنُ أبويه لعنةَ الله لمقابلته نعمةَ الأبوين بالكُفران ، وانتهائه إلى غاية العُقوق والعِضيان ، كيف لا وقد قَرَن الله بِرَّهُما بعبادته وإن كانا كافرين بتوحِيده وشريعته .
(16/141)
وأما لعن مَن ذَبَح لغير الله ؛ فإن كان كافرًا يذبحُ للأصنام فلا خفاءَ بحاله ، وهي التي أُهِلَّ بها لغير الله ، والتي قال الله تعالى فيها : { وَلا تأكُلُوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ، على ما تقدَّم . وأما إن كان مسلمًا فيتناوله عمومُ هذا اللعن ، ثم لا تَحِل ذبيحتُه ؛ لأنه لم يقصد بها الإباحة الشرعية ، وقد تقدَّم أنها شرط في الذكاة . ويُتَصوَّر ذبح المسلم لغير الله فيما إذا ذبح عابثًا ، أو مُجرِّبًا لآلةِ الذبح ، أو للَّهْوِ ، ولم يقصد الإباحة ، وما أشبه هذا . وقد تقدم الكلام على لعن من آوى محدثًا في الحج .
و (( منار الأرض )) هي النُّجوم ، والحدود التي بها تتميَّز الأملاك . والمغيِّر لها : إن أضافها إلى ملكه فهو غاصبٌ ، وإن لم يضفها إلى ملكه فهو متعدٍّ ظالِمٌ مفسدٌ لِمُلك الغير. وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من غصب شبرًا من الأرض طوَّقه يوم القيامة من سبع أرضين )). وقد حمل أبو عبيد هذا الحديث على تغيير حدود الحرم ، ولا معنى للتخصيص ، بل هو عام في كل الحدود والنُّجوم . والله تعالى أعلم .
كتاب الأشربة
ومن باب تحريم الخمر
قولها : (( ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ )) ؛ الرواية الصحيحة المشهورة في هذا اللفظ : (( للشُّرُف )) باللام وضم الراء . و(( النواء )) بكسر النون . فالشرف بضم الراء : جمع شارف على غير قياس ، وذلك أن الشارف مؤنث ؛ لأنَّه اسم للناقة الْمُسِّنة . وهو في أصله صفة لها ، فكان حَقَّه أن يجمع على (( فواعل )) ، أو (( فُعَّل )) ؛ لأنَّهما مثالاً جمع فاعل إذا كان للمؤنث ، لكنه لما كان مذكر اللفظ - أي ليس فيه علامة تأنيث - حملوه على ((بازل )) الذي هو صفة للجمل المسنِّ ، فجمعوه جَمْعَهُ ، فقالوا : شُرُف . كما قالوا : بُزُل . واللام في الشُّرُف لام الجر ، وهي متعلقة بفعل محذوف دلَّ عليه الحال ؛ أى : انهض للشُّرُف ، أو : قُم لها . تُحرِّضُه على نحرها ، ولذلك قام حمزة فنحرها .
(16/142)
و (( النواء )) : السمان . يقال : نوت الناقة ، تنوى : إذا سَمِنت ، فهي ناوية ، وجمعها : نواء ، وهو أيضًا على غير قياس ، كما تقدَّم . قال الخطابي : وقد روى هذا اللفظ أبو جعفر الطبري : (( ذا الشَرَف النواء)) بـ (( ذا )) التي بمعنى صاحب ، ويفتح الراء والشين . قال : وفسَّره بالبعد .
قلت : وفي هذه الرواية ومعناها بُعْدٌ ، والصواب : رواية الجماعة كما ذكرناه السَّاعة .
و (( الصُّوَّاغ )) : الصَّائِغ ، وهو الذى يصوغُ الذهب والفضة ، وهو للمبالغة . و(( الأقتاب )) : جمع قتب ، وهي أداة الرَّحل ، وقد يكون في موضع آخر الأمعاء . و(( اجتبَّ أسنمتها )) ؛ أي : شق عنها الجلد ، وأخرج اللَّحم التى فيها . و(( بُقِرت خواصرهما )) ؛ أى : نُقِبَت . وهذا إنما فعل ذلك بعد أن نحرها على عادتهم . وعلى هذا يدلُّ الشعر المذكور بعد هذا. ويحتمل أن يكون فعل ذلك بها من غير نحر استعجالاً لإجابة الإغراء الذي أغرته به المغنية ، لا سيما وقد كانت الخمر أخذت منه .
وقوله : (( فلم أملك عيني )) ؛ أن بكيت ، يعني : مغلوبًا لشدَّة الموجدة.
و (( الشَّربُ )) بفتح الشين . و(( القينة )) : الْمُغَنِّيةُ .
وقوله : (( ما رأيت كاليوم قطّ )) ؛ هذا كلام كثر عندهم ، حتى صار كالمثل . والكاف فيه نعت لـ (( يوم )) محذوف ، تقديره : ما رأيت يومًا مثل اليوم . يهوله لما لقي فيه . ويحتمل أن يكون نعتًا لمصدر محذوف . أي : ما رأيت كرْبًا مثل كرْب اليوم ، أو ما شاكل ذلك . ويدلُّ على الأول ما أنشده ابن شبَّة من الزيادة في شعر القَيْنة فقال :
ألا يا حمز للشُّرفِ النَّواءِ وهنَّ مُعَقَّلاتٌ بالفِنَاء
ضع السكين في اللَّبَّات مِنها وضَرِّجْهُنَّ حًمْزةُ بالدِّماءِ
وعَجِّل من أَطايِبها لِشَرْبٍ قَدِيرًا من طَبِيخٍ أو شِواءِ
(16/143)
قلت : وعلى هذا : فيكون فيه حجة على إباحة أكل ما ذبحه غير المالك تعديًّا ، كالغاصب ، والسارق . وهو قول جمهور العلماء : مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي . وخالف في ذلك : إسحاق ، وداود ، وعكرمة ، فقالوا : لا يؤكل . وهو قول شاذٌّ ، وحجَّة الجمهور : أن الذكاة وقعت من المتعدِّي على شروطها الخاصة بها . وقيمة الذبيحة قد تعلَّقت بذمة المتعدِّي ، فلا موجب للمنع ، وقد وقع التفويت . وقد روى ابن وهب حديثًا يدلُّ على جواز الأكل ، فليبحث عنه ، ويُكتب هنا.
وقوله : (( وجمعتُ حتَّى جمعتُ ما جمعت )) ؛ هكذا رواه الطبري ، والعذري ، وابن ماهان بـ (( حتى )) التي هي للغاية . وقد رواه الشِّجزي ، والسَّمرقندي : (( حين )) مكان (( حتى )) والأول أوضح . وقد سقط ((وجمعت )) الأوَّل في بعض النسخ ، وبسقوطه وثبوت (( حتى )) يَحسُن الكلام ، وقد ذكره الحميدي في "مختصره" بلفظ أحسن من هذا ، فقال : (( وأقبلت حين جمعت ما جمعت )).
(16/144)
قلت : وهذا الحديث يدلُّ على أن شُرب الخمر كان إذ ذاك مباحًا ، معمولاً به ، معروفًا عندهم بحيث لا يُنكر ، ولا يُغير ، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرَّ عليه ، وعليه يدلُّ قوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ، وقوله تعالى : { تتخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا }. وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر ؛ ظاهر هذا الحديث يدلّ عليه ، فإنَّ ما صدر عن حمزة ـ رضى الله عنه ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من القول الجافي المخالف لما يجب من احترام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتوقيره ، وتعزيره ، يدلُّ : على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر ، ولذلك قال الراوي : فعرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه ثَمِلَ . ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُنكر على حمزة ، ولا عنَّفه لا في حال سكره ، ولا بعد ذلك. فكان ذلك دليلاً على إباحة ما يُسكر عندهم . وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه ، فإنَّهم قالوا : إن السكر حرام في كل شريعة قطعًا لأن الشرائع مصالح العباد قطعًا ، لا مفاسدهم . وأصل المصالح العقل ، كما أن أصل المفاسد ذهابه . فيجب المنع من كل ما يذهبه ويشوشه. وما ذكروه واضح ، ويمكن أن ينفصل عن حديث حمزة بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترك الإنكار على حمزة في حال سكره ؛ لكونه لا يعقل ، وعلى إثر ذلك نزل تحريم الخمر . وأن حمزة لم يقصد بشربه السُّكر ، لكنه أسرع فيه فغلبه. والله تعالى أعلم .
ولم يقغ في شيء من الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألزم حمزة غرامة الشارفين ،
لكن روى هذا الحديث عمر بن شبَّة في كتابه ، وزاد فيه من رواية أبي بكر بن عياش : فغرمهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن حمزة ، وهذه الرواية جارية على الأصول ؛ إذ لا خلاف في أنَّ ما يُتْلِف السكران من الأموال لزمه غرمه. وعلى تقدير ألاَّ تثبت هذه الزيادة ؛ فعدم النقل لا يدلّ على عدم المنقول ، ولو دلَّ على ذلك لأمكن أن يقال : إنما لم يحكم عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالغرامة لأن عليًّا ـ رضى الله عنه ـ لم يطلبها منه ، أو لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحمَّلها عنه كما قال في صدقة العباس. والله تعالى أعلم .
(16/145)
وقد احتج بهذا الحديث من لا يلزم طلاق السكران ؛ من جهة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يؤاخذ حمزة بما صدر عنه من قوله له. وإليه ذهب : الْمُزني ، والليث ، وبعض أصحاب أبي حنيفة . وتوقف فيها : أحمد بن حنبل . والجمهور من السَّلف وكافة الفقهاء : على أن ذلك يلزمه ؛ لأنَّ السكران بعد التحريم أدخل نفسه في السُّكر بمعصية الله تعالى فكان مختارًا لما يكون منه فيه ، ولم يكن حمزة كذلك ، بل كان شُرْبُه مباحًا كما قدَّمناه ، فصار ذلك بمثابة من سكر من شُرب اللَّبن ، أو غيره من المباحات ، فإنَّه لا يلزمه شيء مما يجري منه من القول ، ويكون كالْمُغمى عليه . والله أعلم .
وقوله : فنكص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على عقبيه القهقرى .((نكص )) ؛ أي : تأخر . و(( القهقرى )) : الرجوع إلى وراء ، ووجهه إليك . قاله الأخفش . يقال منه : تقهقر الرجل ، يتقهقر ؛ إذا فعل ذلك ، وظاهر هذا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجع إلى خلفه ووجهه إلى حمزة مخافة أن يصدر من حمزة شيء يُكْره ، فإنَّه قد كان أذهب السكر عقله . وقيل في هذا : إنه خرج عنهم مسرعًا. والأوَّل أولى .
وقوله : (( فارتدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بردائه ، ثم انطلق يمشي )) ؛ دليلٌ على المحافظة على حُسن الهيئات عند ملاقاة الناس ، والتَّزَيُّن للمحافل على ما تقتضيه عادات أهل المروءات ، ولا يُعد ذلك رياءً ولا سمعةً .
وقوله : (( فطفق يلوم حمزة )) ؛ أي : جعل وأخذ . يقال : بفتح الفاء وكسرها ، والكسر أكثر وأشهر.
وقول أنس : (( وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر )) ؛ الفضيخ : هو أن يفضخ البسر ، ويصبُّ عليه الماء حتَّى يغلي . قاله الحربي . وقال أبو عبيد : هو ما فضخ من البسر من غير أن تمسَّه نار ، فإنَّ كان معه تمر فهو خليط .
(16/146)
قلت : وعلى هذا يدلّ قوله في أوَّل الرواية الأخرى : (( وكانت عامة خمورهم يومئذ خليط البسر والتمر )). وهذه الأحاديث على كثرتها تبطل مذهب أبي حنيفة ، والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب . وما كان من غيره لا يُسمَّى خمرًا ، ولا يتناوله اسم الخمر ، وإنما يُسمى نبيذًا . وهذا مخالف للُّغة ، والسُّنَّه . ألا ترى : أنه لما نزل تحريم الخمر فهمت الصحابة جميعهم من ذلك تحريم كل ما يُسكر نوعه ؛ فسَوَّوا في التحريم بين المعتصر من العنب وغيره ، ولم يتوقفوا في ذلك ، ولا سألوا عنه ؛ لأنَّهم لم يشكل عليهم شيء من ذلك ، فإنَّ اللِّسان لسانهم ، والقرآن نزل بلغتهم . ولو كان عندهم في ذلك شكٌّ ، أو توهُّم لتوقفوا عن الإراقة حف يستكشفوا ، ويسألوا ، لا سيما وكان النبيذ عندهم مالاً محترمًا منهيًّا عن إضاعته قبل التحريم ، فلما فهموا التحريم نصًّا ترجَّح عندهم مقتضى الإراقة والإتلاف على مقتضى الصيانة والحفظ . ثم كان هذا من جميعهم من غير خلاف من أحد منهم ، فصار القائل بالتَّفريق سالكًا غير سبيلهم . ثم إنَّه قد ثبتت أحاديث نصوصٌ في التسوية بين تلك الأشياء ، وأن كلَّ ذلك خمر على ما يأتي بعد هذا .
وقد خطب عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ الناس فقال : ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل ، وهي من خمسة أشياء : من الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، والعسل . والخمر : ما خامر العقل . وهذه الخطبة بمحضر الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل اللسان ، ولم ينكر ذلك عليه أحد ، وهو الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه .
(16/147)
وإذا ثبت أن كل ذلك يقال عليه : خمر ؛ فيلزمه تحريم قليله وكثيره ، ولا يحل شيء منه تمسُّكًا بتحريم مُسمَّى الخمر ، ولا مخضص ، ولا مفضل يصحّ في ذلك . بل قد وردت الأحاديث الصحيحة والحسان بالنص على : أنَّ ما حَرُمَ كثيره حَرُمَ قليله . روى الترمذي من حديث جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما أسكر كثيره فقليله حرام )). قال : هذا حديث حسن غريب . وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( كلُّ مسكر حرام ، وما أسكر منه الفَرَق ، فملء الكفِّ منه حرام )). وإسناده صحيح .
وأمَّا الأحاديث التي يتمسك بها المخالف ؛ فلا يصح شيء منها على ما قد بيَّن عللها المحدِّثون في كتبهم ، وليس في الصحاح شيء منها ، ثم العجب من المخالفين في هذه المسألة ؛ فإنَّهم قالوا : إن القليل من الخمر المعتصر من العنب حرام ككثيره ، وهو مُجمع عليه ، فإذا قيل لهم : فلم حرم القليل من الخمر ، وليس مُذهبًا للعقل ، فلا بدَّ أن يقال : لأنه داعية إلى الكثير ، أو للتَّعَبُّد ، فحينئذ يقال لهم : كل ما قدَّرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ . فيحرم أيضًا ؛ إذ لا فارق بينهما . إلا مجرَّد الاسم إذا سُلّم ذلك . وهذا القياس أرفع أنواع القياس ؛ لأنَّ الفرع فيه مساو للأصل في جميع أوصافه . وهذا كما نقوله في قياس الأمة على العبد في سراية العتق . ثم العجب من أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأصحابه ، فإنَّهم يتوغلون في القياس ، ويرجحونه جمل أخبار الآحاد ، ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجليَّ المعضود بالكتاب والسُّنة ، وإجماع صدر الأمَّة .
(16/148)
تفصيل : ذهب جمهور العلماء من السَّلف ، وغيرهم : إلى أن كل ما يسكر نوعه حرم شربه ، قليلاً كان أو كثيرًا ، نَيِّئًا كان أو مطبوخًا ، ولا فرق بين المستخرج من العنب ، أو غيره كما قررناه . وأن من شرب شيئًا من ذلك حُدَّ . فأمَّا المستخرج من العنب المسكر النِّيّء : فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم كثيره وقليله ، ولوالنُّقطة منه . وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه على ما ذكرناه .
وخالف الكوفيون في القليل مما عدا ما ذكره وهو الذي لا يبلغ الإسكار . وفي المطبوخ من المستخرج من العنب : فذهب قومٌ من أهل البصرة إلى قصر التحريم على عصير العنب ، ونقيع الزبيب النَّيِّء ، فأما المطبوخ منهما والنَّيِّء والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يقع الإسكار. وذهب أبو حنيفة إلى قصر التَّحريم على المعتصر من ثمرات النخيل والأعناب على تفصيل . فيرى : أنَّ سُلافَةَ العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثُلثاها. وأمَّا نقيع الزبيب والتمر : فيحل مطبوخهما ، وإن مسَّته النار مسًّا قليلاً من غير اعتبار بحدٍّ . وأما النَّيِّء منه فحرام ، ولكنه مع تحريمه إيَّاه لا يوجب الحدَّ فيه . وهذا كله له ما لم يقع الإسكار ، فإنَّ وقع الاسكار استوى الجميع . هذه حكاية الإمام أبي عبدالله . والصحيح ما ذهب إليه الجمهور على ما قررناه ، والحمد لله .
وفي حديث أنس هذا أبواب من الفقه . منها : أن خبر الواحد كان معمولاً به عندهم ، معلومًا لهم ، ألا ترى أنهم لم يتوقفوا عند إخبار المخبر ، بل بادروا إلى إتلاف الخمر ، والامتناع مما كان مباحًا لهم .
ومنها : أن نداء المنادي عن الأمير لا يتنزل في العمل به منزلة سماع قوله .
ومنها : أن المحَّرم الأكل والشُّرب لا ينتفع به ، في شيء من الأشياء ، لا من بيع ، ولا من غيره .
(16/149)
وفيه : كسر أواني الخمر . وعليه تُخَرَّج إحدى الروايتين عن مالك في كسرها ؛ لما داخلها من الخمر ، ولعسر غسلها ، وفي الأخرى : إذا طبخ فيها الماء وغسلت جاز استعمالها . وعلى هذا : فإذا كانت الأواني مضرَّاة في بالخمر لا ينتفع بها لشيء من الأشياء ؛ تكسر على كل حال ، ولذلك شدَّد مالك في الزقاق ، فإنَّ تَعَلَّق الرائحة بها عَسِير الإنفكاك ، بل لا تنفك.
و (( المهراس )) : الحجر الذي يُهْرَس به ، ويدق به .
وقول أنس : (( لقد أنزل الله الآية التي حرَّم فيها الخمر )) ؛ يعني بها : قوله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} ، الآية ، وهي نصٌّ في تحريم الخمر بمجموع كلماتها ، لا بآحادها . وقد فَهِم منها التحريم قطعًا الصَّحابة ، ولذلك قال عمر ـ رضى الله عنه ـ عند سماع : { فهل أنتم منتهون} : انتهينا ، انتهينا. وقد سبق : أن الخمر : كل ما يخامر العقل . والميسر : القِمار ، وهو لعب يُؤكل به مال الغير بحيث لا يحصل له به لا أجر ، ولا شكر . ومنه : النرد ، والشطرنج . حكي ذلك عن عثمان ومجاهد . والأنصاب : كل ما ينصب ليعبد من دون الله تعالى ، ويذبح عنده ، كما كانت الجاهلية تفعل ، والأزلام : قداح يضربون بها عند العزم على الأمر ، في بعضها : افعل . وفي بعضها : لا تفعل . وبعضها لا شيء فيه . فإذا خرج هذا ؛ أعادوا الضرب . وقيل : كان في أحدها : أمرني ربي ، وفي الأخرى : نهاني ربي . والرجس : النجس ، وهو المستخبث شرعًا .
وقوله : { من عمل الشيطان } ؛ أي : يَحْمِلُ عليه ، ويُزَيِّنُه . وقيل : هو الذي كان عمل مبادي هذه الأمور بنفسه حتى اقتدي به فيها. و{ العداوة والبغضاء } : معروفان .{ ويصدَّكم عن ذكر الله وعن الصلاة } : يصرفكم عنها ، فيُذهب العقل ، ويُضيِّع الوقت .
(16/150)
ويُفهم من هذه الآية أيضًا : الحكم بتنجيس الخمر . وهو مذهب كافة علماء السَّلف والخلف إلا شذوذًا . وإليه ذهب ربيعة ، وحكي عن الليث ، والمزني . ووجه التمسك بها على التَّنجيس : أن الله تعالى قد أخبر عنها أنها رجس ، والرجس : النجس القدر ، فتنجس . وأيضًا : لما غلَّظ تحريمها ، وأخبر بالمفاسد النَّاشئة عنها اقتضى ذلك الزجر عنها مطلقًا ، مبالغة في التحريم ، كما فعل في الخنزير ، والدم ، وغير ذلك من الخبائث المحرمات . ويتحرَّر القياس بأن يقال : مستخبث شرعًا مُحرم شربه ، فيكون نجسًا كالبول .
وفي الآية مباحث كثيرة ، سنكتب فيها إن شاء الله تعالى جزءًا مفردًا.
(17/1)
وقوله : (( قال بعضهم : قُتِل فلان ، قُتِل فلان ، وهي في بطونهم )) ؛ هذا القول أصدره عن قائله إما غلبة خوف وشفقة ، وإما غفلة عن المعنى. وبيان ذلك : أن الخمر كانت مباحة لهم ، كما قد صحَّ أنهم كانوا يشربونها ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُقرّهم بل علمها . وهو ظاهر قوله تعالى : {لا تقربو الصلاة وأنتم سكارى }. ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ، ولا عليه شيء ، لا إثم ، ولا مؤاخذة ، ولا ذمٌّ ، ولا أجر ، ولا مدح ؛ لأنَّ المباح مستوي الطرفين بالنسبة للشرع كما يعرف في الأصول . وعلى هذا : فما ينبغي أن يُتخوَّف ولا يُسال عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها ، فإمَّا أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإباحة ، فلم يخطر له ، أو يكون لغلبة خوفه من الله تعالى ، وشفقته على إخوانه المؤمنين توهَّم مؤاخذة ، ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدِّم ، فإنَّ الشفيقَ بسوءِ الظنِّ مولعٌ ، فرفع الله ذلك التوهُّم بقوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات جناحٌ فيما طعموا } ؛ أي : فيما شربوا . وهذا مثل قوله تعالى في نَهْر طالوت : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني } ؛ أي : ومن لم يشربه . وأصل هذا اللفظ في الأكل . يُقال : طَعِمَ الطَّعام ، وشَرِب الشراب . لكن قد تجوَّز في ذلك . وأحسن ما قيل في الآية : إن معنى قوله : { طعموا } : شربوا الخمر قبل تحريمها ، { إذا ما اتقوا } : شربها بعده ، { وآمنوا } : بتحريمها ، { وعملوا الصالحات } : التي تَصدُّ عنها ، { ثم اتقوا } : داوموا على اجتنابها ، { وآمنوا } : بالوعيد عليها ، { ثم اتقوا } : سوء التأويل في تحريمها ، { وأحسنوا } ، في اجتنابها مراقبةً لله. وقيل : إنَّ تكرار الإِتقاء في مقابلة دواعي النفس ، وتكرار الإيمان تذكير بتحريمها ، وتشديد الوعيد فيها. و(( الجناح )) : الإثم والمؤاخذة .
ومن باب الخمر من النخل والعنب والنهي عن اتخاذها خلاًّ
(17/2)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الخمر من هاتين الشجرتين : العنبة ، والنخلة )) ؛ حجَّة للجمهور على تسمية ما يُعتصر من غير العنب : بالخمر إذا أسكر ، كما قدَّمناه . ولا حجَّة فيه لأبي حنيفة على قوله ، حيث قصر الحكم بالتحريم على هاتين الشجرتين ؛ لأنَّه قد جاء في أحاديث أخر ما يقتضي تحريم كل مسكر ، كقوله : (( كل مسكر حرام )) ، ، و: (( كل ما أسكر حرام )) ، ، وحديث معاذ حيث سُئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شراب العسل ، والذرة ، والشعير ، فقال : (( أنهى عن كل مسكر )). وإنَّما خُصَّ في هذا الحديث هاتين الشجرتين بالذكر لأن أكثر الخمر منهما ، أو أعلى الخمر عند أهلها . والله أعلم . وهذا نحو قولهم : المال الإبل ؛ أي : أكثرها وأعمَّها .
وقوله في رواية : (( الكَرْمَة والنخلة )) ؛ يشكل مع قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تقولوا للعنب الكرم ، فإنَّ الكرم قلب المؤمن )) ، ويزول الإشكال : بأن نقول : إطلاق هذا كان قبل النهي ، ثم بعد ذلك ورد النهي . أو يقال : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يدخل في هذا الخطاب ، فإنَّه قال فيه : (( ولا تقولوا )) ، فواجهنا به ، والمخاطب غير المخاطب ، كما تقرَّر في خلط الأصول .
(17/3)
وقول أنس : (( نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يخلط الثمر والزهو ، ثم يشرب )) ؛ ظاهرٌ في تحريم خلطهما وضربه ، وهو مذهبُ كافة فقهاء الأمصار ، وجمهور العلماء ، ومالك في أحد قوليه ، وفي الثاني الكراهة ، وهو مشهورُ مذهبه . وقد شذَّ أبو حنيفة ، وأبو يوسف فقالا : لا بأس بخلط ذلك وشُربه. وقالا : ما حل مفردًا حلَّ مجموعًا . وهذه مخالفه للنصوص الشرعية ، وقياسٌ فاسد الوضع ، ثم هو منتقِضٌ بجواز نكاح كلِّ واحدةٍ من الأختين مُنفرِدَةً ، والجمع بينهما حرامٌ بالإجماع. وأعجب من ذلك تأويلُ أصحابهما للحديث ، إذ قالوا : النَّهي عن ذلك إنما هو من باب السَّرف بجمع إدامين . وهذا تغيير وتبديل ، لا تأويل . ويشهد ببطلانه نصوص أحاديث هذا الباب كلها. ثم إنهم جعلوا الشرابَ إدامًا فِعْل من ذَهَل عن الشرع والعادة ، وتعامى ، وكيف ينهى عن الجمع بين إدامين وقد جُمعا على مائدة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقًّا بغير مَيْنٍ على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
واختلف القائلون بمنع الخلط في تعليل ذلك وعدمه ، فالذي يليق بمذهب أهل الظاهر عدمُ التعليل . والجمهورُ يُعَلِّلونه : بخوف إسراع الشدَّة المسكرة . وعلى هذا : يقصر النهي عن الخلط على كل شيئين يُؤَثِّر كل واحدٍ منهما في الآخر إسراع الشِّدَّة إذا خلطا ، وهذا هو الذي يُفهم من الأحاديث الواردة في هذا الباب ؛ فإنها مصرَّحة بالنَّهي عن الخلط للانتباذ والشرب . وقد أبعد بعض أصحابنا فمنع الخلط وإن لم يكن كذلك ، حتى منع خلطهما للتخليل ، وهذا إنما يليق بمن لم يعلِّل النهي عن الخليطين بعلَّة ، ويلزم عليه أن يجري النهي على خلط العسل واللبن ، وشراب الورد والبنفسج ، والخلِّ والعسل ، وغير ذلك . والصواب ما ذهب إليه مالك والجمهور . والله الموفق .
(17/4)
ونهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اتخاذ الخمر خلاًّ ظاهرٌ في تحريم ذلك . وبه قالت طائفة من أهل العلم ، وروي عن عمر ، وبه قال الزهري ، وكرهه مالك ، وقال أبو حنيفة : لا بأس بأن يتخذ الخمر خلاًّ . وكيف يصحُّ له هذا مع هذا الحديث ومع سببه الذي خرج عليه ، وهو : أن أنسًا روى أن أبا طلحة سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أيتام ورثوا خمرًا : أنجعله خلاًّ ؟ قال : (( لا )) ، فهراقه ، فلو كان هذا جائزًا لكان قد ضيَّع على الأيتام مالهم ، ولوجب الضمان على من أراقها عليهم ، وهو : أبو طلحة . وكل ذلك لم يلزم ، فدلَّ ذلك على فساد ذلك القول .
وهذا الحديث أيضًا يدلّ : على أن الخمر لا تُملك بوجه ، وهو مذهب الشافعي . وقال بعض أصحابنا : إنَّها تُملك . وليس بصحيح ؛ إذ لا تُقرُّ تحت يد أحد من المسلمين ، ولا يجوز له التصرُّف فيها إلا بالإراقة ، ولا ينتفع بها . فأي معنى لقول من قال : إنه يملكها ؟! غير أنه يُطلق لفظ التمليك بالمجاز المحض . والله أعلم .
فرع : لو تخلَّلت الخمر بأمرٍ من الله عز وجل حلَّت . ولا خلاف في ذلك على ما حكاه القاضي عبدالوهاب . فأمَّا لو خلَّلها آدمي فقد أثم ؛ لاقتحامه النهي ، ثم إنها تحل وتطهر ، على الرواية الظاهرة عن مالك ، وعنه رواية أخرى : أنها لا تحل تغليظًا على المقتحم . وقال الشافعي : إنها تحل وهي على النجاسة . وهذا ضعيف لوجهين :
أحدهما : بأنه منتقضٌ بما إذا تخلَّلت من نفسها.
والثاني : أن الموجب للتحريم والتنجيس وهو الشدَّة ؛ قد زال ، فيزول الحكم .
فإن قيل : هَبْكَ أن الشدة قد زالت ، لكن بقيت علَّة أخرى للتَّنجيس وهو مخالطة الوعاء النجس فإنَّه تنخس بالخمر ، فلما استحالت عينها للخلِّيِّة بقيت ممازجته للوعاء النجس ، فتنجست بما خالطها من نجاسة الوعاء .
(17/5)
فالجواب : أن الوعاء حين استحالت الخمر خلاًّ طاهرٌ لطهارة ما تعلق به فيه ؛ إذ هو الآن جزء من الخل الذي في الوعاء . فإنَّ قيل : فيلزم على هذا أن يزول حكم النجاسة عن المحل بغير الماء ، وليس بأصلكم ؟
فالجواب : إنا لى ان لم يكن ذلك أصلنا ، فقد خرج عن ذلك الأصل الكلِّيِّ فروع : كالمخرجين ، وذيل المرأة ، والخف ، والنعل إذا تعلقت بها أرواث الدواب ، وكالسَّيف الضقيل ، وغير هذا مِمَّا استثني عن ذلك الأصل بحكم الدليل الخاصّ ، فيمكن أن تَلْحق هذه المسألة بتلك المواضع . والتحقيق في الجواب ما أشرنا إليه : من أن عين ما حكمنا بنجاسته لأجله قد طهر ، فالمتعلق به الآن طاهرٌ لا نجس ، فالوعاء ليس بنجس . والله الموفق .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذي سأله عن الخمر فقال : إنما أصنعها للدواء : (( إنها ليس بدواء ، ولكنها داء") دليل : على أنه لا يجوز التداوي بالخمر ، ولا بما حزمه الله تعالى من النجاسات والميتات وغيرهما آكلاً ولا شربًا . وبه قال كثير من أهل العلم .
ومن باب : النهي عن الانتباذ في المزفت والحنتم وغيرهما ونسخ ذلك
(17/6)
قد تقدَّم تفسير هذه الأوعية المذكورة في هذا الباب في كتاب الإيمان ، وقد بقيت ألفاظ . فمنها : في الأصل : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنهاكم عن الدُّباء ، والحنتم ، والنقير ، والمقيَّر ، والحنتم : المزادة المجبوبة . كذا رواية الكافة . (( والحنتم : المزادة )) بغير واو ، وكأنه تفسير للحنتم ، وليس بشيء ؛ لأنَّ الحنتم الجرّ ، والمزادة : السِّقاء . وقد رواه الهوزني : (( والحنتم والمزادة )) بالواو ، وكذا وقع في كتاب أبي داود. وقد جوَّده النسائي ، قال : ((والحنتم ، وعن المزادة المجبوبة )) ، والمجبوبة بالجيم ، وبالباء بواحدة من تحتها ، هي الرواية الصحيحة ؛ أي : مقطوعة العنق . قال الهروي وثابت : هي التي قطع رأسها فصارت كهيئة الدّنِّ ، وذلك أنَّها لا توكأ ، فيعلم إذا غلى ما فيها. وقال الخطابي : لأنها ليست لها عراقي فيتنفس منها ، فقد يتغيَّر شرابها ولا يشعر به . وأصل الجبِّ : القطع . وقد رواه بعضهم : (( المخنوثة )) بالخاء المعجمة ، والنون ، والثاء المثلثة . وكأنَّه عنده من الحديث الآخر : نهى عن اختناث الأسقية. والصواب الأوَّل .
(17/7)
وقوله في تفسير النَّقير : هي النخلة تُنسج نَسْجًا بالجيم عند ابن الحذاء . وعند غيره : (( تُنسحُ نَسْحًا )) بالسين والحاء المهملتين . وهو الصواب . ومعناه : يقشر عنها قشرها . والنُّساحة -بضم النون - : ما تساقط من قشر الثمر . وتُنْقر نقرًا - بالنون فيهما - : رواية الجماعة . والله تعالى أعلم . وعند ابن الحذاء : بالباء بواحدة من تحتها ؛ أي : تشق. و(( المدر )) : الطين . يقال : مدرت الحوض ، أمدره : إذا أصلحته بالمدر . وهو الطِّين . و(( البرام )) : جمع بُرَّمة . وتجمع أيضًا : بُرُم . وهي قدور من حجارة . وحاصل أحاديث النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية : المنع للذي يخاف من سرعة تغيُّر النبيذ وشربه ، ولا يشعر الشارب بتغيُّره ، وتفسد أيضًا ماليِّته . فهو من باب حماية ذرائع السكر ، وإفساد المال ، فلما تعذرت ظروف الأدم عليهم لقِلَّتها حين قالوا له : ليس كل الناس يجد سقاء وبأكل الجرذان لها ، كما قال في حديث وفد عبد القيس ، وشق ذلك عليهم رفع ذلك عنهم بأن وسَّع عليهم ، وأباح لهم ما كان منعهم منه من تلك الأوعية ، ونصَّ على المعنى الذي ينبغي أن يُتحرَّز منه ، وهو المسكر ، فقال : (( نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاءٍ ، وإنَّ ظرفًا لا يُحلُّ شيئا ولا يُحرِّمه ، وكل مسكر حرام )). وفي اللفظ الآخر : (( فاشربوا في الأسقية كلَّها ، ولا تشربوا مسكرًا )) ؛ فثبت النسخ ، وارتفع التضييق ، والحمد لله . ومع وضوح هذا النسخ فقد كره مالك الانتباذ في الدُّباء ، والمزفت مبالغة في الاتقاء والورع ؛ لأنَّ هذين الوعاءين أمكن في المعنى الذي قرَّرناه ، ولحديث عبدالله بن عمرو ، الذي قال فيه : فارخص لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجرِّ غير المزفت. والله تعالى أعلم .
ومن باب كل مسكر خمرٌ وحرامٌ
(17/8)
قوله : (( وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أُعطي جوامع الكلم وخواتمه)) ؛ يعني بالجوامع : الكلمات البليغة ، الوجيزة الجامعة للمعاني الكثيرة ، وقد جاء هذا اللفظ ويراد به : القرآن في غير هذا الحديث . ويعني بخواتيم الكلام : أنه يختم كلامه بمقطع وجيز بليغ كما بدأه بمبدأ وجيز بليغ جامع. ويعني بجملة هذا الكلام - والله أعلم - : أن كلامه من مبدئه إلى خاتمته كله بليغ وجيز ، ولذلك كانت العرب الفصحاء تقول له : ما رأينا الذي هو أفصح منك . فيقول : (( وما يمنعني وقد أنزل القرآن بلساني ؛ لسانٍ عربيٍّ مبينٍ )).
وقوله : (( أنهى عن كل مسكرٍ أسكر عن الصلاة )) ؛ أي : صَدَّ عنها بما فيه من السكر ، كما أشار الله تعالى إليه حيث قال : { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصَّلاة فهل أنتم منتهون }.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أو مُسكرٌ هو ؟ )) الرواية التي لا يعرف غيرها هي : بفتح الهمزة ، وفتح الواو ، وعلى جهة الإستفهام عن صفة النبيذ المسئول عنه ، وهو حجَّة على من يعلق التحريم على وجود الإسكار بالشارب من غير اعتبار وصف المشروب . وهم الحنفية . وهذا نص َ في أن المعتبر شرعًا إنما هو المعنى الذي في الخمر ؛ الذي يعتبر عنه الفقهاء بالشَّدَّة المطربة والمسكرة .
وقوله : (( إن على الله عهدًا لمن شرب المسكر )) ؛ أي : التزم ذلك بقوله ووعيده حسب ما سبق في علمه . وقد فسَّر (( طينة الخبال )) بأنها عُصَارة أهل النار . وفي حديث آخر : (( صديد أهل النار )). وسُمِّي ذلك بطينة الخبال لأنها تخبل عقل شاربها ، وتفسد حاله . مأخوذ من الخبل في العقل ، والله تعالى أعلم .
وهذا الوعيد وإن كان مُعلَّقًا على مطلق الشرب فقد قيده في الحديث الآخر منها فقال : (( من شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها ، لم يتب ، لم يشربها في الآخرة )). وأما من تاب منها : فلم يدخل في هذا الوعيد إذا حسنت توبته .
(17/9)
وفيه ما يدلّ على أن التوبة من الذنب مكفرة له . وهو الذي صرحت به آي الكتاب ، والسُّنَّة ، كقوله تعالى : { وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات } ، وكقوله : { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا فأولئك يبدل الله سيئأتهم حسنات } ، وغير ذلك من الآي . ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )) ، وغير ذلك. وهذا مقطوعٌ به في التوبة من الكفر ، وهل هو مقطوعٌ به ، أو مظنون في التوبة من غير الكفر ؛ اختلف فيه أهل السُّنَّة . والذي أقوله : إن من استقرأ الشريعة قرآنًا وسُنَّة ، وتتتع ما فيهما من هذا المعنى علم على القطع واليقين : أن الله يقبل توبةَ الصَّادقين .
وقوله : (( من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة )) ، أو : ((حرمها في الآخرة )) ؛ ظاهره تأبيد التحريم ، وإن دخل الجنة فشرب جميع أشربة الجنة من ماء وعسل ولبن ، ولا يشرب الخمر ، ومع ذلك : فلا يتألم لعدم شُرْبها ، ولا يتنقص من فقدها ، ولا يحسد من يشربها ، فإنَّ الجنة محل مطهَّر منزه عن ذلك كلّه . وإنَّما يكون حال هذا مع فقد شُرب الخمر كحاله مع المنازل التي رفع بها غيره عليه مع علمه برفعتها ، وبأن صاحبها أعلى منه درجة ، وأفضل منه عند الله تعالى . ومع ذلك فلا يحسده ، ولا يتألم بفقد شيء من ذلك استغناء بالذي أُعطي ، وغبطة به ، ولأن الله تعالى قد طهرهم من كل نقص وصفة مذمومة . ألا ترى قوله تعالى : { ونزعنا ما فى صدورهم من غلٍّ إخواننًا على سرر متقابلين } ؟ وقال بهذا المعنى جماعة من العلماء . وقيل : يُنسى خمر الجنة . وقيل : لا يشتهيها . وكل ذلك محتمل . والأولى : الوجه الأول ، والله تعالى أعلم .
(17/10)
وقيل : معنى الحديث : أن حرمانه الخمر إنما هو في الوقت الذي يعذب في النار ، ويسقى من طينة الخبال ، فإذا خرج من النار بالشفاعة ، أو بالرحمة العامة المعبَّر عنها في الحديث بالقبضة ؛ أدخل الجنة ، ولم يُحرم شيئا منها ، لا خمرًا ، ولا حريرًا ، ولا غيره . قال هذا القائل : فإنَّ حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في الجنة نوع عقوبة ، ومؤاخذة فيها ، والجنة ليست بدار عقوبة ، ولا مؤاخذة فيها بوجه من الوجوه . والله تعالى أعلم . وكذلك القول في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة )) ، و(( من شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب بها في الآخرة )) ؛ يجرى فيهما كل ما ذكرناه .
ومن باب كم المدة التي يشرب إليها النبيذ
قوله : (( كنا ننبذ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوَّل الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك ، والليلة التي تجيء ، والغد ، والليلة الأخرى والغد إلى العصر )) ؛ هذا الحديث وما في معناه يدلّ على جواز الانتباذ وشُربه حلوًا ، وعلى أكثر قدر المدَّة التي يشرب إليها ، وهي جواز مقدرة في هذا الحديث بليلتين ويومين ، غير أنَّه جعل غاية اليومين العصر ، ثم سقاه الخادم . وفي الرواية الأخرى : (( المساء ، ثم أمر به فاريق )) ، وظاهر هاتين الروايتين : أنهما مرَّتان . فأما الأولى : فإنَّه لم يظهر فيه ما يقتضي إراقته ، وإتلافه ، لكن اتَّقاه في خاصَّة نفسه أخذًا بغاية الورع ، وسقاه الخادم ؛ لأنَّه حلال جائز ، كما قال في أجرة الحجَّام : (( اعلفه ناضحك )) ؛ يعني : رقيقك . وأما في المرة الأخرى : فتبين له فساده فأمر بإراقته ، ولا يستبعد أن يفسد النبيذ فيما بين العصر والمغرب في آخر مُدَّته في شدة الحر . وقد ذكر أبو داود من حديث أبي هريرة ما يبيِّن هذا المعنى ؛ وذلك : أن أبا هريرة تحيَّن فِطر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنبيذ صنعه له ، فجاءه به وهو يَنِشُّ ، فقال له : (( اضرب بهذا الحائط ، فإنَّ هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر )).
(17/11)
وقول عائشة : (( إنها كانت تنبذ له غدوة فيشربه عشاءً ، وتنبذ له عشاءً فيشربه غدوة )) ؛ يدل على أقصر زمان يشرب فيه ، فإنَّه لا تخرج حلاوة التمر ، أو الزبيب في أقل من ليلة ، أو يومًا .
والحاصل من هذه الأحاديث : أنه يجوز شرب النبيذ ما دام حلوًا ؛ غير أنه إذا انتبذ في الحرِّ أسرع إليه التَّغَيُّر في زمان الحرِّ دون زمان البرد . فليتَّق الشارب هذا ، ويختبره قبل شربه إذا أقام يومين أو نحوهما برائحته ، أو تغيره ، أو ابتداء نَشِيشِه ، فإن رابه شيء فعل كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقول ابن عباس للسائلين : (( أو مسلمون أنتم ؟ )) استفهام لهم عن دخولهم في الإسلام ؛ لأنَّهم سألوا عن بيع الخمر ، والتجارة فيها . وذلك الحكم كان معلومًا عند المسلمين ، بحيث لا يجهله من دخل في الدين ، وامتد مقامه فيه . وكان هؤلاء السائلين كانوا حديثي عهد بالإسلام ، أو كانوا من الأعراب . وفتيا ابن عباس بقوله : لا يصح . إنما معناه : أن ذلك حرام لنصوص السُّنَّة بالتحريم ، كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الذي حرَّم شربها حرم بيعها )) ، و(( إن الله إذا حرَّم على قومٍ شيئًا حرَّم عليهم ثمنه )). وهذا كله مفهوم من الأمر بإراقتها وباجتنابها فإنَّه إذا لم يتتفع بها فأخذ المال عوضًا عنها أكلٌ للمال بالباطل.
وإراقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما نبذ في الحنتم والنقير كان ذلك - والله أعلم - قبل أن ينسخ ذلك كما تقدَّم .
وقوله في حديث سهل : (( فأماثته )) ؛ هكذا الرواية بالهمزة رباعيًّا ، والثاء المثلثة ، والتاء باثنتين من فوقها . ومعناه : عركته . ويقال ثلاثيًّا. قال الهروي : يقال : مُِثْتُ الشيء ، أَمِيثُه ، وأمثْتُه أُمِيثُه . والثلاثي حكاه ابن السِّكِّيت . وقد وقع في بعض نسخ مسلم : (( أماتته )) بتاءين كل واحدة منهما باثنتين فوق . وهو تصحيف ، والله أعلم. و((العزلاء )) : فم السقاء الأسفل .
باب كيفية التنبيذ الذي يجوز شربه
(17/12)
وقوله : (( تَخُصُّه بها )) ؛ كذا لجميع رواة مسلم . وإنما خَصَّته بذلك لقلَّته ؟ فإنَّه كان لا يكفي أكثر من واحد . وبحتمل أن تكون بدأته به رجاء بركته على عاداتهم معه. وقد رواه ابن السَّكن في كتاب البخاري : (( تتحفه به )). وهو قريب المعنى من : (( تخصُّه به )) ، فإنَّه من التُّحفة ، وهي الطُّرفة .
ومن باب استدعاء الشراب من الخادم
قوله : (( الأُجُم )) بضم الهمزة : الحِصْنُ ، وجمعه آجام . قاله أبو عبيد ، وكذلك : أُطُم ، وآطام .
وقول هذه المرأة لرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أعوذ بالله منك )) ؛ يدلّ : على أنها لم تعرفه ، ولم تعرف ما يراد منها . ولذلك قالت لما أخبرت بمن هو ، وبما أريد بها : (( أنا كنت أشقى من ذلك )).
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها : (( قد أعذتك )) ؛ جواب لقولها ، وموافقة لها على قصدها وذلك : أنه فهم منها كراهية من قولها ، ومن حالها ؛ إذ كانت مُعْرِضةً عمَّن يُكلِّمُها ، ولعلَّها لم تعجبه لا خُلُقًا ، ولا خَلْقًا .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اسقنا ياسهل )) ؛ دليل على التَّبَسُّط مع الصديق ، واستدعاء ما عنده من طعام وشراب ، وهذا لا خلاف فيه إذا كان الصديق ملاطفًا ، طيب النفس ، وعلم من حاله ذلك . وهذا الذي قاله الله تعالى فيهم : { أو صديقكم }.
وقول أنس : (( لقد سقيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقدحي هذا الشراب كلَّه : العسل ، والنبيذ ، واللبن ، والماء )) ؛ فيه دليل على استعمال الحلاوة ، والأطعمة اللذيذة ، وتناوبها . ولا يقال : إن ذلك يناقض الزهد ، ويباعده ، لكن إذا كان ذلك من وجهه ، ومن غير سرف ، ولا إكثار .
(17/13)
واستيهابُ عمر بن عبدالعزيز القدح من سهل ؛ إنما كان على جهة التَّبُّرك بآثار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولم يزل ذلك دأب الصحابة والتابعين وأتباعهم ، والفضلاء في كلِّ عصر . فكان أصحابه يتبرَّكون بوضوئه ، وشرابه ، وبعرقه ، ويستشفون بِجُبَّته ، ويتبركون بآثاره ، ومواطنه ، ويدعون ، ويصلُّون عندها . وهذا كلُّه عمدٌ بمقتضى الأمر بالتعزير ، والتعظيم . ونتيجة الْحُبِّ الصحيح . رزقنا الله الحظَّ الأكبر من تعظيمه ، ومحبَّته ، وحشرنا في زمرته .
ومن باب شرب اللبن من أيدي الرُّعاة
قوله في هذه الرواية : (( أقبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكة إلى المدينة )) ؛ هذا كان في وقت هجرته ، كما جاء في الرواية الأخرى : (( قال أبو بكر : لما هاجرنا من مكة مع رسول الله )) ، وذكر نحو ما تقدَّم . وقد وقع في هذا الحديث في آخر كتاب مسلم زيادة فيها وَهْمٌ ، وذلك : أن أبا بكر سأل الراعي : لمن الغنم ؟ فقال الراعي : إنها لرجل من أهل المدينة . والصواب : (( من أهل مكة )). ورواه البخاري من رواية إسرائيل : (( لرجل من قريش )). وفي رواية أخرى : (( من أهل مكة أو المدينة )) على الشك .
قلت : وقيل : إنَّه ليس بوهم ؛ لأنَّه أطلق على مكة مدينة ، وهو كذلك ، فإنَّ كل بلدة يصح أن يقال عليها : مدينة ، كما قال الله تعالى : { وكات فى المدينة تسعة رهط } ، وهي مدينة ثمود ، وهي الحجر .
وأمَّا تسمية بلد مهاجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة ، فقد صار علمًا لها بحكم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سَمَّاها بذلك ، وغلب ذلك عليها ، وكره أن يقال : يثرب ، كما تقدَّم في الحجِّ .
(17/14)
وقوله : (( فشرب منها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى رضيت )) ؛ أي : حتى رَويَ فرضيت رَيَّه ، وكأنَّه شقَّ عليه ما كان فيه من الحاجة إلى اللَّبن ، فلمَّا شرب وزال عنه ذلك رضي به . وفي رراية أخرى : (( فأرضاني )). والمعنى واحد . وقد يقال : كيف أقدم أبو بكر على حلب ما لم يؤذن له في حلبه ؟ وكيف شرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك اللَّبن ولم يكن مالكه حاضرًا ، ولا أذن في ذلك ، مع نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مثل هذا بقوله : (( لا يحلبن أحدٌ ماشية أحد إلا بإذنه )) ؟ الحديث.
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة :
أحدها : إن ذلك اللَّبن كان تافهًا لا قيمة له ، لا سيما مع بُعْدِه عن العمارة ، فكأنه إن لم يَشْرَب وإلا تَلِفَ . فيكون هذا من باب قوله في الشَّاة : (( هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب .
قلت : وهذا ليس بشيء ؛ لأنَّ الحبَّة من مال الغير لا تحل إلا بطيب نفس منه . وتشبيهها باللقطة فاسدٌ ، فإنَّ اللَّبن في الضَّرع محفوظ كالطَّعام في المشربة . ثم لم يكن على بعد من العمران بدليل إدراك سراقة لهم حين سمع أخبارهم من مكة ، وخرج من فوره ، فأدركهم يومه ذلك ، على ما تدلُّ عليه قصته في كتب السِّير ، والله أعلم .
وثانيها : إن عادة العرب جارية بذلك ، فعَمِلا على العادة ، وذلك قبل ورود النهي المذكور عن ذلك .
وثالثها : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في حاجة وضرورة إلى ذلك ، ولا خلاف في جواز مثل ذلك عند الضرورة إذا أمن على نفسه . وهل يلزمه قيمة ذلك أو لا ؟ قولان لأهل العلم .
ورابعها : إن ذلك كان مالاً لكافر ، والأصل في أموالهم الإباحة .
قلت : وقد يمنع هذا الأصل ، لا سيما على مذهب من يقول : إن الكافر له شُبهة مُلك . وقد تقدَّم الخلاف في هذا في الجهاد .
وخامسها : إنهما علما لِمَن هي ، فإمَّا أن يكون قد أباح لهما ذلك ، أو علما من حاله أنه يطيب قلبه بذلك . وهذا أشبهها وأبعدها عن الاعتراض إن شاء الله تعالى .
(17/15)
و (( إيلياء )) : هي بيت المقدس ، وهو ممدود بهمزة التأنيث ، ولذلك لاينصرف . ويقال : إيليا مقصورًا ، ويقال : إليا على وزن عَلْيا ؛ ثلاث لغات .
وقول جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الحمد لله الذى هداك للفطرة )) ؛ يعني بها : فطرة دين الإسلام ، كما قال تعالى : { فطرت الله التي فطر الناس عليها} ، ثم قال : { ذلك الدين القيم }(2). وقيل : جعل الله ذلك علامة لجبريل على هداية هذه الأمة ؛ لأنَّ اللَّبن أزل ما ينغذيه الإنسان . وهو قوت خلي عن المفاسد ، به قوام الأجسام ، ولذلك آثره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الخمر ، كما ذكرناه في الإسراء . ودين الإسلام كذلك ، هو أوَّل ما أخذ على بني آدم ، وهم كالذَّرِّ ، ثم هو قوت الأرواح ، به قوامها ، وحياتها الأبدية ، وصار اللبن عبارة مطابقة لمعنى دين الإسلام من جميع جهاته ، والخمر على النقيض من ذلك في جميع جهاتها ، فكان العدول إليه لو كان ووقع علامة على الغواية . وقد أعاذ الله من ذلك نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ طبعًا وشرعًا . والحمد لله تعالى . ويفهم من نسبة الغواية إلى الخمر تحريمه ، لكن ليس بصريح ، ولذلك لم يَكْتَفِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمثل ذلك في التحريم حتَّى قَدِم المدينة فشربوها زمانًا ، حتَّى أنزل الله التحريم .
ومن باب الأمر بتغطية الإناء
قوله : (( غطُّوا الإناء ، وأوكُوا السقاء )) ؛ جميع أوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى المصلحة الدنيوية ، كقوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم }. وليس الأمر الذي قُصِد به الإيجاب ، وغايته أن يكون من باب الندب ، بل قد جعله كثير من الأصوليين قسمًا منفردًا بنفسه عن الوجوب والندب .
و (( إيكاء السِّقاء )) : شَدُّهُ بالخيط . وهو الوكاء ، ممدود مهموز ، ولذلك يجب أن يكون (( أوكئوا )) رباعيًّا مهموز اللام.
و (( الفويسقة )) : الفأرة ، سميت بذلك لخروجها من جحرها للفساد .
(17/16)
وقوله : (( فإنَّ لم يجد أحدكم إلا أن يَعْرُض عودًا ويذكر اسم الله فليفعل )) ؛ هو بضم الراء ، وكذا قاله الأصمعي ، وقد رواه أبو عبيد بكسر الراء ، والوجه الأول : أن يجعل العود معروضًا على فم الإناء ، ولا بدَّ من ذكر الله تعالى عند هذه الأفعال كُلِّها ، كما جاء في الحديث الآخر بعد هذا ، فيذكر الله تعالى ، وببركة اسمه تندفع المفاسد ، ويحصل تمام المصالح . فمطلق هذه الكلمات مردود إلى مُقَيَّدِها .
و (( الشيطان )) هنا للجنس بمعنى الشياطين . و(( الفواشي )) : كل ما فشا وانتشر من المال : الإبل ، والغنم ، والبقر . قال ابن الأعرابي : يقال : أفشى ، وأمشى ، وأوشى ، بمعنى واحد : إذا كثرت مواشيه .
و (( فحمة ا لليل )) : سواده . وقد تضمنت جملة هذه الأحاديث : أن الله تعالى قد أطلع نبيَّه في على ما يكون في هذه الأوقات من المضارِّ من جهة الشياطين ، والفأر ، والوباء . وقد أرشدنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ما يُتَّقى به ذلك ، فليبادر الإنسان إلى فعل تلك الأمور ذاكرًا الله تعالى ، مُمتثلاً أمر نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وشاكرًا لله تعالى على ما أرشدنا إليه وأعلمنا به ، ولنبيِّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تبليغه ، ونصحه . فمن فعل ذلك لم يصبه من شيء من ذلك ضررٌ بحول الله وقوته ، وبركة امتثال أوامره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجازاه عنَّا أفضل ما جازى نبيًّا عن أمته ، فلقد بلَّغ ، ونصح .
باب ...
وقوله : (( أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقدح لبن من النقيع ليس مخمَّرًا )) ؛ اختلف في رواية هذا الحرف الذي هو (( من النقيع )) ، فأكثر الرواة واللغويين على أنه بالنون والقاف . وقال الهروي : وهو وادي العقيق على عشرين فرسخًا من المدينة ، وهو الذي حماه عمر ـ رضى الله عنه ـ لنعم الصَّدقة . وقال الخطابي : هو القاع . قال غيره : وأصله كل موضع يستنقع فيه الماء . وقد رواه أبو بحر سفيان بن العاصي بالباء الموحدة.
(17/17)
قال الخليل : البقيع بالباء : الأرض التي فيها شجر شتَّى . وأما بقيع الغرقد ، وبقيع بطحان فبالباء الموحدة . ويحتمل أن يريد واحدًا منهما على رواية أبي بحر ، والله تعالى أعلم .
و (( المخثر )) : المغلى . والتخمير : التغطية .
وشربه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإناء الذي لم برم يُخَمَّر دليلٌ على أن ما بات غير مخمَّر ، ولا مُغطَّى أنه لا يحرم شربه ، ولا يكره . وهذا يحقق ما قلناه : من أن المقصود الإرشاد إلى المصلحة ، والله تعالى أعلم .
ومن باب النهي عن الشرب قائمًا
لم يَصِرْ أحدٌ من العلماء فيما علمت إلى أن هذا النهي على التحريم ، وإن كان جاريًا على أصول الظاهرية ، إنَّما حمله بعض العلماء على الكراهة ، والجمهور : على جواز الشرب قائمًا . فمن السلف : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ـ رضى الله عنهم ـ . وجمهور الفقهاء ، ومالك متمسكين في ذلك بشرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من زمزم قائمًا . وكأنهم رأوا هذا الفعل منه متأخرًا عن أحاديث النهي ، فإنَّه كان في حجة الوداع ، فهو ناسخٌ . ويُحَقِّقُ ذلك حُكم الخلفاء الثلاثة بخلافها ، ويبعدُ أن تخفى عليهم تلك الأحاديث مع كثرة علمهم ، وشدذَة ملازمتهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتشدُّدهم في الدين . وهذا وإن لم يصلح للنسخ فيصلح لترجيح أحد الحديثين على الآخر .
(17/18)
وأمَّا من قال بالكراهة : فيجمع بين الحديثين بأن فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبيِّن الجواز ، والنَّهي يقتضي التنزيه ؛ فالأولى : ترك ذلك على كل حال . وأما قول قتادة : (( الأكلُ أَشَرُّ )) : فَشَيءٌ لم يقل به أحدٌ من أهل العلم فيما علمت. وعلى ما حكاه النقلة والحفاظ ، فهو رأيه ، لا روايته . والأصل : الإباحة . والقياس خليٌّ عن الجامع . وقد ذهب بعض الناس : إلى أن النهي عن الشرب قائمًا إنما كان لئلا يستعجل القائم فَيَعُبُّ ، فيأخذه الكُباد ، أو يشرق ، أو يأخذه وجع في الحلق ، أو في المعدة ؛ فينبغي ألا يشرب قائمًا ، وحيث شرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائمًا أمن ذلك ، أو دعته إلى ذلك ضرورة ، أو حاجة ، لا سيما وكان على زمزم ، وهو موضع مزدحم الناس ، أو لعلَّه فعل ذلك ليري الناس أنه ليس بصائم ، أو لأن شرب ماء زمزم في مثل ذلك الوقت مندوبٌ إليه . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( لا يشربن أحدكم قائمًا ، فمن نَسِي فليستقيء )) ؛ قال الإمام أبو عبدالله : لاخلاف بين أهل العلم : في أن من شرب قائمًا ناسيًا ليس عليه أن يستقيء . قال بعض الشيوخ : والأظهر : أن هذا موقوف على أبي هريرة .
ولا خلاف في جواز الأكل قائمًا ، وإن كان قتادة قال : (( أَشَرُّ وأخبث )).
قلت : ويمكن أن يقال : إن القيء وإن لم يقل أحدٌ بأنَّه واجبٌ عليه ، فلا بعد في أن يكون مأمورًا به على جهة التطبُّب . وهو يؤيد قول من قال : إن النهي عن ذلك مخافة مرض أو ضرر ، فإنَّ القيء استفراغ مما يخاف ضرره .
ونهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عن اختناث الأسقية . قال الراوي : واختناثها أن يُقْلَبَ رأسُها ويُشرب منه . قال ابن دريد : اختناث الأسقية : كسر أفواهها إلى خارج ليشرب منها . فأمَّا كسرها إلى داخل : فهو القمع .
قلت : وأصل هذه اللفظة : التَّكسر والتثني . ومنه : المخنث وهو الذي يتكسَّر في كلامه تكسُّر النساء ، ويَنْثَنِي في مِشْيَته كمشيتهنَّ .
(17/19)
وقيل في هذا ، وفي نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الشرب من فم السقاء : إن ذلك مخافة أن يتقزَّز منه بعض الناس فيستقذره . وقيل : لما يخاف من ضرر يكون هنالك ، كما روي عن أبي سعيد : أن رجلا شرب من في سقاء فانساب جان في بطنه ، فنهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اختناث الأسقية ، وأن يشرب من أفواهها . ذكره أبو بكر بن أبي شيبة من رواية الزهري . وقد خرَّج الزبيري وغيره : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام إلى قربة ، فخنثها ، وشرب من فيها . وهذا - إن صحَّ - محمله : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم أنه لم يكن هنالك شيء يضر ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يستقذر منه شيء ، بل كان كلُّ ما يستقذر من غيره يستطاب منه ، وتطيب به الأشياء .
ومن باب النهي عن التَّنَفُّس في الإناء
نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن التنفس في الإناء إنما هو لئلا يتنفس فيه فيتقذر الماء ببزاقٍ يخرج من الفم ، أو بريح كريهة تتعلَّق بالماء ، أو بالإناء ، وعلى هذا : فإذا لم يتنفس في الإناء فليشرب في نفسٍ واحد ما شاء . قاله عمر بن عبدالعزيز . وأجازه جماعة ؛ منهم : ابن المسيِّب ، وعطاء بن أبي رباح ، ومالك بن أنس . وكره ذلك قومٌ ؛ منهم : ابن عباس ، وطاووس ، وعكرمة ، وقالوا : هو شرب الشيطان . والقول الأول أظهر لقوله في للذي قال : إنه لا يروي من نفس واحدٍ : (( أَبِنِ القَدَحَ عن فِيكَ ، ثم تَنَفَّس )). وظاهره : أنه أباح له الشرب في نفس واحدٍ إذا كان يَروى منه .
وقول أنس : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتنفس في الشراب ثلاثًا )) ، وفي رواية : (( في الإناء )) قد حمل بعضهم هذا الحديث على ظاهره ، وهو أن يتنفس في الإناء ثلاثًا . وقال : فعل ذلك ليبيِّن به جواز ذلك . ومنهم من علل جواز ذلك في حقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه لم يكن يُتَقَذَّرُ منه شيء ، بل الذي يُتَقَذَّرُ من غيره يُستطاب منه ، فإنَّهم كانوا إذا بزق ، أو تنخع تدلكوا بذلك ، وإذا توضأ اقتتلوا على فضل وضوئه ، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى .
(17/20)
قلت : وحمل هذا الحديث على هذا ليس بصحيح ؛ بدليل بقية الحديث ، فإنَّه قال : (( إنه أروى ، وأبرأ ، وأمرأ ، وهذه الثلاثة الأمور إنما تحصل بأن يشرب في ثلاثة أنفاس خارج القدح ، فأما إذا تنفس في الماء وهو يشرب : فلا يأمن الشَّرَق ، ويحصل تقذير الماء ، وقد لا يروى إذا سقط من بزاقه شيء ، أو خالطه من رائحة نفسه إن كانت هنالك رائحة كريهة . وعلى هذا المعنى حمل الحديث الجمهور . وهو الصواب إن شاء الله تعالى نظرًا إلى المعنى ، ولبقية الحديث ، ولقوله للرجل : (( أَبِنِ القدح عن فيك )). ولا شك : أن هذا من مكارم الأخلاق ، ومن باب النظافة ، وما كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر بشيء من مكارم الأخلاق ثم لا يفعله .
و (( أروى )) من الرِّي ؛ أي : أكثر رَيَّا . و(( أمرأ )) و(( أبرأ )) قيل : إنهما بمعنى واحد ؛ أي : أحسن شربًا . والباء تبدل من الميم في مواضع. و(( أمرأ )) من قوله تعالى : { رثهنيئًا مريئًا }. يقال : استمرأت الطعام : إذا استحسنته واستطبته . وعلى هذا المعنى الذي صار إليه الجمهور يكون الشراب المذكور بمعنى : الشرب مصدرًا ، لا بمعنى الشراب الذي هو المشروب . فتأمله ، فإنَّه حسنٌ معنًى ، وفصيحٌ لغةً ، فإنَّه يقال : شرب شُربًا وشرابًا بمعنى واحد .
وقول أنس : (( وكن أُمَّهاتي )) ؛ هذا على لغة قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يتعاقبون فيكم ملائكة . و(( يَحْثُثْنَنِي )) ؛ أي : يَحْضُضْنَنِي . حثَّ ، وحضَّ ، ورغَّب بمعنى واحد . و(( شِيبَ )) ؛ أي : خلط بالماء ومزج ليبرد .
وإنما بدأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأعرابي لأنه كان عن يمينه ، فبيَّن : أن ذلك سُنَّة ، ولذلك قال : (( الأيمن فالأيمن )) ؛ أي : أعط الأيمن ، وابدأ به. وقيل وأيضًا : فإنه قصد استسلافه ، فإنَّه كان من كبراء قومه ، فلذلك جلس عن يمينه . والأول أظهر ، ولا يبعد قصد المعنى الثاني .
(17/21)
وقول أنس : (( فهي سُنَّة ، فهي سُنَّة )) ؛ يعني : مناولة الشراب الأيمن فالأيمن . وهل تجري هذه السُّنَّة في غير الشراب ، كالمأكول ، والملبوس ، وغيرهما من جميع الأشياء ؟ قال المهلَّب وغيره : نعم . وقال مالك : إن ذلك في الشراب خاصة . قال أبو عمر : ولا يصحُّ ذلك عن مالك .
قال القاضي عياض : ويشبه أن يكون معنى قول مالك : إن ذلك في الشراب خاصة : أنه فيه جاءت السنة بتقديم الأيمن فالأيمن ، وغيره إنما هو من باب الاجتهاد والقياس .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الأيمنون الأيمنون )) ؛ هذا مبتدأ ، وخبره محذوف ؛ أي : الأيمنون أولى . والغلام الذي كان عن يمين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو عبدالله بن عباس ، وإنما استأذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الغلام ، ولم يستأذن الأعرابي في الحديث الآخر ، وبدأ به قبل أبي بكر لما علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حال الغلام : أن ذلك الاستئذان لا يخجله ولا ينفره لرياضته ، وحسن خلقه ، ولِينه بخلاف الأعرابي ؛ فإنَّ الجفاء والنُّفرة غالبة على الأعراب ، فخاف عليه أن يصدر منه سوء أدب. والله تعالى أعلم .
وقول الغلام : (( والله لا أوثر بنصيبي منك أحدًا )) ؛ قول أبرزه ما كان عنده من تعظيم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومحبته ، واغتنام بركته مع صغر سِنِّه .
وقوله : (( فتلَّه في يده )) ؛ أي : ألقاه فيه . قاله ابن الأنباري . قال : ومنه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض فَتُلَّت في يدي )) ؛ أي : ألقيت . وقال ابن الأعرابي : معناه : فَصُبَّت .
و (( التل )) : الصَّبُّ. يقال : تل ، يتل- بكسر التاء- : إذا صَبَّ . وقال غيره : التل : الصَّرْعُ ، والدَّفع . ومنه قوله تعالى : { وتلَّه للجبين } ؛ أي : صرعه .
كتاب الأطعمة
باب التسمية
(17/22)
قول حذيفة : (( كنا إذا حضرنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طعامًا )) ؛ لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ هذا تأدب مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وكذلك ينبغي أن يتأدب مع الفضلاء ، والعظماء ، والعلماء ، فلا يبدأ بطعام ، ولا شراب ، ولا أمر من الأمور التي يشاركون فيها قبلهم .
وقوله : (( فجاءت جارية كأنما تدفع )) ؛ الجاربة في النساء كالغلام في الذكور ، وهو ما دون البلوغ . و(( تدفع )) ؛ أي : يدفعها دافع ؛ يعني : أنها جاءت مسرعة ، كما قال في الرواية الأخرى : (( كأنما تُطرد )) ، وكذلك فعل الأعرابي . وكل ذلك إزعاج من الشيطان لهما ؛ ليسبقا إلى الطعام قبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقبل التسمية فيصل إلى غرضه من الطعام . ولما اطَّلع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك أخذ بيديهما ويدي الشيطان منعًا لهم من ذلك .
ففيه ما يدلّ على مشروعية التسمية عند الطعام والشراب ، وعلى بركتها ، وعلى أن للشيطان يدًا ، وأنه يصيب من الطعام إذا لم يذكر الله تعالى عليه . وهل هذه الإصابة أكل كما قد نصَّ عليه حيث قال : ((فإنَّ الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله )) ؛ وهو الظاهر . أو يكون شَمًّا للطعام يحصل له به من التغذي كنحو ما يحصل لنا به من الأكل . قد قيل كل ذلك ، وهو محتمل ، والقدرة صالحة . واستحلال الشيطان الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه إنما هو عبارة عن تناوله منه على نحو ما ذكرناه .
وقيل : هو استحسانه رفع البركة من ذلك الطعام . وروي عن وهب بن منبه أنه قال : هم أجناس ؛ فخالص الجن لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا يتناكحون ، هم ريح . ومنهم أجناس يفعلون ذلك كلَّه ، ويتوالدون ، ومنهم : السعالي ، والغيلان ، والقطاربة.
ومن باب الأمر بالأكل باليمين ومما يلي
(17/23)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ، وإذا شرب فليشرب بها )) ؛ هذا الأمر على جهة الندب ؛ لأنَّه من باب تشريف اليمين على الشمال ، وذلك لأنها أقوى في الغالب ، وأسبق للأعمال ، وأمكن في الأشغال . ثم هي مشتقة من اليمن ، والبركة . وقد شرف الله تعالى أهل الجنة بأن نسبهم إليها ، كما ذمَّ أهل النار حين نسبهم إلى الشمال ، فقال : { فأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } ، وقال : { وأمَّا إن كان من أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين } ، وقال عكس هذا في أصحاب الشمال . وعلى الجملة : فاليمين وما نسب إليها ، وما اشتق عنها محمود لسانًا ، وشرعًا ، ودنيا ، وآخرة . والشمال على النقيض من ذلك حتى قد قال شاعر من العرب :
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني فأفرح أم صيرتني في شمالكا
وإذا كان هذا ، فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق ، والسيرة الحسنة عند الفضلاء اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة ، والأحوال النظيفة ، وإن احتيج في شيء منها إلى الاستعانة بالشمال فبحكم التبعية. وأما إزالة الأقذار ، والأمور الخسيسة فبالشمال لما يناسبها من الحقارة ، والإسترذال .
وقوله : (( فإنَّ الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله )) ؛ ظاهره أن من أكل بشماله تشبَّه بالشيطان في ذلك الفعل ؛ إذ الشيطان بشماله يأكل وبها يشرب . ولقد أبعد وتعسَّف من أعاد الضمير في (( شماله )) على الأكل .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذي قال له : (( كل بيمينك ، فقال : لا أستطيع ، فقال : لا استطعت )) ؛ دعاء منه عليه ؛ لأنَّه لم يكن له في ترك اس باليمين عذر ، وإنما قصد المخالفة ، وكأنه كان منافقًا . والله تعالى أعلم . ولذلك قال الراوي : وما منعه إلا الكبر . وقد أجاب الله تعالى دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الرجل ، حتى شُلَّت يمينه ، فلم يرفعها لفيه بعد ذلك اليوم .
(17/24)
وقول عمر بن أبي سلمة : (( كنت في حجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ، هو بفتح الحاء : الحضانة ، وبالكسر : الاسم . ومنه : حجر الثوب ، والحجر : الحرام ، بالكسر أيضًا .
وقوله : (( كانت يدي تطيش في الصَّحفة )) ؛ أي : تخف وتسرع ، وقد دلَّ عليه قوله في الرواية الأخرى : (( فجعلت آخذ من لحم حول القصة )).
وقوله : (( يا غلام ! سمِّ الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك )) ؛ فيه تعليم الصبيان ما يحتاجون إليه من أمور الدين وآدابه . وهذه الأوامر كلها على الندب ؛ لأنَّها من المحاسن المكمِّلة ، والمكارم المستحسنة . والأصل فيما كان من هذا الباب : الترغيب ، والنَّدب .
وقوله : (( كل مما يليك )) ؛ سُنَّة متفق عليها ، وخلافها مكروه شديد الاستقباح ، لكن إذا كان الطعام نوعًا واحدًا . وسبب ذلك الاستقباح : أنَّ كل آكل كالحائز لما يليه من الطعام ، فآخذ الغير له تعدٍّ عليه مع ما في ذلك من تقزز النفوس ما خاضت فيه الأيدي والأصابع ، ولما فيه من إظهار الحرص على الطعام ، والنَّهم . ثم هو سوء أدب من غير فائدة إذا كان الطعام نوعًا واحدًا . وأما إذا اختلفت أنواع الطعام فقد أباح ذلك العلماء ؛ إذ ليس فيه شيء من تلك الأمور المستقبحة .
(17/25)
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يأكل بثلاث أصابع : أدب حسن ، وسنه جميلة ؛ لأنَّها تشعر على بعدم الشَّرَه في الطعام ، وبالاقتصار على ما يحتاج إليه من غير زيادة عليه ، وذلك أن الثلاثة الأصابع يستقل بها الظريف الخبير. وهذا فيما يتأتى فيه ذلك من الأطعمة ، وما لا يتأتى ذلك فيه استعان عليه بما يحتاج إليه من أصابعه . ولعقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصابعه الثلاثة ، وأمره بذلك يدل على أنه سُنَّة مستحبة . وقد كرهه بعض العامة ، واستقذره ، وقوله بالكراهة والاستقذار أولى من سنَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولو سكت الجهال قلَّ الخلاف . وفائدة اللَّعق احترام الطعام ، واغتنام للبركة ، ألا ترى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بلعق الأصابع والقصعة وقال : (( فإنَّه لا يدري في أى طعامه البركة ؟ )) ومعناه - والله أعلم - : أن الله تعالى قد يخلق الشِّبع في الأكل عند لعق الأصابع أو القصعة ، فلا يترك شيء من ذلك احتقارًا له . ومثل هذا يفهم من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى ، ثم ليأكلها ، ولا يدعها للشيطان )).
(17/26)
وقوله : (( فلا يمسحها حتَّى يَلْعقها أو يُلْعقها )) ؛ هذا يدلّ على جواز مسح اليد من الطعام بالمنديل قبل الغسل ، لكن بعد لعقها . وهو محمول على ما إذا لم من يكن في الطعام غمر ، أمَّا إذا كان فيه غمرٌ فينبغي أن يغسلها ، لما جاء في الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( من نام وفي يده غمرٌ فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه )) ، قال : حديث حسن غريب . وقد ذهب قومٌ إلى استحباب غسل اليد قبل الطعام وبعده لما رواه الترمذي من حديث سلمان : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( بركة الطعام الوضوء قبله وبعده )). وروي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر ، وبعده ينفي اللمم )). ولا يصحُّ شيء منهما . وكرهه قبله كثير من أهل العلم . منهم : سفيان ، ومالك ، والليث . وقال مالك : هو من فعل الأعاجم . واستحثوه بعده . وقد روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه شرب لبنًا ، فمضض وقال : (( إن له دسمًا )) ، وأمر بالمضمضة من اللبن . وقد روي عن مالك : أنه كره ذلك ، وقال : وقد تأول على أن يتخذ ذلك سُنَّة ، أو في طعام لا دسم فيه . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( يلعقها )) ثلاثيًّا ؛ أي : يلعقها بنفسه . والثاني رباعيًّا ؛ أي :
يجعل غيره يلعقها . وهذا كله يدلّ على استحباب لعق الأصابع إذا تعلَّق بها شيء من الطعام ، كما قدَّمناه . لكنه في آخر الطعام ، كما نص عليه ، لا في أثنائه ؛ لأنَّه يمس بأصابعه بزاق في فيه إذا لعق أصابعه ثم يعيدها ، فيصير كأنه يبصق في الطعام ، وذلك مستقذر ، مستقبح .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الشيطان يحضر أحدكم عند كلِّ شيء من شأنه )) ؛ فائدته أن يحضر الإنسان هذا المعنى عند إرادته فعلاً من الأفعال كائنًا ما كان ، فيتعوذ بالله من الشيطان ويُسمِّي الله تعالى فإنَّه يكفي مضرَّة الشيطان ، كما قد جاء في حديث الجماع ؛ الذي ذكرناه في النكاح ، وكما يأتي في الدعوات إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( فليمط عنها الأذى )) ؛ أي : يزيله .
(17/27)
وقوله : (( ليأكلها )) ؛ أمر على في جهة الاحترام لتلك اللقمة ، فإنَّها من نعم الله تعالى ، لم تصل للأنسان حتى سخر الله فيها أهل السموات والأرض .
وقوله : (( ولا يدعها للشيطان )) ؛ يعني : إنه إذا تركها ، ولم يرفعها فقد مكَّهن الشيطان منها ؛ إذ قد تكبر عن أخذها ، ونسي حق الله تعالى فيها ، وأطاع الشيطان في ذلك ، وصارت تلك اللقمة مناسبة للشيطان ؛ إذ قد تكبر عليها ، وهو متكبر ، فصارت طعامه . وهذا كله ذمٌّ لحال التارك ، وتنبية على تحصيل غرض الشيطان من ذلك .
ومن باب إذا دعي إلى طعام
اللَّحَّام : الذي يبيع اللحم ، وهو الجزَّار . وهذا على قياس قولهم : عطَّار ، وتَمَّار ، للذي يبيع ذلك . و(( خامس خمسة )) ؛ أي : أحد خمسة . هذا الحديث ، وما يأتي بعده يدلّ : على ما كانوا عليه من شدَّة الحال وشظف العيش ، وذلك للتمحيص في الدنيا ، وليتوفر لهم أجر الآخرة .
وهذا المتبع لهم كان ذا حاجة ، وفاقة ، وجوع ، واستئذان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصاحب الدعوة في حق المتبع بيان لحاله ، وتطييب لقلب المستأذن ، ولو أمره بإدخاله معهم له لكان ذلك ، فإنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمرهم بذلك ، وقال : (( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، أو أربع فليذهب بخامس )) ، والوقت كان وقت فاقة وشدِّة ، وكانت المواساة واجبة إذ ذاك ، والله أعلم . ومع ذلك فاستأذن صاحب المحل تطييبًا لقلبه ، وبيانًا للمشروعية في ذلك ؛ إذ الأصل : ألا يتصرَّف في ملك الغير أحدٌ إلا بإذنه .
(17/28)
وقول أنس : (( كان لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جار فارسي طيب المرق )) ؛ دليل على جواز تطييب الأطعمة ، والإعتناء بها ، ولا خلاف في جواز ذلك بين الأئمة ، وامتناع الفارسي من الإذن لعائشة رضي الله عنها : أولى ما قيل فيه : إنه إنَّما كان صنع من الطعام ما يكفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده ؛ للذي رأى عليه من الجوع ، فكأنه رأى : أن مشاركة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك يجحف بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وامتناع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من إجابة الفارسي عند امتناعه من إذن عائشة : إنما كان - والله أعلم - لأن عائشة كان بها من الجوع مثل الذى كان بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يستأثر عليها بالأكل دونها ، وهذا تقتضيه مكارم الأخلاق ، وخصوصًا مع أهل بيت الرجل ، ولذلك قال بعض ا لشعراء :
وشِبَعُ الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه
وقد نبَّه مالك رحمه الله على هذا المعنى حين سُئل عن الرجل يدعو الرجل يكرمه ، قال : إذا أراد فليبعث بذلك إليه يأكله مع أهله . وفي هذين الحديثين أبواب من الفقه من تتبعها ظفر بها .
ومن باب من اشتدذَ جوعه تعتين عليه أن يرتاد لنفسه
(17/29)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر وعمر : (( ما أخرجكما من بيوتكما ؟ )) قالا : الجوع . قال : (( وأنا أخرجني الذي أخرجكما )) ؛ هذا يدلّ على شدَّة حالهم في أوَّل أمرهم . وسبب ذلك : أن أهل المدينة كانوا في شظف من العيش عندما قدم عليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع المهاجرين ، وكان المهاجرون فرُّوا بأنفسهم ، وتركوا أموالهم ، وديارهم ، فقَدِموا فقراء على أهل شدَّة ، وحاجة ، مع أن الأنصار ـ رضى الله عنهم ـ واسوهم فيما كان عندهم ، وشركوهم فيما كان لهم ، ومنحوهم ، وهادوهم ، غير أن ذلك ما كان يسدُّ خلاَّتهم ، ولا يرفع فاقاتهم ، مع إيثارهم الضراء على السراء ، والفقر على الغنى. ولم يزل ذلك دأبهم إلى أن فتح الله عليهم وادي القرى ، وخيبر ، وغير ذلك ؛ فردُّوا لهم منائحهم ، واستغنوا بما فتح الله عليهم . ومع ذلك فلم يزل عيشهم شديدًا ، وجهدهم جهيدًا حتَّى لقوا الله تعالى مؤثرين ما عندهم ، صابرين على شدَّة عيشهم ، معرضين عن الدنيا وزهرتها ولذاتها . مقبلين على الآخرة ، ونعيمها ، وكراماتها ، فحماهم الله ما رغبوا عنه ، وأوصلهم إلى ما رغبوا فيه . حشرنا الله في زمرتهم ، واستعملنا بسنَّتهم .
وقوله : (( قوموا )) ؛ أمرٌ بالقيام لطلب العيش عند الحاجة . وهو دليل ما رسمناه في الترجمة ، وهذا الرجل الأنصاري هو : أبو الهيثم بن التَّيهان على ما جاء مفسَّرًا في رواية آخرى . واسمه : مالك بن التَّيهان . قاله أبو عمر .
وقولها : (( يستعذب لنا ماء )) ؛ أي : يطلب الماء العذب . وفيه دليلٌ على جواز الميل للمستطابات طبعًا من الماء وغيره .
وقول الرجل : (( الحمد لله ، ما أحدٌ اليوم أكرم أضيافًا منِّي )) ؛ قولٌ صدق ، ومقالٌ حق ؛ إذ لم تقل الأرض ، ولا أظلَّت السَّماء في ذلك الوقت أفضل من أضيافه ؛ فإنَّهم : محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وخليفتاه : أبو بكر ، وعمر . ولما تحقق الرجل عظيم هذه النعمة قابلها بغاية مقدور الشكر ، فقال : الحمد لله !
(17/30)
و (( العِذق ))- بكسر العين - : الكباسة ، وهي : العرجون. و((العذق )) - بفتح العين - : النخلة . وإنما قدَّم لهم هذا العرجون ؛ لأنَّه الذي تيسَّر له بغير كلفة ، لا سيما مع تحققه حاجتهم ، ولأن فيه ألوانًا من التمر ، والبسر ، والرطب ، ولأن الابتداء بما يتفكه به من الحلاوة أولى من حيث إنه أقوى للمعدة ؛ لأنَّه أسرع هضمًا .
و (( المدية )) : السكين . و(( الحلوب ))- بفتح الحاء - : الشاة التي تحلب لبنًا كثيرًا . إنَّما نهاه عنها ؛ لأنَّ ذبحها تضييعٌ للبنها ، مع أن غير ذات اللبن تتنزل منزلتها عند الضيف ، ويحصل بها المقصود .
وقوله : (( فأكلوا من تلك الشاة ، ومن ذلك العذق )) ؛ دليلٌ على جواز جمع ج طعامين فأكثرعلى مائدة .
وقوله : (( حتى شبعوا ، ورروا )) ؛ دليل على جواز الشبع من الحلال . وما جاء مما يدلُّ على كراهة الشبع عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعن السلف : إنما ذلك في الشبع المثقل للمعدة ، المبطئ بصاحبه عن الصلوات ، والأذكار ، المضرُّ للانسان بالتخم ، وغيرها ؛ الذى يفضي بصاحبه إلى البطر ، والأشر ، والنوم ، والكسل . فهذا هو المكروه . وقد يلحق بالْمُحرَّم إذا كثرت آفاته ، وعمَّت بليَّاته .
و (( القسطاس المستقيم )) ما قاله مَنْ عليه الصلاة والتسليم : (( ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ؛ فإنَّ كان ولا بدَّ : فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه )).
وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لتُسألُنَّ عن نعيم هذا اليوم )) ؛ أى : سؤال عرض لا سؤال مناقشة ، وسؤال إظهار التفضل والمنن ، لا سؤال يقتضي المعاتبة ، والمحن .
و (( النعيم )) : كل ما يتنعم به ؛ أي : يستطاب ، ويتلذذ به . وإنما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا استخراجًا للشكر على النعم ، وتعظيمًا لذلك . والله تعالى أعلم .
ومن باب جعل الله تعالى قليل الطعام كثيرًا ببركة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(17/31)
(( الخمص )) : الجوع ، وأصله : من خمص البطن ، وهو : ضموره ، ولما كان الجوع يضر البطن سُمِّي به . و(( البهيمة )) الصغيرة من الضأن ، تصغير : بهمة . والجمع : بهم . و(( الدَّاجن )) : الملازم للبيت ، ودجن في كذا ؛ أي : أقام فيه .
وقوله : (( انكفأت إلى أهلي )) ؛ أي : انقلبت إليهم ، وانصرفت .
و (( الجراب )) : وعاء من جلد .
وقوله : (( إن جابرًا قد صنع لكم سورًا )) ؛ أي : اتخذ طعامًا لدعوة الناس . كلمة فارسية . قاله الطبري وغيره . وقال غيرهما : هو الطعام نفسه بالفارسية .
وقوله : (( حيَّهلا بكم )) ؛ أي : أقبلوا وهلمُّوا. قال الهروي : (( حي )) كلمة على حدة ، ومعناها : هلمّ ، و(( هلا )) : كلمة على حدة ، فجُعِلا كلمة واحدة . قال غيره : وفيها لغات ، يقال : حي هل ، وهل ، وهلى ، وهلا ، وحي هل ، وحي هل -بسكونهما -. وحكى أبو عبيدة : حي أهلك ، وهي التي يقال فيها : حي على بمعناها. وهي عند أبي عبيدة بمعنى : عليك بكذا ؛ أي : ادع به .
وقولها : (( بك وبك )) ؛ عتب عتبت عليه ، وكأنها قالت له : فعلت هذا برأيك ، وسوء نظرك . تعني : دعاءه للناس كلهم ، وظنَّت أنه لم يخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقدر الطعام . ويحتمل أن يكون معناه : بك تنزل الفضيحة ، وبك يقع الخجل . ويحتمل أن يكون دعاء ؛ أي : أوقع الله بك الفضيحة ، أو الخجل ، ونحو هذا .
وقوله : (( فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقدم الناس )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخالفٌ للذي نقل من سيرته مع أصحابه : أنه كان لا يتقدمهم ، ولا يوطأ عقبه ؛ وإنما كان يمشي بين أصحابه ، أو يقدمهم. إنَّما تقدمهم في هذا الموضع لأنه هو الذي دعاهم ، فكان دليلهم إلى الموضع الذي دعاهم إليه .
وقوله : (( وبارك فيها )) ؛ أي : دعا بالبركة ، فاستجيب له على الفور ، وظهرت معجزاته ، وبركاته لما أكل من الصاع الشعير ، والبهمة ذلك العدد الكثير ، ثم بقي الطعام على حاله كما كان أوَّل مرة . وعلى هذا : لو كانوا مائة ألف لكفاهم .
(17/32)
و (( غطيط القدر )) : صوت فورانها .
وقوله في حديث أنس : (( فأخرجت أقراصًا من شعير ، فلفته بالخمار ثم أرسلت بذلك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )). وفي الرواية الأخرى : (( أن أبا طلحة أمر أمَّ سليم أن تصنع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طعامًا لنفسه خاصة )). وفي أخرى : (( أن أبا طلحة قال لأم سليم : هل من شيء ؟ فقالت : نعم ، عندي كسر وتمرات ، فإنَّ جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده أشبعناه ، وإن جاء أحدٌ معه قلَّ عنهم )).
قلت : وهذه روايات مختلفة ، فإنَّ كان وقع ذلك مرَّات فلا إشكال ، وإن كان مرة واحدة كان ذلك اضطرابًا ، غير أنه يمكن الجمع بين تلك الألفاظ ، ويرتفع الاضطراب ، لكن على تكلف وبُعد.
وقوله : (( فدسته تحت ثوبي )) ؛ كذا في كتاب مسلم عند سائر رواته. وفي "الموطأ" : (( تحت يدي )) ؛ أي : إبطي . و(( الدسّ )) : وضع الشيء في خفية ، ولطافة .
وقوله : (( وردتني ببعضه )) ؛ يعي به : أنها جعلت الطرف الثاني من الخمار عليه كالرداء .
وقول أبي طلحة لأم سليم : (( قد جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالناس وليس عندنا ما نطعمهم )) ؛ قولٌ على مقتضى العادة . وجواب أم سليم بقولها : ((الله ورسوله أعلم )) قولٌ أخرجه النظر إلى إمكان خرق العادة ، ورجاء بركة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كالذي كان .
و (( العكة )) : وعاء صغير من جلد يجعل فيه السمن ، والنحي أكبر منه. و(( أدمته )) بمدِّ الألف وقصرها ؛ أي : جعلت السمن في الخبز وهو الأدام ، فصار الخبز مأدومًا .
وقوله : (( ليتحلق عشرة عشرة )) ؛ فيه دليل على استحباب اجتماع هذا العدد على جفنة واحدة عند كثرة الناس ، لكن هذا إذا لم تحمل الجفنة أكثر من ذلك ، فلو كانت كجفنة الرَّكب لأكل عليها أكثر من هذا العدد .
(17/33)
وقوله : (( فأكلوا حتى شبعوا )) ؛ دليل على جواز الشبع ، خلافًا لمن كرهه مطلقًا . وهم قومٌ من المتصوفة ، لكن الذي يكره منه ما يزيد على الاعتدال ، وهو الأكل بكل البطن ، حتى لا يترك للماء ، ولا للنَّفس مساغًا . وقد ينتهي هذا إلى تجاوز الحد ، فيحكم عليه بالتحريم كما تقدَّم . وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكل بعدهم ؛ إنَّما كان ذلك لأنه هو أطعمهم ببركة دعائه ، فكان آخرهم أكلاً ، كما قال في الشراب : (( ساقي القوم آخرهم شربًا )). وأيضًا : فليحصل على درجة الإيثار ؛ فإنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أشدذُهم جوعًا ؛ لأنَّه كان قد شدَّ على بطنه بحجرين ، ومع ذلك فقدَّمهم عليه وآثرهم بالأكل قبله .
وشدُّ البطن بالحجر يسكن سورة الجوع ، وذلك : أنه يلصق البطن بالأمعاء ، والأمعاء بالبطن ، فتلتصق المعدة بعضها بالبعض ، فيقل الجوع. وقيل : إنما يفعل ذلك ليقوى من الضعف الذي يجده بسبب الجوع . والأول أبين . وفيه أبواب من الفقه لا تخفى .
ومن باب أكل الدُّبَّاء والقديد والتمر
(( الدباء )) : اليقطين . واحده : دباءة - ممدود - وقد حكى فيه القصر : ابن السَّرَّاج ، وليس معروفًا ، وعليه فيكون واحده دبأة .
وقول أنس : (( وجعلت ألقيه إليه )) ؛ دليل على جواز مناولة بعض المجتمعين على الطعام لبعض شيئًا منه ، ولا ينكر على من فعل ذلك ؛ وإنما الذي يكره : أن يتناول شيئًا من أمام غيره ، أو يتناول من على مائدة من مائدة أخرى ، فقد كرهه ابن المبارك .
وتتبع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدباء من حوالي القصعة : إنما كان ذلك لأن الطعام كان مختلفًا ، فكان يأكل ما يعجبه منه -وهو الدُّباء - ويترك ما لا يعجبه - وهو القديد -. وقد قدمنا جواز ذلك .
(17/34)
وقول أنس : (( رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقعيًا ، يأكل تمرًا )) ؛ الإقعاء : جلسة المستوفز على أطراف آليتيه. مأخوذ من إقعاء الشبع . وقد تقدم في كتاب الصلاة . وهو معنى قوله في الرواية الأخرى : (( وهو محتفز )) بالزاي ؛ أي : مستعجل ، غير متمكِّن . وإنما كان يأكل كذلك لعدم نهمه ، وقلَّة مبالاته بأكله ؛ إذ لم تكن همته فيما يجعل في بطنه ، وإنما كان يأكل القليل من الطعام عند الحاجة ، وعلى جهة التواضع ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أما أنا فلا آكل متكئًا ، ولكن آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد )).
وكان يجلس محتفزًا ، وفسَّر ذلك عثمان بن أبي زائدة عن عمارة بن القعقاع ، ورفع ركبته إلى بطنه ، والأكل متكئًا من فعل المتعظمين ، وأصله ماخوذ عن الأعاجم .
وقوله : (( فقدَّمنا إليه طعامًا ووطبة )) ؛ كذا في كتاب أبي عيسى ؛ بسكون الطاء ، وباء بواحدة .
قلت : وهي مؤنثة الوطب ، وهي : قربة اللبن . وكأنه قدَّم له هذه القربة ليشرب منها .
وعند أبي بحر ، وقرىء عليه : ووطيئة - بكسر الطاء ، والهمزة المفتوحة - قال ابن دريد : الوطيئة : التمر يستخرج نواه ، ويعجن بالسمن . قال ثأبت : هو طعام للعرب يتخذ من تمر أراه كالحيس .
قلت : وقد فسَّر القتبي الوطيئة بغير هذا . قال في حديث : أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تبوك ، فأخرج لنا ثلاث أكل من وطيئة . قال : والوطيئة : الغرارة ، والأكل : اللقم .
وقوله : (( أكلاً ذريعًا )) ؛ أي : كثيرًا . و(( حثيثًا )) : أي : مستعجلاً . وحاصلهما : أنَّه كان يأكل أكلاً لا تصنُّع فيه ، ولا رياء ، ولا كبر ؛ فإذا احتاج إلى الإكثار أكل ، وإذا حفزه أمرٌ استعجل ، لكنه ما كان يخرج عن أدب ، ولا يفعل شيئًا غير مستحسن في .
(17/35)
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلقي النوى بين السَّبابة والوسطى ؛ مبين : أنَّه يجوز تصريف الإصبعين لذلك ، لئلا يظن : أنَّه لا يجوز تصريف السَّبابة إلا مع الإبهام ؛ لأنَّه الأمكن ، والذي جرت به العادة . وإلقاء النوى خارجًا عنهم تعليم لاجتناب إلقائها بين أيدي الآكلين ؛ لأنَّ ذلك مِمَّا يستكره ، ويستقذر . وقد تقدَّم التنبيه على سُنَّة مناولة الشراب على اليمين .
وفي هذه الأحاديت : جواز أكل الطيبات من الأطعمة ، والحلاوة الحلال ، وجمع ذلك في وقت واحد خلافًا لمن كرهه من المتقشفين . وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأكل القثاء بالرُّطب ، ويقول : (( اكسر حرّ هذا ببرد هذا )).
وفيه دليل على جواز مراعاة جو صفات الأطعمة ، وطبائعها ، واستعمالها على الوجه الأليق بها ، كما يقوله الأطباء. والله تعالى أعلم.
ومن باب النهي عن القران في التمر
(( الجهد ))- بفتح الجيم - : المشقة ، وبالضم : الطاقة .
وقوله : (( نهى عن الإقران )) ؛ هكذا وقعت هذه اللفظة لجميع رواة مسلم هنا ، وليست بمعروفة ؛ أعني : لفظة الإقران ؛ فإنها وقعت رباعيَّة من : أقرن ، وصوابه : القران ؛ لأنَّه من : قرن ، يقرن -ثلاثيًّا - ، كما جاء في الرواية الأخرى : أن يقرن . قال الفرَّاء : يقال : قرن بين الحج والعمرة ، ولا يقال : أقرن . قال غيره : إنَّما يقال : أقرن على الشيء : إذا قوي عليه ، وأطاقه . ومنه قوله تعالى : { وما كنا له مقرنين } ؛ أي : مطيقين .
قلت : غير أنه قد جاء في الصَّحاح : أقرن الدَّم في العرق ، واستقرن ؛ أي : كثر . فيحتمل أن يحمل الإقران المذكور في هذا الحديث على ذلك ، فيكون معناه : أنه نهى عن الإكثار من أكل التمر إذا أكل مع غيره . ويرجع معناه إلى القران المذكور في الرواية الأخرى ، والله أعلم .
(17/36)
وقد حمل أهل الظاهر هذا النهي على التحريم مطلقًا . وهو منهم جهل بمساق الحديث وبالمعنى . وحمل الجمهور ، والفقهاء ، والأئمة هذا النهي على حالة المشاركة في والاجتماع عليه ، بدليل فهم ابن عمر راوي ابحديث ذلك المعنى ، وهو أفهم للمقال ، وأقعد بالحال ، وبدليل قوله : إلا أن يستأذن الرجل وبها . فإنَّ كان هذا من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو نصٌّ في المقصود ، وإن كان من قول ابن عمر ؛ فكما قلناه .
وقد علله الجمهور بعلتين :
إحداهما : أن ذلك يدلّ على كثرة الشَّرَه ، والنَّهم . وبهذا عللته عائشة رضي الله عنها حيث قالت : إنها نذالة.
وثانيتهما : إيثار الإنسان نفسه بكثر من حقه على مشاركه ، وحكمهم في ذلك التساوي .
وقوله : (( إلا أن يستاذن أخاه )). قال الخطابي : إن ذلك النهي إنما كان في زمنهم لما كانوا عليه من الضيق والمواساة ، فأمَّا اليوم : فلا يحتاجون إلى ا لاستئمار .
قلت : وهذا فيه نظر وذلك أن الطعام إذا قُدِّم إلى قوم فقد تشاركوا فيه ، وإذا كان كذلك فليأكل كل واحد منهم على الوجه المعتاد على ما تقتضيه المروءة ، والنصفة من غير أن يقصد اغتنام زيادة على الآخر ، فإنَّ فعل وكان الطعام شركة بحكم الملك ؛ فقد أخذ ما ليس له ، وإن كان إنما قدَّمه لهم غيرهم ، فقد اختلف العلماء فيما يملكون منه . فإنَّ قلنا : إنهم يملكونه بوضعه بين أيديهم ؛ فكالأول . وإن قلنا : إنهم إنما يملك كل واحد منهم ما رفع إلى فيه ؛ فهذا سوء أدب ، وشَرَه ، ودناءة. فعلى الوجه الأول : يكون محرَّمًا ، وعلى الثاني : مكروها ؛ لأنَّه يناقض مكارم الأخلاق ، والله تعالى أعلم .
(17/37)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بيتٌ لا تمر فيه جياع أهله )) ؛ هذا إنما عنى به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة ، ومن كان على حالهم ، من غالب قوتهم : التمر ، وذلك : أنه إذا خلا البيت عن غالب القوت في ذلك الموضع كان عن غير الغالب أخلى ، فيجوع أهله ؛ إذ لا يجدون شيئًا . ويصدق هذا القول على كل بلد ليس فيه إلا صنف واحد ، أو يكون الغالب فيه صنفًا واحدًا ، فيقال على بلد ليس فيه إلا البز : بيت لا بز فيه جياع أهله . ويفيد هذا التنبيه على مصلحة تحصيل القوت ، وادِّخاره ؛ فإنَّه أسكن للنفس غالبًا ، وأبعد عن التشويش .
ومن باب بركة عجوة المدينة والكمأة
قوله : (( من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره ذلك اليوم سُمٌّ )) ، وفي أخرى : (( من تصبَّح بسبع تمرات عجوة لم يضرُّه ذلك اليوم سُمٌّ ، ولا سحر )) ، ولم يذكر : مما بين لابتيها .
قد تقدم القول في اللابة ، وأنها الحجارة السود التي في المدينة . وأعاد الضمير على المدينة ، ولم يجر لها ذكر في اللفظ ، لكنه مما يدل الحال ، والمشاهدة عليه . ومطلق هاتين الروايتين مقيَّد بالأخرى ، فحيث أطلق العجوة هنا إنما أراد به عجوة المدينة ، وكذلك في حديث عائشة : لما أطلق العالية فمراده به : المدينة وجهاتها . ومعنى تصبَّح : أكل عند الصباح ، كما جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى ، وهذا على طريقة : تغدى ، وتعشى ، وتسخر : إذا أكل في تلك الأوقات .
وظاهر هذه الأحاديث : خصوصية عجوة المدينة بدفع السُّم ، وإبطال السحر . وهذا : كما توجد بعض الأدوية مخصوصة ببعض المواضع ، وببعض الأزمان . وهل هذا من باب الخواص التي لا تدرك بقياس طبي ، أو هو مما يرجع إلى قياس طبي ؛ اختلف علماؤنا فيه ، فمنهم من تكلَّفه وقال : إن السموم إنما تفتك لإفراط برودتها ، فإذا دام على التصبُّح بالعجوة تحكمت فيه الحرارة ، واستعانت بها الحرارة الغريزية ، فقابل ذلك برودة السُّم ما لم يستحكم ، فبرأ صاحبه بإذن الله تعالى .
(17/38)
قلت : وهذا يرفع خصوصية عجوة المدينة ، بل خصوصية العجوة مطلقًا ، بل خصوصية التمر ، فإنَّ هناك من الأدوية الحارة ما هو أولى بذلك منه ، كما هو معروف عند أهله . والذي ينبغي أن يقال : إن ذلك خاصة عجوة المدينة كما أخبر به الصادق ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ثم هل ذلك مخصوص بزمان نطقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو هو في كل زمان ، كل ذلك محتمل ، والذي يرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة ، فإنَّ وجدنا ذلك كذلك في هذا الزمان ؛ علمنا أنها خاصة دائمة ، وإن لم نجده مع كثرة التجربة ؛ علمنا أن ذلك مخصوص بزمان ذلك القول . والله تعالى أعلم .
وأما تخصيصه بسبع فخاصية لهذا العدد قطعًا ، وقد جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مواطن كثيرة ؛ منها : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرضه : (( صبوا عليَّ من سبع قرب )) ، ومنها : غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا. ومنه : قوله للرَّجل المريض الذي وجهه للحارث بن كلدة وقال : (( ليأخذ سبع تمرات ، ويلدده بهن )). ، ومنه رقاه ، وتعويذه سبع مرات. ومثله كثير . وقد جاء هذا العدد في غير الطب ؛ كقوله تعالى : { سبع بقرات سمان ، وسبعٌ عِجاف } ، وسبع كسبع يوسف ، و{ سبع سنبلات }(2) ، وكذلك السبعون ، والسبعمائة قد جاء في مواضع كثيرة . فما جاء من هذا العدد مجيء التداوي فذلك بخاصَّة لا يعلمها إلا الله ، ورسوله ، ومن أطلعه الله عليها . وأما ما جاء لا في معرض التداوي . فقال بعض اللغويين : العرب تضع هذا العدد موضع الكثرة وإن لم تُرد عددًا بعينه ، ولا حصرًا . والله أعلم .
و (( الترياق )) : دواء مركب معلوم ، ينفع من السُّموم ، ويقال عليه : درياق ، وطرياق ، وترياق .
(17/39)
وقوله : (( الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل )) ؛ الكمء للمفرد ، والكمأة للجمع ، على عكس شجرة وشجر . هكذا حكى أهل اللغة ، وظاهر هذا اللفظ : أنها مما أنزل الله على بني إسرائيل ؛ مما خلقه الله تعالى لهم في التيه ، وذلك أنه كانوا ينزل عليهم في أشجارهم مثل السكر. ويقال : هو الطرنجبين ، وهو المنُّ في قول أكثر المفسرين . وعلى ظاهر هذا الحديث تكون الكمأة أيضًا مما خلق لهم في مواضع نزولهم . وقيل : الكمء من المن ، بمعنى : يشبهه من حيث : أن الكمأة تطلع من عند الله تعالى من غير كلفة منا ببذر ، ولا حرث ، ولا سقي ، كما كان المنِّ ينزل عليهم عفوًا من غير سبب منهم .
وقوله : (( وماؤها شفاء للعين )) ؛ قال القاضي : قال بعض أهل العلم بالطب في معنى هذا الحديث : إما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة ، وإما لغير ذلك فمركبة مع غيرها .
و (( الكباث )) : هو النضيج من ثمر الأراك . قاله الأصمعي. وقال غيره : الصواب : إن الكباث هو الذي لم ينضج ، و(( المرْد )) : هو الذي نضج ، واسود . وأنشد :
وغيَّر ماء المرْد فاها فلونه كلون النؤور وهي أدماءُ سارها
أي : سائرها . وقد حكي أيضًا عن الأصمعي . وحكي عن ابن الأعرابي : أن الذي لم يسود هو الكباث ، والأسود : هو البرير ، وجماعه (( المرد )). وعن مصعب : أن المرد هو إذا ورَّد ؛ فاذا اخضر فهو الكباث ، فإذا اسود فهو البرير .
(17/40)
وقوله : (( كأنك رعيت الغنم ؟ قال : نعم. وهل من نبي إلا رعاها ؟ )) قد تقدَّم الكلام على هذا ، وحاصله راجع : إلى أن الله تعالى درَّب الأنبياء على رعاية الغنم ، وسياستها ؛ ليكون ذلك تدريجًا إلى سياسة الأمم ؛ إذ الراعي يقصد مصلحة الغنم ، ويحملها على مراشدها ، ويقوم بكلفها وسياستها . ومن تدرَّب على هذا وأحكمه ؛ كان متمكنًا من سياسة الخلق ورحمتهم ، والرفق بهم . وكانت الغنم بهذا أولى لما خص به أهلها من السكينة ، وطلب العافية ، والتواضع . وهي صفات الأنبياء ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( السكينة في أهل الغنم ، والفخر والخيلاء في أهل الإبل )).
وقوله : (( نعم الإدام الخل )) ؛ الإدام : كل ما يؤتدم به ؛ أي : يؤكل به الخبز مما يطيبه ، سواء كان مما يصطبغ به كالأمراق ، والمائعات ، أو مما لا يصطبغ به ، كا لجا مدات : كا للحم ، وا لبيض ، وا لجبن ، وا لزيتون ، وغير ذلك . هذا معنى الإدام عند الجمهور من الفقهاء والعلماء سلفًا وخلفًا . وشذَّ أبوحنيفة وصاحبه أبو يوسف ، فقالا في البيض ، واللحم المشوي ، وشبه ذلك مما لا يصطبغ به : ليس شيء من ذلك بإدام . وينبني على هذا الخلاف الخلاف فيمن حلف ألا يأكل إدامًا فأكل شيئًا من هذه الجامدات . فحنَّثه الجمهور ، ولم يحنِّثه أبو حنيفة ولا صاحبه . والصحيح : ما صار إليه الجمهور ، بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد وضع تمرة على كسرة وقال : (( هذه إدام هذا )) ، وبدليل قوله أيضًا - وقد سُئل عن إدام أهل الجنة أول ما يدخلونها - فقال : (( زيادة كبد الحوت )).
وقول جابر : (( فدخلت الحجاب عليها )) ؛ ظاهره : أن هذا كان بعد نزول الحجاب ، غير أنه ليس فيه : أنه رآها ، فقد تستتر بثوب آخر ، أو بحجاب آخر . ويحتمل أن يكون ذلك قبل نزول الحجاب .
(17/41)
وقوله : (( فأتي بثلاثة أقرصة فوضعن على بتي )) ؛ كذا ضبطه الصدفي ، والأسدي بباء واحدة مفتوحة ، وبعدها تاء باثنتين من فوقها مكسورة ، مشدَّدة ، وبعدها : ياء باثنتين من تحتها مشدَّدة ، منوَّنة .
قلت : (( والبت )) : كساء من وبر أو صوف . قال الشاعر :
من كان ذا بَتٍّ فهذا بَتِّي مُصَيِّفٌ مُقَيِّظٌ مُشَتِّي
وكان الذي وضعت القرصة عليه منديل من صوف ، وكذلك عند ابن ماهان ، غير أنه فتح الثاء ، وعند الطبري : (( بُني )) بضم الباء ، بعدها نون مكسورة مشددة ، والياء المشدَّدة . قال الكناني : وهو الصواب ، وهو : طبق من خوص . قال ابن وضاح : (( بُني )) : طبق ، أو مائدة من خوص ، أو حلفاء . ووقع في بعض النسخ : (( على نبي )) بتقديم النون مفتوحة ، وكسر الباء بواحدة بعدها . وقيل في تفسيره : أنَّه مائدة من خوص . قال ثعلب : النبيئة شيء مدوَّر يعمل من خوص وشريط .
وتسمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأقرصة الثلاثة نصفين يدلّ : على جواز فعل مثل ذلك مع الضيف ، بل يدلّ على كرم أخلاق فاعله ، وإيثاره الضيف عند قلَّة الطعام ، كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فإنَّ الذي قدم إليه كان غداؤه ؛ فإنَّ أقرصتهم صغار ، لا سيما في مثل ذلك الوقت ، ومع ذلك فشرك فيه الغير وفاء بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( طعام الواحد كافي الثلاثة )).
باب كراهية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الثوم
وقوله : (( أحرام الثوم ؟ )) ؛ هذا سؤال من يعتقد : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا ترك أكل شيء جرت العادة بأكله كان ذلك دليلاً على تحريمه ذلك ، ولذلك أجابه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( لا )) ، وهو على من يقول من أهل الظاهر : إنه حرام ، يمنع حضور الجماعات للصلاة . وقد تقدم الكلام على هذا في كتاب الصلاة .
وقوله : (( ولكني أكرهه )) ؛ هذا يدل : على كراهة أكل الثوم وإن كان مطبوخًا . وقد تقدم قول عمر ـ رضى الله عنه ـ فمن أكلهما فليمتهما طبخًا . وإنما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكرههما مطلقًا لخصوصيته بمناجاة الملائكة ، ولذلك قال في بعض الحديث : (( فإني أناجي من لا تناجي )).
(17/42)
وقول أبي أيوب : (( فإني أكره ما تكره )) ؛ فيه جواز الإمتناع من المباح ، وإطلاق اسم الكراهة عليه ، وإن لم يكن مطلوب الترك .
وإنما تحرج أبو أيوب من البقاء في العلو الذي كان النبي في تحت إعظامًا للرسول شكسظ ، واحتراما عن أن يعلوه ، ولإمكان أن يسقط من العلو شيء عند حركتهم في العلو ، فيؤذي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( السُّفل أرفق بنا )) ؛ يعني بذلك من جهة الصعود إلى العلو ، وبما يلحق في تكرار ذلك من المشقة ، ومع ذلك فتجشمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى صدق أبي أيوب في احترامه ، وعزمه على ألا يسكن العلو بوجه ، فلو لم يجبه إلى ذلك لانتقل منه أبو أيوب إلى موضع آخر ، وربما تكثر عليه المشقة ، والحرج ، فآثر موافقته على المشقة اللاحقة له في الصعود .
وقوله : (( كان يؤتى )) ؛ قد فسَّره الراوي بقوله : يعني : يأتيه الوحي . ومعناه : يؤتى بالوحي ؛ أي : يجاء إليه به . والوحي : ما يبلّغه عن الله تعالى مما يبلغه جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن باب الأكل مع المحتاج بالإيثار
قول الرَّجل : (( إني مجهودٌ )) ؛ أي : قد أُصبنا بجهد . وهو هنا : المشفة ، والجوع .
وقول أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ليس عندنا إلا ماء )) ؛ يدلّ على شدة حالهم ، وضيق عيشهم . وكان هذا - والله أعلم - في أول الأمر . وأما بعد ذلك لما فتحت خيبر ، فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحبس لأهله قوت سنتهم. ويحتمل أن يكون بعد ذلك ، وأن أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كنَّ يتصدَّقن بما كان عندهن ، ويؤثرن غيرهن بذلك ويبقين على ما يفتح الله تعالى ، ولا يطلبن من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسقوط ذلك عنه بالذي دفع لهنَّ .
وقوله : (( عجب الله من صنيعكما بضيفكما )) ؛ أي : رضي بذلك ، وعظَّمه عند ملائكته ، كما يباهي بأهل عرفة الملائكة . وهذا الحديث يدلّ : على فضل أبي طلحة ، وأهل بيته ـ رضى الله عنهم ـ ، وأنَّهم المعنيون بقوله تعالى : { ويؤثروت على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }. و(( الخصاصة )) : الجوع والفاقة .
(17/43)
وقول المقداد : (( قد ذهبت أسماعنا وأبصارنا )) ؛ أي : ضعفت حتى قاربت الذهاب .
وقوله : (( فجعلنا نعرض أنفسنا )) ؛ أي : نتعرَّض لهم ليطعمونا ، وذلك لشدة ما كانوا عليه من الجوع ، والضعف .
وقوله : (( فليس أحدٌ منهم يقبلنا )) ؛ أي : يطعمنا . وظاهر حالهم : أن ذلك الامتناع ممن تعرضوا له إنَّما كان لأنهم ما وجدوا شيئًا يطعمونهم إيَّاه ، كما اتفق للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث طلب جميع بيوت نسائه ، فلم يجد عندهم شيئًا ؛ فإنَّ الوقت كان شديدًا عليهم .
وقوله : (( فيسلِّم تسليمًا لا يوقظ نائمًا ، ويسمع اليقظان )) ؛ فيه دليل على مشروعية السَّلام عند دخول البيت . وقد استحبَّه مالك . وأن ذلك مما ينبغي أن يكون برفض ، واعتدال .
و (( الجرعة )) : الشربة الواحدة - بضم الجيم - وبالفتح : المصدر المحدود .
وقوله : (( وغلت في بطني )) ؛ أي : دخلت ، فكل من دخل في شيء فهو واغل فيه . ومنه قول الشاعر :
فاليوم أشربُ غير مُسْتَحْقب إثْمًا من الله ولا واغل
يقال : وغَلْتُ ، أُغِلَ ، وغولا ، ووغلاً . وهو ثلاثي . فأمَّا (( أوغل )) : رباعيًّا ، فهو بمعنى : السَّير الشديد ، والإمعان فيه ، قاله الأصمعي . ومنه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن هذا الدِّين متين ، فأوغل فيه برفق )) ؛ أي : فسر فيه برفق .
و (( الشَّملة )) : كساء صغير يشتمل به ؛ أي : يُلتحف به على كيفية مخصوصة ، قد ذكرناها في الصلاة .
وقوله : (( ثم أتى المسجد )) ؛ يعني به -والله أعلم - : مسجد بيته ، أي : حيث كان يصلِّي النوافل .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما لم يجد شيئًا : (( اللهم أطعم من أطعمني ، وأسق من سقاني )) ؛ يدلّ على كرم أخلاقه ، ونزاهة نفسه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ لم يسأل عن نصيبه ، ولم يُعرّج على كل ذلك ، لكنَّه دعا الله تعالى .
(17/44)
و (( سقاني )) بمعنى يسقيني . و(( من أطعمني )) بمعنى : يطعمني . ولما فهم المقداد منه الدعاء ، وطلب أن يفعل اللة ذلك معه في الحال ؛ عرف : أن الله يجيبه ، ولا يرد دعوته ، لا سيما عند شدَّة الحاجة ، والفاقة . فقام لينظر له شيئًا تكون به إجابة دعوته ، فوجد الأعنز حفلاً ؛ أي : ممتلئة الضروع باللبن .
و (( الرَّزغوة )) بضم الراء : ما يعلو اللبن عند الصب والحلب .
و (( رَوِي )) بكسر الواو ، وتحريك الياء في الماضي ، يروَي بفتح الواو وسكون الياء : في الشرب . فأما (( رَوَى )) بفتح ا لواو في الماضي ، وكسره في ا لمستقبل : فهو في رواية الأخبار . ويقال أيضًا بمعنى : الاستقاء على الإبل . وهذا الحديث من دلائل نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( فضحكت حتى ألقيت إلى الأرض )) ؛ كذا قيدناه مبنيًا لما لم يسم فاعله . وقد وجدناه في بعض النسخ : (( ألقيت )) مبنيا للفاعل ؛ أي : ألقيت نفسي إلى الأرض من شدَّة الضحك . ولما رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه ذلك كره ذلك ، وقال له : (( إحدى سوآتك يا مقداد )) ؛ أي : هذه الحالة حالة سيئة من جملة حالاتك التي تسوء منكرًا لذلك ؛ لأن كثرة الضحك يميت القلب ، كما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي ذر. فلما أخبره المقداد بما جرى له ، وبما أجاب الله من دعوته قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما هذه إلا رحمة من الله )) ؛ معترفًا بفضل الله تعالى ، وشاكرًا لنعمته ، ومقرًّا بمنته ، فله الحمد أولاً وآخرًا ، وباطنًا وظاهرًا .
(17/45)
وقوله : (( مشعان طويل )) ؛ هو بضم الميم ، وشين معجمة ، وتشديد النون ؛ أي : منتفش الشعر . يقال : اشعان الشعر ، اشعينانا : إذا انتفش. و(( سواد البطن )) هو الكبد . وقيل : هو جميع الحشا . وفيه بُعد. (( وايم الله )) : قسم بيمن الله ، وبركته ، وألفه ألف وصل ، وفيه لغات قد ذكرت ، وهذا قول سيبويه . وقال الفراء : ألفه ألف قطع ، وهي عنده : جمع يمين . والذي قاله سيبويه أولى سماعًا ، وقياسًا بدليل الحذف الذي دخل الكلمة في اللغات التي روي فيها .
و (( حزَّ )) : قطع . والحزة ، بضم الحاء : القطعة . وفي هذا الحديث شاهدان بنبوة الني رز : أحدهما : في الكبد ، والثاني : في الشاة .
و (( الصُّفة )) : سقيفة المسجد ، كانت منزلاً للغرباء والمهاجرين ، وكانوا ضيف الإسلام ، وكانوا يحتطبون في النهار ، ويسقون الماء لأبيات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويقرؤون القرآن بالليل ، ويصلُّون . هكذا وصفهم البخاري وغيره .
وقوله : (( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة )) ؛ كذا صحَّت الرواية فيه عن جميع رواة مسلم . والصواب : (( بثالث )) ؛ لأن البخاري كذا ذكره : بثالث ؛ ولأن بقية الحديث يدل عليه ؛ إذ قال : ((ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس ، بسادس )) ؛ ولأنه إن حمل على ظاهره فسد المعنى ، وذلك : أن الذي عنده طعام اثنين إذا أكله في خمسة لم يكف أحدًا منهم ، فلا يرد جوعًا ، ولا يمسك لأحدهم رمقًا. فاقتصار الاثنين على طعامهما كان أصلح ؛ لأنَّه كان يرد جوعهما ، ويمسك رمقهما ، وذلك بخلاف الواحد فإنَّه يتحمل الاثنان أكله ، ولا يجحف بهما ، ونحو ذلك في تشريك الاثنين في طعام الأربعة لا يجحف بهم ، وكذلك الخامس بسادس لمن كان عنده طعام أربعة . وفي ذلك كانت المواساة واجبة لشدَّة الحال . والحكم كذلك مهما وقعت شدَّة بالمسلمين ، والله الكافي والواقي.
(17/46)
وقوله : (( يا غنثر ! فجدَّع ، وسبَّ )) ؛ هو بضم الغين المعجمة ، وفتح الثاء المثلثة وضمها . وهو : الجاهل . مأخوذ من الغثارة ، وهي : الجهل. وقيل : من الغثر ، وهو : اللوم . وعلى هذين : فالنون فيه زائدة . قال : كسراع الغنثر : ذباب أزرق .
قلت : والحاصل : أنها كلمة ذمّ وتنقيص . وقد روى الخطابي هذا الحرف بالعين المهملة ، والتاء باثنتين من فوقها ، وقال : هو الذباب ؛ تحقيرًا له . وقيل : هو الأزرق منه .
وقوله : (( جدَّع )) ؛ أي : دعا عليه بالجدع ، وهو قطع الأنف . وقال أبو عمرو الشيباني : معناه : سبَّ . يقال : جادعته مجادعة : ساببته.
قلت : وهذا فيه بُعدٌ ؛ لقوله : (( جدَّع وسبَّ )) ، فلو كان كما قال لكان تكرارًا لا فائدة له . والأول أصوب .
وكل ذلك أبرزه من أبي بكر الصدي ـ رضى الله عنه ـ على عبدالرحمن ظن : أنه فرط في الأضياف ، فلما تبين له : أنه لم يكن منه تفريط ، وأنَّه إنما كان ذلك امتناعًا من الأضياف : أدَّبهم بقوله لهم : (( لا هنيئًا )). وحلف لا يطعمه . وذلك : أن هؤلاء الأضياف تحكموا على ربِّ المنزل بالحضور معهم ، وقالوا : لا نأكل حتى يحضر أبو منزلنا ، فنكدوا على أهل المنزل. ولا يلزم حضور ربِّ المنزل مع الضيف إذا أحضر ما يحتاجون إليه ، فقد يكون في مهم من أشغاله لا يمكنه تركه ، فهذا منهم جفاء . لكن حملهم على ذلك : صدق رغبتهم في التبرُّك بمؤاكلته ، وحضوره معهم . فأبوا حتى يجيء ، وانتظروه ، فجاء فصدر منه ذلك ، فتكدَّر الوقت ، وتشوش الحال عليهم أجمعين . وكانت نزغة شيطان ، فأزال الله تعالى ذلك النكد بما أبداه من الكرامة ، والبركة في ذلك الطعام ، فعاد ذلك النكد سرورًا ، وانقلب الشيطان مدحورًا ، وعند ذلك عاد أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ إلى مكارم الأخلاق ، فأحنث نفسه ، وأكل مع أضيافه ، وطيَّب قلوبهم ، وحصل مقصودهم لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير )).
(17/47)
وقول أبي بكر لامرأته - وهي : أم رومان - : (( يا أخت بني فراس! )) هو ابن غنم بن مالك بن كنانة ، وهي من ولده .
وقولها في جواب أبي لم بكر : (( لا ، وقرَّة عيني لهي الآن أكثر )) ؛ أي : ما نقصت شيئًا ، بل زادت . فحذفت اختصارًا ؛ قاله عياض .
قلت : والأولى أن يقول : إنها أقسمت بما رأت من قرة عينها بكرامة الله تعالى لزوجها ، وافتتحت الكلام بـ (( لا )) الزائدة . كقوله تعالى : { لا أقسم بيوم القيامة } ، وما في معناه ، وكقول الشاعر :
فلا وأبيك ابنةَ العامري لا يدَّعي القومُ أني أَفِرّ
و (( قرَّة العين )) : ما سر به الإنسان ، مأخوذ من القرّ ، وهو : البرد ، وقد تقدَّم ذلك .
وقوله : (( فعرَّفنا اثني عشر رجلاً )) ؛ مشدَّد الراء من عرفنا ؛ أي : جعلنا عرفاء ؛ أى : نقباء على قومهم ، وسُمُّوا بالعرفاء : لأنَّهم : يعرفون الإمام بأحوال جماعتهم . وسُمُّوا بالنقباء : لأنهم ينقبون عن أخبار أصحابهم . والله تعالى أعلم .
وقول أبي بكر : (( ما لكم ألا تقبلوا عما قراكم )) ؛ قال عياض : بتخفيف اللام على التحضيض واستفتاح الكلام عند الجمهور .
قلت : ويلزم على هذا ثبوت النون من (( تقبلون )) ؛ إذ لا موجب لحذفها مع الاستفتاح . و(( ما لكم ؟ )) : استفهام إنكار . وعند ابن أبي جعفر بتشديدها على زيادة (( لا )) ، كما قال تعالى : { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } ، و{ مالك ألا تكون مع الساجدين }.
وقول أبي بكر : (( بَرُّوا وحنثت )) ؛ يعني بذلك : أضيافه ؛ لأنَّهم لم يأكلوا حتى أكل معهم ، فبرُّوا في يمينهم ، وحنث هو في يمينه ، حيث أكل معهم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنت أبَرُّهم ، وأخيرهم )) ؛ أى : أحقهم بذلك في هذه القصة ، ومطلقًا . وقد أتى بأخيرهم على الأصل المطرح. وتأمل ما فيه من أبواب الفقه .
ومن باب المؤمن يأكل في معي واحد
(17/48)
إنما قال ابن عمر للمسكين الذي أكل كثيرًا : (( لا يدخلن عليكم هذا ؛ لأنَّه شبهه بالكافر من حيث إنه كان يأكل بالشره ، والحرص ، وإفراط الشهوة . وهكذا أكل الكافر . وأما المؤمن الذي يعلم أن مقصود الشرع من الأكل ما يسد الجوع ، ويمسك الرَّمق ، ويقوى به على عبادة الله تعالي ، ويخاف من الحساب على الزائد على ذلك ، فيقل أكله ضرورة . ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطن ، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإنَّ كان ولا بدَّ : فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه )). وعلى هذا فقد يكون أكل المؤمن المذكور إذا نسب إلى
أكل الكافر المذكور سبعًا ، فيصير الكافر كأنه له سبعة أمعاء يأكل فيها ، والمؤمن له معي واحد . وهذا أحد تأويلات الحديث ، وهو أحسنها عندي . وقيل : المراد بالسبعة أمعاء : صفات سبع : الحرص ، والشره ، وبعد الأمل ، والطَّمع ، وسوء الطبع ، والحسد ، وحب السمن. وقيل : شهوات الطعام سبع : شهوة الطبع ، وشهوة النفس ، وشهوة العين ، وشهوة الفم ، وشهوة الأذن ، وشهوة الأنف ، وشهوة الجوع ، وهي الضرورية التي بها يأكل المؤمن . وقيل : إن ذلك في واحد مخصوص ، وهو الذي ذكره في حديث أبي هريرة . واختلف في اسمه ؛ فقيل : نضلة بن عمرو الغفاري . وقيل : بصرة بن أبي بصرة الغفاري . وقيل : ثمامة بن آثال . وقيل : جهجاه الغفاري .
وقوله : (( ضافه ضيف )) ؛ أي : نزل وصار ضيفه . و(( أضفته )) : أنزلته. وضفت الرجل : نزلت به . والضيف : اسم للواحد ، والجميع ، والمذكر ، والمؤنث ، يذهب به مذهب المصدر ، كما يقال : زور ، وعدل ، ورضا . وقد جمع : أضيافًا ، وضيوفًا ، وضيفانًا .
و (( الحلاب )) هنا هو : المحلوب ، وهو اللبن. وقد يقال على المحلب : حلاب . وهو : الإناء الذي يحلب فيه ، وقد تقدَّم في الطهارة .
(17/49)
قلت : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء )) ؛ المقصود به : التمثيل ، وذم كثرة الأكل ، ومدح التقليل منه .
وقوله : (( ما عاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طعامًا قط )) ؛ هذا من أحسن آداب الأكل ، وأهمها ، وذلك : أن الأطعمة كلها نعم الله تعالى ، وعيب شيء من نعم الله تعالى مخالف للشكر الذي أمر الله تعالى به عليها ، وعلى هذا : فمن استطاب طعامًا فليأكل ، ويشكر الله تعالى ؛ إذ مكنه منه ، وأوصل منفعته إليه . وإن كرهه ؛ فليتركه ، ويشكر الله تعالى ؛ إذ مكنه منه ، وأعفاه عنه ، ثم قد يستطيبه ، أو يحتاج إليه في وقت آخر فيأكله ، فتتم عليه النعمة ، ويَسْلَم مما يناقض الشكر .
ومن باب النَّهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )) ؛ يروى برفع : نار ، ونصبه . فمن رفع حمل (( يجرجر)) على : يصوِّت . والجرجرة : الصوت الضيف المتراجع ، كصوت حركة اللِّجام في فم الفرس . يقال : جرجر الفرس : إذا حرَّك فمه باللجام . ومن نصبه حمله على معنى : يتجرع .
وهذا الحديث دليلٌ على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب ، ويلحق بهما ما في معناهما مثل : التطيب ، والتكحل ، وما شابه ذلك . وبتحريم ذلك قال جمهور العلماء سلفًا وخلفًا . وروي عن بعض السلف إباحة ذلك . وهو خلاف شاذٌّ مطرح للأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا الباب .
(17/50)
ثم اختلف العلماء في تعليل المنع . فقيل : إن التحريم راجع إلى عينهما . وهذا يشهد له قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هي لهم في الدنيا ، ولنا في الآخرة )). وقيل : ذلك معلل بكونهما رؤوس الأثمان ، وقيم المتلفات ؛ فاذا اتخذ منها الأواني قلت في أيدي الناس ، فيجحف ذلك بهم . وهذا كما حُرّم فيها ربا الفضل . وقد حسَّن الغزالي هذا المعنى ، فقال : إنهما في الوجود كالحكام الذين حقهم أن يتصرفوا في الأقطار ليظهروا العدل ، فلو منعوا من التصرُّف والخروج للناس لأخل ذلك بهم ، ولم يحصل عدل في الوجود . وصياغة الأواني من الذهب والفضة حبس لهما عن التصرُّف الذي ينتفع به الناس . وقيل : إن ذلك معلل بالسَّرف ، والتشبُّه بالأعاجم.
قلت : وهذا التعليل ليس بشيء ؛ لأنَّه يلزم عليه أن يكون اتخاذ تلك الأواني ، واستعمالها مكروهًا ؛ لأنَّ غاية السَّرف والتشبه بالأعاجم أن يكون مكروها ، والتهديد الذي اشتمل عليه الحديث المتقدِّم مفيدٌ للتحريم لا للكراهة . وكل ما ذكرناه من التحريم إنما هو في الاستعمال ، وأما اتخاذ الأواني من الذهب والفضة من غير استعمال : فمذهبنا ، ومذهب جمهور العلماء : أن ذلك لا يجوز . وذهبت طائفة من العلماء : إلى جواز اتخاذها دون استعمالها .
وفائدة هذا الخلاف بناء الخلاف عليه في قيمة ما أفسد منها ، وجواز الإستئجار على عملها ، فمن جوَّز الإتخاذ ، قوَّم الصياغة على مفسدها ، وجوَّز أخذ الأجرة عليها . ومن منع الإتخاذ ؛ منع هذين الفرعين .
فأمَّا ما ضبب من الأواني بذهب ، أو فضة ، أو كانت فيه حلقة من ذهب أو فضة : فذهب الجمهور إلى كراهة استعمال ذلك ، وأجازه أبو حنيفة ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق إذا لم يجعل فمه على التضبيب ، أو الحلقة . وروي أيضًا مثله عن بعض السلف . قالوا : وهو كالعلم في الثوب ، والخاتم في اليد يشرب به . وقد استحب بعض العلماء الحلقة دون التضبيب.
(17/51)
كتاب الضحايا
ومن باب التسمية على الأضحية ، وفي وقتها ، وأين تذبح
قال الأصمعي : في الأضحية أربع لغات : أضحيَّةٌ ، وإضحيَّة ، والجمع : أضاحي . وضحيَّة ، على وزن فعيلة ، والجمع ضحايا . وأضحاةٌ ، والجمع أضحى ، كما يقال : أرطاةٌ ، وأرطى . وبها يُسَمَّي يوم الأضحى ، وفي الصحاح : ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ، ثم بعده : الضحى ، وهو حين تشرق الشمس ، مقصورة ، مؤنثة ، وتذكَّر . فمن أنَّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة ، ومن ذَكَّر ذهب إلى أنه اسم على فعل ، مثل : نُغَرٍ ، وصُرَدٍ ، قال : وهو ظرف غير متمكِّن ، مثل : سحر. تقول : لقيته ضحًى وضحى ؛ إذا أردت به ضحى يومك لم تنوِّنه.
قلت : قياسه : ضحى على سحر قد أخذ عليه فيه ابن بزي . وهي مؤاخذة صحيحة ؛ لأنَّ الظروف التي لا تنصرف إذا عينت هي : سحر - كما ذكر - وغدوة ، وبكرة لا غير ، فسحر : إذا أريد به يوم بعينه لم ينصرف للتعريف ، والعدل . وفي : غدوة وبكرة للتعريف والتأنيث . فأمَّا بكير ، وعشاء ، وعتمة ، وضحوة ، وعشية ، وضحى ونحوها فإنها منصرفة على كل حال . فإنَّ أريد بها وقت بعينه كانت نكرات اللفظ معرَّفة بالمعنى على غير وجه التعريف . وهكذا ذكره أبو الحسن بن خروف ، وغيره .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي فليذبخ مكانها أخرى )) ؛ هذا اللفظ بظاهره يفيد حكمين :
أحدهما : وجوب الأضحية من حيث إنه أمر بالإعادة .
وثانيهما : أن وقت الذبح : عند الفراغ من صلاة الإمام . وقد اختلف في الحكمين ، فلنذكرهما .(17/52)
فأما الأول : فالجمهور من السلف والخلف على أنهما سنة مؤكدة . وهو مشهور مذهب مالك ؛ متمسِّكين في ذلك بمداومة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه على فعلها ، وأنه لم يرد نصٌّ في وجوبها ، بل ولا ظاهر صحيح ، سليم من القوادح . وقد روى الترمذي عن ابن عمر : أنه قال : أقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة عشر سنين يضحي . وسُئل ابن عمر عن الأضحية : أواجبة هي ؟ فقال : ضحَّى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وضحى المسلمون . قال الترمذي : إنهما حديثان حسنان . قال : والعمل على هذا عند أهل العلم : أن الأضحية ليست بواجبة ، ولكنها سنة من سنن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وما روي عن بعض السلف مِنْ تركه الأضحية مع تمكنه ، فذلك محمول على أنهم إنما تركوها مخافة أن يعتقد : أنها واجبة . وقال ابن عبدالحكم : سألت مالكًا عن الأضحية : أواجبة هي ؟ فقال : إنها سنة . ثم قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أمرت بالأضحى ، وهي لكم سنة )).
قلت : فأفتى ، واستدلَّ ؛ وهذا يدلّ على صحة هذا الحديث عند مالك ؛ إذ قد استدلَّ به ، ولا يجوز الاستدلال بما لا يصح . وقد ذهب إلى وجوب الأضحية طائفة ، منهم : الأوزاعي ، والليث ، وأبو حنيفة ؛ غير أنه اشترط في الوجوب أن يملك المضحي نصابًا . وقد روي القول بالوجوب عن مالك ، وبعض أصحابه . وقد تُمُسِّك للقائلون بالوجوب بقول الله تعالى : { فصل لربِّك وأنحر } ، وبما رواه أبو داود وغيره من حديث مخنف بن سليم ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( يا أيها الناس ! إن على كلِّ أهل بيت في كلِّ عام أضحية ، وعتيرة . أتدرون ما العتيرة ؟ هذه التي يقول الناس : الرَّجبيَّة )) ، وبظاهر الأمر بالإعادة في الحديث المتقدِّم .
(17/53)
قلت : ولا حجَّة في شي فى من ذلك. أما الآية : فلأنها محتملة لأمور متعددة ، ولذلك اختلفت أقوال العلماء فيها . فقيل : معناهما : صلِّ الصلوات المعهودة ، وضع يمينك على شمالك ، وضعهما على نحرك . قاله عليّ ـ رضى الله عنه ـ . وقال أبو الأحوص : ارفع يديك في التكبير إلى نحرك. وقيل : استقبل القبلة بنحرك في الصلاة . وقال مجاهد : صلِّ بالمزدلفة ، وانحر الْهَدْي . وقال عطاء : صل العيد ، وانحر الأضحية . ونحوه قال مالك . وقال ابن جبير : ادع لربك ، وارفع يديك إلى نحرك عند الدعاء. وقال عطاء : استو بين السجدتين حتى يبدو نحرك .
قلت : وهذه الأقوال كلها ؛ الآية قابلة لها ؛ على أن الأظهر منها قول من قال : إن المراد بها : صلِّ الصلوات المعهودة ، وانحر الهدايا الواجبة ؛ تمسُّكًا بالعُرْف المستعمل في ذينك اللفظين ، والله أعلم . وعند هذا ظهر : أن لا حجَّة في ا لآية .
وأما قوله : (( على كل أهل بيت أضحية ، وعتيرة )) : فليس بصحيح. قيل : هو حديث ضعيف على ما قاله أبو محمد عبد الحق وغيره ، ولو سُلِّمت صحته فلا حجة فيه لوجهين :
أحدهما : أنه ليس صريحا في الوجوب ، بل قد يقال مثله في المندوب ، كما قال في السواك : (( وعليكم بالسواك )) ، وليس السواك واجبًا في الجمعة بالاتفاق ، وإنما يحمل ذلك على أن من أراد تحصيل الأجر الكثير ، وإقامة السُّنَّة ، فعليه بالسواك والأضحية . وهذا نحو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أراد أن يضحي فلا يأخذنَّ من شعره ولا بشره شيئًا )).
(17/54)
والثاني : عطف العتيرة على الأضحية . والعتيرة ليست بواجبةً باتفاق على ما ما ذكره المازري . وقال أبو داود : العتيرة منسوخة . وهذا من قول أبي داود يدل على أن العتيرة كانت مشروعة في أول الإسلام ، ثم نسخت ، وكذلك قال ابن دريد ، قال : العتيرة شاة كانت تذبح في رجب في الجاهلية يُتقرَّب بها ، وكان ذلك في صدر الإسلام أيضًا . والعَتْر : الذبح . قال غيره : وهي فعيلة بمعنى مفعولة ، كذبيحة : بمعنى مذبوحة . يقال : عتر الرجل يعتر عترًا ، بالفتح : إذا ذبح العتيرة . ويقال : هذه أيام ترجيب ، وتعتار .
قلت : وظاهر قول أبي داود في العتيرة : إنها منسوخة : أنها لم تبق لها مشروعية على جهة الوجوب ، ولا الجواز . قال القاضي أبو الفضل : وعامة أهل العلم على تركها للنهي عنها ، إلا ابن سيرين فإنَّه كان يذبح العتيرة في رجب ، ولم يره منسوخًا ؛ يعني : الجواز . وأما الوجوب فمتفق على تركه على ما حكاه المازري . فإن قيل : لا نسلِّم أنَّ نسخ وجوب العتيرة يلزم منه نفي وجوب الأضحية ؛ لأنَّ الحديث تضمن أمرين :
(17/55)
أحدهما : الأضحية - ولم يقل أحدٌ : إنها منسوخة - ، والعتيرة وهي المنسوخة ، ولا يلزم من نسخِها نسخُها . فالجواب : إنهما وإن كانا أمرين متغايرين ، لكنهما قد اجتمعا في مفيد الوجوب ، وهو : على الذي استدللتم بها على الوجوب ؛ لأنَّه لما عطف العتيرة على الأضحية بالواو من غير إعادة : على . علمنا : أن العتيرة دخلت مع الأضحية في معنى : على. وهو معنى واحدٌ ، فإذا رفع ذلك المعنى عن العتيرة ارتفع عن الأضحية ؛ لضرورة الاتحاد . وهذا حكم حروف العطف المشَرِّكة في المعنى إذا عطف بها المفردات . فإنك إذا قلت : قام زيد وعمرو ؛ استحال أن يرفع القيام عن عمرو ، ويبقى لزيد ، فلو أعاد العامل لصحَّ أن يرفع حكم أحدهما ويثبت حكم الآخر ؛ لأنَّه يكون من باب عطف الجمل ، ويجوز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض . وقد أشبعنا القول في هذا في الأصول . وهو أصل حسن يجب الاعتناء به .
وأما الاستدلال بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اذبح مكانها أخرى )) : فقد عضدوه بما جاء في بعض طرق هذا الحديث ، من قوله : (( أعد نسكًا )) ، وقوله : ((ضحِّ بها - يعني : الجذعة من المعز - ولا تجزي عن أحد بعدك )) ، ولا حجَّة في شيء من ذلك واضحة ؛ لأنَّ المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية لمن أراد أن يفعلها ، أو من التزمها فأوقعها على غير الوجه المشروع غلطًا ، أو جهلاً ، فبين له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجه تدارك ما فرط فيه . وهذا هو المعني بقوله : (( لا تجزي )) ؛ أي : لا يحصل لك مقصود القربة ، ولا الثواب . وهذا كما يقال في صلاة النفل : لا تجزي إلا بطهارة ، وستر عورة ؛ أي : لا تصح في نفسها ؛ إذ لا يحصل مقصود القربة إلا بتمام شروطها . وهذا واضح جدًّا .
(17/56)
وقد استدلَّ بعض من رأى الوجوب : بأن الأضحية من شريعة إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أُمِرنا باتِّباعه ، لقوله تعالى : { ملة أبيكم إبراهيم } ، وهذا ترد عليه أسئلة كثيرة ، قد ذكرناها في الأصول ، فلا حجة فيه ؛ لأنَّا نقول بموجب ذلك ، ونسألهم : هل كانت الأضحية واجبة في شرعه ، أو سُنَّة ؛ وليس هناك ما يدلّ على شيء من ذلك ، فإنَّ استدلوا بقصة الذبيح ؛ فتلك قضية خاصة ، أو منسوخة ، ولا حجة في شيء منها . والله تعالى أعلم .
وأما وقت ذبحها : فهو عند مالك بعد صلاة الإمام ، وذبحه ، إلا أن يؤخر تأخيرًا يتعدَّى فيه فيسقط الاقتداء به معتمدًا في ذلك على حديث جابر المذكور في الأصل. وهو نصٌّ في ذلك . وعند أبي حنيفة : الفراغ من الصلاة دون مراعاة ذبح الإمام . ويشهد له حديث البراء ؛ فإنَّه قال فيه : (( من ذبح بعد الصلاة فقد تمَّ نسكه )). فعلَّق الذبح على الصلاة ، ولم يذكر الذبح للإمام.
وعند الشافعي : وقتها دخول وقت الصلاة ، ومقدار ما توقع فيه . فاعتبر الوقت دون الصلاة ، وهو خروج عن ظواهر هذه الأحاديث ، غير أنه لما صحَّ عنده : أن الأضحية مخاطب بها أهل البوادي ، ومن لا إمام له ، ومن لا يخاطب بصلاة عيد : ظهر له أن حكمها متعلِّق بمقدار وقت الصلاة لأهل المضر وغيرهم . والله تعالى أعلم.
(17/57)
وأما على مذهب مالك : فردَّ مطلق حديث البراء إلى مقيد حديث جابر ؛ لأنَّه قد اتحد الموجب والموجب . وقد قلنا في أصولى الفقه : إن هذا النوع متفق عليه عند الأصوليين . وأما قبل الصلاة : فقال القاضي عياض : أجمع المسلمون : أن الذبح لأهل المصر لا يجوز قبلها ؛ وإنما اختلفوا إذا ذبح بعدها وقبل ذبح الإمام . واختلفت فيه الآثار . وأما أهل البوادي ، ومن لا إمام له ، أو إذا لم يبرز الإمام أضحيته : فمشهور مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام ، أو أقرب الأئمة إليه . وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له : إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يُجزِه ، ويجزيه إن ذبح بعده . وقال أهل الرأي : يجزيهم من بعد الفجر. وكان هؤلاء تمسكوا في ذلك بقوله : { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة النعام } ، فأضاف النحر إلى اليوم ، وهل اليوم من بعد طلوع الفجر أو من طلوع الشمس ؟ وهذا سبب اختلافهم . وهذا لا تعويل عليه هنا ؛ لأنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد عيَّن للإضحية وقتًا من اليوم بفعله ، وقوله ؛ فإنه ذبج بعد ما صلَّى ، وقال : (( إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلِّي ، ثم ننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب ، ومن لم يفعل فإنما هو لحم قدَّمه لأهله ، ليس من النُّسك في شيء )). وهذا اللفظ عام يتناول كل مضحٍّ ، وأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث جابر من ذبح قبله أن يعيد أضحية أخرى ، ونهى أن يذبح قبل ذبحه . فإذًا : أحسن المسالك ما ذهب إليه مالك . هذا القول في مبدأ زمان الذبح .
(17/58)
فأما منتهاه : فهو عند مالك : يوم النَّحر ، ويومان بعده . وعند الشافعي : وثلاثة بعده. وعند غيرهما : يوم النحر خاصَّة . وقال سليمان بن يسار وأبو سلمة بن عبد الرحمن [ إلى آخر الشهر ] ، ورويا حديثًا مرسلاً . ومعتمد أصحابنا قوله تعالى : { ليذكروا اسم الله في أيامٍ معلومات } ، قالوا : والمعلومات : جمع قلَّة ، لكن المتيقن منه الثلاثة ، فإنَّه أقل الجمع على ما تقرر في الأصول . وما بعد الثلاثة غير متيقن ، فلا يعمل به ، فإنَّ تعيين عدد بعد ذلك تحكم ؛ إذ لم يعينه الشرع .
وأما القول الثالث : فلا وجه له - في علمي - غير التمسك بإضافة النحر إلى اليوم الأول خاصة ، وهو ضعيف مع قوله : { في أيام معلومات }.
واختلف في ليالي أيام النحر : هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أو لا ؟ فروي عن مالك في المشهور : أنها لا تدخل . فلا يجوز الذبح بالليل ، وعليه جمهور أصحابه . وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، واسحاق ، وأبو ثور : الليالي داخلة في الأيام ، ويجزي الذبح فيها ، وروي عن مالك ، وأشهب نحوه . ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية ، فأجاز الهدي ليلاً ، ولم يجز الضحية ليلاً . وقد تمسَّك مالك بأصل وضع الأيام ؛ فإنَّه الحقيقة في الكلام . وقد روي في ذلك نهي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حديث عطاء بن يسار مرسلاً ، ولا يصخ ؛ لأنَّه من حديث مُبَشِّر بن عبيد ، وهو متروك .
وقوله : (( ومن لم يذبح فليذبخ باسم الله )) ؛ فيه دليل : على وجوب التسمية عند الذبح ، وقد ذكر الخلاف فيه في الصيد .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى يوم الأضحى ثم خطب : دليل واضح على من أجاز تقديم الخطبة على الصلاة . وقدتقدَّم ذلك فى كتاب الإيمان .
(17/59)
وقوله : (( إن عندي جذعة من المعز )) ، وفي رواية : (( عناقًا )) ، وفي رواية : (( عَتُودًا )) ، وكلها بمعنى واحد . واختلف في سنِّ الجذعة من الغنم . فأقل ما قيل في ذلك : ستة أشهر . وأقصى ما قيل في ذلك : سنة تامَّه . وفي الصحاح : الْجَذَعُ قبل الثني ، والجمع : جذعان ، وجذاع ، والأنثى : جذعة . والجمع : جذعات . يقال منه لولد الشاة في السنة الثانية ، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة ، وللإبل في السنة الخامسة : أجذع . والجذع : اسم له في زمن ، وليس بسن ينبت ويسقط . وقد قيل في ولد النعجة : إنه يجذع في ستة أشهر ، أو تسعة أشهر ، وذلك جائز في الأضحى .
وقوله : (( عندي جذعة خير من مسنتن )) ؛ يعني به : طيب لحمها ، وهو أهم المقصودين في الأضاحي ، فإنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضحَّى بالغنم ، كما أن أهم المقصودين في الهدايا : كثرة اللحم ، ولذلك أهدى الإبل ، ومن هنا ظهر حسن ما ذهب إليه مالك ، فقال : الغنم في الضحايا أفضل ، والإبل في الهدايا أفضل . والشافعي يرى أن الإبل أفضل في الضحايا والهدايا نظرًا إلى كثرة اللحم .
وقوله : (( ولا تَخْزِي جذعة عن أحدٍ بعدك )) ؛ يعني : من المعز ، وهو الذي لا نعرف فيه خلافًا . وأما الجذع من الضأن : فإنَّه جائز عند الجمهور ، وفيه خلاف شاذّ يرده حديث جابر ، وهو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تذبحوا إلا مسنة ، إلا أن يعسر عليكم ، فتذبحوا جذعة من الضأن )) ، وما روى الترمذي عن أبي كباش ، قال : جلبت غنمًا جذعانًا إلى المدينة ، فكسدت عليَّ ، فلقيتُ أبا هريرة ، فسألته ، فقال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( نعم -أو : نعمت - الأضحية الجذع من الضأن )) فانتهبها الناس . قال : هذا حديث حسن غريب . والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغيرهم أن الجذع من الضأن يَخْزِي في الأضحية. فأمَّا الجذع من المعز ، فلا يَجْزِي لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بردة : (( لا تَجْزِي عن أحدٍ بعدك )).
(17/60)
قال القاضي عياض : وقد أجمع العلماء على الأخذ بحديث أبي بردة ، وأنَّه لا يَجْزي الجأغ من المعز ، فإنَّ لم يتمكَّن إلا من الجذع من الضأن كان نعم الأضحية ، كما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ويعني بالمسنَّة : الكبيرة ، وأوَّل ذلك : الثني ، وهو المعني هنا ، فإنَّها أطيب لحمًا مما قبلها ، وأسرع نضجًا مما بعدها . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( إلا أن يعسر عليكم ، فتذبحوا جذعة من الضأن )) ؛ دليل : على أنَّه لا يجوز في الأضحية الجذع من المعز ، ولا من البقر ، ولا من الإبل . وهو قول أهل العلم . وإنَّما اختلف في إجزاء الجذعة من الضأن كما قلناه آنفًا .
وقوله : (( إن هذا يومٌ اللحم فيه مكروة )) ؛ قال القاضي : هكذا رويناه بالهاء والكاف من طريق الفارسي ، والسجزي ، وكذا ذكره الترمذي ، ورويناه من طريق العذري : (( مقروم )) بالقاف والميم .
قلت : وهذه الرواية هي الصواب الواضح . ومعناها : أن اللحم في هذا اليوم تتشوَّف النفوس إليه لشهوتها . يقال : قَرِمْتُ إلى اللحم ، وقَرِمْتُه : إذا اشتهيته ، أَقْرُمُ قرمًا . وأما رواية مكروه : ففيها بُعْد . وقد تكلَّف لها بعضهم ما لا يصحّ رواية ولا معنى ، فقال : صوابه : اللَّحم - بفتح الحاء - قال ومعناه : أن يترك أهله بلا لحم حتى يشتهوه . و((اللَّحم)) -بالفتح - : شهوة اللحم . فانظر مع هذا التكلُّف القبيح كيف لا يظهر منه معنى صحيح . وقال آخر : معنى : (( اللحم فيه مكروه )) ؛ أي : لمخالفته السنة ، كما قال في الحديث الآخر : (( شاتك شاة لحم )).
(17/61)
قلت : وهذا من قول من لم يتأمل مساق الحديث ، فإنَّ هذا التأويل ليس ملائمًا له ، ولا موافقًا لمعناه ؛ إذ لا يستقيم أن يقول : إن هذا اليوم اللحم فيه مخالف للسنة ، وإني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي . وهذا فاسد. وأقرب ما يتكلّف لهذه الرواية وأنسبه : أن يقال : إن معناه : اللحم فيه مكروه التأخير . فحذف التأخير ، وهو يريده . ويشهد لهذا قوله بعده متصلاً به : (( وإني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني )). وهذا مناسب لما قدَّرناه من المحذوف . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( هي خير نسيكتيك )) ؛ سَمَّى ما ذبح قبل الصلاة نسيكة بحسب توهُّم الذابح وزعمه ، وذلك : أنه إنما ذبحها في ذلك الوقت بنيَّة النسك ، وبعد ذلك بيَّن له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنها ليست نسكًا شرعًا ؛ لما قال : (( من ذبح قبل الصلاة ، فإنما هو لحم عجله لأهله ، ليس من النُّسك في شيء )).
وقول عقبة : (( قسم فينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضحايا فأصابني جذع ، فقلت : يا رسول الله ! أصابني جذع ، فقال : ضحِّ به )). وفي الرواية الأخرى : (( عَتُود )) ؛ هذه الرواية تدلُّ على أن الجذع المذكور في حديث عقبة هو من المعز ، فإنَّ العَتُود إنما هو بأصل وضعه اسنم لما رعى وقَوِي من أولاد المعز ، وأتى عليه حول . هذا هو المعروف في اللغة ، وعلى هذا : فيكون هذا الحديث معارضًا لحديث أبي بردة ، ولذلك قال علماؤنا : إن حديث عقبة منسوخ بحديث أبي بردة ، ودلَّ على هذا : ما حكي من الإجماع على عدم إجزاء الجذع من المعز .
قلت : ويمكن في حديث عقبة تأويلان ، ولا يصار فيه إلى النَّسخ :
أحدهما : أن الجذع المذكور فيه : هو من الضأن ، وأطلق عليه العَتُود ؛ لأنَّه في سِنِّه وقوته ، ولا يستنكر هذا ، فمن المعلوم : أن العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذ جاوره ، أو كان منه بسبب ، أو شبه .
(17/62)
وثانيهما : أن العَتُود وإن كان من المعز ، فقد يقال على ما خرج من السنة الأولى ، ودخل في السنة الثانية لتقارب ما بينهما . وقد دلَّ على صحة هذا ما حكاه القاضي عن أهل اللغة : أن العتود : الجدي الذي بلغ السِّفَاد . قال ابن الأعرابي : المعز ، والإبل ، والبقر : لا تضرب فحولها إلا بعد أن تثني ، وإذا صحَّ هذا ارتفع التعارض ، وصحَّ الجمع بين الحديثين ، والجمع أولى من الترجيح ، والنسخ لا يصح مع إمكان الجمع . وفي حديث عقبة دليل على تأكد أمر الأضحية ، وأن الإمام ينبغي له أن يفرِّق الضحايا على من لا يقدر عليها من بيت مال المسلمين .
ومن باب ما يختار في الأضحية
قوله : (( أمر بكبش أقرن ، يطأ في سواد ، وينظر في سواد ، ويبرك في سواد )) ؛ أي : أمر بأن ينتخب له كبش على هذه الشِّيَة ، ففيه ما يدل على أن المضحي ينبغي له أن يختار الأفضل نوعًا ، وأكمل خلقًا ، والأحسن شِيَة . فالأقرن : الطويل القرن ، وهو أفضل . ولا خلاف في جواز الأجم . واختلف في المكسورة القرن . فالجمهور على الجواز ، وقد روى أبو داود عن علي : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن يُضحَّى بعضباء الأذن والقرن . وكرهه مالك إن كان يدمى ؛ لأنَّه مرض ، وأجازه إن لم يَدْم . ومعى : (( يطأ في سواد )) ؛ أي : أسود القوائم . (( ويبرك في سواد )) ؛ أي : في بطنه سواد .(( وينظر في سواد )) ؛ أي : ما حول عينيه أسود .
وقوله : (( ضحَّى بكبشين أملحين أقرنين )) ؛ اختلف في الأملح . فقال الأصمعي : هو الأبيض ؛ لون الملح ، ونحوه . قال ابن الأعرابي : هو النقي البياض . وقال غيرهما : الملحة من الألوان : بياض يخالطه سواد. يقال : كبش أملح إذا كان شعره خليسًا . هذا الذي حكاه في الصحاح ، ولم يحك ما ذكر عن الأصمعي وابن الأعرابي .
و (( الْمُدية )) : السكِّين ، وتجمع : مُدى ، كغزفة وغرف .
و (( الشحذ )) : الحذُّ ، ومنه قوله :
فياحَجَر الشَّحذِ حتَّى متى تسن الحديدَ ولا تقطُع ؟
(17/63)
وفيه الأمر بحدِّ آلة الذبح ، كما قال في الحديث الآخر : (( إذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة ، وليحدَّ أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته . وهو من باب الرِّفق بالبهيمة بالإجهاز عليها ، وترك التعذيب ، فلو ذبح بسكين كالَّةٍ ، أو بشيء له حدٌّ ، وإن لم يكن مجهزًا بل مُعذِّبًا فقد أساء ، لكنه إن أصاب سنه الذبح ؛ لم تحرم الذبيحة ، وبئس ما صنع ، إلا إذا لم يجد إلا تلك الآلة .
وفيه من الفقه : استحباب العدد في الأضاحي ، ما لم يقصد المباهاة . وأن المضحِّي يلي ذبح أضحيته بنفسه ؛ لأنَّه هو المخاطب بذلك ، ولأنه من باب التواضع . وكذلك الهدايا ، فلو استناب مسلمًا جاز . واختلف في الذمي ، فأجاز ذلك عطاء ابتداءً . وهو أحد قولي مالك. وقال في قول له آخر : لا يُجزئه ، وعليه إعادة الأضحية . وكره ذلك جماعة من السلف ، وعامة أئمة الأمصار ، إلا أنهم قالوا : يجزئه إذا فعل .
وفيه : استحباب إضجاع الذبيحة ، ولا تذبح قائمة ، ولا باركة . وكذلك مضى العمل بإضجاعها على الشِّق الأيسر ؛ لأنَّه أمكن من ذبحها.
وفيه : استحباب وضع الرِّجل على جانب عنق الذبيحة . وهو المعبر عنه بالصِّفاح . وصفحة كل شيء : جانبه وصفحه أيضًا ، وإنما يستحب ذلك لئلا تضطرب الذبيحة فتَزِلَّ يدُ الذابح عند الذبح. وقد روي نهي عن ذلك ، والصحيح : ما ذكر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وضعه رجله على صفاحهما.
(17/64)
وفيه من الفقه : تعيين التسمية ؛ فإنَّه قال : باسم الله ، والله أكبر. وقد اختلف في ذلك ، فقال أبو ثور : التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة . وكافة العلماء على استحباب ذلك . فلو قال ذكرًا آخر فيه اسم من أسماء الله وأراد به التسمية جاز ، وكذلك لو قال : الله أكبر - فقط - أو : لا إله إلا الله ، قاله ابن حبيب ، فلو لم يرد التسمية لم تُجزيء عن التسمية ، ولا تؤكل . قاله الشافعي ، ومحمد بن الحسن . وكره كافة العلماء من أصحابنا ، وغيرهم الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند التسمية في الذبح ، أو ذكره ، وقالوا : لا يذكر هنا إلا الله وحده . وأجاز الشافعي الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند الذبح .
وقوله : (( اللهم تقبَّل من محمدٍ ، وآل محمدٍ ، ومن أمة محمد )) ؛ هذا دليلٌ للجمهور على جواز قول المضحِّي : اللهم تقبل مني . على أبي حنيفة ؛ حيث كره أن يقول شيئًا من ذلك ، وكذلك عند الذبح . وقد استحسنه بعض أصحابنا ، واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم }. وكره مالك قولهم : اللهم منك ، وإليك ، وقال : هذه بدعة . وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا ، والحسن .
قلت : وقد روى أبو داود من حديث جابر بن عبدالله قال : ذبح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الذبح كبشين أقرنين موجئين ، أملحين ، فلما وجههما قال : إنى وجهت وجهى للذى فطر السَّموات والأرض حنيفًا [وما أنا من المشركين ]} ، وقرأ : [{ قل إن صلاتي ونسكي }] إلى قوله : { وأنا أول المسلمين} ، اللهم منك وإليك عن محمد وأمته ، باسم الله ، والله أكبر ، ثم ذبح . فهذا الحديث حجَّة للحسن وابن حبيب. وأما مالك : فلعل هذا الحديث لم يبلغه ، أو لم يصحّ عنده ، أو رأى : أن العمل يُخالفه . وعلى هذا يدلّ قوله : إنَّه بدعة .
(17/65)
وفيه من الفقه ما يدلّ على جواز تشريك الرجل أهل بيته في أضحيته ، وأن ذلك يجزىء عنهم . وكافة علماء الأمصار على جواز ذلك. مع استحباب مالك أن يكون لكل واحدٍ من أهل البيت أضحية واحدة ، وكان أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري يكرهون ذلك . وقال الطحاوي : لا يجزيء . وزعم : أن الحديث في ذلك من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منسوخ ، أو مخصوص . ومن قال بالمنع : عبدالله بن المبارك .
قلت : وهذه المسألة فيها نظر ، وذلك : أن الأصل أن كل واحد مخاطب بأضحية ، وهذا متفق عليه ، فكيف يسقط عنهم بفعل أحدهم ؟! وقوله : (( اللهم تقبَّل من محمد وآل محمد )) ليس نصًّا في إجزاء ذلك عن أهل بيته ، بل هو دعاء لمن ضحَّى بالقبول . ويدلُّ عليه قوله : (( ومن أمة محمد )) ، وقد اتَّفق الكل : على أن أضحية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تجزىء عن أمته ، ولو سُلِّم ذلك لكان يلزم عليه أن تجزىء أضحية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن آل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث كانوا ، وإن لم يكونوا في بيته ، ثم يلزم عليه ألا يدخل أزواجه فيهم ؛ فإنَّهم ليسوا آلاً له على الحقيقة اللغوية . وقد تقدَّم القول على آل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الزكاة . والذي يظهر لي : أن الحجَّة للجمهور على ذلك : ما روي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضحَّى عن نسائه ببقرة ، وروي : بالبقر . وأيضًا فلم يرو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر كل واحدة من نسائه بأضحية ، ولو كان ذلك ؛ لنقل ، لتكرار سِنِيِّ الضحايا عليهن معه ، ولكثرتهن . فالعادة تقتضي أن ذلك لو كان لنقل كما نقل غير ذلك من جزئيات أحوالهن ، فدلَّ ذلك على أنَّه كان يكتفي بما يضحِّي عنه وعنهن . والله تعالى أعلم .
وقد ررى الترمذي عن عطاء بن يسار ، قال : سألت أبا أيوب الأنصاري : كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ فقال : كان الرجل يضحِّي بالشاة عنه وعن أهل بيته ، فيأكلون ، ويطعمون حتى تباهى الناس فيها كما ترى . قال : هذا حديث حسن صحيح .
قال القاضي : وضبطُ من يصحُّ أن يُدخله الرجل في الأضحية عندنا بثلاث صفات :
(17/66)
أحدها : أن يكونوا من قرابته ، وحكم الزوجين ، وأمِّ الولد حكمهم عند مالك والكافة . وأباه الشافعي في أم الولد ، وقال : لا أجيز لها ، ولا للمكاتب ، والمدبر ، والعبد أن يضحُّوا .
والثاني : أن يكونوا في نفقته ، وجبت عليه ، أو تطوّع بها .
والثالث : أن يكونوا في بيته ، ومساكنته غير نائين عنه ، فإنَّ انخرم شيء من هذه الشروط لم يصح اشتراكهم في ضحيَّته . قال : ولا يجوز عند جميعهم شركة جماعة في ضحية يشترونها ، ويذبحونها عن أنفسهم ، أو في هدي إذا كانوا أكثر من سبعة . واختلفوا فيما دونها . فمذهب الليث ، ومالك : أن الشركة لا تجوز بوجهٍ فيها ؛ كانت بدنة ، أو بقرة ، أو شاة ، أَهْدُوا أو ضحُّوا . وذهب جمهور العلماء من الحجازيين ، والكوفيين ، والشاميين : إلى جواز إشراك السبعة فما دون ذلك في البقرة ، والبدنة ، في الهدي والضحيَّة ، ولا تجزيء شاة إلا عن واحد .
وقد حصل من مجموع حديث عائشة وأنس وجابر أن الأولى في الأضحية نهاية الكمال في الخلق والصّفة. وهو متفق عليه ، وأن الوجاء ليس منقص ؛ لأنَّه وإن كان نقصان عضو ، فإنَّه يصلح اللَّحم ويُطَيِّبُه . وقد قلنا : إن الطيب في الأضحية : هو المقصود الأول . وأما العيوب الْمُنْقِّصة ، فقال القاضي : أجمعوا أنَّ العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء ؛ من : المرض ، والعجف ، والعور ، والعرج لا تجزيء بها الضحيَّة . وكذلك ما هو من نوعها أشنع ، كالعمى ، وقطع الرِّجل . واختلف فيما عدا ذلك . فذهب قومٌ : إلى أنها تجزيء بكل عيب غير هذه الأربعة ؛ إذ لم ينصَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على غيرها ، وهو موضع بيان . وبه قال بعض أئمتنا البغداديين . وذهب الجمهور إلى اعتبار ما كان نقصًا وعيبًا ، ثم اختلفوا في أعيانها على ما ترتَّب في كتب الفقه .
(17/67)
قال : ولم يخرج البخاري ، ولا مسلم حديث عيوب الضحايا ؛ لأنَّه مما تفرَّد به عبيد بن فيروز ، ولا يُعرف إلا بهذا الحديث . وقد أدخله مالك في "الموطأ" لما صحبه عنده العمل من المسلمين ، ولاتفاقهم على قبوله .
قلت : يعني القاضي : حديث البراء الذي خرَّجه مالك عن عمرو بن الحارث المصري عن عبيد بن فيروز ، عن البراء بن عازب : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُئل : ماذا يُتَّقى من الضحايا ؟ فأشار بيده وقال : (( أربع ... )) ، وذكر الحديث . وهذا الحديث صحيح ، وانفراد الثقة به لا يضرُّه ، وإنَّما لم يخرِّجه البخاري ولا مسلم ؛ لأنَّه ليس على ما شرطاه في كتابيهما ، وقد خرَّجه النسائي ، والترمذي ، وقال : حديث حسن ، صحيح ، غريب ، لا نعرفه إلا من حديث عبيد بن فيروز . وكذلك خرَّج النسائي أيضًا حديث علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ من طرق قال فيه : أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستشرف العين والأذن ، وألا نضحِّي بعوراء ، ولا مقابلة ، ولا مدابرة ، ولا شَرْقاء ، ولا خَرْقاء . وفي أخرى : ولا بتراء. وفي أخرى : ولا جدعاء . وصححه الترمذي .
وقوله : أمرنا أن نستشرف العين والأذن . أي : نرفع نظرنا إلى ذلك ، ونختار السالم من عيوب ذينك . ثم فسَّر ذلك بقوله : ولا نضحِّي بعوراء ، وبما بعده .
(17/68)
و (( المقابلة )) هي : التي يقطع بعض أذنها ، ويُترك مُعقلَّقًا على وجهها. و(( المدابرة )) : أن يُترك معلَّقًا إلى خلفها . و(( الشرقاء )) هي : المشقوقة الأذن طولاً . و(( الخرقاء )) : التي خرق من غير شق. و(( الجدعاء )) : المقطوعة الأذن . وظاهر عطف هذه العيوب على العوراء - وهي لا تجزيء باتفاق - ألا تجزيء الأضحية مع شيء من هذه العيوب . وهو أصل الظاهرية ، لكن لما كانت العوراء مقيَّدة بالبيِّن عَوَرُها ، كما قال في حديث البراء ؛ تحققنا : أن المنهي عنه من هذه العيوب ما تفاحش منها ، ولا شكَّ أن ما أذهب الأُذن من هذه الأمور ، أو جثها لا تجزيء به ، وما لم يكن كذلك ، فقال أصحابنا في المقطوع بعض أذنها إن زاد القطع على الثلث منع الإجزاء ، وإن نقص عنه أجزأت . واختلف في الثلث . هل تجزيء أو لا ؟ على قولين . وكذلك القول في البتراء ، والنظر في آحاد العيوب ، وتفصيل الخلاف يستدعي تطويلاً فلنقتصر على ما ذكرناه .
ومن باب الذبح بما أنهر الدَّم
قولهم : (( إنا لاقو العدو غدًا ، وليست معنا مدى ؟ فنُذَكِّي باللِّيط )) ؛ وهو قطع القصب ، والشَّصير : قطعة العصا ، والظُّرَرُ : قطعة الحجر ، ويجمع : ظِرَّان ، كما قال امرؤ القيس.
تَطايَرُ ظِزَّانُ الْحَصَى بمناسِمٍ
(17/69)
ويقال عليها : المروة أيضًا ، وكذلك رواه أبو دارد في هذا الحديث : أفنذكِّي بالمروة ؟ مكان (( اللَّيط )). والشِّظاظ : فِلقة العود . فهذه .كلُّها إذا قطع بها الودجان والحلقوم جازت الذبيحة ؛ غير أنه لا يذبح بها إلا عند عدم الشِّفار وما يتنزل منزلتها ؛ لما تقدَّم من الأمر بحدِّ الشِّفار ، وتحسين الذَّبح ، والنهي عن تعذيب البهائم . وقد نبَّه مالك على هذا لما ترجم على الذكاة بالشِّظاظ ما يجوز من الذكاة على الضرورة . ومعنى هذا السؤال : أنهم لما كانوا عازمين على قتال العدو صانوا ما عندهم من السِّيوف ، والأسنه ، وغير ذلك عن استعمالها في الذَّبح ؛ لأنَّ ذلك ربما يفسد الآلة ، أو يعيبها ، أو ينقص قطعها ، ولم تكن لهم سكاكين صغار مُعِدَّة للذَّبح ، فسألوا : هل يجوز لهم الذبح بغير محدَّد السِّلاح ؛ فأجابهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يقتضي الجواز. وقد دخل في هذا العموم : أن كل آلة تقطع ذبحًا أو نحرًا فالذكاة بها مبيحة للذبيحة ، والحديد الْمُجْهِز أولى لما تقدَّم . ولا يستثنى من الآلات شيء إلا السنُّ ، والظُّفُر على ما يأتي .
وقوله : (( وذكر اسم الله )) ؛ ظاهر قوي في كون التسمية شرطًا في الإباحة ؛ لأنَّه قرنها بالذَّكاة المشترطة ، وعلَّق الإباحة عليهما ، فقد صار كل واحد منهما شرطًا ، أو جزء شرط في الإباحة. وقد تقدَّم هذا. والرواية الصحيحة المشهورة : أنهر بالرَّاء . رذكر الخشني في شرحه هذا الحرف - بالزاى -. والنَّهز : بمعنى : الدَّفع . وهذا توجيهٌ للتصحيف ، فلا يُلتفت إليه .
(17/70)
وقوله : (( ليس السِّنّ ، والظُّفُر )) ؛ ليس هنا للاستثناء ، بمعنى : إلا. وظاهر هذا : أنه لا تجوز الذكاة بهما على حال ، سواء كانا متصلين بالمذكِّي ، أو منفصلين عنه . قال القاضي أبو الحسن : وهذا الظاهر من قول مالك من رواية ابن الموَّاز عنه . وروى ابن وهب عنه الجواز مطلقًا . وقيل : بالفرق بين المتصل منهما ، فلا تجوز الذَّكاة به ، وبين المنفصل ؛ فتجوز الذكاة به ، قاله ابن حبيب . فالأول : تمسُّك بالعموم ، والثاني : نظرٌ للمعنى ؛ لأنَّه يحصل بهما الدبح . وهو ضعيف ؛ لأنَّه تعطيل للاسماء المذكور في الحديث . والثالث : تمسُّك بأن الظُّفُر المتصل خنق ، والسِّن المتصل نَهْشٌ . وربما جاء ذلك في بعض الحديث . والمنفصل ليس كذلك ، فجازت الذَّكاة به. والصحيح : الأول ، وما عداه ، ليس عليه مُعوَّلٌ.
وقوله : (( وسأحدِّثُك ، أمَّا السِّنُّ : فعظمٌ . وأمَّا الظُّفُر : فمدى الحبش )) ؛ ظاهر هذا أنَّه من كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو تنبية على تعليل منع التذكية بالسِّنُّ ، لكونه عظمًا ، فيلزم عليه : تعدية المنع من السِّنِّ إلى كل عظم ، من حيث : إنَّه عظم ؛ متصلاً كان ، أو منفصلاً . وإليه ذهب النخعي ، والحسن بن صالح ، والليث ، والشافعي . وفقهاء أصحاب الحديث منعوا الذكاة بالعظم ، والظُّفر كيف كانا ، وأجازوه بما عدا ذلك للحديث . وهو أحد أقوال مالك ، كما تقدَّم . وروي عن مالك التفريق بين السِّن والعظم . فأجازها بالعظم ، وكرهها بالسنِّ ، وهو مشهور مذهبه .
وقوله : (( وأمَّا الظُّفُر فمدى الحبش )) ؛ يعني : أن الحبش يذبحون بأظفارهم ، ولا يستعملون السَّكاكين في الذَّبح ؛ فمَنَعَنا الشرع من ذلك ؛ لئلا نتشبَّه بهم . فقيل : إنهم يغرزون أظفارهم في موضع الذبح ، فتنخنق الذبيحة . وعلى هذا : فيكون محل المنع إنَّما هو الظُّفر المتصل ، ويكون حجَّة لما صار إليه ابن حبيب من ذلك .
(17/71)
وقد روى حديث ابن رافع هذا غيرُ من ذكرناه ، وقال فيه : (( ما فرى الأوداج وذكر اسم الله عليه فكُلْه )) ؛ أي : ما قطع . وظا هره : الاقتصار في الذكاة على الودجين خاصَّة . وقال بذلك قومٌ منهم : ابن عبَّاس ، وعطاء . وقد روي عن مالك : أنَّه قال فيما قطعت أوداجه : أنَّه قد تَمَّت ذكاته . ومشهور مذهبه ومذهب أصحابه : اشتراط قطع الحلقوم ، والودجين ، وهو قول الليث . وحكى عنه البغداديون : أنه يشترط قطع أربع : الثلاثة المذكور ، والمريء . وهو قول أبي ثور . ثمَّ اختلف أصحاب مالك في قطع أحد الودجين والحلقوم . هل هو ذكاة ، أو لا ؟ على قولين . وذهب الشافعي : إلى اشتراط الحلقوم والمريء دون الودجين ، لكن من تمامها الودجان ، ولا يجزيان دون الحلقوم والمريء. والناس مجمعون : على أن الذَّبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة ؛ فقد تَمَّت الذكاة .
واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن ؛ هل ذلك ذكاة أم لا ؟ على قولين . وقد رري عن مالك : أنها لا تُؤكل ، وقد تمسك بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما أنهر الدَّم ... )) من يجيز نحر ما يذبح ، وذبح ما ينحر ، وأن النَّحر والذبح ذكاة للجميع لإنهاره الدَّم . وهو قول عامَّة السلف ، والعلماء ، وفقهاء الأمصار ، وأشهب من أصحابنا . ومالك كره أكله مرة ، وأخرى حرَّمه. قال ابن المنذر : ولا أعلم أحدًا حرَّم أكل شيء من ذلك كُلِّه ، ولم يختلفوا : أن الذبح أولى في الغنم ، والنحر أولى في الإبل ، والتخيير في البقر . وقيل : الذبح أولى ؛ لأنَّه الذي ذكره الله تعالى .
وقوله : (( أَعْجِل وأَزني )) ؛ هذا الحرف وقع في كتاب البخاري ، ومسلم ، وأبي داود . واختلف الرواة في تقييده على أربعة أوجه :
الأول : قيَّده النَّسفي ، وبعض رواة البخاري : أَرِنْ. بكسر الراء ، وسكون النون ؛ مثل : أَقِم .
الثاني : قيَّده الأصيليُّ : أَرِني. بكسر النون بعدها ياء المتكلم.
(17/72)
الثالث : قيَّده بعض رواة مسلم كذلك إلا أنَّه سكَّن الراء.
الرابع : قيَّده في كتاب أبي داود بسكون الراء ، ونون مطلقة . هذه التقييدات المنقولة .
قال الخطابي : وطالما استثبتُّ فيه الرواة ، وسألت عنه أهل العلم ، فلم أجد عند أحد منهم ما يقطع بصحته .
تنبيه : قال بعض علمائنا في الوجه الأول : هو بمعنى : قد أنشط وأسرع . فهو بمعنى : أَعْجل . فكأنَّه يشير إلى أنَّه شكٌّ وقع من أحد الرواة في أيِّ اللفظين قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
قلت : وهذه غفلة ؛ إذ لو كان من الأَرَنِ الذى بمعنى النشاط ؛ للزم أن يكون مفتوح الراء ؛ لأنَّ ماضيه : أَرِن ، ومضارعه : يأرن . قال الفرَّاء : الأَرَن : النشاط . يقال : أَرِنَ البعير بالكسر ، يأرن بالفتح أرنًا : إذا مرح مرحًا ، فهو آرِنٌ ؛ أي : نشيط . وقياس الأمر من هذا أن تُخْتَلَبَ له همزة الوصل مكسورة وتفتح الراء ، فيقال : اِئْرَنْ كـ(( ائذن )) ، من أَذِنَ يأذن . ولم يُرْوَ كذلك . وأمَّا تقييد الأصيليِّ : فقال بعضهم : يكون بمعنى : أَرِني سيلان الدم .
قلت : وعلى هذا فيبُعدُ أن تكون (( أو )) للشك ، بل للجمع بمعنى الواو على المذهب الكوفي ؛ فإنَّه طلب الاستعجال ، وأن يريه دم ما ذبح. وما وقع في كتاب مسلم من تسكين الراء : هو تخفيفٌ للراء المكسورة وهي لغة معروفة ، قرأ بها ابن كثير . وأما ما وقع في كتاب أبي داود : فقيل : هو بمعنى : أَدِم الحزَّ ، ولا تفتر . من : رنوت ؛ أي : أدمت النظر.
قلت : ويلزم على هذا : أن تكون مضمومة النُّون ؛ لأنه أمرٌ من : رنا ، يرنو ، فتحذف الواو لبناء الأمر ، ويبقى ما قبلها مضمومًا على أصله ، ولم يحقَّق ضبطه كذلك .
(17/73)
وقد ذكر الخطَّابي في هذه اللفظة أوجها محتملة لم يجيء بها تقييد عن مُعْتبر ، ولا صحَّت بها رواية ، رأيت الإضراب عنها لعدم فائدتها ، وبُعدها عن مقصود الحديث . وأثبت ما فيها رواية ، وأقربه معنىً تقييد مَنْ جعله من رؤية العين ، وذلك أن اللِّيط والمروة ، وما أشبههما مما ليس بمحدَّد يخاف منه ألا يكون مُجهِزًا ، فإنَّ لم يستعجل بالمرِّ لم يقطع ، وربما يموت الحيوان خنقًا ، فإذا استعجل في المرِّ ، ورأى الدَّم قد سال من موضع القطع فقد تحقَّق الذبح المبيح ، والله تعالى أعلم بما أراد رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( ما أنهر الدم )) ؛ أي : ما أساله وصبَّه بكثرة . ووزنه : أفعل ، من النهر . شبَّه خروج الدَّم بجري الماء في النهر . و(( ما )) موصولة في موضع رفع بالابتداء ، وخبرها : (( كُلْه )) ، ودخلت الفاء على الخبر هنا كما دخلت في قوله تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله } ، ولا يلتفت لقول من تخيَّل أن ما أنهر الدَّم مفعوله بـ : أرني ؛ لأنَّه يبقى : (( فكله )) ضائعًا . فتأمله .
وقوله : (( وأصبنا نهب إبل ، وغنم ، فندَّ منها بعيرٌ فرماه رجل بسهم ، فحبسه )) ؛ النهب : الغنيمة ، ومنه قول عباس بن مرداس : أتجعل نهبي ونهب العبيد ؛ أي : حقِّي من الغنيمة . و(( ندَّ )) : نفر وشذَّ عن الإبل .
وقوله : (( إن لهذه الابل أوابد كأوابد الوحش ، فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا )) ؛ الأوابد : جمع آبدة ، وهي التي نفرت من الإنس ، وتوحَّشت . ويقال : أبدت البقرة ، تأبد ، وتَأْبُد ، وتأبَّدت الديار : توحَّشت ، وخلت من سُكَّانها . فالأوابد : الوحش . قال امرؤ القيس :
وقد أغْتَدِي والطَّيْرُ في وُكُناتِها بِمُتْجَرِدٍ قيدِ الأوابدِ هَيْكَلِ
(17/74)
وظاهر هذا الحديث أن ما نفر من الإنسي ، ولم يفدر عليه جاز أن يُذَكَّى بما يُذكَّى به الصيد . وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي ، وقال مالك : لا يُؤكل إلا بذكاة الإنسيِّ بالنحر ، أو الذبح استصحابًا لمشروعية أصل ذكاته ، ولأنه وإن كان قد لحق بالوحش في الامتناع ؛ فلم يلحق بها لا في النوع ، ولا في الحكم . ألا ترى : أن ملك مالكه باقٍ عليه ، واعتذر أصحابنا عن هذا الحديث بمنع ظهور ما ادُّعي ظهوره من ذلك ؛ إذ لم يقل فيه : إن السهم قتله . وإنَّما قال : حبسه . ثم بعد أن حبسه فقد حصل مقدورًا عليه . فلا يؤكل إلا بالذبح أو النحر ، ولا فرق بين أن يكون وحشيًّا ، أو إنسيًّا .
وقوله : (( وما غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا )) ؛ نقول بموجبه : أي : نرميه ، ونحبسه ، فإنَّ أدركناه حيًّا ذكَّيناه ، وإن تلف بالرَّمي ، فهل نأكله أو لا ؟ ليس في الحديث تعيين أحدهما فلحق بالمجملات ، فلا ينهض حجَّة ، وحينئذ يبقى متمسك مالك واضح الحجَّة ، والله تعالى أعلم . وقد استدل المخالف بما رواه الترمذي ، وأبو دارد عن أبي العشراء ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ! أما تكون في الذَّكاة إلا في الحلق واللَّبَّة ؟ قال : (( لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك )). قال يزيد بن هارون : هذا في الضرررة . وقال أبو داود : لا يصلح هذا إلا في المتردية ، والنافرة ، والمستوحش . وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مهواة ، فلا يوصل إلى ذكاته إلا بالطعن في غير موضع الذكاة . وهو قول انفرد به عن مالك ، وجميع أصحابه . وقد ألزمه بعض الأصحاب مذهب المخالف ، فيجيز ذلك في النادِّ ، والمستوحش ، وهو إلزام صحيح ؛ إذ كل واحد منهما غير مقدور على ذكاته في الحلق واللَّبَّة . وقد اعتذر أصحابنا عن هذا الحديث : بأنَّه ليس بصحيح ؛ لأنَّ الترمذي قال فيه : حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث حمَّاد بن سلمة ، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث .
(17/75)
واختلفوا في اسم أبي العشراء . فقال بعضهم : اسمه : أسامة بن قِهْطِم . ويقال : اسمه : يسار بن بَزْرٍ ، ويقال : بَلْز ، ويقال : اسمه عُطارد. نُسب إلى جدِّه ، فهذا سند مجهولٌ ، ولو سُلِّمت صحته لما كان فيه حجَّة ؛ إذ مقتضاه جواز الذَّكاة في أي عضو كان مطلقًا ؛ في المقدور على تذكيته وفي غيره . ولا قائل به في المقدور عليه ، فظاهره ليس بمراد قطعًا. وقول يزيد وأبي داود تأويل لهما غير متفق عليه ، فلا يكون فيه حجَّة . والله تعالى أعلم .
وقوله في "الأم" : (( فرميناه بالنبل حتى وهصناه )) ؛ كذا الرواية في كتاب مسلم بالواو . ومعناه : رميناه ، وشدخناه حتى أسقطناه بالأرض . وفي غير كتاب مسلم : (( رهصناه )) بالرَّاء. ومعناه : حبسناه بالرمي ، وأوثقناه . يقال : رهصني فلان بحقه ؛ أى : أخذني به أخذًا شديدًا .
وقوله : (( فأصبنا غنمًا وإبلاً ، فعجل القوم ، فأغلوا بها القدور ، فأمر بها ، فكفئت )) ؛ اختُلف في سبب أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإكفاء القدور ، فقيل فيه أقوال كثيرة ، أشبهها قولان :
أحدهما : أنهم انتهبوها متملكين لها من غير قسمة ، ولم يأخذوها بجهة القسمة العادلة ، وعلى وجه الحاجة لأكلها ، ويشهد لهذا قوله في بعض الروايات : (( فانتهبنا )).
الثاني : أن ذلك إنما كان لتركهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أخريات القوم ، واستعجالهم للنهب ، ولم يخافوا من مكيدة العدو ، فحرمهم الشرع ما استعجلوه عقوبة لهم بنقيض قصدهم ، كما منع القاتل من الميراث . قاله المهلب .
قلت : ويشهد لصحة هذا التأويل مساق حديث أبي داود ؟ فإنَّه قال فيه : وتقدم سرعان الناس ، فتعجَّلوا ، فأصابوا من الغنائم ، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آخر الناس )). و(( كفئت القدور )) : قلبت . وهذه الرواية الصحيحة المعروفة في اللغة . يقال : كفأت الإناء : قلبته وكببته . وزعم ابن الأعرابي : أن : (( أكفأته )) لغة .
(17/76)
وقوله : (( ثمَّ عدل عشرًا من الغنم بجزور )) ؛ يعني : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قسم ما بقي من في الغنيمة على الغانمين ، فجعل عشرة من الغنم بإزاء جزور ، ولم يحتج إلى القرعة ، لرضا كل واحد منهم بما صار إليه من ذلك . ولم يكن بينهم تشاحٌ في شيء من ذلك ، والله تعالى أعلم . وكأنَّ هذه الغنيمة لم يكن فيها إلا الإبل ، والغنم . ولو كان فيها غيرهما : لقوَّم جميع الغنيمة ، ولقسم على القيم .
ومن باب النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث ونسخه
حديث أبي عبيد مولى ابن أزهر ، وابن عمر يدلان : على أن عمر ، وعليًّا ، وابن عمر ، كانوا يرون بقاء حكم النهي عن ادِّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، وأن ذلك ليس بمنسوخ ، ولا مخصوصًا بوقت ، ولا بقومٍ . وكأنَّهم لم يبلغهم شيء من الأحاديث المذكورة - بعد هذا - الدالَّة على نسخ المنع ، أو على أن ذلك المنع كان لعلَّة الدافَّة التي دفت عليهم . وإنما لم تبلغهم تلك الأحاديث الرافعة ؛ لأنَّها أخبار آحاد لا متواترة ، وما كان كذلك صحَّ أن يبلغ بعض الناس دون البعض . وظاهر النهي عن الادِّخار التحريم . وقيل : كان محمولاً على الكراهة .
واختلف في أول الثلاثة الأيام التي كان الادِّخار جائزًا فيها . فقيل : أولها يوم النحر . فمن ضحَّى فيه جاز له أن يمسك يوم النحر ، ويومين بعده . ومن ضحَّى بعده أمسك ما بقي له من الثلاثة الأيام من يوم النحر. وقيل : أولها يوم يضحي ، فلو ضحَّى في آخر أيام النحر ؛ لكان له أن يمسك ثلاثة أيام بعده . وهذا الظاهر من حديث سلمة بن الأكوع ، فإنَّه قال فيه : (( من ضحَّى منكم فلا يصبحن في بيته بعد ثالثة شيء )).
(17/77)
قلت : ويظهر من بعض ألفاظ أحاديث النهي ما يوجب قولاً ثالثًا ، وهو أن في حديث أبي عبيد : (( فوق ثلاث ليال )). وهذا يوجب إلغاء اليوم الذي ضحَّى فيه من العدد ، وتعتبر ليلته وما بعدها . وكذلك حديث ابن عمر فإنَّ فيه : (( فوق ثلاث )) ؛ يعني : الليالي . وكذلك : حديث سلمة فإنَّ فيه : (( بعد ثالثة )). وأما حديث أبي سعيد ففيه : (( ثلاثة أيأكل )). وهذا يقتضي اعتبار الأيام دون الليالي .
وقول عائشة : (( دف ناسٌ من أهل البادية حضرة الأضحى )) ؛ الدفيف : الدبيب ، وهو السير الخفي اللَّين . والدَّافة : الجيش الذين يدبون إلى أعدائهم ، وكان هؤلاء ناسٌ ضعفاء فجازوا دابين لضعفهم من الحاجة والجوع .
و (( حَضْرة الأضحى )) ؛ الرواية المعروفة بسكون الضاد ، وهو منصوب على الظرف ؛ أي : زمن حضور الأضحى ، ومشاهدته . وقيَّده بعضهم : حضَرَة - بفتح الضاد - وفي الصحاح يقال : كلَّمته بحضرة من فلان ، وبمحضرته ؛ أي : بمشهد منه. وحكى يعقوب : كلَّمته بحضَر فلان - بالتحريك من غير هاء - وكلَّته بِحَضْرة فلان ، وحُضرته ، وحِضرته .
وقوله : (( يتخذون منها الأسقية ، ويجملون فيها الودك )) ؛ الأسقية : جمع سقاء ، كالأخبية : جمع خباء . ويجملون : يذيبون. والودك : الشحم . يقال : جملت الشحم ، واجتملته : إذا أذبته . وربما قالوا : أجملت . وهو قليل .
(17/78)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما نهيتكم من أجل الدافَّة التي دفَّت )) ؛ ونحو ذلك قال في حديث سلمة بن الأكوع . وهذا نصٌّ منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : على أن ذلك المنع كان لعلَّة ، ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدِّم ؛ لارتفاع موجبه ، لا لأنه منسوخ . وهذا يبطل قول من قال : إن ذلك المنع إنما ارتفع بالنسخ . لا يقال : فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كنت نهيتكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فادَّخروا )). وهذا رفعٌ لحكم الخطاب الأول بخطاب متأخر عنه. وهذا هو حقيقة النسخ ؛ لأنَّا نقول : هذا لَعمرُ الله ! ظاهر هذا الحديث ، مع أنه يحتمل أن يكون ارتفاعه بأمرآخر غير النسخ ، فلو لم يَرِد لنا نصٌّ بأن المنع من الادِّخار ارتفع لارتفاع علّته ؛ لما عدلنا عن ذلك الظاهر ، وقلنا : هو نسخ ، كما قلنا في زيارة القبور ، وفي الانتباذ بالحنتم المذكورين معه في حديث بريدة المتقدِّم في باب : الجنائز ، لكن النص الذي في حديث عائشة رضي الله عنها في التعليل بين : أن ذلك الرفع ليس للنسخ ، بل لعدم العلة ، فتعين ترك ذلك الظاهر ، والأخذ بذلك الاحتمال لعضد النص له . والله تعالى أعلم .
ننبيه : الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ، ورفعه لارتفاع علأّته : أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدًا ، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة . فلو قدم على أهل بلدة ناسٌ محتاجون في زمان الأضحى ، ولم يكن عند أهل ذلك البلد لا سعةٌ يسدُّون بها فاقتهم إلا الضحايا ، لتعيَّن عليهم : ألا يدَّخروها فوق ثلاث ، كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(17/79)
وفي هذا الحديث أبواب من أصول الفقه . وهو : أن الشرع يراعي المصالح ، ويحكم لأجلها ، ويسكت عن التعليل ، ولما تصفح العلماء ما وقع في الشريعة من هذا ؛ وجدوه كثيرًا ، بحيث حصل لهم منه أصل كلِّي وهو : أن الشارع مهما حكم فإنما يحكم لمصلحة ، ثم قد يجدون في كلام الشارع ما يدلّ عليها ، وقد لا يجدون ، فيسيرون أوصاف المحل الذي يحكم فيه الشرع حتى يتبيَّن لهم الوصف الذي يمكن أن يعتبره الشرع بالمناسبة ، أو لصلاحيَّته لها ، فيقولون : الشرع يحكم للمصلحة ، والمصلحة لا تعدو أوصاف المحل ، وليس في أوصافه ما يصلح للاعتبار إلا هذا ، فتعيَّن . وقد بيَّنا هذا في الأصول . والحمد لله .
وقوله : (( فكلوا ، وادَّخروا ، وتصدَّقوا )) ؛ هذه أوامر وردت بعد الحظر ، فهل تقدُّمه عليها يخرجها عن أصلها من الوجوب عند من يراه ، أو لا يخرجها ؟ اختلف الأصوليون فيه على قولين ، وقد بيَّناهما ، والمختار منهما في الأصول . والظاهر من هذه الأوامر هنا : إطلاق ما كان ممنوعًا ، بدليل اقتران الادِّخار مع الأكل ، والصدقة ، ولا سبيل إلى حمل الادِّخار على الوجوب بوجه ، فلا يجب الأكل ، ولا الصدقة من هذا اللفظ. وجمهور العلماء على أن الأكل من الأضحية ليس بواجب. وقد شذَّت طائفة فأوجبت الأكل منها تمسُّكًا بظاهر الأمر هنا ، وفي قوله تعالى : { فكلوا منها }. ووقع لمالك في كتاب ابن حبيب : أن ذلك على الندب ، وأنه إن لم يأكل مخطيء . وقال أيضًا : لو أراد أن يتصدَّق بلحم أضحيته كلِّه كان له كأكله كلِّه حتى يفعل الأمرين .
وقال الطبري : جميع أئمة الأمصار على جواز ألا يأكل منها إن شاء ، ويطعم جميعها . وهو قول محمد بن المواز .
(17/80)
وقول ثوبان : (( ذبح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أضحيته ، ثم قال : (( يا ثوبان ! أصلح لحم هذه )) ، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة )) ؛ ظاهر هذا : أنه ضحَّى في السفر . وعليه : فيكون المسافر مخاطبًا بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر ؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها . وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((أمرت بالأضحى ، وهو لكم سُنَّة )) ؛ وهذا قول كافة العلماء . وخالف في ذلك أبوحنيفة ، والنخعي ، فلم يريا على المسافرين أضحية . وروي ذلك عن عليّ ـ رضى الله عنه ـ . واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى ، فلم ير عليه أضحية . وبه قال النخعي ، ويروى ذلك عن الخليفتين أبي بكر ، وعمر ، وابن عمر ـ رضى الله عنهم ـ ، وجماعة من السلف ؛ لأنَّ الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي ، فإذا أراد أن يضحِّي جعله هديًا . والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبَّهوا بأهل منى ، فيحصل لهم من أجرهم.
وقال الشافعي ، وأبو ثور : الأضحية واجبة على الحاج بمنى أخذًا بالعموم المتقدِّم . والقول ما قاله الخليفتان رضي الله عنهما ؛ إذ قد أُمرنا بالاقتداء بهما ، كما بيناه في الأصول .
ومن باب إذا دخل العشر وأراد أن يضحي فلا يمسَّ من شعره
ولا من بَشَره شيئًا
أخذ بظاهر هذا النهي أحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر ؛ فمنعوا ذلك . ورأى الشافعي : أن ذلك محمله على الندب . وحكي عن مالك . والمشهور من مذهبه : أن ذلك يجوز. وهو مذهب أهل الرأي . وقال الليث : قد جاء هذا الحديث ، وأكثر الناس على خلافه . وقد استدل أصحابنا على الجواز بقول عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهدي من المدينة ، فأفتل قلائد هديه ، ثم لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم. وظاهر هذا العموم : أنَّه ما كان يجتنب حلق شعر ، ولا قص ظُفُر ولا غيرهما . قال الطحاوي : ولما رأينا الجماع الذي يُفسد الحج لا يحرم على من دخل عليه العشر وأراد الأضحية ، وهو أغلظ ؛ كان أحرى وأولى أن لا يحرم عليه غير ذلك .
(17/81)
وقوله : (( كنا في الْحَمَّام قبيل الأضحى ، فاطَّلى ناسٌ . قُبيل : تصغير قبل ؛ يعني به : يوم الأضحى . و(( اطَّلى )) يعني : بالثورة ، وهو جائز للرجال والنساء ؛ لأنَّه من باب إصلاح الجسد وتنظيفه ، وإنما اختلف في كراهته في العشر لمن أراد أن يضحِّي ؛ لأنه مما تضمنه النهي المذكور .
وقوله : (( أن سعيدًا كان يكرهه )) ؛ يدلّ : على أن مذهب سعيد في كراهة ذلك كان معروفًا . وهل تلك الكراهة بمعنى الحظر ، أو بمعنى التنزيه ؛ الأظهر منها التنزيه .
وقول سعيد : (( يابن أخي ! هذا حديث قد ترك ونسي )) ؛ هذا منه إنكارٌ على من ترك العمل به . ألا ترى أن المعروف من مذهبه الكراهية؟! وقد حكى أبو عمر عن سعيد جواز ذلك ، فيكون عنه في ذلك قولان والله تعالى أعلم .
وقوله : (( لا فرع ولا عتيرة )) ؛ قد فُسَّر الفَرَع في الحديث ، غير أن أبا عبيد زاد في زيادة عن أبي عمرو ، قال : الفَرَع ، والفَرَعة -بنصب الراء- : هو أول ما تلده الناقة ، فكانوا يذبحون ذلك لآلهتهم ، فنهي المسلمون عن ذلك . وقد أفرع القوم إذا بلغت إبلهم ذلك . وقال شمر : قال أبو مالك : كان الرجل في الجاهلية إذا تَمَّت إبله مائة قدَّم ذبحًا ، فذبحه لصنمه ، فذلك الفَرَع . وقد ذكر أبو عبيد أيضًا : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُئل عن الفَرَع فقال : (( حق ، وأن تتركه حتى يكون ابن مخاض ، أو ابن لبون زُخْرُبًّا ، خيرٌ من أن تكفيء إناءك وتُوَلِّه ناقتك ، وتذبحه يلصقُ لحمه بوبره )).
قلت : وعلى هذا : فالفَرَع هنا : إنما هو الصغير . ألا ترى أنه فسّره بذلك ، ولا فرق بين أوَّل النتاج ، ولا بين ما بعده . والمعروف عند أهل اللغة : أنه أول النتاج ؛ لأنَّهم كانوا في الجاهلية يذبحونه لآلهتهم ، فلما جاءهم الإسلام ؛ ذبحوا لله تعالى ، استنانًا ، كما فعلوا بالعتيرة ، فنهى الشرع عن ذلك بقوله : (( لا فَرَع ، ولا عتيرة )). حكى معنى ما قلته الحربيُّ .
(17/82)
وقوله في حديث أبي عبيد : (( تُكفيءُ إناءك )) ؛ جاء رباعيًّا ، وقد قلنا : إن الأفصح الثلاثيُّ . ويعني بذلك : إنك إذا ذبحت ولد الناقة انقطع لبنها ، فانكفأ إناء اللَّبن ؛ أي : قلب على فمه لأنه فارغ من اللَّبن .
وقوله : (( وتُولِّه ناقتك )) ؛ أي : تفجعها بفقد ولدها حتى تُولَّه ؛ أي : يصيبها الوَلَه . وهو : خَبَلان العقل . ومنه الحديث : (( لا تُولِّهُ والدة على ولدها )).
و (( الزُخْرُبُّ )) : الغليظ ، وفيه : إرشاد إلى عدم ذبح الصغير من الأنعام لقلَّة طيبه ، وعدم فائدته ، ولما يترتب عليه من عدم اللبن ، ووَلَه الأم .
كتاب اللباس
باب تحريم لباس الحرير والتغليظ فيه على الرجال وإباحته للنساء
قوله : (( حُلَّة سِيَرَاء )) ؛ قد تقدَّم ذكر الحلَّة في الجنائز ، و(( السِّيراء )) : المخطط بالحرير ، شُبِّهت بالسِّيور خطوطها ؛ قاله الأصمعي ، والخليل ، وغيرهما . والرواية : حُلَّة سيراء - بتنوين حلة ، ونصب سيراء - على أن تكون صفة للحلَّة كأنه قال : مسيَّرة . كما قالوا : جبَّة طيالسية ؛ أى : غليظة . قال الخطابي : حلَّة سيراء ، كقولك : ناقة عشراء . وبعضهم لا ينون الحلَّة ، ويضيفها إلى سيراء . وكذلك رواه ابن سراج . وكذلك قيدته على من يوثق بعلمه ، وتقييده . فهو على هذا من باب إضافة الشيء إلى صفته . كقولهم : ثوبُ خزٍّ ، على أن سيبويه قال : لم يأت فعلاء صفة ، وإنَّما سيراء تنزل منزلة : مسيرة . والله أعلم .
وقوله : (( لو اشتريت هذه فلبستها للوفد )) ، واقراره له ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا القول ؛ يدلّ على مشروعية التجمل للوفود ، ومجامع المسلمين التي يقصد بها إظهار جمال الإسلام ، والإغلاظ على العدو .
وقوله : (( إنما يلبس هذه )) ، وفي رواية : (( الحرير ، من لا خلاق له في الآخرة )) ؛ الخلاق : قيل فيه : الحظ ، والنصيب ، والقدر . ويعني بذلك : أنه لباس الكفار ، والمشركين في الدنيا ، وهم الذين لا حظ لهم في الآخرة .
(17/83)
واختلف الناس في لباس الحرير . فمن مانع ، ومن مجوِّز على الإطلاق . وجمهور العلماء على منعه للرجال ، وإباحته للنساء . وهو الصحيح لهذا الحديث ، وما في بابه . وهي كثيرة . وأما إباحته للنساء فيدل عليها قوله في هذا الحديث : (( إنما بعثت بها إليك لتشققها خُمُرًا بين نسائك )) ، ولما خرَّجه النسائي من حديث علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ قال : إن نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ حريرًا في يمينه ، وذهبًا في شماله ، ثم قال : (( إن هذين حرامٌ على ذكور أمتي ، حل لإناثها )). قال علي بن المديني : حديث حسن ، ورجاله معروفون . وهذا كله في الحرير الخالص المصمت فأمَّا الذي سداه حرير ، ولحمته غيره : فكرهه مالك . وإليه ذهب ابن عمر ، وأجازه ابن عباس.
وأما الخز ، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال : الحظر ، والإباحة ، والكراهة . وجل المذهب على الكراهة . واختلف فيه ؛ ما هو ؟ فقيل : ما سداه حرير . قال ابن حبيب : ليس بين الخز وما سداه حرير ولحمته قطن ، أو غيره فرق إلا الاتباع ، فإنَّه حكي إباحة الخز عن خمسة وعشرين من الصحابة . منهم : عثمان بن عفان ، وسعيد بن زيد ، وعبد الله بن عباس ، وخمسة عشر تابعيًّا ، وكان عبدالله بن عمر يكسو بنيه الخز . وقيل في الخز : إنه يشبه الحرير ، وليس به . ويكره لشبهه بالحرير ، وللسَّرف .
وقوله : (( فكساها عمر أخًا له مشركًا بمكة )) ؛ قيل : إنه كان أخاه لأمه . ذكره النسائي . وفيه ما يدل على جواز صلة القريب المشرك ، وما يدل على أن عمر ـ رضى الله عنه ـ لم يكن من مذهبه : أن الكفار يخاطبون بالفروع ؛ إذ لو اعتقد ذلك لما كساه إياها ، وهي تحرم عليه .
واختلف في علة تحريم الحرير للرجال . فقال الأبهري : هي التشبه بالنساء . وقيل : ما يجرُّه من الخيلاء . وقيل : التشبه بالكفار الذين لا حظ لهم في الآخرة . وهو الذي دلَّ عليه الحديث .
(17/84)
وقوله : (( إنما بعثت بها إليك لتصيب بها )) ؛ أي : مالاً . وكذا جاء مفسَّرا في بعض طرقه . ولم يقل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمر مثل الذي قال لأسامة ، ولا لعلي : (( لتشققها خمرًا بين نسائك )). ولو سمع ذلك عمر لما سمع منه منع النساء من الحرير .
وقوله لعلي ـ رضى الله عنه ـ : (( اشققها خُمُرًا بين الفواطم )) ؛ قال ابن قتيبة : هنَّ : فاطمة بنت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وفاطمة بنت أسد بن هاشم - أم علي - ، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي ، قال : ولا أعرف الثالثة . قال الأزهري : هي : فاطمة بنت حمزة الشهيد . وقد روى أبو عمر بن عبدالبر ، وعبدالغني الحافظ هذا الحديث ، قالا فيه : قال علي : فشققت منها أربعة أخمر : خمارًا لفاطمة بنت أسد أم علي ، وخمارًا لفاطمة بنت محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وخمارًا لفاطمة بنت حمزة ـ رضى الله عنهم ـ . قال يزيد بن أبي زياد : ونسيت الرابعة . قال بعض المتأخرين : الرابعة : فاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب ؛ لاختصاصه بعلي ـ رضى الله عنه ـ بالصهر ، وقربها بالمناسبة . وقيل : فاطمة بنت الوليد بن عتبة . وقيل : فاطمة ابنة عتبة .
وقوله : (( أمر بعيادة المريض )) ؛ وهي زيارته ، وتفقده . يقال : عاد المريض ، يعوده ، عيادة . و(( تشميت العاطس )) : بالشين المعجمة هو : الدعاء له إذا عطس وحمد الله تعالى . فعلى السامع أن يقول له : يرحمك الله . وسُمي الدعاء تشميتًا ؛ لأنَّه إذا استجيب للمدعو له فقد زال عنه ، الذي يشمت به عدوه لأجله . وقد يقال بالسين المهملة . قال ابن الأنباري : يقال : شَمَّتُ فلانًا ، وسَمَّت عليه . فكل داع بالخير : مشمت ، ومسمت. قال ثعلب : الأصل الشين من السمت ، وهو القصد ، ومنه الحديث : فدعا لفاطمة وسمت عليها .
(17/85)
و (( إبرار المقسم )) هو : إجابته إلى ما حلف عليه ، ولا يحنث ، ولكن إذا كان على أمر جائز . و(( نصر المظلوم )) : إعانته على ظالمه ، وتخليصه منه . و(( إجابة الداعي )) تعم الوليمة وغيرها . لكن أوكد الدعوات : الوليمة . وقد تقدَّم الكلام فيها . و(( إفشاء السلام )) : إشاعته ، ولا يخصنَّ به من يعرف دون من لم يعرف . و(( إنشاد الضالَّة )) : هو التعريف بها . و(( نشدتها )) : طلبتها . يقال : نشدت الضالَّة : طلبتها ، وأنشدتها : عرَّفتها. و(( المياثر )) : جمع ميثرة . وهي مأخوذة من الوثارة ، وهي : اللين والنعمة . ومنه قولهم : فراش وثير ؛ أي : وطيء لين . وياء ميثرة ؛ واو ، لكنها انقلبت (( ياء )) لانكسار ما قبلها ، كميزان ، وميعاد .
واختلف فيها . فقال الطبري : هي : وطاء كان النساء يضعنه لأزواجهن من الأرجوان الأحمر ، ومن الديباج على سروجهم ، وكانت من مراكب العجم. والأرجوان : هو الصوف -بفتح الهمزة وضم الجيم- ، وقال الحربي عن ابن الأعرابي : هي كالمرفقة تتخذ كصفة السرج . وقال غيرهما : هي أغشية السرج والحرير. وقيل : هي جلود السِّباع .
قلت : فإنَّ كانت حريرًا فوجه النهي واضحٌ ، وهو تحريم الجلوس عليها ؛ فإنَّها حرير ، ولباس ما يفرش : الجلوس عليه . وعلى هذا جماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ، خلافًا لعبد الملك من أصحابنا ؛ فإنَّه أجازه. ولم ير الجلوس على الحرير لباسًا ، وهذا ليس بشيء ، فإنَّ لباس كل شيء بحسبه ، وقد قال أنس ـ رضى الله عنه ـ : فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس .
وأما من كانت عنده الميثرة من جلود السِّباع : فوجه النهي عنها أنها مكروهة ؛ لأنَّها لا تعمل فيها الذكاة فيها. وهو أحد القولين فيها عند أصحابنا ، أو لأنها لا تذكى غالبًا . وأما من كانت عنده من الأرجوان الأحمر : فوجه النهي عنها : أنها تشبه الحرير ، أو لأنها كانت من زي العجم ، فيكون من باب الذريعة . وهذا القول أبعدها ، والله أعلم .
(17/86)
و (( القسي )) بفتح القاف ، وقد أخطأ من كسرها. وهي منسوبة إلى القس : قرية من قرى مصر مما يلي الفَرَمَا . وهي مضلعة بالحرير . وقال البخاري : فيها حرير مثال الأترج . وقيل : إنه القزي ، أبدلت الزاي سينًا . والإستبرق : فارسي عرَّبته العرب . وهو : غليظ الديباج . و(( السندس )) : ما رق منه . و(( الديباج )) : جنس من الحرير الإستبرق ، والسندس من أنواعه . و(( الدهقان )) : فارسي معرَّب ، ويجمع دهاقين : وهم الرؤساء . وقيل : الكثير المال والتنعم ، من الدهقنة ، وهي : الامتلاء والكثرة . يقال : دهق لي دهقة من المال ؛ أي : أعطانيه . وأدهقت الإناء : ملأته .
ومن باب ما رخص فيه من الحرير
مَنْعُ عبدالله العلم الحرير في الثوب ؛ إنما كان لأنَّه تمسك بعموم النهي عن لبس الحرير ، وكأنَّه لم يبلغه حديث عمر ـ رضى الله عنه ـ ؛ الذي رواه عنه سويد بن غفلة الآتي في آخر الباب . والصواب : إعمال ذلك المخصص في النهي العام . ولأجل هذا المخصص قال ابن حبيب : إنه يرخص في لبس العلم ، والصلاة فيه وإن عظم .
قلت : ويعني بقوله : وإن عظم : إذا بلغ أربع أصابع ؛ الذي هو غاية الرخصة المذكورة في الحديث . وروي عن مالك اختلاف في قدر الإصبع من الحرير يكون في الثوب ، فنهى عنه مرة ، وأجازه أخرى .
وقول ابن عمر في الجواب عن رجب : (( فكيف بمن يصوم الأبد ؟!)) معناه : إذا كان صوم الأبد جائزًا ، فكيف لا يكون صوم رجب كلَّه جائزًا . وهذا تكذيب لمن نقل عنه ، وإبطال لقول من يقول بذلك . وقد تقدَّم في كتاب الصوم الاختلاف في صوم الأبد .
وقوله : ((وأما ميثرة الأرجوان فهي ميثرة عبدالله ، فإذا هي أرجوان )) ؛ يعني : إنه كان يستعمل ميثرة الأرجوان ، فكيف يحرمها ؟! وهذا يبطل قول من فسَّر الميثرة المنهي عنها : بأنها من أرجوان . والأرجوان - بفتح الهمزة - ذكرها الجوهري .
(17/87)
وقول أسماء : (( هذه جبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ تحتجُّ بذلك على جواز العلم في الحرير ، فإنَّ الجبَّة كان فيها لبنة من حرير ، وكانت مكفوفة بالحرير . ووجه الاحتجاج بذلك : أنه إذا كان القليل من الحرير المصت المخيط في الثوب جائزًا ، كان العلم بالجواز أولى ، ولا يلتفت إلى قول من قال : إن ذلك الحرير وضع في الجنة بعد موت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنَّه لو كان كذلك لما احتجت به أسماء ، ولكان الواضع معروفًا عندهم ، فإنَّ الإعتناء بتلك الجبَّة كان شديدًا ، وتحفظهم بها كان عظيمًا ؛ لأنَّها من آثار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتداولة عندهم للتذكر ، والتبرك ، والاستشفاء ، فيبعد ذلك الإحتمال ، بل يبطل بدليل قولها : (( هذه كانت عند عائشة رضي الله عنها )) ، إلى آخر الكلام . فتأمَّله ، فإنَّه يدلّ على ذلك دلالة واضحة .
وقولها : (( طيالسة )) ؛ أي : غليظة . كأنَّها من طيلسان ، وهو : الكساء الغليظ .
وقولها : (( خسروانية )) بالخاء المنقوطة من فوتها ، وهي رواية ابن ماهان . وبالكاف ، رواية غيره . وهي في الحالتين منسوبة إلى اسم أعجمي ، كما قالوا : كسروانية فنسبوها إلى كسرى . والله تعالى أعلم. ووقع في بعض الروايات : (( وفرجيها مكفوفين )) ؛ منصوبين على إضمار فعل ؛ أي : ورأيت فرجيها مكفوفين ، وعند الخشني ، وغيره : (( وفرجاها مكفوفان )) مرفوعًا على الإبتداء والخبر ، والواو حالية .
و (( أُكَيْدر دُومة )) هو ملك أيلة . أهدى للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حال شركه ، ثم أسلم بعد ذلك . وأُكيدر : تصغير أكدر ، وهو في الأصل : سواد يضرب إلى الغبرة . و(( دومة )) رواه المحدثون بفتح الدال وضمها . وحكاه ابن دريد بالفتح ، قال : والمحدثون يقولونه بالضم ، وهو خطأ . وفيه دليل على جواز قبول هدايا المشركين . وقد تقدَّم في الجهاد .
وقوله : (( إنَّه ليس من كدِّك ، ولا من كدِّ أبيك )) ؛ يعني به : مال المسلمين ، وهو ضمير يفسره الحال . والكدُّ : السعي والتعب .
(17/88)
وقوله : (( فأشبع المسلمين مما تشبع منه )) ؛ أي : لا تستأثر عليهم بشيء ، ولا تختص به دونهم ؛ أي : أمره أن يسوي بين نفسه وبين الناس فيما يأخذه من مال المسلمين ، ثمَّ نهاه وحذره عن التنعُّم ، وهو الترفه ، والتوسُّع ، وعن زي أهل الشرك ؛ يعني بهم : المجوس ؛ إذ لا يعني به : مشركي العرب ، فإنَّ زي العرب كلُّه واحد ؛ مشركهم ومسلمهم. والزي : ما يتزيا الإنسان به ؛ أي : يتزين . وذلك يرجع للهيئات ، وكيفية اللباس ، كما قال : (( خالفوا المشركين ، فإنَّهم لا يفرقون )) ، وفي آخر : (( فإنهم لا يصبغون )) ، وفي آخر : (( خالفوا المجوس : جزوا الشوارب ، وأوفوا اللحى )). ومن هنا كره مالك رحمه الله ما خالف زي العرب جملة واحدة .
و (( لبوس الحرير )) : لباسه . يقال : لبس الثوب لباسًا ، ولبوسًا .
وقد روى غير مسلمًا حديث أبي عثمان هذا ، وقال فيه : أتانا كتاب عمر ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد ، قال فيه : أما بعد : فاتزروا ، وارتدوا ، وانتعلوا ، واتقوا الخضاب ، والسراويلات ، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل ، وإياكم والتنعم ، وزي العجم ، وعليكم بالشمس فإنَّها حمام العرب ، وتمعددوا ، واخشوشنوا ، واخشوشبوا ، واخلولقوا ، وا قطعوا الرَّكب ، وانزوا ، وارموا على الأغراض .
وقوله : (( فإنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن الحرير إلا هكذا )) وضم أصبعيه : السبابة والوسطى ؛ يعني : الأعلام .
وقوله : (( فرُئِيتها أزرار الطيالسة )) ؛ الأزرار : جمع زر ، وهو : ما يزرر به الثوب بعضه على بعض . ومنه : ززرت عليَّ قميصي . ويعني به : أطراف الطيالسة . وهي : جمع طيلسان ، وهو الكساء ، أو الثوب الذى له علم ، وكأنَّها كانت لها أعلام من حرير .
(17/89)
وقوله : فما عتَّمنا : أنه يعني به : الأعلام ؛ كذا رواية الصدفي ، والأسدي . ومعنى ذلك : أنا لم نتردد ، ولم نبطئ . ورواه الطبري ، وغيره : فما علمنا إلا أنه يريد الأعلام . وهو واضح . وكذا رواه قاسم بن أصبغ . وأما حديث سويد بن غفلة الذي قال فيه : إلا موضع أصبعين ، أو ثلاث ، أو أربع . فذكر الدارقطني : أنَّه لم يرفعه عن الشعبي إلا قتادة . قال : وهو مدلس. وقد رواه جماعة من الأئمة الحفاظ موقوفًا على عمر قوله . وقد تقدَّم في أول الباب ذكر الخلاف في العلم ومقداره.
ومن باب من لبس ثوب حرير غلطًا أو سهوًا نزعه أوَّل أوقات إمكانه
قول جابر ـ رضى الله عنه ـ : (( لبس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قباء من ديباج )) ؛ كان هذا اللباس منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يُحرَّم الحرير ، ثم لما لبسه أُعلم بالتحريم ، فخلعه مسرعًا ، وقد دلَّ على هذا قوله : (( نهاني عنه جبريل )) ، و(( أوشك )) معناه : أسرع .
وقوله : (( أوشك ما نزعته )) ؛ كذا وقع في بعض روايات مسلم : أوشك . وعند بعضهم : قد أوشك . وهو كلام غير مستقيم . وصوابه - والله أعلم - : ما أوشك ما نزعته ! على جهة التعجب ، فسقطت ((ما )) عند بعضهم ، وتصحفت بـ (( قد )) عند آخرين . ودلالة هذا الحديث على مقتضى الترجمة واضحة .
و (( القباء )) و(( الفروج )) كلاهما ثوب ضيق الكمَّين ، ضيق الوسط ، مشقوق من خلفه ، يتشئر فيه للحرب ، والأسفار .
وقوله : (( لا ينبغي هذا للمتقين )) ؛ أي : للمؤمنين ، فإنَّهم هم الذين خافوا الله تعالى واتَّقوه بإيمانهم وطاعتهم له .
و (( الفروج )) : قيد بفتح الفاء وضمها ، والضم المعروف ، وأما الراء : فمضومة على كل حال مشدَّدة ، وقد تخفف ، والله تعالى أعلم .
و (( أوشك )) : أسرع . وقارب . وقد وقع هنا بلفظ الماضي ، وقد أنكر الأصمعي أن يقال من هذه اللفظة غير المستقبل خاصَّة ، كقولك : يوشك - بكسر الشين - وقد قال الخليل : إنها تقال . وهذا الحديث يصحح قول الخليل .
(17/90)
ومن باب الرُّخصة في لبس الحرير للعلة
ترخيص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبدالرحمن ، والزبير في لباس الحرير للحكة ، أو للقمل يدلُّ على جواز ذلك للضرورة . وبه قال جماعة من أهل العلم ، وبعض أصحاب مالك ، وأما مالك : فمنعه في الوجهين. والحديث واضح الحجَّة عليه ، إلا أن يدّعي الخصوصية بهما ، ولا يصح . أو لعل الحديث لم يبلغه .
ومن باب النهي عن لبس القسي والمعصفر
قوله : (( رأى عليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثوبنن معصفرين )) ؛ المعصفر : المصبوغ بالعصفر . وهو صبغ أحمر .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن هذين من ثياب الكفار ، فلا تلبسهما )) ؛ يدلّ : على أن علة النهي عن لباسهما التشبُّه بالكفار . وقوله في الرواية الأخرى : (( أمل أمرتك بهذا ؟ )) يشعر بأنَّه إنما كرهها نوبة ؛ لأنَّها من لباس النساء . وظاهرهما : أنهما علّتان في المنع . ويحتمل أن تكون العلّة مجموعهما .
وقد اختلف العلماء في جواز لبس المعصفر . فروي كراهته عن ابن عمر. وأجازه جماعة من الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء . وهو قول مالك ، والشافعي . وكره ما اشتدَّت حمرته : عطاء وطاووس ، وأباحا ما خف منها ، وفرَّق بعضهم بين أن يمتهن ، فيجوز ، أو يلبس ، فيكره. وهو قول ابن عباس ، والطبري . وكره بعض أهل العلم جميع ألوان الحمرة . وقد صحَّ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لبس حلَّة حمراء ، وقد لبس ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما صبغ بالصفرة على ما جاء عن ابن عمر ، فلا وجه لكراهة الحمرة مطلقًا ، إنَّما المكروه المعصفر للرجال ، والمزعفر ؛ لنهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك للرجال ، وكره المعصفر بعض أهل العلم مطلقًا ، وأجازه مالك تمسُّكًا بحديث ابن عمر المتقدِّم . وقد حمل بعضهم النهي على المحرم .
(17/91)
قلت : وهذا فيه بُعدٌ ؛ لأنَّ الرجال والنساء ممنوعون من التطيّب في الإحرام فلا معنى لتخصيصه بالرجال ، وإنما علَّة الكراهة في ذلك : أنه صبغ النساء ، وطيب النساء ، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( طيب الرجال : ما ظهر ريحه ، وخفي لونه . وطيب النساء : ما ظهر لونه ، وخفي ريحه )) ، والله تعالى أعلم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بل أحرقهما )) ؛ مبالغة في الرَّدع ، والزَّجر ، ومن باب جواز العقوبة في الأموال ، ولم يسمع بأحد قال بذلك . والله تعالى أعلم . وقد تقدم الكلام في باقي الحديث .
ومن باب لباس الحبرة
وهي ثياب مخططة ، يؤتى بها من اليمن . وسميت بالحبرة لأنها محبرة ؛ أي : مزينة . والتحبير : التزيين ، والتحسين .
و (( الملبَّد )) : الذي تراكب خمله حتى صار كاللبد .
و (( المرط )) : واحد المروط ، وهو كساء مربع من صوف ، أو خز ، أو كتان . قاله الخليل . قال ابن الأعرابي ، وأبو زيد : هو الإزار . وقال الخطابي : هو كساء يؤتزر به . و(( مرحل )) يروى بالحاء المهملة ، وبالجيم ، فبالحاء فيه صور الرحال ، وبالجيم فيه صور الرجال . وقيل : صور المراجل ، وهي القدور ، ومنه قالوا : مرط مراجل -على الإضافة-. و(( الوساد )) : ما يتوسد عليه . أي : يُتكأ عليه ، ويجعل تحت الرأس .
و (( الضجاع )) : ما يضجع عليه ، وهو الفراش . وقول ابن عباس المتقدِّم : فاضطجعت في عرض الوسادة ، واضطجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في طولها . معناه : أنهم وضعوا رؤوسهم على الوسادة على تلك الصفة ، وعتر عن ذلك بالاضطجاع .
و (( الأنماط )) جمع نمط . قال الخليل : هو ظهارة الفراش . وقال ابن دريد : هو ما يستر به الهودج . وهو في حديث عائشة : ثوب سترت به سهوتها ، وهو القرام أيضًا ، كما جاء في حديث عائشة ، وقد يكون من حرير ، وغيره . وقد يسمَّى نمرقة في بعض طرق حديث عائشة. وقد عبَّر عنه بالستر في حديثها . وهذا كلُّه يدلّ على أنها أسماء لمسمَّى واحد . وسيأتي حديث عائشة بعد هذا إن شاء الله تعالى .
(17/92)
وقول جابر : (( أنَّى لنا أنماط ؟ )) استبعاد لذلك . معناه : من أين تكون أنماط ؟!
وقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أما إنها ستكون )) ؛ دلالة من دلائل صدقه ، فإنها إخبار عن غيب ، وجدت كما أخبر عنه .
وقول جابر لامرأته : (( نحِّي نمطك عنِّي )) ؛ فإنما كان ذلك كراهة له ؛ مخافة الترفه في الدنيا والميل إليها ، لا لأنه سرير ؛ إذ ليس في الحديث ما يدلّ عليه . واستدلالها عليه بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أما إنها ستكون )). هو استدلالٌ بتقرير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على اتِّخاذ الأنماط ؛ لأنَّه لما أخبر : بأنها ستكرن ، ولم ينه عن اتخاذها ؛ دلَّ ذلك على جواز الاتخاذ .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فراشٌ للرجل ، وفراشٌ لامرأته ، والثالث للضيف ، والرابع للشيطان )) ؛ دليل : على جواز اتخاذ الإنسان من الفرش والآلة ما يحتاج إليه ، ويترفه به .
وهذا الحديث : إنما جاء مبينًا لعائشة ما يجوز للإنسان أن يتوسع فيه ، ويترفه من الفرش ؛ لأن الأفضل أن يكون له فراش يختص به ، ولامرأته فراش ، فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن له إلا فراش واحد وهو في بيت عائشة ، وكان فراشًا ينامان عليه في الليل ، ويجلسان عليه بالنهار. وأما فراش الضيف : فيتعين للمضيف إعداده له ؛ لأنَّه من باب إكرامه ، والقيام بحقه ، ولأنَّه لا يتأتى له شرعًا الاضطجاع ، ولا النوم مع المضيف وأهله على فراش واحد .
ومقصود هذا الحديث : أن الرجل إذا أراد أن يتوسع في الفرش ؛ فغايته ثلاث ، والرابع لا يحتاج إليه ، فهو من باب السَّرف .
وفقه هذا الحديث : ترك الإيثار من الآلات والأمور المباحة ، والترفه بها ، وأن يقتصر على حاجته . ونسبة الرَّابع للشيطان ذمٌّ له ، لكن لا يدلّ على تحريم اتخاذه ، وإنَّما هذا من باب قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الشيطان يستحل الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه ، والبيت الذي لا يذكر الله فيه )). ولا يدلّ ذلك على التحريم لذلك الطعام ، كما تقدَّم . والله تعالى أعلم .
ومن باب إثم من جرَّ ثوبه خيلاء
(17/93)
قوله : (( لا ينظر الله إلى من جرَّ ثوبه خيلاء )) ؛ يعني : لا ينظر إليه نظر رحمة ، وقد تقدَّم هذا في الإيمان . والخيلاء والمخيلة : التكبر. وقد تقدم أيضًا . والمشهور في (( الخيلاء )) ضم الخاء ، وقد قيلت بكسرها .
و (( الثوب )) يعم الإزار ، والرداء والقميص ، فلا يجوز جرّ شيء منها . و(( البطر )) الأشر . وينجر معه الكبر ، و(( خيلاء )) و(( بطرًا )) منصوب نصب المصدر الذي هو مفعول من أجله . وإعجاب الرجل بنفسه : هو ملاحظته لها بعين الكمال ، والاستحسان مع نسيان منة الله تعالى ، فإنَّ رفعها على الغير واحتقره ، فهو الكبر المذموم .
و (( البُرْدان )) : الرداء ، والإزار ، وهذا على طريقة تثنية العمرين ، والقمرين . و(( يتجلجل )) : يخسف به مع تحرك واضطراب ، قاله الخليل وغيره .
ويفيد هذا الحديث : ترك الأمن من تعجيل المؤاخذة على الذنوب . وأن عجب المرء بنفسه ، وثوبه ، وهيئته حرام ، وكبيرة .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ارفع إزارك )) ؛ يدل : على أن هذا لا يُقَرّ بل يُنْكَر وإن أمكن أن يكون من فاعله غلطًا وسهوًا .
وقوله له : (( زد )) حمل له على الأحسن ، والأولى . وهذا كما بينه في الحديث الآخر ؛ إذ قال : (( إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعب ، وما أسفل من ذلك ففي النار )).
وقوله : (( فما زلت أتحراها )) ؛ أي : أقصد الهيئة التي أمر بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأحافظ عليها . ويعني بها : إزرته إلى نصف ساقيه ، كما قال في بقية الحديث . وفي لباسه ـ صلى الله عليه وسلم ـ العمامة السوداء في حال الخطبة دليل للمسوِّدة ، غير أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن ذلك منه دائمًا ، ولا في كل لباسه ، بل في العمامة خاصة ، لكن إذا أمر الإمام بلباس ذلك وجب امتثاله . وإرخاؤه طرفي العمامة بين كتفيه دليل على استحسان ذلك ، مع أنها عادة العرب ، ويعني بالطرفين : الأعلى والأسفل . وفيه دليل على تحسين الهيئة في حال الخطب ، ومجتمعات الناس .
ومن باب النهي عن تختم الرجال بالذهب
(17/94)
اصطناع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم الذهب ولبسه إياه كان ذلك قبل التحريم ، فهو من باب النسخ ، كما يدل عليه مساق الحديث . وهو مجمع على تحريمه للرجال ، إلا ما روي عن أبي بكر بن عبدالرحمن ، وخبَّاب ، وهو خلاف شاذٌّ مردودٌ بالنصوص ، وكل منهما لم يبلغهما التحريم ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( وأجعل فضه من داخل )) ؛ إنما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك تنبيهًا على جعل ، الفصّ من داخل ، لأنه أبعد عن الزهو ، وأصون للفص ، ولنقشه من التغيّر ، ويجوز أن يجعل فصَّه من ظاهر الكفِّ ، وقد روي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعله .
وجعله للخاتم في اليد اليمنى يدلّ : على جوازه . وقد ووي من حديث أنس أنَّه تختم في الخنصر من اليد اليسرى . وكلٌّ جائز ، إلأ أن مالكًا رأى : أن التختم في الأيسر أولى ؛ لأنَّ لباس الخاتم أمن الأفعال التي تتناول باليمين ، فيجعله في الشمال باليمين ؛ إذ ليس من الأفعال الخسيسة ، بل يتناوله قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا لبستم ، وتوضأتم فابدؤوا بأيامنكم )).
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل الذي طرح الخاتم من يده : (( يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده )) ؛ يدلُّ على تغليظ التحريم ، وأن لباس خاتم الذهب من المنكر الذي يجب تغييره .
وقول الرجل لصاحبه : (( خذ خاتمك انتفع به )) ؛ يدل : على أنهم علموا أن المحرَّم إنما هو لباسه ، لا اتخاذه ، ولا الانتفاع به . وهذا لا يختلف فيه في الخاتم ، فإنَّ لباسه للنساء جائز . وهذا بخلاف أواني الذهب والفضة ، فإنَّ اتخاذه غير جائز ؛ لأنَّه لا يجوز استعمالها لأحد . وقد تقدم الخلاف في ذلك .
وقول الرجل : (( لا والله ! لا آخذه أبدًا )) ؛ مبالغة في طاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فيكون الرجل قد نوى أن يدفع لمن يستحقه من المساكين ؛ لا أنه أضاعه ، فإنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهى عن إضاعة المال .
(17/95)
وقوله : (( اتخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتَمًا من ذهب ، ثم ألقاه ، ثم اتخذ خاتَمًا من ورق )) ؛ الحامل له في على اتِّخاذ الخاتم السبب الذي ذكره أنس : من أنه لما أراد أن يكتب إلى كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، وقيل له : إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا ؛ اتَّخذ الخاتم ليختم به . هذا هو المقصود الأوَّل فيه ، ثمَّ إنه جعله في يده مستصحبًا له حفظًا وصيانة من أن يتوصل إليه غيره . ولذلك منع من أن ينقش أحد على نقشه ، فإنَّه إذا نقش غيره مثله اختلطت الخواتم ، وارتفعت الخصوصية ، وحصلت المفسدة العامَّة . وقد بالغ أهل الشام ، فمنعوا الخواتم لغير ذي سلطان.
وقد أجمع العلماء على جواز التختم بالورق على الجملة للرجال . قال الخطابي : وكره للنساء التختم بالفضة ؛ لأنَّه من زي الرجال ، فإن لم يجدن ذهبًا فليصفرنه بالزعفران ، أو شبهه .
وقوله : (( ونقش فيه : محمد رسول الله )) ؛ دليل : على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه ، إلا أن يكون اسمه محمدًا ؛ ولا يجوز النقش عليه للنهي عن ذلك ، وعلى جواز نقش اسم الله تعالى عليه ، أو كلمة حكمة ، أو كلمات من القرآن ، ثم إذا نقش عليه اسم الله تعالى ، وجعله في شماله ؛ فهل يدخل به الخلاء ، ويستنجي بشماله ؟ خففه سعيد بن المسيب ، ومالك ، وبعض أصحابه ، وروي عنه الكراهة ، وهي الأولى .
وكون الخلفاء تداولوا خاتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنما كان ذلك تبركًا بآثار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واقتداء به ، واستصحابًا لحاله ؛ حتى كأنَّه حيٌّ معهم ، ولم يزل أمرهم مستقيمًا متفقًا عليه في المدَّة التي كان ذلك الخاتم فيهم ، فلما فقد اختلف الناس على عثمان ـ رضى الله عنه ـ وطرأ من الفتن ما هو معروف ، ولا يزال الْهَرْج إلى يوم القيامة. و(( بئر أريس )) : بئر معروفة . وأريس ...
(17/96)
وقوله : (( فيه فصُّ حبشي )) ؛ يعني حجرًا حبشيًّا . وقد روي : أنَّه كان فصُّه منه . وخرَّجه البخاري. قال أبوعمر : وهو أصح . قال غيره : ليس بخلاف كان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خواتم ، فصُّ أحدها حبشي ، والآخر فصَّه منه . وقد روي : أنه تختم بفصِّ عقيق. وكل ذلك صحيح .
وقول أنس : (( أنه رأى في يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتَمًا من ورق يومًا واحدًا ، ثم إن الناس اضطربوا الخواتم من ورق فلبسوها ، فطرح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتمه ، فطرح الناس خواتمهم )) ؛ هذا الحديث من رواية ابن شهاب عن أنس ، وهو وَهْمٌ من ابن شهاب عند جميع أهل الحديث ، وإنما اتفق ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خاتم الذهب ، كما تقدَّم من حديث ابن عمر ، قاله القاضي عياض .
وقوله : (( كان خاتم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه )) ، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى ؛ لا خلاف بين العلماء ، ولا في الآثار : أن اتخاذ خاتم الرجال في ا الخنصر أولى ؛ لأنَّه أحفظ له من المهنة ، ولأنه لا يشغل اليد عما يتناوله من أشغالها ، بخلاف غيره من الأصابع .
و (( البنصر )) : هي الإصبع التي بين الوسطى والخنصر ، ويقال : خنصر -بفتح الصاد وكسرها - ، وكذلك البنصر : وهي أصغر الأصابع.
قلت : ولو تختم في البنصر لم يكن ممنوعًا ، وإنما الذي نهي عنه في حديث علي ـ رضى الله عنه ـ الوسطى والتي تليها من جهة الإبهام ، وهي التي تُسمَّى : المسبِّحة ، والسَّبابة .
ومن باب الانتعال
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( استكثروا من النعال ، فإنَّ الرجل لا يزال راكبًا ما انتعل )) ؛ هذا كلام بليغ ، ولفظ فصيح ، بحيث لا ينسج على منواله ، ولا يؤتى بمثاله . وهو إرشاد إلى المصلحة ، وتنبية على ما يخفف المشقة ، فإنَّ الحافي المديم للمشي يلقى من الآلام ، والمشقات ، بالعثار ، والوجي ، ما يقطعه عن المشي ، ويمنعه من الوصول إلى مقصوده بخلاف المنتعل ؛ فإنَّه لا يحصل له ذلك فيدوم مشيه ، فيصل إلى مقصوده كالرَّاكب ، فلذلك شبهه بالرَّاكب حيث قال : (( لا يزال راكبًا ما انتعل )).
(17/97)
وقوله : (( إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى ، وإذا خلع فليبد بالشمال )) ؛ هذا على ما تقدَّم من احترام اليمنى ، فإنَّه إذا انتعل فيها أولاً فقد قدمها في الصيانة على اليسرى ، وكذلك إذا خلعها أخيرا فقد بقي عليها كرامتها ، وصيانتها . وقد تقدَّم هذا مستوفًا .
وقوله : (( لينعلهما جميعًا ، أو ليخلعهما جميعًا )) ؛ هذا خطاب لمن انقطع شسع أحد نعليه ، فنهاه عن أن يمشي في نعل واحدة ؛ لأنَّ ذلك من باب التشويه ، والمثلة ، ولأنه مخالف لزي أهل الوقار ، وقد يخل بالمشي . وهذا كما قد جاء في الحديث المفسر بعد هذا . ويجيء حديث أبي هريرة الذي قال فيه : (( إذا انقطع شسع أحدكم ، فلا يمشي في الأخرى حتى يصلحها )) ، وقد اختلف علماؤنا في ذلك . فقال مالك بظاهر هذا الحديث : إن من انقطع نعله لم يمش في الأخرى ، ولا يقف فيها ، وإن كان في أرضٍ حارَّة ليُحفها ، ولا بدَّ حتى يصلح الأخرى إلا في الوقوف الخفيف والمشي اليسير . وقد رخص بعض السلف في المشي في نعل واحدة . وهو قولٌ مردودٌ بالنُّصوص المذكورة ، ولا خلاف : في أن أوامر هذا الباب ونواهيه : إنما هي من الآداب المكملة ، وليس منها شيء على الوجوب ولا الحظر عند معتبر بقوله من العلماء ، والله تعالى أعلم .
ومن باب النَّهي عن اشتمال الصَّماء
قول جابر : (( نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اشتمال الصَّمَّاء )) ؛ الاشتمال : الالتفاف . وقد يُسمى التحافًا ، كما قد جاء في الرواية الأخرى : (( لا يلتحف )). واختلف اللغويون ، والفقهاء في تفسير اشتمال الصَّمَّاء . فقال الأصمعي : هو أن يشتمل بالثوب ؛ حتى يُجلِّل جميع جسده ، ولا يرفع منه جانبًا .
(17/98)
قال القتبي : إنما قيل لها : الصماء ؛ لأنَّه إذا اشتمل بها انسدَّت على يديه ورجليه المنافذ كلها كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق ، ولا صدع . وقاله أبو عبيد. وأما تفسير الفقهاء : فهو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ، ثم يرفعه من أحد جانبيه ، فيضمه على أحد منكبيه ، وعلى هذا : فيكون إنما نهى عنه ؛ لأنَّه يؤذي إلى كشف العورة . وعلى تفسير أهل اللغة : إنما هي مخافة أن يعرض له شيء يحتاج إلى رده بيديه ، فلا يجد إلى ذلك سبيلاً .
وقوله : (( وأن يحتبي في ثوب واحد كاشفًا عن فرجه )) ؛ كانت عادة العرب أن يحتبي الرجل بردائه فيشدَّه على ظهره ، وعلى ركبتيه ، كان عليه إزاز ، أو لم يكن ، فإنَّ لم يكن انكشف فرجه مما يلي السماء لمن كان متطلعًا عليه ؛ متتبعًا ، وقد تقدَّم في كتاب الصلاة .
وقوله : (( ونهى أن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى مستلقيًا )) ؛ قد قال بكراهة هذه الحالة مطلقًا فقهاء أهل الشام ، وكأنَّهم لم يبلغهم فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذه الحالة ، أو تأولوها . والأولى : الجمع بين الحديثين ؛ فيحمل النهي على ما إذا لم يكن على عورته شيء يسترها . ويحمل فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها : على أنه كان مستور العورة ، ولا شك : أنها استلقاء استراحة إذا كان مستور العورة ، وقد أجازها مالك وغيره لذلك .
ومن باب صبغ الشعر والنهي عن تسويده
قوله : (( أتي بابي قحافة يوم فتح مكة )) ؛ أبو قحافة : هو والد أبي بكر الصديق ، واسمه : عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ، أسلم يوم فتح مكة ، وله صحبة ، ومات في المحرَّم سنة أربع عشرة من الهجرة ، وهو ابن سبع وتسعين سنة بعد وفاة ابنه أبي بكر بأشهر .
(17/99)
و (( الثغامة )) : نبت أبيض الزهر ، والثمر ، شبَّه بياض الشيب به . قاله أبو عبيد . وقال ابن الأعرابي : هو شجرة تبيض كأنَّها الثلجة . وقوله في : (( غيِّروا هذا الشيب )) ؛ أمر بتغيير الشيب . قال به جماعه من الخلفاء ، والصحابة ، لكن لم يصر أحدٌ إلى أنه على الوجوب ، وإنما هو مستحب . وقد رأى بعضهم : أن ترك الخضاب أفضل ، وبقاء الشيب أولى من تغييره ؛ متمسكين في ذلك بنهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تغيير الشيب على ماذكروه ، وبأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يغير شيبه ، ولا اختضب .
قلت : وهذا القول ليس بشيء . أما الحديث الذي ذكروه : فليس بمعروف ، ولو كان معروفًا فلا يبلغ في الصحَّة إلى هذا الحديث . وأما قولهم : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يخضب فليس بصحيح ، بل قد صحَّ عنه أنه خضب بالحناء وبالصفرة على ما مضى . ويأتي إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( واجتنبوا السواد )) ؛ أمر باجتناب السواد ، وكرهه جماعه منهم علي بن أبي طالب ، ومالك .
قلت : وهو الظاهر من هذا الحديث . وقد عُلِّل ذلك : بأنه من باب التدليس على النساء ، وبأنه سوادٌ في الوجه فيكره ؛ لأنه تشبه بسيما أهل النار .
وقد روى أبو داود : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد ، لا يدخلون الجنة ، ولا يجدون ريحها )) ، غير أنه لم نسمع أن أحدًا من العلماء قال بتحريم ذلك ، بل قد روي عن جماعة كثيرة من السلف : أنهم كانوا يصبغون بالسواد ، منهم : عمر ، وعثمان ، والحسن ، والحسين ، وعقبة بن عامر ، ومحمد بن علي ، وعلي بن عبدالله بن عباس ، وعروة بن الزبير ، وابن سيرين ، وأبو بُردة في آخرين. وروي عن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : هو أشكر للزوجة ، وأرهب للعدو .
قلت : ولا أدري عذر هؤلاء عن حديث أبي قحافة ما هو ؟ فأقل درجاته : الكراهة . كما ذهب إليه مالك .
قلت : وأما الصباغ بالحنَّاء بحتًا ، وبالحناء والكتم : فلا ينبغي أن يختلف فيه لصحة الأحاديث بذلك ، غير أنه قد قال بعض العلماء : إن الأمر في ذلك محمول على حالين :
(17/100)
أحدهما : عادة البلد ؛ فمن كانت عادة موضعه ترك الصبغ فخروجه عن المعتاد شهرة تقبَّحُ ، وتُكره .
وثانيهما : اختلاف حال الناس في شيبهم ، فَرُبَّ شيبة نقية هي أجمل بيضاء منها مصبوغة ، وبالعكس ، فمن قبحه الخضاب اجتنبه . ومن حسَّنه استعمله . وللخضاب فائدتان :
إحداهما : تنظيف الشعر مما يتعلق به من الغبار ، والدخان . والأخرى : مخالفة أهل الكتاب ، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خالفوا اليهود والنصارى ، فأنهم لا يصبغون )).
قلت : ولكن هذا الصباغ بغير السواد ، تمسُّكًا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اجتنبوا السواد )) ، والله تعالى أعلم .
وقد تقدَّم الكلام على النهي عن التزعفر ، وسيأتي القول في مخالفة أهل ا لكتاب إن شاء الله تعالى .
ومن باب قوله : (( لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة )).
الملائكة هنا- وإن كان عمومًا - فالمراد به الخصوص ، فإنَّ الحفظة ملازمة للانسان . هكذا قاله بعض علمائنا. والظاهر العموم ، والمخصص ليس نصًّا . وكذلك قوله : كلب ، وصورة ؛ كلاهما للعموم ؛ لأنَّهما نكرتان في سياق النفي . وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به : الكلاب التي لم يؤذن في اتخاذها ، فيستثنى من ذلك : كلب الصيد ، والماشية والزرع . وأما الصورة : فيراد بها التماثيل من ذوات الأرواح . ويستثنى من ذلك الصورة المرقومة ، كما نصَّ عليه في الحديث ، على ما يأتي .
وإنما لم تدخل الملائكة البيت الذي فيه التمثال ؛ لأن متخذها في بيته قد تشبَّه بالكفار الذين يتخذون الصور في بيوتهم ، ويُعلّقونها ، فكرهت الملائكة ذلك منه ، فلم تدخل بيته هجرانًا له ، وغضبًا عليه . واختلف في المعنى الذي في الكلب المانع للملائكة من الدخول . فذهبت طائفة : إلى أنَّه النجاسة . وهو من حجج من قال بنجاسة الكلب . وتأيد في ذلك بنضحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ موضع الكلب .
قلت : وهذا ليس بواضح ، وإنما هو تقدير احتمال يعارضه احتمالات أخر :
أحدها : أنها من الشياطين ، كما قد جاء في بعض الحديث.
(17/101)
وثانيها : استخباث روائحها ، واستقذارها .
وثالثها : النجاسة التي تتعلق بها ؛ فإنَّها تأكلها وتتلطخ بها ، فتكون نجسة بما يتعلق بها ، لا لأعيانها . والمخالف يقول : هي نجسة الأعيان . وعلى ما قلناه : يصح أن يقال : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شك في طهارة موضعه ؛ لإمكان أن يكون أصابه من النجاسة اللازمة لها غالبًا شيء ، فنضحه ؛ لأنَّ النضح طهارة للمشكوك فيه ، فلو تحقق إصابة النجاسة الموضع لغسله ؛ كما فعل ببول الأعرابي ، ولو كان الكلب نجسًا لعينه ، لا لما يتعلق به : لما احتاج إلى غسله ، كما لا يحتاج إلى غسل الموضع أو الثوب الذي يكون عليه عظم ميتة ، أو نجاسة لا رطوبة فيها . وعلى هذا : فهذا الاحتمال أولى أن يعتبر ، فإنَّ لم يكن أولى فالاحتمالات متعارضة ، والدَّسْت قائم ، ولا نصّ حاكم .
وقوله : (( فأصبح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومئذ فأمر بقتل الكلاب )) ؛ كذا رواه جميع الرواة : فأصبح ، فأمر مرتبًا بفاء التَّسبُّب ، فيدل ذلك : على أن أمره بقتل الكلاب في ذلك اليوم كان لأجل امتناع جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ من دخول بيته . ويحتمل أن يكون ذلك لمعنى آخر غير ما ذكرنا ؛ وهو : أن ذلك إنما كان لينقطعوا عما كانوا ألفوه من الأنس بالكلاب ، والاعتناء بها ، واتخاذها في البيوت ، والمبالغة في إكرامها . وإذا كان كذلك كثرت ، وكثر ضررها بالناس من الترويع ، والجرح ، وكثر تنجيسها للديار ، والأزفة ، فامتنع جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الدخول لأجل ذلك ، ثم أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأمر بقتل الكلاب ، فانزجر الناس عن اتخاذها ، وعما كانوا اعتادوه منها. والله تعالى أعلم .
وفيه من الفقه : أن الكلاب يجوز قتلها لأنها من السِّباع ، لكن لما كان في بعضها منفعة ، وكانت من النوع المستأنس سومح فيما لا يضر منها .
(17/102)
وقوله : (( حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير ، ويترك كلب الحائط الكبير )) ؛ هذا يدلّ على جواز اتخاذ ما ينتفع به من الكلاب في حفظ الحوائط ، وغيرها . ألا ترى : أن الحائط الكبير لما كان يحتاج إلى حفظ جوانبه ترك له كلبه ، ولم يقتله ، بخلاف الحائط الصغير منها ، فإنَّه أمر بقتل كلبه ؛ لأنَّه لا يحتاج الحائط الصغير إلى كلب ، فإنَّه ينحفظ بغير كلب لقرب جوانبه .
(17/103)
وقول بسر لعبيد الله الخولاني : (( ألم يحدثنا في التصاوير ؟ )) يعني : زيد بن خالد ، وذلك : أنَّه لما دخل منزل زيد فرأى الستر فيه صور ذكر بسر عبيد الله الخولاني بالحديث الذي حدثهم به زيد عن أبي طلحة صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي سمع من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله : (( لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة )) ، وكان أبو طلحة ـ رضى الله عنه ـ قد ذكر مع ذلك -متصلاً به - قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إلا ما كان رقمًا في ثوب )) ، فاستثنى المرقوم من الصور. فحصل منه : أن الملائكة لا تمتنع من دخول بيت فيه صورة مرقومة . ومن هنا : فهم القاسم بن محمد جواز اتخاذها في البيوت مطلقًا ، كما حكيناه عنه ترجيحًا لهذا الحديث على حديث عائشة ، أو نسخًا له ، وفيه بُعْدٌ . والجمهور على المنع . فمنهم من منعه تحريمًا ، وهو مذهب ابن شهاب ترجيحًا لحديث عائشة على حديث زيد ، والجمهور حملوه على الكراهة ، وهو الأولى إن شاء الله ؛ إذ ليس نصًّا في التحريم ، فأقل ما يحمل ما ظهر منه على الكراهة . وحديث زيد لا يقتضي الجواز ، إنَّما مقتضاه : أن الملائكة تدخل البيت الذي فيه الصور المرقومة بخلاف الصور ذوات الظل ؛ فإنَّها لا تدخل بيتا هي فيه . وهذا وجه حسن ؛ غير أنَّه تكدَّر بما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أتاني جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لي : أتيتك البارحة ، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل ، وكان في البيت قرام فيه صور ، وكان في البيت كلب )) ، وذكر الحديث . وهذا يدلّ دلالة واضحة أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة مرقومة ، وعند هذا يتحقق التعارض . والمخلِّص منه الترجيح ، ولا شك في ترجيح حديث مسلم ، فالتمسك به على ما قررناه أولى ، والله تعالى أعلم .
ومن باب كراهة الستر الذي فيه التماثيل وهتكه
(17/104)
حديث عائشة كثرت رواياته ، واختلفت ألفاظه حتى يتوهم : أنه مضطرب ، وليس كذلك ؛ لأنَّه ليس فيه تناقض ، وإنَّما كانت القضية مشتملة على كل ما نقل من الكلمات ، والأحوال المختلفة ، لكن نقل بعض الرواة ما سكت عنه غيرهم ، وعبَّر كل منهم بما تيسَّر له من العبارة عن تلك القضية . ويجوز أن يصدر مثل ذلك الاختلاف من راوٍ واحد في أوقات مختلفة ، ولا يُعد تناقضًا ، فإنَّه إذا جمعت تلك الروايات كلها ؛ انتظمت وكملت الحكاية عن تلك القضية. وعلى هذا النحو وقع ذكر اختلاف كلمات القصص المتحدة في القرآن ، فإنَّه تعالى يذكرها في موضع وجيزة ، وفي آخر مطوَّلة ، ويأتي بالكلمات المختلفة الألفاظ مع اتفاقها على المعنى ، فلا ينكر مثل هذا في الأحاديث .
وقولها : (( فأخذت نمطًا فسترته على الباب )) ؛ هذا النمط هو : الذي عبَّر عنه في الرواية الأخرى بـ (( الدَّرنوك )) ، ويقال بضم الدَّال ، وفتحها ، وهو : الستر الذي كان فيه تماثيل الخيل ذوات الأجنحة . و((الباب )) يراد به هنا : باب السهوة المذكورة في الرِّواية الأخرى ، وهي : بيعت صغير يشبه المخدع . وقال الأصمعي : هي شبه الطاق ، يجعل فيه الشيء . وقيل : شبه الخزانة الصغيرة . وهذه الأقوال متقاربة .
وقولها : (( سترته على الباب )) ؛ أي : سترت به الباب . أو جعلته سترا على الباب .
(17/105)
وقولها : (( فلما رأى النمط عرفت الكراهية في وجهه )) ؛ إنما عرفت الكراهية في وجهه ؛ لأنَّه تلوَّن وجهه ، ووقف ولم يدخل ، كما جاء في الطريق الآخر . ولما رأت تلك الحال خافت ، فقدَّمت في اعتذارها التوبة ، ثمَّ سألت عن الذنب ، فإنَّها لم تعرفه ، فعند ذلك جبذ النمط ، فهتكه ، فحصل من مجموع هذه القرائن : أن اتخاذ الثياب التي فيها التماثيل محرَّم ، رقمًا كان فيها ، أو صنعًا . وهو مذهب ابن شهاب ، فإنَّه منع الصور على العموم واستعمال ما هي فيه ، ودخول البيت الذي هي فيه رقمًا كانت أو غيره ، في ثوب ، أو حائط ، يمتهن ، أو لا يمتهن ؛ تمسُّكًا بعمومات هذا الباب ، وبما ظهر من هذا الحديث . وذهب آخرون : إلى جواز كل ما كان رقمًا في ثوب ، يمتهن أو لا. معلقًا كان أو لا . وهو مذهب القاسم بن محمد تمسُّكًا بحديث زيد بن خالد حين قال : (( إلا ما كان رقما في ثوب )). وذهب آخرون : إلى كراهة ما كان منها معلَّقًا ، وغير ممتهن ؛ لأنَّ ذلك مضاهاة لمن يعظم الصور ، ويعبدها كالنصارى ، وكما كانت الجاهلية تفعل .
والحاصل من مذاهب العلماء في الصور : أن كل ما كان منها ذا ظل فصنعته ، واتخاذه حرام ، ومنكر يجب تغييره . ولا يختلف في ذلك إلا ما ورد في لعب البنات لصغار البنات ، وفيما لا يبقى من الصور ، كصور الفخار ، ففي كل ذلك منهما قولان ، غير أن المشهور في لعب البنات ، جواز اتخاذها للرخصة في ذلك ، لكن كره مالك شراء الرجل لها لأولاده ؛ لأنَّه ليس من أخلاق أهل المروءات والفضل ، غير أن المشهور فيما لا يبقى : المنع . وأما ما كان رقمًا ، أو صبغًا مما ليس له ظل : فالمشهور فيه الكراهة .
وقولها : (( فجذبه حتى هتكه )) ؛ يدل على أن ما صنع على غير الوجه المشروع لا مالية له ، ولا حرمة ، وأن من كسر شيئًا منها ، وأتلف تلك الصورة لم يلزمه ضمان .
(17/106)
وقوله : (( إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين )) ؛ يفهم منه : كراهة ستر الحيطان بالستر ؛ لأنَّ ذلك من السَّرف ، وفضول زهرة الدنيا ؛ التي نهى الله تعالى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يمد عينه إليها بقوله تعالى : { ولاتمدَّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا} ، ولذلك قال في الرواية الأخرى : (( فإني كلما دخلت ذكرت الدنيا )). وهذا الستر هو الذي كان يصلِّي إليه ، وكانت صوره تعرض في صلاته ، كما قال البخاري : (( فإنَّه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي )).
ويفيد مجموع هذه الروايات : أن هتك هذا السِّتر إنما كان بعد تكرار دخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورؤيته له ، وصلاته إليه ، فلما بين له حكمه امتنع مرَّة من دخول البيت حتى هتكه . وقد فعل سلمان الفارسي ـ رضى الله عنه ـ نحو هذا لما تزوَّج الكندية ، جاء ليدخل بها ، فوجد حيطان البيت قد سترت ، فلم يدخل ، وقال منكرًا لذلك : (( أمحموم بيتكم ! أم تحوَّلت الكعبة في كندة )) ، فأزيل كل ذلك . ودعا ابن عمر أبا أيوب ، فرأى سترًا على الجدار . فقال : ما هذا ؟ فقال : غلبنا عليه النساء ، فقال : من كنت أخشى عليه ، فلم أكن أخشى عليك ، والله لا أطعم لك طعامًا ! فرجع. ذكره البخاري.
وقد أفاد حديث عائشة رضي الله عنها المنع من ستر حيطان البيوت ، ومما يجز إلى الميل إلى زينة الدنيا ، ومن اتخاذ الصور المرقومة ، ومن الصلاة إلى ما يشغل عنها .
وقول عائشة : (( فقطعنا منه وسادتين حشوتهما ليفًا )) ؛ يحتمل أن يكون هذا التقطيع أزال شكل تلك الصور ، وأبطلها ، فيزول الموجب للمنع ، ويحتمل أن تكون تلك الصور ، أو بعضها باقيًا ، لكنها لما امتهنت بالقعود عليها سامح فيها . وقد ذهب إلى كل احتمال منهما طائفة من العلماء . وألحق : أن كل ذلك محتمل ، وليس أحد الاحتمالين بأولى من الآخر ، ولا معيِّن لأحدهما ، فلا حجَّة في الحديث على واحد منهما ، وإنما الذي يفيده هذا الحديث : جواز اتخاذ النَّمارق ، والوسائد في البيوت .
(17/107)
وقول عائشة : (( اشترت نمرقة فيها تصاوير )) ؛ يجوز أن تكون أرادت بالنمرقة هنا : الستر الذي تقدَّم ذكره ، وسمته : نمرقة ؛ لأنَّه آل أمره إلى النمرقة ، كما يُسمى العنب خمرًا بمآله . والنَّمارق في أصل الوضع : الوسائد ، والمرافق ، ومنه قوله تعالى : { ونمارق مصفوفة }. وقال الشاعر :
كهول وشبان حسان وجوههم على سرر مصفوفة ونمارق
غير أن هذا التأويل يبعده قولها في بقية الخبر ، لما قال لها النبي في : (( ما بال هذه النَّمرقة ؟ )) فقالت مجيبة : اشريتها لك ، تقعد عليها ، وتوسدها . فهذا يصرح بأن هذه النَّمرقة غير الستر ، وأن هذا حديث آخر غير ذلك ، وحينئذ يستفاد منه : أن الصور لا يجوز اتخاذها في الثياب ، وإن كانت ممتهنة . وهو أحد القولين كما قدمناه .
وقوله : (( وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير ، فكنا نلبسها )) ؛ القطيفة : كساء له زئبر . وفيه دليل على جواز لباس الثوب فيه العلم من الحرير ، وقد تقدم القول فيه . ولم يرد في شيء من الأحادث أن هذا الثوب الذى كنَّي عنه بالدرنوك ، والقرام ، والنمط : أنه كان حريرًا ، وكذلك النمرقة ، فلا حجَّة في شيء من ذلك لعبدالملك على قوله : أنَّه يجوز افتراش ثياب الحرير ، ورأى ذلك ليس لباسًا لها ، وهذا قولٌ شذَّ به عن جميع العلماء ، فإنَّهم رأوا ذلك لباسًا منهيًّا عنه ، ولباس كل شيء بحسب ما جرت العادة باستعماله . والله تعالى أعلم .
ومن باب أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة المصورون
(17/108)
قوله : (( أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون )) ؛ مقتضى هذا : ألا يكون في النار أحدٌ يزيد عذابه على المصوِّرين . وهذا يعارضه مواضع أخر . منها : قوله تعالى : { أخلوا آل فرعون أشد العذاب } ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه )) ، وقوله : (( أشدّ الناس عذابا يوم القيامة إمام ضلالة )) ، ومثله كثير . ووجه التلفيق : أن الناس الذين أضيف إليهم : (( أشد )) لا يراد بهم كل نوع الناس بل بعضهم المشاركون في ذلك المعنى المتوعد عليه بالعذاب ، ففرعون أشد الناس المدَّعين للإلهية عذابًا . ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشد ممن يقتدي به في ضلالة بدعة. ومن صور صور ذات الأرواح أشد عذابًا ممن يصوِّر ما ليس بذي روح ، إن تنزلنا على قول من رأى تحريم تصوير ما ليس بذي روح ، وهو مجاهد ، وإن لم نتنزل عليه ، فيجوز أن يعني بالمصورين الذين يصوِّرون الأصنام للعبادة ، كما كانت الجاهلية تفعل ، وكما تفعل النصارى ، فإنَّ عذابهم يكون أشد ممن يصورها لا للعبادة ، وهكذا يعتبر هذا الباب . والله تعالى أعلم .
وقول ابن عباس لمستفتيه عن الصور : (( ادن مني )) ثلاثًا ، ووضعه يده على رأسه ؛ مبالغة في استحضار ذهنه ، وفهمه ، وفي تسميعه ، وتعظيمه لأمر ما يلقيه إليه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كل مصوِّر في النار )) ؛ محمله على مصوري ذوات الأرواح ، بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يقال لهم : أحيوا ما خلقتم )).
(17/109)
وقوله : (( كلف أن ينفخ فيها الرُّوح )) ؛ من هنا رأى ابن عباس : أن تصوير ما ليس له روح يجوز هو والاكتساب به. وهو مذهب جمهور السَّلف ، والخلف . وخالفهم في ذلك مجاهد فقال : لا يجوز تصوير شيء من ذلك كله ، سواء كان له روح ، أو لم يكن ؛ متمسِّكًا في ذلك بقول الله تعالى : (( ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي ، فليخلقوا ذرَّة ، وليخلقوا حبَّة ، وليخلقوا شعيرة )). فعمَّ بالذمِّ ، والتهديد ، والتقبيح كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله تعالى . وقد دلَّ هذا الحديث : على أن الذمَّ والوعيد إنما علِّق بالمصورين من حيث تشبَّهوا بالله تعالى في خلقه ، وتعاطوا مشاركة فيما انفرد الله تعالى به من الخلق والاختراع . وهذا يوضح حجَّة مجاهد . وقد استثنى الجمهور من الصور لعب البنات كما تقدَّم . وشذَّ بعض الناس فمنعها ، ورأى أن إباحة ذلك منسوخة بهذا النهي . وهو ممنوع من ذلك ، مطالب بتحقيق التعارض والتاربخ ، واسثنى بعض أصحابنا من ذلك النهي ما لا يبقى كصور الفخار ، والشمع ، وما شاكل ذلك ، وهو مطالب بدليل التخصيص ، وليس له عليه نصٌّ ، بل ولا ظاهر ، وإنَّما هو نظر قاصر يرده المعنى الذي قررناه ، والظواهر .
وقوله : (( كُلِّف أن ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ )) ؛ أي : ألزم ذلك وطوقه ، ولا يقدر على الامتثال ، فيعذب على كل حال . ويستفاد منه جواز التكليف بالمحال في الدنيا ، كما جاز ذلك في الآخرة . لكن : ليس مقصود هذا التكليف طلب الامتثال ، وإنَّما مقصوده تعذيب المكلف ، وإظهار عجزه عمَّا تعاطاه مبالغة في توبيخه ، وإظهار قبيح فعله. والله تعالى أعلم .
ومن باب الأجراس والقلائد في أعناق الدَّواب
(17/110)
قوله : (( لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس )) ؛ يفهم من هذا أن الحديث ، ومما تقدَّم : أن مقصود الشرع مباعدة الكلاب ، وألا تتخذ في حضر ، ولا سفر ، وذلك للعلل التي تقدَّم ذكرها . وهو حجَّة لمن منع اتخاذ الكلب لحراسة الدواب ، والأمتعة من السُّرَّاق في الأسفار. وهو قول أصحاب مالك ، وأجاز هشام ابن عروة اتخاذها لحراسة البقر من السليلة .
قلت : والظاهر : أن المراد بالكلب هنا غير المأذون في اتخاذه ، كما تقدَّم ؛ لأن المسافر قد يحتاج إلى حفظ ماشية دوابه ، وإبله ، وغير ذلك ، فيضطر إلى اتخاذها كما يضطر إليها في الحضر لزرعه وضرعه.
و (( الجرس )) : ما يعلَّق في أعناق الإبل مما له صلصلة ، والذي يضرب به ، وهو بفتح الراء ، وجمعه : أجراس . فأمَّا : الجرس ، فهو : الصوت الخفي . يقال بفتح الجيم وكسرها . وفيه ما يدلّ على كراهة اتخاذ الأجراس في الأسفار ، وهو قول مالك وغيره .
قلت : وينبغي ألا تقصر الكراهة على الأسفار ، بل هي مكروهة في الحضر أيضًا ، بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الجرس مزامير الشيطان )). ومزامير الشيطان مكروهه سفرًا وحضرًا ، ثمَّ : هذا يعم الكبير ، والصغير منها . وقد فرَّق بعض الشاميين ، فأجازوا الصغير ، ومنعوا الكبير . ووجه الفرق : أن الكبير به يقع التشويش على الناس ، وبه تحصل المشابهة بالنصارى ، فإنَّهم يستعملون النواقيس في سفرهم ، وحضرهم .
وقوله : (( تماثيل أو صور )) ؛ يحتمل أن يكون هذا شكًّا من بعض الرواة ، ويحتمل أن يريد بالتماثيل : ما كان قائم الشخص ، وبالصور : ما كان رقمًا ، ويكون (( أو )) بمعنى : الواو ، أو تكون للتوسيع . والله تعالى أعلم .
(17/111)
وقوله : (( لا يبقين في رقبة بعيير قلادة من وتر ، أو قلادة إلا قطعت )) ؛ يعني بالوتر : وتر القوس . ولا معنى لقول من قال : إنَّه يعني بذلك : الوتر الذي هو الدَّحل ، وهو طلب الثَّأر ، لبعده لفظًا ومعنى . وقول مالك : أرى ذلك من العين ؛ يعني : أفهم كانوا يتعوذون بتعليق أوتار قسيهم في أعناق إبلهم من العين ، فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقطعها لأجل توقع ذلك. وظاهر قول مالك : خصوصية ذلك بالوتر ، ولذلك أجازه ابن القاسم بغير الوتر . وقال بعض أصحابنا فيمن قلَّد بعيره شيئًا ملونًا فيه خرز ، إن كان للجمال ؛ فلا بأس به .
واختلف العلماء في تقليد البعير وغيره من الحيوان والإنسان ما ليس بتعاويذ قرآنية مخافة العين . فمنهم من نهى عنه ومنعه ، ومنعه قبل الحاجة ، وأجازه عند الحاجة إليه ، ومنهم من أجازه قبل الحاجة ، كما يجوز الاستظهار بالتداوي قبل حلول المرض .
وقال غير مالك : إن الأمر بقطع الأوتار إنما كان مخافة أن يختنق به البعير عند الرَّعي ، أو يحتبس بغصن من أغصان الشجرة ، كما اتفق لناقة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في فقدها ثم وجدها قد حبستها شجرة. والله تعالى أعلم .
وقوله : (( من وتر ، أو قلادة )) ؛ هو شكٌّ من بعض الرواة ، فكأنَّه لم يتحفق قوله : من وتر . هذا ظاهر كلامه . ويحتمل أن تكون (( أو )) تنويعًا ، فيكون المنهي عنه قلادة الأوتار وغيرها . والأولى : ما صار إليه مالك ، والله تعالى أعلم .
باب النهي عن وسم الوجوه وأين يجوز الوسم
(17/112)
نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الضرب في الوجه ، وعن الوسم فيه يدلّ على احترام هذا العضو ، وتشريفه على سائر الأعضاء الظاهرة ، وذلك لأنه الأصل في خلقة الانسان ، وغيره من الأعضاء خادم له ؛ لأنَّه الجامع للحواس التي يحصل بها الإدراكات المشتركة بين الأنواع المختلفة ، ولأنَّه أول الأعضاء في الشخوص ، والمقابلة ، والتحدُّث ، والقصد ، ولأنَّه مدخل الروح ومخرجه ، ولأنه مقر الجمال والحسن ، ولأن به قوام الحيوان كله : ناطقه وغير ناطقه . ولما كان بهذه المثابة : احترمه الشرع ، ونهى عن أن يُتعرَّض له بإهانة ، ولا تقبيح ، ولا تشويه . وقد مرَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجل يضرب عبده فقال : ((اتق الوجه ، فإنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته )) ؛ أي : على صورة المضروب . ومعى ذلك - والله أعلم - : أن المضروب من ولد آدم ، ووجهه كوجهه في أصل الخلقة ، ووجه آدم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكرمٌ ، ومشرف ؛ إذ قد شرفه الله تعالى بأن خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأقبل عليه بكلامه ، وأسجد له ملائكته .
وإذا كان هذا الوجه يشبه هذا الوجه فينبغي أن يحترم كاحترامه .
ولما سمع ذلك الصحابي النهي عن الوسم ، وفهم ذلك المعنى قال : والله لا أسمه ، مبالغة في الامتثال والاحترام .
و (( الوسم )) : الكي بالنار . وأصله : العلامة . يقال : وسم الشيء ، يسمه : إذا علّمه بعلامة يعرف بها . ومنه : السيماء : العلامة ، ومنه قوله تعالى : { سيماهم فى وجوههم من أثر السجود}. ومعروف الرواية : (( الوسم )) بالسين المهملة ، وقد رواه بعضهم بالشين المثلثة ، وهو وَهْمٌ ؛ لأنَّ الوشم إنما هو غرز الشفاه والأذرع بالإبرة ، وتسويدها بالنؤر ، وهو : الكحل ، أو ما شابهه . والوسم : كي . فكيف يجعل أحدهما مكان الآخر ؟! .
و (( الجاعرتان )) : مؤخر الوركين المشرفان مما يلي الدُّبر . وسُميا بذلك : لأن الجعر - وهو البعر - يقع عليهما .
(17/113)
وقوله : (( قال : والله ! لا أسمه إلا أقصى شيء من الوجه )) ؛ ظاهر مساق هذا الحديث في كتاب مسلم : أن القائل : هو ابن عباس راوي الخبر ، وليس كذلك ؛ لما صحَّ من رواية البخاري في "التاريخ" ، وفي رواية أبي داود في مصنفه : أن القائل هو : العاص والد عبدالله . وهو أوَّل من كوى في الجاعرتين ، لا ابنه .
و (( الميسم )) : المكوي . و(( الظهر )) هنا : الإبل التي يُحمل عليها. وهذه الأحاديث كلها تدلُّ على جواز كي الحيوان لمصلحة العلامة في كل الأعضاء إلا في الوجه . وهو مستثنى من تعذيب الحيوان بالنار ؛ لأجل المصلحة الرَّاجحة . وإذا كان كذلك ، فينبني أن يقتصر منه على الخفيف الذي يحصل به المقصود ، ولا يبالغ في التعذيب ، ولا التشويه . وهذا لا يختلف فيه الفقهاء إن شاء الله تعالى .
وفيه ما يدل على استحسان استخراج المولود الذكر عند ولادته لمن يرتجى بركة دعوته من العلماء ، والفضلاء . وينبغي لذلك المرجو بركته أن يحنك الصَّبي بتمر إن كان ، أو بما يتنزل منزلته ، كالزبيب ، والتين ، كما كانت العادة الجارية عندنا بالأندلس ، لكنَّهم كانوا يخرجونه يوم السابع ، وذلك عدولٌ عن مقتضى هذا الحديث ، فإنَّه أُخرج إثر ولادته ، قبل أن يصيب لبنًا ، أو غيره . والكل واسعٌ ، والأول أحسن اقتداءً بالنبي وبأصحابه ـ رضى الله عنهم ـ .
(17/114)
وقول أنس ـ رضى الله عنه ـ : (( وعليه خميصة حُوتنيَّة )) ؛ الخميصة : كساء أسود مربع . وقال الأصمعي : الخمائص : ثياب خز ، أو صوف معلمة ، كانت من لباس الناس . واختلف الرواة في (( حوتنية(2) )) ، فرواها العذري بالحاء المهملة ، وبعد الواو الساكنة تاء باثنتين من فوتها مفتوحة ، بعدها نون . ورواية الهوزني : (( حُونِية )) بضم الحاء وكسر النون بعد الواو . وعند الفارسي : (( خُوَيْتِية )) بضم الخاء المعجمة ، وفتح الواو ، وسكون الياء باثنتين من تحتها ، بعدها تاء. ورواه البخاري : ((حريثية )) منسوبة إلى حُريث - رجل من قضاعة -. وضبطها ابن مُفَوَّز : (( حَوْنَبِية )) بفتح الحاء المهملة ، وفتح النون بعدها ، وكسر الباء بواحدة من تحتها .
قلت : ومع هذا الاضطراب لم نحصل من هذه اللفظة على تحقيق ، وأشبه ما فيها : ما رواه البخاري .
و (( المربد )) : أصله للأبل ، فيحتمل أن كان مربدًا للابل وأدخلت فيه الغنم . ويحتمل أن يكون استعاره لحظيرة الغنم .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسم الإبل والغنم بيده ؛ يدلُّ على تواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعلى أن الفضل في امتهان الرجل نفسه في الأعمال لا تزرى بالانسان شرعًا ، وخصوصًا : إذا كان ذلك في مصلحة عامة ، كما وسم إبل الصدقة بيده. ويحتمل أن تكون مباشرته للكل بيده ليرفق بالبهائم في الوسم ، ولا يبالغ في ألمها. والله تعالى أعلم .
ومن باب النهي عن القزع وعن وصل الشعر
في الصحاح : القزع : أن يحلق رأس الصبي في مواضع ، ويترك الشعر متفرقًا ، وقد نُهي عنه . وقزع رأسه تقزيعًا : إذا حلق شعره ، وبقيت منه بقايا في نواحي رأسه ، ورجل مقزع : رقيق شعر الرأس ، متفرقه . قال : والقزع : قطع من السحاب رقيقًا ، الواحدة : قزعة .
قلت : لا خلاف : أنه إذا حلق من الرأس مواضع ، وأبقيت مواضع أنه القزع المنهي عنه ، لما عرف من اللغة كما نقلناه ، ولتفسير نافع له بذلك .
(17/115)
واختلف فيما إذا حلق جميع الرأس وترك منه موضع كشعر الناصية ، أو فيما إذا حلق موضع وحده ، وبقي أكثر الرأس . فمنع ذلك مالك ، وراه من القزع المنهي عنه . وقال ابن نافع : أما القُصَّة ، والقفا للغلام : فلا بأس به . واختلف في المعنى الذي لأجله كره . فقيل : لأنه من زي أهل الزعارة والفساد . وفي كتاب أبي داود : أنه زي اليهود. وقيل : لأنَّه تشويه ، وكأن هذه العلة أشبه ؛ بدليل ما رواه النسائي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى صبيًا حلق بعض شعره ، وترك بعضه ، فنهى عن ذلك ، وقال : ((اتركوه كله ، أو احلقوه كله )).
وقول المرأة : إن لي ابنة عريسًا )) ، هو تصغير عروس ، قلبت الواو ياء ، وزيد عليها ياء التصغير ، وأدغمت إحداهما في الأخرى . ويقال : عروس ، للذكر والأنثى . يقال : رجل عروس ، ورجال عرس ، وامرأة عروس من نساء عرائس . والعرس - بالكسر - : امرأة الرجل ، ولبوة الأسد ، والجمع أعراس ، ومنه قول ا لشاعر :
بالرقمتين له أجرٍ وأعراس
و (( الحصبة ))- بفتح الحاء ، وسكون الصاد - : مرض معروف يشبه الجدري . وقولها : (( تمرق شعرها )) ؛ أي : انتتف ، وفي رواية أخرى : ((تَمَرَّط )). وكلاهما بمعنى واحد . يقال : مرق الصوف عن الإهاب ، يمرق ، مرقًا . وتمرق ، وأمرق ، ويقال : مرط شعره يمرطه مرطًا : إذا نتفه ، والمراطة : ما سقط منه . وتمرط شعره يتمرط تمرطًا : إذا تساقط .
و (( وصل الشعر )) : هو أن يضاف إليه شعره آخر يكثر به. و((الواصلة)) : هي التي تفعل ذلك . و(( المستوصلة )) : هي التي تستدعي من يفعل ذلك بها . وكذلك (( الواشمة )) : هي التي تعمل الوشم . وقد ذكرناه . و((المستوشمة )) : هي التي تستدعي من يفعل ذلك بها .
(17/116)
وهذا الحديث نصٌّ في تحريم وصل الشعر بالشعر . وبه قال مالك ، وجماعة من العلماء . ومنعوا الوصل بكل شيء من الصوف والخرق أوغيرها ؛ لأنَّ ذلك كله في معنى وصله بالشعر ، ولعموم نهي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تصل المرأة شعرها .
وقد شذَّ الليث بن سعد فأجاز وصله بالصرف والخرق ، وما ليس بشعر. وهو محجوج بما تقدَّم . وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس ، وقالوا : إنما نهي عن الوصل خاصة ، وهذه ظاهريَّة محضة ، وإعراض عن المعنى .
وقد شذَّ قوم فأجازوا الوصل مطلقًا ، وقاولوا الحديث على غير وصل الشعر . وهو قول باطل . وقد روي عن عائشة ، ولم يصح عنها. ولا يدخل في هذا النهي ما ربط من الشعر بخيوط الحرير الملوَّنة ، وما لا يشبه الشعر ، ولا يكئره ، إنَّما يفعل ذلك للتجمل والزينة .
و (( المتنمصات )) : جمع متنمصة ، وهي التي تقلع الشعر من وجهها بالمنماص ، وهو الذي يقلع به الشعر . ويقال عليها : النامصة .
(17/117)
و (( المتفلجات )) : جمع متفلجة ، وهي التي تفعل الفلج في أسنانها ؛ أي : تعاينه حتى ترجع المصمتة الأسنان خلقة ؛ فلجاء صنعة . وفي غير كتاب مسلم : (( الواشرات )) وهي جمع واشرة ، وهي التي تشر أسنانها ؛ أي : تصنع فيها أشرًا ، وهي التحزيزات التي تكون في أسنان الشبان ، تفعل ذلك المرأة الكبيرة تشبُّه بالشابَّة . وقد وقع في رواية الهوزني - أحد رواة مسلم - مكان الواشمة والمستوشمة : الواشية والمستوشية - بالياء باثنتين من تحتها مكان الميم - ، وهي من الوشي ؟ أى : تشي المرأة نفسها بما تفعله فيها من التَّنميص ، والتفليج ، والأشر ، وغير ذلك ، وبالميم أشهر ، وهذه الأمور كُلُّها قد شهدت الأحاديث بلعن من يفعلها ، وبأنَّها من الكبائر . واختلف في المعنى الذي لأجله نهى عنها . فقيل : لأنَّها من باب التدليس . وقيل : من باب تغيير خلق الله ؛ الذي يحمل الشيطان عليه ، ويأمر به ، كما قال تعالى مخبرًا عنه : { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } ، قال ابن مسعود ، والحسن : بالوشم . وهو الذي أومأ إليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المغيرات خلق الله )). ولذلك قال علماؤنا : هذا المنهي عنه ، المتوعَّد على فعله ؛ إنَّما هو فيما يكون باقيًا ؛ لأنَّه من باب تغيير خلق الله . فأما ما لا يكون باقيًا ، كالكحل ، والتزين به للنساء : فقد أجازه العلماء : مالك ، وغيره . وكرهه مالك للرجال . وأجاز مالك أيضًا أن تشي المرأة يديها بالحناء . وروي عن عمر ـ رضى الله عنه ـ إنكار ذلك. وقال : إنا أن تخضب يديها كلها ، أو تدع . وأنكر مالك هذه عن عمر .
قال القاضي عياض : وجاء حديث بالنهي عن تسويد الحناء . ذكره صاحب "النصائح".
(17/118)
قال أبو جعفر الطبري في هذا الحديث : أنَّه لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله تعالى عليه بزيادة ، أو نقص ، التماس الحسن لزوج أو غيره ، سواء فلجت أسنانها ، أو وشرتها ، أو كان لها سن زائدة فأزالتها ، أو أسنان طوال ، فقطعت أطرافها . وكذلك لا يجوز لها حلق لحية ، أو شارب ، أو عنفقة إن نبتت لها ؛ لأنَّ كل ذلك تغيير لخلق الله تعالى .
قال القاضي : ويأتي على ما ذكره أن من خلق بإصبع زائدة ، أو عضو زائد ؛ لا يجوز له قطعه ، ولا نزعه ؛ لأنَّه من تغيير خلق الله ، إلا أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعه عند أبي جعفر الطبري وغيره .
وقول ابن مسعود للمرأة : (( وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ دليل : على جواز الاقتداء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إطلاق اللعن على من لعنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في معينًا كان أو غير معيَّن ؛ لأنَّ الأصل أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان يلعن إلا من يستحق ذلك . غير أن هذا يعارضه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم ما من مسلم سببته ، أو جلدته ، أو لعنته ، وليس لذلك بأهل ، فاجعل ذلك له كفارة ، وطهورًا )). وهذا يقتضي أنه في قد يلعن من ليس بأهل لعنة. وقد أشكل هذا على كثير من العلماء ، وراموا الانفصال عن ذلك بأجوبة متعددة ذكرها القاضي عياض في كتاب "الشفاء" ، وأشبه ما ينفصل به عن ذلك : أن قوله : (( ليس لذلك بأهل )) في علم الله . وأعني بذلك : أن هذا الذي لعنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إنما لعنه لسبب صدر منه يقتضي إباحة لعنه ، لكنَّه قد يكون منهم من يعلم الله تعالى من مآل حاله : أنه يقلع عن ذلك السبب ، ويتوب منه ، بحيث لا يضره . فهذا هو الذي يعود عليه سب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياه ، ولعنه له بالرحمة ، والطهور ، والكفارة . ومن لا يعلم الله منه ذلك ، فإنَّ دعاءه لكون زيادة في شقوته ، وتكثير للعنته ، والله تعالى أعلم .
(17/119)
وقوله : (( وهو في كتاب الله )) فهمت المرأة من هذا القول أن لعن المذكورات في الحديث منصوص عليه في القرآن ، فقالت : لقدت قرأت ما بين لوحي المصحف فلم أجده .
وقوله لها : (( لئن كنت قرأتيه ، لقد وجدتيه )) بزيادة ياء هي الرواية ، وهي لغة معروفة ، فيما إذا اتصل بياء خطاب الواحدة المؤنثة ضمير غائب ؛ ويعني : بقرأتيه : تدبرتيه . ووجه استدلاله على ذلك بالآية : أنَّه فهم منها تحريم مخالفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يأمر به ، وينهى عنه ، وأن مخالفه مستحق للعنة . وهؤلاء المذكورات في الحديث مستحقات للعنة .
وقول المرأة لابن مسعود : (( فإنا نرى على امرأتك شيئًا من هذا الآن )) ؛ تعني : أنها رأت على امرأته عن وقت قريب من وقت كلامها معه ، حتى كأنه في حكم الوقت الحاضر المعبَّر عنه بـ (( الآن )) شيئًا من تلك الأمور المذكورات في الحديث . وأقرب ما يكون ذلك الشيء الثنميص ، وهو الذي يزول بنبات الشعر عن تريب ، ولو كان ذلك وشمًا ، أو تفليجًا ، لما زال .
وقوله لها : (( اذهبي فانظري )) ؛ يعني : أنَّه لما رأى على امرأته شيئًا من ذلك نهاها فانتهت عنه ، وسعت في إزالته حتى زال ، فدخلت المرأة ، فلم تر عليها شيئًا من ذلك ، فصدَّق قوله فعله . وهكذا يتعين على الرجل أن ينكر على زوجته مهما رأى عليها شيئًا محرَّمًا ، ويمتنع من وطئها كما قال عبد الله : أما إنه لو كان ذلك لم يجامعها . هذا ظاهر هذا اللفظ . ويحتمل : لم يجتمع معها في دار ، ولا بيت ، فإما بهجران ، أو بطلاق ، كما قال تعالى : { واللآتي تخافون نشوذهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن }. وإذا كان هذا لأجل حق الزوج ، فلأن يكون لحق الله تعالى أحرى وأولى .
ومن باب النهي عن الزور ، وهو ما يكثر به الشعور
(17/120)
القُصَّة من الشعر : ما كان منه على الجبهة . قاله الاصمعي . وقول معاوية ـ رضى الله عنه ـ : (( يا أهل المدينة ! أين علماؤكم ؟ )) هذا من معاوبة ـ رضى الله عنه ـ على جهة التذكير لأهل المدينة بما يعلمونه ، واستعانة على ما رام تغييره من ذلك . لا على جهة أن يعلمهم بما لم يعلموا ، فإنَّهم أعلم الناس بأحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لا سيما في ذلك العصر. ويحتمل أن يكون ذلك فيه ؛ لأنَّ عوام أهل المدينة أول من أحدث الزور ، كما قال في الرواية الأخرى : إنكم قد أحدثتم زي سوء ؛ يعني : الزور ، فنادى أهل العلم ليوافقوه على ما سمعه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النهي عن ذلك ، فينزجر من أحدث ذلك من العوام. وقد فسَّر معاوية الزور المنهي عنه في هذا الحديث بالخِرَق التي يُكْثِر النساء بها شعورهن بقوله : (( ألا وهذا الزور )). وزاده قتادة وضوحًا.
و (( الزور )) في غير هذا الحديث : قول الباطل ، والشهادة بالكذب . وأصل التزوير : التمويه بما ليس بصحيح .
وهذا الحديث حجَّة واضحة على إبطال قول من قصر التحريم على وصل الشعر ، كما تقدَّم . وهذا يدلّ : على اعتبار أقوال أهل المدينة عندهم ، وأنها مرجع يعتمد عليه في الأحكام . وهو من حجج مالك على أن إجماع أهل المدينة حجَّة ، وقد حققنا ذلك في الأصول .
وقوله : (( إنما هلكت بنو إسرانيل حين اتخذ هذه نساؤهم )) ؛ يظهر منه : أن ذلك كان محرَّما عليهم ، وأن نساءهم ارتكبوا ذلك المحرَّم ، فأقرَّهن على ذلك رجالهم ، فاستوجب الكل العقوبة بذلك ، وبما ارتكبوه من العظائم .
(17/121)
وقوله : (( صنفان من أهل النار لم أرهما )) ؛ أي : لم يوجد في عصره منهما أحدٌ ؛ لطهارة أهل ذلك العصر الكريم . ويتضمن ذلك : أن ذينك الصنفين سيوجدان . وكذلك كان ، فإنَّه خلف بعد تلك الأعصار قوم يلازمون السياط المؤلمة التي لا يجوز أن يضرب بها في الحدود قصدًا لتعذيب الناس ، فإنَّ أمروا بإقامة حد ، أو تعزير ، تعدوا المشروع في ذلك في الصفة والمقدار ، وربما أفضى بهم الهوى ، وما جبلوا عليه من الظلم إلى هلاك المضروب ، أو تعظيم عذابه . وهذا أحوال الشرط بالمغرب ، والعوانية في هذه البلاد . وعلى الجملة : فهم سخط الله في الجملة عاقب الله بهم شرار خلقه غالبًا . نعوذ بالله من سخطه في الدنيا وا لآخرة .
وقوله : (( ونساء كاسيات ، عاريات )) ؛ قيل في هذا قولان :
أحدهما : أنهن كاسيات بلباس الأثواب الرقاق الرفيعة التي لا تستر منهن حجم عورة ، أو تبدي من محاسنها - مع وجود الأثواب الساترة عليها - ما لا يحل لها أن تبديه ، كما تفعل البغايا المشتهرات بالفسق .
وثانيهما : أنهنَّ كاسيات من الثياب ، عاريات من لباس التقوى ؛ الذي قال الله تعالى فيه : { ولباس التقوى ذلك خير }.
قلت : ولا بُعد في إرادة القدر المشترك بين هذين النوعين ؛ إذ كل واحد منهما عُرُوٌّ ؛ إنَّما يختلفان بالإضافة .
(17/122)
وقوله : (( مميلات مائلات )) ؛ كذا جاءت الرواية في هاتين الكلمتين بتقديم : مميلات على مائلات ، وكلاهما من الميل ، بالياء باثنتين من تحتها. ومعنى ذلك : أنهن يملن في أنفسهن تثنيًا ونعمة وتصنعًا ؛ ليُملن إليهن قلوب الرجال ، فيميلوا إليهن ، ويفتنَّهم . وعلى هذا : فكان حق مائلات أن يتقدم على مميلات ؛ لأنَّ ميلهن في أنفسهن مقدَّم في الوجود على إمالتهن . وصحَّ ذلك لأن الصفات المجتمعة لا يلزم ترتيبها : ألا ترى أنها تعطف بالواو ، والواو جامعة غير مترتبة ، إلا أن الأحسن تقديم مائلات على مميلات ؛ لأنَّه سببه كما سبق . وقد أبعد أبو الوليد الوقشي حيث قال : إن صوابه : (( الماثلة )) بالثاء المثلثة ، يعني : الظاهرة ، وقال : لا معنى للمائلة هنا . وترك هذا الصواب هو الصواب.
وقوله : (( رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة )) ؛ أسنمة : جمع سنام ، وسنام كل شيء : أعلاه . والبخت : جمع بختية ، وهي ضرب من الإبل عظام الأجسام ، عظام الأسنمة ، شبَّه رؤوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن أعلى أوساط رؤوسهن تزينًا ، وتصنعًا ، وقد يفعلن ذلك بما يكثرن به شعورهن ، والمائلة : الرواية بالياء ، من الميل . يعني : أن أعلى السَّنام يميل لكثرة شحمه ، شبَّه أعالي ما يرفعن من الشعر بذلك . وقال الوقشي : صوابه : بالثاء المثلثة ؛ أي : المرتفعة الظاهرة .
وقد تقدَّم القول على نحو قوله : (( لا يدخلن الجنة )) ، وعلى قوله : ((كذا وكذا )). وهو هنا كناية عن خمسمائة عام ، كما قد جاء مفسَّرًا.
(17/123)
وقولها : (( هل عليَّ جناح أن أتشبَّع من مال زوجي بما لم يعطني؟)) سألته : هل يجوز لها أن تظهر لضرتها : أن زوجها قد مكنها ، أو أعطاها من ماله أكثر مما تستحقه ، أو أكثر مما أعطى ضرتها ؛ افتخارًا عليها ، وإيهامًا لها : أنها عنده أحظى منها ، فأجابها ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يقتضي المنع من ذلك ، فقال : (( المتشبِّع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور )). وأصل التشبُّع : تفعُّل من الشِّبع ، وهو الذي يظهر الشِّبع وليس بشبعان . وكثيرًا ما تأتي هذه الصيغة بمعنى التعاطي كالتكبُّر ، والتصنُّع . ويفهم من هذا الكلام : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى المرأة عن أن تتظاهر وتتكاثر بما لم يعطها زوجها ؛ لأنَّه شَبَّه فعلها ذلك بما يُنهى عنه ، وهو : أن يلبس الإنسان ثوبين زورًا . واختلف المتأولون ؛ هل الثوبان محمولان على الحقيقة ، أو على المجاز ؛ على قولين : فعلى الأول يكون معناه : أنه شبهها بمن أخذ ثوبين لغيره بغير إذنه ، فلبسهما مظهرًا أن له ثيابًا ليس مثلها للمظهر له . وقيل : بل شبهها بمن يلبس ثياب الزقاد ، وليس الزُّهاد . وعلى الوجه الثاني : قال الخطابي : إن ذكر الثوبين هنا كناية عن حاله ومذهبه . والعرب تكني بالثوب عن حال لابسه . والمعنى : أنه بمنزلة الكاذب القائل ما لم يكن. وقيل : هو الرجل في الحيِّ تكون له هيئة ، فإذا احتيج إليه في شهادة زور شهد بها ، فلا يرد لأجل هيئته ، وحسن ثوبه . فأضيفت شهادة الزور إلى ثوبه ؛ إذ كان سببها .
قلت : وأي شيء من هذه الوجوه كان المقصود ، فيحصل منه : أن تشبع المرأة على ضرَّتها بما لم يعطها زوجها محرَّم ؛ لأنَّه شُبه بمحرَّم ، وإنما كان ذلك محرَّمًا ؛ لأنَّه تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، ورياءً ، وأذًا للضرة من نسبة الزوج إلى أنَّه آثرها عليها ، وهو لم يفعل ، وكل ذلك محرَّم .
(17/124)
كتاب الأدب
ومن باب في أحب الأسماء إلى الله تعالى وأبغضها إليه
قوله : (( أحب أسمائكم إلى الله : عبد الله ، وعبدالرحمن )) ؛ إنما كانت هذه الأسماء أحبُّ إلى الله تعالى ؛ لأنها تضمَّنت ما هو وصف واجب للحق تعالى ، وهو : الإلهية ، والرحمانية ، وما هو وصف الإنسان وواجب له ، وهو : العبودية والافتقار ، ثمَّ قد أضيف العبد الفقير للإله الغني إضافة حقيقيَّة. فصدقت أفراد هذه الأسماء الأصلية ، وشرفت بهذه الإضافة التركيبية ، فحصلت لهما هذه الأفضلية الأحبيَّة . ويلحق بهذين الاسمين ما كان مثلهما ، مثل : عبدالملك ، وعبدالصمد ، وعبدالغني .
وقوله : (( إن أخنع اسم عند الله )) ؛ أي : أذلَّ . والخنوع : الخضوع والذلُّ . يقال : أخنعتني إليك الحاجة . ومنه في دعاء القنوت : (( ونخنع لك )) ؛ أي : نذل لك ونخضع . وقد يقال على الفجور والرِّيبة . يقال : رجل خانع ؛ أي : مريب فاجر . ومنه قول الأعشى :
ولا يَزْوَني إلى جاراتهم خُنُعًا
قلت : وهذا راجعٌ للمعنى الأول ؛ لأنَّ الفاجر المريب خانع ذليل. ولذلك فسَّر أبو عمرو : أخنع بأوضع ؛ أي : أذل وأخس . وأراد بالاسم هنا : المسمى ، بدليل ما قال في الرواية الأخرى : أغيظ رجل ، وأخبثه .
والغيظ المضاف إلى الله تعالى هو : عبارة عن غضبه . وقد تقدَّم : أن غضب الله تعالى عبارة عن عقوبته المنزلة بمن يستحقها. والأخبث : من الخبث ، وهو : الاسترذال ، والخِسَّة ، والرَّداءة . وقد وقع في هذه الرواية : وأغيظه . معطوفًا على أخبثه ، من الغيظ ، فجاء مكررًا . فذهب بعض العلماء إلى أن ذلك وهم ، والصواب : أغنط- بالنون والطاء المهملة ؛ أي : أشدُّ . والغَنَط : شدة ا لكرب .
(17/125)
قلت : والصواب التمسك بالرِّواية . وتطريق الوهم إلى الأئمة الحفاظ وهم لا ينبغي المبادرة إليه ما وجد للكلام وجه ، ويمكن أن يحمل على إفادة تكرار العقوبة على المسمى بهذا الاسيم وتعظيمها ، كما قال تعالى في حق اليهود : { فباءُوا بغضب على غضب } ؛ أي : بما يوجب العقوبة بعد العقوبة . وكذلك فعل الله تعالى بهم ؛ عاقبهم في الدنيا بأنواعٍ من العقوبات ، ولعذاب الآخرة أشقُّ .
وحاصل هذا الحديث : أن المسمى بهذا الاسم قد انتهى من الكبر إلى الغاية التي لا تنبغي لمخلوق ، وأنه قد تعاطى ما هو خاص بالإله الحق ؛ إذ لا يَصْدُق هذا الاسم بالحقيقة إلا على الله تعالى ، فعوقب على ذلك من الإذلال ، والإخساس ، والاسترذال بما لم يعاقب به أحدٌ من المخلوقين.
و (( الملك )) : من له الْمُلْكُ . و(( المالك )) : من له الْمِلْكُ . والملِكُ أمدحُ ، والمالك أخصُّ . وكلاهما واجب لله تعالى .
و (( الأملاك )) : هنا جمع مَلِك. قال في "الصحاح" : الملِك-مقصور- من : مالك أو : مليك . والجمع : الملوك والأملاك ، والاسم : الملك . وقول سفيان : مثل : شاهًا شاة ، هي بالفازستة : ملك الأملاك .
ومن باب تسمَّوا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تسمَّوا باسمي ، ولا تكتنُوا بكنيتي )) ؛ صدر هذا القول عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرات ؛ فعلى حديث أنس ـ رضى الله عنه ـ إنما قاله حين نادى رجل : يا أبا القاسم ! فالتفت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال الرجل : لم أعنك . فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك القول . وهذه حاله تنافي الاحترام ، والتعزير المأمور به ، فلمَّا كانت الكناية بأبي القاسم تؤدي إلى ذلك نهى عنها . ويتأبَّد هذا المعنى بما نقل : أنَّ اليهود كانت تناديه بهذه الكناية إزراءً ، ثم تقول : لم أعنك . فحسم الذريعة بالنَّهي . فإنَّ قيل : فيلزم على هذا : أن تُمنع التَّسمية بمحمد ، وقد فرَّق بينهما ، فأجازه في الاسم ، ومنعه في الكناية .
(17/126)
فالجواب : أنَّه لم يكن أحدٌ من الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ يجتريء أن يناديه باسمه ؛ إذ الاسم لا توقير في النداء به ، بخلاف الكناية فإنَّ في النداء بها احترامًا وتوقيرًا ، وإنما كان يناديه باسمه أجلاف العرب ، ممن لم يؤمن ، أو آمن ولم يرسخ الإيمان في قلبه ، كالذين نادوه من وراء الحجرات : يا محمد ! اخرخ لنا . فأنزل الله تعالى فيهم : { إن الذين ، يُنادونك من وراء الحجزت أكثرهم لا يعقلون } ، فمنعت الذريعة فيما كانوا ينادونه به ، وأبيح ما لم يكونوا ينادونه به . وعلى هذا المعنى فيكون النهي عن ذلك مخصوصًا بحياته . وقد ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم. وقد رُوي : أن عليًّا ـ رضى الله عنه ـ قال : يا رسول الله ! إن وُلد لي بعدك غلامٌ أَأُسَمِّيه باسمك ، وأكنِّيه بكنيتك . قال : (( نعم )).
(17/127)
وأما حديث جابر فيقتضي : أن النهي عن ذلك إنما كان لأن ذلك الاسم لا يصدق على غيره صدقه عليه ، ولذلك قال متصلاً بقوله : ((تسمَّوا باسمي ، ولا تكتنوا بكنيي ، فإني أنا أبو القاسم أقسم بينكم )). وفي الأخرى : (( فإنما بعثت إليكم قاسِمًا )) ؛ يعني : أنه هو الذي يبين قسم الأموال في المواريث ، والغنائم ، والزكوات ، والفيء ، وغير ذلك من المقادير ، فيُبلِّغ عن الله حكمه ، ويبيِّن قسمه . وليس ذلك لأحدٍ ، إلا له ، فلا يطلق هذا الاسم في الحقيقة إلا عليه . وعلى هذا التأويل الثاني : فلا يكتني أحدٌ بأبي القاسم ، لا في حياته ، ولا بعد موته . وإلى هذا ذهب بعض السَّلف ، وأهل الظاهر ، وزادت طائفة أخرى من السَّلف منع التسمية بالقاسم ؛ لئلا يكنى أبوه بأبي القاسم . وذهبت طائفة ثالثة من السلف أيضًا : إلى أن الممنوع إنما هو الجمع بين اسمه وكنيته . واستدلوا على ذلك بما رواه الترمذي عن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن يجمع أحدٌ بين اسمه وكنيته ، ويسمِّي محمدًا أبا القاسم )). قال : حديث حسن صحيح . وعلى هذا فيجوز أن يكتني بأبي القاسم من لم يكن اسمه محمدًا . وذهب الجمهور من السلف والخلف ، وفقهاء الأمصار : إلى جواز كل ذلك ، فله أن يجمع بين اسمه وكنيته ، رله أن يسمي بما شاء من الاسم والكنية بناة على أن كل ما تقدَّم إما منسوخ ، وإما مخصوص به ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحتجوا على ذلك بما رواه الترمذي وصححه من حديث علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ المتقدم ، وبما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءت امرأة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت : يا رسول الله! إني ولدتُ غلامًا فسميته : محمدًا ، وكنيته بأبي القاسم ، فذكر لي أنك تكره ذلك . فقال : (( ما الذي أحل اسمي وحرَّم كُنيتي ؟! )) ، أو : (( ما الذي حرم كُنيتي وأحل اسمي ؟! )) ويتأيَّد النَّسخ بما ثبت : أن جماعة كثيرة من السَّلف وغيرهم سمُّوا أولادهم باسمه ، وكنّوهم بكنيته جمعًا وتفريقًا . وكان هذا كان أمرًا(17/128)
معروفًا معمولاً به في المدينة وغيرها . فقد صارت أحاديث الإباحة أولى ؛ لأنَّها : إما ناسخة لأحاديث المنع ، وإما مرجحة بالعمل المذكور ، والله تعالى أعلم .
وقد شذَّت طائفة فمنعوا التسمية بمحمد جملة متمسكين في ذلك بما يروى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( تسمُّون أولادكم محمدًا ، ثم تلعنونهم )) ، وبما كتب عمر ـ رضى الله عنه ـ إلى الكوفة من قوله : (( لا تسمُّوا أحدًا باسم نبي )). وبأمره جماعة بالمدينة بتغيير أسماء أبنائهم محمدًا ، ولا حجَّة في شيء من ذلك . أما الحديث : فغير معروف عند أهل النقل ، وعلى تسليمه فمقتضاه النهي عن لعن من اسمه محمد ، لا عن التسمية به . وقد قدَّمنا النصوص الدالة على إباحة التسمية بذلك ، بل : قد روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحاديث كثيرة تدلُّ على الترغيب ، في التسمية بمحمد ؛ كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما ضرَّ أحدكم أن يكون في بيته محمد ، ومحمدان )) ، وكقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما اجتمع قوم في مشورة فيهم رجل اسمه محمد فلم يدخلوه فيها إلا لم يبارك لهم فيها )) ، ومثله كثير . وأما أمر عمر ـ رضى الله عنه ـ : فكان بسبب : أنه سمع رجلاً يقول لابن أخيه محمد بن زيد بن الخطاب : فعل الله بك يا محمد ، وصنع بك . فدعا عمر به ، وقال : لا أرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُسبُّ بك ! والله ! لا تدعى محمدًا أبدًا ، وعند ذلك - والله تعالى أعلم - كتب لأهل الكوفة ، وأمر أهل المدينة بما سبق ، ثم إنه ذكر له جماعة سمَّاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك . فترك الناس من ذلك .
(17/129)
تنبيه : الأصل في الكناية أن يكون للرجل ابن فيُكنى باسم ابنه ذلك ، ولذلك كني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأبي القاسم ، فإنَّه كان له ولدٌ يسمى : القاسم من خديجة رضي الله عنها ، وكأنه كان أوَّل ذكور أولاده. وعلى هذا : فينبغي أن لا يكني أحدٌ حتى يكون له ولدٌ يُكنى باسمه ، لكن : قد أجاز العلماء خلاف هذا الأصل ، في فكنَّوا من ليس له ولدٌ ، لحديث عائشة رضي الله عنها ؛ أنها قالت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كلُّ صواحبي لهن كنى ، وليس لي كنية ، فقال : (( اكتني بابن أختك عبدالله )) ، فكانت تكنى بأمِّ عبدالله . وقد كنَّى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصغير ، فقال : (( يا أبا عمير ! ما فعل النُّغير )) ، وقد قا ل عمر ـ رضى الله عنه ـ : عجلوا بكنى أبنائكم ؛ لا تسرع إليهم ألقاب السَّوء . وحديث المغيرة يدلُّ : على أن مريم صلوات الله عليها ؛ إنما سُميت أخت هاررن ، بأخ لها كان اسمه ذلك ، ويبطل قول من قال من المفسرين : إنها إنما قيل لها ذلك لأنها شُبِّهت بهارون أخي موسى في عبادته ونسكه .
وفيه : ما يدلّ على جواز التسمية بأسماء الأنبياء . والله تعالى أعلم .
ومن باب ما يكره أن يُسمَّى به الرفيق
قوله : (( أحبُّ الكلام إلى الله أربع )) ؛ أي : أحقه قبولاً ، وأكثره ثوابًا ، ويعني بالكلام : المتضمن للأذكار ، والدعاء ، والقرب من الكلام ، وإنَّما كانت هذه الكلمات كذلك ؛ لأنَّها تضمَّنت تنزيهه عن كل ما يستحيل عليه ، ووصفه بكل ما يجب له من أوصاف كماله ، وانفراده بوحدانيته ، واختصاصه بعظمته وقدمه المفهومين من أكبريته . ولتفصيل هذه الجمل علمٌ آخر .
وقوله : (( لا يضرُّك بأيهنَّ بدأت )) ؛ يعني : أن تقديم بعض هذه الكلمات على بعض لا ينقص ثوابها ، ولا يوقف قبولها ؛ لأنَّها كلَّها كلمات جامعات طيِّبات مباركات .
(17/130)
وقوله : (( لا تسمَّيَنَّ غلامك يسارًا ، ولا رباحًا ، ولا نجيحًا ، ولا أفلح )) ؛ هذا نهي صحيح عن تسمية العبد بهذه الأسماء ، لكنه على جهة التنزيه بدليل قول جابر في الحديث الآتي : أراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ينهى أن يُسمَّى بيعلى بمقبل ، وببركة ، وبأفلح ، وبيسار ، وبنافع ، ونحو ذلك ، ثم سكت ؛ يعني : أراد أن ينهى عن ذلك نهي تحريم ، وإلا فقد صدر النهي عنه على ما تقدَّم ، لكنه على وجه الكراهة التي معناها : أن ترك المنهي عنه أولى من فعله ؛ لأنَّ التَّسمية بتلك الأسماء تؤدي إلى أن يسمع الإنسان فالاً ما يكرهه ، كما نصَّ عليه بقوله : (( فإنك تقول : أثمَّ هو فلان ، فلا يكون ؛ فتقول : لا )). ويالنظر إلى هذا المعنى ، فلا تكون هذه الكراهة خاصة بالعبيد ، بل : تتعدى إلى الأحرار. ولا مقصورة على هذه الأربعة الأسماء ، بل : تتعدى إلى ما في معناها . وإلى هذا أشار جابر في حديثه بقوله ، وبنحو ذلك .
وحينئذ يقال : فما فائدة تخصيص الغلام بالذكر ؟ وكيف يعدَّى إلى زيادة على الأربع ، وقد قال في بقيَّة الحديث : إنما هي أربع ، فلا تزيدن عليَّ ؟ فالجواب عن الأوَّل من وجهين :
أحدهما : أنَّا لا نسلِّم أن المراد بالغلام العبد ، بل : الصغير ؛ فإنه يقال عليه : غلام إلى أن يبلغ ، والأنثى : جارية ، كما تقدَّم .
والثاني : أنَّا وإن سلَّمنا ذلك لكن إنما خُصص العبد بالذكر ، لأن هذه الأسماء إنما كانت في غالب الأمر أسماء لعبيدهم ، فخرج النهي على الغالب .
(17/131)
والجواب عن الثاني : أن قوله : فلا تزيدن عليَّ ، إنما هو من قول سمرة بن جندب ، وإنما قال ذلك ليحقق : أن الذي سمعه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هي الأربع ، لا زيادة عليها ؛ تحقيقا لما سمع ، ونفيًا لأن يقول ما لم يقل . ولئن سُلِّم أن ذلك من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فليس معناه المنع من القياس . بل : عن أن يقول اسمًا لم يقله ، فإنَّ الفرع ملحق بأصله في الحكم ، لا في القول . وبيانه : إنَّا وإن ألحقنا الزبيب بالتمر في تحريم الربا فلا نقول : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : إن الربا في الزبيب حرام . فإنَّه قول كاذب ، ولو كان ذلك صادقًا لكان الزبيب منطوقًا به ، فحينئذ لا يكون فرعًا . بل : أصلاً . وقد اجترأت طائفة عراقية على إطلاق ذلك . ونعوذ بالله مما أُطلق هنالك . وعلى ما قررناه فلا يكون بين حديث سمرة بن جندب ، ولا بين حديث جابر ـ رضى الله عنه ـ معارضة ، فلا يكون بينهما نسخ خلافًا لمن زعمه ، وقال : إن حديث جابر ناسخ لحديث سمرة ، وما ذكرناه أولى . والله تعالى أعلم .
فإنَّ قيل : بل المصير إلى النسخ أولى ؛ لأنَّ حديث سمرة - وإن حمل على الكراهة - فحديث جابر يقتضي الإباحة المطلقة ؛ لأنَّه لما سكت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النهي عن ذلك إلى حين موته ، وكذلك عمر ـ رضى الله عنه ـ مع حصول ذلك في الوجود كثيرًا ، فقد كان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غلام اسمه : رباح ، ومولى اسمه : يسار ، وقد سَمَّى ابن عمر مولاه : نافعًا . ومثله كثير . فقد استمر العمل على حديث جابر ، فإذًا هو متأخر ، فيكون ناسخًا .
فالجواب : إن هذا التقدير يلزم منه : أن لا يصدق قول جابر : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أراد أن ينهى عن ذلك ، فإنَّه قد وجد النهي ولا بدَّ ، وهو صادق ، فلا بدَّ من تأويل لفظه . وما ذكرناه أولى . وما ذكر من تسمية موالي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغيره بتلك الأسماء فصحيح ؛ لأنَّ ذلك جائز ، وغاية ما ترك فيها الأولى ، فكم من أولى قد سوغت الشريعة تركه ، وإن فات بفوته أجر كثير ، وخير جزيل ؛ عملاً بالمسامحة والتيسير ، وتركًا للتشديد والتعسير.
(17/132)
وقوله : (( أراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ينهى أن يُسمَّى بمقبل )) ؛ هكذا صحيح الرواية. وهو في بعض النسخ : بيعلى ، وكأنه تصحيفًا ، والأوَّل أولى رواية ومعنى.
ومن باب تغيير الاسم بما هو أولى منه
تبديل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اسم عاصية بجميلة ، والعاصي بن الأسود بمطيع ، ونحو ذلك سُنَّة ينبغي أن يُقتدى به فيها ؛ فإنَّه كان يكره قبيح الأسماء ، ولا يتطيَّر به ، ويحبُّ حسن الأسماء ، ويتفاءل به ، وفي كتاب أبي داود عن بريدة ـ رضى الله عنه ـ : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا يتطيَّر من شيء ، وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه ، فإذا أعجبه اسمه فرح به ورُئي بشر ذلك في وجهه ، وإن كره اسمه رُئي كراهة ذلك في وجهه . وفي الترمذي عن أنس ـ رضى الله عنه ـ أنه كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع : يا راشد ! يا نجيح ! وأما تغييره برَّة فلوجهين :
أحدهما : أنه كان يكره أن يقال : خرج من عند برَّة ؛ إذ كانت المسمَّاة بهذا الاسم زوجته ، وهي الي سمَّاها جويرية .
(17/133)
والثاني : لما فيه من تزكية الإنسان نفسه ، فهو مخالف لقوله تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى }. ويجري هذا المجرى في المنع ما قد كثر في هذه الدِّيار من نعتهم أنفسهم بالنعوت الي تقتضي التزكية ، كزكي الدِّين ، ومحيي الدِّين ، وما أشبه ذلك من الأسماء الجارية في هذه الأزمان ؛ التي يقصد بها المدح ، والتزكية ، لكن لما كثرت قبائح المسمِّين بهذه الأسماء في هذا الزمان ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها ، فصارت لا تفيد شيئًا من أصل موضوعاتها ، بل ربما يسبق منها في بعض المواضع ، أو في بعض الأشخاص نقيض موضوعها ، فيصير الحال فيها كالحال في تسمية العرب : المهلكة بالمفازة ، والحقير بالجليل ، تجمُّلاً بإطلاق الاسم مع القطع باستقباح المسمَّى . ومن الأسماء ما غيَّره الشرع مع حسن معناه رصدته على مسمَّاه . لكن منعه الشرع حماية واحترامًا لأسماء الله تعالى وصفاته - جل وعز - عن أن يتسمَّى أحد بها . ففي كتاب أبي داود عن هانئ بن يزيد : أنه لما وفد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة مع قومه سمعهم يكنُّونه بأبي الحكم ، فدعاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( إن الله- عز وجل- هو الحكم ، وإليه الحكم ، فلمَ تكنَّى أبا الحكم ؟ )) ، قال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما أحسن هذا ! )). قال : (( ما لك من الولد ؟ ، قال : لي شريح ، ومسلم ، وعبدالله . قال : (( فمن أكبرهم ؟ )) قلت : شريح . قال : (( فأنت أبوشريح )). وقد غيَّر اسم : حكيم ، وعزيز ؛ لما فيهما من التشبيه بأسماء الله تعالى .
وقولها : (( سميت برَّة )) ؛ إنما كان هذا الاسم يدلّ : على التزكية ؛ لأنَّه في أصله اسم علم لجميع خصال البرِّ ، كما أن : (( فجار )) اسم علم للفجور . ولذلك قال النابغة الذبياني :
إنَّا اقتَسَمنا خُطَّتَيْنا بيننا فحَمَلْت برَّةَ واحتَمَلْت فَجَارِ
ومن باب تسمبة الصغير وتحنيكه والدعاء له
(17/134)
قوله : (( كان لأبي طلحة ابن يشتكي )) ؛ أى : أصابه ما يشتكي منه ، وهو المرض ، لا أنه صدرت عنه شكوى . هذا أصله ، لكنَّه قد كثر تسمية المرض بذلك . وهذا الحديث يدل على فضل أم سُليم ، وتثبُّتها ، وصبرها عند الصدمة الأولى ، وكمال عقلها ، وحسن تبعلها لزوجها .
وقولها : (( هو أسكن مما كان )) ؛ هذا من المعاريض المغنية عن الكذب ؛ فإنَّها أوهمته : أن الصبي سكن ما كان به بلفظ يصلح إطلاقه لما عندها من موته ، وبما فهمه أبو طلحة من سكون مرضه . وهذا كل لئلا تفاجئه بالإعلام بالمصيبة فيتنغَّص عليه عيشه ، ويتكدَّر عليه وقته . فلما حصلت راحته من تعبه ، وطاب عيشه بإصابة لذَّته التي ارتجت بسببها أن يكبرن لهما عوض ، وخلف مما فاته عرَّفته بذلك ، فبلَّغها الله أمنيَّتها ، وأصلح ذريَّتها .
وقولها : (( واروا الصبيَّ )) ؛ أي : ادفنوه ، من : مواراة الشيء ، وهي تغطيته .
وقوله : (( أعْرستم الليلة ؟ )) هو كناية عن الجماع . يقال : أعرس الرجل بأهله : إذا بنى بها ، وكذلك إذا غشيها ، ولا يقال : عرَّس ، والعامة تقولها . وقد تقدَّم أن العِرْس الزوجة ، والعررس : يقال على كل واحد من الزوجين .
وفي هذا الحديث ما يدلُّ على إجابة دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى عظم مكانته ، وكرامته عند الله تعالى . وكم له منها ، وكم ! حتى قد حصل بذلك العلم القطعي ، واليقين الضروري ، وذلك : أنه لما دعا لأم سليم وزوجها ولدت له من ذلك الغشيان عبدالله . وكان من أفاضل الصحابة ، ثمَّ ولد له عدَّة من الفضلاء ، الفقهاء ، العلماء : إسحاق بن عبدالله بن أى طلحة ، وإخوته العشرة ، كما هو مذكور في "الاستيعاب".
وأحاديث هذا الباب كلها متواردة على أن إخراج الضغار عند ولادتهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحنيكهم بالتمر كان سُنَّة معروفة معمولاً بها ، فلا ينبغي أن يعدل عن ذلك اقتداءً بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واغتنامًا لبركة الصالحين ، ودعائهم . والتحنيك هنا : جعل مضيغ التمر في حَنَكِ الصَّبي .
(17/135)
وقوله في حديث عبدالله بن الزبير : (( ثمَّ مسحه وصلَّى عليه )) ؛ يعني : مسحه بيده عند الدعاء له ، كما كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمسحُ بيده عند الرُّقي ، وفيه دليل على استحباب ذلك ، وفعله على جهة التبرَّك رجاء الاستشفاء ، وقبول الدعاء .
ومعنى : (( صلَّى عليه )) : دعا له بالخير والبركة كما جاء في الرواية الأخرى مفسَّرا ، وقد ظهرت بركة ذلك كلُّه على عبدالله بن الزبير ، فإنه كان من أفضل الناس ، وأشجعهم ، وأعدلهم في خلافته ـ رضى الله عنه ـ ، وقَتَلَ قَاتِلَهُ. وتبسُّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الله ومبايعته له فرحٌ به ، وإنهاض له ؛ حيث ألحقه بنمط الكبار الحاصلين على تلك البيعة الشريفة ، والمنزلة المنيفة ، ففيه جواز مبايعة من يعقل من الصِّغار ، وتمرينهم على ما يخاطب به الكبار.
وقوله : (( وكان أوَّل مولود ولد في الإسلام )) ؛ يعني : من المهاجرين بالمدينة ، وذلك أن أمه أسماء ابنة أبي بكر رضي الله عنهما هاجرت من مكة إلى المدينة وهي حامل به ، فولدته في سنة ثنتين من الهجرة لعشرين شهرًا من التاريخ. وقيل : في السنة الأولى من الهجرة . هكذا حكاه أبو عمر. وروي عن ابن أبي مليكة عن عبدالله بن الزبير قال : سُمِّيت باسم جدِّي أبي بكر وكنيت بكنيته . قال أبو عمر : كان شهمًا ، ذكرًا ، شريفًا ، ذا أَنَفَة ، وكانت له لَسَانة ، وفصاحة ، وكان أطلسَ لا لحية له ، ولا شعر في وجهه . وحكى أبو عمر عن مالك أنه قال : كان ابن الزبير أفضل من مروان ، وأولى بالأمر من مروان وابنه.
و (( أبو أُسَيد )) بضم الهمزة ، وفتح السين ، وياء التصغير كذا قاله عبدالرزاق ، ووكيع . قال ابن حنبل : وهو الصواب . وحكى ابن مهدي عن سفيان : أنَّه بفتح الهمزة ، وكسر السين ، واسمه : مالك بن ربيعة .
(17/136)
وقوله : (( ولها عنه )) ؛ الرواية فيه بفتح الهاء ؛ أي : اشتغل عنه وهي لغة طيء ، وفصيحتها : (( لَهِيَ )) بكسر الهاء يَلْهَى بفتحها ، لَهْيًا ، ولَهَيانًا. وهو في اللغتين ثلاثي . فأمَّا : أَلْهَاني كذا : فمعناه شُغلت . ومنه قوله تعالى : { ألهاكم التكاثر }.
وقوله : (( فاقلبُوه )) ؛ كذا جاءت الرواية في هذا الحرف رباعيًّا ، وصوابه : ثلاثي . يقال : قلبت الشيء : رددته ، والصَّبي : صرفته . قال الأصمعي : ولا يُقال : أقلبته .
وإنما سَمَّى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن أبي أُسيد : المنذر ، باسم ابن عم أبيه : المنذر بن عمرو ، والمسمَّى : بالمعنِق ليموتَ . وكان أمير أصحاب بئر معونة ، واستشهد يوم بئر معرنة فسمَّاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمنذر ليكون خلفًا منه .
ومن باب تكنية الصغير
قد تقدَّم القول في الكناية في الباب قبل هذا .
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يا أبا عمير ! ما فعل النُّغير ؟ )) فيه دليلٌ على جواز السجع في الكلام إذا لم يكن متكلَّفًا ، فأما مع التكلُّف فهو من باب التنطع ، والتشدُّق المكروهين في الكلام . وعمير : تصغير عمر أو عمرو . والنغير : تصغير نُغر ، والنُّغَرُ : طير كالعصافير حُمر المناقير ، ويُجمع : نِغْران . مثل : صُرَد وصِرْدان ، ومؤنَّثه : نُغَرة ، كهُمَزة .
وقد يستدلُّ الحنفي بهذا الحديث على جواز صيد المدينة . وهو قول خالف فيه الجمهور ونصن ش النبي ف عن صيد المدينة ، كما نهى عن صيد مكة ، كما قدَّمناه . ولاحجَّة فيه ؛ إذ ليس فيه مايدلُّ على أن ذلك الطير صيد في حرم المدينة ، بل نقول : إنه صيد في الحل ، وأدخل في الحرم . ويجوز للحلال أن يصيد في الحل ، ويدخله في الحرم ، ولا يجوز له أن يصيده في الحرم ، فيُفَرَّق بين ابتداء صيده ، وبين استصحاب إمساكه ، كما ذكرناه في الحج .
(17/137)
وفيه جواز لعب الصَّبي بالطير الصغير ، لكن الذي أجاز العلماء من ذلك : أن يمسك له ، وأن يلهو بحسنه . وأما تعذيبه ، والعبث به : فلا يجوز ؛ لأنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن تعذيب الحيوان إلا لمأكلة .
وفيه ما يدل على جواز المزاح مع الصغير ، لكن إذا قال حقًّا .
وفيه ما يدل على حسن خلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولطافة معاشرته ، وألفاظه ، ومنها : قوله لابن عمر : (( يا بني )) ، وكذلك قوله للمغيرة : ((أي بني )) ، فإنَّه نزله منزلة ابنه الصغير في الرحمة ، والرفق ، والشفقة .
وسؤال المغيرة عن الدجال إنما كان لما سمع من عظيم فتنته ، وشدَّة محنته ، فأجابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( وما يُصيبك منه ؟ إنه لن يضرَّك ؛ أي : ما يصيبك منه من النَّصَب والمشقَّة . وهكذا رواية الكافة . وعند الهوزني : (( ما ينضيك )) : بالضاد المعجمة ، والياء باثنتين من تحتها ، وكأنه من جهة قولهم : جمل نضوٌ ؛ أي : هزيل ، وأنضاه السَّير ؛ أي : أهزله . والأول أصح رواية ومعنًى .
وقوله : (( إنه لن يضرك )) ؛ يحتمل أن يريد : لأنك لا تدرك زمان خروجه . ويحتمل أن يكون إخبارًا منه بأنه يُعصم من فتنته ، ولو أدرك زمانه ، والله تعالى ورسوله أعلم .
وقول المغيرة : (( إنهم يزعمون : أن معه أنهار الماء ، وجبال الخبز )) ؛ هذا يدلّ على أن المغيرة كان قد سمع هذا الأمر عن الدَّجال من غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولم يحققه ، فعرض ذلك على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأجابه بقوله : (( هو أهون على الله من ذلك )). وظاهر هذا الكلام : أن الدَّجال لا يمتهن من ذلك لهوانه على الله ، وخسة قدره ، غير أن هذا المعنى قد جاء ما يناقضه في أحاديث الدجال الآتية . فيحتمل : أن يكون هذا القول صدر عنه قبل أن يوحى إليه بما في تلك الأحاديث . ويحتمل : أن يعود الضمير إلى تمكين الدجال من أنهار الماء ، وجبال الخبز ؛ أي : فعل ذلك على الله هين . والأوَّل أسبق ، والثاني لا يمتنع ، والله تعالى أعلم .
ومن باب الاستئذان وكيفيته وعدده
(17/138)
قوله في هذه الرواية : (( فسثمت ثلاثًا )) ؛ ليس مناقضًا لقوله في الأخرى : إنه استأذن ثلاثًا ؛ لأنَّ أبا موسى ـ رضى الله عنه ـ كان قد جمع بين السلام والاستئذان ثلاثًا ثلاثًا ، كما قد جاء منصوصًا عليه في الرواية الثالثة . وحاصل هذه الأحاديث : أن دخول منزل الغير ممنوع ؛ كان ذلك الغير فيها أو لم يكن ، إلا بعد الإذن . وهذا الذي نصَّ الله تعالى عليه بقوله : { لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } ، ثم قال بعد هذا : { فإن لم تجدوا فيها أحدًا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو ازكى لكم }. وهذا لا بدَّ منه ؛ لأنَّ دخول منزل الغير تصرُّف في ملكه ، ولا يجوز بغير إذنه ؛ لأنَّه يطلع منه على ما لا يجوز الاطلاع عليه من عورات البيوت ، فكانت هذه المصلحة في أعلى رتبة المصالح الحاجيَّة .
ولما تقرَّر هذا شرعًا عند أبي موسى استاذن أبو موسى على عمر رضي الله عنهما ، ولما كان عنده علم بكيفية الاستئذان وعدده : عمل على ما كان عنده من ذلك . فلما لم يؤذن له : رجع . وأما عمر ـ رضى الله عنه ـ فكان عنده العلم بالاستئذان ، ولم يكن عنده علم من العدد ، فلذلك أنكره على أبي موسى إنكار مستبعد من نفسه أن يخفى عليه ذلك من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ملازمته النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حضرًا وسفرًا ملازمة لم تكن لأبي موسى ولا لغيره ، وإنكار من سدَّ باب الذريعة في التقوُّل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولذلك أغلظ على أبي موسى بقوله : أقم عليه البينة ، وإلا أوجعتك ، ولأجعلنك عظة . فلما أتاه بالبينة قال : إنما أحببت أن أتثبت .
(17/139)
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه ؛ منها : أن الاستئذان لا بد أن يكون ثلاثًا ، فإذا لم يؤذن له بعد الثلاث ؛ فهل يزيد عليها أو لا ؟ قولان لأصحابنا . الأولى أن لا يزيد ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الاستئذان ثلاث ، فإنَّ أذن لك ، وإلا فارجع )) ؛ وهذا نصٌّ . إنَّما خصَّ الثلاث بالذكر ؛ لأنَّ الغالب أن الكلام إذا كُرر ثلاثًا سمع وفهم . ولذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه ، وإذا سلَّم على قومٍ سلَّم عليهم ثلاثًا . وإذا كان الغالبُ هذا ، فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن ربَّ المنزل لا يريد الإذن ، أو لعله يمنعه من الجواب عذر لا يمكنه قطعه . فينبغي للمستأذن أن ينصرف ، لأن الزيادة على ذلك قد تقلق ربَّ المنزل ، وربما يضرُّه الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشتغلاً به ، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي أيوب ـ رضى الله عنه ـ حين استأذن عليه ، فخرج مستعجلاً فقال : (( لعلنا أعجلناك )).
ومنها : قبول أخبار الآحاد ، ووجوب التثبُّت فيها ، والبحث عن عدالة ناقليها ؛ لأنَّ أبا موسى لما أخبر عمر رضي الله عنهما بأن أُبي بن كعب يشهد له قال : عَدْلٌ .
ومنها : حماية الأئمة حوزة الرواية عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والإنكار على من تعاطاها إلا بعد ثبوت الأهليَّة وتحققها .
ومنها : أن المستأذن حقَّه أن يبدأ بالسلام ، ثم يذكر اسمه ، وإن كانت له كنية يُعرف بها ذكرها ، كما فعل أبو موسى ، وكل ذلك ينبغي في تحصيل التعريف التام للمستأذن عليه ؛ فإنَّه إن أُشكل عليه اسم عرف آخر. وقال بعض أصحابنا : هو بالخيار بين أن يُسمي نفسه أو لا ، والأولى ما فعله أبو موسى ، فإنَّ فعله ذلك إن كان توقيفًا ؛ فهو المطلوب . وإن لم يكن توقيفًا ؛ فبه يحصل التعريف الذي لأجله شرع الاستئذان ، ثم رأي الصحابي راوي الحديث أولى من هذا القول الحديث.
(17/140)
وقوله : (( فقال أُبي ابن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم ، فقام أبو سعيد ، فأعلمه بذلك )) ، وفي الرواية الأخرى : (( إن أُبي بن كعب أخبره بذلك )) ؛ ولا تباعد فيهما ، فإنَّه أخبره بذلك كلاهما : أبو سعيد(2) أولاً حين أتاه إلى منزله ، وأُبي ثانيًا لما اجتمع به عمر في المسجد . وهذا كله يدلُّ على شهرة الحديث عندهم ، ومع ذلك فلم يعرفه عمر ، ولا يُستنكر هذا ، فإنَّه من ضرورة أخبار الآحاد .
وقوله : (( جعلوا يضحكون )) ؛ إنما ضحكوا من جزع أبي موسى من تهديد عمر ، مع علمهم : بأن ذلك لا يتمُّ منه ؛ لأنَّ ما طلبه من البينة موجودة ، ولأن عمر لم يكذبه ، ولا مقصوده جلده ، ولا إهانته ، بل : التغليظ والحماية .
وقول عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( خفي عليَّ هذا من أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ إنما قاله عاتبًا على نفسه ، وناسبًا لها إلى التقصير ، ثم بيَّن عذره بقوله : ((ألهاني عنه الصَّفق بالأسواق )). وفي البخاري : يعني : الخروج إلى التجارة . وألهاني : شغلني . والصَّفق : البيع ، وسمي بذلك لأنهم كانوا يتواجبون البيع بالأيدي ، فيصفق كل واحد منهم بيد صاحبه . ومنه قيل للبيعة : صفقة.
وقول أُبيّ لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما : (( لا تكونن عذابًا على أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ يدلُّ على ما كانوا عليه من القوَّة في دين الله ، وعلى قول الحق ، ومن قبوله ، والعمل به ، فإنَّ أُبيًّا أنكر على عمر تهديده لأبي موسى ، فقام بما عليه من الحق . ولما تحقق عمر الحقَّ قَبِلَه ، واعتذر عما صدر عنه ـ رضى الله عنهم ـ أجمعين .
ومن باب كراهية أن يقول : أنا عند الاستئذان
(17/141)
قول جابر ـ رضى الله عنه ـ : استأذنت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( من ؟ )) دليلٌ على جواز الاستئذان من غير ذكر اسم المستأذن ، إلا أن الأحسن أن يذكر اسمه كما تقدَّم في حديث أبي موسى ، ولأن في ذكر اسمه إسقاط كلفة السؤال والجواب . وكراهة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قول جابر في جوابه : أنا ، أنا . يحتمل أن يكون لذلك المعنى . ويحتمل : أن يكون ، لأن (( أنا )) لا يحصل بها تعريف ، وهو الأولى . وقيل : إنما كره ذلك لأنَّه دق عليه الباب على ما روي في غير كتاب مسلم ، وفي هذا التأويل بُعد ؛ لأنَّه إنما فهمت الكراهة عنه من قوله : (( أنا ، أنا )). ولم يذكر الدَّق ، ولا نبَّهه عليه ، فكيف يعدل عما نطق به وكرَّره مُنكِرًا له ، ويصار إلى ما لم يجز له ذكره ؟!
وقوله : (( إن رجلاً اطَّلع من جحرٍ في باب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ هذا الفعل يحرم قطعًا ، وخصوصًا في بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعظيم حرمته ، وحرمة أزواجه ، لا جرم عتق على هذا الفعل من العقوبة جواز الطعن في عين الناظر ، كما ظهر من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن فعله ، وقد تقدَّم الكلام على هذا وذكر الخلاف فيه في كتاب القصاص .
غريب : (( الجحر )) : واحد الجحرة . وهي : مكامنُ الوحش ، ولما كانت نقبًا في الأرض سُمي بذلك النقب في الباب ، وفي الحائط ، وغير ذلك . و(( الْمِدرى )) : بالدال المهملة : واحد المداري . قال ثابت : هي الأمشاط ، وفي هذا التفسير تسامح ، وأوضح منه وأصح ، قول النضر بن شميل ، وابن كيسان : أنَّه عود ، أو عاج تنشر به المرأة شعرها وتجيده . قال امرؤ القيس :
غَدائِرُه مُسْتَشْزِرات إلى العُلا تضل الْمَدَاري في مُثَنًّى ومرسل
ومؤنثه : مدراة ، وقد عثر عنه في الرواية الأخرى : بمشقص ، وبمشاقص ، وقد قلنا : إن المشقص نصلٌ عريض . وقيل : هو السِّكين . فيحتمل أن يكون هذا المدرى من حديد ، فكما يعمل من عاج ، وعود ، يجوز أن يعمل من حديد ، أو يكون شبَّهه بالسِّكين .
(17/142)
و (( يختله )) : يراوغه ، ويخادعه . و(( فخذفته )) بالخاء المعجمة : هي الرواية الصحيحة ، ومن رواها بالحاء المهملة فقد أخطا ؛ فإنَّ الخذف بالخاء : بالحجر ، والحذف با لمهملة با لعصا .
و (( الجناح )) : الإثم ، والمؤاخدة ، ونحوه : الحرج ، وأصله من الضيق ، ومنه قوله تعالى : { ومن يرد الله أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجُا } ،
بكسر الراء ، وقُرِنث بالفتح : (( كالقَرِد والقرَد )) ، والدَّنِف والدَّنَف .
وقوله : (( إنما جعل الاستئذان من أجل البصر )) ؛ دليل على صحة التعليل القياسي . فهو حجَّة الجمهور على نُفاة القياس .
وقوله : (( يرجل به رأسه )) ؛ دليل على استحباب إصلاح الشعر ، وإكرامه ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من كانت له جُمَّةٌ فليكرمها )) ، ولكن لا ينتهي بذلك إلى أن يخرج إلى الترفه والتَّرف المنهي عنه بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فيما رواه عنه فضالة بن عبيد ـ رضى الله عنه ـ حيث قال : (( نهانا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كثير من الإرفاه ، وأمرنا أن نحتفي أحيانًا )).
و (( التَّرجُّل )) : مشط الشعر وتكسيره .
قلت : كان يمكن أن يُحمل حديث سهل وأنس على أن الذي همَّ به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طعن المطلع على الخصوص ببيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعظيم حرمته ، وحرمة أهل بيته ، غير أن حديث أبي هريرة يقتضي إباحة ذلك الطعن عامة لبيته ، وبيت غيره ، فإنَّه قال فيه : (( من اطَّلع في بيتٍ بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه )) ؛ فإذًا هذا الحكم ليس مخصوصًا به .
وقوله : (( فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه )) ؛ نصٌّ في الإباحة والتحليل ، وعلى هذا : فلا يلزم ضمان ، ولا دية إذا وقع ذلك . ولا يستبعد هذا من الشرع ، فإنه عقوبة على جناية سابقة ، غير أن هذا خرج مخرج التعزيرات ، لا مخرج الحدود ، ألا ترى قوله : (( فقد حل )) ، ولم يقل : فقد وجب . وإنما مقصود هذا الحديث إسقاط القود ، والمؤاخذة بذلك إن وقع ذلك .
(17/143)
وقوله : (( لو أن رجلا اطَّلع عليك بغير إذنٍ ، ففقأت عينه ما كان عليك من حرج )) ؛ ظاهر قوي في الذي قرَّرناه ، ويفيد أيضًا أن هذا الحكم جارٍ فيمن اطَّلع على عورة الإنسان ، وإن لم يكن من باب . فإنَّ قوله : اطَّلع عليك ، يتناول كل مطلع كيفما كان ، ومن أي جهة كان . بل : يتعيَّن أن يقال : إن الشرع إذا علَّق هذا الحكم على الاطلاع في البيت ؛ لأنه مظنة الاطلاع على العورة ، فلأن يعلق على نفس الاطلاع على العورة أحرى ، وأزلى ، وهذا نظر راجح ، غير أن أصحابنا حكوا الإجماع على أن من الملع على عورة رجل بغير إذنه ، ففقا عينه : أنه لا يسقط عنه الضمان ، كما ذكرناه . فإنَّ صخ هذا الإجماع ، فهو واجب الاتباع . لى ان وجد خلاف فما ذكرناه هو الإنصاف .
ومن باب نظرة الفجأة وتسليم الراكب على الماشي
قوله : (( سألته عن نظرة الفجاة فأمرني أن أصرف بصري )) ؛ الفجاءة : بضم الفاء استدامة والمدِّ والهمز : مصدر فجأني الأمر يفجؤني فُجاءَة : إذا صادفك بغتة من غير قصد . ومنه : قَطَرِيُّ بن الفجاءة ؛ اسم رجل . ويقال : فاجأني ، يفاجئني ، مفاجأةً ، وفجاء . لم انما أمره أن يصرف بصره عن استدامة النظر إلى ما وقع عينه عليه أول مرة ؛ وإنما لم يتعرض لذكر الأولى ؛ لأنَّها لا تدخل تحت خطاب تكليف ؛ إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودًا ، فلا تكون مكتسبة ، فلا يكون مكلفًا بها ، فأعرض عما ليس مكلَّفًا به ، ونهاه عما يُكلَّف به ؛ لأنَّ استدامة النظر مكتسبة للإنسان ؛ إذ قد يستحسن ما وافقه بصره ، فيتابع النظر ، فيحصل المحذور - وهو النظر إلى ما لا يحل -. ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ : (( لا تتبع النظرة النظرة ، فإنما لك الأولى ، وليست لك الثانية )).
(17/144)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يُسلِّم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثير )) ؛ قد تقدَّم الأمر بالسلام ، وبإفشائه في كتاب الإيمان ، ولا خلاف بين العلماء في أن الابتداء بالسلام سُنَّة ، وأن الرد واجب ، قاله أبو محمد عبد الوهاب . وقال أبو عمر بن عبدالبر : أجمع العلماء : على أنَّ الابتداء بالسَّلام سُنَّة والردُّ فريضة . غير أن أبا عبدالله المازري قال : الابتداء بالسَّلام سُنَّة والردُّ واجب في المشهور ؛ فإذا ردَّ واحدٌ من الجماعة أجزأ عنهم ، ثمَّ إن الناس في الابتداء بالسَّلام إما أن تتساوى أحوالهم ، أو تتفاوت . فإن تساوت فخيرهم الذي يبدأ صاحبه بالسلام : كالماشي على الماشي ، والراكب على الراكب ، غير أن الأولى مبادرة ذوي المراتب الدينية ، كأهل العلم ، والفضل احترامًا لهم ، وتوقيرًا ، وأما ذوو المراتب الدنيوية المحضة فإنَّ سلَّموا رُدَّ عليهم ، وإن ظهر عليهم إعجاب ، أو كبر فلا يُسلَّم عليهم ؛ لأنَّ ذلك معونة لهم على المعصية ، وإن لم يظهر ذلك عليهم جاز أن يُبدؤوا بالسَّلام ، وابتداؤهم هم بالسلام أولى بهم ؛ لأنَّ ذلك يدلّ على تواضعهم ، وإن تفاوتت فالحكم فيها على ما يقتضيه هذا الحديث ، فيبدأ الراكب بالسَّلام على الماشي لعلوِّ مرتبته ؛ ولأنَّ ذلك أبعد له من الزهو . وأمَّا الماشي : فقد قيل فيه مثل ذلك ، وفيه بُعد ؛ إذ الماشي لا يزهى بمشيه غالبًا . وقيل : هو معلل : بأن القاعد قد يقع له خوف من الماشي ؛ فاذا بدأه بالسَّلام أمن ذلك ، وهذا أيضًا بعيد ؛ إذ لا خصوصية للخوف بالقاعد ، فقد يخاف الماشي من القاعد ، وأشبه من هذا أن يقال : إن القاعد على حال وقار وثبوت وسكون ، فله مزيَّة بذلك على الماشي ؛ لأنَّ حاله على العكس من ذلك . وأما ابتداء القليل بالسَّلام على الكثير فمراعاة لشرفية جمع المسلمين ، وأكثريتهم .
(17/145)
وقد زاد البخاري في هذا الحديث : (( ويسلم الصغير على الكبير )) ، وهذه المعاني التي تكلَّف العلماء إبرازها هي حكم تناسب المصالح المحسِّنة والمكمِّلة ، ولا نقول : إنها نصبت نصب العلل الواجبة الاعتبار ، حتى لا يجوز أن يعدل عنها ، فنقول : إن ابتداء القاعد للماشي غير جائز ، وكذلك ابتداء الماشي الراكب ، بل يجوز ذلك ؛ لأنَّه مُظهر للسَّلام ، ومفشٍ له كما أمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( أفشوا السَّلام بينكم )) ، وبقوله : (( إذا لقيت أخاك فسلم عليه )) ، وإذا تقرر هذا فكل واحد من الماشي والقاعد مأموز بأن يسلِّم على أخيه إذا لقيه ، غير أن مراعاة تلك المراتب أولى ، والله أعلم .
ثم هذا السَّلام المأمور به ، وهو أن يقول : السَّلام عليكم ، أو : سلامٌ عليكم ؛ إذ قد جاء اللفظان في الكتاب والسنة . والسلام في الأصل بمعنى : السلامة ، كاللذاذ واللذاذة ، كما قال تعالى : { فسلامٌ لك من أصحاب اليمين } ؛ أي : سلامةٌ لك مني وأمان ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((السلام أمان لذمتنا ، وتحيَّة لملتنا )). والسَّلام أيضًا : اسم من أسماء الله تعالى ، كما قال تعالى : { السَّلام المؤمن المهيمن} ، ومعناه في حق الله تعالى : أنه المنزه عن النقائص والآفات التي تجوز على خلقه . وعلى هذا : فيكون معنى قول المسلم : السلام عليك ؛ أي : الله مطلع عليك ، وناظر إليك ، فكأنَّه يذكره باطلاع الله تعالى ، وبخوفه به ليأمن منه ، ويُسلِّمُه من شرِّه ، فإذا أُدخلت الألف واللام على المعنى الأول كان معناه : السلامة كلها لك مني ، وإذا أدخلت على اسم الله تعالى : كانت تفخيمًا وتعظيمًا ؛ أي : الله العظيم السليم من النقائص ، والآفات ، المسلِّم لمن استجار به من جميع المخلوقات . ويقال في السَّلام : سِلْمٌ - بكسر السين - قال الشاعر :
وققنا فقُلنا إيهِ سِلْمًا فسلَّمَت كما انْكَلَّ بالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوائِحُ
(17/146)
ولا يقل المبتديء : عليك السَّلام ، لنهي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك فيما رواه النِّسائي ، وأبو داود من حديث جابر بن سليم قال : لقيت رسول الله في فقلت : عليك السَّلام يا رسول الله ! فقال : (( عليك السلام تحية الميت ، السلام عليك - ثلاثا - )) ؛ أي : هكذا فقل .
وقوله : (( عليك السَّلام تحيَّة الْمَيِّت )) ؛ يعني أنه الأكثر في عادة الشعراء ، كما قال :
عليك سلام الله قيسُ بن عاصمٍ ورَحْمَتُه ماشاء أن يَتَرحَّما
لا أن ذلك اللفظ هو المشروع في حق الموتى ؛ لأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد سلَّم على الموتى ، كما سلَّم على الأحياء ، فقال : (( السَّلام عليكم دار قومٍ مؤمنين )). ويتأكد تقديم لفظ السَّلام إذا تنزلنا على أن السَّلام اسم من أسماء الله تعالى ، فإنَّ أسماءه تعالى أحقُّ بالتقديم . وأما الرادُّ : فالواجب عليه أن يردَّ ما سمعه ، والمندوب أن يزيد إن بقَّى له المبتدىء ما يزيد ، فلو انتهى المبتدىء بالسلام إلى غايته ؛ التي هي : السَّلام عليك ورحمة الله وبركاته ؛ لم يزد الرادُّ على ذلك شيئًا ؛ لأنَّ السلام انتهى إلى البركة ، كما قاله عبدالله بن عباس. وقد أنكر عبدالله بن عمر على من زاد على ذلك شيئًا ، وهذا كلُّه مستفادٌ من قوله تعالى : {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } ؛ أي : يحاسب على الأقوال كما يحاسب على الأفعال .
(17/147)
وقوله : (( ما لكم ولمجالس الصُّعدات ، اجتنبوا مجالس الصُّعدات )) ؛ الصُّعدات : جمع صعيد ، وهو الطريق مطلقًا . وقيل : الطريق الذي لا نبات فيه ؛ مأخوذ من الصعيد ، وهو : التراب على قول الفرَّاء ، أو وجه الأرض على قول ثعلب . ويجمع : صُعُدا ، وصعدات ، كطرق وطرقات . وقد جاء الصعيد في الرواية الأخرى مفسَّرًا بالطريق . وهذا الحديث إنكارٌ للجلوس على الطرقات ، وزجرٌ عنه ، لكن محمله على ما إذا لم ترهق إلى ذلك حاجة ، كما قالوا : ما لنا من ذلك بُدٌّ ؛ نتحدَّث فيها . لكن العلماء فهموا : أن ذلك المنع ليس على جهة التحريم ، وإنَّما هو من باب سدِّ الذرائع ، والإرشاد إلى الأصلح ، ولذلك قالوا : إنما قعدنا لغير ما بأس ، قعدنا نتذاكر ونتحدَّث ؛ أي : نتذاكر العلم والدين ، ونتحدَّث بالمصالح والخير ، ولما علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم ذلك ، وتحقَّق حاجتهم إليه ؛ أباح لهم ذلك ، ثم نبَّههم على ما يتعتين عليهم في مجالسهم تلك من الأحكام .
وقوله : (( إمَّا لا )) ؛ هي : (( إن )) الشرطية المكسورة زيدت عليها (( ما )) تأكيدًا للنَّفي ، و(( لا )) عبارة عن الامتناع والإباية ، فكأنَّه قال : إن كان ولا بُدَّ من إبايتكم ، ولا غنى لكم عن قعودكم فيها ؛ فاعطوا الطريق حقَّها . فلمَّا سمعوا لفظ الحق - وهو مجمل - سألوا عن تفصيله ، ففصَّله لهم بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( غضُّ البصر ، وكفُّ الأذى ، وردُّ السَّلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر )). وهذه الحقوق كلها واجبة على من قعد على طريق . ولما كان القعود على الطريق يُفضي إلى أن يتعلق بها هذه الحقوق ، ولعلَّه لا يقوم ببعضها فيتعرَّض لذمِّ الله تعالى ولعقوبته كره القعود فيها ، وغلَّظ بالزجر المتقدِّم ، والإنكار ، فإنَّ دعت إلى ذلك حاجة ، كالاجتماع في مصالح الجيران ، وقضاء حوائجهم ، وتفقد أمورهم ، إلى غير ذلك ، قعد على قدر حاجتهم ، فإنَّ عرض له شيء من تلك الحقوق وجب القيام به عليه .
(17/148)
و (( كف الأذى )) ؛ يعني به : ألا يؤذي بجلوسه أحدًا من جلسائه بإقامته من مجلسه ولا بالقعود فوقه ، ولا بالتضييق عليه ، ولا يجلس قبالة دار جاره ، فيتأذى بذلك . وقد يكون كفُّ الأذى : بأن يكف بعضهم عن بعض ، إلا أن هذا يدخل في قسم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فحمله على المعنى الأول أولى .
وقوله : (( وحسن الكلام )) ؛ يريد أن من جلس على الطريق فقد تعرض لكلام الناس ، فليحسِّن لهم كلامه ، ويصلح شأنه .
وقوله : (( حق المسلم على المسلم ست )) ؛ أي : الحقوق المشتركة بين المسلمين عند ملابسة بعضهم لبعض. والحق لغة ؛ هو : الثابت . ونقيضه هو : الباطل . والحق في الشريعة : يقال على الواجب وعلى المندوب المؤكد ، كما قال : (( الوتر حق )) ؛ لأن كل واحدٍ منهما ثابت في الشرع ، فإنَّه مطلوب مقصود قصدًا مؤكدًا ، غير أن إطلاقه على الواجب أوَّلُ ، وأولى . وقد أطلق في هذا الحديث الحق على القدر المشترك بين الواجب والندب ، فإنَّه جمع فيه بين واجبات ومندوبات ، وقد تقدَّم أن الابتداء بالسَّلام سنة . وأما إجابة الدعوة : فواجبة في الوليمة كما تقدَّم ، وفي غيرها مندوب إليها . وأما النَّصيحة : فواجبة عند الاستنصاح ، وفي غيره تفصيل على ما تقدَّم في كتاب الإيمان . وأما تشميت العاطس : فاختلف فيه على ما يأتي . وأما عيادة المريض : فمندوب إليها إلا أن يخاف ضياعه فيكون تفقده ، وتمريضه واجبًا على الكفاية . وقد تقدَّم الكلام على اتباع الجنائز .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسلِّم على الصبيان ؛ إنما كان ليبيِّن مشروعية ذلك ، وليفشي السَّلام ، ولينالوا بركة تسليمه عليهم ، وليعلمهم كيفية التسليم وسنته ، فيألفوه ، ويتمرَّنوا عليه.
ومن باب لا يُبدأ أهل الذمَّة بالسلام
(17/149)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسَّلام )) ؛ إنما نهى عن ذلك لأن الابتداء بالسلام إكرام ، والكافر ليس أهلاً لذلك ، فالذي يناسبهم الإعراض عنهم ، وترك الإلتفات إليهم ، تصغيرًا لهم ، وتحقيرًا لشأنهم ، حتى كأنهم غير موجودين .
وقوله : (( وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه )) ؛ أي : لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكرامًا لهم واحترامًا . وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى والعطف . وليس معنى ذلك : أنا إذا لقيناهم في طريق واسع أنَّا نلجئهم إلى حَرْفِه حتى نضيِّق عليهم ؛ لأنَّ ذلك أذى منا لهم من غير سبب ، وقد نهينا عن أذاهم .
و (( السَّام )) : الموت . كما قال : (( في الحبَّة السوداء شفاءٌ من كل داء إلا السَّام )). والسَّام : الموت . وقيل : السَّام : من السامة ، وهو الهلال ، يقال : سَئم يَسْأمُ سَآمة وسَآمًا ، وهو تأويل قتادة .
قلت : وعلى هذا القول : فتُسَهَّلُ همزة سأما وسامة ، فيكون كاللَّذاذ واللَّذَاذة ، وعلى الأوَّل الجمهور .
و (( عليك )) بغير واو : هي الرواية الواضحة المعنى ، وأما مع إثبات الواو : ففيها إشكال ؛ لأنَّ الواو العاطفة تقتض التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه ، فيلزم منه أن تدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت ، أو من سآمة ديننا. فاختلف المتأولون في ذلك فقال بعضهم : الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر :
فلمَّا أجَزْنا ساحة الحيِّ وانتحى
أى : لما أجزنا انتحى ، فزاد ((الواو )) . وقيل : إن (( الواو )) في الحديث للاستئناف فكأنه قال : والسَّام عليكم . وهذا كله فيه بُعد ، وأوَّلى من هذا كُلّه أن يقال : إن (( الواو )) على بابها من العطف غير أنا نجاب عليهم ، ولا يجابون علينا . كما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ورواية حذف (( الواو )) أحسن معنى ، وإثباتها أصح رواية وأشهر .
(17/150)
وقد اختلف في ردِّ السَّلام على أهل الذِّمَّة ؛ هل هو واجبٌ كالرد على المسلمين ؟ وإليه ذهب ابن عبَّاس ، والشعبي ، وقتادة تمسُّكًا بعموم الآية ، وبالأمر بالردِّ عليهم بالذي في هذه الأحاديث . وذهب مالك فيما روى عنه أشهب ، وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإنَّ رددت ؛ فقل : عليك. والاعتذار عن ذلك : بأن ذلك بيان أحكام المسلمين ؛ لأن سلام أهل الذمة علينا ليس تحية لنا ؛ وإنما هو دعاء علينا ، كما قد بيَّنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( إنما يقولون : السَّام )) ، فلا هم يحيوننا ، ولا نحن نرد عليهم تحيَّة ، بل دعاء عليهم ولعنة ، كما فعلته عائشة رضي الله عنها ، وأمره لنا بالرد ، إنما هو لبيان الرد لما قالوه خاصة ، فإنَّ تحققنا من أحدهم أنه تلفظ بالسَّلام رددنا عليه بعليك فقط ؛ لإمكان أن يريد بقلبه غير ما نطق بلسانه ، وقد اختار ابن طاووس أن يقول في الرد عليهم : علاكَ السَّلام ؛ أي : ارتفع عنك . واختار بعض أصحابنا : السِّلام - بكسر السين - ؛ يعني به الحجارة ، وهذا كلّه تكلُّف . بل : ما قاله مالك كاف شاف .
وقول عائشة رضي الله عنها : (( بل عليكم السَّام والذَّام )). الذَّام بتخفيف الميم ؛ الرواية المشهورة فيه بالذال المعجمة : وهو العيب ، ومنه : المثل : لا تعدم الحسناء ذامًا ؛ أي : عيبًا ، ويهمز ، ولا يهمز . ويقال : ذأمه يذأمه . مثل : دأب عليه يدأب ، والمفعول : مذؤوم - مهموزً - ومنه : { مذؤومًا مدحورًا } ، ويقال : ذأمه يذومه - مخففًا - كرأمه ، يرومه . قال الأخفش : الذَّم أشدُّ العيب . وقد وقع للعذري هذا الحرف (( الهام )) بالهاء . يعني : هامة القتيل وصداه التي كانت العرب تتحدَّث بها ، وهي من أكاذيبها كما تقدَّم . وتعني بذلك عائشة على هذا : القتل ؛ دعت عليه بالموت والقتل ، وقاله ابن الأعرابي بالدال المهملة ، وفسَّره بالدائم ، والصواب الأول إن شاء الله تعالى .
(18/1)
وقوله : (( فطنت بهم عائشة )) ؛ صحيح الرواية بفاء وطاء مهملة ونون من الفطنة ، والفهم . أي : فهمت عنهم ما قالوه . ولابن الحذَّاء : فقلبت . بقاف وباء بواحدة من التقطيب في الوجه ، وهو العَبْسَة والغضب . وقد جاء مفسَّرا في الرواية الأخرى .
وقوله لعائشة : (( مه )) ؛ معناه : اكففي . كما تقدَّم .
وقوله : (( لا تكوني فاحشة )) ؛ أي : لا يصدر عنك كلام فيه جفاء. والفحش : ما يستفحش من الأقوال ، والافعال . غير أنَّه قد كثر إطلاقه على الزنى ، وهو غير مراد هنا قطعًا. وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة رضي الله عنها أمر بالتثبت ، والرفق ، وترك الاستعجال ، وتأديبٌ لها لما نطقت به من اللَّعنة وغيرها ، والله تعالى أعلم .
ومن باب احتجاب النساء وما يُخفَّف عنهن من ذلك
قوله : (( كن يخرجن بالليل يتبرَّزن إلى المناصع )) ؛ يتبرَّزن : يخرجن إلى البَرَاز-بفتح الباء- وهو الموضع الذي يُتبرَّز فيه ؛ أي : يظهر. والبروز : الظهور ، ومنه : { وترى الأرض بارزة } ؛ أي : ظاهرة . مستوية لا يحجبها شيء ، كما قال تعالى : { لا ترى فيها عوجًا ولا أمتا }.
و (( المناصع )) : موضع خارج المدينة .
وقوله : (( وهو صعيد أفيح )) ؛ أي : أرض مستوية متسعة ، وذلك كناية عن خروجهن إلى الحدث ؛ إذ لم يكن لهم كنف في البيوت ؛ كانوا لا يتخذونها استقذارًا ، فكانت النساء يخرجن بالليل إلى خارج البيوت ، ويبعدن عنها إلى هذا الموضع . وقد نصَّت على هذا عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك .
وقول عمر ـ رضى الله عنه ـ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( احجب نساءك )) ؛ مصلحة ظهرت لعمر فأشار بها ، ولا يظن بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تلك المصلحة خفيت عليه ، لكنَّه كان ينتظر الوحي في ذلك ، ولذلك لم يوافق عمر على ذلك حين أشار عليه به ، لا سيما وقد كانت عادة نساء العرب ألا يحتجبن لكرم أخلاق رجالهم ، وعفاف نسائهم غالبًا ، ولذلك قال عنترة :
وأغُضُّ طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
(18/2)
فلما لم يكن هنالك ريبًا ؛ تركهم ، ولم ينههم استصحابًا للعادة ، وكراهة لابتداء أمرٍ أو نهي ؛ فإنَّه كان يحبُّ التخفيف عن أمته .
ففيه من الفقه : الإشارة على الإمام بالرأي ، وإعادة ذلك إن احتاج إليها ، وجواز إشارة المفضول على الفاضل ، وجواز إعراض المشار عليه ، وتأخير الجواب إلى أن يتبيَّن له وجة يرتضيه .
وقول عمر ـ رضى الله عنه ـ في هذا الحديث : (( ألا قد عرفناك يا سودة )) ؛ يقتضي : أن ذلك كان من عمر ـ رضى الله عنه ـ قبل نزول الحجاب ؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها قالت فيه : حرصًا على أن ينزل الحجاب ، فأنزل الحجاب. والرواية الأخرى تقتضي أن ذلك كان بعد نزول الحجاب ، فالأولى أن يحمل ذلك على أن عمر تكرر منه هذا القول قبل نزول الحجاب وبعده ، ولا بُعد فيه . ويحتمل أن يحمل ذلك على أن بعض الرواة ضمَّ قضة إلى أخرى ، والأول أولى ؛ فإنَّ عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ وقع في قلبه نفرة عظيمة ، وأنفه ، شديدة من أن يطلع أحدٌ على حرم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى صرح له بقوله : احجب نساءك ؛ فإنَّهن يراهن البر والفاجر . ولم يزل ذلك عنده إلى أن نزل الحجاب ، وبعده . فإنه كان قصده : ألا يخرجن أصلاً ، فأفرط في ذلك فإنَّه مفضي إلى الحرج والمشقة ، والإضرار بهن ، فإنَّهن محتاجات إلى الخروج ، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما تأذَّت بذلك سودة : (( قد أذن لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتهنَّ )).
(18/3)
وقوله : (( فأنزل الحجاب )) ؛ أي : آية الحجاب ؛ وهي قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} ، إلى قوله : { وإذا سألتموهن متعًا فسئلوهن من وراء حجاب }. كذلك روي عن أنس وابن مسعود رضي الله عنهما ؛ غير أن هذا يتوجَّه عليه إشكال ، وهو : أن حديث أنس وابن مسعود يقتضي : أن سبب نزولها هو : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أعرس بزينب اجتمع عنده رجال فجلسوا في بيته ، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط ، فأطالوا المجلس حتى ثقلوا عليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وحديث عائشة يقتضي أن الحجاب إنَّما نزل بسبب قول عمر : احجب نساءك . ويزول ذلك الإشكال بأن يقال : إن الآية نزلت عند مجموع السَّببين . فيكون عمر قد تقدَّم قوله : احجب نساءك ، وكرر ذلك عليه إلى أن اتفقت قضة بناء زينب ، فصدقت نسبة نزرل الآية لكل واحد من ذينك السَّببين .
قلت : وهذا الحجاب الذي أمر به أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخُصِّصن به هو في الوجه والكفين .
قال القاضي عياض : لا خلاف في فرضه عليهن في الوجه والكفين الذي اختلف في ندب غيرهن إلى ستره ، قالوا : ولا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا غيره ، ولا ظهور أشخاصهن ، وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج إلى البراز ، وقد كن إذا خرجن جلسن للناس من وراء سجاب ، لي إذا خرجن لحاجتن حجبن وسترن .
وقوله : (( تفرع النساء جسمًا )) ؛ أي : طولاً . يقال : فرعت القوم ؛ أي طلتهم. و(( انكفأت )) صوابه بالهمزة ، بمعن : انقلبت وانصرفت. يقال : كفأت القوم كفئًا : إذا أرادوا وجها فصرفتهم إلى غيره ، فانكفؤوا. ووقع لبعض الرواة : انكفت - بحذف الهمزة والألف - ، وكأنه لما سفل الهمزة بقيت الألف ساكنة ، فلقيها ساكن فحذفت .
و (( العزق ))- بفتح العين وسكون الراء - : العظم الذي عليه اللحم. واعترقت العظم ، وتعرَّقته : إذا تتبعت ما عليه من اللحم . والعراق : العظم الذي لا لحم عليه .
(18/4)
وقوله : (( قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن )) ؛ لا خلاف في أن المرأة إن تخرج لما تحتاج إليه من أمورها الجائزة لكنها تخرج على حال بذاذة ، وتستُّر ، وخشونة ملبس ؛ بحيث يستر حجم أعضائها ، غير متطيِّبة ، ولا متبرِّجة بزينة ، ولا رافعة صوتها . وعلى الجملة فالحال التي يجوز لها الخروج عليها : أن تكون بحيث لا تمتد لها عين ، ولا تميل إليها نفس ، وما أعدم هذه الحالة في هذه الأزمان ؛ لما يظهرن من الزينة والطيب ، والتبختر في الملابس الحسان ، فمسامحتهن في الخررج على تلك الحال فسوق وعصيان . فإنَّ قيل : فما الزينة التي اسثنى الله تعالى لهن إظهارها في قوله : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } ، فالجواب : إن ذلك اختلف فيه . فقال ابن مسعود : إنها الثياب . يعني بذلك : ثيابها التي تستتر بها ، ولا تُسْتَر هي ، كالملحفة ، والخمار. وعلى هذا فلا يجوز أن تبدي مما تحت ذلك شيئًا ؛ لا كحلاً ، ولا خاتمًا ، ولا غير ذلك مما يستر بالملحفة والخمار . وقال ابن عباس والمسور : هي الكحل ، والخاتم ؛ يعني : أن العين لا يمكن سترها ، وقد تتناول بيد الخاتم ما تحتاج إليه . وقال الحسن ومالك : هو الوجه ، والكفان ؛ لأنَّهما ليسا بعورة ؛ إذ يجب كشفهما عليها في الإحرام عبادة ، ويظهر ذلك منها في الصلاة ، وهما اللذان يبدوان منها عادة . والكلُّ مجوجون : على أن المستثنى : هو ما يتعذر ستره إما عادة ، وإما عبادة ، وقد دلَّ على أن المطلوب من المرأة ستر ما تتمكن من ستره ؛ قول الله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن }. وقال تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين }.
(18/5)
فالخمار ما يلف على الرأس ، والحلق ، والجلباب اختلف فيه . فقال الحسن : هو الرداء . وقال ابن جبير : المقنعة . وقال قطرب : هو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها . وقال أبو عبيدة : أدنى الجلباب أن تغطي وجها إلا قدر ما تبصر منه .
فرع : إذا قلنا : إن الوجه والكفين ليسا بعورة ، وإنه يجوز لها كشفهما ؛ فاذا كانت بارعة الجمال ، وجب عليها أن تستر وجهها لئلا تفتن الناس ، فتكون من المميلات اللاتي قد توعدن بالنار ، وللكلام في هذا متسع ، وفيما ذكرناه مَقْنَعٌ .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ : (( إذنك عليَّ أن يرفع الحجاب وأن تسمع سوادي )). الرواية في : (( أن يرفع )) أن يبنى لما لم يسم فاعله . ولا يجوز غيرها . وسببه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل لعبد الله إذنًا خاصًّا به ، وهو أنه إذا جاء بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجد الستر قد رفع دخل من غير إذن بالقول ، ولم يجعل ذلك لغيره إلا بالقول . كما قال الله تعالى : { لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} ، وبقوله تعالى : { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم }. ولذلك كانت الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ تذكر ذلك في فضائل ابن مسعود ، فتقول : كان ابن مسعود يُؤدن له إذا حجبنا ، وكأن ابن مسعود كان له من التبسُّط في بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والانبساط ما لم يكن لغيره : لما علمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حاله ، ومن خلقه ، ومن إلفه لبيته .
ويستفاد من هذا الحديث أن ربَّ المنزل لو جعل رفع ستر بيته علامة على الإذن في الدخول إليه لاكتفي بذلك عن الاستئذان بالقول .
و (( السَّواد )) بكسر السين : الرواية ، وهو السِّرار . تقول : ساودته مساودة وسوادًا ؛ أي : ساررته . وأصله : إدناء سوادك من سواده - بفتح السين - وهو : الشخص .
ومن باب النهي عن المبيت عند غير ذات المحرم
(18/6)
وقوله : (( لا يبيتن رجل عند امرأة في ثيِّب إلا أن يكون ناكحًا ، أو ذا محرم )) ؛ هذا في الحديث دليلَ خطابٍ له بوجه ؛ لأنَّ الخلوة بالأجنبية - بكرًا كانت ، أو ثيبًا ، ليلاً أو نهارًا - محرمة بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان )) ، وبقوله : (( لا يدخلن رجلٌ على مغيِّبة إلا ومعه رجل ، أو رجلان )) ، وبقوله : (( إياكم والدخول على المغيبات )). وبالجملة فالخلوة بالأجنبية حرام بالاتفاق في كل الأوقات ، وعلى كل الحالات . وإنَّما خصَّ المبيت عند الثيب بالنهي ؛ لأنَّ الخلوة بالثيب في الليل هي التي تمكن غالبًا ، فإنَّ الأبكار يتعذر الوصول إليهن غالبًا للمبالغة في التحزز بهن ، ولنفرتهن عن الرجال ، ولأن الخلوة بالنهار تندر ، فخرج النهي على المتيسَّر غالبًا .
وقوله : (( إياكم والدخول على المغيبات )) ؛ هذا تحذير شديد ، ونصٌّ وكيد ، كما يقال : إياك والأسد ، وإياك والشرَّ ؛ أي : اتق ذلك واحذره ، والمنصوبان : مفعولان بفعلين مقدرين يدلّ عليهما المعنى .
و (( المغيبات )) : جمع مغيبة ، وهي التي غاب عنها زوجها ؛ يقال : غاب الزوج ، فهو غائب ، وأغابت زوجته في حال غيبته ، فهي مغيبة .
و (( الحمؤ )) : واحد الأحماء ، وهم قرابة الزوج ، مثل أخيه ، وعمه ، وابنيهما . ويقال لهؤلاء من جهة الزوجة : أختان . والصهر يجمع ذلك كله . وقد جاء الحمؤ في هذا الحديث مهموزًا ، والهمز أحد لغاته . ويقال فيه : حمو -بواو مضمومة- كدلو ، و(( حمى )) مقصور ، كـ(( عصا )). والأشهر فيه : أنه من الأسماء الستَّة المعتلَّة المضافة التي تعرب في حال إضافتها إلى غير ياء المتكلم بالوار رفعًا ، وبالألف نصبًا ، وبالياء خفضًا ؛ فتقول : جاءني حموك ، ورأيت حماك ، ومررت بحميك .
(18/7)
وقوله : (( الحمؤ الموت )) ؛ أي : دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة ؛ أي : فهو مُحرَّم معلوم التحريم ، وإنَّما بالغ في الزجر عن ذلك ، وشبهه بالموت لتسامح الناس في ذلك من جهة الزوج والزوجة ، لإلفهم لذلك ، حتى كأنه ليس باجنبي من المرأة عادة ، وخرج هذا مخرج قول العرب : الأسد الموت ، والحرب الموت . أي : لقاؤه يفضي إلى الموت . وكذلك دخول الحمء على المرأة يفضي إلى موت الدِّين ، أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج ، أو برجمها إن زنت معه .
(18/8)
وقوله : (( إن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس )) ؛ كان هذا الدخول في غيبة أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ ، لكنه كان في الحضر لا في السفر ، وكان على وجه ما يعرف من أهل الصلاح والخير ، مع ما كانوا عليه قبل الإسلام مما تقتضيه مكارم الأخلاق من التهمة والريب ، كما قدمناه . ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب ، وقبل أن يُتقدَّم لهم في ذلك بأمر ولا نهي ؛ غير أن أبا بكر ـ رضى الله عنه ـ أنكر ذلك بمقتضى الغيرة الجبليَّة ، والدِّينيَّة ، كما وقع لعمر رضي الله عنه في الحجاب . ولما ذكر ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ما يعلمه من حال الدَّاخلين ، والمدخول لها ، قال : (( لم أر إلا خيرًا ؛ يعني : على الفريقين ، فإنَّه علم أعيان الجميع ؛ لأنَّهم كانوا من مسلمي في هاشم ، ثم خصَّ أسماء بالشهادة لها فقال : (( إن الله قد برأها من ذلك )) ؛ أي : مما وقع في نفس أبي بكر ، فكان ذلك فضيلة عظيمة من أعظم فضائلها ، ومنقبة من أشرف مناقبها ، ومع ذلك فلم يكتف بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى جمع الناس ، وصعد المنبر ، فنهاهم عن ذلك ، وعلمهم ما يجوز منه فقال : (( ألا يدخلن رجل على مغيبة إلا ومعه رجل ، أو اثنان )) ؛ سادًّا لذريعة الخلوة ، ودفعًا لما يؤدِّي إلى التهمة . إنَّما اقتصر على ذكر الرَّجل والرَّجلين لصلاحية أولئك القوم ؛ لأنَّ التهمة كانت ترتفع بذلك القدر. فأما اليوم : فلا يكتفى بذلك القدر ، بل بالجماعة الكثيرة لعموم المفاسد ، وخبث المقاصد ، ورحم الله مالكًا ، لقد بالغ في هذا الباب حتى منع فيه ما يجرّ إلى بعيد التهم والارتياب ؛ حتى منع خلوة المرأة بابن زوجها ، والسفر معه ، وإن كانت محرَّمة عليه ؛ لأنَّه ليس كل أحد يمتنع بالمانع الشرعي ؛ إذا لم يقارنه مانع عادي ، فإنَّه من المعلوم الذي لا شك فيه : أن موقع امتناع الرجل من النظر بالشهوة لامرأة أبيه ليس كموقعه منه لأمه وأخته . هذا قد استحكمت عليه النفرة العادية ، وذلك قد أنست به النفس الشهوانية ، فلا بدَّ مع المانع(18/9)
الشرعي في هذا من مراعاة الذرائع الحاليَّه .
ومن باب اجتناب التهم وما يجر إليها قد تقدَّم الكلام على الاعتكاف لغة وشرعًا في كتابه .
قول صفية رضي الله عنها : (( فأتيته أزوره ليلاً ، فحدَّثته )) ؛ دليل على جواز زيارة المعتكف ، والتحدُّث معه ، غير أنه يكره الإكثار من ذلك ؛ لئلا يشتغل عما دخل إليه من التفرُّغ لعبادة الله تعالى ، وعلى أنه : لا يكره له الخلوة مع أهله في المعتكف ، ولا الحديث معها ، وإنما الممنوع المباشرة ، لكن هذا للأقوياء ، وأما من يخاف على نفسه غلبة شهوة ، فلا يجوز لئلا يفسد اعتكافه . وقد كان كثير من الفضلاء يجتنبون دخول منازلهم في نهار رمضان مخافة الوقوع فيما يفسد الصوم ، أو ينقص ثوابه .
وقولها : (( ثم قمت أنقلب ، فقام ليقلبني )) ؛ أي : لأنصرف .
و (( ليقلبني )) : يصرفني ، وهو مفتوح الياء ثلاثيًّا ، وهذا يدلّ على أن للمعتكف أن ينصرف في المسجد ، وإلى بابه إذا دعته إلى ذلك حاجة ؛ غير أنه لا يخرج من بابه إلا للأمور الضرورية الي تقدَّم ذكرها ، وقد روى في هذا الحديث : أنه إنما خرج معها إلى باب المسجد. وعلى هذا تأوَّله البخاري ، ولم يختلف العلماء : أنه لا يفسد خروجه إلى باب المسجد ، وإن اختلفوا في كراهة تصرُّفه فيه لغير ضرورة ، كزيارة مريض ، أو صلاة على جنازة ، أو صعود إلى المنار للأذان ، أو الجلوس إلى قومٍ ليصلح بينهم ، فكره مالك كل ذلك في المشهور عنه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( على رسلكما ؛ إنما هي صفيَّة )) ؛ الرِّسل - بكسر الراء - : الرفق واللين ، وليس فتح الراء فيه معروفًا . و(( الرِّسل )) بالكسر أيضًا : اللبن . وقد أرسل القوم ؛ أي : صار لهم اللبن في مواشيهم .
(18/10)
و (( الرَّسَل )) بفتح الراء والسين : القطيع من الخيل ، والإبل ، والغنم ، وجمعه : أرسال . يقال : جاءت الخيل أرسالاً ؛ أي : قطيعًا قطيعًا ، و(( إنما )) هنا لتحقيق المتصل بها ، وتحقيق المنفصل عنها ، كقوله تعالى : { إنَّما الله إله واحد } ؛ أي : الإلهية متحققة له منفيَّة عن غيره . فكأنه قال : هذه صفيَّة لا غيرها حَسْمًا لذريعة التُّهم ، وردًا لتسويل الشيطان ، ووسوسته ، كما قد نصَّ عليه ، وإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتَّقي مواقع التُّهم مع قيام الأدلة القاطعة على عصمته كان غيره بذلك أولى .
وقول الرجلين : (( سبحان الله )) ؛ معنى هذه الكلمة في أصلها : البراءة لله من السُّوء . لكنها قد كثر إطلاقها عند التعجب والتفخيم ، أو الإنكار ، كما قال تعالى : { سبحانك هذا بهتان عظيم } ، وكقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( سبحان الله إن المؤمن لا ينجس )) ، ومثله كثير ، وهذا الموضع منها ، فكأنهما قالا : البراءة لله تعالى من أن يخلق في نفوسنا ظنَّ سوَّء بنبيِّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولذلك قال في الرواية الأخرى : (( ومن كنت أظن به فلم أكن أظن بك ! )).
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم )) ؛ حمله بعض العلماء على ظاهره . فقال : إن الله تعالى جعل الشيطان قوَّة وتمكُّنًا من أن يسري في باطن الإنسان ، ومجاري دمه . وأكثر على أن معنى هذا الحديث : الإخبار عن ملازمة الشيطان للإنسان واستيلائه عليه بوسوسته ، وإغوائه ، وحرصه على إضلاله ، وإفساد أحواله . فيجب الحذر منه ، والتحرُّز من حيله ، وسدُّ طرق وسوسته ، وإغوائه وإن بعدت . وقد بين ذلك في آخر الحديث بقوله : (( إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا ، فتهلكا )). وخصوصًا في مثل هذا الذي يفضي بالإنسان إلى الكفر ، فإنَّ ظنَّ السَّوء والشر بالأنبياء كفرٌ .
قال القاضي عياض رحمه الله : في هذا الحديث من الفقه : إن من قال في النبي شيئًا من هذا ، أو جوَّزه عليه فهو كافر مستباح الدم .
(18/11)
وقوله : (( يقذف في قلوبكما شرًّا )) ؛ أي : يرمي . ومنه : القذف . وهو الرَّمي ، والقذَّافة : الآلة التي تُرْمَى بها الحجارة . والشرُّ هنا : هو الكفر الذي ذكرناه . وفي غير مسلم : (( فتهلكا )) ؛ أي : بالكفر الذي يلزم عن ظنِّ السَّوء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وذكر في الرواية الأخرى : أنه كان رجلاً واحدًا ؛ فيحتمل أن يكون هذا في مرتين . ويحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقبل على أحدهما بالقول بحضرة الآخر ، فتصح نسبة القصَّة إليهما جمعًا وإفرادًا ، والله تعالى أعلم .
ومن باب من رأى فُرْجَة في الحلقة جلس فيها
قوله : (( إذ أقبل نفرثلاثة )) ؛ يدلّ : على أن أقل ما يقال عليه نفر : ثلاثة ؛ إذ لا يقال : نفر اثنان ، ولا : نفر واحد .
وقوله : (( أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله )) ؛ الرواية الصحيحة بقصر الأول ، وهو ثلاثي غير مُتعد . ومد الثاني وهو متعد رباعي . وهو قول الأصمعي . وهي لغة القرآن . قال الله تعالى : { إذ أوى الفتية إلى الكهف } ؛ أي : انضمُّوا ، ونزلوا . وقال في الثاني : (( ألم يجدك يتيمًا فآوى } ؛ أي : فضمَّك إليه . وقال أبو زيد : آويته أنا إيواءً ، وأويته : إذا أنزلته بك ، فَعَلْت وأفْعَلت بمعنًى.
قلت : فأما أويت لِمَفَاقِره : فبالقصر لا غير .
ومعنى ذلك : أن هذا الرجل لما انضم إلى الحلقة ونزل فيها ، جازاه الله تعالى على ذلك بأن ضمه إلى رحمته ، وأنزله في جنته وكرامته .
ففيه : الحضُّ على مجالسة العلماء ، ومداخلتهم ، والكون معهم ؛ فإنَّهم القومُ الذين لا يشقى بهم جليسهم.
وفيه : التحلق لسماع العلم في المسجد حول العالم ، والحضُّ على سدِّ خلل الحلقة ؛ لأنَّ القرب من العالم أولى ، لما يحصل من ذلك من حسن الاستماع ، والحفظ ، والحال في حلق الذكر كالحال في صفوف الصلاة . يُتَمُّ الصَّف الأول ، فإنَّ كان نقص ففي المؤخر .
(18/12)
و (( الْحَلْقة )) بفتح الحاء وسكون اللام ، وكذلك حلقة الباب . والحلقة : الدروع ، والجمع : الحلق على غير قياس . وقال الأصمعي : الجمع حِلَق ، مثل : بَدْرَة وبِدَر ، وقَصْعة وقِصَع ، وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء : حَلَقة - في الواحد بتحريك اللام - والجمع : حَلَق ، وحَلَقات . وقال أبو عمرو الشيباني : ليس في الكلام حَلَقة - بتحريك اللام -إلا قولهم : هؤلاء قوم حَلَقة : جمع حالق للشعر.
وقوله : (( وأما الآخر فاستحيا ، فاستحيا الله منه )) ؛ كأن هذا الثالث كان متمكِّنًا من المزاحمة ؛ إذ لو شرع فيها لفسح له ؛ لأنَّ التَّفسُّح في المجلس مأمورٌ به ، مندوبٌ إليه ، لكن منعه من ذلك الحياء فجلس خلف الصف الأول ، ففاتته فضيلة التقدُّم ، لكنه جازاه الله على إصغائه ، واستحيائه بأن لا يعذبه ، وبأن يكرمه . وقد تقدَّم القول في الحياء ، واستحياء الله تعالى ، وأن معناه في حقه تعالى : أنه يعامل عبيده بما يعامل به من يستحيي منه ؛ من المغفرة والكرامة ؛ كما قد جاء عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله تعالى يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه )).
وقوله : (( وأما الآخر فأعرض ، فأعرض الله عنه )) ؛ إن كان هذا المعرض منانقًا فإعراض الله تعالى عنه تعذيبه في نار جهنم ، وتخليده فيها في الدرك الأسفل منها . وإن كان مسلمًا ، وإنما انصرف عن الحلقة لعارض عرض له فآثره ، فإعراض الله تعالى عنه : منع ثوابه عنه ، وحرمانه مجالسة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والاستفادة منه ، والخير الذي حصل لصاحبيه.
ومن باب النهي عن أن يقام الرجل من مجلسه
(18/13)
نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أن يقام الرجل من مجلسه إنما كان ذلك لأجل : أن السَّابق لمجلس قد اختصَّ به إلى أن يقوم باختياره عند فراغ غرضه ؛ فكأنه قد ملك منفعة ما اختصَّ به من ذلك ، فلا يجوز أن يحال بينه وبين ما يملكه ، وعلى هذا فيكون النهي على ظاهره من التَّحريم ، وقيل : هو على الكراهة . والأول أولى . ويستوي في هذا المعنى أن يجلس فيه بعد إقامته ، أو لا يجلس ، غير أن هذا الحديث خرج على أغلب ما يفعل من ذلك ، فإنَّ الإنسان في الغالب إنما يقيم الآخر من مجلسه ليجلس فيه . وكذلك يستوي فيه يوم الجمعة ، وغيره من الأيام التي يجتمع الناس فيها ، لكن جرى ذكر يوم الجمعة في هذا الحديث ؛ لأنَّه اليوم الذي يجتمع الناس فيه ، ويتنافسون في المواضع القريبة من الإمام ، وعلى هذا : فيلحق بذلك ما في معناه ، ولذلك قال ابن جريج : في يوم الجمعة وغيرها .
وقوله : (( ولكن تفسَّحوا ، وتوسَّعوا )) ؛ هذا أمر للجلوس بما يفعلون مع الداخل ، وذلك : أنه لما نهي عن أن يقيم أحدًا من موضعه تعيَّن على الجالسين أن يوسِّعوا له ، ولا يتركوه قائمًا ، فإنَّ ذلك يؤذيه ، وربما يخجله . وعلى هذا : فمن وجد من الجلوس سعة تعيَّن عليه أن يوسع له . وظاهر ذلك أنه على الوجوب تمسُّكًا بظاهر الأمر ، وكان القائم يتأذى بذلك ، وهو مسلم ، وأذى المسلم حرام . ويحتمل أن يقال : إن هذه آداب حسنة ، ومن مكارم الأخلاق ، فتحمل على الندب .
وقد اختلف العلماء في قوله تعالى : { وإذا قيل لكم تفسَّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم }. فقيل : هو مجلس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا يزدحمون فيه تناقسًا في القرب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقيل : هو مجلس الصَّف في القتال . وقيل : هو عامٌّ في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير ، والأجر ، وهذا هو ا لأولى ؛ إذ المجلس للجنس على ما أصَّلْناه في الأصول .
(18/14)
وقوله : (( إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به )) ؛ هذا يدلّ على صحَّة القول بوجوب ما ذكرناه من اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه ، لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه ؛ فقَبْلَه أحرى وأولى . وذهب آخرون : إلى أن ذلك على الندب ؛ لأنَّه موضع غير متملَّك لأحد ، لا قبل الجلوس ، ولا بعده . وهذا فيه نظر ، وهو أن يقال : سلَّمنا أنه غير متملَّك له ، لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه ، فصار كأنه يملك منفعته ؛ إذ قد منع غيره من أن يزاحمه عليه . وحمله مالك على النَّدب إذا كانت رجعته قريبة . قال : وإن بَعُدَ ذلك حتى يذهب ، ويَبْعُد فلا أرى ذلك ، وأنه من محاسن الأخلاق . وعلى هذا فيكون هذا عامًّا في كل المجالس . وقال محمد بن مسلمة : الحديث محمول على مجلس العلم ، هو أولى به إذا قام لحاجة ، فإذا قام تاركًا له ، فليس هو بأولى.
وقد اختلف العلماء فيمن ترتَّب من العلماء ، والقُرَّاء بموضع من المسجد للفتيا ، وللتدريس . فحكي عن مالك : أنه أحق به إذا عرف به. والذي عليه الجمهور : أن هذا استحسان ، وليس بواجب ، ولعلَّه مراد مالك . وكذلك قالوا فيمن قعد من الباعة في موضع من أفنية الطُّرق ، وأقضية البلاد غير المتملَّكة فهو أحق به ما دام جا لسًا فيه ، فإن قام منه ، ونيَّته الرجوع إليه من غده ؛ فقيل : هو أحق به حتى يتمَّ غرضه . حكاه الماوردي عن مالك ؛ قطعًا للتنازع . وقيل : هو وغيره سواء ، والسَّابق إليه بعد ذلك أحق به .
ومن باب الزجر عن دخول المخنثين على النساء
التخنُّث : هو اللين والتكسُّر . والمخنث : هو الذي يلين في قوله ، ويتكسَّر في مشيته ، ويتثنى فيها كالنساء . وقد يكون خِلْقة ، وقد يكون تصنعًا من الفسقة . ومن كان ذلك فيه خلقة ؛ فالغالب من حاله : أنَّه لا أرب له في النساء ، ولذلك كان أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعدُون هذا المخنث من غير أولي الإربة ، فكانوا لا يحجبونه إلى أن ظهر منه ما ظهر فحجبوه .
(18/15)
قوله : (( إن مخنثًا كان عندها )) ؛ اختلف في اسم هذا المخنث ، والأشهر : أن اسمه هيت بياء ساكنة بعد الهاء باثنتين من تحتها ، وآخرها تاء باثنتين من فوقها. وقيل : صوابه هنب - بنون وباء بواحدة آخرًا - والهنب : الرجل الأحمق ، قاله ابن درستويه . وقيل : إن هذا المخنث هو ماتع- باثنتين من فوقها - مولى أبي فاختة المخزومي. قيل : وكان هو وهيت يدخلان في بيوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما وقعت هذه القصَّة غربهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الحمى. وقيل : إن مخنَّثا كان بالمدينة نفاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى حمراء الأسد.
وقول المخنث : (( أدلك على ابنة غيلان ، فإنَّها تقبل بأربع ، وقد بر بثمان )). قال أبو عبيد : يعني به : العكن ، وهي أربع تقبل بهن ، ولها أطراف أربعة من كل جانب فتصير ثمانية .
قلت : وإنَّما أنث فقال : بثمان ؛ وهو يريد الأطراف ، وواحدها طرف ، مذكر ؛ لأنَّ هذا على حدِّ قولهم : هذا الثوب سبع في ثمان ، والثمان يراد بها الأشبار ، ووجه ذلك أنه يعني به العكن ، وهي جمع عكنة ، وهي الطي الذي يكون في جانبي البطن من السِّمن ، ويجمع : عكن ، وأعكان . وتعكَّن البطن : إذا صار ذلك فيه .
يريد المخنَّث : أنَّ هذه المرأة إذا أقبلت كان لها من كل جانب من جوانب بطنها عكنتان ، وإذا أدبرت كان لها من خلفها ثمان ، وفي العدد لتانيث المعدود ، وهو : العكن : جمع عكنة .
وقد روى هذا الحديث الواقدي ، والكلبي ، وقالا : إن (( هيتًا )) المخنَّث ، وكان مولى لعبد الله بن أبي أمية المخزومي أخي أم سلمة لأبيها ، وأم عبدالله عاتكة عمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له في بيت أم سلمة ، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسمع : إن افتتحم الطائف فعليك ببادية ابنة غيلان بن سلمة الثقفي ؛ فائها تقبل بأربع وقد بر بثمان مع ثغرٍ كالأقحوان ، إن جلست تثنَّت ، وإن تكلَّمت تغنَّت ، بين رجليها كالإناء المكفوء ، وهي كما قال قيس بن الخطيم :
تَغْتَرِقُ الطَّرْفَ وهِيَ لاهِيَةٌ كأنَّما شَفَّ وَجْهَها نَزَفُ
(18/16)
بَيْنَ شُكُولِ النساء خِلْقَتُها قصدًا فلا غَيْلَةٌ ولانصف
تَنَامُ عن كِبْرِ شأنِها فإذا قامت رُوَيْدًا تكاد تنقصف
فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لقد غلغلت النظر إليها يا عدوَّ الله )) ، ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى . قال : فلما فتحت الطائف تزوجها عبدالرحمن بن عوف ، فولدت له في قول الكلبي . قال : ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فلما ولي أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ كُلِّم فيه ، فأبى أن يردَّه ، فلما ولي عمر ـ رضى الله عنه ـ كُلِّم فيه ، فأبى أن يردَّه ، ثم كُلِّم فيه بعد ، وقيل : إنه قد كبر وضعف وضاع ، فأذن له يدخل كل جمعة ، فيسأل ، وبرجع إلى مكانه . قال أبو عمر : يقال : بادية - بالياء - وبادنة - بالنون - والصواب بالياء ، وهو قول أكثرهم .
وقوله : (( تغنت )) ؛ هو من الغنة ، لا من الغناء ؛ أي : أنها تتغنَّن في كلامها للينها ، ورخامة صوتها . يقال : تغنَّن الرجل ، وتغنى ، مثل : تضنَّن وتضنَّى .
وفيه : ما يدلّ على جواز العقوبة بالنفي عن الوطن لمن يخاف منه الفساد ، والفسق . وعلى تحريم ذكر محاسن المرأة المعينة ؛ لأنَّ ذلك إطلاع الأسماع على عورتها ، وتحريك النفوس إلى ما لا يحل منها. ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها)) ، فأما ذكر محاسن من لا يعرف من النساء : فمباحٌ إن لم يدع إلى مفسدةٍ ؛ من تهييج النفوس إلى الوقوع في الحرام ، أو في المكروه .
(18/17)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ألا أرى هذا يعرف ما ها هنا )) ؛ يدلّ : على أنهم كانوا يظنون أنه لا يعرف شيئًا من أحوال النساء ، ولا يخطرن له بالبال . وسببه : أن التخنيث كان فيه خِلْقة ، وطبعًا ، ولم يكن يعرف منه إلا ذلك ، ولذلك كانوا يعدُّونه من غير أولي الإربة ؛ أي : ممن لا حاجة له في النساء . وقد قدَّمنا : أن الأرب والإربة : الحاجة . فلما سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصفه لتلك المرأة : علم أنه عنده تشوُّف للنساء ؛ فحجب لذلك ، ثم بولغ في تنكيله ، وعقوبته ، ونفيه لما اطلع عليه من محاسن تلك المرأة ، وكشف من سترها ، ولم تكن عقوبته لنفس التخنيث ؛ فإنَّ ذلك كان فيه خِلْقة ، ولم يكن مكتسبًا له ، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها . وأمَّا من تخانث وتشبه بالنساء ، فقد أتى كبيرة من أفحش الكبائر ؛ لعنه الله عليها ورسوله ، ولا يقرُّ عليها . بل : يؤدَّب بالضرب الوجيع والسجن الطويل ، والنفي حتى ينزع عن ذلك ، ويكفي دليلاً على ذلك ما خرَّجه البخاري عن ابن عباس قال : لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتشبهين من الرجال بالنساء ، والمتشبهات من النساء بالرجال ، وقال : (( أخرجوهم من بيوتكم )). وأخرج فلانًا ، وفلانًا ؛ غير أنه لا يقتل لما رواه أبو هريرة : أن النبي أتي برجل قد خضب يديه ورجليه ، فقال : (( ما بال هذا ؟! )) فقيل : يتشبَّه بالنساء ، فأمر به ، فنفي إلى النقيع - بالنون - ، فقيل : يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا نقتله ؟ قال : (( إني نهيت عن قتل المصلين )).
ومن باب امتهان ذات القدر نفسها في خدمة زوجها
(18/18)
قولها : تزوجني الزبير ، وما له في الأرض من مال ، ولا مملوك ، ولا شيء غير فرسه )) ؛ هذا يدلُّ على ما كانوا عليه من شدَّة الحال في أول الأمر ، وعلى أن المعتبر عندهم في الكفاءة إنَّما كان : الدين ، والفضل . لا المال ، والغنى ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فعليك بذات الدين تربت يداك )). وإنما كان ذلك ؛ لأنَّ القوم كانت مقاصدهم في النكاح التعاون على الدِّين ، وتكثير أمة محمد خاتم النبيين ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولأنهم علموا : أن المال ظِلٌ زائل ، وسحابٌ حائل ، وأن الفضل باقٍ إلى يوم التلاق . فأمَّا اليوم : فقد انعكست الحال ، وعدل الناس عن الواجب إلى المحال .
وقولها : (( فكنت أعلف فرسه ، وأكفيه مؤونته ... )) إلى آخر الكلام ؛ فيه ما يدلّ : على ما كانوا عليه من تبذُّل المرأة في خدمة زوجها وييته وفرسه ، وإن كانت شريفة . لكن في هذا كله فعلته متبرعة بذلك مختارة له ، راغبة لما علمت فيه من الأجر ، والثواب ، وعونًا لزوجها على البرِّ والتقوى . ولا خلاف في حسن ذلك ، ولا في أن كل ذلك ليس بواجب عليها ؛ إذ لا يجب عليها أن تخرز القِرب ، ولا أن تخدم الفرس ، ولا أن تنقل النوى ، وإنما اختلف في خدمة بيتها من عَجْنٍ ، وطبخ ، وكنس ، وفرش ؛ فالشريفة ذات القدر ؛ التي رفع في صداقها ، لا يجب عليها أن تفعل شيئًا من ذلك ، ولا يحكم عليها به ، ولا يجب عليها عند مالك أن تأمر الخدم بذلك ، ولا تنهاهم ، وليس عليها إلا أن تمكن من نفسها. وقال بعض شيوخنا عليها أن تأمرهم ، وتنهاهم بما يصلح حال زوجها ؛ إذ لا كلفة عليها في ذلك ، ولجريان العادة بمثله في الأشراف . وفي كتاب ابن حبيب : عليها في العسر الخدمة الباطنة ، كما هي على الدنتة ، وأما من ليست كذلك فيجب عليها من خدمة بيتها : ما جرت العادة بأن مثلها تفعله .
(18/19)
ومأخذ هذا الباب عندنا النظر إلى العوائد ؛ فإنَّ الإنسان إذا تزوَّج عند قومٍ ، فالغالب أنه يبحث عن عاداتهم ، ومناشئهم ، فيعلمها ، ولا يكاد يخفى عليه حالهم . فإذا تزوَّج ممن عادتهم أن لا تخدم نساؤهم أنفسهن ، إنَّما يخدمن ، فقد دخل على أنه يبقيها على عادتها ، ويسير بها سيرة نسائها ، فلا يحكم له عليها بشيء من ذلك . بخلاف من جرت عادتها بأن مثلها لا تخدم ، وإنما تخدم نفسها ، فإنَّه يحكم له عليها بما ذكر من خدمة بيتها ، وكذلك في رضاع الولد . فأما من يجهل حالها ، ولا يعلم عادة نسائها : فالأصل : أنها تخدم نفسها ، فيحكم عليها بذلك ، وبرضاعة الولد إلى أن يتبين أنها شريفة لها الحال ، والقدر . هذا أصل مالك ، وتفريعه ، وقد خولف في ذلك ؛ فمن الناس من لا يرى على المرأة خدمة مطلقًا . ومنهم من يرى عليها الخدمة مطلقًا ، وهو أحوط. والأحسن التفصيل الذي صار إليه مالك ، والله تعالى أعلم.
و (( الغرب )) : الدلو العظيمة .
وقولها : (( كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على رأسي )) ؛ قيل : إن هذه الأرض المقطعة من موات البقيع ، أقطعه من ذلك حُضْرَ فرسه ، فأجراه ، ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة فأعطاه ذلك كله . وفي البخاري عن عروة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقطع الزبير أرضًا من أموال بني النضير ، وليست هذه الأرض التي كانت أسماء تنقل منها النوى على رأسها ، لقولها : وهي على ثلثي فرسخ ، فالأشبه أنها الأرض التي بالبقيع كما تقدَّم في القول الأول .
ففيه من الفقه ما يدل على جواز إقطاع الإمام الأرض لمن يراه من أهل الفضل ، والحاجة ، والمنفعة العامة ، كالعلماء ، والمجاهدين ، وغيرهم ، لكن تكون تلك الأرض المقطعة من موات الأرض أو من الأرض الموقوفة لمصالح المسلمين كما قدمناه في الجهاد .
(18/20)
وفيه ما يدلُّ على جواز الاستزادة من الحلال ، وإظهار الرَّغبة فيه ، كما فعل الزبير ـ رضى الله عنه ـ ؛ حيث أجرى فرسه ، فلما وقف رمى بسوطه رغبة في الزيادة ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبصر ذلك كله ، ولم ينكره عليه . وليس إقطاع الإمام تمليكًا للرقبة ، وإنما هو اختصاص بالمنفعة ، لكن لو أحيا الموات المقطع لكان للمحيي ، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أحيا أرضًا ميتة فهي له )).
وقولها : (( فلقيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نفبر من أصحابه ، فدعاني ، ثم قال : إخ ، إخ )) ؛ تعني به : أنه نوَّخ ناقته ليُرْكبها عليها .
و (( إخ ))- بكسر الهمزة ، وسكون الخاء - وهو صوت تُنَوَّخ به الإبل . وظاهر هذا المساق يدلّ على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عرض عليها الركوب ، فلم تركب ؛ لأنَّها استحيت ، كما قالت . وعلى هذا فلا يحتاج إلى اعتذار عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ركوبها معه ، فإنَّه يحتمل أنها لو اختارت الركوب تركها راكبة وحدها ، ولا يكون فيه من حيث هذا اللفظ دليل على جواز ركوب اثنين على بعير ، فتأمله .
وقولها : (( وعرفت غيرتك )) ؛ تعني : ما جبل عليه من الغيرة ، وإلا فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يغار لأجله ، كما قال عمر ـ رضى الله عنه ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وعليك أغار يا رسول الله ! )) حين أخبره أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى قصرًا من قصور الجنَّة فيه امرأة من نساء الجنة فقال : (( لمن أنت ؟ )) فقالت : لعمر بن الخطاب . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((فذكرت غيرتك )) ، فتوفع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحريك الغيرة بحكم الجبلَّة ، وإن لم يغر لأجله .
(18/21)
وقول الزبير : (( والله ! لحملك النوى على رأسك أشدُّ عليَّ من ركوبك معه )) ؛ هذا يدلّ على أن الزبير لم يكلفها شيئًا من ذلك ، وإنما فعلت هي ذلك لحاجتها إلى ذلك ، وتخفيفًا عن زوجها ؛ على عادة أهل الدين والفضل الذين لا التفات عندهم لشيء من زينة الدنيا ، ولا من أحوال أهلها ، فإنَّهم كانوا لا يعيبون على أنفسهم إلا ما عابه الشرع ، فكانوا أبعد الناس منه ، وأخرج هذا القول من الزبير فرط الاستحياء المجبول عليه أهل الفضل . ويعني بذلك : أن الحياء الذي لحقه من تبذلها بحمل النوى على رأسها أشدُّ عليه من الغيرة التي كانت تلحقه عليها لو ركبت مع النبي ! فإنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس ممن يغار على الحريم لأجله . والله تعالى أعلم .
وقولها : (( حتى أرسل إليَّ أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ بعد ذلك بخادم ، فكفتني سياسة الفرس ، فكأنما أعتقني )) ؛ دليلٌ على مكارم أخلاق القوم ، فإنَّ أبا بكر ـ رضى الله عنه ـ علم ما كانت عليه ابنته من الضرر والمشقة ، ولم يطالب صهره بشيء من ذلك ، وكان مترقبًا لإزالة ذلك ، فلما تمكَّن منه أزاله مِن عنده.
و (( الخادم )) يقال على الذكر والأنثى . و(( أعتقتني )) روي بتاء بعد القاف ، ويكون فيه ضمير يعود على الخادمة . وبغير تاء ، وضميره يعود إلى أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ . وصحَّ ذلك لأنها لما اسراحت من خدمة الفرس ، والقيام عليه بسبب الجارية التي بعث بها إليها أبو بكر صحَّ أن ينسب العتق لكل واحد منهما .
وقوله : (( جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبيٌّ فأعطاها خادمًا )) ؛ هذه الرواية مخالفة لقولها في الروايه المتقدِّمة : إن أبا بكر ـ رضى الله عنه ـ أرسلها إليها. وهذا لا بُعد فيه ؛ لأنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دفعها لأبي بكر ليدفعها لها ، فأرسل بها أبو بكر لها .
(18/22)
واستئذان الفقير لأم عبد الله - وهي أسماء ابنة أبي بكر - في أن يبيع في ظلِّ دارها يدلُّ على أن المتقرَّر المعلوم من الشرع أن فناء الدار ليس لغير ربِّها القعود فيها للبيع إلا بإذنه ، فإذا أذن جاز ما لم يضر بغيره ؛ من تضييق طريق ، أو اطلاع على عورة منزل غيره . ولربِّ الدار أن يمنعه ؛ لأنَّ الأفنية حن لأرباب المنازل ؛ لأنَّ عمر ـ رضى الله عنه ـ قضى بالأفنية لأرباب الدور . قال ابن حبيب : وتفسير هذا يعني : بالانتفاع للمجالس ، والمرابط ، والمصاطب ، وجلوس الباعة فيها للبياعات الخفيفة ، وليس بأن ينحاز بالبنيان ، والتحظير .
قلت : وعلى هذا فليس لربِّ الدار التصرف في فنائها ببناء دكان ، أو غيره مما يثبت ويدوم ؛ لأنَّه من المنافع المشتركة بينه وبين الناس ؛ إذ للناس فيه حق العبور ، والوقوف ، والاستراحة ، والاستظلال ، وما أشبه هذه الأمور . لكنه فناء أخصُّ به فيجوز له من ذلك ما لا يجوز لغيره من مرافقه الخاصة به كبناء مصطبة لجلوسه ، ومربط فرسه ، وحطّ أحماله ، وكنس مرحاضه ، وتراب بيته ، وغير ذلك مما يكون من ضروراته . وعلى هذا فلا يفعل فيها ما لا يكون من ضرورات حاجاته كبناء دكان للباعة ، أو تحظيرة عن الناس ، أو إجارته لمن يبيع فيه ؛ لأنَّ ذلك كله منع الناس من منافعهم التي لهم فيه ، وليس كذلك الإذن في البيع الخفيف بغير أجر ؛ لأنَّ ذلك من باب الرفق بالمحتاج ، والفقير . وأصل الطرق ، والأفنية للمرافق ، ولو جاز أن يحاز الفناء ببناء ونحوه ؛ للزم أن يكون لذلك البناء فناء ، ويتسلسل إلى أن تذهب الطرق ، وترتفع المرافق .
(18/23)
وتوقف أسماء رضي الله عنها في الإذن للفقير إلى أن يأذن الزبير إنما كان مخافة غيرة الزبير ، أو يكون في ذلك شيء يتأذى به الزبير ، وحسن أدب ، وكرم خلق حتى لا تتصرَّف في شيء من مالها إلا بإذن زوجها . وأمرها للفقير بأن يسألها ذلك بحضرة الزبير لتستخرج بذلك ما عند الزبير من كرم الخلق ، والرغبة في فعل الخير ، وليشاركها في الأجر ، وذلك كله منها حسن سياسة ، وجميل ملاطفة تدلُّ على انشراح الصدور ، وصدق الرغبة في الخير .
وبيعها للجارية من غير إذن الزبير يدلّ على أن للمرأة التصرُّف في مالها بالبيع والابتياع من غير إذنه ، وليس له منعها من ذلك إذا لم يضرُّه ذلك به في خروجها ، ومشافهتها للرجال بالبيع والابتياع ، فله منعها مما يؤدي إلى ذلك .
وسؤاله لها أن تهبه ثمن الجارية دليل على أن الزوج ليس له أن يتحكم عليها في مالها بأخذ ، ولا غيره ؛ إذ لا ملك له في ذلك ، إنَّما له فيه حق التجمُّل ، وكفاية بعض المؤن ، ولذلك منعناها من إخراج كل مالها ، أو جلَّه كما تقدَّم في النكاح .
وهبتها لثمن الجارية من غير إذنه دليلٌ على جواز هبة المرأة بعض مالها بغير إذن الزوج ، لكن إن أجازه الزوج جاز ، وإن منعه ؛ فإنَّ كان الثلث فدون لم يكن له المنع ، وإن كان أكثر كان له منع الزائد على الثلث على ما تقدَّم ؛ هذا إذا وهبته لأجنبي ؛ فإنَّ وهبته لزوجها ، فلا يفرَّق بين ثلث ولا غيره ؛ لأنَّها إذا طابت نفسها بذلك جاز . ولأن الفرق بين الثلث وغيره إنما كان لحق الزوج ؛ لئلا تفوت عليه ماله فيه من حق التجمُّل ، ولئلا يمنعها أيضًا من إعطاء ما طابت به نفسها ، فينفذ عطاؤها في الثلث ، ويرد فيما زاد عليه . وقيل : يردُّ في الجميع ، وهو المشهور .
ومن باب النهي عن مناجاة اثنين دون الثالث
(18/24)
قوله : (( إذا كان ثلاثةٌ فلا يتناجى اثنان دون واحد)) ؛ (( كان )) هنا : تامَّة بمعنى : وجد ، ووقع . و(( ثلاثة )) : فاعل بها ، بخلاف الرواية الأخرى ؛ التي قال فيها : (( إذا كنتم ثلاثة )) ، فإنَّها فيها ناقصة . بمعنى : صرتم ثلاثة .
وقوله : (( فلا يتناجى اثنان )) ؛ الرواية المشهورة فيه : (( يتناجى )) بألف مقصورة ثابتة في الخط ، غير أنَّها تسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين ، فاذًا : هو خبر عن المشروعية ، ويتضمن النهي عن ذلك . وقد وقع في بعض النسخ : (( فلا يتناج )) بغير ألف ، على النهي . وهي واضحة .
(18/25)
والتناجي : التحادث سرًّا . وقد زاد في الرواية الأخرى زيادة حسنة ، فقال : (( حتى يختلطوا بالناس )) ، فبيَّن غاية المنع ، وهو أن يجد الثالث من يتحدث معه ، كما فعل ابن عمر ، وذلك : أنه كان يتحدث مع رجل ، فجاء آخر يريد أن يناجيه ، فلم يناجه حتى دعا رابعًا ، فقال له وللأول : تأخرا ، وناجى الرجل الطالب للمناجاة . وقد نبَّه في هذه الزيادة على التعليل بقوله : (( فإنَّ ذلك يحزنه )) ؛ أي : يقع في نفسه ما يحزن لأجله ، وذلك : بأن يقدر في نفسه : أن الحديث عنه بما يكره ، أو أنَّهم لم يروه أهلاً ليشركوه في حديثهم ، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان ، وأحاديث النفس . وحصل ذلك كله من بقائه وحده ، فإذا كان معه غيره أمن ذلك ، وعلى هذا : يستوي في ذلك كل الأعداد ، فلا يتناجى أربعة دون واحد ، ولا عشرة ، ولا ألفٌ مثلاً ؛ لوجود ذلك المعنى في حقه ، بل وجوده في العدد الكثير أمكن ، وأوقع ، فيكون بالمنع أولى . وإنما خصَّ الثلاثة بالذكر لأنه أول عدد يتأتى فيه ذلك المعنى . وظاهر هذا الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال . وإليه ذهب ابن عمر ، ومالك ، والجمهور . وقد ذهب بعضى الناس : إلى أن ذلك كان في أول الإسلام ؛ لأنَّ ذلك كان حال المنافقين ، فيتناجى المنافتون دون المؤمنين ، فلما فشا الاسلام ؛ سقط ذلك . وقال بعضهم : ذلك خاصٌّ بالسفر ، وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه . فأمَّا في الحضر ، وبين العمارة : فلا .
قلت : وكل ذلك تحكُّم ، وتخصيصٌ لا دليل عليه . والصحيح : ما صار إليه الجمهور . والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
ومن باب جواز إنشاد الشعر وكراهية الإكثار منه
(18/26)
قوله : (( عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : رَدِفْتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ هكذا صواب هذا السَّند وصحيح روايته ، وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم : عن عمرو بن الشريد ، عن الشريد ، عن أبيه ، وهو وَهْمٌ ؛ لأنَّ الشريد هو الذي أردفه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلفه ، واستنشده شعر أميَّة بن أبي الصلت ، لا أبو الشريد . واسم أبي الشريد : سويد .
وقوله : (( هل معك من شعر أميَّة بن أبي الصلت شيء ؟ )) دليلٌ على جواز حفظ الأشعار ، والاعتناء بها ، إنَّما المكروه أن يغلب الاشتغال بها على الإنسان ، ويكثر منها كثرة قصده عن أهم منها ، أو تفضي به إلى تعاطي أحوال مجان الشعراء وسخفائهم ، فإنَّ الغالب من أحوال من انصرف إلى الشعر بكليته ، وأكثر منه ؛ أن يكون كذلك ، واستقراء الوجود يحققه . وأما حفظ فصيح الشعر وجيده المتضمن للحكم والمعاني المستحسنة شرعًا وطبعًا : فجائز ، بل ربما يلحق ما كان منه حُكْمًا بالمندوب إليه . وعلى الجملة : فلا أحسن مِمَّا قاله الإمام القرشي الصريح : الشعر كلامٌ حسنه حسن ، وقبيحه قبيح .
وقوله : (( هية )) بكسر الهاء الأولى ، وسكون الثانية للوقف . وهي : إيه ؛ التي للاستزادة ، وأبدل من الهمزة (( ها )) كما قد فعلوا ذلك في غير موضع . وهي اسم لفعل الأمر الذي هو : زِد . وهي مبنية على الكسر لوقوعها موقع المبني ؛ الذي هو الأمر . وفي الصحاح : إذا قلت : إيهِ يا رجل ؛ فإنما تأمره بأن يزيدك من حديثه المعهود . وإن قلت : إيهٍ - بالتنوين - كأنك قلت : هات حديثًا ؛ لأنَّ التنوين تنكير .
وفيه دليلٌ على جواز إنشاد الشعر ، واستنشاده ؛ لكن ما لم ينته إلى الإطراب المخل بالعقل ، المزيل للوقار ، فإنَّ ذلك يحرم ، أو يكره بحسب ما يفضي إليه . وإنَّما استكثر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من شعر أميَّة ؛ لأنه كان حكمًا . ألا ترى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وكاد أميَّة بن أبي الصلت أن يسلم )).
(18/27)
وقوله : (( أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ! ألا كل شيء ما خلا الله باطل )) ؛ الباطل هنا : أراد به : المضمحل ، المتغير ؛ الذي هو بصدد أن يهلك ، ويتلف . وهذا نحو من قوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه }. ولا شك في أن هذه الكلمات أصدق ما يتكلَّم به ناظمٌ أو ناثر ؛ لأن مقدمتها الكليَّة مقطوعٌ بصحتها وشمولها عقلاً ونقلاً ، ولم يخرج من كليتها شيء قطعًا إلا ما استثني فيها ، وهو : الله تعالى ، فإنَّه لم يدخل فيها قطعًا ، فإنَّ العقل الصريح قد دلَّ على أن كل ما نشاهده من هذه الموجودات ممكن في نفسه ، متغيِّر في ذاته ، وكل ما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره ، وذلك الغير إن كان ممكنًا متغيرًا كان مثل الأول ؛ فلا بدَّ أن يستند إلى موجود لا يفتقر إلى غيره ، يستحيل عليه التغيُّر ، وهو المعبَّر عنه في لسان الظَّار : بواجب الوجود . وفي لسان الشرع : بالصمد المذكور في قوله تعالى : { قل هو الله أحد الله الصمد } ، وبقوله تعالى : { أن الله هو الحق المبين } ، وعند الانتهاء إلى هذا المقام يفهم معنى قوله تعالى : { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }. وللكلام في تفاصيل ما أجمل مواضع أخر .
(18/28)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للشاعر الذي عرض له بالعَرْج : (( خذوا الشيطان )) ، أو : (( أمسكوا الشيطان )) ؛ إنما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الفعل مع هذا الشاعر لما علم من حاله ، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله : أنه قد اتَّخذ الشعر طريقًا للكسب ، فيفرط في المدح إذا أعطي ، وفي الهجو والذمِّ إذا مُنع ، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم . ولا خلاف : في أن كل من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام ، وكل ما يقوله حرام عليه من ذلك ، ولا يحل الإصغاء إليه ، بل يجب الإنكار عليه ، فإنَّ لم يمكن ذلك ؛ فمن خاف من لسانه تعيَّن عليه أن يداريه ما استطاع ، ويدافعه بما أمكن ، ولا يحل أن يعلى شيئًا ابتداء ؛ لأنَّ ذلك عون على المعصية ، فإن لم يجد من ذلك بدًّا أعطاه بنية وقاية العرض ، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة .
وقوله : (( لأن يمتليء جوف أحدكم قيحا يريه خيرٌ له من أن يمتليء شعرًا )) ؛ القيح : الْمِدَّة يخالطها دمٌ . يقال منه : قاح الجرح ، يقيح . وتقيَّح ، وقيَّح . وصديد الجرح : ماؤه المختلط بالدَّم الرقيق قبل أن تغلظ الْمِدَّة .
و (( يرية )) قال الأصمعي : هو من الوَرْي ، على مثال : الرِّي. وهو : أن يَدْوى جوفه . يقال منه : رجل مَورِيٌّ - مشدد غير مهموز - قال أبو عبيد : هو أن يأكل القيح جوفه . قال صاحب الأفعال : ورِيَ الانسان والبعير ، ورى : دوي جوفه . وَوَرَاه الدَّواء ، ورْيًا : أفسده . ووريَ الكلب : سَعرَ أشدَّ السُّعار . وفي الصحاح : وَرِي القيحُ جوفَه ، يَرِيه ، وَرْيًا : إذا أكله ، وأنشد :
وراهُنَّ رَبِّي مِثل ما قد وَرَيْتَنِي
وأنشد اليزيديُّ :
قالت له وَرْيًا إذا تَنَحْنَحْ
يقول منه للواحد : رء يا رجل . وللاثنين : رِيَا . وللجماعة : رُوا. وللمؤنثة : رِيْ . وللاثنتين : رِيَا . ولجماعتهن : رَيْنَ . والاسم : الوَرَيُ - بالتحريك -.
(18/29)
واختلف في تأريل هذا الحديث . فقيل : يعني بذلك : الشعر الذي هجي به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو غيره ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنَّ القليل من هجو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم . وكذلك : هجو غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المسلمين محرم ؛ قليله وكثيره . وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معنى. وقيل : إن معناه : أن من كان الغالب عليه الشعر لزمه بحكم العادة الأدبيَّة الأوصاف المذمومة التي ذكرناها آنفًا . وهذا هو الذي أشار البخاري إليه لما بوَّب على هذا الحديث : باب ما يكره من أن يكون الغالب على الانسان الشعر .
ومن باب قتل الحيات
(18/30)
قوله : (( اقتلوا الحيَّات )) ؛ هذا الأمر وما في معناه من باب الإرشاد إلى دفع المضرَّة المخوفة من الحيَّات ، فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله ، كما قد أرشد إليه قوله : (( اقتلوا الحيَّات ، واقتلوا ذا الطُّفيتين ، والأبتر ؛ فإنَّهما يخطفان البصر ، ويُسقطان الحبل )) ؛ فخصَّهما بالذكر مع أنَّهما دخلا في العموم ، ونبَّه على أن ذلك بسبب عظم ضررهما ، ولم يتحقَّق ضررُه : فما كان منهما في غير البيوت قُتل أيضًا ؛ لظاهر الأمر العام في هذا الحديث ، وفي حديث ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ ؛ ولأن نوع الحيَّات غالبه الضرر فيُستصحب ذلك فيه ، ولأنه كلُّه مُرَوِّع بصورته ، وبما في النفوس من النُّفرة منه ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حيَّة )). فشجَّع على قتلها . وقال فيما خرَّجه أبو داود من حديث عبدالله بن مسعود ـ رضى الله عنه ـ مرفوعًا : (( اقتلوا الحيَّات ؛ فمن خاف ثأرهنَّ فليس منِّي )). وأما ما كان منها في البيوت ؛ فما كان بالمدينة ، فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام )) ؛ وهل يختصُّ ذلك الحكم بالمدينة ؛ لأنَّا لا نعلم هل أسلم من جنِّ غير أهل المدينة أحد أم لا ؟ وبه قال ابن نافع . أو لا يختص ؟ وينهى عن تتل جنان جميع البلاد حتى يُؤذَن ثلاثة ، وهو قول ما لك ، وهو الأولى ، لعموم نهيه عن قتل ا لجنان التي تكون في البيوت ؛ ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خمس فواسق يقتلن في الحلِّ والحرم )) وذكر فيهن الحيَّة ، ولأنا قد علمنا قطعًا : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسول إلى الجنِّ والإنس ، وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلَّغ الرِّسالة للنَّوعين ، وأنَّه قد آمن به خلق كثير من النوعين ؛ بحيث لا يحصرهم بلد ، ولا يحيط بهم عدد . والعجب من ابن نافع ؛ كأنه لم تكن له أذن سامع ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرٌ من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولو(18/31)
إلى قومهم منذرين } ، ولا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن وفد جنِّ نصيبين أتوني ونعم الجنُّ هم فسألوني الزاد ... )) الحديث. فهذه نصوص في أن من جن غير المدينة من أسلم فلا يُقتل شيء منها حتى يُحَرَّج عليه ، كما تقدَّم. فتفهَّم هذا العقد ، وتمسَّك به . فهو الذي يجمع بين أحاديث هذا الباب المختلفة.
تفسير ما جاء في أحاديث الحيَّات من الغريب
الحيَّات : جمع حيَّة ، ويقال على الذَّكر والأنثى ، كما قال :
خَشَاشٌ كَرَأسِ الحيَّةِ الْمُتَوَقِّدِ
وإنما دخلته الهاء لأنه واحدٌ من جنس ، كبطة ، ودجاجة ؛ على أنَّه قد روي عن العرب : رأيت حيًّا على حيَّةٍ ؛ أي : ذكرًا على أنثى . والحيُّوت : ذكر الحيات ، وأنشد الأصمعي :
ويأكل الحيَّة والحيُّوتا
و (( ذو الطفيتين )) : ضرب من الحيَّات في ظهره خطَّان أبيضان ، وعنهما عبَّر بالطُّفيتين . وأصل الطُّفية - بضم الطاء - : خوص المقل ، فشبَّه الخط الذي على ظهر هذه الحيَّة به ، وربَّما قيل لهذه الحيَّة : طُفْيَةٌ ؛ على معنى : ذات طفية . قال الشاعر :
كما تَذِلُّ الطُّفَى مِن رُقْيَة الرَّاقي
أي : ذوات الطُّفَى . وقد يسمى الشيء باسم ما يجاوره . وقال الخليل في ذي الطفيتين : هي حيَّه ، لينة خبيثة . و(( الأبتر )) : الأفعى ؛ سميت بذلك لقصر ذنبها . وذَكَر الأفعى : أفعوان . وقال النضر بن شميل في الأبتر : إنه صنف من الحيَّات أزرق مقطوع الذنب .
و (( يلتمسان )) : يطلبان . هذا أصله ، ومعناه هنا : يخطفان البصر ، كما جاء قد في الرواية الأخرى . وقد روي : (( يلتمعان )) و(( يطمسان )) وكلها بمعنى واحد.
(18/32)
و (( يتبعان ما في بطون النِّساء )) ؛ أي : يسقطان الحبل ، كما جاء في الرواية الأخرى ، وظاهر هذا : أن هذين النوعين من الحيَّات لهما من الخاصية ما يكون عنهما ذلك ، ولا يستبعد هذا ، فقد حكى أبو الفرج الجوزي في كتابه المسمى بـ"كشف المشكل لما في الصحيحين" : أن بعراق العجم أنواعًا من الحيَّات يهلك الرائي لها بنفس رؤيتها ، ومنها من يهلك المرور على طريقها ، وذكر غير ذلك . ولا يلتفت إلى قول من قال : إن ذلك بالترويع ؛ لأنَّ ذلك الترويعَ ليس خاصًّا بهذين النوعين ، بل يعمُّ جميع الحيَّات ، فتذهب خصوصيَّة هذا النوع بهذا الاعتناء العظيم ، والتحذير الشديد ، ثمَّ : إن صحَّ هذا في طرح الحبل ، فلا يصحُّ في ذهاب البصر ، فإنَّ الروع لا يذهبه .
و (( الجنَّان )) بنشديد النون : جمع : الجانِّ ، وهو أبو الجنِّ . هذا أصله. والجانُّ في الحديث : هو حيَّه بيضاء صغيرة رقيقة. هكذا ذكر النقلة ، والظاهر من الجنان المذكور في الحديث : أن المراد به : الجانُّ ، فإنَّ قيل : فقد وصف الله تعالى الحيَّة المنقلبة عن عصا موسى بأنها جانٌّ ، وأنَّها ثعبان عظيم ؛ فالجواب : إنه إنما كانت ثعبانًا عظيمًا في الخِلْقة ، ومثل الحيَّة الصغيرة الدقيقة في الخفة والسرعة ، ألا ترى قوله تعالى : { تهتز كأنَّها جانٌّ } ، هكذا قال أهل اللغة ، وأرباب المعاني . وعلى الجملة : فأصل هذه البنية من : ج - ن ؛ للسترة والتستر أينما وقعت ، فتتبعها تجذها كذلك . ووبيص الجان وغيره : لمعانه وبريقه . قال عياض : وقيل : الجنَّان : ما لا يتعرض للناس ، والجِنَّل : ما يتعرَّض لهم ويؤذيهم ، وأنشدوا :
تَنَازَع جِنَّان وَجِنٌّ وَجِنَّلُ
وعن ابن عبَّاس وابن عمر ـ رضى الله عنهم ـ : الجنَّان : مسخ الجنِّ كما مسخت القردة من بني إسرائيل . وعوامر البيوت : هي ما يعمره من الجن ، فيتمثل في صور الحيَّات وفي غيرها .
(18/33)
وقول ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ : (( أنزلت { والمرسلات عُرْفًا } ؛ فنحن نأخذها من فيه رطبة )) ؛ أي : مُستطابة ، سهلة كالثمرة الرَّطبة ، السهلة الجنَى . وقيل : معناه : أي : نتلقاها لنسمعها منه لأول نزولها ، كالشيء الرَّطب في أول أحواله . والأول أوقع تشبيهًا ، ويدلّ عليه : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الخوارج : (( يقرؤن القرآن رطبًا لا يجاوز حناجرهم )) ؛ أي : يستطيبون تلاوته ، ولا يفهمون معانيه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وقاها الله شرَّكم )) ؛ أي : قتلكم لها ؛ فإنَّه شرٌّ بالنسبة لها ؛ وإن كان خيرًا بالنسبة إلينا .
وقوله : (( كما وقاكم شرَّها )) ؛ أي : لسْعَها . وفيه : دلالة على صحة ما ذكرناه من استصحاب أصل الضرر في نوع الحيَّات .
وقول أبي سعيد : فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنصاف النهار )) ؛ إنَّما كان الفتى يستأذن(2) رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ امتثالاً لقوله تعالى : { وإذا كانوا معه على أمرٍ جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه } ، وكانوا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حفر الخندق . وأنصاف : جمع نصف ، كحِمْل وأحمال ، وعِدل وأعدال . وكأن هذا الفتى كانت عادته أن يستأذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل يوم من تلك الأيام في نصف النهار ، فيأذن له في الانصراف إلى أهله . والباء في : بأنصاف بمعنى : في ، كما تقول : جاء زيد بثيابه ؛ أي : فيها.
وقوله : (( فأهوى إليها بالرُّمح ليطعنها )) ؛ أي : أماله إليها إرهابًا ومبالغة في الزَّجر . وحمله على ذلك فرط الغيرة ، وما كان بالذي يطعنها.
وقولهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين مات الفتى : (( ادع الله أن يحييه لنا )) ؛ قول أخرجه منهم كثرة ما كانوا يشاهدون من إجابة دعواته وعموم بركاته ، ولما روى أئمتنا في كتبهم : أن رجلاً وأد ابنته ثم أسلم ، فجاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأله : أن يدعو الله في أن يحييها له ، فانطلق معه إلى قبرها ، فدعا ، فناداها ، فأحياها الله ، فتكلمت معهما ، فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((أتريدين أن تنطلقي مع أبيك ؟ أو ترجعي إلى ما كنت فيه ؟ )) فاختارت الرُّجوع إلى قبرها .
(18/34)
وقوله : (( إنَّ بالمدينة جنًّا قد أسلموا )) ؛ قد بيَّنَّا : أن بغير المدينة أيضًا جنًّا قد ! أسلموا ، فيلزم التسوية بينها وبين غيرها في المنع من قتل الحيَّات إلا بعد الإذن .
ولا يفهم من هذا الحديث : أن هذا الجان الذي قتله الفتى كان مسلمًا ، وأن الجنَّ قتلته به قصاصًا ؛ لأنَّه لو سلم : أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن ، لكن : إنما يكون في العمد المحض ، وهذا الفتى لم يقصد ، ولم يتعمد قتل نفس مسلمة ؛ إذ لم يكن عنده علم من ذلك ، وإنما قصد إلى قتل ما سوَّغ له قتل نوعه شرعًا ، فهذا قتل خطأ ، ولا قصاص فيه . فالأولى أن يقال : إن كفار الجن ، أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوانًا وانتقامًا ، وإنما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا ... )) إلى آخر الحديث ؛ ليبين طريقًا يحصل به التحرُّز من قتل المسلم منهم ، ويتسلط به على قتل الكافر منهم ، ولذلك قال : ((فإذا رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ، فإنما هو شيطان )) ، ولذلك قال مالك : أحبُّ إلي أن ينذروا ثلاثة أيام . قال عيسى بن دينار : ينذر ثلاثة أيام ، وإن ظهر في اليوم مرارًا ، ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام .
قلت : وهذا تنبية : على أن من الناس من يقول : إن الإذن ثلاث مرَّات ، وهو الذي يفهم من قوله : (( فليؤذنه ثلاثًا )) ، ومن قوله : ((وحرجوا عليه ثلاثًا )) ؛ لأنَّ ثلاثًا للعدد المؤنث ، فيظهر : أن المراد ثلاث مرَّات ، والأولى : ما صار إليه مالك ؛ لأنَّ قوله : (( ثلاثة أيام )) نصٌّ صحيح ، مقيَّد لتلك المطلقات ، فلا يُعدل عنه ، ويمكن أن يحمل تأنيث العدد على إرادة ليالي الأيام الثلاث ، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ ، فإنَّها تغلب فيها التأنيث .
(18/35)
وقوله : (( فحرِّجوا عليها ثلاثًا )). قال مالك رحمه الله : يكفي في الإنذار أن يقول : أحرِّج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدو لنا ، ولا تؤذوننا. وحكى ابن حبيب عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّه يقول : (( أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان ألا تؤذوننا ، وألا(2) تظهرن علينا )).
ومن باب قتل الأوزاغ
الوَزَغة : دُرَيبه مستخبثة مستكرهه ، وتُجمع : وزغ ، وأوزاغ ، ووزغان . وأَمْرُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتله لما يحصلَ منه من الضرر والأذى الذي هي عليه من الاستقذار المعتاد ، والنَّفرة المألوفة ؛ التي قد لازمت الطباع ، ولما يُتَّقى أن يكون فيها سُمٌّ ، أو شيء يضر متناولَه ، ولما روي : من أنها أعانت على وقود نار إبراهيم عليه السلام ؛ فإنَّها كانت تنفخ فيه ليشتعل ، وهذا من نوع ما روي في الحيَّة : أنَّها أدخلت إبليس إلى الجنَّة بين فكيها ، فعوقبت بأن أُهبطعث مع من أُهبط ، وجُعلت العداوة بينها وبين بني آدم ، ويشهد لهذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما سالمناهنَّ مُذ عاديناهنَّ )). وهذا كله مذكور في كتب المفسِّرين .
وقول عائشة : (( إنَّه قال للوَزَع : الفويسق )) ؛ إنما سمي بذلك لخروجه عن مواضعه ، أر عن جنس الحيوانات للضرر. وقيل : لأنَّها خرجت عن حكم الحيوانات المحترمة شرعًا . وقد تقدَّم : أن أصل الفسق في اللغة : الخروج مطلقًا ، وأنَّه اسم مذمومٌ في الشرع .
وقولها : (( إنها لم تسمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر بقتله )) ؛ لا حجَّة فيه على نفي القتل ؛ إذ قد نقل الأمر بقتله أمُّ شريك وغيرها ، ومن نقل حجَّة على من لم ينقل .
(18/36)
وقوله : (( من قتل وزغة في أول ضربة ، فله كذا وكذا حسنة )) ؛ هذا عدد مبهمٌ فسَّرته الرواية الأخرى ؛ التي قال فيها : (( مئة حسنة )) ، أو ((سبعون )) ، ولم يقع تفسيرٌ للعدد الذي في الضربة الثانية ، ولا الثالثة ، غير أن الحاصل : أن قتلها في أوَّل ضربة فيه من الأجر أكثر مِمَّا في الثانية ، وما في الثانية أكثر مما في الثالثة . وقد قيل : إنما كان ذلك للحض على المبادرة لقتلها ، والجد فيه ، وترك التواني لئلا تفوت سليمة .
قلت : ويظهر لي وجة آخر ، وهو : أن قتلها وإن كان مأمورًا به لكن لا تعذب بكثرة الضرب عليها ، بل ينبغي أن يجهز عليها في أوَّل ضربة . ويشهد لهذا نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تعذيب الحيوان ، وقوله : (( إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح )) ، والله تعالى أعلم .
ومن باب كراهية قتل النمل إلا أن يكثر ضررها
قوله : (( إن نملة قَرَصَت نبيًّا من الأنبياء ، فأمر بقرية النمل فأحرقت )) ؛ هذا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه ، ولذلك إنَّما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النَّمل ، لا في أصل الإحراق . ألا ترى قوله : (( فهلا نملة واحدة ؟! )) أي : هلا حرقت واحدة ! وهذا بخلاف شرعنا ، فإنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهى عن التعذيب بالنار ، وقال : (( لا يعذب بالنار إلا الله )) ، وكذلك أيضًا كان قتل النمل مباحًا في شريعة ذلك النبي ، فإنَّ الله لم يعتُبه على أصل قتل النمل . وأما شرعنا : فقد خرَّج أبو داود من حديث ابن عباس : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهى عن قتل أربع من الدواب : النَّملة ، والنحلة ، والهدهد ، والصُّرد . وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ، ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل .
(18/37)
وظاهر هذا الحديث : أن هذا النبي إنَّما عاتبه الله تعالى حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد منه ، وكان الأولى به الصبر ، والصفح ، لكن وقع للنبي : أن هذا النوع مؤذٍ لبني آدم ، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق ، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التَّشفي الطبيعي لم يعاتب ، والله تعالى أعلم ، لكن : لما انضاف إليه التَّشفي الذي دلَّ عليه سياق الحديث عُوتب عليه . والذي يؤيد ما ذكرنا : التمسك بأصل عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وأنَّهم أعلمُ النَّاس بالله وبأحكامه ، وأشدُّهم له خشيةً .
وقوله : (( أفي أنْ قرصتك نملةٌ أهلكتَ أمةً من الأمم تسبح ؟ )) مقتضى هذا : أنه تسبيحُ مقالٍ ونطق ، كما قد أخبر الله تعالى عن النَّمل : أنَّ لها منطقًا ، وفَهْمُه سليمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجزة له . وقد أخبر الله تعالى عن النملة التي سمعها سليمان : أنها قالت : { يا أيُّهَا النَّمل ادْخُلُوا مساكنكم لا يحطِمَنَّكُم سُلَيمانُ وَجُنُودُه وهم لا يشعُرُونَ فَتَبسَّمَ ضاحِكًا من قولها } ، فهذا كلُّه يدلُّ دَلالةً واضحة : أن للنَّمل نُطقًا وقولاً ، لكن لا يسمعه كل أحدٍ ، بل من شاء اللّه تعالى مِمَّن خرق له العادة من نبي ، أو ولي ، ولا ينكر هذا : من حيث أنَّا لا نسمع ذلك ، فإنَّه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرك في نفسه . ثم : إن الإنسان يجدُ في نفسه قولاً وكلامًا ، ولا يُسمعُ منه إلا إذا نطق بلسانه . وقد خرق الله العادةَ لنَبيِّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأسمعه كلام النفس من قومٍ تحدَّثوا مع أنفسهم ، وأخبرهم بما في نفوسهم ، كما نقل منه أئمتنا الكثير في كتب معجزات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكذلك : قد وقع لكثير مِمَّن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثلُ ذلك في غير ما قضيةٍ ، وإيَّاه عنى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( إن في أمَّتي محدَّثين ، وإنَّ عُمَرَ منهم )).
(18/38)
وقوله : (( عُذِّبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت ، فدخلت فيها النَّار )) ؛ هذا نصٌّ في أن هذه المرأة إنما عُذِّبت في النار بسبب قتل هذه الهرة بالحبس ، وترك الطعام . وهذه المرأة التي تقدَّم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رآها في النَّار ، وهي امرأة طويلة من بني إسرائيل ، وهل كانت كافرة ، أو لا ؟ كلُّ ذلك محتمل ، فإنَّ كانت كافرة ؛ ففيه دليل : على أن الكفار مخاطبون بالفررع ، ومعاقبون على تركها . وإن لم تكن كافرة فقد تمخض : أن سبب تعذيبها في النار حبس الهرة إلى أن ماتت جوعًا . ففيه من الفقه : أن الهرَّ لا يُتَمَلَّك ، وأنه لا يجب إطعامه إلا على من حبسه .
و (( الْخَشاش )) : الهوام ، وصغار الطير . وقرأناه بفتح الخاء . وقال عياض : هو بالفتح . وقال الجوهري : الخِشاش -بالكسر- : الحشرات. وقد تفتح . قال أبو عمر : ورجل خَشاش - بالفتح - وهو : الماضي من الرِّجال ، وقد يضم ، فأمَّا : الخِشاش الذي يدخل في أنف البعير فبالكسر لا غير ، وهو من خشب ، والبُرَة : من صُفر ، والخرامة : من شعر . قاله الجوهري .
ومن باب في كل ذي كبد رطبة أجر
(18/39)
قوله : (( يلهث )) ؛ أي : يخرج لسانه من شدَّة العطش والتَّعب ، وهو الذي عبَّر عنه في الرواية الأخرى بإخراج لسانه . ويقال : لهث - بفتح الهاء وكسرها - فإما المستقبل : فبالفتح لا غير ، والاسم : اللَّهث ، واللُّهاث - بضم اللام - ذكره الخليل. وقال الجوهري : اللَّهَثَان - بالتحريك - : العطش ، وبالتسكين العطشان ، والمرأة : لهثى ، وقد لهثت لهثًا ، ولهاثًا ، مثل : سمع ، سماعًا . واللُّهاث -بالضم - : حرُّ العطش . قال : ولهث الكلب -بالفتح - ، يلهث ، لهثًا ، ولُهاثًا - بالضم - إذا أخرج لسانه من التَّعب والعطش . فأما : أدلع لسانه : فاللغة الفصيحة فيه : دلع - ثلاثيًّا - ، يقال : دلع الرُّجل لسانه فاندلع ؛ أي : أخرجه فخرج . ودلع لسانه ؛ أي : خرج ؛ يتعدَّى ، ولا يتعدَّى . والأول حكاه ابن الأعرابي . و(( البغي )) : الزانية .
وقوله : (( فشكر الله له فغفر له )) ؛ أي : أظهر ما جازاه به عند ملائكته ، أو أثنى عليه عندهم . وقد قدَّمنا : أن أصل الشكر : الظهور ؛ كما قالوا : دابة شكور : إذا ظهر عليها من السِّمن أكثر مما تأكله من العلف .
وقوله : (( فنزعت له بموقها )) ؛ أى : سقت له بيدها . يقال : نزعت بالدَّلو ، ونزعت الدَّلو . والنزوع - بفتح النون - هي : البئر التي يستقى منها باليد . وقد روي هذا الحرف : (( فنزعت موقها ، فاستقت به )) ؛ أي : خلعته من رجلها .
وقوله : (( في كل كبد رطبة أجر )) ؛ أي : حيَّة ؛ يعني بها : رطوبة الحياة . وفي رواية أخرى : (( في كل كبدٍ حرَّى )) ؛ يعني بها : حرارة الحياة ، أو حرارة العطش .
وفي هذه الأحاديث ما يدلّ : على أن الإحسان إلى الحيوان ، والرفق به تُغْفَرُ به الذنوب ، وتُعظم به الأجور . ولا يناقض هذا : أنَّا قد أمرنا بقتل بعضها ، أو أبيح لنا ، فإنَّما ذلك إنَّما شرع لمصلحة راجحة على قتله ، ومع ذلك : فقد أمرنا بإحسان القتلة ، والرفق بالذبيحة .
ومن باب النَّهي عن سبِّ الدَّهر
(18/40)
قوله أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ : (( قال الله تبارك وتعالى : يؤذيني ابن آدم )) الحديث ؛ جاء هذا الحديث في هذه الرواية موقوفًا على أبي هريرة لم يذكر فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، غير أنه مِمَّا يعلم : أنه من قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطعًا ؛ لأنَّ مضمونه حكاية عن الله تعالى ، ولا يعرفها أبو هريرة إلا من جهة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد روى معناه مسندًا مرفوعًا من طرق أخر ، غير أن مساق هذا الحديث أكمل ، فلذلك اخترناه .
وقوله تعالى : (( يؤذيني ابن آدم )) ؛ أي : يخاطبني من القول بما يتأذى به من يصحُّ في حقه التأذي ، لا أن الله تعالى يتأذى ؛ لأنَّ التأذي ضرر ، وألم ، والله تعالى منزه عن ذلك ، وهذا يجري مجرى ما جاء من محاربة الله ومخادعته . وهذه كلها توسعات يفهم منها : أن من يعامل الله تعالى بتلك المعاملات تعرَّض لعقاب الله تعالى ، ولمؤاخذته الشديدة . فليحذر ذلك .
ويراد بابن آدم هنا : أهل الجاهلية ، ومن جرى مجراهم ؛ ممن يُطْلِقُ هذا اللفظ ، ولا يتحرز منه ، فإنَّ الغالب من أحوال بني آدم إطلاق نسبة الأفعال إلى الدَّهر ، فيذمُّونه ، ويُسفِّهونه إذا لم تحصل لهم أغراضهم ، ويمدحونه إذا حصلت لهم . وأكثر ما يُوجد ذلك في كلام الشعراء والفصحاء . ولا شكَّ في كفر من نسبَ تلك الأفعال أو شيئًا منها للدَّهر حقيقة ، واعتقد ذلك . وأما من جرت هذه الألفاظ على لسانه ولا يعتقد صحة تلك : فليس بكافر ، ولكنه قد تشبَّه بأهل الكفر وبالجاهلية في الإطلاق ، وقد ارتكب ما نهاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه . فَلْيتُب ، وليستغفر الله تعالى . والدَّهر ، والزمان ، والأبد : كلها بمعنى ، وهو راجع إلى حركات الفلك ، وهي الليل والنهار .
وقوله : (( لا يقولن أحدكم : يا خيبة الدَّهر )) ؛ ليس هذا النَّهي مقصورًا على هذا اللفظ ، بل يلحق به كل ما في معناه من قولهم : خَرُفَ الفلكُ ، وانعكس الدَّهر ، وتَعِسَ ، وما في معنى ذلك .
(18/41)
وقوله : (( فإني أنا الدَّهر )) ؛ الرراية الصحيحة المشهورة فيه برفع الدَّهر ؛ على أنه خبر (( إن )) إن جعلنا (( أنا )) فضلاً . وإن جعلناها مبتدأ ؛ فهو خبره . وقد قيدها بعض الناس (( الدَّهر )) بالنصب ؛ على أن تكون ظرفًا يعمل فيه (( أُقَلِّبُ )) ، فكأنه قال : أنا طولَ الدَّهر أُقلِّب الليل والنهار ، ويكون (( أُقلِّب )) هو الخبر ، والذي حمله على ذلك خوف أن يقال : إن الدَّهر من أسماء الله تعالى ، وهذا عدول عمَّا صحَّ إلى ما لم يصح مخافة ما لا يصح ، فإنَّ الرواية الصحيحة عند أهل التحقيق بالضم ، ولم يرو الفتح من يُعتمد عليه ، ولا يلزم من ثبوت الضم أن يكون الدَّهر من أسماء الله تعالى لأن أسماء الله تعالى لا بدَّ فيها من التوقيف عليها ، أو استعمالها استعمال الأسماء من الكثرة والتكرار ، فيخبر به وعنه ، وينادى به ، كما اتَّفق في سائر أسماء الله تعالى كالغفور ، والشكور ، والعليم ، والحليم ، وغير ذلك من أسمائه ، فإنك تجدها في الشريعة وفي لسان أهلها ، تارة يخبر بها ، وأخرى يخبر عنها ، وأخرى يُدعى ويُنادى بها ، ولم يوجد للدَّهر شيء من ذلك ، فلا يكون اسمًا من أسمائه تعالى . ثمَّ : لو سُلِّم : أن النصب يصح في ذلك اللفظ على ذلك الوجه ، فلا يصح شيء من ذلك في الرِّواية التي قال فيها : (( لا تسبُّوا الدَّهر ، فإنَّ الله هو الدَّهر )) ، ولم يذكر : (( أقلِّب الليل والنهار )) ؟ ولا يصح أن يقال : إن هذه الرواية مطلقة ، والأولى مقيدة ؛ لأنَّا إن صرنا إلى ذلك لزم نصب (( الدَّهر )) بعامل محذوف ليس في الكلام ما يدلّ عليه ، ولزم حذف الخبر ، ولا دليل عليه . وكل ذلك باطل من اللسان قطعًا ، وإذا ثبت ذلك ، فاعلم : أنه لما كان اعتقاد الجاهلية : أن الدَّهر هو الذي يفعل الأفعال ، ويذمُّونه إذا لم تحصل أغراضهم : أعلمهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن الله هو الذي يفعل كل شيء ، فإذا سبُّوا الدَّهر من حيث : إنه الفاعل ، ولا فاعل إلا الله ، (18/42)
فكأنَّهم سبُّوا الله تعالى ، فلذلك قال الله تعالى : (( يسبُّ ابن آدم الدَّهر وأنا الدَّهر )) ؛ أي : أنا الذي أفعل ما ينسبونه للدَّهر ، لا الدَّهر ، فإنَّه ليل ونهار ، وأنا أقلبهما ؛ أي : أتصرف فيهما بالإطالة ، والاقصار ، والإضاءة ، والإظلام .
وفيه تنبيه : على أن ما يُفعل ويُصرَّف فيه لا يصلح لأن يفعل . وهذا المعنى هو الذي عبَّر عنه الحكماء بقولهم : ما له طبيعة عدميَّة يستحيل أن يفعل فعلاً حقيقيًّا . والله تعالى أعلم .
ومن باب النهي عن تسمبة العنب بالكرم
قوله : (( لا تسمُّوا العنب بالكرم ، فإن الكرم الرجل المسلم )) ؛ إنما سَمَّت العرب العنب بالكرم ، لكثرة حمله ، وسهولة قطافه ، وكثرة منافعه . وأصل الكرم : الكثرة . والكريم من الرجال هو : الكثير العطاء ، والنفع . يقال : رجل كريم ، وكرام لمن كان كذلك . وكرام ؛ لمن كثر منه ذلك ، وهي للمبالغة . ويقال أيضًا : رجل كرم - بفتح الرَّاء - ، وامرأة كرم ، ورجال كرم ، ونساء كرم ، وصفٌ بالمصدر على حدِّ : عدل ، وزور ، وفطر .
وإنما نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تسمية العنب بالكرم ؛ لأنَّه لما حُرِّم الخمر عليهم ، وكانت طباعهم تحثهم على الكرم : كره : أن يُسمَّى هذا المحرَّم باسم يهيج طباعهم إليه عند ذكره ، فيكون ذلك كالمحرِّك على الوقوع في المحرَّمات ، قاله أبو عبد الله المازري .
(18/43)
قلت : وفيه نظر ؛ لأن محل النَّهي إنَّما هو تسمية العنب بالكرم ، وليست العنبة محرَّمة ، وإنما المحرَّمة الخمر ، ولم يُسمَّ الخمر عنبًا حتى ينهى عنه ، وإنَّما العنب هو الذي سُمي خمرًا باسم ما يؤول إليه من الخمرية ، كما قال تعالى : { أراني أعصر خمرًا }. وقول أبي عبد الله : كره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُسمَّى هذا المحرَّم باسم يهيج الطباع إليه ؛ ليس بصحيح ؛ لأنَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينه عن تسمية المحرَّم الذي هو الخمر بالعنب في هذا الحديث ، بل عن تسمية العنب بالكرم ، فتأمله . وإنما محمل الحديث عندي محمل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ليس المسكين بالطَّواف عليكم )) ، و((ليس الشديد بالصُّرعة ، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) ؛ أي : الأحق باسم الكرم المسلم ، أو قلب المسلم ، وذلك لما حواه من العلوم ، والفضائل ، والأعمال الصالحات ، والمنافع العامة . فهو أحق باسم الكريم والكرم من العنب .
وقوله : (( لا تسمُّوا )) ؛ على جهة الإرشاد لما هو الأولى في الإطلاق ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء ، فإنها في كتاب الله العشاء ، وإنَّها تُعتِم بحلاب الإبل )). قال : (( وتقول الأعراب : هي العتمة )). فمعنى هذا - والله أعلم - : أن تسمية هذه الصلاة بالعشاء أولى من تسميتها بالعتمة ، لا أن إطلاق اسم العتمة عليها ممنوع ، فإنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أطلق عليها اسم العتمة لما قال : (( ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا )).. والله تعالى أعلم .
(18/44)
قلت : ويجري هذا المجرى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يقولن أحدكم : عبدي وأمتي ، فكلكم عبيد الله ، وكلُّ نسائكم إماء الله ، ولكن ليقل : غلامي وجاريتي ، وفتاي وفتاتي . ولا يقولنَّ أحدكم : اسق ربَّك ، أطعم ربَّك ، وصى بربِّك ، وضِّي ربَّك . ولا يقل أحدكم : ربِّي ، وليقل سيدي ومولاي )). فإنَّ هذا كله من باب الإرشاد إلى إطلاق اسم الأولى ؛ لا أن إطلاق ذلك الاسم محرَّم . ألا ترى قول يوسف ـ صلى الله عليه وسلم ـ : {اذكرني عند ربك } ، و{ ارجع إلى ربك } ، و{ إنه ربي أحسن مثواي } ، وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أن تلد الأمة ربَّها وربَّتها )) ؟! فكأن محل النهي في هذا الباب ألا تُتَّخذ هذه الأسماء عادة ، فيترك الأولى والأحسن . قال ابن شعبان في "الزاير" : لا يقل السَّيد : عبدي ، وأمتي ، ولا يقل المملوك : ربِّي ، ولا ربَّتي . قال القاضي عياض : ولم ينه عنه نهي وجوبٍ وحظرٍ ، بل : نهي أدبٍ وحضٍّ . ثم خاطبهم أحياناً بما فهم عنهم من صحة استعمالهم له في لغتهم ، وعلى غير الوجه المذموم. وقد تقدَّم : أنه يقال على المالك والسَّيد : ربٌّ . وأن أصله من : ربَّ الشيءَ والولد ، يربُّه ، وربَّاه ، يُرَبِّيه : إذا قام عليه بما يُصلحه ، وُيكمِّله. فهو : ربٌّ ، ورابٌّ . ولما كان ابتداءُ التربية ، وكمالها من الله تعالى بالحقيقة ، لا من غيره : كان الأولى بالإنسان ألا ينسب تربية نفسه إلا إلى مَن إليه الربوبية الحقيقية ، وهو الله تعالى ، فإنْ فَعَل ذلك ؛ كان متجوِّزًا في اللفظ ، مخالفًا للأولى ، كما تقدَّم .
(18/45)
وقوله : (( ولا يقل أحدُكم : ربِّي ، وليقل : سيِّدي ومولاي )) ؛ هذا اللفظُ متفقٌ عليه عند أكثر الرواة . وفي الأمِّ من رواية أبي سعيدٍ الأشجِّ ، وأبي معاوية عن الأعمش مرفوعًا : (( ولا يقل العبدُ لسيِّده : مولاي )). وانفرد أبو معاوية ؛ فزاد : (( وإن الله مولاكم )). وقد رواه عن الأعمش جرير ، ولم يذكر ذلك . وقد روي من طرق متعددة مشهورة ، وليس ذلك مذكورًا فيها ، بل : اللفظ الأول ؛ فظهر بهذا : أن اللفظ الأول أرجح . وإنما صرنا للترجيح للتعارض بين الحديثين ، فإنَّ الأول يقتضي إباحة قول العبد : مولاي . والثاني يقتضي منعه من ذلك ، والجمع متعذر ، والعلم بالتاريخ مفقود ، فلم يَبْقَ إلا الترجيح ؛ كما ذكرناه ، والله تعالى أعلم .
وأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يقول : غلامي ، وفتاي ، وفتاتي ، وجاريتي : إنَّما كان لأن هذه الألفاظ تنطلق على الحر والعبد ، وليس فيها من معنى الملك ، ولا من التعاظم شيء مما في : عبدي ، وأمتى . وأصل الفتوة : الشباب ، وهو الفتاء - بالمد - ثم قد استعمل الفتى فيمن كملت فضائله ، ومكارمه ، كما قالوا : لا فتًى إلا عليٌّ. ومن هذا أخذ الصُّوفيَّة الفتوة المتعارفة بينهم . وأصل الغلوميَّة في بني آدم ، وهي للصغير ، فينطلق على الصغير اسم غلام من حين يولد إلى أن يبلغ ، فينقطع عنه ذلك الاسم ، وكذلك : الجارية في النِّساء .
تنبيه : إذا أطلق (( ربِّي )) على غير الله تعالى فإنما يطلق مضافًا ، فيقال : ربُّ الدَّار ، وربُّ الفرس . ولا يطلق وفيه الألف واللام إلا إذا أريد به الله تعالى ، قاله ا لجوهري ، وغير .
(18/46)
وقوله : (( ولا يقل العبد : ربِّي ، وليقل : سيِّدي )) ، إنما فرَّق بينهما : لأن الربَّ من أسماء الله تعالى المستعملة بالاتفاق . واختلف في السَّيِّد ؛ هل هو من أسماء الله تعالى أم لا ؟ فإذا قلنا : ليس من أسمائه فالفرق واضح ؛ إذ لا التباس ، ولا إشكال يلزم من إطلاقه ، كما يلزم من إطلاق الرَّبِّ . وإذا قلنا : إنه من أسمائه ؛ فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ : الربِّ ؛ فيحصل الفرق بذلك . وأما من حيث اللغة : فالربُّ مأخوذٌ مما ذكرناه ، والسَّيِّد من السؤدد ، وهو التقدُّم . يقال : ساد قومه : إذا تقدَّمهم ، ولا شكَّ في تقدُّم السَّيِّد على غلامه ، فلما حصل الافتراق جاز الإطلاق ، ويجري مجرى ما ذكر قوله : (( لا يقل أحدكم : خبثت نفسي ، وليقل : لقِسَتْ )). قال أبوعبيد : معنى لقست وخبثت واحد ، لكن كره لفظ الخبث ، وشناعة اللفظ ، وعلَّمهم الأدب في المنطق . وقال الأصمعي : لقست نفسي ؛ أي : غثت. وقال ابن الاعرابي : ضاقت . ولا يعترض هذا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فأصبح خبيث النفس كسلان )) ؛ لأنَّ محل النهي أن يضيف المتكلم الخبث إلى نفسه ، لا أن يتكلم بالخبيث مطلقًا ، فاذا أخبر به عن غير معيَّن جاز ، ولا سيما في معرض التحذير والذم للكسل والتثاقل عن الطاعات ، كما قد جاء في هذا الحديث . ومن أوضح ما في هذا الباب قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين سُئل عن العقيقة فقال : (( لا أحبُّ العقوق ، ولكن : إذا أحبَّ أحدكم أن ينسك عن ولده بشاةٍ فليفعل )) ، فكره اسم العقوق.
قلت : ومقصود الشرع الإرشاد إلى تعرُّف مواقع الألفاظ ، واستعمال الأولى منها والأحسن ما أمكن من غير إيجاب ذلك ، واجتناب المشترك من الألفاظ ، وما يستكره منها ، وما لا تواضع فيه ، كعبدي وأمتي ، من غير تحريم ذلك ، ولا تحريجه . والله تعالى أعلم .
ومن باب ما جاء أن أطيب الطيب المسك
(18/47)
قوله : (( كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين ، فاتخذت رِجْلَين من خشب )) ؛ يحتمل : أن تكون هذه المرأة فعلت هذا لتستر قصرها عن الناس ، فلا ينظررن إليها . ولعل قصرها كان خارجًا عن غالب أحوال القصر. فإنَّ كان هذا ، فلا إثم عليها لصحة قصدها ، وحسن تسترها . وإن كانت فعلت ذلك لتتزيَّن بإلحاقها نفسها بالطوال ؛ فذلك ممنوع منه ، فإنَّه من باب تغيير خلق الله كما تقدَّم . وأما اتخاذها خاتم الذهب : فجائز للنساء على ما ذكرناه. وأما اتخاذها المسك : فمباح لها في بيتها ، ويلحق بالمندوب إذا قصدت به حسن التبتل للزوج . وأما إذا خرجت : فإنَّ قصدت أن يجد الرِّجال ريحها ؛ فهي زانية ؛ كما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومعناه : أنها بمنزلة الزانية في الإثم . وأما إذا لم تقصد ذلك : فلا تسلم من الإثم ؛ كيف لا وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا شهدت إحداكُنَّ المسجد فلا تمسنَّ طيبًا )) ، وقال : (( ليخرجن وهنَّ تفلات )) ؛ أي : غير متطيِّبات. وكل ذلك هو شرعنا . وهل كان كذلك في شرع بني إسرائيل ، أو لا ؟ كل ذلك محتمل .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أطيب الطيب المسك )) ؛ دليلٌ واضحٌ على طهارة المسك ، وإن كان أصله دمًا ، لكنه قد استحال إلى صلاح في مقرِّه العاديِّ ، فصار كاللَّبن .
قال القاضي عياض رحمه الله : قد وقع الإجماع على طهارته وجواز استعماله. وما حكي عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما من الخلاف في ذلك لا يصحُّ ، قال : والمعروف من السَّلف إجماعهم على جواز استعماله ، واقتداؤهم بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك .
ومن باب قوله : من عُرِض عليه ريحان فلا يردَّه
الرَّيحان : كلُّ بقلةٍ طيِّبة الرِّيح . قاله الخليل . والمراد به في هذا الحديث : كلُّ الطيب ؛ لأنَّه كله خفيف المحمل ، طيب الرِّيح ؛ ولأنه قد جاء في بعض طرق هذا الحديث : ((من عرض عليه طيبٌ )) بدل : (( ريحان )).
(18/48)
وقوله : (( خفيف المحمَل ، طيب الرِّيح )) ؛ المحمَل - بفتح الميم - ويعني به : الحمل ، وهو مصدر : (( حمل )) ، وبفتح الأولى ، وكسر الثانية : هو الزمان ، والمكان . وقد يقال في الزمان بالفتح في الثانية . والمحمل-أيضًا- : واحد محامل الحاجِّ . والْمِخمَل - بكسر الأولى ، وفتح الثانية : واحد محامل السيف . وقد أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا القول إلى العلة التي ترغب في قبول الطيب من الْمُعْطِية . وهي : أنه لا مؤنة ، ولا مِنَّه تلحق في قبوله ؛ لجريان عادتهم بذلك ، ولسهولته عليهم ، ولنزارة ما يتناول منه عند العرض ، ولأنَّه مِمَّا يستطيبه الإنسان من نفسه ، ويستطيبه من غير .
وفيه من الفقه : الترغيب في استعمال الطيب ، وفي عرضه على من يستعمله . مفرد : المعطي .
وقوله : (( كان ابن عمر يستجمر بأَلُوَّةٍ غير مُطَرَّاةٍ )). يستجمر : يتبخر. وأصله : من المجمر ، والمجمرة ، فاستعير له ذلك ؛ لأنَّه وضعُ البَخُور على الجمر في المجمرة . والأَلُوَّة : العود الذي يتبخر به . قال الأصمعي : وأراها كلمة فارسيَّة . قال أبو عبيد : وفيها لغتان : فتح الهمزة وضمها. وحكي عن الكسائي : إِلِيَّةٌ - بكسر الهمزة واللام - ، وقال بعضهم : لوَّة وليَّة . ويجمع : الأَلُوَّة : ألاويةٌ .
و (( غير مطرَّاةٍ ؛ أى : غير ملطخة بخلوق ، أو طيب . قال القاضي عياض : وأصله : غير مطرَّرةٍ ؛ من : طرَّرت الحائط إذا غشَّيته بجصٍّ ، أو حسَّنته ، وجدَّدته . قال : ويحتمل أن تكون (( مطرَّاة )) : مُحسَّنة ، مبالغة ، وذلك من الإطراء ، وهو المبالغة في المدح .
وهذه الأحاديث كلها تدلُّ على أن استعمال الطيب والبخور مرغب فيه ، مندوبٌ إليه ، لكن : إذا قصد به الأمور الشرعية مثل الجماعات والْجُمعات ، والمواضع المعظَّمات ، وفعل العبادات على أشرف الحالات. فلو قصد بذلك المباهاة والفخر ، والاختيال لكان ذلك من أسوأ الذنوب ، وأقبح الأفعال .
ومن باب تحريم اللعب بالنَّرد
(18/49)
قوله : (( من لعب بالنردَشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه )) ؛ قيَّدنا النردشير بفتح الدال وكسر الراء ، وكأنهما كلمة واحدة مبنيَّة الوسط . قال الخليل : النرد : فارسي .
قلت : وكان النردشير نوع من النَّرد . وهو لعبة مقصودها القمار ، وأكل المال بالباطل ، مع ما فيها من الصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، وعمَّا يفيد الإنسان في دينه ودنياه ، ومع ما يطرأ فيها من الشحناء ، والبغضاء ، ولذلك شدَّد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في لعبها فقال : فيما رواه مالك عن أبي موسى : (( من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله )). وهذا نصٌّ في تحريم النَّرد ، وهو المراد بقوله : (( فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه )) ، فإنَّ هذا الفعل في الخنزير حرام ؛ لأنَّه إنما عنى بذلك تذكية الخنزير ، وهي حرام بالاتفاق ، ولذلك لم يختلف فيه ، ويلحق به كل ما يقامر به ، كالشطرنج ، والأربعة عشر ، وغير ذلك مما في معناه .
واختلف في الشطرنج إذا لم يقامر به . فقيل : إنه على التحريم . وهو ظاهر قول مالك ، والليث ؛ حيث قالا : إنَّها شرٌّ من النَّرد ، وألهى . ويؤيد هذا أحاديث رواها عبد الملك بن حبيب تقتضي ذمَّ لاعب الشطرنج ، ولعنه . ولا شك في أن من ظن التحريم فيها إنَّه يردُّ شهادة اللاعب بها . وذهبت طائفة : إلى أن ذلك مكروه ، وهو نصُّ المذهب ، غير أن من أصحابنا من تأوَّله على التحريم ، والكراهة مذهب الشافعي وأبي حنيفة ، ولا يردان شهادة من لعب بها من غير قمار . وقال مالك : تسقط شهادة المدمن عليها . وقال بعض أصحابنا : إن المحرَّم إنَّما هو الإدمان عليها ، فأما لو لم يدمن عليها ، وتستَّر باللعب بها مع الأكفاء والنُّظراء ، وسلم من المفاسد التي ذكرناها فهي مباحة ، وقد فسَّر بعض أصحابنا هذا : بأن يلعبها مرَّة في السَّنة . وهذا شذوذ .
ومن باب : مناولة السِّواك الأكبر
(18/50)
قوله : (( أراني في المنام أتسوك بسواك فجذبني رجلان )) ؛ قد تقدَّم : رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحيٌّ ، وأنها يُقتبس منها الاحكام ، كما قال تعالى مخبرًا عن إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : { إني أرى في المنام أني أذبحك }. وجذب ، وجبذ بمعنى واحد ، وإنما جذباه طالبين منه السواك . وإنما ناوله الأصغر لأنهما كانا بين يديه ، ولو كان أحدهما عن يمينه لكان هو الأولى به ، كما جاء في سُنَّة الشراب .
وقوله : (( كبِّر )) ؛ أى : ابدأ بالكبير توقيرًا له ، ومراعاة لحق السِّنِّ في الإسلام ، وهذا كما قال في حديث حُويِّصَة : (( كبِّر ، كبِّر )). وقد استوفينا الكلام على هذا المعنى هناك . وحاصل ذلك : الحث على إكرام الشيخ المسلم ، واحترامه ، كما قد رري عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( إن من إجلال الله إكرام ذى الشيبة المسلم )).
كتاب الرُّقِي والطِّبِّ
باب في رقية جبريل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قولها : (( كان رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اشتكى رقاه جبريلُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ دليلٌ على استحباب الرقية بأسماء الله تعالى وبالعُوَذ الصحيحةِ المعنى ، وأن ذلك لا يناقض التوكل على الله تعالى ولا ينقصه ؛ إذ لو كان شيء من ذلك لكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحق الناس بأن يجتنبَ ذلك ، فإن الله تعالى لم يزل يُرَقِّي نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المقامات الشريفة ، والدَّرجات الرَّفيعة إلى أن قبضه الله على أرفع مقام ، وأعلى حال ، وقد رُقي في أمراضه ، حتى في مرض موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد رقته عائشة رضي الله عنها في مرض موته ، ومسحته بيدها وبيده ، وهو مُقرٌّ لذلك ، غير منكر لشيء مما هنالك . وقد استوفينا هذا المعنى في كتاب الايمان.
(18/51)
وقوله : (( باسم الله يبريك )) ؛ الاسم هنا يراد به المسمَّى ؛ فكأنه قال : الله يبريك ، كما قال تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى } ؛ أي : سبح ربَّك . ولفظ الاسم في أصله عبارة عن الكلمة الدَّالة على المسمَّى ، والمسمَّى هو مدلولها ، غير أنه قد يتوسَّع ، فيوضع الاسم موضع المسمَّى مسامحة ، فتدبَّر هذا ، فإنَّه موضع قد كثر فيه الغلط ، وتاه فيه كثير من الجهَّال وسقط . وموضع استيفائه علم الكلام .
وقوله : (( ومن كل داء يشفيك )) ؛ دليلٌ على جواز الرُّقى لما وقع من الأمراض ، ولما يتوقع وقوعه .
وقوله : { ومن شرِّ حاسدٍ إذا حسد } ؛ دليلٌ على أن الحسد يؤثر في المحسود ضررًا يقع به ، إمَّا في جسمه بمرض ، أو في ماله وما يختص به بضرر ، وذلك بإذن الله تعالى ، ومشيئته ، كما قد أجرى عادته ، وحقق إرادته ، فربط الأسباب بالمسببات ، وأجرى بذلك العادات ، ثمَّ أمرنا في دفع ذلك بالالتجاء إليه ، والدعاء ، وأحالنا على الاستعانة بالعُوَذ والرُّقى.
وقوله : (( من شرِّ كلِّ نفسٍ - أو : عين - )) ؛ هذا شد من الرَّاوي في أي اللفظين قال ، مع أن معناهما واحد ، فإن النَّفس يقال على الإصابة بالعين ؟ يقال : أصابت فلانًا نفس ؛ أي : عين . والنافس : العائن . قاله القتبي . وتطلق النفس على أمور أخر ليس شيء منها يراد بهذا الحديث . والله تعالى أعلم .
ومن باب العين حق ، والسِّحر حق ، واغتسال العائن
(18/52)
وقوله : (( العين حقٌّ )) ؛ أي : ثابت موجود ، لا شكَّ فيه . وهذا قول علماء الأمَّة ، ومذهب أهل السُّنَّة . وقد أنكرته طوائف من المبتدعة ، وهم محجوجون بالأحاديث النُّصوص الصَّريحة ، الكثيرة الصحيحة ، وبما يشاهد من ذلك في الوجود . فكم من رجل أدخلته العين القبر ، وكم من جمل ظهير أحلَّتْهُ القِدْر ، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال : { وما هم بضارين به من احدٍ إلا بإذن الله } ، ولا يلتفت إلى مُغْرِضٍ عن الشرع والعقل ، يتمسك في إنكار ذلك ؛ باستبعاد ليس له أصل ، فإنا نشاهد من خواصِّ الأحجار ، وتأثير السِّحر ، وسموم الحيوانات ما يُقْضَى منها العجب ، ويُتحقَّق أنَّ كل ذلك فعل مسبِّب كلَّ سبب . ولا يلتفت أيضًا إلى قول من قال من المثبتين للعين : إنَّ العائن تنبعث من عينه قوةٍ سُمِّيَّة تتصل بالمعين فيهلك ، أو يفسد ، كما تنبعث قوة سُمِّيَّة من الأفعى والعقرب تتصل باللَّديغ فيهلكه ؛ لأنَّا نقول لهولاء : إن كنتم تريدون بالقوَّة أن هناك معنى يقتضي ذلك الضرر بذاته ، وأن ذلك ليس فعلاً لله تعالى فذلك كفر ؛ لأنَّه جحد لما علم من الشرع والعقل ؛ من : أنه لا خالق إلا الله عز وجل ، ولا فاعل على الحقيقة إلا هو . وإن كان يريد بذلك : أن الله تعالى هو الفاعل للسبب والمسبب ؛ فهو الحق الصَّريح ، غير أن إطلاق لفظ القوَّ في هذا المعنى ليس بحسن عند المتشرِّعين ولا صحيح .
وقوله : (( ولو كان شيء سبق القَدَر لسبقته العين )) ؛ هذا إغياءٌ في تحقيق إصابة العين ، ومبالغة فيه تجري مجرى التمثيل ، لا أنَّه يمكن أن يردَّ القدر شيء ، فإنَّ القدر عبارة عن سابق علم الله تعالى ونفوذ مشيئته ، ولا رادَّ لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وإنَّما هذا خرج مخرج قولهم : لأطلبنَّك ولو تحت الثَّرى . أو : لو صعدت إلى السَّماء ، ونحوه مما يجري هذا المجرى ، وهو كثير.
(18/53)
وقوله : (( وإذا استغسلتم فاغسلوا )) ؛ هذا خطابٌ لمن يُتَّهم بأنَّه عائن ، فيجب عليه ذلك ، ويُقضى عليه به إذا طُلِب منه ذلك ، لاسيما إذا خيف على المعين الهلاك . وهذا الغسل هو الذى سمَّاه في بعض طرق حديث سهل بن حنيف : بالوضوء ، وذلك : أن عامر بن ربيعة نظر إلى سهل متجرِّدًا فقال : ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء ، فوُعِك سهل مكانه ، فأُخبر بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال لعامر : (( علام يقتل أحدكم أخاه ! ألا برَّكت ! إن العين حقٌّ ، توضأ له )) ، فتوضأ عامر . وفي الطريق الأخرى زيادة كيفية الغَسل ؛ قال : فغسل وجهه ، ويديه ، ومرفقيه ، وركبتيه ، وأطراف رجليه ، وداخلة ازاره في قدح ، فَصُبَّ عليه .
وصفته عند العلماء : أن يؤتى بقدح من ماء ، ولا يوضع القدح بالأرض ، فيأخذ منه غرفة ، فيتمضمض بها ، ثم يمجها في القدح ، ثم يأخذ منه ما يغسل به وجهه ، ثمَّ يأخذ بشماله ما يغسل به كفه اليمنى ، ثم بيمينه ما يغسل به كفه اليسرى ، ولشماله ما يغسل به مرفقه الأيمن ، ثم بيمينه ما يغسل به مرفقه الأيسر ، ولا يغسل ما بين المرفتين والكفين ، ثمَّ قدمه اليمنى ، ثمَّ اليسرى ، ثمَّ ركبته اليمنى ، ثم اليسرى على الصَّفة والرتبة المتقدمة ، وكل ذلك في القدح ، ثم داخلة الإزار ، وهو الطرف الذى يلي حِقْوَهُ الأيمن . وقد ذكر بعضهم : أن داخلة الإزار يكنى به عن الفَرْج . وجمهور العلماء على ما قلناه . فإذا استكمل هذا صبَّه خلفه من على رأسه . هكذا نقل أبو عبدالله المازري ، وقال : هذا المعنى لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه .
(18/54)
قال القاضي عياض : وبه قال الزهري ، وأخبر : أنه أدرك العلماء يصفونه ، ويستحسنه علماؤنا ، ومضى به العمل ، وزاد : أن غسل وجهه إنَّما هو صبَّةً واحدةً بيده اليمنى ، وكذلك سائر أعضائه ، وليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء ، وغسل داخلة الإزار هو إدخاله وغمسه في القدح ، ثم يقوم الذى يأخذ القدح ، فيصبَّه على رأس المعين من ورائه على جميع جسده ، يستغفله به. وقيل : يغسله بذلك ، ثم يكفأ الإناء على ظهر الأرض . وقد روي عن ابن شهاب : أنه بدأ بغسل الوجه قبل المضمضة ، وأنه لا يغسل القدمين جميعًا ، بل أطرافهما من عند أصول أصابعه . وقيل في داخلة الإزار : الموضع الذي تمسُّه داخلة الإزار. وقيل : أراد وركه ؛ إذ هو معقد الإزار. وقد روي في حديث سهل : أن العائن غسل صدره مع ما ذكره ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره فحسا من الماء حسوات . والمعتمد على ما رواه مالك . والله تعالى أعلم .
وفي حديث سهل من الفقه أبواب . فمنها : جبر العائن على الوضوء المذكور ؛ على الوجه المذكور. وقيل : لا يُجبر ، وأن من اتُّهم بأمرٍ أُحضر للحاكم ، وكُشف عن أمره . وأن العين قد تقتل ، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((علام يقتل أحدكم أخاه ؟ )) وأن الدُّعاء بالبركة تذهب أثر العين بإذن الله تعالى . وأن أثر العين إنما هو عن حسد كامن في القلب . وأن من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعًا لضرره . قال بعض العلماء : يأمره الإمام بلزوم بيته ، وإن كان فقيرًا رزقه ما يقوم به ، ويكف أذاه عن الناس . وفيه جواز النشر والتطبب بها .
فرع : لو انتهت إصابة العائن إلى أن يُعرف بذلك ويُعلَم من حاله أنه كلَّما تكلم بشيء معظَّمًا له ، أو متعجبًا منه أصيب ذلك الشيء ، وتكرر ذلك بحيث يصير ذلك عادة فما أتلفه بعينه غَرِمَه . وإن قتل أحدًا بعينه عامدًا لقتله قتل به ، كالسَّاحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرًا. وأما عندنا فيقتل على كل حال . قتل بسحره أو لا ؛ لأنَّه كالزنديق. وسيأتي .
(18/55)
وقول عائشة رضي الله عنها : (( سحر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهودي )) ؛ هذا الحديث يدل على أن السحر موجود ، وأن له أثرًا في المسحور . وقد دلَّ على ذلك مواضع كثيرة من الكتاب والسُّنة بحيث يحصل بذلك القطع بأن السِّحر حق ، وأنه موجودٌ ، وأن الشرع قد أخبر بذلك ، كقصة سحرة فرعون ، وبقوله تعالى فيها : { وجاءُوا بسحر عظيم } ، و{يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } ، إلى غير ذلك مما تضمنته تلك الآيات من ذكر السِّحر ، والسَّحرة ، وكقوله تعالى : { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ... } إلى آخرها . وبالجملة : فهو أمر مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن وجوده ، ووقوعه . فمن كذَّب بذلك فهو كافرٌ ، مكذِّب لله ورسوله ، منكر لما علم مشاهدة وعيانًا . ومنكر ذلك إن كان مُستسرًّا به فهو الزنديق ، وإن كان مظهرًا فهو المرتد .
(18/56)
والسحر عند علمائنا : حيل صناعية يُتوصل إليها بالعلم ، والإكتساب ، غير أنها لخفائها ودقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس ، فيندر وقوعها ، وتستغرب آثارها لندورها. ومادَّته الوقوف على خواص الأشياء ، والعلم بوجوه تركيبها ، وأزمان ذلك . وأكثره تخييلات لا حقيقة لها ، وإيهامات لا ثبوت لها ، فتعظم عند من لا يعرفها وتشبَّه على من لا يقف عليها . ولذلك قال تعالى : { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى }. مع أنه كان في عين الناظر إليه عظيمًا . وعن ذلك عبر الله تعالى بقوله : { وجاءوا بسحر عظيم } ؛ لأن الحبال والعصي لم تخرج عن حقيقتها ، وذلك بخلاف عصا موسى ، فإنَّها انقلبت ثعبانًا مبينًا خرقًا للعادة ، وإظهارًا للمعجزة . ولا ينكر أن السِحر له تأثير في القلوب بالحمى ، والبغض ، وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه ، ويحول بين المرء وقلبه ، وبإدخال الآلام ، وعظيم الأسقام ؛ إذ كل ذلك مدرك بالمشاهدة ، وإنكاره معاندة . وعلى ما قررناه فالسحر ليس بخرق عادة بل هو أمر عادي يتوصَّل إليه من يطلبه غالبًا ؛ غير أنه يقل ويندر . فلا نقول : إن السَّاحر تنخرق له العادة ؛ خلافًا لمن قال من أئمتنا وغيرهم : إن العادة تنخرق له . فإنَّ أراد بذلك جواز انخراقها له عادة عقلاً فمسلّم ، ما لم يدّع النبوة . فإنَّ حاصل ذلك أنه أمر ممكن . والله تعالى قادر على كل ممكن . وإن أراد بذلك : أن الذي وقع في الوجود خارق للعادة فهو باطل بما قدَّمناه . واستيفاء مباحثه في علم الكلام .
(18/57)
وقولها : (( حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله )) ؛ قد جعل هذا بعض أهل الزَّيغ مطعنًا في النبوة . وقال : إذا انتهى الحال إلى هذا لم يوثق بقول من كان كذلك . والجواب : إن هذا صَدَر عن سوء فهم وعدم علم . أما سوء الفهم ؛ فلأنها إنما أرادت أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ عن النساء ، فكان قبل مقاربة الجماع يخيل إليه أنه يتأتى له ذلك ، فإذا لابسه لم ينهض لغلبة مرض السحر عليه . وقد جاء هذا المعنى منصوصًا في غير كتاب مسلم. فقالت : حتى كان يخيل إليه : أنه يأتي النساء ، فلا يأتيهن . ولو لم يُنقل أن ذلك في الجماع فيصح في غيره ، كما صحَّ فيه . فيتخيل إليه أنه يُقْدِم على الأكل ، أو المشي مثلاً ؛ لأنَّه لا يُحسُّ بمانع يمنعه منه . فإذا رام ذلك ، وأخذ فيه لم يأت له ذلك ، لغلبة المرض الناشيء عن السحر . لا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوجب له خللاً في عقله ، ولا تخليطًا في قوله ؛ إذ قد قام برهان المعجزة على صدقه ، وعصمة الله تعالى له عن الغلط فيما يبيِّنه بقوله وفعله . وأما عدم علم الطاعن : فقد سلبه الله تعالى العلم بأحكام النبوات ، وما تدل عليه المعجزات . فكأنهم لم يعلموا أن الأنبياء من البشر ، وأنه يجوز عليهم من الأمراض ، والآلام ، والغضب ، والضجر ، والعجز ، والسحر ، والعين ، وغير ذلك ما يجوز على البشر ، لكنهم معصومون عمَّا يناقض مدلول المعجزة من معرفة الله تعالى ، والصِّدق ، والعصمة عن الغلط في التبليغ . وعن هذا المعنى عبَّر الله تعالى بقوله : { قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ }. فمن حيث البشرية : يجوز عليهم ما يجوز عليهم . ومن حيث الخاصة النبويَّة : امتاز عنهم فهو الذي شهد له العلي الأعلى ؛ بأن بصره ما زاغ وما طغى ، وبأن فؤاده ما كذب ما رأى ، وبأن قوله وحيٌّ يوحى ، وأنه ما ينطق عن الهوى .
(18/58)
وقوله : (( ثم دعا ، ثم دعا )) ؛ أى : إظهارًا للعجز والافتقار ، وعلمًا منه : بأن الله هو الكاشف للكرب ، والأضرار ، وقيامًا بعبادة الدعاء عند الاضطرار .
وقوله : (( أما شعرت : أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه )) ؛ أي : أجابني فيما دعوته . فسمَّى الدعاء : استفتاء . والجواب : فتيا ؛ لأنَّ الداعي طالب ، والمجيب مسعفٌ ، فاستعير أحدهما للآخر .
وقوله : (( جاءني رجلان )) ؛ أي : ملكان في صورة رجلين . وظاهره : أن ذلك كان في اليقظة . ويُحتمل أن يكون منامًا ، ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وحيٌّ.
وقوله : (( ما وجع الرَّجل ؟ )) أي : ما مرضه ؟ و(( المطبوب )) : المسحور . يقال : طُبَّ الرَّجل : إذا سحر . قال ابن الأنباري : الطِّبُّ من الأضداد . يقال لعلاج المرض وللسِّحر .
قلت : وإنما قيل ذلك ؛ لأنَّ أصل الطِّبَّ الحِذق بالشيء ، والتفطن له ، ولما كان علاج المريض والسِّحر ؛ إنما يكونان عن فطنة وحِذق : قيل على كل واحد منهما : طبٌّ ، ولمعاينهما : طبيت ، وفي الطب ثلاث لغات : كسر الطاء ، وفتحها ، وضمها .
و (( الْمُشط )) بضم الميم : واحد الأمشاط الي يمشط بها . والمشط أيضًا : نبت صغير يقال له : مشط الذيب. والمشط - أيضًا - : سلاميات ظهر القدم . ومشط الكتف : العظم العريض .
قلت : ويحتمل أن يكون الذي سحر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحدًا من هؤلاء الأربعة .
(18/59)
و (( الْمُشاطة )) بالطاء : هو ما يسقط من الشعر عند الْمَشْطِ . ووقع في البخاري : مشاقة - بالقاف - وهي الواحدة من مشاق الكتان . وقيل : هي المشاطة من الشعر . و(( جف طلعة ذكر )) روايتنا فيه بالفاء ، وهي المشهورة . وقال أبوعمر : قد روي بالباء بواحدة تحتها. فبالفاء : هي وعاء الطلع ، وهو الغشاء الذي يكون عليه . وبالباء ؛ قال شمر : أراد بالجب داخل الطلعة إذا أخرج عنها الكُفُرَّى ، كما يقال لداخل الرُّكبة ، من أسفلها إلى أعلاها : جبٌّ . وقيل فيه : إنه من القطع ؛ يعني به : ما قطع من قشورها .
وقوله : (( في بئر ذي أروان )) ؛ كذا هو في الأصل ، وخارج الحاشية : في بئر ذروان . ووقع في البخاري في كتاب الدَّعوات : في ذروان بئر في بني زريق . وقال القتبي : الصواب : ذي أروان ، كما في الأصل .
وقوله : (( والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين )) ؛ فيه دليل : على جواز اليمين وإن لم يستحلف . ونقاعة الحنَّاء : الماء الذي يخرج فيه لونها إذا نقعت فيه . وتشبيهه نخلها برؤوس الشياطين يعني : أنَّها مستكرهه ، مستقبحة المنظر ، والمخبر. وهذا على عادة العرب إذا استقبحوا شيئًا شبهوه بأنياب أغوال ، ورؤوس الشياطين . وقد تقدَّم نحو هذا . ويعني - والله أعلم - : أن هذه الأرض التي فيها النخل والبئر خراب لا تعمر لرداءتها ، فبئرها معطلة ، ونخلها مشذَّبةٌ ، مهملة ، وتغيُّر ماء البئر : إما لطول إقامته ، وإما لما خالطه مما أُلقي فيه .
وقولها : (( أفلا أحرقته )) ؛ كذا صحَّت الرواية . وتعني به : السِّحر . ورقع في بعض النُّسخ : (( أخرجته )) ؛ كذا بدل (( أحرقته )) ، وهي أصوب ؛ لأنَّها هي التي تناسب قوله : (( لا ، أما أنا فقد عافاني الله ، وكرهت أن أثير على الناس شرًّا )) ؛ أي : بإخراج السِّحر من البئر ، فلعلَّه يعمل به ، أو يضر أحدًا .
(18/60)
وقوله : (( فأمرت بها فدفنت )) ؛ أي : بالبئر ؛ يعني : أنها ردمت على السحر الذي فيها ؛ لما يخاف من ضرر السِّحر ، ومن ضرر ماء ذلك البئر. هذا معنى ما ذكره بعض الشارحين لهذا الحديث . ووقع في رواية في "الأم" : قالت عائشة رضي الله عنها : قلت : يا رسول الله ! فأخرجته ؟ تستفهمه : هل كان منه إخراج له ؟ والرواية المتقدِّمة على العرض ، وهما متقاربتان في المعنى . وفي كل الروايات فجواب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها هو واحدٌ ، وهو : أنه لم يفعل ذلك ، ولا وجد منه .
قلت : ويظهر لي : أن رواية : (( أفلا أحرقته ؟ )) أولى من غيرها ؛ لأنَّه يمكن أن يكون استفهمته عن إحراق لبيد بن الأعصم ؛ الذي صنع السِّحر فأجابها : بالامتناع من ذلك ؛ لئلا يقع بين الناس شرٌّ بسبب ذلك ، فحينئذ يكون فيه حجَّة لمالك على قتل السَّاحر إذا عمل بسحره . وإنَّما امتنع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك لما نبَّه عليه من خوف وقوع شرٌّ بين المسلمين واليهود ؛ لما كان بينهم من العهد والذمَّة . فلو قتله : لثارت فتنة ، ولتحدَّث الناس : أن محمَّدًا يقتل من عاهده وأمَّنه . وهذا نحو مِمَّا راعاه في الامتناع من قتل المنافقين ، حيث قال : (( لئلا يتحدَّت الناس : أن محمَّدًا يقتل أصحابه )) ، فيكون ذلك منفرًا عن الدُّخول في دينه ، وفي عهده . والله تعالى أعلم .
وقد تقدَّم : أن السَّاحر عند مالك كالزنديق ؛ لأنَّ العمل عنده بالسِّحر كفر مُستَسرٌّ به ، فلا تُقبل توبة السَّاحر ، كما لا تقبل توبة الزنديق ؛ إذ لا طريق لنا إلى معرفة صدق توبته. وقال الشافعي : إن عمل السَّحر ، وقتل به ؛ فإن قال : تعمدت القتل ؛ قتل . وإن قال : لم أتعمده ؟ لم يقتل ، وكانت فيه الدِّية . وإنما صار مالك : إلى أن السحر كفرٌ ؛ لقوله تعالى : { وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } ؛ أي : بالسحر . ويتأيَّد ذلك بأن الساحر لا يتم له سحره حتى يعتقد أن سحره ذلك مؤثرٌ بذاته وحقيقته ، وذلك كفر .
(18/61)
وبقول مالك قال أحمد ، وجماعة من الصحابة والتابعين ، والشافعي في قولٍ له آخر . وروي عنه أيضًا : أنه يسأل عن سحره ، فإنَّ كان كفرًا ؛ استتيب منه . وقال مالك في المرأة تعقد زوجها : إنَّها تُنكَّل ولا تقتل . وقال ابن المسيب في رجل طُبَّ ، أو أخذ عن امرأته أيُحِلُّ ويُنْشَر ؟ قال : لا باس به . وقال : أما ما ينفع فلم ينه عنه . وأجاز أيضًا أن يسأل من الساحر حل السِّحر . وإليه مال المزني ، وكرهه الحسن البصري .
ومن باب ما جاء أن السُّموم لا تؤثر بذاتها
قوله : (( إن يهوديَّة أتت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشاةٍ مسمومة )) ؛ ظاهره : أنها أتته بها على وجه الهدية ، فإنَّه كان يقبل الهديَّة ، ويُثيب عليها . ويحتمل أن تكون ضيافة ، وأبعد ذلك أن تكون بيعًا . وفي غير كتاب مسلم : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ من الشاة الذراع ، فأكل منها هو وبشر بن البراء ، وأنه قال عند ذلك : (( إن هذه الذراع تخبرني : أنها مسمومةٌ )) ، فأحضرت اليهوديَّة ، فسُئلت عن ذلك ، فاعترفت ، وقالت : إنما فعلت ذلك ؛ لأنَّك إن كنت نبيًّا لم تضرك ، وإن كنت كاذبًا أَرَحْتَ منك. وفي كتاب مسلم قالت : أردت لأقتلك . فأجابها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن قال : ((ما كان الله ليسلطك على ذلك )) ، فلم يضرَّ ذلك السُّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طول حياته غير ما أثَّر بلهواته وغير ما كان يعاوده منه في أوقات ، فلما حضر وقت وفاته أحدث الله تعالى ضرر ذلك السُّم في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتوفي بسببه ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرضه الذي توفي فيه : (( لم تزل أكلة خيبر تعاودني ، فالآن أوان قطعت أبهري )). فجمع الله لنبيِّه في بين النبوَّة والشهادة مبالغة في الترفيع والكرامة . وأمَّا بشر بن البراء : فروي : أنه مات من حينه . وقيل : بل لزمه وجعه ذلك ، ثم توفي منه بعد سنة .
(18/62)
ففي هذا الحديث فوائد كثيرة ؛ أهمها : ما أظهر الله تعالى من كرامات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث كلمه الجماد ، ولم يؤثر فيه السُّم ، وعلم ما غيب عنه من السُّم . وفيه ما نبه عليه في الترجمة : من أن السُّموم لا تؤثر بذواتها ، بل بإذن الله تعالى ومشيئته . ألا ترى : أن السُّم أثر في بشر ولم يؤثر في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلو كان يؤثر بذاته لأثر فيهما في الحال ؟! .
وقوله : (( ألا تقتلها ! قال : لا )) ؛ هذه رواية أنس : أنَّه لم يقتلها . وقد وافقه على ذلك أبو هريرة فيما رراه عنه ابن وهب . وقد روى عنه أبو سلمة بن عبدالرحمن : أنَّه قتلها . وفي رواية ابن عباس : أنَّه دفعها إلى أولياء بشير فقتلوها . ويصح الجمع ، بأن يقال : إنه لم يقتلها أولاً بما فعلت من تقديم السُّم إليهم ، بل حتى مات بشر ، فدفعها إليهم فقتلوها .
ففيه من الفقه : أن القتل بالسُّم كالقتل بالسِّلاح الذي يوجب القصاص . وهو قول مالك إذا استكرهه على شربه فيقتل بمثل ذلك . وقال الكوفيون : لا قصاص في ذلك ، وفيه الدِّية على عاقلته . قالوا ولو دسَّه له في طعام أو شراب لم يكن عليه شيء ولا عاقلته . وقال الشافعي : إذا فعل ذلك به وهو مكرهًا ففيه قولان ؟
أحدهما : عليه القود ، وهو أشبهها.
والثاني : لا قود عليه . وإن وضعه له ، فأخبره ، فأخذه الرَّجل ، فأكله ، فلا عقل ، ولا قود ، ولا كفارة .
وقوله : (( فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ أي : أعرف أثرها ، فأمَّا بتغيّر لون اللَّهوات ، وإمَّا بنتوءٍ ، أو تحفير فيها . واللهوات : جمع لهاة ، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك . قاله الأصمعي . وقيل : هي ما بين منقطع اللِّسان إلى منقطع أصل الفم من أعلاه .
ومن باب ما كان يرقي به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المريض
قوله : (( أذهب الباس ربَّ الناس ! )) البأس : الضرر . وفيه دليلٌ على جواز السَّجع في الدعاء والرقى ؛ إذا لم يكن مقصودًا ، ولا متكلَّفًا .
(18/63)
وقوله : (( شفاء لا يغادر سقمًا )) ؛ شفاء منصوبٌ على المصدر ، وصدره : واشف . والشافي : اسم فاعل من ذلك ، والألف واللام فيه بمعنى : الذي ، وليس باسم علم لله تعالى إذ لم يكثر ذلك ، ولم يتكرر ، على ما قدَّمناه .
و (( لا يغادر )) ؛ أي : لا يترك . و(( السَّقم )) : المرض . و(( مسحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيمينه عند الرَّقي )) ؛ دليل على جواز ذلك . وحكمته : التبرُّك باليمين ، وأن ذلك غاية تمكُّن الرَّاقي ، فكأنَّه مد يده لأخذ المرض وإزالته .
ومن حكمته : إظهار عجز الرَّاقي عن الشفاء ، وصحة تفويضه ذلك إلى الله تعالى ، ولذلك قال عند ذلك : (( لا شفاء إلا شفاؤك )) ، .
و (( الرفيق الأعلى )) ؛ يعني به - والله أعلم - : الملأ الكريم من الملائكة والنبيين . وقيل : يعني به : الله تعالى ، وفيه بُعدٌ من جهة اللسان . وسيأتي له مزيد بيان.
و (( النفث )) : نفخ يسير مع ريق يسير ، وهو أقل من التَّمل .
و (( المعوِّذات )) ؛ يعني بها : { قل أعوذ بربِّ الفلق } ، و: { قل أعوذ بربِّ الناس }. ونحو قوله تعالى : { ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون }.
وقوله : (( كان إذا اشتكى الإنسان مِنَّا ، أو كانت به قرحًا ، أو جرح )) ؛ يدل : على جواز الرُّقي من كل الأمراض ، والجراح ، والقروح ، وأن ذلك كان أمرًا فاشيًا بينهم ، معمولاً به عندهم .
ووضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبابته بالأرض ، ورقاه بها يدل : على استحباب ذلك عند الرُّقي . وزعم بعض علمائنا : أن ذلك معلل : بأن تراب الأرض لبرودته ، ويبسه يقوي الموضع الذي به الألم ، ويمنع انصباب المواد إليه بيبسه وتجفيفه مع منفعته في تجفيف الجراح وإدمالها . وقال في الرِّيق : إنه يختصُّ بالتحليل ، والإنضاج ، والإدمال ، وإبراء الجراحات ، والأورام ، والثآليل لا سيَّما من الصائم والجائع.
قلت : وهذا إنَّما يكون عند المعالجة ، والشروع فيها على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والرِّيق ، وملازمة ذلك في أوقاته .
(18/64)
وأمَّا النفث ، ووضع السَّبابة على الأرض ، فلا يتعلَّق منها بالمرقِي شيء له بالٌ ، ولا أثر ، إنَّما هذا من باب التَّبرُّك بأسماء الله تعالى ، وبآثار رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأما الرِّيق ووضع الإصبع ، وما أشبه ذلك : فإمَّا أن يكون ذلك لخاصية فيه ، وإمَّا أن يكون ذلك لحكمه إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة . والله تعالى أعلم .
ومن باب مِمَّاذا يرقى
قول عائشة رضي الله عنها : (( رخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرُّقية من الحمة )). وقول أنس : (( رخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرُّقية من العين ، والحمة ، والنملة )) ؛ دليلٌ على أن الأصل في الرُّقي كان ممنوعًا ، كما قد صرَّح به حيث قال : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الرُّقى . وإنَّما نهى عنه مطلقًا ؛ لأنَّهم كانوا يرقون في الجاهلية بِرُقًى هو شركٌ ، وبما لا يفهم ، وكانوا يعتقدون : أن ذلك الرُّقى يؤثر . ثم : إنهم لما أسلموا وزال ذلك عنهم نهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك عمومًا ، ليكون أبلغ في المنع ، وأسدُّ للذريعة . ثم : إنهم لما سألوه ، وأخبروه : أنهم ينتفعون بذلك ؛ رخص لهم في بعض ذلك ، وقال : (( اعرضوا عليَّ رقاكم ، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك ، فجازت الرُّقية من كل الآفات من الأمراض ، والجراح ، والقروح ، والحمة ، والعين ، وغير ذلك ؛ إذا كان الرُّقى بما يفهم ، ولم يكن فيه شرك ، ولا شيء ممنوع . وأفضل ذلك ، وأنفعه : ما كان بأسماء الله تعالى وكلامه ، وكلام الله رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( من كل ذي حمة )) ؛ أي : من لَسْع كل دابَّة ذات سُمٍّ . والحمة : السُّم . والمشهور فيه : ضم الحاء . قال بعضهم : وقد يفتح. وهي مخففة الميم على كل حال .
و (( النملة )) ، قال ابن قتيبة : قروح تكون في الجنب ، وغير الجنب تزعم المجوس : أن ولد الرَّجل إذا كان من أخته فخطَّ على النملة شفي صاحبها وأنشد :
ولا عَيْبَ فِينَا غير عِرْقٍ لِمًعْشَرٍ كِرَامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النَّمل
(18/65)
أي : لسنا بمجوسي ننكح الأخوات . قال غيره : تكون في الجنب وغير الجنب ، والمشهور فيها فتح النون . وحكى الهروي فيها : الضم. فأمَّا النَّملة -بكسر النون - : فهي المشية المتقارية ، حكاها الفرَّاء .
و (( السَّفعة )) تُروى بفتح السين ، وضمها ، والفتح أكثر . وقد فسَّرها الراوي بقوله : يعني : بوجهها صفرة . وفيه تسامح ، فإنَّ الشفعة هي فيما قاله الأصمعي : حمرة يعلوها سواد . وقال الحربي : هي سوادٌ في الوجه . و(( النَّظرة )) : العين ، قاله الهروي . وقال أبو عبيد : يقال : رجل به نظرة ؛ أي : عين .
قلت : وجميع أحاديث الرُّقية الواقعة في كتاب مسلم : إنَّما يدلُّ على جواز الرُّقي بعد وقوع الأسباب الموجبة للرُّقية من الأمراض والآفات ، وأما قبل وقوع ذلك : ففي البخاري عن عائشة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا أوى إلى فراشه ؛ نفث في كفه بـ{ قل هو الله أحد} ، والمعوذتين ، ثمَّ يمسح بهما وجهه وما بلغت يده من جسده ، فكأن هذا دليلاً على جواز استرقاء ما يتوقع من الطوارق والهوام وغير ذلك من الشرور . وقد تقدم في الإيمان الخلاف فيه .
وقوله : (( ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة ؟ )) أي : ضغيفة ، نحيلة . وأصل الضراعة : الخضوع والتذلل . ويعني بهم : بني جعفر بن أبي طالب ـ رضى الله عنهم ـ .
ومن باب لا يرقى برقى الجاهلية ولا بما لا يفهم
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما عرضوا عليه الرُّقى : (( لا أرى به بأسًا ، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )) ؛ دليل على جواز الرُّقى والتطبُّب بما لا ضرر فيه ، ولا منع شرعيًّا مطلقًا وإن كان بغير أسماء الله تعالى وكلامه ، لكن إذا كان مفهومًا .
وفيه : الحضُّ على السعي في إزالة الأمراض والأضرار عن المسلمين بكل ممكن جائز .
ومن باب أمِّ القرآن رقيةٌ من كل شيء
(18/66)
(( الحيّ )) : القبيل . و(( استضافوهم )) : سألوهم الضيافة . و(( اللَّديغ )) : الذي لدغته الحيَّة ، أو العقرب . وقد يُسمَّى بالسليم تفاؤلاً ، كما قد جاء في الرواية الأخرى . و(( القطيع من الغنم )) : هو الجزء المقتطع منها ، فعيل ، بمعنى : مفعول .
وقوله : (( وما أدراك : أنها رقية ؟! )) أي : أيُّ شيء أعلمك : أنَّها رقية ؟! تعجبًا من وقوعه على الرُّقى بها ، ولذلك تبسَّم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند قوله : (( وما أدراك : أنها رقية ؟! )) وكان هذا الرجل علم أن هذه السورة قد خصَّت بأمور . منها : أنها فاتحة الكتاب ، ومبدؤه ، وأنها متضمنة لجميع علوم القرآن ؛ من حيث : إنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله ، وعلى الأمر بالعبادات ، والإخلاص فيها ، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى ، وعلى الابتهال إلى الله تعالى في الهداية إلى الصراط المستقيم ، وكفاية أحوال الناكثين ، وعلى بيان عاقبة الجاحدين . وقد روى الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا ، وفيه : فقال : (( وما يدريك : أنها رقية ؟! )) فقلت : يا رسول الله ! شيء ألقي في روعي . قال : (( فكلوا وأطعمونا من الغنم )). وقيل : إن موضع الرُّقية منها إنما هو : { إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين }. ويظهر لي : أن السُّورة كلها موضع الرُّقية لما ذكرناه ، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وما أدراك أنَّها رقية ؟ )) ولم يقل : إن فيها رقية .
وقوله : (( اقسموا ، واضربوا لي بسهم معكم )) ؛ هذه القسمة إنَّما هي قسمة برضا الرَّاقي ؛ لأنَّ الغنم ملكه ؛ إذ هو الذي فعل العوض الذي به استحقها ، لكن طابت نفسه بالتشريك ، فأحاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما يقع به رضا المشتركين عند القسمة ، وهي القرعة ، فكان فيه دليل : على صحة العمل بالقرعة في الأموال المشتركة ، وقد تقدَّم ذكر الخلاف فيها في النكاح .
(18/67)
وقوله في "الأم" : (( ما كنا نأبُنُه برقية )) ؛ أي : نتهمه بها . يقال : أَبَنْتُ الرَّجل ، آبُنُهُ ، وآبِنُهُ : إذا رميته بخلَّة سوء . ومنه : رجل مأبون ؛ أي : معيبٌ . والأبْنَهُ : العيب . ومنه : عودٌ مأبون : إذا كان فيه أُبْنَهٌ تعيبه ؛ أي : عقدة . قاله القتبي وغيره . وقد روي هذا الحرف : (( ما كنَّا نظنه )) بدل : نأبنه ؛ أي : نتهمه .
وقد ذكر أبو داود حديث أبي سعيد هذا على مساقط فيه زوائد ، فلنذكره على سياقه فقال : عن أبي سعيد ـ رضى الله عنه ـ : أن رهطًا من أصحاب النبي جا انطلقوا في سفرة سافروها ، فنزلوا بحيٍّ من أحياء العرب ، فاستضافوهم ، فأبوا أن يضيفوهم . قال : فلُدِغ سيِّدُ ذلكم الحيّ ، فَشَفَوا له بكل شيء لا ينفعه شيء . فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرَّهط الذين نزلوا بكم لعل يكون عند بعضهم شيء ينفع صاحبكم . فقال بعضهم : إن سيِّدنا لُدغ فشفينا له بكل شيء ، لا ينفعه شيء . فهل عند أحد منكم شيء يشفي صاحبنا رُقية . فقال رجل من القوم : إني لأرقي ، ولكن استضفناكم فأبيتم أن ضيفونا ! ما أنا براقٍ حتَّى تجعلوا لنا جعلاً ، فجعلوا له قطيعًا من الشاء ، فأتاه ، فقرأ عليه أمَّ الكتاب ، ويَتْفِل حتَّى برأ كأنما أُنشط من عقال . قال : فأوفاهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه . فقال : اقتسموا . فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونستأمره ، فغدوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فذكروا ذلك له ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أين علمتم أنها رقية ؟! أحسنتم ، فاضربوا لي معكم بسهم )).
(18/68)
وذُكِرَ عن الشعبي ، عن خارجة بن الصلت ، عن عمِّه : أنه مرَّ بقومٍ ، فأتوه ، فقالوا : إنك جئت من عند هذا الرجل بخير ، فارق لنا هذا الرَّجل ، فأتوه برجل معتوهٌ في القيود ، فرقاه بأمِّ القرآن ثلاثة أيام غدوة ، وعشيَّة ، كلَّما ختمها جمع بزاقه ثم تفل ، فكأنَّما أنشط من عقال ، فاعطوه شيئًا ، فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكر له ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كُلْ ، فلعمري لمن أكل برقية باطل ، لقد أكلت برقية حق )). ولا يخفى ما في هذا المساق من الفقه والزوائد ، فتأمله .
وإيقاف الصحابي قبول الغنم على سؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمل بما يجب من التوقف عند الإشكال إلى البيان ، وهو أمرٌ لا يختلف فيه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خذوا منهم ، واضربوا لي معكم بسهم )) ؛ بيان للحكم بالقول ، وتمكين له بالعمل ؛ إذ لم تكن له حاجة لذلك السَّهم إلا ليبالغ في بيان أن ذلك من الحلال المحض ؛ الذي لا شبهة فيه ، فكان ذلك أعظم دليل لمن يقول بجواز الأجرة على الرُّقى والطب . وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وجماعة من السَّلف والخلف .
وأمَّا الأجرة على تعليم القرآن : فأجازها الجمهور من السلف والخلف متمسكين بهذا الحديث ، وما زاد فيه البخاري من حديث ابن عباس : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله )). وهذا يلحق بالنُّصوص . وقد جزم أبو حنيفة أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، وكذلك أصحابه ، تمسُّكًا بأمرين :
أحدهما : أن تعلم القران وتعليمه واجبٌ من الواجبات ؛ التي تحتاج إلى نيَّة التقرُّب والإخلاص ، فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة ، والصيام .
(18/69)
وثانيهما : ما رواه أبو داود من حديث عبادة بن الصامت قال : علَّمت ناسًا من أهل الصُّفة الكتاب والقرآن ، وأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا ، فقلت : ليست بمال ، وأرمي عليها في سبيل الله ، فلآتينَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلأسألنَّه ، فأتيته فسألته ، فقال : (( إن كنت تحب أن تطوَّق قوسًا من نار فاقبلها )).
وللجمهور أن يقولوا : لا نسلِّم صحة ذلك القياس ؛ لأنَّه فاسد الوضع ؛ لأنَّه في مقابلة قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله )) ، وهو عمومٌ قوي ، وظاهرٌ جلي .
والجواب عن القياس : إنه لا يصح للفرق الذي بين الفرع والأصل ، سلَّمنا لكن بينهما فرق وهو : أن الصوم والصلاة عبادات خاصَّة بالفاعل ، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم ، فتجوز الأجرة على محاولة النقل ، كتعليم كتابة القرآن .
وأمَّا الجواب عن الحديث بعد تسليم صحته : فالقول بموجبه ؛ لأنَّ تعليم عبادة لم تكن بإجارةٍ ، ولا جُعل ، وإنما علَّم لله تعالى تطوعًا ، لا لغيره . ومن كان كذلك حرم عليه أخذ العوض على ما فعله لله تعالى ؛ لأنَّه ربما يفسد عمله ، ويأكل مالاً بالباطل .
ومن باب الرُّقبة بأسماء الله عزَّ وجلَّ
قوله : (( ضع يدك على الذي يألم من جسدك )) ؛ هذا الأمر على جهة التعليم ، والإرشاد إلى ما ينفع من وضع يد الرَّاقي على المريض ومسحه به . وأن ذلك لم يكن مخصوصًا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بل ينبغي أن يفعل ذلك كل راقٍ . وقد تأكد أمر ذلك بفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ـ رضى الله عنهم ـ ذلك بأنفسهم وبغيرهم ، كما قد ذكر في الأحاديث المتقدِّمة ، فلا ينبغي للرَّاقي أن يعدل عنه للمسح بحديد ولا بغيره ، فإنَّ ذلك لم يفعله أحدٌ ممن سبق ذكره ، ففعلُه تمويهٌ لا أصل له .
(18/70)
ومما ينبغي للرَّاقي أن يفعله : النقث والتفل . وقد قلنا : أنَّهما نفخ مع ريق ، وإن ريق التفل أكثر . وقد قيل : إن ريق النفث أكثر. وقيل : هما متساويان . والأول أصح عند أهل اللغة . وقد كثر ذلك في الأحاديث المتقدِّمة وغيرها ، فلا يعدل عنه ، وكذلك تكرار التسمية ثلاثًا ، وتكرار العوذ سبعًا ، كما جاء في هذا الحديث ، فينبغي للرَّاقي أن يحافظ عليه ؛ إذ قد علَّمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر به . فكل ذلك فيه أسرار يدفع الله تعالى بها الأضرار . فأما ما يفعله المعزمون من الآلات والصَّلاصل : فذلك كله من باب التمويه والتطرُّق لأكل المال بالباطل .
واختلف العلماء في النُّشرة . وهي : أن يكتب شيئًا من أسماء الله ، أو من القرآن ، ثم يغسله بالماء ، ثمَّ يمسح به المريض ، أو يسقيه إياه . فأجازها سعيد بن المسيب . قيل له : الرَّجل يؤخذ عن امرأته ؛ أيحل عنه وينشر ؟ قال : لا بأس به ، وما ينفع لم يُنه عنه . وقال المازري : النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم ، وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها ؛ أي : تحل . ومنعها الحسن . وقال : هي من السحر . وقد روى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله ـ رضى الله عنه ـ قال : سُئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النَّشرة فقال : (( هي من عمل الشيطان )). قال بعض علمائنا : هذا محمول على أنها خارجة عمَّا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعن المداواة المعروفة ، والنُّشرة من جنس الطب .
(18/71)
قلت : ويتأيد هذا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك)) ، و(( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )). قال القاضي عياض رحمه الله في النفث : وفائدة ذلك - والله أعلم - التبرُّك ببلل الرُّطوبة ، أو الهواء ، والنفس المباشر للرُّقية الحسنة ، كما يُتبرَّك بغسالة ما يكتب من أسماء الله الحسنى في النُّشُر. قال : وقد يكون ذلك على وجه التفاؤل من زوال ذلك الألم ، وانفصاله عن المريض كانفصال ذلك النفث ، وقد كان مالك ينفث إذا رقى نفسه ، وكان يكره الحديدة والملح الذي يعقد ، والذي يكتب خاتم سليمان ، وكان العقد عنده أشدّ كراهة ؛ لما في ذلك من مشابهة السِّحر .
وقوله : (( جاء يَلبِسْها عليَّ )) ؛ هو بكسر الباء ؛ لأنَّ ماضيه : لبس بفتحها ، كما قال الله تعالى : { وللبسنا عليهم ما يلبسون } ، وهو بمعنى : الخلط . فأمَّا لبس الثوب : فهو على العكس من ذلك .
وقوله : (( ذلك شيطان يقال له : خِنْزَب )). هو بالحاء المهملة وبفتحها عند الجياني ، وبكسرها عند الصدفي . وفي الصحاح : الخنزاب : هو الغليظ القصير وأنشد :
تاحَ لها بَعدك خِنْزابٌ وزَى
والوزى : الشديد . فيمكن أن يُسمَّى الشيطان : خنزبًا ؛ لأنَّه يتراءى غليظًا قصيرًا . وحذفت الألف لما صار علمًا ، فكثيرًا ما تغيَّر الأعلام عن أصولها .
ومن باب : لكل داء دواء ، وفي التداوي بالحجامة
(18/72)
قوله : (( لكل داء دواء )) ؛ الدَّاء : بفتح الدَّال لا غير . والدَّواء : تفتح داله وتكسر ، والفتح أفصح . وهذه الكلمة صادقة العموم لأنها خبر من الصادق البشير عن الخالق القدير : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخير } ، فالدَّاء والدَّواء خَلْقه ، والشِّفاء والهلاك فعله ، وربط الأسباب بالمسببات حِكمته وحُكمه على ما سبق به علمه . فكل ذلك بقدر لا مَعْدِل عنه ، ولا وزر . وما أحسن قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما خرَّجه الترمذي عن أبي خزامة بن يعمر ، قال : سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقلت : يا رسول الله ! أرأيت رقًى نسترقيها ، ودواء نتداوى به ؛ هل تردُّ من قدر الله شيئًا ؟ قال : (( هي من قدر الله )) ، قال : هذا حديث حسن صحيح . وكفى بهذا بيان ، لكن للبصراء ، لا للعميان .
وقوله : (( فإذا أصيب دواء الدَّاء برأ بإذن الله )) ؛ ومعناه : أن الله تعالى إذا شاء الشِّفاء يسَّر دواء ذلك الدَّاء ، ونبَّه عليه مستعمله ، فيستعمله على وجهه ، وفي وقته ، فيشفى ذلك المرض. وإذا أراد إهلاك صاحب المرض أذهل عن دوائه ، أو حجبه بمانع يمنعه ، فهلك صاحبه . وكلُّ ذلك بمشيئته وحكمه ، كما سبق في علمه . ولقد أحسن من الشعراء من قال في شرح الحال :
والنَّاس يلحَوْن الطَّبيب وإنَّما غَلَطُ الطَّبيبِ إصابةُ الْمَقْدُور
وقد خرَّج أبو داود هذا الحديت وحديث أسامة بن شريك ، وقال فيه : إنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( يا عباد الله ! تداووا ، فإنَّ الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داءٍ واحد : الهرم )). فاسثنى الهرم من جملة الأدواء ، وإن لم يكن داء بنفسه ، لكن تلازمه الأدواء ، وهو مُفضٍ بصاحبه إلى الهلاك. وهذا نحو من قوله في الحديث الآخر : (( كفى بالسَّلامة داء )) ؛ أي : مصير السلامة إلى الدَّاء ، وكما قال حميد بن ثور :
أَرَى بَصَرِي قد رابَيِي بَعْد صِحَّةٍ وَحَسْبُك داءً أن تصحَّ وتَسْلما
(18/73)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن كان في أدوبتكم خيرٌ ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعةٍ بنار )) ؛ يعني بالخير : الشِّفاء . والمحجم : هو الوعاء الذي تُجمع فيها موضع الحجامة ، ويجتمع فيها(2) الدَّم ، وهو جمع واحدة : محجمة . وهي بكسر الميم . وقد يقال على الحديدة التي يشرط بها ، وهي المعنية هنا . وجاء هذا الحديث هنا بصيغة الاشتراط من غير تحقيق الأخبار . وقد جاء في البخاري من حديث ابن عتاس مرفوعًا : (( الشِّفاء في ثلاث )) ، وذكرها . فحقَّق الخبر .
قال بعض علمائنا : أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جميع ضروب المعاناة القياسيِّة ، وذلك : أن العلل منها ما يكون مفهوم السبب ، ومنها ما لا يكون كذلك . فالأول : كغلبة أحد الأخلاط التي هي : الدم ، والبلغم ، والصفراء ، والسَّوداء . فمعالجة ذلك باستفراغ ذلك الامتلاء بما يليق به من تلك الأمور المذكورات في الحديث . فمنها ما يستفرغ بإخراج الدَّم بالشَّرط ، وفي معناه : الفصد ، والبطُّ ، والعلق . ومنها ما يستفرغ بالعسل وما في معناه من الأدوية المسهِّلة . ومنها ما يستفرغ بالكي ؛ فإنه يجفف رطوبات موضع المرض ، وهو آخر الطبِّ .
وأما ما كان من العلل عن ضعف قوة من القوى ، فعلاجه بما يقوي تلك القوة من الأشربة . ومن أنفعها في ذلك : العسل إذا استعمل على وجهه . وأما ما كان من العلل غير مفهوم السبب ، فكالسِّحر ، والعين ، ونظرة الجن ، فعلاجه بالرُّقى ، والكلام الحسن ، وأنواع من الخواص مغيبة السِّرِّ. ولهذا القسم أشار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما روي عنه : أنه زاد في هذا الحديث : (( أو آية من كتاب الله )). زيادة على ما ذكرفيما تقدَّم منه .
(18/74)
قلت : هذا معنى ما قاله علماؤنا ، ويمكن أن يقال : إن هذه المذكورات في هذا الحديث إنما خصَّت بالذكر ؛ لأنَّها كانت أغلب أدويتهم ، وأنفع لهم من غيرها جكم اعتيادهم لها ، ومناسبتها لغالب أمراضهم ، ولا يلزم أن تكون كذلك في حق غيرهم ممن يخالفهم في بلادهم وعاداتهم وأهويتهم . ومن المعلوم بالمشاهدة اختلاف العلاجات والأدوية حسب اختلاف البلاد والعادات ، وإن اتحدت أسباب الأمراض. والله تعالى أعلم .
وقوله : (( وما أحبُّ أن أكتوي )) ، وفي لفظ البخاري : (( وأنا أنهى أمتي عن الكي )). إنما كان ذلك لشدَّة ألم الكي ، فإنَّه يُربي على ألم المرض . ولذلك لا يرجع إليه إلا عند العجز عن الشفاء بغيره من الأدوية. وأيضًا : فلأنَّه يشبه التعذيب بعذاب الله تعالى الذي نُهي عنه . وقد تقدَّم القول في هذا في الإيمان .
(18/75)
واستئذان أم سلمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحجامة دليل : على أن المرأة لا ينبغي لها أن تفعل في نفسها شيئًا من التداوي ، أو ما يشبهه إلا بإذن زوجها ؛ لإمكان أن يكون ذلك الشيء مانعًا له من حقه ، أو منقصًا لغرضه منها ، وإذا كانت لا تشرع في شيء فى من التطوَّعات التي تتقرَّب بها إلى الله تعالى إلا بإذنٍ منه ؛ كان أحرى وأولى ألا تتعرَّض لغير القرب إلا بإذنه ؛ اللهم إلا أن تدعو لذلك ضرورة من خوف موت ، أو مرض شديد ، فهذا لا تحتاج فيه إلى إذن ؛ لأنَّه قد التحق بقسم الواجبات المتعينة. وأيضًا : فإنَّ الحجامة وما يتنزل منزلتها مما يحتاج فيها إلى محاولة الغير ، ولا بدَّ فيها من استئذان الزوج لنظره فيمن يصلح ، وفيما يحلُّ من ذلك . ألا ترى : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر أبا طيبة أن يحجمها لما علم أن بينهما من السبب المبيح ، كما قال الرَّاوي : حسبت : أنه كان أخاها من الرَّضاعة ، أو غلامًا لم يحتلم . ولا شكَّ في أن مراعاة هذا هي الواجبة متى وجد ذلك ، فإنَّ لم يوجد من يكون كذلك ، ودعت الضرورة إلى معالجة الكبير الأجنبي جاز دفعًا لأعظم الضررين ، وترجيحًا لأخف الممنوعين .
وفيه من الفقه ما يدلّ على أن ذا المحرم يجوز أن يطَّلع من ذات محرمه على بعض ما يحرم على الأجنبي ، وكذلك الصبي ، فإن الحجامة غالبًا إنما تكون من بدن المرأة فيما لا يجوز للأجنبي الاطلاع عليه ، كالقفا ، والرَّأس ، والساقين .
ومن باب التداري بقطع العروق والكي والسعوط
قول جابر : (( رُمي أُبِيٌّ يوم الأحزاب على أكحله )) ؛ صحيح رواية هذه اللفظة بضم الهمزة ، وفتح الباء ، وياء التصغير . ورواها العذري ، والسَّمرقندي : أَبِي - بفتح الهمزة ، وكسر الباء ، على إضافته لياء المتكلم . والأول هو الصحيح . بدليل الرواية التي نصَّ فيها على أنه : أُبِي ابن كعب ؛ ولأن أبا جابر لم يدرك يوم الأحزاب ، وإنَّما استشهد يوم أحد .
(18/76)
و (( أكحل )) : عرق معروف . قال الخليل : هو عرق الحياة ، يقال : في كل عضو منه شعبة لها اسم على حدة ، فإذا قطع في اليد لم يرقا الدم. وقيل : إنه يقال له في اليد : الإكحل ، وفي الفخذ : النسا ، وفي الظهر : الأبهر .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إلى أُبِي طبيبًا فكواه ، دليلٌ على أن الواجب في عمل العلاج ألا يباشره إلا من كان معروفًا به ، خبيرًا بمباشرته ، ولذلك أحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، على الحارث بن كلدة ، ووصف له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدَّواء وكيفية العمل ، على ما يأتي .
وكي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأُبي وسعد دليلٌ على جواز الكي والعمل به إذا ظن الإنسان منفعته ، ودعت الحاجة إليه . فيحمل نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الكي على ما إذا أمكن أن يُستغني عنه بغيره من الأدوية ، فمن فعله في محله ، وعلى شرطه ، لم يكن ذلك مكروهًا في حفه ، ولا مُنقصًا له من فضله . ويجوز أن يكون من السَّبعين ألفًا ؛ الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، كيف لا وقد كوى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سعد بن معاذ ؛ الذي اهتز له عرش الرَّحمن ، وأُبي بن كعب المخصوص بأنه أقرأ الأمَّة للقرآن ، وقد اكتوى عمران بن حصين. فمن اعتقد : أن هؤلاء لا يصلحون أن يكونوا من السبعين ألفًا ؛ ففساد كلامه لا يخفى . وعلى هذا البحث : فيكون قوله في في السبعين ألفًا : أنهم هم الذين لا يكتوون : إنما يعني به : الذي يكتوي وهو يجد عنه غنى . والله أعلم .
و (( السَّعوط )) : دواء يُصبُّ في الأنف . وقد أسعطتُّ الرَّجل فاستعط هو بنفسه. والْمُسْعُطُ - بضم الميم - : هو الإناء الذي يجعل فيه السَّعوط.
ومن باب الحمى من فيح جهنم
(( فيح جهنَّم )) : شدَّة حرارتها . وأصله من : فاحت القدر : إذا غلت. وقد يعبَّر عنه بالفور ؛ كا جاء في الرواية الأخرى : ولفحُ النَّار : إصابة شدَّة حرارتها. وجهنم : اسم علم من أسماء نار الآخرة ؛ مؤنث. ولذلك لم ينصرف . وقد تقدم اشتقاقه .
(18/77)
وقوله : (( فأبردوها بالماء )) ؛ صوابه بوصل الألف ؛ لأنَّه من برَّد الماءُ حرارةَ جوفي . وهو ثلاثي معدَّى ؛ كما قال :
وعطِّلْ قَلُوصِي في الرِّكابِ فإنَّها ستَبْرُدُ أكبادًا وتُبْكِي بَوَاكِيَا
(18/78)
وقد أخطأ من قال : أبردوها - بقطع الألف - ، وفي الرواية الأخرى : فأطفئوها -بالهمزة رباعيًّا - من : أطفأ . وقد اعترض بعض سخفاء الأطبَّاء على هذا الحديث ، فقال : استعمال المحموم الاغتسال بالماء خطر مُقرِّبٌ من الهلاك ؛ لأنَّه يجمع المسامِّ ، ويحقن البخار ، ويعكس الحرارة لداخل الجسم ، فيكون ذلك سببًا للتلف . وجوابه : أن هذا إن صدر عمَّن ارتاب في صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجوابه بالمعجزات الدَّالة على صدقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تدل قطعًا على صحة قوله ، وصواب فعله ، فإنَّ حصل له التصديق والإيمان ، وإلا فقد يفعل الله بالسيف والسِّنان ما لا يُفعل بالبرهان . وإن صدر عن مصدِّقٍ له ومؤمن برسالته - وما أقله فيمن يتعاطى صنعة الأطباء ! - قيل له : تفهَّم مراده من هذا الكلام ؛ فإنَّه لم ينصَّ على كيفية تبريد الحمى بالماء ، وإنَّما أرشد إلى تبريدها بالماء مطلقًا ، فإنَّ أظهر الوجود أو صناعة الطب : أن غمس المحموم في الماء ، أو صبَّه على جميع بدنه يضرَّه ، فليس هو الذى قصد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه ، وإنما قصد استعمال الماء على وجه ينفع ، فيُبْحث عن ذلك الوجه ، ويُجرَّب الوجوه إلي لا ضرر فيها ، فإنَّه سيظهر نفعه قطعًا . وقد ظهر هذا المعنى في أمره للعائن بالغسل ، فإنَّه وإن كان قد أمره بأن يغتسل مطلقًا ، فلم يكن مقصوده أن يغسل جميع جسده ، بل بعض ذلك ، كما تقدَّم . وإذا تقرَّر هذا ؛ فلا يبعُد أن يكون مقصوده أن يُرشَّ بعض جسد المحموم ، أو يفعل كما كانت أسماء تفعل ، فإنَّها كانت تأخذ ماءً يسيرًا ترش به في جيب المحموم ، أو يُنضح به وجهه ، ويداه ، ورجلاه ، ويذكر اسم الله تعالى ، فيكون ذلك من باب النُّشُرة الجائزة ، كما تقدَّم . وقد يجوز أن يكون ذلك من باب الطب ، فقد ينفع ذلك في بعض الحميات ، فإنَّ الأطباء قد سلموا : أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها بسقي الماء الشديد البرودة ، حتى يسقوه الثلج ، وتغسل أطرافه بالماء البارد . وعلى هذا : فلا بُعد في أن(18/79)
يكون هذا المقصود بالحديث ، والله أعلم . ولئن سلَّمنا : أنه أراد جميع جسد المحموم ؛ فجوابه : أنه يحتمل أن يريد بذلك استعماله بعد أن تقلع الحمَّى ، وتسكن حرارتها ، ويكون ذلك في وقت مخصوص ، وبعدد مخصوص ، فيكون ذلك من باب الخواص التي قد اطلع عليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كما قد روى قاسم بن ثابت : أن رجلاً شكا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحمى فقال له : (( اغتسل ثلاثًا قبل طلوع الشمس ، وقل : باسم الله ، اذهبي يا أم ملدم ، فإنَّ لم تذهب ، فاغتسل سبعًا )).
ومن باب التداوي باللَّدود والعود الهندي
قولها : (( لددنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ أي : وضعنا في فمه اللَّدود ، وهو ما يجعل في أحد جانبي الفم . والوَجور : هو ما يصبُّ في وسط الفم .
وقوله : (( لا تلدوني )) ؛ نهيٌّ ظاهر في المنع ، فكان ينبغي لهم أن ينتهوا عن ذلك ، غير أنَّهم تأوَّلوا : أن ذلك من باب ما علم من أحوال المرضى ؛ من كراهتهم الدَّواء ، فخالفوه فعاقبهم ؟ بأن اقتص منهم ، ففعل بهم مثل ما فعلوا به ، فكان فيه دليل : على مشروعية القصاص في كل شيء يتأتى فيه القصاص ، كما قال تعالى : { فمن أعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }. وقال بعض أصحابنا : فيه ما يدلّ على قتل الجماعة بالواحد ؛ لأنَّهم لما تمالؤوا ، وتعاونوا على لدوده اقتصَّ من جميعهم . وفيه بُعدٌ ؛ لإمكان مراعاة الفرق ، فإنَّه يمكن أن يقال : جاز ذلك فيما لا إراقة دم فيه لخفته في مقصود الشرع ، ولا يجوز ذلك في الدِّماء ؛ لحرمتها ، وعظم أمرها في مقصود الشرع ، فلا يصح حمل أحدهما على الآخر ، وإنَّما الذي يستنبط منه أن الحاضر في الجناية المعين عليها كالناظور الذي هو الطليعة كالمباشر لها ، فيقتص من الكل ، لكن فيما لا دم فيه على ماقررناه . وقد نبَّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا المعنى بقوله : (( إلا العباس فإنَّه لم يشهدكم )).
(18/80)
وفيه من الفقه : منع إكراه المريض على الطعام ، والشراب ، والدواء ، كما قد روي عن النبي جكض أنه ب قال : (( لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإنَّ الله تعالى يغذيهم )).
وقول أم قيس : (( دخلت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بابن لي قد أعلقت عليه من العذرة )) ؛ كذا وقع هذا اللفظ في كتاب مسلم : (( أعلقت عليه )) ، بلا خلاف فيه ، ووقع في البخاري باختلاف ، ففي رواية معمر وغيره : كما في كتاب مسلم . وفي رواية سفيان بن عيينة : (( أعلقت عنه )).. قال الخطابي : وهو الصواب ، وإلى ذلك أشار ابن الأعرابي .
و (( العذرة )) : وجع الحلق . فخافت أن يكون به ذلك . فرفعت لهاته بإصبعها . وقال الأصمعي : العذرة قريبٌ من اللهاة . وفي "البارع" : العذرة : اللهاة . وقد تقدَّم : أن اللَّهاة : اللحمة الحمراء التي في آخر الفم ، وأول الحلق . والنِّساء ترفعها بأصابعهن ، فنهاهنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك لما فيه من تعذيب الصبي . ولعل ذلك يزيد في وجع اللهاة .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( علام تدغرن أولادكنَّ بهذا العِلاق ؟! )) تدغرن : الرواية الصحيحة فيه : بالدال المهملة ، والغين المعجمة . لا يجوز غيره. ومعناه هنا : رفع اللهاة . وأصله : الرفع. ومنه قول العرب : دغرى لا صفَّى ، ودغرًا لا صفًا - منونًا ، وغير منوَّن - يقولون هذا في الحرب ؛ أي : ادفعوا عليهم ، ولا تصطفُّوا لهم.
و (( العلاق )) : الرواية فيه بكسر العين ، ووقع في بعض النسخ : الأعلاق ، وهو الصواب قياسًا ؛ لأنَّه مصدر : أعلقت ، وهو المعروف لغة . ومقصود هذا الإستفهام : الإنكار على النساء في فعل ذلك بأولادهن .
(18/81)
وقوله : (( عليكن بهذا العود الهندي )) ؛ هذه إحاله منه لهن على استعمال العود الهندي الطيب الرائحة في مرض الحلق المسمَّى : بالعذرة. ثم بيَّن لهم كيفية العلاج به بقوله : (( يسعط من العذرة )) ؛ أي : يُدَقُّ ناعمًا ، ويُسعط في الأنف . وهذا يفيد : أنَّه يستعمل وحده ، ولا يضاف إلى غيره . ثمَّ زاد فقال : (( ويلدُّ من ذات الجنب )) ؛ ويعني به : الوجع الذي يكون في الجنب ؛ المسمَّى : بالشَّوصة . وقال الترمذي : يعني به : السِّلَّ . وفيه بُعد . والأول أعرف . وهل يلد به منفردًا مدقوقًا ، أو مع غيره ، يُسأل عن الأنفع بن ذلك أهل الخبرة من المسلمين ؛ ممن جرَّب ذلك ، أو تباشر تجربته ؛ إذ لا بدَّ من نفعه في ذلك المرض ؛ لأنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يقول إلا حقًّا .
وقوله : (( فإنَّ فيه سبعة أشفية )) ؛ بيَّن منها في الحديث اثنين ، وسكت عن الخمسة . وقد ذكر الأطبَّاء في كتبهم : أن فيه من الأشفية أكثر مما في هذا الحديث . قال أبو عبد الله المازري : رأيت في كتبهم - يعني : الأطباء - أنه يدر البول ، والطمث ، وينفع من السُّموم ، ويحرك شهوة الجماع ، ويقتل الدود . وحبَّ القرع إذا شُرِب بالعسل ، ويذهب بالكلف إذا طلي عليه ، وينفع من ضعف الكبد والمعدة ، وبردهما ، ومن حمَّى الوِرْد والرِّبع . وينفع من النَّافض لُطُوخًا بالزيت قبل نفض الحمَّى ، ولمن به فالج ، واسترخاء . قال : وهو صنفان : بحري ، وهندي ، فالبحري : هو القسط الأبيض ، يؤتى به من بلاد المغرب . ونص بعضهم : على أن البحري أفضل من الهندي ، وهو أقل حرارة منه . قال إسحاق بن عمران : هما حارَّان يابسان في الدرجة الثالثة . والهندي أشد حرًّا في الجزء الثالث . وقال ابن سينا : القُسط حارٌّ في الثالثة يابس في الثانية .
(18/82)
قلت : ويُسمى : الكُسْت ، كما قال الراوي ، وحينئذ يشكل هذا بما ذكر من قول الأطبَّاء : إن البحري من العود يُسمى : القسط ، يؤتى به من بلاد المغرب . فكيف يكون هنديًّا ، ويؤتى به من المغرب ؟! إلا أن يريدوا مغرب الهند . فإنَّ قيل : فإذا كان في العود الهندي هذه الأدوبة الكثيرة ، فما وجه تخصيص منافعه بسبع ، مع أنها أكثر من ذلك ، ولأي شيء لم يُفصلها ؛ فالجواب عن الأول بعد تسليم أن لأسماء الأعداد مفهوم مخالفةٍ : إن هذه السَّبع المنافع هي التي علمها بالوحي وتحققها. وغيرها من المنافع علمت بالتجربة ، فتعرَّض لما علمه بالوحي دون غيره . وعن الثاني : أنَّه إنما فضَّل منها ما دعته الحاجة إليه ، وسكت عن غيره ؛ لأنَّه لم يُبعث لبيان تفاصيل الطبِّ ، ولا لتعليم صنعته ، وإنما تكلم بما تكلم به منه ليُرشد إلى الأخذ فيه ، والعمل به ، وأن في الوجود عقاقير ، وأدوية ينتفع بها ، وعيَّن منها ما دعت حاجتهم إليها في ذلك الوقت ، وبحسب أولئك الأشخاص . والله تعالى أعلم .
ومن باب التداوي بالشُّونِيز والتَّلبينه
قوله في الحبَّة السوداء : (( شفاء من كل داء )) ؛ اختلف في الحبَّة السَّوداء ؛ فقال الحربي : أنَّه الخردل . وحكى الهروي عن غيره : أنها الحبَّة الخضراء . قال : والعرب تسمِّي الأخضر : أسود . والأسود أخضر. وهي : ثمرة البُطم ، وهو المسمَّى بالضَّرو . وأولى ما قيل فيها : إنَّها الشونيز لوجهين :
أحدهما : أنه المذكور في الحديث .
وثانيهما : أنه أكثر منافع من الخردل وحب الضَّرو . فتعيَّن لأن يكون هو المراد بالحديث ؛ إذ مقصوده : الإخبار بأكثرية فوائده ، ومنافعه على ما نذكره .
والشُّونيز : قيده بعض مشايخنا بفتح الشين . وقال ابن الأعرابي : هو الشُّئنيز ، كذا تقول العرب . وقال غيره : الشَّؤنيز- بالضم -. وقد ذكر الأطباء للشونيز منافع كثيرة ، وخواص عجيبة .
(18/83)
قال القاضي أبو الفضل عياض : ذكر جالينوس : أنه يُحلِّل النَّفخ ، ويقتل ديدان البطن إذا أُكِل أو وضع على البطن . ويشفي من الزكام إذا قُلِي ، وصُرَّ في خرقة واشتُمَّ ، وينفع من العلَّة التي يتقشَّر منها الجلد ، ويقلع الثآليل والخِيلان ، ويدر الطمث الكائن عن الأخلاط الغليظة اللَّزجة ، وينفع من الصُّداع إذا طلي به الجبين ، ويقلع البثور والجرب ، ويحلل الأورام البلغمية إذا شمَّه مع الخل ، وينفع من الماء العارض في العين إذا استُعِط مسحوقًا مع دهن الأرِيسَا ، وينفع من انصباب النفس ، وتمضمض به من وجع الأسنان ، ويدر البول واللبن ، وينفع من نهشة الدُّبيلة ، وإذا بخر به طرد الهوامَّ .
وقال غيرُ جالينوس : من خاصيته : إذهابُ حمَّى البلغم والسَّوداء ، ويقتل حبَّ القرع ، واذا عُلِّق من عنق المزكوم نفعه ، وينفع من حمى الرِّبع . قال بعضهم : ولا يبعد منفعة الحار من أدواء حارَّةٍ لخواصَّ فيها ؛ كوجودنا ذلك في أدوية كثيرة ، فيكون الشونيز منها ؛ لعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويكون أحيانًا مفردًا ، وأحيانًا مركَّبًا .
قلت : وعلى هذا القول الآخر تحمل كليَّة الحديث على عمومها واحاطتها ، ولا يستثنى من الأدواء شيء إلا الدَّاء الذي يكون عنه الموت في علم الله تعالى . وعلى القول الأول : يكون ذلك العموم محمولاً على أكثر والأغلب . والله تعالى أعلم .
(18/84)
وقوله : (( التلبينة مُجمَّةٌ لفؤاد المريض تذهب بعض الحزن )) ؛ التلبينة : حساء من دقيق . و(( مُجمَّةٌ )) : يروى بفتح الميم والجيم ، وبضم الميم وكسر الجيم . فعلى الأول : هو مصدر ؛ أي : جمامٌ . وعلى الثاني : يكون اسم فاعل من أجمَّ . ومعناه : أنَّها تقوِّيه وتُنشطه ، وذلك : أنها غذاء فيه لطافةٌ ، سهل التناول على المريض ؛ فاذا استعمله المريض اندفع عنه الحرارة الجوعيَّة ، وحصلت له القوة الغذائية من غير مشقَّة تلحقه ، فيسزى(ا) عنه بعض ما كان فيه ، ونشط ، وذهب عنه الضيق ، والحزن الذي كان يجده بسبب المرض ، وإنما كانت عائشة رضي الله عنها تصنعها لأهل الميت ، وتثرد فيها لأن أهل الميت شغلهم الحزن عن الغذاء ، فاشتدَّت حرارة أحشائهم من الجوع والحزن ، فلما أطعمتهم التلبينة انكسرت عنهم حرارة الجوع ، فخف عنهم بعض ما كانوا فيه. ولا يلزم من فعلها ذلك لهؤلاء أن يفعل بالمريض كذلك ، فيثرد له فيها ، وإنَّما ذلك بحسب الحال ، فإنَّ احتاج المريض إلى تقوية غذاء التلبينة بلبابٍ يضاف إليها فحسن . وعلى الجملة : فالتلبينة غذاء لطيف لا ضرر فيه غالبًا ، فلذلك نبَّه عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن باب التداوي بالعسل
قول الرجل : (( إن أخي استطلق بطنه )) ؛ قيَّدناه بضم التاء وكسر اللام مبنيًا للمفعول . بطنه - مرفوعًا- مفعول لما لم يسم فاعله ، ومعناه أصيب بالإسهال ، وقد عبَّر عنه في الرواية الأخرى : تُعرَّب بطنه ؛ أي : تغيَّر عن حال الصحة إلى هذا المرض ، كما يقال : عربت معدته - بكسر الراء - : إذا تغيَّرت وفسدت . تَغْرَبُ عُرَبًا - بالفتح فيهما -.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اسقه عسلاً )) ؛ قد اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا فقال : قد أجمعت الأطباء على أن العسل يسهل ، فكيف يوصف لمن به الإسهال ؟! فجوابه : أن يقال : إن هذا الطعن صدر عن جهل بأدلة صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبصناعة الطب .
(18/85)
أما الأول : فلو نظر في معجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ نظرًا صحيحًا لعلم على القطع : أنه يستحيل عليه الكذب ، والخلف ، ومن حصل له هذا العلم فحقه شرعًا وعقلاً ؛ إذا وجد من كلامه ما يقصر عن إدراكه أن يعلم أن ذلك القول حق في نفسه ، وأن يضيف القصور إلى نفسه . فإنَّ أرشده هذا الصادق إلى فعل ذلك الشيء على وجه ، فيستعمله على الوجه الذي عيَّنه ، وفي المحل الذي أمره بعقد نيَّة ، وحسن طويَّة ؛ فإنَّه يرى منفعته ، ويدرك بركته ، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل . وإن لم يعيَّن له كيفية ، ولا وجهًا ، فسبيل العاقل ألا يقدم على استعمال شيء حتى يعرف كيفية العمل به ، فليبحث عن وجه العمل اللائق بذلك الدواء ، فإذا انكشف له ذلك فهو الذي أراده الصادق . وهذا البحث إنما يكون مع العلماء بالطب من المسلمين الموثوق بعلمهم ، وصحَّة تجربتهم .
وأما جهل هذا الطاعن بصناعة الطب فقد جازف في النقل حيث أطلق في موضع التقييد ، وحكى إجماعًا لا يصح له. وبيان ذلك بما قاله الإمام أبو عبدالله . قال : ينبغي أن يعلم : أن الإسهال يَعْرِض من ضروب كثيرة ؛ فمنها : الإسهال الحادث عن التُّخم ، والهيضات . والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه : بأن تترك الطبيعة وفعلها ، وان احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية ، فأما حبسها : فضرر . فإذا وضح هذا ؛ قلنا : فيمكن أن يكون هذا الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة ، فأمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشرب العسل ، فزاده ، فزاده ، إلى أن فنيت تلك المادة ، فوقف الإسهال . فوافقه شرب العسل ، فإذا خرج هذا على صناعة الطب أذن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال : ولسنا نستظهر على قول نبيِّنا بأن يصدقه الأطبَّاء ، بل لو كذبوه لكذبناهم ، وكفرناهم ، وصدَّقناه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإنَّ أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه فنفتقر حينئذ إلى تأريل كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتخريجه على ما يصح ؛ إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب .
(18/86)
وقوله : (( صدق الله ، وكذب بطن أخيك )) ؛ تنبيه : على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ انتزع هذا العلاج بالعسل من قول الله تعالى : { يخرج من بطونها شرابٌ مختلف ألوانه فيه شفاء للناس }. والصحيح من قوله { فيه } : أنه عائدٌ على العسل ؛ بدليل هذا الحديث ، ولأنه ليس في الآية ذكرٌ لغيره. وهو قول ابن عباس ، وابن مسعود ، والحسن ، وقتادة . وقال مجاهد : هو عائد إلى القرآن . والأوَّل أولى لما ذكرناه .
قلت : ومقتضى الآية : أن العسل فيه شفاءٌ ، لا كلُّ شفاءٍ ؛ لأنَّ { شفاء } نكرة في سياق الإثبات ، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللِّسان ، ومحققي أهل الأصول ، لكن قد حملتها طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم ، فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع ، والأمراض ، وكانوا يستشفون من عللهم ببركة القرآن ، وبصحة التصديق ، والإيقان. وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يشكو قرحة ولا شيئًا إلا جعل عليه عسلاً ، حتى الدُّمَّلَ إذا خرج عليه طلاه عسلاً . فقيل له في ذلك ؟ فقال : أليس الله سبحانه يقول : { فيه شفاء للناس }. وروي : أن عوف بن مالك الأشجعي ـ رضى الله عنه ـ مرض ، فقيل له : ألا نعالجك ؟ فقال : ائتوني بماء ، فإنَّ الله تعالى يقول : { وأنزلنا من السماء ماءً مباركًا} ، ثم قال : { ائتوني بعسل ، فإنَّ الله تعالى يقول : { فيه شفاء للناس } ، ثم قال : ائتوني بزيت ، فإنَّ الله تعالى يقول : { من شجرة مباركة زيتونة } ، فجاؤوه بذلك كله فخلطه جميعًا ، ثم شربه فبرأ . وحكى النقَّاش عن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل . ويستمشي بالعسل ، ويتداوى بالعسل ، فهذا كله : عمل بمطلق القرآن الكريم ، وأصله صدق النية ، وصحة الإيمان .
ومن باب ما جاء في الطاعون
(18/87)
قوله : (( الطاعون رجز أرسل على من كان قبلكم )) ؛ قد جاء هذا اللفظ مفسَّرا ص في الرواية الأخرى ، حيث قال : (( إن هذا الوجع ، أو السُّقْمُ رجز عذب به بعض الأمم )) ، فقد فسَّر الطاعون بالمرض ، والرجز بالعذاب . والطاعون : وزنه فاعول من الطعن ؛ غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالاًّ على الموت العام بالوباء ، على ما قاله الجوهري . وقال غيره : أصل الطَّاعون : القروح الخارجة في الجسد . والوباء : عموم الأمراض . قال : وطاعون عَمْواس : إنما كان طاعونًا وقروحًا .
قلت : ويشهد لصحَّة هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ - وقد سُئل عن الطاعون - فقال : (( غُدَّة كغدَّة البعير )). تخرج في المراق ، والآباط. وقال غير واحد من العلماء أنه يخرج في الأيدي والأصابع ، وحيث شاء الله من البدن.
قلت : وحاصله : أن الطاعون مرضن عام يكون عنه موت عام ، وقد يسمَّى بالوباء ، ويُرسله الله نقمة وعقوبة لمن يشاء من عصاة عبيده ، وكفرتهم . وقد يرسله شهادة ، ورحمة للصالحين من عباده ، كما قال معاذ في طاعون الشام : إنه شهادة ورحمة لكم ، ودعوة نبيكم . قال أبو قلابة : يعني بدعوة نبيكم : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا أن يجعل فناء أمته بالطَّعن والطَّاعون . كذا جاءت الرواية عن أبي قلابة بالواو . قال بعض علمائنا : والصحيح بالطَّعن ، أو الطاعون ، بأو التي هي لأحد الشيئين ؛ أي : لا يجتمع ذلك عليهم .
(18/88)
قلت : وبظهر لي : أن الروايتين صحيحتا المعنى ، وبيانه : أن مراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمته المذكورة في الحديث إنما هم أصحابه ؛ لأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد دعا لجميع أمته ألا يهلكهم بسنة عامة ، ولا بتسليط أعدائهم عليهم ، فأجيب إلى ذلك ، فلا تذهب بيضتهم ، ولا معظمهم بموت عام ، ولا بعدوٍّ على مقتضى هذا الدعاء . والدعاء المذكور في حديث أبي قلابة يقتضي أن يفنى جميعهم بالقتل والموت العام . فتعيَّن أن يصرف الأول إلى أصحابه ؛ لأنَّهم هم الذين اختار الله تعالى لمعظمهم الشهادة بالقتل في سبيل الله ، وبالطاعون الذي وقع في زمانهم ، فهلك به بقيتهم . فعلى هذا : قد جمع الله تعالى لهم كلا الأمرين . فتبقى الواو على أصلها من الجمع ، أو تحمل ((أو )) على التنويعية والتقسيمية . والله تعالى أعلم .
(18/89)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض ، وأنتم بها ، فلا تخرجوا فرارًا منه )) ؛ على ظاهر هذا الحديث عمل عمر ـ رضى الله عنه ـ والصحابة معه ـ رضى الله عنهم ـ ؛ لما رجعوا من سَرْع حين أخبرهم بهذا الحديث عبد الرحمن بن عوف ، وإليه صاروا . وقالت عائشة رضي الله عنها ، الفرار من الوباء كالفرار من الزحف . وإنما نهى عن القدوم عليه أخذًا بالحزم والحذر والتحرُّز من مواضع الضرر ، ودفعًا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان . وإنما نهي عن الفرار منه ؛ لأنَّ الكائن بالموضع الذي الوباء فيه ، لعلَّه قد أخذ بحظ منه ، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام ، فلا فائدة لفراره ، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادي الوباء مشقات السفر فيتضاعف الألم ، ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ، ويطرحون في كل فجوة ومضيق ، ولذلك يقال : قلَّما فرَّ أحد من الوباء وسلم . ويكفي من ذلك موعظة قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت فقال الله لهم موتوا }. قال الحسن : خرجوا حذرًا من الطاعون فأماتهم الله تعالى في ساعة واحدة ، وهم أربعون ألفًا . وقيل غير هذا . وقالت طائفة أخرى : إنه يجوز القدوم على الوباء ، والفرار منه ، وحكي ذلك عن عمر ـ رضى الله عنه ـ وأنَّه ندم على رجوعه من سرغ ، وقال : اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ. وكتب إلى عامله بالشام ، بأنه إذا قد وقع عندكم الوباء فاكتب لي حتى أخرج إليه . وكتب إلى أبي عبيدة في الطاعون ، فعزم عليه أن يقدم عليه مخافة أن يصيبه الطاعون. وروي عن مسروق ، والأسود ، وأبي موسى الأشعري ـ رضى الله عنهم ـ : أنهم فرُّوا من الطاعون . وروي عن عمرو بن العاص ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : تفرَّقوا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال. واعتمد أصحاب هذا القول على أن الآجال محدودة ، والأرزاق مقدَّرة معدودة ، فلا يتقدَّم شيء على وقته ، ولا يتأخر شيء عن أجله ، فالواجب صحة الاعتماد على الله ، والتسليم لأمر الله تعالى ، فإنَّ الله تعالى لا رادَّ(18/90)
لأمره ، ولا معقب لحكمه ، فالقدوم على الوباء والفرار سيان بالنسبة إلى سابق الأقدار .
وتأوَّل بعضهم الحديث بأن مقصوده : التحذير من فتنة الحيِّ ؛ فيعتقد أن هلاك من هلك من أجل قدومه على الوباء ، ونجاة من نجا من أجل فراره . قالوا : وهذا نحو نهيه عن الطيرة ، والقرب من المجذوم مع قوله : (( لا عدوى )) ؛ فمن خرج من بلاد الطاعون أو قدم عليها جاز له ذلك ؛ إذا أيقن أن قدومه لا يعجل له أجلاً أخره الله تعالى ، وأن فراره لا يؤخر عنه أجلاً عجَّله الله تعالى ، ولذلك قال ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ : الطاعون فتنة على المقيم والفار ، أما الفارُّ فيقول : بفراري نجوت ، وأما المقيم فيقول : أقمت فمت. وإلى نحو هذا أشار مالك حين سُئل عن كراهة النظر إلى المجذوم ، فقال : ما سمعت فيه بكراهة ، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه ، أو خيفه شيء يقع في نفسه. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الوباء : (( إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه )). وسُئل أيضًا مالك عن البلد يقع فيه الموت ، وأمراض فهل يكره الخروج إليه ؟ فقال : ما أرى باسًا ، خرج أو أقام . قيل : فهذا يشبه ما جاء في الحديث من الطاعون ؟ قال : نعم .
(18/91)
قلت : وهذا فيه نظر سيأتي إن شاء الله تعالى في حديث ابن عباس. وقوله في حديث أبي النضر : (( لا يخرجكم إلا فرارًا منه )) ؛ رويناه بالنصب والرفع ، وعلى الروايتين فهو مشكل ؛ لأنَّه يفيد بحكم ظاهره : أنه لا يجوز لأحد أن يخرج من الوباء إلا من أجل الفرار ، وهذا محال . وهو نقيض مقصود الحديث من أوله إلى آخره قطعًا . ولما ظهر هذا الفساد قيَّده بعض رواة "الموطأ" : الإقرار بهمزة مكسورة ، وسكون الفاء ، توهَّم فيه أنه مصدر ، وهذا ليس بصحيح ؛ لأنَّه لا يقال : أفرُّ - رباعيًّا - ، وإنما يقال : فرَّ ، ومصدره : فرار ومفرّ ، كما قال تعالى : { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } ، وقال : { أين المفرّ}.وقد أشكل هذا الكلام على كثير من العلماء الأعلام حتى قالت جماعة : إن إدخال (( إلا )) فيه غلط . وقال بعضهم : إنها زائدة . كما قد تزاد (( لا )) في مثل قوله تعالى : { ما منعك ألا تسجد} ؛ أي : ما منعك أن تسجد ، وقال بعض النحويين : إن (( إلا )) هنا للإيجاب لأنها توجب بعض ما نفاه من الجملة ، ونهى عنه من الخروج . فكأنه قال : لا تخرجوا منها إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا . وأباح الخروج لغرض آخر. والأقرب : أن تكون زائدة ، والصحيح إسقاطها ؛ كما قد صح في الروايات الأخر .
وقوله : (( إن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ خرج إلى الشام )) ؛ كان هذا الخروج من عمر بعدما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خيَّاط ، وكان يتففد أحوال رعيته ، وأحوال أمرائه . وقد كان خرج قبل ذلك إلى الشام لما إلى حاصر أبو عبيدة إيلياء ، وهي : البيت المقدَّس ، عندما سأل أهلها أن يكون صلحهم على يدي عمر ، فقدم وصالحهم . ثم رجع ، وذلك سنة ست عشرة من الهجرة.
(18/92)
وقوله : حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد )) ؛ سرغ : رويناه بفتح الراء وسكونها ، وهي : قرية بتبوك . قاله ابن حبيب . قال ابن وضاح : بينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة ، وقيل : هي آخر عمل الحجاز . ففيه بيانُ ما يجب على الإمام من تفقُّد أحوال رعيته ، ومباشرة ذلك بنفسه ، والسفر إلى ذلك وإن طال .
و (( الأمراء )) : جمع أمير ، وكان قد قسَّم الشام على أربعة أمراء ؛ تحت كل واحدٍ منهم جند وناحية : أبو عبيدة بن الجراح ، وشرحبيل بن حَسَنة ، ويزيد بن أبي سفيان ، ومعاذ بن جبل . ثم لم يمت عمر حتى جمع الشام لمعاوية .
وفيه دليل : على إباحة العمل والولاية لمن كانت له أهلية ذلك من العلم ، والصلاح ؛ إذا اعتقدوا أنهم متمكنون من العمل بالحق ، والقيام به. فإذا عملوا بذلك حصل لهم أجر أئمة العدل .
وقوله : (( ادعُ لي المهاجرين الأولين ، فاستشارهم )) ؛ دليلٌ على استشارة أولي العلم ، والفضائل ، وتقديم أهل السوابق. وهذا من عمر ـ رضى الله عنه ـ عمل بقوله تعالى : { وَشَاوِرهمْ في الأمر }. وقد استشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابَه غير مرّة ، وإن كان أكمل الناس عقلاً ، وأغزرهم علمًا ، ولكن كان ذلك ليسُنَّ ، ويطيب قلوب أصحابه .
و (( المهاجرون الأولون )) : من صلَّى إلى القبلتين . وأما من لم يُسْلِم إلا بعد تحويل القبلة ، فلا يعدُّ في الأولين .
و (( المشيخة )) : الشيوخ ، وفيها لغات بكسر الشين وفتحها ، والكسر أشهر . ويقال أيضًا : شيوخًا ومشايخ . وهذه كلها : جمع شيخ ، مع زيادة الميم . فأمَّا من غير ميما : فهو جمع شيوخ ، وأشياخ ، وشِيخان ، وشِيَخَة - بكسر الشين -. فأمَّا بالفتح : في مؤنثة شِيخ . فأمَّا الشَّيَخ - بفتح الياء - : فهو مصدر شاخ يشيخ ، ويقال فيه : شيخوخة .
(18/93)
و (( مهاجرة الفتح )) : هم الذين هاجروا قبل الفتح بيسير . وقيل : هم مسلمة الفتح ، وفيه بُعد ؛ لأنَّ الهجرة ارتفعت بعد الفتح . وإنما أخرهم عمر عن غيرهم ؛ لتأخرهم في الإسلام والهجرة . ولكن استشارهم لشيخهم ، ولكمال خيرتهم للأمور . ولما استشارهم لم يختلف عليه منهم أحد. فترجَّح عنده رأيهم ، ونادى في الناس إنِّي مصبح على ظهر ؛ أي : على ظهر طريق ، أو ظهر بعير مرتحلاً ، فأصبحوا عليه ؛ أي : مرتحلين . وهذا يدلّ : على أنه إنما عزم على الرجوع لرأي أولئك المشيخة لما ظهر له أنه أرجح من رأي غيرهم ممن خالفهم . ووجه أرجحية هذا الرأي : أنه جمع فيه بين الحزم ، والأخذ بالحذر ، وبين التوكل ، والإيمان بالقدر . وبيان ذلك : بحجَّة عمر على أبي عبيدة رضي الله عنهما ؛ حين قال له : (( أفرارا من قدر الله ؟ )) وذلك : أن أبا عبيدة ظهر له : ألا يرجع ، ويتوكل على الله ، ويُسلم للقدر ؛ لأنَّ ما يقدَّر عليه لا ينجيه منه رجوع ، ولا فرار . فأجابه عمر ـ رضى الله عنه ـ بأن قال : (( لو غيرك قالها )) ؛ أي : ليت غيرك يقول ذلك القول . فكأنه قال : لا يليق هذا القول بك لعلمك وفهمك ، وإنما يليق ذلك بغيرك ممن قل ، علمه ، وقصر ففمه . ثم احتج عليه بأن قال : (( نعم ! نفرُّ من قدر إلى قدر الله ؛ إذ لا محيص للإنسان عما قدَّره الله عليه ، لكن أمرنا الله تعالى بالتحرُّز من المخاوف والهلكات ، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات ، والحذر ، وجلب المنافع ، ودفع الضرر ، ثم المقصِّر في ذلك ملوم عادة وشرعًا ، ومنسوبٌ إلى التفريط عقلاً وسمعًا ؛ وإن زعم أنه المتوكل على الله ، المسلِّم لأمر الله . ولما بيَّن عمر ذلك المعنى بالمثال ، لاح الحق ، وارتفع الجدال ، ثم لم يبرح عمر من مكانه حتى جاءه الحق ببرهانه ، فحدَّثهم عبدالرحمن بما قاله في ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسُرَّ بذلك عمر ـ رضى الله عنه ـ سرورًا ظهر لديه ، فحمد الله ، وأثنى عليه حيث توافق الرأي والسمع ، وارتفع الخلاف ، وحصل(18/94)
الجمع ، فرجع من موضعه ذلك إلى المدينة سالِمًا موفورًا ، وكان في سعيه ذلك مصيبًا مشكورًا .
وعند هذا يعلم الفطن العاقل : أن تلك الأقوال التي حكيت عنه في ندمه على الرجوع من سرغ ، ومن فتياه بإباحة القدوم على الوباء والفرار منه لم يصح عنه شيء من ذلك . وكيف يندم على هذا النظر القويم ، ويرجع عن هذا المنهج المستقيم ؛ الذي قد تطابق عليه العقل والسمع ، واصطحب عليه الرأي والشرع ؟! هذا ما لا يكون ، فالحاكون عنه : هم المتقوِّلون ، والله تعالى أعلم.
ومن أعظم فوائد هذا الحديث : إجماع الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ على العمل بالرأي ، والاجتهاد ، وقبول أخبار الآحاد ، كما بيَّنا ذلك في الأصول .
وقوله : (( هذا المحل )) ؛ أي : المدينة . يعني : أنها المحل الذي لا يرغب عنه ، ولا يفضل غيره عليه ، وإن كثر خضب البلاد ، واتسع حال أهلها. ويقال : بكسر الحاء وفتحها ، والفتح هو الأصل المطَّرد ؛ لأنَّ ما كان على فعل يَفْعُل : الأصل فيه : أن يأتي المكان منه بالفتح إلا أحرفًا سمع فيها الكسر والفتح .
تكميل : قال أبو عمر رحمه الله : لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فرَّ من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني : أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السَّيالة ، فكان يجمع كل جمعة ويرجع ، فكان إذا جمع صاحوا به : فرَّ من الطَّاعون ، فطعن ، فمات بالسَّيالة . وذكر أبو حاتم عن الأصمعي : هرب بعض البصريين من الطاعون ، فركب حمارًا له ، ومضى بأهله نحو سَفَوان ، فسمع حاديًّا يحدو خلفه :
لن يُسْبَقَ اللهُ على حمارٍ ولا على ذِي منعةٍ طيَّار
أو يأتي الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساري
وذكر المدائني قال : وقع الطاعون بمصر في ولاية عبدالعزيز بن مروان ، فخرج هاربًا منه ، فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها : سُكَر . فقدم عليه رسول لعبدالملك فقال له : ما اسمك ؟ فقال : طالب بن مدرك . فقال : أوَّه ! ما أراني راجعًا إلى الفسطاط . فمات في تلك القرية .
(18/95)
وررى أبو عمر عن الأصمعي قال : لما وقع طاعون الجارف بالبصرة فني أهلها ، وامتنع الناس من دفن موتاهم ، فدخلت السباع البصرة على ريح الموتى ، وخلت سكَّة بني جرير فلم يُبقِ الله فيها سوى جارية ، فسمعت صوت الذئب في سِكَّتهم ليلاً ، فأنشأت تقول :
ألا أيها الذئب المنادي بسحرةٍ إليَّ أنبئك الذي قد بدا لِيَا
بدا لي أني قد نُعِيتُ وإنني بَقيَّة قومٍ ورَّثوني البواكيا
وإنِّي بلا شكٍّ سأتبَعُ مَن مضى ويتبعني مِن بَعْدُ مَن كان تالِيَا
ومن باب لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة ولا غول
(18/96)
(( لا )) في هذا الحديث وإن كانت نفيًا لما ذكر بعدها فمعناها النهي عن الالتفات لتلك الأمور ، والاعتناء بها ؛ لأنَّها في أنفسها ليست بصحيحة ، وإنما هي من أوهام جهَّال العرب . وبيان ذلك : أنهم كانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحاء أمرضهم ، وأعداهم ، وكذلك في الإبل . فنفى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك وأبطله . ثم إنهم لما أوردوا عليه الشبهة الحاملة لهم على ذلك حين قالوا : فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها ، قطع حجتهم ، وأزاح شبهتهم بكلمة واحدة ، وهي قوله : (( فمن أعدى الأول ؟ )) ومعنى ذلك : أن البعير الجرب الذي أجرب هذه الصحاح - على زعمهم - من أين جاءه الجرب ؟ أمن بعير آخر ؟ فيلزم التسلسل . أو من سبب غير البعير ؟ فهو الذي فعل الجرب في الأول والثاني ، وهو الله تعالى الخالق لكل شيء ، والقادر على كل شيء . وهذه الشبهة التي وقعت لهؤلاء هي التي وقعت للطبائعيين أولاً ، وللمعتزلة ثانيًا . فقال الطبائعيون بتأثيرات الأشياء بعضها في بعض ، وإيجادها إياها ، وسموا المؤثر طبيعة . وقالت المعتزلة بنحو ذلك في أفعال الحيوانات والمتولدات ، وقالوا : إن قدرهم مؤثرة فيها بالإيجاد. وأنهم خالقون لأفعالهم ، مستقلون باختراعها . واستند الكل ممن ذكر للمشاهدة الحسية ، وربما نسبوا منكر ذلك إلى إنكار البديهة . وهذا منهم غلط فاحش ، وسببه : أنهم التبس عليهم إدراك الحس بإدراك العقل ، فإنَّ الذي شاهدوه إنَّما هو تأثير شيء ، عند شيء آخر ، وهذا حظ الحس ، وأما تأثيره فيه فلا يدرك حسًّا ، بل عقلاً ، فإنَّ الحس إنما أدرك وجود شيء عند شيء ، وارتفاعه عند ارتفاعه ، أما إيجاده به فليس للحس فيه مدخل ، فأنها المتقارنات في الوجود على حالة واحدةٍ والعقل هو الذي يفرق ، فيحكم بتلازم بعضها بعضًا عقلاً ، ويحكم بتلازم بعضها ببعض عادة مع جواز التبدُّل عقلاً. ولقد أحسن من قال من العقلاء النظار(18/97)
الفضلاء : إياك والانخداع بالوجود والارتفاع . واستيفاء الكلام على هذا في علم الكلام .
وفيه دليل على جواز مشافهة من رقعت له شبهة في اعتقاده بذكر البرهان العقلي ؛ إذا كان السائل أهلاً لفهمه . فأمَّا أهل القصور ؛ فيخاطبون بما تحتمله عقولهم من الأمور الإقناعيات .
و (( الطيرة )) قد تقدم الكلام فيها في الصلاة ، ويأتي إن شاء الله .
و (( الصفر )) : تأخير المحرَّم إلى صفر. وهو النسيء الذي كانوا يفعلونه. وإلى هذا ذهب مالك ، وأبو عبيدة. وقيل : هو دودٌ في البطن يهيج عند الجوع ، كانت العرب تراها أعدى من الجرب ، وأنشدوا :
لا يتأرَّى لِمَا في القِدْرِ يَرْقُبُه ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ
وإلى هذا ذهب مطرِّف ، وابن وهب ، وابن حبيب ، وهو اختيار أبي عبيدة .
و (( الهامَّة ))- مشددة الميم - طائر تتشاءم به العرب ، فإذا سقطت في دار أحدهم رآها ناعية له نفسه ، أو أحدًا من أهله . وإلى هذا التفسير ذهب مالك . وقيل : كانت العرب تعتقد : أن عظام الميت ، أو رأسه ينقلب هامَّة يطير ، ويعني ذلك الطائر : الصَّدى . قال لبيد :
فلَيْسَ النَّاسُ بَعْدَكَ في نَعِيمٍ ولا هُمْ غَيْرَ أَصْدَاءٍ وهامِ
قال الإمام أبو عبد الله : أما البُوم ؛ فالأنثى منه الهامَّة ، والذكر منه يسمى الصَّدى .
قلت : وهذا يُشعر : أن أبا عبدالله وقع له في هذا الحديث : (( ولا بوم )) ؛ ففسَّره بما قال ، ولم يقع في كتاب مسلم إلا قوله : (( ولا نوء )) ؛ أي : لا تصح نسبة الأمطار والرياح للنوء ، وقد تقدَّم تفسيره في الإيمان .
(18/98)
و (( الغول )) : كانت العرب تتحدَّث أن الغيلان تتراءى للناس في الفلوات فتتغول لهم تغوَّلاً ؛ أي : تتلوَّن تلوَّنًا ، فتضلّهم عن الطريق فتهلكهم . قال الجوهري : الغول - بالضم - من السَّعالى ، والجمع : أغوال وغيلان . وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه : فهو غُولٌ . يقال : غالته غول : إذا وقع في مهلكة . ومقصود هذا الحديث : إبطال ما كانت العرب تقوله ، وتعتقده في هذه الأمور ، وألا يُلتفت لشيء من ذلك ، لا بالقلب ولا باللسان . والله أعلم .
ومن باب لا يُورِدُ ممرضٌ على مصح
(18/99)
الورود هو الوصول إلى الماء . و(( أورد إبله )) : إذا أوصلها إليه ، فصاحب الإبل : مورد ، والإبل موردة ، وممرض : اسم فاعل من أمرض الرجل : إذا أصاب ماشيته مرض ، قاله يعقوب . ومصح : اسم فاعل من أصح ؛ إذا أصابت ماشيته عاهة ثم صحت . قاله الجوهري . وقد جمع أبو هريرة ـ رضى الله عنه ـ في هذه الرواية بين قوله في : (( لا عدوى )) ، وبين قوله : (( لا يورد ممرض على مصح )). وهو جمعٌ صحيح لا بُعد فيه ؛ إذ كلاهما خبر عن المشروعية ، لا خبر عن الوجود ، فقوله : (( لا عدوى )) ؛ أي : لا يجوز اعتقادها . وقوله : (( لا يورد ممرض على مصحٍّ )) ؛ أي : لا يفعل ذلك . فهما خبران يتضمنان النهي عن ذلك ، وإنَّما نهى عن إيراد الممرض على المصح مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد ذلك ، أو مخافة تشويش النفوس ، وتأثير الأوهام ، وهذا كنحو أمره بالفرار من المجذوم ، فإنه وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي ، فإنا نجد من أنفسنا نفرة ، وكراهية لذلك ، حتى إذا أكره الإنسان نفسه على القرب منه وعلى مجالسته تألَّمت نفسه ، وربما تأذت بذلك ، ومرضت ، فيحتاج الإنسان في هذا إلى مجاهدة شديدة ، ومكابدة . ومع ذلك فالطبع أغلب ، وإذا كان الأمر بهذه المثابة ؛ فالأولى بالإنسان ألا يقرب شيئًا يحتاج الإنسان فيه إلى هذه المكابدة ، وألا يتعرض فيه إلى هذا الخطر . والمتعرض لهذا الألم زاعمًا أنه يجاهد نفسه حتى يزيل عنها تلك الكراهة ، هو بمنزلة من أدخل على نفسه مرضًا إرادة علاجه حتى يزيله . ولا شك في نقص عقل من كان على هذا ، وإنما الذي يليق بالعقلاء ، ويناسب تصرُّف الفضلاء أن يباعد أسباب الآلام ، ويجانب طرق الأوهام ، ويجتهد في مجانبة ذلك بكل ممكن مع علمه بأنه لا ينجي حذر عن قدر ، وبمجموع الأمرين وردت الشرائع ، وتوافقت على ذلك العقول والطبائع . وأما سكوت أبي هريرة عن قوله : (( لا عدوى )) ، وإيراد الحديث من غير : (( لا يورد ممرض على مصح )) بعد أن حدَّث(18/100)
بمجموعها ، فلا يصح أن يكون من باب النسخ ، كما قدَّره أبو سلمة بن عبدالرحمن ؛ لأنهما لا تعارض بينهما ؛ إذ الجمع صحيحٌ كما قدَّمناه ، بل الواجب أن يقال : إنهما خبران شرعيان عن أمرين مختلفين ، لا متعارضين ؛ كخبر يتضمَّن حكما من أحكام الصلاة ، وآخر يتضمن حكمًا من أحكام الطهارة مثلاً . وقد بيَّنَّا وجه تباين الخبرين. وعلى هذا : فسكوت أبي هريرة يحتمل أوجهًا :
أحدها : السببان المتقدِّمان ، كما قال أبو سلمة .
وثانيهما : أنهما لما كانا خبرين متغايرين لا ملازمة بينهما ؛ جاز للمحدِّث أن يحدِّث بأحدهما ، ويسكت عن الآخر ؛ حسبما تدعو إليه الحاجة الحالية .
وثالثها : أن يكون خاف اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين ، فسكت عن أحدهما حتى إذا أمن ذلك حدَّث بهما جميعًا .
ورابعها : أن يكون حمله على ذلك وجه غير ما ذكرناه ، لم يطَّلع عليه أحدًا .
وعلى الجملة : فكل ذلك محتمل ، غير أن الذي يقطع بنفيه : النسخ ، على ما قرَّرناه . والله أعلم .
ومن باب : الفال الصالح
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا طيرة ، وخيرها الفأل )) ؛ حاصل الطيرة : أن يسمع الإنسان قولاً ، أو يرى أمرًا يخاف منه ألا يحصل له غرضه الذي قصد تحصيله . والفأل : نقيض ذلك ، وهو أن يسمع الإنسان قولاً حسنًا ، أو يرى شيئًا يستحسنه ، يرجو منه أن يحصل له غرضه الذي قصد تحصيله . وهذا معنى ما فسَّر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفأل . وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكره الطيرة ، ويعجبه الفأل.
وروى الترمذي عن أنس ـ رضى الله عنه ـ : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع : يا راشد ! يا نجيح ! وهو حديث حسن صحيح غريب.
وروى أبو داود عن بريدة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا يتطير من شيء ، وكان إذا بعث غلامًا سأل عن اسمه ، فاذا أعجبه اسمه فرح به ، ورُئي بشر ذلك في وجهه ، وإن كره اسمه رُئي كراهية ذلك في وجهه. وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإذا أعجبه اسمها فرح بها ، ورُئي بشر ذلك في وجهه ، وإن كره اسمها رُئي كراهية ذلك في وجهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(18/101)
وروى قاسم بن أصبغ عن بريدة بن حصيب قال : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يتطير ، ولكن يتفاءل ، فركب بريدة في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني سهم يتلقى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلاً ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((من أنت ؟ )) فقال : بريدة . فالتفت إلى أبي بكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( برد أمرنا وصلح )) ، ثم قال : (( من ؟ )) قال : من أسلم . قال لأبي بكر : (( سلمنا )). ثم قال : (( من ؟ )) قال : من بني سهم . قال : (( خرج سهمنا )). وذكر الحديث .
وإنما كان يعجبه الفأل ؛ لأنَّه تنشرح له النفس ، وتستبشر بقضاء الحاجة ، وبلوغ الأمل ؛ فيحسُن الظَّن بالله عز وجل ، وقد قال الله تعالى : (( أنا عند ظن عبدي بي )). وإنما كان يكره الطيرة ؛ لأنَّها من أعمال أهل الشرك ، ولأنها تجلب ظن السوء بالله تعالى ، كما قد روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أنه قال : (( الطيرة شرك ، الطيرة شرك -ثلاثا - ، وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل )) ؛ أي : من اعتقد في الطيرة ما كانت الجاهلية تعتقده فيها ، فقد أشرك مع الله تعالى خالقًا آخر ، ومن لم يعتقد ذلك فقد تشبَّه بأهل الشرك ، ولذلك قال : ((وما منا )) ؛ أي : ليس على سنتنا .
وقوله : (( إلا )) : هي إلا الاستمنائية ، ومعنى ذلك : أن المتطيِّر ليس على سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أن يمضي لوجهه ، ويرضى عنها ، غير أنه قد لا يقدر على الانفكاك عنها بحيث لا تخطر له مرة واحدة ، فإنَّ إزالة تأثيرها من النفوس لا تدخل تحت استطاعتنا ، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث معاوية بن الحكم - لما قال له : ومنا رجال يتطيَّرون - فقال : (( ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدَّهم . وفي بعض النسخ : (( فلا يضرَّهم )) ، لكنه إذا صحَّ تفويضه إلى الله تعالى ، وتوكله عليه ، وداوم على ذلك أذهب الله تعالى ذلك عنه ، ولذلك قال : (( ولكن الله يذهبه بالتوكل )). وقد روى أبو أحمد بن عدي من حديث أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : (( إذا تطيرتم فامضوا ، وعلى الله فتوكلوا )).
(18/102)
و (( الشؤم )) : نقيض اليمن ، وهو من باب الطيرة ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا طيرة ، إنما الشؤم في ثلاثة : المرأة ، والفرس ، والدار )). وقد تخيل بعض أهل العلم : أن التطيُّر بهذه الثلاثة مستثنى من قوله : (( لا طيرة )) ، وأنه مخصوص بها ، فكأنه قال : لا طيرة إلا في هذه الثلاثة ؛ فمن تشاءم بشيء منها نزل به ما كره من ذلك. وممن صار إلى هذا القول : ابن قتيبة ، وعضد هذا بما يروى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حديث أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ ؛ أنه قال : (( الطيرة على من تطيَّر )). وقال ابن عبدالله : إن مالكًا أخذ بحديث الشؤم في الدار ، والمرأة ، والفرس ، وحمله على ظاهره . ولم يتأوَّله . فذكر في كتاب الجامع من "العتبية" أنه قال : ربَّ دار سكنها قوم فهلكوا ، وآخررن بعدهم فهلكوا ، وأشار إلى حمل الحديث على ظاهره . ويعضد هذا حديث يحيى بن سعيد قال : جاءت امرأة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت : يا رسول الله ! دار سكنَّاها ، والعدد كثير ، والمال وافر ، فقلَّ العدد ، وذهب المال ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دعوها ذميمة )).
(18/103)
قلت : ولا يظن بمن قال هذا القول : أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة هو على نحو ما كانت الجاهلية تعتقد فيها ، وتفعل عندها ، فإنَّها كانت لا تقدم على ما تطيرت به ، ولا تفعله بوجه بناء على أن الطيرة تضر قطعًا ، فإنَّ هذا ظن خطأ ، وإنما يعني بذلك : أن هذه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها ، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك فقد أباح الشرع له أن يتركه ، ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه ، ويسكن له خاطره ، ولم يُلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه ، أو مع امرأة يكرهها . بل : قد فسح له في ترك ذلك كله ، لكن مع اعتقاد أن الله تعالى هو الفعَّال لما يريد ، وليس لشيء من هذه الأشياء أثر في الوجود ، وهذا على نحو ما ذكرناه في المجذوم . فإنَّ قيل : فهذا يجري في كل متطير به ، فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر ؟ فالجواب : ما نبَّهنا عليه من أن هذه ضروريَّة ، في الوجود ، ولا بدَّ للإنسان منها ، ومن ملازمتها غالبًا . فأكثر ما يقع التشاؤم بها ؛ فخصَّها بالذكر لذلك ، فإنَّ قيل : فما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء ، فإنَّ الدار إذا تطير بها ، فقد وسع في الارتحال عنها ، وموضع الوباء قد منع من الخروج منه ؟! فالجواب ما قاله بعض أهل العلم : إن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام :
أحدها : ما لم يقع التأذي به ، ولا اطَّردت عادة به خاصة ولا عامَّة ، لا نادرة ، ولا متكررة ؛ فهذا لا يصغى إليه ، وقد أنكر الشرع الالتفات إليه ، كلقي غراب في بعض الأسفار ، أو صراخ بومة في دار ، ففي مثل هذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا طيرة )) ، و(( لا تطيَّروا )). وهذا القسم هو الذي كانت العرب تعتبره ، وتعمل عليه ، مع أنَّه ليس في لقاء الغراب ، ولا دخول البومة دارًا ما يشعر بأذى ولا مكروه ، لا على جهة الندور ، ولا التكرار.
(18/104)
وثانيها : ما يقع به الضرر ، ولكنه يعمُّ ، ولا يخص ، ويندر ، ولا يتكرر ، كالوباء ، فهذا لا يقدِّم عليه عملاً بالحزم والاحتياط ، ولا يُفَرُّ منه لإمكان أن يكون قد وصل الضَّرر إلى الفارِّ ، فيكون سفره زيادة في محنته ، وتعجيلاً لهلكته كما قدمناه .
وثالثها : سببٌ يخص ، ولا يعم ، ويلحق منه الضرر طول الملازمة ، كالدار ، والفرس ، والمرأة ، فيباح له الاستبدال ، والتوكل على الله تعالى ، والإعراض عما يقع في النفوس منها من أفضل الأعمال ، وقد وضح الجواب ، والله الموفق للصوا ب .
وقد سلك العلماء في تأويل ذلك الحديث أوجهًا أخر :
منها : أن بعضهم قال : إنما هذا منه جمع خبر عن غالب عادة ما يتشاءم به ، لا أنه خبر عن الشرع ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنَّه تعطيل لكلام الشارع عن الفوائد الشرعية التي لبيانها أرسله الله سبحانه وتعالى . ومنهم من تأوَّل الشؤم المذكور في هذه الثلاثة فقال : الشؤم في المسكن ضيقه ، وسوء جيرانه ، وفي المرأة سوء خلقها ، وألا تلد ، وفي الفرس جماحه ، وألا يُغزى عليه . وهذا المعنى لا يليق بالحديث ، ونسبته إلى أنه هو مراد الشارع من فاسد الحديث . وما ذكرناه أولى ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( إن يكن من الشؤم شيء حقًّا ففي : الفرس ، والمرأة ، والدار )) ، وفي اللفظ الآخر : (( إن كان في شيء ففي الربع ، والخادم ، والفرس )) ؛ مقتضى هذا المساق : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن محقّقًا لأمر الشؤم بهذه الثلاثة في الوقت الذي نطق بهذا ، لكنه تحققه بعد ذلك ، لما قال : (( إنما الشؤم في ثلاثة )) ، وقد بيَّنَّنا مراده بالشؤم فيما تقدَّم ، والحمد لله . والمراد بالربع : الدار ، كما قال في الرواية الأخرى ، وقد يصح حمله على أعم من ذلك ، فيدخل فيه : الدكان ، والفندق وغيرهما مما يصلح الربع له . والمرأة تتناول الزوجة ، والمملوكة . والخادم يتناول الذكر والأنثى ؛ لأنَّه اسم جنس .
ومن باب النهي عن الكهانة وإتيان الكهان
(18/105)
الكهان : جمع كاهن ، ككتاب : جمع كاتب ، والكهانة : ادِّعاء علم الغيب ، وقد تكلَّمنا على حديث معاوية بن الحكم في باب : نسخ الكلام في الصلاة . قال القاضي أبو الفضل : الكهانة كانت في العرب على أربعة أضرب :
أحدها : أن يكون للإنسان رَئِيٌّ من الجن يخبره بما يسترق من السمع. وهذا القسم قد بطل منذ بعث الله محمدًا كما نصَّ الله تعالى عليه في الكتاب .
والثاني : أن يخبره بما يطرأ ويكون في أقطار الأرض ، وما يخفى مما قرب ، أو بعد ، وهذا لا يبُعد وجوده . ونفت هذا كله المعتزلة وبعض المتكلمين ، وأحالوه . ولا استحالة ، ولا بُعد في وجود مثله ، لكنهم بعد فيكذبون ، والنهي عام في تصديقهم ، والسماع منهم .
الثالث : التخمين والحزر ، وهذا يخلق الله فيه لبعض الناس شدة قوة ، لكن الكذب في هذا الباب أغلب . قال : ومن هذا الباب : العرافة ، وصاحبها عرَّاف ، وهو الذي يستدلُّ على الأمور بأسباب ومقدمات يدِّعي معرفتها . وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر ، والطرق ، والنجوم ، وأسباب معتادة في ذلك . وهذا الفن هي العيافة - بالياء - وكلها ينطلق عليها اسم : الكهانة .
قلت : وإذا كان كذلك فسؤالهم عن غيب ليخبروا عنه حرام ، وما يأخذون على ذلك حرام ، ولا خلاف فيه ؛ لأنَّه حلوان الكاهن المنهي عنه .
قال أبو عمر : ويجب على من ولي الحسبة أن يقيمهم من الأسواق ، وينكر عليهم أشدَّ النكير ، ولا يدع أحدًا يأتيهم لذلك ، وإن ظهر صدق بعضهم في بعض الأمور ، فليس ذلك بالذي يخرجهم عن الكهانة ، فإنَّ تلك الكلمة إما خطفة جني ، أو موافقة قدر ليغترَّ به بعض الجهال ، ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين ، فجاؤوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال ، واستخرجوا منهم الأموال ، فحصلوا من أقوالهم على الشراب ، والآل ، ومن أديانهم على الفساد ، والضلال .
(18/106)
وقوله : (( تلك الكلمة يخطفها الجني ، فيقذفها في أذن وليه )) ؛ أي : يرميها في أذنه ، ويُسمعه إياها . وفي الرواية الأخرى : (( فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة )) ؛ أي : يضعها في أذنه . يقال : قررت الخبر في أذنه أقره قرًّا . ويصحُّ أن يقال : ألقاها في أذنه بصوت . يقال : قرَّ الطائر : صوت .
و (( قرُّ الدجاجة ))- بكسر القاف - حكاية : صوتها . قال الخطابي : قرَّت الدجاجة ، تقرُّ قرًّا ، وقريرًا . وإذا رجَّعت فيه ؛ قيل : قرقرت قرقرةً ، وقرقريرًا . قال الشاعر :
وإن قرقرت هاجَ الهوَى قرقرِيرُها
قال : والمعنى أن الجني يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن فيتسامع بها الشياطين ، كما تؤذن الدجاج بصوت صواحباتها فتتجاوب .
قلت : والأشبه بمساق الحديث أن يكون معناه : أن الجنِّي يلقي إلى وليه تلك الكلمات بصوت خفي متراجع يُزَمْزِمُهُ ، ويُرَجِّعه له كما يلقيه الكهان للناس ، فإنَّهم تسمع لهم زمزمة ، وإسجاع ، وترجيع ، على ما علم من حالهم بالمشاهدة والنقل . ولم يختلف أحدٌ من رواة مسلم أن الرواية في هذا اللفظ : (( قرَّ الدجاجة )) : يعني به الطائر المعروف . واختلف فيه عن البخاري . فقال بعض رواته : (( كقرِّ الزجاجة )) بالزاي. قال الدارقطني : هو مما صحَّفوا فيه . والصواب : الدجاجة - بالدال -. وقيل : الصواب الزجاجة ؛ بدليل ما قد رواه البخاري : فيقرها في أذنه ، كما تقرّ القارورة ، وهي بمعنى الزجاجة . أي : كما يسمع صوت الزجاجة إذا حكَّت على شيء ، أو إذا أُلقي فيها ماء ، أو شيء .
(18/107)
وقوله : (( من أتى عرافًا لم تقبل له صلاة أربعين يومًلا )) ؛ العراف : هو الحازي والمنجِّم الذي يدَّعي الغيب ، وهذا يدلّ على : أن إتيان العرافين كبيرة ، وظاهره أن صلواته في هذه الأربعين تحبط ، وتبطل ، وهو جار على أصول ي الخوارج الفاسدة في تكفيرهم بالذنوب . وقد بيَّنا فساد هذا الأصل فيما تقدم . وأنه لا يحبط الأعمال إلا الردة . وأما غيرها فالحسنات تبطل السيئات كما قال تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات }. وهذا مذهب أهل السنَّة والجماعة ، فليس معنى قوله : (( لا تقبل له صلاة )) أن تحبط ، بل : إنما معناه - والله أعلم - أنَّها لا تقبل قبول الرضا ، وتضعيف الأجر . لكنه إذا فعلها على شروطها الخاصة بها ، فقد برئت ذمّته من المطالبة بالصلاة ، وتُقضَى عن عهدة الخطاب بها ، ويفوته قبول المرضي عنه ، وإكرامه ، وثوابه ، ويتضح ذلك باعتبار ملوك الأرض . ولله المثل الأعلى ، وذلك أن الْمُهدِي إليهم : إما مردودٌ ، أو مقبول منه ، والمقبول : إما مقرَّب مُكرَّم مثاب ، وإما ليس كذلك . فالأول : هو المبعدُ المطرود ، والثاني : هو المقبول القبول القائم الكامل . والثالث : لا يصدق عليه أنه مثل الأول ، فإنه لم تردَّ هديته. بل : قد التفت إليه ، وقُبلت منه. لكنه لما لم يُثبت ، ولم يُقرَّب صار كأنه غير مقبول منه ، فيصدق عليه أنَّه لم يُقبل منه إذ لم يحصل له ثواب ولا إكرام.
(18/108)
وتخصيصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأربعين بالذكر قد جاء في مواضع كثيرة من الشرع. منها : قوله في شارب الخمر : (( لا تقبل له صلاة أربعين يومًا )) ، وقوله : (( والذي نفسي بيده ! إنه ليجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا ، ثم يكون علقةً مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك )) ، وقوله : (( من أخلص لله أربعين ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه )) ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذ وَعَدْنَا مُوسى أربَعِينَ لَيْلَةَ } ، ومنه : توقيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قص الشارب ، وتقليم الأظفار ، وحلق العانة : ألا تترك أكثر من أربعين ليلة . فتخصيص هذه المواضع بهذا العدد الخاص : هو سرٌّ من أسرار الشريعة لم يطلع عليه نصًّا ، غير أنه قد تنسم منه بعضُ علمائنا أمرًا تسكن النفسُ إليه ، وذلك : أنه قال : إن هذا العدد في هذه المواضع إنما خصَّ بالذكر لأنَّه مدَّة يكمل فيها ما ضربت له ، فينتقل إلى غيره ، ويحصل فيها تبدُّله ، وبيانه بانتقال أطوار الخلقة ، في كل أربعين منها يكمل فيها طور ، فينتقل عند انتهائه إلى غيره ، كما قد نصَّ عليه في الحديث ، وكذلك في الأربعين الميعادية : أمر بنو إسرائيل أن يكملوا تهيَّؤهم لسماع كلام الله ، فكمل لهم ذلك عند انتهائها ، ومثل ذلك في الأربعين الإخلاصية ، وأما أربعون شارب الخمر فليَتَبدَّل لحم شارب الخمر بغيره ، ويؤيده أن أهل التجارب قالوا : إن السمن يظهر في الحيوان في أربعين يومًا ، وقريبٌ من هذا الأربعون المضروية لخصال الفطرة ؛ لأنَّها عند انتهائها يكمل فحشها ، واستقذارها ، فينبغي أن تغير عن حالها. وأما أربعون إتيان العراف فلأنها - والله أعلم - المدة التي ينتهي إليها تأثير تلك المعصية في قلب فاعلها ، وفي جوارحه ، وعند انتهائها ينتهي ذلك التأثير . والله تعالى أعلم ، وهو العليم الخبير .
ومن باب رمي الشياطين بالنجوم
(18/109)
قوله : (( لكن ربُّنا إذا قضى أمرًا سبَّح حملة العرش )) ؛ أي : أظهر قضاءه ، وما حكم به لملائكته ؛ لأنَّ قضاءه إنما هو راجع إلى سابق علمه ، ونفوذ مشيئته ، وحُكمه ، وهما أزليان ، فاذا أطّلع حملة عرشه على ما سبق في علمه خضعت الملائكة لعظمته ، وضجَّت بتسبيحه ، وتقديسه ، فيسمع ذلك أهل السماء التي تليهم ، وهكذا ينتهي التسبيح لملائكة سماء الدنيا ، ثم يتساءلون فيما بينهم : ماذا قال ربكم ، على الترتيب المذكور في الحديث . ففيه ما يدل : على أن حملة العرش أفضل الملائكة ، وأعلاهم منزلة ، وأن فضانل الملائكة على حسب مراتبهم في السموات ، وأن الكل منهم لا يعلمون شيئًا من الأمور إلا بأن يعلمهم الله تعالى به ، كما قال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول }.
وفيه : ما يدل : على أن علوم الملائكة بالكائنات يستفيده بعضهم من بعض إلا حملة العرش ؛ فإنهم يستفيدون علومهم من الحق سبحانه وتعالى ، فإنَّهم هم المبدوؤون بالإعلام أولاً ، ثم إن ملائكة كل سماء تستفيد من التي فوقها ، وفي هذا دليل : على أن النجوم لا يعرف بها علم الغيب ، ولا القضاء ، ولو كان كذلك لكانت الملائكة أعلم بذلك وأحق به . وكل ما يتعاطاه المنجمون من ذلك فليس شيء منه علمًا يقينًا ؛ إنَّما هو رجم بظن ، وتخمين بوهم ، الإصابة فيه نادرة ، والخطأ والكذب فيهم غالب . وهذا مشاهد من أحوال المنجمين . والمطلوب من العلوم النجوميات ما يهتدى به في الظلمات ، وتعرف به الأوقات ، وما سوى ذلك فمخارق وتُرَّهات ، ويكفي من الرد عليهم : ظهور كذبهم ، واضطراب قولهم . وقد اتفقت الشرائع : على أن القضاء بالنجوم محرَّم مذموم .
(18/110)
وقوله : (( ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون )) ؛ هكذا عند ابن ماهان ، وهو من القرف : وهو الخلط ، قاله صاحب الأفعال : أي : يخلطون فيها من الكذب . ورواه يونس : (( يُرَقَّون )) بضم الياء ، وفتح الراء ، وتشديد القاف . وفي بعض النسخ : (( يَرْقُون ))- بفتح الياء ، وتسكين الراء ، وتخفيف القاف - ؛ أي : يتقوَّلون . يقال : رقي فلان على الباطل ؛ أي : تقوَّله - بكسر القاف-. وهو من الْمُرقَّى : وهو الصعود. أي : إنهم يقولون فوق ما سمعوا . قاله القاضي عياض .
وقوله : { حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم } ، قرأه ابن عامر ، ويعقوب : { فزَّع عن قلوبهم } مبنيًا للفاعل ، ويكون فيه ضمير يعود على الله تعالى ؛ أى : أزال عن قلوبهم الفزع ، وهذا على نحو قولهم : مرَّضتُ المريض ؛ إذا عالجته ، فأزلتُ مرضه . وقرأه الجماعة : { فُزِّع } بضم الفاء ؛ مبنيًا للمفعول الذي لم يسم فاعله ؛ أي : أزيل عن قلوبهم الفزع ، وهو الذعر . على كلتا القراءتين . قال كعب : إذا تكلَّم الله بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها ، وخرَّت فزعًا ، ثم قالوا فيما بينهم : { ماذا قال ربكم }.
قوله : { قالوا الحق } بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف ؛ أي : قال : القول الحق ، وهو مفعول مطلق لا مفعول به ؛ لأنَّ القول لا يتعدَّى إلا إلى الجمل في أكثر قول النحوين .
وقوله : { وهو العلي الكبير } ؛ أي : العلي شأنه ، الكبير سلطانه .
قلت : وهذا التفسير هو الموافق لهذا الحديث ، فتعيَّن أن يكون هو المراد من الآية . وللمفسرين أقوال أخر بعيدة عن معنى الحديث ، أضربت عنها لذلك ، فمن أرادها وجدها في كتبهم .
كتاب الرؤيا
باب : الرؤيا الصادقة من الله والحلم من الشيطان
وما يفعل عند رؤية ما يكره
(18/111)
قوله : (( الرؤيا من الله ، والحلم من الشيطان )) ؛ الرؤيا : مصدر رأى في المنام رؤيا ، على وزن فعلى ، وألفه للتأنيث ؛ ولذلك لم ينصرف . والرؤية : مصدر رأى بعينه في اليقظة رؤية . هذا المعروف من لسان العرب ، وقال بعض العلماء : إن الرؤيا قد تجيء بمعنى الرؤية ؛ وحمل عليه قوله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ، وقال : إنما يعني بها رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الإسراء لما أراه الله من عجائب السموات والملكوت ، وكان الإسراء من أوله إلى آخره في اليقظة . وقد ذكرنا هذا في باب الاسراء من كتاب : الإيمان .
والْحُلْم - بضم الحاء ، وسكون اللام - مصدر حَلَم- بفتح الحاء واللام - ؛ إذا رأى في منامه رؤيا ، ويُجمع على أحلام في القلَّة ، وفي الكثرة حلوم ؛ وإنَّما جمع وإن كان مصدرًا لاختلاف أنواعه ، وهو في الأصل عبارة عما يراه الرائي في منامه حسنًا كان أو مكروها . وأراد به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا ما يكره ، وما لا ينتظم ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
فأمَّا الحِلم - بكسر الحاء - ، فهو مصدر حَلُمَ - بضم اللام- يَحْلِمُ : إذا صفح وتجاوز حتى صار له ذلك كالغريزة . وتحلَّم : تكثف الحلم . والْحَلم - بفتح الحاء - هو فساد الإهاب من الدباغ ، وتثقيبه فيه . يقال منه : حَلِم الأديم- بكسر اللام - يحلم - بفتحها - : إذا صار كذلك .
وقد اختلف الناس في حقيقة الرؤيا قديمًا وحديثًا ، فقال غير المتشرعين أقوالاً مختلفة ، وصاروا فيها إلى مذاهب مضطربة قد عَرِيت عن البرهان فأشبهت الهذيان . وسبب ذلك التخليط العظيم : الإعراض عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم .
(18/112)
ولبيان ذلك : أن حقيقة الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس ، وقد غُيِّب عنا علم حقيقتها . وإذا لم يعلم ذلك لعدم الطريق الموصل إليه ؛ كان أحرى ، وأولى ألا نعلم ما غيب عنا من إدراكاتها ، بل نقول : إنا لا نعلم حقيقة كثير مما قد انكشف لنا جملته من إدراكاتها ، كحس السمع ، والعين ، والأذن ، وغير ذلك ، فإنا إنما نعلم منها أمورًا جملية ، لا تفصيلية ، وأوصافًا لازمة ، أو عرضية ، لا حقيقية ، وسبيل العاقل : ألا يطمع في معرفة ما لم يُنْصَب له عليه دليل عقل ، ولا حسي ، ولا مركب منهما ؛ إلا أن يخبر بذلك صادق ، وهو الذي دلَّ الدليل القطعي على صدقه ، وهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ؛ فإنَّهم دلت على صدقهم دلائل المعجزات. وإذا كان كذلك : فسبيلنا أن نعرض عن أحوال المعرضين ، ونتشاغل بالبحث عن ذلك في كلام الشارع والمتشرعين .
قال الإمام أبو عبد الله : المذهب الصحيح ما عليه أهل السُّنَّة ؛ وهو : أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات ، كما يخلقها في قلب اليقظان . وهو تبارك اسمه يفعل ما يشاء ، وما يمنعه من فعله نوم ، ولا يقظة ، وكأنه سبحانه جعل هذه الاعتقادات علمًا على أمور أخر يخلقها في ثاني حال ، أو كان قد خلقها . وقال غيره : إن لله تعالى ملكًا موئهلاً يعرض المرئيَّات على المحل المدرك من النائم ، فيمثل له صورًا محسوسة ؛ فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود ، وتارة تكون أمثلة لمعاني معقولة غير محسوسة. وفي الحالتين تكون مبشرة ومنذرة .
(18/113)
قلت : وهذا مثل الأول في المعنى ؛ غير أنه زاد فيه قضية الْمَلَك ، ويحتاج في ذلك إلى توقيف من الشرع ؛ إذ يجوز أن يخلق الله تعالى تلك التمثيلات من غير مَلَك . وقيل : إن الرؤيا إدراك أمثلة منضبطة في التخيل جعلها الله إعلامًا على ما كان ، أو يكون ؛ وهو أشبهها . فإنَّ قيل : كيف يقال : إن الرؤيا إدراك مع أن النوم ضد الإدراك ؛ فإنه من الأضداد العامة ، كالموت ، فلا يجتمع معه إدراك ؛ فالجواب : أن الجزء المدرك من النائم لم يحلَّه النوم ، فلم يجتمع معه ، فقد تكون العين نائمة ، والقلب يقظان ؛ كما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن عيني تنامان ، ولا ينام قلبي )). وإنما قال : منضبطة التخيل ؛ لأنَّ الرائي لا يرى في منامه إلا من نوع ما أدركه في اليقظة بحسِّه ، غير أنه قد تركيب المتخيَّلات في النوم تركيبًا يحصل من مجموعها صورة لم يوجد لها مثال في الخارج ، تكون علمًا على أمر نادر ؛ كمن يرى في نومه موجودًا رأسه رأس الإنسان وجسده جسد الفرس مثلاً ، وله جناحان ، إلى غير ذلك مما يمكن من التركيبات التي لا يوجد مثلها في الوجود ، وإن كانت آحادُ أجزائها في الوجود الخارجي . وإنَّما قال : جعلها الله إعلامًا على ما كان ، أو يكون ؛ لأنَّه يعني به : الرؤيا الصحيحة المنتظمة الواقعة على شروطها على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
(18/114)
ثم : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد ذكر أنواع الرؤيا هنا . وفيما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الرؤيا ثلاث : فرؤيا حق ، ورؤيا يحدِّث المرء بها نفسه ، ورؤيا تحزين من الشيطان )). وذكر الحديث . فرؤيا الحق : هي المنتظمة التي لا تخليط فيها ، وقد سَمَّاها في رواية أخرى : (( الصادقة )). وفي أخرى : (( الصالحة ))(2) ، وهي التي يحصل بها التنبيه على أمر في اليقظة صحيح ، وهي - التي إذا صدرت من الإنسان الصالح - جزء من أجزاء النبوة ؛ أي : خصلة من خصال الأنبياء التي بها يعلمون الوحي من الله تعالى . وأما الثانية : فهي التي تكون عن أحاديث نفس متوالية ، وشهواتٍ غالبة ، وهموم لازمة ، ينام عليها ، فيرى ذلك في نومه ، فلا التفات إلى هذا ، وكذلك الثالثة . فإنها تحزين ، وتهويل ، وتخويف ، يدخل كل ذلك الشيطان على الإنسان في نومه ليشوش يقظته . وقد يجتمع هذان السببان ؛ أعني : هموم النفس ، وألقيات الشيطان في منام واحد ، فتكون أصناف أحلام لاختلاطها .
والضغث : هي القبضة من الحشيش المختلط .
وقوله : (( الرؤيا من الله )) ؛ أي : بشرى من الله ، أو تحذير وإنذار .
(18/115)
وقوله : (( والحلم من الشيطان )) ؛ يعني به : ما يلقيه مما يهوِّل ، أو يخوف ، أو يخزن به . وهذا النوع هو المأمور بالاستعاذة منه ؛ لأنَّه من تخييلات الشيطان وتشويشاته ، فإذا استعاذ الرائي منه صادقًا في التجائه إلى الله تعالى ، ونفث عن يساره ثلاثًا ، وتحوَّل عن جنبه كما أمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث ، وصلى ؛ أذهب الله عنه ما أصابه ، وما يخافه من مكروه ذلك ، ولم يصبه منه شيء ببركة صدق الالتجاء إلى الله تعالى ، وامتثال أوامر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وعلى هذا فيكون قوله : (( فإذا رأى أحدكم ما يكره )) ؛ إنَّما يعني به : ما يكون سببه الشيطان . وقيل : بل الخبر بحكم عمومه يتناول ما يسببه الشيطان ، وما لا يسببه مما يكرهه الرائي . ويكون فعل هذه الأمور كلها مانعًا من وقوع ذلك المكروه . كما يقال : إن الدعاء يدفع البلاء ، والصَّدقة تدفع ميتة السوء. وكل ذلك بقضاء الله تعالى وقدره ، ولكن الوسائط والأسباب عاديات لا موجودات. وفائدة أمره بالتحول عن جنبه الذي كان عليه ليتكامل استيقاظه ، وينقطع عن ذلك المنام المكروه . وفائدة الأمر بالصلاة ، أن تكمل الرغبة ، وتصح الطلبة ، فإنَّ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وقول أبي سلمة : (( فما أباليها )) ؛ أي : ما ألتفت إليها ، ولا ألقي لها بالاً ؛ أي : لا أخطرها على فكري ثقة بالله تعالى ، وبما أمر به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن باب : أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا
قوله : (( إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب )) ، قيل في اقتراب الزمان قولان :
أحدهما : تقارب الليل والنهار في الاعتدال ، وهو الزمان الذي تتفتق فيه الأزهار ، وتينع فيه الثمار ، وموجب صدق الرؤيا في ذلك الزمان اعتدال الأمزجة فيه ؛ فلا يكون في المنام أضغاث الأحلام ، فإنَّ من موجبات التخليط فيها غلبة بعض الأخلاط على صاحبها .
(18/116)
وثانيهما : أن المراد بذلك : آخر الزمان المقارب للقيامة . وقد روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طريق معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ ؛ أنه قال : (( في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن )).
قلت : ويعني - والله أعلم - بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث : زمان الطائفة الباقية مع عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد قتله الدجال المذكور في حديث عبدالله بن عمرو الذي قال فيه : (( فيبعث الله عيسى ابن مريم ، ثم يمكث في الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام فلا تبقي على وجه الأرض أحدًا في قلبه مثقال ذرٍّ من خيبر أو إيمان إلا قبضته )) ، فكان أهل هذا الزمان أحسن هذه الأمَّة بعد الصدر المتقدِّم حالاً ، وأصدقهم أقوالاً ، وكانت رؤياهم لا تكذب ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا )) ، وكما قال : (( رؤيا الرجل الصالح جزء من النبوة )).
وقوله : (( لم تكد تكذب )) ؛ أي : لم تقارب الكذب ، وقد تكلَّمنا على كاد وأخواتها من أفعال المقاربة فيما تقدَّم .
وقوله : (( أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا )) ؛ إنما كان ذلك لأن : من كثر صدقه تنوِّر قلبه ، وتقوي إدراكه ، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصِّحة والاستقامة ، وأيضًا فإن من كان غالبُ حاله الصدق في يقظته استصحب ذلك في نومه ، فلا يرى إلا صادقًا . وعكس ذلك : الكاذب والْمُخلِّط يَفسد قلبه ، ويُظلم ، فلا يرى إلا تخليطًل وأضغاثًا ، هذا غالب حال كل واحد من الفريقين ، وقد يندرُ فيرى الصادقُ ما لا يصح ، ويرى الكاذب ما يصح ، لكن ذلك قليل ، والأصل ما ذكرناه.
(18/117)
وقوله : (( رؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوة )) ، وفي حديث عبادة : (( رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا )) ، وفي رواية عن أبي هريرة : (( رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين ))(2) ، وفي أخرى عنه : (( الرؤيا الصالحة )) ، وفي رواية : (( رؤيا الرجل الصالح ستة وأربعون جزءًا من النبوة )). وفي(2) حديث ابن عمر رضي الله عنهما : ((الرؤيا الصالحة جزء من سبعين ))(2). وفي غير كتاب مسلم عن ابن عباس : ((جزء من أربعين )). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : (( جزء من سبعة وأربعين )). وفي حديث العباس ـ رضى الله عنه ـ : ((من خمسين )) ، وعن أنس ـ رضى الله عنه ـ : (( من ستة وعشرين )) ، وعن عبادة بن الصامت ـ رضى الله عنه ـ : ((من أربعة وأربعين )).
قال أبو عبد الله المازري : والأكثر والأصح عند أهل الحديث : (( من ستة وأربعين )). وحكي عن بعض الناس : أنه نزل هذا الحديث بهذه الرواية على مدة الوحي للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقام يوحى إليه ثلاثًا وعشرين سنة ، منها ستة أشهر يوحى إليه في نومه ، وذلك في أول أمره. وقد اعترض عليه بأن هذه المدة لم يصحَّ نقل تحديدها ، ولا هو معروف ، فتقديره تحكُّم .
قلت : القدر الذي اختلف الرواة فيه من هذا الحديث أمران :
(18/118)
أحدهما : من أضيفت الرؤيا إليه ، فتارة سكت عنه ، وأخرى قيل فيه : المسلم ، وفي أخرى : المؤمن ، وفي أخرى : الصالح . وهذا الأمر : الخلاف فيه أهون من الخلاف في الأمر الثاني ، وذلك : أنه حيث سكت عنه لم يضر السكوت عنه ، مع العلم بأن الرؤيا مضافة إلى راءٍ ما ، فإذا صرح به في موضع آخر فهو المعنى ، وأما حيث نطق به فالمراد به واحد وإن اختلفت الألفاظ . وذلك أن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلا إذا وقعت من مسلم صادق صالح ، وهو الذي يناسب حاله حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكرم بنوع مما أكرم به الأنبياء عليهم السلام ، وهو الاطلاع على شيء من علم الغيب ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم . يراها الرجل الصالح ، أو ترى له )) ، فإنَّ الكافر ، والكاذب ، والمخلِّط صدقت وإن رؤياهم في بعض الأوقات ، لا تكون من الوحي ، ولا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة . وقد قدَّمنا : أن الكاهن يخبر بكلمة الحق ، وكذلك المنجم قد يحدِس فيصدق ، لكن على الندور والقلَّة . وكذلك : الكافر ، والفاسق ، والكاذب . وقد يرى المنام الحق ، ويكون ذلك المنام سببًا في شرٍّ يلحقه ، أو أمرٍ يناله . إلى غير ذلك من الوجوه المعتبرة المقصودة به . وقد وقعت لبعض الكفار منامات صحيحة صادقة ؛ كمنام الملك الذي رأى سبع بقرات ، ومنام الفتيين في السجن ، ومنام عاتكة عمَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي كافرة ، ونحوه كثير ، لكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلطة والفاسدة ، فهذا هو الأمر الأول .
(18/119)
وأما الأمر الثاني : وهو اختلاف عدد أجزاء النبوة التي جعلت رؤيا الرجل الصالح واحدا منها : فاختلفت الرواية فيه من ستة وعشرين إلى سبعين ، كما قد ذكرناه ، وأكثرها في الصحيحين ، وكلها مشهور فلا سبيل إلى أخذ أحدها ، وطرح الباقي ، كما قد فعل أبو عبدالله المازري ، فإنَّه قد يكون بعض ما ترك أولى مما قبل إذا بحثنا عن رجال أسانيدها ، ولما ترجَّح عند غيره غير ما اختاره هو ، فإذًا : الوجه الذي يتعيَّن المصير إليه أن يقال : إن هذه الأحاديث - وإن اختلفت ألفاظها - متفقة على أن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من أجزاء النبوة . فهذه شهادة صحيحة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها بأنها وحي من الله تعالى ، وأنها صادقة لا كذب فيها . ولذلك قال مالك وقد قيل له : أيفسر الرؤيا كل أحد ؟ فقال : أيلعب بالوحي ؟! . وإذا كانت هكذا فتعيَّن على الرائي أن يعتني بها ، ويسعى في تفهُّمها ، ومعرفة تأويلها ، فإنَّها إما مبشرة له بخير ، أو محذرة له من شر ، فإنَّ أدرك تأويلها بنفسه ، وإلا سأل عنها من له أهليَّة ذلك ، وهو اللبيب الحبيب . ولذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول إذا أصبح : (( هل رأى أحدٌ منكم الليلة رؤيا فليقصها ، أعبرها ؟ )) ، فكانوا يقصُّون عليه ، ويَعْبُرُ . وقد سلك أصحابه ذلك المسلك في حياته ، وبعد وفاته ، وقد كان يقتبس الأحكام من منامات أصحابه ، كما فعل في رؤيا الأذان ، وفي رؤيا ليلة القدر. وكل ذلك بناءً على أنها وحي صحيح. وإذا تقرَّر هذا فلا يضرنا الاضطراب الذي وقع في عدد تلك الأجزاء مع حصول المقصود من الخير ؛ غير أن علماءنا قد راموا إزالة ذلك الاضطراب ، وتأوَّلوه تأويلات ، فلنذكرها ، وننبه على الأقرب منها ؛ وهي أربع :
الأول : ما صار إليه أبو عبد الله. وقد ذكرناه ، وما ورد عليه.
(18/120)
والثاني : أن المراد بهذا الحديث : أن المنام الصادق خصَّلة من خصال النبوة . كما جاء في الحديث الآخر : (( التؤدة ، والاقتصاد ، وحسن السمت جزء من ستة وعشرين جزءًا من النبوة )) ؛ أي : النبوة مجموع خصال مبلغ أجزائها ستة وعشرون ، هذه الثلاثة الأشياء جزء واحدٌ منها ، وعلى مقتضى هذه التجزئة : كل جزء من الستة والعشرين ثلاثة أشياء في نفسه ، فإذا ضربنا ثلاثة في ستة وعشرين صحَّ لنا أن عدد خصال النبوة من حيث آحادها ثمانية وسبعون . ويصحُّ أن يسمَّى كل اثنين من الثمانية والسبعين جزءًا وخصلة ، فيكون جميعها بهذا الاعتبار تسعة وثلاثين جزءًا ، ويصحُّ أن يسمَّى كل أربعة منها جزءًا ، فيكون مجموع أجزائها بهذا الاعتبار تسعة عشر جزءًا ونصف جزء ، فتختلف أسماء العدد المجزَّأ بحسب اختلاف اعتبار الأجزاء ، وعلى هذا : فلا يكون اختلاف أعداد أجزاء النبوَّة في أحاديث الرؤيا المذكورة اضطرابًا ؛ وإنَّما هو اختلاف اعتبار مقادير تلك الأجزاء المذكورة . والله تعالى أعلم .
الثالث : ما أشار إليه الطبري ، وهو : أن هذا الاختلاف راجعٌ إلى اختلاف حال الرائي . فالمؤمن الصَّالح تكون نسبة رؤياه من ستة وأربعين ، وغيرُ الصالح من سبعين ، ولهذا لم يشترط في رواية السَّبعين في وصف الرائي ما اشترطه في وصفه في رواية : (( ستة وأربعين )) ، فإنَّه شرط فيها الصَّلاح في الرائي ، وسكت عن اشتراطه في رواية السبعين .
قلت : وهذا فيه بُعدٌ ؛ لما قدَّمناه من صحَّة احتمال حمل مطلق الرِّوايات على مقيدها ، وبما قد روي عن ابن عباس : (( الرؤيا الصالحة جزء من أربعين )). وسكت فيه عن ذكر وصف الرائي . وكذلك حديث عبدالله بن عمرو حين ذكر سبعة وأربعين . وحديث العبَّاس حين ذكر خمسين .
(18/121)
الرابع : قيل : يحتمل أن تكون هذه التجزئة في طرق الوحي ؛ إذ منه ما سُمِع من الله تعالى دون واسطة ، كما قال تعالى : { من وراء حجاب } ، ومنه بواسطة الملك ، كما قال : { أو يرسل رسولاً }(2) ، ومنه ما يُلقى في القلب ، كما قال : { إلا وحيًا }(2) ؛ أي : إلهامًا ، ثمَّ منه ما يأتيه الملك على صورته ، ومنه ما يأتيه على صورة آدمي يعرفه ، ومنه ما يتلقاه منه وهو لا يعرفه ، ومنه ما يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، ومنه ما يسمعه من الملك قولاً مُفصَّلاً ، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانت تختلف على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الوحي وحالاته المختلفة ، فتكون تلك الحالات إذا عُدِّدت غايتها انتهت إلى سبعين .
قلت : ولا يخفى ما في هذا الوجه من البُعد والتساهل ؛ فإنَّ تلك الأعداد كلها إنما هي أجزاء النبوَّة وأكثر هذه الأحوال التي ذكرت هنا ليست من النبوة في شيء ؛ ككونه يعرف الملك ، أو لا يعرفه ، أو يأتيه على صورته ، أو على غير صورته ، ثمَّ مع هذا التكلف العظيم لم يقدر أن يبلغ عدد ما ذكر إلى ثلاثين .
(18/122)