97 - وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاثُ قَضِيَّاتٍ : كَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا وَتُهْدِي لَنَا ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَكُمْ هَدِيَّةٌ فَكُلُوهُ )). وَفِي رِوَايَةٍ : (( وَلَنَا هَدِيَّةٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والقول الثاني : لا يجوز فيه ذلك ؛ لأن أصل مشروعية الأضحية أن لا يباع منها شيء مطلقًا .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجويرية : (( قربيه )) ، إنما قال ذلك فيه لعلمه بطيب قلب المولاة بذلك ، أو تكون المولاة قد أهدت ذلك لجويرية ، كما جاء في حديث بريرة الآتي بعد هذا .
وفي حديث عائشة ما يدل على جواز الصدقة على موالي قريش ؛ لأن عائشة تيمية ، وتيم من قريش ، وجويرية مولاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحكم مولاتها حكمها .
والثلاث القضيات التي كانت في بريرة إحداها : ما ذكره في هذه الطريق.
والثانية : قوله : (( إنما الولاء لمن أعتق )).
والثالثة : تخييرها في زوجها. وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.
98- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِشَاةٍ مِنَ الصَّدَقَةِ فَبَعَثْتُ إِلَى عَائِشَةَ مِنْهَا بِشَيْءٍ ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى عَائِشَةَ قَالَ : (( هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ " فَقَالَتْ : لا إِلا أَنَّ نُسَيْبَةَ بَعَثَتْ إِلَيْنَا مِنَ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتُمْ بِهَا إِلَيْهَا . قَالَ : (( إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9/99)
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسأل عن الطعام ، هل هو صدقة أو هدية ؟ يدل على أن للمتقي(3) أن يسأل عما خفي عليه من أحوال الهدية والْمُهدِي ؛ حتى يكون 99- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ أَكَلَ مِنْهَا ، وَإِنْ قِيلَ : صَدَقَةٌ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على بصيرة من أمره ، لكن هذا ما لم يؤذ المهدي والْمُطعم ، فإن أدّى إلى ذلك فالأولى ترك السؤال إلا عند الريبة .
وهذا الحديث يدل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان يأكل صدقة التطوّع ، كما كان لا يأكل صدقة الواجب ، وأنها لا تحلُّ له كما قدمناه .
**************
( 30 ) باب دعاء المصدق لِمن جاء بصدقته والوصاة بالمصدق
100- عَنْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ : (( اللهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ " فَأَتَاهُ أَبِي ، أَبُو أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ : " اللهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الدعاء للمتصدق وإرضاء المصدق
لقد أمر الله تعالى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأخذ الصدقة من الأموال والدعاء للمتصدق بقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة ... )) الآية ، وامتثل ذلك ، فكان يدعو من أتاه بصدقة ، ولذلك كان يقول لهم : (( اللهم صلِّ عليهم )) ؛ أي : ارحمهم ، وقال : (( اللهم صلِّ على آلِ أبي أوفى )).
وقال كثير من علمائنا إنه أراد يـ" آل أبي أوفى " نفس أبي أوفى ، وجعلوا هذا مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي موسى : (( لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود )) ، إنما أراد داودَ نفسه ، وهو محتمل لذلك . ويحتمل أن يريد به : ........................................................................ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9/100)
مَن عمل مثل عمله من عشيرته وقرابته ، فيكون مثل : (( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد )) ، والله أعلم .
وهل يتعدى الأمر لكل مصدق عند أخذه الصدقة ، أو هو خاص باللنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ قولان لهل العلم ، فذهب الجمهور إلى أنهم يندبون إلى ذلك ؛ للأقتداء بفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولما يحصل عند ذلك من تطيب قلوب المتصدقين .
وقال أهل الظاهر : هو واجب ؛ أخدًا بقوله الله تعالى : { وصل عليهم} يشعر بخصوصيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدعاء . وقوله : { إن صلاتك سكن لهم } تعليل للأمر بالدعاء ، لا لأخذ الصدقة كما قد توهمه أهلُ الردة الذين تقدَّم ذكرهم
101- عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ : جَاءَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالُوا : إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُصَدِّقِينَ يَأْتُونَنَا فَيَظْلِمُونَنَا ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ )). قَالَ جَرِيرٌ : مَا صَدَرَ عَنِّي مُصَدِّقٌ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلا وَهُوَ عَنِّي رَاضٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ : ((إِذَا أَتَاكُمْ المُصَدِّق فليَصِدُر عَنْكُمْ وَهوَ عَنْكُم رَاضٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في كتاب الإيمان .
وعلى هذا فلا يكون للظاهرية مُتمسَّكٌ في الآية ، ويتجه قولُ من ادّعى خصوصية ذلك بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقال كثير من المفسرين في معنى { سكن لهم } ؛ أي : طمأنينة وتثبيت وبركة وتزكية .
وقول جرير : " جاء ناس من الأعراب " ؛ يريد : أهل البادية . وقد ذكرنا الفرق بين الأعرابي والعربي ، ولا شك في أن أهل البادية أهل جفاء وجهل غالبًا ، ولذلك قال تعالى : { ألاعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } ، ولذلك نسبوا الظلم إلى مُصَدِّق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإلى فضلاء أصحابه ، فإنه ما كان يستعمل على ذلك إلا أعلم الناس
(9/101)
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأعدلهم ، لكن لجهل الأعراب بحدود الله ظنوا : أن ذلك القدر الذي كانوا يأخذونه منهم هو ظلم ، فقال لهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أرضوا مصدِّقيكم وإن ظُلِمْتم )) ؛ أي على زعمكم وظنكم ، لا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سوّغ للعمال الظلم ، وأمر الأعراب بالانقياد لذلك ؛ لأنه كان يكون ذلك منه إقرارًا على منكر ، وإغراءً بالظلم ، وذلك محال قطعًا .
وإنما سلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع هؤلاء هذا الطريق دون أن يبين لهم : أن ذلك الذي أخذه المصدقون ليس ظلمًا ؛ لأن هذا يحتاج إلى تطويل وتقرير ، وقد لا يفهم ذلك أكثرهم .
وأيضًا فليحصل منهم الانقياد الكلي والتسمليم وترك الاعتراض الذي لا يحصل الإيمان إلا بعد حصوله ، كما قال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا } ، والله أعلم .
(9/102)
كتاب الصيام
باب فضل شهر رمضان
قد تقدَّم الكلام على الصوم اللغوي ، وأنه الإمساك مطلقًا ، وهو في العرف الشرعي : إمساك مخصوص عن أشياء مخصوصة في زمن مخصوص ، بشرط مخصوص. وهذه القيود تحتاج إلى تفصيل يذكر في كتب الفقه. وعلى الجملة : فهذه القيود منها متفق عليه ، ومنها مختلف فيه. فأما حدَّه على مذهب مالك : فهو إمساك جميع أجزاء اليوم عن أمور مخصوصة ، بنيّة موقعة قبل الفجر .
ومن باب فضل شهر رمضان
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا جاء رمضان )) ؛ دليل على من قال : إنه لا يقال إلا شهر رمضان ، متمسكًا بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( لا تقولوا : رمضان ؛ فإن رمضان اسمٌ من أسماء الله )) ؛ وليس بصحيح ، فإنه من حديث أبي معشر نجيح ؛ وهو ضعيف.
و (( رمضان )) : مأخود من : رَمَضَ الصائم ، يرمض : إذا حَرَّ جوفه من شدة العطش . والرَّمضاء : شدَّة الحر ؛ قاله أبو عبيد الهروي .
وقوله : (( فُتِّحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين )) ، فتحت : بتخفيف التاء ، وتشديدها. ويصح حمله على الحقيقة ، ويكون معناه : أن الجنة قد فتحت وزخرفت لمن مات في شهر رمضان ؛ لفضيلة هذه العبادة الواقعة فيه ، وغلقت عنهم أبواب النَّار ؛ فلا يدخلها منهم أحدٌ مات فيه . وصفدت الشياطين : غُلِّلت وقُيِّدت. والصفد : الغل ، وذلك لئلا تفسد الشياطين على الصائمين .
فإن قيل : فنرى الشرور والمعاصي تقع في رمضان كثيرًا ؛ فلو كانت الشياطين مصفدة لما وقع شرٌ ؟
فالجواب من أوجه :
أحدها : إنما تغل عن الصائمين الصوم الذي حُوفظ على شروطه ، ورُوعيت آدائه ، أما ما لم يحافظ عليه فلا يغل عن فاعله الشياطين.
الثاني : أنا لو سلمنا أنها صُفِّدت عن كل صائم ، لكن لا يلزم من تصفيد جميع الشياطين ، أن يقع شر ؛ لأن لوقوع الشر أسبابًا آخر غير الشياطين ، وهي : النفوس الخبيثة ، والعادات الرَّكيكة ، والشياطين الإنسية.
(9/103)
والثالث : أن يكون هذا الإخبار عن غالب الشياطين ، والمردة منهم ، وأما من ليس من المردة فقد لا يصفد. والمقصود : تقليل الشرور والفواحش. وهذا موجود في شهر رمضان ؛ لأن وقوع الشرور والفواحش فيه قليل بالنسبة إلى غيره من الشهور.
وقيل : إن فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار علامة على دخول هذا الشهر العظيم للملائكة وأهل الجنة ؛ حتى يستشعروا عظمة هذا الشهر ، وجلالته .
ويحتمل أن يقال : إن هذه الأبوات المفتحة في هذا الشهر هي : ما شرع الله تعالى فيه من العبادات ، والأذكار ، والصَّلوات ، والتلاوة ؛ إذ هي كلها تؤدي إلى فتح أبواب الجنة للعاملين فيه ، وغلق أبواب النار عنهم.
وتصفيد الشياطين : عبارة عن كسر شهوات النفوس التي بسببها تتوصل الشياطين إلى الإغواء والإضلال ، ويشهد لهذا قوله : (( الصوم جُنَّة )) ، وقوله : (( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش )) ، على ما قد ذكر ، وقد تقدَّم اشتقاق الشيطان .
وقوله : (( فإن أُغمي عليكم فاقدروا له )) ، في أُغمي ضمير يعود على الهلال ، فهو المغمى عليه لا الناظرون. وتقديره : فإن أغمي الهلال عليكم. وأصل الإغماء : التغطية ، والغم . ومنه : المغمى عليه ؛ كأنه غطي عقله عن مصالحه . ويقال : أغمي الهلال ، وغمي - مشدد الميم - وكلاهما مبني لما لم يُسم فاعله. وكذلك يقال أيضًا : غم ، مبنيًا لما لم يُسم فاعله مشددًا . وكذلك جاءت رواية أبي هريرة . فعلى هذا يقال : أُغمي ، وغُمِّي - مخففًا ومشددًا ، رباعيًّا وثلاثيًّا - ، وغُمَّ ، فهو أربع لغات. ويقال : قد غامت السَّماء ، تغيم ، غيمومة ، فهي غائمة ، وغيمة ، وأغامت ، وتغيمت ، وغيمت ، وأغمت ، وغمت.
وفي حديث أبي هريرة : (( فإن غمي )) ؛ أي : خفي. يقال : غمي عليَّ الخبر ؛ أي : خفي . وقيل : هو مأخوذ من الغماء ، وهو السَّحاب الرقيق . وقد وقع للبخاري : (( غَبِي ))- بالباء ، وفتح الغين - ؛ أي : خفي. ومنه الغباوة .
(9/104)
وقوله : (( فاقدروا له )) ؛ أي : قدِّروا تمام الشهر بالعدد ثلاثين يومًا . يقال : قدَّرت الشيء أقدُرُه وأقدِره- بالتخفيف - بمعنى : قدَّرته -بالتشديد - ؛ كما تقدَّم في أول كتاب الإيمان . وهذا مذهب الجمهور في معنى هذا الحديث. وقد دلَّ على صحة ما رواه أبو هريرة مكان : فاقدروا له : (( فأكملوا العدذَة ثلاثين )).
وهذا الحديث حجة على من حمل : (( فاقدروا له )) على معنى : تقدير المنازل واعتبارحسابها القمرية ، واعتبار حسابها ، وإليه صار ابن قتيبة من اللغويين ، ومطرف بن عبدالله بن الشخير من كبراء التابعين .
ومن الحجة أيضًا على هؤلاء قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب )) ، فألغى الحساب ، ولم يجعله طريقًا لذلك .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته )) ؛ يقتضي لزوم حكم الصوم والفطر لمن صحت له الرؤية ، سواء شورك في رؤيته ، أو انفرد بها. وهو مذهب الجمهور . وذهب عطاء وإسحاق : إلى أنه لا يلزمه حكم شيء من ذلك إذا انفرد بالرؤية. وهذا الحديث ردٌّ عليهما .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب )) ؛ أي : لم نكلف في تعرف مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة ، وإنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة ، وأمور ظاهرة ، يستوي في معرفة ذلك الْحُسَّاب وغيرهم. ثم تمم هذا المعنى وكمَّله حيث بيَّنه بإشارته بيده ، ولم يتلقظ بعبارة عنه نزولاً إلى ما يفهمه الْخُرْصُ والعجم . وحصل من إشارته بيديه ثلاث مرات : أن الشهر يكون ثلاثين ، ومن خَنْسِهِ إِبْهامه في الثالثة : أن الشهر يكون تسعًا وعشرين ؛ كما قد نصَّ عليه في الحديث الآخر .
(9/105)
وعلى هذا الحديث : من نذر أن يصوم شهرًا غير معين ؛ فله أن يصوم تسعًا وعشرين ؛ لأن ذلك يقال عليه : شهر ، كما أن من نذر صلاة أجزأه من ذلك ركعتان ؛ لأنه أقل ما يصدر عليه الاسم . وكذلك من نذر صومًا فصام يومًا أجزأه . وهو خلاف ما ذهب إليه مالك. فإنه قال : لا يجزئه إذا صامه بالأيام إلا ثلاثون يومًا ؛ فإن صامه بالهلال فعلى ما يكون ذلك الشهر من رؤية هلاله .
وفيه من الفقه : أن يوم الشك محكوم له بأنه من شعبان ، وأنه لا يجوز صومه عن رمضان ؛ لأنه علق صوم رمضان بالرؤية ، ولَمْ فلا .
(9/106)
وقول عائشة : (( لما مضت تسع وعشرون ليلة )) ؛ هذا الحديث هو جزء من حديث طويل يتضمن : أن نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثرن عليه ، وطالبنه بتوسعة النفقة ، فاجتمعن في ذلك ، وخضن فيه ، فوجد عليهن ، فأدبهن بأن أقسم ألا يدخل عليهن شهرًا ، فاعتزلهن في غرفة تسعًا وعشرين ، فدخل عليه عمر ـ رضى الله عنه ـ في ذلك ، وتلطف فيه ، إلى أن زالت موجدته عليهن ، وأنزل الله آية التخيير ، فنزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة ثلاثين ، فبدأ بعائشة ، فذكرته بمقتضى يمينه ، وأنه أقسم على شهر ظانَّةً أن الشهر لا يكون أقل من ثلاثين ، فبيَّن لها النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الشهر يكون تسعًا وعشرين ، وظا هره : أنه اعتزلهن في أول ليلية من ذلك ا لشهر ، وأن ذلك الشهر كان تسعًا وعشرين ، ويشهد له قوله : (( إن الشهر تسع وعشرون )) ؛ أي : هذا الشهر ؛ لأنه هو المتكلم فيه . ويحتمل أن يكون اعتتر أول زمان اعتزاله بالأيام ، وكمل تسعًا وعشرين بالعدد ، واكتفى بأقل ما ينطلق عليه اسم الشهر. وعليه يخرج الخلاف فيمن نذر صوم شهر غير معين ، فصامه بالعدد ؛ فهل يصوم ثلاثين ؟ أو يكفيه تسع وعشرون كما تقدَّم ، وإخبار عائشة رضي الله عنها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعدد تلك الليالي ، يفهم منه : أنها اعتبرت ذلك الشهر بالعدد ، واعتناؤها بعدد الأيام استطالة لزمان الهجر ، وذلك يدلُّ على فرط محبتها ، وشدة شوقها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنه كان عندها من ذلك ما عند لم يكن عند غيرها ، وبذلك استوجبت أن تكون أحب نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه ، كما قد صرَّح به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قيل له : من أحب الناس إليك ؟ فقال : (( عائشة )).
ومن باب لأهل كل بلد رؤيتهم عند التباعد
قوله : (( واستهل عليَّ هلال رمضان )) ؛ مبنيًا لما لم يُسم فاعله . أصل استهل : من الإهلال الذي هو رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم غلب عرف الاستعمال فصار يفهم منه رؤية الهلال ، ومنه سُمِّي الهلال لَمَّا كان يُهَلُّ عنده .
(9/107)
وقول ابن عباس : (( فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه )) ، ثم قال في آخره : (( هكذا أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ كلمة تصريح برفع ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وبأمره به . فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز أو ما قارب ذلك ، فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره ، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم ، ما لم يحمل الناس على ذلك فلا تجوز مخالفته ؛ إذ المسألة اجتهادية مختلف فيها ، ولا يبقى مع حكم الإمام اجتهاد ، ولا تحل مخالفته . ألا ترى أن معارية أمير المؤمنين قد صام بالرؤية وصام الناس بها بالشام ، ثم لم يلتفت ابن عباس إلى ذلك ، بل بقي على حكم رؤيته هو . ووجه هذا يعرف من علم الهيئة والتعديل ، وذلك أنه يتبيَّن فيها : أن ارتفاعات الأقاليم مختلفة ، فتختلف مطالع الأهلة ومغاربها ، فيطلع الهلال ، ويغرب على قوم قبل طلوعه وغروبه على آخرين. وعلى هذا : فلا يظهر تأثير هذا إلا فيما بَعُدَ جدًّا ، لا فيما قرب ، والله تعالى أعلم .
وإلى هذا صار ابن عباس ، وسالم ، والقاسم ، وعكرمة. وبه قال إسحاق. وإليه أشار الترمذي حيث بوَّب : لأهل كل بلد رؤيتهم. وحكى أبو عمر بن عبدالبر : الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُد من البلدان كالأندلس من خراسان ، قال : ولكل بلد رؤيتهم ، إلا ما كان كالمصر الكبير ، وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين .
قلت : وهذا الإجماع الذي حكاه أبو عمر يدلُّ على أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنما هو فيما تقاربت من البلاد . ولم يذكر فيه حكم القطر الواحد . ونحن نذكره إن شاء الله تعالى.
قال ابن المنذر : اختلف في الهلال يراه أهل بلد ولا يراه غيرهم : فقال قوم : لأهل كل بلد رؤيتهم ، وذكر من تقدَّم ذكر أكثرهم .
وقال آخرون : إذا ثبت أن أهل بلد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا. وهو قول الليث ، والشافعي ، وأحمد. ولا أعلمه إلا قول المزني والكوفي.
(9/108)
وقال شيوخنا : إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ، ثم نقل إلى غيرهم بشهادة شاهدين لزمهم الصوم . وقال عبد الملك : أما ثبوته بالشهادة فلا يلزم فيها الصوم إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة ، إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم الصيام. وعلل هذا : بأن البلاد كلها كبلد واحد ؛ إذ حكمه نافذ في الجميع .
قلت : هكذا وقع نقل المشايخ لهذه المسألة ، ولم يفرِّقوا بين البعيد والقريب من الأقاليم . والصواب الفرق ؛ بدليل الإجماع الذي حكاه أبو عمر ، فيحمل إطلاق المشايخ على البلاد المتقاربة ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( صوموا لرؤيته )) ؛ دليل على أن يوم الشكّ لا يلزم صومه. وهو مذهب الجمهور خلافًا لأحمد بن حنبل ، فإنه أوجب صومة احتياطًا ، فإن صح أنه من رمضان أجزأه . ونحوه قال الكوفيون ؛ إلا أنهم لم يوجبوا صومه . والجمهور على أنه لا يصومه عن رمضان ، ولا يجزئه إن صامه ، وكان بعض الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ يأمر بالفصل ما بين رمضان وشعبان بفطر يوم أو يومين . وكره محمد بن مسلمة تحرِّي فطره ، كما كره تحرِّي صومه .
(9/109)
قلت : والأصل : أنه محكوم له بأنه من شعبان حتى يدل الدليل على أنه من رمضان . والأدلة الناقلة عن حكم شعبان : الرؤية ، أو الشهادة ، أو إكمال عدة شعبان بثلاثين ، ولم يوجد واحد منها في يوم الشك ، غير أنه مستحب أن يمسك فيه من غير صوم ليسلم من الأكل في زمان رمضان. ثم قوله : (( صوموا لرؤيته )) ؛ يقتضي وجوب الصَّوم حين الرؤية متى وجدت ، لكن منع الإجماع من الصوم حينئذ ؛ فكان محمولاً على اليوم المستقبل ؛ لأنه هلال ليلة ذلك اليوم ، ولا فرق بين رؤيته قبل الزوال ، أو بعده ، وهو المشهور من مذاهب العلماء ، ومن مذهب مالك. وقال ابن وهب ، وابن حبيب ، وعيسى بن دينار : إذا رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية ، ويفطرون ساعة رؤيته إن كان هلال شوال. وقال بعض أهل الظاهر : أما في الصوم فيجعل للماضية ، وأما في الفطر فيجعل للمستقبلة ، وهو أخذ بالاحتياط منهم. والحديث المتقدِّم حجة عليهم على ما قررناه .
و (( بطن نخلة )) : موضغ معروف بذات عرق ، ولذلك قال في رواية أخرى في الأصل : قال أبو البختري : أهللنا رمضان ونحن بذات عرق .
وقوله : فقال : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( إن الله مدَّه للرؤية )) ؛ هكذا صحت روايتنا فيه ، وهكذا الأصول الصحيحة ، والنسخ المقيَّدة ، وقد سقط في بعض النسخ لمن لا يضبط ولا يحفظ : (( قال : إن الله )) ، فيبقى اللفظ : (( أن رسول الله مدَّه للرؤية )) ؛ وهو خطأ صراح ، لا يقبل الإصلاح. ووقع في إحدى الروايتين : (( مدَّه )) ثلاثيًّا. وفي الأخرى : (( أمَدَّه )) رباعيًّا .
قال القاضي أبو الفضل عياض : هما بمعنى : أطال له مدّة الرؤية ، ومنه قوله تعالى : { وإخوانهم يمدونهم في الغي } ، وقرئ بالوجهين. أي : يطيلون لهم . وقال غيره : مدَّ : من الامتداد. وأمدَّ : من الإمداد ، وهو الزيادة. ومنه : أمددت الجيش بمدد. ويجوز أن يكون : أمدَّه من الْمُدَّة. قال صاحب الأفعال : أمددتك مدة : أعطيتكها.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( شهرا عيدٍ لا ينقصان )) ؛ قيل فيه أقوال :
(9/110)
أحدها : لا ينقصان من الأجر ، وإن نقصا في العدد .
وثانيها : لا يقصان في عام بعينه .
وثالثها : لا يجتمعان ناقصين في سنة واحدة في غالب الأمر.
ورابعها : ما قاله الطحاوي : لا ينقصان في الأحكام ، وإن نقصا في العدد ؛ لأن في أحدهما الصيام ، وفي الآخر الحج ، وأحكام ذلك كله كاملة غير ناقصة .
وخامسها : ما قاله الخطابي : لا ينقص أجر ذي الحجة عن أجر رمضان ؛ لفضل العمل في العشر .
وقوله : (( لا تقدموارمضان بصوم يوم ولا يومين )) ؛ هذا النهي لما يخاف من الزيادة في شهر رمضان ، وهو من أدلة مالك على قوله بسدِّ الذرائع ، لا سيما وقد وقع لأهل الكتابين من الزيادة في أيام الصوم ، حتى أنهوا ذلك إلى ستين يومًا ، كما هو المنقول عنهم . وقد وسع في المنع في الحديث الذي خرَّجه الترمذي عن أبي هريرة وصححه فقال : قال رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا بقي نصف من شعبان فأمسكوا عن الصوم حتى يأتي رمضان )).
ومَحْمَلُ هذا النهي ما يخاف من الزيادة في شهر رمضان ، فإن أمن ذلك جاز بدليل قوله : (( إلا رجل كان يصوم صومًا فليصفه )) ؛ وبدليل ما قالت عائشة رضي الله عنها : (( كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم شعبان كله )) ، (( كان يصوم شعبان إلا قليلاً )) ، وسيأتي الكلام على هذا الحديث إن شاء الله تعالى.
وفي هذا الحديث ما يدل على أن صوم يوم الشك جائز . وقد اختلف في ذلك .
ومن باب قوله تعالى : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض
من الخيط الأسود }
(9/111)
حديث عدي هذا يقتضي : أن قوله تعالى : { من الفجر } نزل متصلاً بقوله تعالى : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ، وأن عدي بن حاتم حمل الخيط على حقيقته ، وفهم من قوله : { من الفجر } : من أجل الفجر . ففعل ما فعل بالعقال الأبيض والأسود . وهذا بخلاف حديث سهل بن سعد ، فإن فيه : أن الله لم ينزل من الفجر ، إلا منفصلاً عن قوله : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ، ولما وقع لهم الإشكال حينئذ أنزل اللة تعالى : { من الفجر} ، وكأن الحديثين واقعتان في وقتين .
ويصح الجمع بأن يكون حديث عدي متأخرًا عن حديث سهل ، وأن عديًّا لم يسمع ما جرى في حديث سهل ، وإنما سمع الآية مجردة ، ففهمها على ما قررناه ، فبين له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن الخيط الأبيض كناية عن بياض الفجر ، والخيط الأسود كناية عن سواد الليل ، وأن معنى ذلك أن يفصل أحدهما عن الآخر. وعلى هذا فيكون {من الفجر} متعلقًا بـ{ يتبين}.
وعلى مقتضى حديث سهل يكون في موضع الحال متعلقًا بمحذوف ، وهكذا هو معنى جوابه في حديث سهل ، ويحتمل أن يكون الحديثان قضية واحدة. وذكر بعض الرواة : { من الفجر } ، متصلاً بما قبله ، كما ثبت في القرآن وإن كان قد نزل متفرقًا ؛ كما بينه حديث سهل ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( إني جعلت تحت وسادتي عقالين )) ؛ إنما جعلهما تحت وساده لاعتنائه بهما ، ولينظر إليهما وهو على فراشه من غير كلفة قيام ولا طلب ، فكان يرفع الوساد إذا أراد أن ينظر إليهما . والعقال : الخيط. سًمِّي بذلك : لأنه يعقل به ؛ أي : يربط به ويحبس .
(9/112)
وقوله : (( إن وسادك لعريض )) ؛ حمله بعض الناس على الذمِّ له على ذلك الفهم ، وكأنه فهم منه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنسبه إلى الجهل والجفاء وعدم الفقه. وربما عضدوا هذا بما روي : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له : (( إنك لعريض القفا )) ، وليس الأمر كذلك ؛ فإنه حمل اللفظ على حقيقته اللسانية ؛ التي هي الأصل ؛ إذ لم يتبين له دليل التجوز . ومن تمسَّك بهذا الطريق لم يستحق الذمّ ، ولا ينسب إلى جهل ، وإنما عنى بذلك النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ - والله تعالى أعلم- : أن وسادك إن غطى الخيطين اللذين أراد الله ، اللذين هما الليل والنهار ، فهو إذًا وساد عريض واسع ؛ إذ قد شملهما وعلاهما ، ألا تراه قد قال على إثر ذلك : (( إنما هو سواد الليل وبياض النهار )) ؛ فكأنه قال : فكيف يدخلان تحت وساد ؟! وإلى هذا يرجع قوله : (( إنك لعريض القفا )) ؛ لأن هذا الوساد الذي قد غطا الليل والنهار بعرضه لا يرقد عليه ، ولا يتوسده إلا قفا عريض ، حتى يناسب عرضُه عرضَه ، وهذا عندي أشبه ما قيل فيه وأليق . أويدل أيضًا عليه : ما زاده البخاري قال : (( إن وسادك إذًا لعريض إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك )) ، وقد أكثر الناس فيه .
وقوله : (( حتى يتبتين له رِئْيهما ))- بكسر الراء وهمزة ساكنة ، وياء باثنتين من أسفل مرفوعة - : وهو المنظر . ومنه : { أحسن أثاثًا ورئيًا }. قال في كتاب "العين" : الرئي : ما رأيته من حال حسنة ، وربما صحَّف بعض الناس فقال : رئيهما ، بفتح الراء وكسر الهمزة ، ولا وجه له عندي لأن الرِّئيِّ هو التابع من الجن ، يقال فيه : بفتح الراء وبكسرها.
وقوله : (( فأنزل الله تعالى بعد ذلك { من الفجر } ، روي : أنه كان بينهما عام . والفجر مأخود من تفجر الماء ؛ لأنه ينفجر شيئًا بعد شيء .
(9/113)
وقوله : (( إن بلالاً ينادي بليل )) ؛ هذا النداة هو أذان الفجر عند الجمهور. وحكمه عندهم : الهبوب من النوم ، والتأهب لصلاة الصبح. واختصت الصبح بذلك ؛ لأن الأفضل فيها إيقاعها في أول وقتها مطلقًا ، فيلزم من المحافظة على إيقاعها في أول وقتها التأهب لها قبل وقتها ، وقبلها نوم الليل المستصحب ، فاقتضى مجموع ذلك أن يُنْصَب من يوقط الناس قبل وقتها ، فكان ذلك بالأذان .
وذهب أبو حنيفة والثوري : إلى أن هذا الأذان إنما فائدته ما نص عليه في الحديث الآخر : (( ليوقظ نائمكم ، ويرجع قائمكم )) ، والإعلام بوقت السّحور لا يكتفى به للفجر ، بل لابدَّ من آذان آخر إذا طلع الفجر ، كما كان يؤذن ابن أم مكتوم. ومتمسكهما من حديث بلال وابن أم مكتوم واضح ، غير أن العمل المنقول بالمدينة على تقديم أذان الفجر قبله .
ثم اختلف الجمهوز في الوقت الذي تؤدى فيه للفجر : فأكثرهم قال : السدس الأخير من الليل. وقيل : النصف. وقيل : بعد خروج وقت العشاء الآخرة . وهذه الأقاويل الثلاثة في مذهبنا .
وقوله : (( ولم يكن بينهما إلا أن يرقى هذا وينزل هذا )). وفي "البخاري" من حديث عائشة رضي الله عنها ، عن ابن أم مكتوم : فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ، وقال فيه : قال القاسم : ولم يبق بين أذانهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا .
وفي "الموطأ" : وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى ، لا يؤذن حتى يقال له : أصبحت ، أصبحت . ومثله في "البخاري" أيضًا .
قلت : وقد أشكل قول القاسم مع مساق حديث بلال وابن أم مكتوم ؛ وذلك : أن حديث بلال يقتضي : أن بين وقت أذانه وطلوع الفجر زمانًا طويلاً يتسع لصلاة الليل وللسّحور ، وأذان ابن أم مكتوم يقتضي : أنه كان لا يؤذن حتى يطلع الفجر ، ثم قال القاسم : لم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا ، وينزل ذا . وهذا الوقت لا يتسع لشيء من الصلاة ، ولا من السّحور ، فتناقضا. وقد انفصل عنه من وجهين :
(9/114)
أحدهما : أن هذا كان من بلال في بعض الأوقات ، لا في غالبها ، بل كان غالب أحواله : أن يوسع بين أذانه وبين طلوع الفجر . وقد روي : أنه أذن عند طلوع الفجر .
وثانيهما - وهو الأشبة - : أن بلالاً كان يؤذن قبل طلوع الفجر ، فيجلس في موضع أذانه يذكر الله تعالى ويدعو حتى ينظر إلى تباشير الفجر ومقدماته ، فينزل ، فيعلم ابن أم مكتوم بالفجر ، ولعله هو الذي كان يقول له : أصبحت ، أصبحت ؛ أي : قاربت الصباح . وعند ذلك يرقى ابن أم مكتوم ، فيؤذن ، والله تعالى أعلم .
فقول القاسم في رواية البخاري : (( بين أذانهما )) ؛ معناه : بينهما ، كما قال في حديث ابن عمر : ((ولم يكن بينهما )) ؛ أي : لم يكن بين نزول بلال وصعود ابن أم مكتوم طويل زمن ، بل بنفس ما ينزل أحدهما يصعد الآخر من غير تراخ ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( إن بلالاً ينادي بليل )) ؛ دليل على أن ما بعد الفجر لا يقال عليه ليل ، بل هو أول اليوم المأمور بصومه .
(9/115)
وقوله : (( حتى يؤذن ابن أم مكتوم )) ؛ أي : حتى يشرع في الأذان ، وهذا ظاهره . ويحتمل : حتى يفرغ من الأذان . ويؤيد هذا الاحتمال : ما ذكره أبو داود من حديث أبي هريرة الذي قال فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا سمع أحدُكم النداء والإناة على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه )). وهذا هو أذان ابن أم مكتوم ، فإنه مشعر بأن هذا إنما يفغل عند ضيق الوقت ، ولا يصح أن يرد إلى حديث ابن عمر ؛ لأن ذلك صرح فيه بالتراخي والتوسعة تقتضي أكثر من هذا الوقت ، وعلى هذا : فيكون قوله في أذان ابن أم مكتوم : (( حتى يطلع الفجر )) ؛ أي : يقارب. وكذلك (( أصبحت )) ؛ أي : قاربت الدخول في الصباح. وهذا التأويل على ما قررناه في حدِّ الصوم : من أن الواجدت إمساك جميع أجزاء اليوم ، وحالة : طلوع الفجر من اليوم ، فلا ئذ من إمساكها ، ويلزم من إمساكها : إمساك جزء من الليل حتى يأمن من أكل فيما هو جزء من اليوم ، وعلى هذا فأول التبين هو المحرم بنفسه ، لكن اختلف في هذا التبين بالنسبة إلى ماذا يكون :
فذهب الجمهور وفقهاء الأمصار والأعصار : إلى أنه أول تبين الفجر في الأفق الذاهب فيه عرضًا . وروي عن عثمان ، وحذيفة ، وابن عباس ، وطلق بن علي ، وعطاء بن أبي رباح ، والأعمش ، وغيرهم : أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال .
وقد قيل لحذيفة : أي حين تسحرت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ فقال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع .
وروي عن علي ـ رضى الله عنه ـ : أنه صلى الصبح ، ثم قال : الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود .
قال الطبري : ومما قادهم إلى هذا القول : أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم : من طلوع الشمس ، وآخره غروبها ، فأوله طلوعها ، وحكى النقاش عن الخليل : أن النَّهار من طلوع الفجر . ويدل على ذلك قوله تعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار }.
(9/116)
قلت : وما قاله الطبري ليس بصحيح ؛ لأن الله تعالى : إنما أمر بصوم ما يقال عليه يوم ، لا بما يقال عليه نهار ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى : { أيامًا معدودات }.
وقوله : (( لا يمنعنكم أذان بلال من سحوركم )) ؛ السَّحور ، بفتح الشين : هو ما يؤكل في السَّحر ، وقد تقدَّم في أول كتاب الطهارة : أن الفتح للاسم ، والضم للمصدر .
وقوله : (( فإنه يؤذن ليرجع قائمكم )) ؛ أي : ليرد قائمكم إلى راحته وجمام نفسه ، كي ينبط لصلاة الصبح .
(( ويوقظ نائمكم )) ؛ أي ينبه من استولى عليه النوم ؛ لئلا يفوته .
وقوله : (( ليس أن يقول : هكذا - وصوَّب يده ، ورفعها- )) ؛ أي : مدَّ يده الفجر الكاذب صَوْبَ مخاطبه ، ثم رفعها نحو السماء . وفي الرواية الأخرى : (( إن الفجر ليس الفجر الذي يقول : هكذا )) ، وجمع أصابعه ، ثم نكسها إلى الأرض .
وتحصل من الروايتين : أنه أشار إلى أن الفجر الأول يطلع في السماء ، ثم يرتفع طرفه الأعلى وينخفض طرفه الأسفل . وقد بيَّن هذا بقوله : ((ولا بياض الأفق المستطيل )) ؛ يعني : الذي يطلع طويلاً . فهذا البياض هو المسمى : بالفجر الكاذب .
وشبه بذنب الشرحان ، وهو الذئب ، وسُمِّي به . وهذا الفجر لا يتعلق عليه حكم ، لا من الصيام ، ولا من الصلاة ، ولا من غيرهما .
وأما الفجر الصادق : فهو الذي أشار النبي أليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث وضع المسبِّحَة على المسبحة ، ومدَّ يديه . وهو إشارة إلى أنه : يطلع معترضًا ، ثم يعمَّ الأفق ذاهبًا فيه عرضًا .
ويستطير ؛ أي : ينتشر .
ومن باب الحث على السَّحور
(9/117)
قوله : (( تسحروا فإن في السَّحور بركة )) ؛ هذا الأمر على جهة الإرشاد إلى المصلحة ، وهي حفظ القوة التي يخاف سقوطها مع الصوم الذي لا يُتسحَّر فيه . وقد نبه على ذلك بقوله : (( تسخروا ، فإن في السَّحور بركة )) ؛ وهي : القوة على الصيام ، وقد جاء مفسرًا في بعض الآثار ، وقد لا يبعد أن يكون من جملة بركة السحور ما يكون في ذلك الوقت من ذكر المتسحرين لله تعالى ، وقيام القائمين ، وصلاة المتهحدين ؛ فإن الغالب ممن قام ليتسحر أن يكون منه ذكر ودعاء ، وصلاة واستغفار ، وغير ذلك مما يفعل في رمضان .
وقوله : (( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر )) ، روايتنا عن مُتقني شيوخنا : أَكْلة ، بفتح الهمزة ، وهي مصدر : أكل أكلة ، كضرب ضربة . والمراد بها : أكل ذلك الوقت. وقد روي : أُكلة ، بضم الهمزة . وفيه بُعد ؛ لأن الأُكلة بالضم ، هي : اللقمة . وليس المراد : أن المتسحر يأكل لقمة واحدة . ويصح أن يقال : إنه عبَّر عما يُتسحّر به : باللقمة ؛ لقِلَّته ، والله تعالى أعلم .
و (( الفضل )) : الفرق . و(( أهل الكتاب )) : اليهود والنصارى .
وهذا الحديث يدل على أن السحور من خصائص هذه الأمة ، ومما خفف به عنهم .
وقول زيد بن ثابت : (( تسخرنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم قمنا إلى الصلاة )) ؛ يعني : صلاة الفجر .
وقوله : (( خمسين آية )) كذا الرواية بالياء لا بالواو ، وهو على حذف المضاف ، وإبقاء المضاف إليه مخفوضًا ، وهو شاذ ، لكن سوَّغه دلالة السؤال المتقدِّم ؛ لأنه لما قال : كم قدر ما بينهما ؟ فقال : خمسين.كأنه قال : قدر خمسين. فحذف : قدر ، وبقي ما بعده مخفوضًا على حاله معه .
وهذا الحديث يدل على أنه كان يفرغ من السحور قبل طلوع الفجر. وهو معارض بظاهر حديث حذيفة ، حيث قال : (( هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع )). فيمكن أن تحمل حديث حذيفة : على أنه قصد الإخبار بتأخير السحور ، فأتى بتلك ا لعبارة .
(9/118)
وقوله : (( ألا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر )) ؛ إنما كان ذلك ؛ لأن التعجيل . أحفط للقوَّة ، وأدفع للمشقة ، وأوفق للسنه ، وأبعد عن الغلو والبدعة ، وليظهر الفرق بين الزمانين في حكم الشرع . وأما تعجيل المغرب : فقد تقدَّم الكلام عليها في الأوقات .
ومن باب إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس
فقد أفطر الصائم
هذه الثلاثة الأمور متلازمة ؛ إذا حصل الواحد منها حصل سائرها. وإنما تجمعها في الذكر - والله أعلم- ؛ لأن الناظر قد لا يرى عين غروب الشمس لحائل. ويرى ظلمة الليل في المشرق ، فيحل له إذ ذاك المطر.
وإقبال الليل : إقبال ظلمته . وإدبار النهار : إدبار ضوئه. ومجموعهما : إنما يحصل بغروب الشمس .
وقوله : (( فقد أفطر الصائم )) ؛ يحتمل أن يكون معناه : دخل في وقت الفطر. كما يقول العرب : أظهر : دخل في وقت الظهر . وأشهر : دخل في الشهر. وأنجد وأتهم : إذا دخل فيهما . أعني : الموضعين . وعلى هذا : لا يكون فيه تعرض للوصال ، لا بنفي ولا بإثبات . ويحتمل أن يكون معناه : فقد صار مفطرًا حكمًا . ومعنى هذا : أن زمان الليل يستحيل فيه الصوم الشرعي . وعلى هذين التأويلين ، يخرج خلاف العلماء : هل يصح إمساك ما بعد الغروب ؛ فمنهم من قال : لا يصح ، وهو كيوم الفطر ، ومنع الوصال ، وقال : لا يصح . ومنهم من جوَّز إمساك ذلك الوقت ، ورأى : أن له أجر الصائم محتجًّا بأحاديث الوصال ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر )). قالوا : وإنما نهاهم عن الوصال رحمة لهم ورفقًا بهم ؛ لما يخاف من الضعف فيه ، ولما يوجد من مشقته . وسيأتي لهذا مزيد .
وقوله : (( يا فلان ! انزل فاجدح لنا )) ؛ أي : اخلط اللبن بالماء. والجدح : خلط الشيء بغيره . والمجدح : المخوَّض ، قالوا : وهو عود في طرفه عودان .
(9/119)
وقوله : (( إن عليك نهارًا )) ؛ أي : إن النهار باقي عليك ؛ وإنما قال له ذلك ؛ لأنه رأى ضوء الشمس ساطعًا ، وإن كان جرمها غائبًا ، فأعرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الضوء ، واعتبر غيبوبة جرم الشمس ، ثم بيَّن ما يعتبره من لم يتمكن من رؤية جرم الشمس ، وهو : إقبال الظلمة من المشرق .
ومن باب النهي عن الوصال
اختلف في نهي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الوصال : فذهب قوم : إلى أنه يحرم. وهو مذهب بعض أهل الظاهر في علمي. وذهب الجمهور : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وجماعة من أهل الفقه : إلى كراهته. وقد واصل جماعة من السَّلف ، منهم : ابن الزبير وغيره. وأجازه ابن وهب ، وإسحاق ، وابن حنبل من سحر إلى سحر.
وسبب هذا الخلاف هو : هل محمل هذا النهي على الظاهر وهو التحريم ، أو يصرف عن ظاهره إلى الكراهية ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد واصل بأصحابه بعد أن نهاهم فلم ينتهوا ، ثم إذا حملناه على الكراهة فإنما هي لأجل ما يلحق من المشقة والضعف ، فإذًا أين من ذلك ، فهل يجوز أم تسدُّ الذريعة فلا يجوز .
وأما من حصر جوازه بالسحر ؛ فلما جاء في الحديث المذكور في الأصل ؛ ولأن أَكْلَةَ السحر يؤمن معها الضعف والمشقة التي لأجلها
كره الوصال .
وقوله : (( إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني )) ؛ حمله قوم على ظاهره ، وهو : أن الله يطعمه طعامًا ، ويسقيه شرابًا حقيقة من غير تأويل . وليس بصحيح ؛ لأنه لو كان كذلك لما صدق عليه قولهم : (( إنك تواصل )) ، ولا ارتفع اسم الوصال عنه ؛ لأنه حينئذ كان يكون مفطرًا ، وكان يخرج كلامه عن أن يكون جوابًا لما سُئل عنه ؛ ولأن في بعض ألفاظ هذا الخبر : (( إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني )) ؛ و(( ظل )) ؛ إنَّما تقال فيمن فعل الشيء نهارًا . و(( بات )) فيمن فعله ليلاً ، وحينئذ كان يلزم عليه فساد صومه ، وذلك باطل بالإجماع .
(9/120)
ولذلك قيل في معنى الحديث : إن الله تعالى يخلق فيه من الشبع والرِّي مثل ما يخلقه فيمن أكل وشرب . وهذا القول يبعده أيضًا النظر إلى حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع ، ويربط على بطنه الحجارة من الجوع ، وكان يقول : (( الجوع حرفتي )) ؛ على ما روي عنه ، ويبعده أيضًا النظر إلى المعنى ، وذلك أنه لو خُلِقَ فيه الشبعُ والرِّيُّ لما وجد لعبادة الصوم روحها الذي هو الجوع والمشقة ، وحينئذ كان يكون ترك الوصال أولى.
وقيل : معنى ذلك : أن الله تعالى يحفط عليه قُوَته من غير طعام ولا شراب ، كما يحفظها بالطعام والشراب ، فكأنه قال : إن الله تعالى يحفظ عليّ قُوَتِي بقدرته ، كما يحفظها بالطعام والشراب ، والله أعلم .
وقوله : (( واصل رسول الله في آخر شهر رمضان )) ؛ كذا الصواب ، وكذلك رواه الهروي ، ووقع للعذري والطبري والسجزي والباجي ، وفي أكثر النسخ : (( أول شهر رمضان )) ، وهو وهم ، والصحيح ما تقدم بدليل قوله في الرواية الأخرى عن أنس : (( وذلك في آخر الشهر )).
والتعمق : الانتهاء إلى عمق الشيء وغايته ، مأخوذ من عمق البئر ، وهو أقصى قعرها .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ واصل بهم يدل على أن الوصال ليس بحرام ولا مكروه ، من حيث هو وصال ، لكن من حيث يذهب بالقوة . وكان نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمة لهم ورفقًا بهم ، كما نصت عليه عائشة رضي الله عنها .
وقوله : (( لو مُدَّ لنا الشهر )) ؛ أي لو كمل ثلالثين ، لزاد اليوم الآخر إلى اليومين المتقدمين . ولو واصل بهم باقي ذلك الشهر ؛ لظهر ضعفه عليهم لصدق حجته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن باب القبلة للصائم
(9/121)
قول عائشة رضي الله عنها : ((كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبلني وهو صائم)) ؛ هذا الحديث ، وحديث عمر الآتي بعد هذا ، وحديث عمر بن الخطاب حيث سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن القبلة ؟ فقال له : (( أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم ؟ )) قال : لا بأس به . قالت : (( فمه )) ؛ يدل : على إباحة القبلة للصائم مطلقًا . وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود . وكرهها قوم مطلقًا . وهو مشهور مذهب مالك . وفرَّق قوم : فكرهوها للشاب ، وأجازوها للشيخ ؛ وهو مروي عن ابن عباس ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، والشافعي ، والثوري ، والأوزاعي . وحكاه الخطابي عن مالك .
وقد روى ابن وهب عن مالك : أنه كرهها في النفل ، ومنعها في الفرض . وسبب هذا الخلاف معارضة تلك الأحاديث لقاعدة سدِّ الذريعة . وذلك : أن القبلة قد يكون معها الإنزال ؛ فيفسد الصوم ، فينبغي أن يمنع ذلك حماية للباب .
ووجه الفرق بين الشيخ والشاب : أن المظنه في حق الشاب مُحَققة
غالبًا ، فيرتب الحكم عليها ، ويشهد لصحة الفرق : ما رواه أبو داود من حديث قيس مولى تجيب : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرخص في قبلة الصائم للشيخ ونهى عنها للشاب ، وفي معناه عن أبي هريرة ، ولا يصح منها شي .
وقولها : (( وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله يملك إربه )) ؛ وقد تقدم الكلام في الإرب ، وأنه يمال : بفتح الهمزة وكسرها ، وأن أصله : العضو . وهو هنا كناية عن الجماع . وهذا يدل على أن مذهبها منع القبلة مطلقًا في حق غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنها فهمت خصوصيته بجواز ذلك ، وهو خلاف ما في حديث أم سلمة ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سوَّى بينه وبين غيره في إباحة ذلك . والأخذ بحديث أم سلمة أولى ؛ لأنه مبين للقاعدة ، ونص في الواقعة . وقول عائشة اجتهاد منها .
(9/122)
وقوله : (( قدر غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك )) ؛ قول من خطر بباله : أنه يلزم من كونه مغفورًا له مسامحته في بعض الممنوعات ، وهذا الخاطر مهما أصغى إليه لزم منه إسقاط التكاليف ، وكذلك قد يقع مثله أيضًا عند سماع قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حق التائب بعد الثالثة : (( اعمل ما شئت فقد غفرت لك )). وهذا الخاطر باطل بدليل قوله : (( إني لأتقاكم وأشدُّكم له خشية )) ، وبدليل الإجماع المعلوم : على أن التكاليف لا تسقط عمن حصلت له شروطها .
وإنما محمل هذه الظواهر الموجبة للغفران في المستقبل على المعونة على الطاعات ، والحفظ عن المخالفات ، بحيث لا تقع الذنوب منه فيما يأتي ، ويصح أن يعبر عن هذا المعنى بالمغفرة ؛ لأن المغفرة هي الستر ، وهذا قد ستر بالطاعات عن المعاصي ؛ بحيث لا تقع منه ، أو لأن حاله حال المغفور له ، من حيث أنه لا ذنب له ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( إني لأتقاكم لله وأخشاكم له )) ؛ أي : أكثركم تقوى. وقد قدمنا : أن التقوى بمعنى الوقاية . والخشية : الخوف . وقد فرق بعض الناس بينهما . فقال : الخشية أشد الخوف . وقيل : الخوف : التطلع لنفس الضرر ، والخشية : التطلع لفاعل الضرر . وإنما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد الناس خشية ؛ لأنه أعظمهم له معرفة .
ومن باب صوم من أدركه الفجر وهو جنب
قوله : (( سمعت أبا هريرة يقص )) ؛ أي : يتتبع الأحاديث والأخبار ، ويذكرها ، ويُعلِّم العِلم .
وقوله : (( من أدركه الفجر جنبًا فلا صوم له )) ؛ هذه الفتيا من أبي هريرة ، وهو قوله الأول .
وقد اختلف في ذلك : فروي عن الحسن بن صالح مثل قول أبي هريرة . وعن الحسن والنخعي : لا يجزئه إذا أصبح عالِمًا بجنابته ، وإن لم يعلم أجزأه. وروي عن الحسن والنخعي : لا يجزئه في الفرض ، ويجزئه في النفل . وروي عن الحسين : يصومه ويقضيه .
(9/123)
ومذهب الجمهور ، وهو الصحيح : الأخذ بحديث أم سلمة وحديثي عائشة الآتيين . ومقتضاها : أن صوم الجنب صحيح . وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى : { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط السود من الفجر} ؛ فإنه لما مدَّ إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم : أن الفجر يطلع عليه وهو جنب ، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر . وفي معنى هذه المسألة : الحائض تطهر قبل الفجر ، وتترك التطهر حتى تصبح ، فجمهورهم على وجوب تمام الصوم عليها وإجزائه ، سواء تركته عمدًا ، أو سهوًا . وشذَّ محمد بن مسلمة فقال : لا يجزئها ، وعليها القضاء والكفارة . وهذا في المفرطة المتوانية ، فأما التي رأت الطهر فبادرت ، فطلع الفجر قبل تمامه ، فقد قال مالك : هي كمن طلع عليها وهي حائض ، يومها يوم فطر ، وقاله عبدالملك . وقد ذكر بعضهم قول عبدالملك هذا في المتوانية . وهو أبعد من قول ابن مسلمة .
وقولهما : (( كان يصبح جنبًا من غير حلم )) ؛ يفيد فائدتين :
إحداهما : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يجامع ويؤخر غسله حتى يطلع الفجر ، ليبين المشروعية ، كما قال : (( عمدًا فعلته يا عمر )).
وثانيهما : دفع قوم من يتوهم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحتلم في منامه ، فإن الحلم من الشيطان ، زكذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الحلم من الشيطان )). والله تعالى قد عصمه منه .
قول أبي هريرة : (( هما أعظم )) ؛ يدل على رجوعه في قوله الأول . وقد صرَّح بالرِّجوع في آخر الحديث .
وقوله : (( ثم ردة إلى الفضل )) ؛ يعني بذلك : أنه سمعه من الفضل ، كما قد نص عليه بعد . وفي النسائي : أنه سمعه من أسامة بن زيد . وهذا محمول على أنه سمعه منهما . وحديث الفضل وأسامة كان متقدِّمًا.
(9/124)
قال بعض العلماء : كان ذلك في أول الإسلام ، في الوقت الذي كان الحكم فيه : أن الصائم إذا نام بالليل حرم عليه الأكل والشرب والنكاح أن يمد ذلك إلى طلوع الفجر ، كما جاء في البخاري من حديث البراء بن عازب في قصة قيس بن صِرْمَة . وعلى الجملة ؛ فذلك الحكم مترود عند جمهور العلماء بظاهر القرآن ، وبصحيح الأحاديث . والخلاف فيه من قبيل الخلاف الشاذ المتقدم .
ومن باب كفارة من أفطر متعمدًا
قول المجامع في رمضان : (( هلكت! واحترقت! )) ؛ استدل به الجمهور على أنه كان متعمدًا ، وقصروا الكفارة على المتعمد دون الناسي ، وهو مشهور قول مالك وأصحابه . وذهب أحمد ، وبعض أهل الظاهر ، وعبدالملك ، وابن حبيب : إلى إيجابها على الناسي . وروى ذلك عن عطاء ومالك متمسكين بترك استفسار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السائل ، وإطلاق الفتيا مع هذا الاحتمال . وهذا كما قاله الشافعي في الأصول : ترد الاستفصال مع الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال . وهذا ضعيف ؛ لأنه يمكن أن يقال : إنه ترك استفصاله لأنه قد تبين حاله ، وهو : أنه كان عامدًا ، كما يدل عليه ظاهر قوله : (( هلكت ! واحترقت )).
وقوله : (( هل تجد ما تعتق رقبة )) ، رقبة : نصب على البدل من (( ما )) الموصوفة ، وهي مفعول بتجد . وإطلاق الرقبة يقتضي جواز الكافرة ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وجواز المعيبة ، وهو مذهب داود ، والجمهور على خلافهما ؛ فإنهم شرطوا في إجزاء الرقبة بالإيمان ، بدليل تقييدها به في كفارة القتل ، وهي مسألة حمل المطلق على المقيد ، المعروفة في الأصل ، وبدليل : أن مقصود الشرع الأول بالعتق تخليص الرِّقاب من الرق ؛ ليتفرغوا إلى عبادة الله ، ولنصر المسلمين . وهذا المعنى مفقود في حق الكافر ، وقد دلَّ على صحة هذا المعنى قوله في حديث السوداء : ((أعتقها فإنها مؤمنة )).
وأما العيب : فنقص في المعنى وفي القيمة ، فلا يجوز له ؛ لأنه في معنى عتق الجزء كالثلث ، والربع . وهو ممنوع با لاتفاق .
(9/125)
وقوله : (( فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ )) تستطيع : تقوى وتقدر . والتتابع : التوالي . وهو حجة للجمهور في اشتراط التتابع في الكفارة على ابن أبي ليلى ؛ إذ لم يشترطه .
وقوله : (( فهل تجد ماتطعم ستين مسكينًا )) ؛ حجة للجمهور في اشتراط عدد الستين على الحسن ؛ إذ قال : يطعم أربعين . وعلى أبي حنيفة ؛ إذ يقول بجواز إعطاء طعام ستين مسكينًا لمسكين واحد . وهو أصله في هذا الباب .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأعرابي : (( اجلس )) ؛ انتظار منه لوجه يتخلص به مما حصل فيه ، أو ليوحى إليه في ذلك .
وقوله : (( فأتي النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعرَق تمر )) ؛ العرَق ، بفتح الراء لا غير ، وسُمِّي بذلك لأنه جمع عرقة ، وهي الصغيرة من الخوص ، وهو الزِّنبيل ، بكسر الزاي على رواية الطبري ، وبفتح الزاي لغيره ، وهما صحيحان . وسُمِّي بذلك لأنه يحمل فيه الزبل ، ذكره ابن دريد . وهذا العرق تقديره عندهم : خمسة عشر صاعًا ، وهو مفسر في الحديث ، وقد تقدَّم : أن الصاع أربعة أمداد . فيكون مبلغ أمداد العرق ستين مدًّا ، ولهذا قال الجمهور : إن مقدار ما يفع لكل مسكين من الستين مُدّ .
وفيه حجة للجمهور على أبي حنيفة ، والثوري ؛ إذ قالا : لا يجزيء أقل من نصف صاع لكل مسكين .
وقوله : (( تصدَّق بهذا )) ؛ يلزم منه أن يكون قد ملكه إياه ليتصدق به عن كفارته ، ويكون هذا كقول القائل : أعتقت عبدي عن فلان ، فإنه يتضفن سبقية الملك عند قوم . وأباه أصحابنا ، مع الاتفاق على أن الولاء للمعتق عنه ، وأن إلكفارة تسقط بذلك .
وقوله : (( على أفقر منا ؟ )) هو محذوف همزة الاستفهام . تقديره : أَعَلَى أفقر منا ؟ والمجرور متعلق بمحذوف تقديره : أنتصدق به على أحدٍ أفقر منا ؟
وقد جاء في طريق أخرى : بحذف على ، والرواية فيه حينئذ بالنصب على إضمار الفعل ، تقديره : أنجد أفقر منا ؟ وقد يجوز رفعه على خبر مبتدأ ؛ أي : أحدٌ أفقر منا ؟
واللابتان : حرتا المدينة ، وقد تقدم .
(9/126)
وضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعجب من حاله ، وسرعة قسمه ، وإغيائه في ذلك.
والأنياب : جمع ناب ، وهي الأسنان الملاصقة للثنايا ، وهي : أربعة.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اذهب فأطعمه أهلك )) ؛ تخيل قوم من هذا الكلام سقوط الكفارة عن هذا الرجل . فقالوا : هو خاصة به . وليس فيه ما يدل على ذلك . بل نقول : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما بين له ما يترتب على جنايته من الكفارة لزم الحكم ، وتقرر في الذمِّة ، ثم لما تبين من حال هذا : أنه عاجز عن الكفارة سقط عنه القيام بما لا يقدر عليه في تلك الحال ، وبقي الحكم في الذمة على ما رتبه أولاً ، فبقيت الكفارة عليه إلى أن يستطيع شيئًا من خصالها . وهذا مذهب الجمهور ، وأئمة الفتوى . وقد ذهب الأوزاعى ، وأحمد : إلى أن حكم من لم يجد الكفارة من سائر الناس سقوطها عنه. ولم يتعرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث لقضاء ذلك اليوم ، ولذلك قال بسقوط القضاء عنه طائفة من أهل العلم . وأنه ليس عليه إلا الكفارة .
والجمهور على لزوم القضاء مع الكفارة ؛ أذ الصوم المطلوب منه لم يفعله ، وهو باقٍ عليه ، كالصلوات وغيرها إذا لم تُفْغَل بشروطها .
ويتم النظر في هذا الحديث برسم مسائل اختلف فيها :
الأولى : إن هذه الكفارة هل هي على الجاني وحده ، كما هو مذهب الجمهور . أو عنه وعن موطوءته ، كما صار إليه الشافعي وأهل الظاهر ؟ وليس في الحديث ما يدل على ذلك ، لكن الحديث إنما تعرض للرَّجل ، وسكت عن المرأة ، فيؤخذ حكمها من دليل آخر . أو ولعله إنما سكت عنها ؛ لأنها كانت غير صائمة ؛ لأنها طهرت من حيضتها في أضعاف اليوم ، أو كتابية .
وعلى الجملة : فحالها مجهول ، ولا سبيل إلى التحكم بأنها كانت مكرهة ، أو مختارة أو غير ذلك .
ومشهور مذهب مالك في المكرهة : أن مكرهها يكفر عنها ؛ لأنه هتكَ صومين بالنسبة إليها وإليه . فكأنه هتك يومين . قال سحنون : لا شيء عليه لها ولا عليها . وبه قال أبو ثور ، وابن المنذر ، ولم يختلف المذهب في أن عليها القضاء .
(9/127)
المسألة الثانية : إن قوله : (( هل تجد ؟ )) وبعده : (( فهل تستطيع ؟ )) وبعده : (( فهل تجد ما تطعم ؟ )) ظاهر هذا : الترتيب في هذه الخصال . بدليل عطف الجمل بالفاء المرتبة المعقبة . وإليه ذهب الشافعي ، والكوفيون ، وابن حييب من أصحابنا . وذهب مالك وأصحابه : إلى المتخيير في ذلك ، إلا أنه استحب الإطعام لشدَّة الحاجة إليه ، وخصوصًا بالحجاز . واستدل أصحابنا لمذهبهم بحديث أي هريرة الآتي بعد هذا ، وهو : أنه قال : أفطر رجل في رمضان فأمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعتق رقبة ، أو يصوم شهرين ، أو يطعم ستين مسكينًا . فخيره بـ (( أو )) التي هي موضوعة للتخيير .
المسألة الثالثه : هذه الكفارة ، هل هي خاصة بمن أفطر بالجماع ؟ وهو مذهب الشافعي ، وأحمد ، وجماعة من السَّلف ، أو هل يلحق بذلك كل هاتك لصوم نهار رمضان بأي وجه كان ؛ من أكل ، أو شرب ، أو غيره ، وهو مذهب مالك وجماعة . واستدل أصحابنا بحديث أبي هريرة الآتي ، وبالنظر إلى المعنى . وتحقيقه في الفروع ، وبسط ذلك في الفقه .
المسألة الرإبعة : ذهب جمهورهم : إلى أن الكفارة ثلاثة أنواع ، كما جاء في الحديث . وذهب الحسن وعطاء : إلى أن المكفر إن لم يجد رقبة أهدى بدنة إلى مكة . قال عطاء : أو بقرة . وتمسَّكوا بما رواه مالك في "الموطأ" من مرسل سعيد بن المسيب : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له : (( هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟ )) قال : لا . قال : (( فهل تستطيع أن تهدي بدنة ؟ )) قال : لا . والصحيح : المسند من الأحاديث ، فليس فيه شيء من ذلك .
وقوله : (( إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة ، أو يصوم شهرين ، أو يطعم ستين مسكينًا )) ؛ هذا هو متمسك أصحابنا : على أن الكفارة معلقة على كل فطر قُصد به هتك الصيام ، على ما تقدَّم .
(9/128)
ووجة استدلالهم : أنه علق الكفارة على من أفطر مجردًا عن القيود ، فيلزم مطلقًا ، وعلى هذا قول الشافعي في مسألة ترك الاستفصال . فإن قيل : فهذا الحديث هو الحديث الأول ، والقضية واحدة فترد إليها ، قلنا : لا نسلم . بل هما قضيتان مختلفتان ؛ لأن مساقهما مختلف . وهذا هو الظاهر ، والله تعالى أعلم .
وقوله في حديث عائشة : (( تصدق )) ، ولم يذكر غيره ؛ دليل لمالك على اختياره الطعام . بل وظاهر هذا الحديث : الاقتصار عليه . وهو أيضًا ظاهر قول مالك في "المدونة" ، فإنه قال : قلت : وكيف الكفارة في قول مالك ؟ قال : الطعام ، لا يعرف غير الطعام ، لا يأخذ مالك بالعتق ولا بالصيام .
وقوله : (( أَغَيْرنا ؟)) منصوب بفعل مضمر ، تقديره : أتعطيه غيرنا ؟
ومن باب جواز الصوم والفطر في السفر
(( الكديد )) ما بينه وبين مكة ، اثنان وأربعون ميلاً . و(( عُسفان )) قرية جامعة على سته وثلاثين ميلاً من مكة . وفي الحديث الآتي : (( كراع الغميم )) . فالغميم - بفتح الغين - : واد أمام عُسفان بثمانية أميال . و((كراع )) : جبل أسود هناك يضاف إلى الغميم . والكراع لغة : هو كل أنف مال من جبل أو غيره .
وهذه الأحاديث المشتملة على ذكر هذه المواضع الثلاثة كلها ترجع إلى معنى واحد . وهي حكاية حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سفر في قدومه إلى فتح مكة. وكان في رمضان في ستة عشر منه ، كما جاء في حديث أبي سعيد . وهذ المواضع متقاربة . ولذلك عبَّر كل واحد من الرواة بما حضر له من تلك المواضع لتقاربها
(9/129)
واختلف في حكم الفطر في السفر ؛ فالجمهور على أن المسافر إن صام في سفره أجزأه . وذهب بعض أهل الظاهر : إلى أنه لا يجزئه ، ولا ينعقد ، وعليه القضاء أبدًا . وحكي عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه قال : من صام في السفر قضى في الحضر . وحكي أنه مذهب عمر. ومتمسك هؤلاء : ظاهر قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر } ؛ أي : فعليه عدة ، أو فالواجب عدة . وتأوَّله الجمهور : بأن هناك محذوفًا ، تقديره : فأفطر . واستدلوا على صحته بما يأتي بعد هذا من الأحاديث الآتية في هذا الباب . وكره أحمد بن حنبل الصوم في السَّفر ، ولم يأمر بالقضاء .
واختلف الجمهور في الأفضل : هل هو الصوم أو الفطر ؟ أو لا فضيلة لأحدهما على الآخر. وممن ذهب إلى الأول أنس بن مالك ، ومالك في المشهور عنه ، والشافعي ، على أن الفطر من باب الرُّخص ، وأن فعل الصوم مبادرة إلى تخليص الذمم ، ومسابقة إلى الخيرات ، وقد أمر الله بذلك في قوله : { فاستبقوا الخيرات }. وإلى الثاني ذهب ابن عباس ، وابن عمر ، وغيرهما . وعلى الثالث جل أهل المذهب ، وهو التخيير ، وعليه تدل الأحاديث المذكورة في هذا الباب .
ثم هل هذا في كل سفر : طاعة كان أو معصية ، طويلاً كان أو قصيرًا ؟ وقد تقدَّم ذكر الخلاف فيه في باب : قصر الصلاة في السفر .
وقوله : (( خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام الفتح في رمضان ؛ فصام ، فلما بلغ الكديد أفطر )) ؛ هذا حجة على من يقول : إن الصوم لا ينعقد في السَّفر ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد صام من خروجه من المدينة إلى أن بلغ الكديد ، وصام الناس معه . وهو حجة لمن يقول : إن من بَيَّت الصوم في السفر فله أن يفطر ، وإن لم يكن له عذر ، وإليه ذهب مطرف بن عبدالله ، وهو أحد قولي الشافعي . وعليه جماعة من أصحاب الحديث .
(9/130)
والجمهور على منع ذلك إلا لعذر ، متمسكين بأنه قد شرع في أَخْذِ ما خير فيه ؛ فيلزمه الْمُضي فيه ؛ إذ قد عَيَّنه بفعله ، وحملوا فِطر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على وجود العذر المسوِّغ من حصول الضعف بالصوم عن مقاومة العدو ، وعن القيام بوظائف الجهاد ، ولما حصل لهم من الجهل والمشقة بالصوم ، كما قال : فسقط الصوَّام ، وقد روى البزار من حديث أبي سعيد الخدري : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى ما هم فيه ، ووصل إلى الماء ، قال لهم : ((اشربوا )) ، فقالوا : لا نشرب حتى تشرب . قال : (( إني لسث مثلكم ، إني راكب وأنتم مشاة )) ، فقالوا : لا نشرب حتى تشرب ، فشرب ، وشربوا.
وعلى مذهب المنع فلو أفطر من غير عذر فهل تلزمه الكفارة ، أو لا تلزمه ؟ ثلاثة أقوال : يفرق في الثالث بين أن يفطر بجماع ، فتجب. أو بغيره ، فلا تجب . وكذلك اختلف فيمن طرأ عليه السفر ، وقد بيَّت الصوم في الحضر . فالجمهور على أنه لا يجوز له أن يفطر إلا مع العذر. فلو أفطر من غير عذر ففي الكفارة ثلاثة أقوال : يفرق في الثالث بين المتأوّل ، فتسقط عنه ، وبين غيره ، فلا تسقط .
وقوله : (( وكان صحابته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره )) ؛ وهو قول الزهري كما فسَّره في الرواية الأخرى ونسبه إليه . ولذلك ذكره مسلم بعده . وظاهر كلام ابن شهاب : أن الذى استقر عليه أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما كان : الفطر في السفر ، وأن الصوم السابق منسوخ .
وهذا الظاهر ليس بصحيح بدليل الأحاديث الآتية بعد هذا ؛ فإنها تدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صام بعد ذلك في السفر ، وأصحابه كذلك ، وخيّر فيه . ومن أدل ذلك قول أبي سعيد : ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك في السفر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وما خرَّجه النسائي عن عائشة : أنها سافرت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عمرته ، فقالت : يا رسول الله ! قصرتَ وأتممتُ ، وأفطرتَ وصمتُ . فقال : (( أحسنتِ يا عائشة )) ، وما عابه عليّ .
(9/131)
ويمكن أن يحمل قول الزهري : على أنه أراد أن يخبر بقاعدتهم الكلية الأصولية في الاقتداء بأفعال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما تحققت فيه المعارضة ، لا في هذا الموضع ؛ فإنه لم تتحقق فيه المعارضة ، والله تعالى أعلم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحمزة بن عمرو : (( إن شئت صم ، وإن شئت فأفطر )) ؛ نصٌّ في التخيير . ولا يقال : يحتمل أنه سأله عن سرد صوم التطرع لوجهين :
أحدهما : قوله في الرواية الأخرى : (( هي رخصة من الله ، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه )). ولا يقال في التطزع مثل هذا .
والثاني : أن حديثه هذا خرَّجه أبو داود ، وقال فيه : يا رسول الله ! إني صاحب ظهر ، أسافر عليه ، وأكريه في هذا الوجه ، وأنه ربما صادفني هذا الشهر - يعني : رمضان - وأنا أجد القوة ، وأنا شاب ، وأجدني أن أصوم أهون من أن أؤخره فيكون دينًا عليّ ، أفأصوم يا رسول الله ! أعظم لأجري أو أفطر ؟ فقال : (( أي ذلك شئت يا حمزُ )). وهذا نصٌّ في أنه صوم رمضان .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هو رخصة من الله )) ؛ دليلٌ على أن الخطاب بالصوم متوجه لجميع المكلفين ؛ المسافرين وغيرهم ، ثم رخص لأهل الأعذار بسببها . وبيان ذلك : أن الرخصة حاصلها راجع إلى تخلف الحكم الجزم مع تحقق سببه لأمر خارج عن ذلك السبب ، كما تقوله في إباحة الميتة عند الضرورة . وبهذا يتحقق بطلان قول من قاله : إن صوم المسافر لا ينعقد ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( غزونا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لست عشرة من رمضان )) ؛ قد اختلف الرواة في هذا ، ففي حديث التيمي ، وعمر بن عامر ، وهشام : ((لثماني عشرة خلت )). وفي حديث سعيد : (( في ثنتي عشرة )). وفي حديث شعبة : (( لسبع عشرة ، أو : تسع عشرة )). وقال الزهري : (( صبح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان )). وهذه أقوال مضطربة. والذي طبق عليه أصحاب السير : أن خروج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لغزوة الفتح كان لعشر خلون من رمضان ، ودخوله مكة كان في تسع عشرة. وهو أحسنها ، والله تعالى أعلم .
(9/132)
ومن باب من أجهده وأضعفه الصوم وجب عليه الفطر
هذه الترجمة معضودة بقاعدة الشريعة المقررة في رفع ما لا يطاق. وبأن للمريض أن يفطر . ومن أجهده الصوم وهو مريض ؛ فإن خاف على نفسه التلف من الصوم عصى بصومه ، وعلى هذا يحمل قوله : ((أولئك العصاة )).
وقوله : (( ليس من البر الصيام في السفر )) ؛ فإنه خرج على قوم سقطوا من جهد الصوم ، حتى ظلل عليهم . فيتناول من كان على مثل حالهم . وأما من لم يكن كذلك ، فحكمه ما تقدم من التخيير . وبهذا يرتفع التعارض بين الأحاديث ، وتجتمع الأدلة كلها ، ولا يحتاج إلى فرض النسخ ؛ إذ لا تعارض ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( ليس من البر الصيام في السفر )) ، هذا القول ، وقوله : ((أولئك العصاة )) من حديث جابر . الظاهر : أن القضية واحدة ، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال القولين في تلك القضية الواحدة . وقد تأوَّل بعض علمائنا قوله : (( ليس من البر )) ؛ أي : البر الواجب . وهذا التأويل إنما يحتاج إليه من قطع الحديث عن سببه ، وحمله على عمومه . وأما على ما قررناه ؛ فلا حاجة إليه .
وروي هذا الحديث هنا : (( ليس البر )) بغير (( من )) ، وقد روي من طريق أخرى : (( ليس من البر )) ، وهي (( من )) الزائدة التي تزاد لتأكيد النفي.
وقد ذهب بعض الناس : إلى أنها : مبعضة هنا. وليس بشيء . وقد روى أهل الأدب : (( ليس من امْبَر أمصيام في أمسفر )) ، فأبدلوا من اللام ميمًا ، وهي لغة قوم من العرب . وهي قليلة ، والله تعالى أعلم .
ومن باب الفطر أفضل لمن تأهب للقاء العدو
قوله : (( أكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء )) ؛ يعني : أنهم لم يكن لهم فساطيط ولا أخبية . و(( يتقي الشمس بيده )) : يستتر منها. و(( الأبنية )) : جمح بناء ؛ يعني بها : الخصوص . و(( الركاب )) : الإبل .
(9/133)
وقوله : (( ذهب المفطرون اليوم بالأجر )) ؛ يعني : أنهم لما أقاموا بوظافي ذلك الوقت ، وما يحتاج إليه فيه ؛ كان أجزهم على ذلك أكثر من أجر من صام ذلك اليوم ، ولم يقم بتلك الوظائف .
وفيه ردٌّ على من يقول : إن المسافر لا يصح صومه .
وقوله : (( إنكم قد دنوتم من عدوِّكم والفطر أقوى لكم )) ؛ دليل على أن حفظ القوة بالفطر أفضل لمن هو منتظر للقاء العدوِّ .
وقوله : (( فكانت رخصة )) ؛ يعني : أنهم لم يفهموا من هذا الكلام الأمر بالفطر ، ولا الجزم به. وإنما نبَّه به على أن الفطر أولى لمن خاف الضعف.
وسُمِّي هذا : رخصة بناء عدى أن كل مكلف مخاطب بصوم رمضان ، كما قد أفهمه قوله تعالى : { كتب عليكم الصيام } ، أو بالنسبة إليهم ؛ إذ قد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد صام حين(6) خروجه من المدينة ، وصام الناس معه إلى أن بلغ الكديد ، كما تقدَّم ، فلما خاف عليهم الضعف نبههم على جواز الفطر ، وأنه الأفضل. فسُمي ذلك رخصة بالنسبة إلى ترك ما كانوا قد اختاروه من الصوم ، ولما فهموا : أن هذا من باب الرُّخص كان منهم من هو موفور القوة فصام ، وكان منهم من خاف على ففسه فأفطر .
ثم بعد ذلك قال لهم : (( إنكم مُصَبِّحو عدوكم ، والفطر أقوى لكم ، فأفطروا )). قال : (( وكانت عزمة )) ؛ أي : أنهم فهموا من أمره بالفطر أنه جزم ، ولا بدَّ منه ، وأنه واجب ، فلم يصم منهم أحد عند ذلك فيما بلغنا ، ولو قدر هنالك صائم لاستحقوا أن يقال لهم : ((أولئك العصاة )). وقد حمل بعض علمائنا قوله : (( أولئك العصاة )) على هذا ، بناءً على أن منهم من صام بعد الأمر بالفطر . ولم يسمع ذلك في حديث مروي ، وإنما هو تقدير من هذا القائل .
وقوله : ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ذلك في السفر .
ودليل أن الصوم هو الأصل والأفضل ، وأن الفطر إنما كان لعلَّه وسبب ، ولمازال ذلك رجع إلى الأفضل ، والله أعلم .
(9/134)
وقوله : (( وما منا من أحد صائم إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعبدالله بن رواحة )) ؛ يدل على أن الصوم أفضل ، كما قد صار إليه مالك ، ومن سمينا معه .
ومن باب فضل صيام يوم عرفة
قول أبي قتادة : (( سئل رسول الله عن صومه فغضب )) ؛ غضبه عند هذا السؤال يحتمل أوجهًا :
أحدها : أنه فهم عن السائل أنه إنما سأل عن صومه ليلتزمه ، وربما يعجز عنه ، فغضب لذلك ، ولم يجبه .
وثانيها : أنه فهم أن السَّائل إنما سأل ليعلم مقدار ذلك فيزيد عليه ، كما قد سأل نفر عن عبادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتقالّوها ، وقالوا : قد كفَّر الله لك ما تقدم من ذنبك . فقال أحدهم : أما أنا فأصوم ولا أفطر . وقال الآخر : أما أنا فأصلي الليل ولا أنام . وقال الآخر : أما أنا : فلا أنكح النساء . فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أما أنا فأصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأنكح النساء ، فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي )).
وثالثها : لعلَّه إنما غضب لما يؤدي إليه من إظهار عمل السرّ ، كما قال : (( إن من شرِّ الناس المجاهرين )) ؛ قيل : ومن هم ؟ قال : (( الرجل يعمل العمل بالليل ، فيقول : يا فلان ! عملت البارحة كذا . فيبيت يستره ربُّه ، ويصبح فيكشف ستر الله عنه )).
وقد ذكر في ذلك أوجة هذه أقربها ، والله تعالى أعلم .
وقول عمر : (( رضينا بالله ... )) الخ ؛ يقتضي تسكين غضب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حيث : إنه يقتضي الطواعية الكليه ، والانقياد التام ، ويتضمن ذلك : مرنا بأمرك ننفذه على أي وجه كان ، وفي أي محل ، ومن حيث : التعوذ بالله وبرسوله ، وهو الالتجاة إليهما ، والاستجارة بهما من غضبهما .
وقد كان عمر ـ رضى الله عنه ـ جعل هذا الكلام هِجِّيراه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلما غضب ، فإنه قد روي : أنه قال له هذا الكلام مرارًا في مواطن متعددة .
(9/135)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ - وقد سئل عن صيام الأبد فقال- : (( لا صام ولا أفطر )) ؛ يحتمل أن يكون دعا عليه ، لا أنه أخبر عنه ، ويحتمل أن يكون خبرًا عن أنه لم يأت بشيء . ووجه ذلك : أن من سرد الصوم صار له عادة ، ولم يجد له مشقة ، فيعود النهار في حقه كالليل في حق غيره ، فكأنه ما صام ؛ إذ لم يجد ما يجده الصائم ، ولا أفطر لصورة الصوم ، وتكون معنى (( لا )) بمعنى (( ما )) ؛ كما قال تعالى : { فلا صدّق ولا صلى }. وحمل كثير من العلماء هذا على ما إذا صام الأيام المحرمة ، فأما لو أفطرها : فكرهه قوم ، وأجازه آخرون . وقال أبو الطاهر بن بشير : وهو مستحب . وهذا أبعدها.
وقوله - وقد سئل عن صوم يوم وإفطار يومين قال - : (( ليت أن الله قوَّانا على ذلك )) ؛ يشكل مع وصاله ، وقوله : (( إني أبيت أطعم واسقى )). ويرتفع الإشكال : بأن هذا كان منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أوقات مختلفة : ففي وقت : يواصل الأيام بحكم القوَّة الإلهية . وفي آخر : يضعف ؛ فيقول هذا بحكم الطباع البشريه . ويمكن أن يقال : تمنَّى ذلك دائمًا ، بحيث لا يخل بحق من الحقوق التى يخل بها من أدام صومه : من القيام بحقوق الزوجات ، واستبقاء القوة في الجهاد ، وأعمال الطاعات ، والله تعالى أعلم .
وقوله في يوم الإثنين : (( فيه ولدتُّ ، وفيه أنبئتُ ، وفيه أُنزل عليَّ )).
قلث : وفيه مات . وكل هذا دليل على فضل هذا اليوم مع ما قد ثبت : أنه كان يصوم يوم الخميس ، ويقول فيه وفي يوم الإثنين : (( إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على ربِّ العالمين ، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم )).
وقوله : (( صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر )) ؛ هذا إنما كان لأن الحسنة بعشر أمثالها . فثلاث من كل شهر كالشهر بالتضعيف ، ورمضان بغير تضعيف شهر ، فيكمل دهر السنة . فإن اعتبر رمضان بتضعيفه كان بإزاء عشرة أشهر ، فإذا أضيفت إليه ستة أيام شوال كان له صوم ستين بالتضعيف .
(9/136)
وعلى مقتضى مساق هذا الحديث ، وعلى ما تقرر من معناه : تستوي أيام الشهر كلها ، ولا فرق بين أن يصوم هذه الثلاثة أيام أول الشهر ، أو وسطه ، أو آخره . وكذلك قالت عائشة : لم يكن يبالي من أي أيام الشهر كان يصومها . غير أن النسائي روى هذاالحديث عن جابر ، وقال فيه : صيام ثلاثة أيام من كل شهؤ صيام الدهر ، أيام
البيض صبيحة ثلاثة عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة .
وهذا يقتضي تخصيص الثلاثة بأيام الليالي البيض ، وهذا -والله أعلم- لأن الليالي البيض ، وقت كمال القمر ، ووسط الشهر ، وخير الأمور أوسطها ، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرجل : (( هل صمت من سرة شعبان شيئًا ؟ )). وفي رواية أخرى : (( من سُرَر )) ، مكان (( سُرة )) ، وسيأتي .
وقال ابن حبيب : تصام الثلاثة الأيام : أول يوم من الشهر ، والعاشر ، والعشرين . قال : وبلغني أن هذا صوم مالك .
وفي تسمية عرفة قولان :
أحدهما : أن جبريل كان يُري إبراهيم عليهما السلام المناسك ، فيقول : عرفتُ ، عرفتُ .
وثانيها : أن آدم وحواء تعارفا هناك.
وقوله في صيام يوم عرفة : (( يكفر السنة التي قبلها )) ؛ يعني السنة التي هو فيها ؛ لأنه في أواخر السَّنة ، والتي بعدها : يعني التي تأتي متصلة بشهر يوم عرفة .
وعاشوراء : يكفر السَّنة التي بعده ؛ لأنه في أوائل السَّنة الآتية .
وقول أم الفضل : (( إن ناسًا تماروا يوم عرفة في صيام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم عرفة )) ؛ معنى تماروا : اختلفوا وتجادلوا . وسبب هذا الاختلاف : أنه تعارض عندهم ترغيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صوم يوم عرفة ، وسبب الاشتغال بعبادة الحج. فشكُّوا في حاله ، فارتفع الشك لما شرب ، وفهم : أن صوم عرفة إنما يكون فيه ذلك الفضل بغير عرفة ، وأن الأولى ترك صومه بعرفة ؛ لمشفة عبادة الحج . وقد روى النسائي عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صيام يوم عرفة بعرفة . وهذا لما قلناه ، والله تعالى أعلم .
ومن باب صيام عاشوراء
(9/137)
وزنه : فاعولاء ، والهمزة . فيه للتأنيث ، وهو معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم ، وهو في الأصل : صفة لليلة العاشرة ؛ لأنه مأخود من العشر الذي هو اسم العقد الأول . واليوم مضاف إليها ، فإذا قلت : يوم عاشوراء . فكأنك قلت : يوم الليلة العاشرة . إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الإسمية . فاستغنوا عن الموصوف ، فحذفوا الليلة ، وعلى هذا : فيوم عاشوراء هو العاشر ؛ قاله الخليل وغيره . وقيل : هو التاسع .
ويُسمِّي : عاشوراء على عادة العرب في الإظماء . وذلك أنهم : إذا وردوا الماء لتسعة سموه : عشرا ؛ وذلك أنهم : يحسبون في الإظماء يوم الورود ، فإذا أقامت الإبل في الرعي يومين ، ثم وردت في الثالث قالوا : أوردت رِبْعًا . وإذا وردت في الرابع قالوا : وردت خمسًا ؛ لأنهم حسبوا في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الرعي وأول اليوم الذي ترد فيه بعده . وهذا فيه بُعْد ؛ إذ لا يمكن أن يعتبر في عدد ليالي العشر وأيامه ما يعتبر في الاظماء ، فتأمله .
وعلى القول الأول سعيد والحسن ومالك وجماعة من السَّلف . وذهب قوم : إلى أنه التاسع . وبه قال الشافعي متمسِّكًا بما ذكر في الإظماء ، وبحديث ابن عباس الآتي إن شاء الله .
وذهب جماعة من السَّلف : إلى الجمع بين صيام التاسع والعاشر . وبه قال الشافعي قوله الآخر ، وأحمد ، وإسحاق . وهو قول من أشكل عليه ا التعيين ، فجمع بين الأمرين احتياطًا .
وقول عائشة رضي الله عنها : (( كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية )) ؛ يدل على أن صوم هذا اليوم كان عندهم معلوم المشروعية والقدر ، ولعلهم كانوا يستندون في صومه : إلى أنه من شريعة إبراهيم وإسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما ؛ فإنهم كانوا ينتسبون إليهما ، ويستندون في كثير من أحكام الحج وغيره إليهما .
(9/138)
وصوم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم عليه ، كما وافقهم على أن يحج معهم على ما كانوا يحبون -أعني : حجته الأولى التي حجها قبل هجرته ، وقبل فرض الحج- ؛ إذ كل ذلك فعل خير .
ويمكن أن يقال : أذن الله تعالى له في صيامه ، فلما قدم المدينة وجد اليهود يصومونه ، فسألهم عنش الحامل لهم على صومه ؟ فقالوا ما ذكره ابن عباس : إنه يوم عظيم ، أنجى الله فيه موسى وقومه ، وغرَّق فرعون وقومه ، فصامه موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شكرًا ، فنحن نصومه . ققال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم )) ؛ فحينئذ صامه بالمدينة ، وأمر بصيامه . أي : أوجب صيامه ، وأكد أمره ؛ حتى كانوا يُصَّومون الصغار ، فالتزمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وألزمه إصحابه إلى أن فرض شهر رمضان ، ونسخ صوم يوم عاشوراء ، فقال إذ ذاك : (( إن الله لم يكتب عليكم صيام هذا اليوم )) ، ثم خَيَّر في صومه وفطره ، وأبقى عليه الفضيلة بقوله : (( وأنا صائم )) ، كما جاء في حديث معاوية .
وعلى هذا : فلم يصم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاشوراء اقتداء باليهود ؛ فإنه كان يصوم قبل قدومه عليهم ، وقبل علمه بحالهم ، لكن الذي حدث له عند ذلك إلزامه والتزامه استئلافًا لليهود ، واستدراجًا لهم ، كما كانت الحكمة في استقباله قبلتهم ، وكان هذا الوقت هو الوقت الذي كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحسب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينة عنه .
وقول معاوية لأهل المدينة : (( أين علماؤكم ؟ )) إنما خصَّ العلماء بالنداء ليلقِّنوا عنه ، وليصدِّقوه ؛ إذ قد كان عِلْمُ ذلك عند كثير منهم ، وذلك لأنهم أعلم بأحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحواله من غيرهم . وسؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لليهود عن يوم عاشوراء إنما كان ليستكشف السبب الحامل لهم على الصوم ، فلما علم ذلك قال لهم كلمة حق تقتضي تأنيسهم واستجلابهم ، وهي : (( نحن أحق وأولى بموسى منكم )) ؛ ووجة هذه الأولوية : أنه عَلِم من حال موسى وعظيم منزلته عند الله ، وصحة رسالته وشريعته ، ما لم يعلموه هم ، ولا أحد منهم .
(9/139)
وفي حديث ابن عباس الآخر قول الصحابة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن يوم عاشوراء يوم تعظمه اليهود )) ؛ كان هذا القول من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن تمادى على صومه عشر سنين أو نحوها ، بدليل : أن أمره بصومه إنما كان حين قدم المدينة ، وهذا القول الآخر كان في السَّنة التي توفي فيها في يوم عاشوراء من محرم تلك السنة ، وتوفي هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شهر ربيع الأول منها ، لم يختلف في ذلك ؛ وإن كانوا اختلفوا في أي يوم منه . وأصح الأقوال : في الثاني عشر منه ، والله تعالى أعلم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فإذا كان العام المقبل صمنا اليوم التاسع )) ؛ إنما قال هذا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحصول فائدة الاستئلاف المتقدم . وكانت فائدئه : إصغاءهم لما جاء به حتى يتبين لهم الرشد من الغي ، فيحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة . ولما ظهر عنادهم كان يجب مخالفتهم - أعني : أهل الكتاب - فيما لم يؤمر به . وبهذا النظر ، وبالذي تقدَّم يرتفع التعارض المتوهم في كونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحب موافقة أهل الكتاب ، وكان يحب مخالفتهم. وأن ذلك في وقتين وحالتين ، لكن الذي استقر حاله عليه : أنه كان يحب مخالفتهم ؛ إذ قد وضح الحق ، وظهر الأمر ولو كره الكافرون.
وقوله : (( لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع )) ؛ ظاهره : أنه كان عزم على أن يصوم التاسع بدل العاشر . وهذا هو الذي فهمه ابن عباس ، حتى قال للذي سأله عن يوم عاشوراء : إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائمًا . وبهذا تمسَّك من رآه التاسع . ويمكن أن يقول من رأى صوم التاسع والعاشر : ليس فيه دليل على أنه يترك صوم العاشر ، بل وعد بأن يصوم التاسع مضافًا إلى العاشر ، وفيه بُعد عند تأمل مساق الحديث ، مبنيًا على أنه جواب سؤالٍ سبق ، فتأمَّل .
وقول ابن عباس : (( هكذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم )) ؛ يعني : أنه لو عاش لصامه كذلك ؛ لِوَعْدِه الذي وعد به ، لا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صام اليوم التاسع بدل العاشر ؛ إذ لم يسمع ذلك عنه ولا رُوي قط .
(9/140)
وقول الرُّبَيْع : (( أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار )) ؛ أي : إلى قرى المدينة . وإنما خصَّ هذا الوقت بالإرسال ؛ لأنه الوقت الذي أوحي إليه فيه في شأن صوم عاشوراء . وهذا مما يدل على أنه كان واجبًا ؛ إذ لا ينتهي الاعتناء بالندب غالبًا إلى أن يفعل فيه هكذا من الإفشاء ، والأمر به ، وبيان أحكامه ، والإبلاغ لمن بَعُدَ ، وشدة التهمم .
ولما فهمت الصحابة هذا التزموه ، وحملوا عليه صغارهم الذين ليسوا بمخاطبين بشيء من التكاليف تدريبًا ، وتمرينًا ، ومبالغة في الامتثال والطواعية. على أن جمهور من قال من العلماء : إن الصغار يؤمرون بالصلاة وهم أبناء سبع ، ويضربون عليها وهم أبناء عشر ؛ ذهبوا إلى أنهم : لا يؤمرون بالصوم لمشقته عليهم ، بخلاف الصلاة .
وقد شذَّ عروة فقال : إن من أطاق الصوم منهم وجب عليه. وهذا مخالف لما عليه جمهور المسلمين ؛ ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ )) ، ولقوله تعالى : {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا كما استأذن}.
وقوله في حديث سلمة بن الأكوع : (( من كان لم يصم فليصم ، ومن كان أكل فليتم صومه إلى الليل )) ؛ ظاهر هذا : جواز إحداث نيه الصوم في أضعاف النهار ، ولا يلزم التبييت .
(9/141)
وقد اختلف في ذلك : فذهب أبو حنيفة ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : إلى جواز ذلك في النفل . وخصَّت طائفة منهم جواز ذلك بما قبل الزوال ؛ منهم : الشافعى في أحد قوليه . وذهب مالك ، وابن أبي ذئب ، والليث ، والمزني : إلى أنه لا يصح صوم إلا بنية من الليل . وذهب الكوفيون : إلى أن كل ما فرض من الصوم في وقت معين ؛ فإنه لا يحتاج إلى تبييت نية ، ويجزئه إذا نواه قبل الزوال . وهو قول الأوزاعي ، وإليه ذهب عبد الملك بن الماجشون ، ورواه عن مالك فيمن لم يعلم برمضان إلا في يومه . وذهب مالك في المشهور عنه ، والشافعي ، وأحمد ، وعامتهم : إلى أن الفرض لا يجزيء إلا بنية من الليل. وهذا هو الصحيح بدليل ما رواه النسائي عن حفصة ، والدارقطني عن عائشة : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل )).
وغاية ما قيل في هذا الحديث : أنه روي موقوفًا . والمسندون له ثقاث . ولا حجة فيما تقدم من ابتداء الصيام في يوم عاشوراء ؛ لأنه كان ذلك في أول الأمر ، وهو منسوخ كما قد تقدم. ولو سلم أنه ليس بمنسوخ ؛ لأمكن أن يقال بموجبه . فإن من تذكر فرض صوم يوم هو فيه ، أو ثبت أنه يوم صومه لزمه إتمام صومه .
وهذا مما لا يختلف فيه ، لكن عليه قضاؤه ؛ إذ الصوم المطلوب منه لم يأت به ؛ فإنه طلب منه صوم يوم كامل ، وهذا بعض يوم . هذا مع ما قد رواه أبو داود من أنه قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فاتموا بقية يومكم واقضوه )) ؛ يعني : عاشوراء .
وقولها : (( ونصنع لهم اللعبة من العهن )). اللعبة : ما يُلعب به . والعهن : الصوف الأحمر. ونلهيهم : نشغلهم . وهذا أمر تفعله النساء بأولادهن ، ولعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعرف بذلك ، وبعيد أن يأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ؛ لأنه تعذيب صغير بعبادة شاقة غير متكررة في السَّنة .
ومن باب النهي عن صيام يوم الفطر ويوم الأضحى
(9/142)
نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صيام يوم الفطر ويوم الأضحى محمول على التحريم عند كافة العلماء ، فلا يجوز الإقدام على صومهما ؛ أي نوع من أنواع الصوم كان ، لا يختلف في ذلك . ثم لا ينعقد صوم إن وقع عند عامتهم غير أبي حنيفة ؛ فإنه ينعقد عنده إذا أوقع .
واختلف فيمن نذرهما ، هل يلزمه قضاؤهما أو لا يلزمه ؟ قولان . وبالأول قال أبو حنيفة وصاحباه ، والشافعى والأوزاعى في أحد قوليهما.
وبالثاني قال مالك ، وزفر . وهو قول الشافعي . وسببه : هل النهي عن صومهما راجع إلى ذات المنهي عنه ، أو إلى وصف فيه ، كما يعرف في الأصول .
وقول عمر : (( يوم فطركم من صيامكم ، ويوم تأكلون فيه من نسككم )) ؛ تنبية على الحكمة التي لأجلها حرم صوم هذين اليومين . أما يوم الفطر : فيتحقق به انقضاء زمان مشروعية الصوم . ويوم النحر : فيه دعوة إلى إجابة دعوة الله التي دعا عباده إليها من تضييفه ، وإكرامه لأهل منى وغيرهم ، بما شرع لهم من ذبح النسك وأكل منها . فمن يصوم هذا اليوم فإنه ردٌّ على الله كرامته . وإلى هذا أشار أبو حنيفة . والجمهور على أنه شرع غير معلل .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يصلح الصيام في يوم الأضحى ويوم الفطر )) ؛ حجة للجمهور على أن الصوم فيهما لا ينعقد .
نبيشة الهذلي : بالنون المضمومة ، والباء الموحدة ، وياء التصغير : كأنه تصغير نبشة ، وهو صحابي معروف ، وهو ابن عم سلمة بن المحبق ، وهو نبيشة بن عمرو بن سلمة الهذلي ، وسماه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : نبيشة الخير.
ووقع في نسخة ابن ماهان : الهذلية ، تخيله امرأة ، وهو وهم ، وليس في الصحابيات من تسمى بهذا الاسم ، وإنما فيهن : نسيبة ، بتقديم السين المهملة .
(9/143)
وقوله : (( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله )) ؛ هذا المساق يدل على أن صومهما ليس محرمًا ؛ كصوم يومي العيدين ؛ إذ لم ينه عنها كما نهى عن صوم يوم العيدين ، ولذلك قال بجواز صومها مطلقًا بعض السَّلف ، ومع أبو حنيفة صومها حتى للمتمتع الذي لا يجد الهدي ، وروي عن الشافعي مثل ذلك. وأجاز مالك والشافعي - في أشهر قوليه- والأوزاعي صومها للمتمتع خاصة ، وهو الصحيح ؛ لما رواه البخاري عن عائشة ، وابن عمر : أنهما قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي .
وفي مذهب مالك خلاف فيمن نذرها ، أو نذر صومًا هي فيه ، هل يصومها أم لا ؟ فإذا لم يصمها ، فهل يلزمه قضاؤها أم لا ؟ كل ذلك مفصل في كتب مذهبه .
وقوله : (( وذكر لله )) ؛ فيه حجة لندبية التكبير في أيام العيد . وسميت أيام التشريق : لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها . وأضافها إلى ((منى )) ؛ لأن الحاج فيها في منى .
وإنما أمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُنادى في الموسم : (( لا يدخل الجنَّة إلا مؤمن )) ؛ ليسمع من لم يحضر خطبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وليسمع من كان هنالك من المنافقين ، حتى يحققوا إيمانهم ، ويجددوا يقينهم .
ومن باب النهي عن اختصاص يوم الجمعة بصوم
قوله : (( لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله ، أو يصوم بعده )) ؛ بظاهر هذا الحديث قال الشافعي وجماعة . وأما مالك فقال في "موطئه" : لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة ، وصيامه حسنٌ ، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه ، وقيل : إنه محمد بن المنكدر .
قال الداودي : لم يبلغ مالكًا هذا الحديث ، ولو بلغه لم يخالفه.
قلت : ومقصود هذا الحديث : ألا يُخص بصوم يعتقد وجوبه ، أو لئلا يلتزم الناس من تعظيمه ما التزمته اليهود في سبتهم ؛ من تركهم الأعمال كلها ، يعظمونه بذلك .
والحديث الثاني نصٌّ في النهي عن خصوصية يوم الجمعة وليلته بصيام وقيام ، فليعمل عليه .
(9/144)
ومن باب نسخ الفدية
قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } ، اختلف في قراءتها ، وفي معناها ، فأما قراءتها : فالجمهور على : { يُطِيقُونَه } بكسر الطاء وسكون الياء ، وأصله : يطوقونه ، وكذلك قراءة حميد .
ومشهور قراءة ابن عباس : { يُطَوَّقُونَه } بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو . وقد روي عنه : { يطَّيَّقُونَه } بفتح الطاء والياء مشددتين .
وقرأت عائشة وطاووس وعمرو بن دينار : { يَطَّوقُونَه }.
فأما قراءة الجمهور فمعناها : يقدرون عليه . وعلى هذا تكون الآية منسوخة كما قال سلمة بن الأكوع ، وابن عمر ، ومعاذ بن جبل ، وعلقمة ، والنخعي ، والحسن ، والشعبي ، وابن شهاب .
وقال السُّدي : هم الذين كانوا يطيقونه وهم بحال الشباب ثم استحالوا بالشيخ فلا يستطيعون الصوم . وهي عنده محكمة ، وتلزم الشيوخ عنده الفدية . ونحوه عن ابن عباس ، وزاد : المريض الذي لا يقدر على الصوم ، وعضد هذا بقراءته المذكورة قبل.
قال القاضي أبو محمد بن عطية : الآية عند مالك ؛ إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من رمضان المتقدم ، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم ، فترك ، فعليه الفدية .
وحكى الطبري عن عكرمة : أنه كان يقرؤها : { وعلى الذين يطيقونه فأفطروا }.
وأما قراءة : { يُطَوَّقُونه } ؛ فمعناه : يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم كالمريض والحامل ؛ فإنهما يقدران عليه ؛ لكن بمشقه تلحق رضيعها ، فذهب بعض الناس : إلى أنها محكمة لهؤلاء ، فإن صاموا أجزأهم ، وإن افتدوا فلهم ذلك ، وقاله ابن عباس فيما حكاه عنه البخاري ، وأبو داود ، ورأيا : أنها ليست بمنسوخة ؛ لكنها مثبتة للشيخ والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان أن يصوما ، وللحامل والمرضع .
(9/145)
و { يُطيّقونه } بالياء مكان الواو مشددة ، مبنيًّا للمفعول ، مثل : ((يَتَطَوَّقُونه )) في المعنى. فأما قراءة عائشة : فأصلها : (( تَتَطَوَّقُونه )) فأُدغمت التاء في الطاء ، ومعناها : يتكففون ذلك بأنفسهم مع المشقة ، ويرجع ذلك لما تقدَّم كالمريض ومن ذكر معه .
فأما قوله تعالى : { فدية طعام مسكين } ، ففدية : مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف ؛ أي : فعليهم فدية ، أو خبر مبتدأ ؛ أي : فحكمهم فدية. وقراءة نافع وابن عامر : { ففديةُ طعامِ مساكين } بإضافة { فدية } إلى { طعام } وجمع { مساكين }. وقرأ هشام : { فديةٌ طعامُ } ، بتنوين { فديةٌ } ورفع { طعامُ } على أن الطعام بدل منها . وقرأ بقية السبعة كذلك ، إلا أنهم وحدوا { مساكين } وهي قراء : حسنة ؛ لأنها بيَّنت : أن الواجب في فطر يوم إطعام مسكين واحد ، فأما الجمع فلا يعرف من مساق الآية هل هم - أعني : المساكين - بإزاء يوم واحد ، أو بإزاء أيام ؟ وإنما يعلم ذلك من دليل آخر .
ثم اختلفوا في مقدار هذا الطعام حيث يجب : فذهب مالك وجماعة من العلماء : إلى أنه مُدٌّ لكل مسكين بمد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد تقدَّم في الزكاة .
وقال أشهب : مُدّ وثلث بمد أهل المدينة . وقال قوم : قوت يوم عشاء وسحور . وقال سفيان الثوري ، وأبو حنيفة : نصف صاع من قمح ، وصاع من تمر أو زبيب .
وقوله : { فمن تطوع خيرًا فهو خير له } ؛ أي : من تطوع بزيادة على إطعام مسكين ، قاله ابن عباس وجماعة . وقال ابن شهاب : من أراد الإطعام مع الصوم . وقال مجاهد : من زاد في الإطعام على المد.
و { خير } الأول والثاني بمعنى : أَخْيَر ، وأفضل ، معناه : من تطوَّع بأكثر من ذلك فهو أفضل عند الله تعالى .
وقوله : { وأن تصوموا خير لكم } ؛ أي : الصوم خير . وكذلك قرأها أُبَيّ . ومعناه : أن الصوم أفضل وأولى من الفدية .
(9/146)
وقول سلمة بن الأكوع : إن ذلك نسخ بقوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ، هذا مقبول من قول الصحابي ؛ لأنه أعلم بالمقال ، وأقعد بالحال ، كما إذا قال : أمر ونهى . ووجه النسخ في هذا واضح ؛ وهو : أن آية الفدية تقتضي التخيير بين الفدية والصوم مطلقًا ، كما قال سلمة . وهذه الآية الأخرى جاءت جازمة بالصوم لمن شهد الشهر ، رافعة لذلك التخيير .
ومعنى : شهد الشهر ؛ أي : حضر فيه مقيمًا في المصر . هذا قول جمهور العلماء ، وعلى هذا يكون { الشهر } منصوبًا على الظرف ، ويكون معناه عندهم : أن من دخل عليه الشهر وهو مسافر ، أو طرأ عليه فيه سفر ؛ لم يجب عليه صومه .
وروي عن عليّ ، وابن عباس ، وعبيدة السلماني : أن معنى {من شهد} : من حضر دخول الشهر ، وكان مقيمًا في أوله فليكمل صيامه ، سافر بعد ذلك أو أقام ؛ وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في السفر .
قلت : وهذا القول يردّه فطر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه في السَّفر الطارئ عليهم بفتح مكة ، على ما تقدَّم . وقد كانوا ابتدؤوا الصوم في الحضر . وقال أبو حنيفة : من شهد الشهر بشروط التكليف فليصمه ، ومن دخل عليه وهو مجنون ، وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه ؛ لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام . ومن جُنَّ أول الشهر ، أو آخره ؛ فإنه يقضي أيام جنونه .
قال القاضي أبو محمد بن عطية : ونصب الشهر على هذا التأويل على المفعول الصريح : يشهد .
قلت : وتكميله أن يكون { شهد } بمعنى : شاهد .
وقول عائشة رضي الله عنها : (( أنها يكون عليها الصوم فما تستطيع أن تقضيه حتى يأتي شعبان )) ؛ فيه حجة على أن قضاء رمضان ليس على الفور ؛ خلافًا لداود في إيجابه إياه ثاني شوال ، ومن لم يصمه كذلك فهو آثم عنده . وهذا الذي صار إليه دارد خلافًا لما يفهم من هذا الحديث ومن قوله تعالى : { فعدة من أيام أخر } ؛ فإنه لم يعينها ، ولا قيدها بقيدٍ ، فتعيينها تحكم بغير دليل .
(9/147)
وحديث عائشة هذا وإن لم تصرح فيه برفعه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يعلم : أنه لا يخفى مثله عنه ، ولا أن أزواجه ينفردن بآرائهن في مثل هذا الأمر المهم الضروري ، فالظاهر : أن ذلك عن إذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسويفه لهن ذلك . فوقت قضائه على هذا : من شوال إلى شعبان . وهو قول مالك ، والشافعي . فله أن يوقعه في أي وقت من أوقات المدة المذكورة شاء . وحيئنذ يأثم مؤخره عن شعبان لتفريطه .
ثم هل تلزمه كفارة لذلك ، أم لا تلزمه ؟ فالأول قول مالك ، والشافعي ، ومعظمهم . وقال به ابن عباس ، وعائشة. وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، وداود : إلى أنه لا كفارة عليه .
ثم اختلف أصحابنا فيما به يكون مفرطًا : فمعظم الشيوخ على أنه لا يكون مفرطًا إلا بترك القضاء عند خروج مقدار ما عليه من أيام الصوم من شعبان . ولو صح من سنته ، ثم جاءه ما منعه حتى دخل عليه رمضان ؛ لم تلزمه الكفارة .
وقال بعضهم : إنه تراعى صحته ، وإقامته من أول عامه ، فمن صح من شوال فما بعده مدة يمكنه فيه قضاة ما عليه فلم يفعل حتى جاءه ما منعه حتى دخل عليه رمضان ؛ فقد لزمته الكفارة. ونحوه في "المدونة".
قلت : والقول الأول جاء على القياس في التوسيع لوقت الصلاة ؛ فإنه لو صح في أول وقت الصلاة ، ثم اغمي عليه مثلاً حتى خرج الوقت ؛ أعني : وقت الضرورة عند أصحابنا لم يلزمه قضاء ، وعلى ذلك القياس : لو مات في أثناء السنة لم يقضِ . وقد حكى أبو حامد : إجماع السَّلف على ذلك القياس في الصلاة ، اللهم إلا أن يخاف الفوت لحضور سببه ؛ فيتعتن الفعل إذ ذاك ، فإن أخره أثم .
وأما القول الثاني : فإنما يتمشى على مذهب من يقول : إنه مُوسَّعٌ بشرط سلامة العاقبة ، كما يقوله الكرخي . ولا نعلم أحدًا من أصحابنا قال به ، كير أن هذا الفرع يقتضي مراعاة ذلك الأصل ، والله أعلم .
(9/148)
ثم اختُلف في قضاء رمضان : هل من شرطه التتابع ؛ وبه قال جماعة من الصحابة ، والتابعين ، وأهل الظاهر . أو ليس من شرطه ذلك . وهو مروي أيضًا عن جماعة من الصحابة ، والتابعين ، وكافة علماء الأمصار متمسكين بإطلاق قوله تعالى : { فعدة من أيام أخر } ، والتقييد لابُدَّ فيه من دليل ، ولا حجة في قراءة عبدالله { متتابعات } ؛ إذ ليست تلك الزيادة بقرآءة متواتر ، ولا مرفوعة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلا يعمل بها ، وليست محمولة على أنها من تفسير ابن مسعود لرأي رآه . والله تعالى أعلم .
وقولها : (( الشغل من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولمكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ، وفي الرواية الثالثة : (( فما نقدر أن نقضيه مع رسول الله )) ؛ كل هذه الألفاظ محوِّمَةٌ على أن مراعاة حقوق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أزواجه كانت الموجبة لتأخير قضاء رمضان إلى شعبان .
ويفيد أن تأخير القضاء إلى شعبان مسوغ ، وأن المبادرة به أولى ، وأن ذلك التأخير كان عن إذنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وارتفع (( الشغل )) في الرواية الأولى على أنه فاعل بفعل مضمر ، دلَّ عليه المساق ؛ كأنها قالت : منعني الشغل .
وظاهر مساق الألفاظ : أنها من قول عائشة ، وخصوصًا : في الرواية الثالثة ، فإن ذلك نصٌّ ؛ غير أن البخاري ذكر الرواية الأولى ، ثم قال : (( قال يحيى : الشغل برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )). فقال لذلك بعض علمائنا : إن ذلك القول في الرواية الأولى ليس من قول عائشة ، وإنما هو من قول غيرها ، وسكت عنه .
قلت : وَهَبْكَ أن الرواية الأولى قابلة للاحتمال ، لكن الثالثة لا تقبل شيئًامن ذلك ، فتأملها .
وقولها : (( إن كانت إحدانا لتفطر في زمن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ يفيد هذا اللفظ : أن التأخير لأجل الشغل لم يكن لها وحدها ، بل لها ولغيرها من أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(9/149)
وقولها : (( فما نقدر على أن نقضيه مع رسول الله )) ؛ يعني : أنها كانت تتوقع حاجته إليها على الدوام . فإن قيل : وكيف لا تقدر على الصوم لحقه فيها وقد كان له تسع نسوة ، وكان يقسم بينهن ، فلا تصل التوبة لإحداهن إلا بعد ثمان ، فكان يمكنها أن تصوم في هذه الأيام التي يكون فيها عند غيرها ؟
فالجواب : أن القسم لم يكن عليه واجبًا لهن ، وإنما كان يفعله بحكم تطييب قلوبهن ، ودفعًا لما يتوقع من الشرور ، وفساد القلوب . ألا ترى قول الله تعالى : { ترجي من تشاء منهن وتوؤي أليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } ، فلما علم نساؤه هذا - أو من سألته منهن - كن يتهيأن له دائمًا ، ويتوقعن حاجته إليهن في أكثر الأوقات ، والله تعالى أعلم .
ويستفاد من هذا : أن المرأة لا تصوم القضاء وزوجها شاهد إلا بإذنه ، إلا أن تخاف الفوات ، فيتعين ، وترتفع التوسعة .
وقد قال بعض شيوخنا : لها أن تصوم القضاء بغير إذنه ؛ لأنه واجب ؛ وإنما محمل الحديث المقتضي لنهيها عن الصوم إلا بإذنه على التطوع . فأما الواجبات فلا يحتاج فيها إلى إذن واحد .
ومن باب قضاء الصوم عن الميت
قوله : (( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )) ؛ بظاهره قال جماعة منهم : إسحاق ، وأبو ثور ، وأهل الظاهر . وقال به أحمد ، والليث ، وأبو عبيد إلا أنهم خصصوه بالنذر . وروي مثله عن الشافعي رحه الله ورحمهم . وأما قضاء رمضان فإنه يطعم عنه من رأس ماله ، ولا يصام عنه ، وهو قول جماعة من العلماء . ومالك لا يوجب عليه إطعامًا إلا أن يوصي به فيكون من الثلث كالوصايا . وأجمع المسلمون بغير خلاف : أنه لا يصلي أحدٌ عن أحدٍ في حياته ولا موته ، وأجمعوا : على أنه لا يصوم أحدٌ عن أحدٍ في حياته ؛ وإنما الخلاف في ذلك بعد موته ، وإنما لم يقل مالك بالخبر لأمرين :
أحدها : أنه لم يجد عملهم عليه .
وثانيها : أنه اختلف واضطرب في إسناده .
(9/150)
وثالثها : أنه رواه أبو بكير البزار ، وقال في آخره : (( لمن شاء )). وهذا يرفع الوجوب الذي قالوا به .
ورابعها : أنه معارض بقوله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزروا وازرة وزر أخرى} ، ولقوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }.
وخامسها : أنه معارض بما خرَّجه النسائي عن ابن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( لا يصلي أحدٌ عن أحد ، ولا يصوم أحدٌ عن أحدٍ ، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مُدًّا من حنطة )).
وسادسًا : أنه معارض للقياس الجلي ، وهو : أنه عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها ؛ فلا تفعل عمن وجبت عليه ، كالصلاة . ولا ينقض هذا بالحج ؛ لأن للمال فيه مدخلاً .
وقوله : (( لو كان على أمك دين كنت قاضيه ؟ )) مشعر : بأن ذلك على الندب لمن طاعت به نفسه ؛ لأنه لا يجب على ولي الميت أن يؤدي من ماله عن الميت دينًا بالاتفاق ، لكن من تبرع به انتفع به الميت ، وبرئت ذمته ، ويمكن أن يقال : إن مقصود الشرع : أن ولي الميت إذا عمل العمل بنفسه من صوم ، أو حج ، أو عمره ، فصيَّره للميت انتفع به الميت ، ووصل إليه ثوابه . ويعتضد ذلك : بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شبَّه قضاء الصوم عن الميت بقضاء الدَّين عنه ، والدَّين إنما يقضيه الإنسان عن غيره من مال حصَّله لنفسه ، ثم بعد ذلك يقضيه عن غيره ، أو يهبه له .
وقوله : (( وجب أجرك )) ؛ أي : في الصدقة ، (( وردَّها )) ؛ أي : إلى ملكك ، وهذا لأن ملك الميراث جبري ، بخلاف غيره من جميع التمليكات ، ولذلك جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المشتري لصدقته كالعائد فيها. وسيأتي الكلام على قوله : (( حجي عنها )) في الحج .
ومن باب فضل الصيام
قوله : (( كل عمل ابن آدم له الا الصيام فإنه لي )) ؛ اختلف في معنى هذا على أقوال :
أحدها : أن أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها ، فيكون لهم ، إلا الصيام فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص ؛ لأن حال الممسك شبعًا ، كحال الممسك تقربًا ، وارتضاه ا لمازري .
(10/1)
وثانيها : أن أعمال بني آدم كلها لهم فيها حظٌّ إلا الصيام فإنهم لا حظّ لهم فيه ؛ قاله الخطابى .
وثالثها : أن أعمالهم هي أوصافهم ، ومناسبة لأحوالهم إلا الصيام ؛ فإنه استغناء عن الطعام ، وذلك من خواص أوصاف الحق سبحانه وتعالى.
ورابعها : أن أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفًا ، كما قال : (( بيني )) و(( عبادي )).
وخامسها : أن أعمالهم يقتص منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام فإنه لله تعالى ، ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذ منه شيئًا . قاله ابن العربي . وقد كنت استحسنه إلى أن فكرت في حديث المقاضة ، فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للآخذ منها ، فإنه قال فيه : (( هل تدرون من المفلس ؟ )) قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : (( المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا ، وسفك دم هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسنائه قبل أن يُقْضَى ما عليه ؛ أُخِذ من سيئاتهم فطرح عليه ، ثم طرح في النار )). وهذا يدلُّ على أن الصوم يؤخذ كسائر الأعمال .
وسادسها : أن الأعمال كلَّها ظاهرة للملائكة ، فتكتبها إلا الصوم ، وإنما هو نية وإمساك ، فالله تعالى يعلمه ، ويتولى جزاءه ؛ قاله أبو عبيد .
(10/2)
وسابعها : أن الأعمال قد كشفت لبني آدم مقادير ثوابها ، وتضعيفها إلا الصيام فإن الله تعالى يثيب عليه بغير تقدير ، ويشهد لهذا مساق الرواية الأخرى التي فيها : (( كل عمل ابن آدم يضاعف ؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله : إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به )) ؛ يعني - والله تعالى أعلم- : أنه يجازي عليه جزاء كثيرًا من غير أن يعين مقداره ، ولا تضعيفه ، وهذا كما قال الله تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } ، وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين . وهذا ظاهر قول الحسن ، غير أنه قد تقدَّم ، ويأتي في غير ما حديث : أن صوم اليوم بعشر ، وأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وصيام رمضان صيام الدهر . وهذه نصوص في إظهار التضعيف ، فَبَعُدَ هذا الوجة ، بل بطل .
والأولى حمل الحديث على أحد الأوجه الخمسة المتقدمة ؛ فإنها أبعد عن الاعتراضات الواقعة ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( يذر شهوته وطعامه من أجلي )) ؛ تنبية على الجهة التي بها يستحق الصوم أن يكون كذلك ، وهو الإخلاص الخاص به ، كما قدمناه في الوجه الأول .
وقوله : (( الصيام جنَّة )) ، مادة هذه اللفظة التي هي : الجيم والنون كيف معنى ما دارت صورها بمعنى : الفترة ؛ كالجن ، والجنّة ، والجنون ، والمجن ؛ فمعناه : أن الصوم سترة ، فيصح أن يكون (( جُنَّة )) بحسب مشروعيته ؛ أي : ينبغي للصائم أن يعريه مما يفسده ، ومما ينقص ثوابه ؛ كمناقضات الصيام ، ومعاصي اللسان . وإلى هذه الأمور وقعت الإشارة بقوله : (( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ، ولا يسخب ...)) الخ ، ويصح أن يسمى : (( جُنَّة )) بحسب فائدته ، وهو إضعاف شهوات النفس ، وإليه الإشارة بقوله : (( ويذر شهوته وطعامه من أجلي )). ويصح أن يكون بحسب ثوابه . وإليه التصريح بقوله : (( من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجه عن النار سبعين خريفًا )) .
(10/3)
وقوله : (( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب )) ، لا يفهم من هذا الشرط : أن غير يوم الصيام تباح فيه الرفث والسخب ، فإنهما ممنوعان على الإطلاق ، وإنما تأكد منعهما بالنسبة إلى الصوم .
والرفث : الفحش من الكلام ، والسخب منه . يقال : (( رَفَثَ )) بفتح الفاء ، (( يَرْفُث )) ، بضمها ، وكسرها . و(( رَفِثَ )) بكسرها في الماضي ((يَرْفَث )) بفتحها في المستقبل (( رَفْثًا )) بسكونها في المصدر ، وفتحها في الاسم . ويقال : (( أَرْفَث )) أيضأ ، وهي قليلة .
و (( السَّخب )) : اختلاط الأصوات ، وكثرتها ، ورفعها بغير الصواب. يقال : بالسين والصاد. وعند الطبري : مكان : (( لا يسخب )) (( لا يسخر )) ؛ يعني : السخرية بالناس ، والأول هو المعروف .
والجهل في الصوم : هو العمل فيه على خلاف ما يقتضيه العلم . وقد روى النسائي من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( من لم يدع قول الزور ، والعمل به ، والجهل في الصوم ، فليس لله حاجة في ترك طعامه وشرابه )).
وقوله : (( فإن أحد سابَّه أو قاتله فليقل : إني صائم )) ؛ المسابه والمقاتلة مما لا يكون إلا من اثنين غالبًا ، ولم تقع هنا إلا من أحدهما ، لكنه لما عَرَّضَ أحدهما الآخر لذلك صدق اللفظ عليهما .
وظاهره : أن الصائم يقول ذلك القول المأمور به للساب ليسمعه ، وليعلمه اعتصامه بالصوم ، فينكف عن سبه . ويحتمل أن يراد أنه يقول ذلك لنفسه تذكرًا لها بذلك ، وزاجرًا عن السباب .
واختلف إذا سَبَّ الصائم أحدًا ، أو اغتابه : فالجمهور على أن ذلك ليس بمفسد للصوم . وذهب الأوزاعي : إلى أن ذلك مفطرٌ مُفسدٌ . وبه قال الحسن فيما أحسب .
وقوله : (( لَخُلُوف فم الصائم )) ، هكذا الرواية الصحيحة ؛ بضم الخاء ، ومن لا يحقق بقوله بفتح الخاء . قال الخطابي : هو خطأ . قال الهروي : خلف فوه : إذا تغير ، يخلف خلوفًا . ومنه : حديث علي
وسُئل عن قبلة الصائم فقال : (( وما أَرَبُكَ إلى خلوف فيها )).
(10/4)
ويقال : نومة الضحى مخلفة للفم ؛ أي : مغيرة . قال صاحب "الأفعال" : خلف فوه ، وأخلف .
وقد أخذ الشافعي من هذا الحديث منع الصائم من السِّواك من بعد الزوال. قال : لأن ذلك الوقت مبدأ الخلوف ، قال : والسواك يذهبه . وربما نظم بعض الشافعية في هذا قياسًا ، فقال : أثر عبادة فلا يُزَال كدم الشهيد .
وهذا القياس ترد عليه أسئلة من جملتها ؛ القول بموجبه ، ومع أن السِّواك يزيل الخلوت ، فإنه من المعدة والحلق ، لا من محل السِّواك ، وحينئذ لا يلزم شيء من ذلك . وقد أجاز كافة العلماء للصائم أن يتسوَّك بسواك لا طعم له ، في أي أوقات النهار شاء .
وقوله : (( أطيب عند الله من ريح المسك )) ؛ لا يتوهم : أن الله تعالى يستطيب الروائح ، ويستلذها ، كما يقع لنا من اللذة ، والاستطابة ؛ إذ ذاك من صفات افتقارنا ، واستكمال نقصنا ، وهو الغني بذاته ، الكامل بجلاله وتقدسه. على أنا نقول : إن الله تعالى يدرك المدركات ، ويبصر المبصرات ، ويسمع المسموعات على الوجه اللائق بجماله وكماله وتقدسه عن شبه مخلوقاته ، وإنما معنى هذه الأطيبية عند الله تعالى راجعة إلى أن الله تعالى يثيب على خلوف فم الصائم ثوابًا أكثر مما يثيب على استعمال روائح المسك ، حيث ندب الشرع إلى استعماله فيها ، كالجمع والأعياد وغير ذلك . ويحتمل أن يكون ذلك في حق الملائكة ، فيستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك.
وقوله : (( وللصائم فرحتان : إذا أفطر فرح بفطره )) ؛ أي : فرح بزوال جوعه وعطشه حين أبيح له الفطر . وهذا الفرح طبيعي ، وهو السابق للفهم . وقيل : إن فرحه بفطره ؛ إنما هو من حيث إنه تمام صومه ، وخاتمة عبادته ، وتحقيق ربّه ومعونته على مستقبل صومه.
وأما قوله : (( وإذا لقي ربه فرح بصومه )) ؛ أي : بجزاء صومه وثوابه.
(10/5)
وقوله : (( إن في الجنة بابًا يقال له : الرَّيَّان )) ، وزن الرَّيَّان : فعلان ، وهو الكثير الرِّيّ ، الذي هو نقيض العطش . وسثمِّي هذا الباب بهذا الاسم : لأنه جزاء الصائمين على عطشهم وجوعهم ، واكتفى بذكر الرِّي عن الشبع لأنه يدل عليه من حيث إنه يستلزمه .
وقوله : (( من صام يومًا في سبيل الله )) ؛ أي : في طاعة الله ؛ يعني بذلك : قاصدًا به وجه الله تعالى . وقد قيل فيه : إنه الجهاد في سبيل الله.
وقوله : (( سبعين خريفًا )) ؛ أي : سنَّة ، وهو على جهة المبالغة في البُعد عن النار ، وكثيرًا ما تجيء (( السبعون)) عبارة عن التكثير ، كما قال تعالى : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم }.
و (( الخريف )) : فعيل بمعنى : مفتعل ؛ أي : مخترف . وهو الزمان الذي تخترف فيه الثمار .
ومن باب من أصبح صائمًا متطوّعًا ثم يفطر
قوله - وقد سأل - : (( هل عندهم طعام ؟ فقيل : لا ، فقال : إني صائم )) ؛ حجة لمن قال : إن صوم التطوع يصح بغير نية تُبَيَّت ، كما قدمنا الخلاف فيه ، ولا حجة فيه ؛ إذ يحتمل أن سؤاله أولا : هل عندهم شيء ؛ كان لضعفه عن الصوم فاحتاج إلى الفطر ، فسأل ، فلما لم يجد بقي على ما قدَّم من صومه ، أو سأل عن ذلك وهو صائم ليعلم هل عندهم ما يحتاج إليه عند إفطاره فتسكن نفسه إليه ، فلا يحتاج إلى تكلف اكتسابه ، ويحتمل أن يكون قوله : (( أنا صائم )) ؛ أي : لم آكل بعد شيئًا ، فيكون صائمًا لغة .
والزُّور والزُوَّار ، قال ابن دريد : وهو ما يكون الواحد والجماعة فيه سواء . وقيل : الزور : المصدر ، وبه سُمي الواحد والاثنان والجميع ، كما قالوا : رجل صوم وقوم صوم وعدل ، ونحوه للخطابي .
و (( الحيس )) قال فيه الهروي : هو ثريد من أخلاط . قال ابن دريد : هو التمر مع الأقط والسَّمن . قال الشاعر :
التمرُ والسَّمنُ جميعًا والأَقِطْ الْحَيْسُ إلا أنه لم يختلط
(10/6)
وقولها في هذه الرواية : (( فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأهديت لنا هدية )) ؛ ظاهره : أن هذا وما قبله كان في يوم واحد ، وليس كذلك ، بدليل : ما جاء في الرواية الأخرى الآتية : (( ثم أتانا يومًا آخر )) ، وذكر نحوه .
وقوله : (( قد كنت أصبحت صائمًا ، فأكل )) ؛ ححة لمن قال : إن صائم النافلة يجوزأن يفطر فيه ، وأن يخرج منه . وهو قول الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق مع جماعة من الصحابة ، مع استحبابهم له إتمامه من غير وجوب . ومنعه ابن عمر وقال : هو كاللاعب بدينه . وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، والحسن ، والنخعي ، ومكحول ، وألزموه إتمامه إذا دخل فيه . فإن أفطر متعمدًا قضاه على مذهب الملزمين لإتمامه . فلو أفطر ناسيًا ، أو مغلوبًا ، أو لعذر لم يلزم القضاء ، وأسقط أبو حنيفة القضاء عن الناسي خاصة ، وأوجبه عليه ابن عُلَيَّه . وحكى ابن عبد البر : الإجماع على أن المفطر فيه لعذر لا قضاء عليه ؛ وكأنه لم يقع على ما ذكر عن ابن عُلَيْة ، فإنه خلاف شاذ . ومحمل الحديث عند هؤلاء على أنه يكن كان مجهودًا .
ومما يستدل به لمالك ومن قال بقوله : حديث النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : أصبحت صائمة أنا وحفصة ، فأُهدي لنا طعام فأعجبنا ، فأفطرنا ، فدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبدرتني حفصة فسألته ، فقال : ((صوما يومًا مكانه )).
وقول مجاهد : ذلك بمنزلة رَجُل يخرج الصدقة من ماله ، فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها ، ليس بصحيح ، فإن الذي يخرج الصدقة من ماله ولم يعطها للفقير ، ولم يعينها ، لم يدخل في عمل يجب إتمامه ، بخلاف الصائم ؛ فإنه قد دخل في عمل الصوم ، وقد تناوله نهي قوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم} ؛ وإنما يدخل في عمل الصدقة بدفعها لمستحقها ، أو بتعيينها ، وحينئذ تجب للفقير ، ويحرم على مخرجها الرجوع فيها ، وأخذها منه ، فأما قبل ذلك فغاية ما عنده نية الصدقة ؛ لا الدخول فيها ، فافترق الفرع من الأصل ، ففسد القياس .
(10/7)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من نسي وهو صائم ، فأكل أو شرب فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه )) ؛ احتج به من أسقط القضاء عمن أفطر ناسيًا في رمضان . وهو الشافعي وغيره . وخالفهم في ذلك مالك وغيره ، ولهؤلاء أن يقولوا بموجب ذلك إذ لم يتعرض فيه للقضاء ، بل الذي تعرض له : سقوط المؤاخذة عمن أفطر ناسيًا . والأمر بمضيه على صومه وإتمامه . وهم يقولون بكل ذلك . فأما القضاء فلا بدَّ له منه إذ المطلوب صيام يوم تام لا يقع فيه خرم ، ولم يأت به ، فهو باق عليه ، هذا عذر أصحابنا عن هذا الحديث الذي جاء بنص كتاب مسلم ، وفي كتاب الدارقطني لهذا الحديث مساقٌ أنصّ من هذا عن أبي هريرة مرفوعًا قال : (( إذا أكل الصائم ناسيًا أو شرب ناسيًا ، فإنما هو رزق ساقه الله إليه ، ولا قضاء عليه )). قال الدارقطني في إسناده : إسناد صحيح ، وكلهم ثقات . وفي طريق آخر : (( من أفطر في شهر رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ، ولا كفارة )) ، وهو صحيح أيضًا .
وهذه النصوص لا تقبل ذلك الاحتمال. والشأن في صحتها ، فإن صحّت وجب الأخذ بها ، وحكم بسقوط القضاء .
وقوله : (( فإنما أطعمه الله تعالى وسقاه )) ؛ يعني : أنَّه لما أفطر ناسيًا لم ينسب إليه من ذلك الفطر شيء ، وتمحضت نسبة الإطعام والسقي إلى الله تعالى ؛ إذ هو فعله ، ولذلك قال في بعض رواياته : فإنما هو رزق ساقه الله إليه .
ومن باب كيف صوم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للتطوُّع
سؤال شقيق لعائشة إنما كان عن زمن صوم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعن مقداره ، ولذلك أجابته بهما ، فقالت : (( كان يصوم حتى نقول : قد صام ، قد صام ، ويفطر حتى نقول : قد أفطر ، قد أفطر )) ؛ ومعنى هذا : أنه كان يصوم متطوِّعًا ، فيكثر ، ويوالي حتى تتحدَّث نساؤه وخاصته بصومه ، ويفطر كذلك . ومثل هذا : حديث ابن عبَّاس : كان يصوم حتى يقول القائل : لا يفطر ، ويفطر حتى يقول القائل : لا يصوم .
(10/8)
وبمثل هذا أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نفسه ، فقال : (( بل أصوم وأفطر ، وأقوم ، وأنام ، فمن رغب عن سنتي فليس مني .
وقولها : (( كان يصوم شعبان كله ، كان يصوم شعبان إلا قليلاً )). قيل : إن الكلام الأول يفسير الثاني ، ويخصصه ، وحينئذ يوافق قولها هذا مع قولها : (( ما رأيته أكثر صومًا منه في شعبان )). وكذلك قال ابن عبَّاس : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما صام شهرًا غير رمضان . وقيل : معنى ذلك : أنه كان يصومه مرة كله ، ومرة ينقص منه لئلا يتوهم وجوبه .
وقيل في قولها : كان يصوم شعبان كله )) ؛ أي : يصوم في أوله ، ووسطه ، وآخره . ولا يخص شيئًا منه ، ولا يعمُّه بصيام . وهذا أبعدها . وقد مضى القول على ما تضمنه أكثر هذا الحديث .
ومن باب كراهية سرد الصوم
حديث عبد الله بن عمرو اشتهر وكثر رواته ، فكثر اختلافه حتى ظن من لا بصيرة عنده : أنه مضطرب . وليس كذلك ؛ فإنه إذا تتتع اختلافه ، وضم بعضه إلى بعض انتظمت صورته ، وتناسب مساقه ؛ إذ ليس فيه اختلاف تناقض ، ولا تهاتر ، بل يرجع اختلافه إلى أن ذكر بعضهم ما سكت عنه غيره ، وفضل بعض ما أجمله غيره . وسنشير إلى بعضه إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( ألم أُخْبَر أنك تصوم ولا تفطر ، وتصلي ... )) ؛ هذا إنما فعله عبدالله بعد أن التزمه بقوله : (( لأصومن النهار ، ولأقومن الليل ما عشث )) ؛ كما جاء في الرواية الأخرى ، فبلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فحكى بعض الرواة الفعل ، وحكى بعضهم القول .
وقوله : (( لا تفعل )) ؛ نهي عن الاستمرار في يخغل ما التزمه لأجل ما يؤدي إليه من المفسدة التي نبه عليها بقوله : (( فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عيناك )) ؛ قال المفسرون : أي : غارتا ودخلتا .
(10/9)
قلت : وتحقيقه : هجمت على الضرر دفعة واحدة . فإن الهجم هو : أخذ الشيء بسرعة بغتة . ويحتمل أن يكون معناه : هجمت العين عليه بغلبة النوم لكثرة السَّهر السابق ، فينقطع عما التزم ، فيدخل في ذمّ من ابتدع رهبانية ولم يرعها ، وكما قال له : (( يا عبدالله ! لا تكن مثل فلان ؛ كان يقوم الليل ، فترك قيام الليل )).
وقوله : (( ونقهت نفسك )) ؛ أي : أعيت ، وضعفت عن القيام بذلك ، كما قال في لفظ آخر : (( نهكت نفسك )).
وقوله : (( فإن لعينك حظًّا ، ولنفسك حظًّا )) ؛ أي : من الرفق بهما ، ومراعاة حقهما ، وقد سمي في الرواية الأخرى : الحظ : (( حقأ )) ؛ إذ هو بمعناه ، وزاد : (( فإن لزوجك عليك حقًّا ، ولزورك عليك حقًّا )) ، وفي لفظ آخر : (( ولأهلك )) مكان (( ولزوجك )).
وأما حق الزوجة فهو في الوطء ، وذلك إذا سرد الصوم ، ووالى القيام بالليل منعها بذلك حقها منه .
وأما حق الزور - وهو الزائر والضيف - فهو : القيام بإكرامه ، وخدمته ، وتأنيسه بالأكل معه .
وأما الأهل فيعني به هنا : الأولاد ، والقرابة . وحقهم : هو في الرفق بهم ، والإنفاق عليهم ، ومؤاكلتهم ، وتأنيسهم . وملازمة ما التزم من سرد الصوم ، وقيام الليل يؤدي إلى امتناع تلك الحقوق كلها .
ويفيد : أن الحقوق إذا تعارضت قام الأولى .
وقوله : (( صم من كل عشرة يومًا )) ؛ هذا في المعنى موافق للرواية التي قال فيها : (( صم من كل شهر ثلاثة أيام ، فإن الحسنة بعشر أمثالها )) ؛ وكذلك قوله في الرواية الأخرى : (( صم يومًا ولك أجر ما بقي )) ، على ما يأتي . وهذا الاختلاف وشبهه من باب النقل بالمعنى .
(10/10)
وقوله : (( فصم صوم داود )) ؛ هكذا جاء في هذه الرواية ، سكت فيها عن المراتب التي ثبتت في الرواية الآتية بعد هذا ، وذلك أن فيها نقلة من صيام ثلاثة أيام في الشهر إلى أربعة فيها ، ومنها إلى صوم يومين وإفطار يومين ، ثم منها إلى صوم يوم وإفطار يوم . وهذا محمول على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دَرَّجَه في هذه المراتب هكذا ، لكن بعض الرواة سكت عن ذكر بعض المراتب إما نسيانًا ، أو اقتصارًا على قدر ما يحتاج إليه في ذلك الوقت ، ثم في وقت آخر ذكر الحديث بكماله .
وقوله : (( فصم صوم داود ؛ فإنه كان أعبد الناس )) ؛ إنما أحاله على صوم داود ، ووصفه : بأنه كان أعبد الناس لقوله تعالى : { واذكر عَبْدَنَا داود ذا الأيد إنه أواب } ، قال ابن عباس : (( الأيد )) هنا : القوة على العبادة. و(( الأوَّاب )) : الرجَّاع إلى الله تعالى وإلى عبادته ، وتسبيحه.
وقوله : (( ولا يفرُّ إذا لاقى )) ؛ تنبيه على أن صوم يوم ، وإفطار يوم لا يضعف ملتزمه ، بل يحفظ قوته ، ويجد من الصوم مشقته كما قدمناه ، وذلك بخلاف سرد الصوم فإنه ينهك البدن والقوة ، ويزيل روح الصوم ؛ لأنه يعتاده ، فلا يبالي به ، ولا يجد له معنى .
وقول عبدالله بن عمرو : (( من لي بهذه )) ؛ إشارة إلى استبعاد عدم الفرار ، وتمني أن لو كانت له تلك القوة . ومعنى قوله : (( من لي بهذا الشيء )) ؛ أي : من يتكفل لي به ، أو من يحصله لي .
وقول عطاء : (( فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد )). وهو شكٌّ عرض للراوي ، ثم قال بعد أن عرض له ذلك الشك : (( لا صام من صام الأبد )) ، فأتى بصوم الأبد على هذا اللفظ من غير شك ولا تردد ، بل حقق نقله ، وحرر لفظه.
وأما الذي تقدم في حديث أبي قتادة : فإنه شك في(@) أي اللفظين قال ، فذكرهما ، فقال فيه : قال : يا رسول الله! كيف من يصوم الدهر ؟! قال : (( لا صام ، ولا أفطر )) ، أو : (( لم يصم ، ولم يفطر )). وقد تقدم القول في صوم الدهر .
(10/11)
و (( الأبد )) : من أسماء الدهر . والمراد به هنا : سرد الصوم دائمًا ، والله تعالى أعلم .
وقوله في صوم داود : (( هو أعدل الصيام )) ؛ من جهة حفظ القوة ، ووجدان صوم مشقة العبادة ، وإذا كان أعدل في نفسه فهو عند الله أفضل وأحب ، ولا صوم فوقه أعدل في الفضل ، كما جاءت هذه الألفاظ ، وهي كلها متقاربة في مدلولها ، وهو بلا شك نقل بالمعنى . ومضمون هذه الألفاظ : أن هذا الصوم أعدل في نفسه وأكثر في ثوابه .
وقوله : (( لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام أحب إلى من أهلي )) ؛ هذا إنما قاله عبدالله لما انتهى من العمر إلى الكبر ، الذي كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أخبره به بقوله : (( إنك لا تدري لعل يطول بك عمر )) ؛ قال : فصرت للذي قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قال : فلما كبرث وددت أني كنت قبلت رخصة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وهذا من عبدالله يدل على أنه كان قد التزم الأفضل مما نقله إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأكثر ؛ إما بحكم التزامه الأول إذ قال : (( لأصومن الدهر ، ولأقومن الليل ما عشت )) ، وإما بحكم أنه هو الحال الذي فارق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه ، وكره أن ينقص من عمل فارق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه ، فلم ير أن يرجع عنه وإن كان قد ضعف عنه ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( اقرأ القرآن في كل شهر )) ، ثم قال بعد ذلك : (( فاقرأه في كل عشرين )) ، ثم قال : (( فاقرأه في كل سبع )) ؛ هكذا في أكثر روايات مسلم. ووقع في كتاب ابن أبي جعفر ، وابن عيسى زيادة : (( قال : فاقرأه في عشر )) ، وبعد ذلك قال له : (( اقرأه في سبع )). ومقصود هذه الرواية بيان تجزئة القرآن على ليالي الشهر بالنسبة إلى التخفيف والتثقيل . فالمخفف يقرؤه في كل شهر ؛ لا أقل من ذلك ، والمثقل لا يزيد على سبع ؛ كما قد نهاه عنه ، ولم يتعرض الراوي في هذه الرواية لبيان مقدار زمان القيام من الليل ، وقد بينه راو آخر في الرواية التي قال فيها : ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، كان يرقد شطر الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه )).
(10/12)
وقوله : (( فاقرأه في سبع ولا تزد )) ؛ ذهب إلى منع الزيادة على السبع كثير من العلماء . واختار بعضهم قراءته في ثمان ، وكان بعضهم يختم في خمس ، وآخر في ست ، وبعضهم يختم في كل ليلة . وكأن من لم يمنع الزيادة على السبع حمل قوله : (( لا تزد )) على أنه من باب الرفق ، وخوف الانقطاع ، فإن أمن ذلك جاز بناءً على أن ما كثر من العبادة والخير فهو أحب إلى الله . والأولى ترك الزيادة أخذًا بظاهر المنع ، واقتداءً برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يرو عنه أنه ختم القرآن كله في ليلة ، ولا في أقل من سبع ، وهو أعلم بالمصالح والأجر . وذلك فضل الله ئؤتيه من يشاء ، فقد يعطي على القليل ما لا يعطي على الكثير ، لاسيما وقد تبينت مصلحة القلة ، والمداومة . وآفة الكثرة الانقطاع .
وقوله : (( صم يومًا ولك أجر ما بقي )) ، قال بعضهم : يعني : لك أجر ما بقي من العشر ، كما تقدم من قوله : (( صم من كل عشرة يومًا ، ولك أجر تسعة )) ، وكذلك قال في قوله : ((صم يومين ولك أجر ما بقي)) ؛ أي : من الشهر .
قلت : وهذا الاعتبار حسن ، جاء على قياس تضعيف الحسنة بعشر أمثالها ، غير أنه يفرغ تضعيف الشهر عند صوم الثلاثة ، فيبقى قوله : ((صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي )) ، لم يبق له من الشهر شيء فيضاف له عشر من الشهر الآخر ، فكأن قوله : (( ولك أجر ما بقي )) ؛ يعني : من أربعين ، والله تعالى أعلم .
وقد قال بعض المتأخرين : إنه يعني بذلك ؛ من الشهر . وعلى هذا يكون صوم الرابع لا أجر فيه . وهو مخالف لقياس تضعيف الحسنة بعشر أمثالها . وما ذكرناه أولى .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في فطر يومين وصوم يومين : ((وددث أني طُوِّقْتُ ذلك )) ؛ أي : أُقدرت عليه ، وذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت عليه حقوق كثيرة لأهله مع كثرتهم ، ولضيفانه ، وأصحابه ، وللناس خاصة وعامة ، فكان يتوقع إن التزم ذلك أن يضعف عن تلك الوظائف أو بعضها ؛ فيقع خلل في تلك الحقوق ، فتمنى أن يقدر على ذلك مع الوفاء بتلك الحقوق . والله أعلم .
(10/13)
لا يقال : فقد كان قادرًا على الوصال ، وهو أشق . ولم يضعف عن القيام بشيء من تلك الحقوق ؛ لأنا نقول : لم يكن وصاله دائمًا ، وإنما كان في وقت من الأوقات بخلاف ما تمنى ، فإنه تمناه دائمًا . ويحتمل : أن هذا كان منه في أوقات مختلفة ، ففي وقت كان يطيق فيواصل ، وفي وقت يخاف الضعف فيتمنى حتى يحصل له الحظ الأوفر من قوله : (( نية المؤمن خير من عمله )) ، والله تعالى أعلم .
ومن باب فضل صوم ثلاثة أيام
قول عائشة رضي الله عنها : (( لم يكن يبالي من أي أيام الشهر كان يصوم )) ؛ تعني : أنه لم يكن يعين لصوم الثلاثة زمانًا مخصوصًا من الشهر يداوم عليه ، وإنما كان يصومها مرَّة في أوله ، ومرَّة في آخره ، ومرَّة في وسطه . وهذا - والله أعلم- لئلا يتخيل متخيِّل وجوبها لو لُوزمت في وقمت بعينه ، أو ليبين فرق ما بين الواجب والتطوع ، فإن الواجبات في الغالب معينة بأوقاب ، أو ذلك بحسب تمكنه ، والله تعالى أعلم .
غير أنه قد جاء في حديث صحيح ذكره النسائي من حديث جرير ابن عبدالله : تخصيص أيام البيض بالذكر المعين ؛ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر ؛ أيام البيض صبيحة ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة )). روينا هذا اللفظ عن متقني مشايخنا ؛ برفع (( أيام)) و(( صبيحة )) على إضمار المبتدأ ، كأنه قال : هي أيام البيض ، عائدًا على ثلاثة أيام ، و(( صبيحة )) يرتفع على البدل من (( أيام )). وأما الْخُفّض فيهما : فعلى البدل من (( أيام )) المتقدمة . هذا أولى ما يوجه في إعرابها .
وعلى التقديرين ؛ فهذا الحديث مفيد لمطلق الثلاثة الأيام التي صومها كصوم الدهر ، على أنه يحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عين هذه الأيام لأنها وسط الشهر وأعدله ، كما قال : (( خير الأمور أوساطها )) .
وعلى هذا يدل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هل صمت من سُرَّة هذا الشهر شيئًا )) ؛ على ما يأتي إن شاء الله .
(10/14)
وقد اختلف في أي أيام الشهر أفضل للصوم ؛ فقالت جماعة من الصحابة والتابعين ؛ ؟ منهم : ابن عمر ، وابن مسعود ، وأبو ذر : أن صوم أيام البيض أفضل ؛ تمسكًا بالحديث المتقدم . وقال آخرون ؛ منهم : النخعي : آخر الشهر أفضل . وقالت فرقة ثالثة : أول الشهر أفضل ؛ منهم : الحسن . وذهب آخرون : إلى أن الأفضل صيام أول يوم من السبت والأحد والإثنين في شهر ، ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس ؛ منهم عائشة. واختار آخرون الإثنين والخميس . وفي حديث ابن عمر : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصوم ثلاثة من كل شهر : أول اثنين ، والخميس الذي بعده ، والخميس الذي يليه. وعن أم سلمة : أول خميس ، والإثنين ، والإثنين . واختار بعضهم : صيام أول يوم من الشهر ، ويوم العاشر ، ويوم العشرين . وبه قال أبو الدرداء. ويروى أنه كان صيام مالك . واختاره ابن شعبان . وقد روي عن مالك كراهة تعمد صيام أيام البيض ، وقال : ما هذا ببلدنا . والمعروف من مذهبه كراهة تعيين أيام مخصوصة للنفل ، وأن يجعل الرجل لنفسه يومًا ، أو شهرًا يلتزمه .
والحاصل : أن ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدَّهر حيث صامها ، وفي أي وقت أوقعها . واختلاف الأحاديث في هذا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يرتب على زمان بعينه من الشهر ، كما قالته عائشة ، وأن كل ذلك قد فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ورحم الله مالكًا لقد فهم وغنم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل : (( هل صمت من سرر شعبان شيئًا ؟ )) المعروف عند اللغويين وغيرهم : أن سرار الشهر : آخره . يقال : سَرَاره ، وسَرَرُه ، وهو حين يستسرُّ الهلال . وقال أبو داود عن الأوزاعي : سره : أوله. وقيل : وسطه .
قال ابن السكيت : شرار الأرض : أكرمها وأوسطها . وسرار كل شيء : وسطه وأفضله .
قال القاضي عياض : وقد يكون سرر الشهر من هذا ؛ أي : أفضل أيامه ، كما جاء في حديث جرير في ذكر أيام البيض كما تقدم.
(10/15)
قلت : فإن حملنا الشرار في هذا الحديث على أول الشهر لم يكن فيه إشكال ، وإن حملناه على آخر الشهر عارضه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تقدموا رمضان بصوم يوم ، ولا يومين )). ويرتفع ما يتوهم من المعارضة بأن يحمل النهي على من لم تكن له عادة بصوم شيء من شعبان فيصومه لأجل رمضان ، وأما من كانت له عادة أن يصوم ، فليستمر على عادته . وقد جاء هذا أيضًا في بقية الخبر ، فإنه قال : (( إلا أن يكون أحدكم يصوم صومًا فليصمه )) ، كما تقدم .
وقوله : (( فصم يومين مكانه )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حمل على ملازمة عادة الخير حتى لا تقطع ، وحض على أن لا يمضي على المكفف مثل شعبان فلم يصم منه شيئًا ، فلما فاته صومه ، أمره أن يصوم من شوال يومين ليحصل له أجر من الجنس الذي فوَّته على نفسه .
قلت : ويظهر لي : أنه إنما أمره بصوم يومين للمزيه التي يختص بها شعبان ، فلا بُعْد في أن يقال : إن صوم يوم منه كصوم يومين في غيره . ويشهد لهذا : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصوم منه أكثر مما كان يصوم من غيره ، اغتنامًا لمزية فضيلته ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم )) ؛ هذا إنما كان - والله أعلم- من أجل : أن المحرم أول السنة المستأنفة التي لم يجئ بعد رمضانها ، فكان استفتاحها بالصوم الذي هو من أفضل الأعمال ، والذي أخبر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بأنه ضياء. فإذا استفتح سنته بالضياء مشى فيه بقيتها ، والله تعالى أعلم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر )) ؛ هذا الحديث خرَّجه النسائي من حديث ثوبان ، وقال فيه : قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( صيام شهر رمضان بعشرة أشهر ، وصيام ستة بشهرين ، فذلك صيام سنة )) ، وفي رواية أخرى : (( الحسنة بعشر ، فشهر رمضان بعشرة أشهر ، وستة بعد الفطر تمام السَّنة )). وذكره أيضًا أبو عمر بن عبد البر هكذا .
(10/16)
فإن قيل : فيلزم على هذا مساواة الفرض النفل في تضعيف الثواب ، وهو خلاف المعلوم من الشرع ؛ إذ قد تقرر فيه : أن أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله تعالى ما افترض عليهم . وبيان ذلك : أنه قد تقدم : أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدَّهر ؛ أي : السَّنة ، وهذه الثلاثة تطوّغ بالاتفاق ، فقد لزم مساواة الفرض للنفل في الثواب .
والجواب : على تسليم ما ذكر- من أن ثواب الفرض أكثر - أن نقول : إن صيام ثلاثة أيام من كل شهر إنما صار بمنزلة صيام سنة بالتضعيف ؛ لأن المباشر من أيامها بالصوم ثلاثة أعشارها ، ثم لما جعل كل يوم بمنزلة عشر كملت السنة بالتضعيف . وأما صوم رمضان مع الستة : فيصح أن يقال فيه : إنه بمنزلة سنة بوشرت بالصوم أيامها ، ثم ضوعفت كل يوم من أيام السَّنة بعشر ، فتضاعف العدد ، فصارت هذه السنة بمنزلة ثنتي عشر سنة بالتضعيف ، وذلك أن السنة ثلاثمائة وستون يومًا ، فإذا ضَرَبتَ ثلاثمائة وستين في عشرة صارت ثلاثة آلاف وستمائة.
وإنما صرنا إلى هذا التأويل للحديث الصحيح المتقدم في تفضيل الفرض على غيره ، ولما علم من الشرع : أن أجر الثواب على العمل على القرب محدود بعشر ، وأما أكثره فليس بمحدود ؛ لقوله تعالى : {والله يضاعف لمن يشاء } ، بعد ذكر مراتب التضعيف المذكورة في الآية ؛ التي هي : عشر ، وسبعون ، وسبعمائة ، والمضاعفة المطلقة ، وكذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما : (( الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة )) ، والله تعالى أعلم .
وقد أخذ بظاهر هذا الحديث - أعني : حديث أبي أيوب- جماعة من العلماء ، فصاموا هذه الستة إثر يوم الفطر ؛ منهم : الشافعي ، وأحمد بن حنبل . وكره مالك وغيره ذلك ، وقال في "موطئه" : لم أر أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها ، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السَّلف ، وأهل العلم يكرهون ذلك ، ويخافون بدعته ، وأن يُلحق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء .
(10/17)
قلت : ويظهر من كلام مالك هذا : أن الذي كرهه هو وأهل العلم ، الذين أشار إليهم ، إنما هو أن يوصل تلك الأيام الستة بيوم الفطر ، لئلا يظن أهل الجهالة والجفاء أنها بقية من صوم رمضان . وأما إذا باعد بينها وبين يوم الفطر فيبعد ذلك التوهم ، وينقطع ذلك التخيل .
ومما يدل على اعتبار هذا المعنى : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصومها قد حمى حماية الزيادة في رمضان من أوله بقوله : (( إذا دخل النصف من شعبان فأمسكوا عن الصوم )) ، وبقوله : (( لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم ولا يومين )). وإذا كان هذا في أوله فينبغي أن تحمى الذريعة أيضًا من آخره ، فإن توهم الزيادة أيضًا فيه متوقع ، فأما صومها متباعدة عن يوم الفطر ، بحيث يؤمن ذلك المتوقع فلا يكرهه مالك ولا غيره . وقد روى مُطَرِّف عن مالك : أنه كان يصومها في خاصة نفسه . قال مُطَرِّف : وإنما كره صيامها لئلا يلحق أهل الجهالة ذلك برمضان ، فأما من رغب في ذلك لما جاء فيه فلم ينهه .
وقال بعض علمائنا : لو صام هذه الستة في غير شوال لكانت إذا ضُمَّت إلى صوم رمضان صيام الدَّهر ؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها ، كما ذكره في الحديث ، وإنما خصَّ شوال بالذكر لسهولة الصوم فيه ؛ إذ كانوا قد تعودوه في رمضان .
وقوله : (( ثم أتبعه ستًّا من شوال )) ؛ ليس فيه دليل على أنها تكون متصلة بيوم من الفطر ، بل لو أوقعها في وسط شوال ، أو آخره ، لصلح تناول هذا اللفظ له ؛ لأن (( ثم )) للئراخي ، وكل صوم يقع في شؤال فهو متبع لرمضان ، وإن كان هنالك مهلة . وقد دل على صحة هذا قوله في حديث النسائي : (( وستة بعد الفطر )) ، ولذلك نقول : إن الأجر المذكور حاصل لصائمها ؛ مجموعة أوقعها أو مفترقة ؛ لأن كل يوم بعشر مطلقًا ، والله تعالى أعلم .
(10/18)
قلت : وحديث أبي أيوب المتقدم ، وإن كان قد خرَّجه مسلم ليس بصحيح ، وهو من جملة الأحاديث الضعيفة الواقعة في كتابه ؛ وذلك لأن في إسناده : سعد بن سعيد بن قيس ؛ قال فيه النسائي : ليس بالقوي ، وغيره يضغفه ، كما ذكره الترمذي ، وقد انفرد به عن عمر بن ثابت ، قال أبو عمر ابن عبد البر : أظن أن الشيخ عمر بن ثابت لم يكن عند مالك ممن يعتمد عليه .
وإنما أنَّث (( ستًّا )) ، وكان حقها أن تذكر من حيث : إن الصوم إنما يوقع في الأيام ، واليوم مذكر ؛ لأنه غلَّب على الأيام الليالي ، كما تفعله العرب ؛ لأن أول الشهر ليلهِ ، وكذلك الصوم : إنما يعزم عليه غالبًا بالليل ، وفيه حجة للمالكية في اشتراط نيه التبييت في صوم النفل ، والله تعالى أعلم .
أبواب الاعتكاف وليلة القدر
الاعتكاف في اللغة : هو ملازمة الشيء والإقامة فيه . ولما كان المعتكف ملازمًا للعمل بطاعة الله تعالى مدة اعتكافه ؛ لزمه هذا الاسم . وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعةٍ مخصوصة ، على شرط مخصوص ، في موضع مخصوص ، على ما يأتي تفصيله .
وأجمع على أنه ليس بواجب ، وهو قربة من القرب ، ونافلة من النوافل ، عمل بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه وأزواجه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .
واختلف منه في مسائل :
المسألة الأولى : هل من شرطه الصوم ، أم لا ؟ فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه شرط فيه ؛ لقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ؛ ولأنه لم يعتكف قط إلا وهو صائم . قال مالك : وعلى ذلك : الأمر عندنا . قال أبو إسحاق التونسي : ودليلنا على ذلك : ما رواه سفيان بن حسين عن الزهرى ، عن عروة ، عن عائشة : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( لا اعتكاف إلا بصوم )). قال :
ومثله عن علي ، وابن عبَّاس ، وابن عمر.
(10/19)
قال أبو عمر بن عبدالبر : وبه قال عروة بن الزبير ، والشعبي ، والزهري ، والثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن حَيّ ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وأحمد .
وقال الشافعي : الاعتكاف جائز بغير صيام . وهو قول علي وابن مسعود ، والحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، وعمر بن عبدالعزيز ، وابن أبي عَبْلَة ، وداود .
واختلف فيه عن ابن عباس ، وأحمد ، وإسحاق .
قلت : والصحيح : الاشتراط ؛ لأنه إن صح حديث عائشة فهو نصٌّ فيه ، وإن لم يصح وإلا فالأفضل في العبادات والقرب أنها إنما تفعل على نحو ما قررها الشارع ، وعلى ما فعلها ، وقد تقررت مشروعية الاعتكاف مع الصوم في قوله : { وأنتم عاكفون في المساجد } ؛ ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعتكف قط إلا صائمًا ، فمن ادعى جوازه من غير صوم دفع إلى إقامة دليل على ذلك .
المسألة الثانية : اشتراط المسجد . وهو شرط في الجملة للرجال والنساء عند الجمهور . وقد شذَّ ابن لبابة من متأخري أصحابنا ، فجوَّزه بغير صوم ولا مسجد. وقال الكوفيون : لا يعتكف النساء إلا في بيوتهن. وذهب بعض السَّلف : إلى أنه لا يعتكف إلا في أحد المساجد الثلاثة ، وذُكر عن حذيفة.
وذهب بعضهم : إلى أنه لا يعتكف ، إلا في مسجد تُجَمَّع فيه الجمعة . ورُوي عن مالك من مذهبه : أن ذلك إئما يشترط فيمن أراد أن يعتكف أيامًا تتخللها الجمعة ؛ لأنه إن خرج إلى الجمعة بطل اعتكافه .
والصحيح : اشترا ط المسجد للرِّجال والنساء لقوله تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد } ، ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه لم يعتكفوا إلا في المسجد ، رجالهم ونساؤهم . وهو عمل أهل المدينة المنقول .
المسألة الثالثة : قال أئمئنا : الاعتكاف الشرعي هو : ملازمة المسجد ليتفرغ لعبادة الله تعالى مع صوم ، إما له وإما لغيره في مدة أقل واجبها يوم وليلة ، وأقل مستحبها عشرة أيام ولياليها .
وقد خولف أئمتنا في كثير من هذه القيود على ما يأتي في تضاعيف الكلام على الأحاديث إن شاء الله تعالى .
(10/20)
ومن باب لا اعتكاف إلا في مسجد وبصوم
وقوله : (( في قبة تركيه على سدتها حصير )) ، القبة التركية : التي لها باب واحد . والسُّدة : الباب الذي يُسدُّ ، . وهذه القبة هي المعبَّر عنها في الحديث الآخر : بالبناء . وفي الآخر : بالخيمة .
و (( وكف المسجد )) : قطر .
و (( الرَّوثة )) : طرف الأرنبة. و(( يلتمس )) : يطلب .
و (( تقويض البناء )) : هدمه .
و (( أبينت)) : روايتنا فيه من البيان . قال أبو الفرج : وضبطه المحققون : (( أثبتت )) من الإثبات .
(( يحتقان )) : يطالب كل واحد منها صاحبه بحقه . وقد تقدَّم الكلام في تسمية ليلة القدر في صلاة الليل من كتاب الصلاة.
وقول الرجل لأبي سعيد : (( إنكم أعلم بالعدد منَّا )) ؛ أي : بهذا العدد الذي ذكر ، وذلك لأنه محتمل لأن يعتبر بكمال الشهر أو بنقصه ، وقد اعتبره أبو سعيد هنا بالباقي على كمال الشهر .
ومن باب للمعتكف أن يختص بموضع من المسجد
قول عائشة : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ، ثم دخل في معتكفه )) ؛ أخذ بظاهره الأوزاعي ، والثوري ، والليث في أحد قوليه . وقال أبو ثور : يفعل هذا من نذر عشرة أيام ، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس من الليلة . وقال مالك : لا يدخل اعتكافه إلا قبل غروب الشمس . وقاله أحمد ، ووافقهما الشافعي وأبو حنيفة ، وأبو ثور في الشهر ، واختلفوا فني الأيام : فقال الشافعي : يدخل فيها قبل طلوع الفجر ، وبه قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب في الأيام وفي الشهر . وقال عبد الملك : لا يعتد بذلك اليوم .
وسبب هذا الخلاف هو : هل أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها أم لا تدخل ؟ وأن اليوم هو المقصود بالاعتكاف ، والليل تابع ؛ قولان : ومن قال بالأول تأول الحديث المتقدم ، على أن معناه : أنه كان إذا صلَّى الصبح في الليلة التي دخل من أولها في اعتكافه ، دخل قبة اعتكافه التي ينزوي فيها نهاره ، لا أن وقت دخوله قُبَّته كان أول اعتكافه ، والله تعالى أعلم .
(10/21)
قولها : (( وإنه أمر بخبائه فضرب )) ؛ هذا إنما كان قبل أن يشرع في الاعتكاف ، بدليل قولها : (( أراد الاعتكاف في العشر الأواخر )) ؛ ففي كلامها هذا تقديم وتأخير ، فإن أول ما فعل لما أراد الاعتكاف ضرب له الخباء ، ثم إن أزواجه لما رأين عزمه على الاعتكاف ، وأخذه فيه ؛ شرعن فيه رغبة منهن في الاقتداء به ، وفي تحصيل الأجر ، غير أنهن لم يستأذنه ، فلذلك أنكر عليهن ، ويحتمل أن يكون إنكاره لأوجه أخر :
منها : أن يكون خاف أن يكون الحامل لهن على الاعتكاف غيرتهن عليه ، وحرصهن على القرب منه .
ومنها : أن يكون كره لهن ملازمتهن المسجد مع الرِّجال ، أو يكن ضيق المسجد على الناس بأخبيتهن ، أو يؤدي مكثهن في المسجد إلى أن يطلع عليهن المنافقون لكثرة خروجهن لحاجتهن ، أو يؤدي ذلك إلى أن تنكشف منهن عورة ، أو يؤدي ذلك إلى تضييع حقوق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحوائجه في بيوتهن .
وكل هذه الاحتمالات مناسبة ، وبعضها أقرب من بعض ، ولا يبعد أن يكون مجموعها هو المراعى عنده ، أو شيء آخر لم يُطَّلع عليه ، والله تعالى أعلم .
وأما استئذان المرأة زوجها في الاعتكاف المتطوع به ، فلا بدَّ منه عند العلماء للذي تقدم في استئذانها إيَّاه في الصوم ، وللزوج أن يمنعها منه ما لم يكن نذرًا معينًا ، فلو كان مطلقًا ، فله أن يمنعها من وقت إلى وقت ما لم تخف الفوت . وكذلك العبد والأمة .
وقوله : (( آلبِرَ تُرِدْنَ ؟ )) بهمزة الاستفهام ، ومده على جهة الإنكار ، ونصب (( البر )) على أنه مفعول (( تردن )) مقدمًا .
وأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتقويض خبائه ، وتركه الاعتكاف ؛ إنما كان ذلك- والله أعلم- قبل أن يدخل في الاعتكاف ، وهو الظاهر من مساق الحديث ، فلا يكون فيه حجة لمن يقول : إن من دخل في تطوع جاز له أن يخرج منه ، فإنه إنما كان عزم عليه ، وأراده ، لا أنه دخل فيه .
(10/22)
وتركه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الاعتكاف في ذلك العشر الذي قد كان عزم على اعتكافه : إنما كان مواساة لأزواجه ، وتطييبًا لقلوبهن ، وتحسينًا لعشرتهن ، أو لعله توقع من تماديه على الاعتكاف ظن أنه هو المخصوص بالاعتكاف دونهن . وكونه اعتكف في شوال يدل : على أن الاعتكاف ليس مخصوصًا برمضان ، ولا يقال فيه ما يدل على قضاء التطوع ؛ لأنا لا نسلم أنه قضاء ، بل هو ابتداء ؛ إذ لم يجب عليه لا بالأصل ، ولا بالنذر ، ولا بالدخول فيه ؛ إذ لم يكن دخل فيه بعد .
كيف ومعقولية القضاء إنما تتحق فيما اشتغلت الذمة به ، فإذا لم يكن شُغل ذمةٍ ، فأي شيء يقضي ؟
غاية ما في الباب : أنه ابتدأ عبادة من نوع ما فاته .
ومن باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان
قول نافع : (( وقد أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ يعني : الموضع الذي كان اختصه لنفسه ؛ الذي كانت عليه القبة التركية ، ومع أنه اختص بموضع من المسجد فهو كان الإمام في حال اعتكافه ، فكان يصلِّي بهم في موضعه المعتاد ، ثم يرجع إلى معتكفه بعد انقضاء صلاته .
ويحصل منه : جواز إمامة المعتكف ، وقد منعها سحنون في أحد قوليه في الفرض والنفل . والجمهور على جواز ذلك .
واختلف من هذا الباب في مسائل :
منها : أذان المعتكف ، منعه مالك مرة وأجازه أخرى . والكافة على جوازه ، وهذا في المنارة. أما في غيره فلا خلاف في جوازه ، فيما أعلم.
وأما خروجه لعيادة المرضى ، أو لصلاة على جنازة : فمنع ذلك مالك ، وكافتهم ، وأجازه الحسن ، والنخعي ، وغيرهما . وأجاز إسحاق ، والشافعي اشتراط ذلك عند دخوله في التطوع لا النذر . واختلف فيه قول أحمد . ومنع ذلك مالك وغيره .
ومنع مالك اشتغاله في المسجد بسماع علم ، وكتابته ، وبالأمور المباحة كالعمل في الخياطة وشبه ذلك ، إلا فيما خفَّ من هذا كله .
وأباح له الشافعي وأبو حنيفة الشغل في المسجد بما يباح من ذلك كله ، أو يرغب فيه من طلب العلم .(10/23)
وأما خروج المعتكف من المسجد فلا يجوز إلا لقضاء حاجته ، أو شراء طعام ، أو شراب مما يحتاج إليه ولم يجد من يكفيه ذلك ؛ لقول عائشة : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان )) ؛ تعني به : الحدث. ويلحق به ما يكون محتاجًا إليه كشراء طعام وشراب على ما تقدم .
وإدامته ـ صلى الله عليه وسلم ـ الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان ؛ إنما كان لما أبين له من أن ليلة القدر فيه ، وإلا فقد اعتكف في العشر الأول وفي الوسط على ما تقدَّم من حديث أبي سعيد .
ثم من اعتكف في العشر الأواخر من رمضان ؛ فهل يبيت ليلة الفطر في معتكفه ولا يخرج منه إلا إذا خرج لصلاة العيد ؛ فيصلي ، وحيئنئذ يرجع إلى منزله ؟ أو يجوز له أن يخرج عند غروب الشمس من آخر يوم من رمضان ؟ قولان للعلماء ؛ والأول هو قول مالك ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهما . وهو محكي عن السَّلف .
واختلف أصحاب مالك إذا لم يفعل ؛ هل يبطل اعتكافه ؟ أم لا يبطل ؟ قولان . وذهب الشافعى ، والليث ، والأوزاعي ، والزهري في آخرين : إلى أنه يجوز خروجه ليلة الفطر ، ولا يلزمه شيء مما قاله مالك .
وظاهر مذهب مالك : أن ذلك على وجه الاستحباب ؛ لأن بعض السَّلف فعله ، ولأنه قد روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وكون أزواجه اعتكفن بعده حجة على من منع اعتكاف النساء في المسجد ، فإنهن إنما اعتكفن على نحو ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعتكف ؛ لأن الراوي عنهن ساق اعتكاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واعتكافهن مساقًا واحدًا ، ولو خالفنه في المسجد لذكره ، وكان يقول : غير أن ذلك في بيوتهن .
وقول عائشة رضي الله عنها : (( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا دخل العشر
أحيا الليل )) ؛ أي : بالصلاة ، و(( أيقظ أهله )) لذلك .
وفيه : حث الأهل على القيام للنوافل ، وحملهم على تحصيل الخير والثواب . ويفهم منه تأكيد القيام في هذا العشر على غيره .
(10/24)
و (( جدَّ )) ؛ أي : اجتهد . و(( شدَّ الْمِئْزَر )) ؛ أي : امتنع عن النساء . وهذا أولى من قول من قال : إنه كناية عن الجد والاجتهاد ؛ لأنه قد ذكر ذلك ، فحمل هذا على فائدة مستجدة أولى .
وقد ذهب بعض أئمتنا : إلى أنه عبارة عن الاعتكاف . وفيه بُعد ؛ لقولها : أيقظ أهله . وهذا يدل على أنه كان معهم في البيت ، وهو كان في حال اعتكافه في المسجد ، وما كان يخرج منه إلا لحاجة الإنسان ، على أنه يصح أن يوقظهن من موضعه من باب الخوخة التي كانت له إلى بيته في المسجد ، والله أعلم .
فإن حملناه على الاعتكاف فهم منه : أن المعتكف لا يجوز له أن يقرب النساء بمباشرة ، ولا استمتاع فما فوقهما ، ويدل عليه قوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ، فإن وقع منه الجماع فسد اعتكافه ليلاً كان أو نهارًا بالإجماع .
ثم : هل عليه كفارة ؛ فالجمهرز : على أن لا . وذهب الحسن والزهري : إلى أن عليه ما على الْمُواقِع أهله في نهار رمضان . ورأى مجاهد : أن يتصدق بدينارين . وأجرى مالك ، والشافعى في أحد قوليه ؛ الجماع فيما دون الفرج ، وجميع التلذذات : من القبلة ، والمباشرة مجرى الجماع في الإفساد ؛ لعموم قوله : { ولا تباشروهن } ، ورأى أبو حنيفة وصاحباه : إفساده بالإنزال كيفما كان . والله أعلم.
ومن باب الأمر بالتماس ليلة القدر
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( التمسوها )) ؛ هو أمر على جهة الإرشاد إلى وقتها ، وترغيب في اغتنامها ، فإنها ليلة عظيمة ، تغفر فيها الذنوب ، ويُطلع الله تعالى فيها من شاء من ملائكته على ماشاء من مقادير خليقته ، على ماسبق به علمه ، ولذلك عظمها سبحانه بقوله : { وما أدراك ما ليلة القدر } ، إلى آخر السورة ، وبقوله : { حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرًا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم }.
(10/25)
معنى (( يفرق )) : يفصل ويبين . و(( حكيم )) محكم ؛ أي : متقن . و(( أمرًا )) : منصوب على القطع ، ويصح بنزع الخافض ؛ أي : يفرق بأمر . فلما أسقط الخافض تعدى الفعل فنصب .
واختلف الناس اختلافًا كثيرًا في ليلة القدر : هل كانت مخصوصة بزمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو لا ؟ فالجمهور : على أنها ليست مخصوصة . ثم اختلفوا : هل هي منتقلة في الأعوام ، أو ليست منتقلة ؟ ثم الذين قالوا : إنها ليست منتقلة اختلفوا في تعيينها ، فمن معين ليلة النصف من شعبان . ومن قائل : هي ليلة النصف من رمضان . ومن قائل : هي ليلة سبع عشرة . ومن قائل : هي ليلة تسع عشرة . ثم ما من ليلة من ليالي العشر إلا وقد قال قائل : بأنها ليلة القدر . وقيل : هي آخر ليلة منه . وقيل : هي معينة عند الله تعالى غير معينة عندنا . وهذه الأقوال كلها للسَّلف وللعلماء. وسبب اختلافهم اختلاف الأحاديث كما ترى .
قلت : والحاصل من مجموع الأحاديث ، ومما استقر عليه أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في طقبها : أنها في العشر الأواخر من رمضان ، وأئها منتقلة فيه ، وبهذا يجتمع شتات الأحاديث المختلفة الواردة في تعيينها . وهو قول مالك ، والشافعي ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وغيرهم على ما حكاه أبو الفضل عياض . فاعْتَمِدْ عليه ، وتَمَسَّكْ به .
وقوله : (( أرى رؤياكم قد تواطأت )) ؛ أي : توافقت ، والمواطأة : الموافقة . وقوله : (( فمن كان متحريها )) ؛ أي : طالبها ، مجتهدًا فيها .
وقوله : (( أنسيتها )) ؛ أي : أنسيت تعيينها في تلك السنة ، ومثل هذا النسيان جائر عليه ؛ إذ ليس بتبليغ حكم يجب العمل به . ولعل عدم تعيينها أبلغ في الحكمة ، وأكمل في تحصيل المصلحة ، كما قال تعالى : (وعسى أن يكون خيرًا لكم ).
(10/26)
ووجة ذلك : أنها إذا لم تعين ، أو كانت متنقلة في العشر ، حرص الناس على طلبها طول ليال العشر ، فحصل لهم أجرها ، وأجر قيام الغشر كله . وهذا نحو مما جرى في تعيين الصلاة الوسطى ، وساعة الجمعة ، وساعة الليل ، والله أعلم . وقد تقدم الكلام على علامات ليلة القدر في كتاب الصلاة .
باب
وقول عائشة : (( ما رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صائمًا في العشر قط )) ؛ تعني به : عشر ذي الحجة . ولا يفهم منه : أن صيامه مكروه ، بل أعمال الطاعات فيه أفضل منها في غيره ؛ بدليل ما رواه الترمذي من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما من أيَّام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر )) ، قالوا : يا رسول الله ! ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : (( ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ، فلم يرجع من ذلك بشيء )) ، قال : هذا حديث حسن صحيح .
وترك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صومه إنما كان - والله أعلم- لما قالته عائشة رضي الله عنها في صلاة الضحى : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم )).
ويحتمل أن يكون ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يوافق عشرًا خاليًا عن مانع يمنعه من الصيام فيه ، والله تعالى أعلم .
(10/27)
كتاب الحج
قد تقدَّم الكلام على الحج من حيث اللغة والعُرف في أول كتاب الإيمان ، واختلف في زمان فرض الحج ؛ فقيل : سنة خمس من الهجرة . وقيل : سنة تسع ، وهو الصحيح ؛ لأن فتح مكة كان في التاسع عشر من رمضان سنة ثماني سنين من الهجرة ، وحجُّ بالناس في تلك السنة عتَّاب بن أسيد ، ووقف بالمسلمين ، ووقف المشركون على ما كانوا يفعلون في الجاهلية ، فلما كانت سنة تسع فرض الحج ، ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر أبا بكر فحجَّ بالناس تلك السنة ، ثم أتبعه علي بن أبي طالب بسورة براءة ، فقرأها على الناس في الموسم ، ونبذ للناس عهدهم ، ونادى في الناس : ألاَّ يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عُريان . ووافق حجة أبي بكر في تلك السنة أن كانت في شهر ذي القعدة ؛ على ما كانوا يديرون الحج في كل شهر من شهور السنة ، فلما كانت سنة عشر حجَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجَّته المسماة : بحجة الوداع ، على ما يأتي في حديث جابر وغيره . ووافق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلك السنة أن وقع الحج في ذي الحجة ، في زمانه ووقته الأصلي الذي فرضه الله تعالى فيه ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض )) ، وسيأتي لهذا مزيد بيان .
وأجمع المسلمون على وجوب الحج في الجملة ، وأنه مرَّة في العمر . ولوجوبه شروط ؛ وهي : العقل ، والبلوغ ، والاستطاعة ، على ما يأتي تفصيلها . وهذه الشروط هي المتفق عليها ، فأما الإسلام فقد اختلف العلماة فيه : هل هو من شروط الوجوب ؟ أو من شروط الأداء ؟ وأما الحريه : فالجمهور على اشتراطها في الوجوب ، وفيها خلاف .
واختلف أصحابُ مالك ، والشافعي في وجوب الحج : هل هو على الفور ، أو على التراخي ، فذهب العراقيون من أصحابنا : إلى أنه على الفور . وهو قول المزني ، وأبي يوسف . وذهب أكثر المغاربة ، وبعض العراقيين : إلى أنه على التراخي . وهو قول محمد بن الحسن . وكلهم قد اتفقوا : على أنه يجوز تأخيره السنة والسنتين .(10/28)
وسبب الخلاف اختلافهم في مطلق الأمر ؛ هل يقتضي الفور ، أو لا يقتضيه ؟ وهذا الأصل تنكشف حقيقته في علم الأصول . وأيضًا : فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخَّر الحج سنة بعد إيجابه ؛ كما قدمنا . والله أعلم.
ومن باب ما يجتنبه المحرم من اللباس
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ - وقد سُئل عما يَلْبسه الْمُحْرِم من الثياب - : (( لا تلبسوا القميص ... )) الحديث ؛ إنما أجاب بما لا يُلْبَس ، وإن كان قد سُئل عما يَلْبس ؛ لأن ما لا يَلْبَس الْمُحرِم منحصر ، وما يَلْبَسه غير منحصر ، فعدل إلى المنحصر فأجابه به ، وقد أجمع المسلمون على أن ما ذكره في هذا الحديث لا يلبسه المحرم مع الرفاهية والإمكان ، وقد نبَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث بالقميص والسراويل : على كل مخيط ، وبالعمائم والبَرَانِس : على كل ما يغطي الرأس ؛ مخيطًا كان أو غيره ، وبالخفاف : على كل ما يستر الرِّجْل مما يلبس عليها ، وأنَّ لباس هذه الأمور جائز في غير الإحرام .
وقوله : (( إلا أحدٌ لا يجد النعلين فليلبس الْخُفّين ، وليقطعهما أسفل من الكعبين )) ؛ هذا الحديث ردٌّ على من قال : إن المحرم لا يقطع الخقين لأنه إضاعة مالٍ ، وهذا مِنْ هذا القائل حكم بالعموم على الخصوص ، وهو عكس ما يجب ؛ إذ هو : إعمال المرجوح وإسقاط الرَّاجح ، وهو فاسد بالإجماع ، ثم إن قال بإباحة قطع الْخُفّ ، فإذا لبسه فهل تلزمه فدية ، أم لا تلزمه ؟ قولان :
الأول : لأبي حنيفة . والثاني : لمالك ، وهو الأولى ؛ لأنه لو لزمته لبيَّنها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للسَّائل حين سأله ؛ إذ ذاك محل البيان ووقته ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة بالإجماع ، وأيضًا فحينئذ يكون قطع الْخُفّ لا معنى له ؛ إذ الفدية ملازمة بلباسه غير مقطوع ، فأما لو لبس الْخُفّين المقطوعين مع وجود النعل للزمته الفدية بلبسهما ، فإنه إنما أباح الشارع له لباسهما مقطوعين بشرط عدم النعلين ، فلِبْسُهُما كذلك غير جائز ، هذا قول مالك ، واختلف فيه قول الشافعي .
(10/29)
وقوله : (( ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسَّه الزعفران ولا الورس )) ؛ هذا مما أجمعت الأمَّة عليه ؛ لأن الزَّعْفَران والوَرْس من الطيب ، واستعمالهما ينافي بذاذة الحاجِّ ، وشعثه المطلوب منه ، وأيضًا فإنهما من مقدمات الوطء ومهيجاته ، والمحرم ممنوع من الوطء ومقدماته ، ويستوي في المنع منهما : الرِّجال والنِّساء .
وعلى لابس ذلك الفدية عند مالك ، وأبي حنيفة ، ولم يرها الثوري ، ولا الشافعي ، وإسحاق ، وأحمد إذا لبس ذلك ناسيًا ، فأما المعصفر فرآه الثوري وأبو حنيفة طيبًا كالمزعفر ، ولم يره مالك ، ولا الشافعي طيبًا ، وكره مالك المقدَّم منه ، واختلف عنه : هل على لابسه فدية ، أم لا ؟ وأجاز مالك سائر الثياب المصبَّغة بغير هذه المذكورات ، وكرهها بعضهم لمن يُقتدى به .
وقوله : (( السراويل لمن لم يجد الإزار ، والخفاف لمن لم يجد النعلين )) ، قال بظاهره أحمد بن حنبل ، فأباح لباس الْخُفّ والسَّراويل لمن لم يجد النعلين والإزار غير المقطوعين ، والجمهور على أنه لا يلبسهما حتى يقطع الْخُفّ ، ويفتق السِّراويل ، ويصيره كالإزار ، فأما لو لبسها كذلك للزمته الفدية ، ودليل صحة هذا التأويل : قوله فيما تقدم في الْخُفّ : ((وليقطعهما أسفل من الكعبين )) ، والأصل المقرر : حمل المطلق على المقيد ، ولا سيما إذا اتحدت القضيه ، وحكم السراويل في الفتق ملحق بالْخُفّ في القطع ؛ لمساقهما مقترنين في الحديث ، ولاستوائهما في الشرط ، ولشهادة المعنى لذلك ، وقد تقدم في كتاب الصلاة : أن الورس : نبات أصفر يصبغ به .
و (( الجغرانة )) : ميقات من مواقيت العمرة ، وفيه لغتان : التشديد في الراء ، والكسر في العين ، والتخفيف في الراء والإسكان في العين .
(10/30)
و (( المتضمخ )) : المتدهن بالطيب . و(( الخلوق )) : بفتح الخاء : أخلاط من الطيب تجمع بالزعفران . و(( الغَطُّ والغَطِيط )) : هو صوت النفس المتردد الذي يخرج من النائم ، وهو البُهْرُ الذي كان يغشاه عند معاينة الْمَلَك ، وكانت تلك الحالة أشدُّ الوحي عليه . و(( سُرِّيَ عنه )) : كُشِف عنه . و(( آنفًا )) ؛ أي : الساعة . و(( يلتمس )) : يطلب .
وقوله : (( أما الطيب فاغسله )) ؛ دليل على منع الْمُحْرِم من استعمال الطيب في جسده ، ووجة هذا المنع أن الطيب داعية من دواعي النكاح - على ما قدمناه - ، ولا خلاف في منعه من اطيب بعد تلبسه بالإحرام ،
واختلف في استعماله قبل الإحرام ، واستدامته بعد الإحرام : فمنعه مالك تمسّكًا بهذا الحديث ، وأجاز ذلك الشافعي تمسكًا بحديث عائشة ؛ قالت : كنت أطيِّب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإحرامه قبل أن يحرم . وفي أخرى : كأني أنظر إلى وبيض الطيب في مفرق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو محرم(@) ، واعتذر عن الحديث الأول بأن قال : إنما أمره بغسل ما عليه منه ؛ لأن ذلك الطيب كان زعفرانًا ، وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرَّجل عن التَّزَعُفُر ، وإن لم يكن مُحْرِمًا . وهذا التأويل يأباه مساق الحديث ، فتأمله. وقد تأول أصحابنا حديث عائشة تأويلات ؛ أقربها تأويلان :
أحدهما : أن ذلك الوبيض الذي أبصرته عائشة رضي الله عنها إنما كان بقايا دهن ذلك الطيب ، تعذَّر قلعها ، فبقيت بعد أن غُسِلت.
وثانيهما : ما قاله أبو الفرج من أصحابنا : إن ذلك من خواصه ؛ لأن المحرم إنما مُنِع من الطيب لئلا يدعوه إلى الجماع ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أملك الناس لإِرْبِه ؛ كما قالت عائشة رضي الله عنها ، وقد ظهرت خصائصه في باب النكاح كثيرًا .
(10/31)
وقوله : (( فاغسله ثلاث مرات )) ؛ دليل على المبالغة في غسله ، حتى يذهب ريحه ، وأثره ، لا أن ثلاثًا حدٌّ في هذا الباب . ويحتمل : أن ثلاثًا راجع إلى تكرار قوله : (( فاغسله )) ، فكأنه قال : اغسله ، اغسله ، اغسله. يدل على صحته ما قد روي من عادته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كلامه ، فإنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا .
وقوله : (( وأما الجبة فانزعها )) ؛ ردٌّ على الشعبي ، والنخعي حيث قالا : إن ذلك الثوب يُشق ؛ لأنه إذا خلعه من رأسه فقد غطى رأسه ، والمحرم ممنوع من تغطية رأسه . وهذا ليس بشيء ؛ لأنا لا نسلم أن هذه التغطية منهي عنها ؛ لأنه لا ينفذ عن المنهي إلا بها ، فصار هذا الْخَلْع مأمورًا به ، فلا يكون هو الذي نُهي عنه المحرم . ويجري هذا مجرى من حَلَفَ ألا يلبس ثوبًا هو لابسه ، ولا يركب دابة هو راكبها . وأيضًا : فإن هذه التغطية لا ينتفع بها ، فلا تكون هي المنهي عنها للمحرم ، فإنه إنما نهي عن تغطية ينتفع بها على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
(10/32)
وقوله : (( ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك )) ؛ هذا اللفظ جاء في أكثر الروايات غير مبين المراد ، ناقصًا ، مقلوبًا . وقد تَخَبَّط فيه كثير ممن تأوَّله على انفراده . والذي يوضح المراد منه على غايته رواية ابن أبي عمر في "الأم" ؛ وفيها : أن الرجل السَّائل قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إني أحرمت بالعمرة وعليّ هذا ، وأنا مُتَضَمِّخ بالخلوق . فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما كنت صانعًا في حجك ؟ )) قال : أنزع عني هذه الثياب ، وأغسل عني هذا الخلوق . فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما كنت صانعًا في حجك ، فاصنعه في عمرتك )) . وهذا سياق حسن . ومعنى واضح ، تلخيضه : أن الرجل كان يعرف : أن المحرم بالحج يجتنب المخيط ، والطيب . وظن أن حكم المحرم بالعمرة ليس كذلك ، فلبس ، وتطيب ، ثم أحرم وهو كذلك ، ثم وقع في نفسه من ذلك شيء ، فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك ؛ فقال له : (( ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عمرتك )) ؛ يعني : من اجتناب ما كنت تَجْتَنِبُه فيه. وهذا معنى واضح ، ومساق حسن للحديث ، فَلْيُغْتَبَطْ به . وقد استدل به للشافعي على قوله : إنه لا فدية على المتضمخ المحرم ، ولا على اللابس ؛ إذ لم يرد في طريقٍ من طرق هذا الحديث : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره بفدية . وقد اعتذز من يُلْزِم الفدية على ذلك عن هذا الحديث ، وهو أبو حنيفة ، فإنه يُلزمها إياه مطلقًا . ومالك ، وهو يلزمها إياه إذا انتفع بذلك ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن أوحي إليه في ذلك ، ولا تقدم له فيه بشيء. ولمالك : بأنه لم يطل ذلك عليه ، ولم ينتفع به ، والله أعلم .
ومن باب المواقيت
(10/33)
قوله : (( إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجدة قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم )) ، وفي حديث أبي الزبير : (( ومهل أهل العراق من ذات عِرْق )). معنى وقت : حدَّد وعيَّن ، فظاهره يدل على أن هذه الحدود لا يتعداها مريد الإحرام حتى يحرم عندها ، وقد أجمع المسلمون على أن المواقيت مواضع معروفة في الجهات التي يدخل منها إلى مكة .
فـ (( ذو الحليفة )) : ماء من مياه بني جشم ، على ستة أميال ، أو سبعة من المدينة .
و (( الجحفة )) : بين مكة والمدينة ، سُمِّي بذلك لأن السيول أجحفت بما حوله ، وهو على ثمانية مراحل من المدينة. وتسمَّى أيضًا : (( مَهْيعة )) بسكون الهاء ، وقال بعضهم : بكسرها .
و (( قرن المنازل )) بسكون الراء ، وقد فتحها بعضهم ، والأول أعرف. وقال القابسي : من قاله بالإسكان أراد الجبل ، ومن فتح أراد الطريق الذي يقترب منه ؛ فإنه موضع فيه طرق مختلفة . ويقال له أيضًا : قرن الثعالب ، وهو جُبيل مستطيل تلقاء مكة بينه وبينها أربعون ميلاً .
و (( يلملم )) : جُبيل من جبال تهامة على ليلتين من مكة . ويقال فيه : (( ألَملم )) بالهمز .
وأما : (( ذات عِرْق )) : فثنية ، أو هضبة بينها وبين مكة يومان وبعض يوم . فهذه مواقيت الحجِّ من المكان ، لم يختلف في شيء منها إلا في ذالت عِرق ، والجمهور على أنه : ميقات لأهل العراق ، وقد استحب الشافعي لأهل العراق أن يهلوا من العقيق ، معتمدًا في ذلك على ما رواه ابن عباس قال : وقت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأهل المشرق العقيق ، خرَّجه أبو داود ، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف عندهم . وروي عن بعض السَّلف : أنه الرَّبَذَة .
(10/34)
واختلف أيضًا فيمن وقت ذات عِرْق ؛ ففي البخاري : أن عمر بن الخطاب حدَّ لأهل العراق ذات عِرْق ، وقاله مالك . وحديث أبي الزبير عن جابر يدل على أنه بتوقيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، غير أن فيه : ((أحسبه )) فلم يجزم بالرواية . وقد روى النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها حديث المواقيت على نحو ما جاء في حديث ابن عمر المتقدم وقال : (( ولأهل العراق ذات عِرْق )) فجزم في الرواية . وهو صحيح ، ولا يستبعد هذا بأن يقال : بأن العراق إذ ذاك لم يكن فتح . فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم أنها ستفتح ، وسيحج منها ، فأعلم بذلك الميقات . وقد أقطع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مواضع لقوم من المسلمين ، وملكهم إيَّاها مع علمه بأنها في أيدي الكفار ؛ بناءً منه على علمه بأنها تفتح ، كما أقطع تميمًا الداري بلد الخليل ، وكتب له بذلك ، وأشهد على نفسه أصحابه ، على ما هو معروف مروي ، وبعض تلك المواضع لم تزل بأيدي عَقِبِه حتى الآن .
وقوله : (( هن لهم ولكل آت أتى عليهن من غير أهلهن )). هن : ضمير جماعة المؤنث العاقل في الأصل ، وقد يعاد على مما لا يعقل ، وأكثر ذلك في العشرة فدون ، فإذا جاوزوها قالوه بهاء المؤنث ، كما قال تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا } ، ثم قال : { منها أربعة حرم } ، ثم قال : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } ؛ ومعنى ذلك الكلام : أنها محدودة ؛ لا يتعداها أحد يريد الإحرام بأحد النُّسُكَين .
واختلف فيمن مرَّ على واحد من هذه المواقيت مريدًا للإحرام فجاوزه. فعن مالك : يرجع ما لم يحرم ، أو يشارف مكة ، فإذا رجع لم يلزمه دم ، فلو أحرم لم يرجع ولزمه الدم . وبه قال ابن المبارك ، والثوري على خلاف عنه . وجماعة من الفقهاء منهم أبو حنيفة يأمرونه بالرجوع ؛ فإن رجع سقط عنه الدم .
فأما من جاوز الميقات غير مريد للإحرام ، ثم بدا له في النسك ، فجمهوز العلماء : على أنه يحرم من مكانه ، ولا شيء عليه ، وقال أحمد ، وإسحاق : يرجع إلى الميقات .
(10/35)
فأما من مرَّ على الميقات قاصدًا دخول مكة من غير نسك ، وكان ممن لا يتكرر دخوله إلى مكة ، فهل يلزمه الإحرام منه ؟ أو لا يلزمه ؟ وإذا لم يلزمه ، فهو على الاستحباب ، ثم إذا لم يفعله ، فهل يلزمه دم أو لا يلزمه ؟ اختلف فيه أصحابنا .
وظاهر الحديث : أنه إنما يلزم الإحرام من أراد مكة لأحد النُّسكين خاصة . وهو مذهب الزهري ، وأبي مصعب وجماعة من أهل العلم .
وقوله : (( فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ )) ؛ أي : من كان منزله دون المواقيت إلى مكة فيحرم من منزله ، فخفف عنه الخروج إلى الميقات ، وحينئذ يصير منزله ميقاتًا خاصًّا به ؛ إذا ابتدأ الإحرام منه ، فلو مرَّ من منزله بعد المواقيت بميقات من المواقيت المعينة العامة ، وهو يريد الإحرام ، وجب عليه أن يحرم منه ، ولا يؤخر الإحرام إلى بيته لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هن لهن ، ولكل آت أتي عليهن من غيرهن )) ، ويخالف هذا من كان ميقاته الجحفة ومرَّ بذي الحليفة ؛ فإن له أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة ؛ لأن الجحفة ميقات منصوب نصبًا عامًا ، لا يتبدل ، بخلاف المنزل ، فإنه إضافي ، يتبدل بتبدل الساكن ، فانفصلا ، والله تعالى أعلم.
وقوله : (( حتى أهل مكة من مكة )) ؛ يعني : أنهم يهلون منها ، ولا يخرجون إلى ميقات من المواقيت المذكورة ، فأما الإحرام بالحج فيصح من البلد نفسه ومن أي موضع كان من الحل أو الحرم . وأما العمرة فلا بدَّ فيها من الجمع بين الحل والحرم.
ومن باب الإحرام والتلببة
قوله : (( يهل مُلَبِّدًا )) ؛ أي : يرفع صوته بالتلبية . وأصل الإهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال . ثم يقال لكل من رفع صوته : أهل. والتلبيد : هو ضفر الرأس بالخطمي ، أو الصمغ وشبهه مما يضم الشعر ، ويلزق بعضه ببعض ليصيره كاللبد ، يمنعه بذلك من التَّمَعُّط والتقمل ، وفعله جائز ، وهو مستحب لمن يريد الحج والعمرة ، قاله عياض .
(10/36)
و (( الإحرام )) هو : اعتقاد دخوله في أحد النسكين ، وتقارنه أقوال : وهي : التلبية ، وأفعال ؛ منها : انبعاث الراحلة على ما يأتي .
فأما التلبية : فاختلف في حكمها ؛ فالجمهوى على أنها ليست بركن من أركان الحج ، ولا شرط من شروطه ، لكنها سنة مؤكدة يلزم بتركها الدم ، ومن أصحابنا من عبَّر عنها : بأنها واجبة ، ومراده : ما ذكرناه. وأبو حنيفة يعتقدها ركنًا وشرطًا في صحة الحج كالتكبير في إحرام الصلاة. وقاله ابن حبيب من أصحابنا ، إلا أن أبا حنيفة على أصله في أنه : يجزيء عنها ما في معناها من التسبيح ، والتهليل ، ويذكر الله تعالى ؛ كما قال في التكبير .
وحكمة مشروعية التلبية : إجابة الدَّاعي الذي دعا إلى الحج ، وهو إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ قال الله تعالى له : { وأذن في الناس بالحج } ، فصعد عرفة ، فنادى : (( ألا إن لله بيتًا فحجوه )) ، فبلَّغ الله دعوته كيف شاء ، وعلى لسان نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأوجبه على المستطيعين .
فأما (( لبيك )) : فسيبويه ، وأكثر النحويين على أنه مثنى للتكثير والمبالغة ، ومعناه : إجابة بعد إجابة ، وليس على حقيقة التثنية ، وذهب وذهب يونس بن حبيب : إلى أنها اسم مفرد ، وليس بمثنى ، وإن ألفه انقلبت ياء لاتصالها بالضمير على حدِّ : لديّ .
واختلفوا في اشتقاقها ، فقيل : هي مأخوذة من قولهم : داري تلب دارك ؛ أي : تواجهها ، فكأن الملبي قد توجه لمن دعاه وقصده . وقيل من قولهم : امرأة لبّةٌ : إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه . وقيل : من لُبِّ الشيء وهو خالصه . وقيل : من لبَّ بالمكان ، وألبَّ ؛ أي : أقام ولزم . قال ابن الأنباري : وإلى هذا كان يذهب الخليل . وقيل : من الإلباب ، وهو : القرب ، قاله الحربي. وقيل : من قولهم : أنا ملبِّ بين يديك ؛ أي : خاضع . وتكرارها ثلاثًا : توكيد .
(10/37)
وقوله : (( إن الحمد ، والنعمة لك )) ؛ ورويناها بكسر (( إن )) وفتحها ، وهما روايتان مشهورتان عند أهل التقييد واللسان. قال الخطابي : الفتح رواية العامة . قال ثعلب : من فتح خصّ ، ومن كسر عم. والاختيار : الكسر ؛ لأن الذي يكسر يذهب إلى أن المعنى : إن الحمد لله على كل حال. والذي يفتح إلى أن المعنى : لبيك لهذا السبب ؛ يعني : أن لبيك عمل فيها بواسطة لام الجر السببية ، ثم حذف حرف الجر لدلالة الكلام.
والكلام على سعديك مثله على لبيك إلا في الاشتقاق. ومعناها : ساعدت يارب طاعتك مساعدةً بعد مساعدةٍ. قال ابن الأنباري : معناه : أسعدك الله إسعادًا بعد إسعاد .
وقوله : (( والخير بيديك )) ؛ قد تقدم الكلام عليه . و(( الرغباء )) بفتح الراء والمد ، وبضم الراء والقصر : هي الرغبة ، ونظيرها : العلياء ، والعليا. والنُّعمى والنَّعماء ، ويعني بـ (( العمل )) : أعمال الطاعات. أي : لا نعمل إلا لله وحده .
وقوله : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يركع بذي الحليفة ركعتين )) ؛ هاتان الركعتان للإحرام ، ولذلك قلنا : إن من مشروعية الإحرام أن يكون بعد صلاة ، فإن كانت للإحرام فهو أفضل ، وإن أحرم بعد فريضة جاز. واستحب الحسن : أن يحرم بعد فريضة ؛ لأنه روي : أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح ، والأول أظهر . وإحرام بعد صلاة الفرض أفضل منه بغير صلاة جملة ، ولا دم على من أحرم بغير صلاة عند مالك.
(10/38)
وقوله : (( ثم استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الخليفة أهلَّ بهؤلاء الكلمات )) ؛ إشارة إلى التلبية المتقدمة ، وهذه الحالة هي التي عبَّر عنها في الروايات الأخرى ؛ بانبعاث الراحلة ، لا أنها أخذت في المشي. وبذلك أخذ مالك ، وأكثر العلماء : أنه يهل إذا استوت به راحلته إن كان راكبًا ، ويتوجه بعد ذلك . وإن كان راجلاً فحين يأخذ في المشي. وقال الشافعي : كذلك في الراكب إلا أنه ينتظرها حتى تنبعث. وقال أبوحنيفة : إذا سلم من الصلاة أهل . على ما جاء في حديث ابن عباس : أنه أحرم من المسجد بعد أن صلى فيه ، وأوجبه في مجلسه.
ولا شك في أن الأحسن في لفظ التلبية تلبية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتجوز الزيادة ما هو الأحسن عليها ، كما زاد ابن عمر ، ولو لبَّى ملبٍّ بغير تلبية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينكرعليه ، وقد كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلبي منهم الملبي ، فلا ينكر عليه ، ويهل المهل ، فلا ينكر عليه ، على ما يأتي في حديث جابر .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمشركين عند تلبيتهم بالتوحيد : (( قدٍ ، قدٍ )) ؛ أي : حسبُكم التوحيد ، ينهاهم عن الشرك. ويقال : قط ، قط ، وقَدْ ، قَدْ بالسكون ، وهي : اسم من أسماء الأفعال ، بمعنى : حسب . والله أعلم.
ومن باب بيان المحل الذي أهل منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قوله : (( بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله )) ؛ البيداء : القفر الخالي عن العامر ، وسُمى : مفازة ، على جهة التفاؤل ، وهي مهلكة. وكل مفازة بيداء ، والجمع : بيد ، وهي هنا : عبارة عن المفازة التي بين مكة والمدينة . أولها شرف مرتفع قريب من مسجد ذي الحليفة ، والشجرة هناك ، وهذه المواضع كلها متقاربة .
و (( تكذبون )) هنا : تخطئون . والكذب : الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، فإن كان مع العمد فهو الكذب المذموم ، وإن كان مع اللهو والغلط فهو الخطأ . وقصد ابن عمر بإطلاق الكذب على هذا ليتثبت الناقل أو المفتي ، حتى لا يقول أحد إلا ما يتحقق صحته ، ووجهه.
(10/39)
وقد اختلف النقلة في مَهِل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال قائل : إنه أهل من المسجد بعد أن صلَّى ركعتين ، وابن عمر يقول : من الشجرة ، وغيره يقول : من البيداء . وقد صار الناس في الأخذ بهذه الأحاديث على طريقتين ؛ فمنهم من رجَّح بعض هذه الروايات. ومنهم من جمع ؛ بأن قال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل في هذه المواضع كلها ، فأخبر كل منهم بما سمعه ، على ما يأتي من حديث ابن عياس.
وقول ابن جريج لابن عمر : (( رأيتك تصنع أربعًا ، لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها )) ؛ أي : يجمعها في فعله كما كان يجمعها ابن عمر ، وإن كان يصنع بعضهم بعضها. واقتصار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على استلام الركنين اليمانيين ؛ لأن الركنين الآخرين ، وهما اللذان يليان الحجر ليسا على تأسيس إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولما ركزها ابن الزبير على قواعد إبراهيم استلم الأركان كلها . قاله القابسي .
قال القاضي عياض : ولو بني الآن على ما بناه ابن الزبير لاستلمت كلها ، كما فعل ابن الزبير . والجمهور على مس الركنين اليمانيين ، وإن ذلك ليس بركن .
والنعال السِّبتية بكسر السين : منسوبة إلى السبت - بالكسر- ، وهي التى أزال الدِّباغ شعرها . قال الشيباني : السِّبت : كل جلد مدبوغ . وقيل : السِّبت : دباغ يقلع الشعر ، وهذا القول أحسن مِنْ قول مَنْ قال : إنها منسوبة إلى السبت - بفتح السين - وهو : الحلق ؛ لأنه يلزم على القياس أن يقال : السَّبتية - بالفتح - ولم نسمع من يقوله هنا ، ولا من يرويه . وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها ، غير مدبوغة ، وإنما كان يلبس المدبوغة مما كانت تصنع بالطائف وغيره أهل الرفاهية والسَّعة ، كما قال شاعرهم :
يُحذَى ن\شعَالَ السِّبْتِ ليس بِتَوْأَمِ
وأما صباغه بالصفرة ، فقيل : المراد به : صباغ الشعر . وقيل : صباغ الثياب .
(10/40)
قلت : وقد روى أبو داود من طرق صحاح ما يدل على أن ابن عمر كان يصبغ لحيته وثيابه بالصفرة ، وذلك أنه روي عن زيد بن أسلم : أن ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى يملأ ثيابه ، فقيل له : لم تصبغ بها ، فقال : إني رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصبغ بها ، ولم يكن شيء أحبَّ إليه منها ، كان يصبغ ثيابه كلها ، حتى عمامته . قال أبو عمر بن عبدالبر : لم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصبغ بالصفرة إلا ثيابه.
وأما الخضاب : فلم يكن يخضب .
قلت : وقد روى أبو داود عن أبي رِمثة ما يدل على خلاف ما قال أبوعمر . قال أبو رمثة : انطلقت مع أبي نحو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا هو ذو وفرة بها ردع من حِنَّاء ، وعليه بُردان أخضران .
وأما اعتذار ابن عمر عن تأخيره الإهلال إلى يوم التروية فإنه لم ير رسول الله يهل حتى تنبعث به راحلته . فوجهه : أنه لما رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحرم إلا إذا أخذ في أول عمل الحج ، وهو المشي إليه إذا انبعثت به الراحلة ؛ أخر هو الإحرام إلى يوم التروية ، حتى يكون مشيه في عمل الحج عقيب إحرامه . وقد أبعد من قال : إن هذا من باب القياس. بل هو تمسُّك بنوع الفعل الذي رآه يفعله على ما قررناه .
وقد اختلف اختيار العلماء والسلف في ذلك على قولين : وهما عند مالك . واستحب بعض شيوخنا : أن يهل يوم التروية من كان خارجًا عن مكة ، ولمن كان داخل مكة أن يهل من أول الشهر ، وهو قول كثير من الصحابة والعلماء . وهو قول عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ، وقاله عياض .
ويوم التروية : هو اليوم الثامن ، وسُمي بذلك لأن الناس يتروون فيه للخروج إلى منى . وقيل : لأنهم كانوا يحملون معهم الروايا بالماء ليلة منى ، فيروون من فيها .
والغرز للناقة كالركاب للفرس . وهو ما يوضع فيه الرِّجل للركوب.
وقوله : (( بات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذي الخليفة مبدأه ، وصلَّى في مسجدها )) ؛ من فعل هذا فقد أحسن ، وإن لم يكن عندهم من السنن .
و (( مبدأه )) بضم الميم وفتحها ؛ أي : ابتداء حجه .
ومن باب التطيب للإحرام(10/41)
قول عائشة رضي الله عنها : (( كنت أطيب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإحرامه )) ؛ أي : عند إحرامه . واللام للتوقيت ، كقوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } ؛ أي : عند دلوك الشمس. وكذلك قولها : (( ولحلِّه )). فليست للتعليل ها هنا بالاتفاق ؛ لأنهما كانا يكونان علة للتطيب ؛ أعني : الإحرام والحل ، بل هو نقيض مقصود الشرع من المحرم قطعًا . وهذه الرواية - أعني : لإحرامه - مفسِّرةٌ للرواية الأخرى التي قال فيها : لحرمه. ويقال : حُرم ، وحِرْم . بالضم والكسر . وأنكر ثابث الضم ، وقال : إنما يقال : حِرْمُه - بالكسر- كما يقال : حِلٌّ ، وكما قرئ : {وحِرْمٌ }- بالكسر-. وقد ذكرنا الخلاف في استدامة المحرم للطيب. و(( وبيص الطيب )) : بريقه ، وأثره . وهذا الطيب الذي ذكرته عائشة كان دهنًا له أثر فيه مسك . وبهذا يجتمع خلاف الروايات في ذلك ؛ وإنما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تطيب للطواف على نسائه في بيوتهن بالمدينة ، في ليلة اليوم الذي خرج في بقيته إلى ذي الخليفة ، فإنه بات بها ، وأصبح محرمًا من صبيحة ليلتها ، كما قد ذكرنا آنفًا ، وأحرم بعد أن صلَّى الظهر ، كما ظهر من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما الآتي : فاغتسل وغسل ما كان عليه من الطيب ، غير أنه بقي عليه ما يتعذر إزالته بعد الغسل من الرائحة . وعن هذا عبَّرت عائشة رضي الله عنها بقولها : (( ثم أصبح ينضخ طيبًا )) ، ومعنى (( ينضخ )) : تعم رائحته ، وتُدرك إدراكًا كثيرًا ، وأصله من : نضخ العين ، وهو عبارة عن كثرة مائها ، وفورانه . ومنه : { فيهما عينان نضاختان }.
(10/42)
وقولها : (( ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت )) ؛ أي : عند حله ، كما تقدم ، وقد نصَّت على أن ذلك قبل طواف الإفاضة ، وذلك إنما كان بعد رمي جمرة العقبة . وبظاهر هذه الأحاديث أخذ عامة العلماء ، فأجازوا الطيب بعد التحلل الأصغر ، وقبل الطواف ، وكرهه مالك ؛ لأنه لما لم يحل له وطء النساء بعد - بالاتفاق - فينبغي أن تمنع مقدمته التي هي الطيب . واعتذر بعض أصحابنا عن حديث عائشة هذا بادعاء خصوصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك . ولم ير مالك على من تطيب حينئذ دمًا ؛ لأنه أوقعه بعد تحلل .
و (( مِفرق الرأس )) : موضغ فرق الشعر .
وقول ابن عمر رضي الله عنهما : لأن أصبح مطليًّا بقطران أحب إلي من أن أصبح محرمًا أنضخ طيبًا )) ؛ موافق لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمتطيب المحرم : (( اغسل عنك الطيب )) كما تقدم . والتمسُّك به أولى من حديث عائشة ؛ لأن الأول متعد للقاعدة ، وحديث عائشة قضية عينية ، محتملة للخصوص ، فالأول أولى .
وقولها : (( فطاف في نسائه )) ؛ هو كناية عن الجماع ، ويكون هذا مثل قول أبو رافع : طاف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على نسائه ذات يوم ، فجعل يغتسل عند هذه وعند هذه ، فقلت : يا رسول الله ! لو جعلته غسلاً واحدًا ؟ قال : (( هذا أزكى ، وأطيب ، وأطهر )) خرَّجه النسائي.
ويقال على هذا : كيف دار عليهن في يوم واحد ، واليوم لواحدة منهن . والجواب من وجهين :
أحدهما : أن العدد لم يكن عليه لهن واجبًا ؛ بدليل قوله تعالى : {تُرجي من تشاء منهن وتؤي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك }.
والثاني : أنه يحتمل أن التي كان في يومها أذنت له في ذلك . وهذا على تسليم أن ذلك كان عليه واجبًا ، أو أنه أخذ نفسه بذلك مجاملة ، ومحاسنة ، والله تعالى أعلم .
ويحتمل أن يكون قولها : (( طات في نسائه )) ، بمعنى : تففدهن في منازلهن لينظر فيما يحتجن إليه ، لا سيما وكان في أهبة الخروج لسفره ذلك .
ومن باب ما جاء في الصيد ولحمه للمحرم
(10/43)
(( الأبواء ))- بفتح الهمزة ، والمد - : بَرِّيَّة من عمل الفُرْع ، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً . و(( وَدَان )) بفتح الواو ، كذلك بينهما نحو ثمانية أميال بقرب الجحفة .
و (( السُّقيا )) قرية جامعة هناك ، بينها وبين الفُرْع مما يلي الجحفة تسعة عشر ميلاً. و(( تعهن )) بفتح التاء وكسرها ، وسكون العين. وقد سمع من العرب من يقول : (( بتُعَهِن )) فيضم التاء ، ويفتح العين ، ويكسر الهاء . وروايتنا التقييد الأول . وهي : عين ماء على ميل من (( السقيا )) وهو بالقاف لا بالفاء ، وهو : وادي العباديد ، على ثلاثة مراحل من المدينة .
و (( غيقة )) بالغين المعجمة مفتوحة ، وبالقاف بينهما ياء ، باثنتين من تحتها : موضع من بلاد بني غفار ، بين مكة والمدينة . وقيل : هو قليب ماء لبني ثعلبة .
وقوله : (( إنا لم نردده عليك )) ، المحدِّثون يقيدون ((لم نردة )) بفتح الدال المضاعفة المجزومة ، وإن كان متصلاً بهاء الضمير المضمومة . وقيده المحققون : بضم الدال مراعاة للواو المتولدة عن ضم الهاء ، ولم يحفلوا بالهاء لخفائها ، وكأنهم قالوا : (( ردوا )) ؛ كما فتحوها مع هاء المؤنث مراعاة للألف ، وكأنهم قالوا : ردًّا )) ، وهذا مذهب سيبويه ، وأبي علي الفارسي ، وأهل التحقيق من أهل اللسان .
(10/44)
وقوله : (( إلا أنَّا حرم )) بفتح (( أنَّا )) على أنه تعدَّى إليه الفعل بحرف التعليل ، فكأنه قال : (( لأنا )). ولا خلات في تحريم الصيد على المحرم . وفي تحريم ماصيد من أجله عليه . وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى : { وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمت حُرُمًا } ، وقوله : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ، ورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الصَّعب هذا الصيد : إنما كان لأنه خاف أن يكون صاده من أجله ، ألا تراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف قَبِل حمار البَهْزِيِّ حين قال : هو لكم يا رسول الله ، فأمر به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقُمِّ بين الرفاق . قال أبو محمد الأصيلي : إنما قَبِل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حمار البهزي ؛ لأنه كان مكتسبًا بالصيد ، فحمله على عادته ، ورد حمار الصَّعب لظنه أنه صاده من أجله . فإن قيل : فهذا يشكل على مذهب مالك ؛ إذ يحكم : بأن ما صيد لأجل محرم لايحل أكله ، وهو ميتة عنده ، ولم ينههم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه ، بل سوَّغه لهم بتركه في أيديهم ، وإقرارهم عليه ؛ فالجواب : إن ذلك الحكم إنما يلزم على مذهبه فيما تحقق أنه صِيد لأجل المحرم ، وليس في هذا الحديث مايدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطع بذلك ، ولا ظنه ، وإنما امتنع من ذلك فيما يظهر ورعًا ؛ كما قال في التمرة : (( لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها )) ، والله أعلم .
وقد أجاز غير واحد من العلماء أكل ما صاده حلال لمحرم لغير ذلك المحرم ؛ منهم : عثمان ـ رضى الله عنه ـ . واختلفوا في حمار الصعب : هل أهداه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيًّا أم ميتًا ؟ وقد بوَّب البخاري على هذا الحديث ما يدل : على أنه فهم من الحديث أنه كان حيًّا ، وعلى هذا الفهم يستدل به : على أن المحرم يرسل ما بيده من صيد ؛ لأنه لم يسوغ لنفسه مُلكه لأجل الإحرام ، وفيه أبواب من أحكام الهبات لا تخفي على متأمل .
(10/45)
قلت : والروايات الأخر تدل على أنه كان ميتًا ، وأنه أتاه بعضو منه. ويصح الجمع بين هذه الروايات المختلفة ؛ إما على القول : بأنه ميت ، فإنه جاء بالحمار ميتًا فوضعه بقرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم قطع منه ذلك العضو ، فأتاه به ، فصدق اللفظان . أو يكون أطلق اسم الحمار ، وهو يريد بعضه ، وهذا سائغ ، وهو من باب التوسع والتجوز .
وأما إن تنزلنا على أن الحمار كان حيًّا ، فيكون قد أتاه به ، فلما رده عليه ، وأقره بيده ذكاه ثم أتاه منه بالعضو المذكور ، ولعل الصعب ظن أنه إنما رده عليه لمعنى يخص الحمار بجملته ، فلما جاءه بجزئه أعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد كحكم الصيد ، لا يحل للمحرم قبوله ، ولا تملُّكه. وإنما احتجنا إلى هذه التكلفات لنرفع الاضطراب اللازم من تلك الروايات المختلفة على طريقتنا في لزوم الجمع بين الروايات المختلفة ، فإنه الأحسن إذا أمكن ، والله أعلم .
وقوله في حديث أبي قتادة : (( إن أصحابه أحرموا ، ولم يحرم هو )) ، قيل في سبب بقاء أبي قتادة غير محرم أقوال :
أحدها : أنه لم تكن وُقِّتت المواقيت ، وفيه بُعد .
وثانيها : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعثه في أصحابه لكشف عدوٍّ لهم بجهة السَّاحل ، على ما ذكره مسلم .
وثالثها : أن أهل المدينة أرسلوه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليعلمه : أن بعض العرب عزم على غزو المدينة .
وقوله : (( فاستعنتهم ، فأبوا أن يعينوني )) ؛ دليل على أبي حنيفة ؛ إذ يرى : أن المعونة لا تؤثر إلا أن يكون الصيد لا يصح دونها . وامتناعهم من المعونة مطلقًا ، ومن مناولة السَّوط يرد عليه ، بل في الرواية الآتية قوله : (( أمنكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ )) قالوا : لا . قال : (( فكلوا )) ، ظاهره : أنه لو أعانه أحدٌ لمنعهم من أكلها .
(10/46)
وقد اختلف في وجوب الجزاء على المحرم الدَّال للحلال ، فقال مالك ، والشافعي ، وأبو ثور : لا شيء عليه . وقال الكوفيون ، وأحمد ، وإسحاق ، وجماعة من الصحابة ، والتابعين : عليه الجزاء . وكذلك اختلفوا في المحرم إذا دلَّ محرمًا آخر ؛ فذهب الكوفيون ، وأشهب من أصحابنا : إلى أن على كل واحد منهم جزاء . وقال مالك ، والشافعي وأبو ثور : الجزاء على المحرم القاتل . وكذلك الخلاف فيما لو أعانه بالرمح ، أو بالسَّوط ، أو بأي معونة كانت . وقال بعض شيوخنا : لو أشار إليه ليصيد ؛ لكان دالاًّ ، ويجري فيه الخلاف المتقدم .
وقوله : (( أرفع فرسي شأوًا ، وأسير شأوًا )) ؛ أي : أرفع في سيره ، وأجريه . و(( الشأو )) : ا لطَّلق .
وقوله : (( خشينا أن نقتطع )) ؛ أي : خفنا أن يحال بيننا وبينهم ، ويقطع بنا عنهم .
وقوله : (( أصدت )) ؛ أصله : أصطدت ، فأدغمت الطاء في الصاد لتقاربهما .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للقوم : (( كلوا )) وهم محرمون ، وأكله منه وهو محرم ؛ دليل على من منع المحرم من أكل لحم الصيد . وهو مروي عن عطاء ، وابن عبَّاس ، وجماعة من السَّلف ، وهو قول سفيان الثوري ، وإسحاق. وذكر نحوه عن مالك والليث .
وقوله : (( فجعل بعضهم يضحك إلى بعض )) ؛ لم يكن ضحكهم لينبهوه على الصيد ، وإنما كان - والله أعلم- تعجبًا من إتيان هذا الصيد ، وتأتي صائده الحلال له ولم يفطن له .فوأما لو ضحك منبهًا له ؛ فقال الداودي : لم يمنع من أكله .
قلت : ولا بُعد في أن يقال : إن ذلك كالإشارة ؛ إذ قد حصل منه ما يحصل من المشير من التنبيه .
وقوله : (( تركته بتعهن )) ، وهو قائل السُّقيا. قائل : اسم فاعل من القول ، ومن القائلة أيضًا ، والأول هو المراد هنا ، والسقيا(@) : مفعول بفعل مضمر ، كأنه قال : اقصدوا السقيا .
وقوله : (( هل معكم من لحمه شيء )) ، وأكله لما أعطوه منه ؛ كل ذلك تطييب لقلوبهم ، وتسكين لنفرة من نفر منهم ، وإبانة لحلِّيته بأقصى الممكن .
(10/47)
وقول عبدالرحمن التيمي : (( فمنا من تورع )) ؛ أي : كفَّ ورعُا ؛ أي : لم يتوقف جازمًا بالمنع ، ولكنه تردد وتخوَّف ، فتورع . والورع ، والرعة : الانكفاف عما يريب .
وقوله : (( فلما استيقظ طلحة وفَّق من أكله )) ؛ أي : صوبه ، وقال : ((هو موفق مسدد )).
وقوله : (( أكلناه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ أي : ونحن محرمون .
ومن باب ما يقتل المحرم من الدَّواب
قوله : (( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم )) ، وقد تقدم : أن الفسق لغة هو الخروج مطلقًا . وهو في لسان الشرع : اسم ذم ؛ إذ هو خروج عن الطاعة ، أو عن الحرمة . وتسميته ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الخمس فواسق : لأنهن خرجن عن الحرمة التي لغيرهن من الحيوانات ، لا سيما على المحرم ، وفي الحرم ، وفي الصلاة . ويحتمل أن يقال : سميت فواسق : لخروجهن عن جِحرتهن لإضرار بني آدم ، وأذاهم .
وهذا الحديث روي من طرق متعددة ، فذكر في بعضها لفظ : ((خمس)) ، ولم يذكره في بعضها . فالألفاط التي ذكر فيها : (( خمس )) لم تزد ، غير أنه ذكر في بعضها : الحية ، وفي بعضها : العقرب بدل الحية . وهي في كل ذلك خمس . وأما التي لم يذكر فيها الخمس ، فجمع فيها بين العقرب والحية . فصارت ستًّا . وفي غير كتاب مسلم ذكر الأفعى ، فعددها لذلك بعضهم سبعًا ، وليس كذلك ؛ لأن الحية تناولت الأفعى وغيرها من جنسها ، وإنما هو خلاف لفظي .
والصحيح : أنها ست ، كما جاء في الطريق التي لا خمس فيها .
قال القاضي أبوالفضل : لا خلاف بين العلماء في استعمال الحديث ، وجواز قتل ما ذكر فيه للمحرم ، إلا شذوذًا ، روي عن علي ـ رضى الله عنه ـ قال : لا يقتل الغراب ، لكن يرمى . ولا يصح عنه . وحكي عن النخعي : أنه لا يقتل المحرم الفأرة ، فإن قتلها فداها . وهذا خلاف النص.
(10/48)
واختلف العلماء : هل المراد بما سُمي في الحديث أعيانها ، أم التنبيه على المعاني المتأذي بها منها ؛ قال الإمام أبو عبدالله : فمالك ، والشافعي يريان أن الحكم يتعلق بمعاني هذه الخمس دون أسمائها ، وأنها إنما ذكرت لينبه بها على ما شركها في العلَّة . فقال الشافعي : العلَّة أن لحومها لا تؤكل ، وكذلك : كل ما لا يؤكل لحمه من الصيد . ورأى مالك : أن العلَّة كونها مضرة ، وأنه إنما ذكر الكلب العقور لينبه به على ما يضر بالأجسام على جهة الاختلاس ، وذكر الحدأة والغراب للتنبيه على ما يضر بالأموال اختفاةءً .
وقد اختلف في المراد بالكلب العقور . فقيل : هو الكلب المألوف . وقيل : المراد به كل ما يفترس ؛ لأنه سمِّى في اللغة : كلبًا . ومذهب مالك أن ما لا يبتدي جنسه بالأذى كسباع الطير لا يقتل إلا أن يخافه المرء على نفسه ، فتؤدي مدافعته إلى قتله ، فلا شيء عليه . وأما قتل صغار ما يجوز قتل كباره ؛ فلا يجوز على قول . وعلى هذا لو قتلها ؛ فهل عليه جزاء أم لا ؟ فقولان .
وقوله : (( الغراب الأبقع )) ؛ تقييد لمطلق الروايات الأخر التي ليس فيها الأبقع . وبذلك قالت طائفة ، فلا يجيزون إلا قتل الأبقع ، وهو الذي في بطنه وظهره بياض . وغير هذه الطائفة رأوا جواز قتل الأبقع وغيره من الغربان . ورأوا أن الأبقع إنما جرى لأنه الأغلب عندهم .
و (( الحدأة )) بكسر الحاء ، مهموز ، والجمع : حِداء : مقصور ، مهموز . وكذا في بعض الروايات. وأما رواية : (( الحديا )) ؛ فقال ثابت : صوابه : الهمز على معنى التذكير ، وإلا فحقيقته : الحدية ، وكذا قيده في "صحيح البخاري". أو : (( الحدية )) على التسهيل . وقول القاسم في "الأم" : تقتل تصغير لها ؛ أي : بمذلة وقهر ، كما قال تعالى : { وهم صاغرون }.
و (( العقور )) في وصف الكلب : هو الذي يعقر كثيرًا ؛ أي : يجرح . يقال : سرج يعقر : إذا كان يجرح الدابة . قال الشاعر :
فتنفست كتنفس الظبى العقير
(10/49)
أي : المجروح . وقيل : الدَّهِش . وقد استدل مالك ، والشافعي ، وأصحابهما بإباحة قتل هذه الفواسق في الحرم ؛ على أن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بحدٍّ . وذهب أبو حنيفة إلى الفرق بين ما اجترحه فيه مما يوجب القتل ، فيقام فيه ، وبين ما اجترحه خارجًا فيلجأ إلى الخروج ، بأن يضيق عليه حتى يخرج ، فيقام عليه خارجه . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( وفي الصلاة أيضًا )) ؛ يعني : أنه يجوز لمن كان في الصلاة أن يقتل هذه الدواب في الصلاة ، ولا يخرج عن الصلاة بقتلها ؛ اللهم ! إلا أن يحتاج في محاولة ذلك إلى عمل كثير يخرج به عن سنة الصلاة وهيئتها ، فإن فعل ذلك استأنف صلاته.
ومن باب الفدية للمحرم
قوله : (( أيؤذيك هوام رأسك )) ؛ سؤال عن تحقيق العلَّة التي يترتب عليها الحكم . و(( تؤذيك )) : تؤلمك . ولما أخبره بالمشقة التي هو فيها خفف عنه ، وقد تبين بمجموع روايات هذا الحديث : أنه كان محرمًا ، وأنه لما أباح له الحلق أعلمه بما يترتب على ذلك من الفدية ، وأنها ثلاثة أنواع مخيَّر بينها ، وأن الصيام ثلاثة أيام ، وأن الإطعام لستة مساكين مُدَّين ، مُدَّين لكل مسكين ، وأن النسك شاة ، فصار هذا الحديث مفسرًا لما في قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضًا ...} الآية ، من مجمل . وصار هذا الحديث مع الآية أصلاً : في أن المحرم إذا استباح شيئًا من ممنوعات الإحرام التي لا تفسده ، فانتفع بذلك ، لزمته الفدية . قال أحمد بن صالح : حديث كعب بن عجرة معمول به عند الجميع .
(10/50)
قال القاضي أبو الفضل : ولم يقع في شيء منه خلاف إلا في الإطعام ، فروي عن أبي حنيفة ، والثوري : أن الصاع إنما هو في التمر والشعير ، وأما البر : فنصف صاع . وعن أحمد رواية : مُدّ من البر ، ونصف صاع من غيره ، وكذلك روي عن الحسن ، وعن بعض السَّلف : أن الإطعام لعشرة مساكين ، والصيام عشرة أيام ، ولم يتابعوا عليه . واتفق غير هؤلاء وكل من جاء بعدهم : على إطعام ستة مساكين ، وصيام ثلاثة أيام .
قلت : وتلك الأقوال كلها مخالفة لنص الحديث المتقدم ، وهو حجة على كل من خالفه . ويستوي عندنا لزوم الفدية في حق العامد ، والناسي ، والمخطىء . وخالف الناسي الشافعي في أحد قوليه ، وداود وإسحاق ؛ فقالا : لا دم عليه .
وقوله : (( أو انسك نسيكة )) ، وفي الأخرى : (( ثم اذبح شاة نسكًا )) ؛ دليل على أنها ليست بهدي ، وإذا كان كذلك ، فيجوز أن يذبخها حيث شاء ، وكذلك الإطعام يخرجه حيث شاء ، وهو قول مالك وغيره . ولم يختلف قول الشافعي : في أن الدم ، والإطعام لا يكون إلا بمكة . واختلف فيه قول أبي حنيفة ، فقال مرة بقول الشافعي ، ومرة قال بذلك في الدم دون الإطعام . ولم يختلف في الصيام : أنه يفعله حيث شاء .
ومن باب جواز مداواة المحرم بما ليس فيه طيب
قوله : (( احتجم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وسط رأسه )) ؛ لا خلاف بين العلماء في جواز الحجامة للمحرم حيث كانت من رأس أو جسد للضرورة ، وأما لغير الضرورة في جسده ، حيث لا يحلق شعرًا : فجمهورهم على جوازه . ومالك يمنعه . واتفقوا : على أنه إذا احتجم برأسه ، فحلق لها شعرًا : أنه يفتدي. وجمهورهم على أن حكم شعر الجسد كذلك ، إلا داود فإنه لا يرى في حلق شعر الجسد لضرورة الحجامة دمًا . والحسن يوجب عليه الدم بالحجامة .
(10/51)
و (( وسط الرأس ))- بفتح السين- : موسطه ، وهو ما فوق اليافوخ منه ، وما بين القرنين . وقد روي في حديث مرفوع : (( في حجامة وسط الرأس شفاء من النعاس ، والصداع ، والأضراس )). قال الليث : وليس في وسطه ، لكن في فأس الرأس ، وهو مؤخره . وأما في وسط الرأس فقد يعمي .
وقوله : (( رمدت عينه )) ؛ أي : أصابها الرَّمد ، وهو مرضه خاص بالعين . ونهي أبان بن عثمان للسائل أن يكحل عينيه ليس على إطلاقه ، وكأنه إنما نهاه عن أن يكحلها بما فيه طيب. وتضميد العين : هو لطخها ، و(( الصبر )) ليس بطيب ، ولا خلاف في جواز مثل هذا مما ليس فيه طيب ، ولا زينة . فلو اكتحل المحرم أو المحرمة بما فيه طيب افتديا . وكذلك المرأة إذا اكتحلت للزينة ، دخان لم يكن فيه طيب ، فلو اكتحل الرجل للزينة : فأباحه قوم ، وكرهه آخرون ؛ وهم : أحمد ، وإسحاق ، والثوري . وعلى القول بالمنع ؛ فهل تجب الفدية أم لا ؟ قولان . وبالثاني قال الشافعي رجلاً كان أو امرأة .
ومن باب غسل المحرم رأسه
اختلاف ابن عباس والمسور لم يكن في جواز أصل غسل الرأس ؛ لأنه من المعلوم عندهما وعند غيرهما : أنه يغتسل من الجنابة إن أصابته ، ويغتسل لدخول مكة ، وللوقوف بعرفة . وإنما كان الاختلاف بينهما في كيفيته . فهل يدلكه ، أو لا يدلكه ؛ لأنه يخاف منه قتل الهوام ، أو إنقاؤها عن رأسه وجسده وإزالة الشعث . ولإمكان هذه الأمور منع منه المسور ، ولم يلتفت ابن عباس إلى إمكان تلك الأمور ؛ لأنه إذا ترفق في ذلك سلم مما يتقى من تلك الأمور . وقد كان ابن عباس علم ذلك من حديث أبي أيوب ، ولذلك أحال عليه ، وأرسل إليه ، والله تعالى أعلم .
و (( القرنان )) : هما الخشبتان القائمتان على رأس البئر ، أو شبههما من البناء ، تمد بينهما خشبة يجر عليها الحبل ؛ ليستقى عليه ، أو لِتُعَلَّق عليه البكرة .
وقوله : (( ثم قال لإنسان يصب : صب فصت )) ؛ دليل على جواز الإستعانة بالصاحب والخادم في الطهارة .
(10/52)
وقوله : (( ثم حرك رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر )) ؛ يدل لابن عباس على صحة ما ذهب إليه : من أن المحرم يغتسل ، ويغسل رأسه ، ويدلكه . وعليه الجمهور . وقد روي عن مالك كراهية ذلك لغير الجنابة. وذلك لما ذكر آنفًا . وفيه دليل لمالك على اشتراط التدلك بالغسل ؛ لأنه لو جاز الغسل بغير تدلك لكان المحرم أحق بأن يجاز له ترك التدلك ، ولَمْ فَلا . وفيه دليل : على أن حقيقة الغسل لغة لا يكفي فيه صب الماء فقط ، بل لا بدَّ من الدلك ، أو ما يتنزل منزلته ، فتأمله.
وقوله : (( لا أماريك أبدًا )) ؛ أي : لا أجادلك ، ولا أخاصمك .
ومن باب المحرم يموت ، ما يفعل به ؟
قوله : (( فوقصته ناقته )) ؛ أي : أوقعته فاندقت عنقه.يقال لمن اندقت عنقه : وُقِص ، فهو موقوص ، على بناء ما لم يسم فاعله.وروي : (( فأوقصته )) - رباعيًّا - وهما لغتان ، والثلاثي أفصح . وروي : (( فقعصته )) ، بمعنى : قتلته لحينه . ومنه قعاص الغنم ، وهو : موتها بداءٍ يأخذها فلا يلبثها .
وقوله : (( فاغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبيه ، ولا تمسوه بطيب ، ولا تخمروا رأسه )) ؛ أي : لا تغطوه . قال بمقتضى ظاهر هذا الحديث الشافعى ، وأحمد ، وإسحاق . فقالوا : إذا مات المحرم لا يحنَّط ، ولا يغطى رأسه . وقال مالك ، والكوفيون ، والحسن ، والأوزاعي : إنه يُفعل به ما يُفعل بالحلال . وكأنهم رأوا : أن هذا الحكم مخصوص بذلك الرجل . واستُدل لهم بوجهين :
أحدهما : أن التكاليف إنما تلزم الأحياء ، لا الأموات .
وثانيهما : أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا )) ؛ تصريح بالمقتضي لذلك ، ولا يعلم ذلك غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهو تعليل قاصر على ذلك الرجل .
(10/53)
وقد اجيب عن الأول : بأن الميت لمان كان غير مكلف ؛ فالحى هو المكلف بأن يفعل به ذلك . وعن الثاني : أنه وإن لم يعلم ذلك غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لكنه يرجي من فضل الله أن يفعل ذلك بكل من اتفق له من المحرمين مثل ذلك . وهذا كما قد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الشهيد : (( إنه يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا ، اللون لون دم ، والعَرْف عَرْف مسك )). وقد سوَّى أبو حنيفة بين الشهيد والمحرم فقال : إن كل واحد منهما يغسل ، ويكفن ، ويصلَّى عليه على أصل المشروعية في الموتى . وسوَّى الشافعي في كونهما يدفنان في ثيابهما ، غير أن المحرم يُغسل ، ولا يصلَّى عليه. وقال مالك في المحرم بقول أبي حنيفة ، وفي الشهيد بقول الشافعي.
وقوله : (( ولا تخمروا رأسه )) أو (( اكشفوا وجهه )) ؛ ححة لمالك وأبي حنيفة على قولهما : إن إحرام الرجل في رأسه ووجهه . والجمهور : على أن لا إحرام على الرجل في وجهه .
وقوله : (( اغسلوه بماء وسدر )) ؛ يدل : على أن حكم الإحرام ساقط عنه ؛ إذ لا يجوز أن يغتسل المحرم بالسِّدر ، والخطمي ، وشبههما ؛ لأن ذلك يزيل الشعث ، والدَّرن ، وقد منعه مالك من الخطمي والتدليك الشديد ، وقال : عليه الفدية إن فعل . ونحوه عن الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأبي ثور . وقال محمد ، وأبو يوسف - صاحبا أبي حنيفة : عليه صدقة. وقال أبو ثور : لا شيء عليه . ورخص طاووس ، وعطاء ، ومجاهد ، وابن المنذر للمحرم في غسل رأسه بالخطمي .
وقوله : (( في ثوبيه )) ، كذا في أكثر الرِّوايات ، وفي بعضها : (( في ثوبين )) ، فعلى الرواية الأولى : يحتج به الشافعى في بقاء حكم الإحرام عليه ؛ لأنه أمر أن يكفن في ثيابه التي كانت عليه. ومن رواه : (( في ثوبين )) ، فيحتمل أن يريد بهما : ثوبيه . ويحتمل أن يزيدوا على ثوبه الذي أحرم فيه ثوبين ليكون كفنه وترًا . والأول أولى ؛ لأن إحدى الروايتين مفسرة بالأخرى.
(10/54)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((حجي واشترطي ، وقولي : اللهم! محلي حيث حبستني )) ؛ معناه : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما استفهمها عن إرادة الحج اعتلت بأنها مريضة ، وأنها خافت إن اشتد مرضها أن يتعذر عليها الإحلال ، بناءً منها على أن المحصر بالمرض لا يتحلل إلا بالطواف بالبيت ، وإن طال مرضه ، كما هو مذهب مالك وغيره . وسيأتي إن شاء الله تعالى . فلما خافت هذا أقرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك ، ثم رخص لها في أن تشترط : أن لها التحلل حيث حبسها مرضها . وبظاهر هذا الحديث قال جماعة من العلماء من الصحابة ، والتابعين ، وغيرهم ؛ منهم : عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وهو قول أحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور . وللشافعي قولان . فقال كل هؤلاء : بجوز الاشتراط في الحج ، وأنه له الفسخ إذا وقع شرطه. ومنع ذلك جماعة أخرى ، وقالوا : إنه لا ينفع ؛ منهم : ابن عمر ، والزهري ، ومالك ، وأبو حنيفة ؛ متمسكين بقوله تعالى : {وأتموا الحج والعمرة لله } ، وبقوله : { ولا تتبطلوا أعمالكم }. واعتذروا عن هذا الحديث بوجهين :
أحدهما : ادعاء الخصوص بهذه المرأة .
وثانيهما : أنهم حملوه على التحلل بالعمرة ، فإنها أرادت أن تحج ؛ كما جاء مفسرًا من رواية ابن المسيب ، وهو : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر ضباعة أن تشترط وتقول : (( اللهم ! الحج أردت ، فإن تيسر ، وإلا فعمرة )). وروي عن عائشة : أنها كانت تقول : (( للحج خرجت ، وله قصدت ، فإن قضيته فهو الحج ، وإن حال دونه شيء فهو العمرة )). والله تعالى أعلم .
ومن باب يغتسل المحرم ولو كان امرأة حائضًا
قوله : (( نفست أسماء )) ؛ أي : ولدت . وقد تقدم ؛ أنه يقال : نفست المرأة في الحيض والولادة بالضم والفتح . كما حكاهما صاحب "الأفعال" ، غير أن الضم في الولادة أكثر . والفتح في الحيض أكثر . وقيل : إنه لا يقال في الحيض إلا بالفتح ، حكاه الحربى .
(10/55)
و (( الشجرة )) : شجرة كانت هناك بذي الحليفة ، و(( البيداء )) طرف منها ، وكأنها إنما نزلت هناك لتبعد عن الناس لأجل الولادة .
وأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها بأن تغتسل : إنما كان للهلال ، وهو الإحرام . وفي الحج أغسال هذا أوكدها ، وهو سنة عند الجمهور . وقال بوجوبه عطاء ، والحسن في أحد قوليه ، وأهل الظاهر . والغسل الثاني لدخول مكة . ومن أصحابنا من اكتفى بهذا الغسل عن الطواف ، وقال : إنه شرع لأجل الطواف ؛ لأنه أول مبدوء به عند الدخول . ومنهم من لم يكتف به ، وقال : لا بدَّ من غسل الطواف ، وإنما ذلك للدخول فقط . والغسل الثالث : للوقوف بعرفة . وهذه الأغسال كلها سنن مؤكدة . وقد أطلق مالك على جميعها الاستحباب ، وأوكدها غسل الإحرام .
وقول عائشة رضي الله عنها : (( خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام حجة الوداع )) ؛ سميت بذلك ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما خطب الناس ودعهم فيها وقال : ((لعلي لا أحج بعد عامي هذا )) ، وقال : (( ألا هل بلغت ؟ )) فقالوا : نعم. فقال : (( اللهم! اشهد )). وكذلك كان ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ - وجازاه عنا خيرًا- توفي في ربيع الأول ، في الثاني عشر منه- على أولى الأقوال وأشهرها - على رأس ثلاثة أشهر ونيف من موقفه ذلك . ولم يحج في الإسلام غير تلك الحجة ، وحج فيها بجميع أزواجه.
وقولها في الرواية الأخرى : (( خرجنا موافين لهلال ذي الحجة )) ؛ أي : مطلين عليه ومشرفين . يقال : أوفى على ثنية كذا ؛ أي : شارفها ، وأطل عليها . ولا يلزم منه أن يكون دخل فيها . وقد دلَّ على صحة هذا : قولها في الرواية الأخرى : (( خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لخمس بقين من ذي القعدة ، وكذلك كان . وقَدِم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة لأربع أو خمس من ذي الحجة ، فأقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في طريقه إلى مكة تسعة أيام ، أو عشرة .
والله تعالى أعلم .
(10/56)
وقولها : (( فأهللنا بعمرة )) ؛ تعني : أنها هي أهلت بعمرة مع غيرها من أزواج الله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو تكون نون العظمة ، وفيه بُعد ، وقد أخبرت عن نفسها وحدها ؛ إذ قالت : (( فأهللت بعمرة )) ، و(( كنت فيمن أهل بعمرة )) ؛ وهذا يعارضه قولها في الرواية الأخرى : (( خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهلين بالحج )) ، وفي أخرى : (( لا نرى إلا الحج )).
فاختلف العلماء في تأويل هذه الألفاظ المختلفة المضطربة ؛ فمنهم من رجح الروايات التي فيها : أنها أهلَّت بالحج ، وغلط من روى : أنها أهلَّت بعمرة ، وإليه ذهب إسماعيل - أظنه ابن علية- ، ومنهم من ذهب مذهب الجمع بين هذه الرِّوايات ، وهو الأولى ؛ إذ الرواة لتلك الألفاظ المختلفة أئمة ثقات مشاهير ، ولا سبيل إلى إطلاق لفظ الغلط على بعضهم بالوهم . فالجمع أولى من الترجيح إذا أمكن .
فمما ذكر في ذلك : أنها كانت أحرمت بالحج ولم تسق الهدي ، فلما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من لم يسق الهدي بفسخ الحج في(3) العمرة ، ففسخت(4) فيمن فسخ ، وجعلته عمرة ، وأهلَّت بها ، وهي التي حاضت فيها . ثم إنها لم تحل منها حتى حاضت ، فأمرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تحرم بالحج ، وتكون حينئذ مردفة ، فأحرمت بالحج ، ووقفت بعرفة وهي حائض ، ثم إنها طهرت يوم النحر ، فأفاضت ، فلما كملت مناسك حجها اعتمرت عمرة أخرى مع أخيها من التنعيم . قال : فعن تلك العمرة التي دخلت فيها بعد الفسخ عبَّر بعض الرواة : بأنها أحرمت بعمرة ، وعلى ذلك يحمل قولها : أهللت بعمرة ؛ تعني بعد فسخها الحج ، فلما كان منها الأمران صدق كل قول من أقوالها ، وكل راو روى شيئًا من تلك الألفاظ .
(10/57)
قلت : ويعتضد هذا التأويل بقولها في بعض رواياته : فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من لم يكن ساق الهدي أن يحل ، قالت : فحل من لم يسق الهدي ، ونساؤه لم يسقن الهدي ؛ فأحللن . وهذا فيما يبدو تأويل حسن ، غير أنه يبعده مساق قولها أيضًا في رواية أخرى قالت : خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( من أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل ، ومن أراد أن يهل بحج فليفعل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل )) ؛ قالت : فأهل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحج ، وكنت فيمن أهل بعمرة . وظاهره : الإخبار عن مبدأ الإحرام للكل . وعلى هذا فيمكن التأويل على وجه آخر ؛ وهو أن يبقى هذا الحديث على ظاهره ، ويتأوَّل قولها : (( لبينا بالحج )) ؛ على أن ذلك كان إحرام أكثر الناس ؛ لأنه لما أحرم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحج اقتدى به كثير الناس في ذلك ، وأما هي فإنما أحرمت بعمرة كما نصَّت عليه ، وناهيك من قولها : (( ولم أهل إلا بعمرة )).
وقولها : (( خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا نرى إلا أنه الحج )) ؛ يمكن أن يقال : كان ذلك منها ومنهم قبل أن يخبرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أنواع الإحرام ، ويبينها لهم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة )) ؛ ظاهره : أنه أمرهم بالقران ، فيكون قاله لهم عند إحرامهم ، ويحتمل أن يكون قال ذلك لمن قد كان أحرم بالعمرة ، فيكون ذلك أمرًا بالإرداف .
وقوله : (( ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا )) ، هذا بيان حكم القارن ، فإنه لا يحل إلا بفراغه من طواف الإفاضة ، ويجزئه لهما عمل واحد عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة ؛ إذ يقول : يعمل لهما عملين . وسيأتي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة : (( يسعك طوافك لحجك وعمرتك )) ، وهو نصٌّ في الرد عليه ، وكذلك قولها : فأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة ؛ فإنما طافوا طوافًا واحدًا .
(10/58)
وقولها : (( فقدمت مكة وأنا حائض )) ؛ كانت حاضت بسَرَف ، كما قالت في الرواية الأخرى ، وتمادى الحيض بها إلى يوم النحر ، كما تقدَّم. وكونها لم تطف بالبيت ؛ لاشتراط الطهارة في الطواف ، ولا بالصفا والمروة ؛ لأن مشروعيته أن يكون على إثر طواف ، وإنما امتنعت من ذلك لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما جاء في الرواية الأخرى : (( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري )).
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( انقضي رأسك ، وامتشطي ، ودعي العمرة )) ؛ ظاهر هذا : أنه أمرها بأن ترفض عمرتها ، وتخرج منها قبل تمامها . وبهذا الظاهر قال الكوفيون في المرأة تحيض قبل الطواف ، وتخشى فوت الحج : أنها ترفض العمرة . وقال الجمهور : إنها تردف الحج ، وتكون قارنة . وبه قال مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور . وقد حمل هذا أصحابنا : على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرها بالإرداف ، لا بنقض العمرة ؛ لأن الحج والعمرة لا يتأتى الخروج منهما شرعًا إلا بإتمامهما ؛ لقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ، واعتذروا عن هذه الألفاظ بتأويلات :
أحدها : أنها كانت مضطرة إلى ذلك ، فرخص لها فيها كما رخص لكعب بن عجرة .
وثانيها : أن ذلك خاص بها ، ولذلك قال مالك : حديث عروة عن عائشة ليس عليه العمل عندنا ، قديمًا ولا حديثًا .
وثالثها : أن المراد بالنقض والامتشاط : تسريح الشعر لغسل الإهلال بالحج ، ولعلها كانت لبَّدت ، ولا يتأتى إيصال الماء إلى البشرة مع التلبيد إلا بحل الضفر وتسريح الشعر . ويتأيد بما في حديث جابر : أنه يكن قال لها : (( فاغتسلي ، ثم أهلي بالحج )). وقد تركنا من التأويلات ما فيه بُعد ، واكتفينا بما ذكرناه ؛ لأنه أوفقها ، والله تعالى أعلم .
(10/59)
فأما قوله : (( ودعي العمرة )) ؛ فمحمول على ترك عملها ، لا على رفضها ، والخروج منها ؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى : (( وأمسكي )) مكان (( ودعي )) ، وهو ظاهر في استدامتها حكم العمرة التي أحرمت بها ، وبدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها : (( يسعك طوافك لحجك وعمرتك )) ؛ وهذا نصٌّ على أن حكم عمرتها باقي عليها .
وقولها : (( فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع عبدالرحمن إلى التنعيم فاعتمرت )) ؛ هذا إنما كان بعد أن رغبت في أن تحرم بعمرة مفردة بعد فراغها من حجتها وعمرتها المقرونين بدليل قولها في الرواية الأخرى : (( يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحجة )) ؛ تعني المتمتعين من الناس ، وكما قالت في الرواية الأخرى : (( فأهللت منها بعمرة جزاءً بعمرة الناس التي اعتمروا )) ، وقوله عند فراغ هذه العمرة : (( هذه مكان عمرتك )) ؛ إنما قال لها هذا لأنها لم تطب نفسها بالعمرة التي أردفت عليها ؛ لأنها طافت طوافًا واحدًا ، وسعت سعيًا واحدًا . كما جاء عنها من حديث جابر : أنها قالت : يا رسول الله ! إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت. فقال لعبدالرحمن : (( أعمرها من التنعيم )) ، فلما فرغت منها قال لها هذه المقالة تطييبًا لقلبها ؛ ألا ترى أنه قد حكم بصحة العمرة المردف عليها ؟! وعلى هذا فلا يكون فيه حجة لمن يقول : إنها رفضت العمرة المتقدمة ، وهذا قضاء لتلك المرفوضة ، لما قررناه . فتدبره .
وأنصّ ما يدلّ على صحة ما قررناه قولها : (( وأمرني أن أعتمر من التنعيم مكان غمرتي التي أدركني الحج ولم أحلل منها )).
وقوله : (( ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه )) ؛ يعني : أنه لا يحلق حتى ينحر الهدي ؛ كما قال تعالى : { ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله } ، وكذلك فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجته : نحر ، ثم حلق ، وقال : (( أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن ننحر ، ثم نحلق ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا )) ، وستأتي الرخصة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض .
(10/60)
وقوله : (( ومن أهل بحج فليتم حجه )) ؛ هذا- والله أعلم- قاله لهم قبل أن يرخص لمن لم يسق الهدي في التحلل ، ثم بعد ذلك رخص فيه على ما يأتي ، أو يكون هذا الخطاب متوخهأ لمن ساق الهدي .
وقولها : (( فحضت ، فلم أزل حائضًا حتى كان يوم عرفة )) ؛ مخالف لقولها في الرواية الأخرى : (( فلما كان يوم النحر طهرت )). ووجه التلفيق : أن يحمل على أنه تقارب انقطاع الدم عنها يوم عرفة . ورأت علامة الطهر يوم النحر ، والله تعالى أعلم .
وقولها : (( فقضى الله حجتنا وعمرتنا ، ولم يكن في ذلك هدي ، ولا صدقة ، ولا صوم )) ؛ هذا الكلام مشكل على من يقول : إنها كانت معتمرة ، أو قارنة ؛ لأنها إن كانت معتمرة فقد استباحت مشط رأسها ، وإلقاء القمل ؛ إن تنزلنا على تأويل من قال : إنها كان بها أذى ، وإنها رُخِّص لها كما رُخِّص لكعب بن عجرة ، فكانت تلزم الفدية كما نصَّ الله على ذلك . وأما إن كانت قارنة فليلزمها الهدي للقران عند جماعة العلماء إلا داود فإنه لا يرى في القران هديًا .
وقد أشكل هذا على أصحابنا حتى قال القاضي أبو الفضل عياض : لم تكن معتمرة ولا قارنة ، وإنما كانت أحرمت بالحج ، ثم نوت فسخه في عمرة ، فلما حاضت ولم يتم لها ذلك رجعت إلى حجها ، فلما أكملت حجها اعتمرت عمرة مبتدأة ، فلم تكن متمتعة ، فلم يجب عليها هدي .
قلت : وكأن القاضي رحمه الله لم يسمع قولها : (( وكنت فيمن أهل بعمرة )) ، وقولها : (( ولم أهل إلا بعمرة )). ولا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها : (( يسعك طوافك لحجك وعمرتك )).
(10/61)
قلت : وهذا الكلام المشكل يهون إشكاله : أنه قد رواه وكيع موقوفًا على هشام بن عروة وأبيه فقال : قال عروة : إنه قضى الله حجها وعمرتها. قال هشام : ولم يكن في ذلك هدي ، ولا صيام ، ولا صدقه. وإذا كان الأمر كذلك سهل الانفصال ؛ بأن يقال : إن عروة وهشامًا لما لم يبلغهما في ذلك شيء أخبرا عن نفي ذلك في علمهما ، ولا يلزم من ذلك انتفاء ذلك الأمر في نفسه ، فلعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهدى عنها ، ولم يبلغهما ذلك ، وهذا التأويل أيضًا منقدح على تقدير : أن يكون هذا الكلام ين قول عائشة . ويؤيده قول جابر : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهدى عن عائشة بقرة على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
ويحتمل أن يكون معنى قولهم : (( لم يكن في ذلك هدي ، ولا صوم ، ولا صدقة )) ؛ أي : لم يأمرها بذلك ، ولم يكلفها شيئًا من ذلك ؛ لأنه نوى أن يقوم به عنها ، كما قد فعل على ما رواه جابر وغيره ، والله تعالى أعلم .
ومن باب : تفعل الحائض المناسك كلها إلا الطواف
قولها : (( لا نذكر إلا الحج )) ، و: (( لبينا بالحج )) ، قد تقدم : أن هذا إخبار منها عن غالب أحوال الناس ، أو عن أحوال أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأما هي ، فقد قالت : إنها لم تهل إلا بعمرة .
و (( طمثت )) : حاضت ، ويقال : بفتح الميم وكسرها .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هذا شيء كتبه الله على بنات آدم )) ؛ يعني : الحيض . وكتبه عليهن ؛ أي : جبلهن عليه ، وثبته عليهن . وهو تأنيس لها ، وتسلية ، وهو دليل على ميله لها ، وحُنُوهِ عليها . وكم بين من يؤنَّس ويُستَرْضَى ، وبين من يقال له : (( عقرى حَلقى )) ؟!
(10/62)
وقوله : (( غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري )) ؛ هذا يدل على اشتراط الطهارة في الطواف . وهو مذهب الجمهور . فلا يجوز عندهم طواف المحدث . وصححه أبو حنيفة ، وأحمد في أحد قوليه ، ورأيا عليه الدَّم ، واعتذرا عن الحديث : بأنه إنما أمرها باجتناب الطواف لأجل المسجد ، وليس بصحيح ؛ لأنه لو أراد ذلك لقال لها : لا تدخلي المسجد. ولما قال لها : لا تطوفي بالبيت ، كان ذلك دليلاً على منع الطواف لنفسه. ويدل على ذلك أيضًا : ما خرَّجه النسائي ، والترمذي عن ابن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( الطواف بالبيت صلاة )).
وإذا جعله الشرع صلاة اشترط فيه الطهارة ؛ كما اشترطها فيها ؛ إذ قد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تقبل صلاة بغير طهور )) ، والله تعالى أعلم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه : (( اجعلوها عمرة )) ؛ إنما قال هذا لمن أحرم بالحج ولم يسق الهدي على ما يأتي .
وقولها : (( فحل الناس )) ؛ أي : من لم يكن معه هدي .
وقولها : (( ثم أهلوا حين راحوا )) ؛ تعني : من حل منهم عند فراغه من العمرة أهل عند خروجه إلى منى بالحج .
وقولها : (( أهدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نسائه البقر )) ؛ يدلّ على أن البقر مما يهدي الرجل يُهْدَى ، وعلى أنه يجوز أن يهدي الرجل عن غيره وإن لم يُعْلِمُهُ ، ولا أذن له . وكان هذا الهدي - والله أعلم- عنهن تطوّعًا عمن لم يجب عليها هدي ، وقيامًا بالواجب عمن وجب عليها منهن هدي ؛ كما قررناه في حديث عائشة ، والله تعالى أعلم .
(10/63)
وقولها : (( فلما كانت ليلة الحَصْبة ))- بسكون الصاد - ، وهي : الليلة التي ينزل الناس فيها المحصَّب عند انصرافهم من منى إلى مكة . والتحصيب : إقامتهم بالمحصَّب ، وهو الشِّعبُ الذي مخرجه إلى الأبطح ، وهو منزل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين انصرف من حجته ، وهو خيف بني كنانة ؛ الذي تقاسمت فيه في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم ، وهو بين مكة ومنى ، وربما تسمَّى : الأبطح ، والبطحاء : لقربه منه . ونزوله بعد النفر من منى ، والإقامة به إلى أن يصلي الظهر والعصر والعشاءين ويخرج منه ليلاً سُنَّة عند مالك ، والشافعي ، وبعض السَّلف ؛ اقتداءً بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولم يره بعضهم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .
وأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الرحمن أن يُعْمِر عائشة من التنعيم ؛ دليلٌ على أن العمرة فيها الجمع بين الحل والحرم ، وهو قول الجمهور . وقال قوم : إنه يتعين الإحرام بها من التنعيم خاصَّة ، وهو ميقات المعتمرين من مكة أخذًا بظاهر هذا الحديث .
واختلف الجمهور فيمن أحرم بالعمرة من مكة ، ولم يخرج إلى الحل ، فقال عطاء : لا شيء عليه . وقال أصحاب الرأي ، وأبو ثور ، والشافعي في أحد قوليه : عليه الدَّم . وكأنه جاوز الميقات . وقال مالك والشافعي أيضًا : لا يجزئه ، ويخرج إلى الحل .
ومن باب أنواع الأحرام
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل )) ؛ هذا يقضي : بأن أنواع الإحرام ثلاثة ، وأن المكلف مخير في أيها أحب ؛ وإنما خلاف العلماء في الأفضل من تلك الأنواع : فذهب مالك وأبو ثور : إلى أن إفراد الحج أفضل ، وهو أحد قولي الشافعي . وقال أبو حنيفة ، والثوري : القران أفضل . وقال أحمد ، وإسحاق ، والشافعي - في القول الآخر- ، وأهل الظاهر : إن التمتع أفضل .
(10/64)
وسبب اختلافهم : اختلاف الروايات في إحرام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فروت عائشة ، وجابر بن عبدالله ، وأبو موسى ، وابن عمر ـ رضى الله عنهم ـ : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحرم بالحج . وروى أنس(4) ، وعمران بن حصين ، والبراء بن عازب ، وعمر بن الخطاب ـ رضى الله عنهم ـ : أنه قرن الحج والعمرة . وروى ابن عمر : أنه تمتع .
فلما تعارضت هذه الروايات الصحيحة ؛ صار كل فريق إلى ما هو الأرجح عنده ، فمما اعتضد به لمالك : أن عائشة أعلم بدُخْلَة أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غيرها ؛ لملازمتها له ، ولبحثها وجدها في طلب ذلك . وكذلك جابر هو أحفظ الناس لحديث حجته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولأن الإفراد سليم عما يجبر بالدم ؛ بخلاف التمتع والقران ؛ إذ كل واحد منهما يجبر ما يقع فيهما من النقص بالدم . ومما اعتضد به لمن قال : إن القران أفضل ؛ أن أنسًا خادم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنده من تحقيق ذلك ما ليس عند غيره ؛ إذ قد تقل لفظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك ، فقال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( لبيك عمرة وحجًّا )). وفي حديث البراء الذي خرجه النسائي : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعلي حين سأله عن إحرامه ، فقال له : (( كيف صنعت ؟ )) فقال : أهللت بإهلالك ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إني سقت الهدي وقرنت )) ؛ وهذا نصٌّ رافع للأشكال . وفي البخاري عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوادي العقيق يقول : (( أتاني الليلة آت من ربي فقال : صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة )).
فأما رواية ابن عمر في التمتع فلا يعوَّل عليها لوجهين :
أحدهما : أنه قد اضطرب قوله : فروى بكر بن عبدالله عنه ؛ أنه قال : لبى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحج وحده .
(10/65)
وثانيهما : أن الرواية التي قال فيها ابن عمر : تمتع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعمرة إلى الحج ، قال في أثنائها ما يدل على أنه سمى الإرداف تمتعًا . وسيأتي تحقيق ذلك . والذي يظهر لي : أن روايات القران أرجح ؛ لأن رواتها نقلوا ألفاظ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإخباره عن نفسه وعن نيته ، وغيرهم ليس كذلك ، ولأن رواية القران يتأتى الجمع بينها وبين رواية الإفراد : بأن يقال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مردفًا ، فيمكن أن يقال : إن مَنْ روى : أنه أفرد ؛ إنما سمع إحرام بالحج ، ولم يسمع إردافه بالعمرة . ومن روى : أنه قرن ، حقق الأمرين فنقلهما ، والله أعلم .
وقد استهول بعض القاصرين هذا الخلاف الواقع في إحرامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقدره مطعنًا على الشريعة زاعمًا : أن العادة قاضية بتواتره ، فلا يختلف فيه ، ولم يوجد ذلك إلا بالآحاد ، فيقطع بكذبها . وهذا لا يلتفت إليه . وإن ما تقضي العادة تواتره تواتر وعلم ، وهو : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حج وأحرم من ذي الحليفة ، وأنه تمادى في إحرامه في إلى أن أكمل مناسك حجه ، وحل من إحرامه عند طواف الأفاضة . وهذا كله معلوم بالنقل المتواتر الذي اشترك الجفلي فيه ؛ لأنه هو المحسوس لهم . وأما إحرام فليس من الأمور التي يجب تواترها ؛ لأنه راجع إلى نيته ، ولا يطلع عليها إلا بالإخبار عنها ، أو بالنظر في الأحوال التي تدل عليها .
ولما كان ذلك ؛ فمنهم من نقل لفظه ؛ لأنه سمعه منه في وقت ما ، ومنهم من حدس وسبر ؛ فأخبر عما وقع له ، وحصل في ظنه . ولذلك قلنا : إن رواية من روى القران أولى ، والله أعلم .
ومن باب ماجاء في فسخ الحج في العمرة
(10/66)
قول عائشة رضي الله عنها : خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أشهر الحج ، وفي حرم الحج ، وليالي الحج )) ؛ لم يختلف في أن أول أشهر الحج شوال ، واختلف في آخرها : فقال مالك : آخرها آخر ذي الحجة ، وبه قال ابن عباس ، وابن عمر. وذهب عامة العلماء : إلى أن آخرها عاشر ذي الحجة ، وبه قال مالك أيضًا . وروي عن ابن عباس وابن عمر مثله . وقال الشافعى : شهران وتسعة أيام من ذي الحجة . وروي عن مالك : آخر ذلك أيام التشريق .
وسبب الخلاف : هل يعتبر مسمَّى الأشهر ؛ وهي ثلاثة ، أو يعتبر الزمان الذي يفرغ فيه عمل الحج ؛ وهي أيام التشريق ، أو معظم أركان الحج ؛ وهو يوم عرفة ، أو يوم النحر ؛ وهو اليوم الذي يتأتى فيه إيقاع طواف الإفاضة ؟ وأبعدها قول مَنْ قال : التاسع .
وفائدة هذا الخلاف تعلق الدَّم بمن أخر طواف الافاضة عن الزمان الذي هو عنده آخر الأشهر . وبسط الفروع في كتب الفقه .
و (( حرم الحج )) : أزمان شهوره . و(( ليالي الحج )) : ليالي أيام شهوره. وكررت ذلك تفخيمًا وتعظيمًا ، ولذلك أتت بالظاهر مكان المضمر ، وصار هذا كقولهم :
لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيءٌ
نقَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
وقوله : (( فمن أحب أن يجعلها عمرة فليفعل )) ؛ ظاهره التخيير ، ولذلك كان منهم الآخذ ، ومنهم التارك . لكن بعد هذا ظهر منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عزم على الأخذ بفسخ الحج في العمرة لما غضب ودخل على عائشة ، فقالت له : من أغضبك أغضبه الله . فقال : (( أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون )). وعند هذا أخذ في ذلك كل من أحرم بالحج ولم يكن ساق هديًا ، وقالوا : فحللنا ، وسمعنا ، وأطعنا .
(10/67)
وكان هذا التردد منهم : لأنهم ما كانوا يرون العمرة جائزة في أشهر الحج ، وكانوا يقولون : إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور. فبيَّن جواز ذلك لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله عند الإحرام بلفظ الإباحة ، ثم إنه لما رأى أكثر الناس قد أحرم بالحبج مجتنبًا للعمرة أمرهم بالتحلل بالعمرة عند قدومهم مكة ، تأنيسًا لهم ، فلما رأى استمرارهم على ذلك عزم عليهم في ذلك ، فامتثلوا ، فبين بقوله ، وبحملهم على ذلك الفعل : أن الإحرام بالعمرة في أشهر الحج جائز ، ولما كان ذلك التحلل لذلك المعنى فهم الصحابة أن ذلك مخصوص بهم ، ولا يجوز لغيرهم ممن أحرم بالحج أن يحل بعمل العمرة ، ولقول الله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ، كما قال عمر ـ رضى الله عنه ـ : إن القرآن نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله . ولذلك قال أبو ذر : كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة(5) ؛ يعني بذلك : تمتعهم بتحللهم من حجهم بعمل العمرة . وقد ذهب بعض أهل الظاهر : إلى أن ذلك يجوز لآخر الدَّهر . والصحيح الأول ؛ لما سبق .
وقولها : (( فسمعت بالعمرة )) ؛ كذا لجمهور رواة مسلم. وفي كتاب ابن سعيد : (( فمنعت العمرة )) ، وهو الصواب .
وقوله : (( فعسى الله أن يرزقيها )) ؛ أي : العمرة التي أردفت عليها الحجة ، ولم تفرغ من عملها ، فرجا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحرز الله تعالى لها أجر عمرتها وإن لم تعمل لها عملاً خاصًّا ، كما قال لها : (( يسعك طوافك لحجك وعمرتك )).
وقولها : (( حتى نزلت منى ، فتطهرت يوم النَّحر )) ، كما قالت فيما تقدَّم . وقولها : (( ثم طفنا بالبيت )) ؛ تعني : طواف الإفاضة .
وقولها : (( فخرج فمرَّ بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ، ثم خرج إلى المدينة )) ؛ تعني به طواف الوداع .
ولا خلاف في أنه مستحب مرغَّب فيه مأمور به ، غير أن أبا حنيفة يوجبه . ومن سننه : أن يكون آخر عمل الحاج ، ويكون سفره بأثره ؛ حتى يكون آخر عهده بالبيت ؛ وهذا قول جمهور العلماء .
(10/68)
لكن رخص مالك في شراء بعض جهازه وطعامه بعد طوافه . وقاله الشافعي ؛ إذا اشترى ذلك في طريقه . وإقامة يوم وليلة بعده طولٌ عند مالك . وقيل : ليس بطول . وأجاز أبو حنيفة إقامته بعده ما شاء . وغيرهم لا يجيز الإقامة بعده لا قليلاً ولا كثيرًا .
وقولها : (( خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا نرى إلا أنه الحج )) ؛ أي : نظن ، وكان هذا قبل أن يعلمهم بأحكام الإحرام وأنواعه .
وقولها : (( فلما قدمنا مكة تطوفنا بالبيت )) ؛ تعني بذلك : النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والناس غيرها ؛ لأنها لم تطف بالبيت ذلك الوقت لأجل حيضتها. وعلى هذا المعنى يحمل قولها : (( لبينا بالحج )) ، فإنها تريد به غيرها ، وأما هي فلبت بعمرة كما تقدَّم قولها.
وأما قول صفية : (( ما أراني إلا حابستكم )) ؛ ظنت أنها لا بدَّ لها من طواف الوداع ، وأنها لا تطوف حتى تطهر ، ومن ضرورة ذلك أن تحتبس عليها ، فلما سمعها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظنَّ أنها لم تطف طواف الإفاضة ، فأجابها بما يدلُّ على استثقاله احتباسه بسببها ، فقال : (( عقرى ، حلقى )) الرواية فيه بغير تنوين ، بألف التأنيث المقصورة .
قال القاضي : يقال للمرأة : (( عقرى حلقى )) ؛ أي : مشوَّهة مؤذية . وقيل : تعقرهم وتحلقهم . وقيل : عقرى : ذات عقير .
و (( حلقى )) : أصابها وجع الحلق . وقيل : هي كلمة تقولها اليهود للحائض . وقال أبو عبيد : صوابه : عقرًا ، حلقًا - بالتنوين- لأن معناه : عقرها الله عقرًا . وهذا على مذهبهم- أعني : العرب - فيما يجري على ألسنتهم ؛ مما ظاهره الدعاء بالمكروه ، ولا يقصدونه ، على ما تقدَّم في الطهارة.
وقوله : (( لا بأس ، انفري )) ؛ دليل على أن طواف الوداع ليس بواجب ، ولا يجب بتركه دم .
(10/69)
وقولها : (( خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا نذكر حجًّا ولا عمرة )) ؛ يحتمل أن يكون معناه : لا نسمي واحدًا منهما . فيستفاد منه : أن الإحرام بالنية ، لا بالقول . ويحتمل أن يكون معناه : أن ذلك كان عند خروجهم من المدينة قبل أن يُبَيِّن لهم أنواع الإحرام ويأمرهم بها ، كما تقدَّم .
وقولها : (( من أغضبك أدخله الله النَّار )) ؛ كأنها سبق لها : أن الذي يغضب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو منافق ، فدعت عليه بذلك .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة )) ؛ هذا يدل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن أحرم به متحتمًا متعينًا عليه . وأنه كان مخيَّرًا بين أنواع الإحرام ، فأحرم بأحدها ، ثم إنه لما قلَّد الهدي لم يمكنه أن يتحلل حتى ينحره يوم النحر بمحله . فمعنى الكلام : لو ظهر لي قبل الإحرام ما ظهر عند دخول مكة من توقف الناس عن التحلل بالعمرة لأحرمت بعمرة ، ولما سقت الهدي ، وإنما قال ذلك تطييبًا لنفوسهم ، وتسكينًا لهم .
وقوله : (( حتى أشتريه )) ؛ يعني بمكة ، أو ببعض جهاتها .
(10/70)
وقوله : (( كان ابن عباس يأمر بالمتعة ، وكان ابن الزبير ينهى عنها )) ؛ هذه المتعة التي اختلف فيها : هي فسخ الحج في العمرة التي أمرهم بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فكان ابن عباس يرى أن ذلك جائز لغير الصحابة ، وكان ابن الزبير يرى أن ذلك خاص بهم . وفي التي قال فيها جابر بن عبدالله : على يدي دار الحديث ، تمتعنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهي التي منعها عمر ـ رضى الله عنه ـ واستدل على منعها بقول الله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ، ، ولا معنى لقول مَن قال : إن اختلافهما كان في الأفضل بين المتعة التي هي الجمع بين الحج والعمرة في عام واحد وسفر واحد ، وبين غيرها من الإفراد والقران ؛ لأنه لو كان اختلافهما في ذلك لكان استدلال عمر ضائعًا ؛ إذ كان يكون استدلالاً في غير محله ، غير أنه لما كان لفظ المتعة يقال عليهما بالاشتراك خفي على كثير من الناس ، وكذلك يصلح هذا اللفظ لمتعة النكاح ، ولذلك ذكرهما جابر عن عمر في نسق واحد . وكان ابن عباس أيضًا خالف في متعة النكاح ، ولم يبلغه ناسخها على ما يأتي في النكاح إن شاء الله تعالى .
وقول جابر : (( فعلناهما مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم نهى عنهما عمر ، فلم نعد لهما )) ؛ هذا يدل على أن إجماع الصحابة انعقد على ترك العمل بتينك المتعتين ، وأن تينك خاضتان بهم ، ممنوعتان في حق غيرهم ، كما قال أبو ذر .
وقول عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( إن القرآن قد نزل منازله )) ؛ أي : استقرت أحكامه ، وثبتت معالمه ، فلا يقبل النسخ ولا التبديل ، بعد أن توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويعني بذلك : أن متعة الحج قد رفعت لما أمر الله بإتمام الحج والعمرة ، ومتعة النكاح أيضًا كذلك ؛ لما ذكر الله شرائط النكاح في كتابه ، وبين أحكامه ، فلا يزاد فيها ، ولا ينقص منها شي ، ولا يغير.
وقوله : (( وأبتوا نكاح هذه النساء )) ؛ يعني : اللاتي عقد عليهن نكاح المتعة ؛ أي : اقطعوا نكاحهن . وهذا منه أمر ، وتهديدًا ، ووعيد شديد لمن استمر على ذلك بعد التقدمة .
(10/71)
وقوله : (( إلا رجمته بالحجارة )) ؛ على جهة التغليظ . وظاهره : أنه كان يرجمه لأنه قد كان حصل عنده على القطع والبتات نسخ نكاح المتعة ، ثم إنه تقدم بهذا البيان الواضح والتغليظ الشديد ؛ فكأنه لو أتي بمن فعل ذلك بعد تلك الأمور لحكم له بحكم الزاني المحصن ، ولم يقبل له اعتذارًا بجهل ولا غيره . قال أبو عمر بن عبد البر : لا خلاف بين العلماء في أن التمتع المراد بقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } : أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج ، في عام واحد ، وسفر واحد ، من غير المكي . قال غيره : عليه كافة فقهاء الأمصار . وروي عن الحسن إسقاط شرط الحج من عامه ، ورأى أن على المعتمر في أشهر الحج هديًا حج أو لم يحج . وروي عنه إسقاط شرط العمرة في أشهر الحج ، وقال : إن اعتمر في غير أشهر الحج ثم حج من عامه فعليه الهدي . وهذان القولان شاذان ، لم يقل بهما أحد من العلماء غيره .
ومن باب يجزىء القارن بحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد
قول جابر ـ رضى الله عنه ـ : (( خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهلين بالحج معنا النساء والولدان )) ؛ دليل على جواز حج الصبي ، وأنه ينتفع به ، وأن حكمه في ذلك حكم الكبير فيما يفعله ويلزمه .
وقولهم لما أمرهم بالتحلل من الحج بالعمرة : (( أيُّ الْحِلّ )) ؛ سؤال من جوَّز أنه يحل من بعض الأشياء دون بعضها ، فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((الحل كله )) ؛ أي هو الحل ؛ أي : لا يبقى معه شيء من ممنوعات الإحرام بعد التحلل المأمور به .
وقوله : (( أمرنا أن نشترك في الإبل والبقر ، كل سبعة منَّا في بدنه )) ؛ يحتج به مَن يرى جواز الاشتراك في الهدايا ، وهم الجمهور . وسيأتي إن شاء الله تعالى .
ومن باب حجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(10/72)
حديث جابر هذا فيه أحكام كثيرة ، وأبواب من الفقه غزير ، وقد استخرجها الأئمة ، وصنفوها ، وعددوها حتى بلغوها إلى نيف على مائة وخمسين حكمًا ، وإذا تتبع وجد فيه أكثر من ذلك ، لكن أكثرها لا يخفى على فَطِن ، فلنعمد إلى بيان ما يشكل .
فمن ذلك : سؤال جابر عن القوم حين دخلوا عليه ؛ إنما كان ذلك لأنه كان قد عمي . وفعل جابر ذلك الفعل به إنما كان تأنيسًا له ومبالغة في إكرامه على ما يفعل بالصغار ، وعلى ذلك نبه بقوله : (( وأنا يومئذٍ غلام شاب )).
وقوله : (( مرحبًا بك )) ؛ كلمة ترحيب وإكرام . وقد تقدَّم تفسيرها .
وقوله : (( وقام في ساجة ملتحفًا بها )) ؛ السَّاجة : ثوب كالطيلسان ، والمشجب : أعوام توضع عليها الثياب ومتاع البيت .
وقوله : (( مكث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسع سنين لم يحج )) ؛ يعني في المدينة . وأما بمكة فحج واحدة باتفاق ، واختلف في ثانية : هل حجها أم لا ؟
وقوله لأسماء : (( استثفري )) ؛ أي : اجعلي لنفسك كثفر الدَّابة ، ليمتنع سيلان الدَّم .
و (( القصواء )) : اسم ناقته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدِّ والهمز . ووقع عند العذري : القصوى ؛ بضم القاف والقصر . وهو خطأ في هذا الموضع . قال ابن قتيبة : كانت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نوق ؛ منها : القصواء ، والجدعاء ، والعضباء . قال غيره : والخرماء ، ومخضرمة . وقال : هي كلها أسماء لناقةٍ واحدةٍ . قال الحربى . القصواء : التي قطع طرف أذنها . والجدع ، والخرم ، والقصو : ، والخرمة مثله في الأذن . قال ابن الأعرابي : القصواء : التي فطع طرف أذنها . والجدع أكثر منه . قال الأصمعي : كل قطع في أذن جدع ، فإن جاوز الربع ؛ فهي عضباء . والمخضرم : المقطوع الأذنين ، فإذا اصطلمتا ؛ فهي صلماء . وقال أبو عبيدة : القصواء : المقطوعة الأذن عرضًا . والمخضرمة : المستأصلة . والعضباء : النصف فما فوقه .
(10/73)
وقوله : فنظرت إلى مدِّ بصره من راكب وماشي )) ؛ لا خلاف في جواز الركوب والمشي في الحج ، واختلف في الأفضل منهما : فذهب مالك ، والشافعي في آخرين : إلى أن الركوب أفضل اقتداءً بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولكثرة التفقة ، ولتعظيم شعائر الحج بأبَّهة الركوب . وذهب غيرهم : إلى أن المشي أفضل ؛ لما فيه من المشقة على النفس .
ولا خلاف في : أن الركوب في الوقوف بعرفة أفضل .
واختلفوا في الطواف والسَّعي : والركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل ، للاقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد تقدَّم الكلام على التلبية .
وقول جابر : (( لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة )) ؛ هذا يحتمل أن يخبر به عن حالهم الأول قبل الإحرام ، فإنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، كما تقدَّم . فلما كان عند الإحرام بيَّن لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( من أراد أن يُهل بحج فليفعل ، ومن أراد أن يُهل بعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يُهل بحج وعمرة فليفعل )) ، فارتقع ذلك الوهم الواقع بهم ، كما سيأتي هذا إن شاء الله تعالى .
و (( يستلم الركن )) ؛ أي : يلمس الحجر الأسود بفيه ، وسُمِّي الحجر : ركنًا ؛ لأنه في الركن . و(( الرَّمل )) : تقريب بين المشي والسير . وبفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا تقرر أن الرَّمل في الثلاثة الأشواط سنَّة راتبة ، وإن كان أصل مشروعيته في عمرة القضاء ليرى أهل مكة قوَّتهم ، وتجلدهم ، كما في حديث ابن عباس على ما يأتي ؛ لكن لما فعله في حجة الوداع مع زوال ذلك المعنى تحقق أنه تعبد ، وأنه سُنَّة . وهذا الطواف المذكور هنا ؛ هو المسمَّى بطواف القدوم وهو سنَّة مؤكدة يجب بتركه دم على غير المراهق. وهو قول أبي ثور ، وأحد قولي مالك . وقيل : لا يجب بتركه دم ، ويجزيء عنه طواف الإفاضة ، وهو قول الشافعي ، وأصحاب الرأي . ولا يخاطب بطواف القدوم مكيِّ .
(10/74)
والأطواف ثلاثة : هذا . وطواف الإفاضة ، ويسمَّى : طواف الزيارة ؛ لأن الطائف يزور البيت من مِنى ، فيطوفه . وقد أجاز الحنفي وغيره هذه التسمية ، وكره مالك أن يقال : طواف الزيارة . وطواف الوداع ، وهو الذي يفعل عند الصَّدر من مكة . ولا دم على تاركه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله )) ؛ يعني : إنه إنما كان يفعل الفعل من أفعال الحج بحسب ما ينزل عليه به الوحي ، فيفهمه هو ويبينه للناس بفعله ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خذوا عنِّي مناسككم )) ، وكانوا كما قال جابر : إذا عمل شيئًا اقتدوا به فيه ، وعملوه على نحو ما عمل .
وقوله : (( فأهل بالتوحيد )) ؛ يعني : بقوله : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك . بخلاف ما كانت تُلبي الجاهلية ؛ إذ كانت تشرك بالله ، فتقول فى تلبيتها : إلاَّ شريكًا هو لك تملكه وما مَلَك . وقد تقدَّم القول على التلبية .
وقوله : (( وأهل الناس بهذا الذي يهلون به )) ؛ يعني : أنهم لم يلتزموا هذه التلبية الخاصَّة التي لبَّى بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ فهموا : أنها ليست مُتعيِّنَة ، فإنه قد ترك ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل أحد على ما تيسر له من ألفاظها ، ومع هذا فلا بدَّ أن يأتي الملبِّي بما يقال عليه تلبية لسانًا . ولا يجزيء منها التحميد ، ولا التكبير ، ولا غيره ، عند مالك .
وقوله : (( ثم نفذ إلى مقام إبراهيم )) ؛ يعني : أنه صار إليه بعد أن فرغ من طوافه . والرواية هنا : { واتخِذوا } ، بكسر الخاء على الأمر ، وهي قراءة الكوفيين ، وأبي عمرو ، وهي أمر . وعلى قراءة الفتح ، وهي قراءة الباقين ، هو خبر عن الملتزمين لاستقبال الكعبة.
(10/75)
واختلف في مقام إبراهيم ما هو ؟ فقال ابن عباس : هو ما مواقِفُه كلها . وقال الشعبى وعطاء : هو عَرَفة ، والمزدلفة ، والجمار . وقال مجاهد : الحرم . وقال جابر وقتادة : الحجر : الذي قام عليه للبناء ، فكان يرتفع به كلما ارتفع البناء . ويرفع هذا الخلاف ، ويبيِّن المراد بالمقام قوله : فجعل المقام بينه وبين الكعبة ؛ وهذا يدل على أنه هو الموضع المعروف هناك ؛ الذي يستقبل باب البيت .
و { مصلَّى }) ؛ أي : موضع صلاة ودعاء . وهاتان الركعتان هما المسنونتان للطُوَّاف . وهما سنتان مؤكدتان ، يجب بتركهما دم عند مالك . ويدركهما ما لم يخرج من الحرم . فإن خرج ولم يركع ؛ فهل يعيد الطواف لهما ، أم لا ؟ قولان . فإذا قلنا : لا يعيد الطواف لهما فقد وجب الدَّم ، وكذلك إذا رجع إلى بلاده وجب الدَّم . وغير مالك لا يرى فيهما دمًا ، ويركعهما متى ذكرهما .
وقوله : (( ثم رجع إلى الركن واستلمه )) ؛ يعني : بعد الصلاة ، وهذا يدل على شدة العناية والتهمم باستلام الحجر .
وقوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ، الصفا : جمع صفاة . قال :
لها كِفلٌ كَصَفاةِ الْمَسِيل
أو واحدٌ ، والجمع : صِفًى . قال :
مواقع الطَّير من الصُّفِيِّ
وهو حجر أملس ، وهو الصفوان . و(( المروة )) من الحجارة مالان وصغر . قال :
كأن صليل المرو حين تُشِدُّه صليل زُيُوف يُنْتَقَدْنَ بِعَبْقَرَا
وقال آخر :
وَيُوالي الأرض خُفًّا ذَابِلاً فإذا ما صادَفَ الْمَرْوَ رَضَح
وهما هنا اسمان لصفحين معلومين . وقيل : سُمِّيا بذلك لجلوس الصفي وامرأته عليهما .
و (( الشعائر )) : المعالم التي للحج ، جمع شعيرة ، سميت بذلك لما تُشعِر به تلك المواضع من أعمال الحج ؛ أي : تُعْلِم ، أو لما يستشعر هناك من تعظيم الله تعالى ، والقيام بوظائفه .
(10/76)
والطواف بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة عند جمهور العلماء ، ما خلا أبا حنيفة ؛ فإنه لم يره فيهما واجبًا في الحج . وسيأتي استيفاء الكلام عليهما إن شاء الله تعالى.
وقوله : (( أبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصَّفا فرقى عليه ، حتى رأى البيت فاستقبله )) ، هكذا المشروعية المستحبة مهما أمكنت . ولذلك يمنع الابتداء بالمروة ، فإن فعل ألغي ذلك الشَّوط عند الجمهور . وقال عطاء : إن جهل ذلك أجزأه .
ويكره الجلوس على الصفا والمروة ، والدعاء عليهما كذلك ، ويؤخذ من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أبدأ بما بدأ الله به )) : أن الذي يقدَّم ليعطي عليه أوكد من المعطوف في مقصود المقدَّم بوجه ما ، كما يفهم من قوله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } ، ومن قوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا } ، فإن المعطوف عليه في هذه المواضع مقدَّم لمزية له على المعطوف . ومثل هذا كثير ، وله موضع آخر يُعْرف فيه. ولا يُفْهَم منه : أن الواو ترتب ؛ لأنه إنما أخذه بالابتداء لا بالترتيب . وقد تقدم القولُ على تحلُّلهم بعمل العمرة .
وقول سراقة بن خٌعْشُم : (( أَلِعَامِنا هذا أم لأبد ؟ فقال : دخلت العمرة في الحج ، بل لأبد أبد )) ؛ ظاهر هذا السؤال والجواب : أنهما في فسخ الحج في العمرة ، فيقتضي أن ذلك جائز مطلقًا مُؤيدًا ، وليس مخصوصًا بالصحابة . وبهذا استدل من قال بجواز ذلك مطلقًا ، وهم أهل الظاهر . وقد صرف هذا الظاهر الجمهور إلى : أن السؤال إنما كان عن فِعْل العمرة في أشهر الحج ، فأجاب بذلك . وعلى هذا : فيكون معنى ((دخلت العمرة في الحج )) ؛ أي : في أشهر الحج . وقيل : دخلت العمرة في الحج ؛ أي : في حق القارن . والذي حملهم على هذه التحويلات ما تقدَّم من أن الأصل وجوب الإتمام لما دخل فيه من الحج والعمرة ، وأن الصحابة قد قالوا : إن ذلك كان مخصوًاأ بهم كما تقدَّم ، والله تعالى أعلم .
(10/77)
وقوله : (( حتى انصبَّت قدماه في بطن الوادي )) ؛ هكذا صحَّت روايتي فيه . وقال القاضي عياض : حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي ، بـ((إذا )) ، وقال : هكذا في جميع النسخ الواصلة إلينا من مسلم ، ليس في أصول شيوخنا فيها اختلاف ، وفيه وَهْمٌ ، وإسقاط لفظة : (( رمل )) ، وبها يتم الكلام ، وكذا جاء في غير مسلم : (( حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي رَمَل .
قلت : هذا الوهم الذي أبداه لازم على روايته هو ؛ إذ رواه بـ(( إذا )) فيحتاج إلى الجواب ، فأبداه . وأما على ما رويته أنا من إسقاط : (( إذا )) ، فلا يحتاج إلى تقدير ذلك ؛ إذ ليس في الكلام ما يستلزمه . فتأمله .
و (( الرَّمَل )) : سنَّة في السعي في بطن الوادي ، واختلف فيمن تركه ؛ هل يلزمه دم أم لا ؟ واختلف في تعليل الرَّمل ، وفي سبب اختصاصه بذلك المحل ؛ فقيل : فعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هناك ليرى المشركون جَلَدَه وجَلَد أصحابه.
قلت : وهذا إنما كان في عمرة القضاء ، غير أنه دام على فعله في حجته ، فدلَّ على أنه سُنَّة راتبة . وقيل : بل اقتدى فيه بهَاجَر في سعيها لطلب الماء لولدها ، على ما جاء في الحديث .
ويقال للطواف بينهما : طواف وسعي ، ولا يقال : شوط ، ولا دور ، وقد كرهه جماعة من السلف والشافعي .
(10/78)
وقوله : (( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، ولجعلتها عمرة )) ؛ هذا يرد على من قال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحرم متمتعًا ، ويدل على أنه إنما أحرم بما أحرم به مختارًا له ، وإنه خُيّر في أنواع الإحرام الثلاثة ، ولم يُعَيّن له واحد منها ؛ فأمر به . ولكنه اختار القران على ما تقدَّم ، ثم إنه لما أمر أصحابة بالتحلل بعمل العمرة ، فتوقفوا لأجل أنه لم يتحلل هو ؛ أخبرهم بسبب امتناعه ، وهو : سوقه الهدي ، ثم أخبرهم : أنه ظهر له في ذلك الوقت ما لم يظهر له قبل ذلك من المصلحة التي اقتضت أن أباح لهم فسخ الحج ، وأنه لو ظهر له من ذلك قبل إحرامه ما ظهر له بعده ؛ لأحرم بعمرة حتى تطيب قلوبهم ، وتسكن نفرتهم من إيقاع العمرة في أشهر الحج .
وإنكار عليٍّ على فاطمة تحللها : إنما كان لأنه عَلِم أنها أحرمت بالحج ، وأنها تحللت منه قبل إتمامه ، وإنما أمرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتحلل ؛ لأنها لم تسق الهدي ، كما أمر غيرها ممن لم يسق الهدي .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعليّ ـ رضى الله عنه ـ : (( بم أهللت )) ؛ يدل على أنه لم يكن عنده خبر مما يُحرم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولم يتقدَّم له فيه عهد منه ، وأنَّ عليًّا ـ رضى الله عنه ـ هو الذي ابتدأ إحرامه محالاً به على إحرام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير تعيين حجّ ولا عمرة ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرَّه على ذلك ، فكان ذلك حجة على جواز الحوالة على إحرام الغير مطلقًا إذا تحقق أنه أحرم ولا بدَّ ، وبه قال الشافعي ، وأخذ منه جواز الإحرام من غير تعيين ، ثم بعد ذلك يعيَّن ، وسيأتي .
وقوله : (( فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ، فأهلُّوا بالحج )) ؛ يوم التروية : هو اليوم الثامن من ذي الحجة ، سُمِّي بذلك : لأن قريشًا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاجِّ تسقيهم ، فيروون منه .
(10/79)
و (( توجهوا )) : قصدوا ، وأخذوا في الأهبة إلى منى ، لا أنَّهم توجهوا بمشيهم إلى منى ، فأحرموا منها ، فإن ذلك باطل بإجماع العلماء . على أنَّهم أحرموا من مكة . والمستدل عند أكثر العلماء فيمن أحرم من مكة بالحج أن يكون إحرامه من مكة متصلاً بسيره إلى منى يوم التروية ؛ [أخذًا] بظاهر هذا الحديث . واستدل بعضهم أن يكون ذلك أول هلال ذي الحجة ليلحقهم من الشعث إلى وقت الحج ما يلحق غيرهم .
والقولان عن مالك ، وقد تقدَّم في حديث ابن عمر .
وقوله : وركب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى منى ، فصلَّى بها الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والفجر ؛ يعني : أنه صلَّى كل صلاة في وقتها ، غير مجموعة ، كما توهمه بعضهم ، ممن لا يعرف . وإنما ذكر عدد الصلوات الخمس هنا ليعلم الوقت الذي وصل فيه إلى منى ، والوقت الذي خرج فيه منها إلى عرفة ، ولذلك قال مالك باستحباب دخوله إلى منى ، وخروجه منها في ذينك الوقتين المذكورين . وقد استحب جميع العلماء الخروج إلى منى يوم التروية ، والمبيت بها ، والغدوَّ منها إلى عرفة ، ولا حرج في ترك ذلك ، والخروج من مكة إلى عرفة ، ولا دم .
و (( نمرة )) : هو موضع بعرفة ، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم ، على يمين الخارج من مأزمي منى إلى الموقف . و(( نمرة )) أيضًا : موضع آخر بقُدَيْد .
وفيه دليل : على جواز استظلال المحرم في القباب والأخبية ، ولا خلاف فيه . واختلف استظلال في استظلال الراكب في حال وقوفه ، فكرهه مالك ، وأهل المدينة ، وأحمد بن حنبل . وأجاز ذلك غيرهم . وعليه عند مالك الفدية إذا انتفع به ، وكذلك استظلاله عنده في حال سيره . وكذلك لو كان نازلاً بالأرض أو راحلاً فاستظل بما يقربُ من
رأسه . وسيأتي الكلام عليه .
(10/80)
وقوله : (( ولا تشكُّ قريش إلا أنَّه واقف عند المشعر الحرام )) ؛ يعني : كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ؛ فإنها كانت تقف بالمشعر الحرام بدل وقوف الناس بعرفة ، وتقول : نحن أهل الحرم ، لا نخرج منه إلى الحل . وكان هذا من جملة ما ابتدعت وغيرت من شريعة إبراهيم وسنته في الحج .
وقوله : (( فَرُحِّلَت له القصواء )) ؛ أي : وضع عليها الرَّحل .
و (( القصواء )) : ناقته ، وقد تقدَّم ذكرها . و(( زاغت الشمس )) : مالت. و(( بطن الوادي )) : المنخفض منه ؛ ويعني به : وادي عُرَنة المعروف هناك ، وهو موضع متسع جامع . ولذلك خصَّه بخطبته ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( فخطب الناس )) ؛ دليل لمالك وجميع المدنيين والمغاربة ؛ إذ قالوا : ليوم عرفة خطبة قبل الصلاة ، يذكر الناس فيها ، ويُعَلِّمُهم ما يستقبلون من الوقوف وغيره من المناسك . وهو أيضًا حجة على الشافعي وأبي حنيفة ؛ إذ قالا : ليست عرفة بموضع خطبة ، وهو قول العراقيين من أصحابنا .
وخطب الحج عندنا ثلاثة :
يوم التروية بعد صلاة الظهر في المسجد الحرام ، يذكر الناس ، ويعلمهم أحكام إحرامهم ، ويحضهم على الخروج إلى منى .
والثانية : بعرفة قبل الصلاة بإجماع من القائل بها . وأجمعوا : على أنه لو صلَّى ولم يخطب فصلاته جائزة .
والثالثة : بعد يوم النحر ، يُعلِّمُهم فيها أحكام الرمي والتعجيل .
وقوله : (( ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع )) ؛ يعني به : الأمور التي أحدثوها ، والشرائع التي كانوا أشرعوها في الحج وغيره. وهذا كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )).
(10/81)
وقوله : (( وربا الجاهلية موضوع )) ؛ الرِّبا : الزيادة ، والكثرة لغة ، ثم إنهم كانت لهم بيوعات يسمُّوتها : بيع الربا . منها : أنهم كانوا إذا حل أجل الدَّين يقول الغريم لرب الدَّين : أنظرني وأزيدك . فينظره إلى وقت آخر على زيادة مقررة ، فإذا حل ذلك الوقت الآخر قال له أيضًا كذلك ، وربما يؤدي ذلك إلى استئصال مال الغريم بنذر يسير كان أخذه أوَّل مرة . فأبطل الله تعالى ذلك ، وحرَّمه ، وتوعَّد عليه بقوله تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ ...} الايات. وردهم فيه إلى رؤوس أموالهم ، وبلَّغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرآنًا وسنَّة ، ووعظ الناس ، وذكرهم بذلك في ذلك الموطن مبالغة في التبليغ ، وبدأت بربا العباس لخصوصيته بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليقتدي الناس به قولاً وفعلاً ؛ فيضعون عن غرمائهم ما كان من ذلك .
وقوله : (( فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله )) ؛ أي : بأن الله ائتمنكم عليهن ، فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها ، والقيام بمصالحها الدينية والدنيوية . وجاء في حديث آخر : (( فإنهن عوان عندكم )) ، جمع : عانية ، وهي الأسيرة . والعاني : الأسير ، وذلك أنها محبوسة لحق الزوج ، وله التصرف فيها ، والسَّلطنة عليها .
وقوله : (( واستحللتم فروجهن بكلمة الله )) ؛ قيل : إن كلمة الله كلمة : لا إله إلا الله ، ومعنى هذا عند هذا القائل : إنه لولا الإسلام للزوج لما حقت له . وقيل : هي كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج. وهي الصيغ التي ينعقد بها النكاح ، وأشبه من هذه الأقوال : أنها عبارة عن حكمه تعالى بحليّة النكاح ، وجوازه ، وبيان شروطه ، فإن حكم الله كلامه المتوجه للمحكوم عليه على جهة الاقتضاء أو التخيير على ما قدمناه في أصول الفقه.
(10/82)
وقوله : (( ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه )) ؛ معنى هذا : ألا يدخلن منازلكم أحدًا ممن تكرهونه ، ويدخل في ذلك الرجال والنساء ، الأقرباء والأجانب . وقد بينا هذا المعنى فيما تقدم ، ولا يُفهم من هذا الكلام : أنه النهي عن الزنى ، فإن ذلك محرم مع من يكرهه الزوج ومع من لا يكرهه . وقد قال : (( أحدًا تكرهونه )) ، ثم إنها كانت تكون استعارة بعيدة . وأيضًا : فإن الزنى يترتب عليه الحدُّ .
وقوله : (( فاضربوهن ضربًا غير مبرح )) ؛ ليس بالحدِّ ، وإنما هو تأديب . والمبرِّح : الشديد الشأقّ . والبَرْح : المشقة الشديدة ، وفيه إباحة تأديب الرجل زوجته على وجه الرفق .
وقوله : (( ولهن عليكم رزفهن وكسوتهن بالمعروف )) ؛ أي : بما يعرف من حاله وحالها ، وهو حجة لمالك ؛ حيث يقول : إن النفقات على الزوجات غير مقدرات ، وإنما ذلك بالنظر إلى أحوالهم وأحوالهن .
وقوله : (( فقال بأصبعه السَّبابة يرفعها إلى السَّماء ، ويُنكِّبها إلى الناس )) ؛ هذه الإشارة منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إمَّا إلى السماء ؛ لأنها قبلة الدعاء ، وأما لعلو الله تعالى المعنوي ؛ لأن الله تعالى لا يحويه مكان ، ولا يختص بجهةٍ. وقد بين ذلك قوله تعالى : { وهو معكم أينما كنتم }.
و (( ينكُتُها )) : روايتي في هذه اللفظة ، وتقييدي على من أعتمده من الأئمة المقيّدين ؛ بضم الياء ، وفتح النون ، وكسر الكاف مشدَّدة ، وضم الباء بواحدة ؛ أي : يُعَدِّلها إلى الناس ، وقد رويت : (( يَنْكُبها )) مفتوحة الياء ، ساكنة النون ، وبضم الكاف ؛ ومعناه : يقلبها ، وهو قريب من الأول ، وقد رويت : (( ينكُتُها )) باثنتين فوق ، وهي أبعدها .
(10/83)
وقوله بعد الفراغ من الخطبة : (( ثم أذَّنَ ، ثم أقام )) ؛ دليل على تقديم الخطبة على الصلاة ، وعلى أن الأذان بعد الخطبة . وبه أخذ مالك في أحد أقواله ، فإنه روي عنه : أنه يؤذن بعد تمام الخطبة ، فيجلس الإمام على المنبر ، ويؤذن المؤذن . ورُوي عنه أيضًا : أنَّه يؤذن في آخر خطبة الإمام حتى يكون فراغ الإمام من الخطبة مع فراغ المؤذن من الأذان . وهو قول الشافعى . وروي عنه : أنه يؤذن لها إذا جلس بين الخطبتين . وقال أبو ثور : يؤذن المؤذن والإمام على المنبر قبل الخطبة ؛ كالجمعة . وروي أيضًا مثله عن مالك .
وقوله : (( فصلَّى الظهر ، ثم أقام فصلَّى العصر )) ؛ فيه دليل : على أن الجمع بين الصلاتين يُكتفى فيه بأذانٍ واحدٍ للصلاتين ، وعلى أن كل صلاة منهما لا بدَّ لها من إقامة . وهذا قول أحمد ، وأبي ثور ، وابن الماجشون ، والطحاوي . وقال مالك : يؤذن ويقيم لكل صلاة قياسًا على سائر الصلوات . وهو مذهب عمر ، وابن مسعود رضي الله عنهما ، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف : إلى أذان واحدٍ ، وإقامة واحدة. وقال الشافعى في أحد قوليه : بإقامتين دون أذان . وروي مثله عن القاسم ، وسالم . ومثله في كتاب ابن الجلاَّب . وقال الثوري : تُجزيء إقامة واحدة لا أذان معها .
قلت : والصحيح الأول ؛ حسب ما دلَّ عليه الحديث ، والجمع بعرفة والمزدلفة في ذلك سواء .
وقوله : (( ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا )) ؛ أي : لم يُدْخِل بينهما صلاة أخرى ، لا نفلاً ولا غيره . وبهذا قال مالك وغيره . وقال ابن حبيب : يجوز أن يتنفل بينهما ، وليس بالبيِّن . ولا خلاف في جواز الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة . وإنما اختلفوا فيمن فاته الجمع مع الإمام بعرفة. فالجمهور على أنه يجمع بينهما اتباعًا لفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقال الكوفيون : يصليهما مَنْ فاتتاه لوقتهما ، ولا يجوز الجمع إلا مع الإمام . ولم يختلف : أن من صلاهما في وقتهما أن صلاته جائزة إذا لم يكن إمامًا .
(10/84)
واختلفوا فيمن صلَّى قبل أن يأتي المزدلفة ، فذهب الكوفيون : إلى أنهما لا تجزيانه ، ويعيدهما ، وإن صلاهما بعد مغيب الشفق ، وقاله ابن حبيب. وقال مالك : لا يصليهما قبل المزدلفة إلا مِنْ عُذْرٍ به ، أو بدابته ، ولا يجمع هذا بينهما حتى يغيب الشفق . وقال مالك : يُصلِّيهما لوقتهما . وقيل : تجزئه صلاتهما في وقتهما قبل المزدلفة ؛ كان إمام الحاجّ أو غيره ، وهو مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وقاله الشافعي ، والأوزاعي ، وأبو يوسف ، وأشهب من أصحابنا.
وسمِّيت المزدلفة بذلك ؛ لاقتراب الناس بها إلى منى لإفاضة من عرفات ، والازدلاف : القرب ، يقال : ازدلف القوم ؛ إذا اقتربوا. وقال ثعلب : لأنها منزلة قربة لله تعالى . وقال الهروي : سُمِّيت بذلك : لازدلاف الناس بها . والازدلاف : الاجتماع . وقيل سُمِّت بذلك : للنزول بها بالليل . وزلف الليل : ساعاته . وتسمَّى أيضًا المزدلفة : بالمشعر ؛ لأنها من المشاعر ، وهي المعالم ، والصواب : أن المشعر موضع مخصوص من المزدلفة ، وهو الذي كانت الْحُمْسُ تقف فيه ، ولا تتعداه ، وتَكْتَفِي بالوقوف فيه عن عرفة .
وسُمِّت منى بذلك : لما يُمنى فيها من الدماء ؛ أي : يراق. وقيل : لأن آدم تَمَنَّى الاجتماع مع حواء فيها .
وسُمِّيت عرفة بذلك : لأن جبريل عرَّف بها آدم ، فقال : عرفت عرفت ، وقيل : سميت عرفة لأن آدم ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعرَّف فيه بحواء بعد إنزالهما إلى الأرض ، وهي المعرَّف . والتعريف : الوقوف بها .
وقوله : (( وجعل حبل المشاة بين يديه )) ؛ يريد : صفَّهم ومجتمعهم . وحيل الرَّمْل : ما طال منه . وقيل : حبل المشاة : طريق الرَّحالة ، حيث يسلكون .
وقوله : (( وجعل بطن ناقته إلى الصَّخرات )) ؛ يعني - والله أعلم- أنه علا على الصخرات ناحية منها ، حتى كانت الصخرات تحاذي بطن ناقته .
(10/85)
وقوله : (( فلم يزل واقفًا بعرفة حتى غربت الشمس ، وذهبت الصُّفرة قليلاً )) ؛ لا خلاف في أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج ، وأنه من بعد الزوال ، وأنه لا يُجزيء قبله ، وأن وقوف الليل يُجزيء . وأكثر العلماء : على أن وقوف النهار بُجزيء إلا مالكًا ، فإنه في معروف مذهبه كمن لم يقف ، ولا خلاف في أفضلية الجمع بين الوقوفين ليلاً ونهارًا . وفيه دليل : على الاحتياط بأخذ جزء من الليل زائد على مغيب الشمس .
قلت : وقد روى الترمذي حديثًا صحيحًا يرفع الخلاف في هذه المسألة : عن عروة بن مُضرَّس قال : أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمزدلفة حين خرج إلى الصَّلاة ، فقلت : يا رسول الله ! إني جئت من جبل طيء ، اكْلَلْتُ راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من شهد صلاتنا هذه ، فوقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه ، وقضى تفثه )). قال : هذا حديث حسن صحيح . وزاد النسائي : (( ومن لم يدرك مع الإمام والناس ؛ فلم يدرك )) ؛ فظاهر هذا : أنه لا يلزم الجمع بين وقوف الليل والنهار ، بل أيُّهما فعل أجزأ ؛ لأن الرواية فيه بـ (( أو )) التي هي لأحد الشيئين ، غير أنه قد جاء في كتاب النسائي من حديث عبد الرحمن بن يعمر قال : شهدت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعرفة ، وأتاه ناس من نجد ، فأمروا رجلاً ، فسأله عن الحج ، فقال : (( الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح ، فقد أدرك حجه )). وقال الترمذي : (( من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر )). قال وكيع : هذا الحديث أُمُّ المناسك . وقال : حديث حسن صحيح .
و (( شنق الزمام )) : ضمَّه وضيَّقه على ناقته . وقد فسَّره بقوله : حتى إنَّ رَأْسَها لَيُصِيب مَوْرِكَ رَحْلِهِ ، وهو قطعة من أدم يتورك عليها الراكب ، تجعل في مقدمة الرَّحل ، شِبْه الْمِخَدَّة . قال القاضي عياض : مَوْرِك ؛ بفتح الراء .
(10/86)
وقوله : (( ثم اضطجع حتى طلع الفجر ، فصلَّى حتى تبيَّن له الصبح )) ؛ فيه سُنَّهُ المبيت بالمزدلفة ، وصلاة الصبح بها بغلس ، وسيأتي : أنه أرخص لبعض نسائه في النَّفر منها إلى منى قبل طلوع الفجر . وفيه : الأذان في السفر ؛ خلافًا لمن قال : يقتصر المسافر على الإقامة .
وقوله : (( ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام )) ؛ فيه : أن الوقوف بالمشعر الحرام إلى الإسفار من المناسك . وقد ذكره الله تعالى في قوله : { فاذكروا الله عند المشعر الحرام }.
وقد اختلف في وجوب الوقوف فيه : فذهب أبو عبيد القاسم بن سلاَّم : إلى وجوبه . والجمهور على أنه مُستحب .
و (( الظُّعُن )) : النساء في الهوادج . و(( يجرين )) بضم الياء وفتحها ، وكلاهما واضح المعنى . و(( طفق )) : أخذ ، وجعل .
ووضع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يده على وجه الفضل : إنما كان خوفًا من الفتنة عليه ، وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينهه عن ذلك ولم يزجره ؛ دليل : على أنه لم يفعل محرمًا . وقال بعض مشايخنا : ستر الوجه عن النساء سُنَّة . وكان الحجاب على أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجبًا .
وقوله : (( حتى أتى بطن محسِّر فحرَّك قليلاً )) ؛ محسِّر : وادي معروف هناك ، يُستحب للحاج أن يحرك دابته هنالك ، كما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( كل حصاة منها حصى الخذف )) ؛ هكذا صحَّت الرواية فيه في كتاب مسلم . وكان في كتاب القاضي ابن عيسى : (( كل حصاة منها مثل حصى الخذف )) ، وهذا هو الصواب . وكذا رواه غير مسلم.
والخذف : رميك حصاة ، أو نواة تأخذها بين سبابتيك ، أو تجعل مِخْذَقَةً من خشب ترمي بها بين إبهامك والسَّبابة .
وقوله : (( رمى من بطن الوادي )) ؛ يعني من أسفلها ، كما يأتي من حديث ابن مسعود ، وهو المستحب . ولو رمى من أي مكان صحَّ رميه ؛ إذا رمى في موضع المرمى.(10/87)
وقوله : (( ثم انصرف إلى المنحر )) ؛ أي : إلى الموضع الذي نحر هو فيه . وموضع نحره أولى من غيره ؛ على أن كل منى منحر ، كما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قال مالك : إلا ما خلف العقبة وقُدَيْد . والنحر بمنى عند مالك له ثلاثة شروط :
أحدها : أن يوقف بالهدي بعرفة .
الثاني : أن يكون النَّحر في أيام منى .
الثالث : أن يكون النَّحر في حج لا في عمرة .
فإذا اجتمعت هذه الشروط ؛ فلا يجوز النَّحر إلا بمنى ، لا بغيرها .
وقال القاضي إسماعيل : إنه يجوز أن ينحر بمكة أيام منى ، وقد حكى أنه مذهب مالك . فأما في العمرة فالنحر فيها بمكة ؛ في بيوتها ، وطرقها ، وفجاجها . ويُجزيء عند مالك النحر في العمرة بمنى ، فإن نحر بغير منى ومكة في الحج والعمرة لم يجز عنده . وجاز عند أبي حنيفة ، والشافعي بأي موضع كان من الحرم ، قالا : والمقصود : مساكين الحرم ، لا الموضع منه . وأجمعوا على أنه لا يجوز فيما عدا الحرم ، ولا يجوز في البيت والمسجد نحر ولا ذبح .
وقوله : (( فنحر ثلاثًا وستين بيده )) ؛ هكذا رواية الجماعة ، وعند ابن ماهان : (( بدنة )) مكان (( بيده )) ، وكلٌّ صواب . وفيه ما يدل على أن الأولى للمهدي أو للمضحي أن يتولى ذلك بيده .
وإعطاؤه ما بقي لعليٍّ لينحرها )) ؛ دليل على صحة النيابة في ذلك ، غير أنه روي في غير كتاب مسلم : أنه إنّما أعطاه إياها ليهديها عن نفسه . ويدل عليه قوله : وأشركه في هديه . وعلى هذا : فلا يكون فيه حجة على الاستنابة . وقيل : إنما نحر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثًا وستين بدنة ؛ لأنها هي التي أتى بها من المدينة ، كما ذكره الترمذي. وقيل : إنما خصَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك العدد ؛ لأنه منتهى عمره ؛ على ما هو الأصح في ذلك ، فكأنه أهدى عن كل سنة من عمره بدنة .
(10/88)
وقوله : (( ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدرٍ ، فطبخت ، فأكلا من لحمها ، وشربا من مرقها )) ؛ إنما فعل هذا ليمتثل قوله تعالى : {فكلوا منها} ، وهما وإن لم يأكلا من كل بضعة ، فقد شربا من مرق كل ذلك . وخصوصية عليّ ـ رضى الله عنه ـ بالمؤاكلة ؛ دليل على أنه أشركه في الهدي .
وفيه دليل : على أن من حَلَف لا يأكل لحمًا فشرب مرقه : أنه يحنث .
وفيه دليل على استحباب أكل الأقل من الهدايا والضحايا ، والتصدق بأكثر .
وفيه دليل على جواز كل المهدي من هدي القران . وقد قدَّمنا : أنه كان قارنًا ، وسيأتي حكم أكل من الهدايا .
وقوله : (( ثم ركب فأفاض إلى البيت )) ؛ هذا هو طواف الإفاضة . وسُمِّي : طواف الزيارة . وهو واجب بإجماع . وهو الذي تناوله قوله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم وليفوا نذورهم وليطوفوا بالبيب العتيق } ، ولا خلاف أن إيقاعه يوم النحر أولى وأفضل . فلو أوقعه بعد يوم النحر ، فهل يلزم الدم بتأخيره أم لا يلزم ، واختلف فيه ، وسيأتي . والجمهور على أن من ترك طواف الإفاضة ؛ أن طواف الوداع لا يجزيء عنه إلا مالكًا ، فإنه قال : يجزيء عنه إذا رجع إلى بلده .
قال القاضي عياض : وكذلك طواف التطوُّع .
وقوله : (( لولا أن يغلبكم النَّاس على سقايتكم لنزعت معكم )) ؛ يعني أنه لو استقى هو بيده لاقتدى الناس به في ذلك ، فاستقوا بأيديهم ، فتزول خصوصية بني عبدالمطلب ، وهى ثابتة لهم ، كولاية الحجابة لبني شيبة ، كما يأتي إن شاء الله تعالى . ويقال : نزع ، بفتح الزاي ، ينزع بكسرها لا غير ، وإن كان الأصل فيها الفتح في المضارع ؛ لأن ما كان على : فَعَل ، وعينه أو لامه حرف حلق ، فالأصل في مضارعه أن يأتي على : يَفْعَُل ، بفتح العين أو بضمها . والنزع : الاستقاء بالرِّشا . والنزح بالحاء : الاستقاء بالدَّلو .
و (( وأبو سَيَّارة )) هو : عميلة بن الأعزل .
(10/89)
وقوله : (( فلما أجاز رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمشعر الحرام لم تشكَّ قريشٌ أنَّه سيقتصر عليه ، ويكون منزله ثمَّ )) ؛ يعني : أنهم توهَّموا أنه كان يفعل كما كانت تفعل في الجاهلية ، فإنهم كانوا يرون لأنفسهم أنهم لا يقفون بعرفة ، ولا يخرجون من الحرم ، ويقفون بالمشعر الحرام بدل وقوف الناس بعرفة ، وهذا مما كانوا ابتدعوه في الحج ، فلما حجَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحكم الله الحجَّ ، وأزال ما ابتدعته الجاهلية ، وأنزل الله تعالى : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } ، يخاطب قريشًا ، ويأمرهم بأن يقفوا بعرفة حيث يقف غيرهم من الناس ، وكذلك فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فعدل عن المشعر الحرام إلى عرفة ، فوقف بها ، وهي سُنَّة إبراهيم المعروفة عند العرب وغيرهم .
وقوله : (( نحرت ها هنا ، ومنى كلها منحر )) ؛ يعني : أنه وإن كان قد نحر في ذلك الموضع المخصوص من منى ، فالنحر واسع في كل مواضعها ، وهو متفق عليه ، وكذلك عرفة ومزدلفة . غير أن توخي موقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنحره أولى تبرُّكًا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبآثاره ، وفي حديث مالك : (( عرفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عُرَنَة )) ، وهو وادي عرفة. قال ابن حبيب : وفيه مسجد عرفة ، وهو من الحرم . واتفق العلماة : على أنه لا يوقف فيه . واختلفوا فيمن وقف في عُرَنَة : فقال أبو مصعب : هو كمن لم يقع ، وحكي عن الشافعي . وقال مالك : حَجُّه صحيح وعليه دم . حكاه عنه ابن المنذر . ومن وقف في المسجد أجزأه عند مالك . وقال أصبغ : لا يجزيه. و(( عُرَنة )) بضم العين والراء ، وذكره ابن دريد بفتح الراء ، وهو ا لصواب .
وقوله : (( وجمع كلها موقف )) في رواية مالك : (( وارتفعوا عن بطن محسِّر )). اتفق العلماء على الأخذ بهذا الحديث ، وترك الوقوف به ، واستحبُّوا الوقوف حيث المنارة ، وحيث تقف الأئمة بين الجبلين ، ومُحَسِّر ليس من المزدلفة ، والله أعلم .
من باب قوله تعالى : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس }
(10/90)
أي : تفرَّقوا . والإفاضة : التفرق في كثرة ، من إفاضة الماء . قال :
فأَفَضْن بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بحرة مِنْ ذِي الأَبارِقِ إِذْ رَعَيْنَ حَفِيلا
وقال الأصمعي : الإفاضة : الدَّفعة ، ومنه : فيض الدمع .
وقال الخطابي : أصل الفيض : السيلان . واختلف المفسِّرون فيمن المراد : (( الناس )) ؛ فقيل المراد : آدم ، وقيل : إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقيل : سائر الناس غير الْحُمْس . وهم قريش ، ومن ولدت ، من هم وكنانة وجديلة . وسُمُّوا حُمْسًا ؛ لأنهم تحمَّسوا في دينهم ؛ أي : تشدَّدوا ، ولذلك كانوا إذا ابتدعوا أمرًا أدانت لهم العرب به .
وقال الحربي : سُمُّوا حمسًا بالكعبة ؛ لأنها حمساء ؛ حجرها أبيض يضرب إلى السَّواد . وكان مِمَّا ابتدعته الْحُمْس : أنه لا يطوف أحدٌ بالبيت وعليه أثوابه إلا الْحُمْس ، فكان الناس يطوفون عراة إلا الْحُمْس ، أو من يعطيه أحمسي ثوبًا ، فإن طاف أحدٌ في ثوبه ألقاه بالأرض ، ولم يعد له ، ولا يأخذه أحدٌ ، لا هو ، ولا غيره ، ولا ينتفع به . وكانت تُسمِّى تلك الثياب : اللُّقى ؛ لإلقائها بالأرض ، فأنزل الله تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } ، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يطوف بالبيت عُريان )). وكذلك كانوا يُفيضون من مزدلفة والناس من عرفة ، فأنزل الله تعالى : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } ، فأحكم الله آياته ، والله تعالى أعلم.
ومن باب الإهلال بما أهل به الإمام
قوله : (( وهو مُنِيخٌ بالبطحاء )) ؛ أي : مضطجع ببطحاء مكة . وهي المسمَّاة بالأبطح والمحصب .
وقوله : (( لبيك بإهلالٍ كإهلال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ وهذا كما تقدَّم من إهلال عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ ، وظاهره : أنه يجوز أن يهل من غير تعيين حج ولا عمرة ، ويحيل في التعيين على إحرامِ فلان إذا تحقق أنه أحرم بأحدهما . وقد اختلف في هذا ، فقال بمنعه مالك ، وأجازه الشافعي ، كما تقدَّم .
(10/91)
قلت : ولا تتم حجة الشافعي بهذا الحديث ، ولا بحديث عليّ حتى يتبين أنهما حين ابتدآ الإحرام لم يعلما عين ما أحرم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ يجوز أن يكون كل واحد منهما نُقِل إليه عين ما أحرم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ولفظهما محتمل ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( وكنت أفتي الناس به )) ؛ يعني : بالتحلل لمن أحرم بالحجِّ بعمل العمرة ، وكأن أبا موسى ـ رضى الله عنه ـ عموم مشروعية ما أمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من التحلل ، وتعديه لغير الصحابة ، ولم ير أن ذلك خاصة بالصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ، كما اعتقد غيره منهم .
و (( رويدك )) ؛ أي : ارفق رفقك ، أو كُفَّ بعض فتياك ، فيصحّ أن يكون مصدرًا ومفعولاً ، فيكون مثل قول امرئ القيس :
أَفَاطمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدَلُّلِ
و (( فليتئد )) : فليرفق .
وقول عمر : (( إن نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام )) ؛ يعني في قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله }.
وقوله : (( وإن نأخذ بسُنَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحل حتى نحر الهدي )) ؛ يعني : أن حجَّة الوداع لم يحل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها حتى رمى جمرة العقبة ، ولم يحل بعمرة ، كما فعل أصحابه .
(10/92)
وقوله : (( قد فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه )) ؛ يعني به : فسخ الحج في العمرة . ونسبة الفسخ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه أتر بفعله . واعتلاله بقوله : ((كرهت أن يظلُّوا بهن مُعْرِسِين في الأراك )) ؛ يعني : أنه كره أن يحلُّوا من حجهم بالفسخ المذكور ، فيطؤون نساءهم قبل تمام الحج الذي كانوا أحرموا به . ولا يظن بمثل عمر ـ رضى الله عنه ـ ، الذي جعل الله تعالى الحق على لسانه وقلبه أنه تتع ما جوَّزه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرأي والمصلحة ، فإن ذلك ظنُّ مَن لم يعرف عمر ـ رضى الله عنه ـ ، ولا فهم استدلاله المذكور في الحديث ، وإنما تمسَّك بقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ؛ ففهم : أن من تلبس بشيء منهما وجب عليه إتمامه ، ثم ظهر له : أن ما أمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه قضية معينة مخصوصة على ما ذكرناه فيما تقدَّم ، فقضى بخصوصية ذلك لأولئك. ثم إنه أطلق الكراهية وهو يريد بها التحريم ، وتجنب لفظ التحريم ؛ لأنه مما أداه إليه اجتهاده . وهذه طريقة كبراء الأئمة : كمالك ، والشافعي . وكثيرًا ما يقولون : أكره كذا . وهم يريدون التحريم ، وهذا منهم تحرُّز وحَذَر ، من قوله تعالى : { ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرام }.
(( مُعْرِسِين )) : جمع مُعْرِس ، وهو الذي يخلو بِعِرْسِهِ ؛ أي : بزوجته . ولا يصحُّ أن يكون من التعريس ؛ لأن الرواية بتخفيف العين والراء ؛ ولأن التعريس إنما هو : النزول من آخر الليل ، كما تقدَّم . ويناقضه قوله : (( يظلُّون ويروحون )) ، فإنهما إنما يقالان على عمل النهار ، والله تعالى أعلم .
(10/93)
ومن باب الاختلاف في أيّ أنواع الإحرام أفضل
قد تقدَّم أن أنواع الإحرام ثلاثة : إفراد ، وقران ، وتمتع ، وأنها مجمع عليها . وإنما الخلاف في الأفضل منها . واختلف المتأولون في هذه المتعة التي رأي فيها عثمان وعلي رضي الله عنهما : هل هي فسخ الحج في العمرة ، أو هي التي علي يجمع فيها بين حجّ وعمرة في عام واحد ، وسفر واحد ؟ فمن قال بالأول صرف خلافهما إلى : أن عثمان كان يراها خاصَّة بمن كان مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع . وكان عليّ لا يرى خصوصيتهم بذلك .
ويستدلُّ على هذا بقول عثمان ـ رضى الله عنه ـ : (( أجل ؛ ولكنا كنا خائفين )) ؛ أي : من فسخ الحج في العمرة ، فإنه على خلاف الإتمام الذي أمر الله تعالى به ، وفيه بُعدٌ . والأظهر : القول الثاني ، وعليه : فخلافهما إنما كان في الأفضل ، فعثمان ـ رضى الله عنه ـ كان يعتقد : أن إفراد الحج أفضل ، وعلي ـ رضى الله عنه ـ كان يعتقد : أن التمتع أفضل . إذ الأمة مجمعة : على أن كل واحد منهما جائز ، وعليه فقوله : (( ولكنَّا كنَّا خائفين )) ؛ أي : من أن يكون أجر من أفرد أعظم من أجر من تمتع منهم . فالخوف من التمتع . ولما ظنَّ أن ذلك يتلقى من عثمان ، ويقتدى به ، فيؤدي ذلك إلى ترك التمتع والقِران ؛ أهل بالقران ليبين أن كل واحد منهما مسوغ ، أو لأنهما عنده أفضل من الإفراد ، من حيث أن كل واحدة منهما في عملين ، والمفرد في عمل واحد ، والله تعالى أعلم .(10/94)
وهذا الذي ظهر لعثمان هو الذي كان ظهر لعمر رضي الله عنهما من قبله ، كما قال عمران بن حصين ـ رضى الله عنه ـ ، فإنه ظهر من استدلال عمر - بأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جَمَع بين حج وعُمْرة - أنَّ الذي منعه عمر هو ما عدا الإفراد . وهذا منه محمول على أنَّه كان يعتقد : أن الإفراد أفضل من التمتع والقِرَان . وكان عمران يعتقد : أن الإفراد أفضل ، ولذلك قال : ((قال رجل برأيه ما شاء )) ؛ يعني به : عمر ، بعد أن روى : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرن . وليست هذه المتعة التي منعها عمر هنا هي التي منعها هو في حديث ابن الزبير ، بل تلك فَسخ الحج في العمرة ، كما تقدَّم .
وعلى الجملة : فأحاديث هذا الباب كثيرة الاختلاف والاضطراب . وما ذكرناه أشبهُ بالصواب . والله الموفق الملهم .
وقول عمران : (( إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أعمر طائفة من أهله في العشر)) ؛ أي : أباح لهم أن يحرموا بالعمرة حين أحرموا من ذي الحليفة ، فيعني بالعشر : عشر ذي القعدة الأخير ، فإنهم أحرموا لست بقين منه ، ويحتمل أن يريد به : عشر ذي الحجة . فإنهم حلوا بفراغهم من عمل العمرة في الخامس منه ، على ما تقدَّم في حديث عائشة ، والله أعلم .
وقوله : (( قال عثمان لعلي كلمة )) ؛ يعني : كلمة أغلظ له فيها . ولعلَّها التي قال في الرواية الأخرى : (( دعنا عنك )) ، فإن فيها غِلَظًا وجفاء بالنسبة إلى أمثالهما ، والله تعالى أعلم .
وقول عمران : (( وقد كان ئ!قئم عليئ حتى اكتويت) يعني : أن الملائكة كانت تسلم عليه إكرامًا له ، واحترامًا إلى أن اكتوى ، فتركت السَّلام عليه . ففيه : إثباث كرامات الأولياء ، وأن الكي ليس بمحرم كما قدَّمناه في كتاب الإيمان ، ولكن تركه أولى .
ومن باب الهدي للمتمتع والقارن
(10/95)
وقول ابن عمر : (( تمتع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج )) ؛ هذا الذي روي هنا عن ابن عمر : من أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تمتع مخالفٌ لما جاء عنه في الرواية الأخرى من أنه أفرد . واضطرب قوليه يدلُّ على أنه لم يكن عنده من تحقيق الأمر ما كان عند جزم بالأمر ، كما فعل أنس على ما تقدَّم ؛ حيث قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( لبيك بحجة وعمرة )).
ثم اعلم : أن كل الرواة الذين رووا إحرام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس منهم من قال : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَلَّ من إحرامه ذلك حتى فرغ من عمل الحج ، وإن كان قد أطلق عليه لفظ التمتُّع ، بل قد قال ابن عمر في هذا الحديث : إنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدأ بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، ولم يقل : إنه حَلَّ من عمرته ، بل قد قال في آخر الحديث : بعد أن فرغ من طواف القدوم ، أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَحْلُل من شيء حَرُمَ عليه حتى قضى حجَّه . وهذا نصٌّ في أنه لم يكن متمتعًا . فتعيَّن تأويل قوله : تمتع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فيحتملُ أن يكون معناه : قرن ؛ لأن القارن يترفَّه بإسقاط أحد العملين ، وهو الذي يدلُّ عليه قوله بعد هذا : فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، ويحتمل أن يكون معناه : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمَّا أذن في التمتع أضافه إليه ، وفيه بُعْد .
وقوله : (( فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج )) ؛ ظاهره : أنه أردف . وظاهر حديث أنس : أنه قرنهما معًا . فإنه حكى فيه لفظه فقال : سمعته يقول : (( لبيك عمرة وحجًّا )) ، وقد استحب مالك للقارن أن يقدِّم العمرة في لفظه ؛ اقتداة بهذه الأخبار .
وقوله للمتمتعين : (( فمن لم يجد هَدْيًا فليصم ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع )) ؛ هذا نصٌّ ما تضمنته آية المتعة . وقد اختلف في مواضع منها :
أوَّلها : قوله : { فما استيسر من الهدي } ، ذهب جماعة من السَّلف إلى أنه شاة ، وهو قول مالك . وقالت جماعة أخرى : هو بقر دون بقرة ، وبدنة دون بدنة . وقيل : المراد بدنة ، أو بقرة ، أو شاة ، أو شرك في دم .
(10/96)
وقوله : (( فليصنم ثلاثة أيام في الحج )) ؛ ذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك لا يكون إلا بعد الإحرام بالحج ، وهو مقتضى الآية والحديث ، وقال أبو حنيفة والثوري : يصحُّ صوم الثلاثة الأيام بعد الإحرام بالعمرة ، وقبل الإحرام بالحج ، ولا يصومها بعد أيام الحج ، وهو مخالف لنصّ الكتاب والسُّنة . والاختيار عندنا : تقديم صومها في أوَّل الإحرام ، وآخر وقتها : آخر أيام التشريق عندنا ، وعند الشافعي . فمن فاته صومها في هذه الأيام صامها عندنا بَعْدُ . وقال أبو حنيفة : آخر وقتها يوم عرفة ، فمن لم يصمها إلى يوم عرفة فلا صيام عليه ، ووجب عليه الهدي . وقال مثله الثوري ؛ إذا ترك صيامها أيام الحج . وللشافعي قول كقول أبي حنيفة .
وقوله : (( وسبعة أيام إذا رجع )) ؛ حَمَله مالك والشافعي في أحد قوليهما على الرجوع من منى ، وأنه يصومها إن شاء بمكة ، أو ببلده. وهو قول أبي حنيفة . وللشافعي ومالك قول آخر : إنه الرجوع إلى بلده ، ولا يصومها حتى يرجع إلى أهله .
وقول حفصة : (( إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر أزواجه أن يحللن عام حجَّة الوداع )) ؛ إنما فعل ذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليسوِّي بينهن وبين من لم يسق الهدي من الناس ؛ الذين أهلُّوا بالحج ؛ لأن أزواجه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يسقن الهدي .
(10/97)
وقولها : (( ما يمنعك أن تحل ؟ )) كذا في رواية ابن جريج عن نافع ، عن ابن عمر ، عنها . ولم يذكر فيها : (( من عمرتك )) ، وذكره مالك وغيره عن نافع ، ويظهر من قولها هذا : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحرم بعمرة وحدها ، كما سيأتي في حديث ابن عباس : أنه أحرم بعمرة ، وظاهر هذه الروايات حجة لمن قال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان متمتعًا . وقد بينَّا صحيح ما أحرم به . وقد تأوَّل من قال : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قارنًا هذه الروايات : بأن حفصة وابن عبَّاس عبَّرا بالإحرام بالعمرة عن القِرَان ؛ لأنها السَّابقة في إحرام القارن ، قولاً ونية ، أو نية . ولا سيَّما على ما ظهر من حديث ابن عمر : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مردفًا ، وهذا واضح . وأما من رأى : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مفردًا بالحج فتأوَّل ذلك تأويلات بعيدة ، أقربها : أن معنى قولها : (( من عمرتك )) ؛ أي : بعمرتك . كما قال تعالى : { يحفظونه من أمر الله } ؛ أي : بأمر الله . وكقوله : { من كل أمر سلام هي} ؛ أي : بكل أمر . فكأنها قالت : ما يمنعك أن تحل بعمرة تصنعها ؟ فأخبرها بسبب منعه من ذلك. وقد ذكرنا ذلك المعنى مِرارًا. وقال محمد بن أبي صفرة : مالك يقول في هذا الحديث : (( من عمرتك )) ، وغيره يقول : ((من حجك )).
(10/98)
وقوله : (( إنَّ ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير )) ، كان من شأن ابن الزبير : أنَّه لما مات معاوية بن يزيد بن معاوية ولم يستخلف ، بقي الناس لا خليفة لهم جماديين وأيامًا من رجب من سنة أربع وستين ، فاجتمع من كان بمكة من أهل الحل والعقد ، فبايعوا عبدالله بن الزبير لتسع ليالٍ بقين من رجب من السنة المذكورة ، واستوسق له سلطان الحجاز ، والعراق ، وخراسان ، وأعمال المشرق . وبايع أهل الشام ومصر مروان بن الحكم في شهر رجب المذكور ، ثم لم يزل أمرهما كذلك إلى أن توفي مروان وولي ابنه عبد الملك ، فمنع الناس من الحج لئلا يبايعوا ابن الزبير . ثم إنه جيَّش الجيوش إلى الحجاز ، وأمَّرَ عليهم الحجَّاج ، فقاتل أهل مكة ، وحاصرهم إلى أن تغلَّب عليهم ، وقتل ابن الزبير ، وصلبه الحجَّاج ، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث ليالٍ ، وقيل : لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة في سنة ثلاث وسبعين.
و (( الأسوة )) : القدوة . يقال بضم الهمزة وكسرها . وقد قريء بهما في قوله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }.
و (( الصدّ )) : المنع .
وقوله : (( أصنع كما صنع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ يعني : أنه إن صدَّ عن البيت حل من إحرامه ، كما صنع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحديبية ؛ إذ صدَّه كفار قريش .
وقوله : (( إني قد أوجبت عُمْرة )) ؛ إنما أخبرهم بذلك ؛ ليقتدوا به في ذلك . و(( أوجبت )) : التزمت وأهللت .
وقوله : (( ما شأن الحج والعمرة إلا واحد )) ؛ أي : في حكم الصدِّ . يعني : أنه إن صُدَّ عن البيت بعدوٍّ ، فله أن يحل من إحرامه ، سواء كان محرمًا بحج ، أو عمرة ، وإن كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما صُدَّ عن عمرة ؛ لكن لما كان الإحرام بالحج مساويًا للأحرام بالعمرة في الحكم حمله عليه .
وقوله : (( أشهدكم أني قد أوجبت حجًّا مع عمرتي )) ؛ يعني : أنه أردف الحج على عمرته المتقدَّمة ، فصار قارنًا . وفيه حجة على جواز الإرداف . وهو مذهب الجمهور .
(10/99)
وقوله : (( وأهدى هديًا اشتراه بقُديد )) ؛ يعني : أنه قلَّده هناك وأشعره ، ويعني به : الهدي الذي وجب عليه لأجل قرانه .
وقوله : (( حتى قدم مكة ، فطاف بالبيت )) ؛ يعني : طواف القدوم . وحصل منه : أنه لم يقع له ما توقعه من الصَّد . وفيه دليل : على جواز إحرام من توقع الصد ، وتوهمه ، بخلاف من تحققه ، فإنه لا يكون له حكم المصدود على ما يأتي .
وقوله : (( ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول )) ؛ يعني : الطواف بين الصفا والمروة . وأما الطواف بالبيت : فلا يصح أن يُقال فيه : إنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة ؛ لأنه هو الركن الذي لابدَّ منه للمفرد ، والقارن ، ولا قائل : بأن طواف القدوم يجزيء عن طواف الإفاضة بوجه .
وقوله : (( وكذلك فعل رسوذ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ يعني : أنه اكتفى بالطواف بين الصَّفا في والمروة حين طاف للقدوم ، ولم يعد السعي . وفيه حجة على أبي حنيفة ؛ إذ قال : إن القارن لا يكتفي بعمل واحد ، بل لابدَّ من عمل كل واحد من الحج والعمرة ، والله أعلم.
ومن باب : الاختلاف فيما به أحرم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(10/100)
قد قدمنا ذكر الاختلاف فيما به أحرم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وذكرنا ما يرد عليه ، والمختار في ذلك . وحديث أنس هذا : في أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحرم قارنًا ، ولا يلتفت لقول من قال : إن أنسًا لعلَّه لم يضبط القضية لصغره حينئذ ؛ لأنه قد أنكر ذلك بقوله : (( ما تعدُّونا إلا صبيانًا )). ولأنه وإن كان صغيرًا حال التحمُّل ؛ فقد حدَّث به ، وأذاه كبيرًا متثبتًا ناقلاً للفظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نقل الجازم ، المحقق ، المنكر على من يظن به شيئًا من ذلك ، فلا يحل أن يقال شيء من ذلك ، ولأنه قد وافقه البراء بن عازب على نقل لفظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدَّال على قرانه ؛ إذ قال لعلي : (( إني سقت الهدي ، وقرنت )) ؛ على ما خرَّجه النسائي ، وهو صحيح . ووافقهما حديث عمر بن الخطاب الذي قال فيه : (( إن الملك أتاه فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجَّة )). وفي معنى ذلك حديث ابن عمر المتقدم الذي قال فيه : (( إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج )). وقد قدَّمنا : أن معنى قول ابن عباس : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحرم بعمرة : أنه أردف كما قال ابن عمر . وبدليل الإجماع من النقلة على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحلَّ من إحرامه ذلك حتى قضى حجَّه ، ويمكن أن تحمل رواية من روى : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفرد الحج ؛ على أن الراوي سمع إردافه بالحج على العمرة المتقدَّمة ، فسمعه يقول : (( لبيك بحج )) ، ولم يكن عنده علم من إحرامه المتقدَّم بالعمرة .
وقد استدل من قال : بتفضيل الإفراد : بأن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهما رأوا ذلك ، وأحرموا به مدَّة ولايتهم .
والجواب : بأن ذلك رأيهم لا روايتهم . ومن نصَّ وحكى حُجَّةٌ على من ظنَّ ورأى . وقد تقدَّم ذكر من قال بتفضيل القِران على الإفراد ، وعمل به من الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ .
ومن باب الطواف عند القدوم
(10/101)
سؤال السَّائل لابن عمر : إنما كان عن طواف القدوم ؛ هل يؤخر إلى أن يوقف بعرفة ؟ فأجابه بمنع ذلك . وهو الصحيح الذي لا نعلم من مذاهب العلماء غيره . وما حكاه هذا الرجل عن ابن عبَّاس لا يعرف من مذهبه . وكيف وهو أحد الرُّواة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدأ بالطواف عند قدومه مكة . وقد حمل بعض متأخري العلماء هذا السؤال : على أنه فيمن أحرم بالحج من مكة ؛ هل يطوف طواف القدوم قبل أن يخرج إلى عرفات ؟ قال : فمذهب أبي حنيفة والشافعي : أنه يطوف حين يحرم ، كما قال ابن عمر . قال : والمشهور من مذهب أحمد : أنه لا يطوف حتى يخرج إلى منى وعرفات ، ثم يرجع ويطوف ، كما قال ابن عباس . وعن أحمد رواية كمذهب ابن عمر .
وقوله : (( إن كنت صادقًا )) ؛ ورع منه لئلا يذكر ابن عباس بشيء ما ثبت عنه . ويمكن أن يحمل إطلاق فتيا ابن عباس على المراهق ، فإنه لا يخاطب بطواف القدوم ، أو يكون ابن عباس سُئل عن طواف الإفاضة فأجاب : بأنه لا يفعل إلا بعد الوقوف . وهو الحق ، والله أعلم .
وقد تقدَّم ذكر حكم طواف القدوم وغيره .
وقوله : (( ثم لم يكن غيره )) ؛ في المواضع كلَّها ، كذا وقع في جميع نسخ مسلم عند جميع رواته . قال القاضي عياض : وهو تغيير ، وصوابه : (( ثم لم تكن عُمرةٌ )). وهكذا رواه البخاري ، وبه يستقيم الكلام. قال : ويدلُّ على صحَّة هذا قوله في الحديث نفسه : (( وآخر من فعل ذلك ابن عمر ، ولم ينقضها بعمرة )).
قلت : ويحتمل أن يحمل لفظ مسلم على معنى صحيح من غير احتياج إلى تقدير تغيير وتوهيم للرُّواة الحفاظ ، بأن يقال : إن قوله : ثم لم يكن غيره . يعني : إنه لم يكن تحلل بعمرة ؛ أي : لم يحدث غير الإحرام الأول. وأفاد ذلك : أن طوافهم الأول لم يكن للعمرة بل للقدوم. وعلى هذا الذي ذكرناه تكون رواية من رواه : (( ثم لم يكن عمرة )) ؛ مقيدة لهذه الرواية : (( ثم لم يكن غيره )). ولا تكون هذه تصحيفًا .
(10/102)
وقوله : (( فلمَّا مسحوا الرُّكن حلُّوا )) ؛ يعني بذلك : لمس الحجر في آخر الطوَّاف ، ولم يذكر السعي بين الصفا والمروة ؛ لأنه قد صار من المعلوم ملازمة السعي للطواف ، فاكتفى بذكره عنه . وأيضًا : فقد وردت أخبار عن هؤلاء المذكورين : بأنهم سعوا بعد طوافهم . فتكمل الرواية الناقصة ، ويرتفع الإشكال . والله أعلم .
ومن باب إباحة العمرة في أشهر الحج
قوله : (( كانوا يرون أن العمرة في أشهرالحج من أفجر الفجور )) ؛ أي : من أفحش الفواحش ، ويعني أهل الجاهلية ، وكان ذلك من تحكماتهم المبتدعة .
وقوله : (( ويجعلون الْمُحرم صفر )) ؛ أي : يسمونه به ، وينسبون تحريمه إليه ، لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر حرم ، فتضيق عليهم بذلك أحوالهم. وحاصله : أنهم كانوا يحقون من الأشهر الحرم ما احتاجوا إليه ، ويحرمون مكان ذلك غيره ، وكان الذين يفعلون ذلك يسمَّون : النَّسأة ، وكانوا أشرافهم. وفي ذلك قال شاعرهم :
أَلَسْنا النَّاسِئِين على معَعَدٍّ شُهُورَ الحلِّ نَجْعَلُها حَرامًا
فردَّ الله تعالى كل ذلك بقوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر}.
وقوله : (( ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر )) ؛ فـ(( برأ )) : أفاق . و(( الدَّبر )) يعني به : دبر ظهور الإبل عند انصرافها من الحج . و(( عفا الأثر )) : انمحى ودرس. الخطابي : يعني أثر الدبر. وفيه بُعْد. وقال غيره : يعني أثر الحاج من الطرق.و(( عفا )) من الأضداد . يقال : عفا الشيء : كثر ، وقل ، وظهر وخفي ، مثله.
ومن باب : تقليد الهدي واشعاره عند الأحرام
(( الإشعار )) : الإعلام . اشعار الهدي : هو أن يُفعل فيه علامة يعلم بها أنه هدي. و(( شعائر الحج )) : معالمه ، وهي مواضع أفعاله . ومنه سُمِّي المشعر الحرام . و(( صفحة السَّنام )) : جانبه . و(( السَّنام )) : أعلى ظهر البعير.
(10/103)
وحديث ابن عباس هذا يدل على أن الإشعار يكون في الجانب الأيمن ، وبه أخذ الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وروي عن ابن عمر.
وقالت طائفة : يشعر في الجانب الأيسر ، وبه قال مالك. وقال أيضًا : لا بأس به في الأيمن. وقال مجاهد : من أي الجانبين شاء ، وبه قال أحمد في أحد قوليه . وفيه ردٌّ على أبي حنيفة ؛ حيث لا يرى الإشعار ، ويقول : إنه سُنَّة . ولا حجة لمن قال : إن الإشعار تعذيب للحيوان ، فإن ذلك يجري مجرى الوسم الذي يُعرف به الملك وكيره مما في معناه . ثم هو أمر معمول به من كافة المسلمين وجماهيرهم من الصحابة وغيرهم. وهذا في البدن واضح . فأما البقر : فإن كانت لها أسنمة أشعرت كالبدن ، قاله ابن عمر. وبه قال مالك. وقال الشافعي ، وأبو ثور : تُقلَّد ، وتشعر مطلقًا ، ولم يفرقوا . وقال سعيد بن جبير : تُقلَّد البقر ولا تشعر . فأما الغنم : فلا تشعر . وهل تقلَّد أم لا ؟ قولان . فممن صار إلى تقليدها جماعة من السلف ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن حبيب. وأنكره مالك ، وأصحاب الرأي. وكأن هؤلاء لم يبلغهم حديث عائشة في تقليد الغنم ، أو بلغ ، لكنه تركوه لانفراد الأسود به عن عائشة ، ولم يرو ذلك غيره عنها .
وقوله : (( وقلَّدها نعلين )) ؛ النعلان أفضل عندهم . وأجاز مالك والشافعي نعلاً واحدةً . وأجاز الثوري فم القِرْبة وشبهها. ومقصودُ التقليد والإشعار : أن يجبَ الهديُ ويُعرف ، فلا يتعرض له أحدٌ ، وإنّ ضلَّ نُحر ، ولا يُنحر دون مَحِلِّه .
ومن باب : كم اعتمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(10/104)
قوله : (( عمرة من الحديبية )) ؛ يعني : التي صدَّه فيها المشركون عن البيت ، فحل فيها من الحديبية ، وحلق ، ونحر ، ورجع إلى المدينة ؛ كما صالحهم عليه . ثم إنه اعتمر في السَّنة الثانية عمرة القضاء . وسُمِّيت بذلك ، وبعمرة القضية أيضًا ؛ لأنه إنما اعتمرها في السَّنة الثانية على ما كان قاضاهم عليه ؛ أي : صالحهم ، وذلك : أنهم كانوا شترطوا عليه ألا يدخل عليهم مكة في سنتهم تلك ، بل في السَّنة الثانية ، ولا يدخلها عليهم بشيء من السِّلاح إلا بالسيف وقرابه ، وأنه لا يمكث فيها أكثر من ثلاثة أيام ، إلى غير ذلك من الشروط التي هي مذكورة في كتب السِّير ، فوفَّى لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك .
وأما عمرته من جعرانة فكانت بعد منصرفه من حنين ، ومن الطائف ، وبعد قسم غنائم حنين بجعرانة . وأما عمرته مع حجته فهي التي قرنها مع حجته على رواية أنس ، أو أردفها على ما ذكرناه عن ابن عمر . واعتمد مالك في "موطئه" : على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتمر ثلاث عُمَر : إحداها في شوال ، فأسقط التي مع حجته بناءً منه على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مفردًا بالحج ، وأما هذه العُمرة المنسوبة إلى شوال فهي- والله أعلم - : عمرة الجعرانة ، أحرم بها في أخريات شوال ، وكمَّلَها في ذي القعدة ، فصدقت عليها النِّسبتان ، والله تعالى أعلم .
ولا يُعلم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عُمرة غير ما ذكرناه مما اتفق عليه ، واختلف فيه. وقد ذكر الدارقطني : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج معتمرًا في رمضان . وليس بالمعروف .
وأما قول ابن عمر : أنه اعتمر في رجب ؛ فقد غلَّطَتْهُ في ذلك عائشة ، ولم ينكر عليها ، ولم ينتصر ، فظهر : أنه كان على وَهْم ، وأنه رجع عن ذلك .
وأما حَجُّهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فلم يختلف أنه إنما حج في الإسلام حجَّة واحدة ، وهي المعروفة بحجَّة الوداع . وأما قبل هجرته : فاختلف هل حجَّ واحدة - كما قال أبو إسحاق السَّبيعي ، أو حجَّتين ؛ كما قال غيره ، وسيأتي عدد غزواته في الجهاد إن شاء الله تعالى.
ومن باب فضل العُمْرة في رمضان
(10/105)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمرأة الأنصارية : (( ما منعك أن تحجِّي معنا ؟ )) كان هذا منه بعد رجوعه من حجَّته ، وكان هذا السؤال منه لينبِّه على المانع ؛ إذ كان قد أذَّن في النَّاس بالحجِّ أذانًا يعم الرجال والنساء . وأيضًا فإنه قد كان حجَّ بأزواجه ، فأخبرته بما اقتضى تعذر ذلك : من أنها لم تكن لها راحلة ، فلما تحقق عذرها ، وعلم أنها متحسِّرة لما فاتها من ثواب الحجّ معه ، حضَّها على العُمْرة في رمضان ، وأخبرها : أنها تعدلُ لها حجَّة معه . ووجه ذلك : أنها لما صحَّت نيتها في الحجِّ معه جعل ثواب ذلك في العُمرة في رمضان جَبْرًا لها ، ومُجازاة بنيَّتها . فإن قيل فيلزم من هذا أن يكون ذلك الثواب خاصًّا بتلك المرأة . فلما : لا يلزم ذلك ؛ لأن من يساويها في تلك النيَّه والحال ، ويعتمر في رمضان كان له مثل ذلك الثواب ، والله تعالى أعلم .
و (( الناضح )) : البعير الذي يُستقى عليه الماء .
وقولها : (( يسقي عليه غلامُنا )) ؛ كذا رواه ابن ماهان وغيره . وسقط للعذري والفارسي (( عليه )).
قال القاضي أبو الفضل : وأرى هذا كلّه تغييرًا ، وأن صوابه : (( نسقي عليه نخلاً لنا )). فتصحَّف منه : (( غلامنا )). وكذا جاء في البخاري : (( نسقي عليه نخلاً )). وقد خرَّج النسائي معنى حديث ابن عباس من حديث معقل ، وأنه هو الذي جاء إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : إن أم معقل جعلت عليها حجَّة معك ، فلم يتيسَّر لها ذلك ، فما يجزيء عنها ؟ قال : ((عمرة في رمضان )). قال : فإن عندي جملاً جعلته في سبيل الله حبيسًا ، فأعطيه إيَّاها فتركبه ؟ قال : (( نعم )). وهذا يدلُّ على صحة سبب تعظيم أجر العمرة في رمضان ، وما ذهبنا إليه من معنى الحديث . وإنما عَظُمَ أجر العمرة في رمضان لحرمة الشهر ، ولشدة النصب ، والمشقة اللاحقة من عمل العُمْرة في الصوم . وقد أشار إلى هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة - وقد أمرها بالعُمْرة- : (( إنها على قدر نَصَبك - أو قال - : نفقتك )). والله تعالى أعلم .
(10/106)
وقوله : (( جعلت عليها حجَّة معك )) ؛ يعني : أنها همَّت بذلك ، وعزمت عليه ، لا أنها أوجبت ذلك عليها بالنَّذر ؛ إذ لو كان ذلك لما أجزأها عن ذلك العُمْرة ، والله تعالى أعلم .
ومن باب : من أين دخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة والمدينة ؟ ومن أين خرج ؟
قوله : (( كان يخرج من طريق الشجرة )) ؛ يعني - والله أعلم - : الشجرة التي بذي الحليفة ؛ التي أحرم منها ؛ كما قال ابن عمر في الحديث المتقدِّم ، ولعلَّها هي الشجرة التي ولدت تحتها أسماء بنت عميس كما تقدم . و(( الْمُعرَّس )) : موضع التعريس . وهو موضع معروف على ستة أميال من المدينة هناك . والتعريس : النزول من آخر الليل . و(( الثنية )) هي : الهضبة ، وهي : الكوم الصغير . وهذه الثنية هي التي بأعلى مكة ، وتسمى : كداء. وبأسفل مكة تثنية أخرى تسمى : كدى. وقد اختلف أهل التقييد في ضبط هاتين الكلمتين : فالأكثر منهم : على أن التي بأعلى مكة : بفتح الكاف والمد. والسفلى : بضم الكاف والقصر . وقيل : عكس ذلك. وأما اللغويون : فقال أبو علي القالي : (( كداء )) ممدود : جبل بمكة . قال الشاعر :
أَقْقَرَتْ مِن عبيد شَمْس كداء وطدَى والركن والبطحاء
وقال غيره : كدى : جبل قريب من كداء . وقال الخليل : كداء وكدَى - بالضم وتشديد الياء- : جبلان بمكة ، الأعلى منهما بالمد. وقال غيره : كدى - مضموم ، مقصور- : بأسفل مكة ، والمشدَّد لمن خرج إلى اليمن ، وليس من طريق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ثم اختلف المتأولون في المعنى الذي لأجله خالف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين طريقيه . فقيل : ليتبرك به كل من في طريقيه ، ويدعو لأهل تينك الطريقين . وقيل : ليغيظ المنافقين ومن في ذينك الطريقين منهم بإظهار الدِّين ، وإعزاز الإسلام . وقيل : ليرى السَّعة في ذلك .
ومن باب المبيت بذي طوى والاغتسال قبل دخول مكة
(10/107)
و (( ذو طوى ))- بفتح الطاء والقصر- هو : وادٍ بمكة ، قاله الأصمعي. قال : والذي بطريق الطائف ممدود . وحكى بعض اللغويين : ذو طوى - بضم الطاء والقصر- للذي بمكة ، وذو طواء - بالفتح والمد- حكاه ابن بطال ، وكذا ذكره ثابت ، وضبطه الأصيلي بكسر الطاء ، ولا خلاف في أن المبيت بذي طوى ، ودخول مكة نهارًا ليس من المناسك ، لكن إن فعل ذلك اقتداءً بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتتبُّعًا لمواضعه ، كان له في ذلك ثواب كثير ، وخيرٌ جزيل. وقد تقدَّم الكلام على أفعال الحجِّ وأحكامها .
و (( الأكمة )) : الكوم الغليظ الضخم . و(( ثَمَّ ))- بفتح الثاء المثلثة : إشارة إلى موضع مخصوص معروف . وهو مبني على الفتح ، ويوقف عليه بالهاء . فيقال : ثمه . و(( فُرْضَا الجبل )) : موضعان منخفضان منه ، وكأنهما نقبان أو طريقان . و(( الفُرْضة )) : الجزء الذي يدخل فيه الوَتَر. وأصل الفَرْض : القطع . وهذا التحديد والتحقيق الذي صَدَر من ابن عمر في تعيين مواضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دليلٌ على شدة عنايته ، وتهمُّمه بآثار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعلى أنه مَن قصد تلك المواضع متبرِّكًا بآثار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سر وبالصَّلاة فيها حَصَل على حظٍّ عظيمٍ وثوابٍ جزيلٍ .
ومن باب الرَّمل في الطواف
(( الرَّمَل )) : بتحريك الميم ، وفتحها ، و(( الخبب )) : شدة الحركة في المشي . ومنه : الؤقل في الأعاريض ، وهو القصير منها . قال الجوهري : هو كالوثب الخفيف . وهو السَّعي أيضًا . وقد بين في الحديث سَبب مشروعيته . وتبيَّن أيضًا من مداومة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه ثابث دائمًا ، وإن ارتفع سبب أصل مشروعيته . وهو سنة عند الفقهاء أجمعين . وروي في ذلك خلاف عن بعض الصحابة ، وأن المشي أفضل . وهم محجوجون بفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع . وهو في ثلاثة أشواط ، يبدأمن الحجر ، ويختم به ، كما جاء في حديث ابن عمر ، وغيره .
(10/108)
وقول ابن عمر : (( كان إذا طاف الطواف الأوَّل خبَّ ثلاثًا )) ؛ دليل : على أن مشروعية الرَّمل إنما هو عند القدوم ؛ حاجًّا كان ، أو معتمرًا. وإن غير ذلك من الأطواف لا يشرع فيها الرَّمل ، ويخاطب به المكيُّون وغيرهم إلا شيئًا روي عن ابن عمر : أنه لا يخاطب به مكيٍّ ، ولا يخاطب به النساء اتفاقًا فيما علمته لمشقته عليهن ؛ ولأنه يظهر منهن ما يجب ستره ؛ كالرِّدف ، والنَّهد ، وغير ذلك .
وقول ابن عباس : (( صدقوا وكذبوا )) ؛ يعني : أنهم أصابوا من وجه ، وغلطوا من وجه . فأصابوا من حيث أنهم نسبوه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وغلطوا من حيث ظنوا أن تلك الأمور راتبة ، لازمة ؛ وإنما كان ذلك لأسباب نبَّه عليها فيما ذكر من الحديث . ويظهر من مساق كلام ابن عبابر أنها ليست بسنة راتبة عنده ، فارتفعت لارتفاع أسبابها . وهذا لا يمكن أن يُقال في الرَّمل في الطواف والسَّعي ؛ إذ قد فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع فقد تلك الأسباب . فينبغي أن يُقال : هو سُنة مطلقًا ، كما هو مذهب الجماهير .
وقولهم : (( وهَنَتْهُم حُمَّى يثرب )) ؛ أي : أضعفتهم ، وهو ثلاثي . وقد يقال : رباعيًّا . قال الفراء : يُقال : وهنه الله ، وأوهنه الله .
و (( يثرب )) : اسم المدينة في الجاهلية ، واسُتجد لها في الإسلام : المدينة ، وطيبة . وسيأتي لذلك مزيد بيان . و(( الجلَد )) : التَّجَلُّد والقوة .
و (( الأشواط )) : الأطواف . وقد تقدم ذكر من كره لفظ الشوط ، والأشواط .
وقوله : (( فلم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط إلا الإبقاءُ عليهم )) ؛ روايتنا : الإبقاءُ - بالرفع - على أنه فاعل يمنعهم . ويجوز نصبه على أن يكون مفعولاً من أجله ، ويكون في : (( يمنعهم )) ؛ ضمير عائد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو فاعلُه. فتأمَّله ، والله أعلم.
ومن باب استلام الركنيين اليمانيين
(10/109)
قد تقدم القول على حكم مسِّ الأركان . وقد بيَّن في هذا الحديث : أن الركنين اليمانيين أحدهما : الحجر الأسود ، والثاني : الذي يليه من نحو دور بني جُمَيْح ، وكلاهما من جهة اليمن ، ولذلك نُسِبا إليه .
وقول عبدالله بن سرجس : (( رأيت الأصيلع )) ؛ يعني : عمر ـ رضى الله عنه ـ ، وكان أصلع . وتصغيره في هذا الموضع كما قالوا :
دُويهيةٌ تصفرُّ منها الأنامل
وكما قالوا للجبل العظيم : جُبيل. ونعته بالصلع ؛ لأنه نعته في الكتب القديمة . يقال : إنهم كانوا يقولون - أعني : نصارى الشام - : إن الذي يفتح بيت المقدس الأصيلع . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع )) ؛ دفع لتوهم من وقع له من الجهَّال : أن للحجر الأسود خاصية ترجع إلى ذاته ، كما توهمه بعض الباطنية . وبيان : أنه ليس في تقبيله إلا الاقتداء المحض ، ولو كان هناك شيء مما يُفترى لكان عمر ـ رضى الله عنه ـ أحق الناس بعلمه .
وفي هذا الحديث ما يدلُّ على أن تقبيل الحجر من سُنَن الطواف ، والجمهور على ذلك ؛ لمن قدر عليه ، فإن لم يقدر وَضَع يده عليه ، ثم رفعها إلى فِيهِ بغير تقبيل على إحدى الرِّوايتين عن مالك ، وبه قال القاسم بن محمد. والجمهور على أنه يقبل يده ، فإن لم يفعل فلا شيء عليه عندهم. قال مالك رحمه الله : والسجود عليه بدعة . والجمهور : على جوازه .
وأما الركن اليماني فيستلم باليد ، ولا يُقَبَّل . وهل تقبل اليد أم لا ؟ قولان . ولا يخاطب النساء بذلك عند الجميع ، ويفعل ذلك في آخر كل شوط ، وهو في أوَّل الطواف أوكد منه في سائرها . واستحب بعض السَّلف أن يكون لمس الركنين في وترٍ من الطواف . وبه قال الشافعي رحمه الله .
وقوله : (( رأيت عمر قبَّل الحجر ، والتزمه )) ؛ يعني : عانقه . والحفيُّ بالشيء : المعتني به ، البارّ . ومنه قوله تعالى : { إنه كان بي حفيًّا} ، والله أعلم.
ومن باب الطواف على الراحلة
(10/110)
لا خلاف في جواز طواف المريض راكبًا للعذر . واختلف في طواف من لا عذر له راكبًا . فأجازه قوم ؛ منهم ابن المنذر ؛ أخذًا بطوافه ـ صلى الله عليه وسلم ـ راكبًا . والجمهوز على كراهة ذلك ومنعه ، متمسكين بظاهر قول تعالى : { وليطَّوَّفوا بالبيت العتيق } ، وظاهره : أن يطوف الطائف بنفسه . ومن طاف راكبًا إنما عن طيف به ، ولم يطف هو بنفسه . وبأن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ اعتذروا عن طوافه ـ صلى الله عليه وسلم ـ راكبًا ، وبيَّنوا عذره في ذلك ، فكان دليلاً على أن أصل مشروعية الطواف عندهم ألا يكون راكبًا . وأما الأعذار التي ذكروا في ذلك فثلاثة :
أحدها : ما في حديث جابر ، وهو : أن يراه الناس إذا أشرف عليهم ؛ ليسألوه ، ويقتدوا به.
وثانيها : ما ذكرته عائشة رضي الله عنها ؛ وهو : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو كان ماشيًا لطرق بين يديه ، ولصرفوا عنه ، وكان يكرهُ ذلك . على أن قولها : كراهة أن يصرف عنه الناس ؛ يحتمل أن يكون الضمير في (( عنه )) راجعًا إلى الركن ، فتأمله .
وثالثها : ما ذكره أبو داود : من أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في طوافه هذا مريضًا. وإلى هذا المعنى أشار البخاري بما ترجم على هذا الحديث ، فقال : باب المريض يطوف راكبًا .
وقوله : (( فإن الناس غشوه )) ؛ الرواية الصحيحة : بضم الشين ، وهو الصحيح ؛ لأن أصله : غشيُوه ، استثقلوا الضمة على الياء ، فنقلوها إلى الشين ، فسكنت الياء ، فلما اجتمعت مع الواو الساكنة حذفت الياء لالتقاء الساكنين ، وفيه تعليل آخر ، وما ذكرناه أولى . وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُقبِّل المحجن دليل على صحة أحد القولين السَّابقين .
والمحجن : عصا معقفة الطرف ، تكون عند الراكب على البعير ليأخذ بها ما سقط له ، ويحرك بها بعيره .
وقوله : (( طوفي من وراء الناس وأنت راكبة )) ؛ دليل على جواز ذلك الطواف من للعذر .
(10/111)
واختلف قول من كرهه مع عدم العذر . فذهب مالك ، وأبو حنيفة : إلى أنه يعيدُ ما دام قريبًا من ذلك ، فإن بَعُدَ إلى مثل الكوفة ففيه دم . ولم يَرَ الشافعي فيه شيئًا . وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ؛ لأن ذلك سنة طواف النِّساء ؛ لئلا يختلطن بالرِّجال ، ولئلا يعثر مَرْكبُها بالطائفين فيؤذيهم. وعلى هذه العلَّة ؛ فكذلك يكون حكم الرجل إذا طاف راكبًا.
وفي هذه الأحاديث حُجَّة لمالك على قوله بطهارة بول ما يؤكل لحمه. و(( الطور )) : الجبل - بالسريانية -. وقال ابن عبَّاس : كل جبل ينبت فهو طور . و(( الكتاب )) : المكتوب . و(( الرَّق المنشور )) : هو الجلد المهيأ ليكتب فيه . وأحسن ما قيل فيه : إنه القرآن المكتوب في المصاحف. وهذه أقسام أقسم بها الله تعالى تشريفًا لها ، والله أعلم.
ومن باب قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله }
حكم السعي قد تقدم القول في قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } في حديث جابر. واختلف العلماء في حكم الطواف بين الصفا والمروة ؛ هل هو ركن في الحج والعمرة ؛ كما ذهب إليه الجمهور ، أو ليس بركن ، كما ذهب إليه جماعة من السَّلف وغيرهم ؟ ثم من هؤلاء من قال : إنه تطوع لا يجبر بالدم ؛ وهم : أنس ، وعبدالله بن الزبير ، وابن سيرين. ومنهم من قال : يجبر بالدم ؛ وهم : الحسن البصري ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، وأبو حنيفة. وربما أطلق عليه بعضهم لفظ الواجب. وقال أصحاب الرأي : إن تركه أو أربعة منه ؛ فعليه دمٌ. وإن ترك من الثلاثة شيئًا ؛ فعليه لكل شوط إطعام مسكين نصف صاع من حنطة . والصحيح مذهب الجمهور على ما يأتي .
(10/112)
وقول عروة : (( ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئًا ، وما أبالي ألاّ أطوف بهما )) ؛ إنما فهم هذا عروة من ظاهر قوله تعالى : { فلا جناح عليه أن يطوَّف بهما } ، ووجه فهمه أن رفع الحرج عن الفعل إنما يشعر بإباحته ، لا بوجوبه ، وهو مُقتضى ظاهرها ؛ إذا لم يعتبر سبب نزولها. فإذا وقف على سبب نزولها تحقق الواقع عليه : أنها إنما أتت رافعة لحرج من تحرَّج من الطواف بينهما على ما يأتي .
وقد اختلف فيه قولُ عائشة ، واختلف الرواة عنها في ذلك. ففي بعض الروايات عنها : أن أهل المدينة كان من أهل منهم لِمَناة ؛ لم يطل بينهما. وكأن هؤلاء بقوا بعد الإسلام على ذلك الامتناع حتى أنزلت الآية. وفي بعضها : أن من أهل لإساف ونائلة جاء فطاف بينهما ، وكان هؤلاء لما انقطع الإهلال لإساف ونائلة بالإسلام خافوا ألا يكون مشروعًا لمن لم يهل لهما . فرفع الله تلك التوهمات كلها بقوله : { فلا جناح عليه } ، وقد ذكر أبو بكر بن عبدالرحمن عند سماعه قول عائشة رضي الله عنها ما يدل على سببين آخرين ، نص عليهما في متن الحديث ، ويرتفع الإشكال ، ويصح الجمع بين هذه الروايات المختلفة بالطريق الذي سلكه أبو بكر بن عبدالرحمن ؛ حيث قال : فأراها نزلت في هؤلاء وهؤلاء . فنقول : نزلت الآية جوابًا لجميع هؤلاء الذين ذكرت أسبابهم . ورافعة للحرج عنهم ، والله تعالى أعلم .
و ((مناة )) : صنم كان نصبه عمرو بن لُحَيِّ بجهة البحر بالمشلل . وهو موضع مما يلي قُدَيْدًا . وقال ابن الكلبي : مناة : صخرة لهذيل بقديد .
(10/113)
وقوله في الرواية الأخرى : (( إن الأنصار كانوا يهلُّون في الجاهلية لصنمين على شط البحر ؛ يقال لهما : إساف ونائلة )) ؛ هكذا رواية أبي معاوية عند الكافة من الرواة ، وعند ابن الحذَّاء : (( في الجاهلية لمناة )) ، وكانت صنمين على شط البحر . وهذا هو الصحيح ، كما تقدَّم من قول الكلبي وغيره . قالوا : وأما إساف ونائلة فلم يكونا قط بجهة البحر ، وإنما كانا - فيما يقال - رجل اسمه : إساف بن بقاء ، ويقال : ابن عمرو ، وامرأة اسمها : نائلة ابنة ذئب ، ويقال : ديك ، ويقال : بنت سهل ؛ كانا من جُرهم زنيا في داخل الكعبة ؛ فمسخهما الله تعالى حجرين ، فَنُصبا عند الكعبة . وقيل : بل على الصفا والمروة ، لِيُعتبر بهما ويُتَّعظ . ثم حوَّلهما قصي ؛ فجعل أحدهما لصق الكعبة ، والآخر بزمزم. وقيل : بل جعلهما بزمزم ، ونحر عندهما ، وأمر بعبادتهما ، فلما فتح النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة كسرهما . والله تعالى أعلم .
وقولها : (( لو كانت كما قلت ؛ لكانت : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما )) ؛ هذا يدل : على أن الذي روي : أنه في مصحف أُبيّ : ((ألا يطوف بهما )) بإثبات (( ألا )) ليس بصحيح ؛ إذ لو كان كذلك لكانت عائشة رضي الله عنها أعرف الناس به ، ولَمَا خفي عليها ، ولا على غيرها ممَّن له عناية بالقرآن .
(10/114)
وقولها : (( قد سن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الطواف بينهما )) ؛ سن : بمعنى شرع وبيَّن . وهو ركن واجب من أركان الحج والعمرة عند جمهور السلف ، وفقهاء الخلف ، كما تقدم ، ولا ينجبر بالدَّم ، ومن تركه ، أو شوطًا منه عاد إليه ما لم يُصِب النساء ؛ فإن أصاب أعاد قابلاً حجة أو عمرة . واستدل الجمهور : بأن الله تعالى قد جعله من الشعائر ، وفعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقال : (( خذوا عني مناسككم )) ، وبحديث أم حبيبة بنت أبي تجراة الشيبية ، قالت : رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطوف بين الصفا والمروة ، وهو يقول : (( اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي )) ، غير أن هذا الحديث تفرَّد به عبد الله بن المؤمِّل ، وهو سيء الحفظ ، واستيفاء الاستدلال في مسائل الخلاف . والله أعلم.
ومن باب متى يقطع الحاج التلبية ؟
(( الشعب )) : الطريق في الجبل . ويعني بـ (( دون المزدلفة )) : قربها ، وناحية منها .
وقوله : (( قلت : الصلاة يا رسول الله ! )) ؛ قيدناه : الصلاة بالنصب على أنه مفعولٌ بفعل مضمر ، تقديره : أجب الصلاة ، ويجوز الرفع على الابتداء وإضمار الخبر ؛ أي : الصلاة حضرت . فأما : (( الصلاة أمامك )) فليس إلا الرفع على الابتداء ، والخبر في : (( أما مك )).
وقوله : (( لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة )) ؛ أخذ بهذا جماعة من السلف ، وجمهور فقهاء الأمصار : الشافعي ، والثوري ، وأصحاب الرأي . وروي عن مالك. ثم هل يقطعها إذا رمى أوَّل حصاة ، أو حتى يُتِمَّ السبع ؟ قولان عنهم .
(10/115)
ومشهور مذهب مالك : أنه يقطعها بعد الزوال من يوم عرفة . ورواه عن علي وابن عمر ، وعائشة . وهو مذهب أكثر أهل المدينة . ثم هل يقطعها بعد الزوال ، أو بعد الصلاة ، أو عند الرَّواح إلى الموقف ؟ ثلاثة أقوال في مذهبه . وقال ابن الجلاب : من أحرم من عرفة لبَّى حتى يرمي الجمرة . وقال الحسن بن نحي : حتى يصلِّي الغداة يوم عرفة. وإنكاز الناس على ابن مسعود التلبية بعد الإفاضة من يوم عرفة ؛ دليل على أن عملهم كان على قطعها قبل ذلك ، وهو متمسَّك لمالك على أصله في ترجيح العمل على الخبر . وهذا نحو مِمَّا تقدم من إنكار النَّاس على عائشة إدخال الجنازة في المسجد .
و (( الخذف )) : رمي الحجر بين أصبعين . قال امرؤ القيس :
كأنَّ الحصا مِنْ خَلْفِها وأمامها إذا نجلته رجلها خَذْفُ أَعْسَرا
ويعني بـ (( حصا الخذف )) : صغار الحصا . وهذا يدلُّ على أن الجمار يُجاء بها إلى موضع الرمي من غير موضع الرمي لئلا يُرمى ما قد رُمِي به ، وذلك لا يجوز . واستحبَّ مالك لقطها على كسرها. وغيره يستدب كسرها ، وكلٌّ جائز . وتخصيص عبدالله سورة البقرة بالذكر ؛ لأن عظم أحكام الحج فيها مذكور . والله تعالى أعلم .
ومن باب ما يقال في الغدوِّ من منى إلى عرفات
ظاهر هذا الحديث ؛ بل وأحاديث هذا الباب : جواز التلبية ، والتكبير ، والتهليل في الغدوِّ إلى عرفات ، والإفاضة منها . وبذلك قال مالك وغيره ، بل ولا نعلم خلافًا في جواز ذلك ؛ مع أن التلبية أفضل في الحج والعمرة إلى وقت قطعها ، وقد ذكرنا متى يقطعها الحاج . فأما المعتمر : فعند مالك إن أحرم من التنعيم فيقطعها إذا رأى الحرم. وعنه : أنه إن أحرم من الجعرانة قطع إذا دخل مكة . وعند أبي حنيفة ، والشافعي : يقطعها المحرم إذا ابتدأ الطواف . فلم يفرقا بين القرب والبعد .
باب الإفاضة من عرفة والصلاة بمزدلفة
(10/116)
وقوله في حديث أسامة بن زيد : (( أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نزل فبال ، ثم توضأ ، ولم يسبغ الوضوء )) ؛ أي : لم يكمله . وهل اقتصر على بعض الأعضاء ؛ فيكون وضوءًا لغويًا ؟ أو اقتصر على بعض الأعداد - وهو الواحدة مع استيفاء الأعضاء - فيكون وضوءًا شرعيًّا ؟ قولان لأهل الشرح. وكلاهما محتمل. وقد عضد من قال بالشرعي قوله بقول الراوي : (( وضوءًا خفيفًا )). فإنه لا يقال في النَّاقص من الأصل : خفيف ؛ وإنما يقال : خفيف ؛ في ناقص الكيفية . ولا خلاف في أن قوله : (( فأسبغ الوضوء )) : أنه الشرعي.
وقوله : (( ثم أقيمت الصلاة ، فصلَّى المغرب ، ثم أقيمت العشاء )) ؛ دليل على الأقامة في جواز الاقتصار على الإقامة في الجمع من غير أذان. وقد تقدم الخلاف في ذلك في الجمع بين الصلاتين حديث جابر ، وأنه ذكر فيه الأذان للأولى. ويحتمل قوله : (( أقيمت ))- ها هنا - : شرع فيها ، ففعلت بأحكامها ، كما يقال : أقيمت السُّوق ، إذا حرك فيها ما يليق بها من البيع والشراء . ولم يقصدِ الإخباز عن الإقامة ، بل عن الشروع .
وقوله : (( ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله )) ؛ يعني : أنهم بادروا بالمغرب عند وصولهم إلى المزدلفة ، فصلوها قبل أن يُنَوِّخوا إبلهم ، ثم لما فرغوا من صلاة المغرب نوَّخوها ولم يحلُّوا رحالهم من عليها ، كما قال في الرواية الأخرى ؛ وكأنها شوَّشت عليهم بقيامها ، فأزالوا ما شوَّش عليهم. ويُستدل به على جواز العمل اليسير بين الصلاتين المجموعتين.
وقوله : (( ولم يصل بينهما شيئًا )) ؛ حجَّة على من أجاز التنفل بين الصلاتين المجموعتين . وهو قول ابن حبيب من أصحابنا. وخالفه بقية أصحابنا ، فمنعوه .
وقوله : (( ولم يَحلُّوا ))- بضم الحاء - ؛ يعني : أنهم لم يَحلُّوا رحالهم ، ولا سبيل إلى كسر الحاء ، كما توهمه من جَهِل .
(10/117)
وقوله : (( كيف فعلتم حين أصبحتم ؟ قال : رَدِفَه الفضلُ ابن عباس ، وانطلقتُ أنا في سُبَّاق قريش على رجليّ )) ؛ يظهر منه أن هذا الجواب غير مطابق لما سأله عنه ، فإنه سأله عن كيفية صنعهم للنسك ، فأجابه بإردافه الفضل بن العباس ، وبسبقه على رجليه. وليس كذلك ، بل هو مُطابقٌ ؛ لأنه أخبره بما يتضمن نفرهم من المزدلفة إلى منى ، فكأنه قال : نفرنا إلى منى .
و (( العَتَق )) : سيرٌ فيه رفق. و(( الفجوة )) : المتسع من الأرض. و((النصق)) : أرفع السير ؛ ويعني : أنه كان إذا زاحمه الناس سار برفق لأجلهم ، وإذا زال الزحام أسرع . وهذا يدل على أن أصل المشروعية في ذلك الموضع الإسراع .
وقوله : (( ليس بينهما سجدة )) ؛ يعني به : الركعة ، وقد تقدم أن ذلك كلام أهل الحجاز ، ويسمون الركعة : سجدة وقد قدّمنا أن الجمغ بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة مجمعٌ عليه ، وأنه اختلف فيما سوى ذلك في كتاب الصلاة .
وقوله : (( بإقامة واحدة )) ؛ ظاهره للصلاتين ، وهو خلاف ما تقدم. ويحتمل أن يريد به إقامة واحدة لكل صلاة . ويتحرَّز بذلك من الأذان. وقد تقدم : أن جمعًا ، والمزدلفة ، والمشعر الحرام ، وقزح ، أسماءٌ لموضع واحد . والله أعلم .
ومن باب التغليس بصلاة الصبح بالمزدلفة
(10/118)
قول ابن مسعود : (( إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها )) لا يفهم من ذلك : أنه يعني بذلك : أنه أوقع صلاة الصبح قبل طلوع الفجر ، فإن ذلك باطل بالأدلة القاطعة ؛ وإنما يعني بذلك : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوقع الصبح يومئذ قبل الوقت الذي كان يوقعها فيه في غير ذلك اليوم ، وذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا أتاه المؤذن يخبره بالفجر صلَّى ركعتي الفجر في بيته ، وربما تأخر قليلاً ليجتمعوا ، ثم يخرج فيصلي ، ومع ذلك فكان يصلِّيها بغلس كما قال ابن عباس ، وعائشة ، وغيرهما . وأما في هذا اليوم : فكان الناس مجتمعين والفجر نصب أعينهم ، فبأول طلوع الفجر ركع ركعتي الفجر ، وشرع في صلاة الصبح ، ولم يتربَّص لاجتماع الناس ، وليتفرغوا للدعاء ، فصار فعل هذه الصلاة في هذا اليوم قبل وقتها المعتاد .
و (( حطم الناس )) : زحمتهم ؛ لأن بعضهم يحطم بعضًا من أجل الزحام ، وأصل الحطم : كسر الحطام ، وهو اليابس من الزرع وغيره .
و (( الثبطة )) : الثقيلة ، كأنها تتثبط بالأرض ؛ أي : تتثبت ، وتتحتس.
و (( الْمَفْرُوح به )) : هو كل شيء مُعجِبٌ ، له بالٌ ، بحيث يُفْرح به ؛ كما قد جاء في غير موضع : (( هو أحدث إليَّ من حمر النعم )).
و (( الظعن )) : جمع ظعينة . وهن النساة في الهوادج . و(( هنتاه )) : منادى : هنة ؛ التي هي مؤنث هن ؛ الذي هو كناية عن نكرة ؛ كشيء ، ونحوه . ولا يستعمل : هناه ، ولا هنتاه إلا في النداء خاصة . ونون هنتاه ساكنة ، وأصل هائه أن تكون ساكنة ؛ لأنها للسكت ، لكنهم قد شبهوها بالضمائر فأثبتوها في الوصل ، وضموها ، كما قال امرؤ القيس :
وقد رابَنِي قَوْلُها يا هَناهُ وَيْحَكَ ألْحَقْتَ شَرًّا بِشَرِّ
فقولهم : يا هناه ؛ كقولك : يا رجلُ . و: يا هنتاه ؛ كـ : يا امرأة .
(10/119)
وفي هذه الأحاديث ما يدل على أن الكون بالمزدلفة بعد الوقوف بعرفة من شعائر الحج ومناسكه . ولا خلاف في ذلك ؛ إلا خلافًا شاذًّا روي عن عطاء ، والأوزاعي : أن جمعًا منزل كسائر منازل السَّفر ، من شاء طواه ، ومن شاء نزل به ، ورحل متى شاء .
ثم اختلف القائلون : بأنه مشروع . فمنهم من ذهب إلى أنه ركن يبطل الحج لفواته. وإليه ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام . وقال علقمة ، والشعبي ، والنخعي : من فاته جمع ، ولم يصلى به ؛ فقد فاته الحج . والجمهور : على أنه يلزمه بفواته دم والحج صحيح .
ثم اختلف في القدر الذي يجزئ من ذلك . فقال الشافعى : إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه . وإن كان قبل ولم يعد إليها ؛ افتدى بشاة . وقال مالك : من نزل بها فلا دم عليه في أي وقت دفع منها ، وإن مرّ ولم ينزل ؛ فعليه الدم .
وأما الوقوف بالمشعر الحرام : فقد صار الشافعي ، والنخعى ، والأوزاعي : إلى أنه إن فاته الوقوف به ؛ فقد فاته الحج . واختلف فيه عن الثوري . والجمهور : على أنه ليس بواجب . ثم اختلفوا . فقال الكوفيون ، وفقهاة أصحاب الحديث : على تاركه دم . وذهب مالك : إلى أنه مستحب ، ولا يجب بتركه دم .
(10/120)
وسبب هذا الخلاف تعارض ظاهر قوله تعالى : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } ؛ لما ثبت من السُّنه في إذنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لضعفة أهله في الدفع من المزدلفة قبل طلوع الفجر إلى منى ، ولم يأمرهم بالوقوف ، ولا بالدم على الترك ، فدلّ ذلك على أنه ليس بواجب ، ولا في تركه دم ، وما أمر به عبدالله بن عمر مَن قدَّمه من ضعفة أهله من الوقوف عند المشعر الحرام ، فذلك على جهة الاستحسان منه ، وهو حسنٌ لمن فعله . وهذه الأحاديث تدل على أن الدفع للضَّعفة من المزدلفة قبل طلوع الفجر رخصة ، ولا خلاف في أن الأولى والأفضل المكث بالمزدلفة إلى أن يُصلِّى الفجر بها ، ثم يقف بالمشعر الحرام ، ثم يدفع منها بعد ذلك ، كما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ثم هل تلك الرخصة تختص بالإمام أو تتعدى إلى غيره ممن احتاج إلى ذلك ؟ قولان عندنا . وابن عمر راوي الحديث فهم التعدِّي ، وأن من احتاج إلى ذلك فعله ، وهو الصحيح .
وقوله : (( فارتحلت حتى رمت الجمرة ، ثم صلت في منزلها )) ؛ يعني : صلاة الصبح . وظاهره : أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الفجر . وهو متمسك الشافعي على قوله بجواز رمي الجمرة من نصف الليل . وذهب الثوري ، والنخعي : إلى أنها لا ترمى إلا بعد طلوع الشمس ؟ متمسكين بما في كتاب النسائي من حديث ابن عباس : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدَّم ضعفة أهله ، وأمرهم ألا يرموا حتى تطلع الشمس . وهو صحيح . ومذهب مالك : أن الرمي يحلُّ بطلوع الفجر . متمسِّكًا بقول عائشة : فأصلي الصبح بمنًى ، وأرمي الجمرة . وبحديث ابن عمر ، وإليه ذهب أحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي .
وقول ابن عباس : بعثني رسول الله من جمع في ثَقَله سَحَر )) ؛ بغير صرف ، وهو الصواب ؛ لأنه سحر معينٌ . و(( ثقل )) : بفتح الثاء والقاف : وهو الشيء الذي يثقل حامله . والله أعلم.
ومن باب رمي جمرة العقبة
(10/121)
الجمهور : على أن رمي جمرة العقبة سُنَّة مؤكدة ، يجب بتركها دم ، وذهب عبدالملك : إلى أنها ركن من أركان الحج ، وعليه : فإن تَرَكَها بَطل حجّه كسائر الأركان . ولا خلاف في أنها ترمى بسبع يوم النحر قبل الزوال ، ولا خلاف في استحباب رميها - على ما في حديث ابن مسعود - من بطن الوادي ، والبيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، وأن رميها من غير ذلك جائز إذا رمى في موضع الرَّمي . وقد روي : أن عمر ـ رضى الله عنه ـ جاء فوجد الزحام فرماها من فوقها . ولا خلاف في استحباب التكبير مع كل حصاة ، غير أنه حكى الطبري عن بعض الناس أنه قال : إنما جُعل الرمي حفظًا للتكبير ، فلو ترك الرمي تارك وكبَّر أجزأه ، وروي نحوه عن عائشة رضي الله عنها . وهو خلاف شاذّ . وكان ابن عمر ، وابن مسعود يقولان عند رمي الجمار : اللهم اجعله حجًّا مبرورًا ، وذنبًا مغفورًا . وتُرمى سائر الجمار ما عدا جمرة العقبة من فوقها. وكل جمرة ترمي بسبع ، فمن رماها بأقل ، وفاته جَبْر ذلك كان عليه دم عند مالك ، والأوزاعي ، وذهب الشافعي وأبو ثور : إلى أن على تارك حصاة مدًّا من طعام ، وفي اثنتين مُدَّان ، وفي ثلاث فأكثر دم . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لو ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث ففي كل حصاة نصف صاع ، وإن كان أكثر من نصفها فعليه دم . وقال مالك : إن نسي جمرة تامة أو الجمار كلها فعليه بدنة ، فإن لم يجد فبقرة ، فإن لم يجد فشاة . وقال عطاء فيمن رمى بخمس ، ومجاهد فيمن رمى بست : لا شيء عليه . واتفقوا : على أنه بخروج أيام التشريق يفوت الرَّمي إلا ما قاله أبو مصعب : أنه يرمي متى ما ذكر كمن نسي صلاة ؛ يصليها متى ما ذكرها .
(10/122)
وقوله لنا : (( خذوا مناسككم )) ؛ صحيح روايتنا فيه : (( لنا )) بلام الجر المفتوحة ، والنون ، وهو الأفصح . وقد روي : (( لتأخذوا )) بكسر اللام للأمر ، وبالتاء باثنتين من فوقها ، وهي لغة شاذة . وقد قرأ بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : { فبذلك فليفرحوا } ، وهو أمر بالاقتداء به ، وحوالة على فعله الذي وقع به البيان لمجملات الحج في كتاب الله تعالى. وهذا كقوله لما صلى : (( صلُّوا كما رأيتموني أصلي )). ويلزم من هذين الأمرين : أن يكون الأصل في أفعال الصلاة والحج الوجوب ؛ إلا ما خرج بدليلٍ ؛ كما ذهب إليه أهل الظاهر ، وحكي عن الشافعي .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رمى راكبًا لِيُظهر للناس فعله كما قررناه في طوافه ، وسعيه في حديث جابر .
وقوله : (( والآخر يرفع ثوبه على رأس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشمس )) ؛ تعلق بهذا من جوَّز استظلال المحرم ، وقد تقدَّم ، وكره مالك ذلك ، وأجاب بعض أصحابه عن هذا الحديث : بأن هذا القدر لا يكاد يدوم . كما أجاز مالك للمحرم أن يستظل بيده . وقال : ما أيسر ما يذهب ذلك ، وقد روي : أن عمر ـ رضى الله عنه ـ رأى رجلاً جعل ظلاً على مَحمَلِه ؛ فقال : أضح لمن أحرمت له ، أي : ابرز إلى الضحاء . وقال الرياشيّ : رأيت أحمد بن المعدِّل في يوم شديد الحرِّ ، فقلت له : يا أبا الفضل ! هلا استظللت ! فإن في ذلك توسعة للاختلاف فيه ، فأنشد :
ضَحِيتُ لَهُ كَي أسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ إذا الظِّلُّ أضْحَى في القِيَامَةِ قَالِصا
فَوَا أَسَفا إن كان سَعْيُكَ ضَائِعًا وواحَسْرَتا إن كان أجرُكَ ناقِصًا
قال صاحب الأفعال : يقال : ضحيت ، وضحوت ، ضحيًا ، وضحوًا : برزت للشمس . وضحيت ، ضحًا : أصابتني الشمس . قال الله تعالى : { وأَنَّك لا تظمؤُ فيها ولا تضحى }.
(10/123)
وقوله : (( كان استُعمل عليكم عبدٌ مجدَّعٌ )) : مقطوع الأنف والأطراف. والجدع : القطع . والعبد الذي يكون على هذه الصفة هو في نهاية الضعف والخِسَّة . ويفهم منه : وجوب الطاعة لمن ولي شيئًا من أمور المسلمين إذا عدل فيهم . ولا تنزع يد من طاعته ، ولا ينظر إلى نسبه ومنصبه ، فيما عدا الإمامة الكبرى .
وقوله : (( رمى الجمرة بمثل حصى الخذف )) ؛ قد تقدَّم : أن معنى الخذف : رمي الحصى الصغار . واختلف في مقدارها . وكلهم يكرهون الكبار ؛ لما جاء عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه قال في هذا : (( إيَّاكم والغلوّ في الدِّين )). وأكثر ما قيل في ذلك : ما روي عن ابن عباس : أن حصاه كان مثل البندقة . وقال عطاء : مثل طرف الاصبع . وقال الشافعي : أصغر من الأنملة طولاً وعرضًا . وروي عن ابن عمر : بمثل بعر الغنم . وروي عن مالك : أكبر من ذلك أعجب إلي .
وقوله : رمى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجمرة يوم النحر ضحًى )) ؛ لا خلاف في أن هذا هو الوقت الأحسن لرميها . واختلف فيمن رماها قبل طلوع الفجر . وقد تقدم أن مذهب الشافعي جواز ذلك . وبه قال عطاء بن أبي رباح ، وابن أبي مليكة ، وعكرمة بن خالد . وقال مالك وجماعة معه : إن ذلك لا يجزئ ، وإن فعله أعاد الرمي . فأمَّا بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس فقد تقدَّم مَن قال بجواز ذلك ، وذكرنا حديث ابن عباس في المنع من ذلك ، غير أن أبا بكير بن المنذر قال : من رماها بعد طلوع الفجر ، وقبل طلوع الشمس فلا إعادة عليه ، ولا أعلم أحدًا قال : لا يجزئه. فيلزم من هذا : أن الاتفان قد حصل على أن ذلك إن وقع أجزأ ، فيكون محمل النهي عن ذلك في حديث ابن عباس على كراهة الإقدام عليه في ذلك الوقت .
(10/124)
وقوله : (( وأما بعد فإذا زالت الشمس )) ؛ يعني : بعد جمرة العقبة . وهذا قول كافة العلماء رالسلف ، غير أن عطاء وطاووسًا قالا(7) : يجزئه في الثلاثة الأيام قبل الزوال . وقال أبو حنيفة وإسحاق : يجزئ في اليوم الثالث الرمي قبل الزوال . وهذا الحديث حجة عليهم .
وقوله : (( الاستجمار توٌّ )) ؛ قد تقدَّم في كتاب الطهارة : أن الاستجماز يُقال على استعمال الحجارة في محل الغائط والبول ، ويقال على استعمال مجمرة البخور . وقد ذكرنا هناك اختياز مالك فيها . وقد ذكر في هذا الحديث الاستجمار مرتين ، فيحسن في هذين الحديثين أن يحمل أحدهما : على استعمال الحجارة في المخرجين ، والآخر : على استعمال البخور ، كما صار إليه مالك . ويجوز حمل الثاني على التأكيد ، وفيه بُعد .
و (( التوّ )) : الوتر والفرد . وفي الحديث : (( فما مضت إلا توَّة واحدة )) ؛ أي : ساعة واحدة. ويقال في غير هذا : جاء فلان توًّا ؛ أي : قاصدًا لا يعرج على شيء . ولا خلاف في وجوب الوتر في السعي ، والطواف ، ورمي الجمار . واختلف في الاستنجاء على ما مضى. والله أعلم.
ومن باب الحلاق والتقصير
أحاديث هذا الباب تدل على أن الحِلاق نُسك يثاب فاعله . وهو مذهب الجمهور . وذهب الشافعي في أحد قوليه ، وأبو ثور ، وأبو يوسف ، وعطاء : إلى أنه ليس بنسك ، بل هو مباح . قال الشافعي : لأنه ورد بعد الحظر ، فحُمِل على الإباحة ، كاللباس ، والطيب . وهذه الأحاديث ترد عليهم من وجهين :
أحدهما : أنها تضمنت أن كل واحد من الحِلاق والتقصير فيه ثواب ، ولو كان مباحًا لاستوى فعله وتركه .
وثانيهما : تفضيل الحِلاق على التقصير . ولو كانا مباحين لما كان لأحدهما مزية على الآخر في نظر الشرع .
(10/125)
واختلف القائلون بكونهما نسكين في الموجب لأفضلية الحِلاق على التقصير. فقيل : لما ذكر عن ابن عباس قال : حلق رجالٌ يوم الحديبية ، وقصر آخرون ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم ارحم المحلقين )) ثلاثًا ، قيل : يا رسول الله ! لِمَ ظاهرت لهم بالترحم ؟ قال : (( لأنهم لم يشكوا )). وحاصله : أنه أمرهم يوم الحديبية بالحِلاق ، فما قام منهم أحدٌ ؛ لما وقع في أنفسهم من أمر الصلح ، فلمَّا حلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعا للمحلقين ، أو استغفر لهم ثلاثًا ، وللمقصرين واحدة ، تبادروا إلى ذلك. قال أبو عمر ابن عبد البر : وكون ذلك يوم الحديبية هو المحفوظ. وقيل : بل كان ذلك في حجة الوداع ؛ كما روته أمُّ الحصين من طريق قتادة ، وهو إمام ثقة ، وإنما كان الحِلاق أفضل لأنه أبلغ في العبادة ، وأدلُّ على صدق النية في التذلل لله تعالى ؛ لأن المقصر مبقٍ على نفسه بعض الزينة التي ينبغي للحاجّ أن يكون مُجانبًا لها . والله أعلم .
والْمُخْصَرُ في الحِلاق والتقصير كغيره ؛ في كون ذلك نُسُكًا له ، وقال أبو حنيفة ، وصاحباه : ليس على الْمُخصر شيء من ذلك ، ويرده حِلاق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الحديبية .
ولا خلاف في أن حكم النساء التقصير ، وأن الحلاق غير لازم لهنَّ عندنا وعند كثير من العلماء ، على أن الحِلاق لهن غير جائز ؛ لأنه مُثْلَةٌ فيهن . ويدل على أنه ليس بمشروع لهنَّ : ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ليس على النِّساء الحلق ، إنما على النساء التقصير )).
وجمهورهم على أن مَن لبَّد ، أو عقص ، أو ضفر لزمه أن يحلق ، ولا يقصر للسُّنَّة الواردة بذلك ؛ ولأن التقصير في ذلك لا يعم الشعر . ومن سُنته عموم التقصير . وخالف في هذا أصحاب الثوري ، وقالوا : إن الملبِّد والمضفر كغيره يجزئه التقصير .
(10/126)
وقول أنس : (( إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى الجمرة فرماها ، ثم أتى منزله بمنى ، ونحر ، وحلق ؛ هذا يدل على أن مَن رمى جمرة العقبة حصل له تحلُّل ؛ لأنه بعد أن رمى حلق ، وهذا لا خلاف فيه في الجملة ، لكن اختلفوا فيماذا يستحل من محظورات الإحرام : فقال أبو ثور : يتمُّ تحلل الحاج من كل شيء إلا النساء برمي جمرة العقبة . وقال الشافعي وأصحاب الرأي وجماعة من العلماء : بل حتى يحلق . وذهب مالك إلى أن الذي يحل له رمي جمرة العقبة كل شيء إلا النساء ، والطيب ، والصيد . واختلف قوله إذا تطيب بعد الجمرة ، وقبل الإفاضة ؛ هل يجب عليه دم أو لا ؟ ورري عن عمر : أنه يحل له كل شيء إلا النساء والطيب. وعن عطاء : إلا النساء والصيد . ولا خلاف في أنه لا يحل النساء ، ولا الصيد بعد الجمرة ، وأنه يحل له جميع محظورات الإحرام بعد الإفاضة . وتعديد ما يحرم على المحرم مُفصل في كتب الفقه .
وقوله للحلاق : (( خذ )) وأشار إلى جانبه الأيمن ؛ هذا على عادته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الابتداء باليمين في أفعاله ؛ فإنه كان يحب التيمُّن في شأنه كلِّه . وتوزيعُه شعره على الناس حرصًا منه على تشريكهم في التبرك به ، وفي ثوابه .
وقوله : (( فوزَّعه : الشعرة والشعرتين بين الناس )) ؛ ليس بمخالف لقوله في الرواية الأخرى لأبي طلحة : (( اقسمه بين الناس )) ؛ فإنه لما أمر بتوزيعه أبا طلحة صح أن يُضاف التوزيغ له. كما يقال : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجم ماعزًا ، وقطع يد السارق في مجن ؛ أي : أمر بذلك .
(10/127)
وقوله : (( لما حلق شق رأسه الأيمن أعطاه أبا طلحة )) ؛ ليس مناقضًا لما في الرواية الثانية : أنه قسم شعر الجانب الأيمن بين الناس ، وشعر الأيسر أعطاه أم سليم - وهي امرأة أبي طلحة ، وهي أم أنس- ويحصل من مجموع هذه الروايات : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما حلق الشق الأيمن ناوله أبا طلحة ليقسمه بين الناس ، ففعل أبو طلحة ، وناول شعر الشق الأيسر [لأم سليم] ليكون عند أبي طلحة ، فصحت نسبة كل ذلك إلى من نسبت إليه على ما قررناه ، والله أعلم . وهذا أولى من أن نُقدِّر تناقضًا واضطرابًا . والحمد لله .
ومن باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي
أحاديث هذا الباب تدل على أن من قدَّم شيئًا أو أخره من الحِلاق ، والرمي ، والنحر ، والطواف بالبيت ؛ فلا شيء عليه . وبهذا قال الشافعي ، وفقهاء أصحاب الحديث في جملة من السَّلف ؛ تمسُّكًا بهذه الأحاديث . وحكي عن ابن عباس فيمن قدَّم شيئًا من النُّسك المذكور عليه الدم . وليس بالثَّابت عنه . وروي نحوه عن ابن جبير ، وقتادة ، والحسن ، والنخعي . وكأن هؤلاء حملوا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا حرج )) ؛ أي : لا إثم ، وبقوا الحكم المقرر على من أخلَّ بشيء من سُنن الحج على أصله : من وجوب جَبره بالدم . ولم يختلفوا فيمن نحر قبل الرَّمي : أنه لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة : على من حلق قبل الرَّمي ، أو نحر دمٌ . وقال مالك : إنما يجب الدم على من حلق قبل الرمي ؛ لقوله تعالى : {ولا تحلقوا رءُوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ؛ ومحل الهدي من الزمان هو بعد رمي جمرة العقبة .
(10/128)
واختلف قول مالك فيما إذا قدَّم الإفاضة على الرمي . فقيل : يجزئه ، وعليه الهدي . وقيل : لا يجزئه ، وهو كمن لم يفض . وقال : يعيده بعد الرمي ، والنحر . وسبب هذا الخلاف : معارضة قوله تعالى : { ولا تحلقوا رءُوسكم حتى يبلغ الهدي محله } لهذه الأحاديث ، وتأويل قوله : (( لا حرج )) هل أراد به رفع الإثم فقط ، أو رفع الإثم والحكم . والمفرق تأكد عنده بعض تلك الأفعال ما لم يتأكد غيره ، فأوجب الدم في المتأكد ، ولم يوجبه في غيره . والظاهر من الأحاديث مذهب الشافعي وأصحاب الحديث .
ومن باب طواف الإفاضة
لم يختلف في أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج ، وأن سنته يوم النحر . وإنما اختلف فيمن أخره عن يوم النحر على ما قد تقدَّم ، فإن تركه حتى رجع إلى بلده . فكافتهم على أنه يرجع فيطوف ، ولا يجزئه إلا ذلك . وروي عن عطاء ، والحسن : يحج من قابل . قال عطاء : ويعتمر . وقد تقدم قول مالك : أن طواف الوداع يجزئه.
وقول ابن عمر : (( أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفاض يوم النحر ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى )) مخالف لما تقدَّم من حديث جابر : أنه أفاض إلى مكة ، ثم صلَّى بمكة الظهر . وهذا هو الأصح ، ويعضده حديث أنس ، قال فيه : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى العصر يوم النحر بالأبطح ، وإنما صلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الظهر بمني يوم التروية ، كما قال أنس . وما في حديث ابن عمر وهم من بعض الرواة. وقد تقدم : أن التحصيب : نزول المحصب ، وهو الأبطح ، والبطحاء . و((خيف بني كنانة )) والخيف : ما انحدر عن الجبل ، وارتفع عن المسيل . وقد أخذ مالك بحديث ابن عمر ، ورأى : أنه ينزل به عند رجوعه من منى ، فيصلي به الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، ثم يدخل مكة أول الليل ؛ لا سيما للأئمة ، وهو واسغ لغيرهم .
(10/129)
قال عياض : وهو مستدل عند جميع العلماء ، وهو عند الحجازيين أوكد منه عند الكوفيين . وكلهم مُجمع على : أنه ليس من المناسك التي تلزم ، وإنما فيه اقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتبرُّك بمنازله . وعلى هذا : فقول عائشة : ليس نزول الأبطح سنة ، وقول ابن عباس : ليس التحصيب بشيء ، إنما يعنيان : أنه ليس من المناسك التي يلزم بتركها دم ولا غيره.
ونزوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخيف بني كنانة إنما كان شكرًا لله تعالى على ما أظهره على عدوِّه المناكد له في ذلك الموضع ، وإظهارًا لما صدقه الله تعالى من وعده في قوله تعالى : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين }.
وقضية قريش في الصحيفة ونقضها منقول في كتب السِّير والأحاديث.
وقوله : (( أسمح لخروجه )) ؛ أي : أسهل. والسَّماح في البيع هو التسهيل فيه . ومنه : السماح رباح . وقد تقدَّم أن الثَّقَل بفتح الثاء والقاف هو : اسم ما يحمله الحامل مما يُثقله . ومنه قوله تعالى : { وتحمل أثقالكم إلى بلد} ؛ وظاهر هذه الرواية ، وهي رواية أبي سلمة بن عبدالرحمن ، عن أبي هريرة : أن ذلك كان في حجة الوداع . وقد جاء من رواية الأعرج عن أبي هريرة ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف )) ؛ وظاهر هذا : أن ذلك كان يوم الفتح.
قال عياض : فكان على هذا منزله في السنتين . وكذلك جاء مفسرًا في حديث أم هانئ .
قلت : ويمكن أن تردَّ هذه الرواية إلى الأولى ؛ بأن يقال : إن قوله : (( إذا فتح الله )) ، لم يذكر المفتوح ما هو ؟ و(( الخيف )) إنما هو مرفوع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو (( منزلنا )). فعلى هذا يكون مفعول (( فتح )) محذوفًا ، فيكون تقديره : إذا فتح الله في السّير إلى مكة ، بمعنى : سهلّله ، ويسّر فيه . والله أعلم .
ومن باب الرخصة في ترك البيتوتة بمنى لأهل السقاية
(10/130)
المبيث بمنى ليالي أيام التشريق من سنن الحج بلا خلاف ، إلا لذوي السِّقاية أو للرُّعاة ، ومن تعجل بالنفر ، فمن ترك ذلك ليلة واحدة أو جميع الليالي كان عليه دم عند مالك . وقال الشافعي بالدم في الجميع ، وبصدقة درهم في ليلة واحدة ، ودرهمين في ليلتين ، وقال مرة : يطعم مسكينًا . ونحوه لأحمد. وقال أصحاب الرأي : لا شيء على تارك ذلك ، وقد أساء . وروي نحوه عن ابن عباس والحسن . قال مالك :
فأما ترك المبيت بها ليلة عرفة فلا شيء عليه.
وفي هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن سقاية الحج ولايةٌ ثابتةٌ لولد لولد العباس لا ينازعون فيها . وقال بعفق أهل الفهم : وفيه إشارية إلى أن الخلافة تكون العباس ، وأنه لا ينبغي أن ينازعوا فيها ، وأن ذلك يدوم لهم . وفيه أبواب من الفقه لا تخفى على متأمل . ومشروعية هذه السقاية من باب إكرام الضيف ، واصطناع المعروف .
وقوله : (( كذا فاصنعوا )) ؛ إشارة إلى السِّقاية بالنبيذ . وكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصد التيسير عليهم ، وتقليل الكلف ، فإن الانتباذ يسير ، قليل المؤنة ؛ لكثرة التمر عندهم ، وليس كذلك العسل ، فإن في إحضاره كلفة ، وفي ثمنه كثرة . والله تعالى أعلم .
ومن باب التصدق بلحوم الهدايا وجلودها وأجلَّتها
البُدن : جمع بدنة ، وهي العظيمة الجسم . ومنه : بَدُن الرجل ، بدانةً ؛ أي : كثر لحمه . وقد تقدَّم ذلك .
(10/131)
وأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتصدق بلحوم البدن ، وجلودها ، وأجلتها ؛ دليل : على أن جلود الهدي وجلالها لا تباع ؛ لأنه عطفها على اللحم وحكم لها بحكمه. وقد اتفق على أن لحمها لا يُباع ، فكذلك الجلود والجلال. وكان ابن عمر يكسو جلالها الكعبة ، فلما كسيت الكعبة تصدق بها ، أخذًا منه بهذا الحديث. وممن صار إلى منع بيع جلودها عطاء ، والنخعي ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ؛ وقالوا : يتصدق وينتفع بها . وروي عن ابن عمر ؛ أنه قال : لا بأس أن يبيع جلد هديه ويتصدق بثمنه. وروي هذا عن أحمد ، واسحاق . وكان أبو ثور يرخص في بيعه . وقال النخعي ، والحكم : لا بأس أن يشتري به المنخل وشبهه .
وقوله : (( ولا أعطي الجازر منها )) ؛ يدل على أنه لا تجوز المعاوضة على شيء منها ؛ لأن الجزار إذا عمل عمله استحق الأجرة على عمله ، فإن دفع له شيء منها كان ذلك عوضًا على فعله ، وهو بيع ذلك الجزء منها بالمنفعة التي عملها ، وهي الجزر . والجمهور : على أنه لا يعطى الجازر منها شيئًا ، تمسُّكًا بالحديث . وكان الحسن البصري ، وعبدالله بن عبيد بن عمير لا يريان بأسًا أن يعطى الجزار الجلد .
وقوله : (( نحن نعطيه من عندنا )) ؛ مبالغة في سد الذريعة ، وتحقيق للجهة التي تجب عليها أجرة الجازر ؛ لأنه لما كان الهدي منفعته له تعينت أجرة الذي تتم به تلك المنفعة عليه .
وفيه أبواب من الإجارة ، وأحكامها .
(10/132)
وفيه دليل على تجليل البدن . وهو ما مضى عليه عمل السلف ، ورآه أئمة العلماء : مالك ، والشافعي ، وغيرهما . وذلك بعد إشعار الهدي ؛ لئلا تتلطَّخ الجلال . وهي على قدر سعة الهدي ؛ لأنها تطوع غير لازم ، ولا محدود . قال ابن حبيب : منهم من كان يُجلِّل الوشي ، ومنهم من يُجلَّل الحبر ، والقباطي ، والملاحف ، والأُزُر . وتجليلها : ترفيه لها ، وصيانة ، وتعظيم لحرمات الله ، ومباهاة على الأعداء من المخالفين ، والمنافقين . وقال مالك : وتشق على الأسنمة إن كانت قليلة الثمن لئلا تسقط ، وما علمت من ترك ذلك إلا ابن عمر استبقاة للثياب ؛ لأنه كان يُجلِّل الجلال المرتفعة من الأنماط ، والبرود ، والحِبَر . قال مالك : أما الجلال فتنزع لئلا يخرقها الشوك . قال : وأحب إلى إن كانت الجلال مرتفعة أن يترك شقُّها ، ولا يجللها حتى تغدو من عرفات . ولو كانت بالثمن اليسير فتشق من حيث يُحْرم . وهذا في الإبل ، والبقر دون الغنم .
(10/133)
وقول جابر : (( اشتركنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة )) : مع : هذه متعلقة بمحذوف ، تقديره : كائنين مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا يصح الهدي أن يكون متعلقًا به باشتركنا ؛ لأنه كان يلزم منه أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحدًا من سبعةٍ يشتركون في بَدَنَة ، وأنهم شاركوه في هديه . والنقل الصحيح بخلاف ذلك ؛ كما تقدم في حديث جابر وغيره ، دمانما أمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجتمع السبعة في الهدية من بدنهم . وأحاديث جابر مُصرحة : بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرهم بذلك في الحديبية ، وفي حجة الوداع . وبهذه الأحاديث تمسَّك الجمهور من السلف وغيرهم على جواز الاشتراك في الهدي . وممن قال بهذا ابن عمر ، وأنس ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري ، وطاووس ، وسالم ، وعمرو بن دينار ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، حكاه ابن المنذر . قال : وقد روينا عن ابن عباس : أنه قال : البدنة عن سبعة ، وإن تمتعوا . وبه قال عطاء ، وطاووس ، وعمرو بن دينار ، والثوري ، والشافعى . قال : وقد روينا عن سعيد بن المسيب : أنه قال : تجزئ الجزور عن عشرة . وبه قال إسحاق .
قلتُ : وظاهز ما حكاه ابن المنذر : أنهم اشتركوا في الثمن ، وأنهم سوّوا في ذلك بين الهدي الواجب والتطوّع ، من غير تقييد ، ولا تفصيل. وقد فضل غيره الخلاف فقال : إن الشافعي يجيزه في الواجب ، وإن كان بعضهم يريد اللحم ، وبعضهم يريد الفدية. وأبو حنيفة يجيزه إذا أراد جميعهم الفدية(2) ؛ حكاه الإمام أبو عبدالله ، وقال : عندنا في التطوع قولان . قال ابن المنذر ، وقال مالك : لا يشترك في شيء من الهدي ، ولا من البدن ، ولا النسك في الفدية ، ولا في شيء مما ذكرناه.
(10/134)
قلت : وكأن هذا الذي صار إليه مالك مستنده قول الله تعالى : {فما استيسر من الهدي } ، وأقل ما يطلق عليه اسم الهدي شاة ، ولم يقل فيه أحدٌ أنه جزءٌ مُسمَّى من اللحم . وقوله تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أونسك }(2) ، وقد فسَّر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ النسك بشاة في حديث كعب بن عجرة ، وكان ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم ، فكان هو المتعيِّن ، ولأنهم قد اتفقوا : على أنه لا يجوز في الهدايا المريض البيِّن المرض ، ولا المعيب بنقص عضو. وإذا كان كذلك مع صدق الاسم عليه فأحرى وأولى ألا يجوز جزءٌ من اللحم . واعتذر عن حديث جابر : بأن ذلك كان في التطوع . وهو مستند أحد القولين المتقدمين ، وليس بالمشهور عن مالك . وبأن تلك الأحاديث ليس فيها تصريح بالاشتراك في الثمن ، فلعلَّه قصد التشريك في الثواب ، أو التشريك في قسمة الجزور ، حتى تقسم البدنة أو الجزور سبع يوم بين سبعة نَفَر . والله أعلم . وقد أشار إلى هذا جابر فقال : أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أحللنا أن نهدي ، ويجتمع النفر منا في الهدية ، فإنه مشعر بأن التشريك إنما وقع بعد انفراد المهدي بالهدي ، فتأمله .
وهذا الخلاف إنما هو في الإبل والبقر . وأما الغنم : فلا يجوز الاشتراك فيها اتفاقًا . وقد قدمنا أن اسم البدنة مأخوذ من البدانة . وهي عِظَم الجسم . وأن الجزوز من الجزر ، وهو : القطع . وأن الجزوز من الإبل ، والجزرة من الغنم . وقد فرق في حديث جابر بين البدن والجزور ؛ لأنه أراد بالبدنة ما ابتدئ هديه عند الإحرام . وبالجزور ما اشتري بعد ذلك للنحر . فكأنه ظهر للسائل : أن شأن هذه ، أخف في أمر الاشتراك مما أهدي من البدن . فأجابه بما في معناه : أن الجزور لما اشتريت للنسك صار حكمها حكم البدن .
(10/135)
قلت : وقد سمعت من بعض مشايخنا : أن البدنة في هذا الحديث من الإبل . والجزور فيه من البقر . وكأن السائل سأله عن البقرة ؛ هل يشترك فيها سبعة ؛ كما يشترك في البدنة ؟ فقال : هي منها في حكم المسؤول عنه . وكأن هذا السائل لم يسمع في هذا ذكر البقر ، فسأل عنها ، والله أعلم.
وقوله : (( ذبح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عائشة بقرة )) ؛ هذا لأنها أردفت ، كما قدَّمنا ، والله تعالى أعلم . ويحتمل أن يكون تطوّع بها عنها .
وقوله في الرواية الأخرى : (( نحر عن أزواجه بقرة )) ؛ أي : بقرة ، بقرة عن كل واحدة ؛ بدليل الرواية المتقدمة عن عائشة .
وقوله في الروايتين : (( نحر وذبح )) ؛ دليل على جواز كل واحد منهما في ا لبقر ، وسيأتي .
وقوله : (( ابعثها قائمة مقيدة ، سنة نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ أخذ به كافة العلماء ، في استحباب ذلك . وبه فُسِّر قوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } ، إلا أبا حنيفة ، والثوري ؛ فإنهما أجازا أن ينحرها باركة وقيامًا . وشذ عطاء ، فخالف ، واستحب نحرها باركة معقولة . والحديث حجة عليه. والله أعلم.
ومن باب من بعث بهدي لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم
قوله : (( عن عمرة بنت عبد الرحمن : أن زيادًا كتب إلى عائشة )) ؛ كذا هو الصواب ، وهو : زياد بن أبي سفيان ، وكذا هو في جميع "الموطآت" ، وفي "البخاري" . ورواية من رواه : (( أن ابن زياد )) خطأ. وما حكاه زياد عن ابن عباس هو مذهبه ، ومذهب ابن عمر ، وعطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير . وحكاه الخطابي عن أصحاب الرأي . وما أسندته إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي عمل به جمهوز العلماء ، ما خلا من ذُكِرَ .
و (( القلائد )) : جمع قلادة ، وهو مايجعل في العنق من خيط أو سير.
و (( العهن )) : الصوف المصبوغ ألوانًا ؛ قاله الخليل . وقال غيره : كل صوف عهن .
(10/136)
وقولها : (( أنا فتلت قلائد هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قلّدها )) ؛ يدل على تجويدها لتلك الرواية ، وأنها اعتنت بالقصة ، وحققتها . وفيه ما يدل على أن من بعث بهدي قلَّفده ، وأشعره من موضعه بخلاف من حَمَله معه ، فإنه يُقلِّده من موضع إحرامه .
وقولها : (( ثم بعث بها مع أبي )) ؛ كان هذا - والله أعلم- حين بعثه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الحج أميرًا ، ثم أردفه بعليّ لينبذ للناس عهدهم ، كما تقدم. وقد مضى الكلام في الإشعار والتقليد .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسائق البدنة : (( اركبها )) ؛ أخذ بظاهره أحمد ، وإسحاق ، وأهل الظاهر . وروى ابن نافع عن مالك : لا بأس بركوب الرجل بدنته ركوبًا غير فادح. وأوجب ركوبها بعضهم لهذا الأمر . وذهب مالك في المشهور عنه : إلى أنه لا يركبها إلا إن اضطر إليها ، محتجًّا بقوله : (( اركبها إذا الجئت إليها بالمعروف )) ؛ وهذا المقيَّد يقضي على ذلك المطلق على ما يعرف في الأصول . وبنحو ذلك قال الشافعي ، وأبو حنيفة . ثم إذا ركبها عند الحاجة فاستراح ؛ نزل . قال إسماعيل القاضي : وهو الذي يدل عليه مذهب ماللث ، وهو خلاف ما ذكره ابن القاسم : أنه لا يلزمه النزول ، وحجته إباحة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له الركوب ، فجاز له استصحابه . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : إن نقصها الركوب المباح فعليه قيمة ذلك ، ويتصدَّق به .
وقوله : (( اركبها ويلك! )) تأديبٌ له لأجل مراجعته ، وقول الرجل : (( إنها بدنة )) ، وقد كان حالها غير خافٍ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإنها كانت مقلَّدة ، ويحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهم عن الرجل : أنه لا يرى ركوبها بحال على عادة الجاهلية في البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، فزجره عن ذلك . وقيل : إنما قال له ذلك لأن هذا الرجل قد كان تجهد من المشي ، ووصل إلى حد الهلكة .
(10/137)
و (( الويل )) : الهلكة . فقوله : (( ويلك )) ؛ أي : أشرفت على الهلاك لما رأى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه من الشدَّة . وقيل : إن هذه الكلمة مما تدغم فيها العرب كلامها . كقولهم : لا أمَّ له ولا أب . وتربت يمينك . ومن ذلك : قوله : (( ويل أمه مِسعَرُ حرب )). وقد تقدم هذا النحو في الطهارة .
وقوله : (( اركبها بالمعروف )) ؛ يعني : بالرفق في الركوب ، والسير على الوجه المعروف ، من غير عُنْف ، ولا إفحاش .
وقوله : (( إذا أُلجئت إليها ، حتى تجد ظهرًا )) ؛ يدل على صحة ما قاله الشافعي ، وأبو حنيفة ، وما حكاه إسماعيل عن مذهب مالك ، وقد روي في غير كتاب مسلم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى رجلاً يسوق بدنة وقد جهد ، فقال : (( اركبها )). والله أعلم .
ومن باب ما عطب من هدي التطوع قبل محله
قوله : (( كيف أصنع بما أُبْدِع عليَّ منها )) ؛ أي : بما كل منها ، وعَيي ، فوقف. وقد يقال : على ما عطب منها . قال الهروي : يقال للرجل إذا كلَّت ركابه ، أو عطبت وبقي منقطعًا به : أُبْدِع به . وهو مبني لما لم يسم فاعله . وفي "الأم" قال : وانطلق سنان معه ببدنة يسوقها فأزحفت عليه ، فعيي بشأنها إن هي أبدعت . الرواية : ((أزحفت )) رباعيًّا ، مفتوح الحاء . قال الخطابي : كذا يقوله المحدِّثون . والأجود : (( فأُزحفت )) بضم الألف ، يقال : زحف البعير : إذا قام من الإعياء ، وأزحفه المسير. وقال أبو عبيد الهروي : أزحف البعير ، وأزحفه السير . و(( إن هي )) تُروى بكسر الهمزة على الشرط ، وبفتحها : على أنها معمولة لحرف جر حُذِف ، فتعدَّى الفعل إليها الذي هو : عيَّ ، أو : عَيِيَ - مشددً ومُفككًا ، وهما لغتان معروفتان ، وعليه قرئ : { مَنْ حَيَّ عن بينة }. وفي "الأم" : لأستحفين عن ذلك ؛ أي : كثرنَّ السؤال عنه . يقال : أحفى في المسألة ، وألَحَّ ، وألحف : إذا بالغ فيها. ومنه قوله تعالى : { كأنَك حفيٌّ عنها } ؛ أي : كأنه كثر سؤاله عنها حتى أخبر عنها ، ومنه قول الأعشى :
(10/138)
فَإنْ تسألي عَنَّا فَيَا رُبَّ سائلٍ حفيٍ عَنِ الأَعْشَى به حَيْثُ أَصْعَدا
وقوله : (( ثم اصبُغ نعلها في دمها ، ثم اجعلها على صفحتها )) ؛ يعني : النَّعل التي قلَّدها بها يجعله على صفحة عنقها ، وإنما أمره بذلك ليكون ذلك علامة على أنه هديٌ ، فيمتنع منه كل من لا يحل له أكله على ما يأتي .
وقوله : (( ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك )) ؛ يعني برفقته : الموافقين له في سوق الهدي ومن يتعلَّق به . وإنما منعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورفاقته من أكلها سدًّا للذريعة ؛ لأنه لو لم يمنعهم من ذلك لأمكن أن يبادروا إلى نحرها ، أو يتسبَّبوا إلى ذلك ليأكلوها ، فلما منعهم من المحذور المتوقع انسدَّ ذلك الباب . وهذا وأشباهه من المواضع الواقعة في الشريعة حمل مالكًا على القول بسدِّ الذرائع. وهو أصل عظيم لم يظفز به إلا مالك بدَّة نظره ، وجودة قريحته . وبظاهر هذا النهي قال ابن عباس ، واختاره ابن المنذر فقالا : لا يأكل منها سائقها ، ولا أحد من أهل رفقته . وقال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، ومن تبعهم : لا يأكل منها سائقها شيئًا ، ويخلي بينها وبين الناس يأكلونها . وروي عن ابن عمر : أنه كان يرى الأكل منها . وعلى قول المانعين : فإن أكل منها ضَمِنها عند مالك وغيره .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُلزم صاحب الهدي المعطوب بدلاً ؛ دليلٌ للجمهور : على أنه لا بُدَّ عليه في هدي التطوُّع ؛ إذ لو كان لبيَّنه له ؛ لأنه لا يجوز تأخيز البيان عن وقت الحاجة . فأما الواجب منه : فعليه بدله ؛ لأنه مُتعلِّق بذمته ، وله الأكل منه ، والإطعام للأغنياء وغيرهم عند جمهور العلماء غير مالك . واختلفوا : هل له بيعه ؛ فمنعه مالك ، وأجازه الآخرون ، وعبدالملك.
(10/139)
وأمَّا إذا بلغ الهدي محله ، فاختلف العلماء فيما يأكل منه صاحبه . فمشهور مذهب مالك : أنه لا يأكل من ثلاثة : من جزاء الصد ، ونذر المساكين ، وفدية الأذى ، ويأكل ما سوى ذلك إذا بلغ محله - واجبًا كان أو تطوُّعًا - ووافقه علي ذلك جماعة من السلف وفقهاء الأمصار . ثم إذا أكل مما منع منه ؛ فهل يغرم قدر ما أكل منه ؟ أو يغرم هديًا كاملاً ؟ قولان في مذهبنا . وقال الشافعي ، وأبو ثور : ما كان أصله واجبًا ؛ فلا يأكل منه . وما كان تطوُّعًا ، ونُسكًا أكل منه ، وأهدى ، وادَّخر ، وتصدَّق . والمتعة والقِران عنده نسك . ونحوه مذهب الأوزاعى . وقال أبو حنيفة ، وأصحاب الرأي : يأكل من هدي المتعة ، والتطوُّع ، ولا يأكل مما سوى ذلك . وحكي عن مالك : أنه لا يأكل من دم الفساد . وعلى قياس هذا : لا يأكل من دم الجبر ، كقول الشافعي والأوزاعي . والله أعلم.
ومن باب طواف الوداع
قوله : (( كان الناس ينصرفون في كل وجهٍ )) ؛ أي : يتفرقون من غير أن يودعوا البيت ، فنهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك بقوله : (( لا ينفرنَّ أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت )) ؛ فظاهر هذا : أن طواف الوداع واجب على كل حاجٍّ أو معتمر غير مكيّ. وإليه ذهب أبو حنيفة ، لكن أزال هذا الظاهر حديث صفية ، حيث رخص لها في تركه لَمَّا حاضت ، ففهم منه : أنه ليس على جهة الوجوب . وهذا مذهب الجمهور .
ثم من تركه فهل يلزمه دم أم لا يلزمه شيء ؟ فقال أبو حنيفة ، والشافعي- في أحد قوليه - : أنه يلزمه دم . وقال مالك : لا يلزمه دم . وهو الصحيح ؛ لأن صفيه لم يأمرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء من ذلك . ولو كان ذلك لازمًا ؛ لما جاز السكوت عنه ؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة . والله أعلم .
(10/140)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصفية - لَمَّا أعلمته بأنها حاضت- : (( انفري )) ؛ دليل على أن الحائض يجزئها طواف الإفاضة عن طواف الوداع . وعلى هذا جماعة الفقهاء إلا خلافًا شاذًّا روي عن بعض السلف : أنها لا تنفر حتى تودع . والحديث حجة عليهم .
وقوله : (( أحابستنا هي )) ؛ دليل على أن الكَرِي يُحبس على التي حاضت ولم تطف طوافَ الإفاضة حتى تطهر . وهو قول مالك . وقال الشافعي : لا يُحبس عليها الكري ، ولتكر جملها ، أو تحمل مكانها غيرها ، وهذا كله في الأمن ووجود ذي المحرم . وأما مع الخوف ، أو عدم ذي المحرم ؛ فلا يُحبس باتفاق ؛ إذ لم يمكن أن يسير بها وحده ، ويفسخ الكراء ، ولا يحبس عليها الرفقة إلا أن يبقى لطهرها كاليوم . وقد تقدَّم القول في : (( عقرى وحلقى )) ، وفي : طمثت . والله أعلم.
ومن باب دخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكعبة
هذا إنما كان عام الفتح ، كما قد جاء منصوصًا في الرواية الأخرى ، ولم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الفتح مُحْرِمًا ، فلا ئستدل به على أن دخول البيت نُسُك في الحج والعمرة ؛ كما ذهب إليه بعضهم. وأما أحاديث حجة الوداع فليس في شيء منها تحقيق : أنه دخل أو لا ؟ غير أن أبا داود روى من حديث عائشة رضي الله عنها : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج من عندها مسرورًا ، ثم رجع إليها وهو كئيب ، فقال : (( إني دخلت الكعبة ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها ، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي )) ؛ وظاهره : أن ذلك كان في حجة الوداع ، غير أن هذا الحديث في إسناده إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغير ، وهو ضعيف . وقد رواه البزار بإسناد آخر ، ولا يثبث أيضًا .
(10/141)
وقوله : (( فأغلقها عليه )) ؛ فيه دليل على اختصاص السابق للمنفعة المشتركة بها ، ومنعها ممن يخاف تشويشها عليه ، وقال الشافعي : فائدة أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإغلاقها وجوب الصلاة إلى جدار من جُدُرها ، وأنه لو صلى إلى الباب وهو مفتوح ؛ لم يجزه ؛ لأنه لم يستقبل منها شيئًا . وألزم من مذهبه إبطال هذا ؛ لأنه يجيز الصلاة في أرضها لو تهدمت الجدر ؛ لاستقباله أرضها . وقيل : إنما أغلقها دونهم لئلا يتأذى بزحامهم . وقيل : لئلا يُصلَّى بصلاته ، فتتخذ الصلاة فيها سنة . ولا يلتفت لقول من قال : إنما فعل ذلك لئلا يستدبر شيئًا من البيت ، كما وقع في زيادة البخاري عن بعض الرواة ؛ لأن الباب إذا أغلق ؛ صار كأنه جدار البيت .
وقوله : (( جعل عمودين عن يساره ، وعمودًا عن يمينه ، وثلاثة أعمدة وراءه )) ؛ هكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى التميمي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر . ورواه يحيى بن يحيى الأندلسي وغيره في "الموطأ" عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : (( جعل عمودًا عن يساره ، وعمودين عن يمينه ، وثلاثة أعمدة وراءه )). وفي مسلم من حديث ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ؛ أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى بين العمودين اليمانيين . وظاهر هذا الاختلاف اضطراب . ويمكن أن يقال : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تكررت صلاته في تلك المواضع ، وإن كانت القضية واحدة ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكث في الكعبة طويلاً .
(10/142)
وحديث ابن عمر هذا ، وروايته عن بلال يدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى في البيت الصلاة المعهودة الشرعيه . وبهذا أخذ الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وجماعة من السلف ، وبعض الظاهرية فقالوا : يُصلَّى في الكعبة التطوع والفرض . وقد خالف بلالاً أسامة ، فقال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصل في الكعبة ، وإنما دعا فيها . وبهذا أخذ ابن عباس رضي الله عنهما ، وبعض الظاهرية ؛ فلم يجيزوا فيها فرضًا ولا تطوُّعًا . وقال مالك : لا يُصلَّى فيها الفروض ولا السنن ، ويُصلَّى فيها التطوع ، غير أنه إن صلَّى فيه الفرض أعاد في الوقت . وقال أصبغ : يعيد أبدًا .
ويمكن أن يجمع بين حديث أسامة وبلال على مقتضى مذهب مالك. فيقال : إن قول بلال : أنه صلى فيها ؛ يعني به : التطوع . وقول أسامة : إنه لم يصل فيها ؛ يعني به : الفرض . وقد جمع بينهما بعض أئمتنا بوجهٍ آخر فقال : إن أسامة تغيَّب في الحين الذي صلَّى فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلم يشاهده ، فاستصحب النفي لسرعة رجعته ، فأخبر عنه ، وشاهد ذلك بلال فأخبر عما شاهد. وعضد هذا بما رواه ابن المنذر عن أسامة قال : رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صورًا في الكعبة ، فكنت آتيه بماء في الدَّلو يضرب به تلك الصور. فيحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى في حالة مضي أسامة في طلب الماء ، والله أعلم .
وعلى الجملة : فحديث من أثبت أولى أن يؤخذ به ؛ لأنه أخبر عن مشاهدة ، فكان أولى من النَّافي .
وفي هذا الحديث ما يدلُّ على أن سدانة البيت ولاية باقية لعثمان بن طلحة وذويه ، فلا تنتزع منهم بحال ؛ كالسقاية في بني العباس ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كل مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هذا إلا سقاية الحاج ، وسدانة البيت )). وقال : (( يا بني عبدالدار ! خذوها خالدةً ، تالدةً )). وبذلك قال جميع العلماء . وأعظم مالك أن يشترك غيرهم فيها معهم .
(10/143)
وهذه العُمرة التي سُئل عنها ابن أبي أوفى هي عمرة القضاء ، ولم يختلف أنه لم يدخل فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ البيت ؛ لما كان فيه من الصور ، والأصنام ، ولم يكن يقدر على تغييرها إذ ذاك لأجل مشركي أهل مكة ، فلما فتحها الله تعالى عليه دخل البيت ، وصلَّى فيه ، على ما تقدَّم . وسائر عُمُرِه لم يثبت فيه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخوله البيت ، ولانفيه .
وقوله : (( فلما خرج ركع في قُبُل البيت ركعتين ، وقال : هذه القبلة )) ؛ أي : فيما يقابله منها إذا استقبل الباب . وفي هذه الإشارة قولان :
أحدهما : أنها إلى الكعبة ، ثم في المعنى قولان :
الأول : أن الإشارة تقرير لحكم الانتقال عن بيت المقدس .
الثاني : أنها إلى وجه البيت في حق حاضره بخلاف الغائب .
وثانيهما : أن الإشارة إلى وجه الكعبة ، فيكون التعليم للأمام أن يستقبل البيت من وجهه ، وإن كانت الصلاة إلى جميعه جائزة . والله أعلم.
ومن باب نقض الكعبة وبنائها
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة )) ؛ فيه حجة لمالك في سد الذرائع على القول بسدِّ الذرائع .
وقوله : (( ولجعلتها على أساس إبراهيم )) ؛ يدل على أن جدر البيت منه ، كما سيأتي . و(( استقصرت )) ؛ أي : قصرت عن إتمام بنائها ، واقتصرت على هذا القدر منها ؛ إذ لم يجدوا نفقة .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ولجعلت لها خلْفًا )) : هو بفتح الخاء ، وسكون اللام . وفي "البخاري" قال هشام بن عروة : يعني : بابًا . وقد جاء مفسَّرًا في الحديث بعد هذا . وفي "البخاري" أيضًا : (( لجعلت لها خلْفين )). الرواية الصحيحة فيها : بفتح الخاء ، كما قلناه ، وهما : البابان . وقال ابن الأعرابي : الخلْف : الظهر . وذكر الحربي هذا الحديث ، وضبطه : خِلْفين ، بكسر الخاء ، وقال : الخالفة : عمودٌ في مؤخر البيت . يقال : وراءه خِلفٌ جيد . والأول أصح .
(10/144)
وقوله : (( لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله )) ؛ هذا الكنز هو المالُ الذي كان يجتمع مما كان يُهدى إلى الكعبة ، وأقر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك المال في الكعبة للعلَّة التي ذكر ، وهي : مخافة التنفير . وأقره أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ ولم يعرض له . ثم إن عمر همَّ بقسمته ، فخالفه فى ذلك بعض الصحابة ، واحتج عليه : بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبا بكر لم يفعلا ذلك ، فتوقف .
قلت : ولا يظن أن هذا الكنز الذي جرى فيه ما ذكرنا أنه يدخل فيه حُلِيُّ الكعبة الذي حُلِّيت به من الذهب والفضة ، كما قد ظنَّه بعضهم ، فإن ذلك ليس بصحيح ؛ لأن حليتها محتبسة عليها ، كحُصرها ، وقناديلها ، وسائر ما يحبس عليها لا يجوز صرفها في غيرها ، ويكون حكم حليها حكم حلية سيف أو مصحف حُبسا في سبيل الله ؛ فإنه لا يجوز تغييره عن الوجه الذي حبس له ، وإنما ذلك الكنز كما ذكرناه ، وكأنه فضلةُ ما كان يهدى إليها عما كانت تحتاج إليه مما ينفق فيها ، فلما افتتح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة خاف من نفرة قلوب قريش إن هو أنفقه في سبيل الله ، كما قال. وذلك : أنهم كانت عادتهم في ذلك : ألا يتعرضوا له. فأقره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك لما ذكرناه ، ثم إنه بقي على ذلك في إمارة أبي بكر وعمر ، ولا أدري ما صنع به بعد ذلك . وينبغي أن يبحث عنه. وسبيل الله هنا : الجهاد . وهو الظاهر من عرف الشرع ، كما قررناه في كتاب الزكا ة .
و (( من )) في قوله : (( من الحجر )) للتبعيض ، بدليل قوله في الرواية الأخرى : (( أدخلت من الحجر خمسة أذرع )).
(10/145)
وقول عبدالله بن عمر : (( لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ ليس شكًّا منه في سماعها ، ولا في سماع الراوي عنها ، وإنما هذا على طريقة وضع الشَّرطي المتصل الذي يوضع شرطه تقديرًا ليتبيّن مشروطه تحقيقًا . وله في كلام الله تعالى ، وكلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نظائر ، منها : قوله تعالى : { قل إن كان للرحمن ولدٌ فأنا أول العابدين } ، وقوله : { لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا } ، ومثله كثير. ولبسط هذا وتحقيقه علمٌ آخر . وقد يأتي هذا النحو في الكلام على طريق تبيين الحال على وجهٍ يأنس به المخاطب ، وإظهار التناصف في الكلام ، كقوله تعالى : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب} ، وعلى الجملة : فالشرط يأتي في الكلام على غير وجه الشكِّ ، وهو كثير .
وقوله : (( ما ترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ استلام الركنين اليمانيين إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم )) ؛ يعني : أن الركنين اللذين يليان الحجر ليسا بركنين ، وإنما هما بعض الجدار الذي بنته قريش ، فلذلك لم يستلمهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد تقدَّم القول على هذا .
وقوله : (( يريد أن يُجرِّئهم - أو يُحزِّبهم- )) ؛ الأول : من الجرأة ، وهي الشجاعة . والثاني من التحزب ، وهو التجميع. هكذا لابن سعيد ، والفارسي ، وغيرهما . ومعنى ذلك : أنه أراد أن يشجعهم أو يُجمعهم على أهل الشام بإظهار قبح أفعالهم في الكعبة . وروى العذري الحرف الأول : (( يجربهم )) بالباء بواحدة ؛ من التجربة ؛ أي : يختبر ما عندهم من الغضب لله تعالى ، ولنبيِّه. وقيد كافتهم الحرف الثاني : ((يحربهم )) بالحاء والراء المهملتين ، والباء بواحدة ؛ من التحريب ، وهو : التغضيب . يقال : حربت الأسد . وأسد مُحرَّب ؛ أي : أغضبته ، فهو مُغضَبٌ .
(10/146)
وقول ابن عباس : (( إنه فُرِقَ لي فيها رأي )) ؛ أي : انكشف واتضح . ومنه قوله تعالى : { وقرءانًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} ؛ أي : أوضحناه ، وكشفنا معانيه. و(( وهى )) : ضعف ورَثَّ . و(( أجمع رأيه )) - رباعيًّا - : عزم ، وأمض . فأما : جمع- ثلاثيًّا- : فضد التفريق . و((تحاماه الناس )) ؛ أي : امتنعوا من نقض البيت خوفًا وهيبة . و(( تتابعوا )) كافة الرواة على الباء بواحدة من التتابع . وهو الجيِّد هنا . وضبطها أبو بحير بالياء باثنتين من تحتها ، ومعناهما واحد ، غير أن : التتايع - بالياء ، باثنتين - أكثره في الشرِّ .
وقوله : (( فجعل ابن الزبير أعمدة فستَّر عليها الستور )) ؛ إنما فعل ذلك ابن الزبير رضي الله عنهما لاستقبال المستقبلين ، وطواف الطائفين ، ولأن ابن عباس ري الله عنهما قال : (( إن كنتَ هادمَها فلا تاع الناس لا قِبلة لهم. وهذا يدل على أن بقعة البيت ما كانت تتنزَّل عندهما منزلة البيت ، وقد خالفهما في ذلك جابر وقال : صلوا إلى موضعها. وقد ذكرنا الخلاف بين الفقهاء في ذلك . وما فعله عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما في البيت كان صوابًا وحقًّا . وقبَّح الله الحجاج ، وعبدالملك ، لقد جهلا سنَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجترأا على بيت الله وعلى أوليائه .
و (( التلطيخ )) : التقذير والتلويث . يقال : لطخت فلانًا بأمرٍ قبيح : إذا رماه به . ورجل لطيخ ؛ أي : قذر . أراد بذلك العيب لفعله . وهو المعاب .
(10/147)
وقوله : (( ثم أعاده إلى بنائه )) ؛ يعني : البناء الأول المتقدِّم على بناء قريش. وهو الذي عليه الآن . وقد كان الرشيد أراد أن يرده على ما بناه ابن الزبير ، فقال له مالك : نشدتك الله يا أمير المؤمنين ! أن تجعل هذا البيت ملعبة للملوك ؛ لا يشاء أحدٌ إلا نقض البيت وبناه ، فتذهب هيبته من صدور الناس . فترك ما هم به ، واستحسن الناس هذا من مالك ، وعملوا عليه ، فصار هذا كالإجماع . على أنه لا يجوز التعرض له بهدم أو تغيير . والله أعلم .
وقوله : (( فأراها قريبًا من سبع أذرع )) ؛ ليس هذا مخالفًا لما تقدم من خمس أذرع ؛ لأن هذا تقدير ، وذكر الخمس تحقيق .
وقول عبدالملك : (( لو كنت سمعت هذا قبل أن أهدمه لتركته على مابنى ابن الزبير )) ؛ تصريخ منه بجهله بالسنة الواردة في ذلك ، وهو غير معذور في ذلك ؛ فإنه كان متمكنًا من التثبت في ذلك ، والسؤال ، والبحث ، فلم يفعل ؛ واستعجل ، وقصَّر . فالله حسيبه ، ومجازيه على ذلك .
و (( الجَدر ))- بالفتح- : الجدار ، وهو بالدال المهملة ، والجيم المفتوحة. والمراد به هنا : أصل الجدار الذي أخرجته قريش عن بناء الجدار الذي بنوه ، وهو المعبَّر عنه بالشاذروان. وفد يكون الجدر أيضًا : ما يرفع من جوانب الشرفات في أصول النخل ، وهي كالحيطان لها . ومنه قوله : (( اسق يا زبيز حتى يبلغ الماء الجدر )).
ومن باب الحج عن المعضوب
قوله : (( فجعل الفضل ينظر إليها ، وتنظر إليه )) ؛ هذا النظر منهما بمقتضى الطباع ؛ فإنها مجبولةٌ على الميل إلى الصور الحسنة . ولذلك قال في رواية : (( وكان الفضل أبيض وسيمًا )) ؛ أي : جميلاً . و(( صرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجه الفضل إلى الشق الآخر )) ؛ منع له من مقتضى الطبع ، وردٌّ له إلى مقتضى الشرع .
وفيه دليل : على أن المرأة تكشف وجهها في الإحرام ، وأنها لا يجب عليها ستره وإن خيف منها الفتنة ، لكنها تندب إلى ذلك ، بخلاف أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإن الحجاب عليهن كان فريضة .
(10/148)
وقولها : (( إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة )) ؛ هذا هو المسمَّى بالمعضوب . والعضب : القطع . وبه سُمِّي السيف : عضبًا ، وكأن من انتهى إلى هذه الحالة قطعت أعضاؤه ؛ إذ لا يقدرعلى شيء . وقد بيَّنَتُه في الرواية الأخرى بقولها : (( لا يستطيع أن يستويَ على ظهر بعيره . فمجموع الروايتين يحصل : أنه لا يقدر على الاستواء على الراحلة ، ولو استوى لم يثبت عليها .
وقولها : (( أدركت أبي )) ، وفي الرواية الأخرى : (( عليه فريضة الله في الحج )) ؛ ظاهرٌ في أن من لم يستطع الحج بنفسه أنه مخاطب به . وبهذا الظاهر أخذ الشافعى ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة ، والجمهور على تفصيل لهم يأتي إن شاء الله تعالى . وخالفهم في ذلك مالك وأصحابه ، ورأوا : أن هذا الظاهر مخالف لقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } ، فإن الأصل في الاستطاعة إنما هي القوة بالبدن . ومنه قوله تعالى : { فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا } ؛ أي : ما قدروا ، ولا قووا . وبالجملة : فإذا قال القائل : فلان مستطيع ، أو غير مستطيع . فالظاهر منه السابق إلى الفهم : نفي القدرة أو إثباتها ، فلما عارض ظاهر هذا الحديث ظاهر القرآن رجح مالك رحمه الله ظاهر القرآن . وهو مرجح بلا شك من أوجه : منها : أنه مقطوع بتواتره . ومنها : أن هذا القول إنما هو قول المرأة على ما ظنته. ثم إنه يحتمل أن يكون معنى : (( أدركت أبي )) : أن الحج فرض وأبوها حي على تلك الحالة ا لموصوفة .
(10/149)
قلت : وهذا التأويل ، وإن قبله قولها : (( أدركت )). فلا يقبله قولها في الرواية الأخرى : (( عليه فريضة الحج )). لكن هذا كله منها ظن وحسبان ، ولا حجة في شيء من ذلك ، فإنها ظنت الأمر على خلاف ما هو عليه . ولا يقال : فقد أجابها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على سؤالها ، ولو كان سؤالها غلطًا لما أجابها عليه ، ولبينه لها ، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ، لأنا نقول : إنه لم يُجبها على هذا القول ، بل على قولها : (( أفأحج عنه ؟ )) فقال لها : (( نعم )). أو : (( فحجي عنه )) على اختلاف الرواية ، وإنما قال لها ذلك لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها ، فأجابها إلى ذلك . كما قال للأخرى التي قالت : إن أئي نذرت أن تحجَّ ، فلم تحجَّ حتى ماتت ، أفأحجَّ عنها ؟ فقال : (( حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته عنها ؟ )) قالت : نعم ؛ ففي هذا ما يدل على أنه من باب التطوُّعات ، وإيصال الخير والبرِّ للأموات . ألا ترى أنه قد شبَّه فعل الحج بالدَّين ! وبالإجماع : لو مات ميت وعليه دين لم يجب على وليه قضاؤه من ماله ، فإن تطوع بذلك تأدَّى الدين عنه . ولا يبعد في كرم الله وفضله إذا حجَّ الولى عن الميت الصَّرورة أن يعفو الله عن الميت بذلك ، ويثيبه عليه ، أو لا يطالبه بتفريطه . وقد تقدَّم الكلام على هذا المعنى في الصوم . ولم يتعرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقولها ؛ لأنه فهم أن مرادها الاحتمال الذي قدمناه . والله تعالى أعلم .
قلت : وقد قال بعض أصحابنا - وهو أبو عمر ابن عبد البر- : حديث الخثعمية عند مالك وأصحابه مخصوص بها . وقال آخرون : فيه اضطراب . قلت : وفي هذين القولين بُعد . والصحيح ما قدَّمته . والله أعلم .
وقد قال بعض أصحابنا بموجب حديث الخثعمية فقال : لا تجوز النيابة في الحج إلا للابن عن أبيه خاصة . وفي هذا الحديث ردٌّ على الحسن بن حييِّ حيث قال : لا يجوز حج المرأة عن الرجل .
(10/150)
وقد اختلف العلماء في النيابة في الحج قديمًا وحديثًا . فحكي عن النخعي وبعض السَّلف : لايحج أحدٌ عن أحد جملة من غير تفصيل . وحكي مثله عن مالك . وقال جمهور الفقهاء : يجوز أن يحج عن الميت ، عن فرضه ، ونذره ، وإن لم يوص به ، ويجزئ عنه . واختلف قول الشافعي في الإجزاء عن الفرض . ومذهب مالك ، والليث ، والحسن بن حيي : أنه لا يحج أحدٌ عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام ، ولا ينوب عن فرضه . قال مالك : إذا أوصى به . وكذلك عنده يتطوع بالحج عن الميت إذا أوصى به . وأجاز أبو حنيفة ، والثوري وصية الصحيح بالحج عنه تطوُّعًا . وروي مثله عن مالك .
وسبب الخلاف في هذه المسألة : ما قد أشرنا إليه من معارضة الظواهر بعضها بعضًا ، ومعارضة القياس لتلك الظواهر ، واختلافهم في تصحيح حديثي جابر وابن عباس . فأما حديث جابر : فخرَّجه عبدالرزاق قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله يدخل بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة : الميت ، والحاج ، والمنفِّذ لذلك )). في إسناده أبو معشر ؛ نجيح ، وأكثر الناس يضغفه ، ومع ضعفه يكتب حديثه .
وأما حديث ابن عباس : فخرَّجه أبو داود . قال فيه : سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلاً يقول : لبيك عن شبرمة . قال : (( من شبرمة ؟ )) قال : أخ لي ، أو قريب لي . فقال : (( حججت عن نفسك ؟ )) قال : لا . قال : (( حج عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة )). عقله بعضهم : بأنه قد روي موقوفًا ، والذي أسنده ثقة . وقد قال سفيان ، والحسن بن علي : لا يحج في الوصية بالحج من لم يحجَّ عن نفسه ، أخذًا بحديث شبرمة هذا . وقاله الشافعي فيمن حج عن ميِّت . وقال غيرُ مَن ذكر : بجواز ذلك ، وإان كان الأولى هو الأول . والجمهور على كراهية الإجارة في الحج. وقال أبو حنيفة : لا تجوز . وقال مالك والشافعي - في أحد قوليه- : لا تجوز ، فإن وقع مضى . وقال بعض أصحابنا بجواز ذلك ابتداءً .
(11/1)
و (( الرَّوحاء )) : موضع معروف من عمل الفرع ، بينه وبين المدينة نحو الأربعين ميلاً . وفي كتاب مسلم : ستة وثلاثون ميلاً . وفي كتاب ابن أبي شيبة : ثلاثون ميلاً . و(( الركب )) : أصحاب الإبل الرَّاكبون عليها.
وقولهم : (( مَنِ القوم ؟ )) سؤال من لم يعلم مَن كانوا ، إما لأنهم كانوا في ليل ، وإما لأن هؤلاء الركب كانوا فيمن أسلم ولم يهاجروا .
و (( رفع المرأة الصبيَّ )) ؛ يدل على صغره ، وأنه لم يكن جفرًا ، ولا مراهقًا ؛ إذ لا ترفعه غالبًا إلا وهو صغير . وفي "الموطأ" : فأخذت بضبعي صبي لها وهي في محفّتها . وفي غيره : فأخرجته من محفّتها . وهو حجة للجمهور في أن الصغير ينعقد حجُّه ، ويجتنب أما يجتنبه الكبير . وهو ردٌّ على قوم من أهل البدع منعوا حج الصبيِّ ، وعلى أبي حنيفة إذ يقول : لا ينعقد ، وإنما هو عنده من باب التمرين ، ولا يلزم أن يجتنب شيئا يجتنبه المحرم . وكلُّ من قال بصحة حج الصغير متفقون : على أنه لا يجزئه عن حجة الإسلام . وقد شذَّت فرقة لا مبالاة بها ، فقالت : يجزئه عنها ، وهو فاسد بدليل : أن الصبي لا يجب عليه حكم شرعًا اتفاقًا ، وإنما الخلاف : هل يُخاطبون بخطاب الندب من جهة الله تعالى ؟ أو : إنما المخاطب أولياؤهم بحملهم على آداب الشريعة ، وتمرينهم عليها ، وأخذهم بما يمكنهم من أحكامها في أنفسهم ، وأموالهم. وهذا هو المرتضى في الأصول . ثم لا بُعدَ في أن الله تعالى يثيبهم على ما يصدر عنهم من أفعال البر والخير ، فإن الثواب فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء . وبهذا قال عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ وكثير من العلماء . أعني : أنهم قالوا : إنهم يثابون على طاعاتهم ، ولا يعاقبون على سيئاتهم .
(11/2)
واختلف العلماء في الصبي إذا أحرم بالحج ثم بلغ : فقال مالك : لا يرفض إحرامه ، ويتم حجَّه ، ولا يجزئه عن حجة الإسلام . وقال : إن استأنف الإحرام قبل الوقوف بعرفة أجزأه عنها . وقال أبو حنيفة : يلزمه تجديد النية للإحرام ، ورفض الأولى ، إذ لا يترك فرضٌ لنافلة . وقال الشافعي : يجزئه ، ولا يحتاج إلى تجديد نيَّةٍ .
والخلاف في العبد يحرم ثم يُعتق كالخلاف في الصبي .
وقوله : (( ولك أجر )) ؛ يعني : فيما تكلفته من أمره بالحج وتعليمها إيَّاه ، وتجنيبها إيَّاه ممنوعات الإحرام . والله أعلم.
ومن باب فرض الحج مرة في العمر
قوله : (( قد فرض عليكم الحج فحجُّوا )) ؛ أي : أوجب ، وألزم . وإن كان أصل الفرض : التقدير ، كما تقدم . ولا خلاف في وجوبه مرة في العمر على المستطيع . وقد تقدم الكلام على الاستطاعة .
وقول السائل : (( أكل عام ؟ )) سؤال من تردَّد في فهم قوله : ((فحجوا )) بين التكرار والمرة الواحدة ، وكأنه عنده مجملٌ ، فاستفصل ، فأجابه بقوله : (( لو قلت نعم ؟ لوجبت )) ؛ أي : لوجبت المسألة ، أو الحجة في كل عام ، بحكم ترتيب الجواب على السؤال .
وقوله : (( ولما استطعتم )) ؛ أي : لا تطيقون ذلك ، لثقله ، ومشقته على القريب ، ولتعذره على البعيد .
(11/3)
وقوله : (( ذروني ما تركتكم )) ؛ يعني : لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مقيَّدة بوجهٍ ما ظاهرٍ وإن كانت صالحة لغيره . وبيان ذلك : أن قوله : (( فحجوا )) وإن كان صالِحًا للتكرار ، فينبغي أن يكتفى بما يصدق عليه اللفظ ، وهو المرة الواحدة ، فإنها مدلولة للَّفظ قطعًا ، وما زاد عليها يتغافل عنه ، ولا يكثر السؤال فيه لإمكان أن يكثر الجواب المترتب عليه ، فيضاهي ذلك قصة بقرة بني إسرائيل التي قيل لهم فيها : اذبحوا بقرة . فلو اقتصروا على ما يصدق عليه اللفظ ، وبادروا إلى ذبح بقرة - أي بقرة كانت - لكانوا ممتثلين ، لكن لما أكثروا السُّؤال كثر عليهم الجواب ، فشدَّدوا ، فَشُدِّد عليهم ، فذُمُّوا على ذلك ، فخاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل هذا على أمته ، ولذلك قال : (( فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم )) ، وعلى هذا يحمل قوله : (( فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم )) ؛ يعني : بشيء مطلق . كما إذا قال : ضُم ، أو صلِّ ، أو تصدَّق . فيكفي من ذلك أقل ماينطلق عليه الاسم . فيصوم يومًا ، ويصلِّي ركعتين ، ويتصدَّق بشيء يُتصدَّق بمثله . فإن قيَّد شيئًا من ذلك بقيودٍ ، ووصفه بأوصاف لم يكن بدٌّ من امتثال أمره على ما فصَّل وقيَّد ، وإن كان فيه أشدُّ المشقَّات ، وأشقُّ التكاليف . وهذا مما لا يختلف فيه إن شاء الله تعالى أنه هو المراد بالحديث .
وقوله : (( وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه )) ؛ يعني : أن النهي على نقيض الأمر ، وذلك : أنه لا يكون ممتثلاً بمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدًا من آحاد ما تناوله النهي ، متى فعل واحدًا فقد خالف ، وعصى ، فليس في النهي إلا ترك ما نهي عنه مطلقًا دائمًا ، وحينئذ يكون ممتثلاً لترك ما أُمر بتركه ، بخلاف الأمر على ما تقدَّم . وهذا الأصل إذا فهم هو ومسألة مطلق الأمر ، هل يحمل على الفور ، أو التراخي ، أو على المرة الواحدة ، أو على التكرار ؟
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لاتخفى . والله أعلم .
(11/4)
ومن باب ما جاء أن الْمَحْرَمَ من الاستطاعة
(11/5)
ظواهر أحاديث هذا الباب متواردةٌ على أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر سفرًا طويلاً إلا ومعها ذو محريم منها ، أو زوج . وسيأتي القول في أقل السفر الطويل ، وقد مرَّ منه طرف في كتاب الصلاة ، فيلزم من هذه الأحاديث : أن يكون الْمَحْرم شرطًا في وجوب الحج على المرأة لهذه الظواهر. وقد روي ذلك عن النخعي ، والحسن . وهو مذهب أبي حنيفة ، وأصحاب الرأي ، وفقهاء أصحاب الحديث . وذهب عطاء ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ، والأوزاعي ، ومالك ، والشافعي إلى : أن ذلك ليس بشرط . وروي مثله عن عائشة رضي الله عنها ، لكن الشافعى قال- في أحد قوليه - يشترط أن يكون معها نساء أو امرأة ثقة مسلمة . وهو ظاهر قول مالك على اختلاف في تأويل قوله : تخرج مع رجالي أو نساء ؛ هل بمجموع ذلك ، أم في جماعة من أحد الجنسين ؟ وأكثر ما نقله عنه أصحابنا : اشتراط النساء . وسبب هذا الخلاف مخالفة ظواهر هذه الأحاديث لظاهر قوله تعالى : { ولله على النس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } ، وذلك أن قوله : { من استطاع } ظاهره الاستطاعة بالبَدَن ، كما قررناه آنفًا ، فيجبُ على كل من كان قادرًا عليه ببدنه . ومن لم تجد محرمًا قادرة ببدنها ، فيجب عليها . فلما تعارضت هذه الظواهر ؛ اختلف العلماء في تأويل ذلك . فجمع أبو حنيفة ومن قال بقوله بينهما ؛ بأن جعل الحديث مبينًا للاستطاعة في حق المرأة . ورأى مالك ومن قال بقوله : أن الاستطاعة بيّنة بنفسها في حق الرجال والنساء ، وأن الأحاديث المذكورة في هذا لم تتعرَّق للأسفار الواجبة ، ألا ترى أنه قد اتفق على أنها يجب عليها أن تسافر مع غير ذي محرم إذا خافت على دينها ونفسها ، وتُهاجر من دار الكفر كذلك ، ولذلك لم يختلف في أنها ليس لها أن تسافر سفرًا غير واجب مع غير ذي محرم ، أو زوح ، ويمكن أن يقال : إن المنع في هذه الأحاديث إنما خرج لما يؤدي إليه من الخلوة ، وانكشاف عوراتهن غالبًا ، فإذا أمن ذلك بحيث يكون في الرفقة نساء(11/6)
تنحاش إليهن جاز ، كما قاله الشافعي ، ومالك . وأما مع الرِّجال المأمونين ففيه إشكال ؛ لأنه مظنة الخلوة ، وكشف العورة . وقد أقام الشرع المظنة مقام العفة في غير ما موضع . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( لا يحل لامرأة )) ؛ هو على العموم لجميع المؤمنات ؛ لأن امرأة نكرة في سياق النفي ، فتدخل فيها الشابة ، والمتجالَّة. وهو قول الكافة . وقال بعض أصحابنا : تخرج منه المتجالَّة ؟ إذ حالها كحال الرجل في كثيير من أمورها . وفيه بُعد ؛ لأن الخلوة بها تحرم ، وما لايطلع عليه من جسدها غالبًا عورة ، فالمظنة موجودة فيها . والعموم صالح لها ، فينبغي ألا تخرج منه . والله تعالى اعلم .
وقوله : (( مسيرة ثلاث ، أو يومين ، أو يوم وليلة )) ؛ لا يتوهم منه أنه اضطراب ، أو تناقض ، فإن الرواة لهذه الألفاظ من الصحابة مختلفون ، فروى بعض ما لم يَرْوِ بعض ، وكل ذلك قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أوقات مختلفةٍ بحسب ما سئل عنه .
وأيضًا فإن كل ما دون الثلاث داخل في الثلاث ، فيصح أن يعيّن بعضها ، ويحكم عليها بحكم جميعها ، فينص تارة على الثلاث وتارة على أقل منها ؛ لأنه داخل فيها . وقد تقدَّم الخلاف في أقل مدة السفر في باب القصر .
وقوله : (( إلا ومعها ذو محرم منها )) ؛ هذا يعم ذوي المحارم سواء كان بالصهر ، أو بالقرابة . وهو قول الجمهور . غير أن مالكًا قد كره سفر المرأة مع ابن زوجها . قال : وذلك لفساد الناس بعد .
(11/7)
وقوله : (( لا تشدذُ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد )) ؛ يعني : لا يسافر لمسجد لفعل قُربه فيه إلا إلى هذه المساجد ؛ لأفضليتها وشرفيتها على غيرها من المساجد ، ولا خلاف في : أن هذه المساجد الثلاثة أفضل من سائر المساجد كلها . ويقتضى هذا النهي : أن من نذر المشي أو المضي إلى مسجد من سائر المساجد للصلاة فيه - ما عدا هذه الثلاثة - وكان منه على مسافةٍ تحتاج فيها إلى إعمال الْمَطِيِّ ، وشدِّ رحالها لم يلزمه ذلك ؛ إلا أن يكون نذر مسجدًا من هذه المساجد الثلاثة ، وقد ألحق محمد بن مسلمة مسجدَ قِباء بهذه المساجد ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
فصار شدذُ الرِّحال في هذا الحديث عبارة عن السفر البعيد . فأمَّا لو كان المسجد قريبًا منه لزمه المضي إليه إذا نذر الصلاة فيه ؛ إذ لم يتناوله هذا النَّهي . وسيأتي لهذا مزيد بيان وتفريغ .
وقوله : (( مسيرة يوم ، أو ليلة )) ؛ لما كان ذِكر أحدهما يدل على الآخر ، ويستلزمه ؛ اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ، وقد جمعهما في الرواية الأخرى ، حيث قال : (( يوم وليلة )) ، والروايات يُفسر بعضها بعضًا. وقد وقع في بعض الروايات : (( لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم )) ، ولم يذكر مدة . فيقتضي بحكم إطلاقه منع السَّفر قصيره وطويله .
وقوله : (( لا يخلون رجل بامرأة )) ؛ عامٌّ في المتجالات وغيرهن . وفي الشيوخ وغيرهم . وقد اتقى بعض السَّلف الخلوة بالبهيمة . وقال : شيطانٌ مُغْوٍ وأنثى حاضرة - أو كلامًا هذا معناه .
وقول الرجل : (( إني اكتتبت في غزوة كذا )) ؛ أي : ألزمت وأثبت اسمي في ديوان ذلك البعث .
(11/8)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل : (( انطلق فحج مع امرأتك )) ؛ هو فسخٌ لما كان التزم من المضي للجهاد . ويدل : على تأكد أمر صيانة النساء في الأسفار ، وعلى أن الزوج أحق بالسفر مع زوجته من ذوي رحمها ، ألا ترى أنه لم يسأله : هل لها محرم أم لا ؟ ولأن الزوج يطلع من الزوجة على ما لا ياطلع منها ذو المحرم . فكان أولى . فإذًا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأحاديث : (( إلا ومعها ذو محرمٍ )) ؛ إئما خرج خطابأ لمن لا زوج لها . والله تعالى أعلم .
ومن باب ما يقال عند الخروج إلى السفر وعند الرجوع
(( سخر )) : ذلَّل ومكَّن .(( مقرنين )) : مُطيقين ، قاله ابن عباس. قال الشاعر :
لَقَدْ عَلِمَ القَبَائلُ مَا عضقِيل لنا في النَّائِباتِ بِمُقْرِنينا
(11/9)
أي : بمطيقين . وقال الأخفش : ضابطين . وقال قتادة : مماثلين ، من القرن في القتال ، وهو المثل . ويحتمل أن يكون من المقارنة ؛ أي : الملازمة . و{ منقلبون } : راجعون ، تنبيهًا على المطالبة بالشكر على ما أنعم ، وعلى العدل فيما سخر . (( البر )) : العمل الصالح ، والخلق الحسن . و(( التقوى )) : الخوف الحامل على التحرز من المكروه . (( الصاحب )) ؛ أي : أنت الصاحب الذي تحفظنا بحفظك ورعايتك. و(( الخليفة )) ؛ أي : الذي تخلفنا في أهلينا بإصلاح أحوالهم بعد مغيبنا ، أوانقطاع نظرنا ، عنهم . ولا يسمى الله تعالى : بالصاحب ، ولا بالخليفة ؛ لعدم الإذن ، وعدم تكرارهما في الشريعة . و(( أعوذ )) : أستجير . و(( وعثاء السفر )) : مشقته ، وشدته . وأصله من الوعث : وهو الوحل ، والدَّهس. و((كآبة المنظر )) ؛ أي : حزن المرأى ، وما يسوء منه . و(( المنقلب )) : الانقلاب ، وهو مصدر : انقلب مزيدًا. (( آيبون )) : جمع آيب ، وهو الراجع بالخير هنا. و(( تائبون )) : جمع تائب من الذنب . وأصل التوبة الرجوع ، وكذلك حدّها بعض أئمتنا بأن قال : التوبة : هي الرجوع عمَّا هو مذموم شرعًا إلى ما هو محمود شرعًا . وسيأتي القول فيها إن شاء الله تعالى . وقد تقدَّم القول في ذنوب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم . (( عابدون )) : خاضعون متذللون .((حامدون )) : مُثنون عليه بصفات كماله وجلاله ، وشاكرون عوارف أفضاله . و(( الحور بعد الكور )) بالراء. هكذا رواية العذري وابن الحذاء ، ومعناه : الزيادة والنقصان . وقيل : الخروج من الجماعة بعد أن كان فيها . يقال : كار عمامته ؛ أي : لفَّها . وحارها ؛ أي : نقضها . وقيل : الفساد بعد الصلاح . وقيل : القلَّة بعد الكثرة . وقيل : الرّجوع من الجميل إلى القبيح . ورواه الفارسي وابن سعيد- وهو المعروف من رواية عاصم الأحول - : (( بعد الكون )) بالنون . قال أبو عبيد : سئل عاصم عن معناه ، فقال : ألم تسمع إلى قولهم : حار بعدما(11/10)
كانَ . يقول : إنه كان على حالة جميلة فحار عن ذلك ؛ أي : رجع. قال أبو إسحاق الحربي : يُقال : إن عاصمًا وَهِمَ فيه ، وصوابه : (( الكور )) بالراء ، والله أعلم .
وإنما استعاذ من دعوة المظلوم لأنها مستجابة ؛ كما جاء في "الصحيح" ، ولما تضمنته من كفاية الظلم ، ورفعه .
و (( قفل )) : رجع من سفره . والقافلة : الرَّاجعون من السفر . ولا يقال لهم في مبدئهم : قافلة . قاله القتيبي وغيره ، لكن رفقة .
و (( الجيوش )) : جمع جيش ، وهو العسكر العظيم . و(( السَّرايا )) : جمع سرية ، وهي دون الجيش . وسُمّيت بذلك لأنها تسري بالليل . وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خير الجيوش أربعة آلاف ، وخير السَّرايا أربعمائة ، ولن تُغلب اثنا عشر ألفًا من قلِّة )). و(( أوفى )) : أقبل وأطل . و(( الثنيَّة )) : الهضبة ، وهي الكوم دون الجبل . و(( الفدفد )) : ما غلظ من الأرض وارتفغ ، وجمعه : فدافد .
وتكبيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه في المواضع المرتفعة إشعار بأن أكبرية كل كبير إنما هي منه ، وأنها محتقرة بالنسبة إلى أكبرتيه تعالى وعظمته ، وتوحيدُه الله تعالى هناك : إشعار بانفراده سبحانه وتعالى بإيجاد جميع الموجودات ، وبأنه المألوه ؛ أي : المعبود في كل الأماكن من الأرضين والسموات ، كما قال تعالى : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله }. و((الْمُلك )) و(( الْمِلك )) : أصله الشدُّ والرَّبط . والْمُلك بالضم يتضمن الْمِلك بالكسر ، ولا ينعكس . و((ساجدين)) : جمع ساجد . وأصله الخضوع والتذلل . ومنه قول الشاعر :
تَرَى الأُكْمَ فيها سُجَّدًا لِلْحَوافِرش
أي : متذللة ، خاضعة .
وقوله : (( صدق الله وعده ، ونصر عبده )) ؛ خبرٌ عن وفاء الله بما وعد به على جهة الثناء والشكر ، حيث قال تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } الآية ، وقال : {ولينصرنالله من ينصره } ، ويعني بقوله : (( عبده )) : نفسه .
(11/11)
وقوله : ((وهزم الأحزاب وحده )) ؛ أي : من غير محاولة من أحد ، ولا سبب ولا شركة ، بل كما قال الله تعالى : { فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها} ، ويحتمل أن يكون هذا الخبر بمعنى الدعاء . كأنه قال : اللهم افعل ذلك وحدك . والأول أظهر . و(( الأحزاب )) : جمع حزب ، وهو القطعة المجتمعة من الناس . ويعني بهم هنا على التأويل المتقدم : الجيش الذين حاصروه بالمدينة ، ثم نصره الله عليهم بالريح . وعلى التأويل الثاني : يعني بهم : كل من يتحزب من الكفار عليه ويجتمع. والله أعلم .
ومن باب التعريس بذي الحليفة إذا صدر من الحج أو العمرة
(( صدر )) : رجع . والمصدر : الموضع الذي يُصْدَر منه . وبه سُمِّي المصدر النحوي . و(( الإناخة )) : تنويخ الإبل . ويقال : أنخت الجمل فبرك. ولا يقال : فناخ . و(( التعريس )) : النزول من آخر الليل . قاله الخليل ، والأصمعي ، وغيرهما . وقال أبو زيد : عرَّس القوم في المنزل ؛ أي : نزلوا به في وقت كان من ليلٍ أو نهارٍ . والأول أعرفُ . والتعريس بذي الحليفة ليس من سنن الحج ، ولا العمرة ، ولكنَّه يستحب تبركًا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأيضًا : فيها بطحاء مباركة ، كما جاء في الحديث الآتي بعدُ ، وقد استحب مالك النزول به ، والصلاة فيه ، وقال : إن لم يكن وقت صلاة ؛ أقام به حتى تحل وقت الصلاة . وقيل : إنما نزل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالناس لئلا يَفجؤوا أهليهم ليلاً ، كما قد نهى أن يأتي الرَّجل أهله طروقًا حتى تمتشط الشعثة وتستحدَّ الْمُغِيبَة . ومعنى ذلك : أن الرجل إذا فجأ أهله من سفره ربما وجدها على حالة يستقذرها من الشعث ، والتَّفَل ، ورثاثة الهيئة ، فيكون ذلك سببًا لفقد الألفة ، وعدم الصحبة . وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إرشاد إلى أمر مصلحة ينبغي للأزواج أن يراعوه . و(( يتحرى )) ؛ أي : يقصد ، والله أعلم.
ومن باب فضل يوم عرفة ، ويوم الحج الأكبر
(11/12)
قوله : (( يؤذنون في الناس يوم النحر : لا يحج بعد العام مشرك )) ؛ هذا يدل على أن يوم الحج الأكبر يوم النحر ، كما قاله حميد . وهو قول سعيد بن جبير ، ومالك . وقالت طائفة : إنه يوم عرفة . وبه قال عمر ، وهو قول الشافعي . وقال مجاهد : الحج الأكبر : الحجُّ ، والأصغر : الإفراد . وقال الشعبى : الحج الأكبر : الحج ، والأصغر : العمرة . والأولى : القول الأول . بدليل : أن الله تعالى أمر نبيَّه بأن يؤذن في الناس يوم الحج الأكبر ، فأذن المبلغون عنه يوم النحر بمنى . وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عمر ، وأبي هريرة ـ رضى الله عنهم ـ : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ((يوم الحج الأكبر يوم النحر )) ، وهذا يرفع كل إشكال ، ويريح من تلك الأقوال .
وقوله : (( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة )) ، روينا : (( أكثر ))- رفعًا ونصبًا - فرفعه على التميمية ، ونصبه على الحجازية . وهو في الحالين خبر لا وصف . والمجروران بعده مبنيان . فـ (( من يوم عرفة )) يبيِّن الأكثرية مما هي . و(( من أن يعتق )) يبيِّن المميِّز. وتقدير الكلام : ما يوم أكثرُ من يوم عرفة عتيقًا من النار . والله أعلم.
وقوله : (( وإنه ليدنو )) ؛ هذا الضمير عائد إلى الله تعالى . والدُّنو دنوُّ إفضال وإكرام ، لا دنوَّ انتقال ومكان ؛ إذ يتعالى عنه ويتقدَّس .
قوله : (( ثم يباهي بهم الملائكة )) ؛ أي : يثني عليهم عندهم ، ويعظمهم بحضرتهم ، كما قال في الحديث الآخر : يقول للملائكة : ((انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا ، أشهدكم أني قد غفرت لهم )) ، وكأن هذا - والله أعلم - تذكير للملائكة بقول : { أتجعل فيها من يفسد فيها }. وإظهارٌ لتحقيق قوله : { إني أعلم }(2).
وقوله : ما أراد هؤلاء ؛ أي : إنما حملهم على ذلك ، حتى خرجوا عن أوطانهم ، وفارقوا أهليهم ولذَّاتهم ، ابتغاء مرضاتي ، وامتثال أمري. والله أعلم.
ومن باب ثواب الحجِّ والعمرة
(11/13)
العمرة في اللغة : هي الزيارة . قال :
يُهِلُّ بالفَدْفَدِ رُكْبانُها كَما يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرْ
وقال بعض اللغويين : الاعتمار والعُمرة : القصد . قال :
لقد سَما ابنُ مُعْتَمَرٍ حين اعْتَمَرْ
أي : حين قصد . وهي في عرف الشرع : زيارة البيت على أحكام مخصوصة . وقد اختلف في حكمها . فذهب جماعة من السَّلف إلى وجوبها . وهو قول الأوزاعي ، والثوري ، وابن حبيب ، وابن الجهم من أصحابنا ، وحكي عن أبي حنيفة . وذهب آخرون إلى أنها ليست بواجبة . وهو قول مالك ، ومشهور مذهب أبي حنيفة ، وأصحابه ، وداود . واختلفت الرواية فيها عن الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، إلا أن مالكًا قال : إنها سُنة مؤكدة . وبعض هؤلاء يجعلها مستحبة . ومُتمسَّك من قال بوجوبها قوله تعالى : { وأتمُّوا الحج والعمرة لله } ، وليس فيه حُجَّة ؛ لأنا نقول بموجبه : فإن من شرع في شيء من أعمال الطاعات وجب عليه إتمامه ؛ وإن كان مستحبًا . وقد تقدَّم هذا المعنى غير ما مرة .
وقوله : (( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما )) ؛ يعني : لما يقع بينهما من السَّيِّئات . وقد استوفينا هذا المعنى في كتاب الطهارة . وقد استدل بظاهر هذا من قال بجواز تكرار العمرة في السَّنة الواحدة ، وهم الجمهور ، وأكثر أصحاب مالك . وذهب مالك إلى كراهية ذلك . ومتمسكه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتمر خمس عُمر كل عمرة منها في سنة غير الأخرى ، مع تمكنه من التكرار في السنة الواحدة ، ولم يفعل .
وأيضًا : فإنها نُسُك مشتملٌ على إحرام ، وطواف ، وسعي ، فلا يفعل في السنة إلا مرة أصله الحج . وعلى قول مالك : لو أحرم بالعمرة المكررة لزمته . وقال آخرون : لا يعتمر في شهر أكثر من مرة واحدة. ولا حُجة له في شيء مما تقدَّم .
وقوله : (( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) ؛ المبرور : اسم الحج المبرور : اسم مفعول من : بُرَّ ، مبني لما لم يسئم فاعله ، فهو مبرور .
(11/14)
و (( بَرَّ )) : يتعدى بنفسه . يقال : برَّ الله حجَّك . ويُبنى لما لم يسم فاعله ، فيقال : بُرَّ حجُّك ، فهو مبرور . ولا معنى لقول من قال : إنه لا يتعدى إلا بحرف الجر . واختلف في معنى المبرور ، فقيل : الذي لا يخالطه شيء من المأثم . وقيل : المتقبَّل . وقيل : الذي لا رياء فيه ، ولا سُمْعَة .
قلت : وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى . وهو : أنه الحج الذي وفيت أحكامه ، ووقع موافقًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( ليس له جزاء إلا الجنة )) ؛ يعني : أنه لا يقتصر فيه على مغفرة بعض الذنوب ، بل لا بُدَّ لصاحبه من الجنة بسببه . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( من أتى هذا البيت )) ؛ أي : حاجًّا . بيَّنته الرواية الأخرى.
و (( الرفث )) : الفحش من القول . وقيل : الجماع . قال الأزهري : هي كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة .
و (( الفسوق )) : السِّباب والمعاصي .
و (( الجدال )) : المجادلة والمخاصمة فيما لا يجوز. قال الجوهري : المجادلة : الخصومة المحكمة .
وقوله : (( رجع كيوم ولدته أمُّه )) ؛ أي : بلا ذنب . وهذا يتضمن غفران الصغائر والكبائر ، والتبعات . وقد بيَّنَّا ذلك فيما تقدَّم من كتاب الصيام وغيره .
ومن باب تَمَلُّك دُور مكة ورِباعها
(11/15)
قولُ أسامة ـ رضى الله عنه ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أتنزل في دارك )) ؛ ظاهر هذه الإضافة : أنها كانت في ملكه ، ويدلُّ عليه أيضًا قوله : (( وهل ترك لنا عقيل من رِباع أو دور )). فأضافها لنفسه . وظاهرُها الملك ، فيكون عقيل اعتدى على دار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورباعه ، فأخذها ، وتصرَّف فيها ، كما فعل أبو سفيان بدور من هاجر من المؤمنين . قال الداودي : إن عقيلاً باع ما كان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولمن هاجر من بني عبد المطلب . فعلى هذا : يكون تَرْكُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لداره تحرُّجًا من أن يرجع في شيء أُخرج منه لأجل الله تعالى. وقيل : إنَّه حكم لها بحكم الدار . وقد خرجت عن ملكه لما غنمها المسلمون . كما يقوله مالك ، والليث في هذه المسألة لا في هذا الحديث. وهذا فيه بُعد ؛ لأنه يكون تعليله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأخذ عقيل لها ضائعًا ، ويخرج عن أن يكون جوابًا عما سُئله . وقيل : كان أصلها لأبي طالب فأسكنه إيَّاها ، فلما مات أبو طالب ورثه عقيل ، وطالب ، لكونهما مساويَيْن له في الكفر ، ولم يرثه علي ، ولا جعفر ؛ لكونهما مسلمين ، فأخذها عقيل لما هاجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحكم ميراثه من أبيه . وعلى هذا فيكون إضافتها إليه مجازية ؛ لأنه سكنها فقط . والقول الأول أولى .
وقد اختلف في مكة ودورها ، ورباعها ؛ هل هي مملوكة لأحدٍ فيبيع ويكري ، أو لا ملك لأحدٍ على شيء منها ؟ فلا يجوز فيها شيء من ذلك ؟ وإلى الأول ذهب الشافعي وبعض السَّلف ، وإلى الثاني ذهب أبو حنيفة والثوري . وتوسَّط مالك ، فكره ذلك . وللخلاف سببان :
أحدهما : هل فتح مكة كان عُنْوة ، فتكون مغنومة ، لكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقسمها ، وأقرها إلى أهلها ، ولمن جاء بعدهم ، كما فعل عمر بالأرض المغنومة ، فتبقى على ذلك لا تباع ولا تُكرى ؛ وبأنها فتحت عُنْوة ؟ قال مالك ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي . أو كان فتحها صُلْحًا ؟ وإليه ذهب الشافعي . فتبقى ديارهم بأيديهم ، وفي أملاكهم يتصرفون فيها كيف شاؤوا .
(11/16)
والسبب الثاني : النظر في قوله تعالى : { سواءٌ العاكف فيه والباد } ؛ هل الضمير راجع إلى المسجد الحرام أو إلى البلد ؟ والظاهر الأول ، وأن مكة فتحت عُنْوة ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمَّنهم ، وأقرَّهم على أموالهم . وهو الصحيح من الأحاديث ، والله تعالى أعلم . قال أبو عبيد : ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد .
قلت : وعلى قول مالك : إنها مغنومة ؛ ينبغي أن يكون مذهبه كمذهب أبي حنيفة ، لكنه راعى الخلاف على أصله في مراعاة الخلاف الظاهر ، وتكون فائدة حكمه بالكراهة : أن من باع شيئًا منها أو أَكْرَاة لا يفسخ عقده ، ويُمضى ، غير أنه لا يسوغ الإقدامُ عليه . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( هل ترك لنا عقيل من رباع أو دور )) ؛ هذا الاستفهام معناه النفي ؛ أي : ما ترك لنا شيئًا من ذلك . واختلف الرواة : هل كان هذا القول في فتح مكة ؟ أو في حجة الوداع ؟ فروى عن الزهري كل ذلك . ويحتمل أن يكون تكرر هذا السؤال والجواب في الحالتين . وفيه بُعد .
وقوله : (( للمهاجر إقامة ثلاثٍ بعد الصدر بمكة )) ؛ المهاجر هنا يعني به : كل من هاجر من مكة إلى المدينة لنصرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا يعني به من هاجر من غيرها ؛ لأن هذا الحديث خرج جوابًا عن سؤالهم حين تحرجوا من المقام بمكة ؛ إذ قد كانوا تركوها لله تعالى ، فأجابهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك . ورأى : أن إقامة الثلاث ليست بإقامة . وقد تقدَّم احتجاج مالك بهذا على تحديد المدة الفاصلة بين الإقامة والسَّفر. وبهذا الحديث قال الجمهور ، فحكموا بمنع المهاجر من أهل مكة من المقام بها بعد الفتح ، وأجاز ذلك جماعة لهم بعد الفتح .
(11/17)
قلت : وهذا الخلاف وإن كان فيمن مضى حكمهم ، وانقرض عصرهم ، وهجرتهم الخاصة بهم ، لكن ينبني عليه خلاف فيمن فرَّ بدينه عن موضع ما يخاف فتنته ، وترك فيه رباعًا ، ثم ارتفعت تلك الفتنة ؛ فهل يرجع لتلك الرِّباع ، أم لا ؟ فنقول : إن كان ترك رباعه لوجه الله تعالى كما فعله المهاجرون فلا يرجع لشيء من ذلك ، وإن كان إنما فرَّ بدينه ليسلمَ له ، ولم يخرج عن شيء من أملاكه ، فإنه يرجع إلى ذلك كله ؛ إذ لم يزُل شيء من ذلك عن ملكه . والله تعالى أعلم.
ومن باب تحريم مكة
قوله : (( لا هجرة بعد الفتح )) ، هذا رافع لما كان تقرَّر من وجوب الهجرة إلى المدينة على أهل مكة باتفاق وعلى غيرهم بخلاف ، ولم يتعرَّض هذا العموم لنفي هجرة الرجل بدينه ؛ إذ تلك الهجرة ثابتة إلى يوم القيامة ، وإنما رفع حكم الهجرة يوم الفتح لكثرة ناصري الإسلام ، ولظهور الدِّين ، وأمن الفتنة عليه .
وقوله : (( ولكن جهاد ونية )) ؛ دليل على بقاء فرض الجهاد وتأبيده خلافًا لمن أنكر فرضيته ، على ما يأتي .
وقوله : (( وإذا استنفرتم فانفروا )) ؛ أي : طَلَب منكم الإمام النَّفير. وهو : الخروج إلى الغزو ، فحينئذ يتعيَّن الغزو على من استُنفر بلا خلاف.
(11/18)
وقوله : (( إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة )) ؛ معنى حرَّمه الله ؛ أي : حرَّم على غير المحرم دخوله إلا أن يُحرم . ويجري هذا مجرى قوله : { حُرمت عليكم أمهاتكم } ؛ أي : وطؤهن . و{ حُرمت عليكم الميتة } ؛ أي : أكلها . فَعُرف الاستعمال دلَّ على تعيين المحذوف . وقد دلَّ على صحة هذا المعنى اعتذازه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن دخوله مكة غير محرم مقاتلاً بقوله : (( إنها لم تحل لي إلا ساعة من نهار ... )) ، الحديث . وبهذا أخذ مالك والشافعي - في أحد قوليهما - وكثير من أصحابهما فقالوا : لا يجوز لأحدٍ أن يدخل مكة إلا محرمًا ، إلا أن يكون ممن يكثر التكرار إليها ، كالحطابين ، ونحوهم . وقد أجاز دخولها لغير المحرم ابن شهاب والحسن ، والقاسم . وروي عن مالك ، والشافعي ، والليث ، وقال بذلك أبو حنيفة إلا لمن منزله وراء المواقيت ، فلا يدخلها إلا بإحرام ، واتفق الكل : على أن من أراد الحج أو العمرة ؛ أنه لا يدخلها إلا محرمًا .
ثم اختلف أهل القول الأول فيمن دخلها غير محرم . فقال مالك ، وأبو ثور ، والشافعي : أنه لا دم عليه . وقال الثوري ، وعطاء ، والحسن بن حيٍّ : يلزمه حج أو عمرة : . ونحوه قال أبو حنيفة فيمن منزله وراء المواقيت .
ومتمسَّك من قال بجواز دخولها لغير المحرم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث المواقيت المتقدِّم : (( هن لهم ولكلِّ آتٍ أتى عليهنَّ من غيرهنَّ ممن أراد الحج أو العمرة )). وتأولوا الحديث المتقدم بأن قالوا : إنما اعتذر ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن دخوله مكة مقاتلاً كما قال : (( فإن أحد ترخص لقتال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ... )) ، الحديث .
قال القاضي عياض : لم يختلف في دخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة : أنه كان حلالاً ؛ بدخوله والمغفر على رأسه ؛ ولأنه دخلها مُحاربًا ، حاملاً للسلاح هو وأصحابه . ولم يختلفوا في تخصيص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك . وكذلك لم يخلفوا في أن من دخلها لحرب أو لشيء : أنه لا يحل له أن يدخلها حلالاً .
(11/19)
وقوله : (( وإنه لم يحل القتال لأحدٍ قبلي )) ؛ الضمير في (( أنَّه )) هو ضمير الأمر والشأن . وظاهر هذا : أن حكم الله تعالى كان في مكة : ألا يقاتل أهلها ، ويُؤمن من استجار بها ، ولا يعرض له . وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } ، وهو قول قتادة وغيره . قالوا : هو آمن من الغارات . وهو ظاهر قوله تعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا ويتخطف الناس من حولهم } ، وهو منقول من عادة العرب في احترامهم مكة ، ومن كتب التواريخ .
وقوله : (( ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرامٌ )) ؛ ) الضمير في (( يحل )) هو ، وهو يعودُ على القتال قطعًا ، كما يدل عليه مساقه ، فيلزم منه تحريم القتال فيه مطلقًا ، سواء كان ساكنه مستحقًا للقتال أو لم يكن . وهو الذي يدل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار )).
وقوله : (( فإن أحد ترخص لقتال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها ؛ فقولوا : إن الله أذن بالقتال في مكة لرسوله ، ولم يأذن لكم )) ، وهذا نصٌّ على الخصوصية ، واعتذار منه عما أُبيح له من ذلك ، مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتل والقتال لصدِّهم عنه ، وإخراجهم أهله منه ، وكفرهم بالله تعالى وبرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا هو الذي فهمه أبو شريح من هذا الحديث . وقد قال بذلك غيز واحل! من أهل العلم ؛ منهم : غير أن هذا يعارضه ما جاء في حديث أبي شريح من قول عمرو بن سعيد على ما يأتي .
وقوله : (( لا يعضد شوكه )) ، وفي حديث أبي هريرة : (( لا يختبط شوكه )) : يُعضد : يقطع . والْمِعْضَد : الآلة التى يقطع بها . والْخَبَط : ضَرْب أوراق الشجر بالعصى لعلف المواشي . لقال : خبط واختبط . والمصدر منه : خبْطًا ، بسكون الباء ، والاسم بتحريكها .
(11/20)
و (( الخلى )) مقصورًا ، هو الرطب من الكلأ - مقصورًا ، مهموزًا- والحشيش : هو اليابس منه والكلأ : يقال على الخلى ، والحشيش . والشجر : ما كان على ساقٍ . وفي بعض طرقه : شجراؤها. وهو جنس الشجر ، وهي العضاه أيضًا في الحديث الآخر. والعِضاه من شجر البادية : كل شجر له شوك . ومنه ما يسمى بـ (( الكَنَهْبُل )) و((السَّيَال )) ، ولهذا الحديث خصَّ الفقهاء مطلق الشجر المنهي عن قطعه بما يُنبته الله تعالى من غير صُنْع آدمي اتفاقًا منهم ، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي ؛ فيجوز قطعه .
ثم اختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول . فقال مالك : لا جزاءَ فيه ؛ لعدم ما يدل على ذلك . وقال الشافعي وأبو حنيفة : فيه الجزاء . فعند أبو حنيفة : تؤخذ قيمة ما قطع ، فيشترى بها هدي . وعند الشافعي : في الدوحة - وهي الشجرة العظيمة - بقرة ، وفيما دونها شاة. وأما قطع العشب للرعي ، فمنع ذلك أبو حنيفة ومحمد بن الحسن ، وأجازه غيرهما .
وقوله : (( ولا يغفر صيده )) ؛ أي : لا يُهاج عن حاله ، ولا يُعْرَض له. قال عكرمة : هو أن ينحيه من الظل إلى الشمس . وقد تقدَّم القول فيه .
وقوله : (( ولا يلتقط لُقَطَته إلا منشدٌ )) ؛ اتفق رواة المحدثين على ضمِّ اللام ، وفتح القاف من اللقطة ، هنا أرادوا به الشيء الملتقط ، وليس كذلك عند أهل اللسان . قال الخليل : اللقطة - بفتح القاف - : اسم للذي يَلتقط ، وبسكونها لما يُلتقط . قال الأزهري : هذا قياس اللغة ؛ لأن (( فُعَلَةٌ )) في كلامهم جاء فاعلاً كالهُزَأة للذي يهزأ بالناس ، وجاء مفعولاً كالهزأة للذي(2) يهزأ الناس به ، إلا أن الرواة أجمعوا على أن اللقطة : الشيء الملتقط . و(( المنشد )) : هو المعرِّف . و(( الناشد )) : هو الطالب والباغي ، كما قال :
أنشدوا الباغي يُحِبُّ الوُجْدَان
وقال الآخر :
إصاخَة النَّاشِدِ للمُنْشِدِ
(11/21)
يقال : نشدت الضالة : طلبتها ، وأنشدتها : عَرَّفتها . وأصل الإنشاد : الصوت . ومنه : إنشاد الشعر . وقد أفاد ظاهر هذا الحديث وما في معناه : أن للقطة مكة مزية على لقطة غيرها ، لكن اختلف العلماء في أي شيء تلك المزية ؛ فقالت طائفة : هي أنه لا تحل للملتقط بوجه من الوجوه ، ولا يزال يعرفها دائمًا . وممن ذهب إلى هذا : أبو عبيد ، والشافعي ، وابن مهدي ، والداودي ، والباجي ، وابن العربي من أصحابنا ، ويعتضدون بنهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن لقطة الحاج. وقالت طائفة أخرى : إنأو لأن المزية هي أنئها لا يحل التقاطها إلا أن يسمع من ينشدها ، فيأخذها ويرفعها . وذهب مالك في المشهور عنه إلى أن المزية : إنما هي في زيادة التعريف والمبالغة فيها . وحكمها وحكم غيرها من البلاد سواء ، وسيأتي بيان أحكامها ، والقول الأول أظهر من الأحاديث المذكورة في هذا الباب. وقد فسَّر بعضهم المنشد بالطالب ، يعني به : ربَّها ؛ أي : لا تحل إلا له . ويرجع هذا إلى القول الأول . وقد تقدم أن المنشد هو المعرِّف على ما قال أبو عبيد وغيره .
(( الإذخر )) : هو نبت له رائحة طيبة معروف . وفى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى جواب العباس ، وقد سأله عن الإذخر : (( إلا الاذخر )) ؛ دليل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فُوِّضت إليه أحكام ، فكان يحكم فيها باجتهاده . واستيفاء المسألة في الأصول . وقد يورد على هذا أن يقال : إذا كانت مكة مما حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ؛ فكيف لأحدٍ أن يحكم بحلِّيَّة شيء منها وقد حرَّمه الله ؟ والجواب : أن الذي حرَّمه الله هو ما عدا المستثنى جملة ؛ لأنه لما جعل لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ التخصيص مع علمه بأنه يخصّص كذا ، فالمحكوم به لله تعالى هو ما عدا ذلك المخصَّص ، والله تعالى أعلم .
وأبو شريح : هو خويلد بن عمرو ، وكذلك سَمَّاه البخاري ، ومسلم . وقال محمد بن سعد : خويلد بن صخر بن عبد العزيز . وقال أبو بكر البرقاني : اسمه : كعب .
(11/22)
وقوله : (( وهو يبعث البعوث إلى مكة )) ؛ البعوث : جمع بعث ، وهي ما جرى ببن الجيوش ، أو السرايا . ويعني بها هنا : الجيوش التي وجهها يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن الزبير ، وذلك أنه لما توفي معاوية وجَّه يزيد إلى عبدالله يستدعي منه بيعته ، فخرج إلى مكة ممتنعًا من بيعته ، يحرض الناس على بني أمية ، فغضب يزيد ، وأرسل إلى مكة يأمر واليها يحيى بن حكيم بأخذ بيعة عبدالله ، فبايعه ، وأرسل إلى يزيد ببيعته ، فقال : لا أقبل حتى يُؤتى به في وثاقٍ . فأبى ابن الزبير ، وقال : أنا عائذٌ بالبيت . فأبى يزيد ، وكتب يزيد إلى عمرو بن سعيد أن يوجه إليه جندًا ، فبعث إليه هذه البعوث .
وقوله : (( إن الله حرَّم مكة ، ولم يحرمها الناس )) ؛ يعني : أنه حرَّمها ابتداءً من غير سبب يُعزى إلى أحدٍ ولا مقدمة ، ولا لأحد فيه مدخل ؛ لا نبي ولا عالم ، ولا مجتهد . وأكد ذلك المعنى بقوله : (( ولم يحرمها الناس )) ؛ لا يقال : فهذا يعارضه قوله في الحديث الآخر : (( اللهم إن إبراهيم حرَّم مكة ، وإني أحرِّم المدينة )) ؛ لأنا نقول : إنما نسب الحكم هنا لإبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه مبلغه ، وكذلك نسبته لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كما قد ينسب الحكم للقاضي لأنه مُنَفّذُه ، والحكم لله العلي الكبير بحكم الأصالة والحقيقة .
(11/23)
وقول عمرو بن سعيد : (( إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ، ولا فارًا بدم ، ولا فارًا(1) بِخَرْبة )) ؛ روايتنا : (( بِخَربه(2) )) بفتح الخاء ، وهي المشهورة الصحيحة ، وضبطه الأصيلي بالضم ، وكذلك قاله الخليل . وفُسِّرت بالسرقة ، وبالفساد في الأرض . والخارب : اللص المفسد ، وقيل : سارق الإبل خاصة . قال أبو الفرج بن الجوزي : انعقد الإجماع : على أن من جنى في الحرم يقاد منه فيه ، ولا يؤمن ؛ لأنه هَتك حرمة الحرم ، ورد الأمان . واختلف فيمن ارتكب جناية خارج الحرم ، ثم لجأ إليه ؛ فروي عن أبي حنيفة ، وأحمد : أنه لا يقام عليه الحد فيه ، ويُلْجأ إلى الخروج إلى الحِل ، ويُمنع المعاملة والمبايعة حتى يضطر إلى الخروج ، فيخرج إلى الحِل ؛ فيقام عليه الحد فيه .
وقول عمرو بن سعيد لأبي شريح : (( أنا أعلم بذلك منك )) ؛ ليس بصحيح للَّذي تمسك به أبو شريح ، ولما في حديث ابن عباس كما قدمناه ، وحاصل قول عمرو : أنه تأويل غير معضود بدليل .
وقوله : (( إن الله حبس عن مكة الفيل )) ؛ يعني به : فيل أبرهة الأشرم الحبشي ؛ الذي قصَد خراب الكعبة ، فلمَّا وصل إلى ذي المجاز ، - سوق للعرب قريب من مكة - عبَّأ فِيْلَه ، وجهَّزه إلى مكة ، فلمَّا استقبل الفيل مكة رزم ؛ أى : أقام وثبت ، فاحتالوا عليه بكل حيلة ، فلم يقدروا عليه ، فاستقبلوا به جهة مكة فامتنع ، فلم يزالوا به هكذا ؛ حتى رماهم الله بالحجارة التي أرسل الطير بها على ما هو مذكور في السِّير ، وفي كتب التفسير .
(11/24)
وقوله : (( ومن قُتِل له قتيل فهو بخير النَّظَرَين )) ؛ الحديث حجة للشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وروي عن ابن المسيب ، وابن سيرين على قولهم : إن ولي دم العمد بالخيار بين القصاص والدِّية ، ويُجْبَر القاتل عليها إذا اختارها الولى . وهي رواية أشهب عن مالك . وذهب مالك في رواية ابن القاسم وغيره إلى أن الذي للولي إنما هو القتل فقط ، أو العفو ، وليس له أن يجبر القاتل على الدِّية ، تمسُّكًا بقوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } ، و{ كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ، وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كتاب الله القصاص )). وفي المسألة أبحاث تنظر في مسائل الخلاف .
وقوله : (( اكتبوا لأبي شاة )) ؛ دليل على جواز كتابة العلم ، وهو مذهب الجمهور . وقد كرهه قومٌ من أهل العلم ؛ تمسُّكًا بحديث أبي سعيد الآتي في كتاب العلم ، وكان محمل النهي الذي في حديث أبي سعيد إنما هو لئلا يتكل الناطق على الكتب ، ويتركوا الحفظ ، أو لئلا يُخلط بالقرآن غيرُه ؟ لقوله في الحديث نفسه : (( من كتب عني شيئًاسوى القرآن فليمحه )).
وقوله : (( لا يحل لأحدٍ أن يحمل السلاح بمكة )) ؛ قال به الحسن البصري ، حمل السلاح وأجازه الجمهور ؛ إن دعت إليه حاجة وضرورة ؛ تمسُّكًا بدخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة في مكة بالسلاح . وهذا فيه بُعْد لما قدَّمناه مما يدل على خصوصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك . وقد أنكر عبدالله بن عمر على الحجاج أمره بحمل السلاح في الحرم. ويمكن أن يعلَّل : بأن ذلك في أيام الموسم ، لكثرة الخلق ، فيخاف أن يصيب أحدًا ، أو يروّعه ؛ كما قد نبَّه عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث بقوله : (( من مرَّ بشيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبلٍ فليأخذ على نصالها ، لا يعقر بكفه مسلمًا )). واله أعلم .
(11/25)
(( المغفر )) : ما يلبس على الرأس من درع الحديد . وأصله من الغفر ، وهو : الستر . وهو دليل على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل مكة عُنوة . وهو الصحيح من الأحاديث ، والمعلوم من السِّير . لكنه عندما دخلها أمَّن أهلها ، كما سيأتي . وإنما اغتر من قال : بأنها فتحت صلحًا ، لما سمع : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَعْرِض لأهلها بقتل ، ولا شيء ، فظن وقدَّر هنالك صلحًا في الخفاء مع أبي سفيان أو غيره . وهذا كله وقع ، والصحيح الأول .
و (( ابن خطل )) هو : هلال بن خطل. وقيل : عبدالعزى ابن خطل. هذا قول ابن إسحاق وجماعة . وقال الزبير بن بكار : ابن خطل الذي أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتله يوم الفتح هو : هلال بن عبدالله بن عبد مناف بن أسعد بن جابر بن كثير بن تيم بن غالب بن فهر . قال : وعبدالله هو الذي يُقال له : خطل ، ولأخيه عبد العزى بن عبد مناف أيضًا : خطل ، هما جميعًا الخطلان . قاله أبو عمر ، وكان قد أسلم ، وهاجر ، فاستكتبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم ارتدَّ ، فقتل رجلاً كان يخدمه ، وفرَّ إلى مكة ، وجعل يسبَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويهجوه . وفيه دليل على صحَّة مذهب الجمهور : في أن الحدود تُقام بالحرم ، كما تقدَّم .
وقول جابر : (( إنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء )) ؛ ليس مناقضًا لقوله : (( إنه دخل ذلك اليوم وعليه المغفر )) ؛ لإمكان أن تكون العمامة تحت المغفر ، وقاية من صدأ الحديد ، وتشعيثه ، أو يكون نزع المغفز عند انقياد أهل مكة ولبس العمامة . والله تعالى أعلم .
ومن باب تحريم المدينة
قوله : (( إن إبراهيم حرَّم مكة )) ؛ أي : بلَّغ حكم تحريمها. وعلى ذلك يحمل قول نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وإني أحرِّم ما بين لابتي المدينة )) ؛ وقد دلَّ على صحة هذا التأويل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله حرَّم مكة ولم يحرّمها الناس )).
وقوله : (( وإني دعوتُ في صاعها ومُدِّها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة )) ؛ تفسيره : ما جاء في حديث أنس ، وهو قوله : ((اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة )).
(11/26)
وقوله : (( في صاعها ومُدِّها )) ؛ أي : في ذي صاعها وذي مدَّها . يعني : فيما يُكال بالصَّاع والمدِّ . ووجهُ البركة تكثير ذلك ، وتضعيفه في الوجود ، أو في الشبع . وقد فعل الله تعالى كل ذلك بالمدينة ، فانجلب الناس إليها من كل أرض وبلد ، وصارت مستقر ملوكٍ ، وجلبت إليها الأرزاق ، وكثرت فيها مع قلة أكل أهلها ، وترك نهمهم ، وإنما هي وجبة واحدة يأكلون فيها العُلْقة من الطعام ، والكفِّ من التمر ، ويُكتفى به . ثم لا يلزم أن يكون ذلك فيها دائمًا ، ولا في كل شخص ، بل تتحقق إجابة دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا وجد ذلك في أزمان ، أو في غالب أشخاص . والله تعالى أعلم .
(11/27)
وقوله : (( إني أحرِّم ما بين لابتي المدينة أن يُقطع عضاهها ، أو يُقتل صيدها )) : اللابة : الأرض ذات الحجارة . وهي الحرَّة . وجمعها في القلة : لابانٌ ، وفي الكثرة : لابٌ ، ولوبٌ . كـ (( قارة )) و(( قور )) و((ساحة )) و(( سوح )) و(( باحة )) و(( بوح )) ، قاله ابن الأنباري ، اللابتان : الحرتان الشرقية والغربية ، وللمدينة حرتان ، في القبلة والجوف . وترجع إليهما الشرقية ، والغربية ، قال الهروي : يقال : ما بين لابتيها أجهل من فلان ؛ أي : ما بين طرفيها ؛ يعني : المدينة . وهذا الحديث نصٌّ في تحريم صيد المدينة ، وقطع شجرها . وهو حجة للجمهور على أبي حنيفة وأصحابه في إباحة ذلك ، وإنكارهم على من قال بتحريم المدينة بناء منهم على أصلهم في ردِّهم أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى . وقد تكلَّمنا معهم في هذا الأصل في باب أحداث الوضوء . ولو سلم لهم ذلك جدلاً ، فتحريم المدينة قد انتشر عند أهل المدينة والمحدِّثين ، وناقلي الأخبار ، حتى صار ذلك معلومًا عندهم ، بحيث لا يشكون فيه ، والذي قصَّر بأبي حنيفة وأصحابه في ذلك قلَّة اشتغالهم بالحديث ، ونقل الأخبار ، وإلا فما الفرق بين الأحاديث الشاهدة بتحريم مكة ، وبين الشاهدة بتحريم المدينة في الشهرة ، ولو بحثوا عنها ، وأمعنوا فيه ؛ حصل لهم منها مثل الحاصل لهم من أحاديث مكة .
(11/28)
والجمهور : على أن صيدها لا جزاء فيه ؛ لعدم النص على ذلك ، ولم يتحققوا جامعًا بين الصَّيدين ، فلم يُلحقوه به . وقد قال بوجوب الجزاء فيه ابن أبي ذئب ، وابن أبي ليلى ، وابن نافع من أصحابنا . واختلف قول الشافعي في ذلك . فأما الشجر : فيحرم قطعه منها أيضًا . وهو محمول على مثل ما حمل عليه شجر مكة . وهو ما لم يُعالج إنباتَه الآدمى . ويدل على صحة ذلك : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطع نخل المسجد . وقد ذكر ابن نافع عن مالك أنه قال : إنما نهي عن قطع شجر المدينة لئلا تتوحش ، وليبقى فيها شجرها ؛ ليستأنس ويستظل به مَن هاجر إليها .
قلت : وعلى هذا : فلا يُقطع منها نخل ولا غيره . وحينئذ تزول خصوصية ذكر العضاه ، وهو شجر البادية ، الذي ينبت لا بصنع آدمي. والأول أولى . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )) ؛ يعني : للمرتحلين عنها إلى غيرها . ويفسِّر هذا حديث سفيان بن زهير الآتي بعد هذا إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل فيها من هو خير منه )) إلى آخر الحديث . (( رغبة عنها )) ؛ أي كراهية لها . يقال : رغبت في الشيء : أحببته . ورغبت عنه : كرهته . وفي معنى هذا الحديث قولان : أحدهما : أن ذلك مخصوص بمدة حياته . والثاني : أنه دائم أبدًا . ويشهد له قوله في حديث آخر : (( يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه : هلم إلى الرخاء ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )). وذكر ما تقدَّم.
وقوله : (( لا يثبت أحدٌ على لأوائها وشدَّتها )) اللأواء - ممدود- : هو الجوع ، وشدَّة الكسب فيها والمشقات . ويحتمل أن يعود الضمير في (( شدَّتها )) على اللأواء ؛ فإنها مؤنثة ، وعلى المدينة ، والأول أقرب .
(11/29)
وقوله : (( إلا كنت له شفيعًا ، أو شهيدًا )) ؛ زعم قوم : أن (( أو )) هنا شكٌّ من بعض الرواة ، وليس بصحيح ، فإنه قد رواه جماعة من الصحابة. ومِن الرواة كذلك على لفظ واحد ، ولو كان شكًّا لاستحال أن يتفق الكل عليه . وإنما (( أو )) هنا للتقسيم ، والتنويع ، كما قال الشاعر :
فقالوا لنا ثِنْتانِ لابُدَّ مِنْهُما صدور رِماح أُشْرِعت أو سَلاسِلُ
ويكون المعنى : إن الصابر على شدة المدينة صنفان ، من يشفع له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العصاة ، ومن يشهد له بما نال فيها من الشدَّة ليوفَّى أجره. وشفاعته وإن كانت عامة للعصاة من أمته ، إلا أن العصاة من أهل المدينة لهم زيادة خصوص منها . وذلك - والله تعالى أعلم- بأن يشفع لهم قبل أن يعذبوا بخلاف غيرهم . أو يشفع في ترفيع درجاتهم ، أو في السَّبق إلى الجنة ، أو فيما شاء الله من ذلك .
وقوله : (( ولا يريد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار )) ؛ ظاهر هلاك من أراد هذا : أن الله يعاقبه بذلك في النار . ويحتمل أن يكون ذلك كناية عن إهلاك في الدُّنيا ، أو عن توهين أمره ، وطمس كلمته ، كما قد فعل ذلك بمن غزاها ، وقاتل أهلها فيما تقدَّم ؟ كمسلم بن عقبة ؛ إذ أهلكه الله منصرفه عنها ، وهلاك يزيد بن معاوية إثر إغزائه أهل المدينة ، إلى غير ذلك .
و (( العقيق )) : موضع بينه وبين المدينة عشرة أميال ، وبه مات سعد ، وحُمل إلى المدينة ، فصلي عليه ، ودفن بها .
(11/30)
و (( السَّلب ))- بفتح اللام - : الشيء المسلوب ؛ أي : المأخوذ ، وبإسكانها : المصدر . و(( نفلنيه )) : أعطانيه نافلة. وأصل النافلة : الزيادة . وإنما فعل سعد هذا ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بذلك في حق مَن صاد في حرم المدينة . كما رواه أبو داودمن حديث سعد أيضًا. وذكر نحو حديث مسلم في الشجر ، ثم قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أخذ أحدًا يصيد في حرم المدينة فليسلبه )). وكأن سعدًا قاس قطع شجرها على صيدها ؛ بجامع كونهما محرمين بحرمة الموضع . وهذا كله مبالغة في الرَّدع ، والرجر ، لا أنها حدود ثابتة في كل أحدٍ ، وفي كل وقت . وامتناعه من رد السَّلب لأنه رأى : أن ذلك أدخل في باب الإنكار والتشديد ، ولتنتشر القضية في الناس ، فينكفوا عن الصيد ، وقطع الشجر .
وقوله : (( إنها حرم ، آمن )) ؛ يروى : آمن بمدة بعد الهمزة ، وكسر الميم على النعت لـ (( حرم )) ؛ أي : من أن تغزوه قريش ؛ كما قال يوم الأحزاب : (( لن تغزوكم قريش بعد اليوم )) ، أو من الدخال ، أو الطاعون ، أو آمن صيدُها وشجرها . ويروى بغير مدٍّ ، وإسكان الميم. وهو مصدر ؛ أي : ذات أمن . كما يقال : امرأة عَدْلٌ .
وقوله لأُحُدٍ : (( هذا جبل يحبنا ونحبه )) ؛ ذهب بعض الناس : إلى أن هذا الحديث محمول على حقيقته ، وأن الجبل خُلِق فيه حياة ، ومحبَّة حقيقية وقال : هو من معجزات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وهذا لا يصدر عن مُحقق ؛ إذ ليس في اللفظ ما يدل على ما ذكر. والأصل بقاء الأمور على مستمر عاداتها حتى يدل قاطع على انحراقها لنبي أو ولي ، على ما تقرر في علم الكلام .
والذي يصح أن يُحمل عليه الحديث أن يقال : إن ذلك من باب المجاز المستعمل . فإما من باب الحذف ؛ فكأنه قال : يحبنا أهله ، كما قال : { وسئل القرية } ، وهذا المعنى موجود في كلام العرب وفي أشعارهم كثيرًا ، كقوله :
أَمُرُّ على الدِّيارِ دِيارِ ليلى أُقَبِّلُ ذا الجِدارَ وذا الجِدارا
(11/31)
وما تلك الدِّيارُ شَغَفْنَ قَلبِي ولكن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِّيارا
وإمَّا مِن باب الاستعارة ؛ أي : لو كان ممن يعقل لأحبنا . أو على جهة مطابقة اللفظ اللفظ. أو لأنه استُشهد به من أحبَّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كحمزة وغيره من الشهداء الذين استشهدوا به يوم أحد ـ رضى الله عنهم ـ .
وقوله : (( اللهم إني أُحرِّم ما بين جَبَلَيها-وفي لفظ آخر-مَأْزِمَيها )) بكسر الزاي وفتح الميم الثانية ، بمعنى : جبليها على ما قاله ابن شعبان . وقال ابن دريد : المأزم : المتضايق ، ومنه : مأزما منى ، وهذا يقرب من تفسير ابن شعبان ، لأن المتضايق منقطع الجبال بعضها من بعضًا ، وهما المعبّر عنهما بـ ((( اللابتان )).
ومقدار حرم المدينة ما قاله أبو هريرة : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى .
وقوله : (( المدينة حرام ، ما بين عير إلى ثور )) ؛ كذا رواية الرواة (( من عير إلى ثور )) ، وللعذري : (( عائر )) بدل (( عير )). وقد أنكر الزبيري مصعب وغيره هاتين الكلمتين ، وقالوا : ليس بالمدينة عير ولا ثور . وقالوا : وإنما ثور بمكة . وقال الزبيري : عير : جبل بمكة . وأكثر رواة البخاري ذكروا (( عيرًا )) ، وأما ثور فمنهم من كنَّى عنه بـ (( كذا )) ، ومنهم من ترك مكانه بياضًا ؛ إذ اعتقدوا الخطأ في ذكره . قاله عياض. وقال بعضهم : ثور وهمٌ من بعض الرواة . قال أبو عبيد : كأن الحديث أصله : من عير إلى أُحد . والله أعلم .
وقوله : (( فمن أحدث فيها حدثًا )) ؛ يعني : من أحدث ما يخالف الشرع من عقوبة من بدعة ، أو معصية ، أو ظلم ، كما قال : (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ )).
وقوله : (( أو آوى محدثًا )) ؛ أي : ضمَّه إليه ، ومنعه مِمَّن له عليه حقٌّ ، ونصره . ويقال : أوى - بالقصر والمد - متعديًا ولازمًا ، والقصر في اللازم أكثر ، والمد في المتعدي أكثر .
(11/32)
وقوله : (( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )) ؛ لعنة الله : طرده للملعون ، وإبعاده عن رحمته . ولعنة الملائكة والناس : الإبعاد ، والدعاء بالإبعاد . وهؤلاء هم اللاعنون ، كما قال الله تعالى : { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون }. والصرف : التوبة . والعدل : الفدية . قاله الأصمعي . وقيل : الصرف : الفريضة . والعدل : التطوع . وعَكَس ذلك الحسن . وقيل : الصرف : الحيلة والكسب . والعدل : المثل . كما قال الله تعالى : { أو عجل ذلك صيامًا }. ويقال في العدل بمعنى المثل : عَدْلٌ وعِدْلٌ ، كمسلم وسِلم .
وقوله : (( وذمة المسلمين واحدة )) ؛ أي : من عَقَد من المسلمين أمانًا ، أو عهدًا لأحدٍ من العدو لم يحل لأحدٍ أن ينقضه .
و (( الذمة )) : العهد . وهو لفظٌ مشترك بين أمورٍ مُتعددة .
وقوله : (( يسعى بذمتهم أدناهم )) ؛ أي : أقلُّهم منزلةً في الدُّنيا ، وأضعفهم . وهو حجة لمن أجاز أمان العبد والمرأة ، على ما سيأتي في الجهاد إن شاء الله تعالى .
وقول : (( فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله )) ؛ أي : نَقَضَ عهده . يقال : أخفرت الرجل إخفارًا : إذا غدرته. وخفرته : إذا أجرته ، خفارة.
ومجيءُ الناس لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأول الثَّمر : مبادرة بهدية ما يستطرف ، واغتنامٌ لدعائه ، وبركته . ولذلك كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أخذ أول ذلك الثمر وضعه على وجهه ، كما رواه بعض الرواة عن مالك في هذا الحديث من الزيادة .
وتخصيص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك الثمر أصغر وليدٍ يراه ؛ لأنه أقل صبرًا ممن هو أكبر منه ، وأكثر جزعًا ، وأشدذُ فرحًا . وهذا من حسن سياسته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعاملته للكبار والصِّغار . وقيل : إن ذلك من باب التفاؤل بنمو الصغير وزيادته ، كنمو الثمرة وزيادتها . والله اعلم .
ومن باب الترغيب في سكنى المدينة
قوله : (( إن أهلنا لخلوف )) بضم الخاء المعجمة من فوقها ؛ أي : لا حافظ لهم ، ولا حامي. يقال : حيٌّ خلوف ؛ أي : غاب عنهم رجالهم.(11/33)
وقوله : (( لآمرنَّ بناقتي ترحَّل )) مشدَّدة الحاء ؛ أي : يجعل عليها الرَّحل .
وقوله : (( ثم لا أحل لها - أو عنها - عقدة )) ؛ أي : أَصِلُ المشي والإسراع ؛ وذلك لمحبته الكون في المدينة ، وشدَّة شوقه إليها . وقد تقدَّم الكلام في ا لمأزِمَين .
وقوله : (( لا يُحمل فيها سلاح ، ولا يُخبط فيها شجرة )) ؛ ) هذا كله يقضي بالتسوية بين حرم المدينة وحرم مكة . وهو ردٌّ على أبي حنيفة ، على ما تقدَّم .
وقوله : (( إلا لعلف )) ؛ لم يذكر هذا الاستثناء في شجر مكة ، وهو جار فيها . ولا قرن بينهما . وكذلك ذكر في مكة : (( إلا الإذخر )). ولم يذكره في المدينة وهو أيضًا جارٍ فيها ؛ إذ لا فرق بين الحرمين . والحاصل من الاستثنائين : أن ما دعت الحاجة إليه من العلف ، والانتفاع بالحشيش جاز تناوله على وجه الهش والرفق من غير عنف ، ولا كسر غصن . وهو حجة على من منع شيئًا من ذلك .
وقوله : (( ما من المدينة شِعبٌ ولا نقبٌ إلا عليه ملكان يحرسانها )) ؛
(( الشِعْب ))- بكسر الشين - : وهو الطريق في الجبل . قاله يعقوب وغيره . و(( التقب ))- بفتح النون وضمها - : وهو الطريق على رأس الجبل. وقيل : هو الطريق ما بين الجبلين . وقال الأخفش : أنقاب المدينة : طرقها ، وفجاجها . و(( ما يهيجهم )) ؛ أي : ما يحركهم . يقال : هاج الشيء ، وهجته ، وهاجت الحرب ، وهاجها الناس ؛ أي : حركوها ، وأثاروها . و(( بنو عبدالله بن غطفان )) كانوا يُسمَّون في الجاهلية : بني عبدالعزّى . فسمَّاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بني عبدالله . فسمتهم العرب : بني محولة. لتحويل اسمهم . وفي هذا ما يدل على أن حراسة الملائكة للمدينة إنما كان إذ ذاك في مدة غيبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه عنها ، نيابة عنهم .
(11/34)
وقوله : (( ليالي الحرة )) ؛ يعني به : حرة المدينة ، كان بها مقتلة عظيمة في أهل المدينة ، كان سببها : أن ابن الزبير وأكثر أهل الحجاز كرهوا بيعة يزيد بن معاوية ، فلما مات معاوية وجَّه يزيدُ مسلمَ بنَ عقبة المدني في جيشٍ عظيم من أهل الشام ، فنزل بالمدينة ، فقاتل أهلها ، فهزمهم ، وقتلهم بحرَّة المدينة قتلاً ذريعًا ، واستباح المدينة ثلاثة أيام ، فسميت وقعة الحرَّة بذلك ، ثم إنهه توجه بذلك الجيش يريد مكة ، فمات مسلم بقديد ، وولي الجيش الحصين بن نمير ، وسار إلى مكة ، وحاصر ابن الزبير ، وأحرقت الكعبة ، حتى انهدم جدارها ، وسقط سقفها ، فبينما هم كذلك ، بلغهم موت يزيد فتفرقوا ، وبقي ابن الزبير بمكة إلى زمان الحجاج ، وقتله لابن الزبير ، رضي الله عن ابن الزبير وأبيه.
و (( الخلاء ))- بفتح الجيم والمد - : الانتقال من موضع إلى آخر . والجلاء - بكسر الجيم والمد - : هو جلاء السيف والعروس . والخلا - بفتح الجيم والقصر- : هو جلى الجبهة . وهو انحسار الشعر عنها . يقال : منه رجل أجلى وأجلح .
وقوله : (( إذا كان مسلمً )) ؛ يُقَيّد ما تقدَّم من مطلقات هذه الألفاظ . ويُنَبَّه على القاعدة المقرَّرة : من أن الكافر لا تناله شفاعة شافع ؛ كما قال الله تعالى مخبرًا عنهم : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم }.
وقوله في المدينة : (( وهي وبيئة )) بالهمز من الوباء ، وهو هنا : شدَّة المرض ، والحمَّى . وكانوا لَمَّا قدموا المدينة لم توافقهم في صحتهم ، فأصابتهم أمراض عظيمة ، ولقوا من حُمَّاها شدَّة ، حتى دعا لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللمدينة ، فكشف الله ذلك ببركة دعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كما ذكر في هذا الحديث ، وفي غيره .
(11/35)
وقوله : (( وحًوَّل حُمَّاها إلى الجحفة )) ؛ قد ذكرنا الجحفة في باب المواقيت . وإنما دعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا رحمة لأهل المدينة ، ولأصحابه ، ونقمة من أهل الجحفة ؛ فإنهم كانوا إذ ذاك كفارًا . قال الخطابي : كانوا يهودًا. وقيل : إنه لم يبق أحد من أهل الجحفة في ذلك الوقت إلا أخذته الحمَّى . ففيه : الدعاء للمسلم ، وعلى الكافر . وهذا ما في معناه من أدعية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تفوق الحصر حجَّة على بعض المعتزلة القائلين : لا فائدة في الدَّعاء مع سابق القدر . وعلى غلاة الصوفية القائلين : إن الدعاء قادح في التوكل . وهذه كلها جهالات لا ينتحلها إلا جاهل غبيٌّ ؛ لظهور فسادها ، وقُبح ما يلزم عليها . ولبسط هذا موضع آخر .
و (( يُحنِّسُ )) بضم الياء ، وكسر النون وتشديدها ، رويناه ، وهو المشهور . وقد ضبط عن أبي بحير : (( يحنَّس )) بفتح النون .
وقول ابن عمر لمولاته : (( اقعدي لكاع )) ؛ معناه : لئيمة . من اللكع ، وهو اللآمة . وقيل : أخذ من الملاكيع . وهو الذي يخرج مع السَّلا من البطن . ولا يستعمل إلا في النداء . يقال للذكر : يا لكع . وللأنثى : يا لكاع . وقيل : يا لكعاء. وربما جاء في الشعر للضرورة في غير النداء . كما قال :
إلى بيت قَعِيدتُه لَكَاعِ
وقد يقال للصغير ، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للحسن حين طلبه : (( أثمَّ لكع )) ؛ أي : الصغير . وهذا من ابن عمر تبسط مع مولاته ، وإنكار عليها إرادة الخروج من المدينة .
ومن باب المدينة لا يدخلها الطاعون ولا الدَّجال
(11/36)
قوله : (( على أنقاب المدينة ملائكة ، لا يدخلها الطاعون ، ولا الدَّجال )) ؛ قد تقدَّم القول في الأنقاب . و(( الطاعون )) : الموت العام الفاشي . ويعني بذلك : أنه لا يكون في المدينة من الطاعون مثل الذي يكون في غيرها من البلاد ، كالذي وقع من طاعون عمواس ، والجارف ، وغيرهما . وقد أظهر الله صدق رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فإنه لم يُسمع من النَّقلة ، ولا من غيرهم مَن يقول : أنه وقع بالمدينة طاعون عام ، وذلك ببركة دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال : (( اللهم صححها لنا )). وقد تقدَّم الكلام على اسم الدَّجال ، واشتقاقه . وهو وإن لم يدخل المدينة إلا أنه يأتي سبختها من دُبُرِ أُحُد ، فيضرب هناك رواقه ، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات ، فيخرج إليه منها كل كافر ومنافق ، كما يأتي في حديث أنس في كتاب : الفتن ، ثم يهم بدخول المدينة ، فتصرف الملائكة وجه إلى الشام ، وهناك يهلك بقتل عيسى ابن مريم إيَّاه ، بباب لُدٍّ ، على ما يأتي. وسيأتي أيضًا : أن مكة لا يدخلها الدَّجال .
(11/37)
وقوله : (( يأتي على النَّاس زمان يدعو الرجل ابن عمه ، وقريبه : هَلُمَّ إلى الرخاء )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إخبار عن أمر غيب وقع على نحو ما ذكر ، فكان ذلك من أدلة نبوَّته . وعنى بذلك : أن الأمصار تفتح على المسلمين ، فتكثر الخيرات ، وتترادف عليهم الفتوحات ، كما قد اتفق عند فتح الشام ، والعراق ، والدِّيار المصرية ، وغير ذلك . فركن كثير ممن خرج من الحجاز وبلاد العرب إلى ما وجدوا من الخصب ، والدَّعة بتلك البلاد المفتوحة ، فاتخذوها دارًا ، ودعوا إليهم من كان بالمدينة لشدَّة العيش بها ، وضيق الحال ، فلذلك قال : (( والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )) ؛ وهي خير من حيث تعذر الترفه فيها ، وعدم الإقبال على الدنيا بها ، وملازمة ذلك المحل الشريف ، ومجاورة النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ففي حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ : صحبته ، ورؤية وجهه الكريم . وبعد وفاته : مجاورة جدثه الشريف ، ومشاهدة آثاره المعظَّمة . فطوبى لمن ظفر بشيء من ذلك . وأحسن الله عزاءَ من لم ينل شيئًا مِمَّا هنالك .
وقوله : (( لا يخرج أحد رغبة عنها ، إلا أخلف الله فيها خيرًا منه )) ؛ يعني : أن الذي يخرج من المدينة راغبًا عنها ؛ أي : زاهدًا فيها ؛ إنما هو إما جاهل بفضلها ، وفضل المقام فيها ، وإما كافر بذلك . وكل واحد من هذين إذا خرج منها ؛ فمن بقي من المسلمين خير منه ، وأفضل على كل حال ، وقد قضى الله تعالى : بأن مكة ، والمدينة لا يخلوان من أهل العلم ، والفضل ، والدِّين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فهم الخلف ممن خرج رغبة عنها .
(11/38)
وقوله : (( إن المدينة كالكير تُخْرِج الخبث )) ؛ هذا تشبية واقع ؛ لأن الكيرَ لشدَّة نفخه ينفي عن النار السخام ، والدخان ، والرَّماد ، حتى لا يبقى إلا خالصُ الجمر والنار . هذا إن أراد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار ، وإما أراد به الموضع المشتمل على النار ، وهو المعروف عند أهل اللغة ، فيكون معناه : أن ذلك الموضع لشدَّة حرارته ينزعُ خبث الحديد ، والذهب ، والفضة ، ويخرج خلاصة ذلك . والمدينة كذلك بما فيها من شدة العيش ، وضيق الحال تخلص النفس من شهواتها ، وشرهها ، وقيلها إلى اللذات ، والمستحسنات ، فتتزكى النفس عن أدرانها ، وتبقى خلاصتُها ، فيظهر سرُّ جوهرها ، وتعم بركاتها ، ولذلك قال في الرواية الأخرى : (( تنفي خبثها ، وينصع طيبها )) .
وقوله : (( أمرت بقريه تأكل القُرى )) ؛ أي : بالهجرة إليها إن كان قاله بمكة ، أو بسُكناها إن كان قاله بالمدينة . وأكلُها للقرى : هو أن منها افتتحت جميعُ القُرى ، وإليها جُبِي فَيءُ البلاد ، وخَراجُها في تلك الْمُدَد . وهو أيضًا : من علامات نبوَّته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( يقولون : يثرب ، وهي المدينة )) ؛ أي : تسميها الناس : يثرب ، والذي ينبغي أن تُسمَّى به : المدينة . فكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كره ذلك الاسم على عادته في كراهة الأسماء غير المستحسنة ، وتبديلها بالمستحب منها . وذلك : أن يثرب لفط مأخود من الثرب ، وهو الفساد ، والتثريب : وهو المؤاخذة بالذنب . وكل ذلك من قبيل ما يكره . وقد فهم العلماء من هذا : منع أن يقال : يثرب . حتى قال عيسى بن دينار : مَن سمَّاها يثرب كُتِبت عليه خطيئة . فأما قوله تعالى : { ياأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا} ، فهو حكاية عن قول المنافقين . وقيل : سُميت : يثرب بأرض هناك ، المدينة ناحية منها . وقد سماها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : طيبة ، وطابة ، من الطيب ، وذلك : أنها طيبة التربة والرائحة . وهي تربة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتُطيِّبُ من سكنها ، ويستطيبها المؤمنون .
(11/39)
وقوله : (( تنفي خبثها ، وينصعُ طِيبُها )) : ينصع : يصفو ، ويخلص . يقال : طيب ناصع : إذا خلصت رائحته ، وصفَت مما ينقصها . وروينا : طيِّبها- هنا- بفتح الطاء ، وتشديد الياء ، وكسرها . وقد رويناه في "الموطأ" هكذا ، وبكسر الطاء ، وتسكين الياء ، وهو أليق بقوله : وينصع ؛ لأنه يقال : نصع الطيب ؛ إذا قويت رائحته .
ومن باب إثم من أراد أهل المدينة بسوء
قد تقدم القول على قوله : (( من أراد أهل المدينة بسوء )) في الباب الذي قبل هذا. وفي بعض ألفاظه : ((من أراد أهل المدينة بدَهمٍ أو بسوء )) على الشكِّ . بدهم - بفتح الدال - : الداهية والجيش العظيم ، أو الفساد العظيم . والذهم ، والذهماء من أسماء الداهية .
وقوله : (( تفتح اليمن ، فيأتي قوم يَبِشُّون فيتحملون )) : رويناه بفتح الياء ، وبضم الباء وكسرها ثلاثيًّا . ورويناه أيضًا : بضم الياء ، وكسر الباء رباعيًّا . قال الحربي : بسست الغنم والنوق ؛ إذا دعوتها. فمعناه : يدعون الناس إلى بلاد الخصب . وقال ابن وهب : يزينون لهم البلاد ، ويحببونها ، مأخوذ من إبساس الحلوبة كي يدر لبنها . وقال أبو عبيد : معناه : يسوقون ، والبسُّ : سوق الإبل .
قلت : والأول أليق بمساق الحديث ومعناه . وهذا الحديث من دلائل نبوته وصدقه ، فإنه أخبر بوقوع أمور قبل وقوعها ، ثم وقعت بعد ذلك على نحو خبره ، فكان ذلك دليلاً على صدقه .
(11/40)
وقوله : (( تتركون المدينة على خير ما كانت )) : تتركون : بتاء المخاطبة . ما صارت إليه ومراده : غير المخاطبين ، لكن نوعهم من أهل المدينة ، أو نسلهم . و(( على خير المدينة ما كانت )) ؛ أي : على أحسن حال كانت عليه فيما قبل . وقد وجد هذا الذي قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وذلك : أنها صارت بعده ـ صلى الله عليه وسلم ـ معدن الخلافة وموضعها ، ومقصد الناس ، وملجأهم ، ومعقلهم ، حتى تنافس الناس فيها ، وتوسعوا في خططها ، وغرسوا وسكنوا منها ما لم يسكن قبل ، وبنوا فيها ، وشيَّدوا حتى بلغت المساكن إهاب ، كما سيأتي في حديث أبي هريرة الآتي إن شاء الله تعالى ، وجُلبت إليها خيرات الأرض كلها ، فلما انتهت حالها كمالاً وحسنًا ، انتقلت الخلافة عنها إلى الشام ، فغلبت عليها الأعراب ، وتعاورتها الفتن ، فخاف أهلها ، فارتحلوا عنها . وذكر الأخباريون : أنها خَلَت من أهلها ، وبقيت ثمارها للعوافي الطير ، والشباع ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم تراجع الناس إليها ، وفي حال خلائها غَذَت الكلاب على سواري المسجد . وعوافي الطير : هي الطالبة لما تأكل . يقال : عفوته ، أعفوه ؛ إذا طلبت معروفه . وغَذَّى الكلب يُغَذِّي : إذا بال دفعة بعد دفعة .
وقوله : (( ثم يخرج راعيان من مزينة ينعقان بغنمهما )) ؛ أي : يصيحان بها ، ليسوقاها . والنعاق : صوت السائق للغنم . ومنه قوله تعالى : { كمثل الذي ينعق بما لا يسمع }.
(11/41)
وقوله : (( فيجدانها وحشًا )) ؛ أي : خلاء . يقال : أرض وحش . أي خالية . ومشى وحشًا ؛ أي : وحده . قاله الحربي . ويحتمل أن يكون معناه : كثيرة الوحوش ؛ كما قال في البخاري : (( فيجدانها وحوشًا )) ؛ أي : يجدان المدينة كثيرة الوحوش لما خلت من سكانها ، كما قال : للعوافي . والوحش : كل ما توحش من الحيوان ، وجمعه : وحوش. والضمير في (( يجدانها )) على هذا : راجع للمدينة. وقيل : إنه عائدٌ على الغنم ؛ أي : صارت هي وحوشًا ، إما بأن تنقلب كذلك - والقدرة صالحة - وإمئا بأن تتوحش ، فتنفر من أصوات الرُّعاة .
و (( خرَّا على وجوههما )) ؛ أي : سقطا ميتين . وهذا الذي ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حديث الرَّاعيين إنما يكون في آخر الأمر ، عند انقراض الدنيا ، بدليل ما قال البخاري في هذا الحديث : (( آخر من يحشر راعيان من مزينة )) ، قيل : معناه : آخر من يموت بها فيُحشر ؛ لأن الحشر بعد الموت . ويحتمل : أن يتأخر حشرهما لتأخير موتهما .
قلت : ويحتمل أن يكون معناه : آخر من يحشر إلى المدينة ؛ أي : يساق إليها. كما في لفظ كتاب مسلم .
ومن باب فضل المنبر والقبر والمسجد
قوله : (( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )) : الصحيح من الرواية : (( بيتي )) ، وروي في غير "الأم" : (( قبري )) مكان (( بيتي )). وجعل بعض الناس هذا تفسيرًا لقوله : (( بيتي )). والظاهر بيت سكناه . أوالتأويل الآخر جائز ؛ لأنه دفن في بيت سكناه.
قال القاضي عياض : أجمع المسلمون على أن موضع قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل بقاع الأرض كلها . وقد حمل كثير من العلماء هذا الحديث على ظاهره ، فقال : الأرض تنقل ذلك الموضع بعينه إلى الجنة . وقال بعضهم : يحتمل أن يريد به : أن العمل الصالح في ذلك الموضع يؤدي بصاحبه إلى الجنة .
(11/42)
وقوله : (( ومنبري على حوضي )) ؛ حمله أكثرُهم على ظاهره ، فقال : يكون منبره ـ صلى الله عليه وسلم ـ على منبره ذلك بعينه على حوضه . وقيل : إن له على حوضه منبرًا آخر غير ذلك ، أعظم ، وأشرف منه . وقيل معناه : إن ملازمة منبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسماع الذكر ، والوعظ ، والتعليم ، يُفضي بصاحبه إلى الورود على الحوض . وللباطنية في هذا الحديث من الغلوّ والتحريف ما لا ينبغي أن يلتفت إليه . والأولى : التمسُّك بالظاهر . فقد جاء في "الصحيح" : أن هنالك - أعني في أرض المحشر - أقوامًا على منابر ، تشريفًا لهم ، وتعظيمًا . كما قال : (( إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة )) ، وإذا كان ذلك في أئمة العدل فأحرى الأنبياء . وإذا كان ذلك للأنبياء ، فأحرى وأولى بذلك نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فيكون منبره بعينه ، ويزاد فيه ، ويعظم ، ويرفع ، وينوَّر على قدر منزلته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حتى لا يكون لأحدٍ في ذلك اليوم منبر أرفع منه ؛ إذ ليس في القيامة أفضل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن باب فضل مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسجد الحرام
وقوله : (( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام )) ؛ اختلف في استثناء المسجد الحرام ، هل ذلك لأن المسجد الحرام أفضل من مسجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو هو لأن المسجد الحرام أفضل من سائر المساجد غير مسجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإنه أفضل المساجد كلها ؛ وانجرَّ مع هذا الخلاف الخلاف في : أي البلدين إفضل ، مكة ، أو المدينة ؟ فذهب عمر وبعض الصحابة ، ومالك ، وأكثر المدنيين : إلى تفضيل المدينة . وحملوا الاستثناء على تفضيل الصلاة في مسجد المدينة بألف صلاة على سائر المساجد إلا المسجد الحرام ، فبأقلّ من الألف . واحتجُّوا بما قال عمر ـ رضى الله عنه ـ : (( صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه )). ولا يقول عمر هذا من تلقاء نفسه ، ولا من اجتهاده ؛ إذ لا يُتوصَّل إلى ذلك بالاجتهاد ، فعلى هذا تكون فضيلة مسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المسجد الحرام بتسعمائة وعلى غيره بألف .
(11/43)
وذهب الكوفيون ، والمكيُّون ، وابن وهب ، وابن حبيب من أصحابنا : إلى تفضيل مسجد مكة . واحتجُّوا بما زاده قاسم بن أصبغ وغيره في هذا الحديث من رواية عبدالله بن الزبير بعد قوله : (( إلا المسجد الحرام )) ؛ قال : (( وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة )).
قلت : وقد روى هذا الحديث عبدُ بن حميد ، وقال فيه : (( بمائة ألف صلاة )) ؛ وهذه زيادات منكرة ، لم تشتهر عند الحقاظ ، ولا خرَّجها أهل الصحيح . والمشهور المعلوم الحديث من غير هذه الزيادات ، فلا يُعوَّل عليها ، وينبغي أن يجرَّد النظر إلى الحديث المشهور ، وإلى لفظه . ولا شكَّ أن المسجد الحرام مستثنى من قوله : (( من المساجد )) ؛ وهي بالاتفاق مفضولة ، والمستثنى من المفضول مفضول إذا سكت عليه. فالمسجد الحرام مفضول ، لكن لا يقال : إنه مفضول بألف ؛ لأنه قد استثناه منها ، فلا بدَّ أن تكون له مزيَّة على غيره من المساجد ، لكن ما هي ؟ لم يُعيَّنها الشرع ، فيتوقف فيها ، أو يُعتمد على قول عمر آنفًا . ويدل على صحة ما قلناه زيادة عبدالله بن قارظ بعد قوله : (( إلا المسجد الحرام )) : (( فإني آخر الأنبياء ، ومسجدي آخر المساجد ))) ، فربط الكلام بـ (( فاء )) التعليل مشعرًا بأن مسجده إنما فضل على المساجد كلها ؛ لأنه متأخر عنها ، ومنسوب إلى نبي متأخير عن الأنبياء كلهم في الزمان . فتدبره فإنه واضح .
(11/44)
وقوله عن ابن عباس : (( أن امرأة اشتكت شكوى )) ؛ جميع رواة مسلم رووا هذا الحديث من طريق الليث ، عن نافع ، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد ، عن ابن عباس : أن امرأة. وقال النسائي : روى هذا الحديث الليث ، عن نافع ، عن إبراهيم ، عن ميمونة ، ولم يذكر ابن عباس . وكذلك البخاري : عن الليث ، ولم يذكر فيه ابن عباس . وقال بعضهم : صوابه : إبراهيم بن عبد الله بن معبدٍ بن عباس ؛ أنه قال : (( أن امرأة اشتكت )) ، و(( عن ابن عباس )) خطأ ، والصواب : (( ابن )) بدل (( عن )). والله أعلم .
وقول ميمونة للمرأة التي نذرت أن تصلي في بيت المقدس : (( اجلسي وصلى في مسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ إنما أمرتها بذلك ؛ لأنها لو مشت إلى مسجد بيت المقدس ؛ فصقت فيه ، حصل لها أقل مما يحصل لها في مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وضيعت على نفسها ألف صلاة في مسجد الرسول مع ما يلحقها من مشقَّات الأسفار ، وكثرة النفقات ، فرفعت عنها الحرج ، وكثَّرت لها في الأجر . وعلى قياس هذا : فعند مالك : إذا نذر المدني الصلاة في مسجد مكة صلَّى في مسجد المدينة ؛ لأنها أفضل عنده. ولو نذر المكي الصلاة في مسجد المدينة أتاه . ولو نذر كل واحدٌ منهما الصلاة في مسجد بيت المقدس صلَّى في مسجد بلده ؛ لأنه أفضل منه . قال الإمالم أبو عبدالله : ذهب بعض شيوخنا إلى ما قالت ميمونة .
وقوله : (( صلاة فيه أفضل من ألف صلاة ، فيما سواه )) ؛ أي : في مسجد المدينة . واختلفوا : هل يراد بالصلاة هنا : الفرض ، أو هو عام في الفرض والنفل ؟ وإلى الأول ذهب الطحاوي . وإلى الثاني ذهب مُطرِّف من أصحابنا .
(11/45)
وقوله : (( لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد )) ؛ ) قد قلنا : إن شدَّ الرِّحال كناية عن السفر البعيد . وقد فسَّر هذا المعنى في الرواوة الأخرى التي قال فيها : (( إنما يُسافر إلى ثلاثة مساجد )) ؛ ولا شكَّ في أن هذه المساجد الثلاثة إنما خُصَّت بهذا لفضلها على سائر المساجد . فمن قال : لله عليَّ صلاة في أحدها ، وهو في غيرها ، فعليه إتيانها ، بَعُدَ أو قَرُب . فإن قال : ماشيًا ، فلا يلزمه المشي - على المشهور - إلا في مسجد مكة خاصَّة ، وأما المسجدان الآخران : فالمشهور : أنه لا يلزم المشي إليهما من نذره ، ويأتيهما راكبًا . وقال ابن وهب : يأتيهما ماشيًا ، كما سمَّى . وهو القياس ؛ لأن المشي إلى مكة إنما لزم من حيث كان قربة مُوصلة إلى عبادة تُفعل في مسجد له حرمة عظيمة ، فكذلك يلزم كل مشي قربة بتلك الصفة ، ولا يلزمه المشي إلى سائر المساجد ؛ لأن البعيد منها قد نُهي عن السفر إليه ، والقريبة منها متساوية الفضيلة ، فيصلِّي حيث شاء منها . وقد قال بعض أصحابنا : إن كانت قريبة على أميال يسيرة فيأتيها ، وإن نذر أن يأتيها ماشيًا ، أتى ماشيًا ؛ لأن المشي إلى الصلاة طاعة تُرفع به الدرجات ، وتُحط به الخطايا . وقد ذهب القاضي إسماعيل إلى أن من قال : عليَّ المشي إلى المسجد الحرام أصلي فيه ؛ فإنه يأتي راكبًا إن شاء ، ويدخل مكة مُحْرِمًا . وأحلَّ الثلاثة المساجد محلاً واحدًا ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في النَّذر إن شاء الله تعالى.
(11/46)
وقوله - وقد سُئل عن أي المسجدين الذي أسس على التقوى - : (ئ هو مسجدكم هذا )) لمسجد المدينة ؛ يردّ قول ابن عباس : إذ قال : إنَّه مسجد قباء . قال : لأنه أول مسجد بُني في الإسلام . وهذا السؤال صدر مِمَّن ظهرت له المساواة بين معينين ، حصلت لهما مزية على غيرهما من المساجد ، بحيث يصلح أن يقال على كل واحدٍ منهما : أسس على التقوى. وذلك : أنه رأى مسجد قباء أول مسجد بناه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ، وذلك : أنه لما هاجر نزل على بني عمرو بن عوف في قباء يوم الاثنين ، فأقام فيهم أيامًا ، وأسس فيها مسجد قباء ، ثم إنه ارتحل عنهم يوم الجمعة إلى بني سالم بن عوف ، فصلَّى عندهم الجمعة ، وهي أول جمعة جمعت في الإسلام ، ثم إنه دخل المدينة فنزل على بني مالك بن النجار ، على أبي أيوب ، فأسس مسجده بالمربد الذي كان للغلامين اليتيمين ، فاشتراه من الناظر لهم على ما تقدَّم في كتاب الصلاة . فلما تساوى المسجدان المذكوران في بناء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه لهما ، صار كل واحدٍ من المسجدين مؤسسًا على التقوى . فلما قال الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : { لمسجد أسس على التقوى من اول يوم أحق أن تقوم فيه } ، أشكل التعيين ، فسئل عن ذلك ، فأجاب : بأنه مسجد المدينة . فإن قيل : إذا كان كل واحد منهما أسس على التقوى ؛ فما المزية التي مزية مسجد أوجبت تعيين مسجد المدينة ؟ قلنا : يمكن أن يقال : إن بناء مسجد قباء لم يكن المدينة بأمرٍ جزم من الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بل ندب إليه ، أو كان رأيًا رآه ، بخلاف مسجد المدينة ، فإنه أمر بذلك ، وجزم عليه ، فأشبه امتثالَ الواجب ، فكان بذلك الاسم أحق . أو حصل له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأصحابه ـ رضى الله عنهم ـ من الأحوال القلبية عند بنائه ما لم يحصل لهم عند غيره ، فكان أحق بذلك. والله أعلم . ويلزم من تعيين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسجده لأن يكون هو المراد بقوله تعالى : { لمسجد أسس علىا لتقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } : أن يكون الضمير في { فيه رجال } عائدًا على لمسجد أسس ؛ لأنه لم(11/47)
يتقدمه ظاهر غيره يعود عليه ، وليس الأمر كذلك ، بدليل ما رواه أبو داود من طريق صحيحة ، عن أبي هريرة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( نزلت هذه الآية : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين } في أهل قباء ؛ لأنهم كانوا يستنجون بالماء ؛ فعلى هذا : يكون الضمير في { فيه رجال } عائد على المسجد المذكور قبله ، بل على مسجد قباء ؛ الذي دلت عليه الحال والمشاهدة عندهم ، وأما عندنا : فلولا هذا الحديث لحملناه على الأول . وعلى هذا يتعين على القارئ أن يقص على { فيه } من قوله : { أحق أن تقوم فيه } ، ويبتدئ : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } ؛ ليحصل به التنبيه على ما ذكرناه. والله تعالى أعلم .
وفي إتيانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قباء كل سبت دليل على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة ، والمداومة على ذلك . وأصل مذهب مالك : كراهة تخصيص شيء من الأوقات بشيء من القُرب إلا ما ثبت به توقيف ، وقباء بينها وبين المدينة نحو الثلاثة أميال ، فليست مما تشدُّ إليها الرِّحال ، فلا يتناولها الحديث المتقدم الذكر ، وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتيها راكبًا وماشيًا ؛ إنما كان ذلك بحسب ما اتفق له . وكان تعاهده لقباء لفضيلة مسجدها ، ولتفقد أهلها اعتناءً بهم ، وتشريفًا لهم ، وليس في تعاهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسجد قباء ما يدل على إلحاق مسجدها بالمساجد الثلاثة كما ذهب إليه محمد بن مسلمة ، كما قدَّمناه .
و (( قباء )) : مُلحق ببعاث ؛ لأنه من قَبَوْت أو قَبيت ، فليست همزته للتأنيث ، بل للألحاق ، فلذلك صُرِف ، والله تعالى أعلم.
كمل كتاب الحج بحمد الله ، يتلوه كتاب الجهاد
(11/48)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وعلى آله
كتاب الجهاد
باب التأمير على الجيوش
قوله : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله )) ؛ فيه من الفقه : تأمير الأمراء ، ووصيتهم . وقد تقدَّم القول في الجيش ، والسَّرية . قال الحربى : السَّرية : الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها . و(( تقوى الله )) : التحزز بطاعته من عقوبته .
وقوله : (( ومن معه من المسلمين خيرًا )) ؛ أي : ووصاه بمن معه منهم أن يفعل معهم خيرًا .
وقوله : (( اغزوا باسم الله )) ؛ أي : اشرعرا في فعل الغزو مستعينين بالله ، مخلصين له .
وقوله : (( قاتلوا من كفر بالله )) ؛ هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر ، المحاربين وغيرهم ، وقد خُصص منه من له عهد ، والرُّهبان ، والنِّسوان ، ومن لم يبلغ الحلم . وقد قال متصلاً به : (( ولا تقتلوا وليدًا )) ؛ وإنما نهى عن قتل الرهبان والنساء ؛ لأنهم لا يكون منهم قتال غالبًا ، فإن كان منهم قتال أو تدبير أو أذىً قُتلوا ؛ ولأن الذراري والأولاد مالٌ . وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن إضاعة المال .
وقوله : (( ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تَمْثُلوا )) : الغلول : الأخذ من الغنيمة من غير قسمها ، والغدر : نقض العهد . والتمثيل هنا : التشويه بالقتيل ؛ كجدع أنفه ، وأذنه ، والعبث به . ولا خلاف في تحريم الغلول ، والغدر ، وفي كراهة الْمُثلة .
وقوله : (( وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال ، أو خصال )) ؛ الرواية بـ (( أو )) التي للشكّ ، وهو من بعض الرواة . ومعنى الخلال والخصال واحد .
وقوله : (( فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم )) ؛ قيَّدناه عمن يوثق بعلمه ، وتقييده ، بنصب (( أيتَهنَّ )) على أن يعمل فيها ((أجابوك )) على إسقاط حرف الجرِّ . و(( ما )) زائدة . ويكون تقدير الكلام : فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم . كما تقول : اجبتك إلى كذا ، وفي كذا ، فيتعدى إلى الثاني بحرف الجرِّ .
(11/49)
وقوله : (( ثم ادعهم إلى الإسلام )) ؛ كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم : (( ثم ادعهم )) بزيادة (( ثم )) ، والصواب إسقاطها ، كما روي في غير كتاب مسلم ؛ كمصنف أبي داود ، وكتاب الأموال لأبي عبيد ؛ لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال .
وقوله : (( ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين )) ؛ يعني : المدينة . وكان هذا في أول الأمر ، في وقت وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام . أو على أهل مكة خاصة . في ذلك خلاف . وهذا يدل على أن الهجرة كانت واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرها . وسيأتي إيعاب ذلك .
وقوله : (( فإن أبوا أن يتحوَّلوا فأخبرهم : أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء ؛ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين )) ؛ يعني : أن من أسلم ولم يجاهد ، ولم يهاجر لا يُعطى من الخمس ، ولا من الفيء شيئًا . وهذا يتمشى على مذهب مالك في قسمة الخمس ، والفيء ؛ إذ يرى أن ذلك موكول لاجتهاد الإمام ، يضعه حيث يراه من المصالح الضرورية ، والأمور المهمة ، ومنافع المسلمين العامَّة ، ويؤثر فيه الأحوج ، فالأحوج ، والأهم فالأهم ، ولا شك أن المهاجرين كانوا في ذلك الوقت أولى به من غيرهم من المسلمين الذين لم يهاجروا ، وأقاموا في بلادهم ، فإن المهاجرين خرجوا من بلادهم ، وأموالهم لله تعالى ، ووصلوا إلى المدينة فقراء ، ضعفاء ، غرباء ، فلا شك في أنهم الأولى .
(11/50)
قال القاضي عياض : ولذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤثرهم بالخمس على الأنصار غالبًا ، إلا أن يحتاج أحدٌ من الأنصار . وقد أخذ الشافعي بهذا الحديث في الأعراب ، فلم ير لهم شيئًا من الفيء ، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم ، وترد على فقرائهم ، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده ، ويصرف كل مال في أهله . وسوَّى مالك وأبو حنيفة بين المالين ، وجوَّزا صرفهما للصنفين . وذهب أبو عبيدة : إلى أن هذا الحديث منسوخ ، وأن هذا كان حكم من لم يهاجر أولاً ، في أنه لاحق له في الفيء ، ولا في الموالاة للمهاجر ، ولا موارثته . قال الله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد فتح مكة : (( لا هجرة ولكن جهاد ونية )) ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المؤمنون تتكافؤ دماؤهم وهم ، وهم يد واحدة على من سواهم )) ، وهذا فيه بُعْد . وسيأتي بيان حكم الخمس والفيء والغنيمة ، إن شاء الله تعالى . ومحمل الحديث عند أصحابنا المالكيين على ما تقدَّم من مذهب مالك رحمه الله تعالى .
وقوله : (( فإن هم أبوا فسلهم الجزية )) ؛ حجَّة لمالك ، وأصحابه ، والأوزاعي ، في أخذ الجزية من كل كافر ، عربيًّا كان أو غيره ، كتابيًّا كان أو غيره . وذهب أبو حنيفة : إلى أنها تُقبل من الجميع إلا من مشركي العرب ، ومجوسهم . وهو قول عبدالملك ، وابن وهب من أصحابنا . وقال الشافعى رحمه الله تعالى : لا تُقبل إلا من أهل الكتاب- عربًا كانوا أو عجمًا ، ولا تقبل من غيرهم ، والمجوس عنده أهل كتاب .
واختلف في استرقاق العرب . فعند مالك ، والجمهور : أنهم كغيرهم ، يسترقون حيث كانوا . وعند أبي حنيفة ، والشافعي : لا يسترقون ، إما أن يسلموا ، أو يقتلوا . وهو قول بعض أصحابنا ، غير أن أبا حنيفة والشافعي(2) : يسترق النساء ، والصغار .
(11/51)
وقد اختلف في القدر المفروض من الجزية ؛ فقال مالك : هو أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهمًا على أهل الوَرِق . وهل ينقص منها للضعيف أو لا ؟ قولان . وقال الشافعي : هي دينار على الغني والفقير. وقال أبو حنيفة ، والكوفيون : على الغني ثمانية وأربعون درهمًا. والوسط : أربعة وعشرون درهمًا . والفقير : اثنا عشر . وهو قول أحمد بن حنبل . ويزاد وينقص على قدر طاقتهم . وهي عند مالك ، وكافة العلماء على الرجال الأحرار ، البالغين ، العقلاء ، دون غيرهم . وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين ، لا من نأى بداره . ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين ، أو حربهم.
وقوله : (( وإذا حاصرت أهل حصن ... )) الكلام إلى آخره ؛ فيه حجَّة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول : إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد ، وهو المعروف من مذهب مالك وغيره . ووجة الاستدلال : هو أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نصَّ على أن لله تعالى حكمًا معيَّنًا في المجتهدات ، فمن وافقه فهو المصيب ، ومن لم يوايخقه فهو مخطئ. وقد ذهب قوم من الفقهاء ، والأصوليين : إلى أن كل مجتهد مصيب ، وتأولوا هذا الحديث : بأن قالوا : إن معناه : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يوصي أمراءه بأن لا ينزلوا الكفار على حكم ما أنزل الله على نبيه في حال غيبة الأمراء عنه ، وعدم علمهم به ، فإنهم لا يدرون إذا فعلوا ذلك ؛ هل يصادفون حكم ما أنزل الله على نبيه أم لا ؟ وفي هذا التأويل بُعْدٌ وتعسّفٌ ، واستيفاء المباحث في هذه المسألة في علم الأصول .
وقوله : (( وإذا حاصرت أهل حصن ، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله ... )) الحديث إلى آخره ؛ الذمة : العهد . وتخفروا : تنقضوا ، وهو رباعي . يقال : أخفرت الرَّجل : نقضت عهده ، وخفرته : أجرته ، ومعناه : أنه خاف من نقض من لا يعرف حق الوفاء بالعهد ، كجهلة الأعراب ، فكأنه يقول : إن وقع نقض من متعد كان تقص عهد الخلق أهون من نقض عهد الله . والله تعالى أعلم .
(11/52)
وقول نافع - وقد سئل عن الدعوة قبل القتال - : (( أنها كانت في أول الإسلام )) ، واستدلاله بقضية بني المصطلق ؛ يفهم منه : أن حكم الدعوة كان متقدمًا ، وأنه منسوخ بقضية بني المصطلق . وبه تمسَّك من قال بسقوط الدعوة مطلقًا . ومنهم من ذهب إلى أنها واجبة مطلقًا ، متمسّكًا بظاهر وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك أمراءه ، ولم تصلح عنده قضية بني المصطلق لأن تكون ناسخة لذلك ؛ لأن تلك الوصايا تقعيد قاعدة عامة ، وقضية بني المصطلق قضية في عين ؛ ولأن الوصية قول ، وقضية بني المصطلق فعل ، والفعل لا ينسخ القول على ما يُعرف في الأصول . والذي يجمع بين هذه الأحاديث صريح مذهب مالك ، وهو أنه قال : لا يقاتل الكفار قبل أن يُدْعَوا ، ولا تلتمس غرّتهم ، إلا أن يكونوا ممن بلغتهم الدعوة ، فيجوز أن تؤخذ غرتهم . وعلى هذا فيحمل حديث بني المصطلق : على أنهم كانوا قد بلغتهم الدعوة ، وعرفوا ما يطلبه المسلمون منهم . وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح ؛ لأن فائدة الدَّعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ، ولا للعصبية ، وإنما يقاتلون للدِّين . وأذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببًا مُمِيلاً لهم إلى الانقياد للحق بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين ، فقد يظنون أنهم يقاتلون للفتك ، وللدنيا ، فيزيدون عتوًّا ، وتعصبًا .
وقوله : (( أغار عليهم )) ؛ أي : أرسل عليهم الغارة ، وهي الخيل التي تغير في أول النهار . وغارون : غافلون . والغرة : الغفلة . والأنعام : الإبل ، والبقر ، والغنم . والمقاتلة : الصالحون للقتال ، المطيقون له . والسبى : الذراري ، والنساء .
(11/53)
وقوله : (( وأصاب يومئذ )) ؛ قال يحيى : أحسبه قال : جويرية ، أو قال : ابنة الحارث . هكذا صواب هذه الرواية ، بإسقاط : البتة. وقد غلط فيها بعض النَّقلة ، فظن : أن يحيى إنما شك في اسم ابنة الحارث : هل هو جويرية أو البتة ؟ وحمله على ذلك الأخذ بظاهر ذلك اللفظ المصحَّف ، وهو غلط فاحش ؛ لأنه لم يذهب أحدٌ من الناس إلى أن اسم ابنة الحارث هذه : البتة . وإنما يحيى بن يحيى شك في سماع اسم جويرية ، ثم بت القضية ، وحقق السَّماع لاسمها ؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى : (( جويرية ابنة الحارث )) ولم يشك. والله أعلم .
فرع : إذا قتل من أمر بدعوته من قبل أن يُدعى ، فهل على قاتله دية ، أم لا ؟ فذهب مالك وأبو حنيفة : إلى أنه لا دية عليه ؛ لأنه حلال الدَّم بأصل الكفر ، ولم يتجدد من جهته ما يوجب حرمة دمه ، فبقي على الأصل لعدم الناقل ، ولا يصلح المنع من قتالهم قبل الدعوة موجبًا لحرمتهم ، كما لا يصلح ذلك موجبًا لحرمة نسائهم ، وأبنائهم . والله تعالى أعلم .
ومن باب النهي عن الغدر
قوله : (( لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطاب للعرب بنحو ما كانت تفعل ، وذلك : أنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء ، وللغدر راية سوداء ، ليشهروا به الوفي ، فيعظموه ، ويمدحوه ، والغادر فيذموه ، ويلوموه بغدره . وقد شاهدنا هذا فيهم عادة مستمرة إلى اليوم . فمقتضى هذا الحديث : أن الغادر يُفعل به مثل ذلك ؛ ليشهر بالخيانة والغدر ، فيذمه أهل الموقف ، ولا يبعد أن يكون الوفى بالعهد يُرفع له لواء يُعرف به وفاؤه وبره ، فيمدحه أهل الموقف ، كما يرفع لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لواء الحمد فيحمده كل من في الموقف .
وقوله : (( بقدر غدرته )) ؛ يعني : أنه إن كانت غدرته كبيرة عظيمة رفع له لواء كبير ، عظيم ، مرتفع ، حتى يعرفه بذلك من قرب منه ومن بَعُد .
(11/54)
وقوله : (( عند استه )) ؛ معناه- والله أعلم- : عند مقعده ؛ أي : يلزم اللواء به ، بحيث لا يقدر على مفارقته ، ليمر به الناس فيروه ، ويعرفوه ، فيزداد خجلاً ، وفضيحة عندكل من مرَّ به .
وقوله : (( ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة )) ؛ يعني : أن الغدر في حقه أفحش ، والإثم عليه أعظم منه على غيره لعدم حاجته إلى ذلك . وهذا كما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الملك الكذَّاب ، كما تقدم في كتاب الإيمان . وأيضًا : فلما في غدر الأئمة من المفسدة ، فإنهم إذا غدروا ، وعلم ذلك منهم ، لم يأمنهم العدوّ على عهدٍ ، ولا صلح ، فتشتد شوكته ، ويعظم ضرره ، ويكون ذلك منفرًا من الدخول في الدين ، وموجبًا لذم أئمة المسلمين . وقد مال أكثر العلماء : إلى أنه لا يقاتل مع الأمير الغادر ، بخلاف الخائن ، والفاسق . وذهب بعضهم إلى الجهاد معه . والقولان في مذهبنا . والله تعالى أعلم .
فأما إذا قلنا : لم يكن للعدوّ عهد فينبغي أن يتحيّل على العدو بكل حيلة ، وقد ار عليهم كل خديعة ، وعليه يحمل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الحرب خَدْعة )) بفتح الخاء ، وسكون الدال ، وهي لغة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهي مصدر (( خدع )) المحدود بالتاء ؛ كغرفة ، وخطوة - بالفتح فيهما - ، ومعناه : أن الحرب تكون ذات خدعة . فوضع المصدر موضع الاسم ؛ أي : ينبغي أن يستعمل فيها الخداع ولو مرَّة واحدة . ويحتمل : أن يكون معناه : أن الحرب تتراآى لأخفاء الناس بالصورة المستحسنة ، ثم تتجلى عن صورة مستقبحة ، كما قال الشاعر :
الحرب أول ما تكون فتنة تسعى ببزتها لكل جهول
وقال الآخر :
والحرب لا يبقى لجـ ـحمها التخيل والمراح
(11/55)
وفائدة الحديث على هذا : ما قاله في الحديث الآخر : (( لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية )). وقد روي هذا الحرف (( خُدْعَة )) بضم الخاء ، وسكون الدال ، وهو اسم ما يفعل به الخداع ، كاللعبة لما يلعب به ، والضُّحكة لما يضحك منه ، فكأنه لما وُقِع فيها الخداع خُدِعتْ هي في نفسها . وروي : (( خُدَعة )) بضم الخاء ، وفتح الدال ؛ أي : هي التي تفعل ذلك فتخدع أهلها ، على ماتقدم . وفُعلة : تأتي بمعنى الفاعل ، كضُحكة ، وهُزأة ، ولُمزة ، للذي يفعل ذلك ، والله تعالى أعلم .
ومن باب النهي عن تمنِّي لقاء العدو
قوله : (( لا تتمنوا لقاء العدو )) ؛ قيل : إن فائدة هذا النهي أن لا يُستخف أمر العدو ، فيتساهل في الاستعداد له ، والتحرز منه ، وهذا لما فيه من المكاره ، والمحن ، والنكال ، ولذلك قال متصلاً به : (( واسألوا الله العافية )). وقيل : لما يخاف من إدالة العدو ، وظفره بالمسلمين . وقد روي في هذا الحديث : (( فإنهم يظفرون كما تنصرون )). وقيل : لما يؤدي إليه من إذهاب حياة النفوس التي يزيد بها المؤمن خيرًا ، ويرجى للكافر فيها أن يراجع . وكل ذلك محتمل . والله تعالى أعلم .
ولا يقال : فلقاء العدو وقتاله طاعة يحصل منه إما الظفر بالعدو ، وإما الشهادة ، فكيف ينهى عنه ؟ وقد حضّ الشرع على تمنّي الشهادة ، ورغَّب فيه ، فقال : (( من سأل الله الشهادة صادقًا من قلبه ، بلغه الله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشه ))؟! لأنا نقول : لقاء العدو وإن كان جهاد وطاعة ومحصلاً لأحد الأمرين ، فلم يُنه عن تمتيه من هذه الجهات ، وإنما نهي عنه من جهات تلك الاحتمالات المتقدِّمة ، ثم هو ابتلاء ، وامتحان لا يعرف عن ماذا تسفر عاقبته ، وقد لا تحصل فيه لا غنيمة ولا شهادة ، بل ضد ذلك . وتحريره : أن تمني لقاء العدو المنهي عنه غير تمني الشهادة المرغب فيه ؛ لأنه قد يحصل اللقاء ولا تحصل الشهادة ، ولا الغنيمة ، فانفصلا .
(11/56)
وقد فهم بعض العلماء من هذا الحديث كراهة المبارزة . وبهذا قال الحسن ، وروي عن علي ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : (( يا بني ! لا تدع أحدًا إلى المبارزة ، وتن دعاك إليها فاخرج إليه ، فإنه باغ ، وقد ضمن الله نصر من بُغي عليه )). وقال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه على جواز المبارزة ، والدَّعوة إليها ، وشرط بعضهم فيها إذن الإمام ؛ وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق . ولم يشترطه غيرهم . وهو قول مالك ، والشافعي . واختلفوا ، هل يعين المبارَز غيره أم لا ؟ على قولين .
وقوله : (( إنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينتظر حتى إذا مالت الشمس )) ؛ يعني : أنه كان يؤخر القتال عن الهاجرة إلى أن تميل الشمس ليبرد الوقت على المقاتلة ، ويخف عليهم حمل السلاح ، التي ئؤلم حملها في شدَّة الهاجرة ؛ ولأن ذلك الوقت وقت الصلاة ، وهو مظنَّة إجابة الدعاء . وقيل : بل كان يفعل ذلك لانتظار هبوب ريح النصر التي نُصر بها ، كما قال : ((نُصِرت بالصَّبا )) ، وفي حديث آخر ؛ أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينتظر حتى تزول الشمس ، وتهب رياح النصر .
وقوله : (( اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، سريع الحساب )) ؛ دليل على جواز السَّجع في الدعاء إذا لم يتكلَّف. والأحزاب : جمع حزب . وهم الجمع والقطعة من الناس ، ويعني بهم الذين تحزبوا عليه في المدينة فهزمهم الله تعالى بالريح . ووصف الله بأنه سريع الحساب ؛ يعني به : يعلم الأعداد المتناهية وغيرها في آنٍ واحدٍ ، فلا يحتاج في ذلك إلى فكرٍ ولا عقدٍ ؛ كما يفعله الْحُسَّاب منَّا .
(11/57)
وقوله : (( الجنَّة تحت ظلال السيوف )) ؛ هذا من الكلام النفيس البديع ، الذي جمع ضروب البلاغة من جزالة اللفظ ، وعذوبته ، وحسن استعارته ، وشمول المعاني الكثيرة ، مع الألفاظ المعسولة الوجيزة ؛ بحيث يعجز الفصحاء اللسْن البلغاء عن إيراد مثله ، أو أن يأتوا بنظيره وشكله . فإنه استفيد منه مع وجازته الحضّ على الجهاد ، والإخبار بالثواب عليه ، والحضّ على مقاربة العدو ، واستعمال السّيوف ، والاعتماد عليها ، واجتماع المقاتلين حين الزحف ، بعضهم لبعض ، حتى تكون سيوفهم بعضها يقع على العدوّ ، وبعضها يرتفع عنهم ؛ حتى كأن السيوف أظلت الضاربين بها ، ويعني : أن الضارب بالسيف في سبيل الله يدخله الله الجنة بذلك . وهذا كما قاله في الحديث الآخر : (( الجنة تحت أقدام الأمهات )) ؛ أي : من برَّ أمَّه ، وقام بحقها ، دخل الجنَّة .
وقوله يوم أحد : (( اللهم إنك إن تشأ لا تُعبد في الأرض )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسليم لأمر الله تعالى فيما شاء أن يفعله ، وهو ردٌّ على غلاة المعتزلة ؛ حيث قالوا : إن الشرَّ غير مراد لله تعالى . وقد ردَّ مذهبهم نصوص الكتاب ، كقوله تعالى : { كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } ، ومثلها كثير . وفي هذا الحديث أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال هذا الكلام يوم أحدٍ . والذي ذكره أهل السير : أن ذلك إنما قاله يوم بدرٍ . وكذلك وقع في بعض روايات مسلم ، وسيأتي ، ويحتمل : أن يكون قاله في اليومين معًا . والله تعالى أعلم .
ومن باب النهي عن قتل النساء والصبيان
قوله : (( نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قتل النساء والصبيان )) ؛ هذا اللفظ عام في جميع نساء أهل الكفر ، فتدخل فيهم المرتدة وغيرها . وبه تمسَّك أبو حنيفة في منع قتل المرتدة . ورأى الجمهور أنه لم يتناول المرتدة لوجهين :
أحدهما : أن هذا العموم خرج على نساء الحربيين كما هو مبيَّن في الحديث .
الثاني : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من بدَّل دينه فاقتلوه )). وفي المسألة أبحاث تُعلم في علم الخلاف .
(11/58)
قال القاضي أبو الفضل عياض : أجمع العلماء على الأخذ بهذا الحديث في ترك قتل النساء ، والصبيان ، إذا لم يقاتلوا .
واختلفوا إذا قاتلوا . فجمهوز العلماء وكافة من يحفظ عنه : على أنهم إذا قاتلوا قُتلوا . قال الحسن : وكذلك : لو خرج النساء معهم إلى بلاد الإسلام . ومذهبنا : أنها لا تقتل في مثل هذا ، إلا إذا قاتلت .
واختلف أصحائنا إذا قاتلوا ثم لم يظفر بهم حتى برد القتال ، فهل يقتلون كما تقتل الأسارى ، أم لا يقتلون إلا في نفس القتال ؟
وكذلك اختلفوا إذا رموا بالحجارة ؛ هل حكم ذلك حكم القتال بالسلاح أم لا ؟ والله أعلم.
قلت : والصحيح : أنها إذا قاتلت بالسِّلاح ، أو بالحجارة ، فإنه يجوز قتلها لوجهين :
أحدهما : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فيما خرَّجه النسائي عن حديث عمر بن مرقّع بن صيفي بن رباح ، عن أبيه ، عن جدِّه رباح : أنه مرَّ في غزاة بامرأة قُتيل ، فقال : (( ما كانت هذه تقاتل )) ؛ فهذا تنبية على المعنى الموحب للقتل ، فيجب طرده إلا أن يمنع منه مانع .
والثاني : قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لليهودية التي طرحت الرَّحى على رجل من المسلمين فقتلته ، وذلك بعدما أسرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وكلا الحديثين مشهور.
وقوله : (( لو أن خيلاً أغارت من الليل )) ؛ أي : أسرعت طالبة غرَّة العدو ، والإغارة : سرعة السير ، ومنه قولهم : (( أشرق ثُبير كيما نُغير)) ؛ أي : نسرع في النَّفر . والغارة : الخيل نفسها . وشنّ الغارة ؛ أي : أرسل الخيل مسرعة . ويقال : أغارت الخيل ليلاً ، وضحًى ، ومساءً ، إذا كان ذلك في تلك الأوقات . فأما البيات : فهو أن يؤخذ العدو على غرة بالليل .
وقوله : (( سُئل عن الدار )) ؛ الدار : هي العمائر ، تجتمع في محلة ، فتسمى المحلة : دار ، وهي من الاستدار ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دار قوم مؤمنين )) ؛ يدل على أن اسم الدار يقع على الربع العامر المسكون ، وعلى الخراب غير المأهول ، والدار : مؤنثة ، وقوله تعالى : { ولنعم دار المتقين } على فالتذكير على معنى المثوى والموضع.
(11/59)
وقوله في ذراري المشركين يبيتون : (( هم من آبائهم )) ؛ الذرية : تطلقه العرب على الأولاد والعيال والنساء . حكاه عياض . ومعنى الحديث : أن حكمهم حكم آبائهم في جواز قتلهم عند الاختلاط بهم في دار كفرهم . وبه قال الجمهور : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري . ورأوا رميهم بالمجانيق في الحصون ، والمراكيب.
واختلف أصحابنا ؛ هل يرمون بالنار إذا كان فيهم ذراريهم ونساؤهم ، رمي المشركين ؟ على قولين . وأما إذا لم يكونوا فيهم ؛ فهل يجوز رمي مراكبهم وحصونهم بالنار ؟ أما إذا لم يوصل إليهم إلا بذلك ، فالجمهور على جوازه ، وأما إذا أمكن الوصول إليهم بغيره ، فالجمهور على كراهته ؛ لما ثبت من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يعذب بالنار إلا الله )). وأما إذا كان فيهم مسلمون ؛ فمنعه مالك جملة . وهو الصحيح من مذهبه ومذهب جمهور العلماء . وفي المسألة تفصيل يعرف في أصول الفقه.
وقوله : (( قطع نخيل بني النضير ، وحرق )) ؛ دليل للجمهور على جواز قطع نخل العدو ، وتحريقها إذا لم يرج مصيرها للمسلمين ، وكان قطعها نكاية للعدو . وقد منع ذلك الليث بن سعد ، وأبوثور ، وقد روي عن الصدِّيق أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ . واختلف في ذلك عن الأوزاعي ، واعتذر لهم عن هذا الحديث : بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما قطع تلك النخيل ليوسع موضع جَوَلان الخيل للقتال . وهذا تأويل يدل على فساده قوله تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن الله وليجزي الفاسقين } ، ولا شك في أن هذه الآية نزلت فيما عاب المشركون على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قطع نخيل بني النضير ، فبين فيها : أن الله تعالى أباحه لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خزيًا للمشركين ، ونكاية لهم . والآية نصّ في تعليل ذلك. ويمكن أن يحمل ما روي عن أبي بكبر الصديق ـ رضى الله عنه ـ من منع ذلك على ما إذا لم يكن في قطعها نكاية ، وارتجي عودها للمسلمين ، والله تعالى أعلم .
(11/60)
و (( اللينة )) : النخلة ؛ أيُّ نخلةٍ كانت . وقيل : إلا العجوة . وقيل : كرام النخل ، قاله سفيان . وقال جعفر بن محمد : هي العجوة . وقيل : الفسيل ؛ لأنه ألين. وقيل : أغصان الأشجار للينها . وقيل : هي النخلة القريبة من الأرض . قال ا لأخفش : اللينة من اللون. وأصله : أليونَة ، ويجمع : لين ، وليان . قال :
وسالفةٍ كسحوق اللبان ركب فيها الغَويُّ السُّعُرْ
و (( البويرة )) المذكورة في شعر حسَّان : موضع من بلاد بني النضير . و(( مستطير )) : منتشر .
ومن باب تخصيص هذه الأمة بتحليل الغنائم
قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المذكور في هذا الحديث : (( لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة ، وهو يريد أن يبتني بها ، ولما يبني )) ؛ البُضع - بضم الباء- : كناية عن فرج المرأة ، وقد يكنى به عن النكاح نفسه ، كما قال : (( وفي بضع أحدكم أهله صدقة )). وهذا البُضع لا يُقْرعُ أنفُه ؛ يريد هذا الكُفؤ الذي لا يُردّ ، والبُضع : مهر المرأة. والبَضع بفتح الباء مصدر بَضَعَ اللحم ، يبضعه ؛ إذا قطعه . والبِضع - بكسر الباء - : في العدد ما بين الثلاثة إلى التسعة . وقد تقدَّم تفسيره .
و (( الخلفات )) : جمع خَلِفَة ، وهي الناقة التي دنا ولادتها . وإنما نهى هذا النبي قومه عن اتباعه على هذه الأحوال ؛ لأن أصحابها يكونون متعلقي النفوس بهذه الأسباب ، فتضعف عزائمهم ، وتفر رغباتهم في الجهاد ، والشهادة ، وربما يُفرط ذلك التعلق بصاحبه فيفضي به إلى كراهة الجهاد ، وأعمال الخير . وكأن مقصود هذا النبي أن يتفرَّغوا من عُلق الدنيا ومهمات أغراضها ، على تمني الشهادة بنيَّات صادقة ، وعزومٍ حاضرة ، صافية ، ليحصلوا على الحظ الأوفر ، والأجر الأكبر .
وقوله : (( فأدنى القرية )) ؛ هكذا رواية جميع الرواة (( أدنى )) رباعيًّا .
(11/61)
قال القاضي أبو الفضل : فيما أن يكون تعدية (( دنا )) ؛ أي : قرب ، فمعناه : أدنى جيوشه وجموعه إليها ، أو يكون (( أدنى )) بمعنى : حان ؛ أي : قرب ، وحضر فتحها ، من قولهم : أدنت الناقة ؛ أي : إذا حان نتاجها ، ولم يقل في غير الناقة .
قلت : والذي يظهر لي : أن ذلك من باب : أنجد ، وأغار ، وأشهر ، وأظهر ؛ أي : دخل في هذه الأزمنة والأمكنة ، فيكون معنى (( أدنى )) أي : دخل في هذا الموضع الداني منها . والله تعالى أعلم .
والقرية : المدينة ، وهي ... ، وكل مدينة قرية لاجتماع أهلها فيها من قريت الماء في الحوض إذا جمعته وجمعها قُرى لعى غير قياس ، والقياس المدّ ؛ كركْوة وركاء ، وظبية وظباء ، وقد قيل : قِرية بكسر القاف لغة يمانية ، ولعلها .... فاللغة ... .
وقوله للشمس : (( أنت مأمورة )) ؛ أي : مسخرة بأمر الله تعالى ، وهو كذلك أيضًا ، وجميع الموجودات ، غير أن أمر الجمادات أمر تسخير وتكوين ، وأمر العقلاء أمر تكليف وتكوين . وحبس الشمس على هذا النبي من أعظم معجزاته ، وأخص كراماته . وقد اشتهر : أن الذي حبست عليه الشمس من الأنبياء هو : يوشع بن نون . وقد روي أن مثل هذه الآية كانت لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في موطنين :
أحدهما : في حفر الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر ، حتى غابت الشمس ، فردها الله تعالى عليه حتى صلَّى العصر . ذكر ذلك الطحاوي ، وقال : إن رواته كلهم ثقات .
والثانية : صبيحة الإسراء ، حين انتظروا العير التي أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوصولها مع شروق الشمس . ذكره يونس بن بكير في زيادته في سير ابن إسحاق .
(11/62)
وقوله : (( فجمعوا ما غنموا ، فأقبلت النَّار لتأكله ، فأبت أن تطعمها )) ؛ وكانت سنة الله تعالى في طوائف من بني إسرائيل أن يسوق لهم نارًا ، فتأكل ما خلص من القرابين في قربانهم ، وغنائمهم ، فكان ذلك الأكل علامة قبول ذلك المأكول . حكاه السُّدي وغيره ، وهو الذي يدل عديه ظاهر القرآن في قوله تعالى : { الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار} ، ويدل على هذا أيضًا : ظاهر الحديث ، وقد كان فيهم على ما حكاه ابن إسحاق نار تحكم بينهم عند تنازعهم ، فتأكل الظالم ، ولا تضر المظلوم . وقد رفع الله تعالى كل ذلك عن هذه الأمة ، وأحل لهم غنائمهم ، وقربانهم ، رفقًا بهم ، ورحمة لهم ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا )) ، وجعل ذلك من خصائص هذه الأمة ؛ كما قال : (( فلم تحل الغنائم لأحدٍ قبلنا )) ، وقد جاء في الكتب القديمة : أن من خصائص هذه الأمة : أنهم يأكلون قربانهم في بطونهم . وما جرى لهذا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع قومه في أخذ الغلول آية شاهدة على صدقه ، وعلى عظيم مكانته عند ربِّه . وفي حديثه أبواب من الفقه لا تخفى على فطن . والله أعلم .
ومن باب قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال }
قول سعدٍ : (( نزلت فيَّ أربعُ آيات )) ، ولم يذكر غير آية واحدة هنا ، وقد جاءت الثلاثة الباقية مبيّنة في كتاب مسلم ، وسيأتي .
وقوله : (( نفلنيه )) ؛ أي : أعطني إيَّاه . قال لبيد :
إن تقوى ربنا خيرُ نَفَل وبإذن الله رَيْثِي وعجل
ومنه سُمي الرَّجل نوفلاً لكثرة عطائه. ويكون النفل أيضًا للزيادة. ومنه نوافل الصلاة ، وهي الزوائد على الفرائض .
(11/63)
وقوله : (( أو أُجعل كمن لا غناء له )) ؛ الرِّواية الصحيحة بفتح الواو ، ومن سكَّنها غلط ؛ لأنها الواو الواقعة بعد همزة الاستفهام ، ولا تكون إلا مفتوحة . وأما (( أو )) الساكنة : فلا تكون إلا لأحد الشيئين. وهذا الاستفهام من سعد على جهة الاستبعاد والتعجب من أن ينزل من ليس في شجاعته منزلته ، لا على جهة الإنكار ، لأنه لا يصح ، ولا يحل الإنكار على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لا سيما فيمن يكون في منزلة سعد ، ومعرفته بحق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، واحترامه له .
و (( الغناء )) بفتح الغين ، والمد : النفع . و(( الغِنى ))- بكسر الغين والقصر - : كثرة المال .
وقوله : (( فنزلت هذه الآية : { يسئلونك عن الأنفال } ؛ يقتضي أن يكون ثمَّ سؤال عن حكم الأنفال ، ولم يكن هنالك سؤال عن ذلك على ما يقتضيه هذا الحديث ، ولذلك قال بعض أهل العلم : إن (( عن )) صلة . ولذلك قرأه ابن مسعود بغير (( عن )) : ( يسألونك الأنفال ). وقال بعضهم : إن (( عن )) بمعنى (( مِنْ )) ؛ لأنه إنما سأل شيئًا معينًا ، وهو السيف ، وهو من الأنفال .
و (( الأنفال )) : جمع نفل - بفتح الفاء - هنا ؛ كجمل وأجمال ، ولبن وألبان . وقد اختلف في المراد بالأنفال هنا في الآية ؛ هل هي الغنائم ؛ لأنها عطايا ، أو هي مما ينفل من الخمس بعد القسم ؟ وكذلك اختُلف في أخذ سعد لهذا السيف ؛ هل كان أخذه له من القبض قبل القسم ، أو بعد القسم ؟ وظاهر قوله : (( ضعه حيث أخذته )) أنه قبل القسم ؛ لأنه لو كان أخذه له بعد القسم لأمره أن يرده إلى من صار إليه في القسم .
(11/64)
وقوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } ؛ ظاهره إن حملنا الأنفال على الغنائم ؛ أن الغنيمة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وليست مقسومة بين الغانمين . وبه قال ابن عباس وجماعة . ورأوا : أنها منسوخة بقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية ، وظاهرها : أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين . وقد روي عن ابن عباس أيضًا : أنها محكمة ، غير منسوخه ، وأن للأمام أن ينفل من الغنائم ما شاء لمن شاء ؛ لما يراه من المصلحة . وقيل : هي مخصوصه بما شذّ من المشركين إلى المسلمين من : عبدٍ ، أو أمَةٍ ، أو دابةٍ . وهو قول عطاء ، والحسن . وقيل : المراد بها : أنفاذ السَّرايا . والأولى : أن الأنفال المذكورة في هذه الآية هي ما ينفله الإمام من الخمس ؛ بدليل قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } ، ولا يصح الحكم بالنسخ ؛ إذ الجمع بين الآيتين ممكن ، ومتى أمكن الجمع فهو أولى من النسخ ، باتفاق الأصوليين . وقال مجاهد في الآية : إنها محكمة ، غير منسوخة ، وأن المراد بالأنفال : ما ينفله الإمام من الخمس . وعلى هذا : فلا نفل إلا من الخمس ، ولا يتعتين الخمس إلا بعد قسمة الغنيمة خمسة أخماس ، وهو المعروف من مذهب مالك ، وقد روي عن مالك : أن الأنفال من خمس الخمس . وهو قول ابن المسيب ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، والطبري . وأجاز الشافعي النفل قبل إحراز الغنيمة ، وبعدها . وهو قول أبي ثور ، وا لأوزاعي ، وأحمد ، والحسن البصري .
(11/65)
وقوله تعالى : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } ؛ أي : أصلحوا فيما بينكم ، وأطيعوا الله ورسوله فيما أمركم به من الرضا بما قسم لكم إن كنتم محققين إيمانكم . وهذا يدل على أنهم وقع فيما بينهم شنآنٌ ومنافرةٌ بسبب الغنيمة . ويدل على هذا : ما رواه أبو أمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ؟ فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، وجعله إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقسمه علينا على بواء ؛ أي : على سواء . وعن ابن عباس : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال يوم بدر : (( من فعل كذا ، فله كذا )) ، فتسارع الشبان ، وثبت الشيوخ مع الرَّايات ، فلما فتح لهم ، جاء الشبان يطلبون ما جعل لهم ، فقال لهم الأشياخ : لا تذهبون به دوننا ، فقد كنَّا ردءًا لكم ، فأنزل الله تعالى : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }.
(11/66)
وقوله : (( بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى نجد سرية )) إلى قوله : (( ونفلنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعيرًا بعيرًا )) ؛ هذه السرية خرجت من جيش بعثهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى نجد ، فلما غنمت قسم ما غنمت على الجيش والسرية ، فكانت سهمان ؛ كل واحد من الجيش والسَّرية اثني عشر بعيرًا ، اثني عشر بعيرًا ، ثم زيد أهل السَّرية بعيرًا بعيرًا ، فكان لكل إنسان من أهل السَّريه ثلاثة عشر بعيرًا ، ثلاثة عشر بعيرًا . بيّن ذلك ونصّ عليه أبو داود من حديث شعيب بن أبي حمزة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، ولهذا قال مالك ، وعامة الفقهاء : إن السَّرية إذا خرجت من الجيش فما غنمته كان مقسومًا بينها وبين الجيش . ثم إن رأى الإمام أن ينفلهم من الخمس جاز عند مالك ، واستُحبّ عند غيره . وذهب الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد : إلى أن النفل من جملة الغنيمة بعد إخراج الخمس ، وما بقي للجيش ، وحديث ابن عمر يرد على هؤلاء ، فإنه قال فيه : فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرًا ، اثني عشر بعيرًا ، ونفلنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعيرًا بعيرًا ، وظاهر مساق هذه الرواية : أن الذي قسَّم بينهم ، ونقلهم ، هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حين رجعوا إليه. وفي رواية مالك عن نافع : (( ونُفِّلُوا بعيرًا بعيرًا )) ، ولم يذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ومن رواية الليث عن نافع : ((ونفلوا سوى ذلك بعيرًا بعيرًا ، فلم يغيره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وفي كتاب أبي داود من حديث محمد بن إسحاق عن نافع قال : فأصبنا نعمًا كثيرًا ، فنفلنا أميرنا بعيرًا بعيرًا ، ثم قدمنا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقسم بيننا غنيمتنا ، فأصاب كل رجلٍ منا اثنا عشر بعيرًا ، اثنا عشر بعيرًا ، وما حاسَبَنا رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالذي أعطانا صاحبنا ، ولا عاب عليه ما صنع ، فكان لكل رجل ثلاثة عشر بعيرًا بنفله . وهذا اضطراب في حديث ابن عمر ، على أنه يمكن أن تحمل رواية من رفع ذلك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنه لما بلغه ذلك أجازه ، وسوَّغه . والله تعالى أعلم . أو تكون رواية عبيدالله عن نافع في(11/67)
الرَّفع وهمًا ، وبمقتضى رواية ابن إسحاق عن نافع قال الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد كما قدمناه آنفًا من مذهبهم ، لكن محمد بن إسحاق كذبه مالك ، وضغفه غيره .
وقوله : (( ونفلنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفلاً سوى نصيبنا من الخمس )) ؛ هذا المجرور الذي هو (( من الخمس )) هو في موضع الصفة لـ (( نفل )) ؛ يعني : أنه نفلهم نفلاً من الخمس ، وليس في موضع الحال من (( نصيبنا )) ؛ لأنه كان يلزم عليه أن يكون لهم نصيب في الخمس غير النفل ، ولم ينقل هذا بوجه ، ولا قاله أحدٌ فيما علمته .
و (( الشارف )) : المسن الكبير من النُّوق .
وقوله : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينفل بعض من يبعث من السَّرايا )) ؛ يدل : على أن ذلك ليس حتمًا واجبًا على الإمام ، وإنما ذلك بحسب ما يظهر له من المصلحة والتنشيط كما يقوله مالك . وقد كره مالك أن يحرض الإمام العسكر بإعطاء جزء من الغنيمة قبل القتال ؛ لما يخاف من فساد النية . وقد أجازه بعض السَّلف ، وأجاز النخعي ، وبعض العلماء أن تنفل السَّرية جميع ما غنمت . والكافة على خلافه .
وقوله : (( والخمس في ذلك واجب كله )) ؛ يعني : أن التخميس لا بُدَّ منه فيما غنمته السَّرية ، وفيما غنمه الجيش. وعلى هذا يكون ((كله )) مخصوصًا تأكيدًا لـ (( ذلك )) المجرور بـ (( في )) ، وقد قيدناه بالرفع على أن يكون تأكيدًا لـ (( الخمس )) المرفوع . وفيه بُعْدٌ . والله أعلم.
ومن باب للإمام أن يخص القاتل بالسَّلب
(( الجولة )) : الاضطراب . ويعنى به : انهزام المنهزمة يوم حنين على ما يأتي . وذكر بعض العلماء الإجماع على أنه لا يجوز أن يقال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ انهزم أو هُزِم ، ولم يرو ذلك أحد قط بل خلافه من الشباب والأقدام.
و (( حبل العاتق )) : هو موصل ما بين العنق والكاهل . وقيل : هو حبل الوريد . والوريد : عرق بين الحلقوم والعلباوَيْن .
(11/68)
وقوله : (( فضمني ضمة وجدت فيها ريح الموت )) ؛ أي : ضمة شديدة أشرف بسببها على الموت . وهي استعارة حسنة . وأصلها : أن من قرب من الشيء وجد ريحه .
وقوله : (( وجلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : من قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سلبه )) ؛ دليل : على أن هذا القول منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان بعد أن برد القتال ، وأما قبل القتال فيكره مالك أن يقول مثل ذلك ؛ لئلا تفسد نية المجاهدين . وهل قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك القول مُقَعِّدًا لقاعدة تمليك السلب للقاتل ، ومبيِّنًا لحكم الله تعالى في ذلك دائمًا ، وفي كل واقعة ؟ وإليه صار الليث ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والطبري ، والثوري ، وأبو ثور ، قالوا : السلب للقاتل ، قاله الإمام أو لم يقله ، غير أن الشافعي رحمه الله اشترط في ذلك : أن يقتله مقبلاً . واشترط الأوزاعي أن يكون ذلك قبل التحام الحرب .
أو قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جهة أن يبيِّن : أن للأمام أن يفعل ذلك إذا رآه مصلحة ؟ وإلى هذا ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، فقالا : إن السلب ليس بحق للقاتل ، وإنه من الغنيمة إلا أن يجعل الأمير ذلك له .
فأما الطائفة الأولى : فتمسَّكت بظاهر الحديث المتقدِّم ، وقصر الشافعي عموم قوله : (( من قتل قتيلاً )) على نحو ما وقع لأبي قتادة ؛ فإنه قتل الكافر مقبلاً ، ولذلك ضمه الضمة الشديدة ، وليس للأوزاعي على ما اشترط حجَّة من الحديث ، بل هو حجَّة عليه ؛ فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما قال ذلك بعد فراغ القتال .
(11/69)
وأما الطائفة الثانية : فإنهم ردُّوا ظاهر ذلك الحديث لما يعارضه ، وهو قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } فأضاف أربعة أخماس من الغنيمة للغانمين ، ولا يصلح قوله : (( من قتل قتيلاً فله سلبه )) للتخصيص ، للاحتمال الذي أبديناه . ومما تمسَّكوا به قضية أبي جهل الآتية بعد هذا ، وذلك : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لابني عفراء : ((كلاكما قتله )) ، ثم قضى بسلبه لأحدهما ، وهي نصٌّ في المقصود ، لا يقال : إن قضية أبي جهل متقدَّمة وقضية أبي قتادة متأخرة ، فتكون ناسخة ؛ لأنا لا نسلم التعارض لإمكان الجمع بين القضيتين ؛ لأن ذلك رأي رآه فيهما ، فاختلف الحال بحسب اختلاف الاجتهاد . والله تعالى أعلم .
ومما يعتضدُ به هؤلاء : أنه لو كان قوله : من قتل قتيلاً فله سلبه )) مقعدًا للقاعدة ، ومبيِّنًا لها ؛ لكان ذلك أمرًا معمولاً به عند الصحابة ، وخصوصًا الخلفاء الأربعة ـ رضى الله عنهم ـ ، فإنهم كانوا حضورًا في ذلك الموطن ، وقد انقرضت أعصارهم ، ولم يحكموا : بأن السلب للقاتل مطلقًا ، على ماحكاه ابن أبي زيد في "مختصره". هذا مع كثرة وقائعهم في العدو ، وغنائمهم ، وعموم الحاجة إلى ذلك . فلما لم يكن ذلك كذلك ؛ صح أن يقال : إن ذلك موكول لرأي الإمام . والله تعالى أعلم .
(11/70)
تفريع : لا شك في أن من كان مذهبه : أن السلب للقاتل : أنه لا يخمسه ، وإنما يملكه بنفس القتل المشهود عليه ، وأما من صار إلى : أن ذلك للإمام يرى فيه رأيه ، فاختلفوا ؛ هل يخمس أو لا يخمس ؟ فقال مالك ، والأوزاعي ، ومكحول : يخمس . وقاله إسحاق إذا كثر . ونحوه عن عمر ، وحكى ابن خواز منداد عن مالك : أن الإمام مخيَّر في ذلك كله. قاله القاضي إسماعيل . ما هو السلب ثم اختلفوا في السلب الذي يستحقه القاتل . فذهب الأوزاعي ، وابن حبيب الذي يستحقه القاتل ، فذهب الأوزاعي ، وابن حبيب من أصحابنا إلى أنه فَرسه الذي ركبه ، وكل شيء كان عليه من لبوس ، وسلاح ، وآلة ، وحلية له ولفرسه . غير أن ابن حبيب قال : إن المنطقة التي فيها دنانير ودراهم نفقته داخلة في السَّلب . ولم ير ذلك الأوزاعى . وقد عمل بقولهما جماعة من الصحابة . ونحوه مذهب الشافعي ، غير أنه تردد في السوارين ، والحلية ، وما في معناهما من غير حلية الحرب .
وذهب ابن عباس إلى أنه : الفرس ، والسِّلاح ، وهو معنى مذهب مالك . وشذَّ أحمد ، فلم ير الفرس من السَّلب ، ووقف في السَّيف . وللشافعي قولان فيما وجد في عسكر العدو من أموال المقتول ؛ هل هو من سلبه أم لا ؟ والصحيح : العموم فيما كان معه ، تمسّكًا بالعموم . والله تعالى أعلم .
(11/71)
وقوله : (( له عليه بينة )) ؛ قال بظاهره الليث ، والشافعي ، وبعض أصحاب الحديث ، فلا يستحق القاتل السلب إلا بالبيّنة ، أو بشاهدٍ ويمين. وقال الأوزاعي والليث بن سعد : ليست البيّنة شرطًا في الاستحقاق ، بل إن اتفق ذلك فهو الأولى رفعًا للمنازعة ، وإن لم يتفق كان للقاتل بغير بيّنة ، ألا ترى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى أبا قتادة سلب مقتوله من غير شهادة ، ولا يمين . ولا يكفي شهادة واحد ، ولا يناط بها حكم بمجردها ، لا يقال : إنما أعطاه إيَّاه بشهادة الذي هو في يده ، وشهادة أبي بكر ؛ لأن أبا بكر ـ رضى الله عنه ـ لم يُقم شهادة لأبي قتادة ، وإنما منع أن يُدفع السلب للذي ذكر أنه في يديه ، ويمنع منه أبو قتادة . ويخرج على أصول المالكية في هذه المسألة ، ومن قال بقولها : أنه لا يحتاج الإمام فيه إلى بينة ؛ لأنه من الإمام ابتداء عطيّة . فإن شرط فيها الشهادة كان له ، وإن لم يشترط ، جاز أن يعطته من غير شهادة . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( فأرضه من حقه يا رسول الله ! )) أي : أعطه ما يرضى به بدلاً من حقه في السَّلب . فكأنه سأل من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتركه له ، ويعطي أبا قتادة من غيره ما يرضى به .
وقول أبي بكر : (( لا ها الله إذًا )) ؛ الرواية هكذا (( إذًا )) بالتنوين . قال الخطابي : والصواب فيه : (( لا ها الله ذا )) بغير ألف قبل الذال . ومعناه في كلامهم : لا والله . يجعلون الهاء مكان الواو . والمعنى : لا والله لا يكون ذا . قال المازري : معناه : ذا يميني ، وذا قسمي . وقال أبو زيد : ((ذا )) صلة في الكلام .
وقوله : (( فبعت الدرع ، فاشتريت به مخرفًا )) ، قال القاضي أبو الفضل : رويناه بفتح الميم ، وكسرها . فمن كسره جعله مثل : يرْبَدٍ . ومن فتح جعله مثل : مضرَب .
ورويناه أيضًا بفتح الميم وكسر الراء كما قالوا : مَسكِر ومَسجِد أبو الفرج .
(11/72)
والمخرف : البستان الذي تخترف ثماره ؛ أي : تجتنى. فأما المخرف - بكسر الميم - فهو : الوعاء الذي يجمع فيه ما يُخترفُ .
و (( تأثلت المال )) : تملكته ، فجعلته أصل مالٍ . وأَثَلَةُ كل شيء : أصله.
وقوله : ((كلا ، لا نعطيه أضيبع من قريش )) ؛ كلا : ردع ، وزجر. وقد تكون بمعنى : لا ؛ كقوله تعالى حكاية عن موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : { كلا} ، في جواب قولهم : { إنا لمدركون }. وقد يكون استفتاحًا بمعنى : ألا ؛ كما قيل في قوله تعالى : { كلا كتاب إن الأبرار لفي عليين } ،
و (( أضيبع )) روايتنا فيه - وهي المشهورة - بالضاد المعجمة ، والعين المهملة ؛ وهو تصغير ضبع على غير القياس . فكأنه لما وصف الآخر بالأسديه ، صغر هذا بالنسبة إليه ، وشبهه بالضبع تصغيرًا له. ورواه السمرمندي : (( أصيبغ )) بالضاد المهملة ، والغين المعجمة ، فقيل : كأنه حقَّره ، وذمَّه لسواد لونه . وقال الخطابى : الأصيبغ نوع من الطير . قال : ويجوز أن يشبهه بنبات صغير ، يقال له : الصبغاء ، أول ما يطلع من الأرض فيكون ما يلي الشمس منه أصفر . وقال الهروي بمعناه. ومبادرة أبي بكر بالفتيا والرَّدع والنَّهي بحضرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإقرار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك ، وتصديقه على قوله ، شرفٌ عظيم ، وخصوصية لأبي بكر ليس لأحدٍ من الصحابة مثلها ، هذا مع أنه قد كان عدد من الصحابة نحو الأربعة عشر يفتون في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يعلم بهم ، ويقرهم ، لكن لم يُسمع عن أحدٍ منهم أنه أفتى بحضرته ، ولا صدر عنه شيء مما صدر عن أبي بكر في هذه القصة.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى على متأمِّل .
غريب حديث سلمة بن الأكوع :
قول سلمة : (( فبينا نحن نتضحَّى )) ؛ يعني : نتغدَّى في وقت الضحى - بالمد - قاله الخطابى وغيره . و(( الأفقق )) : الحبل ، وهو بفتح اللام .
و (( الحقب )) بفتح القاف ، والحقيبة : هو ما يجعله الرَّاكب خلفه .
(11/73)
و (( الضعَفَة ))- بفتح العين - : جمع ضعيف ، وا لأوْجَه والأصح : ((ضعْفَة )) ؛ أي : حالة ضعيفة ، وهزال . و(( يشتدُّ )) : يجري سريعًا. و(( قعد عليه )) ؛ أي : ركبه ؛ لأن الرَّاكب قاعد . و(( اخترطت السَّيف )) ؛ أي : سللته من غَمْدِه سريعًا . (( فندر )) ؛ أي : سقط ، وخرج عن جسده . ومنه : الشيء النادر ؛ أي : الخارج ، والرواية فيه بالنون والدال المهملة . والرحل للبعير كالسرج للفرس ، والإكاف للحمار .
وفيه من الفقه : أن السَّلب إنما يستحقه القاتل بإذن الإمام كما تقدَّم ؛ إذ لو كان واجبًا له بنفس القتل لما احتاج إلى تكرار هذا القول ؛ إذ قد تقرر الحكم في يوم حنين على زعم الخصم ، وعمل به .
وفيه : أن كل ما يكون على القتيل ، أو معه ، أو عليه سلب للقاتل.
وفيه : أن السَّلب لا يخمس .
وفيه حجة لمن قال من أهل العلم : أن للأمام أن ينفل جميع ما أخذته السَّرية من الغنيمة لمن يراه منهم ؛ إذ قد كان مع سلمة رجل على ناقة ؛ ولم يعطه من الغنيمة شيئًا ، وهذا إنما يتم للمحتج به إذا نقل : أنه لم يكن هناك غنيمة إلا ذلك السَّلب ، فلعلهم غنموا شيئًا آخر غير السَّلب ، فإن نقلوا ذلك تمسّكنا بقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } ، وقلنا : ذاك خاص بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وفيه : قتل الجاسوس ، ولا خلاف في ذلك إذا لم يكن معاهدًا ، أو مسلمًا . والمعاهد يقتل عندنا وعند الأوزاعي لنقضه العهد . وقال معظم الفقهاء : لا يكون ذلك نقضًا ، وأما المسلم فالجمهور على أن الإمام يجتهد فيه . وقال كبار أصحاب مالك : أنه يقتل ، واختلف في قبول توبته على ثلاثة أقوال ، يفرق في الثالث بين أن يكون معروفًا بذلك أو لا.
وفيه : التنويه بأهل الفضائل ، ومعرفة حق من فيه فضل وغناء .
ومن باب لا يستحق القاتل السَّلب بنفس القتل
(11/74)
قوله : (( تمنيت لو كنت بين أضلع منهما )) ؛ كذا الرواية ، بالضاد المعجمة ، والعين المهملة ، ووقع في بعض روايات البخاري : (( أصلح )) بالحاء ، والصاد ، مهملتين ، من الصلاح ، والأول أصوب . ومعنى ((أضلع )) : أقوى ، والضلاعة : القوة ، ومنه قولهم : هل يدرك الضالع شأو الضليع - بالضاد - ؛ أي : القوي ، والظالع - بالظاء المشالة- : هو الذي أصابه الظلع ، وهو ألَمٌ يأخذ الدَّابة في بعض قوائمها . وكأنه استضعفهما لصغر أسنانهما ، وتمنى أن يكون بين رَجُلين أقوى منهما.
وقوله : (( لا يفارق سوادي سواده )) ؛ أي : شخصي شخصه . وأصله : أن الشخص يرى على البعد أسود . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( حتى يموت الأعجل منذَا )) ؛ أي : الأقرب أجلاً ، وهو كلام مستعمل عندهم يفهم منه : أنه ملازمه ، ولا يتركه إلى وقوع الموت بأحدهما . وصدور مثل هذا الكلام في حالة الغضب والانزعاج يدل على صحة العقل ، وثبوت الفهم ، والتثبت العظيم في النظر في العواقب ؛ فإن مقتضى الغضب أن يقول : حتى أقتله ؛ لكن العاقبة مجهولة .
وقوله : (( فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس )) ؛ معنى لم أنشب : لم أشتغل بشيء . وهو من : نشب بالشيء ؛ إذا دخل فيه ، وتعلَّق به . و(( يزول )) ؛ أي : يجول ويضطرب في المواضع ، ولا يستقر على حال . وهو فعل من يعني الناس ، ويحرضهم . أو يجعل من أخذه الزويل ، وهو : الفزع والقلق . والأول أولى ؛ لرواية ابن ماهان لهذا الحرف : (( يجول )) بالجيم .
(( يزول في الناس )) هو المشهور ، وروي : (( يرفل )) ، وفي البخاري : ((يجول )) ، فمن رواه (( يزول )) أراد يتحرك وينزعج ، ولا يستقر على حال ، ولا في مكان ، و(( يجول )) نحوذلك ، ومن رواه (( يرفل )) ؛ أي يسبل ثيابه أو درعه ويجرها .
(11/75)
وقوله : (( هل مسحتما سيفيكما ؟ قالا : لا ، فنظر في السيفين فقال : كلاكما قتله )) ؛ هذا يدل على أن للإمام أن ينظر في شواهد الأحوال ليترجح عنده قول أحد المتداعيين ، وذلك أن سؤاله عن مسح السيفين إنما كان لينظر إن كان تعلق بأحدهما من أثر الطعام أو الدَّم ما لم يتعلق بالآخر ، فيقضي له ، فلما رأى تساويَ سيفيهما في ذلك قال : ((كلاكما قتله )) ، ومع ذلك فقضى بالسلب لأحدهما ، فكان ذلك أدل دليل على صحة ما قدَّمناه من مذهب مالك ، وأبي حنيفة . وقد اعتذر المخالفون عن هذا الحديث بأوجه :
منها : أن هذا منسوخ بما قاله يوم حنين . وهو فاسد لوجهين :
أحدهما : أن الجمع بينهما ممكن . كما قدمناه ، فلا نسخ .
والثاني : أنَّه قد روى أهل السِّير وغيرهم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال يوم بدر : (( من قتل قتيلاً فله سلبه )) ؛ كما قال يوم حنين. وغايته : أن يكون من باب تخصيص العموم على ما قلناه .
ومنها : أن بعض الشافعية قال : إنما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك ؛ لأنه استطاب نفس أحدهما . وهذا كلام غير محصل ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يستطيب الأنفس بما لا يحل . ثم كيف يستطيب نفس هذا بإفساد قلب الآخر ؟ هذا ما لا يليق بذوي المروءات ، فكيف بخاتم النبوات ؟!
ومنها : أنه لعله أن يكون رأى على سيف أحدهما من الأثر ما لم ير على الآخر ، فأعطاه السلب لذلك ، وقال : (( كلاكما قتله )) تطييبًا لقلب الآخر. وهذا يبطله قوله : (( كلاكما قتله )). والقتل هو السبب عند القائل . وظاهره التسوية في القتل ؛ فإن القائل إذا قال لمخاطبيه : كلاكما قال ، أو كلاكما خرج ، فظاهره المشاركة فيما نسب إليهما . ثم يلزم هذا القائل أن يجوّز على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التورية في الأحكام . والقول بذلك باطل ، وحرام .
(11/76)
وقوله : (( والرجلان : معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن عفراء )) ؛ هكذا الصحيح ، وقد جاء في البخاري من حديث ابن مسعود : أن ابني عفراء ضرباه حتى برك . وكأن هذا وهم من بعض الرواة لحديث ابن مسعود . وسبب هذا الوهم : أن عفراء هذه من بني النجار ، أسلمت وبايعت ، وكان أولادها سبعة ، كلهم شهد بدرًا ، وكانت عند الحارث بن رفاعة ، فولدت له : معاذًا ، ومعوّذًا ، ثم طلقها ، فتزوَّجها بكير بن عبد ياليل ، فولدت له : خالدًا ، وإياسًا ، وعاقلاً ، وعامراً ، ثم طلقها فراجعها الحارث ، فولدت له عوفًا ، فشهدوا كلهم بدرًا . فكأنه التبس على بعض الرُّواة معاذ بن عمرو بن الجموح بمعاذ بن عفراء وبمعوذ بن عفراء عند السكوت عن ذكر عمرو والد معاذ . والله تعالى أعلم ، وفي البخاري ومسلم : أن ابن مسعود هو الذي أجهز على أبي جهل ، واحتزَّ رأسه بعد أن جرى له معه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى .
وقول عوف بن خالد : (( هل أنجزت لك ما ذكرت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ )) كلام فيه نوع من التقصير ، والتهكم بمنصب الإمارة ، والإزراء عليه ، ولذلك غضب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك حين سمعه ، ثم أمضى ما فعله خالذ بقوله : (( لا تعطه يا خالد ! )) ، ونوَّه به ، وعظم حرمته بقوله : ((هل أنتم تاركو لي أمرائي ؟! )) وهذا يدل دلالة واضحة على : أن السَّلب لا يستحقه القاتل بنفس القتل ، بل برأي الإمام ونظره ، كما قدَّمناه .
(11/77)
وقوله : (( ادفعه إليه )) ؛ هو أمر على جهة الإصلاح ورفع التنازع ، فلما صدر من عوف ما يقتضي من منصب الإمارة أمضى ما رآه الأمير ؛ لأنه لم يكن للقاتل فيه حق . وهذا نحو مما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بماء الزبير ، حيث نازعه الأنصاري عليه في السقي ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اسق يا زبير ! وأرسل الماء إلى جارك )) ، فأغضب الأنصاري النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال للزبير : ((اسق يا زبير! وأمسك الماء حتى يبلغ الجدر )) ، فاستوفى للزبير حقه. وهذا الحديث من أصعب الأحاديث على القائل بأن السَّلب يستحفه القاتل بنفس القتل .
و (( استغضت )) هو مبنى لما لم يسم فاعله ؛ أي : أغضب ، زيدت فيه السين والتاء ، ومعناه : خلق فيه الغضب عندما سمع ما كرهه شيئًا فشيئًا ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( هل أنتم تاركو لي أمرائي )) ؛ هكذا الرواية بإسقاط النون من (( تاركو )) ، ولحذفها وجهان :
أحدهما : أن يكون استطال الكلمة كما استطيلت كلمة الاسم الموصول ، كما قال تعالى : { وخضتم كالذي خاضوا } ، على أحد القولين . وكما قال الشاعر :
أبني كليب إن عمي اللذا قتلا الملوك وفكك لأغلالا
والوجه الثاني : أن يكون (( أمرائي )) مضافًا ، وأقحم الجار والمجرور بين المضاف والمضاف إليه ، ويكون هذا من نوع قراءة ابن عامر : {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادَهم شركائِهم } ، بنصب { أولادهم } ، وخفض { شركائهم } ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وأكثر ما يكون هذا النوع في الشعر ، وكما أنشده سيبويه :
كما خط بكف يومًا يهودي يقارب أو يزيل
وكما أنشد :
فزججتها بمزجة زجّ القلوص أبي مزاده
ويفهم من هذا الحديث : احترام الأمراء ، وترك الاستطالة عليهم .
وقوله : (( استرعي رعية )) ؛ أي : كلف رعيها ورعايتها ، وهذا مثال مطابق للمُمثل به من كل وجه .
و (( الصفو )) : الصافي عن الكدر ، وهو عبارة عما يأخذه الناس بالقسم .
(11/78)
و (( الكدر )) : المتغير ، وهو مثال لما يبقى للأمراء ؛ لما يتعلق به من التبعات والحقوق . والله تعالى أعلم .
ومن باب التنفيل بالأسارى
التعريس : النزول من آخر الليل . و(( شن الغارة )) : فرقها وأرسلها ، وهو بالشين ، فأما (( سن الماء )) فهو بالسين المهملة ؛ أي : صبه . والعنق من الناس : الجماعة منهم . و(( القشع )) : النَّطع ، وفيه لغتان : كسر القاف وفتحها . وروي بالوجهين هنا ، وفي البخاري.
وقوله : (( فنفلني أبو بكر ابنتها )) ؛ أي : أعطانيها نافلة ؛ أي : زيادة من الخمس على سهمه من الغنيمة ، لما رأى من نجدته ، وغنائه .
وقوله : (( لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبًا )) ؛ يعني : أنه توقف عن الاستمتاع بها ينتظر براءتها ، أو إسلامها ، وسيأتي في النكاح قول الحسن : إن عادة الصحابة كانت إذا سَبَوُا المرأة لم يقربوها حتى تُسلم وتطهّر .
وقوله : (( لله أبوك )) ، العادة أن الشيء إذا أضيف إلى عظيم اكتسى عظمًا وشرفًا كما قيل : ناقة الله ، وبيت الله ، فإذا وجد من الولد ما يحسُنُ موقعه قيل : لله أبوك ؛ حيث أنجب بك وجاء بمثلك ؛ أي : أنه نجيب .
وقوله : (( لا أبا لك )) ؛ هو مدح ؛ أي : لا كافي لك ولا حُجْزي ، وقولهم : لا أم له ؛ ذمٌ ؛ أي : أنت لقيط لا تعرف أمك ، وقيل : لا أبا لك ؛ مدحًا ؛ أي : لا كافي لك غير نفسك ، وقد يكون ذمًّا ؛ أي : لا يُعرفُ أبوك ، وقيل : معنى لا أبا لك أي : جد في أمرك وشمر ، فإن من له أب ربما يتكل عليه ليكفيه بعض الأمور ، ومن لا له أب يتولى الأمور بنفسه فيحتاج إلى زيادة عناية ، فمعنى : لا أبا لك ؛ التخصيص والتحريض ، وقيل في قوله : لا أم لك ؛ أنه يكون مدحًا ، ويكون ذمًّا ، ويقال أيضًا : لا أبا لك ، في معنى : لا أبا لك ولا باك أيضًا من غير همز.
(11/79)
وقوله : (( فبعث بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مكة ففدى بها ناسًا من المسلمين )) ؛ حجَّة على أبي حنيفة ، حيث لم يجز للأمام المفاداة ، ولا الفداء بالأسير ، وعند مالك : أن الإمام مخيَّر في الأسارى بين خمس خصال : القتل ، والاسترقاق ، والمن ، والفداء ، والاستبقاء . وذلك هو الضحيح ، بدليل قوله تعالى : { فإما مَنًّا بعد وإما فداءً } ، ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل كل ذلك ، فكان الأسارى مخصوصين من حكم الغنيمة بالتخيير. والله تعالى أعلم .
ومن باب ما يخمس من الغنيمة وما لا يخمس
قوله : (( أيما قرية أتيتموها ، وأقمتم فيها ، فسهمكم فيها )) ؛ يعني بذلك - والله أعلم - : أن ما أجلي عنه العدو ، أو صولحوا عليه ، وحصل بأيدي المسلمين من غير قتال ، فمن أقام فيه كان له سهم من العطاء . وليس المراد بالسَّهم هنا : أنها تخمس ، فتقسم سُهمانًا ؛ لأن هذا هو حكم القِسم الآخر الذي ذكره بعد هذا ، حيث قال : (( وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ، ثم هي لكم )). تُقسم أخماسًا ، فيكون الخمس لله ورسوله ، وأربعة أخماسها لكم . يخاطب بذلك الغانمين . وهذا كما قال تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى} الآية . ولم يختلف العلماء في أن أربعة أخماس الغنيمة يقسم بين الغانمين . وأعني بالغنيمة ما عدا الأرضين ، فإن فيها خلافًا يذكر إن شاء الله تعالى .
(11/80)
وأما الأسارى(9) ففيهم الخلاف المتقدم . وأما الخمس والفيء : فهل يقسم في أصناف ، أو لا يقسم ؟ وإنما هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده ، فيأخذ منه حاجته من غير تقدير ، ويعطي القرابة منه باجتهاده ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين . وهذا هو مذهب مالك ، وبه قال الخلفاء الأربعة ، وبه عملوا ، وعليه يدل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس )) ، فإنه لم يقسمه أخماسًا ، ولا أثلاثًا . وأما من قال : بأنه يقسم فقد اختلفوا ، فمنهم من قال : يقسم على ستة أسهم : لله سهم ، وللرسول سهم ، وهكذا بقية الأصناف المذكورة في الآية . ثم منهم من قال : إن سهم الله يدفع للكعبة . وبه قال طاووس ، وأبو العالية . ومنهم من قال : للمحتاج . وأما سهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان له في حياته ، ثم هو للخليفة بعده . وقيل : يصرف في مصلحة الغزاة . وقيل : يرد على القرابة . وقال الشافعي : يقسم على خمسة . ورأى : أن سهم الله ورسوله واحد . ثم إنه يصرف في مصالح المسلمين. والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية . وقال أبو حنيفة : يقم على ثلاثة أسهم : سهم لليتامى ، وسهم لابن السبيل ، وسهم للمساكين ، فأما سهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسهم القرابة ، فقد سقط ؛ لأنه إنما كان لهم لغنائهم ونصرتهم ؛ لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يأخذه لبيوته فيكون لهم. وأما ذكر الله في أول الآية : فإنما فهو على جهة التشريف لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لئلا يأنف من الأخذ . هذا نقل حُذاق المصنفين.
(11/81)
قلت : ولا شك في أن الآية ظاهرها في قسمة الخمس على ستة ، ولولا ما استدل به لمالك من عمل الخلفاء على خلاف ظاهرها ، لكان الأولى التمسُك بظاهرها ، لكنهم ـ رضى الله عنهم ـ هم أعرف بالمقال ، وأقعد بالحال ، لا سيما مع تكرار هذا الحكم عليهم ، وكثرته فيهم . فإنهم لم يزالوا آخذين للمغانم ، قاسمين لها طوال مدتهم ؛ إذ هي عيشتهم ، ومنها رزقهم ، وبها قام أمرهم ؛ فكيف يخفى عليهم أمرها ، أو يشذ عنهم حكم من أحكامها ؛ هذا ما لا يظنُّه بهم من يعرفهم .
وقوله : (( كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله )) ؛ أفاء : أي : رد أموال على رسوله من أموال الكفار . وهذا يدل على : أن الأموال إنما كانت للمسلمين بالأصالة ، ثم صارت للكفار بغير الوجوه الشرعية ، فكأنهم لم يملكوا ملكًا صحيحًا ، لا سيما إذا تنزلنا على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، ومع ذلك فلهم شبهة الملك ؛ إذ قد أضاف الله إليهم أموالاً ؛ كما أضاف إليهم أولادًا ، فقال : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } ،
وقد اتفق المسلمون على : أن الكافر إذا أسلم وبيده مال غير متعين للمسلمين كان له ، لا ينتزعه أحدٌ منه بوجه من الوجوه . وسيأتي للمسألة مزيد بيان .
وقوله : (( مما لم يوجف عليه )) ؛ أي : يسرع . والإيجاف : الإسراع ، ووجيب الخيل : إسراعها . والرِّكاب : الإبل .
وقوله : (( فكانت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاصَّة )) ؛ هذا الحديث حجَّة لمالك على : أن الفيء لا يقسم ، وإنما هو موكول لاجتهاد الإمام ، والخلاف الذي ذكرناه في الخمس هو الخلاف هنا ، فمالك لا يقسمه ، وأبو حنيفة يقسمه أثلاثًا ، والشافعي أخماسًا .
(11/82)
وقوله : (( فكان ينفق على أهله نفقة سنة )) ؛ أي : يعطيهم قوت سنتهم ، كما في البخاري : (( أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يبيع نخل بني النضير ، ويحبس لأهله قوت سنتهم )). وأما لنفسه فما روي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه ادخر ، ولا احتكر ؛ وانما كان يفعل ذلك بأهله قيامًا لهم بحقوقهم . ودفعًا لمطالبتهم ، ومع ذلك فكان أهله يتصدقن ، وقل ما يمسكن شيئًا ، ولذلك ما قد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربما ينزل به الضيف فيطلب له شيئًا في بيوت أزواجه ، فلا يوجد عندهن شيء .
وفيه : ما يدل على جواز ادخار قوت العيال سنة ، ولا خلاف فيه إذا كان من غلَّة المدخر ، وأما إذا اشتراه من السُّوق ، فأجازه قوم ومنعه آخرون إذا أضر بالناس . وهو مذهب مالك في الاحتكار مطلقًا .
و (( الكراع )) : الخيل والإبل .
وقوله : (( قسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النَّقل للفرس سهمين وللرجل سهمًا)) ، رواه العذري ، والخشني : للراجل بالألف ، وغيرهما : بغير ألف. و(( النَّفل )) هنا : الغنيمة ؛ لأنها هي التي تقسم على الفارس والراجل بالسهام . وهذا الحديث حجَّة لمالك ، والجمهور على : أنه يقسم للفرس وراكبه ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم ، لا سيما على رواية : (( وللرجل )) فإنه يريد به راكب الفرس ، وأن الألف والسلام فيه للعهد . وقد روي من طريق صحيح عن ابن عمر : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم ، سهمًا له ، وتفرسه سهمين . ذكره أبو داود. وفي البخاري عن ابن عمر : جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا . ومن جهة المعنى : إن مؤن الفارس أكثر ، وغناؤه أعظم ، فمن المناسب أن يكون سهمه أكثر من سهم الرَّاجل . وشذ أبوحنيفة فقال : يقسم للفرس كما يقسم للرَّاجل. ولا أثر له يعضده ، ولا قياس يعتمده ، ولذلك خالفه في ذلك كبراء أصحابه ، كأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وغيرهما .
(11/83)
حمل أبو حنيفة رحمه الله حديث ابن عمر الواقع في "صحيح مسلم" للفرس سهمين ؛ أي : هو وفارسه ، وقال : لا أفضل بهيمة على مسلم ، فقيل : فلا تساوي بينهما ، ولم يقله غيره إلا شيء روي عن علي وأبي موسى رضي الله عنهما . وحديث البخاري وأبي داود راجع لذلك الاحتمال ، ولفظ ابن ماجه : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم : للفرس سهمان ، وللرجل سهم .
وقد ذكر أبو بكر بن أبي شيبة من حديث ابن عمر : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قسم للفارس سهمين ، وللراجل سهمًا . والصحيح من حديث ابن عمر ما خرَّجه البخاري ومسلم ، كما ذكرناه . ثم اختلفوا هل يسهم لأكثر من فرس واحد ، أو لا يسهم إلا لواحد ؟ فقال مالك : لا يسهم إلا لفرس واحد ؛ لأنه لا يقاتل إلا على فرس واحد ، وما عداه إنما هو قوة ، واستظهار .
وقال الجمهور ، وابن وهب ، وابن جهم - من أصحاب مالك - : يقسم(2) لفرسين ، ولم يقل أحدٌ : أنه يسهم لأكثر من فرسين ، إلا شيئًا روي عن سليمان بن موسى - وهو الأشدق - : أنه يسهم لمن عنده أفراس ، لكل فرس سهمان(4) ، وهو شاذ .
ومن باب ما يصرف فيه الفيء والخمس
(( تعالى النهار )) : ارتفع . و(( مفضيًا إلى رماله )) ؛ أي : لم يكن بينه وبين الحصير حائل يقيه آثار عيدانه ، ورُمال الحصير : ما يؤثر في جنب المضطجع عليه . ورملت الحصير : نسجته ، وقد تقدَّم .
و (( مال )) ترخيم مالك في النداء . و(( دف أهل أبيات )) ؛ أي : نزلوا بهم مسرعين ، محتاجين . وأصله من الدَّفيف ، وهو : السَّير السَّريع ، وكان الذي تنزل به فاقة يسرع المشي لتنجلي عنه .
و (( الرضخ ))- بسكون الضاد - : هو العطيه القليلة ، غير المقدرة .
و (( يرفأ )) مقصور ، وهو مولى عمر وآذنه .
وقوله : (( هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان ، وعبد الرحمن ؟ )) في الكلام خذف ، تقديره : هل لك إذن في هؤلاء ؟
(11/84)
وقول العبَّاس : (( اقض بيني وبين هذا الكاذب ، الآثم ، الغادر ، الخائن )) ؛ قول لم يرد به ظاهره ؛ لأن عليًّا ـ رضى الله عنه ـ منزة عن ذلك كله ، مبرأ عنه قطعًا ، ولو أراد ظاهره لكان محرَّمًا ، ولاستحال على عمر ، وعثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعد ، وهم المشهود لهم بالقيام بالحق وعدم المبالاة بمن يخالفهم فيه ، فكيف يجوز عليهم الإقرار على المنكر ؟! هذا ما لا يصح ؛ وإنما هذا قول أخرجه من العبَّاس الغضب ، وصولة سلطنة العمومة ، فإن العم صنو الأب ، ولا شكّ أن الأب إذا أطلق هذه الألفاط على ولده ؛ إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الإغلاظ ، والرَّدع مبالغة في تأديبه ، لا أنَّه موصول بتلك الأمور ، ثم انضاف إلى هذا : أنهم في محاجّة ولاية دينيه ، فكأن العباس يعتقد : أن مخالفته فيها لا تجوز ، وأن المخالقة فيها تؤدي إلى أن يَتصف المخالف بتلك الأمور ، فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه ، ولما علم الحاضرون ذلك لم ينكروه . والله تعالى أعلم .
وهذا التأويل أشبه ما ذكر في ذلك ، وإلا تَطرق الغلط لبعض النقلة لهذه القصة فيه بُعْد لحفظهم ، وشهرتهم ، والذي اضطرنا إلى تقدير أحد الأمرين ما نعلمه من أحوال تلك الجماعة ، ومن عظيم منازلهم في الدِّين ، والورع ، والفضل . كيف لا ، وهم من هم ـ رضى الله عنهم ـ ، وحشرنا في زمرتهم .
و (( أجل )) بمعنى : نعم . و(( اتَّئدوا )) بمعنى : تثبتوا ، وارفقوا .
وقول عمر : (( أنشدكم الله )) ؛ أي : أقسم عليكم بالله ، يخاطب الحاضرين .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا نورث ، ما تركنا صدقة )) ؛ جميع الرواة لهذه اللفظة في "الصحيحين" وفي غيرهما يقولون : (( لا نورث ))- بالنون - ، وهي نون جماعة الأنبياء ، كما قال : (( نحن معاشر الأنبياء لا نورث )).
(11/85)
و (( صدقة )) : مرفوع على أنه : خبر المبتدأ الذي هو : (( ما تركنا )) ، والكلام جملتان : الأولى : فعلية ، والثانية : اسمية . لا خلاف بين المحدثين في هذا . وقد صحَّفه بعض الشيعة ، فقال : (( لا يورث - بالياء - ما تركنا صدقة ))- بالنصب - ، وجعل الكلام جملة واحدة ، على أن يجعل ((ما )) مفعولاً لما لم يسم فاعله . و(( صدقة )) ينصب على الحال . ويكون معنى الكلام : إن ما يتركه صدقة لا يورث ، وإنما فعلوا هذا ، واقتحموا هذا المحرم ، لما يلزمهم على رواية الجمهور من إفساد قولهم ، ومذهبهم ، أنهم يقولون : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يورث كما يورث غيره ، متمسكين بعموم آية المواريث ، معرضين عمَّا كان معلومًا عند الصحابة من الحديث الذي يدل على خصوصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بأنه لا يورث .
وقد حكى الخطابي حكاية تدل على صحة مذهب أهل السُّنة ، وعلى بطلان مذهب أهل البدع : حكي عن ابن الأعراي : أن أبا العبَّاس السفاح قام في أول مقام قامه خطيبًا في قرية تسمى : العباسية بالأنبار ، حمد الله وأثنى عليه ، فلما جاء عند الفراغ ، قام إليه رجلٌ ، وفي عنقه المصحف ، فقال : يا أمير المؤمنين ! أذكرك الله الذي ذكرته ألا قضيت لي على خصمي بما في كتاب الله . فقال : ومن خصمك ؟ قال : أبو بكر الذي منع فاطمة فدك . فقال : هل كان بعده أحد ؟ قال : نعم . قال : ومن ؟ قال : عمر . قال : فأقام على ظلمكم ؟ قال : نعم. قال : فهل كان بعده أحد ؟ قال : نعم . قال : فمن ؟ قال : عثمان. قال : فأقام على ظلمكم ؟ قال : نعم . قال : فهل كان بعده أحد ؟ قال : نعم. قال : فمن ؟ قال : علي بن أبي طالب . قال : فأقام على ظلمكم ؟ قال : فأسكت الرجل ، وجعل يلتفت يمينًا وشمالاً يطلب مخلصًا . فقال أبو العباس : والله الذي لا اله إلا هو لولا ؛ أنه أول مقام قمته ، ولم أكن تقدمت إليك ، لأخذت الذي فيه عيناك ، اجلس . ثم أخذ في خطبته .
(11/86)
وحاصل هذه الحكاية : أن الخلفاء ـ رضى الله عنهم ـ علموا وتحققوا صحَّة قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا نورث ، ما تركنا صدقة )) ، وعملوا على ذلك إلى أن انقرضت أزمانهم الكريمة بلا خلاف في ذلك . فأما طلب فاطمة ميراثها من أبيها من أبي بكر ، فكان ذلك قبل أن تسمع فاطمة الحديث الذي دلَّ على خصوص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ، وكانت متمسكة بما في كتاب الله من ذلك ، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقفت عن ذلك ، ولم تعد عليه بطلب ، وأما منازعة علي والعباس ، فلم تكن في أصل الميراث ، ولا طلبًا أن يتملكا ما ترك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أموال بني النضير لأربعة أوجه :
أحدها : أنهما قد كانا ترافعا لأبي بكر في ذلك ، فمنعهما أبو بكر مستدلاً بالحديث الذي تقدَّم ، فلما سمعاه أذعنا ، وسكتا ، وسلَّما ، إلى أن توفي أبو بكر ، وولي عمر ، فجاءاه ، فسألاه أن يوليَهُما على النظر فيها ، والعمل بأحكامها ، وأخذها من وجوهها ، وصرفها في مواضعها ، فدفعها إليهما على ذلك ، وعلى ألا ينفرد أحدهما عن الآخر بعمل حتى يستشيره ، ويكون معه فيه ، فعملا كذلك إلى أن شق عليهما العمل فيها مجتمعين ، فإنهما كانا بحيث لا يقدر أحدهما أن يستقل بأدنى عمل حتى يحضر الآخر ، ويساعده ، فلما شق عليهما ذلك ، جاءا إلى عمر ـ رضى الله عنه ـ مرَّة ثانية ، وهي هذه الكرة التي ذكرت هنا ، يطلبان منه أن يقسمها بينهما ، حتى يستقل كل واحد منهما بالنظر فيما يكون في يديه منها ، فأبى عليهما عمر ذلك ، وخاف إن فعل ذلك أن يظن ظانٌّ أن ذلك قسمة ميراث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فيعتقد بطلان قوله : (( لا نورث )) ، لا سيما لو قسمها نصفين ، أفطن ذلك كان يكون موافقًا لسنة القسم في المواريث ؛ فإن من ترك بنتًا ، وعمًا ، كان المال بينهما نصفين : للبنت النصف بالفرض ، وللعم النصف بالتعصيب . فمنع ذلك عمر حسمًا للذريعة ، وخوفًا من ذهاب حكم قوله : (( لا نورث )).
(11/87)
والوجه الثاني : أن عليًّا لما ولي الخلافة لم يغيرها عما عُمل فيها في عهد أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، ولم يتعرض لتملكها ، ولا لقسمة شيء منها ، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان من قبله يصرفها فيها ، ثم كانت بيد حسن بن علي ، ثم بيد حسين بن علي ، ثم بيد علي بن الحسين ، ثم بيد الحسين بن الحسن ، ثم بيد زيد بن الحسن ، ثم بيد عبدالله بن الحسن ، ثم تولاها بنو العباس على ما ذكره أبو بكر البرقاني في" صحيحه". وهؤلاء كبراء أهل البيت ـ رضى الله عنهم ـ ، وهم معتمد الشيعة وأئمتهم ، لم يُرو عن واحد منهم : أنه تملكها ، ولا ورثها ، ولا ورثتْ عنه ، فلو كان ما يقوله الشيعة حقًّا لأخذها علي ، أو أحدٌ من أهل بيته لما ظفروا بها ، ولَمْ فلا .
والوجه الثالث : اعتراف علي والعبَّاس بصحة قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا نورث ، ما تركنا صدقة )) ، وبعلم ذلك حين سألهما عن علم ذلك ، ثم إنهما أذعنا ، وسلَّما ، ولم يبديا - ولا أحد منهما- في ذلك اعتراضًا ، ولا مدفعًا ، ولا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول : إنهما اتقيا على أنفسهما ، لما يعلم من صلابتهما في الدين ، وقوتهما فيه ، ولما يعلم من عدل عمر ، وأيضًا : فإن المحل محل مناظرة ، ومباحثة عن حكم مال من الأموال ، ليس فيه ما يفضي إلى شيء مما يقوله أهل الهذيان من الشيعة . ثم الذي يقطع دابر العناد ما ذكرناه من تمكن علي وأهل بيته من الميراث ، ولم يأخذوه ، كما قلناه.
والوجه الرابع : نصّ قول عمر لهما ، وحكايته عنهما في آخر الحديث ، حيث قال لهما : (( ثم جئتني أنت وهذا ، وأنتما جميع ، وأمركما واحد ، فقلتم : ادفعها إلينا ، فقلت : إن شئتم دفعتها إليكما ، على أن عليكما عهدالله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأخذتماها بذلك ، قال : أكذلك ؟ قالا : نعم )). وهذه نصوص منهم على صحة ما ذكرناه.
(11/88)
وإنما طوَّلنا الكلام في هذا الموضع لاستشكال كثير من الناس لهذا الحديث ، وللآتي بعده ، ولخوض الشيعة في هذا الموضع ، ولتقوّلهم فيه بالعظائم على الخلفاء البررة الحنفاء .
وقول عمر : (( إن الله خصَّ رسوله بخاصية لم يخصص بها أحدًا غيره )). يعني بذلك أن الله تعالى أحلّ له الصفية وطيبه له ، ولم يحل ذلك لأحد من الأنبياء قبله كما قال في الغنيمة : (( أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي )) ، وليس معنى ذلك أن عمر كان يعتقد أن الله خصّ الرسول بهذاالفيء المعين فيصرفه حيث شاء فتكون وجه الخصوصية أنه لا يخمسه ولا يقسمه بخلاف غيره من الفيء فإنه يقسم عند الشافعية على خمسة ، وعند الحنفي على ثلاثة ، وعند مالك يقسم على الاجتهاد ، لأنا نقول ذلك فاسدٌ من وجهين :
أحدهما : أن الآية التي استدل بها عمر على خصوصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك مصرّحة بالقسم فإنه قال فيها : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمسكين وابن السبيل }. وحينئذ كانت تكون الآية مصرحة بنقيض مقصوده.
والوجه الثاني : أن عمر المصرح بالخصوصية حكم في كل فيء بالقسمة ، ولما قرأ عمر هذه الآية إلى قوله : { والذين جاؤوا من بعدهم} قال : أرى هذه الآية قد استوعبت الناس كلهم حتى الراعي بعدل ، ونص بعدم الخصوصوية في الآية فوجه الخصوصية التي ذكر ما قلناه والله أعلم . وقد ذكرنا في كتاب الزكاة الفقير والمسكين وابن السبيل ، فأما ذوو القربى فهم قرابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . واختلف فيمن هم ؛ فالجمهور على أنهم بنو هاشم وبنو المطلب ، وذهب بعض السلف إلى أنهم قريش ، ثم هل يستحقه الفقراء منهم خاصة دون الغنياء أم جميعهم ؟ ثم هل يقسم بينهم على السواء أم على حكم قسمة المواريث ، ومذهب الشافعي أنه حق لهم فيستوي فيه صغيرهم وكبيرهم ، غنيهم وفقيرهم ، لذكرهم سهمان ، وللأنثى سهم ، ومذهب عليّ قسمته على ما يؤدي إليه اجتهاد الإمام.
(11/89)
وقول عمر : (( والله لا أقضي بينكما بغير ذلك )) ؛ أي : لا أولي أحدكما على جزء منها ، والآخر على جزء آخر . وهذا هو الذي طلبا على ما قررناه .
وقوله : (( فإن عجزتما عنها )) ؛ أي : عن القيام بها مجتمعين ، كما قررناه . وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى على متأمّل فطن .
ومن باب تصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما وصل إليه من الفيء والخمس
ويأتي العذر لفاطمة عن طلبها ميراثها من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد هذا.
وقوله : (( مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك )) ؛ كانت الأراضي التي تصدق بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تصرف إليه بثلاثة طرق :
أحدها : ما وضى له به عند موته مُخَيْريق اليهودي لئا أسلم يوم أحد ، وكانت سبعة حوائط في بني النضير . وما أعطاه الأنصار من أرضيهم .
والثاني : حقه من الفيء من سائر أرض بني النضير ، حين أجلاهم ، وكذلك نصف أرض فدك ، صالح أهلها على النصف بعد حنين ، وكذلك ثلث أرض وادي القرى ، صالح عليه يهود ، وكذلك حصنان من حصون خيبر : الوطيح ، والسلام ، فتح أحدهما صلحًا ، وأجلى أهلها .
والثالث : سهمه من خمس خيبر ، وما افتتح منه عنوة ، وهو حصن الكتيبة ، خرج كله في خمس الغنيمة منها ، وأقسم الناس سائرها ؛ حكاه أبو الفضل عياض . فهذه الأراضي التي وصلت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كان يأخذ منها حاجة عياله ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين . وهي التي تصدق بها ، حيث قال : (( ما تركت بعد نفقة نسائي ، ومؤنة عاملي فهو صدقة )). فلما مات عمل فيه أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ كذلك ، ثم عمر ، ثم عثمان ، غير أنه يُروى : أن عثمان أقطع مروان فدك ، وهو مما نُقم على عثمان . قال الخطابي : لعل عثمان تأؤل قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا أطعم الله نبيًا طُعمةً فهي للذي يقوم من بعده )) ، فلما استغنى عثمان عنها بماله ، جعلها لأقربائه .
قلت : وأولى من هذا : أن يقال : لعل عثمان دفعها له على جهة المساقاة ، وخفي وجه ذلك على الراوي ، فقال : أقطع . والله تعالى أعلم .
(11/90)
وقوله : (( إنما يأكل آل محمد في هذا المال )) ؛ يعني هنا بآل محمد : نساءه ، كما قال في الحديث الآخر : (( ما تركت بعد نفقة نسائي )).
وقوله : (( فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئًا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، فهجرته ، فلم تكلمه )) ؛ لا يظن بفاطمة رضي الله عنها أنها اتهمت أبا بكر فيما ذكره عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لكنها عظم عليها ترك العمل بالقاعدة الكلية ، المقررة بالميراث ، المنصوصة في القرآن ، وجوّزت السهو والغلط على أبي بكر ، ثم إنها لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولملازمتها بيتها ، فعبَّر الراوي عن ذلك بالهجران ، وإلا فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث )) ، وهي أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم ، وأبعد الناس عن مخالغة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كيف لا يكون كذلك وهي بضعة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وسيدة نساء أهل الجنة ؟
ودفْنُ علي لفاطمة ليلاً ، يحتمل أن يكون ذلك مبالغة في صيانتها ، وكونه لم يؤذن أبا بكر بها ؛ لعله إنما لم يفعل ذلك لأن غيرَه قد كفاه ذلك ، أو خاف أن يكون ذلك من باب النعي المنهي عنه ، وليس في الخبر ما يدل على : أن أبا بكر لم عنها يعلم بموتها ، ولا صلَّى عليها ، ولا شاهد جنازتها ، بل اللاق بهم ، المناسمث لأحوالهم حضور جنازتها ، واغتنام بركتها ، ولا تسمع أكاذيب الرَّافضة المبطلين ، الضالين ، المضلين.
وقوله : (( وكان لعلي من الناس جهة حياة فاطمة )) ؛ جهة ؛ أي : جاه واحترام ، كان الناس يحترمون عليًّا في حياتها كرامة لها ؛ لأنها بضعة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو مباشر لها ، فلما ماتت وهو لم يبايع أبا بكر ، انصرف الناس عن ذلك الاحترام ، ليدخل فيما دخل فيه الناس ، ولا يفرق جماعتهم . ألا ترى أنه لما بايع أبا بكر أقبل التاس عليه بكل إكرام وإعظام ؟!
(11/91)
وقوله : (( فلم يكن علي بايع تلك الأشهر )) ؛ يعني : الستة الأشهر التي عاشتها فاطمة بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا يظن بعلي أنه خالف الناس في البيعة ، لكنه تأخر عن الناس لمانعٍ منعه ، وهو الموجدة التي وجدها حيث استُبِدَّ بمثل هذا الأمر العظيم ، ولم يُنتظر مع أنه كان أحق الناس بحضوره ومشورته لكن العذر للمبايعين لأبي بكر على ذلك الاستعجال مخافة ثوران فتنة بين المهاجرين والأنصار كما هو معروف في حديث السقيفة ، فسابقوا الفتنة فلم يتأت لهم انتظاره لذلك ، وقد جرى بينهما في هذا المجلس من المحاورة والمكالمة ، والإنصاف ما يدل : على معرفة بعضهم بفضل بعض ، وأن قلوبهم متفقة على احترام بعضهم لبعض ، ومحبة بعضهم لبعضٍ ما يشرق به الرافضي اللعين ، وتُشرق قلوب أهل الدِّين .
والنفاسة هنا : الحسد . و(( أزيغ )) : أميل عن الحق .
وقوله : (( فغلبه عليها علي )) ؛ يعني : على الولاية عليها ، والقيام بها . وكان العباس رأى عليًّا أقوى عليها ، وأضلع بها ، فلم يعرض له بسببها ، فعبَّر الراوي عن هذا بالغلبة ، وفيه بُعْد .
و (( تعروه )) : تنزل به .
وقوله : (( قال : فهما على ذلك إلى اليوم )) ؛ يعني : إلى يوم حدَّث الراوي بهذا الحديث ، وقد ذكرنا زيادة البُرقاني في هذا المعنى .
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى .
ومن باب الإمام مُخيَّر في الأسارى
(( بدر )) : اسم بئر لرجل يقال له : بدر ، فسُمِّي البئر به . قاله الشافعي.
وقوله : (( وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر )) ؛ هذه رواية شاذّة ، والمشهور بين أهل التواريخ : أن جميع من شهد بدرًا مع من ضرب له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسهمه وأجره في عدد ابن إسحاق : ثلاثمائة وأربعة عشر . وفي عدد موسى بن عقبة : ثلاثمائة وستة عشر .
وقوله : (( فجعل يهتم بربه )) ؛ أي : يرفع صوته . يقال : هتف يهتف : إذا رفع صوته بدعا أو غيره .
(11/92)
وقوله : (( اللهم أنجز ما وعدتني )) ؛ أي : عجِّل لي ما وعدتني من النصر ، وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يبين له وقت نصره ، فطلب تعجيله .
وقوله : (( اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض )) ؛ العصابة : الجماعة من الناس . واعصَوْصَب القوم : صاروا عصابة ، وعصب القوم بفلان ؛ أي : أحاطوا به ، وبه سُميت قرابة الرَّجل : عصبة. وقد أشكل هذا الحديث على طوائف من العلماء . ووجة الإشكال : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشار إلى أصحابه من أهل بدر ، مع أنه قد كان انتشر الإسلام بمكة والمدينة ، وكثر أهله في مواضع كثيرة ، بحيث يكون أهل بدر بالنسبة إليهم قليلاً ، وعلى تقدير هلاك هؤلاء المشار إليهم ، فيبقى من كان بالمدينة من المسلمين وبمكة وغيرهما من المواضع التي أسلم أهلها . ولو لم يكن في الوجود مسلم غير أهل بدر تقديرًا ، ففي الإمكان إيجاد قوم آخرين يعبدون الله ، والقدرة صالحة لذلك ، كما قال تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }. وإذا كانت قدرة الله صالحة لهذا ، فمن أين يجزم بذلك ؟ ومن أين يلزم من هلاك هؤلاء عدم عبادة الله تعالى في الأرض ؟
وقد رسخ هذا الإشكال عند بعض المتشدِّقين وقال : إنها بادرة بدرت من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقدَّر معاتبةً له من الله له على ذلك في كلام تفاصح فيه ، فعدّ ذلك من زلاَّت هذا القائل ؛ إذ قد جهل من حال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما نزهه القة عنه بقوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى} ، وقد قال حين قال له عبدالله بن عمرو : أنكتب عنك في السخط والرضى ؟ قال : (( نعم ، لا ينبغي لي أن أقول إلاَّ حقًّا )).
وقد انفصل أهل التحقيق عن ذلك بأوجهٍ :
أحدها : أنه يحتمل أن يكون قال ذلك عن وحي أوحي إليه بذلك ، فمن الإشكال الجائز أن يكون : لو هلكت تلك العصابة في ذلك الوقت على يدي عدوهم ؛ أن يفتتن غيرهم ، فلا يبقى على الأرض مسلم يعبد الله ، ثم لا يبعث نبي آخر ، وتنقطع ا لعبادة .
(11/93)
والثاني : أن هذا اللفظ وهم من بعض الرُّواة في حديث عُمَر ؛ وإلا فقد روي هذا الحديث من جهات متعددة من حديث أنس وابن عباس ، وليس فيها هذا اللفظ ، وإنما فيها : (( اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض )). وقد تقدم الكلام عليه .
وثالثها : أن هذه العصابة ليس المراد بها الحاضرون في بدر فقط ، بل المسلمون كلهم في المدينة وغيرها . وسماهم عصابة بالنسبة إلى كثرة عدوهم ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( عُصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض ، بيت كسرى )). فقلّلهم بالنسبة إلى عدوهم ، فكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما علم أنه لا نبي بعده ، وقدَّر في نفسه الهلاك عليه وعلى كل من آمن به ، ونظر إلى سنة الله في العبادة التي لا تُتلقّى إلا من جهة الأنبياء ، لزم من ذلك نفي العبادة جزمًا ، والله تعالى أعلم . وهذا أحسن الأوجه ، وأولاها .
(11/94)
وقوله : (( فما زال يهتم بربه ، مادًّا يديه ، مستقبل القبلة ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيام بوظيفة ذلك الوقت من الدُّعاء والالتجاء إلى الله تعالى ، وتعليم لأمته ما يلجؤون إليه عند الشدائد والكرب الواقعة بهم ، فإن ذلك الوقت كان وقت اضطرار وشدة ، وقد وعد الله المضطر بالإجابة ، حيث قال : { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} ؛ يعني : عن المضطر عند الدُّعاء ، فقام بعبادة ذلك الوقت ، ولا يلزم من اجتهاده في الدعاء في ذلك الوقت أن يكون ارتاب في أن الله سينجز له ما وعده به ، كما ظهر مما وقع لأبي بكر ـ رضى الله عنه ـ ؛ حيث قال له : (( كفاك مناشدتك ربك ؛ فإنه سينجر لك ما وعدك )). كما لا يلزم من دعائه في أن يدخله الله الجنة ، وينجيه من النار ، ويغفر له ذنوبه أن يكون في شك من شيء من ذلك ، فإن الله قد أعلمه قطعًا أنه يدخله الجنة وينجيه من النار ، ويغفر له ، لكنه قام بحق العبودية من إظهار الفاقة ، وامتثال العبادة ؛ فإن الدعاء مخ العبادة ، فقلبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستغرق بمعرفة الواعد ، وإنجاز الموعود ، ولسانه وجوارحه مستغرقة بالقيام بحق عبادة المعبود ، فقام في كل جارحة بوظيفتها ، ولكل عبادة بحقيقتها . وسقوط ردائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن منكبيه أوجبه غيبة عن ظاهره بما وجده في باطنه . وردُّ أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ رداء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على منكبيه بعد سقوطه أوجبه مراعاة أبي بكر أحوال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى تتحفظ عليه محاسن آدابه والتزامه إيَّاه ، وتثبيته له بما قاله له أوجبه فرط محبته ، وشفقته ، وقصرُ نظره على ظاهره ، مع ذهوله بما استغرقه من ذلك عن الالتفات إلى ما ذكرناه من المعاني والأسرار التي لاحت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في باطنه .
(11/95)
ولا يظن أحدٌ أن أبا بكر ـ رضى الله عنه ـ كان في تلك الحالة أقوى من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأوثق بما وعده الله به من النصر ، فإن ذلك ظن من لم يعرف محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حق معرفته ، ولا قدره حق قدره . وكيف يصير إلى غير هذا المعنى من سمع قوله له في الغار ويوم سراقة : { لا تحزن إن الله معنا } ، وكيف يظن ذلك من يعلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيد ولد آدم ، وأكملهم وأقواهم ، ولو وزن بجميع أمته لرجحهم ، وبلا شك أن الأنبياء أفضل الناس ، وأعلمهم بالله وبحدوده . ولا شك في أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل الأنبياء وأجلهم. وإذا كانت هذه حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الأنبياء ، فحاله مع من ليس بنبي أعلى وأكمل ، وهو فيها أقوى. وكيف لا يكون في هذه القصة حاله أتم ، وأقوى من حال أبي بكر ؟ وقبل ذلك الوقت بيسير كان قد أخبر أصحابه : بأن الله ينصره على عدوه ذلك ، ذلك حتى أراهم مصارعَهُم واحدًا واحدًا باسمه وعينه ، فكان الأمر كما ذكر ، فثبت ما قلناه .
وقوله : (( كفاك مناشدتك ربك )) ؛ هكذا رواية العذري : (( كفاك )) بالفاء ، ورواية الكافة : (( كذاك مناشدتك ربك )). ورواه(6) البخاري : ((حسبك )). وكلها متقاربة ، إلا أن : (( كذاك )) ، بابها باب الإغراء ، كإليك ، كما أنشدوا :
يقلن وقد تلاحقت المطايا كذاك القول إنَّ عليك عينًا
والرواية : (( مناشدتك )) بالرفع على أنه فاعل بما في كفاك ، وكذاك من معنى الفعل . وقد ضبط عن أبي بحير بالنصب على المفعول ، ويكون الفاعل مضمرًا في الأمر المقدَّر الذي ناب (( كذاك )) عنه .
وقوله تعالى : { إذ تستغيثون ربكم } ؛ أي : تطلبون منه الغوث ، وهو النصر { فاستجاب لكم} ؛ أي : أجاب.{ ممدكم} : مقوِّيكم ومعينكم .{ مردفين }- بفتح الدال- اسم مفعول ؛ أي : أردف الله بهم المسلمين . وبكسر الذال : اسم فاعل . قال أبو علي : يحتمل وجهين :
أحدهما : مردفين مثلهم . يقال : أردفت زيدًا دابتي ، فيكون المفعول الثاني محذوفًا .
(11/96)
والثاني : أن يكون المعنى : جاؤوا بعدكم . تقول العرب : بنو فلان مردفونا ؛ أي : يجيئون بعدنا .{ من فورهم } : وجههم وحينهم . و{ مسوَّمين }- بفتح الواو - : اسم مفعول ؛ أي : معلمين ، من السِّيما ، وهي العلامة ؛ أي : قد علّموا بعلامه . وبكسر الواو : اسم فاعل ؛ أي : علّموا أذناب خيلهم بصوف أبيض ، وقيل : أنفسهم بعمائم صفر .
وقوله : (( أقدم حيزوم )) ؛ ضبط عن أبي بحير بضم الذال من : (( أقْدَم )) ، فيكون من القدوم ، بمعنى التقدم ، كقوله تعالى في فرعون : { يقدم قومه يوم القيامة } ؛ أي : يتقدمهم إلى النار . وقاله ابن دريد بقطع الألف ، وكسر الدال ، من الإقدام . وعند الجمهور : (( حيزوم )) بالميم ، وهو اسم ملك . وفي رواية العذري : (( حيزون )) بالنون ، والأول المعروف .
و (( خطم أنفه )) ؛ أي : أثر فيه أثرًا كالخطام ، وهو الزمام ، إلا أنَّه أرق منه ، والخطم والخرطوم : الأنف .
وقوله : (( ذلك من مدد السماء الثالثة )) ؛ أي : من ملائكة السَّماء الثالثة التي أمدوا بهم . وهذا يدل على أنهم كانوا أمدوا بملائكة من كل سماء . ويدل هذا الخبر على أن الملائكة قاتلت يومئذ ، وهو قول أكثر أهل العلم .
(11/97)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه : (( ماترون في هؤلاء الأسارى )) ؛ يدل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان أوحي إليه في أمرهم بشيء ، فاستشارهم لينظروا في ذلك بالنظر الأصلح ، فاختلف نظر أبي بكر وعمر . فمال أبو بكبر إلى الإبقاء طمعًا في إسلامهم ، وإلى الفداء ليكون ذلك قوة عليهم . ومال عمر إلى القتل محْقًا للكفر ، وقصاصًا منهم ، وردعًا لأهله ، فمال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ما قال أبو بكر على مقتضى رأفته ورحمته بالمؤمنين ؛ ليتقووا على عدوهم ، وعلى مقتضى حرصه على إيمان من أسر منهم . وكل من النظرين له أصول تشهد بصحته ، بل نقول : إن نظر أبي بكر يشهد لصحته قضية سرية عبد الله بن جحش ، وكانت قبل بدر بنحو ثلاثة أشهر ، قتل فيها ابن الحضرمي ، وأسر عثمان بن عبدالله ، والحكم بن كيسان ، وأخذوا عيرهم ، وقدموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقبل فداء الأسيرين . ولما عظم على الناس قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، سألوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام} ، الآية ، وسوَّغ الله لهم الفداء ، فكان ذلك دليلاً على صحة ما اختاره أبوبكر ، وكذلك مال إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهويَه . وعند هذا يشكل ما جاء في آخر هذا الحديث من عتب الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله تعالى : {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة )).
ووجه هذا الإشكال : أن هذا الاجتهاد الذي صدر من أبي بكر ، ووافقه عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إما أن يكون الله قد سوَّغه لهم أو لا . فإن كان الأولى ، فكيف يعاقبون ، ويتوعدون على ما سوّغ لهم ؟ وإن لم يكن مسوَّغًا ، فكيف يقدموا عليه ، لا سيما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قد برأ الله نطقه عن الهوى ، واجتهاده عن الخطأ ؟!
ولما أشكل هذا اختلفت أجوبة العلماء عنه ، فقيل فيه أقوال :
(11/98)
أحدها : أنهم أقدموا عليه لأنه أمر مصلحي دنيوي ، والأمور المصلحية الإقدام عليها مسوّغ ، ولا يعد في العتب على تركهم المصلحة الراجحة وإن كانت دنيوية . وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما : أن هذا الاجتهاد منهم إنما كان في أمر شرعي حكمي ؛ لأنه يقتضي سفك دماء واستباحة أموال ، وإرقاق أحرار ، وهذه لا تستباح إلا بالشرع .
وثانيهما : أن العتب الشرعي لا يتوجه على ترك مصلحة دنيوية لا يتعلق بها مقصود شرعي ، كما لم يتوجه على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عتب في قضية إبار النخل ، وإن كان عدلَ فيه عن المصلحة الدنيوية الراجحة ، وهذا من نوع الأول .
الثاني : إنهم إنما عوتبوا ؛ لأن قضية بدر عظيمة الموقع ، والتصرف في صناديد قريش وساداتهم وأموالهم بالقتل ، والاسترقاق ، والتملك ، ذلك كله عظيم الموقع ، فكان حقهم أن ينتظروا الوحي ، ولا يستعجلوا ، فلما استعجلوا ، ولم ينتظروا توجه عليهم ما توجه . وهذا أيضًا فاسد ؛ لأنه لا يلزم منه أن يكونوا أقدموا على ما لا يجوز لهم شرعًا ، ووافقهم على ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وكل ذلك عليهم مُحال بما قدّمناه من وجوب عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخطأ في الشريعة ومن ظهور الأدلة المرجحة بما قذمناه .
الثالث : أن ذلك إنما توجه على من أراد بفعله عرض الدنيا ، ولم يرد الدِّين ، ولا الدَّار الآخرة . بدليل قوله تعالى : { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة } ، ولم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا أبو بكر ، ولا من نحا نحوهما ممن يريد عرض الدنيا ، فالوعيد ، والتوبيخ والوعيد متوجهان إلى غيرهم ممن أراد ذلك . وهذا أحسنها . والله تعالى أعلم .
وبكاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر لم يكن ؛ لأنهما دخلا فيمن توعد بالعذاب ، بل شفقة على غيرهما ممن توعد بذلك ؛ بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة )) ، لا ستما وقد أوحي إليه : أنه يقتل منهم عامًا قابلاً مثلهم. فبكى لذلك .
(11/99)
وأما قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ، فليس بتوبيخ ، ولا ذم ، وإنما هو من باب التنبيه على أن القتل كان الأولى ، والأردع ، مع أنه ما كان الله تعالى تقدَّم له في ذلك بشيء ، كما قررناه. وهذا من باب قوله تعالى : { عفى الله عنك لم أذنت لهم } ، فقدَّم العفو على المعاتبة ؛ إذ لم يتقدَّم له في إذنهم بشيء ، والله تعالى أعلم .
و (( الإثخان )) : إكثار القتل ، والمبالغة فيه ، ومنه الثخانة في الثوب ، وهي : غلظة وكثرة سداه . و(( الأسرى )) : جمع أسير ، وأصل الأسر : الشدّ والرَّبط . وقرأ أبو جعفر : (( أسارى )). قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : أسارى ، وأهل نجد يقولون : أسرى في أكثر كلامهم ، وهو أصوبها في العربية ؛ لأنه بمنزلة : جريح ، وجرحى. قال الزجاج : فعْلى : جمع لكل ما أصيب به الناس في أبدانهم ، وعقولهم . يقال : هالك وهلْكى ، ومريض ومرْضى . ومن قرأ : { أسارى } فهو جمع الجمع ؛ لأن جمع أسير : أسرى . وجمع أسرى : أسارى . قال أبو عمرو : أسارى في القدّ ، وأسرى في اليد .{ والله عزيز} في قهر الأعداء { حكيم } في عتاب الأولياء .
وقوله تعالى : { لولا كتاب من الله سبق } ، فيها أربعة أقوال :
أحدها : لولا أنه سبق في أم الكتاب : أنه سيحل لهم الغنائم والفداء ؛
قاله ابن عباس .
الثاني : لولا ما سبق لأهل بدر من أنه لا يعذبهم ؛ قاله الحسن .
الثالث : لولا ما سبق من أنه لا يعذب من غير أن يتقدَّم بالإنذار ؛ قاله ابن إسحاق .
الرابع : لولا ما سبق من أنه يغفر لمن عمل الخطايا ممن تاب ؛ قاله الزجاج .
فيتخرَّج على هذه الأقوال في { الكتاب } قولان :
أحدهما : أنه كتاب مكتوب .
والثاني : أنه قضاء مقضى .
وقد أفاد هذا الحديث : أن الإمام مخير في الأسارى بين الفداء ، والقتل ، والمن ، فإنه قتل منهم ، وفدى ، ومَنَّ . وقد سوَّع الله تعالى لهم كل ذلك . وقد استوفينا هذا المعنى فيما تقدَّم .
(11/100)
وقول أبي جهل : (( لو غير أكّارٍ قتلني )) ؛ الأكّار : الزرّاع ، يغص ممن قتله كبرًا وأنفة ، ويتمنى أن لو كان قتله على يدي أعظم منهم .
و (( برد )) بمعنى : سكن .
وقوله : (( وهل فوق رجل قتلتموه )) ؛ أي : لا أعظم منه . وفي بعض طرق هذا الحديث : وهل أعمدُ من رجل قتله قومه ؛ أي : أعظم شؤددًا. وعميد القوم : سيدهم ؛ لأنهم يعتمدون عليه في أمورهم .
وهذا الحديث يدل على أن ابني عفراء قتلا أبا جهل ؛ أي : أنفذا مقاتله ، وأن عبد الله بن مسعود أجهر عليه . وفي كتاب أبي داود : أن ابن مسعود قتله ، ونفله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيفه ؛ ويعني بذلك أنه أجهز عليه . وعلى هذا : يرتفغ التناقض بين هذه الأحاديث . والله أعلم .
ومن باب المن على الأسارى
(( النَّجد )) : المرتفع من الأرض ، والغور : ما انخفض منها . و(( اثال )) : أبو ثمامة - بضم الهمزة فيما أعلم -.
وقوله : (( فربطوه بسارية من سواري المسجد )) ؛ بهذا تمسَّك الشافعي على جواز دخول الكفار المساجد ، واستثنى من ذلك مسجد مكة وحرمها . وخص أبو حنيفة هذا الحكم بأهل الكتاب لا غير . ومنع مالك رحمه الله دخول الكفار جميع المساجد والحرم . وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، والمزني . ويستدل لهم بقوله تعالى : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرم } ، ووجه التمسّك بها : أنه نبَّه على أن منعهم دخول المسجد الحرام إنما كان لنجاستهم ، وهذا يقتضي تنزية المساجد عنهم ، كما تنره عن سائر الأنجاس .
والشافعي يحمل النجس هنا على عين المشرك . ومالك يحمله على أنه نجس بما يخالطه من النجاسة ؛ إذ كان لا ينفك عنها ، ولا يتحرز منها ، وبقوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } ، ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول والقذر )). والكافر لا يخلو عن ذلك . وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا أحل المسجد لحائض ، ولا جنب )). والكافر خبيث .
(11/101)
وإن كانت امرأة فعليها الغسل من الحيض ، لا سيما إذا قلنا : إنهم مخاطبون بالفروع . وقد اعتذر أصحابنا عن حديث ثمامة بأوجه :
أحدها : أن ذلك كان متقدَّمًا على قوله تعالى : { إنما المشركون نجس } ، وهذا يحتاج إلى تحقيق نقل التواريخ .
وثانيها : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قد علم بإسلامه . وهذا فيه بُعد ؛ فإنه نص في الحديث على أنه إنما أسلم بعد أن منَّ عليه ، وأطلقه ، ثم إنه رجع فأسلم .
وثالثها : أن هذه قضية في عين ، فلا ينبغي أن تدفع بها الأدلة التي ذكرناها آنفًا ؛ لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية . ويمكن أن يقال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما ربط ثمامة في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين ، واجتماعهم عليها ، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد ، فيتأسَّ بذلك ويسلم ، وكذلك كان. ويمكن أن يقال : إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد. والله تعالى أعلم .
وقوله : (( إن تقتل تقتل ذا دم )) ؛ هو بالذال المهملة ؛ ويعني به : إنه ممن يستشفى بدمه ؛ لأنه كبير في قومه ، وقد سمعت من بعض النقلة أنه يقولها بالذال المعجمة ، وفسَّره بالعيب ، وليس بشيء في المعنى ، ولا صحيح في الرواية ، وهو تصحيف . ولو أراد به العيب لقال : ذامٍ ، بألف ، كما في المثل : لا يعدم الحسناء ذامًا ؛ أي : عيبًا . رواه بعضهم عن أبي داود : ذا ذم - بالمعجمة - ، وفسره بالذمام ، وصحح بعضهم الأول ، وقال : تلك الرواية تقلب المعنى ؛ لأن من له ذمام لا يستوجب القتل ولا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقتله . ويحتمل أن يكون معناه إنني رجل عزيز مطاع إذا عقدت ذمامًا لأحدٍ فلا يتجاسر أحد على التعرض له وانتهاك حرمته ، والله أعلم ، قاله شيخنا المنذري .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أطلقوا ثمامة )) ؛ دليل على جواز المنّ على الأسارى ، كما قدّمنا .
(11/102)
وقوله : (( فانطلق إلى نخل قريب من المسجد ، فاغتسل ، ثم دخل المسجد )) ؛ هذا يدل : على أن غسل الكافر كان عندهم مشروعًا ، معمولاً به ، معروفًا . ألا ترى إلى أنه لم يحتج في ذلك إلى من يأمره بالغسل ، ولا لمن ينبهه عليه .
وقد ورد الأمر به من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حديث ابن عمر : أن قيس بن عاصم أسلم ، فأمره النبي أن يغتسل . وبه تمسك من قال : بوجوب الغسل على الكافر إذا أسلم . وهو قول أحمد ، وأبي ثور . وأما مالك فقال في المشهور عنه : إنه إنما يغتسل لكونه خبيثًا . ومن أصحابه من قال : يغتسل للنظافة . وقال بسقوط الوجوب الشافعي . وقال : أحبّ إلي أن يغتسل . ونحوه لابن القاسم . ولمالك أيضًا قول : إنه لا يعرف الغسل. رواه عنه ابن وهب ، وابن أبي أويس . والرواية الصحيحة في البخاري ومسلم : نخل - بالخاء المعجمة - ، وقال بعضهم : صوابه : بالجيم ، وهو الماء المنثعب ، وقيل : الجاري . وقال ابن دريد : النجل : هو أول ما ينثعب من البئر إذا جرت . واستنجل الوادي ؛ إذا ظهر ماؤه .
(11/103)
وقوله : (( وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فبشره ، وأمره أن يعتمر )) ؛ لا يفهم منه أنه لما أراد أن يعتمر وهو في الجاهلية أن ذلك لزمه ، فأمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإتمامه ؛ لأنه لم يصده أحدٌ من المسلمين إلى أن إرادة فعل القربة ئفنرئها من غير التزام بالنذر ، ولا شروع في العمل ، بل ولو التزم ، وشرع لم يلزمه ذلك في حالة كفره ؛ لأنا وإن قلنا : إنه مخاطب بالفروع ، فلا يتأتى منه قصد الالتزام ، ولا يصح منه الشروع ؛ إذ لم يفعل ذلك على وجه شرعي ، بل هو فاسد لعدم شروطه ، لا سيما إذا كان من يحتاج إلى نيه التقرب ، وإنما أمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ينشئ عمرة مبتدأة ، ليحرز فيها له الأجر ، وليغيظ بإسلامه كفار قريش ، فإن الرجل كان عظيمًا في قومه وغيرهم ، ولذلك لما قدم مكة أظهر إسلامه ، ولم يبالي بهم ، بل أخبرهم بما ناقضهم به ، وأغاظهم ؛ وهو قوله : (( والله! لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله )). وأيضًا : فما كانت العمرة والحج في ذلك الوقت مشروعين ، بل شرعا بعد ذلك. والله تعالى أعلم .
ومن باب إجلاء اليهود والنصارى من المدينة ومن جزيرة العرب
قوله : (( أسلموا تسلموا )) ؛ أي : ادخلوا في دين الإسلام طائعين تسلموا من القتل والسباء مأجورين . وفيه دليل على استعمال التجنيس ، وهو من أنواع البلاغة .
وقولهم : (( قد بلّغت يا أبا القاسم )) ؛ كلمة مكرٍ ومداجاة ليدافعوه بما يوهمه ظاهرها ، وذلك : أن ظاهرها يقتضي أنه قد بلّغ رسالة ربَّه تعالى ؛ ولذلك قال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ذلك أريد )) ؛ أي : التبليغ . قالوا ذلك وقلوبهم منكرة مكذبة . ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك خوفًا منه ، وطيبة له . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( اعلموا : أن الأرض لله ولرسوله )) ؛ يعني : ملكًا وحكمًا . ويعني بها : أرضهم التي كانوا فيها ، أعلمهم بهذه اللفظة : أنه يجليهم منها ، ولا يتركهم فيها ، وأن ذلك حكم الله فيهم .
(11/104)
وقوله : (( من كان له مال فليبعه )) ؛ دليل على أنهم كان لهم عهد على نفوسهم وأموالهم ، لا على المقام في أرضهم ، ولذلك أجلاهم منها. وهؤلاء هم يهود بني قينقاع ، وبنو حارثة ، ويهود المدينة المذكورون بعد هذا .
وفي قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبني قريظة حين حاربوا ؛ دليل على أن من نقض العهد من العدو جاز قتله ، ولا خلاف فيه إذا حاربوا ، أو عاونوا أهل الحرب. قال أبو عبيد : وكذلك لو تيقن غدرًا أو غشًّا. قال الأوزاعي : وكذلك لو أطلع أهل الحرب على عورة المسلمين ، أو آووا عيونهم . وليس هذا تقضًا عند الشافعي .
وقوله : (( لأخرجن اليهود والنَّصارى من جزيرة العرب )). قال الخليل : جزيرة العرب : معدنها ، ومسكنها ، وإنما قيل لها : جزيرة العرب ، لأن بحر الحبش ، وبحر فارس ، ودجلة ، والفرات قد أحاطت بها . وقال الأصمعي : جزيرة العرب : من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ، وأما العرض : فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام .
ويهود معرَّفة ، وكذلك مجوس ، والألف واللام فيهما زائدتان ؛ لن الاسم لا يعرف من وجهين ، والدليل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تبرئكم يهود )) وغير ذلك . وقل الشاعر :
كنا مجوس تضطرم اضطراما
قاله المنذري .
ومن باب إذا نزل العدر على حكم الإمام
فله أن يرد الحكم إلى غيره
(( ابن العَرِقة ))- بالعين المهملة ، وكسر الراء - هي رواية الحفاظ ، وضبط المتقنين ، واسمه : جِنان - بكسر الحاء - ابن أبي قيس بن علقمة بن عبد مناف . والغَرِقة : أمَّه ، واسمها : قِلابةُ - بكسر القاف ، والباء بواحدة- بنت سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص . وقيل : اسمه : حبار بن قيس ، أحد بني الغرقة. قال الدارقطني : والأول أصح . وقيل : الغرَقة - بفتح الراء- قاله الواقدي . وقال : إن أهل مكة يقولونه كذلك ، والأول أصح ، وأشهر .
ويقال : بنت سعد القرشية السهمية كنيتها أم فاطمة ن وسميت العرقة لطيب ريحها قاله المنذري .
(11/105)
و الأ كحل : عرق معروف . قال الأصمعي : إذا قطع في اليد لم يرقأ الدم ، وهو عرق الحياة ، في كل عضو منه شعبة لها اسم .
وقوله : (( فضرب عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيمة في المسجد ، يعوده من قريب )) ؛ هذا نص على أن سعدًا كان مقيمًا في المسجد في هذه الحالة ، وقد ذكر في هذا الحديث بعد هذا : أن رسول الله أرسل إليه ، فأتاه ، فلما دنا قريبًا من المسجد ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قوموا إلى سيدكم )) ، وظاهره : أنه كان خارجًا من المسجد ، وأنه أتى إليه . وهذا إشكال أوجبه اعتقاد اتخاذ المسجد في الموضعين ، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قد استدعى سعدًا لمسجده في المدينة ، وليس الأمر كذلك ، بل كان نازلاً على بني قريظة ، ومنها وجه إليه ، فيحتمل أن يكون سعد اختط هناك مسجدًا يصلي فيه ، فعبّر الراوي عنه . وقال بعض علمائنا : المسجد هنا تصحيف من بعض الرواة ، وإنما اللفظ : فلما دنا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بدليل ما جاء في كتاب أبي داود : فلما دنا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فكأن الراوي سمع : من النبي ، فتصحف عليه . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( فلما رجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الخندق وضع السلاح ، فاغتسل ، فأتاه جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ هكذا وقع في الرواية : فأتاه- بالفاء- والصواب : طَرْحُها ؛ فإنه جواب لما ، ولا تدخل الفاء في جواب لما ، وكأنها زائدة ، كما زيدت الواو في جوابها في قول امرئ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن حقفٍ ذي ركام عقنقل
وإنما هو : انتحى ، فزاد الواو .
(11/106)
وقوله : (( فقاتلهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنزلوا على حكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فرد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحكم فيهم إلى سعد )) ؛ هذا تفسير ، فينبغي أن يحمل عليه ما ليس بمفسَّر مما في الرواية الأخرى : أنهم نزلوا على حكم سعد ، فإنهم إنما نزلوا على حكمه بعد أن حكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهم . ومن هذا الموضع يؤخذ الحكم الذي أشرنا إليه في الترجمة ، وفيه ردٌّ على الخوارج المانعين للتحكيم في الدين ، ولم يصر أحد من علماء الصحابة ، ولا غيرهم إلى منعه سوى الخوارج .
قال القاضي عياض : والنزول على حكم الإمام أو غيره جائز ، ولهم الرجوع عنه ما لم يحكم ، فإذا حكم لم يكن للعدو الرجوع ، ولهم أن ينقلوا من حكم رجل إلى غيره . وهذا كله إذا كان الحكم ممن يجوز تحكيمه من أهل العلم ، والفقه ، والديانة ، فإذا حكم لم يكن للمسلمين ، ولا للإمام المجيب لتحكيمهم نقض حكمه ، إذا حكم بما هو نظر للمسلمين من قتل ، أو سباء ، أو إقرار على الجزية ، أو إجلاء . فإن حكم بغير هذا من الوجوه التي لا يبيحها الشرع لم ينفذ حكمه ، لا على المسلمين ، ولا على غيرهم .
(11/107)
وقوله : (( قوموا لسيدكم أو خيركم )) ؛ استدل بهذا من قال بجواز القيام للفضلاء ، والعلماء ، إكرامًا لهم ، واحترامًا . وإليه مال عياض ، وقال : إنما القيام المنهى عنه : أن يقام عليه وهو جالس ، وهو الذي أنكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أصحابه ، حيث صلوا قيامًا وهو قاعد للخدش الذي أصابه ، فقال لهم : (( ما لكم تفعلون فعل فارس والروم ، يقومون على ملوكهم وهم قعود )). وعليه حمل قول عمر بن عبد العزيز : إن تقوموا نقم ، وإن تقعدوا نقعد ، وإنما يقوم الناس لرب العالمين . وقد رويت لعبدالملك جواز قيام الرجل لوالديه ، والزوجة لزوجها . ومذهب مالك : كراهية القيام لأحد مطلقًا . واستدل له على ذلك بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من سرَّه أن يتمثل له الناس قيامًا ، فليتبوأ مقعده من النار )). وعليه حمل قول عمر بن عبدالعزيز . وقد جاء في كتاب أبي داود مرفوعًا : (( لا تقوموا كما تقوم الأعاجم ، يعظم بعضهم بعضًا )). ويعتضد هذا : بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يقم له أحد ، ولا يقوم هو لأحد . هذا هو المنقول من سيرته ، وعليه درج الخلفاة رضوان الله عليهم ، ولو كان القيام لأحد من العظماء مشروعًا ، لكان أحق الناس بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفاؤه . ولم فلا .
وتأوَّل بعض أصحابنا حديث : (( قوموا إلى سيدكم )) على أن ذلك مخصوص بسعد ، لما تقتضيه تلك الحال المعينة. وقال بعضهم : إنما أمرهم بالقيام له لينزلوه عن الحمار لمرضه ، وفيه بُعد . والله تعالى أعلم .
واختلف تأويل الصحابة فيمن عنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ؛ هل الأنصار خاصة ، أو جميع من حضر من المهاجرين والأنصار ، وعلى الجملة : فهي قضية معينة ، محتملة ، والتمسك بالقاعدة المقررة أولى . والله تعالى أعلم.
والسيد : المحترم على قومه بما فيه من الخصال الحميدة .
وقوله : (( أو خيركم )) ؛ على جهة الشك من الراوي ، وفي بعض طرقه في غير كتاب مسلم : (( قوموا إلى سيدكم )) من غير شك .
(11/108)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن هؤلاء نزلوا على حكمك )) ؛ إنما قال له هذا بعد أن رد له الحكم ، كما قال في الرواية المتقدمة .
وقوله : (( إني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة ، وتسبى الذرية ، وتقسم الأموال )) ؛ إنما حكم فيهم بذلك لعظيم جناياتهم ، وذلك : أنهم نقضوا ما بينهم وبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العهد ، ومالؤوا عليه قريشًا ، وقاتلوه ، وسبُّوه أقبح سبٍّ ، فاستحقوا ذلك - لعنهم الله - ، فلما حكم فيهم سعد بذلك ، أخبره بأنه قد أصاب فيهم حكم الله ، تنويهًا به ، وإخبارًا بفضيلته ، وانشراح صدره ، وردعًا للقوم الذين سألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أن يتركهم ، وأن يحسن فيهم ، فإنهم كانوا حلفاءهم ، فلما جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكمهم إلى سعد انطلق مواليهم إلى سعد ، فكلموه في ذلك ، وقالوا له : أحسن في مواليك ، فلما أكثروا عليه ، قال : أما إنه قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم . فلما سمعوا ذلك يئسوا مما طلبوا منه ، وعزّى بعضهم سعد بعضًا في بني قريظة . ومن ها هنا تظهر خصوصية سعد بقوله : (( قوموا إلى سيدكم )) ، وإن الأولى أنه إنما قال ذلك لقومه خاصة دون غيرهم ؛ لأن قومه كلهم مالوا إلى إبقاء بني قريظة ، والعفو عنهم ، إلا ما كان منه ـ رضى الله عنه ـ لا جرم لما مات اهتز له عرش الرحمن. وسيأتي بيان معناه ، إن شاء الله تعالى . وفيه دليل لمذهب مالك في تصويب أحد المجتهدين ، وأن لله في الوقائع حكمًا معيَّنًا ، فمن أصابه فهو المصيب ، ومن لم يصبه ، فهو المخطئ ، لكنه لا إثم عليه إذا اجتهد . وقد تقدَّم هذا المعنى . وغاية ما في هذا الحديث : أن بعض الوقائع فيها حكم معين لله ، لكن من أين يلزم منه أن يكون حكم كل واقعة كذلك ؟ بل يقال : إنها منقسمة إلى ما لله فيه حكم معين ، ومنها ما ليس دثه فيه ذلك ، وتكميل ذلك في علم الأصول .
(11/109)
وقوله : (( لقد قضيت بحكم الله )) ؛ الرواية فيه بكسر اللام ، وهو الله تعالى . وكذلك في الرواية الأخرى : (( بحكم الله )) ، وفي غير كتاب مسلم : (( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع أرقعة )) ، وهي السموات ، وهو جمع رقيع ، كرغيف ، وأرغفة . والفوقية هنا راجعة إلى أن الله تعالى أظهر الحكم لمن هناك من ملائكته ، أو أثبته في اللوح المحفوظ . ونسبة الفوقية المكانية إلى الله تعالى محال ؛ لأنه منزه عن الفوقية ، كما هو منزه عن التحتية ؛ إذ كل ذلك من لوازم الأجرام ، وخصائص الأجسام ، ويتقدّس عنها الذي ليس كمثله شيء من جميع الأنام .
وقوله : (( وتحجَّر كَلْمُهُ للبُرْءِ )) ؛ أي : تجمَّد ، وتهيَّأ للإفاقة ، فظن عند ذلك أنها تفيق ، فقال عند ذلك ما ذكره من الدُّعاء .
وقوله : (( وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ، واجعل موتي فيها )) ؛ هذا منه تَمَن للشهادة ، وشوق لما عند الله تعالى ، وليس تمنيًا للموت ؛ لضر نزل به الذي نهي عنه .
وقوله : (( فانفجرت من لبته )) ؛ كذا للرواية عن الأسدي ، بالباء بواحدة . وعن الصدفي : (( من لِيته )) بلام مكسورة ، وياء باثنتين من تحتها ساكنة . وعند الخشني : (( من ليلته )) ، قال : وهو الصواب . واللبة : المنحر. والليت : صفحة العنق .
وقوله : (( فإذا سعد جرحه يغِذُّ )) بكسر الغين ، وتشديد الذال عند كافة الرواة ، وعند بعضهم : (( يَغْذو )) ، ومعناه : يسيل . وهما لغتان. يقال : غذَّ الجرح يغِدُّ مشددًا ، وغذا يغْذو ، وأنشد :
بطَعْنٍ كَفَمِ الزّقِّ غَذَا والزِّقُّ مَلآنُ
وعند ابن ماهان : (( يصبُّ )) مكان (( يغذو )). وهو تفسير للَّفظ الأول .
وقوله في الشعر : (( فما فعلت قريظة والنضير )) ؛ الرواية عند الكافة بالفاء هكذا ، والصواب : (( لما فعلت )) بالميم المكسورة ، وقد رواه بعضهم هنا كذلك ، وهي الرواية في السير ، ليس فيها غيرها .
(11/110)
وقوله : (( تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور )) ؛ هذا ضرب مثلٍ لعزَّة الجانب ، وعدم الناصر . ويريد بقوله : تركتم قدركم : الأوس لقتل حلفائهم من قريظة . وقدر القوم : يعني به : الخزرج لشفاعتها لحلفائها بني قينقاع ، حتى من عليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتركهم لعبدالله بن أُبَيّ ، وهو : أبو حباب المذكور في الشعر .
وقوله : (( كما ثقلت بِمَيطان الصخور )). مَيطان : بفتح الميم ، وبالنون ، عليه أكثر الرراة ، إلا أن أبا عبيدالله البكري ضبطه بكسر الميم . قال : وهو من بلاد مزينة من أرض الحجاز . ووقع في رواية العذري : (( بميطار )) بالراء مكان النون. وفي رواية ابن ماهان : (( بحيطان )) ، بالحاء مكان الميم . قال القاضي عياض : والصواب ما تقدم .
وقائل هذا الشعر إنما قاله يحزض سعدًا على استحياء بني قريظة وحلفائهم ، ويلومه على فعله فيهم ، فيذكره بفعل أبي حباب ، عبدالله بن أُبي وشفاعته لحلفائه بني قينقاع .
ويستفاد من ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخيمة لسعد في المسجد مع ما كان عليه من الجراح والدَّم : أن الضرورة ، أو الحاجة إذا دعت إلى مثل ذلك جاز . وإن أدى إلى تلطيخ المسجد بشيء مما يكون من المريض ، لكن ذلك على حسب الحاجة والضرورة . والله تعالى أعلم . هذا إن تنزلنا على أنه كان بمسجد مخصوص مباح للمسلمين ، وإن تنزلنا على أنه كان بمسجد بيته كما تقدم لم ينتزع منه شيء من ذلك . والله تعالى أعلم .
وقد قدَّمنا : أن المساجد الأصل فيها الأمر بتطييبها ، وتنظيفها ، ومباعدتها عن الأنجاس ، والأقذار . ووجة الضرورة في حديث سعد : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجد له موضعًا غير المسجد ، وكان بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاجة إلى معاهدته ، وتفقد أحواله ، فلو حمل إلى موضع بعيد منه ، أدَّى إلى الحرج والمشقة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وعلى هذا المعنى نبَّه الراوي بقوله : (( يعوده من قريب )).
ومن باب أخذ الطعام والعلوفة من الغنيمة
(11/111)
حديث ابن مغفل هذا يدل : على جواز أخذ الطعام من الغنيمة قبل القسمة ، ألا ترى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقزه على أخذ الجراب بما فيه من الطعام ، وهو مما أجمع المسلمون عليه ما داموا في أرض الحرب ، على ما حكاه عياض . والجمهور : على أنه لا يحتاج في ذلك إلى إذن الإمام . وحكي عن الزهري : أنه لا يجوز إلا بإذن الإمام وإن لم يوافق عليه.
ثم اختلفوا في القدر الذي يأخذه الغانم ؛ فقال الشافعي : لا يأخذ منه إلا بقدر حاجته ، فإن أخذ فوقها ، أدَّى قيمته في المقاسم ، وكذلك : أخذ ما لا يضطر إليه في القوت ، كالأشربة ، والأدوية . وأجاز مالك له أخذ ما فضل عن كفايته وأكله في أهله ، وقاله الأوزاعي ، وذلك فيما قل . وقال سفيان وأبو حنيفة : يرد ذلك إلى الإمام . وأجازه الشافعي مرة . والجمهور على منع أن يخرج بشيء من الطعام له قيمة وبال إلى أرض الإسلام .
واختلفوا فيما يحتاج إليه من غير الطعام ، حد كالسلاح ، والدَّواب ، والثياب ليقاتل به ، ويركبه في قفوله ، ويلبسه في مقامه . فعن مالك وأصحابه في ذلك قولان : بالمنع مطلقًا ، وبالجواز . وبه قال الثوري ، والحسن . وممن أجاز ذلك في وقت الحرب : الشافعي ، وأحمد ، وأبو حنيفة ، والجمهور . وقال ابن المنذر والخطابي : إن هذا مما لم يختلف أهل العلم فيه ، إلا أن الأوزاعي شرط في هذا إذن الإمام .
واختلفوا فيما قل قدره مما يحتاج إليه ، كالجلد يقطعه خفافًا أو نعالاً ؛ فأجازه مالك وغيره ، وأحمد . ومنع ذلك الشافعي ، وأصحاب الرأي . وقال الشافعي : وعليه قيمته إن تلف ، وأجرة استعماله ، وما نقصه الانتفاع . ولم يختلف فيما بيع من طعام أو غيره : أن ثمنه مغنم .
وتبسُّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما كان لما رأى من شدَّة حرص ابن مغفل على أخذ الجراب ، ومن ضنته به .
(11/112)
وفيه ما يدل : على جواز أكل شحوم اليهود المحرمة عليهم . وهو مذهب أبي حنيفة ، والشافعي وعامة العلماء ، غير أن مالكًا كرهه لحم للخلاف فيه . وحكى ابن المنذر عن مالك تحريمها ، وإليه ذهب كبراء أصحاب مالك . ومتمسَّك هؤلاء : أن ذكاتهم لم تعمل في الشحم ، كما عملت في اللحم ؛ لأن الذكاة تتبعَّض عندهم . والحديث حجَّة عليهم .
وفيه دليل : على جواز ذبائح أهل الكتاب . وقد أجمع أهل العلم على ذلك إذا ذكروا اسم الله عليها . وأكثر العلماء على أن المراد بقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } : ذبائحهم ، إلا ما روي عن ابن عمر من كراهتها على ما حكاه الداودي عنه ، والمعروف عن ابن عمر : لا تؤكل ذبائحهم ما لم يسمُّوا الله عليها. وقد ذهب مالك ، والليث ، والثوري ، وا لنخعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي : إلى كراهة ما أهلّوا به لغير الله من اسم المسيح ، أو كنائسهم ، وأشباهها . وأباحه عطاء ، ومجاهد ، ومكحول ، والشعبي . ورأوا : أن آية المائدة ناسخة لآية الأنعام ، أو مخصصة لها . وقالوا : قد علم الله أنهم يقولون ذلك ، وقاله ابن حبيب .
واختلفوا أيضًا إذا ذبح ولم يسم شيئًا ؛ فمنعه أبو ثور . وهو مذهب عائشة ، وعلي ، وابن عمر . وقال أحمد وإسحاق : لا بأس به .
واختلف إذا ذبحوا ما كان لمسلم ، وغير ملكهم ؛ فمنعه ربيعة ، واختلف فيه عن مالك .
ومن باب كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل
قول أبي سفيان : (( في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ يعني به : صلح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع قريش بالحديبية ، وكانوا تعاقدوا على صلح عشر سنين ، فاستمر ذلك إلى أن نقضت قريش العقد ، فكان ذلك سبب فتح مكة .
و (( دحية )) : يقال بفتح الذال وكسرها . قال ابن السكيت : هو بالكسر لا غير . وقال أبو حاتم : هو بالفتح لا غير . وقال المطرِّز : الدِّحى : الرؤساء ، واحدهم : دِحية .(11/113)
قلت : وعلى هذا فالكسر هو الصواب ، كما قال ابن السكيت ؛ لأن : دحية ، ودحًى ، كلحيةٍ ، ولِحًى ، وفِرية ، وفِرى ، وهو القياس ؛ لأن نظيره من الصحيح : قِرْبة وقِرب ، لكن لا يبعد أن يقال : إنه لما نقل إلى العلمية غُيِّر بالفتح ، كما قد فعلت العرب في كثير من الأعلام .
و (( بِصرى ))- بضم الباء - : وهي من مدن الشام ، وهي مدينة حوران . و(( الترجمان )) : هو المعبِّر عن القوم . يقال : بضم التاء وفتحها. و(( هرقل ))- بكسر الهاء ، وفتح الراء ، وسكون القاف - : وهو اسم لكل ملك للروم ، كالنجاشي : اسم لكل ملك للحبشة . وقيصر : اسم لكل ملك للفرس . وقد قدَّمنا هذا في كتاب : الجنائز .
قلت : إذا تأملت هذا الحديث علمت فطنة هذا الرجل ، وجوّدة قريحته ، وحسن نظره ، وسياسته ، وتثبته . وأنه علم صحة نبوَّة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصدقه . غير أنه ظهر منه بعد هذا ما يدل : على أنه لم يؤمن ، ولم ينتفع بذلك العلم الذي حصل له ، فإنه هو الذي جيَّش الجيوش على أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقاتلهم ، وألّب عليهم ، ولم يقصِّر في تجهيز الجيوش عليهم ، وإرساله إليهم الجموع العظيمة من الروم وغيرهم الكرَّة بعد الكرَّة ، فيهزمهم الله ، ويهلكهم ، ولا يرجع إليهم منهم إلا فلُّهم ، واستمر على ذلك إلى أن مات ، وقد فتح الله على المسلمين أكثر بلاد الشام ، ثم ولي ولده بعده ، وعليه فتحت جميع البلاد الشامية ، وبهلاكه هلكت المملكة الرومية .
وقوله : (( فإن كذبني فكذبوه )) ؛ كذبني- بفتح الذال ، وتخفيفها ، وبالنون - : يعني : أنه إن كذب لي فأظهروا كذبه ، وهو مما يعدى بحرف الجر وبغيره ، يقال : كذبته ، وكذبت له . و(( كذبوه ))- مشذد الذال- ؛ أي : عرّفوني بكذبه ، وأظهروا كذبه ، ولذلك أجلس أصحابه خلفه . وإنما سأل عن أقربهم نسبًا منه ؛ لأنه أعلم بدخلة أمر صاحبه في غالب الحال . وهذه كلها التفاتات من هرقل تدل على قوة عقله .
(11/114)
وقول أبي سفيان : (( وايم الله )) هي كلمة محذوفة من (( أيمن الله )) تستعملها العرب اسمًا مرفوعًا في القسم على الابتداء ، والخبر محذوف . وقد اختلف النحويون فيها . هل هي : اسم مفرد همزته همزة وصل ، وإنما فتحت همزته لأنه غير متصرف ، فخالف جميع همزات الوصل ، وهو مذهب سيبويه ، أو هل هي : جمع يمين ، وهمزته همزة قطع ؛ لأنها همزة جمع . وهو قول الفراء ، وهي عنده جمع يميني ، وقول سيبويه أشبه ، بدليل : أنهم كسروا همزتها ، وأنهم تصرَّفوا فيها بلغاب مختلفة ، منها : إِيْمُنٌ بالكسر ، وبالفتح : أَيْمُنٌ . وبحدف النون والهمزة وضم الميم من (( مُّ الله )) وكسرها . وقد أبدل بعضهم من الهمزة (( هاء )) ، فقال : هيمن الله . وهذا النحو من التصرف لم تفعله العرب في صيغ الجموع .
وقوله : (( لولا أن يُؤثر على الكذب لكذبتُ عليه )) ؛ يعني : لولا أن يتحدَّث ويُنقل عنه الكذب . وإنما وقع له هذا في ذلك الوقت لشدَّة عداوته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحسده ، وحرصه على إطفاء نوره ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره . وفيه ما يدل على أن الكذب مذموم في الجاهلية ، والإسلام ، وأنه ليست من خلق الكرام .
و (( الحسب )) : الشرف . والحسيب من الرجال : هو الذي يحسب لنفسه آباء أشرافًا ومآثر جميلة . وهو من الحساب ، وهو العدد .
و (( السِّجال )) مصدر : ساجله ، يساجله ، سجالاً : إذا ناوأه ، وقاومه . وأصله من السجْل : وهو : الدلو العظيمة الذي لا يستقل واحد برفعها من البئر . وقد فسّر معناه بقوله : يصيب منا ، ونصيب منه .
وقوله : (( والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة )) ؛ يعني : أنه كان يعلم من خلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوفاء ، والصدق ، وأنه يفي بما عاقدهم عليه ، لكن لما كان المستقبل غير حاصل في وقته ذلك لبَّس بتطريق الاحتمال ، تمويهًا بما يعلم خلافه .
(11/115)
وقول هرقل في الضعفاء : (( هم أتباع الرسل )) ، إنما كان ذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف ، وصعوبة الانفكاك عنها ، والأنفة من الانقياد للغير ، والضعيف خلي عن تلك الموانع ، وهذا غالب أحوال أهل الدنيا ، وإلا فقد ظهر أن السُّباق للإسلام كانوا أشرافًا في الجاهلية والإسلام ، كأبي بكر ، وعمر ، وحمزة ، رغيرهم من الكبراء والأشراف.
وقوله : (( وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها )) ؛ إنما كان ذلك لما خص الله به الأشراف من مكارم الأخلاق ، والتباعد عن سفسافها . والصدق والأمانة ، ولتنجذب النفوس إليهم ، فإن الأبصار مع الصور ، وأقل ما في الوجود إدراك البصائر .
وقوله : (( وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب )) ؛ هكذا وقعت هذه الرواية هنا ، وفي البخاري : (( حين تخالط بشاشته القلوب )) ، وهي أوضح . وأصل البشاشة : التلطف والتأنس عند اللقاء . يقال : بش به ، وبشبش. ومعنى هذا : أن القلوب المنشرحة إذا سمعمت الإيمان ، وأصغت إليه بشت له ، ورحبت بلقائه ، كما يفعل بالغائب عن اللقاء ، ثم إذا حل الإيمان في القلب انكشفت له محاسنه ، وتوالت عليه أنواره ، حثى يكره أن يعود في الكفر ، كما يكره أن يقذف في النار .
وقوله : (( وكذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لهم العاقبة )) ؛ ابتلاء الرسل بنحو ما ذكر إنما هو ترفيع لدرجاتهم ، وستر لأحوالهم ، حتى لا يصير العلم بهم ضروريًّا . والله تعالى أعلم .
و (( العاقبة )) : العقبى : الخاتمة الحسنة .
وقوله : (( هل قال هذا القول أحد قبله ؟ )) يعني : من عرب قومه ، وإلا فالرسل كثير ، وقد كان في العرب غير قومه رسل ، كهود ، وصالح ، كما ذكر في حديث أبي ذر ، ولذلك قال تعالى : { لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم } ؛ أي : لم يبعث في آبائهم المشهورين عندهم رسول ينذرهم . وهو قول المحققين من المفكرين . وقد دل عليه قوله تعالى في آية أخرى : { لتنذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك }.
(11/116)
و (( الصلة )) : يعني بها : صلة الأرحام . و(( العفاف )) يعني به : عن الفواحش .
وقوله : (( إن يكن ما تقول حقًّا فإنه نبي )) ؛ هذا الكلام محذوف المقدمة الاستثنائية لدلالة الكلام عليها ، وتقديرها : لكن ما تقول حقًّا فهو نبي . ويدل على أن هذا مراده قطعًا الكلام الذي بعده فإنه قطع فيه بنبوته ، فتأمله .
وقوله : (( وقد كنت أعلم أنه خارج )) ؛ أي لما في الكتب التي اطلع عليها ، والبشائر به ، والإخبار بمجيئه ، ووقته ، وعلاماته .
وقوله : (( ولم أكن أظن أنه منكم )) ؛ كأنه استبعد أن يكون نبي من العرب ، لما كانوا عليه من الأعمال الجاهلية ، والطبيعة الأمية ، والحالة الضعيفة الزرية ، وتمسّكًا بكثرة الرسل في الملة الإسرائيلية ، وقد كان كل ذلك ، لكن جبر الله صدع هذه الأمة ؛ بأن اختصهم بهذا الرسول العظيم ؛ الذي شرّفهم به ، وكرّمهم حتى صيرهم خير أمة ، والحمد لله على هذه النعمة .
وقوله : (( ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه )) ؛ هكذا جاءت هذه الرواية عند جميع رواة مسلم ، وفيها بُعد . وأوضح منها ما جاء في البخاري : (( لتجشمت لقاءه )) ؛ أي : لتكلفت ذلك على مشقته.
وقوله : (( ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه )) ؛ أي : إكرامًا ، واحترامًا ، وخدمة . فهو على ظاهره ، ويحتمل أن يريد المبالغة في طاعته وامتثال أمره حتى يكون بصورة من يباشر هذا الأمر.
وقوله : (( وليبلغن ملكه ما تحت قدمي )) ؛ يعني بذلك أرضه التي كان فيها ، ومملكته التي كان عليها . وكذلك كان . وهذا منه تحقيق لنبوَّته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعلم بما يفتح الله عليه ، وبما ينتهي إليه أمره . ومع ذلك ففي البخاري : أنه استمر على كفره ، فنعوذ بالله من علم لا ينفع .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الكتاب الذي كتبه إليه : (( إلى هرقل عظيم الروم )) ؛ أي الذي تعظمه الروم ، وهو مفاتحة بخطاب استلطاف ، ويقتضي التأنيس ، والاستئلاف ، مع أنه حق في نفسه ، فإنه كان معظمًا في الروم ، وكان أعظم ملوكهم .
(11/117)
وقوله : (( سلام على من اتبع الهدى )) ؛ عدول عن السلام عليه ؛ لأن الكافر لا يفاتح بالسلام إلى التعريض له باتباع طريق الهداية ، وقد رأى بعض أهل العلم : أن السلام على أهل الكفر والبدع هكذا يكون.
و (( دعاية الإسلام )) بكسر الدال ، وهي في أصلها : مصدر : دعا ، يدعو ، دعوة . ودعاية ، كرمى ، يرمي ، رمية ، ورماية ، وشكا ، يشكو ، شكوة ، وشكاية . ويعني بها هنا : كلمتي الإسلام ، وهي : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله . وأما رواية : (( داعية )) فهي صفة للكلمة المحذوفة ، فكأنه قال : بالكلمة الداعية للإسلام .
وقوله : (( أسلم تسلم )) ؛ يعني : ادخل في دين الإسلام تسلم في الدنيا من الخزي وفي الآخرة من العذاب ، وهو من التجنيس البديع .
وقوله : (( يؤتك الله أجرك مرتين )) ؛ يعني : باتباعه لدين عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وباتباعه لدين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ثلاثة يؤتون أجرهم مرَّتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، ثم أدرك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فآمن به واتبعه ، فله أجران )).
قلت : وهذا إنما يتحصَّل للكتابي إذا كان متبعًا لدين نبيه من الاعتقاد الصحيح ، والعمل على مقتضى شريعته . أما لو اعتقد في عيسى ، أو في الله تعالى ما لم تجي به شريعته ، فلا يحصل له أجران إذا أسلم ، بل أجر الإسلام خاصة ؛ لأنه لم يكن على شريعة عيسى ، ولا على غيرها ، فلم يتبعه ، فلا يحصل له أجر .
(11/118)
وقوله : (( فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين )) ؛ يروى : الأريسيين بالهمزة ، وبالياء مكان الهمزة ، فيقال : اليريسيين. فأما بالهمزة : فقيل : هم الملوك ، وقيل : الأكارون ، وهم الفلاحون . قال ابن الأعرابي : أرس ، يأرس ، أرسأ : إذا صار رئيسًا . فيكون معناه : إن أعرض عن الذخول في الإسلام كان عليه إثم من اتبعه من رؤساء مملكته ورعاياه . قال أبو عبيد : ليس الفلاحون الزارعين فقط ، لكن أراد بهم جميع أهل مملكته ؛ لأن كل من يزرع عند العرب فلاح . وأقا من رواه بالياء ، فقد قيل فيه ما تقدم ، فتكون لغتين . وقال بعضهم : يكون من التبختر . يقال : راس ، يريس ، ريسًا ، وريسا نًا : إذا تبختر . وراس يروس ، روسًا ، أيضًا.
قلت : وعلى هذا فيكون المراد به : أن عليه إثم من تكبر على الحق ، ولم يدخل فيه من أهل مملكته .
و (( أهل الكتاب )) : اليهود ، والنصارى ، نسبوا إلى الكتابين المنزلين على موسى وعيسى عليهما السلام . (( تعالوا )) بمعنى : أجيبوا إلى ما دعيتم إليه . وهو الكلمة العادلة المستقيمة ، التي ليس فيها ميل عن الحق ، وقد فسرها بقوله : { ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله } ، (( أرباب )) جمع : رب . وقد تقدَّم تفسيره. و(( دون )) : هنا بمعنى : غير . { فإن تولوا } : أعرضوا عمَّا دعوا إليه . { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } ؛ أي : متصفون بدين الإسلام ، منقادون لأحكامه ، معترفون بما بما لله علينا في ذلك من المنن ، والإنعام.
(11/119)
أحدهما : ما قاله ابن الأنباري : أن جيشًا من الحبشة غلبوا على ناحيتهم في بعض الدهر فوطئوا نساءهم ، فولدن أولادًا صفرًا .
والثاني : قاله أبو إسحاق الحربي ، وهو أنهم نسبوا إلى جدهم الأصفر بن الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم . وهذا أشبه من القول الأول .
وقوله : (( شكرًا لما أبلاه )) ؛ أي : أنعم عليه به. وأصل الابتلاء : الاختبار . وفيه لغتان : ثلاثيًّا ، ورباعيًّا . يقال : بلا ، وأبلى . وقد جمع بينهما زهير فقال :
فأبلاهما خبر البلاء الذي يَبلوه.
وقيل : (( أبلى )) في الخير ، و(( بلا )) في الشر . والأول أشهر.
ومن باب كتب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك يدعوهم
قوله : (( وليس بالنجاشي الذي صلَّى عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ هذا تحرز من الراوي ؛ لئلا يظن أن النجاشي المسمى : أصحمة ؛ الذي هاجر إليه أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو هذا ، وليس كذلك ؛ لأن هذا احتاج في إسلامه إلى أن يدعوه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الإسلام ، ويكاتبه في ذلك ، ولم يحتج أصخمة إلى شيء من ذلك ، بل بنفس ما سمع القرآن من جعفر وأصحابه الذين هاجروا إلى أرضه ، وأُخبر بقواعد الإسلام ، وبمحاسنه ، ورأى ما كان الصحابة عليه أحب دين الإسلام ، وانقاد إليه ، وصرَّح بأنه على اعتقاد المسلمين في عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعرض على أهل مملكته الدخول في الإسلام ، فلما رأى نفرتهم ، ويئس منهم ، كتم إسلامه تقية على نفسه ، منتظرًا التخلص منهم ، إلى أن توفي على الإسلام والإيمان بشهادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له بذلك ، حيث نعاه لهم ، وقال : (( إن أخًا لكم بأرض الحبشة قد مات ، فقوموا ، فصلوا عليه )) ؛ كما تقدَّم في الجنائز ، وإنما النجاشي الذي كاتبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آخر غير هذا من ملوك الحبشة ، إنما في جهة أخرى ، أو بعد موت أصخمة . والله تعالى أعلم .
وهذه الأحاديث كلها تدل على جواز مفاتحة الكفار بالمكاتبة . وهو حكم لم يختلف فيه .
ومن باب غزوة حنين
(11/120)
كانت غزوة حنين بعد فتح مكة بأيام ، وذلك أن مكة فتحت لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة ، وكانت وقعة هوازن يوم حنين في أول شوَّال من تلك السَّنة . و(( حنين )) : موضع معروف ، سُمِّي باسم رجل لازمه ، ويصرف ولا يصرف . وأنشد في الصحاح :
نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال
والأغلب عليه الصرف .
و (( فروة بن نفاثة )) صوابه : بالنون المرفوعة ، والفاء ، والثاء المثلثة . كذا لجميع الرواة . وقد قيده بعضهم : (( نباتة )) بالنون والباء بواحدة ، والتاء باثنتين من فوقها ، وكأنه تصحيف ، وقد رواه مسلم من حديث معمر عن ابن شهاب . فقال : فروة بن نعامة ، والأول أشهر . واختلف في إسلامه . وفي البخاري : أن مُهدي البغلة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ملك أيلة ، واسمه فيما ذكره ابن إسحاق : يُحَنَّة بن دورتة ، وقبوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هدية فروة يعارضه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إني نهيت عن زبد المشركين )) ، وامتنع من قبول هديتهم .
وقد اختلف في هذين الحديثين . فمن العلماء من ذهب إلى أن حديث فروة ناسخ للحديث الآخر . ومنهم من رام الجمع بينهما فقال : حيث قبل فإنما قبل استئلافًا ، وطمعً في إسلام الْمُهدي ، وحيث رد لم يطمع في ذلك . وقيل : إنما رد حيث لم تكن فيه مصلحة للمسلمين ، وقيل حيث كان فيه ذلك . وقيل : إنما رد ما أهدي له في خاصة نفسه ، وقبل ما علم منه خلاف ذلك ؛ قاله الطلبري . قال : ولا حجة لمن احتج بنسخ أحد الحديثين للآخر ؛ إذ لم يأت في ذلك بيان . وقيل : إنما قبل هديه أهل الكتاب ؛ إذ قد ابيح لنا طعامهم ، ورد هدايا المشركين ؛ إذ لم يبح لنا ذلك منهم . وأشبة هذه الأقوال قول من قال بالاستئلاف والمصلحة . والكل محتمل . والله تعالى أعلم.
(11/121)
وركوبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ البغلة في ذلك الموطن مبالغة في الثبات ، والضمبر ، ويدل على العزم على عدم الفرار كما قد فعل حين انهزم الناس عنه ، وهو مقبل على العدو ، يركض بغلته نحوهم . وقد زاد على ذلك ، كما ذكر في الرواية الأخرى : إنه نزل بالأرض على عادة الشجعان في المنازلة. وهذا كله يدل : على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أشجع الناس وأثبتهم في الحرب ، ولذلك قالت الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ : إن الشجاع منا للذي يلوذ بجانبه .
و (( السمرة )) : هي شجرة الرضوان التي بايعه تحتها أصحابه بيعة الرضوان بالحديبية . وكانوا بايعوه على ألا يفرُّوا ، فلما سمعوا النداء ، تذكروا العهد ، معه فارتجعوا رجعة واحدة ، كرجل واحد ، وهم يلبون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولسرعة رجعتهم واجتماعهم شبههم بعطفة البقر على أولادها . وهذا كله يدل على قربهم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ ذاك ، وأن انهزامهم لم يكن إلى بُعد ، ولا من جميعهم ، بل المنهزم إنما كان أكثرهم من أهل مكة والطلقاء ، ومن في قلبه مرض ، ولذلك كان بعضهم يقول في حال انهزامه : لا يردهم إلا البحر .
وقوله : (( فاقتتلوا والكفار )) بنصب الراء على أن تكون الواو بمعنى (( مع )) وهو أولى ؛ لما يلزم في الأحسن من توكيد الضمير المرفوع حين يعطف عليه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا حين حمي الوطيس يجوز في حين البناء على الفتح ؛ لأنه مضاف إلى جملة مبنية ، ويجوز فيه الضم ، على أن يكون (( الحين )) خبر المبتدأ ، وهذا على نحو قوله :
على حين عاتبت المشيب على الصبا
(11/122)
روي بالخفض والفتح . و(( حمي )) : استعر واتقد. و(( الوطيس )) : موضع وقود النار ، واستعاره هنا لشدة الحرب . وهذا نحو قوله تعالى : {كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله }. وهذه الاستعارة العجيبة لا يُعرف من تكلم بها قبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العرب ، ومنه تلقيت فصيرت مثلاً في الأمر إذا اشتد ، قاله ابن الأعرابي . وقال الأصمعي : الوطيس : الحجارة المحمَّاة . وعلى هذا فهو جمع وطيسة . وقال أبو عمر المطرّز : هو التنور . وحينئذ لا يكون جمعًا .
ورميه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجوه الكفار بالتراب ، وإصابته أعين جميعهم من أعظم معجزاته ؛ إذ ليس في قوة البشر إيصال ذلك إلى أعينهم ، ولا يسع كفه ما يعمهم ، وإنما كان ذلك من صنع الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولذلك قال تعالى : { ومارميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، وكذلك قوله : (( انهزموا ورب الكعبة )) قبل وقوع الهزيمة ، هو من معجزاته الخبرية ، فإنه خبر عن الغيب .
وقوله : (( شاهت الوجوه ))- على ما في حديث سلمة - : خبر معناه : الدعاء ؛ أي : اللهم شوّه وجوههم . وهو خبر عما يحل بهم من التشويه عند القتل ، والأسر ، والانتقام . و(( الحسر )) : جمع حاسر ، وهو الذي لا درع معه ، ولا شيء يحتمي به النبل .
و (( الأخفاء )) : المسرعون ، المستعجلون . وقد رواه الحربي ، والمغربي : (( جفاء من الناس )) بجيم مضمومة مخففه والمد ، وفسَّره المهدوي بالسراع ، شبههم بجفاء السيل ، وهو غثاؤه . وقال غيره : إنما أراد به أخلاط الناس ، وضعفاءهم من لم يقصد القتال ، بل الغنيمة ، وفي قلبه مرض ، شبههم بغثاء السيل ، وهو ما احتمله السيل .
و (( استنصر )) ؛ أي : سأل النصر ، ودعا به .
(11/123)
وقوله : (( أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبدالمطلب )) ؛ أي : أنا النبي المعروف عند علماء الكتاب ، المنعوت في كتبهم حقًّا بلا كذب . وانتسابه لعبدالمطلب ؛ لأنه بذلك كان شهر عندهم ؛ لأن أباه عبدالله مات وتركه حملاً ، فولد ، ونشأ في حجر جدِّه عبد المطلب ، ثم إن عبدالمطلب أحبه حبًّا شديدًا ، بحيث كان يفضله على أولاده ، لما كان يظهر له من بركاته ، وكراماته ، فكان يلازمه لذلك ، فعرف به ، ولذلك ناداه ضمام بن ثعلبة : يا بن عبدالمطلب ، فانتمى هو عند الحرب على عادة الشجعان في انتسابهم لمن كان يعرف به. وقيل : إنما كان ذلك منه تنبيهًا على ما قال سيف بن ذي يزن لعبدالمطلب حين قدم عليه في وفد قريش ، حيث بشره بأنه يكون من ولده نبي يقتل أعداءه. ولم يكن ذلك منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جهة الافتخار بآبائه ، فإن ذلك من خلق الجاهلية التي قد نهى عنها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحرَّمها ، وذمَّ من انتمى إليها .
لا يقال ؛ كيف يصح أن ينسب هذا الشعر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع قوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } ؛ لأنا نجيب عن ذلك بأوجه :
أحدها : أن هذا قصد به السجع لا الشعر ، فليس بشعر . قيل قد قال الأخفش : إن هذا رجز ، والزجر ليس من الشعر .
والثاني : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقصه نظمًا ووزنًا فيكون شعرًا ، فقد يأتي في الكلام والقرآن ما يتزن بوزن الشعر وليس بشعر ، كقوله تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، وقوله : { نصر من الله وفتح قريب} ، وكثيرأ ما يقع للعوام في كلامهم الكلام المقفى الموزون ، وليس بشعر ، ولا يسمى قائله شاعرًا ؛ لأنه لم يقصده ، ولا شعر به . والشعر إنما سمي بذلك ؛ لأن قائله يشعر به ويقصده نظمًا ، ووزنًا ، ورويًا ، وقافية ، ومعنى .
(11/124)
والثالث : على تسليم أن هذا شعر فلا يلزم منه أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عالِمًا بالشعر ، ولا شاعرًا ؛ فإن التمثل بالبيت النذر ، وإصابة القافيتين من الرجز وغيره ؛ لا يوجب أن يكون قائلها عالمًا بالشعر ، ولا يسمى شاعرًا باتفاق العقلاء . وأما الذي نفى الله عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو العلم بالشعر ، وأصنافه ، وأعاريضه ، وقوافيه ، والاتصاف بقوله ، ولم يكن موصوفًا بشيء من ذلك بالاتفاق ، ألا ترى أن قريشًا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه إذا قدموا عليهم الموسم ، فقال بعضهم : نقول : إنه شاعر. فقال أهل الفطنة منهم : والله لتكذبنكم العرب ، فإنهم يعرفون أصناف الشعر ، فوالله ما يشبه شيئًا منها ، وما قوله بشعر . وقال أنيس أخو أبي ذر : لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم أنه شعر . وكان أنيس من أشعر العرب . وهذا الوجه هو المعتمد في الانفصال . والله تعالى أعلم .
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنا النبي لا كذب ... )) إلى آخره ؛ جواز الانتماء عند الحرب ، كما قال سلمة بن الأكوع : خذها وأنا ابن الأكوع. وقد روي ذلك عن جماعة من السَّلف . وقال ابن عبدالحكم من أصحابنا : إنما يكره أن يكون ذلك على وجه الكبر ، والافتخار ، كما كانت الجاهلية تفعل .
وقوله - أعني البراء - : (( كنا إذا احمر البأس نتقي به )) ؛ هذا كناية عن شدة الحرب ، إما لحمرة دم الجرحى والقتلى . وإما لتشبيه ذلك بحمرة جمرة النار . و(( البأس )) هنا : ا لحرب .
(11/125)
وقوله : (( ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يفرّ )) ؛ هذا هو المعلوم من حاله ، وحال الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم ؛ من إقدامهم ، وشجاعتهم ، وثقتهم بوعد الله تعالى ، ورغبتهم في الشهادة ، وفي لقاء الله تعالى . ولم يثبت قط عن واحد منهم : أنه فرَّ ، أو انهزم ، ومن قال ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال : فرَّ أو انهزم ؛ قتل ، ولم يستتب ؛ لأنه صار بمنزلة من قال : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أسود ، أو أعجميًا ، فأنكر ما علم من وصفه قطعًا ، وكذب به ، وذلك كفر ، ولأنه قد أضاف إليه نقصًا وعيبًا . وقد حكى أصحابنا الإجماع على قتل من أضاف إليه نقصًا أو عيبًا . وقيل : يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل .
وقول سلمة : (( ومررت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهزمًا )) ؛ يفهم منه ثبوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتوجهه نحو الكفار ، بل كان يركض بغلته نحوهم ، ولما غشيه القوم ، نزل عن البغلة ، وثبت لهم قائمًا ، حتى تراجع الناس إليه عند نداء العباس . ولم يسمع لأحد من الشجعان مثل هذا . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف )) ؛ هذا من أنس تقدير لا تحقيق ، إن لم يكن غلطًا من بعض الرواة . وأصح من هذه الرواية الرواية الأخرى التي فيها : أنهم كانوا عشرة آلاف غير الطلقاء . وسموا بذلك ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أطلقهم عند فتح مكة ، وهم غير العتقاء . والعتقاء : هم السبعون أو الثمانون من أهل مكة الذين راموا أن يغدروا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعسكره يوم الحديبية فأخذوا ، فأعتقوا ، فسمُّوا : العتقاء بذلك . قاله أبوعمر بن عبدالبر.
وقول أنس بن مالك : (( هذا حديث عميّه )) ؛ يعني : عمي ، وزاد هاء السكت التي تثبث في الوقف . يعني بذلك : أن نداء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يال المهاجرين )) إنما رواه عن عمه ، واسمه : ... .
(11/126)
وقوله : (( فايم الله ما أتيناهم حتى هزمهم الله )) ؛ يعني بذلك : أنه ما رجع أوّل المنهزمة حتى هزم الله العدو على أيدي المتسارعين إلى النداء من المهاجرين والأنصار الذين قاتلوا بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين تطاول عليهم وقال : (( الآن حمي الوطيس )) ، وبعد أن رمى الحصا في وجوههم ، وقال : (( شاهت الوجوه )) ؛ كما تقدم .
وقوله في الرواية الأخرى : (( فأدبروا عنه حتى بقي وحده )) ؛ يعني به : المقاتلين ، وإلا فقد ثبت أنه كان بقي معه العباس وأبو سفيان .
وقوله : (( فنادى يومئذ ندائين )) ؛ هذان النداءان من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما كان بعد أن رجع إليه المهاجرون والأنصار بنداء العباس حين نادى : يا أصحاب الشجرة ؛ كما تقدم . وقد تقدم في كتاب الزكاة الكلام على باقي ما في هذا الحديث .
ومن باب محاصرة العدو
قوله : (( حاصر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل الطائف )) ؛ كان هذا الحصار بعد هزيمة هوازن ، وذلك : أنه لجأ إليها فلّهم ، واجتمع بها شوكتهم ورماتهم مع رماة ثقيف . وكان النب ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى جدهم وامتناعهم قال لأصحابه : (( إنا قافلون غدًا إن شاء الله )) ؛ على جهة الرفق بهم ، والشفقة عليهم ، فعظم عليهم أن يرجعوا ولم يفتتحوا ذلك الحصن . ورأوا أن هذا العرض من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جهة المشورة ، فلما رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جدهم في هذا ، وما ظهر لهم ، قال لهم : (( اغدوا على القتال )) ، فلما أصابتهم الجراح ، وقتل منهم جماعة على ما ذكر أهل التواريخ ، قال لهم : (( إنا قافلون غدًا )) ؛ فأعجبهم ذلك لما أصابهم من شدة الحال ، ولما لقوا ، فضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى من اختلاف قولهم عند اختلاف الحالين ، ورجوعهم إلى الرأي السديد ، لكن بعد مشقة .
وفيه من الفقه : جواز محاصرة العدو ، والتضييق عليهم ، ومشاورة الإمام أصحابه ، وعرضه عليهم ما في نفسه ، وسلوكه بهم طريق الرفق والرحمة .
(11/127)
و (( القافل )) هو الراجع من السفر . والجماعة : القافلة . ولا يقال لهم في ابتداء سيرهم : قافلة . بل : رفقة .
ومشاورة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان . وإعراضه عن تكليم المهاجرين إنما كان ليستخرج ما عند الأنصار من خروجهم معه للحرب ، وذلك : أنهم إنما كانوا بايعوه ليمنعوه من الأحمر والأسود ، ولم يأخذ عليهم أن يخرجوا معه ، فأراد أن يعلم ما عندهم من ذلك ، فعرض عليهم ذلك ، فأجابوه بالجواب الذي ذكره سعد بن عبادة ، الذي حصل لهم به المقام المحمود ، والشرف المشهود .
و (( بَرْك الغِمَاد )) : موضع بأقاصي هجر ، بينه وبينهم بُعد عظيم . والرواية المشهورة فيه (( بَرْك) بفتح الباء بواحدة وسكون الراء . و((الغِمَاد )) بكسر الغين المعجمة . وقيده شيوخ أبي ذر في البخاري : بكسر الباء . وقال بعض اللغويين : هو الصواب . وضبطه الأصيلي : بفتح الراء وسكونها . أعني : راء (( برك )). وحكى ابن دريد : الكسر ، والضم في غين (( الغماد )) ، والصحيح المشهور ؛ الأول . وفي ضرب الصحابة للغلام ، وإقرارالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إيَّاهم عليه . ما يدل على جواز ضرب الأسير ، وتعزير المتهم إذا كان هنالك سبب يقتضي ذلك ، وأنه يضرب في التعزير فوق العشرة ، خلافًا لمن أبى ذلك ، وقال : لا يضرب فوق العشرة . وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى .
واختلف في إقرار المتهم عند الضرب . فعند الشافعي وكثير من أصحابه : هل لا يقبل إقراره حتى يتمادى ؛ سواء عين ما أقر به من سرقة أو قتل ، أو لم يعين . ومن أصحابنا من ألزمه في ذلك إذا عين المقر به ، وإن رجع عن إقراره . ومنهم من أجازه وإن لم يعين . ومنهم من منعه وإن تمادى عليه لأن خوفه أن يعاد عليه العذاب باق .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( والذي نفسي بيده لتضربونه إذا صدقكم ، وتتركونه إذا كذبكم )) ؛ إخباز عن غيب ، فهو من أعلام نبوته ، وكذلك قوله : (( هذا مصرع فلان ، وفلان )) ؛ إذ قد وقع ذلك ، ووجد كما أخبر عنه .
(11/128)
وقوله : (( فما ماط أحدهم موضع يده ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ أي : ما تباعد . يقال : ماط الرجل : إذا تباعد ، وأماط غيره : إذا باعده . وقيل : ماط الرجل ، وأماط : إذا تباعد ، لغتان .
ومن باب ما جاء أن فتح مكة عنوة
قوله : (( كان كل رجل منَّا يصنع طعامًا يومًا لأصحابه ، فكانت نوبتي )) ؛ هذه المناوبة في الطعام كانت منهم على جهة المكارمة ، والمطايبة ، والتبرك بالمؤاكلة والمشاركة فيها ، لا على جهة المعاوضة ، والمشاخة ؛ ولذلك قال أبو هريرة للذي دعاه : (( سبقتني )). ففيه ما كان السلف عليه من حسن التودد ، والمزاورة ، والمواصلة ، والمكارمة . ولو هي هنا للتمني ؛ أي : ليتك حدثتنا . و(( أدرك طعامنا )) ؛ أي : انتهى إلى النضج .
وقوله : (( وجعل أبا عبيدة على البياذقة )) ؛ البياذقة : هم الرَّجالة . وأصله بالفارسية : أصحاب ركاب الملك . وقد رواه بعضهم : (( السَّاقة )) وفيها بُعد . وبعضهم قال : (( الشارفة )) ؛ أي : المشرفة . وهي تصحيف . والأُولى هي الصواب . وفي رواية أخرى : (( الحسر )) مكان ((البياذقة )) وهو جمع حاسر . وهو هنا : الذي لا درع معه . وهذا الوصف صادق على الرَّجالة ؛ فإنهم كذلك غالبًا . وقد صحفه بعضهم فقال : (( الجمس )) مكان (( الحسر )).
وقوله : (( وبطن الوادي )) منصوب بفعل مضمر ؛ أي : وجعل طريقه بطن الوادي ، كما جاء مفسَّرًا في الرواية ، ولا يجوز خفضه ؛ لأنه يلزم منه أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل أبا عبيدة على سكان بطن الوادي . وذلك غير مرار قطعًا .
(11/129)
ونداؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار خاصة : إما لأن المهاجرين كانوا حضورًا معه فلم يحتج إلى ندائهم ، وإما ليظهر لهم شدة اعتنائه بهم ، وتعويله عليهم . ويظهر لي : أن اختصاصه بالأنصار في هذا الموضع ، وقوله : (( لا يأتيني إلا أنصاركن )) ؛ كما جاء في الرواية الأخرى ، إنما كان لأنه وصَّاهم بقتل من تعرض لهم من قريش ؛ إذ لا قرابة ، ولا رحم بينهم ، فلا موجب للعطف عليهم ، بخلاف المهاجرين ؛ فإن بينهم قرابات وأرحامًا ، فلا جرم لما سمعت الأنصار أمره مضوا لذلك ، فلم يتعرض لهم أحد إلا أناموه ؛ أي : قتلوه ، فصيروه كالنائم . والله تعالى أعلم .
و (( أوباش قريش )) : أخلاطهم . وفي الرواية الأخرى : ووبشت قريش أوباشًا لها ؛ أي : جمعت جموعًا من قبائل مخلفة . ويقال : أوباش وأوشاب . بمعنى واحد .
و (( الحصد )) : القطع . وأصله في الزرع ، واستعاره هنا للقتل لما كانت الرؤوس والأيدي تقطع فيه .
وقوله : (( وأحفى بيده ووضع يميته على شماله )) ؛ كذا صحيح الرواية - بالحاء المهملة - معناه : استأصل ؛ أي : أشار إلى ذلك . وبعضهم رواه : (( وأكفى ))- بالكاف - ؛ أي : مال بيده ، فكأنه ي وضع يمناه على يسراه ، وأقرها عليها مشيرًا إلى الاستئصال . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( موعدكم الصفا )) ؛ ظاهره خطابه للأنصار ، فكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلقك الطريق الأعلى من مكة ، وسلكت الأنصار من أسفلها ، حتى اجتمعوا عند الصفا . و(( الموعد )) هنا : موضع الوعد ، وقد يأتي كذلك في الزمان ، كقوله تعالى : { إن موعدكم الصبح } ، ويأتي كذلك للمصدر . وهو في كل ذلك مكسور العين .
وقول أبي سفيان : (( أبيدت خضراء قريش )) ؛ أي : أفنيت وأذهبت . وفي رواية أخرى : (( أبيحت )) من الإباحة . وكلاهما متقارب . و((خضراء قريش )) معظمها ، وجموعها .
(11/130)
وقوله : (( لا قريش بعد اليوم )) ؛ أي : لا وجود لقريش بعد هذا . وذلك بما رأى من هول الأمر ، والغلبة ، والقهر ، والاستطالة ، والاستيلاء عليهم . وهذا الحديث لمالك نص على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخلها عنوة ، وقهرًا . وهو الذي صار إليه جمهور العلماء ، والفقهاء ، مالك وغيره ، عدا الشافعي ، فإنه قال : فتحت صلحًا . وقد اعتذر عنه بعض أصحابه عنه في ذلك بأن قال : أراد الشافعي بقوله : إنه دخل مكة صلحًا ؛ أي : فعل فيها مايفعله من صالح . فملكهم أنفسهم ، ومالهم ، وأرضيهم .
قلت : والكل متفقون على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما دخل مكة أمن أهلها ولم يغنمهم ، وترك لهم أموالهم ، وذراريهم ، وأرضيهم ، ولم يجر عليها حكم الغنيمة ، ولا حكم الفيء ، فكان ذلك أمرًا خاصًّا بمكة ، لشرفها ، وحرمتها ، ولا يساويها في ذلك غيرها من البلاد بوجه من الوجوه . والله تعالى أعلم . وقد تقدم الكلام في بيع دور مكة وإجاراتها.
وقول الأنصار : (( أما الرَّجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ، ورغبة في قريته )) ؛ هذا ما قال القول ليس فيه تنقيص ، ولا تصغير ، وإنما هم لما رأوا منه ما تقتضيه خلق الكرام ، وجبلات الفضلاء من الرأفة على العشيرة ، والصَّغْو للوطن ، والحنين له ، خافوا أن يؤثر المقام فيها على المقام بالمدينة ، فحملهم شدة محبتهم له ، وكراهة مفارقته ، أو مفارقة أوطانهم ، على أن قالوا هذا الكلام ، وقد بيَّنوا عذرهم عن هذا حيث قالوا : (( ما قلناه إلا ضنًّا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أي : بخلاً . وإخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياهم ما قالوا ، معجزة من معجزاته .
(11/131)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ألا فما اسمي إذًا ؟ )) قيل : إنما قال ذلك تنبيهًا على صدقه لما ظهرت معجزته بإخباره عما غاب عنه ، كما كان يقول عند ظهور الخوارق على يديه : (( أشهد أني رسول الله )) . وقيل : إنما قال ذلك تنبيهًا على أن صدق اسمه (( محمد )) عليه يمنعه من نقض العهد ، وترك القيام بحق من له حق ، فكأنه قال : لو فعلت ذلك لما استحققت أن أسمّى : محمدًا ، ولا : أحمد ؛ إذ كلاهما مأخوذ من الحمد . ويدل على صحة هذا التأويل قوله : (( المحيا محياكم ، والممات مماتكم )) ؛ أني لا أفارقكم حياتي ولا موتي . وبكاة الأنصار إنما كان فرحًا وصبابة برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
و (( سية القوس )) : طرفها المنحني . وله سيتان . وقد قال في طريق أخرى : (( وأخذ بعود في يديه )) ، يريد به القوس .
وقوله : (( كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا )) ؛ إنما كانت بهذا العدد ؛ لأنهم كانوا يعظمون في كل يوم صنمًا ، ويخصُّون أعظمها بيومين .
وقوله : (( فجعل يطعنها بعود في يده )) ؛ يقال : كانت مثبتة بالرَّصاص ، وأنه كلما طعن منها صنمًا في وجهه خر لقفاه ، أو في قفاه خر لوجهه . ذكر هذا القول عياض في كتاب"الشفاء".
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يقتل قرشي صبرًا بعد اليوم إلى يوم القيامة )) ؛ أصل الصبر : الحبس . فمعنى : قتل صبرًا ؛ أي : محبوسًا ، مأسورًا لا في معركة ، ومنه : المصبورة : المنهي عن قتلها . قال الحميدي : وقد تأوَّل بعض العلماء هذا الحديث على معنى : أنه لا يقتل قرشي مرتدًّا ثابتًا على الكفر صبرًا ؛ إذ قد وجد من قتل منهم صبرًا في القتال وغيره ، ولم يوجد من قتل منهم صبرًا وهو ثابث على الكفر .
وقال القاضي عياض : هذا إعلام منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنهم يسلمون كلهم ، كما كان ، وأنهم لا يرتدون بعده كما ارتد غيرهم ممن حورب ، وقتل صبرًا .
(11/132)
وقوله : (( لم يكن أسلم من عصاة قريش غير مطيع بن الأسود )) ؛ قال القاضي عياض : (( عصاة )) هنا : جمع العاصي ، من الأسماء ، لا من الصفات ؛ أي : لم يسلم ممن كان اسمه (( العاصي )) ، كالعاصي بن وائل السهمي ، والعاصي بن هشام بن البختري ، والعاصي بن سعد بن العاصي بن أميَّة ، والعاصي بن هشام بن المغيرة المخزومي ، والعاصي بن منعه بن الحجاج وغيرهم ، سوى العاصي بن الأسود العدوي ، فغير النبي اسمه ، فسماه : مطيعًا . وإلا فقد أسلم عصاة قريش وعتاتهم ، والحمد لله ، لكنه قد ذكر : أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو وهو ممن أسلم ، واسمه : العاصي . فإذا صح هذا فيحتمل : أن هذا لما غلبت كنيته عليه ، وصار اسمه كأنه غير معروف ، فلم يستثنه كما استثنى مطيع بن الأسود . والله تعالى أعلم .
ومن باب صلح الحديبية
(( جُلُبان السلاح )) بضم الجيم واللام . وذكره الهروي : بإسكان اللام. وصوَّبه ثابت . وهو مثل الخلبان من القطاني ، وقاله بعض المتمنين بالراء : (( جربان )) بدل اللام . وجربان السيف والقميص . وفي البخاري : بجلب السلاح . ولعله جمع جلبان . وقد فسر الجلبان في الحديث : بالسيف وما هو فيه ، وهو شبه الجراب من الأدم ، يوضع فيه السيف مغمودًا ، ويطرح فيه السوط . وفائدة اشتراطهم ذلك : أن لا يدخل عليهم على حالة المحاربين وهيئاتهم ، فيظن أنه دخلها عليهم قهرًا.
وقوله : (( هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله )) ؛ أي : ما صالح عليه. وفيه حجَّة لأرباب الوثائق على افتتاحهم الوثائق التي لها بال بهذا ، كقولهم : هذا ما اشترى ، وهذا ما أعتق ، وهذا ما أصدق . وعلى تقديم الرجل الكبير فى صدر الوثيقة ، بائعًا كان ، أو مبتاعًا .
و (( يمحاها )) : يذهبها ويزيلها ؛ يعني : الكلمة التي نازعه فيها . يقال : محوت الشيء ، ومحيته ، أمحوه ، وأمحاه ، محوًا ، ومحيًا .
(11/133)
وامتناع علي ـ رضى الله عنه ـ من المحو مع أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك : إنما كان لأنه لم يفهم من ذلك الأمر الجزم ، ولا الإيجاب . وإنما فهم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره بذلك على جهة المصلحة في موافقتهم على ماطلبوه ، لكن خفي على علي وعمر وغيرهما وجة المصلحة في ذلك ؛ ولذلك عظمت عليهم تلك الحال ، واشتدت عليهم حتى قال عمر ما قال : وحلف علي : ألا يمحو ما أمره بمحوه تعظيمًا لمحو اسم الرسالة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل ذلك مقبل على ما أراه الله ، وممتثل أمر الله تعالى ساكن الجأش ، واثقًا بأن الله لا يضيعه ، وأن الله سيجعل لهم في ذلك خيرًا وفرجًا ، ولذلك كان حال أبي بكر من سكون الجأش ، والثقة بالله ؟ حتى قال لعمر ما قال ، مما يدل على موافقته رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظاهرًا ، وباطنًا ، حتى نصَّ على عمر ما قاله له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرفًا ، حرفًا ، حسب ما نصه في حديث سهل بن حنيف .
(11/134)
وقوله : (( أرني مكانها ، فأره ، فمحاها وكتب )) ؛ ظاهر هذا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ محى تلك الكلمة التي هي (( رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) بيده ، وكتب مكانها : (( ابن عبد الله )) ، وقد رواه البخاري بأظهر من هذا فقال : فأخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكتاب ، فكتب . وزاد في طريق أخرى : (( ولا يحسن أن يكتب )). فقال جماعة بجواز هذا الطاهر عليه ، وأنه كتب بيده . منهم : السمناني ، وأبو ذر ، والباجي . ورأوا : أن ذلك غير قادح في كونه : أمِّيًا ، ولا معارض لقوله تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } ، ولا لقوله : (( إنا أمة أميِّة ، لا نكتب ولا نحسب )) ؛ بل رأوه زيادة في معجزاته ، واستظهارًا على صدقه ، وصحة رسالته . وذلك : أنه كتب من غير تعلم لكتابة ، ولا تعاط لأسبابها ، فكان ذلك خارقًا للعادة ، كما أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلِم عِلم الأولين والآخرين من غير تعلُّم ، ولا اكتساب ، فكان ذلك أبلغ في معجزاته ، وأعظم في فضائله ، هذا لو فرض أنه علم الكتابة كلها ، ودام عليها ، فكيف ولم يرو عنه قط أنه كتب في غير ذلك الموطن الخاص ، بل لم يفارق ما كان عليه من عدم معرفته بالكتابة حالة كتابته تلك ، وإنما أجرى الله تعالى على يده ، وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها : (( ابن عبدالله )) لمن قرأها ، ثم هل كان عالِمًا في تلك الحال بنظم تلك الحروف الخاصة ؛ كل ذلك محتمل . وعلى التقديرين : فلا يزول عنه اسم الأمي بذلك ؛ ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة : (( ولا يحسن أن يكتب )). فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال : (( كتب )). وقد أنكر هذا كثير من متففهة الأندلس وغيرهم ، وشدّدوا النكير فيه ، ونسبوا قائله إلى الكفر . وذلك دليل : على عدم العلوم النظريه ، وعدم التوقف في تكفير المسلمين ، ولم يتفطنوا أن تكفير المسلم كقتله ، على ماجاء عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في "الصحيح" ، لاسيما رمي من شهد له أهل عصره بالعلم ، والفضل ، والإمامة . على أن المسألة ليست قطعية ، بل مستندها ظواهر أخبار آحاد(11/135)
صحيحة ، غير أن العقل لا يحيلها ، وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها على ما تقدَّم.
وقوله في الرواية الأخرى لعلي : (( اكتب : من محمد بن عبدالله )) ؛ ليس معارضًا للرواية التي تقدَّم ذكرها ؛ إذ ليس فيها : أن عليًّا كتب بيده ، وإنما فيها : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره بالكتابة كما أمره بالمحو ، فلم يمح علي ، ولم يكتب ، فلما امتنع علي منهما جميعًا للوجه الذي ذكرناه ، قال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أرني مكانها )) ؛ فأراه إيَّاه ، فمحاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكتب بيده ، على ما تقرر من المذهب الأول . وعليه تجتمع الروايات المختلفة .
وقوله : (( فاشترطوا عليه : أن من جاء منكم لم نرده ، ومن جاء منا رددتموه علينا )) ؛ لا خلاف بين الرواة والمتأولين : أن الرجال داخلون في هذا اللفظ العام ، واختلفوا : هل دخل فيهم النساء ؟ فمنهم من منع ذلك ، واستدل بما جاء في البخاري في كتاب : الشروط ، في هذا الحديث ، وهو أنه قال : ولا يأتيك منا رجل على دينك إلا رددته إلينا . وهذا نص ، وعلى هذا : فلا يحتاج إلى اعتذار عن حبس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ النساء اللاتي أسلمن وهاجرن إلى المدينة . ولا أن نقول في قوله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } ، أنه ناسخ . والأكثر على أنهن دخلن في ذلك العموم . وقد روي أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية جاء زوجها صيفي يطلبها ، وكانت أسلمت ، وهاجرت . وكذلك أم كلثوم بنت عقبة ، فجاء زوجها : مسافر يطلبها بالشروط ، فأنزل الله تعالى الآية في النهي عن ردهن ، ورأوا : أن هذه الآية ناسخة لما تقرر بالشرط المتقدَّم ؛ الذي هو : ردهن إلى الكفار . والطريقة الأولى أحسن ، وأبعد عن الإشكال ؛ إذ لم يدخلن في الشرط .
(11/136)
ثم اختلفوا : فيما إذا صولح العدو على مثل هذا الشرط . فذهب الكوفيون : حكم إلى أن ذلك لا يجوز ؛ لا في الرجال ولا في النساء . ورأوا : أن كل ذلك منسوخ . ونحوه حكى مكي في "الناسخ والمنسوخ" له عن المذهب . وذهب مالك في المشهور عنه ، وحكي عن أصحاب الشافعي جواز ذلك ، ولزومه في الرجال دون النساء ، لكن بشرط أن يكونوا مأمونين على دمه .
وقيل : إنما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك لضعف المسلمين عن مقاومة عدوهم في ذلك الوقت ، وذلك لأنه إنما رد من رد ممن جاء مسلمًا لآبائهم ، وذوي أرحامهم ؛ لعطفهم عليهم ، ولحبهم فيهم ، ولصحة إسلام من أسلم منهم ، وللذي علمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حال من رد : أنه سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا ، وكذلك كان . وكل هذه الأمور معدومة في حق غيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلا يحتج بتلك القضية على جواز ذلك . والله تعالى أعلم .
وقول سهل بن حنين : (( أيها الناس اتهموا أنفسكم )) ، وفي الأخرى : (( رأيكم )) ؛ يعني به : التثبت فيما كانوا فيه ، والتبصر ، وألا يستعجلوا في أمورهم . ووجه استدلاله بها : أن تلك الحالة كان ظاهرها مكروهًا لهم ، صعبًا عليهم ، فلما تثبتوا في أمرهم ، وأطاعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل الله لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا ، فكأنه يقول لهم : إن صبرتم على المكروه ، وتثبتم في أمركم ، واتقيتم الله ، جعل الله لكم من هذه الفتن مخرجًا ، كما جعله لأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الحديبية .
وقال القاضي عياض : إنما قال ذلك سهل بن حنين لما ظهر في أصحاب علي من كراهة شأن التحكيم ، ومراوضة الصلح ، وكان الظفر لهم ، حتى رفع لهم أهل الشام المصاحف ، ودعوهم إليها ، ورغبوا في المصالحة.
(11/137)
وقول عمر : (( لم نعطي الدنية في ديننا )) ؛ يعني بالدنية : الحالة الخسيسة ، ويعني به : الصلح على ما شرطوا . ولم يكن ذلك من عمر شكًّا ، ولا معارضة ، بل كان استكشافًا لما خفي عنه ، وحثًّا على قتال أهل الكفر ، وإذلالهم ، وحرصًا على ظهور المسلمين على عدوهم . وهذا على مقتضى ماكان عنده من القوة في دين الله ، والجرأة والشجاعة التي خصَّه الله بها . وجواب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر بما جاوباه به يدل : على أن عندهما من علم باطنة ذلك ، وعاقبة أمره ما ليس عند عمر ، ولذلك لم يسكن عمر حتى بشره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالفتح ، فسكن جأشه ، وطابت نفسه .
وقول سهل بن حنيف : (( ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه ، إلا أمركم هذا )) ؛ وضعنا : رفعنا هنا ؛ أي : وضعناها على عواتقنا . والعواتق : جمع عاتق ، وهو من المنكب وما يليه إلى العنق ، وهو الكاهل ، والكتد ، والثبج .
و (( أسهلن )) ؛ أي : حملتنا إلى أمر سهل ، وهو من : أسهل : إذا دخل سهلاً من الأرض ، كأنجد ، وأشأم ، وأعرق : إذا دخل تلك المواضع .
ويعني بهذا الكلام : أن كل قتال قاتل فيه ما رفع سيفه فيه إلا عن بصيرة لعاقبة أمره ، فسهل عليه بسببها ما يلقاه من مشقات الحروب ، غير تلك الأمور التي كانوا فيها ، فكانوا كلما لاح لهم فيها مصلحة وعاقبة حسنة ظهر لهم نقيضها . ويدل على صحة هذا قوله : (( مافتحنا منها من خصم إلا انفجر علينا منه خصم )). أصل الخصم : طرف الشيء وجانبه الذي يؤخذ به . وخصم الراوية : طرفها . وخُصم العِدل : جانبه الذي يؤخذ به .
وقوله : (( ما فتحنا )) وَهْمٌ من بعض الرواة ، وصوابه : (( ما سددنا )) ؛ لأنه مقابل : (( انفجر علينا )) ، وكذا وقع في البخاري : (( سددنا )) مكان : ((فتحنا )).
(11/138)
وهذا الحديث يدل على جواز الصلح على ما شرطه العدو عن ضعف المسلمين عن مقاومة عدوهم ، وعند الحاجة إلى ذلك ، ولا خلاف في جواز الصلح عند ذلك ، إلا ما ذكر من الخلاف في رد من جاء مسلمًا ، وكذلك لو صولحوا على مال يؤخذ منهم ، فأما إن لم تدع حاجة ، ولا ضرورة إلى ذلك ، ولم يكن للعدو قوة إلا لما بذلوه من المال. فأجاز ذلك جماعة منهم : الأوزاعي . ومنع ذلك مالك وأصحابه ، وعلماء المدينة .
واختلف في مقدار مدة الصلح حيث يجوز . فقال مالك : ذلك مفوّض إلى اجتهاد الإمام . وحدّ الشافعي أكثره بعشرة أعوام بناءً منه على صلح الحديبية فإنه كان عشر سنين ، واختلف فيها ، فقال عروة بن الزبير : كانت أربع سنين . وقال ابن جريج : ثلاث سنين . والأول أشهر .
ومن باب التحصبن وحفر الخنادق
الأحزاب : جمع حزب ، وهو الجماعة من الناس ، والجملة من الشيء. وتحزب الناس : اجتمعوا . والحزب من القرآن : جملة مجتمعة منه.
(11/139)
ويوم الأحزاب : عبارة عن غزوة الأحزاب ، وهي غزوة الخندق. وكانت في السنة الخامسة من الهجرة في شهر شوال ، وكان سببها : أن نفرًا من رؤساء اليهود انطلقوا إلى مكة مؤلبين على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومشجعين عليه ، فجمعوا الجموع ، وحزبوا الأحزاب ، فاجتمعت قريش وقادتها ، وغطفان وقادتها ، وفزارة وقادتها ، وغيرهم من أخلاط الناس. وخرجوا بحدهم وجدهم في عشرة آلاف حتى نزلوا المدينة ، ولما سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهم شاور أصحابه ، فأشار سلمان ـ رضى الله عنه ـ بالخندق ، فحفروا الخندق ، وتحصنوا به ، ثم إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج من المدينة بمن معه من المسلمين في ثلاثة آلاف ، فبرز ، وأقام على الخندق ، وجاءت الأحزاب ، ونزلت من الجانب الآخر ، ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل ، غير أن فوارس من قريش اقتحموا الخندق ، فخرج عليُّ بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ في فرساني من المسلمين ، فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، فقتل عليٌّ عمرو بن ود مبارزةً ، واقتحم الآخرون بخيلهم الخندق منهزمين إلى قومهم . ونقضت قريظة ما كان بينها وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعاونوا الأحزاب عليه ، واشتد البلاء على أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ جاء عدوهم من فوقهم ، ومن أسفل منهم ، فأقام المسلمون على تلك الحال قريبًا من شهر إلى أن خذل الله بين قريش وبين بني فريظة على يدي نعيم بن مسعود الأشجعي ، فاختلفوا ، وأرسل الله عليهم ريحًا عاصفةً في ليالي شديدة البرد ، فجعلت تقلب أبنيتهم ، وتطفئ نيرانهم ، وتكفأ قدورهم ، حتى أشرفوا على الهلاك. فارتحلوا متفرقين في كل وجه ، لا يلوي أحدٌ على أحدٍ . وكفى الله المؤمنين القتال . ثم إن رسول الله خرج إلى بني قريظة ، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، كما تقدم .
وقوله : (( فأنزلن سكينة علينا )) ؛ السكينة : السكون ، والثبات ، والطمأنينة .
(11/140)
وقوله : (( إن الأولى قد بغوا علينا )) ؛ كذا صحَّت الرواية الأولى بالقصر ، فيحتمل أن يريد به مؤنث الأول ، ويكون معناه : إن الجماعة السابقة بالشر بغوا علينا . ويحتمل أن تكون (( الألى )) هي الموصولة بمعنى الذين ، كما قال أبو ذؤيب :
ويأشبني فيها الأولى لا يلونها ولو علموا لم يأشبوني بباطل
وقال ابن دريد :
إن الأولى قارفت عن غير قلًى ما زاغ قلبي عنهم ولا هفا
ويكون خبر (( إن )) محذوفًا ، تقديره : إن الذين بغوا علينا ظالمون . وقيل : إن هذا تصحيف من بعض الرواة ، وإن صوابه : (( أولاء )) ممدود ، التي لإشارة الجماعة . وهذا صحيح من جهة المعنى والوزن . والله تعالى أعلم .
وغير خافي ما في هذا الحديث من الفقه ؛ من جواز التحصن ، والاحتراز من المكروهات ، والأخذ بالحزم ، والعمل في العادات بمقتضاها ، وأن ذلك كله غير قادح في التوكل ، ولا ينقص منه ، فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كمال المعرفة بالله تعالى ، والتوكل عليه ، والتسليم لأمره ، ومع ذلك فلم يطرح الأسباب ، ولا مقتضى العادات على ما يراه جُهّال المتزهدين أهل الدّعاوى الممخرقين .
وقد يستدل بإنشاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه هذه الأسجاع وأشباهها أهل المجون والبدع من المتصوّفة على إباحة ما أحدثوه من السَّماع المشتمل على مناكر لا يرضى بها أهل المروءات ، فكيف بأهل الديانات ؟! كالطارات ، والشبابات ، واجتماع المغاني وأهل الفساد والشبَّان ، والغناء بالألحان ، والرقص بالأكمام ، وهز الأقدام ، كما يفعله الفسقة الْمُجَّان . ومجموع ذلك يعلم فساده وكونه معصية من ضرورة الأديان ، فلا يحتاج في إبطاله إلى إقامة دليل ولا برهان . وقد كتبنا في ذلك جزءًا حسنًا سميناه : "كشف القناع عن حكم مسائل الوجد والسَّماع".
(11/141)
وقولهم : (( نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا )) ؛ تذكير منهم لأنفسهم بعهد البيعة ، وتجديد منهم لها ، وإخبار منهم له بالوفاء بمقتضاها . ولما سمع منهم ذلك أجابهم ببشارة : (( لا عيش إلا عيش الآخرة )) ، وبدعاء : (( فاغفر للأنصار والمهاجرة )). و(( المهاجرة )) أجراها صفة مؤنثة على موصوف محذوف فكأنه قال : للجماعة المهاجرة ، الرواية : (( والمهاجرة )) بألف بعد الواو وقبل اللام ، وهو غير موزون ؛ لأنه سجع ، ولا يشترط فيه الوزن ، ولو اشترط فإن الله تعالى قال : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } ، ولو قال : وللمهاجرة - بلامين - لاتَّزن ، إذا نقل حركة (( الأنصار )) إلى الساكن .
وقول الرجل : (( لو أدركت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاتلت معه فأبليت )) ؛ أي بالغت في ذلك ، واجتهدت فيه حتى يظهر مني ما يبتلى ؛ أي : ما يختبر. وقد تقدَّم : أن أصل هذا اللفظ : الاختبار . وأن فيه لغتين جمعهما زهير في قوله :
فأبلاها خير البلا الذي يبلو
وقد قيل : إن (( بلا )) في الخير ، و(( أبلى )) في الشر . ولما قال هذا الرجل هذا الكلام ولم يستثني فيه ، فهم منه حذيفة الجزم ، والقطع بأنه كذلك كان يفعل ، فأنكر ذلك عليه ، وأخبره بما يفهم منه أن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا أقوى في دين الله ، وأحرص على إظهاره ، وأحب في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأشجع منك ، ومع ذلك فقد انتهت بهم الشدائد ، والمشاق إلى أن حصل منهم ما ذكره ، وإذا كان هذا فغيرهم بالضعف أولى. وحاصله : أن الإنسان ينبغي له الاَّ يتمنى الشدائد والامتحان ، فإنه لا يدري كيف يكون حاله فيها . فإن ابتلي صبر ، وإن عوفي شكر .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((من يأتيني بخبر القوم ؟ )) يتضمن إخباره بسلامة المار ، ورجوعه إليه .
وقوله : (( جعله الله معي في الجنة )) ؛ أي : صاحبًا لي ، وملازمًا حضرتي. وكل واحد منهما على منزلته في الجنة ، ومنزلة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يلحقه فيها أحد .
(11/142)
وقوله : (( ولا تذعرهم علي )) ؛ الذعر : الفزع ؛ أي : لا تفزعهم ، فتهيجهم علي . و(( يصلِي ظهره )) ؛ أي : يسخنه بالنار ، ومصدره : الصلاء - مكسورًا ، ممدودًا -. والصلى- مفتوحًا ، مقصور-.
وقوله : (( كأنما أمشي في حمام )) ؛ أي : لم يصبه شيء من ذلك البرد ببركة طاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهي من كراماته ، ألا ترى أنه لما فرغ من ذلك العمل أخذه البرد كما كان أول مرة ؟!
و (( كبد القوس )) : وسطها ، حيث يقبض الرامي . قال الخليل : كبد كل شيء : وسطه . و(( قررت )) ؛ أي : أصابني القرُّ ، وهو : البرد. و(( العباءة ))- بفتح العين والمد - : هي الشملة ، وهي كساء يشتمل به ؛ أي : يلتف فيه . و(( نومان )) : كثير النوم . نسبه إلى ذلك ؛ لأنه نام حتى دخل عليه وقت صلاة الصبح . ولا يستعمل إلا في النداء خاصة.
ومن باب اقتحام الواحد على جمع العدو
(( رَهِقُوهُ )) ؛ أي : غشوه ، ولحقوه ، وهو مكسور العين ثلاثيًّا ، وقد جاء رباعيًّ بمعنى . ومنه قوله تعالى : { ولا ترهقني من أمري عسرًا }. قال ابن الأعرابي : رهقته ، وأرهقته : بمعنى واحد .
وقوله : (( لصاحبيه )) ؛ يعني بهما : القرشيين المذكورين في أول الحديث . وقوله : (( ما أنصفنا أصحابنا )) ، الرواية : (( أنصفنا )) بسكون الفاء . (( أصحابنا )) بفتح الباء ؛ يعني بهم : السبعة الذين قتلوا .
قال عياض : أي : لم نُدِلْهُم القتال حتى قتلوهم خاصة . وقد رواه بعض شيوخنا : (( ما أنصفَنا أصحابُنا ))- بفتح الفاء ، وضم الباء من (( أصحابنا ))- وهذا يرجع إلى من فرَّ عنه وتركه .
و (( المجن )) : الترس ؛ لأنه يستجن به ؛ أي : يستتر .
و (( الرُّباعية ))- بفتح الراء ، وتخفيف الياء- وهي : كل سن بعد ثنيه ، و(( هشمت )) : كسرت . و(( سلت الدم عنه )) : نزعه بيده .
(11/143)
وقوله : (( كيف يفلح قوم سبُّوا نبيهم ؟ )) هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به. وقوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } ، تقريب لما استبعده ، وإطماع في إسلامهم ، ولما أُطمع في ذلك ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )). وإذا تأمل الفطن هذا الدعاء في مثل تلك الحال علم معنى قوله تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يدع عليهم فينتصر ، ولم يقتصر على العفو حتى دعا لهم ، ولم يقتصر على الدعاء لهم حتى أضافهم لنفسه على جهة الشفقة ، ولم يقتصر على ذلك حتى جعل لهم جهلهم بحاله كالعذر ، وإن لم يكن عذرًا . وهذا غاية الفضل والكرم التي لا يشارك فيها ولا يوصل إليها .
وقوله : (( اشتد غضب الله على قوم كسروا رباعية نبيهم )) ؛ يعني بذلك المباشر لكسرها ولشجه ، وهو : عمرو بن قمئة . فإنه لم يسلم ، ومات كافرًا . فهذا عموم ، والمراد به الخصوص ، وإلا فقد أسلم جماعة ممن شهد أحدًا كافرًا ، ثم أسلموا وحسن إسلامهم .
قوله : (( اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ خصوص ، والمراد به العمرم في كل كافر قتله نبي من الأنبياء على الكفر . فيستوى في هذا الأنبياء كلهم . وقد جاء هذا نصًّا فيما ذكره البزار عن ابن مسعود مرفوعًا : (( أشد الناس عذابًا يوم القيامة من قتل نبيًّا ، أو قتله نبي ، أو إمام ضلالة )).
وقول عبدالله : (( كأني أنظر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحكي نبيًا من الأنبياء ... )) إلى آخره ؛ النبي هو الحاكي ، وهو المحكي عنه ، وكأنه أوحي إليه بذلك قبل وقوع قضية يوم أحد ، ولم يعين له ذلك النبي ، فلما وقع ذلك له تعين : أنه هو المعني بذلك .
ومن باب ما لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أذى المشركين
الجزور من الإبل : ما يجزر ؛ أي : يقطع . والجزرة من الشاء ، و((سلاها )) مقصورًا ، مفتوح السين : هي الجلدة التي يكون فيها الولد ، كاللفافة يقال لها من سائر البهائم : سلى ، ومن بني آدم : المشيمة .
(11/144)
وقوله : (( فاستضحكوا )) بضم التاء ، وكسر الحاء مبنيًّا لما لم يسم فاعله ؛ أي : ضحكوا ، ومال بعضهم على بعض مبالغة في الضحك والاستهزاء . و(( منعة )) بسكون النون ؛ أي : منع وقوة ؛ وإنما قال ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ ذلك ؛ لأنه لم تكن له عشيرة فيهم ؛ لأنه من هذيل ، فلم يكن له قوم يمتنع بهم ، ولا يمنع غيره . وقد روي : (( ومنعة )) بالفتح : جمع مانع ، ككاتب وكتبه . واستمرار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على سجوده والنجاسة عليه يدل لمن قال : إن إزالة النجاسة ليست براجبة . وهو قول أشهب من أصحابنا ، كما تقدَّم في الطهارة ، على أن بعض علمائنا قال : إن السَّلى لم تكن فيه نجاسة محققة . ومنهم من قال بموجبه ، ففرَّق بين ابتداء الصلاة بالنجاسة ؛ فقال : لا يجوز . وبيّن طروئها على المصلي في نفس الصلاة فقال : يطرحها عنه ، وتصح صلاته ، إذا لم يمكن طرحها ، بناءً على أن إزالتها واجبة . وإقبال فاطمة على أشراف قريش وكبرائهم تسبُّهم وتلعنهم دليل على قوة نفسها من صغرها ، وعلى عزتها وشرفها في قومها . وخوفهم من دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دليل على علمهم بفضله وبصحة حاله ، ومكانته عند الله تعالى ، وأنه من الله تعالى بحيث يجيبه إذا دعاه ، ولكن لم ينتفعوا بذلك الحسد والشقوة الغالبة عليهم . ووقع هنا في أصل كتاب مسلم : الوليدبن عقبة - عند جميع رواته- ، وصوابه : الوليد بن عتبة كما قال في الرواية الأخرى .
وقول أبي إسحاق : ((لم أحفظ السابع )). ذكر البخاري : أنه عمارة ابن الوليد ، وكذلك ذكره البرقاني .
وقول ابن مسعود : (( لقد رأيت الذين سمّى صرعى يوم بدر )) ؛ يعني به : أكثرهم ، وإلا فعمارة بن الوليد ؛ ذكر أهل السِّير : أنه هلك في أرض الحبشة حين اتهمه النجاشي فنفخ في إحليله سحرًا ، فهام على وجهه في البرّية فهلك . ويدل على ذلك أيضًا : أن عقبة بن أبي معيط لم يقتل ببدر ، بل خيل منها أسيرًا حتى قتله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعرق الظبية صبرًا .
(11/145)
و (( القليب )) : البئر غير المطوية . وإجابة الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مثل هذا الدعاء من أدلة نبوَّته ، وصحتها .
و (( سُحِبوا )) : جروا على وجوههم . ويوم العقبة : هو اليوم الذي لقي فيه ابن عبد ياليل بن عبد كلال في آخرين فكذبوه ، وسبُّوه ، واستهزؤوا به ، فرجع عنهم ، فلقيه سفهاء قريش ، فرموه بالحجارة حتى أدموا رجليه ، وآذوه أذًى كثيرًا .
وقوله : (( ولم أستفق )) ؛ أي : لم أفق - مما كان غشيه من الهم- إلا بقرن الثعالب ؛ أي : لم يشعر بطريقه إلا وهو في هذا الموضع ، وهو قريب من قرن المنازل ، الذي هو ميقات أهل العراق ، وهو على يوم من مكة .
و (( الأخشبان )) : جبلاً مكة . و(( أطبق )) ؛ أي : أجعلهما عليهم كالطبق. وإذا تأملت هذا الحديث انكشف لك من حاله معنى قوله تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت )). هذا البيث أنشده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو لغيره . قيل : إنه للوليد بن المغيرة ، وقيل : لعبدالله بن رواحة . ولو كان من قوله فقد تقدَّم العذر عنه في غزوة حنين .
وقوله : (( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غار فنكبت إصبعه )) ؛ أي : أصابتها نكبة دميت لأجلها . وفي الرواية الأخرى : أنه كان في بعض المشاهد. وفي البخاري : بينا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمشي إذا أصابه حجر ، فقال البيت المذكور. ظاهر هاتين الروايتين مختلف ، وأنهما قضيتان ، ولكن العلماء حملوا الروايتين على أنهما قضية واحد . فقال القاضي أبو الوليد : لعل قوله : في غار مصحّف من غزو .
وقال القاضي عياض : قد يراد بالغار هنا : الجيش والجمع ، لا واحد غيران التي هي الكهوف . فيوافق قوله : في بعض المشاهد . وقوله : يمشي . ولا يُعد ذلك وهمًا .
قلت : وهذا ليس بشيء ؛ إذ الغاز ليس من أسماء الجيش .
ومن باب : دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الله تعالى
(11/146)
الإكاف للدابة كالرحل للبعير ، والسرج للفرس. و(( القطيفة )) : كساء غليظ . و(( فدكية )) منسوبة إلى فدك ؛ لأنها تعمل فيها . و(( عجاجة الدابة )) : ما ارتفع من غبارها . و(( العجاج )) : الغبار المتطاير المتراكب .
و (( خَمَّر أنفه )) ؛ أي : غطاه . و(( أن يتواثبوا )) ؛ أي : يثب بعضهم إلى بعض مناولة ، ومقاتلة ؛ من : الوثب . و(( (يخفضهم )) : يسكنهم ، ويسهل أمرهم . و(( البُحَيرة )) : صحيح الرواية فيه بضم الباء ، مصغرة . وقد روي في غير كتاب مسلم : (( البَحِيرة )) بفتح الباء وكسر الحاء . وقيل : هما بمعنى واحد ، وأراد به هنا : المدينة . والبحار : القرى . قال الشاعر :
ولنا البدو كله والبحار
و (( يتوجوه )) ؛ أي : يعمموه بعمامة الملوك ، فإن العمائم تيجان العرب. و(( يعصبوه بعصابة الملوك )) ، كما جاء في رواية ابن إسحاق : لقد جاءنا الله بك ، وإنا لننظم له الخرز ؛ ليتوِّجوه. فكأنهم كانوا ينظمون لملوكهم عصابة فيها خرز ، يعمموه بها تشريفًا وتعظيمًا . وهذا أولى من قول من قال : إن يعصبونه بمعنى : يملكونه ، ويعصبون به أمورهم ؛ لأن ذلك كله يبعده قولهم : أن يعصبوه بالعصابة.
و (( شرق )) : اختنق . يقال : شرق بالماء ، وغص باللقمة ، وشجي بالعظم ، وجرض بالريق عند الموت . وأنشدوا :
على شرق لا بغير الماء حلقى شرق كنث كالغصان بالماء اعتصاري
وفي هذا الحديث من الفقه : جواز الابتداء بالسلام على مسلمين وكفار مجلس واحد . وينبغي أن ينوي المسلمين .
(11/147)
وفيه : الاستراحة ببث الشكوى للصاحب ، ولمن يتسلى بحديثه ، وينتفع برأيه . و(( الأرض السبخة )) : التي لاتنبث شيئًا لملح أرضها . والطائفة التي غضبت لعبدالله كان منها منافقون على رأي عبدالله ، ومنها مؤمنون حملهم على ذلك بقية حميه الجاهلية ، ونزعة الشيطان ، لكن لطف الله تعالى بهم ، حيث أبقى عليهم اسم المومنين بقوله : {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ، ليراجعوا بصائرهم ، ويطهروا ضمائرهم .
وقول سعد للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما قال في عبدالله )) ؛ إنما كان على جهة الاستلطاف والاستمالة ليستخرج منه ما كان في خلقه الكريم من العفو والصفح عن الجهال ، فلا جرم عفا حتى تم له ما أراد ، وصفا وصبر حتى ظفر صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين .
ومن باب جواز إعمال الحيلة في قتل الكفار
قوله : (( من الكعب بن الأشرف )) ؛ كعب هذا : رجل من بني نبهان من طيء ، وأمه من بني النضير ، وكان شاعرًا ، وكان قد عاهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن لا يعين عليه ، ولا يتعرض لأذاه ، ولا لأذى المسلمين ، فنقض العهد ، وانطلق إلى مكة إثر وقعة بدر ، فجعل يبكِّي من قتل من الكفار ، ويحرض على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو الذي أغرى قريشًا وغيرهم حتى اجتمعوا لغزوة أحد ، ثم إنه رجع إلى بلده ، فجعل يهجو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويؤذيه ، والمسلمين . فحينئذ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من لكعب بن الأشرف ، فإنه قد آذى الله ورسوله )) ، فأغرى بقتله ، ونبه على علة ذلك ، وأنه مستحق للقتل . ولا يظن أحد : أنه قتل غدرًا . فمن قال ذلك قتل ، كما فعله علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ ، وذلك أن رجلاً قال ذلك في مجلسه ، فأمر علي بضرب عنقه . وقال آخر : في مجلس معاوية ، فأنكر ذلك محمد بن مسلمة ، وأنكر على معاوية سكوته ، وحلف أن لا يظله وإيَّاه سقف أبدًا ، ولا يخلو بقائلها إلا قتله.
(11/148)
قلت : ويظهر لي : أنه يقتل ، ولا يستتاب ؛ لأن ذلك زندقة إن نسب الغدر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فأما لو نسبه للمباشرين لقتله بحيث يقول : إنهم أمنوه ، ثم غدروه . لكانت هذه النسبة كذبًا محضًا ؛ لأنه ليس في كلامهم معه ما يدل على أنهم أمنوه ، ولا صرحوا له بذلك ، ولو فعلوا ذلك لما كان أمانًا ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما وجههم لقتله لا لتأمينه ، ولا يجار على الله ، ولا على رسوله . ولو كان ذلك لأدى إلى سقاط الحدود ، وذلك لا يجوز بالإجماع . وعلى هذا فيكون في قتل من نسب ذلك لهم نظر ، وتردد . وسببه : هل يلزئم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنه قد صوَّب فعلهم ، ورضي به ، فيلزم منه : أنه قد رضي بالغدر ، ومن صرح بذلك قُتل ، أو لا يلزم ذلك ؟ لأنه لم يصرح به ؛ وإنما هو لازم على قوله ، ولعله لو تنبه لذلك الإلزام لم يصرح بنسبة الغدر إليهم ، ويكون هذا من باب التكفير بالمآل ، وقد اختلف فيه . والصحيح : أنه لا يكفر بالمآل ، ولا بما يلزم على المذاهب ، إلا إذا صرح بالقول اللازم . وإذا قلنا : إثه لا يقتل فإنه لا بد من تنكيل ذلك القائل ، وعقوبته بالسجن ، والضرب الشديد ، والإهانة العظيمة .
وقوله : (( إن هذا الرجل قد أراد صدقة ، وقد عنانا )) ؛ هذا الكلام ليس فيه تصريح بأمان ، بل هو كلام ظهر لكعب منه : أن محمد بن مسلمة ليس محققًا ، ولا مخلصًا في اتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا في الكون معه ، ولذلك أجابه بقوله : وأيضًا والله لتمَلُّنَّه . وكلام محمد من باب المعاريض ، وليس فيه من الكذب ، ولا من باب الباطل شيء ، بل هو كلام حق ، فإن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل ، لكن أي رجل ، وقد أراد صدقةً من أمته ، وأوجبها عليهم ، وقد عنَّاهم بالتكاليف. أي : أتعبهم ، لكن تعبًا حصل لهم به خير الدنيا والآخرة . وإذا تأملت كلام محمد هذا ؛ علمت أن محمد بن مسلمة من أقدر الناس على البلاغة ، واستعمال المعاريض ، وعلى إعمال الحيلة ، وأنه من أكمل الناس عقلاً ورأيًا .
(11/149)
وقوله : (( يسبُّ ابن أحدنا )) من السَّب ، وهو الصواب ، وصحيح الرواية ، وقد قيده الطبري : (( يَشِبُّ )) من الشباب ، بالشين المعجمة ، وهو تصحيف ؛ وإنما عيَّن السلاح للرهن ؛ لئلا ينكرها إذا جاؤوا بها .
وقول امرأة كعب : (( إني لأسمع صوتًا كأنه صوت دم )) ؛ أي : صوت طالب دم . كانت هذه المرأة من شياطين الإنس ، أو تكلم على لسانها شيطان ، كما قال تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} ، وإلا فمن أين أدركت هذا ؟ بل هذا من نوع ما وقع للزَّباء في قصتها مع قصير حين جاءها بالصَّناديق فيها الرِّجال ، فأوهمها أن فيها تجارة ، فلما رأتها أنشدت :
مَا لِلجِمالِ مَشيُهَا وَئِيدا؟
أجَنْدَلاً يَحمِلنَ أم حَدِيدا ؟
أمِ صَرَفَانًا بَارِدًا شَدِيدا؟
أمِ الرِّجَالُ جُثَّمًا قُعُودا ؟
وكذلك كان .
وقوله : (( إنما هو محمد ورضيعه وأبو نائلة )) ؛ هكذا صحت الرواية فيه على أن أبا نائلة غير رضيع محمد . وقد رواه أهل السير بإسقاط الواو على أنه بدل من (( رضيعه )). وفي البخاري : (( ورضيعي أبو نائلة )) على أن يكون أبو نائلة رضيع كعب . والمعروف بأنه رضيع محمد . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( نزل وهو متوشح )) ؛ أي : بثوب جعله على أحد منكبيه ، وأخرج الآخر . و(( دونكم )) منصرف على ا لإغراء ؛ أي : بادروا إلى قتله ، ولازموه .
ومن باب غزوة خيبر
قوله : (( ألا تسمعنا من هنيَّاتك ؟ )) أي : من أراجيزك ، وهو تصغير : (( هنة )). و(( هنة )) : كناية عن النكرات . وفيه ما يدل على الشعر وإنشاده على جهة التنشيط على الأعمال الشاقة والأسفار ، وترويح النفوس من الغم ، لكن إذا سَلِم من الآفات التي قدّمنا ذكرها ، ثم على القلة ، والنُّدور.
و (( الحدو )) أصله : الشوق . ولما كان إنشاد الشعر في السفر يسوق الابل سمّي : حدوًا .
(11/150)
وقوله : (( اللهم لولا أنت ما اهتدينا )) ؛ كذا الرواية هنا مجزومًا - بالزاي- ؛ زائدًا فيه حرف. وصوابه من جهة الوزن : لا هم ، أو تالله ، أو : والله ، كما جاء في الحديث الآخر : والله لولا الله ما اهتدينا .
وقوله : (( إنا إذا صيح بنا أبينا )) من الإباء . و(( أتينا )) من الإتيان . الروايتان صحيحتان ، ومعناهما : إذا صاح بنا أعداؤنا أبينا الفرار ، وثبتنا لا يهولنا صياحهم . وعلى الأخرى : إذا صرخ بنا أتينا للنصرة ، وإذا صاح بنا أعداؤنا أتيناهم مسرعين غير متربصين ولا متوقفين .
وقوله : (( فاغفر فِداءٌ لك ما اقتفينا )) ؛ الرواية هنا بكسر الفاء من (( فِداء )) وبالمد . وقد رواه بعضهم بفتح الفاء والمد ، وقد حكاه الأصمعي . وحكى الفراء : فَدًى - مفتوحًا مقصورًا- وهو- أعني في البيت - مرفوع بالابتداء ، وخبره : ما اقتفينا ، ومفعول (( اغفر )) محذوف ، أي : ذنوبنا . ويجوز أن يكون (( ما اقتفينا )) مفعول (( اغفر )) ، وخبر المبتدأ محذوف ؛ أي : فداء لك نفوسنا .
ومعنى (اقتفينا) أي : اكتسبنا . وأصله : من القفا . وكأن المكتسب للشيء يجري خلفه ، حتى يصل إليه . وهذا الكلام إنما يقال لمن تجوز عليه لحوق المكاره والمشفات ، فإذا قاله أحدنا لجنسه ، كان معناه : إن نفسي وقاية لك من المكاره ؛ أي : تصيبني ولا تصيبك . وهذا المعنى لا يليق بالله تعالى ، فيحتمل أن يكون إطلاقه هذا اللفظ على الله تعالى بحكم جريان ذلك على ألسنتهم من غير قصد ، كما قالوا : قاتله الله . وتربت يمينك . كما قدمناه في كتاب الطهارة . ويحتمل أن يحمل على الاستعارة . ووجهها : أنه لما كان الفداء مبالغة في رضى المفدى عبَّر بالفداء عن الرضا . أو يريد بذلك : فداء لدينك . أو : لطاعتك ؛ أي : نجعل نفوسنا فداء لإظهارهما.
وقوله : (( وألقين سكينة علينا )) ؛ أي : سكونًا وتثبيتًا في أوقات الحروب ، وصبرًا في مواطن المشقات .
(12/1)
وقوله : (( وبالصياح عوَّلوا علينا )) ؛ أي : ليس عندهم إلا الصياح ، فلا يبالي بهم . وقول الرجل : (( وجبت )) ؛ أي : الرحمة التي دعا له بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكان هذا الرجل من أهل العلم بحال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وذلك : أنه علم أن دعوته مستجابة لمكانته عند ربِّه تعالى . وفهم : أن تلك الرحمة تعجل للمدعو له ، فقال : (( لولا متعتنا به )) ؛ أي : هلا دعوت الله في أن يمتعنا ببقائه .
و (( المخمصة )) : الجوع الشديد . وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله عز وجل فتحها عليكم )) ؛ أي : يفتحها عليكم . فوضع الماضي موضع المستقبل لما كان أمرًا محققًا عنده . أو يكون خبر عما علم الله من فتحها .
و (( أَنَسيَّة )) روي بفتح الهمزة والنون . قال البخاري : كان ابن أبي أويس يقول : (( الأَنسية ))- بفتح الألف والنون - وأكثر روايات الشيوخ فيه : ((الإِنْسية )) بكسر الهمزة وسكون النون - وكلاهما صحيح . والأَنس- بالفتح - : التأنس.
قلت : فهو بالفتخ منسوب إلى الأنس ، بمعنى التأنس ، وبالكسر إلى الإنس الذي هو نوع الإنسان . وقيل : إن كليهما منسوب إلى الإنس ، لكن الأول على غير قياس ، والأول أولى . والله تعالى أعلم.
وقوله : (( أهريقوها واكسروها )) ؛ الضمير في (( أهريقوها )) للحوم. وفي (( اكسروها )) للقدور ، وإن لم يجر لها ذكر ، لكنها تدل عليها الحال. والهاء الأول في (( أهريقوها )) زائدة ؛ لأن أصله : أراق ، يريق . وقد يبدلون من هذه الهمزة (( هاء )) فيقولون : قراق الماء ، وهَرِق ماءك ، كما تقول : أراق ، وأرق .
وفيه : دلالة على تحريم لحوم الحمر الإنسية وسيأتي في الأطعمة إن إن شاء الله .
وقوله : (( أؤ ذاك )) ساكنة الواو ، إشار إلى إجازة غسل القدور ، وتخيير لبينه وبين الكسر المأمور به أولاً . وهذا يدل لمن قال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أبيح له الحكم بالرأي والاجتهاد .
و (( قفلوا )) : رجعوا . و(( شاحبًا )) : متغيرًا . و(( خبط )) : بطل . و((كذب )) هنا أخطأ .
(12/2)
وقوله : (( لما كان خيبر قاتل أخي قتالاً شديدًا )) ؛ القصة مخالفة لما ذكره في الرواية المتقدَّمة ، ولما يأتي بعد في أن هذه القصة إنما وقعت لعمه عامر بن الأكوع ، وهو الصحيح ، ولعل سلمة أطلق على عمه اسم الإخوة لرضاع كان بينهما ، أو لمؤاخاة ، وإلا فهو وهم من بعض الرواة ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( إنه لمجاهد مجاهد )) الرواية الصحيحة المشهورة : بكسر الهاء فيهما ، وضم الذال وتنوينها فيهما ، وضم الميم . وعند ابن أبي جعفر : (( لجاهد مجاهد )) ، بفتحها كلها إلا هاء (( مجاهد )) فإنها بالكسر . على أن يكون الأول : فعلاً ماضيًا ، والثاني : جمعًا لا نظير له في الآحاد ، فلم يصرفه . وكذلك رواه بعض رواة البخاري . والصواب الأول . ومعناه : جاهد جادٌ في أمره . قاله ابن دريد . والثاني : تكرار على جهة التأكيد . قال ابن الأنباري : العرب إذا بالغت في الكلام اشتقت من اللفظة الأولى لفظة على غير بنائها ، زيادة في التوكيد . فقالوا : جادٌّ مجدٌ ، وليلٌ لائل ، وشعر شاعر . قال غيره : وقد يكون ((جاهد )) ؛ أي : مبالغ في سبيل الخير . و(( مجا هد )) لأعدائه .
قلت : ويظهر لي : أن هذا القول أحسن بدليل قوله في الرواية الأخرى : (( مات جاهدًا مجاهدًا ، فله أجره مرتين )) ؛ فأشار بفاء التعليل إلى الجهتين اللتين يؤجر منهما ، وهما : جاهد مجاهد . فمعنى أحدهما غير الآخر. والله تعالى أعلم .
وقوله : (( قل عربي مشى بها مثله )) ؛ أكثر الروايات على أن (( مشى)) مفتوح الميم على أنه فعل ماض ، و(( بها )) بغير تنوين الهاء ، على أنه جار ومجرور . وللفارسي وحده : (( مُشابهًا ))- بضم الميم ، وتنوين الهاء - من المشابهة . وفي البخاري لبعض الرواة : (( نشأ بها )) من النشء . وكل بعيد في المعنى والعربية ، والصواب رواية الجماعة ، والضمير في (( بها )) عائد على الأرض ، وقيل : على الحرب .
(12/3)
قلت : ويحتمل أن يعود على الشهادة والحالة الحسنة التي مضى بها إلى الله تعالى. وهذا يعضده المعنى ، ومساق الكلام. والله تعالى أعلم.
ومن باب غزوة ذي قرد
(( الحديبية )) تقال بتخفيف الياء ، وتشديدها ، لغتان . وهو موضع فيه ماء على قرب من مكة ، كما تقدَّم . والرواية الصحيحة المشهورة : (( جَبَاا الرَّكية )) بالفتح في الجيم والباء بواحدة مقصورًا ، وهو جانب البئر . و(( الركيَّة )) البئر غير المطوية ، فإذا طويت فهي : الطَّوِيُّ . وللعذري : (( جُبِ ركية )) بضم الجيم ، وكسر الباء . والْجُب : البئر ليست بعيدة القعر . و(( جاشت )) ؛ أي : ارتفعت . يقال : جاش الشيء ، يجيش جيشًا ؛ إذا ارتفع .
وقوله : (( حجفة أو درقة )) على الشك من الراوي . والحجفة : الترس . وإنما يكون من عيدان ، والدّرق من الجلود . واختصاصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلمة بتكرار البيعة ثلاثًا ؛ تأكيد في حقّه ، لما علم من خصاله ،
وكثرة غنائه ، كما قد ظهر منه على ما يأتي.
و (( عزلاً )) الرواية فيه هنا ، وفي الحرف الآتي بعده : بفتح العين وكسر الزاي . قال بعض اللغويين : الصواب : أعزل ، ولا يقال : عزل. وقيده بعضهم : غزلاً - بضم العين والزاي- ، وكذا ذكره الهروي ، كما يقال : ناقة عُلُط ، وجمل فُنُق . والجمع : أعزال . كما يقال : جنب وأجناب ، وماء سُدُمٌ ، ومياه أسدام. والأعزل : الذي لا سلاح معه .
و (( أبغني )) : أعطني . يقال : بغيت الشيء من فلان فأبغانيه ؛ أي : أعطاني ما طلبته .
وقوله : (( ثم إن المشركين راسلونا الصلح )) ؛ هذه رواية العذري ، وهي من الرسالة . ورواه جماعة من رواة مسلم : (( راسُّونا )) بسينن مهملة مشددة مضمومة ، وهو من : رسِّ الحديث ، يرسه : إذا ابتدأه . ورسست بين القوم : أصلحت بينهم . ورسا لك الحديث رسوًا : إذا ذكر لك منه طرفًا . وروي : (( راسونا ))- بفتح السين - لابن ماهان . قال عياض : ولا وجه لها .
(12/4)
قوله : (( كنت تبيعًا لأبي طلحة )) ؛ أي : خديمًا له . وهو من : تبعت الرَّجل : إذا سرت خلفه . و(( أحسه )) أنفض عنه التراب . والحسُّ : الحك . و(( كسحت شوكها )) : كنسته . و(( الضغث )) : القبضة من الحشيش وغيره . و(( العبلات )) بطن من بني عبد شمس ، نسبو إلى أم لهم تسمى : عبلة بنت عبيد ، من البراجم . و(( الفرس المجفف )) : الذي عليه تجفاف - بكسر التاء - وهو الجل . و(( بدء الفجور )) : أوله ، والفجور ضد البرِّ . و(( ثناه )) : عوده ، بكسر الثاء المثلثة ، مقصورًا . وهي الرواية المشهورة ، ولابن ماهان : (( وثنياه )) بضم الثاء ، وهو بالمعنى الأول . والفجور هنا هو : نقض العهد ، ورَوْم غرة المسلمين ، وكان هذا في صلح الحديبية . وعفو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هؤلاء السبعين ليتتم أمر الصلح . والله تعالى أعلم .
وقد اختلف في سبب نزول قوله تعالى : { وهو الذي كف أيدهم عنكم } على أقوال هذا أحدها ، وهو أصحها .
وقوله : (( وهم المشركون )) بضم الهاء ، وتخفيف الميم ، وهي ضمير الجمع . وقد ضبطه بعض الشيوخ : (( وهَمَّ )) بفتح الهاء ، والميم وتشديدها ؛ على أنه فعل ماض . و(( المشركون )) فاعل به .
قال عياض : معناه : هم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين أمرهم لئلا يغدروهم ، ويبيتوهم لقربهم منهم . يقال : همني الأمر ، وأهمني . ويقال : همَّني : أذابني ، وأهمَّني : غمني .
قلت : والأقرب أن يكون معناه : هم المشركون بالغدر ، واستشعر المسلمون منهم بذلك .
و (( الظهر )) : الإبل التي تحمل على ظهورها الأثقال . و(( أُنَدَّيه مع الظهر )) ؛ أى : أورده الماء فيشرب قليلاً ، ثم أرعاه وأورده. وهي التَّنْدِيَة ، وأصلها للإبل . وقد تكون التندية في الفرس بمعنى : التضمير ، وهي : أن يجري الفرس حتى يعرق . ويقال لذلك العرق : الندى ، قاله الأصمعي .
(12/5)
و (( استاقه )) ؛ أي : حمله ، والتاء زائدة للاستفعال . و(( السَّرح )) الابل التي تسرح في المرعى . و(( الأكمة )) : الجبيل الصغير .
وقوله : (( يا صباحاه )) هاؤه ساكنة ، وهو يشبة المنادى المندوب ، ولييسر به . ومعناه هنا : الإعلام بهذا الأمر المهم الذي قد دهمهم في الصباح .
وقوله : (( وأنا ابن الأكوع )) الكوع : اعوجاج في اليدين . قيل : الكوع والوكع في الرجل : أن تميل إبهامها على أصابعها . واسم الأكوع : سنان بن عبدالله بن بشير ، وهو أبوسلمة على ما ذكره محمد بن سعد. وقيل : اسم أبي سلمة : عمرو بن الأكوع ، أو هو جدُّ سلمة ، فنسب إليه .
وقوله : (( واليوم يوم الرُّضع )) : الرُّضع : جمع راضع ، وهو اللئيم . وأصله : أن رجلاً كان يرضع الإبل ، ولا يحلبها ، لئلا يُسمَع صوت الحلب فيقصد ، فعبَّروا عن كل لئيم بذلك . وعليه قالوا في المثل : لئيم راضع . وقيل : لأنه يرضع اللؤم من أمه ، وهو مطبوع عليه . وقيل : معناه : اليوم يظهر من أرضعته كريمة أو لئيمة . وقيل : اليوم يعرف من أرضعته الحربُ من صغره .
وقوله : (( فأصاب سهمًا في رَحْله ، حتى خلص نصل السهم إلى كتفه )) ؛ كذا روايتنا فيه ، بالحاء المهملة. ويعني به : أن سهمه أصاب أخرة رحله ، فنفذها ، ووصل إلى كتفه . وفي بعض النسخ : (( فأصكه سهمًا في رجله حتى خلص إلى كعبه )) ، والأول أشبه. و(( أصك )) : أضرب. و(( ألحق )) و(( أصك )) : مضارعان ، ومعناهما : ا لمضي .
وقوله : (( فما زلت أرميهم )) ؛ أي : أرميهم بالسهام (( وأعقر بهم )) خيلهم ، ومنه (( فعقر بعبدالرحمن فرسه )) ، ويحتمل أن يكون معناه : أصيحُ بهم ، من قولهم : رفع عقيرته ؛ أي : صوته . و(( يتضحَّون )) ؛ أي : يتغدَّون . وأصله : يأكلون عند الضحى . و(( يُقْرَوْن )) : يُضافون . أخبرهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بأنهم قد وصلوا إلى بلادهم ، وأنهم قد فاتوهم . و(( الأرام )) : بألف ساكنة من غير همز : الأعلام من الحجارة . قال الشاعر :
(12/6)
وبَيْداءَ نَحْسَبُ آرامَها رجالَ إيَادٍ بأجيادِها
يعني : بأشخاصها . و(( الأرام )) بهمز الألف : الظباء . و(( القرن )) : جبل صغير منفرد منقطع من جبل كبير . و(( البَرْح )) مفتوحة الباء ، ساكنة الراء ، يعني به : المشقة الشديدة .
وقوله : (( أنا أظنُّ )) أي : أتيقَّن . كما قال تعالى : { إني ظننت أني ملاق حسابية } ؛ أي تحققت ، وأيقنت . ويحتمل البقاء على أصل الظن الذي هو تغليب لأحد المحتملين ، وقد اقتصر عليها ولم يذكر لها هنا مفعول . ويحتمل أن يكون حذف مفعولها للعلم به ، وهو : ذاك الذي هو إشارة إلى أن المصدر الذي يكتفى به عن المفعولين ، كما تقول : ظننت ذاك . والله أعلم .
و (( أعدو على رجلي )) ؛ أي : أشتد في الجري . و(( حليتهم )) كذا وقع في رواية القاضي بالياء ، وقال : أصله الهمز فسُهّل .
قلت : وصوابه : الهمز ، وهو أصله ، وهذا تسهيل لا يقتضيه القياس ، وروايتي فيه بالهمز على الأصل . ومعناه : طردتهم عن الماء.
و (( الثنيه )) : الطريق في الجبل . وقوله : (( يا ثكلته أمه )) يا : للنداء ، والمنادى محذوف ويشبه أن يكون المحذوف (( مَنْ )) الموصولة متصلة بـ((ثكلته أمه )) ، وكأنه قال : يا من ثكلته أمه ، فحذفها للعلم بها . ويحتمل غير هذا ، وهذا أشبه . والثكل : الفقد. والثكلى : المرأة الفاقدة ولدها ، الحزينة عليه . ومنه قولهم : ثكل خير من عقوق ، وكأنه دعا عليه بالفقد والهلاك .
وقوله : (( أكوعه بكرة )) الضمير في أكوعه يعود على المتكلم على تقدير الغيبة ، كأنه قال : أكوع الرجل المتكلم ، وقد فهم منه هذا سلمة ، حيث أجابه بقوله : (( أكوعك بكرة )) ، فخاطبه بذلك و(( بكرة )) منصوب ، غير منون على الظرف ؛ لأنه لا ينصرف للتعريف والتأنيث ؛ لأنه أريد بها بكرة معينة ، وكذلك : غدوة . وليس ذلك لشيء من ظروف الأزمنة سواهما فيما علمت .
(12/7)
وقوله : (( وأرذوا فرسين )) ، روايتي فيه بالذال المعجمة ، ومعناه : تركوا فرسين معيبين لم يقدرا على النهوض من الضعف والكلال . والرذيه : المعبية ، وجمعها : رذايا ، ومنه قول الشاعر :
فهن رذايا في الطريق ودائع
وقد روي بالدال المهملة (( أردوا )) ؛ أي : تركوهما هلكى ، من الردى ، وهو الهلاك ، والأول أوجه ؛ لأنه قال : فأقبلت بهما أسوقهما ، فدل على أنهما لم يهلكا ، وإنما ثقلا كلالاً وإعياءً .
و (( السَّطيحة )) : إناء من جلود يُسطَّح بعضها فوق بعض . و(( المذقة )) : القطرة من اللبن الممزوج بالماء . و(( المذق )) : مَزْج اللبن بالماء ، وقد تقدَّم القول في النواجذ ، وأن المراد بها - هنا- : الضَّواحك .
وقوله : (( أعطاني سهمين : سهم الفارس ، وسهم الرَّاجل )) ؛ أما سهم الرَّاجل فهو حقُّه ، وأما سهم الفارس فإنما أعطاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إيَّاه لشدَّة غنائه ، ولأنه هو الذي استنقذ تلك الغنائم ، وهو الذي تنزل منزلة الجيش فيما فعل ، ولم يُسمع بمن فعل مثل فعله في تلك الغزاة ، ثم لعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما أعطاه سهم الفارس من الخمس ، فإن كان أعطاه من الغنيمة فذلك خصوص به لخصوص فِعله .
وقوله : (( ألا مسابقَ ؟ )) ألا مسابق : قيدناه مفتوحًا بغير تنوين ؛ لأنها (( لا )) التي للنفي والتبرئة ، زيدت عليها همزة الاستفهام ، وأشربت معنى التمني ؛ كما قالوا : ألا سيفَ صارم ، ألا ماءَ بارد ؛ بغير تنوين على ما حكاه سيبويه ، وأنشد :
ألا طِعَانَ ، ألا فُرْسانَ عادِيَة ألا تجشُّؤُكُمْ عِنْدَ التَّنانِيرِ
ويجوز الرفعُ على أن تكون (( ألا )) استفتاحًا ، ويكون (( مسابق )) مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : ألاَ هنا مسابق ، أو نحوه .
وقول سلمة للرَّجل : أما تكرم كريمًا ، ولا تهاب شريفًا ؟ يدلُ على أنه فهم من قول الرَّجل : (( ألا مسابق )) النفي . فكأنه قال : لا أحدْ يسبقني. فلذلك أنكر عليه سلمة .
(12/8)
و (( ذرني )) ؛ أي : دَغني (( فلأسبقَ )) منصوب بلام هي ، على زيادة الفاء. و(( طفرت )) : وثبت وقفزت . و(( ربطت عليه )) : شددت عليه. ((شرفًا أو شرفين )) ؛ يعني : طَلَقاَ أو طَلَقين . (( أستبقي )) أبقي . (( نَقسي )) رويناه بفتح الفاء وسكونها. ففي الفتح يعني به : التنفس. يريد : أنه رفق في جريه مخافةَ ضيق التفس. وبالسكون يعني به : أروح نفسي وأجمها لجريٍ آخرِ .
وقوله : (( ثَمَّ إني رفعت )) ؛ أي : زدتُ في السير . ويروى : (( دفعت )) بالذَال ؛ أي : دفعتُ دفعةَ شديدةً من الجري ، وكلاهما قريب في المعنى.
وقوله : (( اذهب إليك )) ؛ قيدناه على من يوثق بعلمه على الأمر ؛ أي : انفذ لوجهك ، وخذ في الجري . يقوله سلمة وهو راكب خلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرَّجل الذي قال : ألا مسابق . ولذلك قال : وثنيت رجلي ؛ أي : نزلت عن ظهر العضباء . و(( إليك )) على هذا معمول لـ (( اذهب )) ؛ أي : انفذ لوجهك .
وقوله : (( فوالله! ما لبثنا إلا ثلاث ليالي حتى خرجنا إلى خيبر )) ؛ ظاهر هذا الكلام : أن غزوة خيبر كانت على إثر غزوة ذي قرد ؛ إذ لم يكن بينهما هذا الزمان اليسير ، الذي هو ثلاث ليال ، وليس كذلك عند أحد من أصحاب السِّير والتواريخ ؛ فإن غزوة ذي قرد كانت في جمادى الأولى من السَّنة السادسة من الهجرة ، ثم غزا بعدها بني المصطلق في شعبان من تلك السنة ، ثم اعتمر عمرة الحديبية في ذي القعدة من تلك السنة ، ثم رجع إلى المدينة ، وأقام بها ذا الحجَّة وبعض المحرم ، وخرج في بقيةٍ منه إيى خيبر ، هكذا ذكره أبو عمر بن عبدالبر وغيره ، ولا يكادون يختلفون في ذلك . وهذا الذي وقع في هذا الحديث وهم من بعض الرُّواة ، ويحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أغزى سرية فيهم سلمة إلى خيبر قبل فتحها ، فأخبر سلمة عن نفسه ، وعمن خرج معه. وقد ذكر ابن إسحاق في كتاب "المغازي" له : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أغزى إليها عبدالله بن رواحة قبل فتحها مرتين . والله أعلم .
(12/9)
و (( ذو قُرْد )) المشهور فيه بفتح القاف والرَّاء . وقد قيل فيه بضمِّهما . والقَرَدُ في اللغة هو : الصوف الرديء . يقال في المثل : عَثَرت على الغَزْل بأَخَرَة فلم تَدْع بِنَجْدِ قَرَد . وهو في الحديث : موضع معروف. حكى هذا كله السهيلي .
وقول عمر : (( يا رسولَ الله ! لولا متَّعْتَنَا به ؛ أي : هلا دعوتَ الله أن يمتعنا ببقائه . و(( يخطر بسيفه )) ؛ أي : يهزه متكبرًا ، مرهبًا للعدو. و(( شاكي السلاح )) هو الذي جَمَع عليه سلاحه. يقال فيه : شاكي السلاح ، و(( شاكِ )) بالكسر- و((شاكُ )) با لرفع ، و(( شائك )) ، وهذا أصوب ، وما قبله مقلوب . والشكة ، والشوكة : السلاح. و(( مجرب )) روايتنا فيه بفتح الراء على أنه اسم مفعول ؛ يعني : أنه جربت حروبه ، وعلمت . ويصحُ أن يقال بالكسر على أنه اسم فاعل ، يعني : أنه جرَّبَ الحروبَ بنفسه ، فخبرها.
وقول عامر : (( بطل مغامر )) ؛ البطلُ : الشجاع . يقال : بطل بيِّن البطولة والبطالة . و(( المغامر )) : اسم فاعل مِن : غامر ؛ يعني : أنه يأتي غمرات الحروب ، ويقتحمها. وأصله من الغمر ، وهو الماءُ الكثير . و(( يسفّل )) بسيفه ؛ أي : يختِل أن يضربه ، من أسفله .
وقول علي : (( أنا الذي سمتني أمي حيدرة )) ؛ حيدرة : من أسماء الأسد ، وله أسماء كثيرة . وكان علي سماه أبوه عليًّا ، وسمته أمه أسدًا باسم أبيها ، فغلب عليه ما سماه به أبوه ، فذكر الآن ما سمته به أمه لمناسبة ما بين الحرب وصوّلة الأسد . والهاء في (( حيدره )) وفي (( المنظره )) زائدة للاستراحة . والمنظرة : المنظر . ويعني : أنه كرية المنظر في عين عدوه ؛ لأن موت عدوه مقرون بنظره إليه .
(12/10)
و (( ليث )) من أسماء الأسد . و(( الغابات )) : جمع غابة ، وهي ملعب الشجر ؛ لأنها يغيب فيها من يدخلها . و(( السندرة )) : مكيال واسع . قال القتبي : ويحتمل أن يكون أخذ من السدرة وهي شجرة يعمل منها النبل والقسيّ . قال صاحب العين : كيل السندرة : ضرب من الكيل ، ومعناه : أقتلهم قتلاً واسعًا . وقيل : السندرة : العجلة ؛ أي : أقتلهم قتلاً عجلاً عاجلاً .
وفي هذا الحديث من معجزات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربع ، ومن الفقه والأحكام ما فيه كثرة لا تخفى على فطن ، من أهمها : جواز استقتال المرء نفسه في سبيل الله إرادة الشهادة ، واقتحام الواحد على الجمع ؛ إذا كان من أهل النجدة . وجواز المبارزة بغير إذن الإمام . وهو حجَّة على من كرهها مطلقًا ، وهو الحسن ، وعلى من اشترط في جوازها إذن الإمام : وهو إسحاق ، وأحمد ، والثوري . ثم هل يعان المبارز أم لا ؟ أجازها أحمد وإسحاق ، ومنعها الأوزاعي ، وفسر الشافعي فقال : إن شرط المبارز عدمها لم يجز ، وإن لم يشترط جاز .
وظاهر هذا الحديث : أن الذي قتل مرحبًا هو علي ـ رضى الله عنه ـ . وقد روي : أن الذي قتله محمد بن مسلمة . وحكى محمد بن سعد : أن الذي قتله ، محمد ، وذفَّفَ عليه علي .
ومن باب : خروج النساء في الغزو
(( الخنجر )) بفتح الخاء : السكين ، ويقال بكسرها . و(( بقرت بطنه )) : شققته ، ووسعته . و(( الطلقاء )) أهل مكة ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ منَّ عليهم ، وأطلقهم يوم فتح مكة . و(( من بعدنا )) ؛ أي : من وراءنا .
وقولها : (( انهزموا بك )) ؛ أي : انهزموا حتى اتصلت هزيمتُهم بك ، أو انهزموا عنك ، بمعنى : فرُّوا ، مُنْكرة ذلك عليهم ، ومقبحة لما فعلوا ، ظانَّة : أنهم يستحقون القتل على ذلك ، وبأنهم لم يتحققوا في الإسلام .
وقوله : (( إن الله قد كفى وأحسن )) ؛ أي : كفانا مؤونة العدو ، وأغنانا عمَّن فرَّ ، وأحسن في التمكين من العدوّ والظفر به .
(12/11)
و (( يسقين الماء )) ؛ أي : تحملنه على ظهورهن فيضعنه بقرب الرجال ، فيتناوله الرجال بأيديهم فيشربوه . و(( يداوين )) ؛ أي : يهيئن الأدوبة للجراح ويصلحنها ، ولا يلمسن من الرجال ما لا يحل .
ثم أولئك النساء إمَّا متجالاّت ، فيجوز لهن كشف وجوههن ، وإمَّا شوابُّ ، فيحتجبن . وهذا كله على عادة نساء العرب في الانتهاض ، والنجدة ، والجرأة ، والعفة . وخصوصًا نساء الصحابة .
و (( مجوِّبٌ عليه بحجفة )) ؛ أي : مُترِّسٌ عليه بها تقيه الرمي . و((النَّزع )) : الرمي الشديد . و(( بأبي أنت وأمي )) ؛ أى : أفديك بهما ، و((أنت )) : مبتدأ ، وخبره محذوف ؛ أي : مفدًى . و(( بأبي )) متعلق به . و(( الْخَدَم )) هنا : جمع خَدَمة ، وهي الخلخال ، و(( سوقهما )) : جمع ساق . وقيل في الخدم : هي سيور من جلود تُجعل في الرِّجل ، وقيل : أريد به ها هنا : مخرج الرِّجل من السراويل . ومنه : فرس مُخَدَّم ؛ إذا كان أبيض الرُّسغين. وكان هذا منهن لضرورة ذلك العمل في ذلك الوقت . ويحتمل أن يكون ذلك قبل نزول الحجاب . وقد يتمسك بظاهره من يرى أن تلك المواضع ليست بعورة من المرأة ، وليس بصحيح ؛ فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أم سلمة ؛ الذى رفعه أبو داود حين سئل : ما تصلي فيه المرأة ؟ فقال : (( تصلي في الدرع السابغ الذي يغطي ظهور قدميها )) . وقد أمرت المرأة أن ترخي ثوبها شبرًا ، فإن خافت أن
تنكشف أرخته ذراعًا .
و (( النُّعاس )) : ما يكون في الرأس ، والسِّنة : في العين ، وقد تقدَّم ذلك . وكان طنين هذا النعاس الذي ألقي عليهم في يوم أحد لطفًا بهم من الله ، أزال به خوفهم ، واستراحوا به من شدَّة التعب ، وقويت به نفوسهم. وهكذا فعل الله بهم يوم بدر . وهو الذي دلّ عليه قوله تعالى : { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه}.
ومن باب لا يسهم للنساء من الغنيمة
(12/12)
(( نجدة )) هذا هو ابن عامبر الحروري ، نسب إلى حروراء ، وهي موضع بقرب الكوفة ، خرج فيه الخوارج على علي ـ رضى الله عنه ـ ، وفيه قُتلوا ، وكان نجدة هذا منهم وعلى رأيهم ؛ لذلك استثقل ابن عباس مجاوبته ، وكرهها ، لكن أجابه مخافة جهل يقع له ، فيفتي ، ويعمل به .
وقول ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ : (( أن النساء كن ويُحْذَين من الغنيمة ، ولا يسهم لهن منها )) ؛ هذا مذهب جمهور العلماء : أن المرأة لا يضرب لها بسهم وإن قاتلت ، ما خلا الأوزاعي ؛ فإنه قال : إن قاتلت أسهم لها . وقد مال إليه ابن حبيب من أصحابنا . وهل يحذين ؛ أي : يعطين من الغنيمة بغير تقدير . فالجمهور على أنهن يرضخ لهن. وقال مالك : لا يرضخ لهن ، ولم يبلغني ذلك .
وكذلك الخلاف في العبد سواء ؛ غير أن القائل : بأنه يسهم له إن قاتل ؛ هو الحكم ، وابن سيرين ، والحسن ، وابراهيم . وقد تقدَّم : أن اليتيم في بني آدم من قبل فقد الأب ، وفي البهائم من قبل فقد الأم .
وقوله : (( متى ينقضي يتم اليتيم ؟ )) أي : متى ينقضي حكم اليتم عنهم ، فيسلم لهم مالهم ؛ هذا مما اختلف فيه . فمقتضى كلام ابن عباس هذا ، ومذهب مالك ، وأصحابه ، وكافة العلماء : أن مجرد البلوغ لا يخرجه عن اليتم ، بل حتى يؤنس رشده ، وسداد تصرفه. وقال أبو حنيفة : إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة ، دفع إليه ماله وإن كان غير ضابط له .
(12/13)
وهل من شرط رفع الحجر عنه العدالة ، أو يكفي ذلك حسن الحال ، وضبط المال ؛ الأول للشافعي ، والثاني للجمهور . وهو مشهور مذهب مالك . ثم إذا كان عليه مقدَّم ، فهل بنفس صلاح حاله يخرج من الولاية ، أو لا يخرج منها إلا بإطلاق حاكم أو وصي ، في كل واحد منهما قولان عن مالك والشافعي ، غير أن المشهور ين مذهب مالك : أنه لا يخرج منها إلا بإطلاق من حاكم أو وصي . وكافة السَّلف ، وأهل المدينة ، وأئمة الفتوى على أن الكبير السفية يحجر عليه الحاكم ، وشذ أبو حنيفة فقال : لا يحجر عليه . وقد حكى ابن القصَّار في المسألة الإجماع ، ويعني به : إجماع أهل المدينة . والله تعالى أعلم .
وقوله : وكتبت تسألني عن الخمس ، لمن هو ؟ وإنا كنا نقول : هو لنا ، فأبى علينا قومنا )) ؛ هذا الخمس المسؤول عنه هو خمس الخمس ، لا خمس الغنيمة ، ولا يقول ابن عئاس ، ولا غيره : إن خمس الغنيمة يصرف في القرابة ، وإنما يصرف إليهم خمس الخمس على قول من يقسم خمس الغنيمة على خمسة أخماس ؛ على ما تقدَّم من مذهب الشافعي ، وهو الذي أشار إليه ابن عباس ، وهو مذهب أحمد بن حنبل .
وقوله : (( فأبى علينا قومنا )) ؛ كأنه قال : هي لبني هاشم ، وقال بنو المطلب : هو لنا . قاله أبو الفرج ابن الجوزي وقد قدَّمنا مذهب مالك في هذا ، وحجته عليه .
وقوله : (( وكتبت تسألني عن قتل الصبيان ، فلا تقتل الصبيان )) ؛ هذا مذهب كافة العلماء : أن الصبيان لا يقتلون إلا أن يبيت العدو ، فيصاب صبيانهم معهم . وقد تقدَّم : أن الصبيان لا يقتلون لأنه لا يكون منهم قتال غالبًا ، ولأنهم مال .
(12/14)
وقوله : (( إلا أن تكون تعلم منهم ما يعلم الخضر )) ؛ يعني : أن قتل الخضر ؛ يعني أن قتل الخضر لذلك الصبي كان بأمر الله تعالى له بذلك ، وبعد أن أعلمه الله تعالى : أن قتل ذلك الغلام مصلحة لأبويه . وهذا النوع من العلم يتعذر على السائل وغيره ممن لا يُعلمه الله بذلك ، فلا يحل قتل صبي بحال من الأحوال . هذا معنى كلامه .
وقوله : (( لولا أن أردة عن نتنٍ يقع فيه )) ؛ أى : عن فعل فاحش يستقبحه من سمعه من العلماء ، ويستخبثه كما يستخبث الشيء المنتن. وفي الرواية الأخرى : (( لولا أن يقع في أُحْمُوقةٍ )) ؛ أي : في فعل من أفعال الحمقى . يعني به : العمل على غير العلم .
وقورله : (( ولا نُعْمَةَ عينٍ )) ، الرواية بضم النون ، وفيها لغات : نَعمة - بفتح النون - ، ونعم عينٍ ، ونِعمْ ، ونُعْمَى عين ، ونُعامى عين(5) ، ونعيم عين(5) ، ونعام . وكل ذلك بمعنى واحد ؛ أي : فلا أنعم عينه ، ولا أريها ما يسرها . وهي منصوبة على المصدر .
و (( البأس )) : الحرب. ومنه قوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم } ، وأصل البأس : الشدة ، والمشفة . والله تعالى أعلم .
ومن باب عدد غزوات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قول زيد بن أرقم - رضي الله عنهما - : (( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غزا تسع عثسرة غزوة )) ، وقول بريدة : (( سبع عشرة ، قاتل في ثمان منهن )) ؛ مخالف لما عليه أهل التواريخ والسِّير . قال محمد بن سعد في كتاب "الطبقات" ، له : إن غزرات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبع وعشرون غزوة ، وسراياه ست وخمسون . وفي رواية : ست وأربعون . والتي قاتل فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بدر ، وأحد ، والمريسيع ، والخندق ، وخيبر ، وقريظة ، والفتح ، وحنين ، والطائف . قال ابن سعد : هذا الذي اجتمع لنا عليه . وفي بعض الروايات : أنه قاتل في بني النضير ، وفي وادي القرى ؛ مُنصرفه من خيبر ، وفي الغابة .
(12/15)
قلت : وعلى هذا : فقول زيد بن أرقم وغيره : أنه غزا مع تسع عشرة غزوة ، أو سبع عشرة ، أو ست عشرة ؛ إنما أخبر كل واحد منهم عما في علمه ، أو شاهده . والله تعالى أعلم .
وقول زيد بن أرقم : (( إن أول غزوة غزاها ذات العشير )) ؛ يقال بالشين والسين . ويزاد عليها (( ها )) ، فيقال : العشيرة . وهو موضع بقرب الينبوع سكن بني مدلج ، بينه وبين المدينة تسعة برد . وهذا مخالف لما قاله أهل التواريخ والسير . قال محمد بن سعد : كان قبل غزوة العشيرة ثلاث غزوات ؛ يعني : غزاها بنفسه . وقال أبو عمر بن عبدالبر : أول غزوة غزاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غزوة ودّان ، غزاها بنفسه في صفر ، وذلك : أنه وصل إلى المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ، وأقام بها بقية ربيع الأول ، وباقي العام كله إلى صفر من سنة اثنتين من الهجرة ، ثم خرج في صفر المذكور ، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودّان ، فوادع بني ضمرة ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربًا ، وهي المسماة : بغزوة الأبواء ، ثم أقام بالمدينة إلى ربيع الآخر من السنة المذكورة ، ثم خرج منها ، واستعمل على المدينة السَّائب بن عثمان بن مظعون ، حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ، ثم رجع ، ولم يلق حربًا ، ثم أقام بها بقيه ربيع الآخر ، وبعض جمادى الأولى ، ثم خرج غازيًا ، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبدالأسد ، وأخذ على طريق ملل إلى العشيرة ، فأقام بها بقية جمادى الأولى ، وليالي من جمادى الآخرة ، ووادع فيها بني مدلج ، ثم رجع ، ولم يلق حربًا ، ثم كانت بعد ذلك غزوة بدر الأولى بأيام قلائل . هذا الذي لا يشك فيه أهل التواريخ والسّير ، فزيد بن أرقم إنما أخبر عما عنده ، والله تعالى أعلم .
وقول جابر ـ رضى الله عنه ـ : (( لم أشهد بدرًا ولا أُحدًا )) ؛ هذا هو الصحيح ، وقد ذكر ابن الكلبي : إنه شهد أُحدًا ، وليس بشيء .
(12/16)
وقوله : (( منعني أبي )) ، سبب منعه له : أنه كان لجابر أخوات ، ولم يكن لأبيه عبدالله من يقوم عليهن غيره ، فحبسه عن الغزو لذلك ، كما جاء في الرواية الأخرى ، وقتل أبوه يوم أحد ، وهو عبدالله بن عمرو ابن حرام الأنصاري.
ومن باب غزوة ذات الرِّقاع
كانت هذه الغزوة في جمادى الأولى من السنة الرابعة من الهجرة ، وذلك : أنه خرج ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المدينة في الشهر المذكور ، واستعمل على المدينة أبا ذر ، وقيل : عثمان بن عفان ، وغزا نجدًا يريد بني محارب ، وبني ثعلبة بن سعد بن غطفان ، فتواقفوا ولم يكن بينهم قتال ، وصلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومئذ صلاة الخوف .
وفي تسمية هذه الغزوة بذات الرّقاع أربعة أقوال :
أحدها : كما قاله جابر .
والثاني : لأنهم رفعوا راياتهم .
والثالث : لشجرة هنالك كانت تدعى : ذات الرقاع ، وكان المشاة يجعلون عليها رقاعًا .
والرابع : لجبل كان هناك ، كانت أرضه ذات ألوان .
وفي هذا الحديث ما يدل على ما كانوا عليه من شدة الصبر والجلد ، وتحمل تلك الشدائد العظيمة ، وإخلاصهم في أعمالهم ، وكراهية إظهار أعمال البر ، والتحدث بها إذا لم تدع إلى ذلك حاجة . والله أعلم.
ومن باب ترك الاستعانة بالمشركين
قوله : (( فلما كان بحرَّة الوَبرة )) ؛ هو بفتح الباء والراء ، وهي الرواية المعروفة ، وقيده بعضهم بسكون الباء ، وهو موضع على أربعة أميال من المدينة .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ارجع ، فلن أستعين بمشرك )) ، بظاهر هذا الحديث قال كافة العلماء ؛ مالك وغيره ، فكرهوا الاستعانة بالمشركين في الحرب . وقال مالك وأصحابه : لا بأس أن يكونوا نواتيه وخدَّامًا .
(12/17)
واختلف في استعمالهم برميهم بالمجانيق ، فأجيز وكُرِه . وأجاز ابن حبيب : أن يستعمل من سالم منهم في قتال من حارب منهم . وقال بعض علمائنا بجواز ذلك ، ويكونون ناحية من عسكر المسلمين . وقالوا : إنما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك في وقت مخصوص ، لرجل مخصوص ، لا على العموم . وظاهر الحديث حجَّة عليهم . ثم إذا قلنا : يُستعان بهم . فهل يسهم لهم أو لا ؟ قولان . وإلى الأول ذهب الزهري والأوزاعي . وإلى الثاني ذهب مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور . وقال الشافعي مرة : لا يعطون من الفيء شيئًا ، ويعطون من سهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقال قتادة : لهم ما صالحوا عليه .
ومن باب السن الذي يجاز في القتال
قول ابن عمر : (( إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجزه يوم أحد ، وهو ابن أربع عشرة سنة ، وأجازه في الخندق ، وهو ابن خمس عشرة سنة )) ؛ ظاهر كلام ابن عمر هذا : أنه كان بين غزوة أحد وغزوة الأحزاب سنة ، وليس كذلك ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج إلى أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة ، وكانت غزوة الخندق- وهي غزوة الأحزاب- في شوال من السنة الخامسة ، فكان بينهما سنتان ، ولذلك قال بعض العلماء : إن ذكر الأحزاب هنا وهم ، وإنما كانت غزوة ذات الرقاع ، فإنها كانت في الرابعة من الهجرة ، كما قدمناه آنفًا .
قلت : ويمكن أن يقال : لا وهم في ذلك ؛ لإمكان أن يكون ابن عمر في غزوة أحد دخل في أول سنة أربع عشرة من حين مولده ، وذلك في شوال في غزوة أحد ، ثم كملت له سنة أربع عشرة في شوال من السنة الآتية ، ثم دخل في الخامسة عشر إلى شوالها الذي كانت فيه غزوة الأحزاب ، فأراد : أنه كان في غزوة أحد في أول الرابعة ، وفي غزوة الأحزاب في آخر الخامسة . والله تعالى أعلم .
(12/18)
وقد تمسكت طائفة من العلماء بهذا الحديث : على أن خمس عشرة سنة سن بلوغ لمن لم يحتلم ولا حاضت ، وهو قول الشافعي ، والأوزاعي ، وابن حنبل ، وابن وهب من أصحابنا . وأبى ذلك مالك ، وأبو حنيفة ، وغيرهما من الحجازيين ، والمدنيين ، والكوفيين . قال مالك : لا يحكم لمن لم يحتلم بحكم البلوغ حتى يبلغ ما لا يبلغه أحد إلا احتلم ، وذلك : سبع عشرة . ورأوا : أن حديث ابن عمر إنما موجبه الفرق بين من يطيق القتال ، ويسهم له ، وهو ابن خمس عشرة سنة ، ومن لا يطيقه ، فلا يسهم له ، فيجعل في العيال . وهذا هو الذي فهم عمر بن عبدالعزيز من الحديث .
ولم يختلف في : أن الحلم والحيض بلوغ ، واختلفوا في الإنبات البيِّن. فمنهم من قال : يستدل به على البلوغ ، وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والص وزوي عن القاسم ، رسالم . وقاله مالك مرَّة . وقال الزهري وعطاء : لا حدّ على من لم يحتلم . وهو قول الشافعي ، ولم يراع الإنبات ، ومال إليه مالك مرَّة ، وقال به بعض أصحابه .
وعلى الاختلاف في هذا الأصل اختلفوا في إنكاح اليتيمة لمجرد الإنبات . وروي عن الشافعي : أن الإنبات يحكم به في الكفار ، فيقتل من أنبت ، ويجعل من لم ينبت في الذراري والعيال ، ولا يقتل ، كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بني قريظة ، وكما يروى فيه مرفوعًا : (( اقتلوا من جرت عليه المواسي )).
ومن باب النهي عن أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو
(12/19)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو )) ؛ يعني بالقرآن : المصحف ، وقد جاء مفسَّرًا في بعض الطرق. وظاهر هذا النهي : تحريم السفر به مطلقًا ، فتستوي فيه الجيوش والسرايا . وهو مذهب مالك ، وقدماء أصحابه ، وسحنون ، وابن حبيب . وذهب أبو حنيفة وغيره : إلى الفرق بين الجيوش العظام فيجاز ذلك فيها ، وبين الصغار فيمنع ذلك فيها ؛ نظرًا إلى العلة التى نص عليها في الحديث ، حيث قال : (( فإني لا آمن أن يناله العدو )) ؛ ونيل العدو له في الجيوش العظام نادر . ولأصحاب القول الأول بعد تسليم العلة المذكورة التمسك بسدّ الذريعة ، وبأن نسيانه ، وسقوطه ليس نادرًا .
وقوله : (( فإني لا آمن أن يناله العدو )) ؛ ظاهره : أنه من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه متصل بما تقدَّم من كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكذلك رواه جماعة من الحفاظ الثقات متصلة به ، ومن كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكذلك رواه عبدالرحمن بن مهدي ، وابن وهب عن مالك ، غير أن يحيى بن يحيى الأندلسي ، ويحيى بن بكير روياها من قول مالك ، وموقوفة عليه . ويمكن حمل هذه الرواية على أن مالكًا عرض له شك في رفعها فوقفها عليه ، والظاهر رواية الجماعة المتقدمة .
وفي هذا الحديث ما يدل على أنه لا يمكن العدو من المصحف ، ولا من بعضه ؛ لئلا يستهزئ بذلك ، ويستخفوا به . وأيضًا فإنهم على نجاسة وجنابة ، ولا يعترض هذا بكتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل ، لما قدَّمناه في حديثه .
وقول أيوب : (( فقد ناله العدو وخاصموكم به )) ؛ يعني به : أنكم لما خالفتم ما قال لكم نبيكم ، فمكنتم عدوكم من المصحف نالوه ، وتوجهت حجتهم عليكم ، من حيث مخالفتكم نبيكم ، وأيضًا : فلما وقفوا عليه وجدوا فيه ما يشهد عليكم بالمخالفة ، مثل قوله تعالى : {إن يكن منكم عشرون صابرون } الايتين ، وغير ذلك من الآيات التي ترك العمل بها .
ومن باب المسابقة بالخيل
(12/20)
قوله : (( سابق بالخيل التي قد أضمرت من الحفياء )) ؛ المسابقة مفاعلة ، ولا تكون إلا من اثنين ، وذلك : أن المتسابقين إذا جعلا غاية ، وقصدا نحوها ، فإن خيل كل واحد منهما يسابق صاحبه إليها . وإضمار الخيل : هو أن تسمن وتصان ، ثم يقلل علفها ، ثم يُجرى على التدريج ، وتجلل ليجف عرقها ، فتتصلب بفعل ذلك بها ، حتى يذهب لحمها ، وتبقى فيها القوة . والموضع الذي تضمر فيه يسمى مضمارًا .
و (( الحفياء )) : موضع . و(( الأمد )) : الغاية . وبين الحفياء وثنيه الوداع خمسة أميال أو ستة على ما قاله سفيان . وقال ابن عقبة : ستة أميال ، أو سبعة . وسميت ثنية الوداع بذلك : لأن الخارج منها يودع مشيعهُ عندها ، وهي التي قالت فيها نساء الأنصار : طلع البدرعلينا من ثنيات الوداع فيما يحكى ؛ يعنون بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وبين الثنيه ومسجد بني زريق ميل واحد . و(( زريق )) بتقديم الزاي وهو الصواب .
(12/21)
ولا خلاف في جواز تضمير الخيل والمسابقة بها على الجملة ، وكذلك المسابقة الابل ، وعلى الأقدام ، كما جرى فى حديث سلمة بن الأكوع ، وكذلك المراماة بالسهام ، واستعمال الأسلحة ، ولاشك في جواز شيء من ذلك ؛ إذا لم تكن هنالك مراهنة ؛ لأن ذلك كله مما ينتفع به في الحروب ، ويحتاج إليه . وإنما اختلفوا : هل ذلك من باب الندب ، أو من باب الإباحة إذا لم يحتج إلى ذلك ، فإن احتيج إلى شيء من ذلك كان حكمه بحساب الحاجة . وأما المراهنة : فأجازها على الجملة مالك ، والشافعي في الخفّ والحافر ، والنصل ، وذلك على ما يروى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا سبق إلا في خف ، أو حافر ، أو نصل )) ، على أنه لا يروى هذا الحديث بإسناد صحيح ، وهو مع ذلك مشهور عند العلماء ، متداول بينهم . وقد منع بعض العلماء الرهان في كل شيء إلا في الخيل ؛ لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها . وروي عن عطاء : السبق في كل شيء جائز . وقد تأول عليه ؛ لأن حمله على العموم في كل شيء يؤدي إلى إجازة القمار . وهو محرم باتفاق . ثم إن الذين أجازوا الرهان شرطوا فيها شروطًا ، وذكروا لها صورًا منها متفق على جوازها ، ومنها متفق على منعها ، ومنها مختلف فيها . فالمتفق عليها : أن يخرج الإمام أو غيره متطوَّعًا سبقًا ولا فرس له في الحلبة ، فمن سبق فله ذلك السبق . وأما المتفق على منعه : فهو أن يخرج كل واحد من المتسابقين سَبقًا ، ويشترط أنه إن سبق أمسك سبقه ، وأخذ سبق صاحبه . فهذا قمار ، فلا يجوز باتفاق ؛ إذا لم يكن بينهما محللاً . فإن أدخلا بينهما محللاً يكون له السبق ، ولا يكون عليه شيء إن سُبق . فهذه مما اختلف فيها ، فأجازها ابن المسيب ، والشافعي ، ومالك مرَّة ، والمشهور عنه : أنه لا يجوز .
(12/22)
قلت : والصحيح : جوازه إن كان المحلل لا يأمن أن يُسبق ؛ لما خرَّجه أبوداود عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من أدخل فرسًا بين فرسين ، وهو لا يأمن أن يُسبق فليس بقمار ، ومن أدخله وقد أمن أن يُسبق فهو قمار )). وأما إذا لم يكن بينهما محلل لم يجز ؛ لأن مقصودهما المخاطرة ، والمقامرة . وهو مذهب الزهري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق . وقد حُكي فيها الاتفاق ، فلو كان للوالي أو غيره فرس في الحلبة ، فيخرج سبقًا له على أنه إن سبق هو حبس سبقه ، وإن سُبق أخذ السبق السابق ؛ فأجازها الليث ، والشافعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وهو أحد أقوال مالك ؛ لأن الأسبان على ملك أربابها ، وهم فيها على ما شرطوه . ومنع ذلك مالك في قول آخر ، وبعض أصحابه ، وربيعة ، والأوزاعي ، وقالوا : لا يرجع إليه شيء ، وإنما يأكله من خضر إن سبق مُخرخه ، إن لم يكن مع المتسابقين ثالث .
والمسابقة عقد لازم كالإجارة ، فيشترط في السَبق ما يشترط في الأجرة من انتفاء الغرر والجهالة . ومن شرط جوازها : أن تكون الخيل متقاربة في النوع والحال . فمتى جهل حال أحدها ، أو كان مع غير نوعه ، كان السبق قمارًا باتفاق .
وقول ابن عمر : (( فجئث سابقًا ، فطفف بي الفرس المسجد )) ؛ أي : زاد على الغاية المفروضة . وأصل التطفيف : العلو ومجاوزة الحد . ومنه قالوا : طفّ كذا ؛ أي : علا . وإناء طفان ؛ أي : علا ما فيه . ومنه : التطفيف في الكيل ؛ فإنه إذا أخذ لنفسه فقد علا على الحق . وإذا نقص غيره فقد أعلى حقه على حقه .
وقوله : (( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة )) ؛ هذا الكلام جمع من أصناف البديع مايعجز عنه كل بليغ ، ومن سهولة الألفاظ مايعجب ، ويستطاب .
(12/23)
و (( النواصي )) : جمع ناصية ، وهي : الشعر المنسدل على الجبهة . ويقال : ناصية ونصاة لغتان ، والمراد بنواصي الخيل هنا : ذات الخيل نفسها عبّر بالجزء عن الجملة.
و (( إلى يوم القيامة )) متعفق بـ (( معقود )) ، ويُفهم منه : دوام حكم الجهاد إلى يوم المعاد مع البر والفاجر. و(( الأجر والغنيمة )) تفسير للخير المذكور . وهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف . وهذا المعنى هو الذي عبّر عنه بالبركة في حديث أنس .
ولَىُّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناصية فرسه بيده ؛ ليحسنها ، ويتعاهدها ، ويكرمها بذلك ، كما قال : (( ارتبطوا الخيل ، وامسحوا بنواصيها ، وأكفالها ، وجلودها )).
وقول أبي هريرة : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكره الشكال من الخيل )) ؛ يحتمل أن يكون كره اسم الشكال من جهة اللفظ ؛ لأنه يشعر بنقيض ما تُراد الخيل له. وهذا كما قال : (( لا أحبُّ العقوق )) ، ويحتمل أن يكرهه لما يقال : إن حوافر المشكل وأعضاءه ليس فيها من القوة ما فيما ليس كذلك . وقد جاء الشكال مفسَّرًا في تلك الرواية تفسيرًا ليس معروفًا عند اللغويين . قال أبو عبيد : الشكال : أن تكون منه ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة ، أو يكون ثلاث قوائم مطلقة وواحد محجلة. ولا يكون الشكال إلا في الرِّجل ، لا يكون في اليد . وقال ابن دريد : هو أن يكون تحجيله في يد ورجل من شق واحد ، فإن كان مخالفًا قيل : شكال مخالف . وقال أبو عمر المطرز : هو بياض الرِّجل اليمنى واليد اليمنى . وقيل : بياض الرجل اليسرى واليد اليسرى . وقيل : بياض الرجلين . وقيل : بياض اليدين والرجل الواحدة . وقيل : بياض رجلين ويد واحدة. وهذه أقوال اللغويين ، وليس فيها ما يوافق ذلك التفسير إلا ما حكاه ابن دريد من قوله : الشكال : المخالف ، فإن صح أن ذلك من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو أحق. والله تعالى أعلم .
وإن كان ذلك من قول بعض الرواة فالمعروف عند اللغويين ما قدَّمته من قول أبي عبيد .
ومن باب الترغيب في الجهاد
(12/24)
قوله : (( فهو عليّ ضامن )) ؛ قيل فيه : هو بمعنى مضمون . كما قالوا : ماء دافق ؛ أي : مدفوق ، و: لا عاصم اليوم ؛ أي : معصوم . وقيل معناه : ذو ضمان . كما قال في الحديث الآخر : (( تكفل الله )) ؛ أي : ضمن . وهذا كله عبارة عن أن هذا الجزاء لا بد منه ؛ إذ قد سبق هذا في علمه ونافذ حكمه . وعن هذا المعنى عبَّر بقوله تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنيين أنفسهم وأموالهم } ؛ لأن من اشترى شيئًا تعين عليه ثمنه ، وكذلك من ضمنه .
وقوله : (( أن أدخله الجنة ، أو أرجعه إلى مسكنه )) ؛ يعني : أن الله تعالى ضمن له إحدى الحسنيين ؛ إما الشهادة ، فيصير إلى الجنة حيًّا يرزق فيها ، وإما الرجوع إلى وطنه بالأجر والغنيمة .
وقوله : (( نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة )) ؛ كذا لأكثر الرواة ، (( أو )) وهي هنا بمعنى الواو الجامعة على مذهب الكوفيين ، وأنشدوا :
نال الخلافة أو كانت له قدرًا كما أتى ربه موسى على قدر
وقد دلَّ على هذا المعنى رواية أبي داود لهذه اللفظة ، فإنه قال فيها : (( من أجر وغنيمة)) بالواو الجامعة . وقد رواه بعض رواة كتاب مسلم بالواو . وذهب بعض العلماء إلى أنها (( أو )) على بابها لأحد الشيئين ، وليست بمعنى الواو . وقال : إن الحاصل لمن لم يستشهد من الجهاد أحد الأمرين : إما الأجر ؛ إن لم يغنم ، وإما الغنيمة ولا أجر. وهذا ليس بصحيح ؛ لما يأتي من حديث عبد الله بن عمرو : أنه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما من غازية تغزو فيصيبوا ويغنموا إلا تعجلوا ثلثي أجورهم من الآخرة ، ويبقى لهم الثلث )) ، وهذا نص في : أنَّه يحصل له مجموع الأجر والغنيمة . فالوجة : التأويل الأول. والله تعالى أعلم .
وقوله : (( مامن كلم يكلم في سبيل الله )) ؛ أي : مامن جرح بجرح في الجهاد الذي يبتغى به وجه الله .
وقوله : (( إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم )) ؛ فيه دليل : على أن الشهيد لا يغسل . وهو قول الجمهور . وقد تقدم في الجنائز .
(12/25)
وقوله : (( لونه لون دم ، وريحه ريح مسك )) ، وفي الرواية الأخرى : (( وجرحه يثعب دمًا )) ؛ أي : يسيل . وقد يستدل بهذا الحديث على أن تغير ريح الماء حكم بالمخالط التجس لا يخرجه عن أصله ، كما لم يخرج الدم عن كونه دمًا استحالة رائحته إلى رائحة المسك ، وهو قول عبدالملك في رائحة الماء أنها لا تفسده ، ولا تخرجه عن أصله . وقد استدل به أيضًا على نقيض ذلك ، وهو : أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله ، كما هو مذهب الجمهور . ووجة هذا الاستدلال : أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثًا نجسًا ، وأنه صار مسكًا ، وأن المسك بعض دم الغزال ، فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته . وأخرج البخاري هذا الحديث في : المياه . وتأول له كلا التأويلين .
وقوله : (( والله أعلم بمن يكلم في سبيله )) ؛ تنبية على : وجوب الإخلاص في الجهاد ، وتنوية بالمخلص فيه ، واستبعاد للإخلاص ، وإشعار بقلته .
وقوله : (( وتصديق كلماته )) ؛ بالجمع . وفي غير كتاب مسلم : ((كلمته )) ، وكل متقارب في المعنى ؛ يعني به : كلام الله تعالى الذي أخبر به عن ثواب الجهاد ، وفضل الشهادة .
وسُمى الشهيد شهيدًا ؛ لأنه يرزق ، ويشاهد الجنة ، وما أكرمه الله تعالى به . وقيل : لأنه ممن يشهد على الأمم يوم القيامة . وقيل : لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالرضا والرضوان . فعلى هذا يكون فعيل بمعنى : مفعول ؛ أي : مشهود له . وعلى التأويلين الأولين بمعنى : فاعل .
وقوله : (( ما يعدل الجهاد )) ؛ أي : ما يعادله ويماثله في الثواب عند الله تعالى .
(12/26)
وقوله : (( لا تستطيعونه )) ؛ أي : لا تطيقون أن تفعلوا مايساوي ثواب الجهاد . ووجهه : أن كل ما يصدر من المجاهد في حالتي نومه ويقظته ، وسكونه وحركته هو عمل صالح يكتب له ثوابه دائمًا ، بدوام أفعاله ، إذ لا يتأتى لغيره فيه ؛ لأنه على كل حال في الجهاد ، وملابس أحواله ، وذلك : أن المجاهد إما أن ينال من العدو ، أو يغيظه ، أو يروّعه ، أو يكثر سواد المسلمين ، أو يصيبه نصب أو مخمصة . وكل ذلك أعمال كثير لها أجرز عظيمة ، كما قال تعالى : { ذلك بأنه لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئًا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍّ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } ، وعلى هذا نبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال : (( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم ، القائم ، القانت بآيات الله ، الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله )). فشبه المستغرق في أفضل العبادات التي هي الصوم والصلاة ، الخاشع فيها ؛ الذي لا يفتر بالمجاهد ؛ لذلك المعنى الذي ذكرناه آنفًا.
و (( القائم )) ؛ يعني به : في الصلاة . و(( القانت )) : الخاشع فيها . و((الغدوة ))- بفتح الغين - : واحدة المشي في الغدوِّ . وبضم الغين : وهو البكور . و(( الروحة )) : المشية في الرواح ، وهو الرجوع بالعشيّ. وأول العشي : الزوال . وقد تقدَّم هذا في الجمعة .
(12/27)
وقوله : (( خير من الدنيا وما فيها )) ، وفي الرواية الأخرى : (( مما طلعت عليه الشمس )) ؛ يعني : أن الثواب الحاصل على مشية واحدة في الجهاد خير لصاحبه من الدنيا كلها لو جمعت له بحذافيرها . وهذا كما قال في الحديث الآخر : (( وموضع قوس أحدكم أو سوطه في الجنة خير من الدنيا وما فيها )). هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو على ما استقر في النفوس من تعظيم الدنيا . وأما على التحقيق فلا تدخل الجنة تحت (( أفعل )) إلا كما يقال : العسل أحلى من الخل . وقد قيل : إن معنى ذلك - والله أعلم- أن ثواب الغدوة والروحة أفضل من الدنيا وما فيها لو ملكها مالك ، فأنفقها في وجوه البر والطاعة غير الجهاد . وهذا أليق ، والأول أسبق .
وقوله : (( من رضي بالله ربًّا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمدٍ رسولاً ، وجبت له الجنَّة )) ؛ أي : من مات على ذلك فلا بدَّ له من دخول الجنَّة قطعًا ، ولو أدخل النار في كبائر عليه فمآله إلى الجنة على كل حال .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وأخرى ترفع بها العبد مائة درجة )) ؛ أي : خصلة أخرى . والدرجة : المنزلة الرفيعة ، ويراد بها غرف الجنة ومراتبها ؛ التي أعلاها الفردوس ، كما جاء في الحديث . ولا يظن من هذا : أن درجات الجنة محصورة بهذا العدد ، بل هي أكثر من ذلك ، ولا يُعلمم حصرها ولا عددها إلا الله تعالى ، ألا تراه قد قال في الحديث الآخر : (( يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارق ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها )) ؛ فهذا يدل : على أن في الجنة درجات على عدد آي القرآن ، وهي نيف على ستة آلاف آية ، فإذا اجتمعت للأنسان فضيلة الجهاد مع فضيلة القرآن ، جمعت له تلك الدرجاث كلها . وهكذا ما زادت أعماله زادت درجاته . والله تعالى أعلم
(12/28)
قال شيخنا أبو محمد عبد العظيم المنذري : قوله : (( مئة درجة )) يحتمل أن يكون الحديث على ظاهره ، وأن الدرجات : المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر ، وكذلك منازل الجنة ، كما جاء في حديث أصحاب الغرف أنهم يراهم من هو أسفل منهم ، كالكوكب الدُّري ، ويحتمل أن يكرن المراد الرفعة المعنوية من عظيم الأجسام ، وكثرة النعيم ، وأن أنواع النعيم على المجاهد ، وثوابه ، يتفاضل تفاضلاً كثيرًا ، ومثل ذلك تفاضله في البعد بما بين السماء والأرض من البعد . ورجح بعضهم الأول .
ومن باب فضل القتل في سبيل الله تعالى
قوله : (( إن الإيمان والجهاد أفضل الأعمال )) ؛ الإيمان هنا : هو المذكور في حديث جبريل ، ولا شك في أنه أفضل الأعمال ؛ ففيه راجع إلى معرفة الله ورسوله ، وما جاء به ، وهو المصحح لأعمال الطاعات كلها ، المتقدم عليها في الرتبة والمرتبة ، وإنما قرن به الجهاد هنا في الأفضلية ، وإن لم يجعله من جملة مباني الإسلام التي ذكرها في حديث ابن عمر ؛ لأنه لم يتمكن من إقامة تلك المباني على تمامها وكمالها ، ولم يظهر دين الإسلام على الأديان كلها إلا بالجهاد ، فكأنه أصل في إقامة الدِّين والإيمان ، أصل في تصحيح الدِّين ، فجمع بين الأصلين في الأفضلية. والله تعالى أعلم .
وقد حصل من مجموع هذه الأحاديث : أن الجهاد أفضل من جميع العبادات العملية ، ولا شك في هذا عند تعيينه على كل مكلف يقدر عليه ، كما كان في أوّل الإسلام ، وكما قد تعيَّن في هذه الأزمان ؛ إذ قد استولى على المسلمين أهل الكفر والطغيان ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وأمَّا إذا لم يتعين فحينئذ تكون الصلاة أفضل منه ، على ما جاء في حديث أبي ذر ؛ إذ سُئل عن أفضل الأعمال فقال : ((الصلاة على مواقيتها )).
(12/29)
وقول السَّائل : (( أرأيت إن قتلت في سبيل ؛ أيكفر عني خطاياي)) ؛ هذا بحكم عمومه يشمل جميع الخطايا ، ما كان من حقوق الله تعالى ، وماكان من حقوق الآدميين . فجوابه بـ (( نعم )) مطلقًا يقتضي تكفير جميع ذلك ، لكن الاستثناء الوارد بعد هذا يبيّن أن هذا الخبر ليس على عمومه ؛ وإنما يتناول حقوق الله تعالى خاصَّة لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إلا الدَّين )). وذكره الدَّين تنبية على ما في معناه من تعلق حقوق الغير بالذمم ، كالغصب ، وأخذ المال بالباطل ، وقتل العمد ، وجراحه ، وغير ذلك من التبعات ، فإن كل هذا أولى بأن لا يغفر بالجهاد من الدَّين ، لكن هذا كله إذا امتنع من أداء الحقوق مع تمكنه منه ، وأما إذا لم يجد للخروج من ذلك سبيلاً ؛ فالمرجو من كرم الله تعالى إذا صدق في قصده ، وصحت توبته أن يُرضى الله تعالى خصومه عنه ، كما قد جاء نصًّا في حديث أبي سعيد الخدري المشهور في هذا ، وقد دلَّ على صحة ما ذكرناه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لتؤدن الحقون إلى أهلها يوم القيامة ... )) ، الحديث ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . ولا يلتفت إلى قول من قال : إن هذا الذي ذكره من الدَّين إنما كان قبل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من ترك دينًا أو ضياعًا فعليَّ ... )) ، الحديث ؛ يشير بذلك إلى أن ذلك المعنى منسوخ . فيه قول باطل مفسوخ ؛ فإن المقصود من هذا الحديث بيان أحكام الديون في الدنيا ، وذلك : أنه كان من أحكامها دوام المطالبة ، وإن كان الإعسار . وقال بعض الرواة : إن الحر كان يباع في الدين. وامتنع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الصلاة على من مات وعليه دينار ولم يجد وفاءً له . فهذه الأحكام وأشباهها هي التي يمكن أن تنسخ ، والحديث الأول لم يتعرض لهذه الأحكام ؛ وإنما تعرض لمغفرة الذنوب فقط . هذا إن(8) قلنا : إن هذا ناسخ . فأما إذا حملنا النظر فيه فلا يكون ناسخًا ، وإنما غايته : أن تحمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مقتضى كرم خلقه عن المعسر دينه ، وسدّ ضيعة الضائع . وقد دل على ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث بعينه : (((12/30)
أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم )) ؛ فعلى هذا يكون هذا التحمل خصوصًا به ، أو من جملة تبرعاته لما وسّع الله عليه ، وعلى المسلمين . وقد قيل في معنى هذا الحديث : إن معنى ذلك : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام بذلك من مال الخمس والفيء ليبين : أن للغارمين ولأهل الحاجة حقًّا في بيت مال المسلمين ، وإن الناظر لهم يجب عليه القيام بذلك لهم ، والله تعالى أعلم .
وفيه من الفقه : جواز تأخير الاستثناء قدرًا قليلاً ؛ لأنه أطلق أولاً ، فلما ولى تأخبر دعاه ، فذكر له الاستثناء ، وقد يجاب عنه : بأنه لما أراد أن يستثني أعاد اللفظ الأوّل ، ووصل الاستثناء به في الحال ، فلا يجوز التأخير ، ويدل على ذلك : أن الاستثناء والتخصيص وغيرهما الصادرة عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلٌّ من عندالله ، لا من عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالاجتهاد ، وقد تقدَّم الاختلاف في هذا الأصل .
وقول مسروق : (( سألنا عبدالله عن هذه الآية )) ؛ هو عبدالله بن مسعود ، وهكذا وقع في رواية أبي بحير : (( سألنا عبدالله بن مسعود )) ،
ومن قال فيه : عبدالله بن عمرو فقد أخطأ .
وقول عبدالله : (( أما إنا سألنا عن ذلك فقال )) ؛ كذا صحَّت الرواية ، ولم يذكر فيها (( رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ، وهو المراد منها قطعًا . ألا ترى قوله : (( فقال )) ؛ وأسند الفعل إلى ضميره ، وإنما سكت عنه للعلم به ، فهو مرفوع ، وليس هذا المعنى الذي في هذا الحديث مما يتوصل إليه بعقل ولا قياس ، وإنما يُتوصل إليه بالوحي ، فلا يُقال : هو موقوف على عبدالله بن مسعود .
(12/31)
وقد تضمَّن هذا الحديث تفسير قوله تعالى : { بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون} ، وأن معنى حياة الشهداء : أن لأرواحهم من خصوص الكرامة ما ليس لغيرهم ، بأن جعلت في أجواف طير ، كما في هذا الحديث ، أو في حواصل طير خضر ، كما في الحديث الآخر ، صيانة لتلك الأرواح ، ومبالغة في إكرامها ، لإطلاعها على ما في الجنة من المحاسن والنعم ، كما يطلع الراكب المظلل عليه بالهودح الشفاف ؛ الذي لا يحجب عما وراء . ثم يدركون في تلك الحال التي يسرحون فيها من روائح الجنة ، وطيبها ، ونعيمها ، وسرورها ما يليق بالأرواح مما ترتزق وتنتعش به . وأما اللذات الجسمانية فإذا أعيدت تلك الأرواح إلى أجسادها استوفت من النعيم جميع ما أعدَّ الله تعالى لها ، ثم إن أرواحهم بعد سرحها في الجنة ترجع تلك الطير بهم إلى مواضع مكرَّمة مشرَّفة منوَّرة عبّر عنها بالمناديل ؛ لكثرة أنوارها ، وشدّتها . والله تعالى أعلم .
(12/32)
وهذه الكرامات كلها مخصوصة بالشهداء كما دلت عليه الآية وهذا الحديث ، وأما حديث مالك الذي قال فيه : (( إنما نسمة المؤمن طائر تعلّق في ثمر الجنة )) ؛ فالمراد بالمؤمن هنا : الشهيد . والحديثان واحد في المعنى ، وهو من باب حمل المطلق على المقيد . وقد دل على صحة هذا قوله في الحديث الآخر : (( إذا مات الإنسان عرض عليه مقعده بالغداة والعشي من الجنة والنار ، فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة )) ؛ فالمؤمن غير الشهيد هو الذي يُعرض عليه مقعده بالغداة والعشي من الجنة وهو في موضعه من القبر أو الصور ، أو حيث شاء الله تعالى غير سارح في الجنة ، ولا داخل فيها ؛ وإنما يدرك منزلته فيها بخلاف الشهيد ؛ فإنه يباشر ذلك ويشاهده وهو فيها ، على ما تقدَّم ، وكذلك أرواح الكفار تشاهد ما أعد الله لها من العذاب عند عرض ذلك عليها ، كما قال تعالى في آل فرعون : { النار يعرضون عليها غدوًّا وعشيًّا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ، وعند هذا العرض تدرك روح الكافر من الألم ، والتخويف ، والحزن ، والعذاب بالانتظار ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . نسأل الله العافية . كما أنه يحصل للمؤمن عند عرض عليه الجنة من الفرح ، والسرور ، والتنعم بانتظار المحبوب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . فإذا أعيدت الأرواح إلى الأجساد استكمل كل فريق منهم ما أعد الله له . وبهذا الذي ذكرناه تلتئم الأحاديث ، وتتفق . والله الموفق .
وقد حصل من مجموع الكتاب والسُّنه . أن الأرواح باقية بعد الموت ، وأنها منعمة ، أو معذبة إلى يوم القيامة بعد الموت .
(12/33)
وقد اختلف الناس قديمًا وحديثًا في الأرواح ما هي ؟ وعلى أي حال هي ؟ اختلافًا كثيرًا ، واضطربوا فيها اضطرابًا شديدًا ؛ الواقف عليه يتحقق أن الكل منهم على غير بصيرة منها ؛ وإنما هي أقوال صادرة عن ظنون متقاربة ، ولا يشك في أنه مما انفرد الله تعالى بعلم حقيقته . وعلى هذا المعنى حمل أكثر المفسرين قوله تعالى : { يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم غلا قليلاً } ، فليقطع العاقل طمعه من علم حقيقته ، ولينظر هل ورد في الأقوال الصادقة ما يدل على شيء من صفته ، وعند تصفح ذلك ، واستقراء ما هنالك يحصل للباحث : أن الروح أمر ينفخ في الجسد ، ويقبض منه ، ويتوفى بالنوم وبالموت ، ويؤمن ، ويكفر ، ويعلم ، ويجهل ، ويفرح ، ويحزن ، ويتنعم ، ويتألم ، ويخرج ، ويدخل ، والإنسان يجد من ذاته بضرورته قابلاً للعلوم وأضدادها ، وللفكر وأضدادها ، ولغير ذلك من المعاني ، فيحصل من مجموع تلك الأمور على القطع : أن الروح ليسى من قبيل الأعراض لاستحالة كل ما ذكر عليها ، فيلزم أن يكون الروح من قبيل ما يقوم بنفسه ، وأنه قابل للأعراض .
وهل هو متحيز أو ليس بمتحيز ؟ ذهبت طوائف من الأوائل ، ومن نحا نحوهم من الإسلاميين ، إلى أنه قائم بنفسه غير متحيز ، . وذهب أكثر أهل الاسلام إلى أن ذلك من أوصاف الحق سبحانه وتعالى الخاصة به ، وأنه لا تصح مشاركته في ذلك لأدلة تذكر في علم الكلام ، وأن الروح قائم بنفسه متحيز ، فهو من قبيل الجواهر . ثم اختلف ، هل هو يقبل الانقسام فيكون جسمًا أو لا يقبله فيكون جوهرًا فردًا.
(12/34)
فذهبت طائفة من جلّة عدماء أهل السنه إلى أنه جسم لطيف مشابك جميع أجزاء البدن ، أجرى الله العادة ببقائه في الجسم ما دام حيًّا ، فإذا أراد الله تعالى إماتة الحيوان نزعه منه ، وأزال اتصافه بالحياة ، وأعقبها بالموت. وأطبق معظم المتكلمين من أهل السنه على أنه جزء فرد من أجزاء القلب ، أو غيره مما يكون في الإنسان ، أجرى الله العادة بحياة ذلك الجسم ما دام ذلك الجزة متصلاً به . والله تعالى أعلم ، وأحكم ، والتسليم أولى وأسلم .
والذي اتفق أهل التحقيق عليه : أنه متغير مخترع ؛ لأنه متغير ، وكل متغير محدث على ما يُعرف في موضعه ، ولا يلتفت لقول من قال : إن الروح قديم ؛ إذ قول ؛ إذ لا قديم إلا الله تعالى ، على ما يُعرف في موضعه ، ولا يلتفت أيضًا لقول التناسخية القائلين أن الأرواح تنتقل إلى أجساد أخر ، فأهل السعادة ينقلون إلى أجساد حسنة مشرفة مرفهة ، فتتنعم بها ، كما جاء في هذه الأحاديث ، وأهل الشقاء تنقل أرواحهم إلى أجسام خسيسة قبيحة ، فتعذب فيها ، حتى إذا استوفت بذلك عقابها رجعت إلى أحسن بنية ، وهكذا أبدًا . وهذا معنى الاعادة والثواب والعقاب عندهم . وهو قول مناقض لما جاءت به الشريعة ، ولما أجمعت الأمة عليه ، ومعتقده يكفر قطعًا ، فإنه أنكر ما علم قطعًا من إخبار الله تعالى ، وإخبار نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمور الآخرة ، وعن تفاصيل أحوالها ، وأن الأمر ليس على شيء مما قالوه . وأيضًا فالتناسخ والقول به باطل ، محال عقلاً ، على ما يُعرف في علم الكلام .
وقوله : (( فاطلع إليهم ربهم اطلاعة )) ؛ أي : تجلى لهم برفع الحجب عنهم ، وكلمهم مشافهة بغير واسطه ، مبالغة في الإكرام ، وتتميمًا للإنعام .
(12/35)
وقولهم : (( نريدُ أن تَرُدَّ أرواحَنا في أجسادنا )) ؛ دليل على أن مُجرَّد الأرواح هي المتكلِّمة ، ويدلُ على أن الروحَ ليس بِعَرَض خلافًا لمن ذهب إلى ذلك . وفيه ردًّا على التناسخيه ، وأن أجوافَ الطير ليس أجسادًا لها ، وإنما هي مُودعة فيها على سبيل الحفظ والصيانة والإكرام ، على ما قدََّمناه . وهذا كلُه يدلُّ على أن لمنزلة الشهادة من خصوص الإكرام ما ليس لغيرها من أعمال البِرّ ، كما قال في الحديث الآخر : ((ليس أحد له عند الله خير يتمنى أن يرجعَ إلى الدنيا إلا الشهيد ؛ لما يرى من فضل الشهادة )).
ومن باب قوله تعالى : { أجعَلتم سِقَايَةَ الحاجِّ وَعِمَارَةَ المسجدِ الحرامِ كَمَنْ ءَامَنَ باللهِ واليَوْمِ اَلآخِرِ} الآية
(12/36)
(( السقاية )) : مصدر كالسِعاية والحِماية ، وهو على الحذف ؛ أي : أجعلتم صاحبَ سقاية الحاج مثل مَن آمَنَ بالله ، وجاهَدَ في سبيله ؛ ويصح أن يقدَّر الحذفُ في : { من آمن } ؛ أي : أجعلتم عمل سقي الحاج كعمل مَن آمن . و{ الحاج } : اسم جنس الْحُجّاج . و{ عمارة المسجد الحرام } : معاهدته ، والقيام بمصالحه . وظاهِرُ هذه الآية أنَّها مبطلة قولَ من افتخر من المشركين بسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام ، كما ذكره السُّدِّي . قال : افتخر عباسٌ بالسقاية ، وشيبة بالعمارة ، وعلي بالإسلام والجهاد ، فصدَّق اللهُ عليًّا وكذبهما ، وهذا واضح . وأما حديثُ النعمان هذا فمشكل على مساق الآية ، فإنه يقتضي أنها إنما نزلت عند اختلافِ المسلمين في الأفضل من هذه الأعمال ، وحينئذ لا يصلحُ أن يكون قولُه تعالى : { أجعَلتم سِقَايَةَ الحاجِّ وَعِمَارَةَ المسجدِ الحرامِ كَمَنْ ءَامَنَ باللهِ واليَوْمِ اَلآخِرِ وَجَاهَدَ في سبيلِ اللهِ لا يستَونَ عِندَ اللهِ} ؛ نزل جوابًا لذلك ، فإن أولئك المسلمين لم يختلفوا في أن الإيمانَ مع الجهاد أفضل من مجرَّد السقاية والعمارة ، لهانَّما اختلفوا في أي الأعمال أفضل بعد الإسلام ، وقد نصّوا على ذلك في الحديث . وأيضًا : فلا يليقُ أن يقالَ لهم في هذا الذي اختلفوا فيه : { والله لا يهدي القوم الظالمين} ، كما قال في آخر الآية . وأيضًا : فإن الآيات التي قبل هذه الآية من قوله تعالى : { مَا كانَ لِلمشركِينَ أن يَعْمُرُوا مسَاجدَ الله } إلى هذه الآية تدلُ على أن الخطاب مع المشركين ، فتعيّن الإشكال ، فلينظر في التخلص منه . ويمكن أن يتخلص منه بأن يقال : إن بعضَ الرُّواة تسامَحَ في قوله : فأنزل الله الآية . وإنما قرأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على عُمَرَ الآيةَ حين سأله ، فظن الرَّاوي أنها نزلتْ حينئذ ، وإنما استدلَ بها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن الجهادَ أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عُمر ، فاستفتى لهم ، فتلا عليه ما قد كان أنزل عليه(12/37)
في المشركين ، لا أنها نزلت في هؤلاء . فيبقى أنْ يقال : فكيف يُستدلُ بما أنزل في المشركين في حالةٍ مخصوصة على مثل ذلك المعنى في المسلمين ، وهم مخالفون لهم في تلك الحال .
والجواب : أن هذا لا بُعْدَ فيه. فقد تنتزعُ مما أنزل في المشركين أحكام تليقُ انتز في المسلمين ، كما قد فعله عمر ، حيث قال : أما إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق وشواء وتوضع صحفةٌ ، وترفع أخرى ، ولكنَّا سمعنا قول الله تعالى : { أذْهَبتُم طيباتكم في حياتِكُمُ الدنيا واسْتَمْتَعتم بِها } ، وهذه الآية نصٌّ في أنها للكفار ، ومع ذلك ففهم منها عمر الزجرَ عما يناسبُ أحوالهم بعض المناسبة ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، فيمكن أن تكونَ هذه الآيةُ من هذا النوع ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( أي الناس أفضل ؟ )) أي : أيّ الناس المجاهدين ؛ بدليل أنه أجابه بقوله : (( رجل مجاهِد بنفسه وماله )). ثم ذكر بعده مَن جاهد نفسه بالعُزْلة عن الناس ؛ إذ كل واحد من الرَّجُلَين مجاهد . فالأول للعدوِّ الخارجيِّ ، والآخر للداخليِّ ؛ الذي هو : النفس والشيطان ، فجاهدهما بقطع المألوفات ، والمستحسنات من ا لأهل ، والقرابات ، والأصدقاء ، والأوطان ، والشهوات المعتادات . وكل ذلك فرارٌ بدينه ، وخوفًا عليه. وهذا هو الجهادُ الأكبر ؛ الذي من وصل إليه فقد ظفر بالكبريت الأحمر . غير أن العزلةَ إنما تكونُ مطلوبة إذا كفى المسلمون عدوَّهم ، وقام بالجهاد بعضهم . فأما مع تعيّن الجهاد ؛ فليس غيرُه بمراد ، ولذلك بدأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث ببيان أفضلية الجهاد على العزلة لما قدَّمناه في الباب الذي قبل هذا .
(12/38)
قوله : (( مِن خير معاش الناس لهم )) ؛ المعاشُ : مصدر بمعنى المعيشة أو العيش ؛ أي : مِن أشرفِ طُرُق المعاش الجهاد . ففيه دليلْ على جواز نيه أخذ المغانم والاكتساب بالجهاد ، لكن إذا كان أصلُ النيه في الجهاد أن يجاهدَ لتكون كلمةُ الله هي العليا . ولهذا أشارت في هذا الحديث بقوله : (( رجل مُمسِك بعِنان فرسه في سبيل الله )) ، وبقوله : (( يبتغي القتلَ مظانَّه )). ومتنُ الفرس وغيره : ظَهْرُه . و((الهيعة )) : الفزعة . يقال : هاع ، يهيع ، هيوعًا ، وهيعةً ؛ إذا جَبُن. و: هاع ، يهاع ؛ إذا جاع ، وإذا تهوع . و(( مظانَّه )) ؛ أي : في الأوقات التي يظن القتل فيها . وهو منصوب هنا على الظرف .
و (( السَّعَفة )) - بفتح العين غير معجمة - : واحدة السُّعَف ، وهي رؤوسُ الجبال . و(( اليقين )) هنا : هو المتيقن ، وهو الموت .
ومن باب رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة
قوله : (( يضحك الله إلى رجلين )) ؛ قد تقدَّم الكلامُ في الإيمان على الضحك المنسوب إلى الله تعالى ، وأنه عبارة عن الرضا بالمضحوك منه ، وإكرامه ، والإقبال عليه . ويحتمل أن يكون من باب حذف المضاف ؛ أي : يضحك رسول الله وملائكته ممن ذكر عند قبض أرواحهم . والله تعالى أعلم ؛ كما يقال قتل السلطان فلانًا ؛ وإنما قتله رجاله .
(12/39)
وقوله : (( لا يجتمع كافر وقاتلُه في النار أبداً )) ؛ ظاهِرُ هذا : أنَ المسلِمَ إذا قتل كافرًا لم يدخل النَّارَ بوجهٍ من الوجوه . ولم يقيده في هذا الطريق بقيدٍ ؛ لكن قال في الرِّواية الأخرى : (( ثم سَدد )) ، وقد استشكل بعضُ الأئمة هذا اللفظ . وجهةُ الإشكال : أن مآلَ السَّداد هو الاستقامة على الطريقة من غير زيغ ، ومَن كان هذا حالُه فإنه لا يدخل النار ؛ قتل كافراً أو لم يقتله . وسلك في الانفصال عن هذا الإشكال أن حمل (( سدد )) على (( أسلم )) ، بمعنى : أن القاتلَ كان كافراً ، ثم أسلم ، وصرفه للحديث الآخر ؛ الذي قال فيه : (( يضحك الله لرجلين )).
قلتُ : وهذا الإشكالُ إنما وقع لهذا القائل من حيث فسَّر السَّداد بما ذكر ، والذي يظهرُ لي : أنه ليس المراد بالسَّداد هنا ما ذكر ؛ بل بعض ما ذكر ، وهو أن يسدد حالَه في التخلص من حقوق الآدميين ؛ التي تقدَّم الكلامُ عليها في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( القتل في سبيل الله يكفر كل شيءٍ إلا الدَّين)) ، فإذا لم تكفر الشهادةُ الذينَ كان أبعد أن يكفره قتل الكافر . ويحتملُ أن يقالَ : سدد بدوام الإسلام حتى الموت . أو باجتناب الموبقات التي لا تُغفر إلا بالتوبة ، كما تقدَّم في الطهارة . والله تعالى أعلم .
(12/40)
وقوله في الطريق الآخر : (( لا يجتمعان في النار اجتماعًا يضرُّ أحدُهما الآخر )) ؛ مخالف للرواية الأولى الأخرى ، فإن ظاهرَ تلك الرواية : نفي الاجتماع مطلقًا . وظاهرُ هذه : نفي اجتماع مخصوص . فتعارض الظاهران . ووجهُ الجمع : حملُ المطلق على المقيَّد . بمعنى : أنَّ من قتَل كافرًا ثمَّ مات مرتكبَ كبيرةِ ، غير تائبٍ منها ، فامرُه إلى الله تعالى ؛ إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه بها ، وأدخل النار . ثم إن أدخل النار فإنما يدخل حيث يدخلُ المؤمنون المذنبون ، لا حيث يدخل الكافرون . فلا يجتمعُ ذلك المؤمنُ مع مقتوله الكافر أبدًا ، ولا يلقاه حتى يخاصمه ، كما قد جاء : أن بعضَ الكفار يجتمعُ ببعض المؤمنين في النار ، فيقولون لهم : ما أغنى عنكم إيمانكم ولا عبادتكم ؛ إذ أنتم معنا . فيضجُ المؤمنون إلى الله تعالى حتى يخرجوا ، فإذا خرجوا ، وتفقدهم الكافرون ، فلم يروهم ، قال بعضُهم لبعضِ : { مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كنا نَعُدُّهُم مِنَ الأَشْرَارِ اتَّخذَنَاهُمْ سِخْرِيًّا أم زَاغَتْ عنْهُمُ الأَبْصَار}. وقيل في الآية غير هذا . والله تعالى أعلم .
ومن باب فضل الحمل في سببل الله
قوله : (( جاء رجل بناقةٍ مخطومةٍ )) ؛ أي : عليها خطامها ؛ أي : زمامها .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة ، كلها مخطومة )) ؛ هذه الحسنةُ مما ضوعفت إلى سبعمنة ضعف ، وهو أقصى الأعداد المحصورة ؛ التي تضاعف الحسنات إليها. وهذا كما قال تعالى : { كمثل حبَّة أنبتت سبع سنابل في سنبلة مائة حبة } ، وبقي بعد هذا المضاعفة من غير حصر ، ولا حدّ ، وهي مفهومة من قوله تعالى : { والله يضاعف لمن يشاء }(2).
وقوله : (( إني أبدع بي )) ؛ أي : هلكت راحلتي ، وانقطع بي ، وهو رباعي ، مبني لما لم يسم فاعله . وقد وقع لبعض الرواة : (( بُدِّعَ بي )) على فُعِّل مشدد العين . وليس بمعروف في اللغة .
(12/41)
وقوله : (( احملني )) ؛ أي : أعطني ما أتحمل عليه ، أي : أحمل رحلي ، وأرتحل عليه .
وقوله : (( من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله )) ؛ ظاهر هذا اللفظ : أن للدَّال من الأجر ما يساوي أجر الفاعل المنفق . وقد ورد مثل هذا في الشرع كثيرًا ؛ كقوله : (( من قال مثل ما يقول المؤذن كان له مثلُ أجره )) ، وكقوله فيمن توضأ وخرجَ إلى الصلاة فوجد الناس قد صلَّوا : ((أعطاه الله من الأجرِ مثل أجر من حضرها ، وصلاَّها )). وهو ظاهرُ قوله تعالى : { وَمَن يخرج مِن بيتهِ مُهاجرًا إلى اللهِ وَرَسُوله فَقَد} وقَعَ أجْرٌه على الله } ، وهذا المعنى يمكنُ أن يقال به ، ويصار إليه بدليل : أن الثوابَ على الأعمال إنما هو تفضل من الله تعالى ، فيهبه لمن يشاء على أي شيءٍ صدر عنه ، وبدليل : أنَّ النيه هي أصلُ الأعمال ، فإذا صحَّتْ في فعل طاعةٍ فعجز عنها لمانعٍ منع منها فلا بُعدَ في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل ، أو يزيد عليه ، وقد دلَّ على هذا : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نيه المؤمن خير من عمله )) ، ولقوله : (( إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ، ولا قطعتم واديًّا إلا كانوا معكم ، حبسهم العذر )). وأنعم ما في هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري ؛ الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّما الدنيا لأربعة نفير : رجل آتاه الله تعالى مالاً وعلمًا ، فهو يتقي فيه ربَّه ، ويصل به رحمه ، ويعلم لله فيه حقًّا ، فهذا بأفضل المنازل . ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً ، فهو يقولُ : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعَمَلِ فلانٍ ، فهو بنيته ، فأجرهما سواء ، ورجلٌ آتاه الله مالاً ولم يؤته علمًا ؛ فهو لا يتقي فيه ربَّه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقًّا ، فهذا بأخبث المنازل . ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علمًا ؛ فهو يقول : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته ، ووزرهما سواء )).
(12/42)
وقد ذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور فى هذه الأحاديث إنما هو بغير تضعيف . قال : لأنه يجتمع في تلك الأشياء أفعال أخر ، وأعمال من البر كثيرة ، لا يفعلها الدَّال الذي ليس عنده إلا مجد النية الحسنة . وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ للقاعد : (( أيُّكم خلف الخارج في أهله وماله بخير فله مثل نصف أجر الخارج )) ، وقال : (( لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما )).
قلت : ولا حجة في هذا الحديث لوجهين :
أحدهما : إنا نقول بموجبه ، وذلك أئه لم يتناول محل النزاع ، فإن الدعوى إنما هي : أن الناوي للخير المعوق عنه هل له مثل أجر الفاعل من غير تضعيف . وهذا الحديث إنما اقتضى مشاركة ومشاطرة في المضاعف ، فانفصلا .
وثانيهما : أن القائم على مال الغازي ، وعلى أهله نائبٌ عن الغازي في عمل لا يتأتى للغازي غزوه إلا بأن يكفي ذلك العمل ، فصار كأنه يُباشر معه الغزو ، فليس مُقتصرًا على النية فقط ، بل هو عامل في الغزو ، ولما كان كذلك كان له مثل أجر الغازي كاملاً ، وافرًا ، مضاعفًا ، بحيث إذا أضيف ونسب إلى أجر الغازي كان نصفاً له ، وبهذا يجتمعُ معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من خلف غازيًا في أهله بخيرٍ فقد غزا )) ، وبين معنى قوله في اللفظ الأول : (( فله مثل نصف أجره )) ، والله تعالى أعلم .
وعلى هذا يحمل قوله : (( والأجر بينهما )) لا أن النائبَ يأخذ نصف أجر الغازي ، ويبقى للغازي النصف ، فإن الغازيَ لم يطرأ عليه ما يوجبُ تنقيصًا لثوابه ، وإنَّما هذا كما قال : (( من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجر الصائم ، لا ينقصه من أجره شيء )). والله تعالى أعلم .
(12/43)
وعلى هذا فقد صارت كلمةُ (( نصف )) مقحمةً هنا بين (( مثل )) و(( أجر)) وكأنها زيادةٌ مِمَّن تسامَحَ في إيراد اللفظ ، بدليل قوله : (( والأجر بينهما )) ، ويشهد له ما ذكرناه ، فَليُتنبَّة له ، فإنه حَسَن . وأمَّا من تحقق عجزه ، وصدقت نيتُه ، فلا ينبغي أن يختلف في : أن أجره مضاعف كأجر العامل المباشر ؛ لما تقدَّم ، ولما خرَّجه النسائيُّ من حديث أبي الدرداء قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أتى فراشه ، وهو ينوي أن يقومَ يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح ؛ كان له ما نوى ، وكان نومُه صدقة عليه )).
و (( جهاز الغازي )) : ما يحتاج إليه في غزوه من العدّة والسلاح والنفقة وغير ذلك .
ومن باب البعوث ونيابة الخارج عن القاعد
(( البعوث )) : جمع بعثِ ، وهم السَّرايا ، والعساكر الذين يبعثهم الإمامُ للغزو .
وقوله : (( آل بني لحيان ))- بكسرِ اللام - ، وهو : لحيان من هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، بطن يُنسب إليهم نَفرٌ من أهل العلم . ويقال في النسب إليه : اللحياني.
وقوله : (( حُرمةُ نساء المجاهدين كحرمة أمَّهاتهم )) ؛ يعني : أنه يجبُ على القاعدين مِن احترامهن ، والكفّ عن أذاهن ، والتعرض لهن مثل ما يجبُ عليهم في أمهاتهم .
وقوله : (( فما ظنكم )) ؛ يعني : أن المخونَ في أهله إذا مُكن مِن أخْذ حسنات الخائن لم يُبْقِ له منها شيئًا ، ويكون مصيرُه إلى النار . وقد اقتُصِرَ على مفعول الظن .
وظَهَرَ مِن هذا الحديث : أن خيانةَ الغازي في أهله أعظمُ من كل خيانةٍ ؛ لأن لم ما عداها لا يخير في أخذ كل الحسنات ؛ وإنما يأخذُ بكلّ خيانةٍ قدرًا معلومًا من حسنات الخائن .
(12/44)
وأما أهل الأعذار فإن هؤلاء لهم أجورهم مضاعفة موفورة على ما قدمناه لصدق نيتهم في الجهاد والخير ورغبتهم فيه ، وتألم قلوبهم بسبب أعذارهم التي أوجبت قعودهم عنه ، وقد نص في كتاب النسائي على مثل هذا المعنى ، فقال : عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((من أتى فراشه وهو ينوي أن يقومَ يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح ؛ كان له ما نوى ، وكان نومُه صدقة عليه من ربه )).
باب في قوله تعالى : { لا يستوى القاعدون } الآية
قةله : { وكلاًّ وعد الله الحسنى } ؛ أي : الموفقين المحقّقين في إيمانهم المجاهدين وغيرهم . وقيل : القاعدين من أولي الأعذار والمجاهدين . و{الحسنى} : الجنة ، كما قال تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} ، و{الحسنى } : الجنة ، والزيادة : النظر إلى وجه الله الكريم ؛ كما قاله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : { درجات } بدل من { أجرًا عظيمًا } ، وهذه الدَّرجاتُ هي المئةُ الدرجة التي أعدَّها الله للمجاهدين ، كما تقدَّم في حديث أبي سعيد .
ومن باب بعث العيون في الغزو
(( بُسَيسَة ))- بضم الباء بواحدةٍ ، وفتح الشين ، وياء التصغير - ؛ هكذا رواه جميعُ رواة الحديث ، وكذا وقع في كتاب مسلم وأبي داود. والمعلومُ في كتاب السِّير : (( بَسْبَس )) بفتح الباء غير مصغرٍ - ؛ وهو : بَسْبَسُ بن عمرو. ويقال : ابن بشرٍ من الأنصار ، وقيل : حليفهم . وأنشد ابنُ إسحاق في خبره :
أقِم لها صُدُورَهَا يَابَسبَسُ أن تَرِدِ الماءَ بِمَاءِ أكيَسُ
و (( العين )) هنا : الجاسوس ؛ يُسمي بذلك لأنه يعاينُ فيخبرُ مرسلَه بما يراه ، فكأنه عينُه . و(( العير )) : الإبلُ التي عليها الأثقال .
و (( ظُهرانهم ))- بضم الظاء - : جمع(9) ظهر ، وقيل : جمع ظهير ، كقضيب وقُضبان ، وكثيب وكُثبان . وهو البعيرُ الذي ركب ظهره .
و (( بخ بخ )) : كلمة تقال لتفخيم الأمر ، وتعظيمه ، والتعجب منه . وتقال بسكون الخاء ، وكسرها مُنوّنة.
(12/45)
وقوله : (( قوموا إلى جنة عرضُها السَّموات والأرض )) ؛ أي : كعرض السَّموات والأرض . كما قال تعالى في سورة الحديد : {وجنَّة عرضها كعرض السماء والأرض} ؛ شبَّه سعة الجنة بسعة السَّموات والأرض ، وإن كانت الجنهُ أوسعَ ، مخاطبةً لنا بما شاهدنا ؛ إذ لم نشاهدْ أوسعَ من السموات والأرض. وهذا أشبهُ ما قيل في هذا المعنى.
وقوله : (( لا والله ! إلا رجاءَ )) ؛ رويته بنصب الهمزة من غير تاء تأنيثٍ على أن يكونَ مفعولاً من أجله . والأولى فيه الرفع ، على أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مضمر ، يدلُّ عليه قولُه : (( ما يحملُك على قولك : بخ بخ ؟ )) لأنَه جوابُه ؛ أي : لا يحملُني على قولي : بخٍ بخٍ إلا رجاءُ أن أكون من أهل الجنة . وقد رواه كثير من المشايخ : (( إلاَّ رجاءة )) بتاء التأنيث ، وهو مصدرُ الرَّجاء ، لكنه محدود . قال المبرّدُ : تقولُ العربُ : فعلته رجأتك ؛ أي : رجاك ؛ من الرَّجاء ، وهو الطمَعُ في تحصيل ما فيه عرضٌ ونَفعٌ .
وقوله : (( فأخرج تمرات من قُرْبِه ))- بفتح القاف والزَاء - ، وهي جَعبةُ السهام . وهكذا روايتنا فيه ، وأمَّا من رواه بضم القاف ، وسكون الراء ، وكسر الباء أقربه ، و(( قَرْقَرِهِ )) فتغيير ، وإن كانت لهما أوجه بعيدة.
وقوله : (( الجنَّةُ تحت ظلالِ السُّيوف )) ؛ من الاستعارة البديعة ، والألفاظ السَّهلة البليغة ؛ التي لا يُنسَجُ على منوالها ، ولا يقدِرُ بليغ أن يأتيَ بمثالها. يعني بذلك : أن من خاض غمراتِ الحروب ، وباشرَ حالَ المسايفة كان له جزاء الجنة . وهذا من باب قوله : (( الجنَّة تحت أقدام الأمَهات )) ؛ أي : مَن تذلَّل لهنَّ ، وأطاعهنَّ وَصَل إلى الجنة ، ودخلها .
(12/46)
وفي هذين الحديثين دليل على جواز استقتال الرجل نفسه في طلب الشَهادة ، وإن علم أنه يقتَل. وقد فعله كثير من الصحابة والسَّلف وغيرهم . وروي عن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما ، وهو قولُ مالك ، ومحمد بن الحسن ، غير أنَّ العلماءَ كرهوا فِعلَ ذلك لرأس الكتيبة ؛ لأنه إن هلك هلك جيشُه. وقد روي عن عمر أيضًا كراهية الاستقتال ، وقال : (( لأن أموتَ على فراشي أحبُّ إليَّ من أن اقتل بين يدي صفٍ )). يعني : يستقتل . ورأى بعضُ العلماء هذا الفعلَ مِن إلقاءه اليد للتهلكة المنهي عنه .
قلتُ : وفي هذا بُعْدٌ من وجهين :
أحدهما : أن أحسنَ ما قيل في الآية ؛ أنها فيمن ترك الإنفاق في الجهاد.
وثانيها : أن عملاً يُفضي بصاحبه إلى نيل الشَّهادة ليس بتهلكة ، بل التهلكةُ : الإعراضُ عنه ، وتركُ الرَّغبة فيها. ودلَّ على ذلك الأحاديث المتقدِّمة كلها ، فلا يُعدل عنها .
ومن باب قوله تعالى : { رِجَالٌ صَدقُوا مَا عاهَدُوا الله عليه } الآية
قول أنس : (( عمِّي سُمِّيت به )) ؛ أي : سُميت باسمه ، فإن عمَّه اسمه : أنس بن النضر .
وقوله : (( وإن أشهدني اللهُ مشهدًا فيما بعد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليرينَّ اللهُ ما أصنع )) ؛ هذا الكلامُ تضمَّنَ أنه ألزمَ نفسه إلزامًا مؤكدًا ، وهو : الإبلاءُ في الجهاد ، والانتهاض فيه ، والإبلاغُ في بذل ما يقدر عليه منه ، ولم يصرِّح بذلك مخافةَ ما يتوقَّع من التقصير في ذلك ، وتبرُئًا مِن حوّله وقوته ؛ ولذلك قال : (( فهاب أن يقول غيرها )) ، ومع ذلك فنوى بقلبه ، وصمم على ذلك ، بصحيح قصدُه ، ولذلك سمَّاه الله عهدًا في الآية حيث قال : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} ، فسمَّاه عهدًا.
وقوله : (( واهًا لريح الجنة )) ؛ أي : عجبًا منه ، فهي هنا تعجب ، وقد تأتي للترخُم ، والتلهف ، والاستهانة .
(12/47)
وقوله : (( أجده دون أُحُدٍ )) ؛ ظاهرُه الحملُ على : أنه وجده حقيقةً ، كما جاء في الحديث الآخر : (( إن ريح الجنة توجدُ على مسيرة خمسمائة عامٍ )) ، ويحتملُ أن يكون قاله على معنى التمثيل ؛ أي : إن القتلَ دون أُحُد موجب لدخول الجنة ، ولإدراك ريحها ونعيمها .
وقوله : (( فقاتلهم حتى قتل )) ؛ ظاهره : أنه قاتلهم وحده . فيكون فيه دليل على جواز الاستقتال ، بل على نَدبه ؛ كما تقدم .
وقولها : (( فما عرفَتُه إلا ببنانه )) ؛ أي : بأصابعه . ومنه قوله تعالى : {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه } ،
وقوله : { فَمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ } ؛ أي : وفَّى بنذره . يقال : نحب ، ينحُب إذا نذر ، ومنه قول الشاعر :
إذا نحبت كلبٌ على الناس إنَّهم أحقّ بناجِ الماجد المتكرِّم
قال آخر :
ألا تَسْأَلانِ المرءَ ماذا يُحاولُ أنحبٌ فيُقضي أم ضلالٌ وباطل
وقيل : قضى أجله على ما عاهد عليه . قال ذو الرمَّة :
عَشِيَّةَ فرَّ الحارِثُونَ بَعْدَما قَضَى نَحبَهُ في مُلتَقى الجيشِ هَوْبَرُ
وقوله : { ومنهم من ينتظر } ؛ أي : الوفاء بما نذر أو الموت على ما عاهد.
وقوله : { وما بدلوا تبديلاً } ؛ أي : استمرُّوا على ما التزموا ، ولم يقع منهم نقض لما أبرموا .
وقوله (( : قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه )) ؛ هذا القائلُ هو : ثابت . والله تعالى أعلم ؛ ويعني به : أن الصَّحابةَ ـ رضى الله عنهم ـ كانوا يظنون : أنَها نزلتْ فيمن ذكر . وقد قيل : نزلت في السَّبعين الذين بايعوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم ، وأبناءهم ، فوفُّوا بذلك ؛ قاله الكلبيُّ . وقد قيل غير هذا.
وقوله : (( فبعث إليهم سبعين رجلاً )) ؛ هؤلاء السبعون هم الذين استشهدوا ببئر معونة ، غَدَرَ بهم قبائلُ من سليم مع عدوِّ الله عامر بن الطفيل ، فاستصرخوا عليهم ، فقتلوهم عن آخرهم غير رجلين ، ولم يُصَب النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا المسلمون بمثلهم ـ رضى الله عنهم ـ .
(12/48)
و (( الصُّفَّة )) : بيت في المسجد مُقتَطَع عنه. وفيه دليل على جواز استيطان الغرباء والفقراء مكانًا من المسجد ، وعلى وضع الماء فيه للشُرب وغيره ، وعلى الاجتماع على قراءة القرآن ومدارسة العِلم ، وعلى أنَّ المتفرغ للعبادة ولطَلَب العلم لا يُخِل بحاله ، ولا ينفصُ توكلَه اشتغالُه بالنظر في مطعمه ، ومشربه ، وحاجته ؛ كما يذهب إليه بعضُ جُهَّال المتزهدة .
وفيه دليل على أن أيد الفقراء غير المتفزغين للعبادة فيما يكسبه بعضهم ينبغي أن تكون واحدة ، ولا يستأثر بعضهم على الآخر بشيءٍ .
وقولهم : (( إنا قد لقيناك )) ؛ أي : قد وصلنا إلى ما أنعمت به من الجنَّة ، والكرامة ، ومنزلة الشهادة ؛ لأن لقاءَ الله ليس على ما تعارفنا من لقاء بعضنا لبعض .
وقولهم : (( فرضينا عنك )) ؛ أي : بما أوصلتنا إليه من الكرامة والمنزلة الرفيعة . و(( رضيت عنا )) ؛ أي : أحللتنا محل مَن ترضى عنه ، فاكْرِمَ غاية الإكرام ، وأُحْسِنَ إليه غاية الإحسان . وعلى هذا : فيكون رضا الله تعالى من صفات الأفعال . ويصح أن يعبّر بالرضا في حق الله تعالى عن إرادة الإكرام والإحسان ؛ فيكون من صفات الذات .
وقول حرام عندما طُعن : (( فُزتُ ورب الكعبة )) ؛ أى : بما أعدَّ الله للشُهداء . وظاهره : أنه عاين منزلته في الجنة في تلك الحالة . ويحتملُ أن يقول ذلك محققًا لوعد الله ورسوله الحقّ الصدق ، فصار كأنه عاين . والله تعالى أعلم .
ومن باب الإخلاص وحسن النية في الجهاد(12/49)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا ؛ فهو في سبيل الله )) ؛ يعني بـ (( كلمة الله )) : دين الإسلام . وأصله : أن الإسلامَ ظهر بكلام الله تعالى ؛ الذي أظهره الله تعالى على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ويُفْهَمُ من هذا الحديث : اشتراط الإخلاص في الجهاد ، وكذلك هو شرطٌ في جميع العبادات ؛ لقوله تعالى : { وَمَاَ أمِرُوا إلا لِعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِينَ}. والإخلاص : مصدر من : أخلصت العسل وغيره : إذا صفيته ، وأفردتُه من شوائب كدره ؛ أي : خلصته منها . فالمخلِصُ في عباداته هو الذي يُخلصها من شوائب الشركِ والرياء . وذلك لا يتأتى له إلا بأن يكون الباعثُ له على عملها قصدَ التقرب إلى الله تعالى ، وابتغاء ما عنده . فأما إذا كان الباعثُ عليها غير ذلك من أعراض الدُّنيا ؛ فلا يكونُ عبادة ، بل يكون مصيبة موبقة لصاحبها ، فإما كفرٌ ، وهو : الشرك الأكبر ، وإما رياء ، وهو : الشركُ الأصغر . ومصيرُ صاحبه إلى النار ، كما جاء في حديث أبي هريرة في الثلاثة المذكورين فيه . هذا إذا كان الباعثُ على تلك العبادة الغرضَ الدنيوي وحده ، بحيث لو فُقِد ذلك الغرضُ لتُرِك العمل . فأما لو انبعث لتلك العبادةِ بمجموع الباعثَينِ - باعث الدنيا وباعث الدين - ؛ فإن كان العبادة باعثُ الدنيا أقوى ، أو مساويًا ألحق القسم الأول في الحكم بإبطال ذلك العمل عند أئمة هذا الشأن ، وعليه يدل قولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكاية عن الله تبارك وتعالى : (( مَن عَمِل عملاً أشركَ معي فيه غيري تركتُه وشريكه )). فأما لو كان باعثُ الدِّين أقوى ؛ فقد حكم المحاسبي رحمه الله بإبطال ذلك العمل ؛ متمسكًا بالحديث المتقدِّم ، وبما في معناه ، وخالفه في ذلك الجمهور ، وقالوا بصحة ذلك العمل ، وهو المفهومُ في فروع مالك . ويُستدلُ على هذا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله )) ، ، فجعل الجهاد مما يصح أن يُتخذ للمعاش ، ومن ضرورة ذلك أن يكونَ(12/50)
مقصودًا ، لكن لما كان باعثُ الدِّين على الجهاد هو الأقوى والأغلب ، كان ذلك الغرض مُلغى ، فيكون معفوًّا عنه ؛ كما إذا توضأ قاصِدًا رَفع الحدث والتبرُّد ، فأما لو تفرَّد باعثُ الدِّين بالعمل ، ثم عرض باعث الدنيا في أثناء ذلك العمل فأولى بالصحة . وللكلام في هذا موضع آخر ، وما ذكرناه كافٍ هنا .
وقوله : (( فرفع رأسَه إليه ، وما رفع رأسه إليه إلا أنه كان قائمًا )) ؛ فيه دليل على جواز سؤال السائل القائم للعالم وهو قاعد ؛ إذا دعتْ إلى ذلك حاجة ، أو عذر ، وإلا فالأولى بالسَّائل الجلوسُ ، والتثبُّت ؛ كما في فعل جبريل ، حيث سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( إنما الأعمالُ بالنيَّات )) ؛ أي : الأعمال المتقرَّب بها إلى الله تعالى ، بدليل بقية الحديث . وهذا الحديث بحكم عمومه يتناولُ جميعَ أعمال الطَّاعات ، فيدخل في ذلك الوضوء ، والغُسل ، وغير ذلك . فيكون حُجَّة على مَن خالف في ذلك ، كما تقدَّم في الطهارة . ووجه التمسُّك به : أنه عموم مؤكَّد (( إنَّما )) الحاصرة ، فصار في القوة كقوله : لا عمل إلا بنية ، فصار ظاهرًا في نفي الأجزاء والاعتداد بعملٍ لا نية له . ولا يقال : فهو مخصصٍ بدليل إخراج العبادات المعقولة المعنى ، كغسل النجاسة وما في معناها ؛ لأنا نقول : اللفظُ العام محمول على عمومه بعد إخراج المخصص ، كما قد تقدَّم غير ما مرَّةٍ .
(12/51)
وقوله : (( وإنَّما لامرئٍ ما نوى )) ؛ تحقيق لاشتراط النية ، والإخلاص في العمل. وقد زاده وضوحًا قوله : (( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله )) ؛ أي : فهجرتُه مقبولةً عند الله تعالى ، وثوابها عليه ، (( ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوَّجها ، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه )) ؛ أي : ليس له من هجرته إلا ما قصده . وهذا كما قال في الحديث الآخر : (( مَن أتى المسجد لشيءٍ فهو حظه )). وإنما ذُكِرَتْ في الحديث الهجرةُ ؛ لأنه جَرَى سَبَبُها ، وذلك : أنَّ رجلاً هاجر إلى المدينة ليتزوَّج امرأةً بها ، تُسمَّى : أم قيس ، فبلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكر الحديث ، وسُمِّي الرجل : مهاجر أم قيس . على ما ذكر أئمتنا . وظاهرُ حال هذا الرجل بسبب هذه الإضافة التي غلبتْ على اسمه أنه لم تكن له في الهجرةِ الشرعية رغبة ، ولا نية فسلبها ، ونسب إلى ما نواه ، وقَصَده . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا ، ولا قَطَعتُم واديًا إلا كانوا معكم ، حَبَسَهُمُ المرض )) ؛ يدل على ما ذكرناه : من أنَّ الناوي لأعمال البرِّ ؛ الصادق النيه فيها ؛ إذا منعه من ذلك عذر كان له مثلُ أجر المباشر مضاعفًا ، كما قدَّمناه . وقد دلَّ عليه من هذا الحديث ذكر قطع الوادي ، والمسير ، فإن هذا إشارة إلى قوله تعالى : { ذلَكَ بأنَّهُمْ لا يُصِيبهُم ظَمَأ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخمَصَةٌ في سَبيل اللهِ } إلى قوله تعالى : {وَلا يقطَعُونَ وَاديًا إلا كُتِبَ لَهُم ليَجْزَيهُمُ اللهُ أحْسَنَ مَا كَانُوا يعمَلُونَ } ، ولما كان القاعدون لأجل العُذر قد صحَّت نيَتهم في مباشرة كل ما باشره إخوانهم المجاهدون ؛ أعطاهم الله تعالى مثل أجر مَن باشر كما قدَّمناه في حديث أبي كبشة الأنماري .
ومن باب إثم من لم يُخلص في الجهاد وأعمال البر
قد تقدم : أن الإخلاصَ في الطاعات واجب ، وأن الرِّياء يفسدها.
(12/52)
وقوله : (( إن أول الناس يُقضى عليه يوم القيامة رجل استُشْهِد ، ورجل تعلم العلم ، وورجل أنفق ماله )) ؛ هذا يخالفُه قوله : (( أول مايحاسب به العبد المسلم من عمله صلاته )) ، الحديث ، وقوله : (( أول مايقضى فيه بين الناس في الدِّماء )). قد يسبق إلى الوهم أن هذه الأحاديثَ متعارضة من حيث الأولية المذكورة في كل حديث منها ؛ وليس كذلك ؛ فإنه إنَّما كان يلزم ذلك لو أريد بكل أولي منها أنه أوَّلٌ بالنسبة إلى كل ما يُسأل عنه ، ويقضى فيه ، وليس في شيءٍ من تلك الأحاديث ما ينصُّ على ذلك ، وإنما أراد - والله أعلم- : أن كل واحد من تلك الأوليات أوَّلٌ بالنسبة إلى ما في بابه ، فأول ما يحاسبُ به من أركان الإسلام الصلاة ، وأول ما يحاسب به من المظالم الدِّماء ، وأول ما يحاسب به مما ينتشر فيه صِيتُ فاعله تلك الأمور . وهذا أوَّلُ ما يقاربه ويناسبه ، وهكذا تعتبر كل ما يردُ عليك من هذا الباب ، والله تعالى أعلم .
و (( الجريء )) بالهمز . هو : المقدامُ على الشيء ، لا ينثني عنه ، وإن كان هائلاً ، مأخوذٌ من الجرأة .
و (( سحب على وجهه )) ؛ أي : جُرّ . و(( الجواد )) : الكريم ، وهو الكثيرُ العطاء . والجود : الكرم .
ومن باب الغنيمة نقصان من الأجر
(12/53)
قوله : (( ما من غازيةٍ تغزو في سبيل الله ، فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم ، ويبقى لهم الثلث ، وإن لم يصيبوا غنيمة تَمَّ لهم أجرُهم )). قوله : (( ما من غازية )) هو صفة لموصوفٍ محذوفٍ للعلم به ؛ أي : ما من جماعةٍ ، أو سريه . و(( تغزو )) بالتأنيث والإفراد : راجع إلى لفظ غازية . و(( فيصيبون )) بالتذكير والجمع : راجع إلى معناها . وقد ذهب غيرُ واحدٍ : إلى أن هذا الحديثَ معارضٌ بحديث أبي هريرة ؛ الذي قال فيه : (( نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة )) ؛ على ما تقدم . وظاهِرُ هذا الحديث - أعني حديث عبدالله بن عمرو - أَنَّ له مجموعَ الأمرين ، أو قد اجتمع لأهل بدرٍ سهمهم . ولما صح عند هؤلاء هذا التعارض ، فمنهم من ردَّ هذا الحديث ، وضغفه ، فقال : في إسناده حُميد بن هانئ ، وليس بمشهور ، ورجحوا الحديثَ الأول عليه لشهرته .
قلتُ : وهذا ليس بشيء ، فلا يُلتَفَتُ إليه ؛ لأن البخاري قد ذكر حميد بن هانئ هذا فقال : هو مصري ، سمع أبا عبدالرحمن الْحُبُلِي ، وعمرو بن مالك ، وسمع منه حيوة بن شُريح ، وابن وهب . ومنهم مَن رام الجمع بأن قال : إن الأولَ محمول على مجرد النيه والإخلاص في الجهاد ، فذلك هو الذي ضمن الله له إمَّا الشهادة ، وإمَّا ردَّه إلى أهله مأجورًا غانِمًا . ويحمل الثاني على ما إذا نوى الجهادَ ، ولكن مع نيل المغنم ؛ فلما انقسمتْ نيته انحط أجرُه عن الأول .
(12/54)
قال القاضي أبو الفضل : وأوضحُ من هذا عندي : أن أجرَ الغانم بما فتح الله تعالى عليه من الدنيا وحساب ذلك عليه ، وتمتّعه به في الدنيا ، وذهاب شظف عيشه في غزوه وبعده ؛ إذا قوبل بمن أخفق ولم يصب شيئًا ، وبقي على شظف عيشه ، والصبر على حالته ، وجد أجر هذا وافيًا مُوفرًا بخلاف الأول. ومثله قوله في الحديث الآخر : (( فمنَّا من مضى لم يأكل من أجره شيئًا ، ومنا من أينعت له ثمرته ، فهو يَهْدِبُها )) ، ويدل على صحة هذا التأويل قولُه : (( إلا تعجَّلوا ثلثي أجرهم )).
قلتُ : ويحتملُ أن يقال : إن هذه التي أخفقتْ إنما يُزَادُ في أجرها لشدَّة ابتلائها ، وأسفها على ما فاتها من الطفر والغنيمة. والله تعالى أعلم .
وقوله : (( تخفق )) ؛ أي : تخيب . يقال : أخفق الصائد ، إذا خاب ، وكذلك كل طالب حاجةٍ إذا لم تحصل له .
وقوله : (( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه مات على شُعبةٍ من النفاق )) ؛ فيه ما يدل على أن من لم يتمكن من عمل الخير فينبغي له أن يعزمَ على فِعله إذا تمكن منه وأن ينويه ، فيكون ذلك بدلاً من فعله في ذلك الحال . فأما إذا أخلى نفسه عن ذلك العمل ظاهرًا وباطنًا عن نموه ؟ فذلك حالُ المنافق الذي لا يعملُ الخير ، ولا ينويه . وخصوصاً : الجهاد الذي به أعز اللهُ الإسلام ، وأظهر به الدِّينَ حتى علا على كل الأديان ، ولو كره الكافرون .
وقوله : (( شعبة من نفاق )) ؛ أي : على خُلُقٍ من أخلاق المنافقين . وقد تقدَّم ذِكرُ الشعَب في كتاب الإيمان .
وقول عبدالله بن المبارك : (( فَنُرَى ذلك كان على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ يعني : حيث كان الجهادُ واجبًا ، وحمله على النفاق الحقيقي . ويحتمل أن يجمع على جميع الأزمان ، ويكون معناه : أن كل من كان كذلك أشبه المنافقين لسان لم يكن كافرًا . والله تعالى أعلم .
(12/55)
وقوله : (( من سأل الله الشَهادة بصدق بلَّغه الله تعالى منازلَ الشُهداء ؛ وإن مات على فراشه )) ؛ هذا يدلُّ على صحة ما أصَّلناه في الباب الذي قبل هذا ، وهو : أنَّه مَن نوى شيئًا من أعمال البرِّ ، ولم يتفق له عملُه لعذرٍ كان بمنزلة مَن باشر ذلك العملَ ، وعَمِلَه .
ومن باب الغزو في البحر
قوله : (( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يدخلُ على أمِّ حرام بنت مِلْحان )) ؛ أمّ حرام هذه هي أخت أم سليم أم أنس بن مالك مكان اسم أم حرام ، وكان اسمُ أم حرام : الرميصاء . وقيل : الغميصاء ، وإنما الرميصاء أمُّ سليم . وكذا ذكره البخاري.
و (( الرميصاء )) : من الرمص ، وهو القذى الذي يجتمع في مآقي العين وأهدابها .
و (( الغمص )) : استرخاءٌ فيها وانكسار ، وهما اسمان لهما ، ويجوزُ أن يكون ذلك صفتين ، ولعل الغمصَ هو الذي كان غالبًا على نساء الأنصار ، وهو الذي عنى به النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال لجابر : (( فإن في عيون الأنصار شيئًا.
ودخولُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أم حرام ؛ لأنها كانتْ إحدى خالاته من الرَّضاعة ، كما قال ابنُ وهب(1). وقال غيرُه : بل كانت خالته لأبيه ، أو لجدِّه ؛ لأن أم عبد المطلب بن هاشم من بني النجار .
وقوله : (( وكانت تحت عُبادة بن الصامت )) ؛ ظاهرُه : أن أم حرام كانت زوجًا لِعُبادة في الوقت الذي دخل عليها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ورأى تلك الرؤيا ، وليس الأمرُ كذلك ، بل تزوَّجها عُبادةُ بعد ذلك بمدةٍ ، كما قال في الرواية الأخرى : فتزوَّجها عبادةُ بَعْدُ ، فغزا في البحر . فهذا يدلُّ على تعقيب تزوجها بغزوهم ، وكان ذلك الغزو في زمان معاوية ، إمَّا وهو أميرُ الجيش ، أو أمير المؤمنين ، على ما في ذلك من الخلاف .
وفي قوله : (( فأطعمته )) ؛ دليل على جواز تصرُّف المرأة في إطعام الضيف من طعام زوجها ؛ لأن الأصل في أطعمة الدَّار إنما هي مال الزوج.
(12/56)
وفيه دليل على بذات خلوة الرَّجل بذات محرم ، والتبسُّط معها ، والقرب منها ، لا سيما على رواية من روى : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضع رأسه على فخذها. ويمكن أن يقال : إنه غد كان لا يستتر منه النساء ؛ لأنه كان معصومًا بخلاف غيره . وضحكه يكن حين استيقظ إنما كان فَرَحًا مما اطلع عليه من أحوال من يكون كذلك حالُه من يكون بعده .
و (( ثبج البحر )) : ظهره ، كما قال في الرواية الأخرى . وأصل الثَّبج : ما يلي الكتفين .
وقوله : (( ملوكًا على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة )) ؛ هو شكّ من بعض الرواة ، وقد ورد في طريقٍ أخرى : (( كالملوك على الأسرَّة )) ، بغير شكِّ ، ويحتمل أن يكون خبرًا عن حالهم في غزوهم . ويحتملُ أن يكونَ خبرًا عن حالهم في الجنة ، كما قال تعالى في صفة أهل الجنَّة : {على سُرُرٍ مَصْفُوفَة } ، و{على سُرُرٍ مَوْضُونَة مُتَكئِينَ عَلَيهَا مُتَقابلِين }.
وفيه دليل على ركوب البحر في الغزو . ويلحقُ به ما في معناه من الحج وغيره ؛ وهو مذهبُ جمهور الصحابة والعلماء ، غير أنه قد روي عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ وعمر بن عبد العزيز ـ رضى الله عنه ـ منع ركوبه مطلقًا . وقيل : إنما منعاه للتجارة ، وطلب الدنيا ، لا للطاعات. وكره مالك ركوبه للنساء مطلقًا ، لما يخاف عليهن من أن يُطلع منهن على عورةٍ ، أو يطلعن على عورات المتصرِّفين . قال الأصحابُ : هذا فيما صَغُر من السُّفن ، فأمَّا ما كَبُر منهن ، بحيث يستترن بأماكن يختصصن بها ، فلا بأس .
وقولها في الثانية : (( ادع الله أن يجعلني منهم )) ؛ كأنها ظنَّتْ أن المعروضين عليه ثانيأ مساوون للأولين في الرتبة ، فسألت رتبتهم ليتضاعف لها الأجر ، ولم يشك في إجابة دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها في المرة الأولى.
وقوله : (( أنت من الأولين )) ؛ أي : من الزمرة التي رآها أولاً . وهذا يدل : على أن المرئيين ثانيًا ليسوا الأولين ، وكأن الطائفة الأولى غزاة أصحابه في البحر . والثانية : غزاة التابعين فيه . والله تعالى أعلم .
(12/57)
وقوله : (( فركبت البحر في زمن معاوية )) ؛ ظاهره : في زمان خلافة معاوية . وقال به بعض أهل التاريخ . والأشهر من أقوالهم : إن ذلك إنما كان في خلافة عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ ، وفيها كان معاوية قد غزا قبرص سنة ثماني وعشرين ، ومعه زوجته فاختة بنت قرظة من بني عبد مناف ، قاله خليفة بن خياط وغيره . وأن فيها ركبت أم حرام البحر مع زوجها إلى قبرص ، وبها توفيت حين صرعتها دابتها ، ودفنت بها .
وعلى هذا فيكون قوله في زمان معاوية ؛ أي في زمان غزوه البحر والله أعلم .
وفيه دليل : على صحَّة نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعلى صدقه ، فإنه قد وقع ما أخبر عنه من الغيب على نحوما أخبر عنه .
وفيه دليل : على أن من مات في طريق الجهاد من غير مشاهدته ومباشرته ؛ له من الأجر والرتبة مثل ما للمباشر. كما قدَّمناه ، والله أعلم.
ومن باب فضل الرِّباط ، وكم الشهداء ؟
الرِّباط : مصدر رابط ، يرابط ، رباطًا : إذا أقام في ثغر من ثغور الإسلام حارسًا له من العدو . وأصله : من ربط الخيل فيها .
وقوله : (( وإن مات )) ؛ يعني : في حالة الرِّباط جرى عليه عمله )) ؛ أي : أجر عمله (( الذي كان يعملها )) في حال رباطه ، وأجر رباطه . وقد جاء في غير مسلم بأوضح من هذا ؛ قال : (( كل ميتٍ يختم على عمله إلا المرابط ، فينمو له عمله )).
وقوله : (( وأجري عليه رزقه )) ؛ يعني به - والله تعالى أعلم- : أنه يرزق في الجنة كما يرزق الشهداء ؛ الذين تكون أرواحهم في حواصل الطير ، تأكل من ثمر الجنة ، كما تقدَّم في الشهيد .
وقوله : (( وأمِنَ الفتَّان )) ؛ روى عن الأكثر من الرواة : بضم الفاء ، جمع فاتن ، ويكون للجنس ؛ أي : يؤمن من كل ذي فتنة . ورواه الطبري : بفتح الفاء ؛ يعني به : فتان القبر. وكذلك رواه أبو داود مفسرآ بالإضافة إلى القبر .
(12/58)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مؤخر غصن الشوك : (( فشكر الله له )) ؛ أي : رضي فعله ذلك ، وأثابه عليه بالأجر ، والثناء الجميل . وقد تقدَّم : أن أصل الشكر : الظهور .
وقوله : (( الشهداء خمسة : المطعون ، والمبطون ، والغريق ، وصاحب الهدم ، والشهيد في سبيل الله )) ، وقال مالك من حديث جابر بن عتيك : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( الشهداء سبع ، سوى القتل في سبيل الله )) ، وذكر نحو ما تقدَّم ، وزاد : (( وصاحب ذات الجنب ، والحريق ، والمرأة تموت بجمع )) ، ولا تظن : أن بين قوله : ((الشهداء خمسة )) ، و(( الشهداء سبعة )) ، تناقضًا ؛ لأنهما حديثان مختلفان ، أخبر بهما في وقتين مختلفتين . ففي وقت أوحي إليه أنهم خمسة . وفي وقت آخر أوحي إليه أنهم أكثر . والله تعالى أعلم .
فأما المطعون ؛ فهو الذي يموت بالطاعون ، وهو : الوباء . وقد فسَّره فى الحديث الآخر ؛ إذ قال فيه : (( الطاعون شهادة لكل مسلم )) ، ولم يُرد المطعون بالسَّنان ، لأنه هو المقتول في سبيل الله ، المذكور من جملة الخمسة .
و (( المبطون )) : هو الذي يموت من علَّة البطن ، كالاستسقاء ، والحفن - رهو : انتفاخ الجوف - ، والإسهال .
و (( الغرق )) ؛ يروى بغير ياء ، كحذر. ويروى بالياء ، وهو للمبالغة كعليم.
و (( صاحب الهدم )) : هو الذي يموت تحت الهدم .
و (( الحريق )) : هو الذي يموت بحرق النار . وهؤلاء الثلاثة إنما حصلت لهم مرتبة الشهادة لأجل تلك الأسباب ؛ لأنهم لم يفرّوا بنفوسهم ، ولا فرّطوا في التحرز ، ولكن أصابتهم تلك الأسباب بقضاء الله وقدره . فأما من غرر ، أو فرط في التحرز حتى أصابه شيء من ذلك فمات ، فهو عاصي ، وأمره إلى الله ؛ إن شاء عذب ، وإن شاء عفا .
وأما صاحب ذات الجنب : فهي قرحة في الجنب ، وورم شديد ، ويُسمى : الشوصة .
(12/59)
وأما المرأة تموت بجمع ، ويُقال : بضم الجيم وكسرها ، وهي المرأة تموت حاملاً ، وقد جمعت ولدها في بطنها . وقيل : هي التي تموت في نفاسه وبسببه . وقيل : هي التي تموت بكرًا لم تفتض . وقيل : بكرًا لم تظهر لأحد . والأول أولى وأظهر . والله تعالى أعلم .
وقوله : (( ومن مات في سبيل الله فهو شهيد )) ؛ يعني : أنه يموت شهيدًا وإن لم يباشر الحرب ، ولم يشاهده ، كما قدَّمناه .
ومن باب قوله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة }
القوَّة : التقوى بإعداد ما يحتاج إليه من الدروع ، والمجان ، والسيوف ، والرِّماح ، وسائر آلات الحرب ، والرَّمي ، إلا أنه لما كان الرَّمي أنكاها في العدو ، وأنفعها فسرها وخصصها بالذكر وأكدها ثلاثًا ، ولم يرد أنها كل العدّة ، بل أنفعها . ووجه أنفعيتها : أن النكاية بالسِّهام تبلغ العدو من الشجاع وغيره ، بخلاف السيف والرمح ، فإنه لا تحصل النكاية بهما إلا من الشجعان الممارسين للكرِّ والفرِّ ، وليس كل أحد كذلك . ثم : إنها أقرب مؤنة ، وأيسر محاولة وإنكاء . ألا ترى أنه قد يرمي رأس الكتيبة فينهزم أصحابه ؛ إلى غير ذلك مما يحصل منه من الفوائد ، والله تعالى أعلم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ستفتح عليكم الأرضون ، ويكفيكم الله )) ؛ أي : أمر العدو بالظهور عليه ، وبالتمكين منه ، وقد كان كل ذلك ، وهذا من دلائل صحة نبوته . فإنه وقع ما أخبر به قبل كونه على نحو ما أخبر عنه .
(12/60)
وقوله : (( فلا يعجز أن يلهو أحدَّكم بأسهمه )) ؛ أي : يجعل الرَّمي بدلاً من اللهو ، فيدوم عليه ، ويشتغل به حتى لا ينساه ، ولا يغفل عنه فيأثم ، على ما جاء في حديث عقبة بن عامر ، قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( إن الله يدخل بالسَّهم الواحد ثلاثة نفر الجنَّة : صانعه يحتسبه في صنعه الخير ، ومنبله ، والرامي به . وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا . ليس من اللهو إلا ثلاث : تأديب الرجل فرسه ، وملاعبته أهله ، ورميه بقوسه ونبله. ومن ترك الرمي بعدما تعلمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها -أو قال : كفرها-)). خرَّجه أبو داود. ويدل عليه حديث فقيم المذكور في الأصل على ما يفسر بعد .
وقوله : (( من علم الرمي ثم تركه فليس منا ، أو قد عصى )) ؛ هذا شك من بعض الرواة في أي اللفظين قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فهو ظاهر في ذم من ترك الرمي بعد أن علمه . وسبب هذا الذم : أن هذا الذي تعلم الرمي حصلت له أهلية الدفاع عن دين الله ، والعناء فيه ، والنكاية في العدو. فقد تعيّن لأن يقوم بوظيفة الجهاد ، فإذا ترك ذلك حتى يعجز عنه فقد فرط في القيام بما تعين عليه ، فذم على ذلك . وهذا مثل ما تقدَّم في كتاب الصلاة ؛ فيمن تعلم القرآن فنسيه .
وقوله : (( وليس منا )) ؛ أي : ليس على طريقتنا ، ولا سنتنا ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب. و(( ليس منا من دعا بدعوى الجاهلية )). و(( من غشنا فليس منا )) ، وهو ذم بلا شك .
وأما قوله : (( فقد عصى )) ، فنص في الوجوب .
وقوله : (( لم أعانه )) ؛ أي : لم أكابده ، ولم أقاسيه ، ولم أقم به.
ومن باب قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين
قوله : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين )) ؛
الطائفة : الجماعة ، وهم العصابة في الحديث الآخر ، وهم الذين قال الله تعالى في حقهم : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون }.(12/61)
والطائفة في الأصل هي : القطعة من الشيء . يقال : طائفة من كذا ؛ أي : قطعة منه . وهي من الناس : الجماعة . قال مجاهد : هم من الواحد إلى الألف . وكذلك قال النخعي . وقال عطاء : أقله رجلان فصاعدًا . وقال الرهري : ثلاثة فصاعدًا . والطائفة هي الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة ، وكأنها الجماعة الحافة حول الشيء ، أقلها ثلاثة أو أربعة .
و (( ظاهرين )) : منصورين غالبين ، كما قال في الحديث الآخر : ((يقاتلون على أمر الله ، قاهرين لعدوهم ، لا يضرهم من خذلهم )) ؛ أي : من لم ينصرهم من الخلق .
و (( أمر الله )) : الساعة كما قد جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى .
وقد اختلف في : من هذه الطائفة ، وأين هم ؟ فقال علي بن المديني : هم العرب ، واستدل برواية من روى : (( وهم أهل الغرب )) ، وفسَّر (( الغرب )) بالدلو العظيمة . وقيل : أراد بالغرب : أهل القوة ، والشدَّة ، والحدِّ . وغرب كل شيء حدَّه . وقيل : أراد به : غرب الأرض . وهو ظاهر حديث سعد بن أبي وقاص(3) ، وسعد بن مالك. وقد روى الدارقطني في "فوائده" حديث سعد بن أبي وقاص ، وقال فيه : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق في المغرب حتى تقوم السَّاعة )) ، ورواه عبد بن حميد الهروي ، وقال فيه : (( لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم السَّاعة ، أو يأتي أمر الله )). ورواه بقي بن مخلد في "مسنده" كذلك : (( لا يزال أهل المغرب )) كذلك.
(12/62)
قلت : وهذه الروايات تدل على بطلان التأويلات المتقدَّمة ، وعلى أن المراد به أهل المغرب في الأرض ، لكن أول المغرب بالنسبة إلى المدينة - مدينة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ - ؛ إنما هو الشام ، وآخره : حيث تنقطع الأرض من المغرب الأقصى وما بينهما ، كل ذلك يقال عليه : مغرب . فهل أراد المغرب كله ، أو أوله ؟ كل ذلك محتمل ، لا جرم قال معاذ في الحديث الآخر : (( هم أهل الشام )). ورواه الطبري وقال : (( هم ببيت المقدس )). وقال أبو بكر الطرطوشي في رسالة بعث بها إلى أقصى المغرب ، بعد أن أورد حديثًا في هذا المعنى ؛ قال- والله تعالى أعلم- : هل أرادكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أراد بذلك جملة أهل المغرب ؛ لما هم عليه من التمسُّك بالسُّنة والجماعة ، وطهارتهم من البدع والإحداث في الدِّين ، والاقتفاء لآثار من مضى من السَّلف الصالح ؟ والله تعالى أعلم .
قلت : وفي هذا الحديث دلالة على صحَّة الإجماع ؛ لأن الأمة إذا أجمعت فقد دخلت فيهم هذه العصابة المحقَّة ، فكل الأمة مُحق فاجماعهم حق . ويفيد هذا المعنى أيضًا قوله تعالى : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون }. ولا تعارض بين هذا الحديث وبين قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تقوم السَّاعة إلا على شرار الخلق )) ، وبين قوله : (( لا تقوم السَّاعة وفي الأرض من يقول : الله ، الله )) ؛ لما يأتي في حديث عقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيّن ذلك فيه بيانًا شافيًا ، فتأمله ، فلا مزيد عليه .
ومن باب آداب السَّفر
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض )) ؛ أي : ارفقوا بها في الرَّعي حتى تأخذ منه ما يمسك قواها ، ويرد شهوتها ، ولا تعجّلوها فتمنعوها المرعى مع وجوده ، فيجتمع عليها ضعف القوى مع ألم كسر شهوتها.
(12/63)
وقوله : (( وإذا سافرتم في السَّنة فأسرعوا عليها السير )) ؛ السَّنة : الجدب ، ضد الخصب . وإنما أمر بالإسراع بها في الجدب لتقرب مدة سفرها ، فتبقى قوتها الأولى ، فإنها إن رفق بها طال سفرها ، فهزلت وضعفت ؛ إذ لا تجد مرعى تتقوَّى به . وإلى هذا أشار ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( بادروا بها نقيها )) ؛ والنقي : مخ العظام ، وهو بكسر النون .
و (( التعريس )) : النزول من آخر الليل . وهذه الأوامر من باب الإرشاد إلى المصالح والندب إليها .
وقوله : (( السَّفر قطعة من العذاب )) ؛ أي : لما فيه من المشقات ، والأنكاد ، ومكابدة الأضداد ، والامتناع من الراحات ، واللذات .
و (( النهمة ))- بفتح النون- : بلوغ الغرض ، والوصول إلى المقصود.
وقوله : (( فليعجل إلى أهله )) ؛ أي : يسرع بالرجوع إلى أهله ليزول عذابه ، ويطيب له طعامه وشرابه ، وتزول مشقته .
وقوله : (( فلا يأتينَّ أهله طُرُوقًا ))- بضم الطاء - ؛ يعني : ليلاً ، وهو مصدر : طرق ، طروقًا ، كخرج خروجًا . والطارق : الآتي ليلاً . ومنه سُمي النجم : طارقًا . ومنه : { والسماء والطارق }.
و (( تستحد )) : تفتعل ؛ أي : تستعمل الحديدة في حلق الشعر .
و (( المغيبة )) : التي غاب عنها زوجها . وهو من : غابت ، تغيب ، فهي : مغيبة . و(( الشعثة )) ؛ التي علاها الشعث . وهو : الغبار ، والوسخ في الشعر ؛ يعني بذلك : أن المرأة في حال غيبة زوجها متبذلة ، لا تمتشط ، ولا تدَّهن ، ولاتتنظف ، فلو بغتها زوجها من سفره ، وهي على تلك الحال ، استقذرها ، ونفرت نفسه منها ، وربما يكون ذلك سبب فراقها ، فإذا قدم نهارًا سمعت بخبر قدومه ؛ فأصلحت من شأنها ، وتهيأت له ، فحسنت الحال ، وأمنت النفرة المذكورة .
وفيه من الفقه : أن المرأة ينبغي لها أن تتحسَّن ، وتتزيَّن ، وتتطيَّب وتتصنَّع للزوج بما أمكنها ، وتجتهد في ألا يرى منها زوجها ما تنفر نفسه منها بسببه ؛ من الشعث والوسخ ، وغير ذلك .
(12/64)
وأما نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث جابر عن الطروق : فلمعنًى آخر ، وهو : أن يظن بهن خبانة في أنفسهن ، أو فيما في أيديهن مما أمَّنهن عليه . وهو ظنّ لا يحل ، وتخمين منهي عنه . فصار النهي عن طروق الرجل أهله معفللاً بعلتين ، بالأولى ، وبالثانية . والله تعالى أعلم .
(12/65)
كِتَاب الإِمَارَةِ وَالبَيْعَةِ
بَاب اشْتِرَطِ نَسَبِ قُرَيْشٍ فِي الْخِلافَةِ
1 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ ، مُسْلِمُهُمْ لِمُسْلِمِهِمْ ، وَكَافِرُهُمْ لِكَافِرِهِمْ )).
وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ : (( النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الإمارة
قوله : (( الناس تبعٌ لقريشٍ في هذا الشأن )) ؛ يعني به : شأنَ الولايةِ ، والإمارةِ ؛ وذلك أنَّ قريشًا كانت في الجاهلية رؤساءَ العرب وقادتَها ؛ لأنَّهم أهلُ البيت والحرم ، حتَّى كانت العرب تسمِّيهم : أهلُ اللهِ ، وإليهم كانوا يرجعونَ في أمورِهم ، ويعتمدون عليهم فيما ينوبُهم ؛ ولذلكَ توقَّف كثيرٌ من الأعرابِ عن الدُّخولِ في الإسلامِ قبل أن تدخل فيه قريشٌ ، فلمّا أسلموا ودخلوا فيه ، أطبقت العرب على الدُّخول في الدِّين ؛ بحكم أنَّهم كانوا لهم تابعينَ ، ولإسلامهم منتظرين . كذا ذكره ابنُ إسحاق وغيره . فهذا معنى تَبَعِيَّةِ النَّاسِ لهم في الجاهلية .
ثم لَمَّا جاء الإسلام استقر أمر الخلافة والملك في قريش شرعًا ووجودًا ؛ ولذلك قالت قريشٌ يومَ السَّقِيفَةِ للأنصار : نحن الأمراء ، وأنتم الوزراء . وقال عمر في كلامه : (( إنَّ هذا الأمر لا تعرفه الناس إلا لهذا الحيِّ من قريش )) ، فانقادوا لذلك ، ولم يخالف فيه أحدٌ . وهو إجماع السَّلف والخلف ، ولا اعتبار بقول النَّظَّام ، ولا ضرار بن عمرو ، وأهل البدع من الخوارج ، وغيرهم ؛ إذ قالوا بجوازها لغير قريش ؛ لأنَّهم إمَّا مُكَفَّرٌ ، وإما مُفَسَّقٌ ، ثم إنهم مسبوقون بإجماع السَّلف ، ومُحْجُوجون بهذه الأحاديث الكثيرة الشهيرة . ويكفي (( بالخير )) في الرِّواية الأخرى : (( ولاية قريش في ا لإسلام )).
(12/66)
2 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْ النَّاسِ اثْنَانِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان )) ؛ هذا خبرٌ عن المشروعية ؛ أي : لا تنعقدُ الولايةُ الكبرى إلاَّ لهم مهما وجد منهم أحدٌ ، وفي حديث آخر : (( الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ )). وقد استدلَ بهذا اللَّفظ وما في معناه من قوله : (( قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلا تَتَقَدَّمُوها )) كُبراء أصحاب الشافعي رحمه الله على ترجيح مذهب الشافعي على غيره ؛ من حيث أنه قرشيٌّ ، ولا حُجَّة فيه ؛ لأنَّه لا يصحُّ الاحتجاج به إلاَّ حتى تُحْمَل الإمامةُ فيه على العموم في كل شيء يُحتاج إلى الاقتداء فيه : من الإِماَمةِ الكُبْرى ، وإمامة الفَتْوى ، والقضاء ، والصَّلاة ، وغير ذلك من الولايات . ولا يصح ذلك ؛ للاجماع على خِلافِه ؛ إذ قد أجمعت الأمة على أن جميع الولايات تصحُّ لغير قريش ، ما خلا الإمامة الكبرى ، فهي المقصودة بالحديث قَطْعًا . وقد قدَّم النبيّ غير قريش على قريش ، فإنه قدَّم زيد بن حارثة ، وولده أسامة ، ومعاذ بن جبل ، وقدَّم سالِمًا مولى أبي حُذيفة على الصلاة بقباء ، فكان يَؤُمُّهُم وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش ، ثم إن الشافعي رحمه الله أول من ترك عموم تلك الأخبار. فإنَّه قد اقتدى بمالك ، واسْتَفْتَاهُ ، ومالك ليس بقرشيٍّ ، وإنما هو أَصْبَحيٌّ صَرِيْحًا . وأيضًا : فإنَّه لم يُرو عنه أنه منع من تقليد من ليس بقرشي . فدلَّ هذا كُلُّه على أن الْمُسْتَدلَّ بذلك الحديث على تقديم مذهب الشافعي صَحِبَتْهُ غَفْلَةٌ قارنها من تَصْمِيم التَّقْليد طَيْشَةٌ ، وربما رووا ألفاظًا رفعوها ؛ كقوله : ((تَعَلَّمُوا من قريش ولا تُعَلِّمُوها )). وذلك لا يصحُّ نَقْلاً ، ولا معنىً ؛ بما تقدَّم ، والله أعلم .
(12/67)
3 - وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : كَتَبْتُ إِلَى جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَعَ غُلامِي نَافِعٍ : أَنْ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قَالَ : فَكَتَبَ إِلَيَّ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمَ جُمُعَةٍ عَشِيَّةَ رُجِمَ الأَسْلَمِيُّ يَقُولُ : (( لا يَزَالُ الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، أَوْ يَكُونَ عَلَيْكُمْ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ )).
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : (( عُصَيْبَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَفْتَتِحُونَ الْبَيْتَ الأَبْيَضَ بَيْتَ كِسْرَى ، أَوْ آلِ كِسْرَى .
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : (( إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ كَذَّابِينَ ، فَاحْذَرُوهُمْ )).
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : (( أَنَا الْفَرَطُ عَلَى الْحَوْضِ )) ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : (( إِذَا أَعْطَى اللَّهُ أَحَدَكُمْ خَيْرًا فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ )).
وفي رواية : (( لا يَزَالُ الإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( لا يزال الدِّين قائمًا حتى تقوم الساعة ، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة )) ؛ يعي بالدِّين : دين الإسلام ، وهو الظاهر . ويعني بقوله : (( قائمًا )) ؛ أي : عزيزًا ممتنعًا ، كما جاء مفسرًا في الرواية الأخرى .
وقوله : (( أو يكون عليكم )) ، قَيَّدْناه على من يُوثَقُ بِتَقَيِّيدِه بالنَّصب ، وتكون (( أو )) بمعنى : (( إلى أن )) ؛ كقوله :
فَقُلْتُ لَهُ : لا تَبْكِ عَيْنَكَ إِنَّما نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
(12/68)
وقد دلَّ على هذا ، الرِّواية الأخرى ، وهي قولُهُ : (( لا يزال هذا الأمر عزيزًا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش )) ؛ يعني به : أنه لا تزال عزَّةُ دين الإسلام قائمة إلى اثني عشر خليفة من قريش ، وقد اختُلف فيهم على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم خلفاء العَدْلِ ؛ كالخلفاء الأربعة ، وعمر بن عبدالعزيز. ولا بُدَّ من ظهور من يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتُهم في إظهار الحق والعدل ، حتى يَكْمُل ذلك العدد ، وهو أولى الأقوال عندي .
وثانيها : أنَّ هذا إخبارٌ عن الولايات الواقعة بَعْدَهُ وبَعْدَ أصحابه ، وكأنه أشار بذلك إلى مدة ولاية بني أُمَيَّه ، ويعني بالدِّين : الملك والولاية ، وهو شرح الحال في استقامة السَّلْطَنَةِ لهم ، لا على طريق المدح .
وقد يقال : الدِّينُ على الْمُلْكِ ؛ كما قال :
لَئِنْ حَلَلْتَ بِجوٍّ في بني أسدٍ فِي دِينِ عمرٍو وحَالتْ بيننا فَدَكُ
وقيل ذلك في قوله تعالى : { ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك}. ثم عدّد هذا القائل ملوكهم فقال : أَوَّلُهم يزيدُ بنُ معاوية ، ثم ابنه معاويةُ بن يزيد - وقال : ولم يذكر ابن الزبير لأنه صحابي ، ولا مروان لأنه غاصب لابن الزبير - ، ثم عبد الملك ، ثم الوليد ، ثم سليمان ، ثم عمر بن عبد العزيز ، ثم يزيد بن عبد الملك ، ثم هشام بن عبد الملك ، ثم الوليد بن يزيد ، ثم يزيد بن الوليد ، ثم إبراهيم بن الوليد ، ثم مروان بن محمد . فهؤلاء اثنا عشر . ثم خرجت الخلافة منهم إلى بني العباس .
وثالثها : أن هذا خبر عن اثني عشر خليفة من قريش ، مجتمعين في زمان واحد في أفاق مختلفة ؛ كما قد وقع . فقد كان بالأندلس منهم في عصر واحد بعد أربعمائة وثلاثين سنة ثلاثة كلهم يَدَّعيها ، وتَلَقَّب بها . ومعهم صاحبُ مصر ، وخليفة بغداد ، فكذلك يجوز أن يجتمع الاثنا عشر خليفة في العصر الواحد . وقد دلّ على هذا قوله : ((سيكون خلفاء فتكثر )) ، وكلٌّ محتمل ، والأول أولاها ؛ لبُعْده عن الاعتراض .
(12/69)
وقوله : (( عُصَيْبَةٌ من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض : بيت كسرى )) ؛ العُصَيْبَة : تصغير العِصابة ، وهي : الجماعة من الناس . قيل : أقلهم أربعون . ويحتمل أن يكون هذا التصغير للمفتتحين لقلة من باشر فتح البيت - أعني : بيتَ كسرى - فإنه يروى : أن سعد بن أبي وقاص خاض دجلة - وهي مطلع إلى دار كسرى - فما بلغ الماء إلى حزام الفرس ، وما ذهب للمسلمين شي ، ووجدوا قبابًا مملوءة سلالاً فيها آنية الذهب والفضة ، ووجدوا كافورا كثيرأ فظنوه ملحًا ، فعجنوا به ، فوجدوا مرارته . وكان في بيوت أموال كسرى ثلاثة الآف ألف ألف ألف دينار - ثلاث مرات -.
ويحتمل أن يكون تصغيرهم بالنسبة إلى عدوهم ، ويحتمل أن يكون تصغيرهم على جهة التعظيم ، كما قالوا :
دُوَيْهِيَّة تَصْفَّرُ منها الأنامل
ووصف بيت كسرى بالأبيض لأنه كان مبنيًا بالجص ، ومزخرفًا بالفضة ، والله أعلم .
وقوله : (( إن بين يدي السَّاعة كذابين )) ؛ هذا يفسّره الحديث الآخر الذي قال فيه : (( لا تقوم السَّاعة حتى يخرج ثلاثون كذّابون ، كلهم يزعم أنه نبي ، وأما خاتم النبيين )).
وقوله : (( إذا أعطى الله أحدكم خيرًا فليبدأ بنفسه وأهل بيته )) ؛ خيرًا : يعني به : مالاً ، وهذا كما قال في الحديث الآخر : (( ابدأ بمن تعول )) ، وكقوله في وحديث آخر : (( إذا أنعم الله على عبد نعمة أحبَّ أن يرى أثر نعمته عليه )).
ومعنى هذا الأمر : الابتداء بالأهم فالأهم ، والأولى فالأولى . وقد بينّا هذا المعنى في كتاب الزكاة .
وقوله : (( أنا الفرط على الحوض ))- بفتح الراء - ؛ وهو : المتقدّم إلى الماء ليهيئه ويصلحه . وهو الفارط أيضًا . والفَرْطُ - بسكون الراء- : الشَّبْق والتقدّم .
ومن باب جواز ترك الاستخلاف
(12/70)
قوله : (( ونوساتها تنطف )) ؛ النّوسات : ما تحرك من شعر أو غيره متدليًا . والنَّوْسُ : تحرُّك الشيء متذبذبًا . يقال منه : ناس ينوس نوسًا ، ونوْسانًا . ومنه : ذو نواس ، سُمِّي بذلك لذؤابته ، كانت تنوس على ظهره .
ونطف الشَّعْرُ وغيره ، ينطِف وينطُف : إذا قطر . وليلةٌ نَطُوف : دائمةُ القطر . وكأنَّه دخل عليها وقد اغتسلت .
وقول ابن عمر : (( كأنما أحمل بيميني جبلاً )) ؛ يعني : أنه وجد ثقلاً بسبب خوفه من الحنث في يمينه ؛ لأنها كانت على إثباتٍ ، فهو في الحال على حنث ؛ لأنه مخالف لما حلف عليه . وأراد ابن عمر ، أنه وجد من الثقل بسبب اليمين التي حلفها كثقل مَنْ يحمل جبلاً ، هو تشبية واستعارة.
وقوله : (( زعموا أنك غير مستخلف )) ؛ هذا إنما قاله الناس حين طعن عمر ، وسقوه لبنًا فخرج من طعنته ، فيئسوا منه ، وعلموا أنه هالك ، فجرى ذلك .
وقوله : (( لو كان راعي غنم ... )) إلى آخر الكلام ؛ فيه من الفقه استعمال القياس ، فإنه قَرَّرَ على الأصل المعلوم ، وهي رعاية الغنم والإبل ، ثم حمل عليه رعاية الناس ، ورأى أنها أولى ، فكأنَّ ذلك إلحاق مسكوتٍ عنه بمنطوقٍ به على طريق الأَوْلى ، وهو نوع من أنواع الإلحاق ، كما يعرف في موضعه .
وقوله : (( فوافقه قولي )) ؛ يعني : أنه مال إليه ، ونظر فيه ، ولذلك وضع عمر رأسه يفكر في المسألة ، ثم لَمَّا لاح له نَظَرٌ آخر أخذ يُبْدِيه ، فرفع رأسه وقال : (( إن الله يحفظ دينه )). وإنما قال ذلك للذي قد علمه من قوله تعالى : { ليظهره على الدين كله } ، ومن قوله تعالى : {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض } ، وبغير ذلك مما بشر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من استيلاء المسلمين ، ومايفتح الله تعالى عليهم من المشارق والمغارب ؛ ومن قوله : (( إنَّ الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن ملك أُمَّتِي سيبلغ ما زوى لي منها )) ، وغير ذلك .
(12/71)
وقوله : (( فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يستخلف )) ؛ أي : لم ينصّ على خليفة ، لا على أبي بكر ، ولا على غيره ، وهذا هو مذهب جماعة من أهل السُّنة ، والصحابة ، ومن بعدهم . وقد ذهب بكر ابن أخت عبد الواحد : إلى أن تقديم أبي بكر كان بالنص من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وذهب ابن الراوندي : إلى أنه نصّ على العباس . وذهب الشيعة والرافضة : إلى أنه نصّ على عليّ . وكل ذلك أقوال باطلة قطعًا ؛ إذ لو كان ذلك لكان المهاجرون والأنصار أعرف بذلك ، فإنهم اختلفوا في ذلك يوم السَّقيفة ، وقال كل واحد منهم ما عنده في ذلك من النظر ، ولم ينقل منهم أحدٌ نصًّا على رجل بعينه ، ولو كان عندهم نصٌّ لاستحال السكوت عليه في مثل ذلك الوقت العظيم ، والخطب المهم الجسيم ، والحاجة الفادحة ، مع عدم التقية والتواطُؤ من ذلك الجمع على الكتمان . ومدعي النص في ذلك كاذب قطعًا ، فلا يُلْتَفَتُ إليه. وكل من ذكر له خلاف في هذه المسألة لا يُعْتَدُّ بخلافه ، فإنه إما مُكَفِّر وإما مُفَسِّق مُبَدَّع ، ومن كان كذلك لا يعتد بخلافه . والمسألة إجماعية قطعية ، والله الموفق .
وقوله : (( وإن أستخلفْ فإن أبا بكر قد استخلف )) ؛ يعني : أن أبا بكر استخلفه ، ونصّ عليه ، وعيَّنه ، وهذا لا خلاف في أن الأمر كذلك وقع ، ولا في أنَّ هذا طريق مشروع في الاستخلاف . ثم إن عمر ـ رضى الله عنه ـ سلك طريقة بين طريقتين ، جمعت له الاقتداء بهما ، فاقتدى برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أنه لم ينصّ على واحدٍ بعينه ، فصدق عليه أنه غير مستخلف . واقتدى بأبي بكر من حيث أنه لم يترك أمر المسلمين مهملاً ، فإنه جعل الأمر شورى في ستة ممن يصلح للخلافة ، وفوّض التعيين لاختيارهم .
(12/72)
وقوله : (( راغب وراهب )) ؛ هذا خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : أنتم على هذين الحالين ، أو مبتدأ وخبره محذوف ؛ أي : منكم راغب ، ومنكم راهب. ثم ما الذي رغبوا فيه ، ورهبوا منه ؟ فظاهره : أنه الثناء المتقدّم الذي أثنوا عليه ؛ أي : منهم من رغب في الثناء لغرض له . ومنهم من رغب عنه لما يخاف منه . وقيل : راغب في الخلافة لنيل منصبها ، وراهب منها لعظم حقوقها وشدّتها. وقيل : تقديره : أنا راغب في الاستخلاف ؛ لئلا يضيع المسلمون ، وراهب منه ؛ لئلا يفرّط المستخلَف ويقصر فيما يجب عليه من الحقوق . وكلٌّ محتمل ، والله أعلم .
وقد حصل من هذا الحديث : أنَّ نَصْبَ الإمام لابدَّ منه ، وأن لنصبه طريقين : أحدهما : اجتهاد أهل الحل والعقد ، والآخر : النصُّ ؛ إما على واحدٍ بعينه ، وإما على جماعة بأعيانها ، ويفوّض التخيير إليهم في تعيين واحد منهم . وهذا مما أجمع عليه السَّلف الصالح ، ولا مبالاة بخلاف أهل البدع في بعض هذه المسائل ، فإنهم مسبوقون بإجماع السلف ، وأيضًا : فإنهم لا يُعتدُّ بخلافهم على ما تقدَّم .
ومن باب النهي عن سؤال الإمارة
قوله : (( لا تسل الإمارة )) : هو نهيٌ ، وظاهره التحريم ، وعلى هذا يدلّ قوله بعد هذا : (( إنَّا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا يسأله أو حرص عليه )) ؛ وسببه : أن سؤالها والحرص عليها ، مع العلم بكثرة آفاتها ، وصعوبة التخلص منها ؛ دليلٌ على أنه يطلبها لنفسه ، ولأغراضه . ومَنْ كان هكذا أوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك . وهذا معنى قوله : (( وكل إليها )). ومن أباها لعلمه بآفاتها ، ولخوفه من التقصير في حقوقها ، وفرَّ منها ، ثم إن ابتلي بها ؛ فَيُرْجَى له ألا تغلب عليه نفسه ، للخوف الغالب عليه ، فيتخلّص من آفاتها ، وهذا معنى قوله : (( أعين عليها )) .
(12/73)
وهذا كلّه محمول على ما إذا كان هنالك جماعة ممن يقوم بها ، ويصلح لها . فأما لو لم يكن هنالك ممن يصلح لها إلا واحد لتعيَّن ذلك عليه ، ووجب أن يتولاها ، ويسأل على ذلك ، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك ؛ كما قال يوسف عليه السلام : { قال أجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم }.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما تقول يا أبا موسى ! )) استفهامُ استعلامٍ عمَّا عنده من إرادته العمل ، أو من معونته لهما على استدعائهما العمل ، فأجابه بما يقتضي : أنه لم يكن العه عنده إرادة ذلك ، ولا خبر من إرادة الرجلين . فلمَّا تحقق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك : ولاَّه العمل ؛ إذ لم يسأله ، ولا حرص عليه . ومنعه الرَّجلين لحرصهما ، وسؤالهما ؛ على ما تقرر آنفًا : من أن الحريص عليها مخذول ، والكاره لها معان . ومما جرى من الكلام بهذا المعنى مجرى المثل قولهم : الحرص على الأمانة دليل الخيانة .
و (( قَلَصَتْ شَفَتُه )) : تقبَّضتْ وقَصُرتْ ، وكأنَّ السَّواك كان فيه قَبْضٌ ، أو يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبض شفته ليتمَكَّن من تسويك أسنانه .
وقوله : (( فبعثه على اليمن ، ثم أتبعه معاذ بن جبل )) ؛ ظاهر هذا : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَلَّى معاذًا على أبي موسى ، ولم يعزل أبا موسى . وعلى هذا يدل تنفيذ معاذ الْحُكم بقتل المرتد وإمضاؤه . ويحتمل أن يكون ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَلَّى كلّ واحد منهما على عمل غير عمل الآخر ، فإما في الجهات ، وإما في الأعمال ، وهذا هو الصحيح ؛ بدليل ما وقع في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولَّى معاذًا على مخلاف من اليمن ، وأبا موسى على مخلاف . والمخلاف : واحد المخاليف ، وهو : الكُوَرُ .
(12/74)
وقوله : (( لا أجلس حتى يُقتل . قضاء الله ورسوله )) ؛ يدل بظاهره : على أن المرتدّ لا يستتاب ، وأنه يقتل من غير استتابة . وبه قال الحسن ، وطاووس ، وبعض السَّلف ، وحُكي عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، وهو قول أهل الظاهر ، وحكاه الطحاوي عن أبي يوسف . قالوا : وتنفعه توبته عند الله تعالى ، ولكن لا تدرأ عنه القتل ، وفرَّق عطاء بين من ولد مسلمًا فلم نستتنه ، وبين من أسلم ثم ارتد . وجمهور الأئمة والفقهاء على استتابته . وحكى ابن القَصَّار إجماع الصحابة على استتابته ، ثم اختلف هؤلاء في مدة الاستتابة ، وهل يضرب لها أجل ؛ فقال أحمد وإسحاق : ثلاثةُ أيام . واستحسنه مالك وأبو حنيفة . وقاله الشافعي مرةً . وحكى ابن القصَّار عن مالك فيه قولين : الوجوب ، والاستحباب. وقال الزهري : يُدعى إلى الإسلام ثلاث مرات ، فإن أبى قُتِلَ . وقاله الشافعي مرةً . وقال المزني : يُقتل مكانه إن لم يتب . وعن عليّ ـ رضى الله عنه ـ : أنه يستتاب شهرًا. وقال النَّخعي : يستتاب أبدًا ، وقاله الثوري . وعن أبي حنيفة : يستتاب ثلاث مرات ، أو ثلاث جُمع ، أو ثلاثة أيام ؛ مرة في كل يوم أو جمعة . والرَّجل والمرأة عند الجمهور سواء . وفرَّق أبو حنيفة فقال : تُسجن المرأة ولا تقتل . وشذَّ قتادة والحسن فقالا : تُسْتَرَقُّ ولا تقتل . ورُوي مثله عن علي . وخالف أصحاب الرأي في الأَمَةِ ، فقالوا : تُدْفَعُ إلى سيدها ، ويجبرها على الإسلام .
وَقَتْل المرتد بالسيف عند الجمهور . وذهب ابن سُريج من أصحاب الشافعي : إلى أنه يُقتل بالخشب ضربًا ؛ لأنه أبطأُ لقتله ، لعله يُراجع التوبة أثناء التوبة أثناء ذلك .
وفيه حُجّة على أن لولاة الأمصار إقامة الحدود في القتل ، والزنى ، وغير ذلك ، وهو مذهب كافة العلماء : مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وغيرهم.
(12/75)
واختُلِفَ في إقامة ولاة المياه وأشباههم كذلك. فرأى أشهب : ذلك لهم ، إذا جعل ذلك لهم الإمام . وقال ابن القاسم نحوه . وقال الكوفيون : لا يقيمه إلا فقهاء الأمصار ، ولا يقيمه عامل السَّواد .
واختُلِفَ في القضاة إذا كانت ولايتهم مطلقة غير مقيّدة بنوع من الأحكام ، فالجمهرر على أن جميع ذلك لهم ؛ من إقامة الحدرد ، وإثبات الحقوق ، وتغيير المناكر ، والنظر في المصالح ، قام بذلك قائم ، أو اختص بحق الله تعالى . وحكمُه عندهم حكم الوصيِّ المطلق اليد في كل شيء ، إلا ما يختصّ بضبط(6) بيضة الإسلام من إعداد الجيوش وجباية الخراج .
واختلف أصحاب الشافعي : هل له نظر في مال الصدقات ، والتقديم للجُمَع والأعياد ، أم لا ؟ على قولين . وذهب أبوحنيفة : إلى أنه لا نظر له في إقامة حدٍّ ، ولا في مصلحةٍ إلا لطالب مُخَاصِمٍ . وحكمه عنده حكم الوكيل .
وقوله : (( ثم تذاكرا قيام الليل )) ؛ أي : فضل قيام الليل . هل الأفضل قيامُه كله ، أو قيام بعضه ؟ فكأنّ أبا موسى ذهب إلى أن قيامه كله لمن قَوِيَ عليه أفضل ، وهذا كما وقع لعبدالله بن عمرو في حديثه المتقدّم . وكأنّ معاذًا رأى أن قيام بعضه ونوم بعضه أفضل . وهذا كما أشار إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث عبدالله بقوله : (( إنك إذا فعلت ذلك هجمتْ عينُك ، ونفهت نفسك )) ، وكما قاله في حديث البخاري المتقدم : (( أمَّا أنا فأقوم وأنام )) ، وقال في آخره : (( فمن رغب عن سنتي فليس مني )).
وقوله : (( وأرجو في نومي ما أرجوه في قَوْمَتِي )) ، إنما كان ذلك ؛ لأنه كان ينام ليقوم ؛ أي : يقصد بنومه الاستعانة على قيامه ، والتنشيط عليه ، والتفرُّغ من شغل النوم عن فهم القرآن : فكان نومه عبادة يرجو فيها من الثواب ما يرجوه في القيام . ولا يفطن لمثل هذا إلا مثل معاذ الذي يسبق العلماء يوم القيامة برتوة ؛ أي : برمية قوس ؛ كما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(12/76)
وعلى هذا : فما من مُباحٍ إلا ويمكن أن يقصد فيه وجة من وجوه الخير ، فيصير قُرْبَةٌ بحسب القصد الصحيح ، والله أعلم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي ذر : (( إنك ضعيف )) ؛ أي : ضعيف عن القيام بما يتعّين على الأمير ؛ من مراعاة مصالح رعيته الدنيوية والدينية . ووجْهُ ضعف أبي ذر عن ذلك : أنّ الغالب عليه كان الزهد ، واحتقار الدنيا ، وترك الاحتفال بها . ومَنْ كان هذا حاله لم يعتن بمصالح الدنيا ، ولا بأموالها الذَيْن بمراعاتهما تنتظم مصالح الدين ، ويتم أمره . وقد كان أبو ذر أفرط في الزهد في الدنيا ، حتى انتهى به الحال إلى أن يُفْتِيَ بتحريم الجمع للمال وإن أُخْرِجَتْ زكاته ، وكان يرى : أنه الكنز الذي توَعَّد اللَّهُ عليه بِكَيِّ الوجوه والجنوب والظهور . وقد قدّمنا ذلك في كتاب الزكاة . فلما علم النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه هذه الحالة : نَصَحَهُ ، ونهاه عن الإمارة ، وعن ولاية مال الأيتام ، وأكَّد النصيحة بقوله : (( وإنّي أحبُّ لك ما أحبُّ لنفسي )) ، وغلَّظَ الوعيد بقوله : (( وإنّها - أي : الإمارة - خزيٌّ وندامة )) ؛ أى : فضيحة قبيحة على مَنْ لم يؤدِّ في الأمانة حقّها ، ولم يقم لرعيته برعايتها . وندامة على تقلّدها ، وعلى تفريطه فيها . وأمّا من عدل فيها ، وقام بالواجب منها { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا } ، وهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وقد شهد بصحة ما قلناه قوله في الحديث نفسه : (( إلا من أخذها بحقها ، وأدَّى الذي عليه فيها )).
ومن باب فضل الإمام المقسط وإثم القاسط
و (( المقسطون )) : جمع مُقْسط ، اسم فاعل من أقسط ؛ أي : عدل. ومنه قوله تعالى : { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين }.
(12/77)
و (( قَسَطَ )) : إذا جَارَ ، واسم الفاعل منه : قاسط . ومنه : { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا }. وقد فسَّر المقسطين في اخر الحديث ؛ فقال : (( الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا )).
و ((المنبر )) : سُمِّي بذلك لارتفاعه ؛ يقال : نَبَرَ الجرح وانتبر ؛ أي : ارتفع وانتفخ . ويعنى به : مجلسًا رفيعًا يتلألأُ نورًا . ويُحتمل أن يُعبَّر به عن المنزلة الرفيعة المحمودة ؛ ولذلك قال : (( عن يمين الرحمن )). وقال ابن عرفة : يقال(11) : أتاه عن يمين : إذا أتاه من الجهة المحمودة(12).
وقال المفسرون في قوله تعالى : { وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} ؛ أي : أصحاب المنزلة الرفيعة . وقيل غير هذا في الآية .
وقد شهد العقل والنقل : أن الله تعالى منزه عن مماثلة الأجسام ، وعن الجوارح المركَّبة من الأعصاب والعظام ، وما جاء في الشريعة مِمّا يوهم شيئًا من ذلك فهو توسُّعٌ ، واستعارة حسب عادات مخاطباتهم الجاربة على ذلك.
وقد توسَّعت العرب في اليمين ، فأطلقوه ولا يريدون به يمين الجارحة ، بل الجهة المحمودة ، والظفر بالخصلة الشريفة المقصودة ؛ كما قال شاعرهم :
إذا ما رايةٌ رُفِعتْ لِمَجْدٍ تلَّفاها عُرابةُ باليمين
والْمَجْدُ : الشرف . ورايتُه : عبارةٌ عَمَّا يظهرُ مَن خِصَالَه ، وهما معنويان ؛ فاليمين التي تتلَقَّى به تلك الراية : معنويّ(5) لا محسوس ، فأشَبَهُ ما يُحْمَلُ عليه اليمين في هذا الحديث ما قاله ابن عرفة : إنه عبارة عن المنزلة الرفيعة والدرجة المنيعة . وقد قدّمنا : أن اشتقاق اليمين من اليُمْن ، وأن كل ذلك راجع إلى اليُمْن والبركة(6).
(12/78)
وقوله : (( وكلتا يديه يمين )) تحرّز عن توهم نقصٍ وضعفٍ فيما أضافه إلى الحق سبحانه مِمّا قصد به الإكرام والتشريف على ما مَرَّ ، وذلك : أنه لما كانت اليمين في حقِّنا تُقابلها الشمال - وهي أنقص منها رتبةً وأضعف حركةً ، وأثقل لفظًا - : حَسَمَ تَوهُّم مثل هذه في حق الله تعالى ، فقال : (( وكلتا يديه يمين )) ؛ أي : كُلَّ ما نُسِبَ إليه من ذلك شريف ، محمود ، لا نقص يُتوهم فيه ، ولا قصور .
وقول عائشة لعبدالرحمن بن شُمَاسَة : (( كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه ؟ )) اختُلِفَ في اسم هذا الصاحب ، من هو ؟ فقيل : كان عمروبن العاصي . قاله خليفةُ بن خَيَّاط . وقيل : معاويةُ بن حُدَيْج التَّجيبي ، فيما قاله الهمداني .
واختُلِفَ في كيفية قتل محمد بن أبي بكر . فقيل : قُتل في المعركة . وقيل : جيء به أسيرًا ، فقُتل . وقيل : دخل بعد الهزيمة خِرْبة فوجد فيها حمارًا ميتًا فدخل في جوفه ، فاحرق فيه .
وقوله : (( إن من شرِّ الرّعاء الْحُطَمَة )) : الرّعاء : جَمْع راع ، كقاضٍ وقضاةٍ ، ورامٍ ورُماةٍ ؛ وهو : الْمُراعي للشيء ، والقائم بحفظه .
(12/79)
و (( الحطمة )) هنا ؛ يعني به : الذي يشق على رعيته ، ويُلْقي بعضًا على بعض ، ومنه سُميت جهمّم الحطمة . وأصله من الْحَطْمِ ؛ وهو : كسر الحطام . وقيل : هو الأكول ؛ يقال : رجل حطمة ، إذا كان كثير الأكل . وهذا الكلام من عامر بن عمرو ، وعظ ، ونصيحة ، وذكرى ، لو صادفت مَنْ تنفعه الذكرى ، لكنها صادفت غليظ الطبع ، والفهم ، ومن إذا قيل له : اتق الله : أخذته العزة بالإثم . فلقد غلب عليه الجفاء والجهالة ؛ حتى جعل فيمن اختاره الله لصحبة نبيه الحثالة ، ونسبهم إلى النُّخالة ، والرُّذالة . فهو معهم على الكلمة التي طارت وحلْت : رمتني بدائها وانسلّتْ . ولقد أحسن عائِذْ في الردّ عليه ، حيث أسمعه من الحق ما ملأ قلبه ، وأصمَّ أُذنيه . فقال - ولم يبال بهجرهم- : وهل كانت النخالة إلا بعدهم وفي غيرهم . وحثالة الشيء ورُذَالتُهُ وسقطُهُ : شِرارُهُ .
وقوله : (( إنما الإمام جُنَّة )) : الْمَجَنُّ ، والْجُنَّةُ ، والْجَانُّ ، والْجَنَّةُ ، والْجِنَّةُ : كله راجع إلى معنى السِّتر ، والتَّوَقِّي ؛ يعني : أنه يُتَّقى بنظره ورأيه في الأمور العظام ، والوقائع الخطيرة ، ولا يُتَقدّم على رأيه ، ولا يُنفرد دونه بأمر مهم حتى يكون هو الذي يشرع في ذلك .
وقوله : (( يُقاتل من ورائه )) ؛ أي : أمامه . ووراء : من الأضداد ، يقال : بمعنى : خلف ، وبمعنى : أمام . وعلى هذا حمل أكثر المفسرين قوله تعالى : { وكان وراءهم ملك } ؛ أى : أمامهم . وأنشدوا قول الشاعر :
ترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقؤمي تميمم والفَلاة ورائيا ؟!
(12/80)
وأصله : أن كل ما توارى عنك ؛ أي غاب ، فهو وراء . وهذا خبر منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المشروعية ، فكأنه قال : الذي يجب ، أو يتعيَّن : أن يقاتل أمام الإمام ، ولا يترك يباشر القتال بنفسه ؛ لما فيه من تعرّضه للهلاك ؛ فيهلك كل من معه . ويكفي دليلاً في هذا المعنى تعبئة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه يوم بدر وغيره. فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في العريش ، في القلب ، والمقاتِلة أمامه.
وقد تضمن هذا اللفظ - على إيجازه - أمرين :
أحدهما : أن الإمام يُقتدى برأيه ، ويُقاتل بين يديه . فهما خبران عن أمرين متغايرين . وهذا أحسن ما قيل في هذا الحديث ، على أن ظاهره : أنه يكون أمام الناس في القتال وغيره . وليس الأمر كذلك ، بل كما بينَّاه ، والله أعلم .
وقوله : (( فإن أمر بتقوى الله وعدل كان له بذلك أجر )) ؛ أى : أجر عظيم . فَسَكَتَ عن الصفة : للعلم بها . وقد دلّ على ذلك ماتقدَّم من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن المقسطين على منابر من نور )) ، وقوله في السبعة الذين يظلهم الله في ظله : (( وإمام عادل )). ، وقوله : (( وإن يأمر بغيره كان عليه منه ؛ أي : إنْ أمر بجور كان عليه الحظ الأكبر من إثم الجور . و(( من )) هنا للتبعيض ؛ أي : لا يختص هو بالإثم ، بل الْمُنَفِّذ لذلك الْجَوْر يكون عليه أيضًا حظه من الإثم ، والراضي به ، فالكل يشتركون في إثم الْجَوْر ، غير أن الإمام أعظمهم حظًّا منه ؛ لأنه مُمْضِيه ، وَحَامِلٌ عليه .
(12/81)
وقوله : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) ؛ قد تقدَّم : أن الراعي : هو الحافظ للشيء المراعي لمصالحه . وكل من ذكر في هذا الحديث قد كُلِّف ضبطَ ما أُسند إليه من رعيته ، واؤتُمِنَ عليه ، فيَجِبُ عليه أن يجتهد في ذلك ، وينصح ، ولا يفرط في شيء من ذلك . فإن وفَّى ما عليه من الرعاية حصل له الحظ الأوفر ، والأجر أكبر. وإن كان غير ذلك طالبه كلُّ واحدٍ من رعثمه بحقِّه ، فكثر مُطالبوه ، وناقشه محاسبوه ؛ ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَا مِنْ أمير عشرة فما فوقهم ، إلا ويُؤتى به يوم القيامة مغلولاً ، فإما أن يفكّه العدلُ ، أو يُوبقُه الجوْر )). وقد تقدّم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من استرعي رعيه فلم يجتهد لهم ، ولم يتصح لم يدخل معهم الجنّة )).
ومن باب تغليظ أمر الغلول
وهو في الأصل : الخيانة مطلقًا ، ثم صار حكم العرف عبارة عن الخيانة في المغانم . قال نَفْطَوِيه : ُسِّمي بذلك ؛ لأن الأيدي تغل عنه ؛ أى : تُحبس. يقال : غل غلولاً ، وأغل إغلالاً .
وقوله : (( لا أُلْفِيَنَّ أحدَكم يوم القيامة يجيء على رقبته بعير )) ؛ كذا صحيح الرواية : بمد (( لا ألفين )) بالفاء . بمعنى : لا أجدنَّ ، ومعناه : لا يأخذنَّ أحدٌ شيئًا من المغانم فأجده يوم القيامة على تلك الحال . وهذا مثل قول العرب : لا أرينَّك ها هنا ؛ أي : لا تكن ها هنا فاراك . وقد رواه العذري بالقاف ، من اللقاء. وله وجةٌ . وجاء في الحديث الآخر : (( لا أعرفنَّ )) والمعنى متقارب . وبعض الرواة يقوله : ((لأعرفنَّ )) بغير مدٍّ ، على أن تكون لام القسم . وفيه بُعدٌ . والأول أوجه وأحسن .
و (( الرُّغَاء )) للأبل ، و(( الثُّغاء )) للغنم ، و(( النُّهاق )) للحمير ، و((النُّعاق )) للغراب ، و(( اليُعار )) للمعز خاصة ؛ ومنه : شاة تيعر ، و(( الْحَمْحَمَةُ )) للفرس ، و(( الصِّياح )) للإنسان ؛ كل ذلك أصواتُ مَنْ أُضيفتْ إليه .
(12/82)
وقوله : (( ورتاع تخفق )) ؛ أي : تحركها الرياح فتضطرب ، وتصفق فيها . و((الصَّامت )) : الذهب والفضة . وكأنّ هذا الحديث تفصيلُ ما أجمله قولُه تعالى : { ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة } ؛ أي : يأتي به مُعذَّبًا بحمله وثقله ، ومرعوبًا بصوته ، ومُوَبَّخًا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد ؛ وهذا يدلُّ : على أن الغلول كبيرة من الكبائر .
وأجمع العلماء على أن على الغالّ أن يردّ الغلول إلى المقاسم قبل أن يتفرَّق الناس ، فأما إذا تفرَّقوا وفات الردُّ ؛ فذهب معظمهم : إلى أنه يدفع خمس ما أغلَّ للإمام ، ويتصدق بالباقي ؛ وهو قول الحسن ، ومالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والليث . وروى معناه عن معاوية ، وابن مسعود وابن عباس ، وأحمد بن حنبل . وقال الشافعي : ليس له الصدقة بمال غيره.
ثم اختلفوا فيما يُفعل بالغالّ ؛ فالجمهور على أنه يعزّر بقدر اجتهاد الإمام ، ولا يحرّق رَحْلُهُ . ولم يثبت عندهم ما روي عن ابن عمر ، من أنه يُحرّق رحلُهُ ، ويُحْرم سهمه ؛ لأنه مما انفرد به صالح بن محمد ، عن سالم ، وهو ضعيف ؛ ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُحرِّق رَحْلَ الذي وجد عنده الخرزة والعباءة. وقال قوم بمقتضى ذلك الحديث : يُحَرَّقُ رحلُه ومتاعُه كله ، وهو قول مكحول ، والحسن ، والأوزاعي ؛ وقال : إلا سلاحه وثيابه التي عليه . وقال الحسن : إلا الحيوان والمصحف . قال الطحاوى : ولو صحّ حديث ابن عمر لَحُمل على أنه كان ذلك لَمَّا كانت العقوبة في الأموال ، وذلك كله منسوخ .
(12/83)
وقوله : (( لا أملك لك شيئًا ، قد أبلغتك )) ؛ أي : لا أملك لك مغفرةً ، ولا شفاعةً إلاَّ إذا أذن الله له في الشفاعة . فكأنَّ هذا القول منه أبرزه غضب وغيظ ؛ ألا ترى قوله : (( قد أبلغتك )) ؛ أي : ليس لك عذر بعد الإبلاغ. ثم إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما قد جبله الله تعالى عليه من الرأفة والرَّحمة والخلق الكريم ؛ لا يزال يدعو الله تعالى ، ويرغب إليه في الشفاعة ، حتى يأذن الله له فيها ، فيشفع في جميع أهل الكبائر من أمته حتى تقول خزنة النار : (( يا محمد! ما تركت لربك في أمتك من نقمة )). كما قد صحّ عنه . وفي هذا الحديث ما يدلّ على أن العقوبات في الآخرة تناسب الذنوب المكتسبة في الدنيا ، وقد تكون على المقابلة ، كما يحشر المتكبرون أمثال الذر في صور الرجال .
ومن باب ما جاء في هدايا الأمراء
(( اللُّتبيَّة )) بضم اللام ، وفتح التاء هي الرواية المعروفة هنا . قال القاضي أبو الفضل عياض : وصوابُه : (( الأُتْبيَّة )) بسكون التاء ، باثنتين من فوقها. قال : و(( لُتْب )) بضم اللام وسكون التاء : بطنٌ من العرب . قلت : وقد جاء في الرواية الأخرى : (( الأُتْبِيَّة )) ، وكلاهما صحيح الرواية ، جائز .
وهذا الحديث يدلّ دلالة صحيحة واضحة على أن هدايا الأمراء والقضاة وكل من ولي أمرًا من أمور المسلمين العامَّة لا تجوز ، وأن حكمها حكم الغلول في التغليظ والتحريم ؛ لأنها كل المال بالباطل ، وَرُشًا . وهو قول مالك وغيره بتفصيل يعرف في الفقه .
وقوله : ((أفلا قعد في بيت أبيه وأمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟)) ؛ يعني : أن الذي يستخرج الهدايا من الناس للأمير ، إنما هو رهبة منه فيداريه ، أو رغبة فيما فى يديه ، أو(@) في يدي غيره ، ويستعين به عليه ، فهي رشوة.
(12/84)
و (( العُفْرة )) : بياض يضرب إلى الصفرة.قاله الأصمعي : ويفهم من تكرار : (( اللهم ! هل بلغت )) ومن هذه الحالة : تعظيم ذلك ، وتغليظه. وليس لأحدٍ أن يتمسك في استباحة هدايا الأمراء ؛ بأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقبل الهدية ، ولا بما يروى : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أباح لمعاذٍ الهدية حين وجَّههُ إلى اليمن .
وأما الجواب عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبوجهين :
أحدهما : أنه كان لا يقبل الهدية إلا ممن يعلم أنه طيب النفس بها ، ومع ذلك فكان يكافئ عليها بأصنافها غالبًا .
والثاني : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم عن الجور والميل الذى يُخاف منه على غيره بسبب الهدية .
وأما عن حديث معاذ : فلأنه لم يجئ في الصحيح ، ولو صحَّ لكان ذلك مخصوصًا بمعاذ ؛ لما عَلِمَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حاله ، وتحقُّقه من فضله ونزاهته ، ما لا يشاركه فيه غيره ، ولم يُبح ذلك لغيره ؛ بدليل هذه الأحاديث الصّحاح ، والله أعلم .
وقوله : (( من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره )) ؛ يدلّ على أنه لا يجوز له أن يقتطع منه شيئًا لنفسه ، لا أجرة ولا غيرها ، ولا لغيره إلا أن يأذن له الإمام الذي تلزمه طاعته .
و (( الْمِخْيَطُ )) : الإبرة .
ومن باب قوله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }
وقول ابن عباس : (( بعثه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سرية )) ؛ كلام غير تام. وتتميمه : أن عبدالله بن حُذَافَةَ أمرهم بأمر فخالف بعضهم ، وأَنِفَ على عادة العرب : فأنهم كانوا يأنفون من الطّاعة . قال الشافعي : كانت العرب تأنف من الطّاعة للأمراء ، فلمَّا أطاعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرهم بطاعة الأمراء. وقال أبو العالية : نزلت الآيةُ بسبب عمَّار بن ياسر ، خرج في سرية ؛ أميرهم خالد بن الوليد ، فأجاز عَمَّار رجلاً ، فأبى خالد أن يُجِيزَ أمانَهُ ، فأخبر بذلك النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأجاز أمان عَمَّار ، ونهى أن يُجار على الأمير .(12/85)
قلت : وقول ابن عباس أشهر ، وأصح ، وأنسب . وعلى هذا : فأولو الأمرِ في الآية : هم الأمراء . وهو أظهر من قول من قال : هم العلماء ؛ قاله الحسن ومالك ، وله وجة . وهو : أن الأمراء شرطهم أن يكونوا آمرين بما يقتضيه العلم ، وكذلك كان أمراءُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وحينئذ تجب طاعتهم . فلو أمروا بما لا يقتضيه العلم حَرُمَتْ طاعتهم . فإذًا : الحكم للعلماء والأمرُ لهم بالأصالة ، غير أنهم لهم الفتيا من غير جبر ، وللأمير الفتيا والجبر . وهذان القولان أشبه ما قيل في هذه الآية .
وقوله : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية . ((تنازعتم )) : اختلفتم ، وأصله : التجاذب ، والتعاطي . ومنه سُمِّي المستقيان : متنازعين ؛ لأنهما ينجاذبان الدّلو بالحبل ، ولا شك أن المواجه بهذا الخطاب : الصحابة .
وعلى هذا : فالمراد بقوله : { فردُّوه إلى الله والرسول } ؛ أي : انتظروا أن يُنزل الله فيه قرآنًا ، أو يبيّن فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُنَّة .
وقيل : المراد : الصحابة وغيرهم . والمعنى : أنَّ المرجع عند التنازع كتاب الله ، وسُنَّة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ قاله قتادة .
وقوله : { ذلك خير } ؛ أي : الردُّ إلى كتاب الله تعالى وسُنّة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير من الردّ إلى التحكّم بالهوى ، و{ خير } للمفاضلة التي على منهاج قولهم : العسل أحلى من الخل . ومنه قوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلاً }. و{ خير } هنا بمعنى : الواجب ؛ أي : ذلك الواجب عليكم ، و{ تأويلاً } ؛ أى : مآلاً ، ومرجعًا ؛ قاله قتادة وغيره.
وقوله : (( من أطاعني فقد أطاع الله )) ؛ هذا مُنْتَزَعٌ من قوله تعالى : {من يطع الرسول فقد أطاع الله } ، وذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمَّا كان مُبَلِّغًا أمر الله ، وحُكْمَهُ ، وأمر الله بطاعته ؛ فمن أطاعه فقد أطاع الله ، ونفّذ حكمه .
(12/86)
وقوله : (( ومن أطاع الأمير ، أو أميري فقد أطاعني )) ؛ وَوَجْهُهُ : أنّ أمير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو مُنَفِّذٌ أَمْرَهُ ، ولا يتصرف إلا بأمره ، فمن أطاعه فقد أطاع أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعلى هذا : فكل من أطاع أمير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد أطاع الرسول ؛ ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله . فينتج : أنَّ مَنْ أطاع أمير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد أطاع الله . وهو حق ، صحيح . وليس هذا الأمر خاصَّا بمن باشره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتولية الإمارة ، بل هو عام في كل أمير
للمسلمين عدل ، ويلزم منه نقيض ذلك في المخالفة والمعصية .
وقوله : (( وعليك السَّمع والطَّاعة )) ؛ بالنصب على الإغراء ، ويلزم منه الوجوب . ولا خلاف في وجوب طاعة أمراء المسلمين على الجملة . وسيأتي تفصيله .
و (( المنشط والمكره )) : مصدران ؛ ويعني بذلك ؛ ويعني بذلك : أنَّ طاعة الأمير واجبة على كل حال ، سواء كان المأمور به موافقًا لنشاط الإنسان . وهواه ، أو مخالفًا له.
وقوله : (( وأَثَرَةٍ عليك )) ؛ رويناه بفتح الهمزة ، وفتح الثاء المثلثة . ورويناه
أيضًا : بضم الهمزة ، وإسكان الثاء . وكلاهما بمعنىً . والمعنى : أنّ الطاعة للأمراء واجبة وإنْ استأثروا بالأموال دون الناس ، بل وعلى أشد من ذلك ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لحذيفة : (( فاسمع وأطع ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك )).
(12/87)
قوله : (( وإن كان عبدًا حبشيًّا مجدَّع الأطراف )) ، الْجَدْعُ : القطُع . وأصله في الأنف . و((الأطراف )) : الأصابع . وهذا مبالغة في وصف هذا العبد بالصّفة والخشّة ؛ وذلك أن العبد إنما تقطع أطرافه من كثرة العمل والمشي حانيًا . وهذا منه كل على جهة الإغياء ، على عادة العرب في تمكينهم المعاني وتكيدها . كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من بنى مسجدًا لله ولو مثل مِفْحَصِ قطاةِ بنى الله له بيتًا في الجنَّة )) ، ومفحص القطاة لا يصلح لمسجد ، وإنما هو تمثيل للتصغير على جهة الإغياء ، فكأنَّه قال : أصغر ما يكون من المساجد. وعلى هذا التأويل لا يكون فيه حجة لمن استدل به على جواز تأمير العبد فيما دون الإمامة الكبرى . وهم بعض أهل الظاهر فيما أحسب ، فإنه قد اتُّفِقَ على أن الإمام الأعظم ، لا بُدَّ أن يكون حرًّا ؛ على ما يأتي . ونص أصحاب مالك على أن القاضي لا بُدَّ أن يكون حرًّا .
قلت : وأمير الجيش والحرب في معناه ، فإنها مناصب دينية يتعلّق بها تنفيذ أحكام شرعية ، فلا يصلح لها العبد ؛ لأنه ناقص بالرِّقِّ مَحْجُورٌ عليه ، لا يستقلُّ بنفسه ، ومسلوبُ أهليةِ الشهادة والتنفيذ ، فلا يصلح للقضاء ، ولا للإمارة . وأظن ّ : أنَّ جمهور علماء المسلمين على ذلك . وقد ورد ذكر العبد في هذا الحديث مطلقًا ، وقد قيَّده بالحديث الآتي بعد هذا ، الذي قال فيه : (( ولو استعمل عليكم عبد يقودهم بكتاب الله )).
ومن باب إنما تجب طاعة الإمام ما لم يأمر بمعصية
(12/88)
قوله : (( على المرء المسلم السَّمع والطاعة )) ؛ ظاهر في وجوب السمع والطّاعة للأئمة ، والأمراء ، والقضاة . ولا خلاف فيه إذا لم يأمر بمعصية . فإن أمر بمعصية فلا تجوز طاعته في تلك المعصية قولاً واحدًا ، ثم إن كانت تلك المعصية كفرًا : وَجَبَ خَلْعُه على المسلمين كلهم . وكذلك : لو ترك إقامة قاعدة من قواعد الدين ؛ كإقام الصلاة ، وصوم رمضان ، وإقامة الحدود ، ومَنَع من ذلك . وكذلك لو أباح شرب الخمر ، والزنى ، ولم يمنع منهما ، لا يختلف في وجوب خَلْعِهِ . فأمَّا لو ابتدع بدعة ، ودعا النَّاس إليها ؛ فالجمهور : على أنه يُخْلَع .
وذهب البصريون إلى أنه لا يُخْلَع ، تمسُّكًا بظاهر قوله عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان )). وهذا يدلّ على استدامة ولاية المتأوّل وإن كان مبتدعًا . فأمَّا لو أمر بمعصية مثل أخذ مال بغير حق أو قتل أو ضرب بغير حق ؛ فلا يطاع في ذلك ، ولا ينقذ أمره ، ولو أفضى ذلك إلى ضرب ظهر المأمور وأخذ ماله ؛ إذ ليس دم أحدهما ، ولا ماله ، بأولى من دم الآخر ، ولا ماله . وكلاهما يحرم شرعًا ؛ إذ هما مسلمان ، ولا يجوز الإقدام على واحد منهما ، لا للآمر ، ولا للمأمور ؛ لقوله : (( لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق )) ؛ كما ذكره الطبري ، ولقوله هنا : (( فإن أمر بمعصية فلا سمع ، ولا طاعة )). فأمَّا قوله في حديث حذيفة : (( اسمع وأطع ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك )) ؛ فهذا أمر للمفعول به ذلك للاستسلام ، والانقياد ، وترك الخروج عليه مخافة أن يتفاقم الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك .
ويحتمل أن يكون ذلك خطابًا لمن يُفعل به ذلك بتأوبل يسوّغ للأمير بوجهٍ يظهر له ، ولا يظهر ذلك للمفعول به . وعلى هذا يرتفع التعارض بين الأحاديث ، ويصحّ الجمع ، والله أعلم .
(12/89)
وقول عليٍّ : (( واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار )) ؛ ظاهر في أنه ليس عبدالله بن حُذَافة ، فإنه مهاجريٌّ ، وذلك أنصاريٌّ ، فافترقا . وقضية عبدالله ابن حُذَافة هي التي ذكر منها ابن عباس رضي الله عنهما طرفًا ؛ كما تقدَّم . فلا معنى لقول من قال : إن هذا الذى حكى عنه عليُّ بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ هو عبد الله بن حُذَافة . وكذلك لا معنى لقول من قال : إنَّ ذلك الأمير إنما أمرهم بدخول النار ليختبر طاعتهم له. وقد قال في هذه الرواية : إنهم أغضبوه . وقال : وسكن غَضَبُهُ له عليهم. فأراد عقوبتهم بذلك . وهذه نصوص في أنه إنما حمله على ذلك غضبه عليهم .
وقوله : (( لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة )) ؛ ظاهر في : أنه تَحْرُمُ الطاعةُ في المعصية المأمور بها ، وأنَّ المطيع فيها يستحق العقاب .
وقوله : (( للآخرين قولاً حسنًا )) ؛ يدلّ على مدح المصيب في المجتهدات . كما أنّ القول الأول يدلّ على ذمِّ المقصر المخطيء وتعصيته ، مع أنه ما كان تقدّم لهم في مثل تلك النازلة نصٌّ ، لكنهم قصروا حيث لم ينظروا في قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها المعلومة الجليّة .
وقوله : (( إنّما الطاعة في المعروف )) ؛ إنّما هذه للتحقيق والحصر ؛ فكأنَّهُ قال : لا تكون الطّاعة إلا في المعروف . ويعنى بالمعروف هنا : ما ليس بمنكرٍ ، ولا معصية ، فتدخل فيه الطاعات الواجبة ، والمندوب إليها ، والأمور الجائزة شرعًا . فلو أمر بجائزِ لصارت طاعته فيه واجبة ، ولما حَلَّتْ مخالفتُه . فلو أمر بما زجر الشرع عنه زَجْرَ تنزيهٍ لا تحريمٍ ؛ فهذا مُشْكِلٌ . والأظهر : جواز المخالفة تمسَّكًا بقوله : (( إنما الطاعة في المعروف )) ، وهذا ليس بمعروف إلا بأن يخاف على نفسه منه ، فله أن يمتثل ، والله أعلم .
(12/90)
تنبيه : هذا الحديث يَرُدُّ حكايةً حُكيت عن بعض مشايخ الصوفية ، وذلك أن مريدًا له قال له يومًا : قد حمي التنورُ فما أصنع ؟ فتغافل عنه ، فأعاد عليه القول ، فقال له : ادخل فيه . فدخل المريد في التنور ، ثم إن الشيخ تذكّر فقال : الحقوه ، فإنه كان عقد على نفسه ألا يخالفني ، فلحقوه ، فوجدوه في التنور لم تضره النار . وهذه الحكاية أظنها من الكذب الذى كُذِبَ به على هذه الطائفة الفاضلة ، فكم قد كَذَبَ عليها الزنادقةُ ، وأعداءُ الدين . وبيان ما يحقق ذلك : أنَّ هذا الشيخ إمّا أن يكون قاصدًا لأمر ذلك المريد بدخول التنور أم لا. فإن كان قاصدًا كان قَصْدُهُ ذلك معصيةً ، ولا طاعة فيها بنصِّ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويكون امتثال المريد لذلك معصيةً . وكيف تظهر الكراماتُ على العصاة في حال معصيتهم ؟! فإنَّ الكرامةَ تدلُّ على حُسْن حال من ظهرتْ على يديه ، وأنه مطيع لله تعالى في تلك الحالة ، مع جواز أمرآخر يكون في المستقبل . وإن كان ذلك الشيخ غير قاصدٍ لذلك ، ولا شاعرٍ بما صدر عنه ، فكيف يحلُّ للمريد أن يُلْقي نفسه في النار بأمر غلطٍ ، لا حقيقةَ له ؟! ثم هذا المريد عاصٍ بذلك الفعل ، ولا يظهر على العاصي كرامةٌ في حال ملابسته للمعصية ، ولو جاز ذلك لجاز للزَّناة وَشَرَبَةِ الخمر والفَسَقَة أن يدَّعوا الكرامات وهم ملابسون لفسقهم . هذا ما لا يجوز إجماعًا . وإنما تُنْسب الكراماتُ لأولياء الله تعالى ؛ وهم أهل طاعته ، لا إلي أولياء الشيطان ؛ وهم أهل الفسق والعصيان .
والأولى في هذه الحكاية وأشباهها مما لا يليق بأحوال العلماء والفضلاء الطعن على الناقل لا على المنقول عنه ، والله تعالى أعلم .
(12/91)
فإن قيل : إن الشيخ لم يكن قاصدًا إدخال المريد نفسه النار ، وإنما صَدَر ذلك منه على جهة التأديب والتغليظ ؛ لكونه أكثر عليه من السؤال ، وكأنَّه قَطَعَهُ عمَّا كان أولى به في ذلك الحال ، والمريد لصحة اعتقاده في شيخه ، وللوفاء بما جعل له عليه من الطاعة ، وترك المخالفة ، ولاعتقاده : أنه لا يأمره إلا بما فيه مصلحة دينية ، ثم إنه قد صحَّ توكّل هذا المريد على الله تعالى ، وصِدْقِه في حاله ، فيحصل له من مجموع ذلك : أن الله تعالى ينجيه من النار ، ويجعل له في ذلك فرجًا مخرجًا.
فالجواب : أن نقول مَنْ يُجوّز الإقدام على تلك الحالة ، بتلك القيود المذكورة : يلزمُه أن يُجوز ما هو محرّم إجماعًا . بيانُ ذلك : أنه لو قال له على تلك الحال ، بتلك القيود : اقتل فلانًا المسلم ، أو : ازن بفلانة ، أو : اشرب الخمر ؛ لم يجز الإقدام على شيء من ذلك بإجماع ، ولو كانت له تلك القيود كلها . ولا فرق بين صورة الحكاية المذكورة وبين هذه الصور التي ذكرناها ؛ إذ الكل مُحرَّمٌ قطعًا ، وإن جُوِّزَ انخراق العادة في أن النار لا تحرق ، والسيف لا يحز الرقبة ، والمدية لا تقطع الحلق ، لكن هذه التجويزات لا يُلتفت إليها ، ولا تُهَدُّ القواعدُ الشرعية لأجلها. فلو أقدم على شيء من تلك الأمور لأجل أمر الشيخ ؛
لكان عاصيًا ، فكذلك إذا ألقى نفسه في النار ، ولا فرق .
ثم نقول : إنَّ التوكل على الله لا يصحّ مع المخالفة والمعصية . وذلك أن التوكل على الله تعالى هو : الاعتماد عليه والتفويض إليه فيما يجوز الإقدام عليه ، أو فيما يخافُ وقوعه ، أو يُرجى حصوله ، وقد يُفْضِي التوكّل بصاحبه إلى ألا يخاف شيئًا إلا الله ، ولا يرجو سواه ؛ إذ لا فاعل على الحقيقة إلا هو . وهذه الحالة إنما تثمرها المعرفة بالله تعالى وبأحكامه ، وملازمة الطاعة والتقوى والتوفيق الخاص الإلهي .
(12/92)
وعلى هذا فمن المحال حصول هذه الحالة مع المعصية والمخالفة . والصحيح ما قاله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لو دخلوها ما خرجوا منها )) ؛ وهذا هو الحق المبين ، ولو كره أكثر الجاهلين . ومن نوع هذه الحكاية : حكاية أبي حمزة الذي وقع في البئر ، ثم جاء قوم فغطّوا البئر وهو في قعره ساكت لم يتكلم ؛ متوكلاً على الله تعالى ، إلى أن غطّوا البئر عليه ، وانصرفوا . وللكلام في هذا موضع آخر .
ومن باب البيعة
وهي مأخوذة من البيع ؛ وذلك أن المبايع للإمام يلتزم أن يقيَهُ بنفسه وماله ، فكأنّه قد بذل نفسه وماله لله تعالى ، وقد وعده الله عزّ وجلّ على ذلك بالجنة ، فكأنّه قد حصلت له المعاوضة ، فصدق على ذلك اسم البيع والمبايعة والشراء ؛ كما قال تعالى : { إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } إلى أن قال : { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } ؛ وعلى نحوٍ من هذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصهيب : ((ربح البيع أبا يحيى )) ، وكانت قريشُ تبعثه ليردّوه عن هجرته ، فبذل لهم ماله في تخليص نفسه ؛ ابتغاء ثواب الله تعالى ؛ فسمَّاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيعًا . وهذا أحسن ما قيل في المبايعة . ثم هي واجبة على كل مسلم لقوله : ((من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية )) ، غير أنّه مَنْ كان مِن أهل الحل والعقد والشهرة ، فبيعته بالقول والمباشرة باليد ؛ إن كان حاضرًا ، أو بالقول والإشهاد عليه إن كان غائبًا ، ويكفي مَنْ لا يُؤْبَهُ لَهُ ، ولا يُعْرَف : أن يعتقد دخوله تحت طاعة الإمام ، ويسمع ويطيع له في السرّ والجهر ، ولا يعتقد خلافًا لذلك ، فإن أضمره فمات مات ميتة جاهلية ؛ لأنه لم يجعل في عنقه بيعة .
(12/93)
وقوله : (( بايعنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على السمع والطاعة )) ؛ هذه البيعة تسمَّى بيعة الأمراء . وسُمّيت بذلك ؛ لأن المقصود بها تأكيد السمع والطاعة على الأمراء . وقد كان عُبَادَةُ بايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيعة النساء ، وسُمّيت بذلك ؛ لأنه لم يكن فيها ذِكْرُ حربٍ ، ولا قتال . وقد بايع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بيعة الرِّضوان ؛ وسُمّيت بذلك لقول الله تعالى : {لقد رضي عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} ، وسيأتي ذِكْرُهَا.
وقوله : (( وعلى أَثَرةٍ علينا )) ، قد تقدّم القول في تقييد ((أثرة )) ، وفي معناه ، وكأنَّ هذا القول خاصٌّ بالأنصار. وقد ظهر أثر ذلك يوم حنين ، حيث آثر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قريشًا بالفئ ولم يُعْط الأنصار شيئًا ، فجرى من الحديث ما تقدّم في كتاب الزكاة . وهناك قال لهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اصبروا حتى تلقوني على الحوض )). فقالوا : سنصبر إن شاء الله . وفيه أيضًا تنبية لهم على أن الخلافة في غيرهم . وقد صرّح بذلك في قوله : (( وعلى ألا ننازع الأمر أهله )). وكذلك فعلوا لَمّا علموا أهلية أبي بكر للخلافة ، أذعنوا وسلّموا ، وسمعوا ، وأطاعوا .
وقوله : (( إلا أن تروا كفرًا بواحًا )) ؛ كذا روايةُ هذه اللفظة بالواو عند كافة الرّواة ، وهي من : باح الرجل بالشيء ، يبوح به بوحًا وبواحًا : إذا أظهره . وقال ثابت : رواه النساني : (( بُؤَاحًا ، أو بَؤُوحًا )). وهي بمعناه ، إلا ما زادت من معنى المبالغة . وقد رراها أبو جعفر : بَرَاحًا - بالراء - من قولهم : بَرِحَ الْخَفَاءُ ؛ أي : ظَهَرَ .
وقوله : (( عندكم من الله فيه برهان )) ؛ أي : حُجة بيّنة ، وأمرٌ لاشك فيه ، يحصل به اليقين أنه كفر ، فحينئذ يجب أن يخلع من عُقِدَتْ له البيعة على ما قدّمناه .
(12/94)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمبايعين : (( فيما استطعتم )) ؛ رفعٌ لِمَا يخاف من التحرّج ؛ بسبب مخالفة تقعُ غلطًا ، أو سهوًا ، أو غلبة . فإنَّ ذلك غير مُؤاخذٍ به . ولا يُفهم من هذا تسويغُ المخالفة فيما يشقّ ويثقل ؛ مما يأمر به الإمام فإنه قد نصّ ني الأحاديث المتقدّمة على خلافه ، حيث قال : (( على المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ؛ في المنشط والمكره ، والعسر واليسر )). وقال : (( فاسمع وأطع ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك )) ، ولا مشقة أكثر من هذه .
ومن باب الوفاء ببيعة الأول وضرب عنق الآخر
(12/95)
قوله : (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء عليهم من الله الصلاة السلام ، كلما هلك نبيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ )). إسرائيل هو : يعقوب ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وبنوه : أولاده . وهم الأسباط ، وهم كالقبائل في أولاد إسماعيل . قال ابن عباس : (( إسرا )) هو عبد ، و(( إيل )) هو الله تعالى. فمعناه : عبدالله. وفيه لغات . وقيل : هو عِبْرِيٌّ ، اسم واحد بمعنى : يعقوب . ويعني بهذا الكلام : أنّ بني إسرائيل كانوا إذا ظهر فيهم فساد ، أو تحريفٌ في أحكام التوراة - بعد موسى - بعث الله تعالى لهم نبيًّا يقيم لهم أمرهم ، ويصلح لهم حالهم ، ويزيل ما غُبّرَ وبُدِّلَ من التوراة وأحكامها . فلم يزل أفرهم كذلك إلى أن قتلوا يحيى وزكريا عليهما السلام ، فقطع الله تعالى ملكهم ، وَبَدَّدَ شملهم ببختنصَّر وغيره . ثم جاءهم عيسى ، ثم محمد صلى الله عليهما وسلم ، فكذبوهما { فباءوا بغضبٍ على غضبٍ وللكافرين عذابٌ مهين } ؛ وهو في الدنيا ضَرْبُ الجزية ، ولزوم الصَّغار والذلة { ولعذاب الآخرة أشق } ، ولما كان نبيُّنا آخر الأنبياء بعثًا ، وكتابه لا يقبل التغيير أسلوبًا ونظمًا ، وقد تَوَلَّى الله تعالى كلامه صيانةً وحفظًا ، وجعل علماء أمته قائمين ببيان مشكله ، وحفظ حروفه ، وإقامة أحكامه ، وحدوده ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين )).ويروى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : ((علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل )). ولَمّا كان أمر هذه الأمّة كذلك ؛ اكتفى بعلمائها عمَّا كان من توالي الأنبياء هنالك .
(12/96)
وقوله : (( وإنه لا نبي بعدي )) ؛ هذا الشيء عامٌ في الأنبياء والرُّسل ؛ لأن الرَّسول نبيٌّ وزيادة . وقد جاء نصًّا في كتاب الترمذي قوله : (( لا نبي بعدى ، ولا رسول )) . وقد قال الله تعالى : { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } ، ومن أسمائه في الكتب المتقدمة ، وفيما أطلقته هذه الأمَّة : خاتم الأنبياء . ومن أسمائه : العاقب ، والمقفي. فالعاقب : الذى يَعْقُبُ الأنبياءَ ، والْمُقَفَّي : الذى يقفوهم ؛ أى : يكون بعدهم .
وعلى الجملة : فهو أمرٌ مجمع عليه ، معلوم من دين هذه الأمَّة ،
فمن ادَّعى أنَّ بَعْدَهُ نبيّ أو رسول ؛ فإن كان مُسِرًّا لذلك واطّلع عليه بالشهادة المعتبرة قُتل قِتْلة زنديق . فإن صرَّح بذلك فهو مرتد ، يُستتاب ، فإن تاب وإلا قُتِل قِتْلة مُرتدٍّ .
وقوله : (( وستكون خلفاء فتكثر )) ؛ هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إخبار عن غيب وقع على نحو ما أخبر عنه ، ووُجد كذلك في غير ما وقت ؛ فمن ذلك : مبايعة الناس لابن الزبير بمكة ، ولمروان بالشام ، ولبني العباس بالعراق ، ولبني مروان بالأندلس ، ولبني عبيد بمصر ، ولبني ... باليمن ، ثم لبني عبد المؤمن بالمغرب .
وقوله : (( فُوا ببيعة الأوّل فالأوّل )) ؛ دليل على وجوب الوفاء ببيعة الأول . وسكت في هذا الحديث عمَّا يحكم به على الآخر . وقد نصَّ عليه في الحديث الآتي حيث قال : (( فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر )). وفي رواية : (( فاضربوه بالسيف كائنًا من كان )). وهذا الحكم مجمعٌ عليه عند تقارب الأقطار ، وإمكان استقلال واحد بأمور المسلمين وضبطها . فأمَّا لو تباعدت الأقطار وخيف ضَيْعَةُ البعيد من المسلمين ، ولم يتمكن الواحد من ضبط أمور من بَعُدَ عنه ؛ فقد ذكر بعضُ الأصوليين : أنهم يُقيمون لأنفسهم واليًا يدبرهم ، ويستقلُّ بأمورهم . وقد ذكر : أنَّ ذلك مذهب الشافعي في "الأم" .
(12/97)
قلت : ويمكن أن يقال : إنهم يقيمون من يدبّر أمورهم على جهة النيابة عن الإمام الأعظم ، لا أنّهم يخلعون الإمام المتقدم حكمًا ، ويُوَلُّونَ هذا بنفسه مستقلاً ، هذا ما لا يوجد نصًّا عن أحدٍ ممن يُعتبر قوله . والذى يمكن أن يُفعل في مثل هذا ؛ إذا تعذر الوصول إلى الإمام الأعظم : أن يُقيموا لأنفسهم من يدبّرهم ممن يعترفُ للإمام بالسَّمع والطَّاعة ، فمتى أمكنهم الوصول إلى الإمام فالأمر له في إبقاء ذلك أو عَزْلِه.
ثم للامام أن يفوض لأهل الأقاليم البعيدة التفويض العام ، ويجعل للوالي عليهم الاستقلال بالأُمور كلِّها ؛ لتعذر المراجعة عليهم ، كما قد اتفق لأهل الأندلس وأقصى بلاد العجم . فأمَّا لو عُقِدتْ البيعةُ لإمامين معًا في وقتٍ واحدٍ في بلدين متقاربتن ، فالإمامة لأرجحهما . وهل قرابة أحدهما من الإمام المتوفى موجبة للرجحان أم لا ؟ اختلفوا فيه ؛ فمنهم من قال : يُقَدّم الأقعد فالأقعد به ؛ كولاية النكاح. ومنهم من لم يعتبر ذلك ، وفرَّق بين الولايتين ، والفرق واضحٌ . فأمَّا لو تساويا من كل وجه فَيُقْرعُ بينهما . والفرض في اثنين كل واحد منهما كامل أهلية الإمامة باجتماع الشروط المعتبرة المنصوص عليها في كتب أئمتنا المتكلمين .
وقوله : (( أعطوهم حقهم )) ؛ يبين به : السَّمع ، والطاعة ، والذَّبَّ عنهم عِرضًا ونفسًا ، والاحترام ، والنُّصرة له على مَنْ بغى عليه .
وقوله : (( ومنا من ينتضل )) ؛ أي : يرمي بالسهام تَدرُّبا ومداومةً . والمناضلةُ : المراماة بالسهام .
(12/98)
وقوله : (( ومنَّا من هو في جشره )). قال أبو عبيد : الجشر : قوم يخرجون إلى المرعى بدوابهم . قال الأصمعي : وهم يبيتون فيه ، فربما رأوا أنه سفر تُقْصر فيه الصلاة ؛ وليس كذلك . ولذلك قال في حديث عثمان : (( لا يغرَّنكم جَشَرُكُم من صلاتكم )) ؛ يعني : لا تَقْصُروا صلاتكم فيه . وقول منادي رسول الله : (( الصلاة جامعة )) ؛ خبرٌ بمعنى الأمر ؛ كأنَّه قال : اجتمعوا للصلاة . وكأنَّهُ كان وقت صلاة ، فلمَّا جاؤوا صلّوا معه ، وسكت الراوي عن ذلك ، وإلاَّ فمن الْمُحال أن يناديَ منادي الصَّادق بالصلاةِ ولا صلاةَ .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّه لم يكن نبيٌّ إلاَّ كان حقًّا عليه أن يدلّ أُمَّته على خير ما يَعْلَمُه لهم )) ؛ أي : حقًّا واجبًا ؛ لأن ذلك من طريق النصيحة والاجتهاد في التبليغ والبيان .
وقوله : (( وإن أمتكم هذه جُعِلَ عافيتها في أولها ، وسيصيب آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها )) ؛ يعني بأوّل الأُمَّة : زمانَه وزمانَ الخلفاءِ الثلاثة إلى قتل عثمان . فهذه الأزمنة كانت أزمنة اتفاق هذه الأمَّة ، واستقامة أمرها ، وعافية دينها ، فلما قتل عثمان ماجت الفتن كموج البحر ، وتتابعت كقطع الليل المظلم ، ثم لم تزل ولا تزال متواليةً إلى يوم القيامة . وعلى هذا فأول آخر هذه الأمة - الْمَعْنِيُّ في هذا الحديث - مقتل عثمان ، وهو آخر بالنسبة إلى ما قبله من زمان الاستقامة والعافية. وقد دلّ على هذا قوله : (( وأمور تنكرونها )) ، والخطاب لأصحابه ؛ فدلّ على أن منهم من يدرك أول ما سَمَّاه آخرًا ، وكذلك كان .
(12/99)
وقوله : (( وتجيء الفتنةُ فَيَدْفِقُ بعضها بعضًا )) ؛ الرواية : (( يدفق )) بالتخفيف ، وفتح الياء ، هذه رواية الطبري عن الفارسي ومعنى : فيدفق : يدفع ، والدَّفْقُ : الدَّفْعُ . ومنه : الماء الدَّافِق . ويعني : أنها كموج البحر الذي يدفق بعضه بعضًا . وشُبِّه المؤمنُ في هذه الفتن بالعائِم الغريق بين الأمواج ، فإذا أقبلت عليه موجة قال : هذه مهلكتي . ثم تروح عنه تلك ، فتأتيه أخرى فيقول : هذه ، هذه . إلى أن يغرق بالكلّية. وهذا تشبيه واقع . ورواه أكثر الرُّواة : (( يُرَقِّقُ )) بالراء المفتوحة ، والقاف الأولى المكسورة ؛ أي : يُسَبِّبُ بعضها بعضًا ، ويشيرُ إليه ؛ كما قالوا في المثل : (( عن صَبُوحٍ تًرَقِّقُ )).
و (( يُزَحْزَح عن النار )) : يُنَحَّى عنها ، ويُؤخّر منها .
وقوله : (( وليات إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه )) ؛ أي : يجيء إلى للناس بحقوتهم ؛ من النصح ، والنيّة الحسنة ، بمثل الذي يحبُّ أن يُجَاءَ إليه به . وهذا مِثْلُ قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )). والنَّاسُ هنا : الأئمة والأمراء . فيجب عليه لهم من السمع ، والطاعة ، والنُّصرة ، والنَّصيحة ، مثل ما لو كان هو الأمير ؛ لكان يحب أن يُجاءَ له به .
وقوله : (( ومن بايع إمامًا فأعطاه صَفْقَةَ يده ، وثمرةَ فؤاده )) ؛ يدلّ : على أن البيعة لا يكتفى فيها بمجرّد عقد اللسان فقط ، بل لا بد من الضرب باليد ؛ كما قال تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } ، ولكن ذلك للرجال فقط على ما يأتي . ولا بُدَّ من التزام البيعة بالقلب ، وترك الغش والخديعة ، فإنها من أعظم العبادات ، فلا بُدَّ فيها من النية والنصيحة .
(12/100)
و ((الصفقة )) أصلها : الضرب بالكفِّ على الكفِّ ، أو بأصبعين على الكفّ ، وهو : التصفيق . وقد تقدَّم في كتاب الصلاة . واستحلاف عبدالرحمن زبادةٌ في الاستيثاق ، لا أنه كذَّبَهُ ، ولا اتّهمه . وما ذكره عبدالرحمن عن معاوبة : إغْيَاءٌ في الكلام على حسب ظنه وتأويله ، وإلاَّ فمعاوية ـ رضى الله عنه ـ لم يُعْرفْ مِنْ حاله ، ولا من سيرته شيء مما قاله له ، وإنما هذا كما قالت طائفة من الأعراب : ((إنَّ ناسًا من الْمُصَّدِّقين يظلموننا )) ؛ فسمّوا أخذ الصدقة : ظُلْمًا ؛ حسب ما وقع لهم .
وقول ابن عمرو : (( أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله)) ؛ هذا كما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فان أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )).
ومن باب يصبر على أذاهم وتؤدَّى حقوقهم
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار : (( اصبروا حتى تلقوني على الحوض )) ؛ بشارة لهم بأنهم يَردُون عليه الحوض . ولعلّهم المشار إليهم بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إني لأذود الثاس عن حوضي بعصاي لأهل اليمن )) ، " فإن المدينة يمانية ، وأهلها سبَّاق أهل اليمن إلى الاسلام ، وهم الأنصار . وسكوتُ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن السائل حتى كرّر السؤال ثلاثًا ، يُحتمل أن يكون لأنه كان ينتظر الوحي. أو لأنه كان يستخرج من السائل حرصه على مسألته واحتياجه إليها ، أو لأنه كره تلك المسألة ؛ لأنها لا تصدر في الغالب إلا من قلب فيه تشوّف لمخالفة الأمراء ، والخروج عليهم .
وقوله : (( عليه ما حُمّل ، وعليكم ما حملتم )) ؛ يعني : أن الله تعالى كلَّف الولاة العدل وحسن الرعاية ، وكلّف الْمَوْلَّى عليهم الطاعة وحسن النصيحة . فأراد : أنه إن عص الأمراءُ الله فيكم ، ولم يقوموا بحقوقكم : فلا تعصوا الله أنتم فيهم ، وقوموا بحقوقهم ، فإن الله مُجاز كل واحدٍ من الفريقين بما عمل .
(12/101)
وقول حذيفة : (( كان الناس يسألون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر )) ؛ يعني : أنه كان أكثر مسائل الناس عن الخير ، وكانت أكثر مسائله عن الشر ، وإلاَّ فقد سأل غيره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كثير من الشر . وقد كان حذيفة أيضًا يسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كثير من الخير . والخير والشر المعْنِيان في هذا الحديث إنما هما : استقامة أمر دين هذه الأمة ، والفتن الطارئة عليها ؛ بدليل باقي الحديث وجواب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له بذلك .
وقوله : (( مخافة أن يدركني )) ؛ يدل : على حزم حذيفة ، وأخذه بالحذر . وذلك : أنه كان يتوقع موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيتغير الحال ، وتظهر الفتن ، كما اتفق . وفيه دليل : على فرض المسائل ، والكلام عليها قبل وقوعها إذا خيف مَوْتُ العالم .
وقوله : (( فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم )) ، يعني به : الفتن الطارئة ، بعد انقراض زمان الخليفتين والصدر من زمان عثمان كما تقدّم.
(12/102)
وقوله : (( فهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم ، وفيه دخن )) ؛ بفتح الدال والخاء لا غير ، وهو عبارةٌ عن الكدر. ومنه قولهم : هُدْنَةٌ على دخنٍ . حكى معناه أبو عبيد . وقيل : هي لغة في الدُّخان . ومنه الحديث : وذكر فتنة فقال : (( دَخَنُهَا تحت قدمِي ، رَجُلٍ من أهل بيتي )). وقيل : إنَّ خبر حذيفة هذا إشارةٌ إلى مُدَّة عمر بن عبدالعزيز . قلت : وفيه بُعْدٌ ، بل الأولى : أن الإشارة بذلك إلى مُدّة خلافة معاوية ، فإنها كانت تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر ، وهي مدّة الهدنة التي كان فيها الدَّخن ؛ لأنه لما بايع الحسن معاوية واجتمع الناس عليه : كره ذلك كثير من الناس بقلوبهم ، وبقيت الكراهة فيهم ، ولم تُمكِنُهم المخالفة في مدة معاوية ، ولا إظهارها إلى زمن يزيد بن معاوية ، فأظهرها كثير من الناس . ومدة خلافة معاوية كان الشرّ فيها قليلاً والخير غالبًا ، فعليهم يصدق قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تعرف منهم وتنكر )). وأمَّا خلافة ابنه ، فهي أول الشرِّ الثالث . ويزيد وأكثر ولاته ، ومن بعده من خلفاء بني أميةَ هم الذين يَصْدُق عليهم أنّهم : (( دُعَاةٌ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها )) ، فإنهم لم يسيروا بالسَّواء ، ولا عدلوا في القضاء ؛ يدل على ذلك تَصَفَّحَ أخبارهم ، ومطالعة سِيَرهم ، ولا يُعْتَرضُ على هذا بمدة خلافة عمر بن عبدالعزيز ، بأنها كانت خلافة عدل ؛ لقصرها ، وندورها في بني أمية ، فقد كانت سنتين وخمسة أشهر ، فكأنَّ هذا الحديث لم يتعرض لها ، والله أعلم .
و (( دعاة )) : جَمْعُ داعٍ ، كقضاة وقاض . و(( قذفوه )) : رموه ؛ يعني بذلك : أن مَنْ وافقهم على آرائهم ، واتبعهم على أهوائهم كانوا قائديه إلى النار .
وقوله : (( هم قوم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا )) ؛ يعني أنهم ينتمون إلى نَسَبِهِ ، فإنهم من قريشٍ ، ويتكلمون بكلام العرب . وكذلك كانت أحوال بني أُميَّة .
(12/103)
وقوله : (( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم )) ؛ يعني : أنه متى اجتمع المسلمون على إمام فلا يُخرج عليه وإنْ جَارَ ؛ كما تقدّم ، وكما قال في الرواية الأخرى : (( فاسمع ، وأطع )). وعلى هذا : فتُشهد مع أئمة الْجَوْر الصلوات ، والجماعات ، والجهاد ، والحج ، وتُجْتَنَبُ معاصيهم ، ولا يطاعون فيها .
وقوله : (( فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام )) ؛ هذه إشارة إلى مثل الحالة التي ما اتفقت للناس عند موت معاوية بن يزيد بن معاوية ، فإنه توفي لخمسٍ بقين من ربيع الأول سنة أربع وستين ، ولم يًعْهَدْ لأحدٍ ، وبَقِي الناس بعده بقية ربيع الأول بريد وجمادين وأيامًا من رجب من السَّنة المذكورة ولا إمام لهم ، حتى بايع الناس بمكة لابن الزبير ، وفي الشام لمروان بن الحكم .
وقوله : (( فاعتزل تلك الفرق كلَّها )) ؛ هذا أمرٌ بالاعتزال عند الفتن ، وهو على جهة الوجوب ، لأنه لا يَسْلَمُ الدِّينُ إلاَّ بذلك . وهذا الاعتزال عبارة عن ترك الانتماء إلى من لم تتم إمامته من الفرق المختلفة . فلو بايع أهل الحل والعقد لواحدٍ موصوف بشروط الإمامة لانعقدت له الخلافة ، وحرمت على كل أحدٍ المخالفة ، فلو اختلف أهل الحل والعقد ، فعقدوا لإمامين ، كما اتفق لابن الزبير ومروان ؛ لكان الأول هو الأرجح كما تقدَّم.
وقوله : (( يكون بعدي أمراء قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس )) ؛ هذا خبرٌ عن أمرٍ غيب وقع موافقًا لمخبره ، فكان دليلاً على صحة رسالته وصدقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
و ((الثياطين )) : جمع شيطان ، وهو المارد من الجن ، الكثير الشر . وهل هو مأخوذ من : شَطَنَ ؛ أي : بَعُدَ عن الخير والرحمة ، أو من : شَاطَ يَشِيطُ ، إذا احتدَّ واحترق غيظًا ؟ اختلف فيه النحويون ؛ وعلى الأول : فالنُّونُ أصلية ، فيُنْصَرفُ وَاحِدُهُ ، وعلى الثاني : فهي غير أصلية فلا ينْصَرِف . والجثمان ، والشخص ، والآل ، والطَّلَلُ كلُّها : الجسم ، على ما حكاه اللغويون .
ومن باب إثم من خلع يدا من طاعة
(12/104)
قوله : (( من خرج عن الطاعة ، وفارق الجماعة ، فميتته جاهلية )) ؛ يعني بالطاعة : طاعة ولاة الأمر ، وبالجماعة : جماعة المسلمين على إمام ، أو أمر تُجْمِعُ عليه . وفيه دليل على وجوب نصب الإمام ، وتحريم مخالفة إجماع المسلمين ، وأنَّه واجب الاتباع . ويُسْتَدلُ بظاهره من كَفَّر بخرق الإجماع مطلقًا .
والحق : التفصيل ، فإن كان الإجماع مقطوعًا به فمخالفته ، وإنكاره كفر ، وإن كان مظنونًا فإنكاره ومخالفته معصية ، وفسوق . ويعني بميتة الجاهلية : أنهم كانوا فيها لا يبايعون إمامًا ، ولا يدخلون تحت طاعته . فمن كان من المسلمين لم يدخل تحت طاعة إمام فقد شابههم في ذلك ، فإن مات على تلك الحالة مات على مثل حالتهم ، مرتكبًا كبيرةً من الكبائر ، ويخاف عليه بسببها ألاَّ يموت على الإسلام.
وقوله : (( ومن قاتل تحت راية عمّية )) ؛ رويته بكسر العين ، وتشديد الميم والياء . ويقال : بضم العين . قال بعضهم : العَمِّية : الضلالة . وقال أحمد بن حنبل : هو الأمر الأعمى كالعصبية ، لا يستبين ما وُجْهُهُ . وقال إسحاق : هذا في تهارج القوم ، وقتل بعضهم بعضًا ، كأنَّه من التعمية ، وهو التلبيس .
وقوله : (( يغضب لعصبية ، أو ينصر عصبة )) ؛ هكذا رواية الجمهور بالعين والصاد المهملتين ؛ من التَّعصُّب . وقد رواه العذري بالغين والضاد المعجمتين ، من الغضب . والأوَّل أصحّ وأبْيَن ، ويَعضُدُهُ تأويلُ أحمد بن حنبل المتقدم . ولرواية العذري وَجْهٌ ، وهو : أنّه يريد به الغضب الذي يحمل عليه التعصب .
وقوله : (( ومن خرج على أُمَّتي يضرب بَرَّها وفاجرها )) ؛ البَرُّ : التقي ، والفاجر : الْمُسيء . وفيه دليلٌ على أن ارتكاب المعاصي ، والفجور ، لا يخرج عن الأمّة .
وقوله : (( ولا ينحاش عن مؤمنها )) ؛ أي : يجانب ، ولا يميل . يُقال : انحاش إلى كذا ؛ أي : انضم إليه ومال . وفي الرَّواية الأخرى : ((ولا يتحاشى )) من المحاشاة ؛ بمعنى ما تقدَّم .
(12/105)
وقوله : (( ولا يفي لذى عَهْدٍ بعهده )) ؛ يعني به : عَهْد البيعة والولاية .
وقوله : (( فليس مني ، ولستُ منه )) هذا التَّبَرِّي ظاهره : أنه ليس بِمُسلم . وهذا صحيحٌ إن كان معتقدًا لحِلِّيَّه ذلك ، وإن كان معتقدًا لتحريمه : فهو عاصٍ من العصاة ، مرتكب كبيرة ، فأمره إلى الله تعالى . ويكون معنى التَّبَرِّي على هذا ؛ أي : ليست له ذمّة ولا حرمة ، بل إن ظُفِر به قُتِل ، أو عُوقب ، بحسب حاله وجريمته . ويحتمل أن يكون معناه : ليس على طريقتي ، ولست أرضى طريقته . كما تقدم أمثال هذا . وهذا الذي ذكره في هذا الحديث هي أحوال المقاتلين على الْمُلك ، والأغراض الفاسدة ، والأهواء الركيكة ، وحمية الجاهلية . وقد أبْعَدَ مَنْ قال : إنهم الخوارج ؟ فإنهم إنما حملهم على الخروج الغيرة للدِّين ، لا شيء من العصبية والملك ، لكنهم أخطؤوا التأويل ، وحَرَّفوا التنزيل .
وعبد الله بن مطيع كان أميرًا على المدينة عند قيام ابن الزبير على يزيد بن معاوية في جماعة من أبناء المهاجرين والأنصار ، وبقية من مشيختهم ، وجمع من الصحابة ، وعلى يديه كانت وقعة الحرَّة في الجيش الذي وَجَّه به يزيد بن معاوية لحربهم ، فهزموا أهل المدينة ، وقتلوهم ، واستباحوها ثلاثة أيام ، وقُتِل فيها عدة من بقية الصَّحابة لعدة بقية من الصحابة من أبناء المهاجرين والأنصار ، وعطلت الصلاة ، والأذان في مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلك الأيام . قاله القاضي عياض . وقال غيره من أهل التاريخ : إن الذي وجهه يزيد بن معاوية إلى المدينة ، وكانت على يديه وقعة الحرَّة هو مسلم بن عقبة المرّي . والله أعلم .
وتحديثُ ابن عمر لابن مطيع بالحديث الذي سمعه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنَّما كان ليبين له : أنه لم ينكث بيعةَ يزيد ، ولم يخلعها من عنقه ، مخافة هذا الوعيد ، الذي تضمنه هذا الحديث ، والله أعلم .
(12/106)
وقوله : (( لا حجة له )) ؛ أى : لا يجد حُجَّةً يحتجّ بها عند السؤال ، فيستحق العذاب والنكال ؛ لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أبلغه ما أمره الله بإبلاغه من وجوب السمع والطاعة لأولي الأمر ، في الكتاب ، والسنة .
ومن باب حكم من فرَّق أمر هذه الأمّة
(( هنات )) : جمع هنة ، وهي كناية عن نكرة ؛ أي شيء كان كما تقدَّم ، ويعني به : أنَّه سيكون أمور منكرة ، وفتن عظيمة ، كما قد ظهر ، ووجد .
وقوله : (( فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمّة وهي جميع )) ؛ أي : مجتمعة على إمام واحد ، وقد بيَّنه في اللفظ الذي بعد هذا .
وقوله : (( فاضربوه بالسيف كائنًا من كان )) ؛ أي : لا يحترم لشرفه ، ونسبه ، ولا يهاب لعشيرته ونشبه ، بل يبادر بقتله قبل شرارة شره ، واستحكام فساده ، وعدوى عرِّه (6).
وقوله(7) : (( إذا بويع لخليفتين(8) فاقتلوا الآخر منهما )) ؛ فيه من الفقه تسمية الملوك بالخلفاء ، وإن كانت الخلافةُ الحقيقيَّةُ إنَّما صَحَّتْ للخلفاء الأربعة ـ رضى الله عنهم ـ . وفيه : أنَّه لا يجوز نصّبُ خليفتين ، كما تقدم .
باب في الإ نكار على الأمراء وبيان خيارهم وشرارهم
وقوله : (( ستكون أمراء فتَعْرِفُون وتُنْكِرُون )) ؛ أي : تعمل الأمراءُ أعمالاً منها ما تعرفون كونه معروفًا ، ومنها ما تعرفون كونه منكرا ، فتنكرونه .
وقوله : (( فمن عرف برئ )) ؛ أي : من عرف المنكر ، وكرهه بقلبه ؛ بدليل الرواية الأخرى ، فتُقَيَّدُ إحداهما بالأخرى ؛ يعني : أنَّ مَنْ كان كذلك فقد برئ ؛ أي تبرَّأ من فعل المنكر ، ومن فاعله .
(12/107)
وقوله : (( ومن أنكر فقد سلم )) ؛ أي : بقلبه ؛ بدليل تقييده بذلك في الرواية الأخرى ؛ أي : اعتقد الإنكار بقلبه ، وجزم علبه بحيث لو تمكن من إظهار الإنكار لأنكر. ومَنْ كان كذلك فقد سَلِم من مؤاخذة الله تعالى على الإقرار على المنكر . وهذه الرتبة هي رتبة من لم يقدر على تغيير المنكر لا باللسان ، ولا باليد ، وهي التي قال فيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وذلك أضعف الإيمان ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )). وقوله : (( ولكن مَنْ رضي وتابع )) ؛ أي : من رضي المنكر ، وتابع عليه هو المؤاخذ ، والْمُعَاقَبُ عليه ، وإن لم يفعلعه .
وقوله : (( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلُّون عليهم ويصلُّون عليكم )) ؛ أي : تدعون لهم في المعونة على القيام بالحق والعدل ، ويدعون لكم في الهداية والإرشاد ، وإعانتهم على الخير ، وكل فريق يحب الآخر لما بينهم من المواصلة ، والتراحم ، والشفقة ، والقيام بالحقوق ، كما كان ذلك في زمن الخلفاء الأربعة ، وفي زمان(@) عمر بن عبدالعزيز ـ رضى الله عنهم ـ ، ونقيض ذلك في الشرار ؛ لترك كل فريق منهما القيام بما يجب عليه من الحقوق للآخر ، ولاتّباع الأهواء ، والْجَوْرِ ، والبُخل ، والإساءة . فينشأ عن ذلك التباغض ، والتَّلاعن ، وسائر المفاسد .
وقوله : (( أفلا ننابذهم بالسيف ؟ )) أي : أفلا ننبذ إليهم عهدهم ؛ أي : ننقضه ؛ كما قال تعالى : { فانبذ إليهم على سواء } ، ونخرج عليهم بالسيف ، فيكون المجرور متعلقًا بمحذوف دلّ عليه المعنى ، وحُذف إيجازًا واختصارًا.
وقوله : (( لا ما أتاموا فيكم الصلاة )) ؛ ظاهره : ما حافظوا على الصلوات المعهودة بحدودها ، وأحكامها ، وداموا على ذلك ، وأظهروه . وقيل معناه : ما داموا على كلمة الاسلام ؛ كما قد عبَّر بالمصلين عن المسلمين ؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نهيتُ عن قتل المصلين )) ؛ أي : المسلين . والأوَّل أظهر. وقد تقدَّم التنبيه على ما في هذا الحديث من الأحكام والخلاف .
(12/108)
ومن باب مبايعة الإمام ملى عدم الفرار
(( الحديبية )) : ماء قريب من مكة ، نزله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أراد العمرة ، فصَدَّته قريش ، فوجَّه إليهم عثمان بن عفان ليخبرهم : بأنه جاء معتمرًا ، ولم يجيء لقتال ، فأبطأ عليه ، فأُرْجِفَ بأنه قُتل ، فبايع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه هذه البيعة المسماة ببيعة الرُّضوان . وقد تقدّم ذِكْرُها .
وقول جابر : (( كنَّا في الحديبية ألفًا وأربعمائة )) ؛ قد روي : أنَّهم كانوا ألفًا وخمسمائة ، وإنما اختلف قوله لأنَّ ذلك العدد كان عنده تخمينًا ، لا تحقيقًا ، إن لم يكن غلطًا من بعض الرواة .
وقوله : (( بايعناه على ألا نفرَّ ، ولم نبايعه على الموت )) ؛ مخالفٌ لما قاله سلمةُ : أنهم بايعوه في ذلك اليوم على الموت . وكذلك قال عبد الله بن زيد : وهذا أص خلاف لفظيٌّ ، وأمَّا المعنى فمتَّفق عليه ؛ لأن من بايع على ألأ يفرَّ حتى يفتح الله عليه ، أو يُقتل ؛ فقد بايع على الموت ، فكأنَّ جابرًا لم يسمع لفظ الموت ، وأخذ غيرُه الموتَ من المعنى ، فعبَّر عنه. ويشهد لما ذكرته : أنَّه قد روي عن ابن عمر في غير كتاب مسلم : أن البيعة كانت على الصبر. وكان هذا الحكم خاصًّا بأهل الحديبية ، فإنه مخالف لما في كتاب الله تعالى من إباحة الفرار عند مِثْلَيْ العدد ، كما قد نصَّ عليه في سورة الأنفال ، وعلى مقتضى بيعة الحديبية : لا فرار أصلاً ، فهذا حكمٌ خاصٌّ بهم ، والله أعلم ؛ ولذلك قال عبدالله بن زيد : )) لا أبايع على هذا أحدًا بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )). ثم إنَّ الناس اختلفوا في العدد المذكور في آيتي الأنفال .
فحمله جمهور العلماء على ظاهره من غير اعتبار للقوة والضف ، والشجاعة والجبن . وحكى ابن حبيب عن مالك وعبد الملك : أنَّ المراد بذلك : القوة ، والتكافؤ ، دون لفظ العدد. وقال ابن حبيب : والقول الأول أكثر ، فلا تفرَّ المائة من المائتين ؛ وإن كانوا أشد جلدًا ، وأكثر سلاحًا .
قلت : وهو الظاهر من الآية .
(12/109)
قال عياض : ولم يختلف : أنه متى جهل منزلة بعضهم من بعض في مراعاة العدد لم يجز الفِرارُ .
ومن باب لا هجرة بعد الفتح
قوله : (( لا هجرة )) ؛ أى : لا وجوب هجرة بعد فتح مكة ، وإنما سقط فرضها إذ ذاك ؛ لقوة المسلمين ، وظهورهم على عدوهم ، ولعدم فتنة أهل مكة لمن كان بها من المسلمين ، بخلاف ما كان قبل الفتح ؛ فإنَّ الهجرة كانت واجبةً ؛ لأمور : سلامة دين المهاجر من الفتنة ، ونُصرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتعلُّم الدين وإظهاره . وقد تقدّم : أنه لم يختلف في وجوب الهجرة على أهل مكة من المسلمين ، واختلف في وجوبها على من كان بغيرها . فقيل : هي واجبة على كل من أسلم ، تمسُّكًا بمطلق الامر بالهجرة ، وذم من لم يهاجر ، وببيعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الهجرة ، كما جاء في حديث مجاشع . وقيل : بل كانت مندوبًا إليها في حق غير أهل مكة . حكاه أبو عبيد . ويُستدلُّ لهذا القول بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأعرابيِّ الذي استشاره في الهجرة : (( إن شأنها لشديد )) ، ولم يأمره بها ، بل أَذِنَ له في ملازمة مكانه ، كما يأتي . وبدليل : أنَّه لم يأمر الوفود عليه قبل الفتح بالهجرة . وقيل : إنما كانت واجبة على من لم يسلم جميعُ أهلِ بلده ؛ لئلا يبقى تحت أحكام الشرك ، ويخاف الفتنة على دينه .
قلت : ولا يختلف في أنه لا يحل لمسلم المقام في بلاد الكفر مع التمكن من الخروج منها ؛ لجريان أحكام الكفر عليه ، ولخوف الفتنة على نفسه . وهذا حكم ثابت مؤيَّد إلى يوم القيامة . وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفر لتجارة ، أو غيرها مما لا يكون ضروريًّا في الدِّين ، كالرُّسل ، وكافتكاك المسلم . وقد أبطل مالك رحمه الله شهادة من دخل بلاد الهند للتجارة .
(12/110)
وقوله : (( ولكن جهاد ونية )) ؛ أي : ولكن يبقى جهاد ونية . أو جهاد ونية باقيان ؛ أي : نية في الجهاد ، أو في فعل الخيرات. وهو يدلّ على استمرار حكم الجهاد إلى يوم القيامة ، وأنه لم ينسخ ، لكنه يجب على الكفاية ، وإنما يتعين إذا دَهَمَ العدوُّ بلدًا من بلاد المسلمين ، فيتعين على كلِّ مَنْ تمكن من نصرتهم ، وإذا استنفرهم الإمام تعين على كل من استنفره ؛ لنصِّ هذا الحديث على ذلك . وهو أمرٌ مُجْمَعٌ عليه .
وقوله : (( إن الهجرة قد مضت لأهلها )) ؛ أي : ثبتث لمن هاجر قبل الفتح ، وفازرا بها ، وسقطت عن غيرهم ؛ لرفع وجوبها عنهم .
وقوله : (( ولكن على الإسلام والجهاد والخير )) ؛ أي : ولكن بايع على ملازمة الإسلام ، والجهاد ، وفعل الخير ، أبدًا دائمًا .
وقول الْحَجَّاج لسلمة بن أكوع : (( أرتددْتَ ؛ تَعَرَّبت ؟ )) استفهامٌ على جهة الانكار عليه ؛ أنه خرج من محل هجرته ؛ التي هي المدينة إلى البادية ؛ التي ير هي موطن الأعراب ، لما كان المعلوم من حال المهاجر أنه يحرم عليه الانتقال منها إلى غيرها ، لا سيما إنْ رجع إلى وطنه ؛ فإنّ ذلك محرم بإجماع الأمَّة ، على ما حكاه القاضي عياض . وربما أطلق على ذلك رِدَّة ، كما أطلقه الحجاج هنا ، فأجابه سلمة بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذن له في ذلك ، فكان ذلك خصوصًا في حقه .
و ((تَعَرَّبت )) ؛ أي : سكنت مع أعراب البادية . والبدو : البادية. وسُمَّيت بذلك ؛ لأنه يبدو ما فيها ومن فيها ؛ أي : يظهر. أو لأن من خرج إليها من الحاضرة بدا ؛ أي : ظهر. والحاضر أصله : النازل على الماء ، كما قال :
مِنْ سَبَأَ الحاضرين مَأْرِبَ إذ يَبْنُونَ مِنْ دون سيْلِهِ العَرِمَا
وسُمِّي به أهل القرى والحصون ؛ لأئهم لا يرحلون عن مياهٍ يجتمعون عليها .
(12/111)
وسؤال الأعرابيّ عن الهجرة إنما كان عن وجوبها عليه ، فأجابه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( إن شأنها لشديد )) ؛ أي : إن أمرها صعبٌ ، وشروطها عظيمة . ثم أخبره بعد ذلك بما يدلّ على أنها ليست واجبة عليه .
قلت : ويحتمل أن يكون ذلك خاصًّا بذلك الأعرابيِّ ، لما علم من حاله ، وضعفه عن المقام بالمدينة ، فاشفق عليه ، ورحمه : { وكان بالمؤمنين رحيمًا }.
وصدقة الإبل : زكاتُها . وقوله : (( هل تحلبها يوم وِرْدِهَا ؟)) يعني : أنهم كانوا إذا اجتمعوا عند ورود المياه حَلَبُوا مواشيهم ، فسقوا المحتاجين والفقراء المجتمعين على المياه . وقد تقدَّم في كتاب الزكاة .
و ((البحار )) هنا يُراد بها : القُرى . وقد تقدَّم ذِكْرُ ذلك .
وقوله : (( لن يَتِرَكَ )) ؛ أي : ينقصك . ومعنى ذلك : أنَّه إذا قام بما يتعيّن عليه من الحقوق ، وبما يفعله من الخير ؛ فإن الله تعالى يثيبه على ذلك ، ولا يضع شيئًا من عمله أينما كان من الأرض ، ولا بُعْدَ في أن يُحصِّل الله له ثواب مهاجرٍ بِحُسْنِ نِيّته ، وفعْلِهِ الخير ، والله أعلم.
ومن باب بيعة النساء والمجذوم
(( يُمْتَحَنَّ )) : يُخْتَبَرْن . والامتحان : الاختبار . وقوله : { ولا يقتلن أولادهن }. قال بعض المفسرين : بالوأْد والإزلاق.
قلت : واللفظ أعم مما ذكره ؛ إذ يتناوله وغيره.
وقوله : { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن }(@) ، قيل في البهتان هذا : إنه السِّحْرُ . وقيل : النميمة . وقيل : الولد من غير الزوج بالالتقاط ، أو الزنى ، فتنسبه إلى الزوج . وقيل : النياحة ، وخَمْش الوجه ، وشق الجيب ، والدعاء بالويل . قال الكلبي : هو عام في كل أمرٍ . قلت : وهو الصحيح ؛ لعموم لفظ البهتان فإنَّه نكرة في سياق النهي . ونسبته إلى ما بين الأيدي والأرجل كناية عما يفعل بجميع الأعضاء والجوارح من البهتان بين الأيدى والأرجل ؛ لأنهما الأصل في أعمال الجوارح .
(12/112)
وحكى أهل التفسير : أن ّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما فتح مكة جلس على الصَّفا ، وبايع النساء ، فتلا عليهنَّ الآية ، فجاءت هند - امرأة أبي سفيان - متنكرة ، فلمَّا سمعت : { ولا يسرقن } قالت : قد سرقت من مال هذا الشيخ . قال أبو سفيان : ما أصبت فهو لك . ولَمَّا سمعت : { ولا يزنين} قالت : وهل تزني الحرَّة ؟ فقال عمر : لو كانت قلوب نساء العرب على قلب هند ما زنت امرأة منهنَّ . ولَمَّا سمعت : { ولا يقتلن أولادهن } ، قالت : ربيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارًا . ولَمَّا سمعت : {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} ، قالت : والله إن البهتان لأمرٍ قبيح ، ما تأمر إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، ولما سمعت : { ولا يعصينك في معروف } ، قالت : ما جلسنا هنا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء . والمعروف هنا : الواجبات الشرعية التي يُعَصَّى من تركها .
وقوله تعالى : { فبابعهن } ؛ أي : بالكلام ، كما فعل . { واستغفر لهن الله} ؛ أي : سل الله لهن المغفر ، فإنه غفور بتحقيق ما سلف . رحيم بتوفيق ما ائتُنِفَ .
وما قالته عائشة رضي الله عنها من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما مَسَّت يده يد امرأة إلاَّ امرأة يملكها ، وإنّما يبايع النساء بالكلام ، هو الحقّ ، والصدق . وإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمتنع من ذلك كان غيره أحرى وأولى بالامتناع منه ، فيبطل قول من قال : إن عمر كان يأخذ بأيدي النساء عند هذه المبايعة . وليس بصحيح لا نقلاً ، ولا عقلاً . وفيه : التباعد من النساء ما أمكن ، وإن كلام المرأة فيما يحتاج إليه من غير تزيُّن ، ولا تصنُّع ، ولا رفع صوت : ليس بحرام ، ولا مكروه .
وقول عائشة رضي الله عنها : ما أخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى ؛ تعني به : آية المبايعة المذكورة ، يتلوها عليهن ، ولا يزيد شيئًا آخرمن قبله .
(12/113)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمجذوم : (( اذهب فقد بايعناك )) ، ولم يأخذ بيده عند المبايعة ، تخفيف عن المجذوم والناس ؛ لئلا يشق عليه الاقتحام معهم ، فيتأذى هو في نفسه ، ويتأذى به الناس .
وقد روى الترمذيُّ ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنَّه أكل مع مجذوم فقال : ((بسم الله توكلاً على الله )). وقد جاء عنه في الصحيح أنه قال : (( فرَّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد )). وهذا الخطاب إنما هو لمن يجد في نفسه نفرة طبيعية لا يقدر على الانتزاع منها ، فأمره بالفرار ؛ لئلا يتشوّش عليه ويغلبه وَهْمُهُ . وليس ذلك خوفًا لعدوى ، فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يُعدي شي شيئًا )). وقال : (( لا عدوى )). وقال للأعرابيِّ : (( من أعدى الأول)) . ويفيد هذا الحديث : إباحة مباعدة أهل الأسقام الفادحة ، المستكرهة إذا لم يؤد ذلك إلى إضاعتهم ، وإهمالهم ، والله أعلم .
ومن باب وفاء الإمام بما عقده غيره
قول حذيفة : خرجت أنا وأبى : حُسَبْل )) ؛ روي بالتصغير ، والتكبير ؛ أعني : حِسْلاً ، وهو اسم لوالد حذيفة . واليمان لقب له ، غالبٌ عليه . وقيل : هو اسمٌ لأحد أجداد حذيفة ، وهو : حذيفةُ بن حسل بن عامر بن ربيعة بن عمرو بن جِرْوَة. وهو اليمان . وكان جروةُ هذا قد أصاب دمًا في قومه ، فهرب إلى المدينة ، فحالف بني عبد الأشهل ، فسمَّاه قومه اليماني ؛ لأنه حَالَفَ اليمانية .
وقوله : (( انصرفا ، نَفِي لهم بعهدهم )) ؛ هكذا وقع ها هنا (( نفي )) بنونٍ في أول الفعل . وعلى هذا فيكون هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي وفَّى بما عهده حذيفة وأبوه للمشركين . وقد وقع في "الجمع بين الصحيحين " للحميدى : (( تفيا )) بتاء باثنتين من فوقها ، وألف الاثنين بعد الياء المفتوحة ؛ وعليه فيكون هما اللذان وفّيا بما عقداه ، إلا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمْضَاهُ.
(12/114)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد خطبته لضماد : (( أما بعد )) ، ولم يذكر جوابَ أمَّا ؛ سكت عنه ؛ لأن ضمادًا قطع عليه ما أراد أن يقول حين قال له : (( أعد عليّ كلماتك هذه )) فاشتغل بإعادته عن الجواب . ثمّ إنّ ضمادًا لَمّا كان عالِمًا بأصناف الكلام البليغ ، ووجد عنده ما حصل له من العلم بذلك ، قطع بأنه لا يصدر مثل ذلك إلا من نبيٍّ ، وأنه مُحِقٌّ في قوله ، فأسْلَم ، وحَسُنَ إسلامه ، وضمن عن قومه الإسلام ، حتى قدم عليهم فاسْلَمُوا ، فلم يحتج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد خطبته لإنشاء كلام يكون جوابًا (( لأمَّا )).
و (( قاموس البحر )) : قَعْرَهُ . وقد مىض تفسيره وتفسير ما شابه هذه الضيغة . وهذا القول من ضمادٍ يُحتمل أن يُحمل على الاغياء ؛ يعني : أنَّه لو كان في قعر البحر أحدٌ لبلغت ووصلت إليه ، ويكون الماضي بمعنى المستقبل . ويحتمل أن يتجوّز بالبحر ويعبِّر به عن قلبه ؛ لأنه كثير المعارف والفضائل ، ولسعته لكل ذلك . فكأنَّه قال : بلغت كلماتك قعر قلبي . وتكون هذه الاستعارة ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الفرس : (( وإن وجدناه لبحرًا )).
ومن باب جواز أمان المرأة
قول أمِّ هانئ : (( زعم ابن أمي علي )) ، ولم تقل : ابن أبي ، مع أنه شقيقها ؛ لما يقتضيه رحم الأمِّ من الشفقة ، والحنان ، والتعطّف ؛ كما قال الشاعر :
يا ابن أُمِّي وَيَا شُقَيَّق نَفْسِي أَنْتَ خَلَّيْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيد
(12/115)
فكأنها قالت : عليٌّ - مع شفقته ورحمته - أراد أن يخفر ذمّتي ، فيقتل فلانًا الكافر ؛ الذي أجرتُه . وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قد أجرنا من أجرت )) ؛ دليل : على جواز أمان المرأة ، على ما ذهب إليه مالك وغيره . وقد تقدَّم. وقد وفع الاستدلال بهذا الحديث من منع أمان المرأة إلا بإذن الإمام ؛ بأن قالوا : لو لم يُجز النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمانها لَمَا جاز . ولا يُسمع هذا ؛ لأن موضع احتجاجنا به إنَّما هو قوله : (( مَنْ أَجَرْتِ )) ، فسمَّى جوارها جوارًا حقيقيًّا . وهذا يقتضي نفوذه منفردًا أو مضمومًا إليه غيره . ثم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قد أجرنا )) ليس هو إنشاء جوارٍ ، إنّما هو موافقةٌ لها على ما أجارت ، وعملٌ بمقتضى ما عَقَدتْ ، والله أعلم .
بسم الله الرحمن الرحيم ،
صلى الله على سيدنا محمد
كتاب النكاح
حقيقة النكاح : الوطءُ ، وأصله : الإيلاج . وهو : الإدخال . وقد اشتهر إطلاقه على العقد ؛ كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } ؛ أي : إذا عقدتم عليهن . وقد يُطلق النكاح ويُراد به العقد والوطء ؛ كما قال تعالى : {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ؛ أي : لا تعقدوا عليهن حتى يؤمن ، ولا تطؤوهن .
وقوله : (( ألا نزوجك جاريةً شابةً ؟ )) ((ألا )) : عرض وتحضيض. و(( الجارية )) هنا : المعصر وما قارب ذلك . والبِكْرُ : الذي لم يتزج من الرِّجال والنِّساء ؛ يقال : رجلٌ بِكْرٌ ، وامرأةٌ بِكْرٌ - بكسر الباء- والبكر أيضًا : أوّلُ الأولاد - بالكسر - ؛ كما قال الشاعر :
يا بِكْرَ بِكْرَيْنِ ويَاخِلْبَ الكَبِدِ أصبحتَ مِنِّي كذِراعٍ مِنْ عَضُد
وفي مقابلة البكر : الأيِّم ، وسيأتي ذِكْرُها إن شاء الله تعالى .(12/116)
وقوله : (( لعلها تذكرك بعض مامضى من زمانك )) ؛ أي : زمان نشاطك وغُلْمتك . وقد قال في الرواية الأخرى : (( لعلها ترجع إليك ما كنت تعهد من نفسك )) ، وكان عبدالله قد قلَّت رغبته في النساء ؛ إما للاشتغال بالعبادة ، وإمّا للسِّنِّ ، وأما لمجموعهما ، فحرّكه عثمان لذلك.
و (( الباءة ))- بفتح الباء ، والمد - : النِّكَاح . وأصله : الْمَنْزِل ؛ يقال : باءةٌ ، ومباءة ، ومبوَّأ . ومنه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة حين أطلَّ عليها : (( هذه المبوَّأ )) ؛ أي : المنزل . ثم قيل للتزويج : باءة ؛ لأن من تزوَّج امرأة بوَّأها منزلاً . قال الأصمعي : وفيه لغتان : باهٌ ، وباءٌ . قال : هو الغشيان. وإن شئتَ جمعتَ بالتاء ، فقلتَ : باءات . قال غيره : فيه أربع لغات ، وزاد : باهة ، فابدل من الهمزة هاءً ، وباه- بالقصر والهاء -.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من استطاع )) ؛ أي : مَنْ وَجَدَ ما به يتزوج . و(( من لم يستطع )) ؛ أي : من لم يجد ذلك . ولا يُراد به هنا : القدرة على الوطءِ ؛ لقوله : (( فعليه بالصوم ، فإنه له وِجَاء )).
وقوله : (( فليتزوج )) أمرٌ ، وظاهره : الوجوب . وبه قال داود ومَنْ تابعه . والواجب عندهم العَقْدُ لا الدخول ، فإنه إنما يجب عندهم مرة في العمر . والجمهور : على أن التزويج مندوب إليه ، مُرَغَّبٌ فيه على الجملة. وقد اعتبره بعض علمائنا بالنظر إلى أحوال النَّاس ، وقسَّمه بأقسام الأحكام الخمسة . وذلك واضحٌ . وصرف الجمهورُ ذلك الأمرَ عن ظاهره لشيئين :
أحدهما : أن الله تعالى قد خيَّر بين التزويج والتَّسَرِّي بقوله تعالى : { فانكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} ، ثم قال : { أو ما ملكت أيمانكم }(@) ، والتَّسرِّي ليس بواجب إجماعًا ، فالنكاح لا يكون واجبًا ؛ لأن التخيير بين الواجب وبين ما ليس بواجب يرفع وجوب الواجب . وبَسْطُ هذا في الأصول .
(12/117)
وثانيهما : قوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون إلاَّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } ، ولا يقال في الواجب : إن فاعله غير ملوم . ثم هذا الحديث لا حجَّة لهم فيه لوجهين :
أحدهما : أنَّا نقول بموجبه في حق الشابّ المستطيع الذي يَخافُ الضررَ على نفسه ودينه من العُزْبة ، بحيث لا يرتفع عنه إلاَّ بالتزويج ، وهذا لا يُختلف في وجوب التزويج عليه .
والثاني : أنهم قالوا : إنّما يجب العقد لا الوطء . وظاهرُ الحديث : إنّما هو الوطء ، فإنّه لا يحصل شيءٌ من الفوائد التي أرشد إليها في ذلك الحديث ؛ من تحصين الفرج ، وغَضِّ البصر بالعقد . بل : إنّما يحصل كلُّ ذلك بالوطء ، وهو الذي يحصل دفع الشَّبق إليه بالصوم . فما ذهبوا إليه لم يتناوله الحديث . وما تناوله الحديثُ لم يذهبوا إليه . وذلك دليل على سوء فهمهم ، وقلّة فطنتهم .
ولا حُجَّة لهم في قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء ... } الآية ؛ فإنَّه أمرٌ قُصِدَ به بيانُ ما يجوز الجمع بينه من أعداد النساء ، لا أنَّه قصد به حكم أصل القاعدة .
ولا حجَّة لهم في قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم } ؛ فإنَّه أمرٌ للأولياء بالإنكاح ، لا للأزواج بالنِّكاح .
وأ غض : أسدُّ . وأحصن : أمنع .
وقوله : (( فعليه بالصوم )) ؛ قال الإمام أبو عبدالله : فيه إغراءٌ بالغائب ، ومن أصول النحويين ألا يُغرى بغانبٍ ، وقد جاء شاذًّا قولُ بعضهم : عليه رجلاً ليسني ؛ على جهة الإغراء . قال القاضي أبوالفضل عياض : هذا الكلام موجود لأبي محمد بن قتيبة والزَّجَّاجي وبعضهم ، ولكن على قائله أغاليط ثلاثة :
(12/118)
أولها : قوله : لا يجوز الإغراء بالغائب ، وصوابه : لا يجوز إغراء الغائب ، أو لا يُغْرَى غائبٌ . فأمَّا الإغراء بالشاهد والغائب فجائزٌ . وهكذا نصَّ أبو عبيد في هذا الحديث ، وكذلك كلام سيبويه ومَنْ بعده من أئمة هذا الشأن قالوا : وإنَّما يؤمر بمثل هذا الحاضر ، والمخَاطَب ، ولا يجوز : دونه زيدًا ، ولا : عليه زيدًا - وأنت تريد غير المخاطب - ؛ لأنه ليس بفعل له ، ولا تصرّف تصرّفه . وإنما جاز للحاضر ؛ لما فيه من معنى الفعل ، ودلالة الحال . فأمَّا الغائب فلا يوجد ذلك فيه ؛ لعدم حضوره ، وعدم معرفته بالحالة الدالة على المراد .
وثانيها : عدُّ قولهم : عليه رجلاً ليسني من إغراء الغائب . وقد جعله سيبويه والسّيرافي منه . ورأوه شاذًّا . قال القاضي : والذي عندي : أنه ليس المراد بها حقيقة الإغراء ، وإن كانت صورته ، فلم يُرِدْ هذا القائلُ تبليغ هذا النائب ، ولا أمره بإلزام غيره ، وإنما أراد الإخبار عن نفسه لقلة مبالاته بالغائب ، وأنَّه غير متأتٍّ له منه ما يريد ، فجاء بهذه الصورة تَدَلُّ على ذلك . ونحوه قولهم : إليك عنّي ؛ أى : اجعل شغلك بنفسك عنِّي ، ولم يُرِدْ أن يغريه به ، وإنّما مرادُه : دَعْني ، وكن كمن شُغِلَ عَنِّي .
وثالثها : عدُّهم هذه اللفظة في الحديث ؛ من إغراء النائب .
(12/119)
قال القاضي : والصَّواب : أنه ليس في هذا الحديث إغراء الغائب جملة . والكلام كلُّه والخطابُ للحضور ، الذين خاطبهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( من استطاع منكم الباءة )) ، فالهاء هنا ليست للغائب ، وإنّما هي لمن خصَّ من الحاضرين بعدم الاستطاعة ؛ إذ لا يصح خطابُه بكاف الخطاب ؛ لأنه لم يتعيّن منهم ، ولإبهامه بلفظة (( من )) وإن كان حاضرًا . وهذا النحو كثيرٌ في القران ؛ كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر } إلى قوله : { فمن عفي له من أخيه شيءٌ } ، وكقوله : { كتب عليكم الصيام } إلى قوله : { فمن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له } ، وكقوله : { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحًا نؤتها أجرها مرتين} ، فهذه الهاءاتُ كلّها ضمائرُ للحاضر لا للغائب ، ومثله : لو قلتَ لرجلين : من قام الآن منكما فله درهم. فهذه الهاء لمن قام من الحاضرين .
قلت : اختصرتُ كلام القاضي في هذا الفصل من غير تبديل ، ولا زيادة ، وهو حسن جيّدٌ ، فلذلك نقلته بلفظه .
وقوله : (( فإنه له وِجَاء )) - بكسر الواو ، والمد - وهو : غض الأنثيين ، أو رضهما بحجر ونحوه . وأصله : الغمز ، والطّعن . ومنه : وَجَأَ في عُنُقِه ، وَوَجَأَ بَطْنَهُ بالخنجر . وقال بعضهم : الوَجْءُ : أن توجأ العروق والخصيتان باقيتان بحالهما. والخصاء : شق الخصيتين ، واستئصالهما . والْجَبُّ : أن تحمى الشفرة ، ثم تستأصل بها الخصيتان . وقد قاله بعضهم : (( وجأ )) بفتح الواو ، والقصر . وليس بشيء ؛ لأن ذلك هو : الحفا في ذوات الْخُفِّ ، قاله الخظابي .
وفيه دليل : على جواز المعاناة لقطع الباه بالأدوية . وعلى أن مقصود النكاح : الوطء . وعلى وجوب الخيار في العنّة . و(( المعشر )) : الجماعة من الناس .
(12/120)
وقوله : (( أن نفرًا )) ؛ النفر : الجماعة من الناس ، وأقلهم ثلاثة وهم كذلك هنا . وقد ذكر البخاري حديث أنس هذا على سياق أحسن من هذا ، وأتم ، فقال : جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألون عن عبادته ، فلمّا أخبروا كانهم تقالُّوها . فقالوا : أين نحن من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر . فقال أحدهم : أمَّا أنا فإني أصلي الليل أبدًا ، وقال الآخر : أمَّا أنا فأصوم الدَّهْرَ ولا أفطر . وقال الآخر : وأنا أعتزلُ النساء ، فلا أتزوّج أبدًا . فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( أنتم القائلون كذا ؟ أَمَا والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكنِّي أصوم وأُفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس مني )).
قلت : فهؤلاء القوم حَصَلَ عندهم أنَّ الانقطاعَ عن ملاذِّ الدُّنيا من النساء والطَّيِّب من الطَّعام والنوم ، والتَّفرغ لاستغراق الأزمان بالعبادات أولى ، فلما سألوا عن عمل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعبادته ، ولم يدركوا من عبادته ما وقع لهم : أبْدَوْا فارقًا بينهم وبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بأنَّه مغفورٌ له . ثمَّ أخبر كلّ واحد منهم بما عَزَمَ على فعله ، فلما بلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجابهم ببيان المعنى الفارق بقوله : (( إني أخشاكم لله )) ؛ وتَقْرِيرُ ذلك : إني وإن كنت مغفورًا لي فخشية الله وخوفه يحملني على الاجتهاد وملازمة العبادة ، ولكن طريق العبادة ما أنا عليه ، فمن رغب عنه وتركه ؛ فليس على طريقي في العبادة .
(12/121)
قلت : ويوضح هذا المعنى ويُبيِّنَه : أنَّ عبادة الله إنَّما هي امتثالُ أوامره الواجبة والمندوبة ، واجتناب نواهيه المحظورة والمكروهة ، وما من زمان من الأزمان إلا وتتوجَّهُ على المكلَّف فيه أوامر أو نواهٍ ، فمن قام بوظيفة كل وقت فقد أدَّى العبادة ، وقام بها . فإذا قام بالليل مصلِّيًا : فقد قام بوظيفة ذلك والوقت . فإذا احتاج إلى النوم لدفْع ألم السّهر ، ولتقوية النفس على العبادة ، ولإزالة تشويش مدافعة النوم المشوَّش للقراءة ، أو لإعطاء الزوجة حقَّها من المضاجعة : كان نومُه ذلك عبادةً كصلاتِه ، وقد بيّن هذا المعنى سلمان الفارسي لأبي الدرداء بقوله : لكنِّي أقوم وأنام ، وأحتسب في نومتي ما أحتسبه في قَوْمتي . وكذلك القول في الصيام . وأمَّا التزويج فيجري فيه مثل ذلك وزيادة نيَّة تحصين الفرج ، والعين ، وسلامة الدين ، وتكثير نسل المسلمين . وبهذه القصود الصحيحة تتحقق فيه العبادات العظيمة .
(12/122)
ولذلك اختلف العلماء في : أيَّ الأمرين أفضل ؟ التزويج أم التفرُّغ منه للعبادة ؟ كما هو معروف في مسائل الخلاف . وعلى الجملة : فما من شيء من المباحات المستلذات وغيرها ، إلا ويُمكن لمن شرح الله صدره أن يصرفه إلى باب العبادات والطاعات بإخطار معانيها بباله ، وقصد نية التقرّب بها ، كما قد نصَّ عليه المشايخ في كتبهم ، كالحارث المحاسبي وغيره . ومَنْ فَهِمَ هذا المعنى وحصَّلَهُ تحقَّق : أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حَل َّ من العبادات أعلاها ؛ لانشراح صدره ، وحضور قصده ، ولعلمه بحدود الله ، وبما يُقرّب منه ، فلما لم ينكشف هذا المعنى للنّفر السائلين عن عبادته استقلُّوها بناءً منهم على أن العبادة إنما هي استفراغ الوسع في الصلاة ، والصوم ، والانقطاع عن الملاذّ . وهيهات بينهما ما بين الثريَّا والثَّرى ، وسُهيل والسُّها . وعند الوقوف على ما أوضحناه من هذا الحديث : يتحقق أنَّ فيه ردًّا على غلاة المتزهدين ، وعلى أهل البطالة من المتصوفين ؛ إذ كُلُّ فريقٍ منهم قد عَدَلَ عن طريقه ، وحاد عن تحقيقه.
وقوله : (( وقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فراشٍ )) ، قال البخاري بدل هذا الكلام : أما أنا فأصوم ولا أفطر . وهذا المساق أحسن ؛ لآنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجابهم في الروايتين بقوله : (( لكني أصوم وأفطر )) ، ولم يرو فيه مسلم جوابًا عن الأكل والنَّوم على الفراش بأكثر من قوله : (( لكنِّي أصوم وأفطر )) ، فبقي أكل اللحم ، والنوم على الفراش بغير جواب ، فكان مساق البخاري أولى ، والله أعلم .
(12/123)
وقوله : (( ردَّ على عثمان التَّبَتُّل )) ، وهو هنا : الانقطاع عن النساء . وأصله : الانقطاع مطلقًا . يقال : تَبَتَّلَ إلى كذا ؛ أي : انقطع إليه . وَتَبَتَّل عن كذا ؛ أي : انقطع عنه . ومنه : بَتَلْتُ الأمرَ . والبتلة والعذراء : البتول ؛ أي : المنقطعة عن الرجال إلى عبادة الله . وردُّ التَبتل : عبارة عن أنَّه لم يأذن له فيه ، ولم يُجِزْهُ له ؛ كما قال : (( لا رهبانية في الإسلام )) ؛ أي : لا تَبَتُّل .
وقوله : (( ولو أجاز له ذلك لاختصينا )). قد بيَّنَّا : أن الخصاء هو شَقُّ الخصيتين وانتزاعهما . وقد يقال : من أين يلزم من جواز التبتل عن النساء جواز الاختصاء ؟ وهو قطع عضوين شريفين بهما قوام النسل ، وفي قطعهما ألم عظيم لا يجوز لأحد أن يُدْخِلَهُ على نفسه ، وضررٌ عظيم ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك ، وهو محرمٌ بالاتفاق .
والجواب : إن ذلك لازم من حيث أن مطلق التبتل يتضمنه ، وكأنَّ قائل ذلك وقع له : أنَّ التبتل الحقيقي الذي تؤمن معه شهوة النساء هو الخصاء . فكأنّه أخذ بأكثر مما يدل عليه الاسم . وقولكم : هو ألم عظيم مُسَلَّم ، لكنه مُغتفرٌ في جنب صيانة الدّين ، فقد يُغتفر الألم العظيم في جنب ما هو أعظم منه ، كقطع اليد الآكلة ، وكالكيِّ ، والبَطِّ ، وغير ذلك . وقولكم : هو مُفْض إلى الهلاك غالبًا ، غير مُسلَّم ، بل نقول : وقوعُ الهلاك منه نادرٌ ، فلا يُلْتَفتُ إليه ، وخصاء البهائم يشهد بذلك. وما ذكرناه إنما هو تقدير ما وقع لسعدٍ ، ولا يُظَنُّ : أن ذلك يجوز لأحدٍ اليوم ، بل هو محرّم بالإجماع . وكلُّ ما ذكرناه مبنيٌّ على الأخذ بظاهر : (( لاختصينا )) ، ويحتمل أن يريد به سعدٌ : لمنعنا أنفسنا من النساء ، منع المختصي . والظاهر هو الأول ، والله أعلم .
(12/124)
وحديث أنس وسهلٍ يدلان على أن التزويج أفضل من التفرغ للعبادة. وهو أحد القولين المتقدمين . ويمكن أن يقال : كان ذلك في أول الإسلام ، لما كان النساء عليه من المعونة على الدِّين والدنيا ، وقلّة الكلف ، والتعاون على البر والتقوى ، والحنوّ ، والشفقة على الأزواج . وأمَّا في هذه الأزمان فنعوذ بالله من الشيطان والنسوان . فوالله الذي لا إله إلا هو لقد حلَّت العزلة والعزبة ، بل وتعيّن الفِرار من فتنتهنَّ ، والرحلة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن باب ردّ ما يقع في النفس بمواقعة الزوجة
قوله : (( رأى امرأة )) ؛ أي : وقع بصره عليها فجاة ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تحتجبُ النساء منه ، وكان إذا أعجبته امرأة فرغب فيها حَرُمَ على زوجها إمساكها ، هكذا ذكره أبو المعالي وغيره.
وقوله : (( وهي تَمْعَسُ منيئةً لها )) ؛ أي : تدبغ جلدًا . قال أبو عبيد : الجلد أول ما يُدبغ يسمّى : منيئة ، على وزن فعيلة ، ثم هو : أَفِيق ، وجمعه : أَفَقٌ ، ثم يكون أدِيْمًا .
وقوله : (( إن المرأة تقبل في صورة شيطان )) ؛ أي : في صفته من الوسوسة ، والتحريك للشهوة ؛ بما يبدو منها من المحاسن المثيرة للشهوة النفسية ، والميل الطبيعي ، وبذلك تدعو إلى الفتنة التي هي أعظم من فتنة الشيطان ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما تركت ف يأمتي فتنة أضر على الرجال من النساء ))" ، فلمّا خاف ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه المفسدة على أمته أرشدهم إلى طريق بها تزول وتنحسم ، فقال : (( إذا أبصر أحدكم المرأة فاعجبته فليأت أهله )) ، ثم أخبر بفائدة ذلك ، وهو قوله : (( فإن ذلك يردّ ما في نفسه )). وللردّ وجهان :
أحدهما : أنَّ المنَّي إذا خرج ؛ انكسرت الشهوة ، وانطفأت ، فزال تعلُّق النَّفْس بالصّورة الْمَرئية .
(12/125)
وثانيهما : أن محل الوطء والإصابة متساوٍ من النساء كلِّهن ، والتفاوت إنما هو من خارج ذلك ، فليُكْتَف بمحلِّ الوطء ، الذي هو المقصود ، ويُغْفَل عمَّا سواه ، وقد دلّ على هذا ما جاء في هذا الحديث في غير "الأم" بعد قوله : (( فليأت أهله )) : (( فإن معها مثل الذي معها )).
تحذير : لا يُظنُّ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ - لَمَّا فعل ذلك - ميلُ نَفْسٍ ، أو غلبة شهوة - حاشاه عن ذلك ، وإنما فعل ذلك لِيَسُنَّ ، وليُقتدى به ، وليحسمَ عن نفسه ما يتوقع وقوعه .
ومن باب ما كان أبيح في أول الإسلام من نكاح المتعة ونسخه
قوله : (( كنا نغزو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس لنا نساء )) ؛ هذا الحديث ، وأكثر أحاديث هذا الباب تدلّ على أن نكاح المتعة ، إنما أُبيح في السفر لحال الضرورة ، في مدة قصيرة ، كما قال ابن أبي عمرة : إنها كانت رخصة في أول الإسلام ، لمن اضطر إليها ، كالميتة ، والدّم ، ولحم الخنزير.
وقد اختلفت الروايات واضطربت في وقت إباحتها ، وتحريمها ، اضطرابًا شديدًا ، بحيث يتعثر فيها التلفيق ، ولا يحصل معه تحقيق ، فعن ابن أبي عمرة : أنها كانت في أول الاسلام ، كما تقدَّم .
ومن رواية : ومن رواية سلمة أنها كانت عام أوطاس.
ومن رواية سبرة : إباحتُها يوم الفتح(@) ، وهما متقاربان ، ثم تحريمها حينئذ في حديثيهما.
ومن رواية علي : تحريمها يوم خيبر . وهو قبل الفتح . وفي غير كتاب مسلم عن عليّ : نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها في غزوة تبوك . وقد روى أبو داود من حديث الرّبيع بن سَبْرَة : النهي عنها في حجَّة الوداع .
وروي أيضًا من حديث سَبْرَة نحوه .
وروي أيضًا عن الحسن البصري : أنها ما حلّت قطُّ إلا في عمرة القضاء . رروي هذا عن سبرة أيضًا .
قلت : ولما اختلفت هذه الروايات اختَلفَ العلماءُ في ذلك على وجهين :
أحدهما : ترجيح بعض هذه الروايات على بعض .
وثانيهما : أن إباحة ذلك وتحريمه تكرَّر في مواطن .
(12/126)
قلت : وعلى الجملة : فالروايات كلُّها مئفقة على وقوع إباحة الْمُتعة ، وأن ذلك لم يَطُل ، وأنه نُسخ ، وحُرِّم تحريمًا مؤبدًا .
وأجمع السَّلف والخلف على تحريمها ، إلا ما روي عن ابن عباس ، ورُوي عنه : أنَّه رجع عنه ، وإلاَّ الرافضة ، ولا يُلْتَفَتْ لخلافهم ؛ إذ ليسوا على طريقة المسلمين .
وأجمعوا : على أنَّ نكاح المتعة متى وقع فسخ قبل الدّخول وبعده ، إلا ما حُكي عن زُفَر ، فإنه يُلْغي الأجل ، ويصحَّحُ العقد ، وكأنَّه رأى : أنه متى فسد ألغي الشرط ؛ وَحَكَمَ بالصحة . وهو خلافٌ شاذٌّ .
واختلف أصحابنا إذا دخل في نكاح المتعة هل يُحَدُّ ولا يُلْحَقُ به الولد ؟ أو يُدْفَعُ الْحَدُّ بالشبهة ، ويُلْحَقُ الولدُ ؟ على قولين ، ولكن يُعَزَّر ويُعاقب . وإذا تقررت هذه المقدِّمة فلنبحث عن ألفاظ الأحاديث الواقعة في هذا الباب .
وقوله : (( ألا نستخصي )) ؛ أي : نستدعي من يفعل الخصاء ، أو نحاول ذلك بأنفسنا . وقد تقدَّم تفسير الخصاء .
وقوله : (( فنهانا عن ذلك )) ؛ هذا النهي على التحريم . ولا خلاف في تحريم ذلك في آدم ؛ لما فيه من الضرر وقطع النّسْل ، وإبطال معنى الرجولية . وهو في غير بني آدم ممنوع أيضًا في الحيوان ، إلا لمنفعة حاصلة في ذلك ، كتطييب اللحم ، أو قطع ضرر ذلك الحيوان . وسيأتي لهذا مزيد تفصيل.
وقوله : (( رخَّصَ لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل )) ، وفي حديث جابر : (( بالقبضة من التمر والدقيق )) ، وليس في هذا حجه لمن قال : إن الصداق لا يتقدّر أقلُّه بمقدار ، وهو قول الشافعي ؛ لأن هذا الحديث كلَّه منسوخ ؛ ولأن ذلك للضرورة وعدم الوجدان لأكثر منه ، ولإمكان أن تساوي القبضةُ من الدّقيق أو التمر أقل الصداق على قول من يحدّده ؛ لأن تلك الأوقات أوقات المجاعات والشدائد ، وكان نكاح المتعة ينفسخ بحلول الأجل ، من غير طلاق ، ولا يجب به ميراث . وقد قدّمنا الكلام على هذا في باب المتعة في الحج .
(12/127)
واستدلال عبدالله بن مسعود على إباحته بقوله : { لاتحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ، لا حجّة فيه ؛ لأن الله تعالى هو الذي حَرَّمَ نكاح المتعة لا نحن . وكأنَّه ما كان إذ ذاك بَلَغَه الناسخ ، وبعد ذلك بلغه ، ورجع عن ذلك .
وقول جابر : (( كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر - في رواية - : وعمر )) ؛ ظاهر هذا : استمرار العمل عندهم ، وفي أعصارهم على نكاح المتعة ، واشتهار ذلك إلى أن نهى عنه عمر . وهذا مخالفٌ لأكثر أحاديث هذا الباب ، كما ذكرناه. والصحيح الأوّل ، كما ذكرناه . وهذا محمول من جابر على إخباره عن لم يبلغه الناسخ كابن عباس ، فاستمر على التمسك بالإباحة الأولى في هذه الأعصار ، إلى أن أوضح عمر وعبد الله بن الزبير أن ذلك منسوخ ، وتقدما في ذلك ، وتوعَّدا عليه بالرجم ، فتبين الصبح لذي عينين ، وضاءت الشمس لسليم الحاسّتَيْن . وكان شأن عمرو بن حريث : أنّه تزوج امرأةً نكاح المتعة ، وأنه استمر عليها إلى زمان خلافة عمر ؛ لأنه لم يسمع الناسخ ، فحملت منه ، فأُنْهِيَ أَمْرُهُ إلى عمر ، فنهي عن ذلك. وقد تقدّم القول على قول جابر : (( فعلناها مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) في باب متعة الحج .
ومن باب نسخ نكاح المتعة
وغزوة أوطاس هي : غزوة حنين ، على ما قاله أبو عمر ، وكانت غزوة حنين بعد فتح مكة بأيام ، وذلك : أن فتح مكة كان لعشر بقين من شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة ، وكانت وقعة حنين في أول شوال من السنة المذكورة .
وقوله : (( رخَّصَ لنا في المتعة ثلاثًا )) ، وفي حديث سبرة : (( فكنّ معنا ثلاثًا )) ؛ يدلُّ على قِصَرِ مدّة الرخصة ، وأنه لم تكن إلا ثلاث ليال لا غير.
(12/128)
و (( الدَّمامةُ ))- بالدال المهملة - هي : دِقة في الْخَلق ، وقُبْحٌ في المنظر. و(( الجديد )) : الغضُّ الذي عليه نضارة الجدَّة ، وغضارتها . والغضُّ من التفاح : الطَّريّ ، المتناهي طيبًا . و(( البكرة )) : الفتيَّة من الإبل ؛ شبهها بها لقوتها ، وعبالتها . و(( العَنَطْنَطَة : الطويلةُ العنق باعتدالٍ وحُسنٍ ، وهي : العيطاء أيضًا ؛ كما جاء في الرواية الأخرى . والعنقاء ، والعطبول نحوه . وفي "الأم" : (( بُرْدُ هذا خَلِقٌ مُحٌ )) بالميم والحاء المهملة المشددة ، وهو الدَّارس ، المتغير من القدم . و(( العِطف )) بكسر العين : الجانب . وكأنها تتبختر ، وتُزْهَى بنفسها.
وقوله : (( فلم أخرج حتى حرَّمها )) ؛ يعني : من مكة ، وهذا نصٌّ صريح في التحريم بعد الإباحة .
وقوله : (( ثم أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفراقهن )) ، وفي الرواية الأخرى : ((من كان عنده منهنّ شيءٌ فلْيخلِّ سبيلها )) ؛ هذا ردٌّ على زُفْر ؛ إذ صَحَّح العقد ، وأبطل الشرط ، وهو حجة للجمهور على قولهم : (( إنه يُفْسخُ على كل حال )).
وقوله : (( ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا )) ؛ يعني : لأنهن قد استحققن ذلك بالدّخول عليهن .
وقوله(@) : (( بين الركن والباب )) ؛ يعني : الحجر الأسود . وهذا كان يوم الفتح كما قاله في الرواية الأخرى . ويمكن أن يقال : لا تناقض بين هذا وبين ما رُوي من تحريم نكاح المتعة يوم حنين ، وفي حجّة الوداع ، ويوم الفتح ، وفي غزوة تبوك ؛ لأن ذلك محمولٌ على أنّه كرَّر تحريمها في هذه المواطن كلها توكيدًا لها ، وزيادة في الإبلاغ .
(12/129)
وقوله : (( يُعَرِّضُ بِرَجُلٍ )) ؛ يعني به : ابن عباس ، وكان إذ ذاك قد عَمِي ، وكان هذا من عبدالله زمن إمارته ، وإنما قَذَعَه ابنُ الزبير بهذا القول ؛ لظهور الناسخ لنكاح المتعة ، وشهرة الأحاديث في ذلك ، فكأنَّه نسبه إلى التفريط . وكان عبدالله بن عبَّاس في آخر عمره قَلَّ ما يُصغي لمن يحدّث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كما تقدّم من قوله : (( فلما ركب الناس الصعب والذلول لم يأخذ من الناس إلا ما يعرف )). وكان قد عرف الإباحة فاقتصر عليها ، ولم يُصْغِ إلى غيرها . كما قال : (( لقد كانت تفعل على عهد إمام المتقين رسول رب العالمين ، رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
و (( الجِلْفُ )) و((الجافي )) هما بمعنى واحد ؛ قاله ابن السكيت وغيره. وكرَّرَهما لفظًا لاختلافهما على عادة العرب في ذلك ، وعليه حملوا : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } ، وأصل الجلف : الشاة المسلوخة بغير رأس ولا قوائم ، قاله القُتبي والهروي .
و (( التائه )) : الحائد عن مقصوده ، الحائر .
وقوله : (( لئن فعلتها لأرجمنَّك بأحجارك )) ؛ حُجَّةٌ لأحد القولين المتقدمين في أن من نكح نكاح المتعة أقيم عليه الحدّ . ويحتمل أن يُحمل على الإرهاب والتغليظ . وكِنَايَتُهم عن ابن عباس في هذه المسألة بـ(( رجل)) سترٌ منهم له ؛ لأجل هذه الفتيا التي صدرت عنه ، فإنها ما كانت تليق بعلمه ، ولا بمنصبه في الفضل والدين . وإنكار علي ، وابن الزبير ، وغيرهما ، وإغلاظهم عليه ، ولا منكر عليهم ، يدلُّ على أن تحريم ذلك كان عندهم معلومًا .
وقول ابن عباس : (( لقد فُعِلَتْ على عهد إمام المتقين )) ؛ تنبية منه : على أنه لو كانت المتعة مِمّا يُتَّقَى : لكان النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى بتقاةِ ذلك ، فإنه أتقى لله ، وأخوف من كل مُتِّقٍ .
(12/130)
وقول ابن أبي عمرة هو الحق الصريح ، كما شهدت له الأحاديث الصحيحة المتقدمة . وقول عليّ ـ رضى الله عنه ـ : (( إنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن المتعة يوم خيبر ، وعن أكل لحوم الحمر الأَنَسِيَّة )) ؛ إلى ظاهر هذا ذهب جمهور العلماء ، فحكموا بتحريم المتعة على ما قدّمناه ، وبتحريم الحمر الأهلية ؛ إلا أنه رري عن ابن عباس ، وعائشة ، وبعض السَّلف إباحة ذلك ؛ أعني : الحمر. وقد اختلف عنهم في ذلك . واختلف عن مالك ، هل ذلك النهي محمول على التحريم ، أو على الكراهية ؟ وسيأتي استيفاء هذا المعنى في كتاب الأطعمة ، إن شاء الله تعالى .
و (( الأَنَسِيَّةُ )) ؛ جمهور الرواة على فتح الهمزة والنون ، ورواه جماعة : بكسر الهمزة وسكون النون ، قال القاضي : والأنس - بفتح الهمزة - : الناس ، وكذلك بكسرها . قلت : وعلى هذا فتكون النسبتان قياسيتين ، ودّ على ذلك قول الجوهري : الإنس : البشر ، الواحد : إِنْسِيٌّ ، وأَنَسِي . وهذا هو الصحيح .
ومن باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها
قوله : (( لا يجمع بين المرأة وعمتها ، ولا بين المرأة وخالتها )). لا يجمع - برفع العين - هي الرواية على الخبر عن المشروعية ، فيتضمّن النهي عن ذلك . وهذا الحديث مجمع على العمل به في تحريم الجمع بين من ذكر فيه بالنكاح . وكذلك : أجمع المسلمون على تحريم الجمع بين الأختين بالنكاح ؛ لقوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين } ، وأمَّا بملك اليمين ؛ فروي عن بعض السَّلف جوازه ، وهو خلاف شاذٌّ استقر الإجماع بعده على خلافه . وأجاز الخوارج الجمع بين الأختين ، وبين المرأة وعمتها ، وخالتها . ولا يُعتد بخلافهم ؛ لأنهم مرقوا من الدِّين ، وخرجوا منه ؛ ولأنهم مخالفون للسُّنة الثابتة في ذلك.
(12/131)
وقول ابن شهاب : (( فنرى خالة أبيها ، وعمة أبيها في تلك المنزلة )) ؛ إنما صار ابن شهاب إلى ذلك ؛ لأنه حمل الخالة والعمّة على العموم ، وتَمَّ له ذلك ؛ لأن العَمَّة : اسم لكل امرأة شاركت أباك ني أصْلَيْه ، أو في أحدهما . والخالة : اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها ، أو في أحدهما .
وقد عقد علماءنا فيمن يحرمُ الجمع بينهما عقدًا حسنًا ، فقالوا : كل امرأتين بينهما نسب ؛ بحيث لو كانت إحداهما ذكرًا لحرمت عليه الأخرى ، فلا يجمع بينهما . وإن شئت أسقطَّت بينهما نسب .
وقلت بعد قولك : لو كانت إحداهما ذكرًا لحرمت عليه الأخرى من الطرفين . وفائدة هذا الاحتراز مسألةُ نكاح المرأة وربيبتها ؛ فإن الجمع بينهما جائز ، ولو قدرت امرأة الأب رجلاً لحلّت له الأخرى . وهذا التحرّز هو على مذهب الجمهور المجيزين للجمع بين المرأة وربيبتها ، وقد منعه الحسن ، وابن أبي ليلى ، وعكرمة . وعلّل الجمهور منع الجمع بين من ذكرناه ؛ لما يُفْضِي إليه الجمع من قطع جمع الأرحام القريبة ؛ لما يقع بين الضرائر من الشَّنَئان والشرور بسبب الغَيْرة .
(12/132)
وقد شهد لهذا التعليل ما ذكره أبو محمد الأصيلي في "فوائده" ، وأبو عمر بن عبد البر ، عن ابن عباس قال : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتزوج الرجل المرأة على العَمَّة ، أو على الخالة . وقال : (( إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم )). ومن مراسيل أبي داود عن حسين بن طلحة قال : (( نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تنكح المرأة على أخواتها مخافة القطيعة )). وقد طرد بعض السلف هذه العلة ، فمنع الجمع بين بنتي العمَّتين والخالتين ، وبنتي الخالين والعمّين )). وجمهور السلف وأئمة الفتيا على خلافه ، وقصر التحريم على ما ينطلق عليه لفظ العمّات والخالات . وقد روى الترمذي حديث أبي هريرة هذا وقال فيه : (( إنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن تُنكح المرأة على عمتها ، أو العمّة على ابنة أخيها ، والمرأة على خالتها ، أو الخالة على ابنة أختها ، ولا تنكح الصغرى على الكبرى ، ولا الكبرى على الصغرى )). وقال : حديث حسن صحيح . وهو مَسَاق حسن بيِّن ، غير أن فيه واوًا اقتضت إشكالاً ، وهي التي في قوله : (( ولا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى )) ، وذلك : أنَّه قد ذكر العَمَّة ؛ وهي الكبرى ، وابنة أخيها وهي الصغرى ، والخالة وهي الكبرى ، وابنة أخيها وهي الصغرى ، ثم أتى بالنهي عن إدخال إحداهنَّ على الأخرى ، طردًا وعكسًا .
ويرتفعُ الإشكال بأن تُقدَّر الواو زائدةً . ويكون الكلام الذي بعدها مؤكِّدًا لما قبلها ، ومؤيدًا له .
وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا : نهى أن يجمع بين العَمَّة والخالة ، وبين العمتين والخالتين . قال ابن النحاس : الواجب على لفظ هذا الحديث : ألا يجمع بين امرأتين ، إحداهما عمة الأخرى ، والأخرى خالة الأخرى .
وهذا يخرج على وجه صحيح. وهو : أن يكون رجل وابنه تزوجا امرأة وابنتها ؛ تزوج الأب البنت والابن الأم ، فولدت كل واحدة منهما بنتًا ، فابنة الأب عمة ابنة الابن ، وابنة الابن خالة ابنة الأب .
(12/133)
وأما الخالتان : فأن يتزوج كل رجل ابنة رجل ، ويتزوج الثاني ابنة الأول ، فيولد لكلِّ منهما ابنة ، فابنة كل واحد منهما خالة للأخرى.
وأما العمتان : فأن يتزوج رجل أم رجل ، ويتزوج الآخر أم الآخر ، ثم يولد لكل واحد منهما ابنة ، فبنت كل واحد منهما عمة الأخرى .
وقوله : (( ولا تسال المرأة طلاق أختها لتكتفئ صحفتها )) ؛ قال الهروي : تكتفئ : تفتعل ، من كفأتُ القدر : إذا فرّغتها . وهذا مثلُ لإمالة الضرّة حق صاحبتها من زوجها إلى نفسها . وقال الكسائي : أكفات الإناء : كَبَبْتُه . وكفأته : أملتُه . وقيل : هو كناية عن الجماع ، والرغبة في كثرة الولد . والأول أولى .
وقوله : (( ولتنكح ، فإنما لها ما كتب الله لها )) ؛ يعني أنها تنكح ولا تشترط طلاق الضرّة ، فإن الله تعالى إن كان قد قدر أن تنفرد بذلك الزوج وصلت إلى ذلك ، وإن لم يقدّره لم ينفعها الشرط . فقد يطلق الضّرّة ، ثم يردّها ، فلا يحصل للمشترطة مقصودها .
وقوله : (( لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب )) ؛ لا خلاف في منع الْمُحْرم من الوطء . والجمهور على منعه من العقد لنفسه ، ولغيره ، ومن الخطبة كما هو ظاهر هذا الحديث ، وكما دلّ عليه قوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث } ؛ على أحد التأويلات المتقدمة في كتاب الحج . وذهب بعضهم : إلى أنه يجوز للمحرم ذلك تمسُّكًا بحديث ابن عباس : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوج ميمونة وهو محرم . وهذا لا حجة فيه لأوجه :
أحدها : أن هذا الحديث مما انفرد به ابن عباس دون غيره من كبار الصحابة ومعظم الرواة.
وثانيها : إنكار ميمونة لهذا ، وإخبارها بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوج بها وهو حلال ، وهي أعلم بقصَّتها منه .
وثالثها : أن بعض أهل النقل والسِّير حكوا : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث مولاه أبا رافع من المدينة ، فعقد نكاحها بمكة بوكالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له على ذلك ، ثم وافى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ محرمًا ، فبنى بها بسَرِف حلالاً ، وأشتهر تزويجها بمكة عند وصوله إليها .
(12/134)
ورابعها : أن قول ابن عباس : (( وهو محرم )) ؛ يحتمل أن يكون دخل في الحرم ، فإنَّه يقال : أحرم ؛ إذا دخل في(@) الحرم ، واسم الفاعل منه : مُحْرِم ؛ كما يقال : أَنْجَد ، وأنَّهَمَ . وهو مُنْجِد ، ومُتْهِم ؛ إذا دخل ذلك .
وخامسها : تسليم ذلك كلّه ، وادعاء الخصوصية بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد ظهرت تخصيصاته في باب النكاح بأمور كثيرة ؛ كما خُصَّ بالموهوبة ، وبنكاح تسعٍ ، وبالنكاح من غير ولي ، ولا إذن الزوجة ؛ كما فعل مع زينب ، إلى غير ذلك .
وسادسها : أن هذه حكاية حال واقعة معينة ، تحتمل أنواعًا من الاحتمالات المتقدّمة .
والحديث المقتضي للمنع ابتداء تقعيد قاعدة وتقريرها ، فهو أولى على كل حال ، والله الموفق .
ومن باب النهي عن خِطْبَةِ الرجل على خِطْبَةِ أخيه
الخِطْبة - بالكسر - : هي استدعاء التزويج والكلام فيه ، يقال منه : خطبت المرأة خطبة - بالكسر - : طلبتها منه. والْخُطْبة -بالضم - : هي كلام الخطباء . ومن كلام علمائنا : تستحب الْخُطبةُ - بالضّم - عند الخِطْبة - بالكسر -.
وهذه الأحاديث التي جاء فيها النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه ظاهرها العموم ، لكن قد خصَّصها أصحابنا بحديت فاطمة بنت قيس الذي يأتي ذكره في الطلاق. وذلك : أنها لَمّا انقضت عدتُها أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت : إن أبا جهم بن حذيفة ومعارية خطباني . فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما سيأتي ذِكْرُه .
وهذا يدلّ : على جواز الخِطبة على الخِطبة ، لكن جمعَ أئمتنا بين الحديثين بان حملوا النهي على ما إذا تقاربا وتراكنا . وحملوا حديث الجواز على ما قبل ذلك . وهي طريقة حسنة ؛ فإن فيها إعمال كل واحد من الحديثين ، ومراعاة للمعنى . فإن المفسدة إنما تحصل بتأكد التراكن .
(12/135)
واختلف أصحابنا في التراكن ما هو ؟ فقيل : هو مجرّد الرِّضا بالزوج ، والميل إليه ، وقيل : تسمية الصَّداق . وهذا عند أصحابنا محمول على ما إذا كانا شكلين . قال ابن القاسم : لا أرى الحديث إلا في الرجلين المتقاربين ، فأمَّا صالِحٌ وفاسقٌ فلا . قال ابن العربي : لا ينبغي أن يختلف في هذا . وقال الشافعي : إنما النهي فيما إذا أذنت المرأة لوليها أن ينكحها من رجل مُعيَّن .
قلت : وهذا فيه بُعدٌ ، فإنه حمل العموم الذى قُصِد به تقعيد قاعدة على صورة نادرة . وهذا مثل ما أنكره الشافعي على أبي حنيفة ؛ إذ حمل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا نكاح إلا بولي )) على المكاتبة . وتحقيقه في الأصول .
والقول في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يبع أحدكم على بيع أخيه )) ؛ محمول على مثل ما تقدّم في قوله : (( لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه )).
وقد حمله بعض العلماء على ظاهره وعمومه ، حتى كره بيع المزايدة خوفًا من الوقوع في ذلك . وهذا ليس بصحيح ؛ فأن الله قد أحل البيع مطلقًا ، وقد باع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنفسه بيع المزايدة على ما في كتاب أبي داود : إذ أخذ في يده حِلْسًا وقَدَحًا كانا لرجل سأله صدقة ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من يشتري مني هذا بدرهم ؟ )) فقال رجل : هو لي بدرهم . فقال : (( من يشترى مني(@) هذا بدرهمين ؟ )) فقال آخر : هو لي بدرهمين. فباعه منه ، ثم دفعهما لصاحب الحِلْسِ والقدح . وسيأتي الحديث في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى .
فإذا خرج بيع المزايدة عن المنع ، فلم يبق إلا أن يحمل على ما إذا تقاربا وتراكنا .
واختلف فيما إذا وقعت الخِطبة على الخِطبة ، والبيع على البيع . فذهب جُلُّ أصحابنا ، والكوفيون إلى إمضاء العقد . وذهب داود وبعض أصحابنا إلى نسخه . وقد رُوِيَ القولان لمالك والشافعي على ما شرح من مذهبه .
وقول ثالث فى النكاح : الفسخ فيه قبل البناء ، والامضاء بعده . وهو لأصحابنا . ولا خلاف في أن فاعل ذلك عاصٍ ، آثم .
(12/136)
وقوله : (( لا يبيع )) و(( لا يسم )) ؛ قد يصحُّ أن يحملا على معنى واحد. فيقال : سُمْت ؛ بمعنى : بعت ، ويصحّ أن يحمل : سُمْتُ على اشتريت ، فيكونان متغايرين ؛ أعني : بعتُ ، وسمتُ . على أنَّ : بعتُ واشتريتُ يدخل كل واحد منهما على الآخر ؛ فيقال : بعتُه ؛ بمعنى : اشتريته ، وشريْتُه ؛ بمعنى : بِعْتُه . وكذلك : سُمْتُ . وسيأتي لهذا مزيد بيان في البيوع إن شاء الله .
وقوله : (( الْمُؤْمن أخو الْمُؤْمن ، فلا يحل له أن يبتاع على بيع أخيه )) ، تنبيه على صحة هذا المعنى الذي أبديناه ، فإنه أتى فيه بالأخوة الإيمانية ، ثم علَّق فَاءَ التعليل بها .
و (( يذر )) ؛ أي : يترك . وهو من الأفعال التي لم يستعمل منها إلا لفظ المضارع والأمر . فلا يقال : وَذِرَ ، ولا : وَذْرًا ، ولا : وًاذِرًا . اكتفوا عن ذلك بـ (( تَرَكَ )) ، وفيه إشعارٌ بصحة ما قلناه من التعليل بالرُّكون ، فإنه لا يترك الشيء إلا من تشبّث به . وأوّل التشبث بهذه العقود التراكن من المتعاقديْن ، أو أحدهما .
وقوله : (( نهى عن الشِّغار )). الشِّغار : مصدر : شاغر ، يشاغر ، شغارًا . وهو مفاعلة مما لا يكون إلا بين اثنين . قال بعض علمائنا : إن الشغار كان من أنكحة الجاهلية ، تقول : شاغِرْنِي وَلِيَّتي بوليّتك ؛ أي : عاوضني جماعًا بجماع . وقال أبو زيد : شغرت المرأة : رفعت رجليها عند الجماع . قال ابن قتيبة : كُلُّ واحدٍ منهما : يشغر : إذا نكح . وأصله : الكلب إذا رفع رِجْلَه ليبول . وقيل : إنه مأخوذ من : شَغَرَ البلد : إذا بَعُد . وقيل : من : شَغَر البلدُ : إذا خلا .
قلت : وتصح ملاحظة هذه المعاني في الحديث ، وحملُه عليها . لكن منها ما يبعد عن صناعة الاشتقاق . ومنها ما يقرب . وأقربها القول الأول .
(12/137)
ولا خلاف بين العلماء في منع الإقدام عليه ، لكن اختلفوا فيما إذا وقع ، هل يفسخ أبدًا وإن دخل ؟ فحكى ابن المنذر ذلك عن الشافعي ، وأحمد ، واسحاق ، وأبي نور ، وهو أحد قولي مالك . أو هل يصحُّ وإن لم يدخل ؟ وهو قول عطاء ، وعمرو بن دينار ، ومكحول ، والثوري ، والزهري ، وأصحاب الرأي قالوا : يصحّ ويُرجع فيه إلى صداق المثل . وهل يُفسخ قبلُ ويفوت بالدخول ويثبت بَعد ؟ وهو قول الأوزاعي ، وأحد قولي مالك .
وموجب هذا الخلاف : اختلافهم في : هل هذا النهي راجع لعين العقد ؛ فيكون فاسدًا أبدًا ؛ لأن كل واحد من الزوجين مقصود عليه ، ومعقود به . وهما متناقضان ؟ أو هو راجع إلى إخلاء العقد من الصداق ؟ وهو أمر يُتدارك بفرض صداق المثل ، كنكاح التفويض ؟ وأمّا وجه الفرق فهو : أن إيقاع العقد على غير الوجه المنهي عنه ممكن قبل الدخول فيفسخ ، فيستأنفان عقدًا جائزًا . فأما إذا دخل ؛ فقد فات ، فيُرجع فيه إلى صداق المثل .
وقوله : (( لا شغار في الإسلام )) ؛ أي : لا صحة لعقد الشغار في الإسلام ، وهو حُجَّةٌ لمن قال بفساده على كل حال ، وهو ظاهر هذه الصيغة ؛ كقوله : (( لا صيام لمن لم يبيت الصيام )) ، و: (( لا عمل إلا بنية )) ، و: (( لا رجل في الدار )) ؛ فإن الظاهر من هذه الصيغة نَفْي الأصل والصحة ، ونَفْي الكمال محتمل فلا يصار إليه إلا بدليل ، كما بيَّنَّاه في قوله : (( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد )).
وقد جاء تفسير الشِّغار في حديث ابن عمر من قول نافع ، وجاء في حديث أبي هريرة من كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي مساقه . وظاهره الرفع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وبحتمل أن يكون من تفسير أبي هريرة ، أو غيره من الرواة ، أعني : في حديث أبي هريرة . وكيفما كان فهو تفسير صحيح موافق لما حكاه أهل اللسان . فإن كان من قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو المقصود ، وإن كان من قول صحابي فمقبول ؛ لأنهم أعلم بالمقال ، وأقعد بالحال.
(12/138)
وقوله : ((إن أحق الشروط أن يُوفَّى به ما استحللتم به الفروج )) ؛ لا تدخل في هذا الشروط الفاسدة ؛ لأنها لا يستحل بها شيء ؛ ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط )) ؛ فإذا : المراد من الشروط ما كان جائزًا ، ثم هي على ضربتن : ما يرجع إلى الصَّداق ، وما يكون خارجًا عنه .
فالأول لا بد ّ من الوفاء به ؛ كشَّورة ، ووَصِيف ، وغير ذلك .
والثاني هو : ما يكون خارجًا عنه ؛ مثل : ألا يخرجها من بلدها ، أو لا يتزوّج عليها ، أو لا يفرق بينها وبين أولادها ، وما أشبه ذلك.
فهذا النوع إن علَّقه على طلاق أو عتق لزم اتفاقًا عند من يقول بتنفيذ الطلاق والعتق الْمُعَلَّقَيْن على التزويج والْمِلك . وهو مشهور مذهب مالك . فإن لم يعلَّق عليه ذلك ؛ فقيل هو لازم يُخبر عليه من أَبَاهُ للحديث . وقيل : يُستحبُّ الوفاء به ، ولا يُجبر عليه ، وهو مذهب مالك .
واختلفوا فيما إذا اشترط المنكح حباءً لنفسه غير الصداق ، وهو المسمى عند العرب : بالحلوان . فقال قوم : هو للمرأة مطلقًا . وله قال عطاء ، وطاووس ، وعكرمة ، وعمر بن عبدالعزيز ، والثوري ، وأبو عبيد.
وقال آخرون : هو لمشترطه . وبه قال علي بن الحسين ، ومسروق ، وشرطَ عشرة آلاف ؛ يجعلها في الحجّ ، والمساكين لَمّا زوج ابنته . وقيل : هذا مقصورٌ على الأب خاصة للتبسُّط في مال ولده.
وقال الشافعي : لها مَهْرُ مثلها . وقال مالك : إن كان هذا الاشتراط في حال العقد ، فهو للمرأة لاحقٌ بصداقها . وإن كان بعده فهو لمن وهب له . وفيه تفريعٌ يُعْرفُ في كتب أصحابنا .
(12/139)
ويشهد لمذهب مالك ما خرَّجه أبو داود عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( أيُّما امرأة نكحت على صَّداق أو حباء ، أو عدة ، قبل عصمة النكاح فهو لمن أعطيه ، وأحق ما أكرم عليه الرَّجل ابنته أو أخته )) ؛ يعني : لمن يعطيه المرأة ؛ بدليل قوله : ((على صَّداق )) ، فإن الصَّداق لا يكون إلا للمرأة ، وكذلك ما ذكر معه من الحباء والعدة .
وقوله : (( أحق ما أكرم عليه الرَّجل ابنته )) ؛ استئناف كلام يقتضي الحضَّ على إكرام الوليّ تطييبًا لنفسه ، والله أعلم .
ومن باب استئمار الثيب
قوله : (( الأيِّمُ أحقُّ بنفسها من وليِّها )) ؛ اتفق أهل اللغة على أن الأيِّم في الأصل : هي المرأة التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا . ومنه قوله تعالى : { وأنكحوا ألأيامى منكم }. تقول العرب : تَأَيَّمَت المرأة : إذا أقامت لا تتزوّج . ويقال : أيِّمٌ بَيِّنَةُ الأيْمَةِ ، وقد آمَتْ هي ، وإمْتُ أنا . قال الشاعر :
لقد إمْتُ حتى لامنِي كُلُّ صاحب رجاء سُلَيْمَى أن تَئِيمَ كما إِمْتُ
قال أبو عبيد : يقال : رجل أَيِّمٌ ، وامرأة أَيِّم . وأكثر ما يكون في النساء ، وهو كالمستعار في الرِّجال .
قلت : والأيّم في هذا الحديث هي : الثَّيِّب ؛ بدليل الرواية المفسِّرة التي جعل فيها الثَّيب مكان الأيِّم ، وبدليل : أنها قوبل بها البكر ، وفُصِلَ بينهما ، فأُعْطيت كلُّ واحدة منهما حكمهما . وهذا واضح جدًّا .
وعليه فلا مبالاة بما يقوله الكوفيون وزفر والشعبي في هذا الحديث ؛ من أنَّ المراد بالأيَّم : التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا. مستدلين به على أن الولي ليس بشرط في النكاح ، بل للمرأة أن تُنْكِح نفسها بغير ولي ، بكرًا كانت أو ثيبا إذا بلغت . وحملوا قوله : (( أحق )) على العقد ؛ أي : هي أحقُّ من وليها بالعقد عليها .
(12/140)
وهذا لا يصح ؛ لما ذكرناه ؛ ولأن مقصود الحديث بيانُ حنهم الثَّيب والأبكار بالنسبة إلى سماع الإذن. فالثيب تُعْرِبُ عن نفسها ؛ أي : تنطق بنفسها مرادها ، ولا يُكتفَى منها بالسكوت . والبكر يُكتفَى منها بالسكوت . فقوله : ((أحق بنفسها )) ؛ أي : تنطق بنفسها ، ولا ينطق الوليُّ عنها .
ثم نقول : بل هذا الحديث حُجَّةٌ للجمهور في اشتراط الوليِّ ؛ بدليل صحة ما وقعتْ فيه المفاضلة . وبيان ذلك : أنَّ (( أَفْعَلَ مِنْ كذا )) ، لا بدَّ فيها من اشتراك في شيء مما وقع فيه التفاضل ؛ فإنك إذا قلت : فلان أعلم من فلان . اقتضى ذلك اشتراكهما في أصل العلم ، وانفراد أحدهما بمزية فيه ؛ وكذلك قوله : (( أحق )) لا بدَّ فيه أنّ يشاركها الوليُّ في حَقِّيَّةٍ ما ، فإذًا : له مدخل . ثم وجدنا في الشريعة مواضع كثيرة تدلّ على أن ذلك المدخل هو شرط في صحة النكاح :
فمنها قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم} ، ووجه الاستدلال بها : أنه خطابٌ للأولياء والسَّادة بالعقد على من يكون عليهم ، وقد سَوَّى بينهما بالخطاب . فكما أنه لا ينعقد النكاح على أَمَةِ الغير إلا بولاية سيدها ، فكذلك لا ينعقد نكاح الحرَّة إلا بإذن وليّها ؛ ضرورة التسوية بين النوعين في حكم الخطاب . وهو واضح جدًّا .
ومنها قوله تعالى : { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف } ، والاستدلال بها من وجهين :
أحدهما : نهيه عن العَضْل . فلولا أن له مدخلاً في الولاية لَمَا صح له العَضْل .
وثانيهما : تعليقُ النَّهي عّن العَضْل على تراضي الأزواج بالمعروف . فإنْ لم يتراضوا به فللولي العضل . وسيأتي الكلام على هذه الآية عند ذكر حديث معقل بن يسار ـ رضى الله عنه ـ ، وفيه : لما أنزل الله الآية قال معقل : الآن أفعل . فزوَّجها إيَّاه ، مع أنها كانت مدخولاً بها .
(12/141)
ومنها : الحديث الذي ذكره الدارقطني ، وصحّحه من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( لا تزوِّج المرأة المرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها )). قال : هذا صحيح .
ومنها : ما خرَّجه أبو داود من حديث أبي موسى مرفوعًا ، قال : (( لا نكاح إلا بوليّ )).
وفيه : عن عائشة قالت : قال رسول الله : (( أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل - ثلاث مرَّات - ، فان دخل بها فالمهرُ لها بما أصاب منها ، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له )). وهذه أحاديث مشهورة صحيحة عند تحقيق النظر فيها. ولا يلتفت إلى شي مما ذكر فيها ، كما ذكر من أن حديث عانشة تفرّد به سليمان بن موسى ؛ فإنه إمام ثقة ، وهو الأشدق ، ولم يكن في أصحاب مكحول أحفظ منه . قال البزار : هو أحفظ من مكحول . وقال : هو أَجَلُّ من ابن جريج . وكما قيل عن ابن جُرَيْج : أنه سأل ابن شهاب عن هذا الحديث فأنكره . وهذا لا يلتفت إليه ؛ لأن هذه الحكاية أُنْكرت على ابن عليَّة ، وهو الذي أوردها ، ولو صحّتْ ، فلم ينكر ابن شهاب الحديث إنكار قطع بتكذيبه ، بل إنكار ناسٍ ، والراوي عنه ثقة إمام جازم بالرواية ، فينبغي للزهري أن يقول : حدثني فلان عني بكذا ، كما قد حكي عنه : أنه قال فى مثل هذا : حدثني مالك عني . وكل هذا نسيان ، وليس بدعًا في الإنسان . وبسط الكلام فيه في كتب الخلاف .
وكل ما ذكرناه أيضًا حُجَّة على من قال : إن صحة عقد النكاح
موقوفة على إجازة القاضي ، وبه قال الأوزاعي ، ومحمد بن الحسن ، وأبو يوسف . وأنَصُّ ما في الردّ على هؤلاء حديث معقل .
(12/142)
وقوله : (( والبكر تستأمر )) ؛ هكذا وقع في حديث ابن عباس ، وفي حديث أبي هريرة : (( الأيِّم تستأمر ، والبكر تستأذن )) ، وهو أتقن مساقًا من حديث ابن عباس ؛ لأن (( تستأمر )) معناه : يُستدعى أمرها. وهذا يظهر منه أن يصدر منها بالقول ما يُسَمَّى : أمرًا . وهذا متمكن من الثيّب ؛ لأنها لايلحقها من الخجل ، والانقباض ما يلحق البكر . فلا يكتفى منها إلا بنطق يدلّ على مرادها صريحًا . وأمّا (( تستأذن )) فإنه يقتضي أن يظهر منها ما يدلّ على رضاها وإذنها بأي وجه كان ، من سكوت ، أو غيره ، ولا تُكلَّف النُّطْق ؛ ولذلك لما قال في حديث ابن عباس : (( لا تنكح البكر حتى تستأذن )) أشكل ، عليهم كيفية إذنها ، فسألوا فأجيبوا : بأنَّ إذنها : أن تسكت . وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مراعاة لتمام صيانتها ، ولإبقاء حالة الاستحياء ، والانقباض عليها ، بأن ينظر لها في ذلك المحل ما هو أصون لها ، وأليق بها ، فإنها لو تكلمت تصريحًا لظن أن ذلك رغبة منها في الرجال . وهذا غير لائق بالبكر ، بل هو مُنْقِصٌ لها ، ومُزَهِّدٌ فيها ، بخلاف الثَّيب .
وقد استحب علماؤنا أن تُعَرَّف البكر أن سكوتها محمود منها على الإذن ، ليكون ذلك زيادة في تعريفها ، وتنبيهًا لها على ما يخاف أن تجهله. وقد كان بعض من لقيناه من الفقهاء يقول لها بعد عرض الزوج والمهر عليها : إن كنتِ راضية فاصمتي ، وإن كنت كارهة فتكلَّمي . وهو تنبيةٌ حسن .
(12/143)
وقوله في الرواية الأخرى : (( والبكر يستأذنها أبوها )) ؛ هذه الزيادة من رواية ابن أبي عمر . قال أبو دارد : وليست بمحفوظتن . وعلى تقدير صحة هذه الزيادة ، فمحملُها على الاستحباب ، لا على الإيجاب ؛ بدليل الإجماع المنعقد على أن للأب إنكاح ابنته البِكْر وإجبارها عليه بغير إذنها . وكذلك السيّد في أَمَتِه . وقد أبدى بعض أصحابنا لاستئذان الأب لابنته البكر فائدة ، وهي : تطييب قلبها ، واستعلام حالها ، فقد تكون موصوفةً بما يخفى على الأب مما يمنع النكاح ، فإذا استأذنها أعلمته .
وقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة من طريق صحيحة قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فهو إذنها ، وإن أبت فلا جواز عليها )) ، وفي رواية : (( فإن بكت أو سكتت )). قال : وليس ذلك بمحفوظ .
قلت : ومُفسّر حديث أبي داود مقيدٌ لمطلق البكر ؛ الذي جاء في حديث مسلم وغيره ، ومبيّن أن استئذان الأب للبكر ليس بواجب ، وإنما يجب ذلك في اليتيمة باتفاق .
ثم اختلف القائلون باشتراط الولي ، هل يكتفى في صحة العقد بوجود ولي ، أيِّ وليٍّ كان ، من غير مراعاة لولاية خاصة ولا عامة ، أو لا بدّ من مراعاة الخاصّة على مراتبها ، فإن فقدت رُجع للعامة ؟ قولان :
وللأول ذهب أبو ثور ، وقال : كل مَنْ وَقَعَ عليه اسم وليٍّ فله أن ينكح . وقاله بعض علمائنا . وحكاه ابن المنذر عن مالك . والجمهور على القول الثاني ؛ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل )) ، ثم قال بعد ذلك : (( فإن اشتجروا فالسلطان ولن من لا ولي له )). فاقتضى : أن ولاية القرابة مقدّمة على ولاية السلطان . وإذا كان كذلك كان أحرى أن تكون مُقدَّمة على ولاية الدين ، وهو واضحٌ . ويقول عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ : (( لا تنكح المرأة إلا بإذن وليّها ، أو ذي الرأي من أهلها ، أو السلطان )).
(12/144)
ثم اختلف المرتِّبون فيما إذا أنكح الأبعد مع وجود الأقعد في الولاية الخاصة فيمن يستأذن ؟ على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يفسخ على كل حال . وبه قال المغيرة .
وثانيها : أن الأقعد مخيَّر في فسخه أو إجازته . وعليه جماعة من أصحابنا . ومأخذ خلافهما : أن الفسخ لحقِّ الله ، فلابدّ منه ، أو لحق الولي فله إجازته وفسخه .
وثالثها : أنه ماضٍ ، ولا مقال للولي الخاص . وهو قول مالك . وهو بناءٌ على أنَّ مراعاة المراتب من باب الأَوْلى ، والأحسن ، والله أعلم.
وقول عائشة رضي الله عنها : (( تزوجني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لستِّ سنين )). وفي الرواية الأخرى : وهي بنت سبع سنين . ظاهر هاتين الروايتين الاختلاف . فيمكن أن يقال : إن ذلك تقدير لا تحقيق ، ويمكن أن يقال : إن ذلك كان في أوائل السنة السابعة . فيكون معنى قولها : ((لست سنين )) ، انقضت .
وقولها : (( وهي بنت سبع سنين )) ؛ أي : هي فيها ، والله أعلم .
وهذا الحديث مستند الإجماع على أن الأب يجبر البكر الصغيرة على النكاح . وإذا جاز ذلك في الأنثى التي لا تملك حلَّ العقد عن نفسها ، فلأن يجوز في الصغير ؛ الذي يملك حلَّ العقد عن نفسه عند بلوغه أحرى وأولى . وما ذكرناه جارٍ على مذهب مالك والشافعي ، وفقهاء أهل الحجاز . وأمَّا أهل العراق فقالوا : لها الخيار إذا بلغت ، إلا أبا يوسف ، فإنه قال : لا خيار لها .
(12/145)
ثم اختلفوا في غير الأب ، من وليٍّ أو وصيٍّ ، هل له أن يجبر أم لا ؟ فمنع الجمهور ذلك ؛ غير أن الشافعي جعل الحدَّ بمنزلة الأب ، وغير ما روي عن مالك في الوصي على الإنكاح : أنه يجبر - في أحد قوليه - وهو الذي حكاه الخطَّابي عن مالك ، وعن حمَّاد بن أبي سلمة ، وقاله شريح ، وعروة بن الزبير . والمشهور عن مالك المنع من ذلك . وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والأوزاعي ، وجماعة من السلف بجواز ذلك . وليس بصحيح ؛ لما يختصّ به الأب من فرط الشَّفقة ، والاجتهاد في ابتغاء المصلحة ، فإنه يختصُّ من ذلك بما لايوجد في غيره غالبًا . ويكفي هذا فارقًا مانعًا من الإلحاق .
وقولها : (( وبنى بي وأنا بنت تسع سنين )) ؛ ذهبت طائفة إلى أن بلوغ المرأة إلى تسعٍ يوجب إجبارها على الدخول إذا طلبه الزوج . وبه قال أحمد وأبو عبيد . وقال مالك وأبو حنيفة : حدُّ ذلك أن تطيق الرّجُل ، فإن لم تطق ؛ لم يُمَكَّن الزوج منها ، وإن بلغت التسع . وقال الشافعي : حدُّ ذلك أن تطيق الرّجُل ، وتقارب البلوغ .
وحكم إلزام الزوج النفقة حكم الجبر ، فمتى أجبرناها على الدخول ألزمناه لها النفقة . قال الدَّاودي : وكانت عائشة رضي الله عنها قد شبّت شبابًا حسنًا .
وقولها : (( فقدمنا المدينة فَوُعِكْتُ شهرًا )) ؛ أي : مرضت بالحمَّى ، وكان هذا في أوّل قدومهم المدينة في الوقت الذي وعك فيه أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ وقبل أن يَدْعُوُ النبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمدينة بأن يصحِّحها ، وينقل حُمَّاها إلى الْجُحْفَة ، فلمّا دعا ؛ فعل الله ذلك.
وقولها : (( فوفى شعري جُمَيْمَة )) ؛ أي : بلغ إلى أن صار جُمَّةً صغيرة. وقد تقدم : أنَّ ((الجمَّة )) إلى شحمة الأذن و(( اللمَّة )) للمنكب . وفي كلامها حذف ، وتقديره : فوُعِكْتُ ؛ فسقط شعري ، ثم بَرِئْتُ فوفى جُميمةً .
(12/146)
وقوله : (( فأتتني أُمَّ رُومان )) ؛ أم رُومان - بضم الراء المهملة ، ويقال بفتحها ، والأول أشهر - ، واسمها : زينب بنت عامر الكنانية ، وهي زوج أبي بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ ، وأم ولديه : عبد الرحمن ، وعائشة . أسلمت وهاجرت ، وتوفيت في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ونزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قبرها ، واستغفر لها.
و ((الأرجوحة )) : خشبة يَرْكَبُ على طرفيها صغيران ، فيترجح أحدهما على الآخر(5) تارة ، والآخر أخرى . ويقال : الأرجوحة : حبل
يُعَلَّق ، فيركبه الصبيان ، يلعبون عليه . قاله شيخنا المنذري الشافعي.
و ((صَرَخَتْ بِي )) ؛ أي : صاحتْ صياحًا مُزعِجًا .
وقولها : (( فقلت : هه ، هه )) ؛ هي حكاية عن صوت المنْبَهِر ؛ الذي ضاق نَفَسه ، وذلك أنَّها كانت تتأرجح ، ثم إنها صِيح بها صياحًا مزعجًا ، فأتت مسرعة ، فضاق نفسها لذلك ، وانبهرت . ولذلك قالت : (( حتى ذهب نفسي )) ، وهو بفتح الفاء ، وقد أخطأ من سكَّنها .
وقول النساء : (( على الخير والبركة )) ؛ هو نحو مِمَّا روي من حديث معاذ : أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لرجل من الأنصار شهد إملاكه ، فقال : ((على الألفة والخير والطائر الميمون )). وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابن عوف : (( بارك الله
لك )). وروي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : (( بارك الله لكم وعليكم )).
قلت : وهذه أدعية ، والدُّعاء كلُّه حسن ، غير أن الدُّعاء بما دعا به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى ، ولذلك كره بعضهم قول العرب : بالرفاء والبنين .
وقولهن : (( على خير طائر )). وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وعلى الطائر الميمون )) ؛ على جهة التفاؤل الحسن ، والكلام الطيب ، وليس هذا من قبيل الطيرة المنهي عنها ؛ التي قال فيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا طيرة ، وخيرها الفأل )). وقد ذكرنا أصل هذه اللفظة وحكمها في كتاب الإيمان .
وقولها : (( فلم يَرُعْنِي )) ؛ أي : لم يُفْزِعني . والرَّوع : الفَزَع . وهو مستعملٌ في كلِّ أمر يطرأ على الإنسان فجأة من خير أو شرٍّ ؛ فيرتاع لفجاته .
(12/147)
وقوله : (( ومعها لُعَبُها )) ؛ أي : البنات التي تلعب بها الجواري . وقد جاء : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رآهنّ يَلْعَبْن بها ، فأقرّهنّ على ذلك ؛ لتطييب قلوبهن ، وليتدربْن على تربية أولادهن ، وإصلاح شأنهنّ وبيوتهن . وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى .
وقولها : تزوّجني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى شوّال ... )) الحديث ؛ هذا إنما قالته عائشة رضي الله عنها لتردَّ به قولَ مَنْ قال : يُكره عقدُ النكاح في شهر شوّال ، ويتشاءم به من جهة : أن شَوَّالاً من الشَّوْل ، وهو الرَّفْع . ومنه : شالتِ الناقةُ بِذَنَبِهَا. وقد جعلوه كناية عن الهلاك ؛ إذ قالوا : شالت نعامتُهم ؛ أي : هلكوا .
فـ (( شوَّال )) معناه : كثير الشول ، فإنَّه للمبالغة ، فكأنهم كانوا يتوهّمون أنَّ كلَّ مَنْ تزوّج في شوَّال منهن شال الشنآن بينها وبين الزوج ، أو شالت نفرته ، فلم تحصل لها حظوة عنده ، ولذلك قالت عائشة رادَّةً لذلك الوهم : (( فأي نسائه كان أحظى عنده مني )) ؛ أي : لم يضرّني ذلك ، ولا نقص من حظوتي . ثم إنها تبرّكت بشهر شوَّال ، فكانت تحب أن يُدخل بنساءها على أزواجهنّ في شوّال ؛ للذي حصل لها فيه من الخير برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن الحظوة عنده ، ولمخالفة ما يقول الْجُهَّال من ذلك .
ومن هذا النوع كراهية الْجُهَّال عندنا اليوم عقد النكاج في شهر المحرَّم ، بل ينبغي أن يُتَيَمَّن بالعقد والذخول فيه ، تَمَسُّكًا بما عظَّم الله ورسوله من حرمته ، ورَدْعًا للجُهَّال عن جهالتهم.
ومن باب إباحة النّظر للمخطوبة
(12/148)
قوله : (( اذهب فانظر إليها )) ؛ هذا الأمر على جهة الإرشاد إلى المصلحة ؛ فإنه إذا نظر إليها -أعني المخطوبة - فلعلّه يرى منها ما يرغبه في نكاحها . وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا بقوله فيما ذكره أبو داود من حديث جابر إذ قال : (( إذا خطب أحدكم المرأة ، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل )). ولا قائل فيما أعلمه بحمل هذا الأمر على الوجوب . وقد دلَّ على أنه ليس كذلك قوله : (( فإن استطاع فليفعل )) ، ولا يقال مثل هذا في الواجب .
وقاعدة النكاح - وإن كان فيها معاوضة - مُفَارِقَةٌ لقاعدة البيوع ، من حيث أنها مبنيَّة على المكارمة ، والمواصلة ، وإظهار الرَّغبات ، والعمل على مكارم الأخلاق ، بحيث يجوز فيها النكاح من غير ذكر صداق ، وتجوز فيها ضروب من الجهالات والأحكام ، لا يجوز شيءٌ منها في البيوع والمعاملات المبنية على المشاحَّة والمغَابنة .
ومن هنا جاز عقد النكاح على امرأة لا يعرف حالها من جمال ، وشباب ، وحُسن خُلُق ، وتمام خُلْق . وهذه وإن كانت مجهولة حالة العقد ، لم يضر الجهل بها ؛ إذ لم يلتفت الشرع إليها في هذا الباب . فالأمر بالنظر إلى المخطوبة أحرى بألاَّ يكون واجبًا . فلم يبق إلا أن يُحمل ذلك الأمر على ما تقدَّم . وبهذا قال جمهور الفقهاء : مالك ، والشافعي ، والكوفيون ، وغيرهم ، وأهل الظاهر . وقد كره ذلك قومٌ ، لا مبالاة بقولهم ؛ للأحاديث الصحيحة في هذا الباب .
ثم اختلف الجمهور ، فقال مالك : يُنْظرإلى وجهها ، وكفَّيْها ، ولاينظرإليها إلا بإذنها . وقال الشافعي وأحمد : بإذنها ، وبغير إذنها إذا كانت مستترة . وقال الأوزاعي : ينظر إليها ويجتهد ، وينظر مواضع اللحم منها . وقال داود : ينظر إلى سائر جسدها تمسكًا بظاهر اللفظ . وأصول الشريعة تردّ عليه في تحريم الاطلاع على الصورة .
وقد تقدَّم ذكر (( الأُوقِية )) .
(12/149)
و (( تنحتون )) : تقطعون وتنجرون . والنَّحْتُ : النَّجْر والقَطْع ، ومنه قوله تعالى : { وتنحتون من الجبال بيوتًا } ، وقوله تعالى : {أتعبدون ما تنحتون }.
والنَّحَّات : النَّجار . و(( عُرْضُ الْجَبَل )) : جانبه ، وصفحه ،
وهو بضم العين . والعَرْض -بفتح العين - : خِلاف الطول . وعًرْضُ البحر ، والنَّهر ، والمال : الوسَطُ من ذلك ؛ قاله الحربي .
وهذا الإنكار منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا الرَّجُل المتزؤج على أربعة أواقٍ ليس إنكارًا لأجل المغالاة ، والإكثار في المهر ، فانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أصدق نساءه خمسمائة درهم ، وأربعة أواقٍ : مائة وستون درهمًا . وإنما أنكر ذلك بالنسبة إلى حال الرجل ؛ فإنه كان فقيرًا في تلك الحال ، فأدخل نفسه في مشقة تَعرَّض للسؤال بسببها ، ولذلك قال له : (( ما عندنا ما نعطيك )). ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكرم أخلاقه ، ورأفته ، ورحمته جَبَرَ مُنْكَسِرَ قلبه بقوله : ((ولكن عسى أن نبعثك في بعث فتصيب منه )) ؛ يعني به : سرية في الغزو . فبعثه ، فأصاب حاجته ببركة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( فإن في عيون الأنصار شيئًا )) ؛ قال أبو الفرج الجوزي : يعني : شيئًا زرقًا ، أو صِغَرًا ، وقيل : رَمَصًا .
ومن باب اشتراط الصَّداق في النكاح
هذه الترجمة يدلُّ على صحتها قوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } ، وقوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم محصنين} ، وقوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولاً } ، الآية . وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث : (( هل عندك شيء تصدقه إيَّاها ؟ )) إلى قوله(6) : (( فالتمس(7) ولو خاتَمًا من حديد )). ولا اختلاف في اشتراطه ؛ وإن اختلفوا في مقدار أصله ، وفي نوعه على ما يأتي بيانه ، إن شاء الله .
(12/150)
وقولها(8) : (( جئت(9) أهب لك نفسي )) ؛ أي : أُحكِّمُك فيها من غير عوضٍ . وكأنَّ هذه المرأة فهمث جوازَ ذلك من قوله تعالى : { وامرأة مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي }(10). وقد ذهب معظم العلماء : إلى أنَّ ذلك مخصوصٌ بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لقوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين}(@). وقد دلَّ على هذا المعنى من هذا الحديث قول الرُّجُل للنبي(11) ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن لم يكن لك حاجة(12) بها زوّجنيها )). ولم يقل : هَبْهَا لي.
واختلفوا في النكاح : هل ينعقد بلفظ الهبة ، ويكون فيه صداق المثل ، أو لا ينعقد بها وإن سُمِّي فيه مهرًا ؟ وإلى الأول ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، والجمهور . وبالثاني قال الشافعي .
وقوله : (( فصعَّد النظر فيها ، وصوَّبه ، ثم طأطأ رأسه )) ؛ أي : نظر أعلاها ، وأسفلها مرارًا . و(( طاطأ )) ؛ أي : خفض وأَطْرق. وهذا دليل على جواز نظر الخاطب إلى المخطوبة ، وتأمُّله ما لاح من محاسنها ؛ لكن وعليها ثيابها ، كما قال مالك .
وقوله : (( التمس ولو خاتَمًا من حديد )) ؛ تمسَّك به من لم ير الصَّداق(6) حدًّا . وهم جَمْعٌ كثير من الحجازيين ، والمصريين(7) ، والشاميين ؛ قالوا : بجوز(8) النكاح بكل(9) ما تراضى(10) به الزوجان ، أو مَن العقدُ إليه ، مما فيه منفعة ، كالسَّوط ، والنعل ، ونحوه . وبعضهم قال : بما(11)له بال . وقالت طائفة أخرى : لا بُدَّ أن يكون أقله محدودًا .
(13/1)
وحملوه على أقل ما تقطع فيه يد السَّارق ، وعلى الطريقة القياسية . وتحريرها : أن يقال : عضو آدمي مُحْتَرَم . فلا يُستباح بأقل من كذا . قياسًا على يد السارق . ويمكن تحريره على وجه آخر . وتوجيه الاعتراضات عليه ، والانفصالات ، مذكور في مسائل الخلاف . غير أن هؤلاء اختلفوا في أقل ما تُقطع فيه يد السَّارق ، فاختلفت لذلك مذاهبهم هنا . فذهب مالك : إلى أن أقل ذلك ربع دينار من الذهب ، أو ثلاثة دراهم من الورق . وقال ابن شبرمة : أقل ذلك خمسة دراهم . وقال أبو حنيفة : أقل عشرة دراهم . وكذلك قال النخعي في أحد قوليه ، وفي آخر : كره أن يتزوج بأقل من أربعين درهمًا . وقد اعتذر بعض
المالكية عن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( التمس ولو خاتَمًا من حديد )) بأوجه :
أحدها : بأن ذلك على جهة الإغياء والمبالغة ، كما قال : (( تصدقوا ولو بظلف محرق )).
وفي أخرى : (( ولو بفرسن شاة )) ، وليس الظلف والفرسن مما ينتفع به ، ولا يتصَّق به . ومثل هذا كثير .
وثانيها : لعل الخاتم كان يساوي ربع دينار فصاعدًا ؛ لأن الصُنَّاع عندهم قليل .
وثالثها : أنَّ أَمْرَهُ بالتماس الخاتم لعلَّه لم يكن ليكون كلَّ الصداق ، بل ليُعَجّلَهُ لها قبل الدّخول .
والذي حمل أصحابنا على تأويل هذا الحديث قوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} ، والدرهم ، وأقل منه تافه لا يُقال عليه . مالٌ عُرْفًا ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : (( لم تكن يد السَّارق تقطع في الشيء التافه )) ، وإن كان يقال على من أخذه خفية : سارق. وهي التي قالت : (( لم تكن يد السَّارق تقطع في أقل من ثلاثة دراهم )). ففرَّقت بين التافه وغير التافه بهذا المقدار. وهي أعرفهم بالمقال ، وأقعدهم بالحال .
و ((الإزار )) : ثوب يُشَدُّ على الوسط . و((الرداء )) : ما يُجعل على الكتفين . و((اللحاف )) : ما يُلْحَفُ به جميع الجسد .
(13/2)
وقول سهل : (( ما له رداء ، فلها نصفه )) ؛ ظاهره : لو كان له رداء لَشَرَكَها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه . وهذا في وَجْه لزومه بُعْدٌ ؛ إذ ليس في كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا في كلام الرَّجل ما يدلّ على شيء من ذلك . ويمكن أن يقال : إن مُراد سهل : أنَّه لو كان عليه رداء مضافًا إلى الإزار ؛ لكان للمرأة نصف ما عليه ؛ الذي هو إمَّا الرداء ، وإمَّا الإزار . ألا ترى تعليله منع إعطاء الإزار بقوله : (( إن لبِسْتَه لم يكن عليها منه شي ، وإن لبِسَتْهُ لم يكن عليك منه شي )) ، فكأنه قال : لو كان لك ثوبٌ تنفرد أنت بلبسه ، وثوبٌ آخر تأخذه هي ، تنفرد بلبسه لكان لها أَخْذُهُ ، فأمَّا إذا لم يكن ذلك فلا .
وفيه ما يدل على أن المهر الأولى فيه أن يكون معجلاً مقبوضًا ، وهو الأولى عند العلماء باتفاق . ويجوز أن يكون مؤخَّرًا على ما يدلُّ عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن ، فعلِّمها )). فإنه قد انعقد النكاح ، وتأخر المهر الذي هو التعليم . وهذا على الظاهر من قوله : (( بما معك من القرآن )). فإنَّ الباء للعِوض ، كما تقول : خُذْ هذا بهذا ؛ أي : عوضًا عنه .
وقوله : (( علِّمها نصٌّ في الأمر بالتعليم . والْمَسَاقُ يشهد بأنَّ ذلك لأجل النكاح . ولا يُلتفت لقول من قال : إن ذلك كان إكرامًا للرَّجل بما حفظه من القرآن ؛ فإن الحديث يُصَرِّح بخلافه . وقول المخالف : إن الباء بمعنى اللام ، ليس بصحيح لغةً ، ولا مساقًا . وكذلك لا يُعَوّل على قول الطحاوي والأبهري : إنَّ ذلك كان مخصوصًا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما كان مخصوصًا بجواز الهبة في النكاح لأمور :
أحدها : مساق الحديث . وهو شاهد بنفي الخصوصية .
وثانيها : قول الرَّجُل : زوجنيها ، ولم يقل : هبها لي .
وثالثها : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اذهب ، فقد زوجتكها بما معك من القرآن ، فعلِّمها )).
ورابعها : إن الأصل التمسُّك بنفي الخصوصية في الأحكام .
(13/3)
وفي هذا الحديث من الفقه : جواز اتخاذ خاتم الحديد . وقد أجازه بعض السلف ، ومنعه آخرون لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه : (( حلية أهل النار )).
ورأوا أن المنع هو المتأخر عن الإباحة .
وفيه ما يدلّ على جواز كون الصَّداق منافع . وبه قال الشافعي ، وإسحاق ، والحسن بن حَيٍّ ، ومالك في أحد قوليه . وكرهه أحمد ، ومالك في القول الثاني له. ومنعه أبو حنيفة في الْحُرِّ ، وأجازه في العبد ، إلا أن تكون الإجارة تعليم القرآن ، فلا يجوز بناءً على أصله في : أنَّ تعليم القران لا يؤخذ عليه أجر . والجمهور على جواز ذلك . أعني : على جواز كون الصَّداق منافع .
وهذا الحديث ردٌّ على أبي حنيفة في منعه أخذ الأجر على تعليم القرآن . ويردُّ عليه أيضًا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله . وسيأتي .
وقول الرَّجُل : (( معي سورة كذا ، وسورة كذا )) عدَّدَها . فقال : ((اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن ، فعلِّمْها )) ؛ يدلُّ على أن القَدْر الذي انعقد به النكاح من التعليم معلومٌ ؛ لأن قوله : (( بما معك )) ، معناه : بالذي معك . وهي السور المعدَّدة المحفوظة عنده ؛ التي نصَّ على أسمائها. وقد تعيَّنت المنفعة ، وصَحَّ كونها صداقًا ، وليس فيه جهالة. وقد روى هذا النسائي من طريق عِسْلِ بن سفيان ، وهو ضعيف . وذكر فيه : (( فعلِّمها عشرين آية )). وهذا نصٌّ في التحديد ، غير أن الصحيح ما تقدَّم .
(13/4)
وقوله : (( فقد ملكتكها )) ، وفي الرواية الأخرى : (( زوّجتكها )). وقع في مختصر شيخنا المنذري لكتاب مسلم : (( اذهب فقد ملكتها )) ، قال : وروي : (( مُلِّكْتَهَا )) ؛ بضم الميم ، وكسر اللام . وروي : (( ملكتها ، وروي : (( زوجتكها )). قال أبو الحسن الدارقطني : رواية من قال : ((ملكتها )) وَهْمٌ ، ورواية من قال : (( زوجتكها )) الصواب(3). وَهُمْ أكثرُ وأحفظُ . وقال غيره : (( مَلَّكْتُكَهَا )) : كلمة عَبَّر بها الراوي عن : زَوَّجْتُكَهَا. وقد رواه جماعة فقالوا : (( زوجتكها )) ؛ دليلٌ على أنَّ كل صيغةٍ تقتضي التمليك مطلقًا تجوز عقد النكاح بها(4) ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وحاصل مذهب مالك . قال ابن القصَّار : يصح النكاح بلفظ الهبة ، والصَّدقة ، والبيع إذا قصد به النكاح ، ولا يصحّ بلفظ الرَّهن ، والإجارة والعارية ، والوصية. ومن أصحابنا من أجازه بلفظ الإحلال ، والإباحة ، ومنعه آخرون ؛ إذ لا يدلاَّن على عَقْدٍ . وأصل مذهب الشافعي : أنَّه لا يجوز بغير لفظ النكاح والتَّزويج . ويردّ عليه قوله في هذا الحديث ، في رواية مَنْ روى : (( ملكتكها )) ، وهي صحيحة . وفي بعض طرق البخاري : (( فقد أمكنَّاكها )).
وقوله : (( فعَلِّمْها من القرآن )) ؛ يعني به : السُّور التي عدَّدها له ، وأخبره أنه يحفظها ، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى : (( بما معك من القرآن )) ، والله أعلم .
ومن باب كم أصدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قد تقدَّم ذكر الأوقتة . فأمَّا (( النَّشُّ )) فقد فسَّرته عائشةُ . وقال كراع : هو نصف الشيء. وقال الخطَّابي : هو اسمٌ موضوع لهذا القدر .
قلت : وهو مُعَرَّب مُنَوَّن ، غير أنه وقع هنا (( نش )) على لغة من يقف على المنون بالسكون بغير ألف .
(13/5)
وقد تقدذَم أنّ هذا القول من عائشة ، إنما هو إخبار عن غالب أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأن صفيه من جملة أزواجه ، وأصدقها نفسها على ما تقدم من الخلاف . وزينب بنت جحش لم يذكر لها صداق . وأمُّ حبيبة بنت أبي سفيان أصدقها النجاشي أربعة آلاف درهم . فقد خرج هؤلاء من عموم قول عائشة ، فدلَّ على ما ذكرناه .
وقوله : (( رأى على عبدالرحمن أثر صفرة )) ، وفي أخرى : (( وضر صفرة )) ، وهو بمعنى : الأثر . وفي حديث آخر : (( رَدْع )) بالعين المهملة . يعني : الأثر واللطخ . وفي "الأم" : (( ورأى عليَّ بشاشة العرس )). قال الحربيُّ : أَثَرَهُ ، وحُسْنَهُ .
استدل بعض أهل العلم بعدم إنكار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التزعفر على عبدالرحمن على جوازه للعروس ، وأنه مُخَصَّص به ؛ لعموم نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن التزعفر . وقيل : يحتمل أن تكون تلك الصفرة في ثيابه . ولباس الثياب المزعفرة للرّجال جائز عند مالك وأصحابه ، وحكاه عن(@) علماء المدينة . وكان ابن عمر يصبغ بالصفرة ، ويرفعه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تقدَّم في الحج .
قلت : وعلى هذا يدل ما رواه أبو داود من حديث أبي موسى مرفوعًا : (( لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق )) ، فخصَّ الجسد ؛ فيؤخذ من دليل خطابه جوازه في غيره . وحكى ابن شعبان كراهة ذلك في اللحية عن أصحابنا . وكره الشافعي وأبو حنيفة ذلك في الثوب واللحية . ويحتمل أن تُحمل صفرةُ عبدالرحمن على أنَّها تعلَّقت به من جهة العَرُوس ، فكانت غير مقصودة له ، أويحتمل أن تكون مقصودة له ، لكنه لما احتاج إلى التطّيب لأجل العروس ؛ استباح قليلاً منه عند عدم غيره من الطيب ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في يوم الجمعة : (( ويمسَّ من الطيب ما قدر عليه )) ، ، وفي بعض طرقه : (( ولو من طيب المرأة )) ، والله أعلم .
و ((النواة )) : قال الخطابي : هو اسمٌ معروف لمقدار معروف . وفسروها بخمسة دراهم ، كما سُمِّي الأربعون : أوقية .
(13/6)
قلت : وهذا هو تفسير أكثر العلماء ، وابن وهب . وقال أحمد ابن حنبل : النواة : ثلاثة دراهم وثلث . وقال بعض أصحاب مالك : النواة بالمدينة : ربع دينار. وقيل : النواة هنا : هي نوى التمر عينها ؛ أي : وزنها . والأول أظهر وأكثر(9).
وهذا الحديث وحديث عائشة يدلاَّن على أن الصَّداق لا بد منه ، وأن أكثره لا حدَّ له . ولا خلاف فيهما . غير أن المغالاة فيه مكروهةٌ ؛ لأنها من باب السَّرف ، والتعسير ، وا لمباهاة .
وقوله : (( أولم ولو بشاة )) ، ظاهره الوجوب . وبه تمسَّك داود في وجوب الوليمة . وهو أحد قولي الشافعي ومالك . ومشهور مذهب مالك والجمهور : أنها مندوب إليها .
و ((الوليمة )) : طعام العرس. وطعام البناء : الوكيرة ، وطعام الولادة : الخرس ، وطعام الختان : إعذار ، وطعام القادم : النقيعة . وكلُّ طعام صُنع لدعوةٍ فهو : مأدبة - بضم الدال ، وكسرها - قاله القتبي . وسيأتي ذكر الوليمة بأشبع من هذا .
وقوله : (( ولو بشاة )) ؛ دليلٌ على أن التوسعة في الوليمة أولى وأفضل لمن قدر عليه . وأنَّ أقلَّ ما يوسع به من أراد الاقتصار شاة .
قال القاضي عياض : ولا خلاف في أنه لا حدَّ لها ، ولا توقيت . واختلف السلف في تكرارها زيادة على يومين . فأجازه قومٌ ومنعه آخرون . وقال بعض من أجاز ذلك : إذا دُعِيَ كُلَّ يوم من لم يُدْعَ قبله جاز. وكلٌّ كره المباهاة والسمعة .
ومن باب عِتْق الأَمَةِ وتزويجها
قوله : (( فانحسر الإزار عن فخذ نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) إلى قوله : (( وإن ركبتي لتمسُّ فخذه )) ، قد ذكرنا الخلاف في الفخذ : هل هو عورةٌ أم لا ؟ وهذا الحديث مما يستدلُّ به من قال : إنه ليس بعورة ، وكذلك حديث عائشة الذي ذكرت فيه : أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مُضطجعًا في بيتها كاشفًا عن فخذيه ، فدخل أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما - وهو كذلك . وسيأتي الحديث في مناقب عثمان ـ رضى الله عنه ـ .
(13/7)
وقد عارض هذه الأحاديث ما رواه الترمذي وصححه غيره من حديث جَرْهَدٍ ، عن أبيه : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ به وهو كاشف فخذه ، فقال له : (( غط فخذك فإنها من العورة )). قال البخاري : حديث أنس أسند ، وحديث جَرْهَد أحْوط كي يخرج من اختلافهم .
قلت : وقد يترجّح الأخذ بحديث جَرْهَد من وجهٍ آخر ، وهو : أن تلك الأحاديث قضايا معيّنة في أوقات وأحوال مخصوصة ، يتطرَّق إليها من الاحتمال ما لا يتطرَّق لحديث جرهد ، فإنه إعطاء حُكم كلِّيٍّ وتقعيدٌ للقاعدة ، فكان أولى بيان ذلك : أن تلك الوقائع تحتمل خصوصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ، أو البقاء على البراءة الأصلية ؛ إذ كان لم يحكم عليه في ذلك الوقت بشيء ، ثم بعد ذلك حكم عليه : بأن الفخذ عورة . ويحتمل حديث أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يشعر بانكشافه لِهَمِّه بشأن فتح خيبر ، إلى غير ذلك من الاحتمالات التي لا يتوجه شيء منها على حديث جَرْهَد ، فكان أولى ، والله أعلم .
وتكبيرُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعظيم لله تعالى ، وتحقيرٌ لهم ، وتشجيع عليهم . وقد تكلَّمنا على معنى الله أكبر في كتاب الحج .
وقوله : (( خربت خيبر )) ؛ أي : صارت خرابًا منهم . وهل ذلك على حقيقة الخبرية ، فيكون ذلك من باب الإخبار عن الغيب ، أو هو على جهة الدُّعاء عليهم ، أو على جهة التفاؤل لَمَّا خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم ومرورهم ؟ وقد قيل كل ذلك . والأوَّل أولى ؛ لقوله : (( إنَّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين )).
و ((الساحة )) : الناحية ، والجهة . و((ساء )) : أي : صار سيئًا ؛ من السُّوء. و((المنذر )) : أبلغ الإنذار ، وهو التخويف بالإخبار عن المكروه . و((البشارة )) : الإخبار بالمحبوب . و((الخميس )) : الجيش ؛ سُمِّي بذلك ؛ لأنه يقسم خمسة أخماس : القلب ، والميمنة ، والميسرة ، والمقدمة ، والساقة . وقيل : لأنه يخمَّس . وليس بشيء ؛ لأن هذا أمر مستجد من جهة الشرع ، وكان الخميس اسما للجيش معروفًا قبل ذلك .
(13/8)
و((المكاتل )) : القفف والزنابيل . و((المرور )) : الحبال ؛ لأنها تمرُّ ؛ أي : تفتل ، واحدها : مَرٌّ ، كانوا يصعدون بها النخل ، وقيل : هي المساحي.
وقوله : (( وأصبناها عنوة )) ؛ يعني : أوَّل حصونهم ، وسيأتي ما افتتح منها عنوة ، وما افتتح منها صلحًا .
وقوله : فجاء دِحْيَةُ فقال : يا رسول الله ! أعطني جارية من السبي. فقال : (( اذهب فخذ )) ، فأخذ صفية . ثم ذكر استرجاع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصفية منه . قد ظنَّ بعض المتكلّمين على هذا الحديث : أن هذه العطية هبةٌ من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لدخية ، فأشكل عليه استرجاعه إيَّاها ، فأخذ يعتذر عن هذا باعذار . وهذا كله ليس بصحيح ، ولا يحتاج إليه . وقد أزال إشكال هذه الرواية الروايات الآتية بعْد التي ذكر فيها : أن صفية إنّما صارت لدحية في مَقْسَمِه ، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اشتراها منه بسبعة أرؤسٍ . وهذه الروايات المتفقة لا إشكال فيها . بل هي رافعة لما يتوهَّم من إشكال غيرها . ويبقى إشكال بين قوله : (( خذ جارية من السَّبي )) ، وبين قوله : (( وإنها صارت إليه في مَقْسَمِه )) ؛ يزيله تقدير : إنه إنما أراد : (( خذ )) بطريق القسمة . وفهم ذلك دِحْية بقرائن أو بصريح لم ينقله الراوي ، فلم يأخذ دِحْية شيئًا إلا بالقسمة . ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حصل عنده أنها لا يصلح إلا له ، من حيث أنها من بيت النبوَّة ؛ فانها من ولد هارون . ومن بيت الرئاسة ؛ فانها بنت سيد قريظة والنضير ، مع ما كانت عليه من الجمال المراد لكمال اللذة الباعثة على كثرة النكاح المؤدية إلى كثرة النسل ، وإلى جمال الولد . وهذا من فعله كما قد نبَّه عليه بقوله : (( تخيَّروا لنطفكم )).
(13/9)
وأيضًا : فمثل هذه تصلح أن تكون أمًّا للمؤمنين . وحذارِ من أن يظنَّ جاهل برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الذي حمله على ذلك غلبةُ الشهوة النفسانية ، وإيثار للَّذة الجسمانية ؛ فان ذلك اعتقاد يَجُزُّه جهلٌ بحال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وبأنّة معصوم من مثل ذلك ؛ إذ قد أعانه الله على شيطانه فأسلم ، فلا يأمره إلا بخير . وقد نزع الله من قلبه حظَّ الشيطان ، حيث شقَّ قلبه ، فأخرجه منه ، وطهَّره ، وملأه حكمة وايمانًا ، كما تقدَّم في الإسراء. وإنما الباعث له على اختيار ما اختاره من أزواجه ما ذكرت لك ، وما في معناه ، والله أعلم .
وقوله : (( أصدقها عتقها ، أو نفسها )) ؛ استدل بهذا طائفةٌ من أهل العلم على جواز جَعْل العتق صداقًا . وبه قال الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو يوسف ، وروي عن ابن المسيب ، والحسن ، والنخعي ، والزهري . غير أن الشافعي يقول : هي بالخيار إذا أعتقها. فإن امتنعت فله عليها قيمتها . ومنع ذلك آخرون ؛ منهم : مالك ، وأبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وزُفر ؛ متمسِّكين باستحالة ذلك. وبتقزر ذلك من وجهين :
أحدهما : أن عقدها على نفسها ، إمَّا أن يقع قبل عتقها ؛ وهو محال ؛ لتناقض الحكمين : الحرَّية ، والرِّق . فإن الحرية حكمها الاستقلال ، والرِّق حكمه الجبْر ، وهو عدم الاستقلال . فهما متناقضان . وأمَّا بعد العِتْق ، وهو أيضًا محال ؛ لزوال حكم الجبْر عنها بالعتق ، فيجوز ألا ترضى ، وحينئذ لا تنكح إلا برضاها .
وثانيهما : إنَّا إذا جعلنا العتق صداقًا ، فإمَّا أن يتقرر العتق لها حالة رِقِّها ، وهو محال ؛ لتناقضها ، أو حالة حُرِّيتها ، وحينئذ يلزم بسبقيته على العقد ، فيلزم وجود العتق حالة فرض عدمه . وهو محال .
(13/10)
وبيانه : أنَّ الصَّداق لا بدَّ أن يتقدم تقرره على الزوج ، إمَّا نصًّا ، وإمَّا حُكْمًا ، حتى تملك الزوجة طلبته . وحينئذ يلزم ما ذكرنا ، لا يقال يبطل بنكاح التفويض ، فإنا قد تحرزنا عنه بقولنا : وإمَّا حكمًا. فإنها وإن لم يتعين لها حالة العقد شيء ، لكنها تملك مطالبته بالفرض وتعيين الصَّداق ، لا سيما على مذهب الشافعي ؛ فإن مرجعه عنده إلى صداق المثل في الحياة والموت . فقد ظهر أنها ثبت لها حالة العقد شيء تُطالب الزّوج به ، ولا يتأتى مثل ذلك في العتق ، فاستحال أن يكون صداقًا . ولَمَّا تقرَّر هذا عند أصحابنا اعتذروا عن قول أنس من أوجه :
أحدها : إنَّه قوله ، وموقوف عليه. والحجة في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وثانيها : إن ظاهر قوله : (( أعتقها وتزوَّجها )) ، أنه كان قد أعتقها ثم تزوَّجها بَعْدُ . وهذا على ما قذمناه في قوله تعالى : { إن الصفا والمرة من شعائر الله } ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أبدأ بما بدأ الله به )) ، فبدأ بالصَّفا .
وثالثها : إن قوله : (( أصدقها نفسها )) ؛ يحتمل أن يكون أنس لَمَّا لم ير صداقًا ، وسُئل عنه ، قال ذلك . ويعني به : أنه لم يصدقها شيئًا. ويكون هذا من خصوصياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ورابعها : إنه لو سلم كونه مرفوعًا نصًّا ؛ فحينئذ يكون من خصائصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في باب النكاح . وقد ظهرت له فيه خصائص كثيرة ، والله أعلم .
وقوله : (( حتى إذا كانت بالطريق جهّزَتْها له أُمُّ سُلًيم ، وأهدتها له من الليل )) ؛ يعني : طريقَ رجوعه من خيبر إلى المدينة ، كما جاء في الرواية الأخرى مفَسَّرًا . وكان بين سبائها وبين دخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها زمان أسلمت فيه ، واشتبرأت ، وأصلح حالها فيه ، ثم دخل بها بَعْدُ . ولذلك قال أنس في الرواية الأخرى : (( ثم دفعها لأُمِّي تُصَنِّعُها ، وتُهَيِّئُهَا ، وتعتّدُ في بيتها )) ؛ يعني : في بيت أم أَنس .
(13/11)
وقوله : (( حين أصبح عروسًا : (( من كان عنده فضل زاد فليأتنا )) ؛ دليل : على مشروعية الوليمة ، وأنَّها بعد الدُّخول . وعلى أنَّ العروس إذا لم يكن له ما يولم ، طلب ممن ينبسط معه من أصحابه ، ويختصُّ به منهم مما لا يثقل عليهم به مما يخف ويسهل ، إذا علم حال أصحابه ، وسخاوة أنفسهم بذلك ، وطيب قلوبهم .
وقوله : (( فجعل الرجل يجيء بفضل التمر ، وفضل السويق ، حتى جعلوا من ذلك سوادًا جسًا )) ؛ يعني : جاء كل واحد منهم بما فضل عن حاجته مِمَّا كان عنده . وسواد الشيء : شخصه ؛ يعني : أنه اجتمع من ذلك ما له جرمٌ وقدْرٌ مرتفع عن الأرض . و((الحيس )) : تمرٌ ، وأقط ، وسمن مجتمعٌ ، وقد تقدَّم .
وقوله في "الأم" : (( فُحِصَتِ الأرض أفاحيص )) ؛ أي : كشفت عما يمنع القعود عليها من حجارةٍ ، وعُشب ، وغير ذلك ، وسوِّيت حتى خلص إلى التراب . ومنه : مفحص القطاة ، وهو الموضع الذي تتخذه لبيضها . وواحد الأفاحيص : أفحوص.
و ((الأنطاع )) جمع : نطع . وفيه أربع لغات : نِطَعٌ ، وهي أفصحها. ونِطْعٌ ، ونَطْعٌ ، ونَطَعٌ .
وقوله : (( فانطلقنا حتى إذا رأينا جدر المدينة هششنا إليها )) ؛ أي : اهتززنا فرحًا وسرورًا . وهذه فرحة القادم ، السالم ، الغانم ؛ إذا وصل إلى وطنه وأهله .
وقوله : (( فرفعنا مطينا ورفع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مطيته )) ؛ أي : أجرينا ، ورفعنا السير إلى غايته .
وقوله في "الأم" : (( ونَدَرَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونَدَرَتْ )) ؛ أي : صُرع وصُرعتْ ؛ كما جاء في هذه الرواية مفسَّرًا . وأصل النُّدور : الخروج . ومنه : نوادر الكلام . والنَّادر من النَّاس : الخارج عنهم بما فيه من الزيادة عليهم . وكون النَّاس امتنعوا من النظر إليهما إنما كان ذلك احترامًا وإجلالاً أن يقع بصرٌ على عورة منهما ، فإنه قد كان انكشف منهما ما يستر . ألا ترى قوله : (( فسترها )) ؟
(13/12)
وقوله : (( لم نُضَرَّ )) ؛ أي : لم يصبنا ضررٌ ؛ إزالة لما غشيهم من التخوِّف عليه ، وتسكينًا لنفرتهم ، وتطييبًا لقلوبهم .
وقوله(#) : (( فخرج جواري نسائه يتراءينها ، ويشمتن بصرعتها )) ؛ يعني : الصغارَ الأسنان ، اللَّواتي لا ثبات لهن ولا حنكة عندهن .
و (( يتراءينها )) : ينظرن ، ويتشوَّفن إليها . (( ويشمتن بصرعتها )) ؛ كأنهن سُرِرْن بذلك . وهذا فعلٌ يتضمنه طباع الضرائر ومن يتعصّب لهن .
وقولهم : (( إن حَجَبَها فهي امرأته ، وان لم يحجبها فهي أم ولد )) ؛ هذا يدل على أنه ما كان أبان لهم أمرها ، ولا أشهدهم على تزويجها . فيكون فيه دليل على جواز عقد النكاح من غير إشهاد ، وبه قال الزهري ومالك ، وأهل المدينة ، وأبو ثور ، وجماعة من السَّلف . وذهب آخرون : إلى أنَّه لا يجوز إلا بشاهدي عدل . وهو قول جماعة من الصَّحابة ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد . وقال أبو حنيفة مثله ، إلا أنه لا يشترط العدد. واتفق الجميع على أنه شرطٌ في الدُّخول.
وعلى هذا فيكون دخوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصفيّة من غير إشهادٍ من خصائصه .
ولم يختلف أحدٌ من العلماء في أن كل نكاح استسرَّ به وليس فيه شاهدان أنَّه نكاح السرّ المنهيّ عنه ، ويُفسخ أبدًا .
واختلفوا فيما إذا استسرَّ مع الشاهد ، فذهب الجمهور إلى أنه ليس بنكاح سرٍّ ، ولا يُفسخ . وهو عند مالك نكاح سرٍّ ، ويُفسخ .
وقوله في حديث أبي موسى في الذي يعتق جاريته ثم يتززجها : (( له أجران )) ؛ دليلٌ على صحته ، وفضيلته ، خلافًا لمن كره ذلك من أهل العراق . وشَبَّهَهُ بركوب بدنته . وهو قياسٌ في مقابلة النصّ المذكور ، فهو(7) فاسد الوضع ، والله أعلم .
ومن باب تزويج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زينب
(13/13)
قول أنس : (( لما انقضت عدَّة زينب )) ؛ يعني من طلاق زيد بن حارثة ؛ الذي قال الله فيه : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه} إلى قوله : { فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها} الآية. وقد ذكرنا في كتاب الإيمان الصحيح من أقوال العلماء في هذه الآية .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزيد : (( فاذكرها عليَّ )) ؛ أي : اخطبها لي . هو امتحان لزيد ، وابتلاء له ، حتى يظهر صبره ، وانقياده ، وطوعه .
و (( تخمير العجين )) : جعل الخمير فيه ، وتركه إلى أن يطيب .
وقوله : (( فلمَّا رأيتها عظمت في صدري ، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكرها )) بفتح ((أن )) لا غير ؛ لأنها في معنى : ((لأن )) أو : من أجل أنَّ . وهي معمولة لـ (( عظمت )) ؛ ومعناه : أنَّه لما خطبها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعلم زيدٌ أنّها صالحة لأن تكون من أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن أمّهات المؤمنين ؛ حصل لها في نفسه صورة أخرى ، وإجلال زائد على ما كان لها عنده في حال كونها زوجته . وتوليته إيَّاها ظهره : مبالغة في التَّحرز من رؤيتها ، وصيانة لقلبه من التعلّق بها . على أنَّ الحجاب إذ ذاك لم يكن مشروعًا بَعْدُ ، على ما يدلّ عليه بقية الخبر .
وقوله : (( ونكصت على عقبي )) ؛ أي : رجع خلفه ، وقهقر إليها حتى سمع حديثها ، فلمَّا أخبرها قالت : (( حتى أؤامر ربي )) ؛ أي : أستخيره ، وأنظر أمره على على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلمَّا وَكَلَتْ أمرَها إلى الله ، وصحَّ تفويضُها إليه ؛ تولّى الله تعالى إنكاحها منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولم يحوجها إلى وليٍّ يتولى عقد نكاحها ؛ ولذلك قال تعالى : {فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها } ، ولما أعلمه الله تعالى بذلك ؛ دخل عليها بغير وليٍّ ، ولا تجديد عقد ، ولا تقرير صداق ، ولا شيء مما يكون شرطًا في حقوقنا ، ومشروعًا لنا . وهذا من خصوصياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي لا يشاركه فيها أحدٌ بإجماع المسلمين .
(13/14)
وقوله : (( ولقد رأيتنا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار ؛ أي : ارتفع واشتدَّ ضحاؤه . وهذه الوليمة هي التي أولم فيها بالشاة ، كما جاء في الرواية الأخرى . وفي خروجه من البيت ، وترك المتحدثين على حالهم ، ولم يهجُهم : ما يدلُّ على كرم أخلاته ، وحسن معاملته ، وكثرة حيائه ، وإن تحمل فيه مشقةً ومخالفةَ مقصده .
ودورانه على حجر نسائه تفَقُّد لأحوالهن ، وجبر لقلوبهن ، واستدعاؤ لما عندهنّ من أحوال قلوبهن ؛ لأجل تزويجه ؛ ولذلك استلطفنه بقولهن له : كيف وجدت أهلك يا رسول الله ؟! وصدور مثل هذا الكلام عنهن في حال ابتداء اختصاص الضرة الداخلة به ؛ يدلُّ على قوة عقولهن ، وصبرهن ، وحسن معاشرتهنَّ ، وإلاَّ فهذا موضع الطيش والخفة للضرائر ، لكنَّهنَّ طيِّبَات لطيِّبٍ .
وقوله : (( ونزل الحجاب ، ووُعِظ القوم بما وعظوا به )) ؛ يعني : أنَّه نزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} الآية ، كما جاء في الرواية الأخرى .
و { ناظرين } : منتظرين . و{ إناه } : وقْتَ نضْجه ، وهو مقصورٌ ، وفيه لغات . يقال : إنًا ، وأنًا - بكسر الهمزة وفتحها - ، وإناء : بالمد والهمز .
{ ولا مستأنسين لحديث } : من الأنس بالشيء ، وهو معطوف على { ناظرين }.
{ والله لا يستحبي من الحق } ؛ أي : لا يمتنع من بيانه ، واظهاره .
و ((المتاع )) : ما يُتمتَّعُ به من العواري والجواري .
و { أطهر لقلوبكم وقلوبهن } ؛ أي : أنقى للشهوة ، والرَّيب ، وتقُّولات المنافقين ، وأذاهم .
(13/15)
وقوله : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا } ؛ أي : ما ينبغي ، ولا يحل ، ولا يجوز شيء من ذلك بوجهٍ من الوجوه . ويقال : إن هذه الآية نزلت لَمَّا قال بعضهم - وقد تكلَّم مع زوجة من زوجات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ - : لأتزوجنَّ بها بَعْدَه ؛ فأنزل الله الآية. وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة . وحاشاهم عن مثله . وإنما الكذب في نقله . وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقمين الْجُهَّال . وقد صرَّح أنس في هذا الحديث بأن الحجاب إنما نزل بسبب ما جرى .
وقد جاء في الصحيح : أن عمر ـ رضى الله عنه ـ قد كان ألَحَّ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أن يحجب نساءه . وكان يقول له : (( احجب نساءك ، فإنهن يراهن البَرُّ والفاجر )). وكان يقول لسودة إذا خرجت : (( قد عرفناك يا سودة )) ؛ حرصًا على الحجاب ؛ فانزل الله تعالى آية الحجاب . ولا بُغْدَ في نزول الآية عند اجتماع هذه الأسباب كلّها ، والله أعلم .
ومن باب الهدية للعروس
قوله : (( فدخل بأهله )) ؛ يعني بالأهل : زينب ؛ كما نبَّه البخاري وغيره عليه . و(( التَّوْر )) : آنية من حجارة كالقَدَح .
وفيه أبواب من الفقه ؛ منها : إدخال السرور على العروس بالإهداء إليه ، والقيام عنه ببعض الكلف ؛ لكونه مشغولاً بغيرها. وهو نحو مما يستحبُّ من الإهداء لأهل الميت .
وفيه : تعيين مرسل الهدية ، والاعتذار عن القليل ، وإبلاغ السلام ، واستدعاء المعيّن وغير المعيّن ، وبالواسطة المفوَّض إليه في ذلك . وقد قال بعض علمائنا : إثه إذا لم يُعيّن المدعو لم تجب عليه إجابة .
وفيه : ما ظهر من معجزات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن بركاته .
وقوله : (( زهاء ثلاثمائة )) ؛ أي : مقدارها . و((الصُّفَّة )) : السقيفة . و((الحجرة )) : الدَّار التي كانت لسكناه . وسئيت حجرةً ؛ لأنها محجورة ؛ أي : محاط بها .
وفيه من آداب الأكل : بيان أكثر ما يجتمع على القصعة ، وهم عشرة. وبيان الأكل مما يلي الآكل ؛ إذا كان الطعام نوعًا واحدًا .
(13/16)
وقوله : (( وجلس منهم طوائف يتحدَّثون ... )) إلى آخر ما ذكر في الرواية التي قبل هذه ؛ هذا يدلُّ على أن القصَّة في الروايتين واحدة ، غير أنَّه ذكر في الأولى : أنَّه أولم بشاة ، وأنَّه أطعمهم خبزًا ولحما حتى شبعوا ، ولم يذكر فيها آيته في تكثير الطعام ، وذكر في هذه الرِّواية : أنَّه أشبعهم من الْحَيْس الذي بعثت به أم سُلَيْم في التور ، وفيه كانت الآية . فقال القاضي عياض : هو وَهْمٌ من بعض الرِّواة ، وتركيب قصة على أخرى .
قلت : وأولى من هذا أن يقال : إن القصَّة واحدة ، ليس فيها وَهْم ؛ فإنَّه يمكن أن يقال : اجتمع في تلك الوليمة الأمران ، فأكل قوم الخبز واللحم حتى شبعوا وانصرفوا . ثم إنَّه لما جاء الْحَيْس استدعى الناس وجرى ما ذكر. وهذا كلُّه والمتحدِّثون في بيته جلوسٌ لم يبرحوا إلى أن خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودار على بيوت أزواجه على ما تقدَّم . وليس في تقدير هذا بُعْدٌ ، ولا تناقض . وإذا أمكن هذا حملناه عليه ، وكان أولى من تطريق الوهم للثقات والأثبات ، من غير ضرورة تدعو إليه ، ولا أمر بيِّنٍ يدلُّ عليه . والله أعلم .
ومن باب إجابة دعوة النكاح
قوله : (( أجيبوا هذه الدعوة )) ، قد تقدَّم الكلام في الوليمة ، وفي الأمر بها . والكلام هنا في حكم إجابتها . ((الدَّعوة ))- بفتح الدال - في الطعام وغيره ، والدِّعْوة - بالكسر- في النَّسب . ومن العرب من عكس .
قال عياض : لم يختلف العلماء في وجوب الإجابة في وليمة العرس . واختلفوا فيما عداها . فمالك وجمهورهم على أنها لا تجب . وذهب أهل الظاهر إلى وجوبها في كل دعوة : عرسا كانت أو غيرها .
قلت : ومعتمد أهل الظاهر في التسوية بين الوليمة وغيرها في وجوب إتيان الوليمة وغيرها ؛ مُطْلَقُ أوامر هذا الباب ؛ لقوله : (( إذا دعيتم فأجيبوا )) ، (( وإذا دعا أحدكم أخاه فليجب ، عرسًا كان أو نحوه )).
(13/17)
وقول أبي هريرة : (( فقد عصى الله ورسوله )). وكأنَّ الجمهور صرفوا هذه المطلقات إلى وليمة العرس ؛ لقوله : (( أجيبوا هذه الدَّعوة )) ؛ يعني : وليمة العرس ، كما جاء في الرواية الأخرى : (( إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس )) ، ويعتضد هذا بالنظر إلى المقصود من الوليمة ومن غيرها. فإنَّ الوليمة يحصل منها إشاعة النكاح ، وإعلانه . وهو مقصود مهمٌّ للشرع . وليس ذلك موجودًا في غيرها ، فافترقا . وكلُّ هذا : ما لم يكن في الذعوة منكر ، فإن كان ، فلا يجوز حضورها عند كافة العلماء . وقد شذَّ أبو حنيفة ، وبعضهم ، فقالوا : بجواز الحضور . فأما لو كان هناك لَعِبٌ مباح ، أو مكروهٌ ، فالأكثر على جواز الحضور ، وعندنا فيه قولان. وكره مالك لأهل الفضل والهيئات التسرع لإجابة الدَّعوات ، وحضور مواضع اللهو المباح .
وقوله : (( فإن شاء طعم ، وإن شاء ترك )) ؛ هذا صريح في أن الأكل في الوليمة ليس بواجب ، وهو مذهب الجمهور . ولأهل الظاهر في الوجوب قولان في الوليمة وغيرها . وقال الشافعي : إذا كان مفطرًا أكل ، وإن كان صائمًا دعا ، أخذًا بالحديث .
ويظهر من هذا : أن الأكل أولى من التَّرْك عندهم . وهو الحاصل من مذاهب العلماء ؛ لما فيه من إدخال السُّرور ، وحسن المعاشرة ، وتطييب القلوب ، ولما في تركه من نقيض ذلك .
وهذا كله ما لم يكن في الطعام شبهة ، أو تلحق فيه مِنَّة ، أو قَارَنَه منكر . فلا يجوز الحضور ، ولا الأكل . ولا يختلف فيه.
وقوله : (( وإن كان صائمًا فليصل )) ؛ معناه : فليدع . وهو تأويل الجمهور. وقد جاء مفسَّرًا في بعض الروايات : (( فَلْيَدْعُ )) مكان ((فليُصَلِّ)).
وفيه دليل لمالك على قوله : إن من شرع في الصوم لم يجز له أن يفطر في أضعافه ، على ما تقدَّم في باب الصوم .
(13/18)
وقوله : (( بئس الطعام طعام الوليمة )) ، وفي رواية أخرى : (( شرُّ الطعام )) بدل (( بئس )). أكثرُ الرواة والأئمة على رواية هذا الحديث موقوفًا على أبي هريرة. وقد انفرد برفعه زياد بن سعد عن الأعرج ، عن أبي هريرة : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( شرُّ الطَّعام ... )) وذكره . وهو ثقة إمام ، وأيضًا فمن وقفه ذكر فيه ما يدلُّ : على أنه مرفوع ؛ وذلك أنه قال فيه : (( ومن لم يجب الدَّعوة فقد عصى الله ورسوله )) ؛ وظاهر هذا : الرفعُ ؛ لأنَّ الرَّاوي لا يقول مثل هذا من قِبَل نفسه . وقد بيّن في سياق الحديث أنَّ الجهة التي يكون فيها طعام الوليمة شرُّ الطعام : إنما هي ترك الأَوْلى . وذلك : أن الفقير هو المحتاج للطعام ؛ الذي إن دُعي سارعَ وبادرَ ، ومع ذلك فلا يُدْعَى . والغنيُّ غير محتاج ، ولذلك قد لا يجيب ، أو تثقل عليه الإجابة ، ومع ذلك فهو يدعى ، فكان العكس أولى . وهو : أن يُدعى الفقير ، ويُترك الغني . ولا يُفهم من هذا القول - أعني : الحديث - : تحريم ذلك الفعل ؛ لأنه لا يقول أحد بتحريم إجابة الدعاء للوليمة فيما علمته ؛ وإنما هذا مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( شرُّ صفوف الرِّجال آخرها ، وخيرها أولها ، وشرُّ صفوف النساء أولها ، وخيرها آخرها )) ، ، فإنَّه لم يقل أحد : إن صلاة الرجل في آخر صف حرام ، ولا صلاة النساء في أول صف حرام . وإنَّما ذلك من باب ترك الأولى . كما قد يقال عليه : مكروه ، وإن لم يكن مطلوب الترك ، على ما يُعْرَف في الأصول . فإذًا الشرُّ المذكور هنا : قلَّةُ الثواب والأجر. والخير : كثرة الثواب والأجر . ولذلك كره العلماء اختصاص الأغنياء بالدَّعوة .
(13/19)
ثم اختلفوا فيمن فعل ذلك : هل تجاب دعوته أم لا ؟ فقال ابن مسعود : لا تجاب . ونحوه ابنُ حبيب من أصحابنا . قال ابن مسعود : ((نهينا أن نجيب ثلاثًا : مَنْ دعا الأغنياء وترك الفقراء ، ومَن يتخذ طعامه رياءً وسمعة ، ومَن ينجّد بيته كما تُنجَّد الكعبة )). وظاهر كلام أبي هريرة وجوب الإجابة . ودعا ابن عمر في وليمة : الأغنياء والفقراء ، فأجلس الفقراء على حِدَة ؛ وقال : ها هنا ، لاتفسدوا عليهم ثيابهم ، فإنا سنطعمكم مما يأكلون . ومقصود هذا الحديث : الحضُّ على دعوة الفقراء ، والضعفاء ، ولا تقصر الدعوة على الأغنياء ، كما يفعل مَنْ لا مبالاة عنده بالفقراء من أهل الدنيا ، والله أعلم .
ومن باب قوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم }
حديث جابر هذا نصٌّ على أن هذه الآية نزلت بسبب قول اليهود المذكور فيه . وفي كتاب أبي داود عن ابن عباس : أنها نزلت بسبب أن رجلاً من المهاجرين تزَوَّج أنصارية ، فأراد أن يطأها شَرْحًا على عادتهم في وطء نسائهم فأبت إلا على جنب على عادتهن ، فاختصما إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنزل الله تعالى : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنَّى شئتم} ؛ قال : أي : مُقْبِلات ، ومُدبرات ، ومُستلقيات ؛ يعني بذلك موضع الولد .
(13/20)
قلت : هذان سببان مختلفان ، لا بُعْدَ في نزول الآية جواباً للفريقين في وقت واحد ، أو تكرَّر نزول الآية في وقتين مختلفين ، كما قد روي عن غير واحد من النقلة في الفاتحة : أنها تكرر نزولها بمكة والمدينة . وقد تمسَّك طائفة بعموم لفظ : { أنَّى شئتم } ، ورأوا أنَّها متناولة لقُبُلِ المرأة ودُبُرِها . فاجازوا وطء المرأة في دبرها . وممن نُسب إليه هذا القول سعيد بن المسيِّب ، ونافع ، وابن الماجشون من أصحابنا. وحكي ذلك عن مالك في كتاب يُسمَّى : "كتاب السرّ" ، ونسب الكتاب إلى مالك ، وحذاق أصحابه ومشايخهم ينكرونه . وقد حكى العُتْبِيُّ إباحة ذلك عن مالك . وأظنه من ذلك الكتاب المنكر نَقَلَ . وقد تواردت روايات أصحاب مالك عنه بإنكار ذلك القول وتكذيبه لمن نقل ذلك عنه . وقد حكينا نصَّ ما نقل عن مالك من ذلك في جزء كتبناه في هذه المسألة سَمَّيناه : "إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار" ، وذكرنا فيه غاية أدلة الفريقين ، ومتمسكاتهم من الكتاب والسنة على طريقة التحقيق ، والتحرير ، والنقل ، والتحبير. ومن وقف على ذلك قضى منه العَجب العُجاب ، وعلم أنه لم يكتب مثله في هذا الباب . وجمهور السلف ، والعلماء ، وأئمة الفتوى على تحريم ذلك . ثم نقول : لا متمسك للمبُيحين في الآية لأوجه متعددة ؛ أقربها ثلاثة أمور :
أحدها : أنها نزلت جوابًا لما ذكر ، فتقصر على نوع ما نزلت جوابًا له ، فإنهم سألوا عن جواز الوطء في الفرج من جهات متعددة ، فأخيبوا بجوازه . فـ{ أنى } على عمومها في جهات المسلك الواحد ، لا في المسالك .
(13/21)
وثانيها : أن قوله تعالى : { فأتوا حرثكم أنَّى شئتم } : تعيين للقُبُلِ ؛ فإنَّه موضع الْحَرثْ ، فإنَّ الحرث إنَّما يكون في موضع البذر. وكذلك قال مالك لابن وهب ، وعلي بن زياد لَمَّا أخبراه : أن ناسًا بمصر يتحدثون عنه : أنه يجيز ذلك ، فنفر من ذلك ، وبادر إلى تكذيب الناقل . فقال : كذبوا عليَّ ، كذبوا عليَّ ، كذبوا عليَّ ، ثم قال : ألستم قومًا عربًا ؟ ألم يقل الله : { نساؤكم حرث لكم } ؟ وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت ؟! .
وثالثها : أنَّه لو سُلِّم أنَّ { أنَّى } شاملة للمسالك بحكم عمومها ، فهي مخصَصَّةٌ بأحاديث صحيحة ، ومشهورة ، رواها عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اثنا عشر صحابيًّا بمتون مختلفة ، كلّها متواردةٌ على تحريم وطء النساء في الأدبار . ذكرها أحمد بن حنبل في "مسنده" ، وأبو داود ، والترمذي ، والثسافعي . وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء وسَمَّاه : "تحريم المحل المكروه ". ومن أراد في هذه المسألة زيادة على ماذكرناه فليطالع الجزء المذكور ؛ الذي ألَّفناه .
وقوله : (( مُجَبِّيَةً وغير مُجَبِّيَةٍ )) ؛ أي : على وجهها. وقد يقال : ((مجبية )) على ما إذا وضعت يديها على ركبتيها ؛ حكاهما أبو عبيد .
وقوله : (( غير أن ذلك في صمام واحد ))-بالصاد المهملة - ؛ أي : في جُحْرٍ واحدٍ ؛ يعني به : القُبُل. وأصل الصمام هو : ما تسدُّ به القارورة.
وقوله : (( لو أن أحدهم إذا أتى أهله ... )) ، وذكر الحديث إلى قوله : (( لم يضُرَّهُ شيطان أبدًا )) ؛ قيل : معنى لم يضره : لم يصْرَعه الشيطانُ . وقيل : لا يطعن فيه الشيطان عند ولادته ، ويطعن في خاصرةِ مَنْ لا يقال له ذلك .
قال القاضي : ولم يحمله أحد على العموم في جميع الضرر والإغواء والوسوسة .
(13/22)
قلت : أمَّا قصره على الصرع وحده ، فليس بشيء ؛ لأنه تَحَكُّمٌ بغير دليل ، مع صلاحية اللفظ له ولغيره . وأمَّا القول الثاني ففاسدٌ بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كل مولود يطعن الشيطان في خاصرته إلا ابن مريم ، فإنَّه جاء يريد أن يطعنه فطعن في الحجاب )) ؛ هذا يدلُّ على أن الناجي من هذا الطعن إنما هو عيسى وحده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وذلك لخصوص دعوة أم مريم ، حيث قالت : { وإنِّي أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ، ثم إن طعنه ليس بضرر ، ألا ترى أنه قد طعن كثيرًا من الأولياء والأنبياء ، ولم يضرهم ذلك . ومقصود هذا الحديث - والله أعلم - : أنَّ الولد الذي يقال له ذلك يُحْفَظُ من إضلال الشيطان وإغوائه ، ولا يكون للشيطان عليه سلطان ؛ لأنه يكون من جملة العباد المحفوظين ، المذكورين في قوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ، وذلك ببركة نيَّه الأبوين الصالحين ، وبركة اسم الله تعالى ، والتعوُّذ به ، والالتجاء إليه. وكأنَّ هذا شِرْب من قول أم مريم : { وإنِّي أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ، ولا يُفهم من هذا نفي وسوسته ، وتشعيثه ، وصرعه . فقد يكون كلُّ ذلك ، ويحفظ الله تعالى ذلك الولد من ضرره في : قلبه ، ودينه ، وعاقبة أمره ، والله أعلم .
ومن باب تحريم امتناع المرأة على زوجها
قوله : (( والذي نفسي بيده )) ؛ هو قسم باسم الله تعالى ؛ أي : والذي هو مالك نفسي ، وقادرٌ عليها . ففيه دليل : على أن الحلف بالألفاظ المبهمة المراد بها : اسم الله تعالى ، يمين جائزة ، حكمها حكم الأسماء الصريحة على ما يأتي .
(13/23)
وقوله : (( ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها ، فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها )) ؛ دليل على تحريم امتناع المرأة على زوجها إذا أرادها . ولا خلاف فيه ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وللرجال عليهن درجة } ، والمرأة في ذلك بخلاف الرَّجل ، فلو دعت المرأة زوجها إلى ذلك لم يجب عليه إجابتها ، إلاَّ أن يقصد بالامتناع مضارَّتها ، فيحرم ذلك عليه. والفرق بينهما : أن الرَّجل هو الذي ابتغى بماله ، فهو المالك للبضع . والدرجة التي له عليها هي السلطنة التي له بسبب ملكه . وأيضًا : فقد لا ينشطُ الرَّجل في وقت تَدْعُوه ، فلا ينتشر(7) ، ولا يتهيأ له ذلك ، بخلاف المرأة .
وقوله : (( الذي في السماء )) ؛ ظاهره : أن المراد به : الله تعالى ؛ ويكون معناه كمعنى قوله تعالى : { أأمنتم من في السماء } ، وقد تكلمنا عليه في كتاب الصلاة . ويحتمل أن يراد به هنا : الملائكة . كما قد جاء في الرواية الأخرى : (( إلا لعنتها الملائكة حتى تُصْبح )).
وقوله : (( إن من شرِّ ِ النَّاس منزلة الرَّجل يفضي إلى امرأته ، ثم ينشر سرها )) ، وقد تقدَّم الكلام على لفظي (( شر )) و((خير )) ، وأنهما يكونان للمفاضلة ، وغيرها . و((شر )) هنا للمفاضلة ؛ بمعنى : ((أشر)) ، وهو أصلها . و((من )) هنا : زائدة على ((شر )) .
و ((يفضي )) : يصل ، وهو كناية عن الجماع ، كما في قوله تعالى : {وقد أفضى بعضكم إلى بعض }. و((سرّها )) : نكاحها ، كما قال :
ولا تنظرنَّ جارةً إنَّ سِرَّها عليك حرامٌ فانْكِحَنْ أو تَأَبَّدا
وكني به عن النكاح لأنه يفعل في السرّ .
(13/24)
ومقصود هذا الحديث هو : أن الزجل له مع أهله خلوة ، وحالة يَقْبُحُ ذِكرُها ، والتحدُّث بها ، وتحمل الغَيْرة على سترها ، ويلزم من كشفها عار عند أهل المروءة والحياء . فإن تكلم بشيء من ذلك ، وأبداه ، كان قد كشف عورة نفسه وزوجته ؛ إذ لا فرق بين كشفها للعيان ، وكشفها للأسماع والآذان ؛ إذ كل واحد منهما يحصل به الاطلاع على العورة ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تعمد المرأة فتصف المرأة لزوجها ، حتى كأنّه ينظر إليها )) ، فإن دعت حاجة إلى ذِكْر شيء من ذلك ، فليذكره مبهمًا ، غير مُعَيّنٍ ، بحسب الحاجة والضرورة ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فعلتُه أنا وهذه )) ، وكقوله : (( هل أعرستم الليلة ؟ )) ، وكقوله : (( كيف وجدت أهلك ؟ )) والتصريح بذلك وتفصيله ليس من مكارم الأخلاق ، ولا من خصال أهل الدين .
وقوله : (( إن أعظم الأمانة )) ؛ أي : أوكد ، وأكبر في مقصود الشرع . و((الأمانة )) للجنس ؛ أي : الأمانات . وقد تقدَّم : أن الأمانة ما يُوكل إلى حفظ الإنسان ، وقيامه به . وقد سقطت ((من )) في إحدى الروايتين . والصواب : إثباتها ؛ فإنَّها تُفيد : أنَّ هذه الأمانة من جنس الأمانات العظيمة ، وهو صحيح. وإسقاطها يشعر : بان هذه الأمانة أعظم الأمانات كئها ، وليس بصحيح ، فإن الأمانة على صحيح الإيمان أعظم . وكذلك على الطهارة وغيرها مما يؤتمن عليه الإنسان من خفي الأعمال .
ومن باب العزل
(13/25)
قوله : (( بَلْمُصطَلِق)) ؛ أي : بنو المصْطَلِق ، كما قالوا : بلعنبر. قال أبو عمر : بنو المضطلق : قومٌ من خزاعة ، كانت الوقعة بهم في موضع يقال له : المريسيع من نحو قُديد ، في سنة ست من الهجرة . وتعرف هذه الغزوة بـ (( غزوة بني المصطلق )) وبـ (( غزوة المريسيع )). قال : وقد روى هذا الحديث موسى بن عقبة ، عن ابن مُحْيريز ، عن أبي سعيد ، قال : (( أصبنا سَبْيًا من سبي أوطاس )). قال : وهو سبي هوازن . وكان ذلك يوم حنين في سنة ثمانٍ من الهجرة . قال : فوهم ابن عقبة في ذلك والله أعلم . قال : وقد رواه أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الودَّاك ، عن أبي سعيد قال : لما أصبنا سبي حنين سألنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن العزل . فقال : (( ليس من كل الماء يكون الولد ... )) ، الحديث .
قلت : الذي ذكر مسلم في كتابه عن علي بن أبي طلحة ، عن أبي الودَّاك ، عن أبي سعيد في هذا الحديث : سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن العزل فقال : (( ليس من كل الماء يكون الولد )). ولم يذكر فيه سبي حنين ، ولا غيره . وكذلك ما ذكره أبو عمر من رواية ابن عقبة عن ابن محيريز ذكره مسلم أيضًا ، ولم يذكر فيه : (( مِنْ سَبِي أوطاس )) ، ولا غيره . وإنما ذكر مسلم (( يوم أوطاس )) في حديث أبي علقمة الهاشمي ، عن أبي سعيد في قضية تحرُّج أصحابه من وطء المسبيات ، من أجل أزواجهنَّ على ما يأتي ، وهي قصة أخرى ، في زمان آخر غير زمان بني المصطلق .
والصَّحيح في الحديث الأول رواية من رواه : (( بني المصطلق )) ، والله أعلم .
وقوله : (( فسبينا كرائم العرب )) ؛ أي : كبراءَهم ، وخيارَهُم . جمع كريمة . وبنو المصطلق وثنيون بلا شك .
وقوله : (( فطالت علينا العزبة)) ؛ أي : لتعذُّر النكاح عليهم عند تعذُّر أسبابه ، لا لطول إقامتهم في تلك الغزوة ، فإن غيبتهم فيها عن المدينة لم تكن طويلة .
(13/26)
وقوله : (( ورغبنا في الفداء )) ؛ أي : في أخذ المال عوضًا عنهن . يقال : (( فدى أسيره )) : إذا دفع فيه مالاً وأخذه. و(( فاداه )) : إذا دفع فيه(@) رجلاً ؛ على ما حكاه أبو عمر .
وظاهر هذا : جوازُ إقدامهم على وطء المسبيات الوثنيات من غير أن يُسْلِمْنَ . وإنَّما توقفوا في وطئهن مخافة أن يَحْمَلْنَ منهم . فيتعذر فداؤهن ؛ لأجل حملهن ؛ فسألوا : هل يجوز لهم العزل ؟ فأُجيبوا في العزل . وسكت لهم عن وطئهن في حال شركهن .
وبهذا الظاهر اغتَّر قومٌ فقالوا بجواز وطء الوثنيات ، والمجوسيات بالْمِلك ، وإن(10) لم يُسلمن . وإليه ذهب طاووس وسعيد بن المسيب . واختلف في ذلك عن عطاء ، ومجاهد . ويَرِدُّ على هذا القول قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ، والى التمسُّك بعموم هذه الآية صار جمهور العلماء . ولم يُعوِّلوا على ما ظهر من هذا الحديث ، ورأوا أنَّ ذلك محمول على جواز وطء من أسلم منهن ، وأن الفداء الْمُتخوَّف مِن فَوْتِه بوطتهنَّ إنما هو أثمانهن .
وقد دلَّ على صحة هذا التأويل نصُّ ما جاء في رواية الزهري عن ابن محيريز ، عن أبي سعيد قال : (( جاء رجلٌ من الأنصار ، فقال : يا رسول الله ! إنَّا نصيب سبيًا ، ونحب الأثمان ، فكيف بالعزل ؟ )) وَوَجْهُ تخوّفهم من فوات الثمن بالوطء : أنهنَّ إذا حملنَ ؛ لم يصح لهم بيعهنّ لكونهنّ حوامل من ساداتهن . وأمَّا بعد انفصال حملهن ؛ فلكونهنّ أمهات أولادٍ(9) ، على ما صار إليه الجمهور ، على ما يأتي إن شاء الله .
ثم إنَّا نقول : لو سلَّمنا أن ظاهر ذلك الحديث جوازُ الإقدام على وطء المسبيَّات من غير إسلام ، لزم منه جواز الإقدام على وطئهنَّ من غير استبراء ، ومع وجود الحمل البيِّن ، وهو ممنوع اتفاقًا ، فيلزم المنعُ من الوطء ؛ لاستوانهما في الظهور .
(13/27)
وأيضًا : فكما نعلم قطعًا أنهم كانوا لايقدمون على وطء فرج لا تتحقَّقُ حلِّيته ، نكذلك نعلم : أنهم لا بدَّ لهم من استبراءٍ وإسلام . وإن كان الراوي قد سكت عنه . وسكوت الراوي ؛ إمَّا للعلم بها . وإمَّا لأنَّ الكلام يُجمل في غير مقصوده ، ويُفَصَّلُ في مقصوده .
والذي يزيح الإشكال ويرفعه جملة واحدة ما رواه عبد الرزاق بإسناده عن الحسن قال : (( كنَّا نغزو مع أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإذا أراد أحدهم أن يصيب الجارية من الفيء أمرها فغسلت ثيابها ، واغتسلت ، ثم علَّمها الإسلام ، وأمرها بالصَّلاة ، واستبرأها بحيضة ، ثم أصابها )).
وكذلك روى عبد الرزاق أيضًا عن سفيان الثوري : أنه قال : (( السُّنَّة ألاَّ يقع أحدٌ على مشركة حتى تُصلي ويستبرئها ، وتغتسل )).
وهذه أدلَّة تدلُّ على صحة ما اخترناه ، والموفق الإله .
وقوله : (( فأردنا أن نستمتع ونعزل )) ، وفي الرواية الأخرى : (( فكنَّا نعزل )) ؛ يعني : أنَّ منهم من وقع سؤاله قبل أن يعزل ، ومنهم من وقع سؤاله بعد أن عزل . ويحتمل أن يكون معنى : (( كنا نعزل )) ؛ أي : عَزَمْنا على ذلك . فيرجع معناها إلى ا لأولى .
وقوله : وقد سنل عن العزل : (( لاعليكم ألاَّ تفعلوا )). العَزْلُ : هو أن يُنَحِّي الرَّجلُ ماءه عند الجماع عن الرَّحم ، فيلقيه خارجه . والذي حرَّكهم للسؤال عنه : أنهم خافوا أن يكون مُحَرَّمًا ؛ لأنَّه قطعٌ للنَّسل ، ولذلك أطلق عليه : الوأد الخفي .
واختلف في قوله : (( لا عليكم ألاَّ تفعلوا)) ، فهمت طائفةٌ منه : النهي والوجر عن العزل ؛ كما حُكي عن الحسن ، ومحمد بن المثنى . وكأنَّ هؤلاء فهموا من (( لا )) النهي عما سئل عنه ، وحذف بعد قوله : (( لا )) فكأنَّه قال : لا تعزلوا ، وعليكم ألاَّ تفعلوا . تأكيدٌ لذلك النهي. وفهمت طائفة أخرى منها الإباحة ، وكأنَّها جعلت جواب السؤال قوله : (( لا عليكم ألا تفعلوا )) ؛ أي : ليس عليكم جناح في أن لا تفعلوا .
(13/28)
وهذا التأويل أولى بدليل قوله : (( ما من نسمة كائنة إلا ستكون )) ، وبقوله : (( لا عليكم ألاَّ تفعلوا ، فإنما هو القدر )) ، وبقوله : (( إذا أراد الله خلق الشيء لم يمنعه شيء )) ، وهذه الألفاظ كلها مصرَّحة بأنَّ العزل لا يَرُدُّ القَدَرَ ، ولا يضر. فكأنه قال : لا بأس به . وبهذا تمسَّك من رأى إباحة العزل مطلقًا عن الزوجة والسُّرِّيَّة ، وبه قال كثير من الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء . وقد كرهه آخرون من الصَّحابة وغيرهم متمسّكين بالطريقة المتقدمة . وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ذلك الوأد الخفيّ )).
قلت : وتشبيه العزل بالوأد الْمُحَرَّم يقتضي أن يكون محرمًا . ووجه التشبيه بينهما : أنهم كانوا في الجاهلية يدفنون البنات أحياء ، يقتلونهن بذلك ؛ خشية المعَرَّة ، ومنهم من كان يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر . كما هو ظاهر قوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } ، والإملاق : الفقر ؛ على أنَّه قد قيل : إن الأولاد هنا هم البنات . فإذًا الوأد : رفع الموجود والنسل . والعزل : مَنْع أصل النَّسل . فتشابها ، إلاَّ أن قتل النفس أعظم وزرًا ، وأقبح فعلاً ؛ ولذلك قال بعض علمائنا : إنه يفهم من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العزل : (( إنه الوأد الخفي )) : الكراهة ، لا التحريم . وذهب مالك والشافعي : إلى أن العزل عن الحرَّة لا يجوز إلا بإذنها . وكأنهم رأوا : أن الإنزال من تمام لذتها ، ومن حقها في الولد ، ولم يريا ذلك في الموطوءة بالْمِلْك ، فله أن يعزل عنها بغير إذنها ؛ إذ لا حقَّ لها في شيء مما ذكر .
قلت : ويمكن على هذا المذهب الثالث أن يجمع بين الأحاديث المتعارضة في ذلك . فتُصيَّر الاحاديث التي يُفهم منها المنع : إلى الزوجة الْحُرَّة ، إذا لم تأذن ، والتي يُفهم منها الإباحة إلى الأمَةِ والزوجة ، إذا أَذِنت . فيصحّ الجميع ، ويرتفع التعارض ، والله أعلم .
(13/29)
وقوله : (( وإنكم لتفعلون - ثلاثا - )) ؛ ظاهره : الإنكار ، والزَّجْر . غير أنَّه يضعفه قوله : (( ما من نسمة كائنة إلا هي كائنة )) ؛ على ما قررناه آنفًا ، فإذًا معناه : الاستبعاد لفعلهم له ؛ بدليل ما جاء في الرواية الأخرى : (( ولِمَ يفعل ذلك أحدكم ؟ )) ، . قال الراوي : ولم يقل : فلا يفعل ذلك أحدكم . ففهم : أنَّه ليس بنهيٍ ، وهو أعلم بالمقال ، وأقعد بالحال .
وقولهم : الرَّجل تكون له المرأة تُرضِعُ فيصيبُ منها ، ويكره أن تحمل منه ، أوالرجل تكون له الأَمَة ، فيصيب منها ، ويكره أن تحمل منه ؛ دليل على أن قوله : (( فلا عليكم ألاَّ تفعلوا )) ؛ إنما خرج جوابًا عن سؤالين : العزل عن الحرَّة ، وعن الأَمَة ، فلا يُعَدُ أن يذكر الراوي في وقت أحد السؤالين ، ويسكت عن الآخر ، ويذكرهما جميعًا في وقت آخر ، كما قد جاء في هذه الروايات . ولا يُعَدُّ مثل هذا ا ضطرابًا .
وقوله : (( ما من كل الماء يكون الولد )) ؛ يعني : أنّه ينعقد الولد في الرَّحم من جزءٍ من الماء ، لا يشعر العازلُ بخروجه ؛ فيظنَّ أنَّه قد عزلَ كلَّ الماء ، وهو إنما بعضه ، فيخلق الله الولد من ذلك الجزء اللطيف الذي بادر بالخروج .
وقوله في حديث جابر ـ رضى الله عنه ـ : (( إن لي جارية هي خادمنا ، وسانِيَتُنَا )) ؛ هكذا مشهور الرواية عند كافة الرواة . ويعني بالسَّانية : المستقية للماء. يقال : سنت الدَّابة ، في سانية : إذا استُقيَ عليها الماء . وعند ابن الحذَّاء : (( وسايستنا)) : اسم فاعل من : ساس الفرس ، يسوسه : إذا خدمه .
وقوله : (( اعزل عنها إن شئت )) ؛ نصٌّ في إباحة العزل . وهو حجة لمالك ، ولمن قال بقوله على ما تقدَّم .
(13/30)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما قيل له : إن الجارية قد حبلت : (( قد أخبرتُك أنَّه سيأتيها ما قدَّر لها )) ؛ دليل على إلحاق الولد بمن اعترف بالوطء ، وادَّعى العزل في الحرائر والإماء . وسبَبُه انفلاتُ الماء ، ولا يشعر به العازلُ . ولم يُختلف عندنا في ذلك إذا كان الوطء في الفَرْج ، فإن كان في غير الفرج مِمَّا يقاربه ، أو كان العزل البيِّن ؛ الذي لا شك فيه لم يلحق . وفيه حجّة : على كون الأَمَة فراشًا إذا كان الوطء .
وقوله : (( أنا عبد الله ورسوله )) ؛ تنبيه منه على صدقه وصحّة رسالته ؛ كما قال عند تكثير الطَّعام : (( أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنِّي رسول الله )).
وقول جابر ـ رضى الله عنه ـ : (( كنا نعزل على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فبلغ ذلك نبيَّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلم ينهنا )) ؛ حجّة واضحة على إباحة العزل مطلقًا ، ولكن مَحْمله على ما إذا لم يعارضه حقُّ الزوجة كما ذكرنا ، والله أعلم .
ومن باب تحريم وطء الحامل المسبيَّة
قوله : (( أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى بامرأة ، مُجِحٍّ)) ، روايتنا فيه : (( أتَى )) - بفتح الهمزة والتاء - ، على أنَّه فعل ماض ؛ بمعنى : جاز ، ومرَّ. و(( مُجِحٍّ )) - بضم الميم ، وكسر الجيم ، وتشديد الحاء المهملة - ، وهي : المرأة التي قربت ولادتها . و(( الفسطاط )) : خِباءٌ صغير . وفيه لغتان : فَسطاط وفُسطاط.
وقوله : (( لعلَّه يريد أن يُلِمَّ بها ؟ )) كناية عن إصابتها. وأصل الإلمام : النزول ، كما قال :
متى تأتنا تُلْمم بنا في دِيارنا تجد خير نار عندها خير مُوقِد
(13/31)
وقوله : (( لقد هممت أن ألعنه لعنًا يدخل معه قبره )) ؛ هذا وعيدٌ شديدٌ على وطء الحبالى حتى يضعْنَ . وهو دليل على تحريم ذلك مطلقًا ، سواء كان الحمل من وطء صحيح ، أو فاسد ، أو زنى . فإنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يستفصل عن سبب الحمل ، ولا ذكر أنه يختلف حكمه . وهذا موضع لا يصحُّ فيه تأخير البيان. وإلى الأخذ بظاهر هذا ذهبَ جماهير العلماء ، غير أن القاضي عياضًا قال في المرأة تزني فتحمل ، ويتبين حملها : أن أشهب أجاز لزوجها وطأها . قال : وكرهه مالك وغيره من أصحابه . قال : فاتفقوا على كراهته ، ومنعه من وطئها في ماء الزنى ما لم يتبين الحمل . وهذا الذي حكاه عن أشهب يردُّه هذا الحديث . ومعناه على ما يأتي . وكراهة مالك لذلك بمعنى : التحريم ، والله أعلم . وإنما لم يُوقِع النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما هَمَّ به من اللَّعن ؛ لأنه ما كان بَعْدُ تقدَّم في ذلك بشيء . وأمذَا بَعْدَ أن تقدذَم هذا الوعيد وما في معناه : ففاعل ذلك متعرِّضٌ للّعن يدخل معه قبره ، ويدخله جهنم.
وقوله : (( كيف يورثه وهو لا يحل له ؟! )) كيف يستخدمه وهو لايحل له ؟! )) هذا تنبيه منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن واطئ الحامل له مشاركة في الولد. وبيانه : أن ماء الوطء يُنَمِّي الولد ، ويزيد في أجزائه ، ويُنعِّمه ، فتحصل مشاركة هذا الواطىء للأب ؛ ولذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره )). فإذا وطىء الأَمَة الحامل لم يصحّ أن يحكم لولدها بأنه ابن لهذا الواطىء ؛ لأنه من ماء غيره نشأ . وعلى هذا فلا يحلُّ له أن يرثه ، ولا يصح أيضًا أن يحكم لذلك الولد بأنه عبدٌ للواطىء ؛ لما حصل في الولد من أجزاء مائه ، فلا يحلَّ له أن يستخدمه استخدام العبيد ؛ إذ ليس له بعبدٍ ، لِمَا خالطه من أجزاء الْحُرِّ .
(13/32)
وفيه من الففه : ما يتبيَّن به استحالة اجتماع أحكام الحرية ، والرِّق ني شخص واحد ، وأن مَن فيه شائبة بُنُوَّةٍ لا يُمْلَك ، ومن فيه شائبة رقٍّ لا يكون حكمه حكم الحرّ ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
وفيه : أن السِّباء يهدمُ النكاح ، وهو مشهورُ مذهبنا ، سواء سُبيا مجتمعين أو مفترقين ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
وقد ذكر أبو داود في المنع من وطء الحامل حديثًا نصًّا ، هو أصلٌ في هذا الباب ؛ من حديث أبي الودَّاك : جبر بن نوف ، عن أبي سعيد الخدري ، رفعه ، قال في سبايا أوطاس : (( لا توطأ حامل حتى تضع ، ولاغير حامل حتى تحيض حيضة )) . تفرد أبو الودَّاك بقوله : (( حتى تحيض حيضة )). وأبو الودَّاك وثّقه ابن معين . وقد خرَّج عنه مسلم في "صحيحه".
و (( جُدامة الأسديَّة )) رويناه بالذال المهملة . وهكذا قاله مالك ، وهو الصواب. قال أبو حاتم : الْجُدامة : ما لم يندق من السُّنبل . قال غيره : هو ما يبقى في الغِرْبال من قَصَبِه . وقال غير مالك بالذال المنقوطة. وهو من : الجذم ؟ الذي هو القطع . وهي : جُدامة بنت وهب بن محصن الأسديَّة ، تكنى : أم قيس ؛ وهي ابنة أخي عكَّاشة بن محصن . أسلمت عام الفتح .
وقوله : (( لقد هممت أن أنهى عن الغِيلة ))- بكسر الغين لا غير- وهي الاسم من الغَيْل . وإذا دخلت عليه الهاء فليس إلا الكسر ، وإذا حُذفت الهاء فليس إلا الفتح في الغين . وقال بعضهم : يقال : الغَيلة - بالفتح - للمرة الواحدة من الغَيْل . وللغويين في تفسيرها قولان :
أحدهما : أن الغِيلة هي : أن يجامع الرَّجل امرأته وهي تُرضع . حُكي معناه عن الأصعي . يقال منه : غال الرَّجل المرأةَ ، وأغالها ، وأغيلها .
وثانيهما : أنَّها أن تُرضع المرأة وهي حامل . يقال منه : غالت ، وأغالت ، وأغيلت ؛ قاله ابن السِّكِّيت .
(13/33)
قلت : والحاصل : أن كل واحد منهما يقال عليه : (( غيلة )) في اللغة ، وذلك : أن هذا اللفظ كيفما دار إنما يرجع إلى الضرر ، والهلاك ؛ ومنه تقول العرب : غالني أمرُ كذا ؛ أي : أضرَّ بي . وغالته الغول ؛ أي : أهلكته . وكلُّ واحد من الحالتين المذكورتين مضرَّة بالولد . ولذلك يصح أن تحمل الغيلة في الحديث على كل واحد منهما .
فأمَّا ضرر المعنى الأول : فقالوا : إن الماء - يعني : المني - يغيلُ اللَّبن ؛ أي : يفسده . ويُسأل عن تعليله أهل الطبِّ .
وأمَّا الثاني : فضرره بيِّنٌ محسوسٌ . فإن لبن الحامل داءٌ وعلَّة في جوف الصبي ، يظهر أثره عليه . ومراده ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحديث : المعنى الأول ، دون الثاني ؛ لأنه هو الذي يحتاج إلى نظر في كونه يضرُّ الولد ؛ حتى احتاج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن ينظر إلى أحوال غير العرب ؛ الذين يصنعون ذلك. فلمَّا رأى أنَّه لا يضرُّ أولادهم لم يَنْه عنه .
وأمَّا الثاني : فضرره معلومٌ للعرب وغيرهم ، بحيث لا يحتاج إلى نظر ، ولا فكر . وإنما هَمَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنهي عن الغيلة لما أكثرت العرب من اتقاء ذلك ، والتحدُّث بضرره ، حتى قالوا : إنه ليدرك الفارس فيدعثره عن فرسه .
وقد روي ذلك مرفوعًا من حديث أسماء ابنة يزيد ، قالت : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه )). ذكره ابن أبي شيبة . ثم لما حصل عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا يضرّ أولاد العجم ؛ سوى بينهم وبين العرب في هذا المعنى ، فسوَّغه . فيكون حجّة لمن قال من الأصوليين : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحكم بالرأي والاجتهاد . وقد تقدذَم ذلك .
وقول السائل عن العزل : (( أشفق على ولدها )) ؛ يعني : أخاف إن لم أعزل أن تَحْمِل فيضرَّ ذلك ولدها ، على ما تقدَّم . ويحتمل : أنَّه يخاف فساد اللَّبن بالوطء . على ما ذكرناه آنفًا .
(13/34)
وقوله : (( لو كان ذلك ضارًّا ضرَّ فارس والرُّوم )) ؛ دليل على أنَّ الأصل في نوع الإنسان المساواة في الجِبِلاَّت والْخَلق ، وإن جاز اختلاف العادات والمناشئ .
وفيه حجة على إباحة العزل ، كما تقدَّم ، والله أعلم .
ومن أبواب الرِّضاع
قول عائشة رضي الله عنها : (( لو كان فلان حيًّا - لعمها من الرَّضاعة - دخل عليَّ )) ؛ نصٌّ في أنَّ هذا السؤال إنَّما كان بعد موت عمها ، وهو يخالف قولها : إن عمّها من الرّضاعة يُسَمَّى : أفلح استأذن عليها . وهذا نصٌّ في أن سؤالها كان وهو حيٌّ ، فاختلف المتأولون لذلك : هل هما عمَّان أو عمّ واحد ؟ فقال أبو الحسن القابسي : هما عمَّان لها ؛ أحدهما : أخو أبيها ، أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ من الرَّضاعة ، أرضعتهما امرأة واحد . والثاني : أخو أبيها ، أبي القُعَيس من الرضاعة . وقال ابن أبي حازم : هما واحد . قال القاضي أبو الفضل : والأشبه قول أبي الحسن .
قلت : وتتميم ما قاله : أنهما عمَّان ، وأن سؤالها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مرتين في زمانين ، وتكرر منها ذلك. إمَّا لأنها نسيت القضية الأولى ، فاستجدَّت سؤالاً آخر ، وإمَّا لأنَّها جوَّزت تَبَدُّل الحكم . فسألت مرة أخرى ، والله أعلم .
وقوله : (( إن الرَّضاعة تحرّم ما تحرِّم الولادة )) ، وفي الأخرى : (( يحرم من الرَّضاعة ما يحرم من النسب )) ؛ دليل على جواز نقلهم بالمعنى ، إن كانت القضية واحدة . ويحتمل أن يكون تكرر ذلك المعنى منه باللفظين المختلفين .
وقد صرَّح الرواة عن عائشة برفع هذه الألفاظ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهي مسندة ، مرفوعة ، ولا يضرَّها وقف مَنْ وففها على عائشة ، كما جاء في الرواية الأخرى .
(13/35)
ويفيد هذا الحديث : أن الرَّضاع ينشرُ الحرمةَ بين الرضيع والمرضعة ، وزوجها إلى صاحب اللَّبن ، أو سيدها ، فإذا أرضعت المرأةُ صبيًّا حُرِّمت عليه ؛ لأنها أمه ، وأمُّها ؛ لأنها جدَّته . وأختها ؛ لأنها خالته ، وبنتها لأنَّها أخته . وكذلك بنت صاحب اللبن ؛ لأنها أخته ، وأمِّه ؛ لأنّها جدته ، وأخته لأنَّها عمته ، وهكذا . غير أن التحريم لا يتعدَّى الرضيع(5) إلى أحد من قرابته . فليس أخته من الرَّضاعة أختًا لأخيه ، ولا بنتًا لأبيه ، إذ لا رضاع بينهم . وحكمة ما ذكرناه : أن الشرع اعتبر في التحريم ما ينفصل من أجزاء المرأة وهو اللَّبن ، ويتصل بالرضيع(6) ، فيغتذي به ، فتصير(7) أجزاؤها أجزاءه ، فينتشر(8) التحريم بينهما . واعتبر في حقّ صاحب اللبن : أن وجود اللَّبن بسبب مائه ، وغذائه . فأمَّا قرابات الرَّضيع فليس بينهم ولا بين المرضعة ، ولا زوجها نسبٌ ، ولا سببٌ . فَتَدَبَّرْهُ .
ومن باب التحربم من قِبَل الفحل
قولها : (( جاء أفلح أخو أبي القُعَيس )) ؛ هكذا هو الصحيح. و(( أفلح )) هو الذي في كُنِّي عنه في روايةٍ أخرى : بأبي الْجُعَيْد ؛ وهو عمُّ عائشة من الرَّضاعة ؛ لانَّه أخو أبي القُعَيس نسبًا . و(( أبو القعيس )) : أبو عائشة رضاعةً . وما سوى ما ذكرناه من الروايات وَهْمٌ . فقد وقع في "الأم" : (( جاء أفلح بن أبي قعيس )) ، و(( أن أبا القعيس استأذن عليها )) وكل ذلك وهْمٌ من بعض الرواة .
وهذا الحديث حجّة لمن يرى : أن لبن الفحل يُحرِّم ؛ وهم الجمهور من الصحابة وغيرهم . قال القاضي أبو الفضل : لم يقل أحدٌ من أئمة الفقهاء ، وأهل الفتيا بإسقاط حرمة لبن الفحل إلا أهل الظاهر ، وابن عُليَّة . قال أبو محمد عبدالوهاب : ويتصوَّر مع افتراق الأُمَّيْن ، كرجلٍ له امرأتان ؛ ترضع إحداهما صبيًّا ، والأخرى صبيَّة : فيحرم أحدُهما على الآخر ؛ لأنهما أخوان لأب .
(13/36)
قلت : ووجه الاستدلال من حديث عائشة رضي الله عنها هذا على أن لبن الفحل يحرم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثبت لأفلح عمومة عائشة رضي الله عنها ، وإنما ارتضعت عائشةُ لبنَ امرأةِ أبي القعيس ؛ لأن أبا القعيس قد صار أبًا لها ، فينتشر التحريم كما تقدَّم . وعلى هذا فلو تزوجت المرأة أزواجًا ، وأصابوها على الوجه المسوِّغ ؛ واللَّبن الأول باق انتشرت الحرمة بين الرضعاء وبين الأزواج ؛ لأنهم أصحاب ذلك اللَّبن ما دام متصلاً ، فإن انقطع اللَّبن فلكلِّ زوجٍ حُكْم نَفسِه ، والله أعلم .
وقد تقدَّم القول على : (( تربت يمينك )) في كتاب الطهارة .
ومن باب تحريم الأخت وبنت الأخ من الرضاعة
قوله : (( مالَكَ تنَوَّق في قريش وقد عنا ؟ )) هذا الحرف عند أكثر الرواة بفتح النون والواو وتشديدها . وهو فعل مضارع محذوف إحدى التاءين ، وماضيه : تَنَوَّقَ ، ومصدره : تَنَوُّقًا ؛ أي : بَالَغَ في اختيار الشيء ، وانتقائه . وعند العُذْري ، والْهَوْزَنِي ، وابن الحذَّاء : تَتُوق- بتاء مضمومة من : تَاقَ ، يَتُوقُ ، تَوْقًا وتَوْقَانًا : إذا اشتاق . وعرض عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابنةَ حمزة ليتزوَّجها : كأنَّه لم يعلم بإخوَّة حمزة له من الرَّضاعة ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحمزة بن عبد المطلب ـ رضى الله عنه ـ عمَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرضتهما ثويبةُ مولاة أبي لهب ؛ حكاه ابن الأثير . وبعيد أن يقال : إنَّه لم يعلم بتحريم ذلك . وأمَّا أمُّ حبيبة فالأمران في حقها مسوّغان .
وقولها : (( لست لك بِمُخْلِية ))- بضم الميم ، وسكون الخاء ، وكسر اللام - اسم فاعل من : أخلى ، يَخْلِي ؛ أي : لست بمنفردةٍ بك ، ولا خالية من ضرَّة .
و (( دُرَّة)) : الصحيح في هذا الاسم : بضم الدَّال المهملة . ووقع لبعض الرواة : ذَزَّة - بفتح الذال المعجمة - وكأنَّه وَهْمٌ .
(13/37)
وقوله : (( لو أنَّها لم تكن ربيبتي في حجري ماحلَّت لي )) ؛ يفيد تحريم الرَّبيبة هنا بكونها في حجر المتزوِّج ؛ كتقيدها به في قوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم} ، وبهذا التقييد تمسَّك داود ، فقال : لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر المتزوّج بأمِّها . وجمهور العلماء من السَّلف والخلف على أن ذلك ليس بشرط في التحريم ، وإنما خرج ذلك القيد على تعريفهنَّ بغالب أحوالهن .
قال ابن المنذر : قد أجمع كلُّ مَنْ ذكرناه ، وكلُّ مَنْ لم نذكره من علماء الأمصار على خلاف قول داود . وقد احتج بعضهم على عدم اشتراط الِحْجر بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((لا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن)) ،
ولم يقل : اللاتي في حجري(10).
وقوله : (( إنَّها ابنة أخي من الرَّضاعة )) ؛ هذا حجة على أن لبن الفحل يحرّم كما تقدَّم . وفيه تنبية على جواز تعليل الحكم بعلّتين ؛ فإنه علَّل تحريمها : بأنها ربيبة ، وابنة أخ .
وقد اختلف الأصوليون في ذلك ، والصحيح جوازه بهذا الحديث وغير ه .
و (( ثُوَيْبَةُ ))- بضم الثاء المثلثة ، وفتح الواو ، وياء التصغير- : تصغير : ثوبة ؛ وهي الْمَرَّةُ الواحدةُ ، من : ثَابَ : إذا رَجَع . يقال : ثاب ، يثوب ، ثوبًا ، وثوبة. وثويبةُ هذه هي : جاريةُ أبي لهب ، كانت أرضعت النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبا سلمة ، ولأجل رضاعها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سقي أبو لهب نطفةً من ماج في جهنم ؛ وذلك أنه جاء في الصحيح : أنه رُئِيَ في النوم . فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : سُقيت في مثل هذه ، وأشار إلى ظفر إبهامه .
وقوله : (( فلا تَعْرِضْنَ عليَّ بناتكن ، ولا أخواتكن )) ؛ أتي بلفظ الجمع وإن كانتا اثنتين ؛ ردعًا وزجرًا أن يعود له أحدٌ بمثل ذلك. ولذلك يحسنُ من المنكر على المرأة مثلاً المكلِّمة لرجل واحدٍ أن يقول : أتكلمين الرِّجال يا لكعاء ؟! .
ومن باب لا تُحرِّم الْمَصَّةُ ولا الْمَصَّتان
(13/38)
قوله : (( لا تُحرِّم الإملاجة ولا الإملاجتان )) ؛ قال أبو عبيد : يعني : الْمَصَّة والْمَصَّتين . والملج : الْمَصّ . يقال : ملج الصبي أمَّه ، يملجها -بالجيم - وملح ، يملح - بالحاء المهملة -. وأمْلَجَت المرأةُ صبيَّها. والإملاجة : أن تُمِصَّه لبنَهَا مرة واحدة . وأمَّا الرَّضاعة : فقال ابن السكيت وغيره : فيها لغتان ؛ كسر الراء وفتحها. وكذلك : الرَّضاع. وقد رضع -بفتح الضاد وكسرها - لغتان . ورضُع - بضم الضاد - : إذا كان لئيمًا ، فهو : راضع ، وجمعه : رُضَّع . ومنه قول ابن الأكوع :
واليوم يوم الرُضَّع
أي : يوم هلاك اللِّئام .
قلت : لم يقل أحدٌ فيما علمت بظاهر ذلك الحديث إلا داود . فإنَّه قال : أقل ما يُحرِّم ثلاث رضعات ، ولا تُحرِّم الرضعة ولا الرضعتان . وهو تمسُّكٌ بدليل الخطاب . وذهب الشافعي : إلى أن أقل ما يقع به التحريم خمس رضعات ، أخذًا بحديث عائشة الآتي . وشذَّت طائفة ، فقالت : أقل ما يقع به التحريم عشر رضعات . تمسُّكًا بأنَّه كان فيما أنزل : عشر رضعات . وكأنهم لم يبلغهم الناسخ . وذهب مَنْ عدا هؤلاء من أئمة الفتوى إلى أن الرضعة الواحدة تُحَرِّم إذا تحققت ؛ متمسِّكين بأقل ما ينطلق عليه اسم الرَّضاع. ولا شك في صدق الاسم في مثل قوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} ، وفي قوله : (( يحرم من الرَّضاعة ما يحرم من النَّسب )) على القليل ، كما صدق على الكثير. وعُضِّدَ هذا بما وُجِد من العمل عليه في المدينة . فقد روى مالك عن عروة ، وسعيد بن المسيب ، وابن شهاب : أن القطرة الواحدة تُحَرِّم . وقد عُضِّدَ ذلك بقياس الرَّضاع على الصِّهر بعلّة : أنه معنى طارىء يقتضي تأبيد الحرمة ، فلا يشترط فيه العدد ، كالصِّهر. أو يقال : مائع يلج الباطن محرمٌ ، فلا يشترط فيه العدد كالمني . واعتذر عن تلك الأحاديث بأمور :
(13/39)
أحدها : أنه ليس عليها العمل . قال مالك : ليس العمل على حديث : (( ثم نُسِخْنِ بخمس معلومات )). وهذا إنما يتمشَّى على مذهب من يقول : إن العمل أولى من الخبر . وهو مذهب مالك وأصحابه على تفصيل يعرف في الأصول .
وثانيها : أنها أحاديث مضطربة متعارضة ، الأعداد ؛ إذ فيها : عشر ، وخمس ، وثلاث . فوجب تركها ، والتمسَّك بالأصل .
وثالثها : أن عائشة رضي الله عنها ذكرت : (( في عشر رضعات ، ونسخها في خمس )) : أن ذلك كان بالقرآن ، ولم يتواتر إلينا ، فليست بقرآن ، ولا رفعته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فيكون خبرًا من أخبار الآحاد ، فلا يصلح التمسُّك به ، كما ذكر في ا لأصول .
وغاية مايحمل عليه حديث عائشة : أن ذلك كان كذلك ، ثم نُسخ كُلُّ ذلك تلاوةً وحُكمًا ، والله أعلم .
وأمَّا حديث : (( لا تُحَرِّمُ الْمصَّة ولا الْمصَّتان )) ، فهو أنصُّ ما في الباب ، غير أنه يمكن أن يُحمل على ما إذا لم يتحقق وصول اللَّبن إلى جوف الرَّضيع . ويؤيد هذا التأويل قوله : (( عشر رضعات معلومات )) و((خمس معلومات )). فوَصْفُهَا بالمعلومات إنما هو تحرُّز مما يتوهم ، أو يشك في وصوله إلى الجوف من الرضعات . ويفيد دليل خطابه : أن الزضعات إذا كانت غير معلومات لم تُحرِّم . وقال بعضهم : لعل هذا حين كان يشترط في التحريم العشر والعدد ، فلما نسخ ارتفع ذلك كلُّه ، والله أعلم .
ومن باب رضاعة الكبير
(13/40)
(( سالم )) هذا هو : سالم بن معقل ، مولى سلمى بنت يعار الأنصارية ، زوجة أبي حذيفة . وقيل : سَهلة بنت سُهيل . وقيل في اسمها غير سَلمى. وكان أبوحذيفة قد تبنَّاه على ما كانت عاداتهم في التبنِّي ، وكان قد نشأ في حجر أبي حذيفة وزوجته نشأة الابن ، قلمَّا أنزل الله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } ، بطل حكم التبنِّي ، وبقي سالم على دخوله على سهلة بحكم صغره ، إلى أن بَلَغَ مبلغ الرجال ، وجدا - أعني : أبا حذيفة وسهلة - في نفوسهما كراهة ذلك ، وثَقُلَ عليهما أن يمنعاه الدخول ؛ للإلْف السابق ، إلى أن سألا عن ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أرضعيه تحرمي عليه ، ويذهب ما في نفس أبي حذيفة )) ، فأَرْضعتْه ، فكان ذلك . فرأى سائر أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلا عائشة : أن ذلك خاصٌّ بسالم ، وأن ذلك لا يتعداه ؛ لِمَا اقترن بذلك من القرائن التي ذكرناها ، ولِمَا يعارضه مما يأتي ذِكْرُهُ .
وإلى مذهبهنَّ في ذلك صار جمهور السَّلف والخلف من الفقهاء وغيرهم . وحملوا الحديث على الخصوص . ورأوا : أن رضاعة الكبير للأجنبية لا تجوز ، وإن وقعت لم يلزم بها حكم ، لا في النكاح ، ولا في الحجاب ، ما خلا داود فإنه قال : يرفع تحريم الحجاب لا غير ؛ تمسُّكًا بحديث سالم .
قال ابن الموَّاز : لو اخذ بهذا في الحجابة لم أعِبْه ، وتركه أحبُّ إليَّ ، وما علمت مَنْ أخذ به عامًّا إلا عائشة .
قال الباجي : قد انعقد الإجماع على خلاف التحريم برضاعة الكبير. قال أبو الفضل عياض : لأن الخلاف إنما كان أوَّلا ثم انقطع .
قلت : وفيما ذكره ابن الْمَوَّاز عن عائشة : أنها ترى رضاعة الكبير تحريِمًا عامًّا نظر ؛ فان نصَّ حديث "الموطأ" عنها : أنها إنما كانت تأخذ بذلك في الحجاب خاصَّة . فتأمل ما في "الموطأ" من حديث سالم هذا ، فإن مالكًا ـ رضى الله عنه ـ ساقه أكمل مساق وأحسنه ، وذكر فيه جملة من القرائن الدالة على خصوصية سالم بذلك . وقد اعتضد للجمهور على الخصوصية بأمور :
(13/41)
أحدها : أن ذلك مخالف للقواعد ؛ منها : قاعدة الرَّضاع ؛ فان الله تعالى قد قال : { والوالدات يرضضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد ان يتم الرضاعة } ، فهذه أقصى مدَّة الرضاع المحتاج إليه عادة ، المعتبر شرعًا ، فما زاد عليه بمدَّة مؤثرةٍ غير محتاج إليه عادةً ، فلا يعتبر شرعًا ؛ لأنه نادر ، والنادر لا يحكم له بحكم المعتاد .
ومنها : قاعدة تحريم الاطلاع على العورة ؛ فإنه لا يختلف في أن ثدي الحرَّة عورة ، وأنَّه لا يجوز الاطلاع عليه ، لا يقال : يمكن أن يرتضع ولا يطلع ؛ لأنَّا نقول : نفس التقام حَلَمَةَ الثدي بالفم اطّلاع ، فلا يجوز .
ومنها : أنه مخالف لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما الرَّضاعة من الْمَجَاعة )). وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقعيد قاعدة كلية ؛ تُصرِّح بأن الرَّضاعة المعتبرة في التحريم ؛ إنما هي في الزمان الذي تغني فيه عن الطعام ، وذلك إنما يكون في الحولين وما قاربهما . وهو الأيام اليسيرة بعد الحولين عند مالك . وقد اضطرب أصحابه في تحديدها . فالمكثر يقول : شهرًا . وكان مالكًا رحمه الله يشير : إلى أنه لا يفطم الصبي دفعة واحدة ، في يوم واحد ، بل في أيام وعلى تدريج . فتلك الأيام التي يحاول فيها فطامه خُكْمها حكم الحولين ؛ لقضاء العادة بمعاودة الرَّضاع فيها .
وقد أطلق بعض الأئمة على حديث سالم : أنَّه منسوخ . وأظنُّه سُمِّى التخصيص نسخًا ، وإلا فحقيقة النسخ لم تحصل هنا ؛ على ما يعرف في الأصول .
وقوله : (( أرضعيه يذهب ما في نفس أبي حذيفة )) ؛ يعني : أنه إذا علم أبو حذيفة أنَّه قد حكم له بحكم ذوي المحارم ، وقد رفع عنه ما كان يخافه من الحرج والتأثيم : لم يبق له كراهة ، ولا نفرة تغيِّر وجْهَه . وكذلك كان .
ومن باب إنما الرَّضاعة من الْمَجَاعة
وغضب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى في بيته من لايعرفه : هو تأديب منه لها. وقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ على النساء : ألا يوطئن فرشهن أحدًا يكرهه الزوج. ولذلك بادرت بالعذر ، فقالت : (( إنه أخي من الرَّضاعة )).
(13/42)
وقوله : (( انظرن إخوانكن من الرَّضاعة )) ؛ يعني : تحققن صحة الرَّضاعة ، ووقتها ؛ فإنها إنما تنشر الحرمة إذا وقعت على شروطها ، وفي وقتها ، كما ذكرناه آنفًا .
وقوله : (( إنما الرَّضاعة عن الْمَجاعة )) ؛ إنما : للحصر ، فكأنه قال : لا رضاعة معتبرة إلا الْمُغْنِية عن الْمَجَاعة ، أو المطعمة من الْمَجَاعة ، كما قال تعالى : { أطعمهم من جوع } ، فـ (( عن )) أو (( من )) على اختلاف الروايتين متعلَّق بمحذوف ، تقديره ما ذكرناه .
ومن باب قوله تعالى :
{ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم}
(( المحصنة )) اسم مفعول ، من : أحصنت . وأصل الإحصان : المنع ؛ ومنه الِحْصن الذي يُمْتَنَع فيه . والفرس حِصان ؛ لأنه يتحصن عليه . ويقال : محصنة على ذات الزوج ؛ لأن الزوج قد منعها من غيره ، وعلى العفيفة ؛ لأنها قد منعت نفسها من الفواحش . ويقال على الحرة ؛ لأن الحرية تمنعها مما يتعاطاه العبيد. وقد جاءت الأوجه الثلاثة في القرآن . والمراد به في هذه الآية : ذوات الأزواج ؛ أي : هنَّ ممن حرم عليكم. ثم استثنى بقوله : { إلا ما ملكت أيمانكم } ، وهذه الآية اختلف الناس في سبب نزولها . وحديث أبي سعيد هذا أصحُّ ما نقل في ذلك . وبه يرتفع الخلاف . فإنه نصَّ فيه : على أنها نزلت لسبب تحرُّج أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن إتيان المسبيَّات ذوات الأزواج ، فأنزل الله تعالى في جوابهم : { إلا ما ملكت أيمانكم } ، فالمسبيات ذوات الأزواج داخلات في عموم { ما ملكت أيمانكم } ، فالسَّبْي فَسْخٌ لنكاحهنَّ بلا شك. وهل هو فسخ بطلاق ، أو بغير طلاق ؟ ذهب للأول الحسن البصري . ثم هل يقصر التحريم عليهن -أعني المسبيَّات لأنهن السبب - ، أو يُحمل اللفظ على عمومه ؟ قولان لأهل العلم . وعن هذا نشأ الخلاف في بيع الأَمَة ذات الزوج ، وهبتها ، وميراثها ، وعتقها. فقال الحسن : إن ذلك كلّه طلاق لها من زوجها .
(13/43)
وروي عن عمر في قوله : { إلا ما ملكت أيمانكم } : بملك نكاح ، أو يمين ، أو غلبة . وذهب مالك ، وجمهور الفقهاء : إلى أنه ليس شيء من ذلك فسخًا ولا طلاقًا ؛ بدليل حديث بريرة : أنها لما اعُتقِتْ خُيِّرت . فلو كان عتقها طلاقًا لما صحَّ خيارها ، فإنَّه كان يقع بنفس العتق . وهو يدلّ على أن الآية مقصورة على سببها . فإذا تقرَّر : أن السَّبِي فسخٌ ، فالمشهور من مذهبنا : أنه لا فرق بين أن يُسبى الزوجان مجتمعين أو مفترقين . وروى ابن بكير عن مالك : أنهما إن سُبيا جميعًا ، واستبقي الرَّجل ، أقرَّا على نكاحهما . فرأى في هذه الرواية : أن استبقاءه إبقاء لما يملكه ؛ لأنه قد صار له عهد ، وزوجته من جملة ما يملكه ، فلا يحال بينها وبينه .
والصحيح الأول للتمسُّك بظاهر الآية كما تقدّم ، ولأنها قد مُلِكَتْ رقبتُها بالسباء ، فتُمْلَكُ جميع منافعها ، ولا ينتقض ذلك بالبيع ، ولا بغيره من الوجوه التي تنقل الملك المذكور على ما تقدَّم ، لأنها خروج من مالك مِلْكًا مُحقَّقًا ، والكافر لا يملك ملكًا محضًا ، فافترقا .
وقوله : (( في سبي أوطاس)) قد قدَّمنا أن غزوة أوطاس هي غزوة حنين . وقول مَنْ قال : إن ذلك كان في خيبر وَهْمٌ .
وقوله : (( تحرَّجوا من غِشيانهن )) ؛ أي : خانوا الحرج ، وهو : الإثم هنا . وفي "الأم" في إحدى الروايات : (( تحوَّبوا)) ؛ أي : خافوا الحوب. وهو الإثم أيضًا . و(( غشيانهن )) ؛ أي : وطؤهن .
وقوله : (( من أجل أزواجهن )) ؛ أي : ظنُّوا أنَّ نكاح أزواجهن لم تنقطع عصمته . وفي هذا ما يدلُّ على وجوب توقف الإنسان ، وبحثه ، وسؤاله عمَّا لا يتحقق وجهه ، ولا حكمه . وهو دأب من يخاف الله تعالى . ولا يختلف في أن بعد ما لا يتبين حكمه لا يجوز إلا قدام عليه .
(13/44)
وقوله : (( فهنّ لكم حلال إذا انقضث عدتهن )) ؛ يعني بالعدَّة : الاستبراء من ماء الزوج الكافر ، وذلك يكون بحيضة واحد ، فإن نكاح الكافر فاسد عندنا بحكم الأصالة على المشهور . وهو الصحيح لِعُرُّوِّ أنكحتهم عن الشروط الشرعية .
وقد تقدَّم من حكاية الحسن : أن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ كانوا يستبرئون المسبيَّة بحيضة . وأمَّا على قول من يرى أن أنكحتهم صحيحة - وهو الشافعي ، وأبو حنيفة - فتعتد عدَّةً كاملةً ؛ لأنها قد انفسخ عنها نكاح صحيح كان ، لولا أن عارض السَّبِي قَطَعَه ، وهي أولى بذلك على مذهب الحسن الذي يقول : إن نكاحها ينفسخ بطلاق ، فتكون مطلّقة من زوج في نكاح صحيح ، وتعتدّ عدَّة كاملة . وهل تعتد على مذاهب هؤلاء عدَّة الأَمَة ، أو عدَّة الحرَّة ؛ فيه نظر على أصولهم .
(13/45)
ومن باب الولد للفراش
قوله : (( اختصم سعد بن أبي وقاص ، وعبد بن زمعة في غلام )) ؛ سببُ هذا الاختصام : أنهم كانوا يساعون الإماء في الجاهلية ، ويستأجرونهن للوطء ، ويُلحقون النسب بالزنا ، فمن ألحقته المزنيُّ بها : التحق به ، ومن ألحقه بنفسه من الزناة بها : التحق به إذا لم ينازعه غيره . فكان عتبة بن أبي وقاص قد وقع بأَمَةِ زمعة ؛ فحملت فولدت غلامًا ، فلمَّا حضرت وفاةُ عتبة عَهِدَ لأخيه سعدٍ بأن ياخذه إليه ، لأنه ابنه ، ثم مات عتبة على شركه ، فحينئذٍ تخاصم سعد مع عبد بن زمعة في ذلك الغلام ، فاحتجّ سعد باستلحاق أخيه عتبة له على عاداتهم في الاستلحاق بالزنا . وتمسَّك عبدٌ بفراش أبيه ، وكأنَّ عبدًا كان قد سمع : أن الشرع يُلْحق بالفراش . وإلاَّ فلم تكن عادتهم الإلحاق به. فقضى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالولد لصاحب الفراش ، وقطع الإلحاق بالزنا بقوله : (( وللعاهر الحجر )).
وقول عبد بن زمعة في الغلام : (( أخي ، وابن وليدة أبي )) ؛ تمسَّك به الشافعي : على أن الأخ يستلحق ، ومنعه مالك وقال : لا يستلحق إلا الأب خاصَّة ؛ لأنه لا يتنزل غيره في تحقيق الإصابة منزلته . وقد اعتذر لمالك عن ذلك الظاهر بوجهين :
أحدهما : أن الحديث ليس نصًّا في أنه ألحقه به بمجرد نسبة الأخوة ، فلعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم وطء زمعة بتلك الأمة بطريق اعتمدها ، من اعترافٍ ، أو غيره ، فحكم بذلك ، لا باستلحاق الأخ .
والثاني : أن حكمه به له لم يكن لمجرد الاستلحاق ، بل بالفراش . ألا ترى قوله : (( الولد للفراش )) ؟ وهذا تقعيد قاعدة ، فإنه لَمَّا انقطع إلحاق هذا الولد بالزاني ، لم يَبق إلا أن يلحق بصاحب الفراش ؛ إذ قد دار الأمر بينهما . وهذا أحسن الوجهين .
وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة ، حيث يقول : إن الولد لا يلحق إلا إذا تقدَّمه ولد سابق ، على ما حكاه عنه الإمام أبو عبدالله المازري.
(13/46)
وقوله : (( فرأى شبهًا بيِّنًا بعتبة ، وقال : (( هو لك يا عبد )) ؛ يدلُّ على أن الشبه لا يعمل عليه في الإلحاق عند وجود ما هو أقوى منه ، فإنَّه ألغاه هنا ، وحكم بالالحاق لأجل الفراش ، كما ألغاه في حديث اللعان لأجل اللعان . وأمَّا في حديث القافة : فليس له هناك معارض هو أقوى منه ، فأُعْمِل .
وقوله : ((هو لك يا عَبْدُ )) ، هكذا الرواية بإثبات (( يا )) النداء و(( عبد )) منادى مفرد ، يريد بذلك : عبد بن زمعة ، ولا شك في هذا . وقد وقع لبعض الحنفية : (( عبْدُ )) بغير (( يا )) ، فنوَّنه . وفرَّ بذلك عمَّا لزمهم من إلحاق الولد من غير اشتراط ولد متقدم .
وقالوا : إنما ملَّكَه إياه ؛ لأنه ابن أَمَةِ أبيه ، لا أنَّه ألحقه بأبيه . وهذه غفلةٌ عن الرواية واللسان . أمَّا الرواية : فقد ذكرناها . وأمَّا اللسان : فلو سلَّمنا أن الرواية بغير (( يا )) فالمخاطب عبد بن زمعة ، وهو بلا شك : منادى ، إلا أن العرب تحذف حرف النداء من الأسماء الأعلام ؛ كما قال تعالى : { يوسف أيها الصديق } ، وهو كثير . و(( عبد )) هنا : اسم علمٌ يجوز حذفُ حرف النداء منه .
وقوله : (( الولد للفراش )) ؛ الفراش هنا : كناية عن الموطوءة ؛ لأن الواطئ يستفرشها ؛ أي : يُصَيِّرها كالفراش . ويعني به : أن الولد لاحِقٌ بالواطئ . قال الإمام : وأصحاب أبي حنيفة يحملونه على أن المراد به صاحب الفراش ، ولذلك لم يشترطوا إمكان الوطء في الحرَّة . واحتجُّوا بقول جرير :
باتت تعانقه وبات فراشها خلق العباءة في الدماء قتيلاً
(13/47)
يعني : زوجها ، والأول أولى : لما ذكرناه من الاشتقاق ، ولأن ما قدَّره من حذف المضاف ليس في الكلام ما يدلُّ عليه ، ولا يُحوج إليه. وعلى ما أصَّلناه فقد أخذ بعموم قوله : (( الولد للفراش )) الشعبيُّ ، ومن قال بقوله . فقال : الولد لا ينتفي عمَّن له الفراش لا بلعان ، ولا غيره . وهو شذوذ ، وقد حكي عن بعض أهل المدينة ، ولا حجة لهم في ذلك العموم لوجهين :
أحدهما : أنه خرج على سبب ولد الأمة ، فيُقصر على سببه .
وثانيهما : أن الشرع قد قعَّد قاعدة اللّعان في حقّ الأزواج ، وأن الولد ينتفي بالتعانهما ، فيكون ذلك العموم المظنون مخصَّصًا بهذه القاعدة المقطوع بها . ولا يختلف في مثل هذا الأصل .
وقوله : (( وللعاهر الحجر )) ؛ العاهر : الزاني . وهو اسم فاعل من : عَهَرَ الرَّجلُ المرأة ، يعْهَرُهَا : إذا أتاها للفجور. وقد عهرت هي ، وتعيهرت ؛ إذا زنت . والعهر : الزنا .
واختلف في معنى : (( للعاهر الحجر )). فمنهم من قال : عنى به الرَّجم للزاني المحصن . ومنهم من قال : يعني به : الخيبة ؛ أي : لا حظَّ له في الولد ؛ لأن العرب تجعل هذا مثلاً . كما يقولون : امتلأت يده ترابًا ؛ أي : خيبة .
قلت : وكان هذا هو الأشبه بمساق الحديث ، وبسببه . وهي حاصلة ؛ أي : الخيبة لكل الزناة . فيكون اللفظ محمولاً على عمومه . وهو الأصل . ويؤخذ دليل الرَّجم من موضع آخر. وحمله على الزاني المحصن تخصيص اللفظ من غير حاجة ولا دليل .
(13/48)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسودة : (( احتجبي منه )) ؛ يُستَدلُّ به على إعطاء الشوائب المختلفة أحكامها المختلفة ؛ فإنه ألحق الولد بصاحب الفراش ، وأمر سودة بالاحتجاب من الغلام الملحق ، وإن كان أخاها شرعًا للشَّبَه. وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من باب الاحتياط ، وتوقَّي الشُّبهات . ويحتمل أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حق سودة ؛ لأنها من زوجاته رضي الله عنهنّ . وقد غلّظ ذلك في حقهنَّ ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحفصة وعائشة في حق ابن أم مكتوم : (( أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه ؟! )). وقال لفاطمة بنت قيس : (( انتقلي إلى بيت ابن أمِّ مكتوم ، تضعين ثيابك عنده )) ، فأباح لها ما منعه لأزواجه .
وفيه ما يدلُّ على أن وطء الزنا يُوجب الحرمة . وهو مذهب أهل الرأي ، والثورى ، والأوزاعي ، وأحمد ، وهو أحد قولي مالك ، وروي عنه في "الموطأ" : أنه لا يُحرِّم ، وهو قول الشافعي ، وأبي ثور . وهو الصحيح ؛ لأن وطء الزنا لا حرمة له اتفاقًا ، فلا تكون له محرمية. وتفصيله في الخلاف . وعلى القول بأنَّه لا يحرّم ؟ يكون الأمر لسودة بالاحتجاب من الملحق واجبًا .
ومن باب قبول قول القافة في الولد
قول عائشة رضي الله عنها : (( دخل عليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسرورًا تبرقُ أسارير وجهه )) ، وفي رواية : (( أسارير جبهته )) ، وهي : الطرائق الرقيقة ، والتكَشُّر اليسير الذى يكون في الجبهة ، والوجه ، والغضون أكثر من ذلك . وواحد الأسارير : أسرار ، وواحدها : سِرٌّ وسَرَرٌ . فأسارير : جَمْعُ الجمع . ويجمع في القلة أيضًا : أسرّة .
وهذا عبارة عن انطلاق وجهه ، وظهور السرور عليه ، ويُعَبِّر عن خلاف ذلك بالمقطب ؛ أي : المجمع . فكأنَّ الحزن والغضب جَمَعَهُ وقبضَه .
(13/49)
و (( مُجَرِّز ))- بفتح الجيم ، وكسر الزاي الأولى - هو المعروف عند الحفَّاظ . وكان ابن جريج يقول : مجزِّز - بفتح الزاي -. وقيل عنه أيضًا : مُحْرِز - بحاء مهملة ساكنة ، وراء مكسور -. والصَّواب الأول. فإنه روي أنه إنما سُمِّي مُجَزِّزًا ؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرًا جَزَّ ناصيته . وقيل : حلق لحيتَه . قاله الزُّبيدي . وكان من بني مُدءلج ، وكانت القِيافة فيهم ، وفي بني أسد .
قال الإمام أبو عبدالله : كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة ، لكونه أسود شديد السَّواد ، وكان زيدٌ أبوه أبيض من القطن . هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح .
قال القاضي : وقال غير أحمد : كان زيدٌ أزهر اللون ، وكان أسامةُ شديد الأُدْمة. وزيد بن حارثة عربيٌّ صريحٌ من كلب ، أصابه سِبَاءٌ ، فاشتراه حكيم بن ابن حزام لعمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، فوهبته للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فتبنَّاه ، فكان يُدْعَى : زيدَ بنَ محمد . حتى نزل قوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } ، فقيل : زيد بن حارثة . وابن زيد أسامة ، وأمُّه أمُّ أيمن : بركة ، وكانت تُدْعَى : أم الظِّباء ، مولاة عبدالله بن عبدالمطلب ، وداية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ولم أر لأحد أنها كانت سوداء ، إلا ما روي عن ابن سيرين في تاريخ أحمد بن سعيد. فإن كان هذا ؛ فلهذا خرج أسامة أسود ، لكن لو كان هذا صحيحًا لم ينكر النَّاس لونه ؛ إذ لا ينكر أن يلد الإنسان أسود من سوداء . وقد نسبها الناس فقالوا : أم أيمن بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان . وقد ذكر مسلم في الجهاد عن ابن شهاب : أن أم أيمن كانت من الحبش وصيفة لعبدالله بن عبد المطلب : أبي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد ذكره الواقديُّ .
وكانت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بركة أخرى حبشية ، كانت تخدم أمِّ حبيبة ، فلعلّه اختلط اسمها على ابن شهاب ، على أن أبا عمر قد قال في هذه : أظنَّها أمَّ أيمن . أو لعلّ ابن شهاب نسبها إلى الحبشة ؛ لأنها من مهاجرة الحبشة ، والله أعلم .
(13/50)
قلت : هذا أظهر ، وتزوَّجها عبيد بن زيد من بني الحارث ، فولدت له أيمن ، وتزوَّجها بعده زيد بن حارثة بعد النُّبوة ، فولدت له أسامة . شهدت أحدًا ، وكانت تداوي الجرحى . وشهدت خيبر ، وتوفيت في
أول خلافة عثمان بعشرين يومًا .
روى عنها ابنها أنس ، وأنس بن مالك ، وطارق بن شهاب . قالت أم أيمن : بات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البيت ، فقام من الليل ، فبال في فخارة ، فقمت وأنا عطشى ، لم أشعر ما في الفخارة ، فشربت ما فيها ، فلما أصبحنا . قال : (( يا أم أيمن ! أهريقي ما في الفخارة )) ، قلت : والذي بعثك بالحق ! لقد شربت ما فيها ، فضحك حتى بدت نواجذه ، قال : ((إنه لا تتجعّنَّ بطْنُك بعدها أبدًا )).
و (( القطيفة )) : كساء غليظ. وقد استدل جمهور العلماء على أن الرجوع إلى قول القافة عند التنازع في الولد بسرور النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقول هذا القائف . وما كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالذي يسر بالباطل ، ولا يعجبه. ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة والثوري ، وإسحاق ، وأصحابهم متمسّكين بالغاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشَّبَه في حديث اللعان على ما يأتي ، وفي حديث سودة كما تقدم ، وقد انفصل عن هذا بما تقدم آنفًا ، من أن إلغاء الشَبَه في تلك المواضع التي ذكروها ، إنما كان لمعارض أقوى منه ، وهو معدوم هنا ، فانفصلا ، والله أعلم .
ثم اختلف الآخذون بأقوال القافة : هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء ، أو يختص بأولاد الإماء ؟ على قولين :
فالأول : قول الشافعي ، ومالك في رواية ابن وهب عنه . ومشهور مذهبه : قَصْرُه على ولد الأمة . وفرَّق بينهما : بأن الواطئ في الاستبراء يستند وطؤه لعقد صحيح فله شبهة الْمِلْك ، فيصح إلحاق الولد به ، إذا أتت به لأكثر من ستة أشهر من وطئه ، وليس كذلك الوطء في العدَّة ؛ إذ لا عقد إذ لا يصحّ . وعلى هذا فيلزم من نكح في العدَّة أن يُحَدَّ ، ولا يلحق به الولد ؛ إذ لا شبهة له . وليس مشهور مذهبه . وعلى هذا فالأولى : ما رواه ابن وهب عنه ، وقاله الشافعي .
(13/51)
ثم العجب أن هذا الحديث الذي هو الأصل في هذا الباب إنما وقع في الحرائر ، فإن أسامة وأباه ابنا حُرَّتَيْن . فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم ، وهو الباعث عليه ؟! هذا ما لا يجوز عند الأصوليين .
وكذلك اختلف هؤلاء ؛ هل يكتفى بقول واحد ؛ لأنه خبر من القافة ، أو لا بدَّ من اثنين ؛ لأنها شهادة ؟ وبالأوَّل قال ابن القاسم . وهو ظاهر الخبر ، بل نصُّه . وبالثاني قال مالك ، والشافعي ، ويلزم عليه أن يراعى فيها شروط الشهادة ؛ من العدالة وغيرها .
واختلفوا أيضًا فيما إذا ألحقته القافة بمدَّعِيَيْن ، هل يكون ابنًا لهما ؟ وهو قول سحنون ، وأبي ثور . وقيل : يُترك حتى يكبر ، فيُوالي من شاء منهما ؛ وهو قول عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ . وقاله مالك والشافعي . وقال عبد الملك ، ومحمد بن مسلمة : يُلْحَق بأكثرهما شبهًا .
واختلف نفاة القول بالقافة في حكم ما أشكل ، وتُنُوزِع فيه . فقال أبو حنيفة : يلحق الولد بهما ، وكذلك بامرأتين . وقال محمد بن الحسن : يلحق بالآباء وإن كثروا ، ولا يلحق إلا بأم واحدة. ونحوه قال أبو يوسف . وقال إسحاق : يقرع بينهم . وقاله الشافعي في القديم . ويُستدك على هذا بما خرَّجه أبو داود من حديث عليّ ـ رضى الله عنه ـ ، وذلك أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد ، فأتت بولد فترافعوا إلى عليّ ، وكلهم يدّعي الولد لنفسه ، فأقرع عليّ بينهم ، فألحقه بالذي طارت عليه القرعة . وكان عليّ باليمن ، فلما قدم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبره بذلك ، فضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى بدت نواجذه . وسنده صحيح .
ومن باب المقام عند البكر والثيب
(13/52)
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأم سلمة : (( إنه ليس بك على أهلك هوان )) ؛ الضمير في (( إنه )) للأمر ، والشأن . و(( ليس بك )) ؛ أي : لا يتعلّق بك ، ولا يقع بك . و((أهلك )) : يريد به نفسه . وكل واحد من الزوجين أهل لصاحبه . و((الهوان )) : البُغض ، والاحتقار . وإنما قال لها ذلك حين أخذت بثيابه تستزيده من المقام عندها ، فاستلطفها بهذا القول الحسن . ثم بعد ذلك بيَّن لها وجه الحكم بقوله : (( للبكر سبع ، وللثيب ثلاث )) ، وهذا تقعيد للقاعدة ، وبيان لحكمها. وهو حجّة للجمهور على أبي حنيفة حيث يقول : لا تختص بذلك واحدة منهن ، بل يقضي لسائر نسائه بمثل ذلك ، تمسُّكًا منه بمطلق الأمر بالعدل بينهن . ولا يتم له ذلك ؛ لأنه مخصّص بهذا الحديث وشبهه .
وقد يقال : إذا كان الحكم : أن للثيب ثلاثًا ، وللبكر سبعًا ؛ فكيف خيرها بين التسبيع والتثليث ؟ ثم إن اختارت التسبيع سبّع لنسائه ، وسقط حقها من الثلاث .
ويجاب عن ذلك : بأن ظاهر قرله : (( للثيب ثلاث ، وللبكر سبع )) ؛ أن ذلك حق للزوجة . وهو أحد القولين عند مالك رحمه الله في هذا . فإذا رضيت بإسقاطه سقط ، فكأنه عرض عليها : أنها إن اختارت السبع سقط حقها من الثلاث .
وقد اختلف ؛ هل لغير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يسبع للثيب أم لا ؟ فذهب مالك فيما ذكر عنه ابن الموَّاز : إلى أنه ليس له أن يسبع . وكأنَّه رأى أن ذلك كان من خصوصيَّات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ قد ظهرت خصوصياته في هذا الباب كثيرًا .
وقال ابن القصَّار : إذا سبع للثيب سثع لسائر نسائه ؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث . ولا يدلّ عنده على سقوط الثلاث لها . وكأنه تمسك بالرواية التي قال لها فيها : (( إن شئت زدتك وحاسبتك )) ، وكل هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمل بالعدل بين أزواجه ، ومراعاة له.
(13/53)
وهل كان ذلك منه - أعني القسم - على جهة الوجوب ، كما هو على غيره بالاتفاق ، أو هو مندوب إلى ذلك ، لكنه أخذ نفسه بذلك رغبة في تحصيل الثواب ، وتطييبًا لقلوبهن ، وتحسينًا للعشرة على مقتضى خُلُقه الكريم ، وليُقتدى به في ذلك ؟ قولان لأهل العلم .
مستند القول بالوجوب : التمسَّك بعموم القاعدة الكلية في وجوب العدل بينهن ، وبقوله : (( اللهم هذه قسمتي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ، ولا أملك )) ؛ يعني : الحب ، والبغض .
ومستند نفيه : قوله تعالى : { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } ، وقد تقدَّم التنبيه على الخلاف في تأويلها . ولم يختلف في حق غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ممن له زوجات : أن العدل عليه واجب ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة ، وشقه مائل ، أو ساقط )) ، ولقوله تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة }. وسيأتي القول في كيفية القسم .
وقوله : (( من السُّنة أن يقيم عند البكر سبعًا )) ؛ ظاهره الرفع عند جمهور الأصوليين ؛ لأنه إنما يعني به سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد دلّ على الرفع هنا قول خالد : (( لو شئت قلت : رفعه )) ، وقد تقدَّم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((للبكر سبع ، وللثيب ثلاث )). والرفع فيه منصوصٌ عليه .
وقد اختلف في هذا الحكم ؛ هل هو لكل بكر وثيب ؟ وإن لم يكن للزوج غيرها ، أو إنما يكون ذلك إذا كان له غيرها . على قولين عندنا.
قال أبو عمر : أكثر العلماء على أن ذلك واجب لها ؛ كان عند الرجل زوجة أم لا ؛ لعموم الحديث .
وقال غيره : معنى الحديث فيمن له زوجة غير هذه ؛ لأن من لا زوجة له مقيم مع هذه .
قلت : وهذا هو الصحيح لوجهين :
أحدهما : أنه هو السبب الذي خرج عليه اللفظ .
(13/54)
والثاني : النظر إلى المعنى ، وذلك : أن من له زوجات يحتاج إلى استئناف القسم بعد أن يوفي لهذه المستجدة حفها من تأنيسها ، والانبساط إليها ، وإزالة نُفرتها ، وتطييب عيشها . وأيضًا : فيستوفي لنفسه مايجده من التشوُّف لها ، والاستلذاذ بها ، فإن الجديد له استلذاذ جديد . وذلك مفقود فيمن ليس له زوجة غير التي تَزَوَّجَ بها .
ومن باب القَسْم بين الزوجات
قد تقدم القول في حكم وجوب القَسْم بين الزوجات . فأمَّا كيفية القسم : فلا خلاف في أن له أن يفرد كل واحدة بليلتها ، وكذلك قول عامَّة العلماء في النَّهار . وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار ، ولا يدخل لإحداهما في يوم الأخرى وليلتها ولغير حاجة .
واختلف في دخوله لحاجة وضرورة . فالأكثرون على جوازه ؛ مالك وغيره . وفي كتاب ابن حبيب منعه . ويعدل بينهن في النفقة ، والكسوة ؛ إذا كنَّ معتدلات الحال ، ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب. وأجاز مالك أن يُفضِّل إحداهما في الكسوة على غير جهة الميل. فامَّا الحب والبغض فخارجان عن الكسب ، فلا يتأتى العدل فيهما . وهو المعنِيُّ بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فلا تلمني فيما تملك ولا أملك )). وعند أبي داود : يعني القلب . وإليه الإشارة بقوله تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم }.
وقوله : (( كان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسع نسوة ، فكان إذا قسم لا ينتهي إلى المرأة الأولى في تسع )) ؛ كذا صحت روايتنا : (( في تسع )) من غير إلاَّ الإيجابية . وقد وقع في بعض النسخ : (( إلا في تسع )) ، وهو أصوب ، وأوضح . فتأمله .
وقوله : (( فكنَّ يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها )) ؛ حجة في أن الزوج لا يأتي غير صاحبة القَسْم . فأما اجتماعهن عند صاحبة القَسْم في بعض الأوقات فباختيارهن ، ومن حق صاحبة القَسْم أن تمنعهن إن شاءت .
(13/55)
وقوله : (( فكان في بيت عائشة فجاءت زينب ، فمدَّ يده إليها ، فقالت : هذه زينب فكف )) ؛ كان هذا في الوقت الذي لم يكن في البيوت مصابيح ، وإنما مدَّ يده إليها يظنَّها عائشة .
وفيه ما يدل : على صحة ما ذكرناه من أنه لا يجوز للزوج الاستمتاع بالواحدة في وقت الأخرى . فأمَّا ما خرَّجه البخاري وأبو داود من حديث عائشة : من أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( كان يطوف بعد العصر على نسائه ، فيدنو منهن من غير مسيس )). فقد قيل : إن ذلك كان إذ لم
يكن القَسْم عليه واجبًا . ويحتمل أن يقال : كان ذلك برضا أزواجه .
وقوله : (( فتقاولتا حتى استخبتا )) : عند كافة الشيوخ : بالخاء المعجمة ، بعدها باء بواحدة مفتوحتين : من السَّخب . وهو : اختلاط الأصوات ، وارتفاعها . ويقال : بالضاد. ووقع في رواية السمرقندي : استحثيا-بالحاء المهملة - وسكونها ، وبعدها ثاء مثلثة ، وبعدها ياء باثنتين من تحتها. ومعناه-إن لم يكن تصحيفًا- : حثت كل واحدة منهما في وجه الأخرى التراب. وصوابه : استحثتا- بالتاء باثنتين من فوقها ، وسبب هذا الواقع بينهما : الغيرة .
وفيه ما يدل على جميل عشرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومداراته .
وقوله : (( وأقيمت الصلاة )) ؛ يدلّ على أن تلك الحالة الواقعة لهم كانت قريب الفجر ، وأنهما دامتا على المقاولة إلى أن أقيمت صلاة الصبح .
وليس في مَدِّ يده إلى زينب دليلٌ على أن اللمس لا ينقض الوضوء ، كما قد زعمه بعضهم ؛ إذ لم ينقل أنه كان منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على غير حائل ، ولا أنه كان توضأ قبل ذلك ، فلعلَّه بعد ذلك توضأ .
وقول أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ : (( احث في أفواههن التراب )) ؛ مبالغة في الرَّدع والزجر لهنَّ ، عن رفع أصواتهن على صوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وترك احترامه .
(13/56)
وقول عائشة : (( ما رأيت امرأة أحب إليَّ أن أكون في مسلاخها من سودة )) ؛ أي : في جلْدها . وحقيقة ذلك : أنَّها تمنَّت أن تكون هي ؛ لأن أحدًا لا يتمنى أن يكون في جلْد غيره . وهذا اللفظ قد جرى مجرى المثل . ومقصودها : أنها أحبت أن تكون على مثل حالها في الأوجه التي استحسنت منها .
وقولها : (( من امرأة فيها حِدَّة )) ؛ (( من )) هنا : للبيان ، والخروج من وصف إلى ذات ما يخالفه ، وليم تُرِدْ تنقيصَها بذلك ، وإنما أرادت : أنَّها كانت شهمةَ النفس ، حديدة القلب ، حازمة مع عقل رصين ، وفضل متين . ولذلك جعلت يومها لعائشة .
وفيه دليلٌ على أن القَسْم للزوجة ذات الضرائر . وأنَّه يجوز لها بذله لغيرها بعوض وغير عوض ، إذا رضيَ بذلك الزوجُ . ويشهد لهذا كله قوله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوذًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير}.
وفي هذه القصَّة نزلت هذه الآية على ما قيل . لكن عند مالك لها الرجوع في مثل هذا إذا شاءت ؛ لأنها حقوق متجددة آنًا فآنًا ، فلكل متجدِّد حكمه ، بخلاف الحقوق الثابتة ؛ تلك التي لا يًرْجِعُ في شيء منها مَنْ أسقطها ، مثل ما يترتب في الذمم ، أو في الأبدان . وهذا أحد قولي مالك . وقيل : يلزم ذلك دا ئمًا.
وقوله : (( فكان يقسم لعائشة يومين ، يومها ويوم سودة )) ، لا يفهم من هذا توالي اليومين . بل يوم سودة على الرتبة التي كانت لها قبل الهبة .
وقولها : (( وكانت أوَّل امرأة تزوَّجها بعدي )) ، هذه رواية يونس ، عن شريك . وهكذا قال يونس أيضًا عن ابن شهاب ، وعبد الله بن محمد بن عقيل . وروى عقيل بن خالد عن ابن شهاب خلافه ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوج سودة قبل عائشة . قال أبو عمر : وهذا قول قتادة ، وأبي عبيد .
(13/57)
وأشار بعضهم إلى الجمع بين القولين فقال : أول من عقد عليها بعد خديجة عائشة ، وأول من دخل عليها بعد خديجة سودة ، فإنه دخل عليها بمكة قبل الهجرة ، ودخل على عائشة بالمدينة في شوَّال سنة اثنتين من الهجرة.
ومن باب قوله تعالى :
{ ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء}.
اختلف السَّلف في هذه الآية . فقيل : هي ناسخة لقوله تعالى : { لا يحل لك النِّساء من بعد } ، مبيحة له أن يتزوَّج ما شاء . وقيل : بل نُسخ قوله : { لا يحل لك النساء } بالسنَّه . قال زيد بن أسلم : تزوَّج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد نزول هذه الآية ميمونة ، ومليكة ، وصفية ، وجويرية. وقالت عائشة : (( ما مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أحل الله له النساء )).
وقيل عكس هذا ، وهو : إن قوله : { لا يحل لك النساء } ناسخة لقوله : { إنَّا أحللنا لك أزواجك } الآية ، ولقوله : { ترجي من تشاء منهن} ، وقيل غير هذا مما هو ظاهر الفساد . وإن صحَّ ما نقله زيد بن أسلم : فالقول قوله ، والله أعلم.
{ ترجي } : قُرىء مهموزًا وغير مهموز ، وهما لغتان . يُقال : أرجيتُ الأمر ، وأرجأته : إذا أخَّرْته. و{ تُؤوي } : تضم.
ابن عباس : تطلق من تشاء ، وتمسك من تشاء . فأراد تطليق سودة ، فوهبت يومها لعائشة فَبَقَّاها . مجاهد : تعزل من تشاء بغير طلاق ، وتضم إليك من تشاء .
وكان ممن آوى إليه عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة . وأرجأ سودة ، وجويرية ، وصفية ، وميمونة ، وأم حبيبة . وكان يقسم لهن ما شاء. وتوفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد آوى جميعهن إلا صفية ، وهذا يدلّ على أن القَسْم لم يكن عليه واجبًا . وهو أحد القولين كما قدمناه .
{ ابتغيت } ؛ أي : طلبت الإصابة. { ذلك } ؛ أي : الابتغاء {أدنى} ؛ أي : أقرب لطيب قلوبهن ؛ أي : إذا علمن أنَّ العَزْل بأمر الله قرَّت أعيُنُهُنَّ بذلك ، ورضين . هذا قول أهل التفسير .
وفي هذه الآيات أبحاث ليس هذا موضع ذكرها . وما نقلناه أشبه ما قيل فيها .
(13/58)
وقول عائشة : (( ما أرى ربَّك إلا يسارع في هواك )). قول أبرزته الغَيْرَةُ والدَّلالُ . وهذا من نوع قولها : (( ما أهجر إلا اسمك )) ، و(( لا أحمد إلا الله )). وإلا فإضافة الهوى إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مباعدٌ لتعظيمه ، وتوقيره ؛ الذي أمرنا الله تعالى به ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُنَزَّهٌ عن الهوى بقوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } ، وهو ممن نهى النفس عن الهوى . ولو جعلت مكان (( هواك )) (( مرضاتك )) لكان أشبه ، وأولى . لكن أبعد هذا في حقِّها عن نوع الذنوب : أنَّ ما يفعل المحبوب محبوب .
وقولها : (( أما تستحيي المرأة تهب نفسها ؟! )) تقبيح منها على من فعلت ذلك . وتنفير أوجبه غيرتها . وإلاَّ فقد علمت أن الله أباح هذا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاصَّة ، وأن النساء كلّهن لو مَلَّكْنَ رقَّهُنَّ ورِقَابهنَّ للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكُنَّ معذورات في ذلك ، ومشكورات عليه لعظيم بركته ، ولشرف منزلة القرب منه .
وعلى الجملة فإذا حُقِّقَ النظرُ في أحوال أزواجه ؛ عُلِمَ : أنَّه لم يحصل أحدٌ في العالم على مثل ما حصلنَّ عليه . ويكفيك من ذلك مخالطة اللحوم ، والدماء ، ومشابكة الأعضاء ، والأجزاء . وناهيك بها مراتب فاخرة . لا جرم هنَّ أزواجه المخصوصات به في الدنيا والآخرة .
و (( سرف )) : موضع على ستة أميال من مكة . وقيل : سبعة . وقيل : تسعة . وقيل : اثنا عشر ميلاً . ولا خلاف : أن ميمونة رضي الله عنها توفيت به . وهي آخر أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ موتًا . قيل : إنها ماتت سنة ثلاث وستين . وقيل : ست وستين . وعلى هذا تكون ميمونة آخرهن موتًا . وقيل : سنة إحدى وخمسين ، قبل عائشة ؛ لأن عائشة توفيت سنة سبع وخمسين . وقيل : ثمان وخمسين . وعلى هذا فتكون عائشة آخرهن موتًا. وأما صفية : فتوفيت سنة خمسين .
(13/59)
وقول عطاء : (( كانت آخرهن موتًا ، ماتت بالمدينة )) ؛ قول مشكل ، يلزم عليه وهم ؛ وذلك : أنَّه إن كان أراد ميمونة ؛ فقد وَهِمَ في قوله : إنها ماتت بالمدينة . وقد بينَّا : أنها ماتت بسرف . إلا أن يريد بـ (( المدينة )) هنا (( مكة )) ، وفيه بُعْدٌ . وإن أراد بها صفية ؛ فقد وَهِمَ أيضًا ؛ فأنها لم تكن آخرهن موتًا على ما قدّمناه . وقد وهم أيضًا في قوله : إن التي لا يقسم لها هي صفية ، فإن المشهور : أن التي لا يقسم لها هي : سودة ، وهبت يومها لعائشة ، كما تقدَّم .
وقول ابن عباس رضي الله عنهما : ((فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا ،
ولا تزلزلوا ، وارفقوا )) ؛ كلُّ ذلك تنبية على ما يجب من احترام أزواجه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعظيم رتبتهنَّ ، وشرف منزلتهن ، كما قدمناه.
وقد تقدَّم لنا القول في وجه خصوصية على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكثرة النساء ، وأبدينا هنالك فوائد كثرة النساء في أول كتاب النكاح ، ونزيد هنا نكتة نبَّه عليها أبو سليمان الخطَّابي بكلام معناه : إن الله تعالى اختار لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأمور أفضلها ، وأكملها ، وجمع له من الفضائل التي تزداد بها نفوس العرب جلالة ، وفخامة . وكانت العرب تفتخر بكثرة النكاح ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوة البنية ، واعتدال المزاج ، وكمال الخلقة على نهايتها ، على ما شهدت به الأخبار . ومن كان بهذه الصِّفة ؛ كانت دواعي هذا الباب أغلب عليه ، وكان من عداها منسوبًا إلى نقص الجبلّة ، وضعف النَّحيزة ، فابيح له الزيادة على أربع لاحتياجه إلى ذلك . وأيضًا : فلقوَّته على العدل بينهن . ولَمَّا لم يكن غيره كذلك : قصر على أربع ، والله أعلم .
ومن باب الحث على نكاح الأبكار
قول جابر ـ رضى الله عنه ـ : (( إن عبدالله هلك )) ؛ يعني : والده . وكان استشهد يوم أحد ، اختلفت عليه أسياف المسلمين . وهم يظنونه من الكفار . فكان جابر يقول : أبي ! أبي ! فلم يسمعوه حتى استشهد فتصدَّق ابنه بدمه على المسلمين .(13/60)
و (( الثيب )) : المرأة التي دخل بها الزوج ، وكأنَّها ثابث إلى غالب أحوال كبار النساء .
وقوله : (( فهلاَّ جاربة تلاعبها ، وتلاعبك )) ؛ يدلُّ على تفضيل نكاح الأبكار ، كما قال في الحديث الآخر : (( فإنهنَّ أطيب أفواهًا ، وأنْتَقُ أرحامًا )).
و (( تلاعبها )) : من اللعب ، بدليل قوله : (( ويضاحكها)) . وفي كتاب أبي عبيد : (( تذاعبها وتذاعبك )).
وقوله في الرواية الأخرى : (( أين أنت من العذارى ولعابها ))- بكسر اللام هنا لا غير - وهو مصدر لاعب ، من الملاعبة . كما يقال : قِتالاً ؛ من : قَاتَل ، يقاتل . وقد رواه أبو ذر من طريق المستملي : ((لُعَابها )) - بالضم- ؛ يعني به : ريقها عند التقبيل . وفيه بُعْدٌ. والصواب : الأول .
وهذا الحديث يدلُّ على فضل عقل جابر ؛ فإنه راعى مصلحة صيانة أخواته ، وآثرها على حق نفسه ، وقيل لذته ؛ ولذلك استحسنه منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال له : (( فبارك الله لك )) ، وقال له خيرًا .
وفيه ما يدلُّ على جواز قصد الرجل من الزوجة القيام له بأمور وبمصالح ليست لازمة لها في الأصل ، ولا يُعاب من تصد شيئًا من ذلك.
وقوله : (( تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها )) ؛ أي : هذه الأربع الخصال هي الْمُرغِّبة في نكاح المرأة . وهي التي يقصدها الرِّجال من النساء . فهو خبرٌ عما في الوجود من ذلك ، لا أنه أمرٌ بذلك. وظاهره إباحة النكاح ؛ لقصد مجموع هذه الخصال أو لواحدة منها ، لكن قصد الدِّين أولى وأهم ؛ ولذلك قال : (( فاظفر بذات الدِّين )).
(13/61)
و (( الحسب )) هنا : الشرف ، والرفعة . وأصله من الحساب ؟ الذي هو العدد ، وذلك أن الشريف يعد لنفسه ولآبائه مأثر جميلة وخصالاً شريفة . والحسب - بسكون السين - : المصدر ، وبفتحها : الاسم . كالنَّفْض ، والنَّفَض ، والقَبْض ، والقَبَض . وقد يراد بالحسب : قرابة الرجل ، وأهله ، وذريته ؛ كما جاء في وفد هوازن ؛ إذ قيل لهم : اختاروا ، إما المال ، وإمَّا السبي . فقالوا : إنا نختار الحسب . فاختاروا أبناءهم ونساءهم . وقد تقدم القول على : (( تربت يداك )).
ولا يُظَّنُّ من هذا الحديث أن مجموع هذه الأربع والمساواة فيها هي الكفاءة ، فإن ذلك لم يقل به أحدٌ من العلماء فيما علمت ، وإن كانوا قد اختلفوا في الكفاءة ما هي ؟
فعند مالك : الكفاءة في الدِّين . فالمسلمون بعضهم لبعض أكفاء ، والمولى كفؤ للقُرشيّة . وروي مثله عمر ، وابن مسعود ، وجماعة من الصحابة والتابعين .
وقال غيره : الكفاءة معتبرة في الحال والحسب . فعند أبي حنيفة : قريش كلهم أكفاء ، وليس غيرهم من العرب لهم بكفؤ . والعرب بعضهم لبعض أكفاء ، وليس الموالي لهم بأكفاء . ومن له من الموالي أبًا في الإسلام ؛ فبعضهم لبعض أكفاء ، وليس المعتق نفسه لهم بكفؤ .
وقال الثوري : يفرق بين العربية والمولى ، وشدَّدَ في ذلك ، وقاله أحمد. قال الخطابي : الكفاءة في قول أكثر العلماء في أربعة : في الدِّين ، والنَّسب ، والحرِّية ، والصناعة . واعتبر بعضهم السلامة من العيوب . والكل منهم متفقون على أنه لا يعتبر في الكفاءة المساواة فيما يُعَدُّ كفاءة ، بل يكفي أن يكونا ممن ينطلق عليها اسم ذلك المعنى المعتبر في الكفاءة . فالمفضول كفؤ للأفضل ، والمشروف كفؤ للأشرف ؛ لأنهما قد اشتركا في أصل ذلك المعنى .
(13/62)
وقد استدل أصحابنا بهذا الحديث : على أن للزوج حق الاستمتاع والتجمُّل بمال الزوجة . ووجه ذلك : أنها إذا كانت ذات مال رغب الزوج فيها ووسّع في المهر لأجل المال ، وبذل لها من ذلك أكثر مما يبذل للفقيرة . وقد سوَّغ الشرع هذا القصد ، فلا بدَّ له من أثر ومقابل ، لا جائز أن يكون عين مالها بالاتفاق ، فلم يبق إلا أن يكون الاستمتاع ، والتجمُّل به ، وكفاية كثير من المؤن . وينبني على ذلك : أنها تُمنع من تفويت مالها كلِّه لأجل حق الزوج .
وقد شهد بصحة هذا الاعتبار قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما خرَّجه النثسائي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أنه قال : (( لا يحل لامرأة أن تقضي في ذي بال من مالها إلا بإذن زوجها )). قال الإمام أبو عبد الله : وفي ظاهر هذا حجة لقولنا : إن المرأة إذا رفع لها الزوج في الصَّداق ليسارها ، ولأنها تسوق إلى بيته من الجهاز ما جرت عادة أمثالها به ، وجاء الأمر بخلافه ، فإن للزوج مقالاً في ذلك ، ويحط عنه من الصَّداق الزيادة التي زادها لأجل الجهاز على الأصح عندنا ، على أصلنا ؛ إذ قد كان المقصود من الجهاز في حكم التبع لاستباحة البضع ، كمن اشترى سلعتين ، فاستُحِقَّت الأدنى منهما ، فإنَّه إثما ينقض البيع في قدر المستحقَّة خاصة .
قال القاضي : وإذا تقرر : أن للزوج حق الاستمتاع ؛ فان منكنته من ذلك ؛ أي : من الاستمتاع بالجهاز ، وطابت نفسها به كان له ذلك ، وإن منعته ، فله بقدر ما بذل من الصَّداق . وعلى هذا في إجبارها على التجهيز بصداقها . فألزمها ذلك مالك ، ولم يجز لها منه قضاء دينٍ ، ولا نفقة في غير جهازها ؛ إلا أن تنفق اليسير من الكثير . وقال الكوفيون : لا تُجبر على شيء ، وهو مالها ، تفعل فيه ما تشاء ، والله أعلم .
ومن باب مَنْ قَدم من سفر فلا يعجل بالدخول على أهله
(13/63)
قوله : (( فلما أقفلنا )) ؛ كذا لابن ماهان . ووجه الكلام : قفلنا -ثلاثيًّا - ، يقال : قفل الجند من مبعثهم ؛ أي : رجعوا ، وأقفلهم الأمير ، وقَفَلَهُمْ أيضًا . وتحتمل الرواية أن تكون بفتح اللام ؛ أي : أقْفَلَنَا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتحتمل أن تكون اللام ساكنة . ويكون معناه : أقفل بعضنا بعضًا . ورواه ابن سفيان : (( أقبلنا )) ، بالباء المنقوطة بواحدة ، من الإقبال.
و (( القطوف )) : هو البعير البطيء المشي ، المتقارب الخطو ؛ قاله الخليل وغيره . قال الثعالبي : إذا كان الفرس يمشي وثبًا وثبًا ؛ فهو قطوف ، فإن كان يرفع يديه ويقوم على رجليه ؛ فهو شبوب ، فإن كان يلتوي برأسه حتى يكاد يسقط عنه راكبه ؛ فهو قموص ، فإذا كان مانعًا ظهره ؛ فهو شموس .
و (( العَنَزَةُ )) : عصا مثل نصف الرمح ، أو أكثر ، وفيها : زُجٌّ ؛ قاله أبو عبيد . قال الثعالبي : فإن طالت شيئًا ؛ فهي النيزك ، ومِطْرَدٌ ، فإذا زاد طولها وفيها سنان عريض ؛ فهي آلة وحربة .
وقوله : (( فانطلق بعيري كأجود ما أنت راجٍ )) ؛ أي : كأسرع بعير تراه من الإبل . وهذا من بركات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن كراماته .
وقوله : (( أمهلوا حتى ندخل ليلاً )) ؛ أي : ارفقوا.
و (( الشَّعِثَة )) : المتغيرة الحال والهيئة . و(( تَسْتَحِدَّ )) : تستعمل الحديدة ؛ يعني به : حلق الشعر . و(( الْمَغِيبة )) : هي التي غاب عنها زوجها . يقال : أغابت المرأة ، فهي مغيبة - بالهاء - ، وأشهدت : إذا حضر زوجها. فهي : مُشْهِد - بغير هاء -.
(13/64)
وفي هذا من التنبيه على رعاية المصالح الجزئية في الأهل ، والإرشاد إلى مكارم الأخلاق ، وتحسين المعاشرة ما لا يخفى . وذلك : أن المرأة تكون في حالة غيبة زوجها على حالة بذاذة ، وقلَّة مبالاة بنفسها ، وفي شعث . فلو قَدِمَ الزوج عليها وهي في تلك الحال ربما نفر منها ، وزَهِدَ فيها ، وهانت عليه . فنبَّه على ما يزيل ذلك ، ولا يعارض قوله : ((حتى ندخل ليلاً )) نهيه في الحديث الآخر عن أن يطرق الرَّجل أهله ؛ لأن ذلك إذا لم يتقدَّم إليهم خبره ؛ لئلا يستغفلهم ، ويرى منهم ما يكرهه . وقد جاء هذا مبيَّنًا في الجهاد ؛ إذ قال : (( كان لا يطرق أهله ليلاً )) ، وكان يأتيهم غدوًّا وعشيًّا . وقد جاء في حديث النهي عن الطروق التنبيه على علَّة أخرى . وهي : أنه لا يطرقهم يتخوَّنهم ، ويطلب عثراتهم . وهو معنى آخر غير الأول . وينبغي أيضًا : أن يجتنب الطروق لأجل ذلك .
وقوله : (( فإذا قدمت فالكَيْس الكَيْس )). قال ابن الأعرابي : الكَيْس : الجماع ، والكَيْس : العقل . فكأنه جعل طلب الولد عقلاً . ومنه الحديث : أي المؤمنين أكْيَس )) ؛ أي : أعقل .
ومن باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة
قوله : (( الدُّنيا متاع )) ؛ أي : شيء يتمتع به حينًا ما ، كما قال تعالى : { قل متاع الدنيا قليل }.
و (( المرأة الصَّالحة )) : هي الصالحة في نفسها ، وفي دينها. والْمُصْلِحَةُ لحال زرجها . وهذا كما قال في الحديث الآخر : (( ألا أخبركم بخير ما يكنزه المرء ؟ )) قالوا : بلى . قال : (( المرأة الصالحة ؛ التي إذا نظر إليها سرّته ، وإذا غاب عنها حفظته ، وإذا أمرها أطاعته )).
(13/65)
وقوله : (( إن المرأة خلقت من ضلع هذا يؤيد ما ينقله المفسِّرون : أن حواء خلقت من آخر أضلاع آدم عليهما السلام ، وهي : القصيرى - مقصورًا-. ومعنى (( خلقت )) ؛ أي : أخرجت كما تخرج النخلة من النَّواة . وبحتمل أن يكون هذا قصد به المثل . فيكون معنى (( من ضلع )) ؛ أي : من مثل ضلع . أي فهي كالضلع . ويشهد له قوله : (( لن تستقيم لك على طريقة ، فان استمعت بها ؛ استمتعت وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكَسْرُهَا طلاقُها )).
و (( عَوَج ))- بالفتح - : في الأجسام المحسوسة. و(( عِوَج ))- بالكسر- : في المعاني .
وقوله : (( واستوصوا بالنساء خيرًا )) ؛ أي : اقبلوا وصيتي فيهن ، واعملوا بها ، فاصبروا عليهن ، وارفقوا بهنَّ ، وأحسنوا إليهنَّ .
وقوله : (( لا يَفْرك مؤمن مؤمنة )) ؛ أي : لا يبغضها بغضًا كليًّا يحمله على فراقها ؛ أي : لا ينبغي له ذلك ، بل يغفر سيئها لحسنها ، ويتغاضى عما يكره لِمَا يحب . وأصل الفرك إنما يقال في النساء . يقال : فركتْ المرأةُ زَوْجَها تفركه . فِركًا - بكسر الفاء - : أبغضته . وكذلك فركها زوجها . ولم يسمع هذا الحرف في غير الزوجين . وأبغض الرَّجلُ امرأته . وقد استعمل الفرك في الرَّجل قليلاً ، وتجوّزًا . ومنه ما في هذا الحديث .
وقوله : (( لولا حواء لم تخن أنثى زوجها )) ؛ يعني : أنها أمُّهُنَّ فأشْبَهْنَها بالولادة ، ونزع العِرْق ؛ لما جرى في قصة الشجرة مع إبليس ، فإنه أغواها من قَبْلِ آدم ، حتى أكلت من الشجرة ، ثم إنها أتت آدمَ فزيَنتْ له ذلك ، حتى حملته على أن أكل منها .
وقوله : (( ولولا بنو إسرائيل لم يَخْبُث الطعام ولم يَخْنَز اللحم )) ، يقال : خَنَزَ اللَّحم - بفتح النون في الماضي ، وقد تُكْسر أيضًا - خَنَزًا وخُنُوزًا : إذا تغيَّر. ومثله : خَزِنَ - بكسر الزاي - يَخْزَنُ خَزْنًا وخَزَنًا. قال طرفة : نحن لا يَخْزُنُ فينا لَحْمُهَا إنَّما يَخْزَنُ لحمُ الْمُدَّخِر .
(13/66)
ويروى : يَخْنَزُ . ويعني به : أنه لما أنزل الله تعالى على بني إسرائيل الْمَنَّ والسلوى ، كان الْمَنَّ يسقط عليهم في مجالسهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كسقوط الثلج ، فيؤخذ منه بقدر ما يغني ذلك اليوم ، إلا يوم الجمعة فيأخذون منه للجمعة والسبت ، فإن تَعَدَّوا إلى أكثر من ذلك فسد ما ادخروا ، ففسد عليهم ، فكان ادخارهم فسادًا للأطعمة عليهم وعلى غيرهم ، والله أعلم .
كتاب الطلاق
الطلاق هو : حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة . والفسخ هو : إزالة ما يتوَّهم انعقاده لموجب يمنع العقد . وقد يطلق الفسخ ويراد به الطلاق على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
ومن باب طلاق السُّنَّة
قوله : (( إن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض ، فسأل عمرُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك ؟ فأمره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يراجعها )). وفي الرواية الأخرى : (( أن عمر لما ذكر ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تغيَّظ ، ثم أمره بمراجعتها .
فيه دليلٌ : على أن الطَّلاق في الحيض يحرم ؛ فانه أنكره بتغيُّظه عليه ، مع أن ابن عمر لم يكن عرف تحريم ذلك عليه . فتغيَّظَ بسبب ذلك وأمره بالمراجعة . وهو مذهب الجمهور .
واختُلف في منع الطلاق في الحيض . فقيل : هو عبادة غير معقولة. وقيل : هو معلَّل بتطويل العِدَّة . وهذا على أصلنا في أن الأقراء هي : الأطهار . وينبني على هذا الخلافِ الخلافُ في المطلّقة قبل الدخول والحامل في حال الحيض . فإذا قلنا : هو عبادة لم يجز أن يُطَلَّقَا وهما حائضان ، وإذا قلنا هو للتطويل جاز ذلك ؛ لأن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها ، ولأن عدة الحامل وضع حملها .
وقيل : إن علّة ذلك : خوف الإسراع إلى الطلاق ، والتساهل فيه لسبب : أنه لا يتلذذ الزوج بوطئها لأجل الحيض ، بل تنفر نفسُهُ منها ، ويهون عليه أمرها غالبًا ، فقد تحمله تلك الحالة على الإسراع في الطلاق ، والتساهل فيه .
(13/67)
و (( الطلاق أبغض الحلال إلى الله )) ، كما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنه نقيض الألفة المطلوبة شرعًا ، وإنما شُرع الطلاق تخلُّصًا من الضرر اللاحق بالزوج ؛ ولذلك كُرِهَ الطلاق من غير سبب . وإلى هذا الإشارة بقوله : (( لا يفرك مؤمن مؤمنة )) ، ، و((المرأة خلقت من ضلع أعوج )) ؛ الحديثين المتقدمين .
وأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن عمر بالمراجعة ؛ دليل لمالك على وجوب الرجعة في مثل ذلك . وهو حجة على أبي حنيفة والشافعي ، حيث قالا : لا يجب ذلك .
وفيه دليل : على أن الطلاق في الحيض يقع ، ويلزم . وهو مذهب الجمهور خلافًا لمن شذَّ وقال : إنه لا يقع . ثم إذا حكمنا بوقوعها اعتد بها له من عدد الطلاق الثلاث . كما قال نافغ ، وابن عمر في هذا الحديث على مايأتي .
وقوله : (( ثم يتركها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر )) ؛ اختُلف في المعنى الذي لأجله منعه من إيقاع الطلاق في الطهر الثاني للحيضة التي طنق فيها. فقيل فيه أقوال :
أحدها : أنه لو طتق فيه لكان كالموقع طلقتين في قُرْءٍ واحد ، من حيث : إنه لا يعتدّ بالحيض الذي طلّق فيه من العِدَّة ، وليس كذلك طلاق السُّنَّة .
وثانيها : أنها مؤاخذة بنقيض القصد ، من حيث : إنه عجَّل ما حقَّه أن يتأخر ، فكان كمستعجل الميراث بقتل مُوَرِّثه. وله نظائر. ولا يقال : إن هذا ليس بشيء ؛ لأن ابن عمر لم يقصد فعل المحرم ؛ إذ لم يعلم التحريم ، فلا يعاقب ؛ لأنَّا نقول : هو تقعيد القاعدة ، وبيان حكمها مطلقًا ، وليس هذا من قبيل العقوبة الأخروية ، وإنما هذا من قبيل ربط الأحكام بالأسباب ، كما لو حلف فحنث ساهيًا ، فإنه يقع الحنث وإن لم يكن مأثومًا .
وثالثها : إنما منع من ذلك لتَتَحَقَّق الرجعة ؛ لأنه إن لم يمس فيه ؛ فكأنه ارتجع للطلاق ، لا للنكاح. وليس هذا موضوع الرجعة .
(13/68)
ورابعها : ليطول مقامه معها . ويتمكن منها بزوال الحيض ، فتزول تلك النُّفْرَة التي ذكرناها ، فيتلذذ ، ويطأ ، فيمسك ، ويحصل مقصود الزوجية ، والألفة . وهذا أشبهها ، وأحسنها ، والله أعلم .
وقوله : (( فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء )). (( تلك )) : إشارة إلى الحالة التي عيَّنها بقوله المتقدم ؛ لجواز إيقاع الطلاق فيها ، وهي أن تكون في طهر لم تُمَسَّ فيه ، وهي حوالة على قوله تعالى : {إذاطلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن }. وفي بعض رواياته : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرأ الآية : ( فطلقوهن لِقُبُلُ عدَّتهن ).
وفيها دليل واضح لمالك ، ولمن قال بقوله : على أن الأقراء هي الأطهار . كما قالت عائشة ، وغيرها . وهي حجة على من قال : إن الأقراء هي الدِّماء ؛ وهو أبو حنيفة ، وغيره .
وقد دلَّ هذا الحديث : على أن طلاق السُّنه يراعى فيه وقت الطهر. وهل يكفي ذلك في كون الطلاق للسُّنه ، أو لابدَّ من زيادة قيود أُخَر .
فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : يكفي ذلك ، وليس في عدد الطلاق سنة ولا بدعة .
وقال مالك وعامَّة أصحابه : لابدَّ في طلاق السُّنَّة من أن يعتبر مع الوقت أن يطلقها واحدة ، ويتركها حتى تنقضي عدتها ، ولا يُرْدِفُهَا ، ومتى خالف شيئًا من ذلك خرج عن طلاق السُّنة ، ووصف بالبدعة .
وقال أبوحنيفة وأصحابه : هذا أحسن الطلاق . وله قول آخر : إن شاء طلقها ثلاثًا ، طلقها في كل طهر مرَّة . وكلاهما عند الكوفيين طلاق سنة . وقاله ابن مسعود. واختُلف فيه قول أشهب . فقال مرة
مثل ذلك . وقال مرة : يجوز أن يرتجع ، ثم يطلق ثلاثًا .
ومعنى طلاق السُّنَّة : هو الواقع على الوجوه المشروعة ، وطلاق البدعة نقيضه .
(13/69)
وقد اختُلف فيما إذا طلقها في طهر مسَّ فيه . فالجمهور على أنه لا يجبر على الرجعة . وقد شذَّ بعضهم فقال : يُجبر كما يُجْبر عليها في الحيض . والفريقان متفقان : على أن ذلك لا يجوز لإلباس العدة عليها ؛ لأنها إن لم تكن حاملاً اعتدّت بالأقراء ، وإن كانت حاملاً اعتدت بوضع الحمل ، ولإمكان وقوع الندم للمطلِّق عند ظهور الحمل .
واختُلف عندنا فيما إذا لم تُرْتَجع المطلقة في الحيض حتى جاء الطهر الذي يجوز أن تطلق فيه . هل يُجبر على الرجعة ؛ لأنها حن عليه ، ولا يزول بزوال وقته ، أو لا يجبر ؛ لأنه قادر على إيقاع الطلاق في
الحال فلا معنى للرجعة .
وقوله : (( إنه طلقها تطليقة واحدة )) ؛ هذا هو الصحيح ، أنها كانت واحدة . ورواية من روى : أنها كانت ثلاثًا وَهْمٌ ، كما ذكره مسلم عن ابن سيرين : أنَّه أقام عشرين سنة يحدّثه من لا يتهم : أنه طلقها ثلاثًا حتى أتى الباهليُّ ، واسمه : يونس بن جُبَيْر ، يكنى : أبا غَلاب ، بفتح الغين ، وتخفيف اللام عند أبي بَحْرٍ ، وتشديدها عند غيره ، وكذا قيَّده الأمير : أبو نصر بن ماكولا - وكان ذا ثبت - فحدَّثه عن ابن عمر : أنَّه طلقها تطليقة . وقد روي كذلك من غير وجه مسألة متعلقة بالطهر الذي مسَّ فيه . وتلك : أنَّ كُلَّ من قال : إن الأقراء هي الأطهار ، فإذا طلَّق في طهر مَسَّ فيه ، اعتدّ له بذلك الطهر عند الجمهور خلا ابن شهاب ، فإنه يلغيه . وقد وجَّهت الحنفيةُ عليهم اعتراضًا ؛ وهو : أنهم قالوا : أمر الله المطلقة ذات الأقراء أن تعتدّ ثلاثة أقراء ، وأنتم تجعلون ذلك قرأين وبعضَ قرء ، فكان قولكم مخالفًا للنص ، فدلَّ ذلك على إبطال قولكم : إن الأقراء هي الأطهار. ودلَّ على صحة مذهبنا : أن الأقراء هي الحيض . وقد صحت تسمية الدَّم قرءًا في كلام العرب ، كما قال : (( دعي الصلاة أيام قرائك )) ؛ أي : دمك. وكما قال الشاعر :
يا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَليَّ فَارِضِ له قُرُوءٌ كَقُروءِ الحائضِ
(13/70)
يعني : أنه طعنه ، فكان له دم كدم الحائض . وهو المنقول عن أبي عمرو ، والأخفش .
والجواب : أما عن قولهم : إن الأقراء هي الحيض في اللغة ، فالمعارضة بأنها أيضًا فيها الأطهار ؛ كما قال الشاعر ، وهو الأعشى :
مورّثةٍ مالاً وفي الحيِّ غبطةٍ لِمَا ضَاعَ فيها مِن قُرُوء نِسائِكا
أي : من أطهارهن .
وقالت عائشة : الأقراء : الأطهار. وهو منقول عن كثير من أئمة اللغة .
والإنصاف : أن لفظ : (( القرء )) مشترك في اللغة ، ولكنه ينطلق عليهما ، لاشتراكهما في أصل واحد ، وذلك : أن أصل القُرْءِ في اللغة ، هو : الجمع ، كما قال الشاعر يصف ناقته :
.................... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا
أي : لم تجمع في جوفها ، أو التَّغَيُّر من حال إلى حال ، كما قالوا : قرأ النَّجْم : إذا أفل ، وإذا ظهر . وكل واحد من الأصلين موجود في الْمُسمَّى : قَرْءًا .
أمَّا الأول : فلأن الدَّم يجتمع في الرَّحم في أيام الطهر ، ثم يجتمع في الخروج في أيام الحيض . وأيضًا : فإن الطهر ، والحيض يتصل أحدهما بالآخر ، ويجتمع معه .
وأمَّا الثاني : فانتقال المرأة من حال الحيض إلى حال الطهر محسوس ، وحال القرء فيما ذكرناه كحال الصريم ، فإنه ينطلق على الليل والنهار ؛ لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه . وعند الوقوف على ما ذكرناه يحصل الانفصال عما ألزمنا الحنفية من إطلاق القرء على بعض قرء ، فإنه إذا كان القرء : الجمع بين الطهر والحيض ، فلو طلقها في آخر الطهر الذى مسَّ فيه فقد صحَّ مسمَّى القرء ؛ لاجتماع الدَّم معه . وقد انفصل حالها من الطهر إلى الحيض ، فصحَّ الاسم ، والله الموفق.
وقد أجاب أصحابنا بجواب آخر ، وهو : أن قوله : { ثلاثة قروء} كقوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } ، وهي شهران وبعض شهر . وسِرُّه : أنَّ البعض بالنسبة إلى الكل قد لا يلتفت إليه ، والله أعلم .
(13/71)
وأمَّا ما ذهب إليه ابن شهاب فليس بشيء ؛ لأنه انفرد به دون العلماء ، ولأنه إذا ألغى ذلك أضرَّ بالمرأة ، وزاد في تطويل العدّة طولاً كثيرًا ، فإنَّه يلغي ذلك الطُّهر ، والدَّم الذي بعده ، فتشتد المضرَّة عليها ، ويحصل الحرج المرفوع بأصل الشريعة .
وقول ابن عمر رضي الله عنهما : (( إمَّا أنت طلقت امرأتك مرة أو مرتين ؛ فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرني بهذا . وإن كنت طلقتها ثلاثًا ، فقد حرمت عليك ، وعصيت ربَّك )) . ((إمَّا أنت )) : هو بكسر الهمزة ؛ كقولهم :
أبا خُراشة إِمَّا أنتَ ذا نَفَرِ فإن قوّمِيَ لم تَأْكُلْهُم الضَّبُعُ
أي : إن كنت . فحذفوا الفعل الذي يلي (( إن )) وجعلوا (( ما )) عوضًا منه ، وأدغموا (( إن )) في (( ما )) ، ووضعوا (( أنت )) مكان (( التاء )) في كنت . هذا قول النحويين .
وقوله : (( وعصيت ربك )) ؛ يعني : بالطلاق ثلاثًا في كلمة . وظاهره : أنه مُحَرَّم ، وهو قول ابن عباس المشهور عنه ، وعمر بن الخطاب ، وعمران بن حصين. وإليه ذهب مالك . وقال الكوفيون : إنه غير جائز ، وإنه للبدعة .
وقال الشافعي : له أن يطلق واحدة ، أو اثنتين ، أو ثلاثًا. كل ذلك سُنَّة . ومثله قال أحمد بن حنبل ، إلا أنَّه قال : أحبُّ إليَّ أن يوقع واحدةً. وهو الاختيار . والأول أولى ؛ لما يأتي إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرني بهذا )) ؛ إشارة إلى أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمراجعة . فكأنَّه قال للسائل : إن طلقت تطليقة أو تطليقتين فأنت مأمور بالمراجعة لأجل الحيض ، وإن طلقت ثلاثًا لم تكن لك مراجعة ؛ لأنها لا تحل لك إلا بعد زوج . وكذا جاء مفسَّرًا في رواية أخرى في "الأم".
وقوله : (( وإن كنت طلقت ثلاثًا ؛ فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك ، وعصيت الله )) ؛ دليلٌ على أن الطلاق الثلاث من كلمة واحدة محرَّم لازم إذا وقع على ما يأتي وهو مذهب الجمهور .
(13/72)
وقوله : (( مرّه فليراجعها ، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً )) ؛ فيه دليلٌ على جواز طلاق الحامل في أي وقت شاء ، وإنه للسُّنة . وهو قول كافة العلماء ، وهم على أصولهم . فمالك ، ومحمد بن الحسن ، وزفر يرون : أنَّه لا يكرر عليها الطلاق إلى أن تضع . والشافعي : يجوِّز تكرار الطلاق عليها فيه . وأبو حنيفة وأبو يوسف : يجعل بين التطليقتين شهرًا .
وقوله : (( أرأيت إن عجز واستحمق؟! )) هذه الرواية فيها إشكال . يفسره ما وقع في رواية أخرى : (( أرأيت إن كان ابن عمر عجز واستحمق(@) ، فماذا يمنعه أن يكون طلاقًا )) ؛ يعني : أنَّه لو طرأ عليه عجز عن الرجعة أو ذهاب عقل حتى لا يتأتى له الارتجاع ، أكان يُخِلُّ ذلك بالطلاق المتقدم ، أو كانت المرأة تبقى معلقة ، لا ذات زوج ، ولا مطلقة. وكأنَّه يقول : المعلوم من الشريعة : أنه لو طرأ شيء مما ذكر لما كان قادحًا في الطلاق الْمُتقدِّم . فإذًا : الطلقة واقعة يحتسب له بها ، كما قال : (( فحسبت من طلاقه )).
(( واستحمق))- بفتح التاء - : مبنيًّا للفاعل ، وهو غير متعدٍّ ، فلا
يجوز أن يُرَدّ لِما لم يُسَمَّ فاعله لذلك(9). ومعناه : استعمل الحمق ،
وظهر عليه.
وقوله : (( وقرأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( فطلقوهن في قبل عدتهن ) ؛ هذا تصريح برفع هذه القراءة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير أنها شاذة عن المصحف ، ومنقولة آحادًا ، فلا تكون قرآنًا ، لكنها خبر مرفوع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صحيح ، وحجة واضحة لمن يقول بأن الأقراء هي الأطهار ، كما تقدَّم. وهي قراءة ابن عمر ، وابن عباس. وفي قراءة ابن مسعود : ( لقبل طهرهن ). قال جماعة من العلماء : وهي محمولة على التفسير ، لا التلاوة.
ومن باب ما يُحِلُّ المطلقة ثلاثًا
(13/73)
قول المرأة : (( فطنقني ، فبتَّ طلاقي )) ؛ ظاهره : أنَّه قال لها : أنتِ طالقٌ البتَّة ، فيكون حجة لمالك على : أن البتَّة محمولة على الثلاث في المدخول بها . ويحتمل أن تريد به آخر الثلات تطليقات ، كما جاء في الرواية الأخرى : (( أن رجلاً طلّق امرأته ثلاثًا )). وجاز أن يعبِّر عنها بالبتات ؛ لأن الثلاث قطعت جميع العُلَق ، والطلاق . ولم تبقِ شيئًا بين الزوجين .
(( وعبدالرحمن بن الزَّبِيْر ))- بفتح الزاي ، وكسر الباء ، ولم يختلف في ذلك - : وهو الزَّبِير بن باطا(10) اليهودي.
و (( هدبة الثوب )) : طرفه الذي لم ينسج ، وتعني به : ما يبقى بعد قطع الثوب من السَّدى ، شُبِّه بـ(( هُدَبِ العَيْن )) ، وهي : الشعر النابت على حرفه.
وقوله : (( حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك )) ؛ مذهب الجمهور : أن هذا كناية عن الجماع . وقال بعضهم : في تصغير (( عُسَيْلَة )) ؛ دليل : على أن الوطأة الواحدة كافية في إباحتها لمطلقها . وشذَّ الحسن فقال : العسيلة هنا : كناية عن المني ، فلا تحل له عنده إلا بالإنزال.
قلت : ولا شك أن أول الإيلاج مبدأ التذة ، وتمامها الإنزال ، والاسم يصدق على أقل ما ينطلق عليه. فالأولى ما ذهب إليه الجمهور ، والله تعالى أعلم .
وهذا الحديث نصٌّ في الردِّ على ما شذَّ فيه سعيد بن المسيب عن جماعة من(9) العلماء في قوله : إن عقد النكاح بمجرده(10) يُحلِّهُا لمطلِّقها. وقال بعض علمائنا : ما أظن سعيدا بلغه هذا الحديث ، فأخذ بظاهر القرآن ، وشذَّ في ذلك ، ولم يقل أحدٌ بقوله .
قلت : قد تال بقول سعيد بن المسيب : سعيدُ بن جُبير وجماعة من السلف ، على ما حكاه القاضي عبدالوهاب في شرح رسالة ابن زيد ـ رضى الله عنه ـ .
ويفهم من قوله : (( حى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك )) ؛ استواؤهما في إدراك لذة الجماع . وهو حجة لأحد القولين عندنا في : أنه لو وطئها نائمة ، أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها ؛ لأنها لم تذق العسيلة ؛ إذ لم تدركها .
(13/74)
وتبسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إما من تغطية مرادها في الرجوع إلى زوجها الأول ، أو تعجبًا من تصريحها بشكواها مما عادة النساء الاستحياء منه.
وفيه دليلٌ على أن مثل هذا إذا صدر من مدَّعيته لا ينكر عليها ، ولا توبّخ بسببه ، فإنه في معرض المطالبة بالحقوق . ويدل على صحته : أن أبا بكر ـ رضى الله عنه ـ لم ينكره ، وإن كان خالد قد حرَّكه للأنكار ، وحَضَّه عليه .
و (( تجهر )) : ترفع صوتها . وفي غير كتاب مسلم : (( تهجر )) ؛ من الهجر . وهو : الفحش من القول .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة )) ؛ تمسَّك به داود ، وابن عُلَيَّة ، والحكم . وقالوا : لا تطلق المرأة بسبب عُنَّةِ زوجها ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يطلق عليه ، ولا ضرب له أجلاً . وجمهور العلماء من السَّلف وغيرهم على خلافهم ، وأنه يُضْرَبُ له أجل ، فإن دخل بها ، وإلا فرق بينهما . وقد حكى بعض أئمتنا الإجماع على ذلك ، وكأنَّه يريد إجماع السَّلف ، والله تعالى أعلم .
ولا حجة لداود ، ولا لمن قال بقوله في الحديث الذى تمسَّكوا به ؛ لأن الزوج لم يصدِّقها على ذلك ؛ بدليل ما رواه البخاري في هذا الحديث : أنَّها لما قالت : إن ما معه ليس باغنى عَنِّي من هذه -وأخذت هذبة من ثوبها - ، فقال : كذبت ، والله إني لأنفضها نفض الأديم ، ولكنها ناشز تريد أن ترجع إلى رفاعة . وإنما يضرب الأجل إذا تصادقا على عدم المسيس ، أو عرضت عليه اليمين فنكل ، على ما يقوله بعضهم.
واختلف الجمهور في الأجل . فمعظمهم : على سَنَةٍ ؛ لأنه إن كان مرضًا ؛ دارت عليه فصول السَّنَة ، ولا بدَّ أن يوافقه فصل منها غالبًا ، فيرتجى برْؤُه فيها . فإذا انقضت السَّنَةُ ، ولم يبرأ دلّ ذلك على أنه زمانةٌ لازمة ، فيفرَّق بينهما رفعًا للضرر عنها .
وقال بعض السَّلف : عشرة أشهر . والأمر قريب ؛ فإنه نَظَرَ في تحقيق مناطٍ . وكل ذلك فيمن يرتجى زوال ما به . وأما المجبوب ، والخصيُّ ؛ فَيُطلَّق عليه من غير أجلٍ .
(13/75)
ومن باب إمضاء الطلاق الثلاث من كلمة
قوله : (( كان الطلاق على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طلاق الثلاث واحدة )) ، وفي الرواية الأخرى : (( إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر ، وثلاثًا من إمارة عمر )) ، وفي الرواية الثالثة : (( ألم يكن طلاق الثلاث واحدة ، فقال قد كان ذلك ، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عمر عليهم )) ؛ تمسَّك بظاهر هذه الروايات شذرذٌ من أهل العلم ، فقالوا : إن طلاق الثلاث في كلمتن يقع واحدة ؛ وهم : طاووس ، وبعض أهل الظاهر . وقيل : هو مذهب محمد بن إسحاق ، والحجاج بن أرطاة ، وقيل عنهما : لا يلزم منه شي . وهو مذهب مقاتل ، والمشهور عن الحجاج بن أرطاة .
وجمهور السَّلف والأئمة : أنَّه لازمٌ واقعٌ ثلاثًا ، ولا فرق بين أن يوقع مجتمعًا في كلمة أو مفرَّقًا في كلمات ، غير أنهم اختلفوا في جرار إيقاعه كما قدمناه . فأما من ذهب : إلى أنه لايلزم شيء منه - وهو مذهب ابن إسحاق ومقاتل : ففساده ظاهر بدليل الكتاب ، وذلك : أن الله تعالى قال : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، وهذا يَعُتُّم كُلَّ مطلقةٍ خُصَّ منه المطلقة قبل الدخول ، ومن تعتد بالشهور والحمل . وبقيت متناولة لما بقي . لا يقال : يراد بالمطلقات هنا : الرجعية ؛ بدليل قوله : { وبعولتن أحق بردهن في ذلك }(@) ، لأنَّا نقول : ليس ذلك بتخصيص لذلك العموم ، وإنما هو بيانُ حُكْم بعض ما تناوله العموم ، ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة } ، وقوله : { إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضيتم بينهم بالمعروف } ونحو هذا .
ووجه دلالة هذا النمط : أنَّه قد حكم بأن وقوع ما يقال عليه
(13/76)
طلاقٌ يقتضي منع الزوج مِمَّا كان له على الزوجة من التصرف ، ويلزمه أحكامًا أُخر لا تكون في حالة الزوجية ، ولا نعني بكونه واقعًا إلا ذلك ، وايقاع الطلاق ثلاثًا يقال عليه طلاق بالاتفاق فتلزم تلك الأحكام. وقد أشبعنا القول في هذا في جزء كتبناه في هذه المسألة سؤالاً وجوابًا .
ثم حديث ابن عباس هذا يدلُّ ظاهرًا على أنَّه كان الطلاق ثلاثًا واقعًا لازمًا في تلك الأعصار ، فنستدل به عليهم على جهة الإلزام ، وإن كنَّا لا نرى التمسُّك به ؛ لما سنذكره إن شاء الله تعالى .
وعلى الجملة فمذهب هذين الرجلين شاذُّ الشاذِّ ، ولا سلف لهم فيه ، ولا يُعْدُ في أن يقال : إن إجماع السَّلف على خلافه- على ما يتبيَّن مِما نذكره بَعْدُ عن السَّلف - ، فإنهم كانوا منقسمين إلى من يراه ثلاثًا ، أو إلى من يراه واحدة. والكل متفقون على وقوعه ، والله تعالى أعلم .
وأمَّا من ذهب إلى أنَّه واقعٌ واحدةً ؛ فهو أيضًا فاسدٌ . وقد استدل القائلون به على صحته بثلاثة أحاديث :
أحدها : حديث ابن عبَّاس هذا .
وثانيها : حديث ابن عمر على رواية من روى : أنَّه طلق امرأته ثلاثًا ، وأنَّه أمره برجعتها ، واحتُسِبَت له واحدة .
وثالثها : أن أبا رُكَانَة طلَّق امرأته ثلاثًا ، فأمره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
برجعتها ؛ والرَّجعة تقتضي وقوع واحدة . ولا حجة لهم في شيء من ذلك .
أمَّا حديث ابن عباس ؛ فلا يصح به الاحتجاج لأوجه :
(13/77)
أحدها : أنَّه ليس حديثًا مرفوعًا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإنما ظاهره الإخبار عن أهل عصر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعصر أبي بكر باتفاقهم على ذلك ، وإجماعهم عليه ، وليس ذلك كل بصحيح . فأوّل مَنْ خالف ذلك بفتياه ابن عباس . فروى أبو داود من رواية مجاهد عنه قال : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إنَّه طلق امرأته ثلاثًا . قال : فسكت حتى ظننت أنَّه رادّها إليه ، ثم قال : ينطلق أحدكم يركب الحموقة ، ثم يقول : يا ابن عباس ! يا ابن عباس ! وإن الله قال : { ومن يتق الله يجعل له مخرجًا } ، وإنك لم تتق الله ، فما أجد لك مخرجًا ، عصيت ربك وبانت منك امرأتك ، وإن الله قال : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن ). وفي "الموطأ" عنه : أن رجلاً قال لابن عباس : إني طلقت امرأتي مائة تطليقة. فقال له ابن عباس : طلقت منك بثلاث ، وسبعة وتسعون اتخذتَ بها آيات الله هزوًا .
وقال أبو داود : قول ابن عباس هو : إن طلاق الثلاث يبين من الزوجة ، فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره ، مدخولاً بها كانت ، أو غير مدخول بها . ونحوه عن أبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو. وفي "الموطأ" : أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود ، فقال : إنِّي طلقت امرأتي ثماني تطليقات . قال ابن مسعود : فماذا قيل لك ؟ قال : قيل لي : إنها بانت منك . قال ابن مسعود : صدقوا ، هو كما يقولون ؛ فهذا يدلُّ على وجود الخلاف فيها في عصر الصحابة ، وأن المشهور عندهم ، المعمول به ، خلاف مقتضى حديث ابن عباس . فبطل التمسَّك به .
الوجه الثاني : لو سلمنا أنه حديث مسند مرفوع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما كان
فيه حجة ؛ لأن ابن عباس هو راوي الحديث ، وقد خالفه بعمله وفتياه . وهذا يدلُّ على ناسخ ثبت عنده ، أو مانع شرعي منعه من العمل. ولا يصح أن يُظَّن به : أنه ترك العمل بما رواه مجانًا وغالطًا ؛ لما علم من جلالته ، وورعه ، وحفظه ، وتثبته .
(13/78)
قال أبوعمر بن عبد البر - بعد أن ذكر عن ابن عباس فتياه من طرق متعددة بلزوم الطلاق ثلاثًا من كلمة واحدة - : ما كان ابن عباس ليخالف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخليفتين ، إلى رأي نفسه .
ورواية طاووس وهم وغلط ، لم يُعَرَّج عليها أحدٌ من فقهاء الأمصار بالحجاز ، والعراق ، والشام ، والمشرق ، والمغرب . وقد قيل : إن أبا الصهباء لا يُعرف في موالي ابن عباس .
الوجه الثالث : لو سلمنا كل ما تقدَّم ؛ لَمَا كان فيه حجة ؛ للاضطراب والاختلاف الذي في سنده ومتنه ؛ وذلك : أن أبا الصهباء رواه عن ابن عباس بتلك الألفاظ المختلفة ؛ التي وقعت في كتاب مسلم كما ذكرناها . وقد روى أبو داود من حديث أيوب ، عن غير واحد ، عن طاووس : أن رجلاً يقال له : أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس . قال : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر ، وصدرًا من خلافة عمر . فقال ابن عباس : بل كان الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر ، وصدرًا من إمارة عمر ، فلمَّا رأى الناس تتايعوا فيها قال : أجيزوهُنَّ عليهم . فقد اضطرب فيه أبو الصهباء عن ابن عباس في لفظه كما ترى . وقد اضطرب فيه طاووس . فمرَّة رواه عن أبي الصهباء ، ومرَّة عن ابن عباس نفسه . ومهما كثر الاختلاف والتناقض ارتفعت الثقة ، لا سيما عند المعارضة على ما يأتي .
ثم العَجَبُ : أنَّ معمرًا روى عن ابن طاووس ، عن أبيه : أن ابن
عباس سُئل عن رجل طلَّق امرأته ثلاثًا . فقال له : لو اتقيت الله لجعل لك مخرجًا . وظاهر هذا أنَّه لا مخرج له من ذلك ، وأنَّها ثلاث . وهذه كرواية الجماعة الكثيرة عن ابن عباس ؛ كسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وعمرو بن دينار ، ومحمد بن إلياس بن البكير ، والنعمان بن أبي عياش ، كلهم روى عنه : أنَّه ثلاث ، وأنها لا تحل له إلا من بعد زوج.
(13/79)
الوجه الرابع : لو سلمنا سلامته من الاضطراب ؛ لَمَا صحَّ أن يحتج به ؛ لأنه يلزم منه ما يدلُّ على أن أهل ذلك العصر الكريم كانوا يكثر فيهم إيقاع المحرمات والتساهل فيها ، وترك الإنكار على من يرتكبها . وبيان اللزوم : أن ظاهره أن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقع الطلاق الثلاث كثيرًا منهم في عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعصر أبي بكر ، وسنتين من خلافة عمر ، أو ثلاث ، ويستفتون علماءهم فيفتونهم بأنه واحدة ، ولا ينكرون عليهم . مع أن الطلاق ثلاثًا في كلمة واحدة محرم بدليل قول ابن عمر ، وابن عباس ، للمطلِّق ثلاثًا : (( بانت منك ، وعصيت ربك )). وبدليل ما رواه ابن عباس ، عن محمود بن لبيد- قال البخاري : له صحبة - قال : أُخْبِرَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا ، فقام غضبان ، ثم قال : (( أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ )) هذا يدل على أنه محرم ، ومنكر . فكيف يكثر فيهم العمل بمثل هذا ، ولا ينكرونه ؟! هذا محال على قوم وصفهم الله تعالى بقوله : { كنتم خير أمَّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } ، إلى غير ذلك مما وصفهم الله تعالى به . لا يُقال : هذا يبطل بما وقع عندهم من الزِّنا ، والسرقة ، وغير ذلك من الأسباب التي ترتبت عليها الأحكام ؛ لأنا نقول : هذه لما وقعت أنكروا تلك الأمور ، وأقاموا الحدود فيها ، ولم يفعلوا ذلك فيما ذكرناه ، فافترقا ، وصحَّ ما أبديناه .
فإن قيل : لعل تحريم ذلك لم يكن معلومًا عندهم . قلنا : هذا باطل. فإنهم أعرف بالأحاديث ممن بعدهم . وقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس وابن عمر ، والله أعلم .
الوجه الخامس : إن ظاهر ذلك الحديث خبر عن جميعهم أو عن معظمهم ، والعادة تقتضي - فيما كان هذا سبيله - أن يفشو ، وينتشر ، ويتواتر نقله ، وتحيل أن ينفرد به الواحد . ولم ينقله عنهم إلا ابن عباس ، ولا عنه إلا أبو الصهباء .
وما رواه بي طاووس عن ابن عباس في الأصل قد رواه أبو داود عن
(13/80)
طاووس عن أبي الصهباء ، عن ابن عباس. ولو رواه عنه لم يخرج بروايته عنه عن كونه خبر واحد غير مشهور . وهذا الوجه يقتضي القطع ببطلان هذا الخبر. فإن لم يقتض ذلك ؛ فلا أقل من أن يفيدنا الريبة فيه والتوقف ، والله أعلم .
الوجه السادس : تطرُّق التأويل إليه . ولعلمائنا فيه تأويلان :
أحدهما : ما قاله بعض البغداديين : إن معناه الإنكار على من يخرج عن سنَّة الطلاق بإيقاع الثلاث ، والإخبار عن تساهل الناس في مخالفة السُّنَّة في الزمان المتأخر عن العصرين السابقين ، فكأنه قال : كان الطلاق الموقع الآن ثلاثًا في ذينك العصرين واحدة ، كما تقول : كان الشجاع الآن جبانًا في عصر الصحابة . وكان الكريم الآن بخيلاً في ذلك الوقت . فيفيد تغير الحال بالناس .
وثانيهما : قال غير البغداديين : المراد بذلك الحديث من كررَّ الطلاق منه ، فقال : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق . فإنها كانت عندهم(7) محمولة في القدم على التأكيد . فكانت واحدة . وصار الناس
بعد ذلك يحملونها على التجديد ، فأُلْزِمُوا ذلك لَمَّا ظهر قصدَهم إليه . ويشهد لصحة هذا التأويل قول عمر ـ رضى الله عنه ـ : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة . وقد تأوَّله غير علمائنا ، على أن ذلك كان في المطلقة قبل الدُّخُول ، كما دلَّ عليه حديث أبي داود ؛ الذي تقدَّم ذكره ، وأبدى بين المدخول بها أو غيرها فرقًا . فقال : إنما جعلوه في غير المدخول بها واحدة ؛ لأنها تبين بها ، وكأنَّ هؤلاء أشاروا إلى أن قوله لغير المدخول بها : أنت طالق . قد أبانها ، وبقي قوله : ثلاثًا . لم يصادف محلاً ، فأجروا المتصل مجرى المنفصل . وهذا ليس بشيء ؛ فإنَّ قوله : أنت طالق ثلاثًا . كلام واحد متصل غير منفصل . ومن المحال البَيِّن إعطاء الشيء حُكْم نَقِيضِه ، وإلغاء بعض الكلام الواحد . وأشبه هذه التأويلات الثاني على ما قرَّرناه ، والله أعلم .
هذا الكلام على حديث ابن عباس .
(13/81)
وأمَّا حديث ابن عمر : أنَّه طلق امرأته ثلاثًا ، فغير صحيح ، كما قد ذكره مسلم عن ابن سيرين ، كما قدمناه . وأيضًا : فإن الدارقطني روى عن أحمد بن صبيح ، عن طريف بن ناصح ، عن معاوبة بن عمار الدُّهْني ، عن أبي الزبير قال : سألت ابن عمر عن رجل طلَّق امرأته ثلاثًا وهي حائض ؟ فقال لي : أتعرف ابن عمر ؟ قلت : نعم . قال : طلَّقت امرأتي ثلاثًا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فردّها رسول الله هي إلى السُّنَّة .
قال الدارقطني : كلهم شيعة . وقال غيره : ما فيه من يحتج به .
وأمَّا حديث أبي رُكَانة فحديث مضطرب ، منقطع ، لا يُسْنَد من وجه يحتج به ؛ رواه أبوداود من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع ، وليس فيه من يحتج به ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وقال فيه : إن عند يزيد بن ركانة طلق امرأته ثلاثًا ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((أرجعها )). وقد رواه أيضًا من طريق نافع بن عُجَيْر : أن ركانة بن عبد يزيد طتق امرأته البتة ، فاستحلفه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما أراد بها ؟ فحلف : ما أراد إلا واحدة . فردَّها إليه .
(13/82)
فهذا اضطراب في الاسم والفعل . ولايحتج بشيء من مثل هذا ، فقد ظهر وتبيَّن : أنَّهم لاحجة لهم في شيء مما تمسَّكوا به . فأمَّا حجة الجمهور : فالتمسَّك بالقاعدة المقررة : أنَّ المطلقة ثلاثًا ، لا تحلُّ لمطلِّقها حتى تنكح زوجًا غيره . ولا فرق بين مفرّقها ومجموعها ؛ إذ معناهما واحد لغة وشرعًا . وما يٌتَخَيَّل من الفرق بينهما قصوريٌّ ؛ ألغاه الشرع قطعًا في النكاح ، والعتق ، والإقارير . فلو قال الولي للخاطب في كلمة واحدة : أنكحتك هؤلاء الثلاث ، فقال : قبلت . لزم النكاح ، كما إذا قال : أنكحتك هذه ، وهذه ، وهذه. وكذلك في العتق ، والإقرار . فكذلك الطلاق . وقد ذكر الدارقطني جملة من الأحاديث المرفوعة عن عليّ ، وعبادة بن الصامت ، وحفص بن المغيرة ، وابن عمر كلها تقتضي البينونة ، وأنها لا تحلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره . ولم يفرِّق فيها بين المدخول بها وغيرها. رأينا ألا نطوِّل بذكرها ، ولا بذكر أسانيدها . وفيما ذكرناه كفاية ، والله تعالى أعلم الموفق للهداية ، وإنما أطنبنا في الكلام على حديث ابن عباس لأن كثيرًا من الجهَّال اغتروا به ، فأحلوا ما حرَّم الله ، فافتروا على الله ، وعلى كتابه ، وعلى رسوله ، ومن أظلم من افترى على الله كذبًا ، وعدل عن سبيله .
وقول عمر : (( إن النَّاس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة )) ؛ أي : مهلة ، وسعة بانتظار الرجعة . وهذا يدل على صحة التأويل الثاني كما ذكرناه .
وقول أبي الصهباء لابن عباس : (( هات من هناتك )) ؛ هي : جمع هنة. وأصلها : أنها كناية عن نكرة ، غير أن مقصوده هنا : هات فتيا من فتاويك الْمُسْتَغْرَبة . أو خبرًا من أخبارك الْمُسْتَكْرَهة . وهو إشعار باستشناع تلك المقالة عندهم .
(13/83)
وقوله : (( فلما تتايع الناس في الطلاق أجازه عليهم )) ؛ رويناه : بالياء باثنتين ، وبالباء بواحدة ، وهما بمعنى واحد . غير أن الياء باثنتين أكثر ما تستعمل في الشَّرِّ . وهي أليق بهذا المعنى ، والله تعالى أعلم .
وكذلك القول في الرواية في : (( تتايعوا )).
باب في قوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك }
(( المغافير )) : جمع مُغْفُور ، وهو : صمغ حلو له رائحة كريهة ؛ يخرجه شجر العُرْفُط ، وهو بالحجاز .
و (( العُرْفُط )) : من شجر العِضَاه ، وهو : كل شجر له شوك . وقيل : يشبه رائحته رائحة النبيذ . وقيل : إذا رعته الإبل خبثت رائحة ألبانها حتى يتأذى بها الناس .
و (( جرستْ )) : أكلتْ . يقال : جَرَستِ النحل ، تَجُرسُ جَرْسًا : إذا أكلت لِتَعسِّل . ويقال للنحل : جوارس ؛ أي : أواكل.
و (( العكة )) : أصغر من ا لقِرْبَة .
وقول سودة(6) : ((لقد كدت أن(7) أبادئه فرقًا منك ))-بالباء بواحدة- ؛
أي : أبتدئه بالكلام خوفًا من لومك . وفي رواية ابن الحذَّاء : (( أناديه )) من النداء . وليس بشيء .
وقولها : (( كان يُحبُّ الحلواء والعسل )) ؛ (( الحلواء )) : هي الشيء الْمُسْتَحْلَى ، وهو دليل على استعمال مباحات لذائذ الأطعمة ، والميل إليها ، خلافًا لما يذهب إليه أهلُ التَّعمق والغلوِّ في الدين .
وقوله : (( بل شربت عسلاً عند زينب ، ولن أعود له )) ، زاد البخاري هنا : (( وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا )) ، وذلك لئلا يبلغ الأخرى الخبر ، وأنه فعله ابتغاء مرضاة أزواجه ، فيتغير قلبها . وقيل : كان ذلك في قصة مارية ، واستكتامه في حفصة : ألا تخبري بذلك عائشة. وقيل : أسرَّ إلى حفصة أن الخليفة بعده أبو بكر ثم عمر. والصحيح : أنه في العسل .
(13/84)
ويعني بقوله : (( لن أعود له )) : على جهة التحريم . وبقوله : ((حلفت )) ؛ أي : بالله تعالى ؛ بدليل : أنَّ الله تعالى أنزل عليه معاتبته على ذلك ، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } ؛ يعني : العسل المحرم بقوله : (( لن أعود له )) { تبتغي مرضات أزواجك } ؛ أي : تفعل ذلك طلبًا لرضاهنَّ { والله غفور رحيم } ؛ غفور : لما أوجب المعاتبة ، رحيم : برفع المؤاخذة . { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ؛ أي : قد قدَّر وبيَّن . والفرض : التقدير. وتحلة اليمين : ما يستحل به الخروج عن اليمين . وهي التي قال الله تعالى فيها : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } الاية. والأيمان : جمع يمين . واليمين التي حلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها هي قوله : (( وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا )). وهذا أصحّ ما قيل في هذه الآية ، وأجوده .
وقد روى النسائي من حديث أنس : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرَّمها ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ...}الآيات . وكأنَّ ابن عباس أشار إلى هذا الحديث حيث قال : إن الرَّجل إذا حرَّم عليه امرأته فهي يمين يكفرها . وقال : { لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة } ،
وقد اختلف السَّلف ومن بعدهم في تحريم الزوجة اختلافًا كثيرًا. مجموعه فيما بلغنا أربعة عشر قولاً :
أحدها : لا شيء عليه . وبه قال الشعبي ، ومسروق ، وأبو سلمة ، وأصبغ . وهو عندهم كتحريم الماء والطعام .
وثانيها : هي ظهار ، ففيها كفارة ظهار . قاله إسحاق .
وثالثها : كفارة يمين . قاله ابن عباس ، وبعض التابعين .
(13/85)
ورابعها : إن نوى الطلاق ؟ فواحدة بائنة ، إلا أن ينوي ثلاثًا ، فإن نوى اثنتين فواحدة ، فإن لم ينو شيئًا ؛ فهي يمين . وهو قول قاله أبو حنيفة ، وأصحابه . وبمثله قال زُفْر ، إلا أنَّه قال : إذا نوى اثنتين ألزمناه .
وخامسها : إن نوى الطلاق ؛ فما أراد(5) من أعداده . وإن نوى واحدة ؛ فهي رجعية . وهو قول الشافعي . وروي مثله عن أبي بكر(6) ، وعمر ، وغيرهما من الصحابة والتابعين .
وسادسها : إن نوى ثلاثًا فثلاث ، وإن نوى واحدة فواحدة ، وإن نوى يمينًا في يمين ، وإن لم ينو شيئًا ؛ فلا شيء عليه. وهو قول سفيان. وبمثله قال الأوزاعي ، وأبو ثور ، إلا أنهما قالا : إن لم ينو شيئًا ؛ فهي واحدة.
وسابعها : له نيّته ، ولا يكون أقل من واحدة . قاله ابن شهاب .
وثامنها : هي في المدخول بها ثلاثٌ ، ويُنْوَى في غير المدخول بها. وهو قول علي بن زيد ، والحسن ، والحكم. وهو مشهور مذهب مالك .
وتاسعها : لا ينوى في أقل وإن لم يدخل بها. قاله عبد الملك في "المبسوط ". وبه قال ابن أبي ليلى .
وعاشرها : هي لمن لم يدخل بها واحدة ، وفي المدخول بها : ثلاث. قاله أبو مصعب ، ومحمد بن عبدالحكم .
وحادي عشرها : هي واحدة بائنة وإن كانت مدخولاً بها . حكاه ابن خويز منداد عن مالك .
وثاني عشرها : هي واحدة رجعية . حكاه ابن سحنون عن عبدالعزيز بن سلمة.
وقد تداخل في العدد الذي ذكرناه قولا زفر ، والأوزاعي. فالأقوال أربعة عشر.
(13/86)
وسبب هذا الاختلاف العظيم : أنَّه ليس في كتاب الله الكريم ، ولا سنَّة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصٌّ ، ولا ظاهرٌ صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة ، فتجَاذَبَها الفقهاءُ لذلك . فمن متمسِّك بالبراءة الأصلية ، فقال : لا حكم ، فلا يلزم بها شيء . ومن ملحق لهذه الكلمة بأصل يعتمده . فواحدٌ يلحقها بالظهار ، وآخر يلحقها بالنذر المطلق . وآخر يرى أنها قابلة للنية مطلقًا ، أو في غير المدخول بها . وأصحابنا يحتجّون لمشهور مذهبهم بعرفٍ ثبتَ عندهم صيَّرها من كنايات الطلاق الظاهرة . والله أعلم .
وهذا كله في الزوجة . وأما في الأَمَة : فلا يلزم فيها شيء من ذلك كله ، إلا أن ينوي به العتق عند مالك .
وذهب عافة العلماء : إلى أن عليه كفارة يمين ، وكأنهم تمسَّكوا بحديث أنس الْمُتقدِّم . وقال أبو حنيفة : إذا قال ذلك حَرُمَ عليه كل ما حَرَّمَ على نفسه من طعام ، أو شراب ، أو أمة . ولا شيء عليه حتى إذا تناوله لزمته كفارة يمين . وأُمُّ الولد كالأَمَة على ما تقدَّم .
وقوله تعالى : { وإذ أسر النبيُّ إلى بعض أزواجه حديثًا } : هو قوله لحفصة : (( بل شربتُ عسلاً ، وقد حلفت : لا تخبري أحدًا )) ؛ على ما تقدم في حديث البخاري . وقيل : هو تحريمه مارية على ما تقدَّم في حديث النسائي . وقيل غير ذلك . وهذان القولان أحسن ما قيل في ذلك .
(13/87)
وقوله : { فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض } ؛ أي : حديث حفصة حين أفشت ما أمرها بإسراره النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ {وأظهره الله عليه} ؛ أي : أطْلَعَ الله تعالى نبيَّه على ذلك الحديث . {عرَّف بعضه } مشدَّدًا ، وهي القراءة المشهورة ؛ أي : عاتبها على ذلك . وأعرض عن بعضه ، فلم يبالغ في المعاتبة عملاً بمكارم الأخلاق ، وحسن المصاحبة . وقرأه الكسائي بتخفيف الراء ، من : (( عَرَفَ )) ، ومعناه : جازى عليه ؛ بأن غضب . يقال : عرفتُ حقَّك ؛ أي : جازيتُك عليه . و(( لأعرفنَّ حقك )) بمعناه . وقال الضحاك : إن الذي أعرض عنه حديث الخلافة لئلا ينتشر . وهذا بناه : على أنَّه هو الحديث الذي أسرَّه لحفصة . وهذا القول بشيء ؛ إذ لم يثبت بذلك نقل ، ولم يدلّ عليه عقل . بل النقل الصحيح ما ذكرناه .
وقوله : { فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير} ؛ يعني : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلم حفصة بالخبر الذي أفشته ، فقالت مستفهمة عمن أعلمه بذلك : من أنبأك هذا ؟ وكأنها خَطَر ببالها أن أحدًا من أزواجه أو غيرهن أخبره . فأجابها بأن قال : نبأني العليم الخبير ؛ أي : العليم بالسرائر ، الخبير بما تجنُّه الضمائر . ثم قال تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } ؛ يخاطب عائشة وحفصة ، وهذا يدلُّ على أن الصحيح من الروايات رواية من روى أن هذه القصة إنما جرت من عائشة وحفصة ؛ لأجل العسل الذي شرب عند زينب ، أو لأجل مارية ، وأنهما هما اللتان تظاهرتا عليه ، كما جاء نصًّا من حديث ابن عبَّاس عن عمر على ما يأتي . وهو رواية حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمر ، عن عائشة .
(13/88)
وأمَّا رواية أبي أسامة التي ذكر فيها : أن المتظاهرات عليه : عائشة وسودة وصفية ؛ فليست بصحيحة ؛ لأنها مخالفة للتلاوة ؛ فإنها جاءت بلفظ خطاب الاثنتين . ولو كان كذلك لجاءت بخطاب جماعة المؤنث . قال أبو محمد الأصيلي : حديث الحجاج أصحّ طرقه . وهو أولى بظاهر الكتاب . قال غيره : انقلبت الأسماء في حديث أبي أسامة ، والله أعلم .
و{ صغت قلوبكما } : مالت عن الحق . وأراد قلب عائشة وحفصة. وعدل إلى لفظ الجمع استثقالاً للجمع بين تَثْنِيَتَيْن ، وقد جمع بينهما من قال : ظَهْرَاهُمَا مثل ظُهورِ التُّرْسَيْن .
وقوله : { وإن تظاهرا عليه } ؛ أي : تعاونا عليه بما تواطأتا عليه في العسل أو في مارية { فإن الله هو مولاه } ؛ أي : وليه ، ومعينه ، وكافيه ، فلا يضره من كاده ، أو من يعاون عليه . والوقف على { مولاه } ، حسن ، ويُبْتَدَىء : { وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } ؛ أي : بعد تولي الله له . {ظهير} : مُعِينون له على ما يصلحه ، ويحفظه ، ويوافقه . و{ ظهير } وإن كان واحدًا ؛ فمعناه الجمع . وقيل : كل واحد ظهير ؛ كما قال تعالى : {ثم نخرجكم طفلاً } ؛ أي : كل واحد منكم طفلاً . و{ وصالح المؤمنين} ؛ أحسن ما قيل فيه : أبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما ، ومن جرى مجراهما من سبق إسلامه ، وظهر غناؤه . وقيل : كان حق {صالح } ، أن يكتب بالواو ، ولكنهم حذفوها ، ليوافق الخطُّ اللفظ . ويحتمل أن يقال : { صالح } مفرد ، لكنه سُلِك به مسلك الجنس ، والله أعلم .
(13/89)
ثم بالغ الله تعالى في تأديب أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتهديدهن بقوله : {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن مسلمات } ؛ أي : منقادات بالإسلام والاستسلام .{ مؤمنات } ؛ أي : مصدقات بما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ملازمات أحوال المؤمنين به من التعظيم والاحترام . {قانتات } : خاضعات لله بالعبودية ، ولرسوله بإيثار الطَّواعية على الغيرة النفسية . { عابدات } ؛ أي : يقمن لله بما له عليهن من العبادة ، وبما لك عليهن من الحرمة والخدمة .{ سائحات } : ابن عباس : صائمات ، زيد بن أسلم : مهاجرات ، من السياحة في الأرض . ويمكن أن يقال : مسرعات إلى ما يرضيك ، ذاهبات فيه ، فلا يشتغلن بسوى ذلك ؛ لأن من ساح في الأرض فقد ذهب فيها ، وانقطع إلى غيرها. { ثيبات } : جمع ثيب . قيل : يعني بذلك : آسية امرأة فرعون. { وأبكارًا } : جمع بكر . قيل : يعني بذلك : مريم . وفيه نظر وبُعْدٌ .
وما ذكرناه في هذه الآية إشارة إلى المختار. والأقوال فيها أكثر مما ذكرناه . فلنقتصر على ذلك القدر ، والله تعالى الموفق .
وقول عائشة : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن )) ؛ يُسْتَدَلُّ بهذا لأحد القولين الْمُتقدِّمين ، وهو : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن القسم عليه واجبًا . ويمكن أن لصرف عن ذلك ؛ بأن يقال : إن ذلك إنما كان يفعله ؛ لأنهن كن قد أذن له في ذلك ؛ بدليل ما جاء في "الأم" : أنَّه كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستأذنهن إذا كان في يوم المرأة منهن . وقد يُستدل به من يرى القَسْمَ واجبًا ؛ لكنه بالليل دون النهار .
وقال الداودي : كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل ما بعد العصر ملغى ؛ أي : جعله وقتًا مشتركًا لجميعهن .
وقولها : (( فيدنو منهنَّ )) ؛ أي : من غير مسيس . وقد جاء كذلك في بعض الروايات ، وإنما كان يفعل ذلك تأنيسًا لهن ، وتطيبًا لقلوبهن ؛ حتى ينفصل عنهن إلى التي هو في يومها ، ويتركها طيبة القلب ، والله أعلم .
ومن باب قوله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك
(13/90)
إن كنتن تردن الحياة الدنيا} الآية .
قوله : (( وَاجِمًا ، ساكتًا)) ؛ أي : مُطْرِقًا إِطراقَ المغضب .
وقوله : (( وَجَأْتُ عنقها )) ؛ أي : طعنت فيه ودققت . وأصل الوَجْءِ : الدَّقُّ ، والطَّعْن ؛ يقال : وجأتُ البعير : إذا طعنتُ في مَنْحَرِهِ. ووجأت الوتد : ضربتُه . ووجأته بالسكين : طعنته بها .
وهذا الفعل من أبي بكر وعمر بابنتيهما مبالغة في تأديبهما ، وكذلك غضب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهن ، وهجرانه لهن إنما كان مبالغة في أدبهن ، فإنهن كن كثَّرنَ عليه ، وتبسَّطن عليه تبسُّطًا تعدين فيه ما يليق بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من احترامه ، وإعظامه . وكان ذلك منهن بسبب حسن معاشرته ، ولين خلقه ، وربما امتدت أعين بعضهن إلى شيء من متاع الدنيا . ولذلك أمر الله تعالى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يخيرهنَّ بين إرادة زينة الدنيا ، وإرادة الله تعالى ، وما عنده ، فاخترن الله ورسوله ، والدار الآخرة . ولم يكن فيهن من توقف في شيء من ذلك ، ولاتردد فيه ، لأنهن مختارات لمختار ، وطيبات لطيب ، سلام الله تعالى عليهم أجمعين .
وقوله في هذه الرواية : (( اعزلهن شهرًا ، أو تسعًا وعشرين )) ؛ ظاهره شك من الراوي ، وكأنه إنما سُمِّي شهرًا بثلاثين . وسيأتي حديث ابن عباس : أنَّه إنما اعتزلهن تسعًا وعشرين ، وهو الصحيح .
وقول عائشة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت )) ؛ هو قول أخرجته غَيْرَتُها ، وحرصها على انفرادها بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله لها : (( إن الله لم يبعثني معنتًا ، ولا متعنتًا ، ولكن بعثني معلمًا ، وميسرًا )) ؛ أصل العنت : المشقة . والْمُعَنِّتُ : هو الذي يوقع العنت بغيره. والمتعنِّت : هو الذي يحمل غيره على العمل بها . ويحتمل أن يقال : المعنت : هو المجبول على ذلك . والمتعنت : هو الذي يتعاطى ذلك وإن لم يكن في جِبِلَّته .
(13/91)
وكأن عائشة رضي الله عنها توقعت : أنَّه إذا لم يخبر أحدًا من زوجاته يكون فيهن من يختار الدنيا ، فيفارقها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنهن إذا سَمِعْنَ باختيارها هي له(6) اقتدين(7) بها فَيَخْتَرْنَهُ ، وكذلك فعلنَّ .
ووقع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنَّه إن سألته واحدة منهن عن فِعْل عائشة فلم يخبرها كان ذلك نوعًا من العنت ، وإدخال الضرر عليهن بسبب إخفاء ما يُسأل عنه ، فقال مجيبًا : (( إن الله لم يبعثني معنتًا ، ولكن بعثني معلمًا ميسِّرًا )). ووجه التيسير في هذا : أنه إذا أخبر بذلك اقتدى بها غيرها من أزواجه ، وسهل عليها اختيار الله ورسوله ، والدار الآخرة .
وقولها : (( خيَّرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاخترناه ، فلم يعدّه علينا طلاقًا )) ؛ حجة لجمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى : على أن المخيرة إذا اختارت زوجها أنَّه لا يلزمه طلاق ، لا واحدة ، ولا أكثر . وحكي عن علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما روايتان :
إحداهما كما قال جماعة السلف وأئمة الفتوى : إنه لا يقع بذلك طلقة رجعية . وروي عن عليّ ، وزيد بن ثابت ، والحسن ، والليث : أن نفس الخيار طلقة واحدة بائنة ؛ وإن اختارت زوجها . وحكاه الخطابي ، والنقَّاش عن مالك ، ولا يصح عنه . وروي عن ربيعة نحوه في التمليك ، وهذا الحديث حجّة عليهم .
وأمَّا إذا اختارث نفسها ، فاختلف العلماء فيها قديمًا وحديثًا على أقوال :
فقالت فِرْقَة : ليس للمُخيِّرة ولا للمملَّكة شي من الطلاق .
وقالت فرقة أخرى : هو ما قضت به من واحدة أو أكثر .
وقيل : هو على ما نواه الزوج ، وله مناكرتها في الخيار ، والتمليك . وهو قول ابن جهم من أصحابنا وغيره .
وقال بعضهم : تكون رجعية . وهو قول عبد العزيز ، والشافعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وأبي يوسف. وحكى ابن سحنون عن أبيه نحوه . وروي عن عمر ، وابن مسعود.
وقيل : إنه واحدة بائنة . وهو قول أبي حنيفة ، وحكي عن مالك ، وروي عن علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ .
(13/92)
والمشهور من مذهب مالك : أن المخيرة إذا اختارت نفسها كان ثلاثًا ، وليس له المناكرة ، بخلاف التمليك ؛ فإن له المناكرة إذا قضت بالثلاث ، إذا نوى أقل من ذلك ، ولم يكن عن عوضيى.
ثم اختلف عندنا في المخيَّرة إذا قضت بأقل من ثلاث . فقال مالك مرة : لا يلزمه ، وسقط ما بيدها . وقال أشهب : ترجع على خيارها . وقال عبد الملك : هي ثلات بكل حال .
وفي قول عائشة هذا دليلٌ على أن المخيرة إذا اختارت نفسها أن نفس ذلك الخيار يكون طلاقًا ، من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدل على الطلاق سوى الخيار ، ويُقْتَبَسُ ذلك من مفهوم لفظها ، فتأمَّله .
ومن باب إيلاء الرَّجل من نسائه
الإيلاء في اللغة هو : الحلف. يقال : آلى ، يُؤلي إيلاءً ؛ أي : حلف. ويقال : تألَّى ، تالِّيًا. و: ائتلى ، يأتلي ، ائتلاءً . وهو في الشرع : الحلف على الامتناع من وطء الزوجة بيمين يلزم بها حكم أكثر من أربعة أشهرٍ بمدَّة مؤثِّرة . وتفصيلُ ذلك في كتب الفقه .
وقول عمر : (( واعجبًا لك يا ابن عباس ! )) فهم الزهري من هذا التعجب الإنكار لما سأله عنه ، وفيه بُعْدٌ . ويمكن أن يقال : إنَّ تعجُّبَه إنما كان لأنه استبعد أن يخفى مثل هذا على مثل ابن عباس مع مداخلته لأزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وشُهرة هذه القصة ، وشدّة حرصه هو على سماع الأحاديث ، وكثرة حفظه ، وغزارة علمه ، ولما كان في نفس عمر من ابن عباس ، فإنه كان يُعظِّمه ، ويقدِّمُهُ على كثير من مشايخ الصحابة ، كما اتفق له معه ؛ إذ سأله عن قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله
والفتح } ، والقصة مشهورة .
وقوله : (( فلا يغرَّنك أن كانت جارتُكِ هي أوسمُ وأحب )) ؛ أراد بالجارة : الضَّرَّة ، وكنَّى عنها بها ؛ مراعاةً للأدب ، واجتنابًا للفظِ الضرر أن يُضاف إلى مثل أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ويعني بذلك عائشة ، والله أعلم .
و (( أوسم )) : أجمل ، والوسيم : الجميل ، فكأنًّ الْحُسْنَ وَسَمَه ؛ أي : علَّمه بعلامة يُعرف بها .
(13/93)
و (( المشربة )) : الغرفة . يقال بضم الراء وفتحها ، لغتان .
و (( أُسكُفة المشربة ))- بضم الهمزة والكاف : عتبة الباب السفلى .
و (( الفقير ))- بتقديم الفاء - فسَّره في الحديث بجذع يُرقى عليه ، وهو الذي جُعِلَت فيه فِقَرٌ كالدرج يُصْعَدُ عليها . أُخذ من فقار الظهر. وفي "الأم" : (( يرتقي إليها بعجلة )). كذا صحيح الرواية .
و (( العجلة )) : درج من النخل ، قاله القتبي . وفي "الأم" : قالت عائشة لعمر : ما لي ولك يا ابن الخطاب ! عليك بعيبتك ؛ أي : بخاصتك ، وموضع سرِّك ؛ ومنه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الأنصار كرشي ، وعيبتي )). قال ابن الأنباري : معنى كرشي : أصحابي ، وجماعتي الذين أعتمدهم . وأصل الكرش في اللغة : الجماعة . وقال غيره : ومعنى عيبتي : خاصتي ، وموضع سرِّي . وأصل العيبة : الوعاء الذي يُجعل فيه الشيء النفيس الرفيع . وتعني بذلك : ابنته حفصة .
و (( رباح )) هذا هو بباء بواحدة من تحتها . و(( رمل الحصير )) : نَسْجُه. وقال ابن القوطية : رملت الحصير رملاً ، وأرملتُه : نَسَجْتُهُ.
و (( متكىء )) : قال القاضي عياض : أي متمكِّنًا في قعوده كالمتربِّع ونحوه .
قلت : وهذه غفلة منه عن قوله : قد أثر في جنبه . ولوكان متربعًا لما أثر في جنبه والذي ينبغي أن يقال : إن الاتكاء هو : التمكُّن ، والتثبُّت . فيكون ميلاً على جنب ، ويكون ترَبُّعًا ؛ إذ كل واحدٍ منهما متمكِّنٌ ومتثبِّتٌ . ويعني به ها هنا : التمكّن على أحد جنبيه على كل حال .
وقوله : (( طفق)) معناه : جعل وأخذ ، و(( تَغَضَّبْتُ )) : استعملتُ الغضب ؛ أي : أسبابه . و(( تبسَّم )) ؛ أي : بدأ يضحك . وفي "الأم" : ((كشر )) في رواية . قال ابن الشكيت : كَشَرَ ، وتبسَّم ، وابتسم ، وافترَّ كلها بمعنى واحد . فإن زاد قيل : قهقه ، وزمدق ، وكركر . فإن أفرط ؛ قيل : استغرب ضحكًا . وقال صاحب "الأفعال" : كَشَرَ : أبدى أسنانه تبسُّمًا ، أو غضبًا .
(13/94)
وقوله : (( فقلت : آستأنس يا رسول الله ؟ قال : نعم )) ؛ هو على الاستفهام ، فتكون بهمزتين : همزة الاستفهام دخلت على همزة المتكلم. فإن شئت حققتهما ، وإن شئت حققت الأولى وسَهَّلت الثانية ، ومعناه : آنبسط في الحديث انبساطء المتأنس ؛ الذي لا يخاف عتبًا ، ولا لومًا. استاذنه في ذلك. ومنه قوله تعالى : { ولا متئنسين لحديث }.
و (( الأهب )) : جمع إهاب . وهو : الجلد غير المدبوغ. ويقال له
أيضًا : أَفِيقٌ . فإذا جعل في الدِّباغ سُمِّي : منيئة. فإذا دبغ ، فهو : أديم . ورُوي : (( أُهُبٌ )) - بضم الهاء - : جمع إهاب ؛ كحمار ، وحُمُر . ويروى بفتح الهاء والهمزة ، كأنَّه جمع : أَهَبَة وأ هب ؛ كثمر ة ، وثمر ، وشجرة ، وشجر .
وقوله : حين استوى جالسًا : (( أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! )) ؛ إنكار منه على عمر لما وقع له من الالتفات إلى الدنيا ، ومدِّ عينيه إليها. وقد بالغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجواب والردع بقوله : (( أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم )) ، وبقوله : (( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ )).
وفيه حجة على تفضيل الفقر .
وقوله : (( وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرًا من أجل موجدته عليهن )) ؛ هذا يدلُّ على أن الْمُولِي لا يُلْزم إيقافه إذا حلف على أقلَّ من أربعة أشهر ، كما قال الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أريعه أشهر } ، فإن حلف على زيادة عليها لزم إيقافه ، فإما حًنَّثَ نَفْسَهُ ووطِئ ، وإما طلَّق ؛ وهذا(6) مذهب جمهور الصحابة ، والتابعين وأئمة الفقهاء .
ولم يعتبر مالك الزيادة القليلة مثل الأيام اليسيرة ، ورأى : أن لها حكم الأربعة الأشهر . واعتبرها غيره ؛ لأنها زيادة على ما حدَّده الله تعالى . ولو اقتصر عندهم على الأربعة الأشهر لم يكن موليًا .
وذهب الكوفيون : إلى أنه مول . وشذ ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والحسن في آخرين معهم فقالوا : إن حلف على ألا يجامعها يومًا ، أو أقل ، ثم تركها حتى مضت أربعة أشهر فهو مول .
(13/95)
وروي عن ابن عباس عكس هذا : أن كل من وقَّت ليمينه وقتًا ، وضرب مدَّةً - وإن طالت - فليس بمولٍ ، وإنما المولي من حلف على الأبد .
وسبب خلافهم اختلافُهم في فهم الآية . وحجّة الجمهور منها واضحة . ولا خلاف بينهم أنَّه لا يقع عليه طلاق قبل الأربعة الأشهر ، وإنه لو أحنث نفسه قبل تمامها سقط الإيلاء عنه .
ثم اختلفوا : هل بانقضاء الأربعة الأشهر يقع الطلاق ؟ وهو قول الكوفيين ، ويقدرون الآية ؛ فإن فاءوا فيهنَّ ، أو حتى يوقف الزوج ، فإمَّا فَاءَ ، وإمَّا طلَّق ، أو طلَّق عليه السلطان ؟ وهو قول الجماهير ، وهو ظاهر قوله تعالى : { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } ، ولو وقع الطلاق بمضيِّ الْمُدَّة ؛ لما كان لعزمهم على الطلاق بعدها معنى . ومشهور مذهب مالك كقول الجماهير . وحُكي عنه مثل قول الكوفيين . وقال أشهب : إن قال : أنا أفيء ، أمهل حتى تنقضي عدتها . فإن لم يفِء بانتْ منه ، ولا خلاف بين الجماهير : أن الطلاق فيه رجعيُّ ، غير أن مالكًا يقول : رجعته موقوفة على الوطء .
واختلف الكوفيون في ذلك الطلاق : هل هو بائن أو رجعيٌّ ؟
ثم ظاهر قوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم } ؛ العموم في كل مول على أكثر من أربعة أشهر ، فسواء كان إيلاؤه على وجه الغضب ، أو الرضا ، أو لمصلحة ، أو غيرها . لكن اختلفوا في هذه المسائل . فذهب مالك ، والأوزاعي : إلى أنَّه إذا أدَّى إلى مصلحة الولد أنَّه لا يكون مُوليًا ، ولا يوقف ، وهو قياس قولهم في شبه هذا مما لا يقصد به الضرر . فأمَّا لو قصد الضرر بحلفه : فلا يختلفون في أنَّه موجب لحكم الإيلاء ، وهو المفهوم من قوله : { فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم }(@) ؛ فإنَّ المغفرة مشعرة بالذنب ، وذلك يكون بإضراره بها أو بقصده إلى ذلك .
وروي عن عليٍّ ، وابن عباس ـ رضى الله عنهم ـ : أنه إنما يكون مُوليًا إذا حلف على وجه الغضب ، وأمَّا على وجه الرِّضا : فلا .
(13/96)
وقوله : (( إن الشهر تسع وعشرون )) ؛ ظاهره : أنَّه دخل في أول ذلك الشهر ، وإنه كان تسعًا وعشرين ، لكن قول عائشة رضي الله عنها : أعدُّهن عدًّا ؛ يدلُّ على أنَّه أراد به العدد . وقد تقدَّم استيفاء هذا المعنى في الصيام .
ومن باب فيمن قال : إن المطلقة البائن لا نفقة لها ولا سكنى
قوله : (( عن فاطمة بنت قيس : أن أبا عمرو بن حفص )) ؛ هكذا رواية أكثر الأئمة الحفَّاظ : مالك وغيره. وقد قلبه شيبان ، وأبان العطَّار ، عن يحيى بن أبي كثير ؛ فقال : (( إن أبا حفص بن عمرو )). والمحفوظ الأوَّل . واسمه : أحمد ؛ على ما ذكره الداوديُّ عن النسائي.
قال القاضي : والأشهر : عبدالحميد . وقيل : اسمه كنيته.
وقوله : (( طلقها البتة )) ؛ هذا هو الصحيح : أنه طلَّقها عند جميع الحفاظ . وسيأتي في حديث الجسَّاسة لفظٌ يوهم : أنه مات عنها . وله تأويل يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ، ويعني بالبتة : آخر الثلاث تطليقات ، كما جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى . لا أنه أوقع عليها لفظ البتة ، وإنما سَمَّى آخر الثلاث : البتة ؛ لأنها طلقة تَبُتُّ العصمة ، ولا تُبْقي منها شيئًا . ولما كملت بهذه الطلقة الثلاث : عَبَّر عنها بعض الرواة بالثلاث . والرواية المفضَّلة قاضيةٌ على غيرها ، وهي الصحيحة .
وقوله : (( فأرسل إليها وكيله بشعير ، فسخطته )) ؛ كان صوابه أن يقول : وَكِيلَيْه ؛ لأنهما الحارث بن هشام ، وعياض بن ربيعة ؛ كما جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى .
وفيه دليل على العمل بالوكالة ، وشهرتها عندهم . وكأنَّ إرساله
(13/97)
بهذا الشعير كان منه متعة ، فحسبته هي نفقةً واجبةً عليه ، ولذلك سخطته ، ورأت : أنها تستحق عليه أكثر من ذلك وأطيب . فحين تحقَّق الوكيلان منها ذلك ؛ أخبراها بالحكم ، فلم تقبل منهما حتى أتت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لها : (( لا نفقة لك )) ؛ على ما رواه مالك ، وأكثر الرواة من حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن ، عن فاطمة ، وعلى ما رواه الزهري ، عن عبيدالله بن عتبة . ولم يذكروا فيها قوله : (( ولا سكنى )) على أنها رواية مرسلة على ما قاله أبو مسعود .
ولم يرو مالك ، ولا أكثر الأئمة هذه اللفظة في السكنى ، وإنما هي من رواية أبي حازم عن أبي سلمة . ومن رواية الشعبي عن فاطمة. وهي التي أنكرها عليها الأسود .
ولأجل اختلاف هذه الطرق ، واختلافهم في تأويل قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } ؛ الطلاق : اختلفوا في المطلقة البائن ، حقو فقال بعضهم : لها السُّكنى ، والنفقة . وهو قول عمر ـ رضى الله عنه ـ ، وأبي حنيفة ، ولم يُعَرّجا على حديث فاطمة هذا. ولذلك قال عمر : (( لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة )) ؛ يعني بذلك قوله تعالى : {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } ؛ ولأنها محبوسة بسبب المطلِّق ، فنفقتها عليه ، وكذلك سُكْناها. وقال آخرون : لا سُكْنى لها ، ولا نفقة . وهو قول ابن عباس ، وأحمد متمسِّكين بانقطاع أسباب الزوجية بينهما ، ولقوله : (( لا سكنى لك ولا نفقة )).
وقال آخرون : لها السكنى ولا نفقة . وهو مذهب مالك متمسكًا في إسقاط النفقة بما رواه من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا نفقة لك )). وفي إثبات السكنى بقوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } الآية .
(13/98)
وأمَّا المطلقة الرجعية فلاخلاف في وجوب النفقة والسكنى لها . وأما المتوفى عنها زوجها ، فلا خلاف في أنها لا تجب لها نفقة ؛ لأن ماله قد انتقل لورثته . واختلفوا في السكنى ، فقال مالك : لا سكنى لها ، إلا أن تكون رقبة الدار ، أو منفعتها ملكًا للميت ، فهي أحقّ بالسكنى طول عدَّتها من ورثته . وقال أبو حنيفة وغيره : لا سكنى لها جملة بغير تفصيل . وعن مالك قولةٌ شاذةٌ نحو هذا. وإليها أشار القاضي أبو الحسن بن القصار ، وقال : هو القياس كالنفقة .
وقولها : (( فأمرها أن تعتدّ في بيت أم شريك )) ؛ لاخلاف في أن كل زوجة مدخول بها طلَّقها زوجُها يجب عليها العدّة ، ثم هي - أعنى : العدَّة - منقسمة بحسب أحوالهنَّ : فالحامل عدَّتُها وضْعُ حملها . والحائل إن كانت حرَّة : ثلاثة قروء. وإن لم تكن من ذوات الأقراء : فثلاثة أشهر . وأمَّا الأَمَة : فقرءان ، أو شهران ، ويجري الفسخ بغبر طلاق مجرى الطلاق . وأمَّا المتوفَّى عنها زوجها : فالحرَّة تعتدّ أربعة أشهر وعشرًا . والأَمَة : شهران وخمس ليال عندنا ، وسيأتي بعض ذلك . وتفصيله في كتب الفقه .
وأمُّ شريك اسمها : غَزِيَّة . وقيل : غُزَيْلة . وهي قرشية عامريّة . وقد ذكرها بعضهم في أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقيل فيها : إنها أنصارية ، على ما ذكره مسلم في حديث الجسَّاسة ، وسيأتي . وكانت كثيرة المعروف ، والنفقة في سبيل الله تعالى ، والتضييف للغرباء من المهاجرين وغيرهم . ولذلك قال : (( تلك امرأة يغشاها أصحابي ـ رضى الله عنهم ـ )). وإنما أذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفاطمة أن تخرج من البيت الذي طلقت فيه ؛ لما ذكره مسلم في الرواية الأخرى من أنها خافت على نفسها من عورة منزلها .
(13/99)
وفيه دليل : على أن المعتدة تنتقل لأجل الضرر. وهذا أولى من قول من قال : إنها كانت لَسِنَةً تُؤْذي زوجَها وأحماءهَا بلسانها ؛ فإن هذه الصِّفَة لا تليق بمن اختارها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِحبِّه ابن حِبِّه. وتواردت رغبات الصحابة عليها حين انقضت عدَّتُها ، ولو كانت على مثل تلك الحال لكان ينبغي ألا يُرْغَبَ فيها ، ولا يُحْرَصَ عليها. وأيضًا : فلم يثبث بذلك نقل مُسْنَدٌ صحيحٌ . وإنما الذي تمسَّك به في ذلك قول عائشة : ما لفاطمة خير أن تذكر هذا.
وقول عمر : (( لا ندع كتاب الله لقول امرأة لا نعلم حفظت أو نسيت )). وقول بعضهم : تلك امرأة فتنت الناس. وليس في شيء من ذلك دليل على ذلك . ويا للعجب! كيف يجترأ ذو دِينٍ أن يُقْدِمَ على غيبة مثل هذه الصحابية ؛ التي اختارها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِحِبِّه ابن حِبِّه(8) ، لسبب خبر لم يَثْبُت . وأعجب من ذلك قول بعض المفسرين في قوله تعالى : { ولا يخرجن(9) إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }(10) إنها نزلت في فاطمة ؛ لأنها كانت فيها(11) بذاذة لسان ، وأذى للأحماء . وهذا لم يثبث فيه نقلٌ ، ولا يدلُّ عليه نظرٌ . فَذِكْرُ ذلك عنها ، ونسْبَتُه إليها غيبة ، أو بهتان(12).
وأحسن ما قيل في التفسير ؛ قول ابن عمر رضي الله عنهما : إن الفاحشة : الزنى. فيخرجن لإقامة الحد عليهنَّ ؛ وتعليله منع اعتدادها في بيت أمِّ شريك بدخول أصحابه ؛ دليل على أن المرأة ممنوعة من التعرض لموضع يشقُّ عليها فيه التحرُّز من أن يُطَّلع منهاعلى ما لايجوز .
وقوله : (( اعتدِّي عند ابن أم مكتوم )) ، وفي رواية في "الأم" : (( عند ابن عمك عمرو بن أم مكتوم )) ، ، وكذلك جاء في آخر الكتاب . وزاد : (( رجل من بني فهر ، من البطن التي هي منه . والمعروف خلاف هذا ، وليسا من بطن واحد . هي من بني محارب بن فهر . وهو من بني عامر بن لؤي .
واختلفوا في اسم ابن أمّ مكتوم . فقيل : عمرو ، كما ذكر . وقيل :
(13/100)
عبد الله . وكذا ذكره في "الموطأ" ، وفي آخر الكتاب . والخلاف في ذلك كثير ، قاله القاضي أبو الفضل عياض .
وقوله : (( فإنَّه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده )) ؛ فيه دليل : على أن المرأة يجوز أن لها أن تطَّلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع عليه من المرأة ، كالرأس ، ومعلق القرط ، ونحو ذلك . فأمَّا العورة فلا . ولكنَّ هذا يعارضه ما ذكره الترمذي من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لميمونة وأم سلمة - وقد دخل عليهما ابن أمّ مكتوم - فقال : (( احتجبا منه )) ؛ فقالتا : إنه أعمى!! قال : (( أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه ؟! )).
والجواب من وجهين :
أحدهما : أن هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل ؛ لأن راويه عن أم سلمة نبهانُ مولاها . وهو ممن لا يحتج بحديثه .
وثانيهما : - على تقدير صحته - فذلك تغليظٌ منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أزواجه لحرمتهنَّ ، كما غلَّظ عليهن أمر الحجاب . ولهذا أشار أبو داود ، وغيره من الأئمة .
وقوله : (( فإذا حللت فآذنيني )) ؛ أي : إذا انقضت عِدَّتُك. و(( آذنيني )) : أعلميني . وفي لفظ آخر : (( فلا تبدئيني بنفسك )) ؛ وكل ذلك بمعنى واحدٍ ؛ أي : لا تزوِّجي نَفْسَكِ حتى تعرِّفيني . وفيه التَّعْرِيض في العدَّة .
وقولها : (( فلمَّا حللتُ ذكرتُ له : أن معاوية ، وأبا جهم خطباني )) ؛ فيه دليل على جواز الخطبة على خطبة الغير ، لكن ما لم يقع التراكن ؛ على ما قدمناه .
وقوله : (( أمَّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه )) ؛ المعروف : أبو جهم على التكبير ، وقد صغَّره بعضهم ، وهو : أبو جهم بن حذيفة القرشي ، العدوي . وهو صاحب الأَنْبِجَانية. وقد غلط فيه يحيى بن يحيى الأندلسي فقال : أبو جهم بن هشام ، ولا يعرف في الصحابة من اسمه : أبو جهم بن هشام ولم يوافقه أحد من رواة "الموطأ" على ذلك .
(13/101)
واختلف في معنى قوله : (( ولا يضع عصاه عن عاتقه )) ، فقيل : معناه : أنه ضرَّاب للنساء ، كما جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى. وفي أخرى : (( فيه شدَّة على النساء )). وقيل : المراد به : أنَّه كثير الأسفار. وقد جاء أيضًا في بعض رواياته في غير كتاب مسلم ما يدل على ذلك. غير أن التأويل الأول أحسن وأصحّ .
وفيه ما يدل : على جواز تأديب النساء بالضرب ، لكن غير المبرح . ولا خلاف في جواز ذلك على النشوز . وهو الامتناع من الزوج .
قال بعضهم : واختُلف في ضربهنَّ على خدمة بيوتهن . وهذا إنما يتمشَّى على قول من أوجب ذلك عليهنَّ . ولا يعارض هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يجلد أحدكم زوجته جلد العبد ثم يضاجعها )) ؛ لأن هذا النهي إنما يقتضي المنع من الضرب المبزح الذي لا يجوز. وهو الشديد المفرط. ولا خلاف في منع مثله .
وقوله : (( وأما معاوية : فصعلوك لا مال له )) ؛ هذا تفسير للرواية التي وقع فيها : تِرَبٌ . وقد تقدم : أنه يقال : ترب الرجل : إذا افتقر . وأترب : إذا استغنى .
وفيه ما يدلُّ على أن ذكر مساوئ الخاطب ، أو من يعامل ، أو من يحتاج إلى قبول قوله ، أو فتياه جائز . ولا يعدُّ ذلك غيبة ، ولا بهتانًا ؛ إذ لا يذكر ذلك على جهة التنقيص وإضافة العيب إليه ، لكن على جهة الإخبار ، وأداء النصيحة ، وأداء الأمانة ، كما فعله أهل الحديث وغيرهم.
وقوله : (( ولكن انكحي أسامة )) ؛ فيه ما يدل على جواز نكاح المولى للقرشية ؛ فإن أسامة مولى ، وفاطمة قرشية ، كما تقدم. وإن الكفاءة المعتبرة هي كفاءة الدين ، لا النسب ، كما هو مذهب مالك .
وقد روى الدارقطني عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن أمِّه قالت : رأيت أخت عبدالرحمن بن عوف تحت بلال .
(13/102)
وقولها : (( فنكخته ، فجعل الله في ذلك خيرًا واغتبطت )) ؛ كان ذلك منها بعد أن صدر منها توقّف ، وما يدلّ على كراهتها لذلك ، كما جاء في روايةٍ في "الأم" : فقالت بيدها - هكذا - أسامة ، أسامة ! فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( طاعة الله وطاعة رسوله خير لك )). قالت : فتزوجته فاغتبطت .
ومن باب فيمن قال : لها السكنى والنفقة
قول الشعبي : لم يجعل لها سكنى ، يحتمل أن يكون معنى ذلك : أنه لَمَّا لم تطالب الزوجَ بأجرة السكنى -إذ كانت قد انتقلث من البيت الذي طُلِّقت فيه حين خافت عورة منزلها إلى بيت أم شريك ، فلم تطالبها أم شريك بأجرة ذلك ، عبَّر الراوي عن ذلك بتلك العبارة. وإنكار الأسود على الشعبي هذا الحديث : إنما كان للذي نبَّه عليه عمرُ ـ رضى الله عنه ـ بقوله : (( لا نترك كتاب الله لقول امرأة )) ؛ ومعنى ذلك : أنه لم يجز تخصيص القرآن بخبر الواحد . وقد اختلف في ذلك الأصوليون . ويجوز أن يكون قد استمر العمل بالسكنى على مقتضى العموم ، فلا يقبل حينئذ خبر الواحد في نسخه اتفاقًا .
وقوله : (( وسنة نبينا )) ، قال الدارقطني : (( وسنة نبينا )) غير محفوظة ، لم يذكرها جماعة من الثقات . قال القاضي إسماعيل : الذي في كتاب ربنا النفقة لذوات الأحمال وبحسب الحديث . ولها السكنى ؛ لأن السكنى موجود في كتاب الله ؛ لقوله تعالى : { أسنكنوهن } الآية . وزاد أهل الكوفة في الحديث عن عمر : (( والنفقة )).
(13/103)
قلت : ويظهر من كلام هؤلاء الأئمة : أن الثابت عن عمر ـ رضى الله عنه ـ قوله : (( لها السكنى )) لا غير . ولم يثبتوا قوله : (( والنفقة )). وليس بمعروف عند أهل المدينة . ولذلك قال مالك : إنه سمع ابن شهاب يقول : المبتوتة لا تخرج من بيتها حتى تحل ، وليس لها نفقة إلا أن تكون حاملاً. قال مالك : وهذا الأمر عندنا . وإلى هذا أشار مروان بقوله : سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها ؛ أي : بالأمر الذي اعتصم الناس به ، وعملوا عليه ؛ يعني بذلك : أنها لا تخرج من بيتها ، ولا نفقة لها .
ومن باب لا تخرج المطلقة من بيتها حتى تنقضي عدتها
(13/104)
وقول فاطمة لما بلغها قول مروان : (( فبيني وبينكم القرآن )) ، وتلت قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } الآية ، وقالت : )) هذا لمن كانت له الرجعة ، وأشارت بقولها : (( فأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟! )) إلى قوله تعالى : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا }(@). ظاهر كلامها هذا إنما هو ردٌّ على مروان في منعه البائن من الانتقال من بيتها ؛ لأنها كانت تجيز الخروج للبائن على نحو ما أباحه لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكأنها فهمت عن مروان ، أو نقل إليها : أنه يمنع البائن من الخروج مطلقًا ، فاستدلَّت بأن الآية التي تلتها إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية ؛ لأنها بصدد أن يحدث لمطلِّقها رأي في ارتجاعها ما دامت في عدَّتها ، فكأنها تحت تصرف الزوج في كل وقت ، وأما البائن فليس لها شيء من ذلك فيها ، فيجوز لها أن تخرج إذا دعتها إلى ذلك حاجة ، أو خافت عورة ، كما أباح لها ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . هذا ظاهر صدر كلامها مع مروان ، غير أن عجز كلامها هذا يظهر منه : أن منازعتها لمروان إنما كانت في النفقة لها. فكان مروان لا يراها لها ، وهي تراها لها . وهو ظاهر قولها : (( فكيف تقولون : لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً ، وليس كذلك . فإنها قد نصَّت في أول الحديث على أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ((لا نفقة لك )) ، فكيف تخالف هي هذا النصّ ؟ وتقول : إن لها النفقةزالنفقة لها. هذا محال ، وكأنَّ هذا وهم من بعض الرواة في قوله : (( فكيف يقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً ؟ )).
وقولها : (( فعلام خبسوتها ؟ )) معناه : فلأيِّ شيء تمنعونها من الانتقال إذا لم تكن له عليها رجعة ؟! وقد دلَّ على هذا قوله : ((فاستأذنته في الانتقال ، فأذن لها )) ؛ فهذا ما ظهر لي ، والله أعلم .
وعلى الجملة : فحديثُ فاطمة لكثرةِ اضطرابه قاصمةٌ ، فما أولاه لاختلاف معناه ولفظه بقول عمر : الذي جعل الله تعالى الحقَّ على لسانه
وقلبه .
(13/105)
وقول عائشة : (( ما لفاطمة خير أن تذكر هذا الحديث )) ؛ لا يلتفت منه إلى فَهْمِ مَنْ فَهِمَ من قول عائشة هذا نقصًا في حق فاطمة ، ولا تكذيبًا من عائشة لها على ما تقدَّم ، وإنما أنكرت عليها قولها : لا سكنى لها ولا نفقة ؛ كما نصَّ عليه الراوي . ويظهر من إنكار عائشة : أنها ترى : لها السكنى والنفقة ، كما رآه عمر ، تمسُّكًا منها بما تمسَّك هو به. والله أعلم .
ويحتمل أن تكون أنكرت قولها : لا سكنى فقط ، والظاهر الأول. ويغفر الله تعالى لسعيد بن المسيب ما وقع فيه حيث قال في هذه الصحابية المختارة : (( تلك امرأةٌ فتنتِ الناس ، إنها كانت امرأة(4) لسنة ،
فوضعت على يد ابن أم مكتوم )) ، وروي عنه أيضًا أنه قال : (( تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها ، فأمرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تنتقل )) ، فلقد أفحش في القول ، واغتابها ، ولا بُدَّ لها معه من موقف بين يدي الله تعالى.
وحديث فاطمة إذًا تُتُبِّعَتْ ألفاظ رواياته اسْتُخرج منها أبواب كثيرة من الفقه لا تخفى على متأمِّل فطن.
ووقع في "الأم" قول فاطمة : (( فشرَّفني الله بابن زيد )) ، و(( كرمني بابن زيد )) ؛ كذا لكافة الرواة ، وعند السمرقندي : (( بأبي زيد )) وكلاهما صحيح ؛ لأن زيدًا أبوه ، ويكنى هو : بأبي زيد . وقيل : أبو محمد . وهذا يدلُّ على فضلها ، وتواضعها رضي الله عنها . وعلى صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ حيث قال لها : (( طاعة الله وطاعة رسوله خير لك )) ، فكان كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(13/106)
وقوله للمعتدَّة : (( فَجُدِّي نَخْلِك )) ، وإباحته لها الخروج لجدِّ نخلها ؛ دليل لمالك ، والشافعي ، وأحمد ، والليث على قولهم : إن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها ، وإنما تلزم منزلها بالليل . وسواء عند مالك كانت رجعية أو بائنة . وقال الشافعي في الرجعية : لا تخرج ليلاً ولا نهارًا ، وإنما تخرج نهارًا المبتوتة . وقال أبو حنيفة : ذلك في المتوفى عنها زوجها ، وأمَّا المطلقة : فلا تخرج ليلاً ولا نهارًا . وقال الجمهور بهذا الحديث : إن الجداد يكون هو بالنهار عرفًا ، وشرعًا . أما العرف : فهو عادة الناس في مثل ذلك الشغل. وأما الشرع : فقد نهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن جداد الليل . ولا يقال : فيلزم من إطلاقه أن تخرج بالليل ؛ إذ قد يكون نخلها بعيدًا تحتاج إلى المبيت فيه ؛ لأنا نقول : لا يلزم ذلك من هذا الحديث ؛ لأن نخلهم لم يكن الغالب عليها البعد من المدينة ، بحيث يحتاج إلى
المبيت ، وإنما هي بحيث تخرج إليها ، وترجع منها في النهار .
وقوله : (( فلعلَّكِ أن تصَّدَّقي ، أو تفعلي معروفًا )) ؛ ليس تعليلاً لإباحة الخروج إليها بالاتفاق ، وإنما خرج هذا مخرج التنبيه لها ، والحضِّ على فعل الخير ، والله أعلم .
ومن باب ما جاء أن الحامل إذا وضعت فقد انقضت عدتها
قول ابن عباس : (( عِدَّتها آخر الأجلين )) ؛ يعني : عدة الوفاة ، أو الوضع ، فلا تحل بالأول منهما ، بل بجميعهما . وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس روي عن علي ، واختاره سحنون من أصحابنا .
وقال جمهور العلماء من السلف ، وأئمة الفتوى : إنها تحل بوضع الحمل وإن لم تنقض عدَّةُ الوفاة . وقد روي أن ابن عباس رجع إلى هذا.
(13/107)
والكل متفقون على أنها إن انقضت لها عدَّة الوفاة ولم تضع لم تحل حتى تضع . والذي حمل الفريق الأول على ذلك روم الجمع بين قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا } وبين(6) قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ، وذلك أنَّها إذا قعدت أقص الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين ، وإن اعتدَّتْ بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدَّة الوفاة . والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول . وهذا نَظَرٌ حَسَنٌ لولا حديث سُبَيْعة هذا ؛ فإنَّه نصَّ بأنها تحلُّ بوضع الحمل ، ومبيِّنٌ أنَّ قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ؛ محمول على عمومه في المطلَّقات والمتوفَّى عنهنّ أزواجهنّ ، وأن عدَّة الوفاة مختصة بالحائل من الصنفين . ويعتضد هذا بقول ابن مسعود : إن آية سورة النساء القصرى نزلت بعد آية عدَّة الوفاة . وظاهر كلامه : أنها ناسخة لها. وليس مراده -والله أعلم - وإنما يعني : أنها مخصِّصة لها ؛ فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها . وكذلك حديث سبيعة متأخر عن عدَّة الوفاة ؛ لأن قصة سبيعة كانت بعد حجة الوداع ، وزوجها هو سعد بن خولة ، توفي بمكة حينئذ . وهو الذي رثى له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن مات بمكة ، والله أعلم .
وقد تقدَّم القول في الطهارة على قوله : (( نُفِسَتْ )).
(13/108)
وقول ابن شهاب : فلا باس أن تتزوَّج حين وضعت ، وإن كانت في دمها ، غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر ؛ هذا مذهب الجمهور. وقد شذَّ الحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وحماد فقالوا : لا تنكح ما دامت في دم نفاسها . والحديث حجَّة عليهم ، ولاحجَّة لهم في قوله في "الأم" : فلمَّا تعلّت من نفاسها تجملت للخطَّاب ؛ لأن (( تعلَّتْ )) وإن كان أصله : طهرت من دم نفاسها ، على ما حكاه الخليل ، فيحتمل أن يكون المراد به ها هنا : تعلت من آلام نفاسها ؛ أي : استقلَّت من أوجاعها وتغييراته. ولو سلِّم أن معناه ما قاله الخليل ، فلا حجة فيه ، وإنما الحجة في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسبيعة : (( قد حللت حين وضعت )) ، فأوقع الحِلَّ في حين الوضع ، وعلَّقه عليه ، ولم يقل : إذا انقطع دمُكِ . ولا : إذا طَهُرْتِ : فصحَّ ما قاله الجمهور .
وفي حديث سُبَيْعة هذه دليل : على جواز المنازعة ، والمناظرة في المسائل الشرعية ، وعلى قبول أخبار الآحاد ، وعلى الرجوع في الوقائع إلى من يُظَّنُّ علم ذلك عنده ، وإن كان امرأة . إلى غير ذلك .
ومن باب الإحداد على الْمَيِّت
(( الخلوق ))- بفتح الخاء المنقوطة - : أنواع من الطيب تخلط بالزعفران. وهو : العبير أيضًا . وأصل العوارض : الأسنان . وسُمِّيت الخدود : عوارض لأنها عليها ، من باب : تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره ، أو كان منه بسبب . والعارضان هنا هما : الخدَّان . والإحداد : مصدر : أحدَّت المرأة على زوجها في مُحِدٌّ : إذا امتنعت من الزينة . ويقال : حدَّت فهي حادٌّ . وكل ما يصاغ من ( ح . د ) كيفما تصرَّف فهو راجع إلى معنى المنع .
وقوله : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحدَّ على ميت فوق ثلاث )) فاعل (( لا يحل )) المصدر الذي يمكن صياغته من (( تحد )) مع (( أن )) المرادة. فكأنَّه قال : الإحداد .
(13/109)
ووصْفُ المرأة بالإيمان يدلُّ على صحة أحد القولين عندنا في الكتابية المتوفَّى عنها زوجها المسلم : أنها لا إحداد عليها . وبه قال أبو حنيفة ، والكوفيون ، وابن كنانة ، وابن نافع ، وأشهب من أصحابنا . وقال الشافعي وعامة أصحابنا : عليها الإحداد .
وقوله : (( فوق ثلاث )) ؛ يعني به : الليالي ، ولذلك أنَّثَ العدد.
ويستفاد منه : أن المرأة إذا مات حميمُها فلها أن تمتنع من الزينة ثلاث ليال متتابعة ، تبدأ بالعدد من الليلة التي تسقبلها إلى آخر ثالثها ، فإن مات حميمُها في بقية يوم ، أو ليلة ألغتها ، وحسبت من الليلة القابلة المستأنفة.
وقوله : (( إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا )) ؛ (( أربعة )) منصوب على الظرف ، والعامل فيه (( تُحِدُّ )) و(( عشرًا )) معطوف عليه.
وهذا الحديث بحكم عمومه يتناول الزوجات كلهن ، المتوفَّى عنهن أزواجهن . فيدخل فيه الحرائر ، والإماء ، والكبار ، والصغار . وهو مذهب الجمهور .
وذهب أبو حنيفة : إلى أنه لا إحداد على أمة ، ولا صغيرة . والعموم(7) حجَّة عليه . ولا خلاف أعلمه : أنهما لا بدَّ لهما من العدَّة .
فبالطريق التي تلزمهما به العدَّة يلزمهما الإحداد .
و (( إلا على زوج )) ؛ إيجاب بعد نفي . فيقتضي حصر الإحداد على المتوفى عنها زوجها ، فلا تدخل المطلقة فيه من جهة لفظه بوجه. فلا إحداد على مطلَّقة عندنا ، رجعية كانت أو بائنة واحدة ، أو أكثر . وهو مذهب مالك ، والشافعي ، وربيعة ، وعطاء ، وابن المنذر .
وقال قوم : إن المطلقة ثلاثًا عليها الإحداد . واليه ذهب أبو حنيفة ، والكوفيون ، وأبو ثور ، وأبو عبيد . وقال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : الاحتياط أن تتقي المطلقة الزينة ، وقد شذَّ الحسن فقال : لا إحداد على مطلقة ، ولا متوفى عنها زوجها . وهو قول يدلّ على إبطاله نَصُّ الحديث الْمُتقدِّم .
(13/110)
وأمَّا من رأى أن الإحداد على المطلَّقة فمستنده : إلحاقها بالمتوفَّى عنها زوجها . وليس بصحيح ؛ للحصر الذي في الحديث ، ولوجود الفرق بينهما .
وذلك : أن الإحداد إنما هو مبالغة في التحرز من تعرضها لأسباب النكاح في حق المتوفى عنها ، لعدم الزوج ؛ إذ ليس له من جهته من يقوم مقامه في البحث عنها والتحرز بها ، بخلاف المطلِّق ؛ فإنه حيٌّ ، متمكِّن من البحث عن أحوالها ، فافترقا . هذا إن قلنا : إن الإحداد معقول المعنى . فإن قلنا : إنه تعبد ؛ انقطع الإلحاق القياسي . ولو سُلِّم صحة الإلحاق القياسي ؛ لكان التمسَّك بظاهر اللفظ أولى . وقد بينَّا : أنه يدلُّ على الحصر ، والله أعلم .
وإنَّما خصَّ الله تعالى عدَّة الوفاة بأربعة أشهر وعشر ؛ لأن غالب الحمل يبين - تحركه في تلك المدَّة ؛ لأن النُّطْفَة تبقى في الرَّحم أربعين ، ثم تصير علقة أربعين ، ثم مضغة أربعين ، فتلك أربعة أشهر ، ثم ينفخ فيه الروح بعد ذلك ، فتظهر حركته في العشر الزائد على الأربعة الأشهر. وهذا على ما جاء من حديث ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ .
وأنَّثَ عشرًا ؛ لأنه أراد به مدَّة العشر . قاله المبرد . وقيل : لأنه أراد الأيام بلياليها . وإلى هذا ذهب كافة العلماء . فقالوا : إنها عشرة أيام بعد الأربعة الأشهر . وقال الأوزاعي : إنما أنَّث العشر ؛ لأنه أراد الليالي . فعلى قول الجمهور : تحل باليوم العاشر بآخره . وعلى قول الأوزاعي : تحل بانقضاء الليلة العاشرة . وقد احتج قوم بقوله : أربعة أشهر وعشرا : على أن ما زاد على هذا العدد إذا كانت حاملاً لم يلزم فيه الإحداد . وقال أصحابنا : عليها الإحداد إلى أن تضع ؛ نظرًا إلى المعنى ؛ إذ كل ذلك عدَّةٍ من وفاة ، وإنما خَصَّ ذلك العدد بالذكر ؛ لأن الْحِيَّلَ من النساء أغلب ، وهنَّ الأصل ، والحمل طارئ . والله تعالى أعلم .
(13/111)
ومنعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكحل للمرأة التي تُخُوِّفَ على عينها يدلُّ : على التشديد في منع فى الْمُحدّ من الاكتحال بما فيه زينة ، أو طيبة إذا وجدت منه بًّدا ، إثمدًا كان أو غيره . وهو مذهب الجمهور.
فأما إذا اضطرت إليه فاختلفوا ؛ فمنهم من قال : تجعله بالليل ، وتمسحه بالنهار . وبه قال الكوفيون ، والنخعي ، وعطاء ، والشافعي ، أخذًا بما في "الموطأ" من حديث أم سلمة ، من قوله : (( اجعليه بالليل ، وامسحيه بالنهار )).
ومنهم من قال : تستعمله ليلاً ونهارًا ، بحسب ضرورتها . وبه قال سالم ، وسليمان بن يسار ، ومالك ، حكاه عنه الباجي وغيره . وتأول هؤلاء قوله في هذا الحديث : (( تخوفوا عليها )) : إن هذا الخوف لم يكن محقَّقًا ، ولو كان الضرر محقَّقًا حاصلاً فلا بدَّ لأباحه لها ؛ لأن المنع إذ ذاك كان يكون حرجًا في الدِّين ، وهو مرفوع بقاعدة الشرع .
وقوله : (( إنما هي أربعة أشهر وعشر)) ؛ إنما تفيد التقليل والحصر. يتمسَّك بها من يرى : أن الإحداد لا تزيد فيه الحامل على أربعة أشهر والعشر . وقد تقدَّم .
(13/112)
وقوله : (( قد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول )) ؛ هذا منه في إخبار عن حالة المتوفَّى عنهن أزواجهن قبل ورود الشرع . وحاصله : أنهن كنَّ يقمنَّ في بيوتهن حولاً ملازمات لحالة الشَّعث ، والبذاذة ، والتَّفل ، ووحشة المسكن ، وفي شرار الثياب ، والأحلاس ، إلى أن ينقضي الحول ، وعند ذلك تخرج ، فترمي ببعرة مُشْعِرَة بأن أمر العدَّة المذكورة - وإن كان شديدًا - قد هان عليها في حقِّ من مات عنها كرمي البعرة . وقيل : إنَّ معنى ذلك : أنها رمت بالعدَّة وراء ظهرها كما رمت بالبعرة . فلما جاء الإسلام أمرهن الله تعالى بملازمة البيوت حولاً . وقد دلّ عليه قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج }. وأشهر قول المفسرين فيها ، وأحسنه : أن المتوفَّى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى حولاً ، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل ، فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها . ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر . ونسخت النفقة بالربع ، أو الثمن ؛ قاله ابن عباس وقتادة ، والضحاك ، وعطاء ، وغيرهم .
وفي هذه الآية مباحث كثيرة لذكرها موضع آخر .
قال القاضي عياض : والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ ، وأن عدَّتها أربعة أشهر وعشر. يعني : أنها منسوخة بقوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا } ،
و (( الحِفْشُ )) هنا : الخصّ الصغير. وهو أيضًا الدرج ، وجمعه : أحفاش . و(( الأحلاس )) : الثياب الخشنة ، وأصلها للدَّواب ، وهي : المسوح التي تجعل على ظهورها .
وقوله : (( ثم تؤتى بدابةٍ : حمار ، أو شاة ، أو طير )) ؛ سُمِّيت هذه كلها دواب ؛ لأنها تدبُّ ؛ أي : تمشي . وهذه تسمية لغوية أصلية. كما قال الله تعالى : { وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها }.
(13/113)
وقوله : (( فتفتضُّ به ، فقلَّ ما تفتضُّ )) ؛ الرواية الصحيحة بالفاء والضاد المعجمة . قال القتبي : سألت الحجازي عن الافتضاض ، فذكروا : أن المعتدة كانت لا تغتسل ، ولا تمس ماءً ، ولا تقلم ظفرًا ، وتخرج بعد الحول بأقبح منظر ، ثم تفتضُّ ؛ أي : تكسر ما هي فيه من العدَّة بطائر تمسح به قبلها ، وتنبذه ، فلا يكاد يعيش . وقال مالك : تفتضُّ : تمسح به جلدها كالنُّشرة . وقال ابن وفب : تمسح بيدها عليه ، أو على ظهره . وقيل : معناه : تمسح به ثم تفتض ؛ أي : تغتسل بالماء العذب حتى تصير كالفِضَّة . وقيل : تفتض : تُفارق ما كانت عليه . قال الأزهري : رواه الشافعي : (( فتقبص )) بالقاف ، وبالباء بواحدة ، وبالصاد المهملة . والقبص : الأخذ بأطراف الأصابع . قال : وقرأ الحسن : ( فقبصتُ قبصة من أثر الرسول ) ؛ ذكره الهروي .
وقوله : (( ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عَصْبٍ )) ، قال ابن المنذر : أجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس الْمُصَبَّغَة ، والمعصفرة ، إلا ما صُبغ بالسواد. ورخَّص فيه مالك ، والشافعي ، وعروة . وكرهه الزهري ، وكره عروة ، والشافعي العصْب. وهي : برود اليمن يعصب غزلها ، ثم يصبغ معصوبًا ، ثم ينسج فيوشَّى . وأجازه الزهري . وأجاز غليظه مالك . قال ابن المنذر : رخَّص كلُّ من يحفظ عنه من أهل العلم في البياض .
قال القاضي : ذهب الشافعي إلى أن كل صبغ كان زينة ، فلا تمسّه الحادّ غليظًا كان أو رقيقًا . ونحوه للقاضي عبد الوهاب. قال : كل ما كان من الألوان يتزتن به النساء لأزواجهنَّ فتمنع منه الحاد. ومنع بعض شيوخنا المتأخرين جَيِّد البياض الذي يتزين به . وكذلك الرفيع من السواد .
(13/114)
وقوله : (( ولا تمس طيبًا إلا إذا طهرت نُبْذَةً من قُسْط ، أو أظفار )). قال القاضي أبو الفضل : النبذة : الشيء اليسير ، وأدخل فيه الهاء لأنه بمعنى القطعة . وإنما رُخِّص لها في هذا لقطع الروائح الكريهة ، والتنظيف ، لا على معنى التَّطيب مع أن القسط ، والأظفار ليس من مؤنث الطيب المستعمل نفسه في ذلك. وظاهره : أنها تتبخر بذلك . وقال الداودي : تسحق القمنعط والأظفار وتلقيه في الماء اخر غعنملها. والأول أظهر ؛ لأن القمنعط والأظفار لا يحصل منهما شيء إلا من بخورهما . ويقال : قمنمط - بالقاف والكاف - وأكثر ما يستعمل القسط ، والأظفار مع غيرهما فيما يتبخر به ، لا بمجردهما .
ووقع في كتاب البخاري : (( قُسْطُ أظفار )) ، وهو خطأ ؛ إذ لا يضاف أحدهما للآخر ؛ لأنهما لا نسبة بينهما . وعند بعضهم : (( قُسْط ظَفَار )) ، وهذا له وجه ؛ فإن ظفار مدينة باليمن نسب إليها القُسْط . وما في مسلم أحسن ، والله أعلم .
وعلى هذا : فينبغي أن لا يصرف للتعريف والتأنيث . ويكون
كـ (( حَذَامِ )) و(( قَطَامِ )) ، أو يكون مبنيًّا على القول الثاني في (( حذام )) و((قطام )) ؛ أعني : مبنيًّا على الكسر ، في أحد القولين فيهما.
ومن باب اللِّعَان
وهو موضوع لحفظ الأنساب ، ودفع المضرَّة عن الأزواج .
قوله : (( أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ )) هذا سؤال غيران متحرِّز من الحدِّ ، متشوِّف لمعرفة الحكم ، ولو صرَّح للزمه الحدُّ ، أو يُبَيِّن ، أو يلتعن ، كما قد قال في الحديث الآخر لمن صرَّح : (( البينة وإلا حدٌّ في ظهرك )). وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينكر على السَّائل قوله : أيقتله ؟ تقرير منه على ذلك .
ويلزم منه أنه إن قتله لم يكن فيه قصاص ، ولا غَيْرُهُ . وقد عضده قول سعد : (( لو رأيته ضربته بالسيف )). ولم ينكر عليه . بل صوَّبه بقوله : ((تعجبون من غيرة سعد )).
ولهذا قال أحمد ، وإسحاق : يهدر دمه إذا جاء القاتل بشاهدين .
(13/115)
واختلف أصحابنا بذلك . فقال ابن القاسم : يهدر دمه إن قتله إذا قامت البينة ؛ محصنًا كان أو غير مُحْصَن ، واستحب الدية في غير المحصن. وقال ابن حبيب : إن كان مُحصنًا فهذا الذي ينجي قاتله البينة .
وقد اختلف عن عمر ـ رضى الله عنه ـ في هدر دم مثل هذا. وروي عن علي ـ رضى الله عنه ـ : يُقَاد منه . فأمَّا لو لم يات ببيَّنة فإنَّه يقتل به ، ولا يقبل قوله عند الجمهور. وقال الشافعي ، وأبو ثور : وسعه فيما بينه وبين الله تعالى قتله. يعنيان : إذا كان محصنًا ، والله أعلم .
وقوله : (( كره رسول الله في المسائلَ وعابها )) ؛ يحتمل أن تكون هذه الكراهة لكثرة المسائل ، كما قد جاء النهي عنها نصًّا. ويحتمل أن تكون لقبح هذه المسألة . ويدلّ على هذا قول عاصم : (( وقد كره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسألة التي سألتُه عنها )).
وقوله : (( قد أُنزل فيك وفي صاحبتك )) ؛ يدل : على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عرف أنه صاحب المسألة : إمَّا بقرائن الأحوال ، وإمَّا بالوحي .
وقوله : (( فتلاعنا في المسجد )) ؛ فيه بيان : أن سنَّة اللعان كونه في المسجد ، ولم يختلفوا في ذلك إلا ما روي عن عبد الملك : أنَّه يكون في المسجد أو عند الإمام ، وفيه : أنه يكون بحضرة الإمام . والقياس والإجماع على أنه لا يكون إلا بسلطان .
وقوله : (( كذبت عليها إن أمسكتُها . فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ هذا حجَّة للشافعي على جواز إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة . ووجه احتجاجه : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرَّه على ذلك . وقد انفصل أصحابنا عن ذلك بأن قالوا : إنَّه إنما أقرَّه ؛ لأن الطلاق لم يقع ؛ إذ لم يصادف محلاً ؛ فإنها قد بانتْ منه بفراغهما من اللَّعان ؛ بدليل قوله في الحديث الآخر : (( لا سبيل لك عليها )). وقد تقدَّم القول في هذه المسألة .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذي سمعه يطلِّق ثلاثًا في كلمة : (( أَيُلْعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟! )) ؛ إنكارُ محقَّقٌ .
(13/116)
وقول ابن شهاب : (( فكانت تلك سنة المتلاعنين )) ؛ ظاهره إشارة إلى كونه طلَّقها ثلاثًا . وكذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ذاكم التفريق بين كل متلاعنين )) ؛ وبه تمسَّك من شذَّ من العلماء ، فقال : هو ثلاث . والجمهور على أنه ليس بثلاث .
لكن التي اختلفوا ؛ فأكثرهم : على أنه بفراغها من اللِّعَان يقع التحريم المؤبَّد ، ولا تحل له أبدًا ؛ وإن أكذب نفسه ، متمسِّكين في ذلك بقوله : (( لا سبيل لك إليها )). وبما جاء في حديث ابن شهاب من رواية ابن وهب : (( فمضت سنَّة المتلاعنين أن يفرق بينهما ، ولا يجتمعا)). وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن ، وعبيد الله بن الحسن ، هو واحدة بائنة ، وإن أكذب نفسه بعد اللعان حدّ ، وحلت له . وغيرهم يحدُّونه ، ويلحقون به الولد ، ولا يحلونها له ، وأشذُّ الخلاف في هذه المسألة قول عثمان البَتِّي : إنه لا يفرق بينهما. وحكاه الطبري عن جابر بن زيد . وهذا القول مردود بالنصوص الْمُتقدِّمة .
قلت : وهذه الرواية ظاهرها : أنَّه لاعنها بمجرد القذف ، فإنَّه لم ينصّ فيها على رؤية الزنى ، ولا على نفي الحمل ، فيمكن أن يحتجّ بها من يرى اللعان بمجرد القذف ، وهو الشافعي ، والأوزاعي ، وفقهاء المحدثين ، والكوفيون . وهو أحد قولي مالك . ويتمسَّكون أيضًا بمطلق قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } الآية .
ومشهور مذهب مالك : أنَّه لا لعان في القذف المجرد ، ويحدّ حتى ينصَّ على الزنى . وهو قول الليث ، وأبي الزناد ، والبَتِّي ، ويحيى بن إسماعيل . والصحيح : أنَّه لا متمسَّك في هذا الحديث على أن مطلق الرمي موجبٌ للِّعان ؛ لأنه وإن كان قد سكت في هذه الطريق عن صفة الرَّمي ، فقد ذكره في رواية أخرى مفصَّلاً ، وأنَّه نفى حملها . وأمَّا الآية فمتمسكهم منها واضحٌ. ولا خلاف في صحة اللَّعان في ادعاء رؤية الزنى ، وفي نفي الحمل على الجملة ، والله أعلم .
ومن باب كيفية اللِّعان
(13/117)
قوله : (( إنَّه قائل )) : هو اسم فاعل من : قال ، يقيل ؛ إذا نام في كِنَّةِ وقت القائلة .
وقوله : (( أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان )) ؛ هو -والله أعلم : عويمر العجلاني الْمُتقدِّم الذكر .
وقوله : (( إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به )) ؛ ظاهر هذا : أنَّه خطابٌ من السَّائل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمَّا لم يجبه ، فأخبره بوقوع ذلك ، ليحقق عنده : أنه مضطر إلى المسألة فيجيبه كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد جاء في "الأم" من حديث ابن عباس قال : ذكر التلاعن عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال عاصم بن عدي في ذلك قولاً ، ثم انصرف ، فأتاه رجل من قومه يشكو إليه : أنه وجد مع امرأته رجلاً . فقال عاصم : ما ابتليت بهذا إلا لقولي . فذهب به إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر الحديث . وهذا نصٌّ في أن المبتلى به عاصم من جهة : أنه امتُحن بوقوع ذلك برجل من قومه ، فعظم عليه ذلك ، وشق عليه ، حتى تكلّف سؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تلك المسألة القبيحة ، ورأى أن ذلك كالعقوبة له ؛ لَمَّا تكلَّم في اللعان قبل وقوعه ، والله أعلم .
وأمذَا ابتلاء السَّائل الذي سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإما هو : وجوده الرجل مع أهله ، فهو ابتلاء آخر غير ابتلاء عاصم .
وقوله : (( ووعظه ، وذكَّره )) هذا الوعظ ، والتذكير كان منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل اللَّعان . وينبغي أن يتخذ سُنذَة في وعظ المتلاعنين قبل الشروع في اللعان. ولذلك قال الطبري : إنه يجب على الإمام أن يعظ كل من يحلّفه ، وذهب الشافعي إلى أنه الإمام يعظ كل واحد بعد تمام الرابعة وقبل الخامسة ؛ تمسُّكًا منه بما في البخاري من حديث ابن عباس في لعان هلال ابن أمية ؛ أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعظهما عند الخامسة .
وقوله : (( فبدأ بالرَّجل )) ؛ إنَّما بدأ به لأنه القاذف ، فيدرأ الحدَّ عن نفسه ، ولأنه هو الذي بدأ الله تعالى به . فإذا فرغ من أيمانه تعيَّن عليها : أن تُقابل أيْمانَه بأيمانها النافية لِما أثبته عليها ، أو الحدُّ . وهذا مما أجمع
عليه العلماء .
(13/118)
وقوله : (( فشهد أربع شهادات )) ؛ أي : حلف أربعة أيمان . وهذا معنى قوله تعالى : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } ؛ أي : فَحَلْفُ أربعةِ(@) أيمان . والعرب تقول : أشهد بالله ؛ أي : أحلف . كما قال شاعرهم :
فَأَشْهدُ عِنْدَ اللهِ أَنِّي أُحبُّها فهَذَا لَها عِنْدِي فَمَا عنْدَهَا لِيَا ؟
وهذا مذهب الجمهور . وقال أبو حنيفة : هي شهاداتمحقَّقة من المتلاعنين على أنفسهما .
وانبنى على هذا الخلاف في لعان الفاسقين والعبدين . فعند الجمهور يصحُّ ، وعند أبي حنيفة لا يصحُّ . وبما يُسْتَدَل لأبي حنيفة بما رواه أبو عمرو من حديث عمرو بن شعيب مرفوعًا : (( لا لعان بين مملوكين ولا كافرين )). وبما رواه الدارقطني من هذا المعنى ، ولا يصح
منها كلها شيء عند ا لمحدِّثين .
واختلفوا في الألفاظ التي يقولها المتلاعنان . وأولى ذلك كله ما دلَّ عليه كتاب الله تعالى . وهو : أن يقول الرجل : أشهد بالله لقد زنيتِ. أو : لقد رأيتُها تزني ، أو : أن هذا الحمل ليس مني ، أو : هذا الولد - أربع مرات -. وإلاَّ فلعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم تقوم هي فتقول : أشهد بالله لقد كَذَبَ عليَّ فيما رماني به . أو : إن هذا الحمل منه ، أو : هذا الولد ولده ، ثم تُخَمِّسُ بأن تقول : وإلا غضب الله عليها إن كان من الصادقين . وقد زاد بعض علمائنا في اليمين : بالله الذي لا إله إلا هو . ومشهور مذهبنا : أنه إن لاعنها على رؤية الزنى : نصَّ على ذلك ، كما ينصُّه شهود الزنى ، فيقول كالْمِرْوَدِ في المكحلة . وكل ذلك منهما وهما قائمان .
وقوله : (( ثم فرَّق بينهما )) ؛ دليل لمالك ولمن قال بقوله : على أن الفرقة تقع بنفس فراغهما من التعانهما . وقد ذكرنا الخلاف في ذلك .
وقوله في حديث ابن عمر : (( أحدكما كاذب )) ؛ ظاهره أنه بعد الملاعنة ، وحينئذ يحقق الكذب عليهما جميعًا . وقال بعضهم : إنما قاله في ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل اللعان تحذيرًا لهما ، ووعظًا . ورجح بعضهم الأول.
(13/119)
وقوله : (( لا سبيل لك عليها )) ؛ دليل لمالك ولمن قال بقوله في تأبيد التحريم ، فإن ظاهره النفي العام . وقد ذكر الدارقطني زيادة في حديث سهل بعد قوله : (( ففرَّق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهما)) ، وقال : (( لا يجتمعان أبدًا )). وقال أبو داود عن سهل : (( مضت سنَّة المتلاعنين : أن يفرَّق بينهما ، ثم لا يجتمعان أبدًا )). قال مالك : وهي السُّنَّه التي لا اختلاف فيها عندنا .
ومن باب ما يتبع اللِّعان إذا كمل من الأحكام
قد تقدَّم : أنَّه يتبعه الفراق المؤبَّد .
وقوله : (( وألحق الولد بأمه )) ؛ أي : إنما يدعى وينسب لأمه ، ولقومها ، أو لمواليها - إن كانت مولاة - ويرثها وترث هي منه فرضها في كتاب الله تعالى . ويرثه من إخوته لأمه ميراث الإخوة للأم. وتَوْأَمَا الملاعنة يتوارثان توارث الأشقاء ؛ لاستوائهما في النفي باللعان . وما بقي من ميراث ولد الملاعنة بعد أصحاب السِّهام فلموالي أمه ؛ إن كانت مولاةً ، أو لجماعة المسلمين ؛ إن كانت عربيةً ، هذا قول مالك ، والزهري ، والشافعي ، وأبي ثور . وقال الحكم ، وحماد : يرثه ورثة أمه. وقال آخرون : عصبته عصبة أمه . وبه قال أحمد بن حنبل . وروي عن علي ، وابن مسعود ، وعطاء ، وابن عمر ـ رضى الله عنهم ـ . وقالت طائفة : أمه عصبته ، فما بقي عن أهل السِّهام فلها . وقال أبو حنيفة : يرد ما فضل على ورثته إن كانوا ذوي أرحام . وهذا على أصله في الردّ .
(13/120)
وقوله في هلال بن أمية : (( إنه كان أول من لاعن في الإسلام )) ؛ هذا يقتضي : أن آية اللعان نزلت بسبب هلال بن أمية ، وكذلك ذكره البخاري . وهو مخالف لما تقدَّم : أنها نزلت بسبب عويمر العجلاني . وهذا يحتمل : أن تكون القضيتان متقاربتي الزمان فنزلت بسببهما معًا. ويحتمل : أن تكون الآية أُنزلت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّتين ؛ أي : كرر نزولها عليه ، كما قال بعض العلماء في سورة الفاتحة : إنها نزلت بمكة ، وتكرَّر نزولها بالمدينة . وهذه الاحتمالات وإن بَعُدت ؛ فهي أولى من أن يُطَرَّق الوهم للرواة الأئمة الحفَّاظ .
وقد أنكر أبو عبدالله أخو المهلب في هذه الأحاديث هلال بن أمية ، وقال : هو خطأ ، والصحيح : أنه عويمر . ونحوًا منه قاله الطبري . وقال : إنما هو عويمر ، وهو الذي قذفها بشريك بن سحماء ، والله
أعلم.
وظاهر هذا الحديث : أن هلالاً لَمَّا صرَّح بذكر شريك : أنَّه قذفه . ومع ذلك فلم يحدّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له . وبهذا قال الشافعي : إنه لا حدَّ على الرَّامي لزوجته إذا سَمَّى الذي رماها به ثم التعن ، ورأى أنه التعن لهما. وعند مالك : أنَّه يحدّ ، ولا يكتفى بالتعانه ؛ لأنه إنما التعن للمرأة ، ولم تكن له ضرورة إلى ذِكْره ، بخلاف المرأة . فهو إذًا قاذف فيحدُّ. واعتذر بعض أصحابنا عن حديث شريك : بأنه كان يهوديًّا . وأيضًا :
فلم يطالب شريك بشيء من ذلك. وهو حقه ، فلا متعلق في الحديث.
قال القاضي عياض : لا يصحُّ قول من قال : إن شريكًا كان يهوديًّا. وهو باطل . وهو : شريك بن عبدة بن مغيث ، وهو بلوي حليف الأنصار ، وهو أخو البراء بن مالك لأمِّه .
والسَّبط الشعر : هو المسترسِلُه ، المنبَسِطُه . يقال : شعرٌ سبطٌ كسر الباء وفتحها ، لغتان و: سَبِطَ شعره ، يَسْبَط : إذا صار كذلك ، وهو ضد الجعودة .
(13/121)
و(( قضئ العينين )) : فاسدهما . قال ابن دريد في "الجمهرة" : قَضِئَتْ عين الرَّجل : إذا احمرَّت ، ودمعت . وقضئت القربة ، تقضأ قَضْأَ ، في قضيئة ، على وزن فعيلة : إذا عَفِنَت ، وتهافتت .
و (( الجعد )) في هذا هو : المتكسر ، على ضد السُّبوطة المتقدمة .
وفي رواية أخرى : (( إن جاءت به جعدًا قططًا )) ؛ أي : شديد الجعودة. و(( أحمش الساقين )) : دقيقهما. ويقال للمرأة : حمشاء السَّاقين. قاله الهروي ، وغيره . وضد ذلك : الخدْل . وهو : امتلاء الساقين . يقال : رجل أخدل ، وامرأة خدلاء . وهو بالدال المهملة . وهو الخدلَّج أيضًا .
و (( الآدم )) : من الأدمة ، وهي : شدَّة السُّمْرة . يقال : رجل آدم . وامرأة أدماء : كأحمر ، وحمراء . ويجمع آدم : أُدُمٌ ، كحُمُر .
وقد جاء في هذا الحديث في كتاب أبي داود ألفاظ فسَّرها الخطابي فقال : (( الأُرَيْصِحُ : تصغير الأرصح . وهو : الخفيف الأليتين . قال الأصمعي : وهو أيضًا : الأرصع - بالعين - .
و (( الأَثيبج )) : تصغير : أثبج . والثَّبج : نتوءٌ في السُّرة . والبثج أيضًا : ما بين الكاهل ووسط الظهر . و(( الجمالي )) : العظيم الخلْق . شَبَّه خَلْقه بِخَلْق الجمل . ويقال من ذلك : امرأة جمالية.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم بيِّن )) ؛ ظاهره أنه دعاة في أن يبيّن له مِمَّن الولد ؟ فأجيب بأنه للذي رُمي به . وتبيَّن له ذلك : بأن الله تعالى خلقه يشبه الذي رُميت به ، وعلى الصِّفة التي قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ولذلك نسق قوله : ((فوضعت )) على الكلام المتقدم بـ(( الفاء )). وقيل معناه : اللهم بين الحكم في هذه الواقعة ، كما جاء في الرواية الأخرى : (( اللهم افتح )) ؛ أي : احكم ، ومنه قوله تعالى : { ثم يفتح بيننا بالحق} ؛ أي : يحكم .
(13/122)
وقوله : تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء )) ؛ أي : تظهر عليها قرائن تدل على أنها بغي ، تتعاطى الفاحشة ، لكني لم يثبت عليها سبب شرع يتعلق عليها به الرجم ، لا إقرار ، ولا حمل ، ولا بينة . فلم يقم عليها حد لتلك الأسباب ا لمحصورة .
وقوله : (( أبصروها ، فإن جاءت به - وذكر النعوت المتقدمة - فهو لهلال ، وإن جاءت به - على النعوت الأخر- فهو لشريك )) ؛ يدلُّ على أن هذا كان منه تفرسًا وحدسًا ، لا وَحْيًا . ولو كان وَحْيًا لكان معلومًا عنده .
وفيه ما يدلُّ على إلغاء حكم الشبه في الحرائر ، كما هو مذهب مالك على ما قدمناه في القافة .
وقوله في كتاب أبي داود لما جاءت على النعت المكروه : (( لولا الأيمان لكان لي ولها شأن )). وفي "البخاري" : (( لولا ما مضى من كتاب الله )) ؛ يُفهم من كل ذلك : أن الحكم إذا وقع على شروطه لا ينقض ، وإن تبيَّن خلافه . هذا إن لم يقع خلل ، أو تفريط في شيء من أسبابه. فأمَّا لو فرط الحاكم فغلط ، وتبيَّن تفريطه ، وغلطه بوجهٍ واضح نقض حكمه . وهذا مذهب الجمهور .
وفيه : أن ذكر الأوصاف المذمومة للضرورة ، والتحلية بها للتعريف ليس بغيبة .
وقوله : (( اسمعوا إلى ما يقول سيدكم )) ؛ قال ابن الأنباري : السيد : الذي يفوق قومه في الفخر .
قلت : وذلك لا يكون حتى يجتمع له من خصال الشرف ، والفضائل ، والكمال ما يُبرز بها عليهم ، ويتقدَّمهم بسببها . كما قال :
فَإِنْ كُنتَ سيَّدَنَا سُدْتَنَا وإِنْ كُنتَ للْخَالِ فَاذْهَب فَخُلْ
وقوله : (( لضربته بالسَّيف ضربًا غير مُصْفحٍ )) ؛ أي : غير ضارب بصفحه. وصفحَا السيف : وجهاه ، وغِراراه : حدَّاه .
(13/123)
وقوله : (( إنَّه لغيور ، وأنا أغير منه ، والله أغير منِّي )) ؛ الغيرة في حقِّنا : هيجان ، وانزعاج يجده الإنسان من نفسه يحمل على صيانة الحرم ، ومنعهم من الفواحش ومقدماتها . والله تعالى مُنَزَّهٌ عن مثل ذلك الهيجان ، فإنه تَغَيُّر يدلُّ على الحدوث . فإذا أطلق لفظ الغيرة على الله تعالى فإنما معناه : أنه تعالى منع من الإقدام على الفواحش ، بما توعَّد ورتَّب عليها من العقاب ، والزجر ، والذَّمِّ ، وبما نصب عليها من الحدود.
وقد دلَّ على صحَّة هذا قوله في حديث آخر : (( وغيرة الله أن لا يأتي المؤمن ما حرَّمه الله )).
وقوله : (( لا شخص أغير من الله )) ؛ أصل وضع الشخص لِجُرم الإنسان وجسمه . يقال : شخص الإنسان ، وجثمانه ، وطلله ، وآله. كلها بمعنى واحد على ما نقل أهل اللغة . وشخص الشيء ، يشخص : إذا ظهر شخصه . وهذا المعنى على الله تعالى محالٌ بالعقل والنقل على ما قدَّمناه في غير موضع ، فتعيَّن تأويله هنا .
وقد قيل فيه : لا مترفع ؛ لأن الشخص : ما شخص وظهر وارتفع ، وفيه بُعْدٌ . وقيل فيه : (( لا شيء )). وهذا أشبه من الأول ، وأوضح منه ؛ أي : لا موجود ، أو : لا أحد . وهو أحسنها . وقد جاء في روايلى أخرى : (( لا أحد )) منصوصًا . وأطلق الشخص مبالغة في تثبيت إيمان من يتعذر على فهمه موجود لايشبه شيئًا من الموجودات ؛ لئلا يقع في النفي والتعطيل ، كما قال في حديث الجارية ، لما قالت : في السماء. فحكم بإيمانها مخافة أن تقع في النفي ؛ لقصور فهمها عمّا ينبغي له تعالى من حقائق الصفات . وعمَّا يُنَزَّه عنه مما يقتضي التشيبيهات. والله تعالى أعلم .
وقوله : (( ولا شخص أحبُّ إليه العذر من الله )). أحتُّ : مرفوعٌ على أنَّه خبر المبتدأ الذي هو : العذر ، على التقديم والتأخير . وخبر التبرئه محذوف ؛ أي : لا أحد موجودٌ العذر أحبّ إليه من الله . ويمكن فيه إعراب آخر . وهذا أوضح .
(13/124)
وقوله : (( من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين )) ؛ ذلك
إشارة إلى العذر. ومعناه : الإعذار للمكلفين . قال بعض أهل المعافي : إنما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا أحد أغير من الله ، ولا أحد أحبَّ إليه العذر من الله)) ، منبِّها لسعدٍ ، ورادعًا له عن الإقدام على قتل من وَجَدَه مع امرأته . فكأنه قال : إذا كان الله مع شدّة غيرته يُحبُّ الإعذار ، ولم يؤاخذ أحدًا إلا بعد إنهاء الإعذار ، فكيف تقدم على قتل من وجدته على تلك الحال ؟! والله أعلم .
و (( المذحة )) : المذح . وهو : الثناء بذكر أوصاف الكمال ، والإفضال ، فإذا أدخلت الهاء كسرت الميم . وإن أسقطتها فتحتها .
وقوله : (( من أجل ذلك وعد الله الجنة )) ؛ أي : من سبب حُبِّه للمدح وَعَدَ عليه بالجنَّة . وذِكْرُه المدح مقرونًا مع ذكر الغَيْرة والإعذار : تنبيهٌ لسعدٍ على ألا يعمل غيرته ، ولا يعجل بمقتضاها ، بل يتأنى ، ويترفق ، ويتثتت ؛ حتى يحصل على وجه الصواب من ذلك ، وعلى كمال الثناء والمدح بالتأني ، والرفق ، والصبر ، وإيثار الحق ، وقمع النفس عند هيجانها ، وغلبتها عند منازلتها . وهذا نحو من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) ، والله أعلم .
وقول الملاعن : (( ما لي )) ؛ يعني : أنَّه طلب المهر الذي كان أمهرها.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له : (( إن كنت صادقًا فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كاذبًا كان ذلك أبعد منها )) ؛ يعني : أنَّه لها ، على حالتي : صدقه ، أو كذبه ؛ لأنه قد مد كان دخل بها . وهو واجبٌ لها عليه بعد الدخول بالإجماع .
وأما لو تلاعنا قبل الدخول بها ، فقال فقهاء الأمصار : إنها كغيرها ، لها نصف الصداق . وقال الزهري : لا صداق لها جملة واحدة ؛ لأنه فسخ . وحكاه البغداديون عن المذهب . والمشهور : أن عليه النصف مع أن اللعان فسخ بغير طلاق . وحينئذ يشكل إلزام نصف الصداق .
(13/125)
واعتذر عنه بعض أصحابنا بأن قال : إنما قسم الصداق بينهما لتعارض أيمانهما كمتداعيين شيئًا تعارضت فيه دعاويهما وبيناتهما ولا مرتجح ، فإنه يقسم بينهما. وهذا ليس بشيء ؛ لأنهما لم يتنازعا في الدخول ، بل قد فرضناهما متصادقين على عدمه . وقال بعضهم : إنما قسم بينهما مراعاة للخلاف في اللعان . هل هو فسخ أو طلاق ؟ وقال الحكم ، وحماد ، وأبو الزناد : لها الصداق كله ؛ إذ ليس بطلاق .
ومن باب لا ينفى الولد لمخالفة لون أو شبه
لا خلاف في مقتضى هذه الترجمة . والحديث الذي تحتها شاهدٌ لصحتها. ومن قال : أن الولد يلحق بالشَّبه القافي لم ينفه لمخالفة الشَبه ولا اللون .
وفي هذا الحديث : تنبية على استحالة التسلسل العقلي ، وأن الحوادث لا بدّ أن تستند إلى أولٍ ليس بحادثٍ ، كما يعرف في الأصول الكلامية .
و (( الأورق )) : الأسمر الذي يميل إلى الغبرة . ومنه قيل للرَّماد : أورق. وللحما م : وُرْق .
وقوله : (( فلعل عرقًا نزعه )) ؛ أي : أشبهه . والعرق : الأصل من النسب . شبهه بعرق الثمرة . يقال : فلان معرق في الحسب ، وفي الكرم . وأصل النزع : الجذب . كأنَّه جذبه بشبهه له.
وفي هذا الحديث : أن التعريض اللطيف إذا لم يقصد به العيب ، وكان على جهة الشكوى ، أو الاستفتاء لم يكن فيه حدٌّ . وقد استدل به من لا يرى الحدَّ في التعريض ، وهو الشافعي ، ولا حخة له فيه لما ذكرناه ، والله تعالى أعلم .
كتاب العتق
ومن باب فيمن أعتق شركًا له في عبد
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أعتق شِرْكًا له في عبدٍ ، وكان له مال يبلغ ثمنَ العبد قوَّم عليه قيمة العدل ، فَأُعْطِي شركاؤه حِصَصَهم ، وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عَتَقَ منه ما عَتق )).
(13/126)
قلت : هذا الحديث من رواية مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ ، وهو أتقن ما روي عن نافع من ذلك ، وأكمله . فلنبحث عن كلماته . فـ(( من )) بحكم عمومها تتناول كُلَّ من يلزمه العتق . وهم المكلفون ، الأحرار ، المسلمون ، ذكرهم ، وأناثهم. فمن أعتق نصيبه منهم في مملوك مشترك نفذ عِتْقه في نصيبه ، وقوَّم عليه نصيب شريكه إن كان موسرًا ، ودفعت القيمة للشريك ، وكُمِّل على المبتدئ بالعتق . فلو أعتق من ليس بمكلف من صبي ، أو مجنون لم يلزمه العتق ، ولم يكمل عليه . وكذلك لو اعتق العبد بغير إذن سيده . فلو أذن له السيد أو أجاز انتقل الحكم إليه ، ولزمه العتق ، وكمل عليه .
وأما الكفار : فلا يصح العتق الشرعي منهم . إمَّا لأنَّهم غير مخاطبين بالفروع . وإما لأن صحة القرب الشرعية موقوفة على الإسلام . فلو كان العبد مسلمًا وسيداه نصرانيين ، فاعتق أحدهما كمل عليه ؛ لأنه حكم بين مسلم وذمي . وكذلك لو كان العبد وأحدُ سيديه نصرانيين ، فاعتق النصراني كمّل عليه لحقِّ المسلم على قول أشهب ، ومطرِّف ، وابن الماجشون. وفي "المختصر الكبير" : لا يقوَّم عليه . وقال ابن القاسم : إن كان العبد مسلمًا قوَّم عليه ، وإلا فلا ، بناءً على أن القُرْبَة لا تصحُّ منهم ، ولا يجبرون عليها .
و (( الشرك )) : النصيب . ومنه قوله تعالى : { وما لهم فيهما من شرك}. ويكون بمعنى : الشريك . لقوله تعالى : { جعلا له شركاء فيما آتاهما } ، ويكون بمعنى : الاشتراك ، كما جاء في حديث معاذ : أنه أجاز من أهل اليمن الشرك . يعني : الاشتراك في الأرض .
و (( الشَّقْصُ )) والشُّقَيْصُ : النصيب والجزء . والتشقيص : التجزئة.
و (( العبد )) : اسم للمملوك الذكر بأصل وضعه ، ومؤنثه : أمة - من غير لفظه - ، وقد حُحي : عبدةٌ . ولهذا قال إسحاق بن راهوية : إنَّ هذا الحديث إنّما يتناول ذكور العبيد دون إناثهم ، فلا يكمَّل على من أعتق شِرْكًا في أنثى .
(13/127)
وهو على خلاف الجمهور من السَّلف ، ومن بعدهم : فإنهم لم يفرِّقوا بين الذكر والأنثى ؛ إمَّا لأن لفظ العبد يُراد بهب الجنس ، كما قال تعالى : { إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا} ، فإنه يتناول(4) الذكر والأنثى من العبيد قطعًا . وإمَّا على طريق الإلحاق بنف يالفارق الذي هو القياس في معنى الأصل ، كما بينَّاه . ومن مراتبه عندنا كتابنا في أصول الفقه.
و (( المال )) هنا : هو ما يُتَموَّلُ ؛ أي : يتملك ، فيباع عليه كل ما يُباع على المفلس .
و (( الثمن )) : أراد به هنا القيمة . والتقويم : اعتبار مقدار ثمن العبد المعتق بعضُه . ولا يكون ذلك إلا من عارفٍ بقيم السِّلع ن موثوقٍ بدينه ، وأمانته ؛ لأنَّ التقويم فَصْل بين الخصوم ، وتمييز لمقادير الحقوق .
وظاهر هذا الحديث : أنَّه يقوَّم عليه كاملاً ، لا عتق فيه ، وهو المعروف من المذهب . وقيل : يقوَّم على أن بعضه حُرٌّ . والأول أصحُّ ؛ لأن جناية المعتق هي سبب تفويت مِلك الشَّريك ، فيقوَّم عليه على ما كان حال الجناية ، كالحكم في سائر الجنايات المفوتة ، وهل يعتبر قيمته يوم العتق ، أو يوم الحكم ؟ قولان . والثاني هو المشهور .
وقوله : (( فأُعْطِيَ شركاؤه حِصَصَهم )). الرواية : (( أعطي)) مبنيًّا للمفعول . (( شركاؤه )) مفعول لما لم يُسمِّ فاعله . وهو مُشْعرٌ بِجَبْرِ الْمُعتِق على الإعطاء ، وجَبْرِ الشَّرِيك على الأخذ . لكن إنكا يٌجْبَرُ الشَّريك إذا لم يَعْتِق حصَّتَه ، فلو أعتق لم يجبر على المشهور ، وسيأتي .
ويعني بقوله : (( حصصهم )) ؛ أي : قيمة حصصهم .
وقوله : (( وعتق عليه العبد )) ، (( عَتَق ))- بفتح العين والتاء ، مبنيًّا للفاعل ، واسم الفاعل : عتيق . ولا يقال مبنيًّا لما لم يسمِّ فاعله إلا بهمزة التعدية ، فيقال : أُعتِق ، فهو : مُعْتَق .
(13/128)
ويستفاد منه : أن من حكم عليه بالعتق نسب إليه ، وإن كان كارهًا. وإذا صحت نسبته إليه ثبت الولاء له ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما الولاء لمن أعتق )).
وظاهر هذا الحديث : أن العتق لا يكمل للعبد إلا بعد التقويم ودفع القيمة إلى الشريك . وهو مشهور قول مالك وأصحابه ، والشافعي في القديم ، وبه قال أهل الظاهر . وعليه فيكون حكم المعتق بعضه قبل التقويم والدفع حكم العبد مطلقًا . ولو مات لم يقوَّم على المعتق . ولو أعتق الشريك نفذ عتقه ، وكان الولاء بينهما .
وذهبت طائفة أخرى : إلى أن عتق البعض يسري إلى نصيب الشريك ، فيلزم التكميل على الأول إن كان موسرًا ، ولا يقف ذلك على تقويم ، ولا حكم ، ولا دفع . وإليه ذهب الثوري ، والأوزاعي ،
وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، ومالك ، والشافعي في قولهما الآخر.
وعلى هذا فيكون حكم المعتق بعضه حكم الأحرار مطلقًا من يوم العتق . ولو أعتق الشريك لم ينفذ عتقه . ولو مات العبد قبل التقويم ودفع القيمة مات حرًّا . ومتمسَّك هؤلاء حديث أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ الذي قال فيه : (( من أعتق شقصًا له في عبد فخلاصُه في ماله إن كان له مال )). وأظهر من هذا : ما رواه النسائي من حديث ابن عمر وجابر : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من أعتق عبدًا وله فيه شركاء ، وله وفاء فهو حُرٌّ ، ويضمن نصيب شركائه بقيمته لما أساء من مشاركتهم )).
(13/129)
قلت : وهذا التمسك ليس بصححيح لما يقتضيه النظر الأصولي . وذلك : أن هذه الأحاديث وإن تعدد رواتها ، وكثرت ألفاظها ؛ فمقصودها كلها واحد . وهو : بيان حكم من أعتق شركًا في عبدٍ ، فهي قضية واحدة . غير أن من ألفاظ الرواة ما هو مقيَّد ، ومنها ما هو مطلق ، فيحمل مطلقها على مقيدها . وقد اتفق الأصوليون على ذلك ، فيما إذا اتحدت القضية . وهذا من ذلك النوع المتفق عليه ، ثم إن هذا من باب الجمع بين الأحاديث الواردة في هذا المعنى . والجمع أولى من الترجيح إذا أمكن باتفاق أهل الأصول . ثم ظاهر ذلك اللفظ الأول : أنَّه لو وجد التقويم دون الإعطاء لم يكمل الإعتاق إلا بمجموعهما. وهو ظاهر حكاية الأصحاب عن المذهب ، غير أن سحنونًا قال : اجمع أصحابنا : على أن من أعتق شقصًا له في عبد إنَّه بتقويم الإمام عليه حُرٌّ بغير إحداث حكم . فظاهر هذا : أن نفس التقويم على الموسر موجب للحرية ، وإن لم يكن إعطاء ، وفيه بُعْدٌ ؛ لأن التقويم لو كان محصِّلاً للعتق للزم الشريك أن يتبع ذمة المعتق إذا أعسر بالقيمة بعد التقويم . وذلك لا يتمشى ؛ لا على القول بالشِّراية ، ولا على مراعاة التقويم فلا على قوله : (( وعتق عليه )).
وقوله : (( وإلا فقد عتق منه ما عتق )). ذكره مالك عن نافع على أنّه من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجزم بذلك . وهو الظاهر من مساق الحديث . فروايته أولى من رواية أيوب عن نافع ، حيث اضطرب في ذلك . فقال مرة : قال نافع : (( وإلا فقد عتق منه ما عتق )) ، ومرة قال : فلا أدري ، أشيء قاله نافع ، أم هو من الحديث ؛ لأن مالكًا جازم غير شاك ! وقد تابعه على ذلك جماعة من الحفاظ عن نافع كجرير بن حازم ، وعبيدالله ، وغيرهما.
(13/130)
وتضمَّن هذا الحديث : أنَّه لا بدَّ من عتق نصيب المعتق وتنفيذه موسرًا كان أو معسرًا . وهو مذهب كافة العلماء . وشذَّ آخرون ، فأبطلوا عتق ذلك الشقص إن كان معسرًا . وهو مصادمة للنص المذكور. وكأنَّه راعى حق الشريك بما يدخل عليه من الضرر بحرية الشقص . وهو قياس فاسد الوضع ؛ لأنه مخالف للنص . ويلزمه على هذا : أن يرفع الحكم بالحديث رأسًا ، فإنه مخالف للقياس ، حيث حكم الشرع بعتق حصة الشريك ، وإخراجها عن ملكه جبرًا ، فإن اعتذر عن هذا : بأن الشرع إنما حكم بذلك تعبدًا ، أو تشوفًا للعتق ، اعتذرنا بذلك عن تنفيذ عتق الشقص على المعتق المعسر.
وحاصله : أن مراعاة حق الله تعالى في العتق مقدَّمة على مراعاة(8) حقِّ الآدمي ، ولا سيما والعتق قد وقع على حصة المعتِق . وما وقع فالأصل بقاؤه .
وظاهر حديث ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ - وإن اختلفت طرقه ، وألفاظه - : أن المعتق إذا كان معسرًا لا يكلف العبد السعي في تخليص ما بقي منه ، وهو مذهب كافة العلماء ما عدا أبا حنيفة ؛ فإنَّه يجبر الشريك في العتق ، واستسعاء العبد ، متمسِّكًا في ذلك بما في حديث أبي هريرة من ذكر الاستسعاء الذي قال فيه : (( فإن لم يكن له مالٌ اسْتُسعِي العبد غير مشقوقٍ عليه )).
وقدر علماؤنا ذكر الاستسعاء المذكورفي هذا الباب بوجهين :
أحدهما : التأويل . وهو أن قالوا : معناه : أن يُكلَّف المتمسَّك بالرِّق عَبْدَه الخدمة على قدر ملكه ، لا زيادة على ذلك . ولفظ الاستسعاء قابل لذلك ؛ لأنه استدعاءٌ السعي ؛ الذي هو العمل . لكن لماذا ؟ هل لحق العتق ، أو لحق السَّيد ؟ الأمر محتمل ، ولا نصَّ ، غير أن تأويلنا أولى ؛ لأنه موافق للقواعد الشرعية ، وتأويلهم مخالف لها على ما نبينه إن شاء الله تعالى .
(13/131)
قلت : هذا معنى ما أشار إليه أصحابنا . وقد جاء في كتاب أبي داود ما يبطل هذا التأويل من حديث أبي هريرة . قال : (( فإن لم يكن له مال قوِّم العبد قيمة عدلٍ ، ثم يُستسعى لصاحبه في قيمته غيرمشقوق عليه )).
والوجه الثاني : الترجيح . وهو من أوجه :
الأول : أن سند حديثنا أقرب سندًا من حديثهم ، فتطرُّق احتمال الغلط إليه أبعد .
الثاني : أن حديثهم قد رواه شعبة ، وهشام ، وهمَّام موقوفًا على قتادة من قوله ، وفتياه. وحديثنا متفق على رفعه ، فكان أولى .
والثالث : أن حديثنا معمولٌ به عند أهل المدينة ، وجمهور العلماء . وحديثهم إنما عمل به أبو حنيفة وأصحابه من أهل ا لعراق ، فكيف تخفى سُنَّة على أهل المدينة ، وتظهر بالعراق ؟! وهذا في الاستبعاد والهذر ، كمستبضع التمر إلى هجر .
الرابع : أن حديثهم مخالف للأصول في حق السَيِّد والعبد ، أما في حق السيد : فإنه إخراج لملك عن مالك من غير عوض ولا تنجيز عتق جبرًا. وبيانه : أن مدَّة الاستسعاء تفوِّت على السيد منافع عبده ، وقد لا يحصل له شيء يعتق به ، فتفوت عليه منافع عبده لغير فائدة . وأما في حق العبد : فإن تكليفه السعي ليحصل له العتق في معنى الكتابة . والكتابة لا يجبر عليها العبد إذا لم يطلبها بالاتفاق بيننا وبينه . فالسعي لا يجبر عليه . وأيضًا فإن منع المالك من التصرف في ملكه ، وإدخال العبد فيما لا يريده مؤاخذات لهما بسبب جناية غيرهما الذي هو المعتق . ومن الأنسب الأحرى : أن لا تزر وازرة وزر أخرى . فقد ظهر بهذه الأوجه : أن حديث ابن عمر أولى وأوجه .
(13/132)
تنبيهان : الأول : ذهب بعض المتأخرين : إلى أن الحكم بالتكميل غير معلَّل ، وليس بصحيح . بل قد نصَّ الشرع على تعليله في الحديث الذي ذكرناه من حديث ابن عمر ، وجابر ، حيث قال فيه : (( من أعتق عندا وله فيه شركاء ، وله وفاء فهو حرٌّ ، ويضمن نصيب شركائه بقيمته ، لما أساء من مشاركتهم ، وليس على العبد شيء )). وإذا علل ذلك بسوء المشاركة فذلك موجود فيما إذا دبَّر بعض عبده ، فيكمِّل عليه التدبير بعد التقويم . وهذا أحد الأقوال في المذهب . أو لا يلحق به ذلك لمخالفة حكم الفرع حكم الأصل ؛ فإن حكم الأصل عتق ناجزٌ لازمٌ ، إمَّا في الجزء ، وإمَّا في الكلِّ . وفي الفرع تدبير قد لا يحصل منه شيء لإمكان لحوق الذين تركة السيد ، فيباع المدبَّر ، فلا يَكْمُل التدبير . وهو القول الثاني عندنا . وإذا لم يصحّ ذلك في التدبير فالكتابة أبعد ؛ لأنها مع توقع عجز المكاتب معاوضة . وعلى هذا : فتكون علَّه الحديث قاصرة ، والله أعلم .
الثاني : إن الشَّرع لَمَّا جبر الشَّريك على أخذ قيمة شقصه ، فَهِمَ العلماء من ذلك تشوُّف الشَّارِع إلى العتق . وإذا كان ذلك في ملك الغير كان أحرى وأولى في ملك نفسه . فإذا أعتق جزءًا من عبده كُمِّل عليه عتق جميعه . وهل بالسراية ، أو بالحكم ؟ قولان . القول بالسراية هنا أولى ؛ إذ لا حاجة إلى التقويم ، ولا إلى الحكم بخلاف الأصل ، فإن التقويم ثَمَّ أحوج إليه حق الشريك . وقد شذَّ بعض العلماء فمنع هذا الإلحاق ، وقصر وجوب التكميل على من أعتق شقصًا من مشترك . وكذلك شذَّ عثمان البَتِّيِّ فقال : لا شيء على المعتق إلا أن تكون جارية رائعة تراد للوطء ، فيضمن ما أدخل على صاحبه فيها من الضرر . وكذلك أيضًا شذَّ ابن سيرين ؛ فرأى القيمة في بيت المال . وشذَّ آخرون منهم زفر ، والبصريون ؛ فقالوا : يقوَّم على الموسر والمعسر ، ويُتّبع إذا أيسر . وهذه كلها أقوال شاذَّة مخالفة للنصوص والظواهر ، فلا يلتفت إليها .
(13/133)
ومن باب إنما الولاء لمن أعتق
حديث بريرة : حديث مشهور ، كثرت رواياته ، فاختلفت ألفاظه ، وكثرث أحكامه . وقد جمع ما فيه من الفوائد في أجزاء كتب فيه الطبري ستة أجزاء ، واستخرج غيره منه مائة فائدة . والتطويل ثقيل. فلنقتصر على البحث عن مضمون ألفاظه ، ومشكل معانيه على ما شرطناه من الإيجاز .
قول عائشة رضي الله عنها : (( دخلت علي بريرة فقالت : إن أهلي كاتبوني على تسع سنين ، في كل سنة أوقية )) ؛ دليلٌ على جواز كتابة المرأة المأمون عليها أن تكتسب بفرجها ، وعلى أن مشروعية الكتابة أن تكون مُنَجَّمة أو مُؤَجَّلة . وهو مشهور المذهب . ومن الأصحاب من أجاز الكتابة الحالَّة ، وسَمَّاها قطاعةً ، وهو القياس ؛ لأن الأجل فيها إنَّما هو فسحةٌ للعبد في التكسب ، ألا ترى : أنَّه لو جاء بالمنخم عليه قبل محله لوجب على السيد أن يأخذه ويتعجل المكاتب عتقه ؟!
والمكاتبة : مفاعلةٌ مِمَّا يكون بين اثنين ؛ لأنها معاقدة بين السيد وعبده . يقال : كاتب يكاتب ، كتابًا ، وكتابةً ، ومكاتبة . كما يقال : قاتل ، قتالاً ، ومقاتلة . فقوله تعالى : { والذين يبتغون الكتاب } ؛ يعني به : المكاتبة . وهي عند جمهور العلماء مستحبة ؛ لأن الله سبحانه أمر بها ، وجعلها طريقًا لتخليص الرقاب من الرِّق ، والأمر بها على جهة الندب عند الجمهور خلافًا لعطاء ، وعكرمة ، وأهل الظاهر ، تمسًّكا بأن ظاهر الأمر المطلق : الوجوب ، لكن الجمهور وإن سلموا ذلك الأصل الكلِّي ، قالوا : لا يصحُّ حمل هذا الأمر على الوجوب لأمور :
(13/134)
أحدها : أنَّه ظاهرٌ تُخالِفُه الأصول ، فيُتْرك لها ، وذلك : أن الإجماع منعقدٌ على أن السيد لا يجبر على بيع عبده ، وإن ضُوعف له في الثمن . وإذا كان كذلك كان أحرى وأولى ألا يخرج عن ملكه بغير عوض . لا يقال : الكتابة طريقٌ للعتق . والشَّرع قد تشوَّف للعتق ، فخالف البيع . فلا يقاس عليه ؛ لأنا نمنع أن يكون للشرع تشوُّف للعتق مطلقًا بل في محل مخصوص . وهو : ما إذا ابتدأ عتق الشقص ، وألزمه نفسه ، فتشوّف الشرع لتكميل الباقي . ولو اعتبرنا مطلق تشوّف الشرع للعتق للزم عتق العبد إذا طلبه مجانًا ، ولا قائل به .
الثاني : أن رقبة العبد وكسبه ملك لسيده ، فإذا قال العبد لسيده : خُذْ كسبي وأعتقني . كان بمنزلة قوله : أعتقني بلا شيء ، وذلك غير لازم. فالكتابة غير لازمة .
(( بريرة )) بفتح الباء بواحدة من تحتها ، وكسر الراء المهملة ، على وزن فعيلة ، من البِرِّ . ويحتمل أن تكون بمعنى : مفعولة ؛ أي : مبرورة ، كأكيلة السبع ؛ أي : مأكولة . ويحتمل أن تكون بمعنى : فاعلة ؛ كرحيمة بمعنى : راحمة .
وظاهر قولها : (( إن أهلي كاتبوني على تسع أواق )) : أن الكتابة قد كانت انعقدت ، وصحَّت . وأن ذلك ليس بمراوضة على الكتابة . وعند هذا يكون مع ما وقع من شراء عائشة لها بإذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظاهرًا في جواز فسخ الكتابة ، وبيع المكاتب للعتق ، كما قد صار إليه طائفة من أهل العلم . وأما من لم يجز ذلك ، وهم الجمهور ، فأشكل عليهم الحديث ، وتحزّبوا في تأويله ؛ فمنهم من قال : إن الكتابة المذكورة لم تكن انعقدت ، وأن قولها : (( كاتبت أهلي )) معناه : أنها راوضتهم عليها . وقذروا مبلغها وأجلها ، ولم يعقدوها . وقد بيَّنَّا : أن الظاهر خلافه . بل إذا تُؤمِّل مساقُ الحديث مع قولها : (( فأعينيني )) ، وجواب عائشة رضي الله عنها ؛ قطع بأنها قد كانت عقدتها ، وأن هذا التأويل فاسد .
(13/135)
ومنهم من قال : إن المبيع الكتابة ، لا الرقبة . وهذا فاسدٌ ؛ لأن من أجاز بيع الكتابة لم يجعل بيع الولاء لمشتري الكتابة ، بل لعاقدها . وأشبه ما قيل في ذلك : أن بريرة عجزت عن الأداء ، فاتفقت هي وأهلها على فسخ الكتابة . وحينئذ صحَّ البيع ، إلا أن هذا إنما يتمشى على قول من يقول : إن تعجيز المكاتب غير مفتقر إلى حكم حاكم إذا اتفق السيد والعبد عليه ؛ لأن الحق لا يعدوهما ، وهو المذهب المعروف . وقال سحنون : لا بدَّ من السلطان. وهذا : إنما خاف أن يتواطئا على ترك حق الله تعالى . وهذه التهمة فيها بَعُدَ ، فلا يلتفت إليها . ويدلُّ على أنها عجزت : ما وقع في الأصل من رواية ابن شهاب ، حيث قال : إن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ، ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا ، فقالت لها عائشة رضي الله عنها : ارجعي إلى أهلك ؛ فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك فعلت . فظاهر هذا : أن جميع كتابتها أو بعضها استحقت عليها ؛ لأنه لا يقضى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به ، والله أعلم .
الولاء : نسبةٌ ثابتةٌ بين المعتِق والمعتَق ، تشبه النسب ، وليس منه . ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الولاء لحمة كلحمة النسب )). ووجه ذلك ما قد نبهنا عليه فيما تقدَّم . وبيانه : أن العبد في حكم المفقود لنفسه ، والْمُعْتِق يُصَيِّره موجودًا لنفسه ، فأشبه حال الولد مع الوالد. ولهذا أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه ، فيعتقه )). فإذا ثبتت هذه النسبة ترتب عليها من الأحكام الشرعية ما يترتب على النَّسب ، لكنه متأخر عنه ، فمهما وُجد نسب كان هو المتقدِّم على الولاء .
ثم إن الأحكام لا تثبت بينهما من الطرفين ، بل من طرف المعتق ؛ لأنه المتعم بالعتق ، والْمُعتَق مُنْعَم عليه ، فلا جرم : يَرِثُ المعتِق المعتَق ، ولا ينعكس اتفاقًا فيما أعلم . وعلى هذا : فيلي المعتق على بنات مُعْتَقِه ، ولا ينعكس على المشهور الصحيح . وقيل : ينعكس .
(13/136)
وقولها : (( إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين )) ؛ هكذا صحَّ في رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة . وقد ذكر البخاري تعليقًا من حديث يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة : قالت عائشة : ((إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها ، وعليها خمس أواق نُجِّمت عليها في خمس سنين )). وظاهره تعارض ، غير أن حديث هشام أولى ؛ لاتصاله وانقطاع حديث يونس ؛ ولأن هشامًا أثبت في حديث أبيه وجدَّته من غيره . ويحتمل أن تكون هذه الخمس الأواقي هي التي استُحِقَّت عليها بحلول نجومها من جملة التسع الأواقي المذكورة في حديث هشام . وقد بيَّنَّا فيما تقدَّم مقدار الأوقية .
وقول عائشة لبريرة في حديث هشام : (( إن شاء أهلك أن أَعُدَّها لهم عَدَّةً واحدةَ ، وأُعْتِقَك ، ويكون ولاؤكِ لِي فَعَلْتُ )). وفي حديث يونس عن ابن شهاب : أنها قالت لها : (( أرأيت إن عددت لهم عدَّة واحدة ، أيبيعك أهلك فأعتِقَكِ ، ويكون ولاؤكِ لِي )) ؛ ليس بتعارض بين الروايتين ، وإنما هو نقلٌ بالمعنى على عادتهم الأكثرية في ذلك . وفيه دليل على صحَّة ما قلناه : أنها إنما اشترتها للعتق مع إمكان أن يكون ذلك عند عجزها عن أداء ما تَعَيَّن عليها من الكتابة .
وقول عائشة : (( فانتهرتها )) ؛ يعني : أنها عظم عليها أن تشتريها
بمالها لتعتقها ، ثم يكون ولاؤها لمن باعها ، وأخذ ثمنها . فبأي طريق يستحق الولاء ، ولا طريق له يستحقه به !
(13/137)
ثم وقع بعد قول عائشة : (( فانتهرتها )) ، فقالت : (( لا ها الله إذًا )). كذا لأكثر الرواة : (( فقالت )) وظاهره : أن هذا قول بريرة أجابت به عائشة لما انتهرتها مستلطفة لها ، ومُسكّنة . فكأنها قالت : فإذا كان ذلك ، يعني : موجدة عائشة. فلا أستعينك على شيء . ويحتمل أن يكون الراوي أخبر به عن عائشة ، ويؤيده ما قد وقع في بعض النسخ : ((فقلت )) مكان (( قالت )) ، وعلى هذا : فيكون من قول عائشة ، ويكون معناه : أن أهل بريرة لما أبوا إلا اشتراط الولاء لهم امتنعت من الشراء والعتق ؛ لأجل الشرط ، وأقسمت على ذلك بقولها : (( لا ها الله إذًا )). والرواية المشهورة في هذا اللفظ : (( هاء )) بالمد والهمز ، و(( إذًا )) بالهمز والتنوين ، التي هي حرف جواب . وقد قيّده العذري ، والهوزني بقصرها ، وبإسقاط الألف من (( إذًا )) ، فيكون : (( ذا )). واستصوب ذلك جماعة من العلماء ، منهم : القاضي إسماعيل ، والمازري ، وغيرهما. قالوا : وغيره خطأ . قالوا : ومعناه : ذا يميني . وصوَّب أبو زيد وغيره المدّ والقصر . قال : و(( ذا )) صلة في الكلام . وليس في كلامهم : (( لا ها الله إذًا )). وفي "البارع" : قال أبو حاتم : يقال : (( لا ها الله )) جاء في القسم ، والعرب تقوله بالهمز ، والقياس تَرْكُه . والمعنى : لا والله ، هذا ما أقسم به . فأدخل اسم الله بين (( ها )) و(( ذا )). انتهى كلامهم .
قلت : ويظهر لي : أن الرواية المشهورة صوابٌ ، وليست بخطأ . ووجه ذلك : أن هذا الكلام قسم على جواب إحداهما للأخرى على ما قررناه آنفًا . والهاء هنا : هي التي يعوَّض بها عن تاء القسم ، فإن العرب تقول : الله لأفعلنَّ - ممدودة الهمزة ، ومقصورتها - ، ثم إنهم عوَّضوا من الهمزة (( هاء )) فقالوا : ها الله ؛ لتقارب مخرجيهما ، كما قد أبدلوها منها في قولهم :
ألا ياسَنَا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمَى لِهَنَّك مِنْ بَرْقٍ عليَّ كريم
وقالوا :
(13/138)
فهيَّاك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك مصادره
ولَمَّا كانت الهاءُ بدلاً من الهمزة ، وفيها المدُّ والقصر ، فالهاء تمدُّ وتقصر ، كما قد حكاها أبو زيد . وتحقيقه أن الذي مدَّ مع الهاء كأنَّه نطق بهمزتين أبدل من إحداهما ألفًا استثقالاً لاجتماعهما ، كما تقول : آلله . والذي قصر كأنَّه نطق بهمزةٍ واحدةٍ ، فلم يحتج إلى المدِّ ، كما تقول : الله .
وأما (( إذ )) فهي بلا شك حرف جواب ، وتعليل . وهي مثل التي وقعت في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر ، فقال : (( أينقص الرطب إذا يبس ؟ )) ، فقالوا : نعم . قال : (( فلا إذًا )). فلو قال : فلا والله إذًا ، لكان مساويًا لهذه من كل وجهٍ ، لكنَّه لم يحتج إلى القسم ، فلم يذكره . وقد بيَّنَّا تقدير المعنى ، ومناسبته ، واستقامته معنى ووضعًا من غير حاجة إلى ما تكلُّفه من سبقت حكاية كلامه من النحويين من التقدير البعيد المخرج للكلام عن البلاغة. وأبعدُ من هذا كلِّه وأفسد : أن جعلوا (( الهاء )) للتنبيه و(( ذا )) للاشارة ، وفصلوا بينهما بالمقسم به . وهذا ليس قياسًا فيطرد ، ولا فصيحًا فيحمل عليه كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا مرويًا براوية ثابتة . وما وجد للعذري من ذلك فإصلاح منه ، أو من غيره ، ممن اغترّ بما حكي عمَّن سبق ذكرهم من اللغويين . والحق أولى مطلوب . والتمسُّك بالقياس المنقول أجل مصحوب . فالصحيح رواية المحدثين والله خير معين. والله أعلم .
وقول أبي زيد : ليس في كلامهم : (( لا ها الله إذًا )) شهادةٌ على نفي فلا تسمع . وثَمَّ تعارضه بنقل أبي حاتم : أنه يقال : (( لا ها الله )) وليس كل ما يقتضيه القياس نوعًا يجب وجودُ جميع أشخاصه وضعًا.
(13/139)
وقولها : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( واشتريها ، وأعتقيها ، واشترطي لهم الولاء )) ؛ هذه اللفظة التي هي : (( واشترطي لهم الولاء )) لفظة انفرد بها هشام . والرواة كلهم لهم لا يذكرونها . وهي مشكلة . ووجه إشكالها : أن ظاهره : أثه أمرها باشتراط ما لا يجوز ، ولا يصحّ ، ولا يلزم لمن لا يعلم ذلك ليتتم البيع ، وذلك حَمْل على ما لا يجوز ، وغشٌّ ، وغرر لمن لا يعلم ذلك . وكل ذلك محال على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ولَمَّا وقع هذا الإشكال العظيم تحزَّب العلماء في التخلص منه أحزابًا. فمنهم من أنكر هذه الرواية عن هشام من حيث انفرد بها عن الحفاظ . وهو : يحيى بن أكثم . والجمهور على القول بصحَّة الحديث ؛ لأن هشامًا ثقة ، حافظ ، إمام . ثم قد روى هذا الحديث الأئمة عنه ، وقبلوه ، كمالك وغيره مع تَحَّرزهم ، وتقدهم ، وعلمهم بما يُقْبَلُ وبما يُرَدُّ ، وخصوصًا أمير المؤمنين بالحديث مالك بن أنس. فقد أخذه عنه ، ررواه عُمُرَه لجماهير الناس ، ولا إنكار منه ، ولا نكير عليه . فصار الحديث مُجْمَعًا على صحته . ولَمَّا ثبت ذلك رام العلماء القابلون للحديث التخلُّص من ذلك الإشكال بإبداء تأويلاتٍ ، أقربها أربعة :
الأول : أن قوله : (( واشترطي لهم الولاء )) ؛ أي : عليهم . كما قال تعالى : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسك وإن أسأتم فلها }(8) ؛ أي : عليها . ومنه قوله : { أولئك لهم اللعنة }(9) ؛ أي : عليهم .
الثاني : أن قوله : (( اشترطي )) لم يكن على جهة الإباحة ، لكن على جهة التنبيه على أن ذلك الشرط لا ينفعهم ، فوجوده وعدمه سواء . فكأنه يقول : اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم . وقد قوَّى هذا الوجه ما جاء من رواية أيمن المكي عن عائشة : (( اشتريها ودعيهم يشترطون )).
(13/140)
الثالث : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد كان أعلم بأن اشتراط البائع الولاء باطل ، واشتهر ذلك ، بحيث لا يخفى على هؤلاء ، فلمَّا أرادوا أن يشترطوا لما علموا بطلانه أطلق صيغة الأمر مريدًا بها التهديد على مآل الحال ، كما قال تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } ، فكأنه يقول : اشترطي لهم ، فسيعلمون : أن ذلك لا يفيد . ويؤيِّده قوله في حين خطبهم : (( ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ؟! من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق )). فتوبيخهم بمثل هذا القول يدلُّ على ما كان قد تقدَّم بيانه لحكم الله تعالى بإبطاله ، إذ لو لم يتقدَّم بيان ذلك لبدأ الان ببيان الحنهم لا بتوبيخ الفاعل ، لأثه باق على البراءة الأصلية . وهذه التأويلات الثلاث لعلمائنا .
الرابع : ما قاله الطحاوي : من أن الشافعي روى هذه اللفظة عن مالك عن هشام بن عروة بإسناده ، ولفظه ، وقال فيها : (( واشرطي لهم الولاء )) - بغير تاء - ، وقال : معناه : أظهري لهم حكم الولاء ؛ لأن الاشراط هو : الإظهار في كلام العرب . قال أوس بن حُجْر :
فأشرط فيها نفسه وهو معلم وألقى بأسباب له وتوكلاً
يعني : أظهر نفسه لما حاول أن يفعل .
قلت : وهذه الرواية مما انفرد بها الشافعي عن مالك ، والجمهور من الأئمة الحفاظ على ما تقدم من ذلك .
وقوله : (( من شرط شرطًا ليس في كتاب الله ، فهو باطل )) ؛ أي : ليس مشروعًا في كتاب الله لا تأصيلاً ولا تفصيلاً . ومعنى هذا : أن من الأحكام والشروط ما يوجد تفصيلها في كتاب الله تعالى ؛ كالوضوء ، وكونه شرطًا في صحة الصلاة . ومنها : ما يوجد فيه أصله ، كالصلاة ، والزكاة ، فإنهما فيه مجملتان . ومنها : ما أصل أصله . وهو كدلالة الكتاب على أصلية السُّنة والإجماع والقياس . فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلاً فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلاً ، كما قد بيَّناه في أصول الفقه .
(13/141)
وعلى هذا فمعنى الحديث : أن ما كان من الشروط مما لم يدل على صحته دليلٌ شرعيٌ كان باطلاً ؛ أي : فاسدا مردّودًا. وهذا كما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الصحيح : (( من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو ردٌّ )). وفي هذا من الفقه ما يدلُّ على أن العقود الشرعية إذا قارنها شرط فاسدٌ بطل ذلك الشرط خاصة ، وصحَّ العقد . لكن هذا إنما يكون إذا كان ذلك الشرط خارجًا عن أركان العقد ، كاشتراط الولاء في الكتابة ، واشتراط السَّلف في البيع . فلو كان ذلك الشرط مخلاًّ بركن من أركان العقد ، أو مقصودًا ؛ فسخ العقد والشرط . وسيأتي لهذا مزيد بيان في حديث جابر ، إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( ولو كان مائة شرط )) ؛ خرج مخرج التكثير ؛ يعني : أن الشروط غير المشروعة باطلة ولو كثرت . ويفيد دليل خطابه : أن الشروط المشروعة صحيحة ، كما قد نصَّ عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : ((المؤمنون على شروطهم ، إلا شرطًا أحل حرامًا ، أو حرَّم حلالاً )) خرَّجه الترمذي من حديث عمرو بن عوف ، وقال : حديث حسن.
وقوله : (( كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق )) ؛ أي : حكم الله . كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الآخر - لَمَّا قال له الخصم : اقض بيننا بكتاب الله تعالى- فقال : (( لأقضين بينكما بكتاب الله )) ، ثم قضى على الزاني البكر بالجلد والتغريب ، وعلى الزانية الثيب بالرجم . وليس التغريب والرجم موجودين في كتاب الله تعالى . لكن في حكم الله المسمَّى بالسُّنة ، وكذلك اختصاص الولاء بالمعتق ليس موجودًا في كتاب الله ، لكن في حكم الله به على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يسمَّى سُنَّة .
(13/142)
وقوله : (( إنما الولاء لمن أعتق )) ؛ هذا حصر للولاء على من باشر العتق بنفسه من كان من رجل أو امرأة ممن يصح منه العتق ، ويستقل بتنفيذه. وقوة هذا الكلام قوة النفي والإيجاب . فكأنه قال : لا ولاء إلا لمن أعتق . وإيَّاه عنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( شرط الله أوثق )) ، في أصحِّ الأقوال وأحسنها . وقال الداودي : هو قوله تعالى : { فإخوانكم في الدين ومواليكم } ، { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه} ، وقال : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ، وقال : {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(9).
وهو حجة على أبي حنيفة وأصحابه القائلين : بأن من أسلم على يديه رجل فولاؤه له . وبه قال الليث ، وربيعة ، وعلى إسحاق في حكمه بثبوت الولاء بالالتقاط . وعلى أبي حنيفة في حكمه بثبوت الولاء بالموالاة . ولمن قال : إن من أعتق عبده عن غيره أو عن المسلمين إن ولاءه للمعتق. وإليه ذهب ابن نافع فيمن أعتق عن المسلمين . ويلزمه فيمن أعتق عن غيره مطلقًا . وخالفه في ذلك مالك ، والجمهور ، متمسكين بأن مقصود الحديث بيان حكم من أعتق عن نفسه بدليل اتفاق المسلمين : على أن الوكيل عن العتق معتق . ومع ذلك فالولاء للمعتق عنه إجماعًا ، فكذلك حكم من أعتق عن الغير ، وتقدره الشافعية أنه مَلَكَه ثم ناب عنه في العِتْق . وأما أصحابنا فإنهم قالوا : لا يحتاج إلى تقدير ذلك ؛ لأنه يصح العتق عن الميت ، وهو لا يملك . وفيه نظر ، فإنه إن لم يُقَدَّر الملك لزم منه هبة الولاء . وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع الولاء ، وعن هبته. وإن قُدَّر الملك لم يصح العتق عن الميت ؛ لأنه لا يملك . ويُتَخَلَّص عن هذا الإشكال ببحث طويل لا يليق بما نحن بصدده.
ومسائل هذا الباب وفروعه كثيربر ، لكن نذكر منها ما لها تعلُّق قريب بالحديث الذي ذكرناه ، وهي ثماني مسائل :
(13/143)
الأولى : جواز كتابة من لا مال له ولا صنعة . فإن بريرة كانت كذلك . وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، والثوري ، غير أن مالكًا في المشهور كره كتابة الأنثى ؛ التي لا صنعة لها . وكرهها أيضًا الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق . وروي مثله عن ابن عمر.
وهذا كلُّه يدل على أن (( الخير )) في قوله تعالى : { إن علمتم فيهم خيرًا} لم يرد به المال ، بل : الدين ، والأمانة ، والقوة على الكسب . وقد ذهب قوم إلى أنه المال ، فمنعوا ما أجازه المتقدمون ، والحديث حجة عليهم .
الثانية : إن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه شيء من الكتابة . وهو قول عامَّة العلماء ، وفقهاء الأمصار. وحكي عن بعض السلف : إنه بنفس عقد الكتابة حرٌّ ، وهو غريم بالكتابة ، ولا يرجع إلى الرِّق أبدًا . وحكي عن علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ : إنه إن عجز عتق منه بقدر ما أدَّى . وحكي عن عمر ، وابن مسعود ، وشريح : أنه إذا أدَّى الثلث من كتابته ، فهو حرٌّ وغريم بالباقي . وعن بعض السَّلف : الشَّطْر . وعن عطاء : مثله ؛ إذا أدَّى الثلاثة الأرباع . وقد روي عن ابن مسعود ، وشريح مثله ؛ إذا أدَّى قيمته . وأضعف هذه الأقوال قول من قال : بعقد الكتابة يكون حرًّا ، وغريِمًا بالكتابة ، فإن حديث بريرة هذا يردُّه ، وكذلك كتابة سلمان ، وجويرية ؛ فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم لجميعهم بالرِّق حتى ودُّوا الكتابة .
وهذه الأحاديث أيضًا حجة للجمهور على أنَّ المكاتَب على حكم
الرِّق ما بقي عليه شيء منها ؛ مع ما رواه النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( المكاتب عبدٌ ما بقي عليه من كتابته درهم )). وقد روى نحوه النسائي أيضًا من حديث عطاء الخراساني ، عن عبد الله بن عمر .
والصحيح موقوف على ابن عمر . وقد رُوي مثله عن عمر ، وزيد
ابن ثابت ، وعائشة ، وأم سلمة . ومثل هذا لا يقوله الصحابي من رأيه ، فهو إذًا مرفوع .
(13/144)
وأما أقوال السلف ؛ فأشبه ما فيها قول علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ ، ويشهد له ماخرَّجه النسائي أيضًا عن ابن عباس ، وعلي رضي الله عنهم ، عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أنه قال : (( المكاتب يعتق منه بقدر ما أدَّى ، ويقام عليه الحد بقدر ما وَدَى ، ويرث بقدر ما عتق منه )). وإسناده صحيح . ويعتضد بما رواه الترمذي عن أم سلمة قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا كان عند مكاتب إحداكن ما يؤدِّي فلتحتجب منه )). قال : حديث حسن صحيح .
قلت : وظاهره أنَّ هذا خطاب مع زوجاته ؛ أخذًا بالاحتياط ، والورع في حقهنَّ ، كما قال لسودة : (( احتجبي منه )). مع أنه قد حكم بإخوتها له ، وبقوله لعائشة وحفصة : (( أفعمياوان أنتما ؟! ألستما تبصرانه ؟)) يعني : ابن أم مكتوم ، مع أنه قد قال لفاطمة بنت قيس : ((اعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى ، تضعين ثيابك عنده )).
الثالثة : حديث بريرة - على اختلاف طرقه ، وألفاظه - يتضمن : أن بريرة وقع فيها بيع بعد كتابة تقدَّمت ، فاختلف الناس في بيع المكاتب بسبب ذلك .
فمنهم من أجازه إذا رضي المكاتب بالبيع ، ولو لم يكن عاجزًا. وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبرّ . وبه قال ابن شهاب ، وأبو الزناد ، وربيعة . غير أنهم قالوا : لأن رضاه بالبيع عجزٌ منه.
ومنهم من قال : يجوز بيعه على أن يمضي في كتابته ؛ فان أدَّى عتق ، وكان ولاؤه للذي ابتاعه . ولو عجز فهو عبدٌ له . وبه قال النخعي ، وعطاء ، والليث ، وأحمد ، وأبو ثور .
(13/145)
ومنهم من منع بيع المكاتب إلا أن يعجز. وبه قال مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم . وأجاز مالك بيع الكتابة ، فإن أدَّاها عتق ، وإلا كان رقيقًا لمشتري الكتابة . ومنع ذلك أبو حنيفة لأته بيع غرر . واختلف قول الشافعي في ذلك بالمنع والإجازة . وكل هذا الخلاف سببه اختلاف فُهومهم في حديث بريرة وقواعد الشريعة ، وقد قدمنا : أن الأظهر من الحديث جواز بيع المكاتب للمعتق ، وهو أحسنها ؛ لأنه الأظهر من الحديث ، والأنسب لقواعد الشرع ؛ لأن الكتابة عقد عتق على شرط عمل أو مال ، وقد يحصل ذلك أو لا يحصل. وبيعه للعتق إسقاط لذلك الشرط ، وتنجيز للعتق . والله أعلم .
والولاء للمشتري ؛ لأن عقد الكتابة قد انفسخ .
المسألة الرابعة : اتفق المسلمون على أن المكاتب إذا حلَّ عليه نجم أو أكثر ، فلم يطالبه سيده بذلك ، وتركه على حاله ؛ أن الكتابة لا تنفسخ ما داما على ذلك . واختلفوا فيما إذا كان العبد قويًا على السعي والأداء. فقال مالك : ليس له تعجيز نفسه إذا كان له مال ظاهر ، وإن لم يظهر له مال كان له ذلك . وقال الأوزاعي : لا يُمَكَّن من تعجيز نفسه إذا كان قويًّا على الأداء . وقال الشافعي : له أن يعجز نفسه ؛ علم له مال أو قوة ، أو لم يعلم . وإذا قال : قد عجزت ، وأبطلت الكتابة ، فذلك إليه .
(13/146)
قلت : والصحيح : أن الكتابة لا سبيل إلى إبطال حكمها ما أمكن ذلك ؛ لأنها إما أن تكون عقدًا بين السيد وعبده ، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود ، وإما وعدًا بالعتق وعهدًا ، فقد قال الله تعالى : { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلاً} ، وإما عتقًا على شرط يمكن تحصيله ؛ فيجب الوفاء به ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المؤمنون على شروطهم )) ، ولأنه لو علَّق عتقه على أجل يأتي ، أو على أمرٍ يحصل لزمه العقد ، وحصل العتق عند حصول ذلك الشرط ، فكذلك عقد الكتابة . ويستثنى من هذا بيعه للعتق ، كما بيَّناه . وإذا كان كذلك ، فلا يقبل من السيد ، ولا من العبد دعوى العجز حتى يتبين بالطرق المعتبرة في ذلك .
المسألة الخامسة : إذا عجز العبد وكان السيد قبض منه بعض نجوم الكتابة حلَّ ذلك للسيد ، سواء كان ذلك من صدقة على المكاتب أو غيرها ، ولا رجوع للمكاتب بذلك ، ولا لمن أعطاه على وجه فكاك الرقبة . هذا قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما ، وأحمد بن حنبل ، ورواية عن شريح ، ومالك ، غير أنه قال : إن ما أُعينَ به - على جهة فك رقبته - : لا يحل للسيد ، ويرد على ربه . أوقال إسحاق : ما أعطي بحال الكتابة ردَّ على أربابه . وقال الثوري : يجعل السيد ما أعطاه في الرقاب . وهو قول مسروق ، والنخعي ، ورواية عن شريح .
قلت : وما قاله مالك ظاهر ، لا إشكال فيه .
المسألة السادسة : فيه دليل على أن بيع الأمة ذات الزوج لا يوجب طلاقها . وعليه فقهاء الأمصار . وقد روي عن ابن عباس ، وابن مسعود : أنه طلاق لها . والعجب من ابن عباس أنه أحد رواة حديث
بريرة ، ومع ذلك : فلم يقبل بما روى من ذلك .
المسألة السابعة : والولاء- وإن لم يوهب ولم يبع- يصح فيه الجرُّ في صورتين :
(13/147)
أحدهما : هي التي قال فيها مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا في ولد العبد من امرأة حُرَّة : أن الحرَّ - أبا العبد - يجرُّ ولاءَ ولد ابنه الأحرار من امرأةٍ حرَّة ، ويرثهم ما دام أبوهم عبدًا ، فإن أٌعتِقَ أبوهم رجع الولاء إلى مواليه ، وإن مات وهو عبد كان الولاء والميراث للجد .
وأما الصورة الثانية : فاختلف أهل العلم في انتقال الولاء الذي قد ثبت لموالي المة المعتقة في بنيها من الزوج العبد إن أعتق . فروي عن جماعة من العلماء : أن ولاءهم لموالي أمهم ، ولا يجره الأب إن أُعتق. وروي ذلك عن ابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة بن خالد ومجاهد ، وابن شهاب وقبيصة بن ذؤيب ، وقضى به(3) عبدالملك بن مروان في آخر خلافته ، لما بلغه قضاء عمر به ، وكان قبلُ يقضي بقضاء مروان : أن اولاء يعود إلى موالي أبيهم ، وبهذا القول قال مالك ، والوزاعي ، وأبو حنيفة ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .
المسألة الثامنة : ولاء السائبة - وهو : الذي بقول له معتقه : أنت عتيق سائبة ، أو أنت مُسيَّب ، أو ما أشبهه - : للمسلمين عند مالك ، وجُلّ أصحابه . لا للذي أعتقه . وليس للمعتق أن يوالي من شاء . وبه قال عمر بن عبدالعزيز ، وروي عن عمر .
وقال ابن شهب ، ويحيى بن سعيد ، والأوزاعي ، والليث : إنه يوالي من شاء ، وإلا فللمسلمين. وكان الشعبي وإبراهيم يقولان : لا بأس ببيع ولاء السائبة وهبته . وقال أبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهما ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود : هو لمعتقه لا لغيره ، ولا يوالي أحدًا .
ومن باب كان في بريرة ثلاث سنن
(13/148)
قول عانشة رضي الله عنها : (( كان في بريرة ثلاث قضيَّات )) ؛ تعني به : أن هذه الثلاث هي أظهر ما في حديثها من القضايا والسُّنن ، وإلا فقد تبيَّن : أن فيه من ذلك العدد الكثير ، حتى قد بلغت سننه إلى مائةٍ أو أكثر. ويحتمل أن يكون تخصيصها هذه الثلاث بالذكر ؛ لكونها أصولاً لما عداها مِمَّا تضمنه الحديث ، أو لكونها أهم ، والحاجة إليها أمسّ . والله أعلم .
فأحد القضيَّات الثلاث : عتقها . والثانية : تخييرها . والثالثة : أَكْلُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِمَّا تُصدِّقَ به عليها .
(13/149)
وقولها : (( وعتقت فخيرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاختارت نفسها )) ؛ هذه الرواية فيها إجمال وإطلاق . وقد زال إجمالها ، وتقيَّد إطلاقهأ بالروايتين المذكورتين بعدها . فإن فيهما : أن بريرة كان لها زوج حين أعتقت ، وأن زوجها كان عبدًا . ومقتضى هذا الحديث بقيوده مجمعٌ عليه ؛ وهو : أن الأمة ذات الزوج العبد إذا أُعتِقت مخيرةٌ في الرِّضا بالبقاء مع زوجها أو مفارقته ؛ لشرف الحرّيه الذي حصل لها على زوجها ، ولدفع مضرَّة المعرَّة اللاحقة لها بملك العبد لها . ولَمَّا كان هذا راجعًا لحقها ، لا لحق الله تعالى : خيّرها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أن تأخذ بحقها فتفارقه ، أو تسقطه ؛ فترضى بالمقام معه . وعلى هذا : فلو كان زوجها حرًّا لم يكن لها خيار للمساواة بينهما ، ولنفي الضرر اللاحق بها . وهذا مذهب جمهور العلماء. وقد شذَّ أبو حنيفة ، فأثبت لها الخيار ، وإن كان زوجها حرًّا ؛ متمسِّكًا بما قال الحكم : إن زوج بريرة كان حرًّاء ، وكذلك قال الأسود. وكلاهما لا يصح . قال البخاري : إن قول الحكم مرسل ، وقول الأسود منقطع ، قال : وقول ابن عباس : (( كان عبدًا )) أصح . وكذلك رواه جماعة عن يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن عائشة : أنه كان عبدًا . وهو الصحيح عنها . وقد تمسَّك أيضًا أبو حنيفة بما تخيَّله من أن علَّة تخيير بريرة كونها كانت مجبورة على النكاح ، فلما عتقت ملكت نفسها. وهو مطالب بدليل اعتبار هذه العلَّة . وقد يتمسَّكون في ذلك بزيادة في حديث بريرة غير ثابتة فيه ، ولا مشهورة . وهي : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لبريرة : ((ملكت نفسك فاختاري )) ، ولو ستمنا صحتها ، لكن لانسلم : أن الفاء هنا للتعليل ، بل هي لمجرد العطف ، سلمنا أنها ظاهرة فيه ، لكن عندنا الإجماع على عدم اعتبار تلك العلَّة في ولاية الإجبار على الأصاغر . وذلك : أنهم يلزمهم ما عقد عليهم في حال صغرهم ذكرانًا كانوا أو إناثًا إذا زال حجرهم ، واستقلوا لأنفسهم ، ولا خيار يثبت بالإجماع . لا يقال : (13/150)
بينهما فرق . وهو : أن جبر الأمة للرق ، وجبر الحرة للصغر ؛ لأنا نقول : ذلك الفرق صوري ، خلي عن المناسبة ؛ إذ الكل ولاية إجبار ، وقد ارتفع في الصورتين ، فيلزم تساويهما في الخيار فيهما ، أو في عدمه . والله أعلم .
قلت : وقد خرَّج البخاري حديث بريرة هذا عن ابن عباس فقال فيه : إن زوج بريرة كان عبدًا ، يقال له : مغيث ، كأني أنظر إليه خلفها يطوف يبكي ، ودموعه تسيل على لحيته ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((لو راجعتيه)) قالت : يا رسول الله ! تأمرني ؟ قال : (( إنما أشفع )). قالت : فلا حاجة. وزاد عليه أبو داود : أوأمرها أن تعتد . وزاد الدارقطني : عدة الحرَّة . وخرَّجه أبو داود من حديث عائشة فقال : إن بريرة عتقت وهي تحت مغيث - عبد لآل أبي أحمد - فخيرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : (( إن قَرُبَكِ فلا خيار لك )).
وهذه الطرق فيها أبواب من الفقه زيادة على ما ذكره مسلم .
فمنها : جواز إظهار الرجل محبة زوجته . وجواز التذلل والرغبة والبكاء بسبب ذلك ؛ إذ لم ينكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مغيث شيئًا من ذلك ، ولا نبَّهَهُ عليه .
وفيه : جواز عرض الاستشفاع ، والتلطف فيه ، وتنزل الرجل الكبير للمشفوع عنده ؛ وإن كان نازل القدر .
وفيه ما يدلُّ على فقه بريرة حيث فزتث بين الأمر والاستشفاع ، وأن أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان محمولاً عندهم على الوجوب ، بحيث لا يُرَدُّ ، ولا يُخَالَف .
وفيه : النصوص : على أن الزوج كان عبدًا .
وفيه : ما يدلُّ على أن تمكين المخيرة من نفسها طائعة يُبْطل خيارها. ويفهم منه : أن كل من له الخيار في شيء فتصرف فيه تصرُّف الْمُلاك مختارًا ، إنه قد أسقط خياره .
وفيه : جواز تصريح المرأة بكراهة الزوج .
وفيه : ما يدلُّ على أن نفس اختيارها لنفسها كافٍ في وقوع الطلاق ؛ إذا لم تصرّح بلفظ طلاق ، ولا غيره . لكن حالها دلَّ على ذلك ، فاكتفي به ، ووقع الطلاق عليها ، وحينئذ أمرها أن تعتدَّ عدَّة الحرَّة .
(14/1)
وقولها : (( وكان الناس يتصدَّقون عليها ، وتهدي لنا )) ؛ يعني : أنها كانت معلومة الفقر ، فكانت تُقصَد بالصدقات - واجِبها ، وتطوُّعها - وفي بعض ألفاظ هذا الحديث : (( يهدون لها )) ، ولا تناقض فيه ، فإنها كانت يُفعل معها الوجهان : الصدقة ، والهدية . وقد يجوز أن تُسمِّي الصدقة هدية ، كما قد أطلق عليها ذلك بعض الرواة فقال : (( أهدي لها لحم )) ؛ يعني به : تُصدِّق عليها ، بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هو لها صدقة ولنا هدية )).
وقد اضطربت ألفاظ الرواة لهذا الحديث ، فقال بعضهم : (( أهدي لها لحم )). وقال بعضهم : (( تُصدِّق عليها بلحم بقر )). وقال بعضهم : ((قالت عائشة : تُصدِّق على مولاتي بشاة من الصدقة )). وقال بعضهم : (( قالت عائشة : بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بريرة بشاة من الصدقة )).
قلت : وهذان اللفظان أنصُّ ما في الباب ، فليعتمد عليهما . وقد استوفينا في كتاب الزكاة ما بقي في هذا الحديث ، مِمَّا يحتاج إلى التنبيه عليه . وفيه أبواب من الففه لا تخفى .
ومن باب النهي عن بيع الولاء وعن هبته
إنما لم يجز بيع الولاء ، ولا هبته اتفاقًا ؛ للنهي عن ذلك ، ولأنه أمرٌ وجوديٌّ لا يتأتَّى الانفكاك عنه كالنسب . ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الولاء لحمة كلحمة النسب )) ، فكما لا تنتقل الأبوة والْجُدودة ، كذلك لا ينتقل الولاء . وقد بينا وجه ذلك ومناسبته ، غير أنه يصحُّ في الولاء جرُّ ما يترتب عليه الميراث . ومثاله : أن يتزوَّج عبدٌ مُعْتَقَةً ، فيولد له منها ولد ، فيكون حرًّا بحرِّية أُمِّه ، ويكون ولاؤه لمواليها ما دام أبوه عبدًا ، فلو أعتقه سيده عاد ولاؤه لمعتق أبيه بالاتفاق كما ذكرناه .
وللولاء أحكامٌ خاصة ثبتت بالسُّنَّة :
منها : أنه لا يرث به إلا العصبات الذكور ، ولا مدخل للنساء فيه إلا فيما أعتقن أو أعتق من أعتقن .
(14/2)
ومنها : أنه لا يورث إلا بالكبر . فلا يستحق البطن الثاني منه شيئًا ما بقي من البطن الأول شيء . وتفصيل هذا في الفروع . وقد حكي عن بعض السلف : أن الولاء ينتقل . ولعلَّه إنما يعني به : الجرُّ . والله أعلم .
وقوله : (( كتب على كل بطن عُقُوله )) ؛ أي : أثبت ، وأوجب .
والبطن : دون القبيلة ، والفخذ : دون البطن . والعُقُول : يعني بها : الدِّيات . وذلك : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما هاجر إلى المدينة ، واستقرَّ أمره فيها آخى بين المهاجرين والأنصار ، وصالح من كان فيها من اليهود ، وميز القبائل بعضها من بعض ، وضم البطون بعضها إلى بعض فيما ينوبهم من الحقوق والغرامات ، وكان بينهم دماء وديَّات بسبب الحروب العظيمة التي كانت بينهم قبل الإسلام ، فرفع الله تعالى كل ذلك عنهم ، وألَّف بين قلوبهم ببركة الإسلام ، وبركة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى صاروا كما قال تعالى : { وأذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا } الآية .
وقوله : (( لا يحل أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه )) ، هذا يقتضي : تحريم أن يتوالى مولى رجل لنفسه . وحديث أبي هريرة يقتضى : تحريم نسبة المولى لغير معتقه . وكلاهما محرم هنا ، كما هو محرمم في النَّسب . وقد سوَّى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهما في الردع والوعيد ، فقال : (( من ادعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فالجنه عليه حرام )).
وقوله : (( بغير إذنه )) ، وفي الحديث الآخر : (( بغير إذنهم )) ؛ يعني
(14/3)
به : بغير إذن السَّادة . ودليل خطابه يدلُّ على أن السيد إذا أذن في ذلك جاز ، كما قد ذهب إليه بعض الناس ، وليس بصحيح ، والجمهور على منع ذلك ؛ وإن أذن السيد ؛ لأن السيد إن أذن في ذلك بعوض ، فهو المبايعة للولاء المنهي عنها ، أو ما في معناه . وإن كان بغير عوض ؛ فهي هبة الولاء ، وما في معناها ، ولا يجوز واحد منهما وإنما جرى ذكر الإذن في هذين الحديثين ؛ لأن أكثر ما يقع من ذلك ، إنما يكون بغير إذن السَّادة ، فلا دليل خطاب لمثل هذا اللفظ .
وقد بيَّنا في أصول الفقه : أن ما يدلّ من جهة النطق مرجح على ما يدل من(@) جهة المفهوم . وقد تقدَّم : أن اللعنة أصلها : الطرد والبعد. فلعنة الله تعالى هي : إبعاده للملعون عن رحمته ، وإحلاله في وبيل عقوبته. ولعنة الملائكة والناس هي : دعاؤهم عليه بذلك وذمهم له وطرده عنهم . وقد تقدَّم القول على الصرف والعدل في الإيمان .
ومن باب فضل عتق الرِّقاب
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النَّار )).
(14/4)
قلت : مقتضى هذا : التسوية بين عتق الذكر والأنثى ، والصحيح والمعيب ، بحكم عموم (( رقبة )) ، فإنها نكرة في سياق الشرط . وقد صحَّ في ذلك تفصيل . وهو ما خرَّجه الترمذي عن أبي أمامة وغيره ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( أيما امرئ مسلم أعتق امرءًا مسلمًا كان فكاكه من النار ، يجزي كل عضو منه عضوًا منه ، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار ، يجزي كل عضو منهما عضوًا منه ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار ، يجزي عضو منها عضوًا منها )). قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وقد صحَّ من حديث أبي ذر أنَّه سال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : أي الرِّقاب أفضل ؟ فقال : ((أنفسها عند أهلها ، وأغلاها ثمنًا )). وهذا يدلُّ على أن المعيب ليس كالصحيح ، ولا الكبير مثل الصغير ، ولا القليل الثمن مثل الكثير ، لتفاوت ما بينهم ، ولما شهد حديث الترمذي بتفاوت ما بين الذكر والأنثى ؛ لزم منه التفاوت بين من ذكرناهم في ذلك . والله أعلم . وإنما فضل عتق الذكر على الأنثى لأن جنس الرِّجال أفضل ، ولأن قوام الدُّنيا والدين إنما هو بالرجال ، والنساء محل لشهواتهم ، ومقر للإنسال .
وفيه : ما يدل على أن هذا الفضل العظيم إنما هو في عتق المؤمن. ولا خلاف في جواز عتق الكافر تطوّعًا . فلو كان الكافر أغلى ثمنًا ، فروي عن مالك : أنه أفضل من المؤمن القليل الثمن تمسكًا بحديث أبي ذر. وخالفه في ذلك أكثر أهل العلم نظرًا إلى حرمة المسلم ، وإلى ما يحصل منه من المنافع الدينية ، كالشهادات ، والجهاد ، والمعونة على إقامة الدين ، وهو الأصح . والله تعالى أعلم.
وقوله : (( لا يجزي ولد والدًا )) ؛ من الجزاء الذي بمعنى المجازاة . والمعنى : أنَّه لا يقوم بما له عليه من الحقوق حتى يفعل معه ذلك . وقد بينا فيما سبق وجه مناسبة ذلك .
(14/5)
وقوله : (( إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه ، فيعتقه )) ، ظاهره : أنه لا يعتق عليه كرد بنفس الملك ، بل : حتى يعتقه هو . وإليه ذهب أهل الظاهر ، وقالوا : لا يعتق أحدٌ من القرابة بنفس الملك ، ولا يلزم ذلك فيهم . بل إن أراد أن يعتق فحسن . وخالفهم في ذلك جمهور علماء الأمصار ، غير أنهم في تفصيل ذلك مختلفون . فذهب مالك فيما حكاه ابن خوازمنداد : إلى أن الذي يعتق بالملك عمودا النسب علوًّا وسفلاً
خاصة. وبه قال الشافعي .
ومشهور مذهب مالك : عمودا النسب ، والجناحان : وهما الإخوة . وذكر ابن القصَّار عن مالك : ذووا الأرحام المحرمة . وبه قال أبو حنيفة . ومتعلق الظاهرية من الحديث ليس بصحيح ؛ لأن الله تعالى قد أوجب علينا الإحسان للأبوين ، كما قال تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } ، فقد سوَّى بين عبادته وبين الإحسان للأبوين في الوجوب . وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه ، فإذا يجب عتقه ، إما لأجل الملك عملاً بالحديث ، أو لأجل الإحسان عملاً بالآية . والظاهرية لجهلهم بمقاصد الشرع تركوا العمل بكل واحد منهما للتمسك بظاهر لم يحيطوا بمعناه .
ومعنى الحديث عند الجمهور : أنَّ الولد لَمَّا تسبب إلى عتق أبيه باشترائه إيَّاه : نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه . ودل على صحة هذا التأويل فهم معنى الحديث والتنزيل .
وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك . فوجه القول الأول والثاني : إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المنصوص عليه في الحديث ، ولا أقرب للرجل من أبيه ؛ فيحمل على الأب ، والأخ يقاربه في ذلك ؛ لأنه يُدْلِي بالأبوَّة ، فإنه يقول : أنا ابن أبيه .
(14/6)
وأما القول الثالث : فمتعلقه الحديث الثابت في ذلك ؛ الذي خرَّجه أبو داود والترمذي من طرق متعددة . وأحسن طرقه : ما خرَّجه النسائي في كتابه من حديث ضمرة ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من ملك ذا رحم محرم فقد عتق )).
قلت : وهذا الحديث ثابت بنقل العدل عن العدل ، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه . غير أن بعضهم قال : تفرد به ضمرة. وهذا لا يلتفت إليه ، لأن ضمرة عدل ، ثقة . وانفراد الثقة بالحديث لا يضره على ما مهَّدناه في الأصول ، فلا ينبني أن يعدل عن هذا الحديث . بل : يجب العمل به لصحته سندًا ، ولشهادة الكتاب له معنى . وذلك : أن الله عز وجل قد قال : { وأعبدوا الله ولاتشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا } ، وليس من الإحسان إلى الأبوين ، ولا للقرابة استرقاقهم ، فإن نفس الاسترقاق ، وبقاء اليد على المسترق إذلال له وإهانة . ولذلك فسخنا على النصراني شراءه للمسلم على رواية ، ولم نبق ملكه عليه في الأخرى . وإذا ثبت أن بقاء الملك إذلال ، وإهانة ؛ وجبت إزالته ورفعه عن الآباء والقرابة ؛ لأنه نقيض الإحسان ؛ الذي أمر الله به .
فإن قيل : فهذا يلزم في القرابات كلّهم وإن بعدوا ؛ قلنا : هذا يلزم من مطلق القرآن. لكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد خصَّ بعض القرابات بقوله : (( من ملك ذا رحم محرم )) ، فوصفه بالمحرميه ، فمن ليس كذلك لا تتضمنه الآية ، ولا الحديث . والله أعلم .
وفي المسألة مباحث تذكر في مسائل الخلاف .
ثم حيث قلنا بوجوب العتق ، فهل بنفس الملك ، أو يقف ذلك على حكم الحاكم ؛ قولان عندنا :
(14/7)
والأول أولى لظاهر الحديث ، ولأنه قد جاء من حديث الحسن عن سمرة : (( من ملك ذا رحم محرم فهو حرٌّ )) ، وهذا اللفظ يكاد أن يكون نصًّا في الفرض ، ولأن بقاء الأب تحت يد الملك إلى أن ينظر الحاكم ؛ فيه إذلال يناقض الإحسان المأمور به . فيجب وقوع العتق مقارنًا للملك ، وإنما صار إلى إبقائه على الحكم في القول الثاني للاختلاف الذي في أصل المسألة . قال بعض الأصحاب : فإذا حكم الحاكم بذلك وجب التنفيذ ، وارتفع الخلاف . وهذا ليس بشيء ؛ لأنه يلزم منه إيقاف مقتضيات الأدلة على نظر الحكَّام وحكمهم ، وهذا باطل بالإجماع ، ولأنه ترك الدليل لما ليس بدليل ، فإن حكم الحاكم ليس بدليل ، بل الذي يستند إليه حكمه هو الدليل . فإن اقتضى دليله وجوب العتق بنفس الملك ؛ فقد حصل المطلوب ، وإن اقتضى دليله إيقاف العتق على الحكم ؛ فإما إلى حكمه ، وهو دور ، وإمَّا إلى حكم غيره ويتسلسل .
ومن باب تحسين صحبة المماليك
كان ضرب ابن عمر رضي الله عنهما لعبده أدبًا على جناية ، غير أنه أفرط في أدبه بحسب الغضب البشري ، حتى جاوز مقدار الأدب ، ولذلك أثر الضرب في ظهره . وعندما تحقق ذلك رأى : أنه لا يخرجه مما وقع فيه إلا عتقه ، فأعتقه بنيّه الكفارة ، ثم فهم أن الكفارة غايتها إذا قبلت أن تكفر إثم الجناية ، فيخرج الجاني رأسًا برأس ، لا أجر ، ولا وزر ، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما : (( مالي فيه من الأجر شيء )).
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من ضرب غلامه حدًّا لم يأته ، أو لطمه ، فإن كفارته أن يعتقه )) ؛ ظاهر هذا الحديث والأحاديث المذكورة بعده : أن من لطم عبده ، أو تعدَّى في ضربه وجب عليه عتقه لأجل ذلك . ولا أعلم من قال بذلك . غير أن أصول أهل الظاهر تقتضي ذلك .
(14/8)
وإنما اختلف العلماء فيمن مَثَّل بعبده مُثلة ظاهرة ، مثل قطع يده ، أو فقء عينه . فقال مالك ، والليث : يجب عليه عتقه . وهل يعتق بالحكم ، أو بنفس وقوع المثلة ؛ قولان لمالك . وذهب الجمهور : إلى أن ذلك لا يجب . وسبب الخلاف اختلافهم في تصحيح ما روي من ذلك من قوله :
(( من مثل بعبده عتق عليه )).
قلت : ومحمل الحديث الأول عند العلماء على التغليظ على من لطم عبده ، أو تعدذَى في ضربه لينزجر السَّادة عن ذلك . فمن وقع منه ذلك أثم ، وأمر بأن يرفع يده عن ملكه عقوبة ، كما رفع يده عليه ظلمًا. أومحمله عندهم على الندب ، وهو الصحيح ؛ بدليل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبني مقرِّن حين أمرهم بعتق الملطومة ، فقالوا : ليس لنا خادم غيرها ، فقال : (( استخدموها ، فإذا استغنيتم عنها فخلوا سبيلها )). فلو وجب العتق بنفس اللطم لحرم الاستخدام ؛ لأنها كانت تكون حرَّة ، واستخدام الحر بغير رضاه حرام . فمقصود هذه الأحاديث-والله أعلم- : أن من تعدَّى على عبده أثم ، فإن أعتقه يكفر أجر عتقه إثم تعديه ، وصارت الجناية كأن لم تكن ، ومع ذلك : فلا يمضى عليه بذلك ؛ إذ ليس بواجب ، على ما تقدَّم .
و (( اللطم )) : الضرب في الوجه . و(( امْتَثِلْ )) : معناه : اسْتَقِدْ ؛ أي :
خذ القود . و(( سابع سبعة )) : أحد سبعة . و(( الصورة )) هنا : الوجه . وقد تكون : الصفة ، كما تقدَّم .
وقوله لأبي مسعود : (( لو لم تفعل للفحتك النار )) ؛ تنبية على أن الذي فعله من ضرب عبده حرام ، فكأنه تعدَّى في أصل الضرب ؛ بأن ضربه على ما لا يستحن ، أو في صفة الضرب ، فزاد على المستحق . ولا يختلف : في أن تأديب العبد بالضرب ، والحبس ، وغيره جائز إذا وقع في محله وعلى صفته .
(14/9)
ومساق الرواية الأخرى يدلُّ على تحريم قذف المملوك ، وأنَّه ليس فيه في الدنيا حدٌّ للقذف . وهو مذهب مالك ، والجمهور . وهو المفهوم من قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } ، فإن الإحصان هنا يمكن حمله على الإسلام والحرية والعفة ، على قول من يرى : أن اللفظ المشترك يحمل على جميع محامله ، ولأن العبد ناقص عن درجة الحر نقصانًا عن كفر ، فلا يحدُّ قاذفه ، كما لا يحدُّ قاذف الكافر ، ولأنَّه ناقصٌ عن درجة الحِّر ، فلا يحدُّ الحر بقذفه ؛ كما لا يقتل به .
وقد ذهب قوم : إلى أن الحرِّ يحدُّ إذا قذف العبد. والحجة عليهم كما ذكرناه(4) من الحديث ، والقرآن ، والقياس .
ومن باب إطعام المملوك
قد تقدَّم تفسير (( الْحُلَّة )) .
قوله : (( كان بيني وبين رجل من إخواني )) ؛ يعني به : عبده. وأطلق عليه أنه من إخوانه لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إخوانكم خولكم )) ؛ ولأنه أخ في الدِّين .
وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي ذرٍّ : (( إنك امرؤ فيك جاهلية )) ؛ أي : خصلة من خصالهم ، يعني بها : تعيير عبده بأمه . فإن الجاهلية كانوا يعيِّرون بالآباء والأمهات ، وذلك شيء أذهبه الإسلام بقوله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية ، وفخرها بالآباء . الناس كلهم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب )).
وقول أبي ذر : (( على حال ساعتي من الكبر )) ؛ استبعاد منه أن يبقى فيه شيء من خصال الجاهلية مع كبر سنِّه ، وطول عمره في الإسلام ، فلما أخبره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببقاء ذلك عليه زال استبعاده ، ووجب تسليمه لذلك القول وانقياده .
(14/10)
وقوله : (( فأطعموهم مِمَّا تأكلون ، وألبسوهم مِمَّا تلبسون )) ؛ أي : من نوع ما تأكلون وما تلبسون . وهذا الأمر على الندب ؛ لأن السَّيد لو أطعم عبده أدنى مما يأكله ، وألبسه أقل مما يلبسه صفةً ومقدارًا لم يذمَّه أحدٌ من أهل الإسلام ؛ إذ قام بواجبه عليه ، ولا خلاف في ذلك فيما علمته . وإنما موضع الذمِّ : إذا منعه ما يقوم به أوده ، ويدفع به ضرورته ، كما نصَّ عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : (( كفى بالمرء إثْمًا أن يحبس عمن يملك قوتهم )). وإنما هذا على جهة الحض على مكارم الأخلاق ، وإرشادٌ إلى الإحسان ، وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يرى لنفسه مزية على عبده ؛ إذ الكل عبيد الله ، والمال مال الله ، ولكن سَخَّر بعضهم لبعض ، وملَّك بعضهم بعضًا ؛ إتمامًا للنعمة ، وتقعيدًا للحكمة.
وقوله : (( ولا تكلّفوهم ما يغلبهم )) ؛ أي : لا تكلفوهم ما لا يطيقونه. وهو نهيٌّ ، وظا هره التحريم .
وقوله : (( فإن كلفتموهم فأعينوهم )) ؛ أي : إن أخطأتم فوقع ذلك منكم ، فارفعوا عنهم ذلك ؛ بأن تعينوهم على ذلك العمل ، فإن لم يمكنكم ذلك فبيعوهم ؛ كما جاء في الرواية الأخرى : ((ممن يرفق بهم )).
وقوله : (( للمملوك طعامه وكسوته )) ؛ أي : يجب ذلك له على سيده ، كما قال في حديث أبي هريرة : (( يقول عبدك : أنفق علي ، أو بعني )) ، وهذا لا يختلف فيه . والقدر الواجب من ذلك ما يدفع به ضرورته ، وما زاد على ذلك مندوب إليه .
وقوله : (( فليُقْعِدْه معه )) ؛ أمرٌ بتعليم التواضع ، وترك الكبر على العبد. وهذا كان خلقه ، فإنه كان يأكل مع العبد ، ويطحن مع الخادم ، ويشاركه في عمله ، ويقول : (( إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد )).
و (( المشفوه )) : الذي تكثر عليه الشِّفاه ، أو تغلب عليه الشِّفاه عند أكله لِقِلَّتِه .
(14/11)
و (( الأُكْلَة )) : اللقمة - بالضم في الهمزة- ، وهذا أمرٌ بمكارم الأخلاق ، واستدراج للأيثار . ونقيض ذلك : أخلاق البخلاء ، أهل النَّهم ، والجشع .
ومن باب مضاعفة أجر العبد الصالح
قد تقدَّم في الإيمان القول على مضاعفة أجر الكتابي .
وقول أبي هريرة : (( لولا الجهاد ، والحج ، وبرُّ أمِّي لأحببت أن أموت وأنا مملوك )) ؛ تصريح : بأن العبد لا يجب عليه جهاد ولاحجّ . وهو المعلوم من الشرع ؛ لأن الحجّ ، والجهاد لا يخاطب بهما إلا المستطيع لهما. والعبد غير مستطيع ؛ إذ لا استقلال له بنفسه ، ولا مال ؛ إذ لا يملك عند كثير من العلماء . وإن ملك عندنا فليس مستقلاً بالتصرف فيه. ويظهر من تمني أبي هريرة كونه مملوكًا : أنه فضل العبودية على الحرية. وكأنَّه فهم هذا من مضاعفة أجر العبد الصالح . وهذا لا يصحُّ مطلقًا ؛ فإن المعلوم من الشرع خلافه ؛ إذ الاستقلال بأمور الدين والدُّنيا إنما حصل بالأحرار . والعبد كالمفقود لعدم استقلاله ، وكالآلة المصرفة بالقهر ، والبهيمة المسخرة بالجبر. ولذلك سلب مناصب الشهادات ، ومعظم الولايات ، ونقصت حدوده عن حدود الأحرار ، إشعارًا بخسَّة المقدار . وكونه : له أجره مرتين ؛ إنما ذلك لتعدد الجهتين ؛ لأنه مطالب من جهة الله تعالى بعبادته ، ومن جهة سيده بطاعته ، ومع ذلك فالحر وإن طولب من جهة واحدة ، فوظائفه فيها أكثر ، وعناؤه أعظم ، فثوابه أكبر. وقد أشار إلى هذا أبو هريرة بقوله : (( لولا الجهاد والحجّ وبرُّ أمِّي لأحببت أن أموت عبدًا )) ؛ أي : لولا النقص الذي يلحق العبد لفوت هذه الأمور .
و (( نعمَّا )) هي : نعم التي للمدح وزيدت عليها (( ما)) النكرة ، وهي في موضع نصب على التمييز ، كقوله تعالى : { فنعمَّا هي }.
ومن باب من أعتق عبيده عند موته
(14/12)
قوله : (( إن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته )) ؛ ظاهره : أنه نَجَّز عتقهم في مرض موته. وفي الرواية الأخرى : (( أنه أوصى بعتقهم )). وهذا اضطراب ؛ لأن القضية واحدة . ويرتفع ذلك : بأن بعض الرواة تجوَّز في لفظ : (( أوصى )) لما نفذ عتقهم بعد موت سيدهم في ثلثه ؛ لأنه قد تساوى في هذه الصورة حكم تنجيز العتق وحكم الوصية به ؛ إذ كلاهما يخرج من الثلث ، وإنما كان يظهر الفرق بينهما لو لم يمت ، فإنه كان يكون له الرجوع عن الوصية بالعتق دون تنجيز العتق ؛ فإنه إذا صحَّ لزمه إما عتق جميعهم له ، وإما عتق ثلثهم ؛ إذ ليس له مال غيرهم على الخلاف الذي في ذلك لأهل العلم .
وقوله : (( فجزأهم أثلاثًا )) ؛ ظاهره : أنه اعتبر عدد أشخاصهم دون قيمتهم . وإنما فعل ذلك لتساويهم في القيمة والعدد ، فلو اختلفت قيمتهم لم يكن بدء من تعديلهم بالقيمة ، مخافة أن يكون ثلثهم في العدد أكثر من ثلث الميت في القيمة . ولو اختلفوا في القيمة أو في العدد لَجُزِّئوا بالقيمة ، ولعتق منهم ما يخرجه السهم ، وإن كان أقلّ من ثلث العدد. وكيفية العمل في ذلك مفصلة في كتب أئمتنا .
وقوله : (( ثم أقرع بينهم ، فأعتق اثنين ، وأرق أربعة )) ؛ هذا نصٌّ في صحَّة اعتبار القرعة شرعًا . وهو حجَّة للجمهور : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق على أبي حنيفة حيث يقول : إنه يعتق من كل واحد منهم ثلثه ، ولا يقرع بينهم ، وهذا مخالف لنصّ الحديث ، ولا حجَّة له بأن يقول : إن هذا الحديث مخالف للقياس ، فلا يعمل به ؛ لأنا قد أوضحنا في الأصول : أن القياس في مقابلة النص فاسد الوضع . ولو سلَّمنا : أنذَه ليس بفاسد الوضع لكانا كالدليلين المتعارضين ، وحيننذ يكون الأخذ بالحديث أولى ؛ لكثرة الاحتمالات في القياس وقلتها في الحديث ، كما بيناه في الأصول .
(14/13)
وقوله : (( وقال له قولاً شديد )) ؛ أي : غلا له بالقول ، والذم ، والوعيد ؛ لأنه أخرج كل ماله عن الورثة ، ومنعهم حقوقهم منه . ففيه دليل على أن المريض محجور عليه في ماله ، وأن المدبر ، والوصايا ، إنما تخرج من الثلث ، وأن الوصيه إذا منع من تنفيذها على وجهها مانعٌ شرعي استحالت إلى الثلث ، كما يقوله مالك .
ومن باب بيع الْمُدَبَّر
وهو الذي يعتقه سيده عن دُبُر منه ؛ بأن يقول : أنت مدَبَّرٌ ، أو : قد دبَّرتُكَ ، أو : أنت حرٌّ عن دبُر منِّي . وما أشبه ذلك فيما يذكر فيه لفظ المدبَّر . ولا خلاف في أنَّه عقد شرعي مآله العتق بعد الموت . وهل هو لازم بحيث لا يحل ببيع ولا غيره ، أو هو عقد جائز ، فيجوز حله ببيع المدبَّر ، أو هبته ، ثم هل يُكره حلُّه أو لا ؟ اختُلفَ في ذلك على ثلاثة أقوال :
فذهب مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن صالح ، وأصحاب الرأي إلى الأول . فلا يخرج عن ملك المدبَّر بوجه من الوجوه إلا بأن يعتقه .
وذهب إلى الثاني عائشة ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وطاووس ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . فيجوز أن يبيعه صاحبه متى شاء .
وكرهت طائفة ذلك ، وهو القول الثالث . وممن ذهب إلى ذلك
ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وابن سيرين ، والشعبي ، والزهري ، والنخعي . وقال الليث : يكره بيعه . فإن جهل إنسان أو غفل فباعه ، فاعتقه الذي اشتراه ، فإن بيعه جائز ، وولاؤه لمن أعتقه .
(14/14)
قلت : وهذا قياس من ذكر في القول الثالث . وقد تقدَّم سبب الخلاف في ذلك في كتاب الزكاة . ونكتته : تعارض الأدلة . وذلك : أن التدبير عقد شرعي ، فالوفاء به واجب ؛ لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود} ، ولقوله : { أوفوا بالعهد } ، وظاهر الأمر الوجوب ، ولأن التدبير عقد عتق موقوف على وقت ، فيلزم كالعتق إلى أجل ، ولما حكاه مالك من إجماع أهل المدينة على منع بيع المدبَّر ، أو هبته . فهذه أدلة القول الأول . ويعارض ذلك كله حديث جابر المذكور في هذا الباب . فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باع المدبَّر . وهو حجَّة القول الثاني ، وقد اعتذر عنه أصحابنا بأنها قضية معينة ، فيحتمل أن يكون بيعه في دين سابق على التدبير ، ويشعر بذلك قوله : (( لم يكن له مال غيره )). ومباشرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبيعه بنفسه ، فكأنه باعه عليه بالحكم للغُرماء ، والله أعلم .
وأوضح المسالك ما صار إليه مالك .
ومن كتاب البيع
البيعُ في اللغة مصدر : باع كذا بكذا ؛ أي : دفع معوضًا ، وأخذ عوضا منه . وهو يقتضي بائعًا ، وهو المالك ، أو من يتنزل منزلته ، ومبتاعًا ، وهو الذي يبذل الثمن ، ومبيعًا ، وهو المثمون ، وهو الذي ينزل في مقابلة الثمن .
وعلى هذا فأركان البيع أربعة : البائع ، والمبتاع ، والثمن ، والمثمَّن ، وكل واحد من هذه يتعلَّق النظر فيها بشروط ومسائل ستراها إن شاء الله تعالى .
والمعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه ، فإن كان أحد العوضين في مقابلة الرّقبة سُمي : بيعًا . وإن كان في مقابلة منفعة رقبة ؛ فإن كانت منفعة بضع سُمِّي : نكاحًا . وإن كانت منفعة غيرها سُمِّي : إجارة .
ومن باب النهي عن الملامسة والمنابذة وبيع الغرر
(( الملامسة )) : مفاعلة ، وأصلها لا يكون إلا بين اثنين . وأصلها من لمس الشيء باليد . و(( المنابذة )) : مأخوذة من النبذ . وهو الرَّمي . وقد جاء تفسيرهما في الحديث .
(14/15)
وقوله : (( ويكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراض )) ؛ يعني : أنه كان يجب البيع بنفس اللمس والنبذ ، ولا يبقى لواحد منهما خيرةٌ في حلّه . وبهذا تحصل المفسدة العظيمة ؛ إذ لا يدري أحدهما ما حصل له ، فيعم الخطر ، ويكثر القمار والضرر .
و (( بيع الحصاة )) اختُلف فيه على أقوال :
أولها : أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة .
وثانيها : أيُّ ثوب وقعت عليه الحصاة فهو المبيع .
وثالثها : أن يقبض على الحصى ، فيقول : ما خرج كان لي بعدده دراهم أو دنانير .
ورابعها : أيُّ زمان وقعت الحصاة من يده وجب البيع . فهذا إيقاف لزوم على زمن مجهول .
وهذه كلها فاسدة لما تضمنته من الخطر ، والجهل ، وأكل المال بالباطل .
و (( بيع الغرر )) : هو البيع المشتمل على غرر مقصود ، كبيع الأجنَّة ، والسمك في الماء ، والطير في الهواء ، وما أشبه ذلك . فأمَّا الغرر اليسير الذي ليس بمقصود فلم يتناول هذا النَّهي ؛ لإجماع المسلمين على جواز إجارة العبد والدار مشاهرة ومساناةً ، مع جواز الموت وهدم الدار قبل ذلك ، وعلى جواز إجارة الدَّخول في الحمَّام ، مع تفاوت الناس فيما يتناولون من الماء ، وفي قدر المقام فيه ، وكذلك الشرب من السقاء مع اختلاف أحوال الناس في قدر المشروب . وأيضًا : فإن كل بيع لا بدَّ فيه من نوع من الغرر ، لكنَّه لما كان يسيرًا غير مقصود لم يلتفت الشرع إليه. ولما انقسم الغرر على هذين الضربين فما تبين أنه من الضرب الأول منع . وما كان من الضرب الثاني خُيِّر . وما أشكل أمره ، اختُلف فيه ، من أي القسمين هو ، فيلحق به .
و (( الجزور )) : ما يجزر من الإبل . والجزرة : من غيرها .
(14/16)
و (( حبل الحبلة )) بفتح الباء فيهما ، وهو الصحيح في الرواية واللغة. والحبل : مصدر حبلت المرأة - بكسر الباء - تحبل - بفتحها - : إذا حملت. والحبلة : جمع حابلة . وأصل الحبل في بنات آدم ، والحمل في غيرهن . قاله أبو عبيد. وقد فسَّره ابن عمر في الحديث . وإلى تفسيره ذهب مالك ، والشافعي . قال المبرِّد : حبل الحبلة عندي : حمل الكرمة قبل أن تبلغ . والحبْلَة : الكرمة -بسكون الباء وفتحها-. وقال ابن الأنباري : والهاء في (( حبلة )) للمبالغة ، كقولهم : سُخَرة .
قلت : وهذه البيوع كانت بيوعًا في الجاهلية نهى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها ، لما فيها من الجهل والغرر ، والخطر والقمار ، وكلها تؤدي إلى أكل المال بالباطل ، فمتى وقع شيء منها فهو فاسد ، لا يصح بوجه ، ولا خلاف أعلمه في ذلك .
و (( اللِّبستان ))- بكسر اللام - : تثنية لبسة ، وهي : هيئة اللباس . ويعني بهما : الاحتباء في ثوب واحد ، وليس على فرجه شيء ، واشتمال الصماء . وسيأتي لهما مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
ومن باب النهي عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه
قد تقدَّم القولُ في كتاب النكاح على قوله : (( لا يبع بعضكم على بيع بعض )). وقوله : (( نهى أن يَسْتَام الرَّجل على سوم أخيه )) ؛ أي : يشتري . ووزن (( استام )) : استفعل ؛ أي : استدعى من البائع أن يخبره بسوم السلعة ؛ أي : بثمنها . وقد يكون مصدرًا ، فيقال : سامه بسلعة كذا ، يسومه ، سومًا . والْمَرَّة منه : سَوْمَةٌ . وقد يكسر ما قبل الواو فتنقلب ياء ؛ فيقال : سِيمَة ، كما قد جاء هنا . وقد بيَّنَّا : أن محل النهي عن البيع وعن السوم المذكورين في هذه الأحاديث ؛ إنما هو بعد التراكن.
(14/17)
وقوله : (( لا يتلقى الرُّكبان لبيع )) ، وفي لفظ آخر : (( لا تلقوا الجلب )) ؛ أي : لا تخرجوا للقاء الرِّفاق القادمة بالسِّلع ، فتشتروا منها قبل أن تبلغ الأسواق . وقد اختلف أصحابنا في مسافة منع ذلك . فقيل : يومان . وقيل : ستة أميال . وقيل : قرب المصر .
قلت : وهذه التحديدات متعارضة لا معنى لها ؛ إذ لا توقيف ، وإنما محل المنع أن ينفرد المتلقِّي بالقادم خارج السُّوق بحيث لا يعرفُ ذلك أهل السُّوق غالبًا . وعلى هذا فيكون ذلك في القريب والبعيد حتى يصحَّ قول بعض أصحابنا : لو تلقى الجلب في أطراف البلد ، أو أقاصيه لكان تلقيًا منهيًا عنه ، وهو الصحيح ؛ لنهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرواية الأخرى عن تلقي السِّلع حتى تورد الأسواق . فلو لم يكن للسلعة سوق ، فلا يخرج إليها ، لأنه التلقي المنهي عنه . غير أنه يجوز أن يشتري في أطراف البلد ؛ لأن البلد كله سوقها .
واختلف في وجه النهي عن ذلك . فقيل : ذلك لحق الله تعالى . وعلى هذا : فيفسخ البيعُ أبدًا . وقال به بعض أصحابنا . وهذا إنما يليق بأصول أهل الظاهر . والجمهور على أنه لحق الآدمي لما يدخل عليه من الضرر .
(14/18)
ثم اختلفوا فيمن يرجع إليه هذا الضرر . فقال الشافعي : هو البائع ، فيدخل عليه ضرر الغبن . وعلى هذا فلو وقع لم يفسخ ، ويكون صاحبه بالخيار. وعلى هذا يدل ظاهر الحديث ، فإنه قال فيه : (( إذا أتى سيده السوق فهو بالخيار )). وقال مالك : بل هم أهل السوق بما يدخل عليهم من غلاء السِّلع . ومقصود الشَّرع الرفق بأهل الحاضرة ، كما قد قال : (( دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض )). وكأن مالكًا لم تبلغه هذه الزيادة ، أو لم تثبث عنده أنها من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وعلى قول مالك فلا يفسخ ، ولكن يخير أهل السُّوق ، فإن لم يكن سوق ، فأهل المصر بالخيار. وهل يدخل المتلقي معهم ، أو لا ؛ قولان . سبب المنع عقوبته بنقيض قصده. وقد أجاز أبوحنيفة ، والأوزاعي التلقي إلا أن يضر بالناس فيُكره . وهذه الأحاديث حجَّة عليهما .
وقوله : (( ولا تناجشوا )) ؛ أصل النخش : الاستثارة والاستخراج . ومنه سُمي الصَّائد : ناجشًا لاستخراجه الصيد من مكانه . والمرادُ به في الحديث : النهي عن أن اد يزيد في ثمن السلعة ليغرَّ غيره ، وكأنه استخرج منه في ثمن السلعة ما لا يريد أن يخرجه . فإذا وقع ؛ فمن رآه لحق الله تعالى فسخ . ومن رآه لحق المشتري خيره ، فإما رضي ، وإمَّا فسخ .
قال أبو عبيد الهروي : قال أبو بكر : أصل النَّجش : مدح الشيء وإطراؤه . فالنَّاجش يغرُّ المشتري بمدحه ليزيد في الثمن .
(14/19)
وقوله : (( لا يبع حاضر لبادٍ )) ؛ مفسَّر بقول ابن عباس : لا يكن له سمسارًا ، وظاهر هذا النهي العموم في جميع أهل البوادي ، أهل العمود وغيرهم ، قريبًا كانوا من الحضر ، أو بعيدًا ، كان أصل المبيع عندهم بشراء أو كسب . وإليه صار غير واحدٍ . وحمله مالك على أهل العمود من بعد منهم عن الحضر ، ولا يعرف الأسعار ، إذا كان الذي جلبوه من فوائد البادية بغير شراء . وإنما قيده مالك بهذه القيود نظرًا إلى المعنى المستفاد من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض )). وذلك : أن مقصوده أن يرتفق أهل الحاضرة بأهل البادية ، بحيث لا يضر ذلك بأهل البادية ضررًا ظاهرًا . وهذا لا يحصل إلا بمجموع تلك القيود .
وبيانه : أنهم إذا لم يكونوا أهل عمود كانوا أهل بلاد وقرى ، وغالبهم يعرف الأسعار . وإذا عرفوها صارت مقاديرها مقصودة لهم . فلهم أن يتوصلوا إلى تحصيلها بأنفسهم أو بغيرهم . وإذا كان الذي جلبوه عليهم بالشراء فهم تجاز يقصدون الأرباح ، فلا يحال بينهم وبينها. فلهم التوصل إليها بالسَّماسرة وغيرهم ، وأقا أهل العمود ، والموصوفون بالقيود المذكورة : فان باع لهم الشماسرة وغيرهم ضزوا بأهل الحاضرة في استخراج غاية الأثمان ، فيما أصله على أهل البادية بغير ثمن ، فقصد الشرع أن يباشروا بيع سلعهم بأنفسهم ليرتفق أهل الحاضرة بالرخص فيما لا ضرر على أهل البادية فيه . وأعرض الشرع عما يلحق أهل البادية
في ذلك دفعًا لأشد الضررين ، وترجيحًا لأعظم المصلحتين .
واختلف في شراء أهل الحاضرة للبادي . فقيل بمنعه قياسًا على البيع لهم . وقيل : يجوز ذلك ؛ لأنه لما صار ثمن سلعته بيده عينًا أشبه أهل الحضر. فإذا وقع هذا البيع فهل يفسخ معاقبة لهم ، أو لا يفسخ لعدم خلل ركني من أركان البيع ؟ قولان .
(14/20)
وقوله : (( لا تُصَرُّوا الإبل والغنم )) : روايتنا فيه بضم التاء وفتح الصاد ، وضم الراء مشددة بعدها واو الجمع . (( الإبلَ )) بالنصب ، نحو : {فلا تزكوا أنفسكم } ، وهو الصحيح تقييدًا ولغة . وقد قيده بعضهم (( لا تَصُرُّوا الإبلَ )) بفتح التاء ، وضم الصاد ، ونصب (( الإبل )). وبعضهم : بضم التاء وفتح الصاد ، ورفع (( الإبل )) والأول هو الصحيح . ووجهه : أنها مأخوذة من : صريت اللبن في الضَّرع : إذا جمعته . وليست من الصَّر الذي هو الربط ، ولو كانت من ذلك لقيل فيها : مُصَرَّرة . وإنما جاء : مصراة . إلى معناه ذهب أبو عبيد وغيره ، وعلى هذا : فأصل (( تُصَروا الإبل )) : تصريوا ، استثقلت الضمَّة على الياء ، فنقلت إلى ما قبلها ؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضومًا فانقلبت الياء واوًا ، واجتمع ساكنان ، فحذفت الواو الأولى ، وبقيث واو الجمع ساكنة ، فحذفت لاجتماع الساكنين. و(( الإبل )) : نصب على أنه مفعول ((تُصَرُّوا )). هذا أحسن ما قيل في هذا ، وأجراه على قياس التصريف .
ومعنى : (( التصرية )) عند الفقهاء : أن يجمع اللَّبن في الضرع اليومين والثلاثة حتى يعظم ، فيظن المشتري : أن ذلك لكثرة اللبن ، وعظم الضرع . وهي المسمَّاة أيضًا بـ (( الْمُحَفَّلَة )) في حديث آخر. يقال : ضرع حافل ؛ أي : عظيم. و(( الْمحْفَل )) : الجمع العظيم . وقال الشافعي : التصرية : أن تربط أخلاف النَّاقة ، أو الشاة ، ويترك حلبها اليومين والثلاثة حتى يجتمع لبنها ، فيزيد المشتري في ثمنها لما يرى من ذلك . قال الخطابي : والذي قال الشافعي صحيح . والعرب تصُرُّ الحلوبات ، وتسمي ذلك الرباط : صِرارًا . واستشهد لهم بقول العرب : العبد لا يحسن الكرَّ ، وإنما يحسن الحلب والضرَّ . قال : ويحتمل أن تكون المصراة أصلها : مصرورة ، فأبدل من إحدى الراءين ياءً ، كما قالوا : تقضَّى البازيُّ .
(14/21)
واختُلف في الأخذ بحديث الْمُصَرَّاة. فأخذ به الشافعي ، وأبو ثور ، وأبو يوسف ، ومالك في المشهور عنه ، وابن أبي ليلى في إحدى الروايتين عنه ، وفقهاء أصحاب الحديث. ولم يأخذ به أبو حنيفة ، ولا الكوفيون ، ولا مالك ، ولا ابن أبي ليلى في الرواية الأخرى عنهما . فقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن : التصرية ليست بعيب ، ولا تردّ بذلك. وقد حكي عن أبي حنيفة : أنه يرجع بإرش التصرية . ولهذا الخلاف سببان :
أحدهما : أن هذا الحديث يعارضه قوله في : ((الخراج بالضمان )). خرَّجه الترمذي من حديث ابن عباس ، وقال فيه : حديث حسن صحيح. ووجهها : أن مشتري المصرَّاة ضامن لها لو هلكت عنده ، واللَّبن غثة فيكون له .
وثانيهما : أنه معارضٌ لأصول شرعية ، وقواعد كليه . وبيانها بأوجه :
أحدها : أن اللبن مما يضمن بالمثل ، والتمر ليس بمثل له.
وثانيها : أنه لما عدل عن المثل إلى غيره فقد نحا به نحو المبايعة ، فهو : بيع الطعام بالطعام غير يد بيد ، وهو الرِّبا .
وثالثها : أن الصَّاع المقابل للَّبن محدودٌ ، واللَّبن ليس بمحدود ، فإنَّه يختلف بالكثرة والقلَّة .
ورابعها : أن اللبن غلَّة ، فيكون للمشتري كسائر المنافع ، فإنها لا تردُّ في الردّ بالعيب . ولما كان ذلك ، فالحديث وإن كان صحيحًا ؛ فإما منسوخ بقوله : (( الخراج بالضمان )) ، وإما مرجوح بهذه القواعد المخالفة له ، فإنها قواعد كلية قطعية . ولو لم يكن كذلك فالقياس مقدَّم عند أبي حنيفة ، وكثير من الكوفيين ، وهو قول مالك في "العتبية" ، وفي "مختصر ابن عبدالحكم".
(14/22)