بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اسم الكتاب / المُفْهِمْ ، لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تلخيصِ كتابِ مُسْلِمْ
المؤلف / الشيخُ الفقيهُ الإمام ، العالمُ العامل ، المحدِّثُ الحافظ ، بقيَّةُ السلف ، أبو العبَّاس أحمَدُ بنُ الشيخِ المرحومِ الفقيهِ أبي حَفْصٍ عُمَرَ بنِ إبراهيمَ الحافظ ، الأنصاريُّ القرطبيُّ ، رحمه الله وغَفَر له(1/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
صلَّى اللَّهُ على سيِّدنا محمَّدٍ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّم
مقدمة الكتاب
قال الشيخُ الفقيهُ الإمام ، العالمُ العامل ، المحدِّثُ الحافظ ، بقيَّةُ السلف ، أبو العبَّاس أحمَدُ بنُ الشيخِ المرحومِ الفقيهِ أبي حَفْصٍ عُمَرَ بنِ إبراهيمَ الحافظ ، الأنصاريُّ القرطبيُّ ، رحمه الله وغَفَر له :
الحمدُ للهِ كما وَجَب لكبريائهِ وجلالِهْ ، والشُّكْرُ له على ما غَمَرنا به من نَعْمائِه ونَوَالِهْ ، أَحْمَدُهُ حَمْدَ مَنْ غاصَ في بحار معرفة أسمائِه وجَمالِهْ ، وأشكُرُه شُكْرَ مَن عَلِمَ أنَّ شُكْرَهُ مِن جُملةِ آلائِه وأفضالِهْ.
وأشهَدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَهُ لا نظيرَ له في ذاته ولا شريكَ له في أفعالِهْ ، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا رسولٌ خُصَّ من الإرسالِ الإلهيِّ بعمومِهِ وخِتامِهِ وكَمالِهْ ، ومِنَ الحقِّ المُبين بصَفْوِهِ ومَحْضِهِ وزُلالِهْ ، وخُصَّ مَنْ أطاعَهُ واتَّبعه في أقوالِهِ وأفعالِهْ ، بمحبَّةِ الله وهدايتِه الشَّامِلةِ له في جميعِ أحوالِهْ ، وبالفَوْزِ بالنَّعيم الأكبر يومَ يَجِدُ كُلُّ عاملٍ مَغَبَّةَ أعمالِهْ ، صلَّى الله عليه وعلى الطَّيِّبِينَ الأكرَمين أهله وآلِهْ ، ورَضِيَ الله عن صَحابَته المُصطفَيْنَ لإظهارِ الدِّين وإكمالِهْ ، ، وبعد :(1/2)
فلمَّا حَصَلَ من "تلخيص كتاب مسلم" وترتيبه وتبويبه المَأمُولْ ، وسَهُلَ إلى حفظِه وتحصيلِه الوصولْ - : رأينا أن نُكَمِّلَ فائدتَهُ للطالبينْ ، ونُسهِّلَ السبيلَ إليه على الباحثينْ ؛ بشَرْحِ غريبهْ ، والتَّنبيهِ على نُكَتٍ من إعرابِهْ ، وعلى وجوهِ الاستدلالِ بأحاديثِه وإيضاحِ مُشكِلاتِه حَسَبَ تبويبِهْ ، وعلى مَسَاق ترتيبِهْ ، فنجمَعَ فيه ما سمعناه من مشايخنا ، أو وقَفنا عليه في كتب أئمَّتنا ، أو تفضَّلَ الكريمُ الوهَّابُ بفهمه علينا ، على طريق الاختصارْ ، ما لم يَدْعُ الكَشْفُ إلى التطويلِ والإكثارْ ، حرصًا على التقريبِ والتسهيلْ ، وعونًا على التفهيمِ والتَّحصيلْ ، وسمَّيته بـ :
"المُفْهِمْ ، لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تلخيصِ كتابِ مُسْلِمْ"
وقد اجتهدتُّ في تصحيحِ ما نَقَلْتُ ورأيتْ ، حسَبَ وُسْعِي فيما عَلِمتْ ، غيرَ مدَّعٍ عِصمَهْ ، ولا متبرِّىءٍ من زَلَّهْ ، والعصمةُ من الله ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله ، ووجهَ اللهِ الكريمِ لا غيرَهُ قصدتّ ، وثوابَهُ أردتّ ، وهو المسؤولُ في المعونةِ عليه ، والانتفاعِ به ؛ إنه طيِّبُ الأسماءْ ، سميعُ الدعاءْ.
فلنشرعْ فيما ذكرناه ، مستعينين بالله تعالى .(1/3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وصلَّى الله على سيِّدنا ومولانا محمَّدٍ النبيِّ الكريمِ وعلى آلِه وصَحبِه وسلَّم
قال الشَّيخُ الفقيه ، الإمامُ العالمُ المُحدِّث ، أبو العبَّاس أحمدُ بنُ الشَّيخِ الفَقيهِ أبي حَفْصٍ عُمَرَ ، الأنصاريُّ القُرْطُبيُّ ـ رحمه الله ـ :
الحمدُ لله بمَجامِع مَحامِده التي لا يُبْلَغُ مُنتَهاها ، والشُّكْرُ له على آلائِهِ وإن لم يَكُن أحدٌ أحصاها ، وأشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ شَهادَةَ مُحَقِّقٍ لأُِصُولِهَا مُحيطٍ بِمَعْنَاهَا ، وَأَشْهَدُ أنَّ محمَّدًا رَسُولٌ حَلَّ مِنْ رُبَا النبوَّةِ أَعْلاَهَا فَعَلاَهَا ، وَحَمَلَ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَة إِدَّهَا فَاضْطلَعَ بِهَا وَأَدَّاهَا ، فجلا اللهُ بِهِ عن البصائرِ رَيْنَهَا ، وعن الأبصارِ عَشَاهَا ، صَلَّى اللهُ عليه من الصلواتِ أفضَلَهَا وأزكَاهَا ، وأبلَغَهُ عنَّا من التحياتِ أكمَلَهَا وأَوْلاَهَا ، ورَضِيَ اللهُ عن عِتْرَتِهِ وأزواجِهِ وصحابتِهِ ما سَفَرَتْ شمسٌ عن ضُحَاهَا ، وبعدُ :
فلمَّا قَضَتْ نتائِجُ العُقولْ ، وأدلَّةُ الشَّرعِ المَنقُولْ : أن سَعادَةَ الدَّارَينِ مَنُوطَةٌ بمُتابَعَةِ هذا الرَّسولْ ، وأنَّ الهِدايَةَ الحَقيقِيَّةَ باقْتِفاءِ سَبيلِهِ وَاجِبَةُ الحُصُولْ ، {قُلْ...} ، انْتَهَضَتْ هِمَمُ أعلامِ العُلَماءْ ، والسَّادَةُ الفُضلاءْ ، إلى البَحثِ عَنْ آثارِهْ : أقوالِهِ وأفعالِهِ وإِقْرارِهْ ، فحَصَّلُوا ذَلِك ضَبطًا وحِفظًا ، وبلَّغُوهُ إلى غَيرِهِمْ مُشافَهَةً ونَقْلاً. ومَيَّزوا صَحيحَهُ مِنْ سَقيمِهْ ، ومُعْوَجَّهُ مِنْ مُستَقيمِهْ ، إلى أن انْتَهى ذلك إلى إمَامَيْ عُلَماءِ الصَّحيحْ ، المُبَرِّزَينِ في عِلْمِ التَّعديلِ والتَّجريحْ :
أبي عبدالله محمَّد بن إسماعيل الجُعْفيِّ البُخاريّ ، وأبي الحُسَين مُسْلِم ابن الحجَّاج القُشَيْريِّ النَّيْسابُوريّ ، فجَمَعَا كِتابَيْهِما عَلَى شَرْطِ الصِّحَّهْ ، وبَذَلا جُهْدَهُما في تَبْرِئَتِهِما مِن كُلِّ عِلَّهْ.(1/4)
فتمَّ لهُما المُرادُ ، وانعَقَدَ الإجْماعُ على تَلْقِيبِهِما باسْمِ "الصَّحيحَيْن" أَوْ كادْ ، فجَازاهُما الله عَنِ الإسلامِ أَفْضَلَ الجَزاءْ ، وَوَفَّاهُما مِنْ أَجْرِ مَنِ انْتَفَعَ بِكِتابَيْهِما أَفْضَلَ الإجْزَاءْ .
غَيْرَ أنه قد ظَهَرَ لكثيرٍ منْ أئمَّة النقْلِ ، وَجَهَابِذَةِ النَّقْد : أنَّ لمسلمٍ ولكتابهِ من المَزِيَّهْ ؛ ما يُوجِبُ لهما أَوْلَوِيَّهْ :
فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو الفَضْل عِيَاضٌ الإِجْماعَ عَلَى إمامتِهِ وتقديمِهِ ، وصِحَّةِ حديثِهِ ، ومَيْزِهِ ، وثقتِهِ ، وقَبُولِ كِتَابِهِ . وكان أَبُو زُرْعَةَ وأبُو حَاتِمٍ يُقَدِّمانِهِ في الحديثِ على مشايِخِ عَصْرِهِمَا.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ : مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ.
وقَالَ أَبُو مَرْوانَ الطُّبْنيُّ : كان من شُيوخِي من يفضِّل كتابَ مُسْلِمٍ عَلَى كِتَابِ البُخَارِيِّ .
وَقَالَ مَسْلَمَةُ بْنُ قَاسِمٍ فِي"تَارِيخِهِ" : مُسْلِمٌ جَلِيْلُ الْقَدْرِ ، ثِقَةٌ ، مِنْ أَئِمَّةِ الْمُحَدِّثِيْنَ ، وَذَكَرَ كِتَابَهُ فِي الصَّحِيحِ ، فقَالَ : لَمْ يَضَعْ أَحَدٌ مِثْلَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَامِدِ بْنُ الشَّرْقِيِّ : سَمِعْتُ مُسْلِمًا يَقُولُ : مَا وَضَعْتُ شَيئًا فِي هَذَا المُسْنَدِ إِلاَّ بِحُجَّةٍ ، وَمَا أَسْقَطْتُ شَيْئًا مِنْهُ إِلاَّ بِحُجَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ سُفْيَانَ : قَالَ مُسْلِمٌ : لَيْسَ كُلُّ صَحِيْحٍ وَضَعْتُ هُنَا ، إِنَّمَا وَضَعْتُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ .
(1/5)
وَقَالَ مُسْلِمٌ : لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيْثِ يَكْتُبُوْنَ الْحَدِيْثَ مِائَتَيْ سَنَةٍ ، فَمَدَارُهُمْ عَلَى هَذَا الْمُسْنَدِ ، ، وَلَقَدْ عَرَضْتُ كِتَابِيْ هذَا عَلَى أَبِيْ زُرْعَةَ الرَّازِيِّ ؛ فَكُلَّ مَا أَشَارَ إِلَيَّ أَنَّ لَهُ عِلَّةً ، تَرَكْتُهُ ، وَمَا قَالَ : هُوَ صَحِيْحٌ لَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ أَخْرَجَتْهُ.
هَذَا مَعَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ أَحْسَنُ الأَحَادِيْثِ مَسَاقًا ، وَأَكْمَلُ سِيَاقًا ، وَأَقَلّن تَكْرَارًا ، وَأَتْقَنُ اعْتِبَارًا ، وَأَيْسَرُ لِلْحِفْظِ ، وَأَسْرَعُ لِلضّغبْطِ ، مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ صَدْرًا مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثْ ، وَمَيَّزَ طبَقَاتِ الْمُحَدِّثِيْنَ فِي الْقَدِيْمِ وَالْحَدِيثْ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكِتَابُ بِهَذِهِ الصِّفَهْ ، وَمُصَنِّفُهُ بِهَذِهِ الْحَالَهْ - ابْتُغِيَ أَنْ يَخُصَّ بِفَضْلِ عِنَايَهْ ؛ مِنْ تَصْحِيْحٍ وَضَبْطٍ وَرِوَايَهْ ؛ وَحِفْظٍ وَتَفَقُّهٍ وَدِرَايَهْ.
إِذِ الاعْتِنَاءُ بِحَدِيْثِ رَسُوْلِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُشَرِّفُ الأَقْدَار ؛ وَيُنْهِضُ الْحُجَّةَ وَيُسَدِّدُ الاعْتِبَارْ ؛ وَيُنَقِّحُ الْبَصَائِرَ ، وَيَفْتَحُ الأَْبْصَارْ ؛ وَيُمَيِّزُ عَنِ الْجَهْلَةِ ، ويُلْحِقُ بِالأَْئِمَّةِ الأَْبْرَارْ ، وَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ وَيُنْجِي مِنَ النَّارْ.
وَقَدْ أَعَانَ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ عَلَى الاعْتِنَاءِ بِهَذَا الْكِتَابْ ، فَتَلَقَّيْتُهُ رِوَايَةً وَتَقْيِيدًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْلاَمِ الْعُلَمَاءْ ؛ وثَافَنْتُ فِي التَّفَقُّهِ فِيهِ بَعْضَ سَادَاتِ الْفُقَهَاءْ ؛ فَمِمَّنْ رَوَيْتُهُ عَنْهُ :(1/6)
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْقَاضِي الْمُحَدِّثُ الثِّقَةُ الثَّبْتُ ، أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ ابْنُ الشَّيْخِ الزّْاهِدِ الْفَاضِلِ ، الْمُحَدِّثِ الْمُفِيدِ ، أَبِي عَبْدِالله مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَفْصٍ الْيَحْصِبِيُّ ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ بِقُرْطُبَةَ ، وَهُوَ يُمْسِكُ أَصْلَهُ نَحْوَ الْمَرَّتَيْنِ ، فِي مُدَّةٍ آخِرُهَا شَعْبَانُ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتُّمَائَةٍ.
وَالشَّيْخُ الْفَقِيْهُ القَاضِي الأَْعْدَلُ ، الْعَلَمُ الأَْعْلَمُ ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُالله بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ حَوْطِ الله ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ ، وَسَمَاعًا لِكَثِيرٍ مِنْهُ ، وَإِجَازَةً لِسَائِرِهِ ، وَذَلِكَ بِقُرْطُبَةَ فِي مُدَّةٍ آخِرُهَا مَا تَقَدَّمَ :
قَالاَ جَمِيعًا : حَدَّثَنَا الشَّيْخُ الإِمَامُ الْحَافِظُ ، أَبُو الْقَاسِمِ خَلَفُ بْنُ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ بَشْكُوَالَ ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ ، عَنْ أَبِي بَحْرٍ سُفْيَانَ بْنِ الْعَاصِي ، سَمَاعًا لِجَميعِهِ إِلاَّ وَرَقَاتٍ مِنْ آخِرِهِ أَجَازَهَا لَهُ ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْعُذْرِيِّ ، قِرَاءَةً غَيْرَ مَرَّةٍ ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ بُنْدَارَ الرَّازِيِّ ، سَمَاعًا بِمَكَّةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ ابْنُ عَمْرُوَيْه الْجُلُودِيُّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ مُسْلِمٍ رَحِمَهُمُ الله.
(1/7)
وَقَدْ رُوِّيتُهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ الأَْعْلاَمِ ، قِرَاءَةً وَإِجَازَةً بِمِصْرَ وَغَيْرِهَا ، عَنِ الشَّيْخِ الشَّرِيفِ أَبِي الْمَفَاخِرِ سَعِيدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَأْمُونِيِّ الْهَاشِمِيِّ سَمَاعًا ، عَنِ الشَّيْخِ الإِمَامِ أَبِي عَبْدِالله مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ أَحْمَدَ الصَّاعِدِيِّ الْفَرَاوِيِّ ، سَمَاعًا ، عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحُسَيْنِ عَبْدِالْغَافِرِ الْفَارِسِيِّ ، سَمَاعًا ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ ؛ كَمَا تَقَدَّمَ.
(1/8)
وَقَدْ رُوِّيتُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَهْ ؛ بِأَسَانِيدَ عَدِيدَهْ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَهْ ، فَاسْتَعَنْتُ بِالله تَعَالَى ، وَبَادَرْتُ إِلَى مُقْتَضَى الإِْشَارَةهْ ؛ بَعْدَ أَنْ قَدَّمْتُ فِي ذَلِكَ دُعَاءَ النَّفْعِ بِهِ وَالاْسْتِخَارَهْ ، فَاقْتَصَرْتُ مِنَ الإِسْنَادِ عَلَى ذِكْرِ الصَّاحِبِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَة إِلى ذِكْرِ غَيْرِهِ فَأَذْكُرُهُ لِزِيَادَةِ فَائِدَهْ ؛ وَحُصُولِ عَائِدَهْ ، وَمِنْ تَكْرَارِ الْمُتُونِ عَلَى أَكْمِلِهَا مَسَاقًا ، وَأَحْسَنِهَا سِيَاقًا ، مُلْحِقًا بِهِ مَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الزَّوَائِدِ ؛ مُحَافِظًا إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى عَلَى أَلاّ أُغْفِلَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ مُهِمَّاتٍ الْفَوَائِدِ ؛ فَإِذَا قُلْتُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - مَثَلاً ، وَأَفْرُغُ مِنْ مَسَاقِ مَتْنِهِ ، وَقُلْتُ : وَفِي رِوَايَةَ ؛ فَأَعْنِي : أَنَّهُ عَنُ ذَلِكَ الصَّاحِبِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الطَّرِيق. وَرُبَّمَا قَدّمْتُ بَعْضَ الأَحَادِيثِ وَأَخَّرَتْ حَسْبَمَا إِلَيْهِ اضْطُرِرْتْ ؛ حِرْصًا عَلَى ضَمِّ الشَّيْءِ لِمُشَاكِلِهِ ؛ وَتَقْرِيبًا لَهُ عَلَى مُتَنَاوِلِهْ . وَقَدِ اجْتَهَدْتُ ؛ فِيمَا رَوَيْتُ وَرَأَيْتُ ؛ ، وَوَجْهَ الله الْكَرِيمِ قَصَدتُّ ، وَهُوَ الْمَسْؤُولُ ؛ فِي أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ وَكُلَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِهِ وَيُبَلِّغَنَا الْمَأْمُولْ ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينْ ؛ الْهُدَاةِ الْمُهْتَدِينْ ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانْ ، وَعَلَيْهِ التُّكُلاَنْ ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلْ .
بابُ شرحِ ما تضمَّنتْهُ خُطبَةُ الكتابِ وصدرُهُ من المعاني والغريب
قوله : الحمد : الحمدُ لغةً : هو الثناءُ على مُثْنًى عليه بما فيه من أوصاف الجلال والكمال.
والشكر : هو الثناءُ بما أَوْلَى من الإنعام والإفضال.(1/9)
وقد يوضع الحمدُ موضعَ الشكر ، ولا ينعكس ؛ والشكرُ يكونُ بالقلب واللسان والجوارح.
قال الشاعر :
أَفَادَتْكُمُ النَّعْماءُ مِنِّي ثَلاثَةً
يَدِي ولِسَانِي والضَّمِيرَ المُحَجَّبَا
ابن الأنباري : الحمدُ مقلوبُ المدح.
والألفُ واللامُ في الحمد إذا نُسبا إلى الله تعالى : للجنس ، أي : الحمدُ كلُّه له ؛ وهذا أولى مِن قول مَن قال : إنَّهما للعهد ؛ بدليل خصوصيَّة نسبتِه إلى هذا الاسمِ الذي هو أعمُّ الأسماء دَلالةً وأشهَرُها استعمالاً ؛ ألا ترى أنَّهم لم يقولوا : الحمد للمَلِكِ ، ولا للحقِّ ؟! ولأنَّه لم يجر ذكرُ معهودٍ قبله فيُحْمَلَ عليه.
والمحامد : جمع مَحْمِدَة ، بكسر الميم ؛ كما قال الأحنف ابن قيس : ألا أدلُّكم على المَحْمِدَةِ بلا مَرْزِئَة الخُلُقُ السَّجِيح ، والكفُّ عن القبيح.
وكان قياسُ ميم المَحْمِدَة التي هي عينُ الفعل : أن تكونَ مفتوحة ؛ لأنَّ قياسَ الأفعالِ الثلاثيَّة التي يكون الماضي منها على فَعِلَ مكسور العين : أن يكون المَفْعَلُ منها مفتوحَ العين في المصدر والزمان والمكان ؛ كالمَشْرَب ، والمَعْلَم ، والمَجْهَل ، لكنْ شذَّت عنه كلمات.
قال أبو عمرَ الزاهدُ : لم يأت على مثال فَعِلْتُ مَفْعِلَةً إلاَّ قولهم : حَمِدتُّ مَحمِدَةً ، وحَمِيتُ مَحمِيَةً ، أي : غَضِبْتُ ، وحَسِبْتُ مَحسِبَةً ، ووَدِدتُّ مَوْدِدَةً ، وأنشد الراجز :
مَا لِيَ في صُدُورِهِمْ مِنْ مَوْدِدَهْ .
وزاد غيره : كَبِرْتُ مَكْبِرَةً ومَكْبِرًا ؛ كما قال أعشى هَمْدان :
طَلَبْتَ الصِّبَا إِذْ عَلا المَكْبِرُ
..................
وحكى ابنُ التَّيَّانِيّ في "كتابه الكبير" في ميم المحمدة الفتحَ ، ونقله عن ابن دُرَيْدٍ : مَحْمِدَة ومَحْمَدة ، بالكسر والفتح ، وقاله أيضًا ابن سِيدَه.(1/10)
وقال بعضهم : إنَّ المحامدَ جمع حَمْدٍ على غير قياس ؛ كالمَفَاقِر جمع فَقْر ، والأوَّل أولى ؛ لأنّ ما ليس بقياسٍ لا يقاسُ عليه ؛ إذ الجمعُ بينهما متناقض ، وقد جُمِعَ الحمدُ جمعَ القِلَّةِ في قول الشاعر :
وَأَبْلَجَ مَحْمُودِ الثَّناءِ خَصَصْتُهُ
بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي
وقوله : التي لا يُبْلَغُ مُنتهاها ، أي : يَعْجِز البشر عن الإحصاء ؛ لقصور علمهم عن الإحاطة بصفات الحق تعالى وأسمائه ؛ كما قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ ؛ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.
والآلاء : النِّعَم ، واحدها : إلًى ؛ كمِعًى وأمعاء ، وقيل : أَلاً ؛ كقَفًا وأَقْفاء ؛ قال الشاعر :
أَبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلا
يَقْطَعُ رِحْمًا وَلا يَخُونُ إِلَى
يُروى بالوجهين ، وقيل : إلْيٌ ؛ كحِسْيٍ وأَحْسَاء.
وقوله : وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، أي : أنطِقُ بما أعلمُهُ وأتحقَّقُهُ.
وأصلُ الشهادة : الإخبارُ عمَّا شاهده المخبِرُ بحسِّه ، ثُمَّ قد يقال على ما تحقّقه الإنسانُ وتيقَّنَهُ وإنْ لم يكن مشاهَدًا بالحِسِّ ؛ لأنَّ المحقَّقَ علمًا كالمدرَكِ حِسًّا ومشاهدةً .
وقوله : شهادةَ محقِّقٍ لأصولها ، محيطٍ بمعناها :
أصولُ الشهادة : أدلَّتُها العقليَّة والسمعيَّة.
و الإحاطةُ يعني بها هنا : العلمَ بمعناها في اللغة ، وفي عُرْفِ الاستعمال.
و مُحَمَّدٌ : مُفَعَّل من الحمد ، وهو الذي كثُرت خصالُهُ المحمودة ، فيُحمَدُ كثيرًا ؛ قال الشاعر :
..................
إِلَى المَاجِدِ القَرْمِ الجَوَادِ المُحَمَّدِ
ولمَّا لم يكن في الأنبياء ولا في الرسل مَنْ له من الخصالِ المحمودةِ ما لنبيِّنا ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، خصَّه الله مِنْ بينهم بهذا الاسم ؛ كيف لا ، وهو الذي يَحْمَدُهُ أهلُ المحشر كلُّهم ، وبيده لواءُ الحمد ، تحته آدمُ فَمَنْ دونَهُ ؛ على ما يأتي ؟!(1/11)
والرُّبَا : جمع رَبْوة ، وهي : ما ارتفع من الأرض وطاب ، وفيها لغات : فتحُ الراء وضمُّها وكسرُها ، وقد قرئ بها ، وقيل : رَبَاوة : بفتح الراء وزيادة الألف ، قال الشاعر :
مِن مَنْزِلي فِي عَرْصَةٍ بِرَبَاوَةٍ
بَيْنَ النُّخَيْلِ إِلَى بَقِيع الغَرْقَدِ
و النُّبُوَّة : مأخوذة من النبأ ، وهو الخبر ، فأصلها إِذَنِ
الهمزُ ، ثمَّ سُهِّلت كما سهَّلوا خابية ، وهي من خَبَأْتُ ، ، وقيل : هي مأخوذةٌ من النَّبْوَة ، وهو المرتفعُ من الأرض.
و الأعباء : جمع عِبْء ، وهو الثِّقْل ، وأصله ما يحمله الإنسانُ مما يَشُقُّ ويثقُلُ من غُرْمٍ أو مشقَّة .
و إِدُّها : أثقلُهَا وأشقُّها ؛ في "الصحاح" : آدَنِي الحِمْلُ يَؤُودُني ، أي : أثقلني ، ومَؤُود مثل مَقُول ، يقالُ : ما آدك فهو لي آيِدٌ.
قلتُ : ومنه قوله تعالى : {وَلاَ...} ، أي : لا يُثْقِله ولا يَشُقُّ عليه.
وقوله : فاضطلع بها ، أي : قام بها وقَوِيَ عليها ، وهو بالضاد المعجمة أخت الصاد ؛ من قولهم : ضَلُعَ الرجلُ - بضمِّ اللام- ضَلاعةً ، فهو ضَلِيع ، أي : قويٌّ وصُلْبٌ. فأما ضَلَع - بفتح اللام - فمعناه : مال ، ومصدره : الضَّلْع ساكنة ، وأما ضَلِعَ - بكسرها- فمعناه : اعوجَّ ، ومصدره : الضَّلَع بفتحها ، واسمُ الفاعلِ مِنْ هذا ومن الذي قبله : ضالعٌ.
و جَلاَ معناه : كشف ، ومنه : جلَوْتُ السيفَ والعروسَ جِلاَءً.
و البصائر : جمع بصيرة ، وهي عبارةٌ عن سرعة إدراك المعاني وجَوْدَةِ فهمها .
ورَيْنُ القلبِ : ما يَغْلِبُ عليه مما يُفْسِدُهُ ويُقَسِّيه ، وهو المعبَّر عنه بالطَّبْعِ والخَتْم في قول أهل السنة.
و العَشَا بفتح العين والقصر : ضَعْفٌ في البصر ، وبكسرها والمد : الوقتُ المعروف ، وبفتحها والمد : ما يؤكَلُ في هذا الوقت ، مقابلَ الغَدَاء.
وأزكاها : أكثرُها وأنماها ؛ من قولهم : زَكا الزرعُ يَزْكُو.(1/12)
و التحيَّات : جمع تحيَّة ؛ وهي هنا السلام ، وأصلُ التحية : المُلْكُ ، ومنه قولهم : حيَّاك الله ، أي : مَلَّكك الله ، قاله القُتَبِيُّ.
والعِتْرة : الذرية والعشيرة ، القُرْبى والبُعْدى ، وليس مخصوصًا بالذرية ؛ كما قد ذهب إليه بعضهم حتى قال : إنَّ عترةَ رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي وَلَدُ فاطمة خاصَّةً .
ويدلُّ على صحة القولِ الأوَّل : قولُ أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ فيما رواه ابنُ قُتَيْبَةَ : نَحْنُ عِتْرَةُ رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي خَرَجَ منها ، وبَيْضَتُهُ التي تفقَّأَتْ عنه ، وإنما جِيبَتِ العَرَبُ عنا كما جِيبَتِ الرَّحَى عن قُطْبِها.
و سَفَرَتْ : كشفَتْ ، يقال : سفَرْتُ الشيءَ سَفْرًا كشفْتُهُ ؛ ومنه سَفَرَتِ المرأةُ عن وجهها سُفُورًا : إذا أزالت خمارها ، فأما أسفر الصبحُ : فأضاء ، وأَسْفَرَ القوم : ساروا في إسفارٍ من الصبح.
و الضُّحَى : صدرُ النهار ، بالضم والقصر ، وهي حين تُشْرقِ الشمس ، وهي مؤنَّثة ، فأمَّا الضَّحاءُ ، بالفتح والمد : فارتفاع النهار الأعلى ، وهو مذكَّر ؛ قاله أبو عُبَيْد.
و النتائج جمع نتيجة ، وكُنِّيَ بها هنا عن البراهين العقلية ، فإنها قضت بما ذُكِرَ جوازًا وإمكانًا .
و أدلة الشرع : هي أخباره الصادقة ؛ فإنها قضَتْ بذلك وقوعًا وعِيَانًا.
و سعادة الدارين : هي نيلُ مراتبهما ومصالحهما ، ونفيُ مفاسدهما.
و منوطة : معلَّقة ، يقال : ناط الشيءَ يَنُوطُهُ نَوْطًا : إذا علَّقه ؛ والإشارة به إلى نحو قوله تعالى : {قُلْ...}.
و الهداية الحقيقية : هي فعلُ الطاعاتِ الشرعيَّة ، والحصولُ على ما وعَدَ عليها من الدرجات الأخروية ؛ والإشارةُ إلى نحو قوله تعالى : {وَإِنْ...} ؛ وتَحرَّزنا بـ الحقيقيَّة عن الهداية التي هي مجرَّدُ الإرشادِ والدَّلالَةِ التي هي نحوُ قولِهِ تعالى : {وَأَمَّا...}.
و الاقتفاء : التَّتَبُّع ؛ من قولهم : اقتفيْتُ أثَرَه وقفوْتُهُ ، وأصله من القَفَا ، والقافية .(1/13)
وقوله : واجبة الحصول ، أي : بحسَبِ الوعدِ الصدق والاشتراطِ الحق ؛ نحو ما تقدَّم.
ولا يجبُ على الله تعالى شيء ، لا بالعقلِ ولا بالشرع ؛ فإنَّ ذلك كلَّه محالٌ على ما عُرِفَ في علم الكلام.
و الأعلام : المشاهير ، جمع عَلَمٍ .
و السَّادة : جمع سيِّد ، وهو الذي يَسُودُ غيره ، أي : يتقدَّم عليه بما فيه مِنْ خصال الكمال والشرف .
و آثار النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هي ما يُؤْثَرُ عنه وينقل ، أي : يُتَحَدَّث به ؛ من قولهم : أَثَرْتُ الحديثَ آثُرُهُ.
وقوله : وميَّزوا صحيحَه من سقيمِه : اختلفت عباراتُ المحدِّثين في أقسام الحديث :
فقال أبو عبدِاللهِ محمد بنُ عبدِاللهِ الحاكمُ النيسابوريُّ : وهو المعروفُ بـ ابن البَيِّع في كتاب "المَدْخَل" له : الصحيحُ من الحديث على عشرة أقسام ؛ خمسةٌ مُتَّفَقٌ عليها ، وخمسةٌ مُخْتَلَفٌ فيها :
فالأول : من المتفَّق عليه : اختيارُ البخاريِّ ومسلم ، وهو ألاَّ يَذْكُرا من الحديث إلا ما رواه صحابيٌّ مشهورٌ عن رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، له راويان فأكثر ، ثم يرويه عنه تابعيٌّ مشهورُ الرواية عن الصحابة ، له هو أيضًا راويان فأكثر ؛ وكذلك مَنْ بعدهم ، حتى ينتهي الحديثُ إليهما.
قال : والأحاديثُ المرويَّةُ بهذه الشريطةِ لا يبلُغُ عددها عَشَرَةَ آلاف .
الثاني : مِثْلُ الأول ؛ لكنْ ليس لراويه من الصحابة إلا راوٍ واحد.
الثالث : مثله ؛ إلا أنَّ راويَهُ من التابعين ليس له إلا راوٍ واحدٌ.
الرابع : الأحاديثُ الأفرادُ الغرائبُ التي رواها الثقاتُ العدول.
الخامس : أحاديثُ جماعةٍ من الأئمَّةِ عن آبائهم عن أجدادهم ، ولم تتواتَرِ الروايةُ عن آبائِهِمْ وأجدادِهِمْ بها إلا عنهم ؛ كصحيفة عمرو بن شُعَيْب ، عن أبيه ، عن جَدِّه ، وبَهْزِ بن حَكِيم$ٍ ، عن أبيه ،
عن جده ، وإياس بن معاوية بن قُرَّة ، عن أبيه ، عن جده ، وأجدادُهُمْ صحابةٌ ، وأحفادهم ثقات .
قال : فهذه الخمسة الأقسام مخرَّجة في كتب الأئمة ، محتجٌّ بها ؛ وإن لم يخرَّج في الصحيحين منها شيء.(1/14)
قلتُ : يعني غَيْرَ القسم الأول.
قال الحاكم : والخمسةُ المختَلُف فيها : المراسيل . وأحاديث المدلِّسين إذا لم يَذْكُروا سماعاتهم ، وما أسنده ثقةٌ وأرسلَهُ جماعةٌ من الثقاتِ غيرُهُ. وروايةُ الثقاتِ غير الحُفَّاظ العارفين . وروايةُ المبتدعة إذا كانوا صادقين .
قلتُ : هذا تلخيصُ ما ذكره ، وعليه فيه مؤاخذاتٌ سيأتي بعضها.
وأشبَهُ مِنْ تقسيمه : ما قاله الخَطَّابيُّ أبو سليمان ، قال : الحديثُ عند أهله على ثلاثة أقسام : صحيحٌ ، وحَسَنٌ ، وسقيم :
فالصحيح : ما اتصَلَ سنده ، وعُدِّلَتْ نَقَلَتُهُ.
والحسن : ما عُرِفَ مَخْرَجُهُ واشتَهَر رجاله ؛ وعليه مدارُ أكثرِ الحديث ، وهو الذي نقله العلماء ، وتستعملُهُ عامَّةُ الفقهاء.
والسقيم : على طبقات ، شرُّها : الموضوعُ ، والمقلوبُ ، ثم المجهول.
وقال أبو عيسى الترمذي : كلُّ حديثٍ حَسُنَ إسنادُهُ ، ولا يكونُ في إسناده مَنْ يُتَّهَمُ بالكذب ، ولا يكونُ الحديثُ شاذًّا ، ورُوِيَ من غير وجه نحوُ ذلك : فهو - عندنا - حديثٌ حسن.
وقال أبو عليٍّ الغَسَّانيُّ : الناقلون سبع طبقات :
الأولى : أئمة الحديث وحُفَّاظه ، وهم الحُجَّة على مَنْ خالفهم ، ويُقبَلُ انفرادُهم .
الثانية : دونهم في الحفظ والضبط ؛ لكنَّهم لَحِقَهم في بعض روايتهم وَهَمٌ وغَلَطٌ. والغالبُ على حديثهم الصِّحَّة ، ويُصحَّحُ ما وَهِمُوا فيه من رواية الطبقة الأولى ، وهم لاحقون بهم .
الثالثة : جَنَحَتْ إلى مذاهبَ مِنَ الأهواء غير غالية ولا داعية ، وصَحَّ حديثها ، وثَبَتَ صدقها ، وقَلَّ وَهَمُها ؛ فهذه الطبقة احتمَلَ أهلُ الحديث الروايةَ عنهم .
قال : وعلى هذه الطبقاتِ الثلاثِ يدورُ الحديثُ ؛ وإليها أشار مسلم في صدر كتابه لمَّا قَسَّم الحديثَ على ثلاثة أقسام ، وثلاثِ طبقات ، فلم يُقَدَّرْ له إلا الفراغُ من الطبقة الأولى ، واخترمتْهُ المنيَّة.
وثلاثُ طبقات أسقطَهُمْ أهلُ المعرفة :
الأولى : مَن وُسِم بالكذب ، وَوَضْع الحديث .
(1/15)
الثانية : مَن غَلَب عليهم الوَهَمُ والغَلَطُ حتى يستغرق روايتهم .
الثالثة : مَن غلا في البدعة ، ودعا إليها ، وحَرَّفَ الرواية ليحتجُّوا بها.
والسابعة : قومٌ مجهولون ، انفردوا بروايات لم يتابَعُوا عليها ؛ فقبلهم قومٌ ، ووقفهم آخرون.
قال المؤلف : وهذا التقسيمُ أشبهُ ممَّا قبله ؛ وعليه : فالصحيحُ : حديثُ الطبقة الأولى ، والحسَنُ : حديثُ الطبقة الثانية : وهو حجةٌ ؛ لسلامته عن القوادح المعتبرة ، وأمَّا حديثُ الطبقة الثالثة : فاختُلِفَ في حديثها ؛ على ما يأتي.
وأما الطبقاتُ الثلاثُ بعدها : فهم متروكون ، ولا يُحتَجُّ بشيء من حديثهم ، ولا يُختَلَف في ذلك .
ويلحق بهم السابعةُ في الترك ، ولا يُبالَى بقولِ مَنْ قَبلَهم ؛ إذْ لا طريقَ إلى ظَنِّ صدقهم ؛ إذْ لا تُعرَفُ رواياتُهُم ولا أحوالهم ؛ ومع
ذلك فقد أَتَوْا بالغرائبِ والمناكِير ، فإحدى العلتين كافية في الرد ، فكيف إذا اجتمعتا ؟!
وقوله : ومُعْوَجَّهُ من مستقيمه : أشار بالمُعْوَجِّ إلى ما كان منها منكرَ المتن ، ولم يشبهْ كلامَ النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ كما قال أبو الفرج الجوزيُّ في كتاب "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" : إن من الأحاديثِ الموضوعاتِ أحاديثَ طِوَالاً لا يخفى وضعها ، وبرودةُ لفظها ؛ فهي تنطق بأنها موضوعة ، وأنَّ حاشيةَ رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ منزَّهةٌ عنها.
قال الشيخ : وإلى هذا النحو أشار النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : إذا حُدِّثْتُمْ عني بحديثٍ تَعْرِفُونَهُ ولا تُنكِرُونَهُ ، فصدِّقوا به ، وما تنكرونه ، فكذِّبوا به ؛ فأنا أقولُ ما يُعرَفُ ولا يُنْكَر ، ولا أقولُ ما يُنْكَرُ ولايُعْرَف ؛ خرَّجه الدَّارقُطنيُّ ؛ من حديث ابن أبي ذئب ، عن المَقْبُريِّ ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .
و المبرِّز : هو المُطِلُّ على الشيءِ الخارجُ عنه ، وهو اسمُ فاعلٍ من بَرَّزَ مُشدَّدَ الراء ، وأصله من بَرَزَ حقيقة ، بمعنى : خرج إلى البَراز - بفتح الباء - ، وهو الفضاءُ المتسع من الأرض ، وضوعف تكثيرًا.
(1/16)
البخاري : هو الإمام أبو عبد الله محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيمَ ابن المُغِيرَة بن بَرْدِزْبَهْ ، وبردزبه : مجوسيٌّ مات عليها ، قال بكر بن مُنِير : بردزبْه بالبخارية : الزَّرَّاع.
والمغيرة بن بَرْدِزْبَه : أسلَمَ على يدي يمانٍ البخاريِّ الجُعْفيِّ والي بخارى ، ولذلك نُسبَ أبو عبد الله البخاري ، فقيل فيه : جُعْفِيُّ ، فهو الجعفيُّ ولاءً ، البخاريُّ بلدًا .
وهو العَلَمُ المشهورْ ، الحاملُ لواءَ علمِ الحديثِ والتجريحْ ، أَحَدُ حُفَّاظِ الإسلامْ ، ومَنْ حَفِظَ الله تعالى به حديثَ رسوله عليه الصلاةُ والسلامْ .
رحَلَ في طلب الحديثِ إلى القُرَى والأمصارْ ، وبالَغَ في الجمعِ منه والإكثارْ ، لقي مَنْ كان في عصره من العلماء والمحدِّثينْ ، وأدرَكَ جماعةً أدركوا التابعينْ ؛ كَمَكِّيِّ بن إبراهيمَ البَلْخِيّ ، وأبي عاصمٍ النبيل الذّهيلي ، ومحمَّدِ بنِ عبدِ الله الأنصاريّ ، وعصامِ بنِ خالدٍ الحِمْصِيّ ، وكلُّهم أدرك متأخِّري التابعينْ . ارتحَلَ إلى عراقِ العربِ والعَجَم ، وإلى مصرَ والحجازِ واليَمَن ، وسمع بها مِنْ خلقٍ كثيرْ رُبَّمَا يزيدون على الألفِ باليسيرْ .
قال جعفرُ بنُ محمَّدٍ القَطَّانُ : سمعتُ محمدَ بن إسماعيل يقول : كتبتُ عن ألفِ شيخٍ وأكثر ، ما عندي حديثٌ إلا أذكُرُ إسناده.
رَوَى عنه جمعٌ كبيرٌ من الأئمة الحُفَّاظ ؛ كأبي حاتم الرازي ، ومسلم بن الحَجَّاج القُشَيْري ، وأبي عيسى التَّرْمِذِيّ ، ومحمد بن إسحاق بن خُزَيْمة ، وأبي حامدِ بنِ الشَّرْقيِّ ، وإبراهيمَ بنِ إسحاقَ الحَرْبي ، ، ، في آخرين يطولُ ذكرهم.
وروى عنه الجامعَ الصحيحَ : أبو حَسَّان مَهِيبُ بن سُلَيْمٍ الدَّقَّاق ، وإبراهيمُ بنُ مَعْقِلٍ النَّسَفِيُّ ، ومحمد بن يوسف بن مَطَرٍ الفَرَبْرِيُّ ، وهو آخرهم ، وقال محمد بن يوسفَ الفَربريُّ : سمع كتابَ البخاريِّ تسعون ألف رجل ، فما بقي أحدٌ يرويه غيري.
(1/17)
ومولُد البخاريِّ يوم الجمعة بعد صلاتها لثلاثَ عَشَرَةَ ليلةً خلت من شَوَّال سنة أربع وتسعين ومائة ، وتوفِّي ليلةَ السبتِ عند صلاة العشاء من ليلة الفطر من شوال ، سنة ست وخمسين ومائتين ، وعمره : اثنان وسِتُّون سنة إلا ثلاثة عشر يومًا .
شَهِدَ له أئمَّةُ عصره بالإمامة في حفظ الحديث ونقله ، وشهدَتْ له تراجمُ كتابه بفهمه وفقهه .
قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خُزَيْمة : ما تحت أديمِ السماء أعلَمُ بالحديث من البخاري .
وقال له مسلم بن الحَجَّاج ، وقد سأله عن عِلَّةِ حديث ، فأجابه ، فقال له : لا يُبْغِضُكَ إلا حاسد ، وأشهَدُ أنْ ليس في الدنيا مثلك.
وقال أبو بكرٍ الجَوْزَقي : سمعتُ أبا حامدِ بْنَ الشَّرْقي - أو غيره يقولُ : رأيتُ مسلم بن الحَجَّاج بين يَدَيِ البخاريِّ كالصبيِّ بين يدي معلِّمه.
وقال حامد بن أحمد : ذُكِرَ لعليِّ بنِ المَدِيِنيِّ قولُ محمد بن إسماعيل البخاري : ما تصاغَرْتُ نفسي عند أحدٍ إلا عند عليِّ بن المديني ، فقال : ذروا قوله ؛ هو ما رأى مِثْلَ نفسه.
وذكر أبو أحمدَ بنُ عَدِيٍّ : أَنَّ البخاري لمَّا قدم بغداد ، امتحنه المحدِّثون بأنْ قلبوا أسانيد مائةِ حديثٍ ، فخالفوا بينها وبين متونها ، ثم دفعوها لِعَشَرةِ أنفس ، لكلِّ واحدٍ عشرةُ أحاديث ، فلمَّا استَقَرَّ به المجلس ، قام إليه واحد من العشرة ، فذَكَر له حديثًا مِنْ عَشَرَتِهِ المقلوبة ، فسأله عنه ؟ فقال له البخاري : لا أعرف هذا . ثم سأله عن بقيَّةِ العَشَرة واحدًا واحدًا ، وهو في كلِّ ذلك يقول : لا أعرف . ثم قام بعده ثانٍ ففعل مثلَ ذلك ، فقال له مثلَ ذلك ، ثم قام ثالثٌ كذلك حتى كمَّل العشرةُ المائة الحديثِ . فلمَّا فرغوا ، دعا بالأوَّل ، فَرَدَّ ما ذَكَرَ له من الأحاديث إلى أسانيدها ، ثم فَعَلَ ببقيَّةِ العشرة كذلك ، إلى أنْ رَدَّ كلَّ متن إلى سنده ، وكُلَّ سند إلى متنه ، فبُهِتَ الحاضرون ، وأُعْجِبَ بذلك السامعون ، وسلَّموا لحفظه ، واعترفوا بفضله.
(1/18)
وقال الدارقطني : لولا البخاريُّ ، ما ذَهَبَ مسلمٌ ولا جاء.
وقال أحمد بن محمد الكرابيسي : رحم الله الإمامَ أبا عبد الله البخاريَّ ، فإنَّه الذي ألَّف الأصول ، وبيَّن للناس ، وكلُُّ مَنْ عمل بعده ، فإنما أخَذَ مِنْ كتابه ؛ كمسلم بن الحجاج ، فرَّقَ كتابه في كتابه ، وتجلَّد فيه حَقَّ الجلادة حيثُ لم يَنْسُبْهُ إلى قائله ، ، ومنهم مَنْ أَخَذَ كتابه فنقله بعينه ؛ كأبي زرعة ، وأبي حاتم.
وقال محمدُ بنُ الأزهرِ السِّجْزِيُّ : كنتُ بالبصرة في مجلسِ سليمانَ بنِ حرب ، والبخاريُّ جالس لا يكتب ، فقلتُ لبعضهم : ما له لا يكتب ؟ فقال : يرجع إلى بخارَى فيكتب مِنْ حفظه.
وقال محمد بن حَمْدَوَيْهِ : سمعتُ البخاريَّ يقول : أحفظ مائة ألفِ حديثٍ صحيح ، وأعرفُ مائتَيْ ألفِ حديثٍ غير صحيح.
وأخبارُهُ كثيرهْ ، ومناقبُهُ شهيرهْ ، وإمامته وعدالته وأمانته متواترهْ ، كُلُّ ذلك مِنْ حاله معروفْ ، ومِنْ فضله موصوفْ .
والعجبُ مما ذكره أبو محمدِ بنُ أبي حاتم في ترجمة البخاري ، فقال : إنَّ أبي وأبا زرعة تركاه - يعني البخاري - لأنه قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، ولم ينقُلْ شيئًا من فضائله ، وكأنَّه أعرَضَ عنه وصغَّرَ أمره.
قلتُ : وهذا تركٌ يجبُ تَرْكُه ، وتصغيرٌ يتعيَّن ضِدُّه ، كيف يُترَكُ مثلُ هذا الإمامْ ، لحقٍّ أظهَرَهُ في الأنامْ ، ويطاعُ فيه أهواءُ الطَّغَامْ؟!.
وقد ذَكَر ابن عدي هذه القصَّة ، فقال : عُقِدَ له المجلسُ بنيسابور ، فدُسَّ عليه سائل ، فقال : يا أبا عبد الله ، ما تقول : لفظي بالقرآن مخلوق ؟ فأعرض عنه فأَلَحَّ عليه ، فقال : القرآنُ قديمٌ غيرُ مخلوق ، وأفعالُ العباد مخلوقة ، والسؤالُ عنه بِدْعة.
وهذا الذي قاله ـ رضى الله عنه ـ هو غايةُ التحقيق والتحرُّز ، ولكنْ نسألُ الله العافيةَ مِنْ إصابة أعيُنِ الحُسَّادْ ، ومناكَدَةِ الأضدادْ.
ولا شكَّ في أنَّ الرجلَ عُلِمَ فضلُهُ وكَثُرَ الناسُ عليه ، فحُسِدَ :
(1/19)
قال عليُّ بنُ صالحِ بنِ محمدٍ البغداديُّ مستَمْلي البخاري : كان يجتمعُ في مجلس البخاريِّ أكثَرُ من عشرين ألفًا .
وقال أبو المصعب : محمدُ بنُ إسماعيلَ أفقهُ عندنا مِن أحمدَ بنِ حنبل ، ولو أدركْتَ مالكًا ونظَرْتَ إلى وجهه ووَجْهِ محمدِ بنِ إسماعيل ، لقلتَ : كلاهما في الفقهِ والحديثِ واحد.
وقال يعقوبُ بنُ إبراهيمَ الدَّوْرَقيُّ : محمدُ بن إسماعيل فقيهُ هذه الأمة.
وأما مسلم : فيكنى أبا الحسين بن الحَجَّاج ، قُشَيْرِيُّ النسب ،
نَيْسَابوري الدار .
وقد ذكرنا في صدر الكتاب الملخَّص - الذي هذا شرحُهُ - من أقوال العلماء في مسلم من الثناءِ عليه وعلى كتابه : جملةً صالحة ، بحيث إذا قوبلتْ بما قيل في البخاري وفي كتابه ، كانت مكافئةً لها أو راجحةً عليها.
والحاصلُ من معرفة أحوالهما أنهما فَرَسا رِهانْ ، وأنَّهما ليس لأحد في حَلْبتهما بمسابقتهما ولا مساوقتهما يدانْ.
سمع مسلمٌ بخراسان ، وارتحَلَ إلى العراق والحجاز والشام ومصر كارتحال البخاريِّ ، وسمع من يحيى بن يحيى ، التميمي ، وقتيبة بن سعيد البلخي ، وإسحاقَ بنِ راهَوَيْهِ ، وأحمدَ بنِ حنبل ، ويحيى بن مَعِين والقَعْنَبِيِّ ومسلمِ بنِ إبراهيم ، وأبي بكر وعثمان ابنَيْ أبي شيبة ، ومحمدِ بنق بَشَّار ، ومحمدِ بنِ المثنى ، وخلقًا كثيرًا يطول ذكرهم.
رَوَى عنه : إبراهيمُ بن سفيان الزاهدُ المَرْوَزِيُّ ، وأبو محمدٍ أحمدُ بنُ عليِّ بنِ الحسن القَلاَنِسِيُّ ، ولا يُرْوَى كتابُهُ إلا من طريقهما.
وروى عنه - أيضًا - : مكي بن عَبْدَان ، ويحيى بن محمد بن صاعد ، ومحمد بن مَخْلَد ، وآخرون .
توفِّي عشيةَ يوم الأحد ، ودُفِنَ يوم الإثنين لخمسٍ بَقِينَ من رجب سنةَ إحدى وستين ومائتين ، وقد وافى سِنَّ الكهولة ، مات وهو ابنُ خمس وخمسين سنة.
(1/20)
وقوله : فجمعا كتابيهما على شرط الصحة : هذا هو الصحيحُ الحاصلُ من اشتراط البخاريِّ ومسلم في كتابيهما. قال إبراهيمُ بن مَعْقِل : سمعتُ البخاريَّ يقول : ما أدخلْتُ في كتاب "الجامع" إلا ما صَحَّ ، وقد تركْتُ من الصحيح خوفًا من التطويل.
وقال أبو الفرج بن الجوزي : ونُقِلَ عن محمد بن إسماعيل أنه قال : صَنَّفْتُ كتاب الصحيح في سِتَّ عَشْرَةَ سنةً مِنْ سِتِّمائة ألف حديث ، وجعلته حجةً بيني وبين الله تعالى.
وقال الفربري : قال لي محمد بن إسماعيل : ما وضعتُ في كتاب "الصحيح" حديثًا إلا اغتسلْتُ قبل ذلك ، وصلَّيْتُ ركعتين .
وقال عبد القُدُّوس بن هَمَّام : سمعت عدةً من المشايخ يقولون : دوَّن محمد بن إسماعيل تراجمَ جامعِهِ بين قبر النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنبره ، وكان يصلِّي لكل ترجمة ركعتين .
وقال الحسين بن محمد الماسَرْجِسِيُّ : سمعتُ أبي يقولُ : سمعتُ مسلمَ بنَ الحَجَّاج يقولُ : صَنَّفْتُ هذا المسنَدَ الصحيحَ من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة.
وقال إبراهيم بن سفيان : قال لي مسلم : ليس كلُّ صحيحٍ وضعتُ هنا ، وإنما وضعتُ ما أجمعوا عليه.
فهذه نُصُوصُهُمَا على أنَّ شرطهما إنما هو الصحيحُ فقطْ.
وأما ما ادّعاه الحاكمُ عليهما مِنَ الشرط الذي قدَّمنا حكايته عنهما : فشيءٌ لم يصحَّ نقله عنهما ، ولا سَلَّمَ له النقَّادُ ذلك ؛ بَلْ قد قال أبو علي الجَيَّاني لمَّا حَكَى عنه ما ادَّعاه من الشرط : ليس مراده به أن يكون كلُّ خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابيِّه وتابعيِّه ومَنْ بعده ؛ فإن ذلك يَعِزُّ وجوده ، وإنما المراد : أن هذا الصحابيَّ وهذا التابعيَّ قد روى عنه رجلان خَرَجَ بهما عن حَدِّ الجهالة.
(1/21)
قلتُ : فقد بطَلَ ظاهرُ ما قاله الحاكمُ بما قاله أبو علي ؛ فإنَّ حاصل ما قاله أبو علي : أنهما لم يُخَرِّجا عن مجهول من الرواة ، على أنَّ أبا أحمدَ بنَ عَدِيٍّ ذكَرَ شيوخَ البخاري ، وذكر منهم أقوامًا لم يَرْوِ عنهم إلا راوٍ واحدٌ ، وسمَّاهم عينًا عينًا ، وقال : لم يرو عنهم إلاَّ راوٍ واحدٌ وليسوا بمعروفين ، ولولا التطويل لنقلنا عنه ما قاله.
وعلى هذا : فشرطهما : أن يخرِّجا في كتابيهما ما صَحَّ عندهما وفي ظنونهما ، ولا يلزم مِنْ ذلك نفيُ المطاعن عن كُلِّ مَنْ تضمَّنه كتاباهما ؛ فقد يظهَرُ لغيرهما من النُّقَّاد ما خفي عليهما ، ولكنَّ هذا المعنى المشارَ إليه قليل نادرٌ لا اعتبارَ به لندوره.
وقوله : وبذلا جهدهما في تبرئتهما من كل علة : ، الجُهْد ، بضمِّ الجيم :
الطاقةُ والوُسْع ، وبفتحها : المَشَقَّة ، ويعني بذلك : أنَّهما قد اجتهدا في تصحيح أحاديث كتابَيْهِمَا غايةَ الاجتهاد ، غير أنَّ الإحاطةَ والكمالْ ، لم يَكْمُلاَ إلاَّ لذي العظمة والجلالْ ، فقد خَرَّجَ النقاد - كأبي الحسن الدَّارَقُطْنِيّ وأبي عليٍّ الجَيَّانيّ - عليهما في كتابيهما أحاديثَ ضعيفةً وأسانيدَ عليلهْ ، لكنَّها نادرة قليلة ، وليس فيهما حديث متّفق على تركه ، ولا إسناد مجمَع على ضعفه ، لكنّها ممَّا اختُلِفَ فيهْ ، ولم يَلُحْ لواحدٍ منهما في شيء منها قدحٌ فيخفيهْ ، بل ذلك على حَسِبَ ما غلَبَ على ظَنِّه ، وحصل في علمه ، وأكثرُ ذلك : ممّا أردفاه على إسناد صحيح قبله ؛ زيادةً في الاستظهارْ ، وتنبيهًا على الاشتهارْ ، والله أعلم ، وسيأتي التنبيه على بعض تلك الأحاديث ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : فتمَّ لهما المرادْ ، وانعقَدَ الإجماعُ على تلقيبهما باسم الصحيحين أو كادْ : هذه أو كاد معطوفة على تَمَّ لهما المراد ، وتحرَّزنا بها عن الأحاديثِ المُعلّلةِ المنتَقَدةِ عليهما ؛ كما ذكرناه آنفاً .
(1/22)
وأمَّا انعقادُ الإجماعِ على تسميتهما بـ الصحيحَيْن : فلا شَكَّ فيه ؛ بل قد صار ذِكْرُ "الصحيح" عَلَمًا لهما ، وإنْ كان غيرهما بعدهما قد جمَعَ الصحيح واشترَطَ الصِّحَّةَ ؛ كأبي بكرٍ الإسماعيليِّ الجُرْجَانيِّ ، وأبي شيخ ابن حَيَّان الأصبهانيِّ ، وأبي بكرٍ البَرْقَانيّ ، والحاكمِ أبي عبدالله ، وإبراهيمَ بن حمزة ، وأبي ذرٍّ الهَرَوِيِّ ، وغيرهم ، لكنِ الإمامان أَحْرَزَا قَصَبَ السِّبَاقْ ، ولُقِّبَ كتاباهما بالصحيحَيْن بالاتِّفاق ؛ قال أبو عبدالله الحاكم : أهلُ الحجازِ والعراقِ والشامِ يَشْهَدون لأهلِ خراسان بالتقدُّمِ في معرفةِ الحديث ؛ لِسَبْقِ الإمامَيْنِ البخاريِّ ومسلم إليه ، وتفرُّدِهِمَا بهذا النوع .
و الجهابذة : جمع جِهْبِذ ، وهو : الحاذقُ بالعملِ ، الماهرُ فيه.
وقول مسلم : ليس كلُّ صحيح وضعتُ هنا ، إنَّمَا وضعتُ ما أجْمَعُوا عليه ، يعني به - والله أعلم - : مَنْ لقيه مِنْ أهل النقد والعلم بالحديث.
وقوله : وَمَيَّزَ طبَقَاتِ الْمُحَدِّثِيْنَ فِي الْقَدِيْمِ وَالْحَدِيثْ : يعني بالقديم : مَنْ تقدّم زمان مسلم ، وبالحديث : زمانَ مَنْ أدركه .
وهذا إشارةٌ إلى قول مسلم في صدر كتابه : أنَّه يعمَدُ إلى جملةِ ما أُسنِدَ من الأخبار عن رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَيَقْسِمُهَا على ثلاثة أقسام ، وثلاثِ طبقات ، قال : أمَّا القسمُ الأوَّلُ ، فإنَّا نتوخَّى أن نقدِّمَ الأخبارَ التي هي أسلَمُ من العيوب من غيرها وأنقَى ؛ مِنْ أن يكونَ ناقلوها أهلَ استقامة في الحديث ، وإتقان لما نقلوا ، لم يوجدْ في روايتهم اختلافٌ شديد ، ولا تخليطٌ متفاحش.
(1/23)
فإذا نحن تقصَّيْنَا أخبارَ هذا الصِّنْفِ ، أتبعناها أخبارًا في أسانيدها بعضُ مَنْ ليس بالموصوفِ بالحِفْظِ والإتقانِ كالضَّرْبِ المتقدِّم ، على أنّهم - وإنْ كانوا فيما وصفنا دونهم - فإنَّ اسم السَّتْرِ وتعاطي العلمِ والصِّدْقِ يشملهم ؛ كعطاء بن السائب ، ويزيد بن أبي زياد ، ولَيْث بن أبي سُلَيْم ، فهم - وإن كانوا بما وصفنا من العلم والسَّتْرِ عند أهل العلم معروفين فغيرُهُم من أقرانهم مِمَّن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية ، يَفْضُلُونَهُم في المنزلة والحال ؛ ألا ترى أنّك إذا وازنتَ هؤلاءِ الثلاثةَ ، عطاءً ، ويزيدَ ، وليثًا ، بمنصور بن المُعْتَمِرِ وسليمانَ الأعمشِ ، وإسماعيلَ ابن أبي خالد ، وجدتَّهم مباينين لهم لا يدانونهم ، لا شَكَّ عند العلماء في ذلك . وذكر كلامًا في معناه.
إلى أن قال : فأما ما كان منها عن قومٍ هم عند أهل الحديث مُتَّهَمُونَ أو عند الأكثر : ، فلسنا نتشاغَلُ بتخريج حديثهم ؛ كعبدالله بن مِسوَرٍ أبي جعفرٍ المدائنيِّ ، وعمرو بن خالد ، وعبدالقُدُّوس الشامي ، ومحمدِ بنِ سعِيدٍ المَصْلُوب ، وغِيَاثِ ابن إبراهيم وسليمان بن عَمْرو أبي داودَ النَّخَعِيِّ وأشباهِهِمْ ممن اتُّهمَ بوضع الأحاديث ، وتوليد الأخبار ، ، وكذلك مَنِ الغالبُ على حديثه المنكَرُ أو الغلطُ ، أمسكنا عنهم.
قلت : وظاهرُ هذا أن مسلمًا أدخَلَ في كتابه الطبقتين المتقدِّمتين الأولى والثانية ، غير أنَّ أبا عبد الله الحاكم قال : إنَّ مسلمًا لم يُدْخِلْ في كتابه إلا أحاديث الطبقة الأولى فقط ، وأما الثانية والثالثة : فكان قد عزَمَ على أن يخرِّج حديثهما ، فلم يُقَدَّرْ له إلا الفراغُ من الطبقة الأولى ، واخترمته المنية.
قلت : ومَسَاقُ كلامِهِ لا يقبَلُ ما قاله الحاكم ؛ فتأمَّله .
(1/24)
وقولُنَا : وثَافَنْتُ فِي التَّفَقُّهِ فِيهِ بَعْضَ سَادَاتِ الْفُقَهَاءْ ، أي : جالستُ ، وأصله من الثَّفِنَات ، وهو ما يتأثَّر من الرِّجْلَيْن والرُّكْبتين واليدين من تكرار الجلوس والعمل ؛ يقال : ثَفِنَتِ اليدُ ثَفَنًا : غَلُظَتْ من العمل ، وواحدُ
الثفنات : ثَفِنَة ، وأصلها : ما يقعُ من البعير على الأرض ، ويَغْلُظُ عند الاستناخة.
وَالله الْمُوَفِّقُ لِلْهِدَايَهْ .
وَلَمَّا تَقَاصَرَتِ الْهِمَمُ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ بُلُوغِ الْغَايَاتْ ؛ مِنْ حِفْظِ جَمِيعِ هَذَا الْكِتَابِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الأَْسَانِيدِ وَالرِّوَايَاتْ ، أَشَارَ مَنْ إِشَارَتُهُ غُنْمْ ؛ وَطَاعَتُهُ حَتْمْ إِلَى تَقْرِيبِهِ عَلَى الْمُتَحَفِّظْ ؛ وَتَيْسِيرِهِ عَلَى الْمُتَفَقِّهْ ؛ بِأَنْ تُخْتَصَرَ أَسَانِيدُهُ ، وَيُحْذَفَ تَكْرَارُهْ ، وَيُنَبَّهْ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ أَحَادِيثُهُ بِتَرَاجِمَ تُسْفِرُ عَنْ مَعْنَاهَا ، وَتَدُلُّ الطَّالِبَ عَلَى مَوْضِعِهَا وَفَحْوَاهَا.
وقولنا : وَقَدْ رُوِّيتُهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ الأَْعْلاَمِ ، قِرَاءَةً وَإِجَازَةً أعني بذلك : أنِّي قرأته كلَّه على الشيخِ الفقيهِ الزاهِدِ الفاضلِ ، تَقِيِّ الدين أبي إبراهيمَ عَوَضِ بنِ محمود ، بمصر.
وممن أجازه لي : الشيخُ الفقيهُ المحدِّث ، الزاهدُ التَّلاَّءُ للقرآن ، أبو الحسن مرتضَى بنُ العفيفِ المُقْرئُ ، لَقِيتُهُ بِقَرَافة مصر ، وسمعتُ عليه ، وقرأتُ عليه ، وأجازني جميعَ رواياته.
ومنهم : القاضي فخرُ القضاةِ أبو الفضلِ بنُ الجَبَّابِ ، وأجازه لي.
وكلُّهم يحدِّث به عن الشيخ أبي المفاخر المأمونيِّ بالسند المذكور في أصل "التلخيص".
بَابُ وُجُوبِ الأخْذِ عَنِ الثِّقَاتِ والتَّحْذيرِ مِنَ الكَذِبِ عَلى رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قَالَ الله عزَّ وَجلَّ : {يَاأَيُّهَا...} الآية ، وقال : {وَأَشْهِدُوا...} ، وقال : {مِمَنْ...}.(1/25)
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ ، قَالا : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ .
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ .
وَعَنِ الْمُغِيرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ؟ يَقُولُ : إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ ؛ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ .
ومِنْ بابِ وجوبِ الأَخْذِ عن الثقاتِ ، والتحذيرِ من الكذبِ على رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ
الكَذِبُ لغةً : هو الخَبَرُ عن الشيء على خلافِ ما هو به ، غير أنَّ المحرَّم شرعًا ، المستقبَحَ عادةً : هو العمدُ المقصود ، إلا ما استُثْنِيَ ؛ على ما يأتي.
ويقال : كَذَبَ ، بمعنى : أخطأ.
وأصلُ الكذبِ في الماضي والخُلْفُ في المستقبل ؛ قاله ابنُ قُتَيْبَة ؛ وقد جاء الكذب في المستقبل ؛ قال الله تعالى : {...ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}.
ويقال : كَذَبَ الرجلُ ، بفتح العين ، يَكْذِبُ ، بكسرها ، كِذْبًا ، بكسر الكاف وسكون الذال ، وكَذِبًا ، بفتح الكاف وكسر الذال ، ، فأمَّا كِذَّابًا المشدَّدُ الذال ، فأحدُ مصادر كَذَّبَ ، بالتشديد.
قوله تعالى : {...إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} :
الفاسقُ في أصل اللغة : هو الخارجُ مطلقًا ، والفِسْقُ والفُسُوق : الخروجُ ، ومنه : فَسَقَت الرُّطَبَةُ : إذا خرجَتْ مِنْ قِشْرها الأعلى ، ومنه سُمِّيَتِ الفأرة : فُوَيْسِقةً ؛ لأنها تخرُجُ من جحرها للفساد.
وهو في الشرع : خروجٌ مذمومٌ بحسب المخروج منه ، فإنْ كان إيمانًا ، فذلك الفسق كُفْرٌ ، وإن كان غَيْرَ إيمان ، فذلك الفِسْقُ معصية.
وقرئ في السبع : ُ ى ِ ؛ من البيان ، و{ فَتَثَبَّتُوا } ؛ من التثبُّت ، وكلاهما بمعنىً متقاربٍ.
(1/26)
ولم يختلف النَّقَلَةُ - فيما عَلِمْتُ أَنَّ هذه الآية نزلَتْ بسبب الوليد بن عقبة ، بعثَهُ رسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بني المصطَلِقِ مصدِّقًا ، فلمَّا أبصروه ، أقبلوا نحوه ، فهابهم لإحنةٍ كانتْ بينهم في الجاهلية ، وقيل : إنَّهم لم يخرُجُوا إليه ، فأخبر أنهم ارتدُّوا ؛ ذكره أبو عمر بنُ عبد البر ، فرجَعَ إلى النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأخبَرَ أنَّهُمُ ارتَدُّوا ومنعوا الزكاة ، فبعَثَ النبيُّ ؟ خالد بن الوليد ، وأمره بالتثبُّت في أمرهم ، فأتاهم ليلاً ، فسمعَ الأذان ، ووجَدَهُمْ يصلُّون ، وقالوا له : قد استبطأنا المصدِّقَ ، وخفنا غضَبَ رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،
فرجَعَ خالدٌ ـ رضى الله عنه ـ إلى النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأخبره بذلك ؛ فنزلَتِ الآية.
ومقتضى الآية : أنَّ الفاسق لا يُقبَلُ خبرُهُ ، روايةً كان أو شهادةً ، وهو مُجْمَعٌ عليه في غير المتأوِّل ، ما خلا ما حُكِيَ عن أبي حنيفة من حكمه بصحَّةِ عقدِ النكاحِ الواقعِ بشهادة فاسقَيْن.
وحكمةُ ذلك : أن الخبر أمانة ، والفسق خيانة ، ولا يوثَقُ بِخَؤُون.
وقال الفقهاء : لا يقبل قوله ؛ لأنَّ جُرْأَته على الفسق تَخْرِمُ الثقةَ بقوله ، فقد يجترئ على الكذب كما اجترَأَ على الفسق .
فأمَّا الفاسق المتأوِّلُ الذي لا يعرف فِسْقَ نفسه ، ولا يَكْفُرُ ببدعته :
فقد اختُلِفَ في قَبُول قوله :
فَقَبِلَ الشافعيُّ شهادته ، وردَّها القاضي أبو بكر.
وفرَّقَ مالكٌ بين أن يدعُوَ إلى بدعته فلا تُقْبَلُ ، أو لا يدعُوَ فتقبَلُ ، ورُوِيَ عنه : أنه لا تقبَلُ شهادتهم مطلقًا.
وكلُّهم اتفقوا على أنَّ مَنْ كانت بدعته تُجرِّئُهُ على الكذب كالخَطَّابية من الرافضة ، لم تقبَلْ روايته ولا شهادته ، ولبسط حُجَجِ هذه المذاهب موضعٌ آخر .
(1/27)
وقوله تعالى : ُ ، ـ لله ، ِ : دليلٌ على اشتراط العدالة في الشهادة ، ومعناها في اللغة : الاستقامةُ والاعتدالُ ضِدَّ الاعوجاج ، ويقال : - عدْلٌ بيِّنُ العدالةِ والعُدُولةِ ، ويقال : - عدْلٌ ، للواحد والاثنين والجماعة ، المذكَّرِ والمؤنَّث ، بلفظ واحد ؛ إذا قُصِدَ به قُصِدَ المصدر ، وإذا قُصِدَ به الصفة ، ثُنِّيَ وجُمِعَ ، وذُكّر وأُنِّث .
وهي عند أئمَّتنا : اجتنابُ الكبائر ، واتِّقَاءُ الصغائر وما يناقضُ المروءةَ ، ويُزْرِي بالمناصب الدينيَّة ، والعبارةُ الوجيزةُ عنها هي : حُسْنُ السيرة ، واستقامةُ السريرة شرعًا في ظَنِّ المعدَّل ، وتفصيلُهَا في الفروع . وهل يكتفى - في ظَنِّ حصول تلك الأحوال في المعدَّل - بظاهر الإسلام ، مع عدم الاطَّلاَعِ على فسق ظاهر ، أو لا بدّ من اختبارِ حاله حتَّى يُظَنُّ حصولُ تِلْك الأمور في المعدَّل ؟ قولانِ لأهل العلم :
الأوَّلُ : مذهبُ أبي حنيفة.
والثاني : مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ والجمهور ، وهو مرويٌّ عن عمربن الخَطَّاب ، رضي الله عنه.
وعلى مذهب الحنفي فشهادةُ المسلمِ المجهولِ الحال مقبولةٌ ، وهي على مذهب الجمهور مردودةٌ. وقد ذكرنا حُجَجَ الفريقَيْن في كتابنا : الجامع لمقاصد علم الأصول .
وقوله تعالى : ُ ، 1 2 3 4 ِ ، الظاهرُ مِنْ هذا الخطابِ : أنَّهُ لمن افتتَحَ الكلامَ معهم في أوَّل الآية في قوله تعالى : ُ ط ض ص گ [ غ ع . _ ء ، ِ ، وهم : المخاطَبون بقوله : ُ ، ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ { " ِ ، وبقوله : ُ ، / 0 ) * ِ .
وعلى هذا الظاهر : فكُلُّ مَنْ رضيه المتداينان والمتبايعان فأشهداه ، حصَلَ به مقتضى الخطاب ؛ غير أنَّهُمَا قد يرضيان بِمَنْ لا يرضى به الحاكم ، ولا يسمَعُ شهادته ، فلا ينتفعان بالإشهاد ، ولا يحصُلُ مقصودُ الشرع من الاستيثاقِ بالشهادة ؛ إذ لم يثبُتْ بما فعلاه عَقْدٌ ، ولا يُحْفَظُ به مال .
(1/28)
ولما كان ذلك ، قال العلماء : إن المخاطَبَ بذلك الحُكَّامُ ؛ إذ هم الذين يَعْرِفون المرضيَّ شرعًا من غيره ، فتثبُتُ بمن يرضَوْنَهُ العقود ، وتحفظ الأموال والدماء والأبضاع ، ويحصل الفصل بين الخصوم فيما يتنازعون فيه من الحقوق ، وذلك هو مقصود الشرع من قاعدة الشهادة قطعًا ، ولا يحصُلُ ذلك برِضَا غيرهم ؛ فتعيَّنَ الحكامُ لهذا الخطاب الذي هو قوله : ُ ، 1 2 3 4 ِ.
وإذا تقرَّر هذا ، فالذي يرضاه الحاكم : هو العَدْلُ الذي انتفَتْ عنه التُّهَمُ القادحةُ في الشهادة ؛ كالقرابة القريبة ، وجَرِّ المنفعة لنفسه أو لولده أو لزوجته ، وكالعداوةِ البيِّنة ، والصداقةِ المُفْرِطة ؛ على تفصيلٍ وخلافٍ يعرف في الفقه ؛ فقد أفادتِ الآيتان معنَييْنِ ؟ :
أحدهما : اعتبارُ اجتماعِ أوصافِ العدالة التي إذا اجتمعَتْ ، صدَقَ على الموصوفِ بها أنه عدل .
والثاني : اعتبارُ نَفْيِ القوادح التي إذا انتفَتْ ، صدَقَ على من انتفتْ عنه أنّه مَرْضِيّ.
فلا بدَّ من اجتماع الأمرَيْن في قبول الشهادة ؛ ولذلك لا يُكْتَفَي عندنا في التزكية بأن يقول المزكِّي : هو عدلٌ فقطْ ، بل حتى يقولَ : هو عدلٌ مَرْضِيٌّ ؛ فيجمعَ بينهما .
وأما في الأخبار : فلا بُدَّ من اعتبار المعنى الأول ، ولا يشترطُ الثاني فيها ؛ إذ يجوز قَبُولُ أخبار رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الراوي لها العدلِ ، وإنْ جَرَّ لنفسه بذلك نفعًا ، أو لولده ، أو ساقَ بذلك مضرةً لعدوِّه ؛ كأخبار عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ عن الخوارج.
وسِرّ الفرْق : أنه لا يتَّهم أحدٌ من أهل العدالة والدِّين بأن يكذبَ على رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لشيء من ذلك ، وكيف يقتحمُ أحدٌ من أهل العدالة والدِّين أن يكذبَ على رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لشيء مِنْ ذلك مع قولِ رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنَّ كَذِبًا عليَّ ليس كَكَذِبٍ على أحدٍ ؛ فَمَنْ كَذَبَ عليَّ متعمِّدًا ، فليتبوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار.
والخبر والشهادة - وإنِ اتفقا في أصلِ اشتراط العدالة - ، فقد يفترقان في أمور عديدة ؛ كما فصَّلناه في الأصول.
(1/29)
وعلى الجملة : فشوائبُ التعبُّدات ومراعاةُ المناصب في الشهادات أغلب ، ومراعاة ظنّ الصدق في الرواية أغلب ، والله تعالى أعلم .
وقوله ـ عليه السلام ـ : مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ : قيَّدناه عن مشايخنا : يُرَى مبنيًّا للفاعل وللمفعول :
فـ يَرَى بالفتح ، بمعنى : يعلَمُ المتعدِّية لمفعولَيْن ، وأنَّ سدَّت مسدَّهما ، وماضي يَرَى : رَأَى مهموزًا ، وإنما تركتِ العربُ همزَ المضارع ؛ لكثرة الاستعمال ، وقد نطقوا به على الأصل مهموزًا في قولهم ؟ :
ألم ترْأَ ما لا قَيْتُ والدَّهْرُ أعصُرٌ
ومَنْ يَتَمَلَّ العَيْشَ يَرْأَى وَيَسْمَعُ
وربَّما تركوا همزَ الماضي في مثل قولهم ؟ :
صَاحِ هل رَيْتَ أو سَمِعْتَ براعٍ
ر َدَّ في الضَّرْع ما قَرَى في الحِلاَبِ
ويحتمل ما في الحديث أن يكونَ بمعنى الرأي ؛ فيكون ظنًّا من قولهم :
رأيتُ كذا ، أي : ظهَرَ لي.
وعليهما يكونُ المقصودُ بالذَّمِّ الذي في الحديث : المتعمِّدَ للكذب علمًا أو ظنًّا.
وأما يُرَى بالضمِّ : فهو مبنيٌّ لما لم يسمَّ فاعله ، ومعناها : الظَّنُّ ، وإنْ كان أصلها مُعَدًّى بالهمزة من رأى ، إلا أنَّ استعمالَهُ في الظَّنِّ أكثرُ وأشهر .
وقوله : فهو أحد الكاذبين : رُوِّينَاهُ بكسر الباء على الجمع ؛ فيكون معناه : أنه أحد الكاذِبِين على رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين قال الله تعالى فيهم : ُ } ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ { " " ف پ ـ ِ الآية ؛ لأنَّ الكذبَ على رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذبٌ على الله.
ورُوِّيناه أيضًا - بفتح الباء على التثنية ؛ ويكون معناه : أنَّ المُحدِّث ، والمُحدَّث بما يظنَّان أو يعلمان كذبَهُ : كاذبان ؛ هذا بما حدَّثَ ، والآخرُ بما تحمَّل من الكذب مع علمه أو ظنِّه لذلك.
ويفيد الحديثُ : التحذيرَ عن أن يحدِّثَ أحدٌ عن رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بما تحقق صدقَهُ علمًا أو ظنًّا ، إلا أن يحدّث بذلك على جهة إظهار الكذب ؛ فإنه لا يتناوَلُهُ الحديث .
(1/30)
وفي "كتاب الترمذيِّ" ، عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ عن النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : اتقوا الحديثَ عنِّي إلا ما عَلِمْتُمْ ؟ ، فَمَنْ كَذَبَ عليَّ متعمِّدًا ، فليتبوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار ، ومَنْ قال في القرآن برأيه ، فليتبوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار ، وقال : هذا حديثٌ حسن.
وقوله : لاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ ، أي : يدخلها ، وماضيه : وَلَجَ ، ومصدره : الوُلُوج ؛ ومنه قوله تعالى : ُ ـ لله ْ ّ ِ ُ ِ.
وصَدْرُ هذا الحديث نهيٌ ، وعجزه وعيدٌ شديد ، وهو عامٌّ في كلِّ كاذبٍ على رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومطلقٌ في أنواعِ الكذب .
ولمَّا كان كذلك ، هابَ قومٌ من السلف الحديثَ عن رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ كعمر ، والزبير بن العَوَّام ، وأنس بن مالك ، وابن هرمز ـ رضى الله عنهم ـ ؛ فإن هؤلاء سمعوا كثيرًا وحدَّثوا قليلاً ؛ كما قد صرَّح الزبير ـ رضى الله عنه ـ بذلك لمّا قال له ابنه عبد الله ـ رضى الله عنه ـ : إني لا أَسْمَعُكَ تحدِّثُ عن رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ كما يُحَدِّثُ فلانٌ وفلان ؟ فقال : أَمَا أنِّي لم أفارقْهُ ، ولكنْ سمعته يقول : مَنْ كَذَبَ عليَّ ، فليتبوَّأْ مقعدَهُ من النار . وقال أنس : إنَّه يمنعني أن أحدِّثَكُمْ حديثًا كثيرًا أنَّ رسولَ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : من كَذَبَ عليَّ... الحديث ، ومنهم : مَنْ سَمِعَ وسكت ؛ كعبد الملك بن إياس ، وكأنَّ هؤلاءِ تخوَّفوا مِنُ إكثار الحديث الوقوعَ في الكذب والغلط ؛ فقلَّلوا ، أو سَكَتوا.
غير أنَّ الجمهور : خصَّصوا عموم هذا الحديث ، وقيَّدوا مطلقَهُ بالأحاديث التي ذُكِرَ فيها : متعمِّدًا ؛ فإنَّهُ يُفْهَمُ منها أنَّ ذلك الوعيدَ الشديدَ إنما يتوجَّه لمن تعمَّد الكذبَ على رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وهذه الطريقة هي المرضيَّة ؛ فإنَّها تجمعُ بين مختلفاتِ الأحاديث ؛ إذ هي تخصيصُ العموم ، وحملُ المطلق على المقيَّدِ مع اتحادِ المُوجِب والمُوجَب ، كما قرَّرناه في الأصول .
(1/31)
هذا ؛ مع أنَّ القاعدةَ الشرعيَّةَ القطعيَّةَ : تقتضي أنَّ المخطئ والناسي غيرُ آثمَينِ ولا مؤاخَذَيْنِ ، لا سيَّما بعد التحرُّز والحذر .
وقوله : إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ ، أي : إنَّ العقاب عليه أشَدُّ ؛ لأنَّ الجرأةَ منه على الكذب أعظمُ ، والمفسدةُ الحاصلةُ بذلك أشَدُّ ؛ فإنَّه كذبٌ على الله تعالى ، ووَضْعُ شرعٍ ، أو تغييرُهُ.
وقوله : فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ، أي : لِيَتَّخِذْ فيها منزلاً ؛ لأنها مقرُّه ومسكنه ، يقال : تبوَّأَتُ منزلاً ، أي : اتَّخَذْتُهُ ونزلتُهُ ، وبوَّأْتُ الرجلَ منزلاً ، أي : هَيَّأْتُهُ له ، ومصدره : بَاءَة ومَبَاءَة.
وهذه صيغةُ أمرٍ ، والمراد بها : التهديدُ والوعيد ، وقيل : معناها الدعاء ، أي : بوَّأَهُ اللهُ ذلك ، وقيل : معناها الإخبارُ بوقوعِ العذاب به في نار جهنم ، وكذلك القولُ في حديث عليٍّ الذي قال فيه : فلْيَلِج النارَ.
وقد روى أبو بكرٍ البَزَّارُ هذا الحديثَ من طريق عبد الله بن مسعود ، وزاد : لِيُضِلَّ به.
وقد اغترَّ بهذه الزيادةِ أناسٌ ممَّن يقصدُ الخيرَ ولا يعرفُهُ ؛ فظَنَّ أنَّ هذا الوعيدَ إنما يتناوُل مَنْ قصَدَ الإضلاَل بالكذب على رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأَمَّا مَنْ قصدَ الترغيب في الأعمال الصالحة ، وتقويةَ مذاهبِ أهل السنة ، فلا يتناوُلُهُ ؛ فوضَعَ الأحاديث لذلك.
وهذه جهالةٌ ؛ لأن هذه الزيادةَ تُرْوَى عن الأعمش ، ولا تصحُّ عنه ، ، وليستْ معروفةً عند نَقَلِةِ ذلك الحديثِ مع شهرته ، ، وقد رواها أبو عبدالله الحاكمُ - المعروفُ بـ ابن البَيِّعِ - من طُرُقٍ كثيرة ، وقال : إنَّها واهيةٌ لا يصحُّ منها شيء .
قلت : ولو صحَّت ، لما كان لها دليلُ خطابٍ ، وإنما كانت تكونُ تأكيدًا ؛ كقوله تعالى : ُ . س ش ر ز ط ظ ص ض [ گ ِ ؛ وافتراءُ الكذبِ على الله تعالى محرَّمٌ مطلقًا ، قصَدَ به الإضلالَ أو لم يقصد ؛ قاله الطحاويُّ.
(1/32)
ولأنَّ وَضْعَ الخبر الذي يُقْصَدُ به الترغيبُ كذِبٌ على الله تعالى في وضعِ الأحكام ؛ فإنَّ المندوبَ قِسْمٌ من أقسام الأحكام الشرعية ، وإخبارٌ عن أنَّ الله تعالى وَعَدَ على ذلك العملِ بذلك الثواب ، وكلُّ ذلك كذِبٌ وافتراءٌ على الله تعالى ؛ فيتناوله عمومُ قوله تعالى : {فَمَنْ} {أَظْلَمُ مِمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.
وقد استجازَ بعضُ فقهاءِ العراق نسبةَ الحكمِ الذي دَلَّ عليه القياسُ إلى رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نسبةً قوليَّة ، وحكايةً نقليَّة ، فيقول في ذلك : قال رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذا وكذا ؛ ولذلك ترى كتبهم مشحونةً بأحاديثَ مرفوعهْ ، تشهدُ متونُها بأنَّهَا موضوعَهْ ؛ لأنَّهَا تُشْبِهُ فتاوى الفقهاءْ ، ولا تليقُ بجزالة كلامِ سيِّد الأنبياءْ ، مع أَنَّهُمْ لا يقيمون لها صحيحَ سَنَدْ ، ولا يُسْنِدونها من أئمَّةِ النقل إلى كبير أَحَدْ ، فهؤلاء قد خالفوا ذلك النهي الوكيدْ ، وشَمِلَهُمْ ذلك الذَّمُّ والوعيدْ.
ولا شَكَّ في أنَّ تكذيبَ رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كُفْر ، وأمَّا الكَذِبُ عليه : فإنْ كان الكاذبُ مستحلًّا لذلك ، فهو كافر ، وإن كان غيرَ مستحلٍّ ، فهو مرتكبُ كبيرةٍ ، وهل يكفُرُ بها أم لا ؟ اختُلِف فيه على ما مَرَّ ، والله أعلم.
بَابُ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُحَدِّثَ مُحَدِّثٌ بِكُلِّ مَا سَمِعَ
عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ؟ قَالَ : كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ .
قُلْتُ : أَكْثَرُ النَّاسِ يُرْسِلهُ عَنْ حَفْصٍ : لا يَذْكُرُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، فَأَسْنَدَهُ الرَّازِي وَحْدَهُ وَهُوَ ثِقَة .
وَقَالَ عُمَرُبْنُ الخَطَّابِ ، وابْنُ مَسْعُودٍ : بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَاسَمِعَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : اِعْلَمْ أَنَّه لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَاسَمِعَ ، وَلاَ يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَاسَمِعَ .
(1/33)
وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ ، َقالَ : سَأَلَنِي إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ : إِنِّي أَرَاكَ قَدْ كَلِفْتَ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ ، فَاقْرَأْ عَلَيَّ سُورَةً وَفَسِّرْ ؛ حَتَّى أَنْظُرَ فِيمَا عَلِمْتَ ، قَالَ : فَفَعَلْتُ ، فَقَالَ لِيَ : احْفَظْ عَلَيَّ مَا أَقُولُ لَكَ : إِياَّكَ وَالشَّنَاعَةَ فِي الْحَدِيثِ ! فَإِنَّهُ قلَّمَا حَمَلَهَا أَحَدٌ إِلاَّ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ ، وَكُذِّبَ فِي حَدِيثِه .
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مِسْعُودٍ ؛ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ ، إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً .
ومِنْ بَابُ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُحَدِّثَ مُحَدِّثٌ بِكُلِّ مَا سَمِعَ
قولُهُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ : هذا الحديث رواه مسلم في كتابه من طريقين :
أحدهما : طريق عبد الرحمن بن مَهْدِيِّ عن خُبيبِ بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، قال : قال رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كفى بالمرء كذِبًا ... الحديثَ هكذا ؛ مرسلاً عن حفص ، ولم يذكُرْ أبا هريرة ؛ هكذا وقع عند كافَّة رواة كتاب مسلم ، ووقَعَ عند أبي العَبَّاس الرازيِّ - وحده - في هذا الإسناد : عن أبي هريرة ، فأسنده.
ثمَّ أردَفَ مسلمٌ الطريق الآخر : عن عليِّ بنِ حَفْص المدائنيِّ ، عن شعبة ، عن خُبَيْب ، عن حفص ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مثله ، قال عليّ بن عمر الدَّارَقُطْنِيُّ : والصوابُ المرسل.
والباء في بالمرء : زائدةٌ هنا على المفعول ، وفاعل كفى : أن يحدِّث ، وقد تزاد هذه الباء على فاعل كفى ؛ كقوله تعالى : {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} : وكذبًا وشهيدًا : منصوبان على التمييز.(1/34)
ومعنى الحديث : أنَّ مَنْ حدَّث بكلِّ ما سمع ، حصَلَ له الحظُّ الكافي من الكذب ؛ فإنَّ الإنسان يسمعُ الغَثَّ والسمين ، والصحيح والسقيم ، فإذا حدَّث بكل ذلك ، حدَّثَ بالسقيم وبالكذب ، ثم تُحَمِّلَ عنه ، فيَكْذِبُ في نفسه أو يُكْذَبُ بسببه.
ولهذا أشار مالك - رحمه الله - بقوله : لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَاسَمِعَ ، وَلاَ يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا ، أي إذا وُجِدَ الكَذِبُ في روايته ، لم يوثَقُ بحديثه ، وكان ذلك جَرْحَةً فيه ؛ فلا يصلحُ ليقتديَ به أحدٌ ولو كان عالمًا ، فلو بيَّن الصحيحَ من السقيم ، والصادقَ من الكاذب ، سَلِمَ من ذلك ، وتقصَّى عن عُهْدَةِ ما يجبُ عليه من النصيحة الدينيَّة.
وقوله : إِنِّي أَرَاكَ قَدْ كَلِفْتَ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ ، هو بكسر اللام من الكَلَفِ بالشيء ، وهو الوَلُوعُ به ، والمحبَّةُ له ، والاعتناءُ به ؛ وهكذا صحَّت روايتُنا فيه ، ، ورُويَ من طريق الطبريِّ : عَلِقْتَ ، وهو من العَلاَقة ، وهي المحبة .
والشناعة في الحديث : هي ما يُسْتَقْبَحُ ، ويُسْتنكر ؛ يقال : شَنِعْتُ بالشيء ، أي : أنكرتُهُ ، بكسر النون ، وشَنُعَ الشيءُ بضمها : قَبُحَ في نفسه ، وشَنَّعْتُ على - الرجل مشدَّدًا - : إذا ذَكَرْتَ عنه قبيحًا ؛ . حذَّره بهذا القولِ عن أن يحدِّثَ بالأحاديثِ المنكرة ، فيُكَذَّبُ وَيَذِلُّ.
قوله : مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ ، إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ، أي : حديثاً لا يفهمونَهُ ولا يُدْرِكون معناه .
والفتنة هنا : الضلالُ والحيرة ، وهي تتصرَّف في القرآن على أوجه متعدِّدة ، وأصلها : الامتحان والاختبار ؛ ومنه قولهم : فَتَنْتُ الذهبَ بالنار : إذا اختبرتَهُ بها ، وهذا نحو ؛ مما قال في حديث آخر : حَدِّثوا الناسَ بما يفهمون ؛ أتريدون أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُهُ؟!.
بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْكَذَّابِينَ
(1/35)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الأَْحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ ! لا يُضِلُّونَكُمْ ، وَلاَ يَفْتِنُونَكُمْ .
وَقَالَ عَبْدُاللهِ : إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ ، فَيَأْتِي الْقَوْمَ فَيُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ مِنَ الْكَذِبِ ، فَيَتَفَرَّقُونَ ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ : سَمِعْتُ رَجُلاً - أَعْرِفُ وَجْهَهُ ، وَلاَ أَدْرِي مَا اسْمُهُ - يُحَدِّثُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : إِنَّ فِي الْبَحْرِ شَيَاطِينَ مَسْجُونَةً ، أَوْثَقَهَا سُلَيْمَانُ ؛ يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ فَتَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ قُرْآنًا .
وَمِنْ بَابِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْكَذَّابِينَ
قوله : يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ الحديث ، الدَّجَّال : الكَذَّابُ ، المَمَوِّهُ بكذبه ، الملبِّسُ به ، يقال : دَجَلَ الحقَّ بباطله ، أي : غطَّاه ، ودجَلَ ، أي : مَوَّهَ وكَذَب ؛ وبه سمي الكذَّابُ الأعور ، ، وقيل : سُمِّيَ بذلك ؛ لضربه في الأرض وقطعه نواحيَهَا ، يقال : دَجَُلَ الرجلُ ، بالفتح والضم : إذا فعل ذلك ؛ حكاه ثعلب.
وهذا الحديثُ إخبارٌ من النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنّه سيُوجَدُ بعده كذّابون عليه ، يُضِلُّونَ الناسَ بما يضعونه ويختلقونه ، وقد وُجِدَ ذلك على نحو ما قاله ؛ فكان هذا الحديثُ ، مِنْ دلائلِ صدقه ، ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ذكر أبو عُمَرَ ابنُ عبد البَرِّ ، عن حَمَّاد بن زيد أنَّه قال : وضعتِ الزنادقةُ على رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ اثنَيْ عشَرَ ألفَ حديثٍ بَثُّوهَا في الناس.
وحُكِيَ عن بعضِ الوضَّاعين أنه تاب فبكى ، وقال : أَنَّى لي بالتوبةِ وقد وَضَعْتُ اثنَيْ عَشَرَ ألفَ حديثٍ على النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كُلُّهَا يُعْمَلُ بها؟!.
(1/36)
وقد كتب أئمَّةُ الحديث كتبًا كثيرة ، بيّنوا فيها كثيرًا من الأحاديث الموضوعةِ المنتشرةِ في الوجود ، قد عمل بها كثيرٌ من الفقهاء الذين لا عِلْمَ لهم برجال الحديث .
وقوله : فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ ! لا يُضِلُّونَكُمْ ، وَلاَ يَفْتِنُونَكُمْ ؛ كذا صحَّتِ الروايةُ فيه بإثبات النون ، والصوابُ حذفها ؛ لأنَّ ثبوتها يقتضي أن تكون خبرًا عن نَفْي وقوعِ الإضلالِ والفتنة ، وهو نقيضُ المقصود ، فإذا حُذِفَت ، احتَمَل حذفُهَا وجهين ؟ :
أحدهما : أن يكون ذلك مجزومًا على جواب الأمر الذي تضمَّنَهُ إيَّاكم ؛ فكأنه قال : احذَرُوهُمْ لا يضلُّوكم ولا يفتنوكم.
وثانيهما : أن يكونَ قوله : لا يضلوكم نهيًا ، ويكون ذلك من باب قولهم : لا أَرَيَنَّكَ ههنا ، أي : لا تتعرَّضوا لإضلالهم ولا لفتنتهم.
وقوله : إِنَّ فِي الْبَحْرِ شَيَاطِينَ مَسْجُونَةً ، أَوْثَقَهَا سُلَيْمَانُ... الحديثَ ، هذا ونحوه لا يتوصَّلُ إليه بالرأي والاجتهاد ، بل بالسمع. والظاهر : أن الصحابة إنما تستنُد في هذا للنبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مع أنه يحتملُ أن يحدِّثَ بذلك عن بعضِ أهل الكتاب .
وقوله : يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ فَتَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ قُرْآنًا :
يُوشِكُ بكسر الشين ، وهي من أفعال المقاربة ، وماضيها : أَوْشَكَ ، ومعناه : مقاربة وقوعِ الشيء وإسراعُهُ ، والوَشْكُ ، بفتح الواو : السرعةُ ، وأنكر الأصمعيُّ الكسر فيها ، وحكى الجوهري الضَّمَّ فيها.
وتستعمل يوشك على وجهَيْن ؛ ناقصةٍ تفتقر إلى اسم وخبر ، وتامَّةٍ تستقلُّ باسمٍ واحد :
فالناقصة : تَلْزَمُ خبرَهَا أنْ غالبًا ؛ لما فيها من تراخي الوقوع ، وتكونُ بتأويلِ المصدر ؛ كقولك : يُوشِكُ زيدٌ أن يذهب ، أي : قارَبَ زيدٌ الذَّهَابَ ، وربَّما حذفتْ أنْ ؛ تشبيهًا لها بـ كاد ؛ كقول الشاعر ؟ :
يُوشِكُ مَنْ فَرَّ مِنْ مَنِيَّتِهِ
فِي بَعْضِ غِرَّاتِهِ يُوَافِقُهَا
(1/37)
والتامَّةُ : تكتفي باسم واحد ، وهو أنْ مع الفعلِ بتأويلِ المصدر ، بمعنى قَرُبَ ؛ كما في خبر ابن عمرو هذا .
و القرآن أصله : الضَّمُّ والجمع ؛ ومنه قولُ مَنْ مدح ناقته فقال :
...................
هِجَانِ اللَّوْنِ لم تَقْرَأْ جَنِينَا
ومنه سُمِّيَ كتابُ الله تعالى قرآنًا ؛ لِمَا جمَعَ من المعاني الشريفة ، ثم قد يقال مصدرًا بمعنى القراءة ؛ كما قال الشاعر في عثمان ـ رضى الله عنه ـ :
...................
يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا
أي : قراءةً .
ومعنى هذا الحديث الإخبارُ بأنَّ الشياطين المسجونَة ستخرُجُ ، فتُمَوِّهُ على الجهلة بشيء تقرؤُهُ عليهم ، وتلبِّس به ؛ حتى يحسبوا أنه قرآن ، كما فعله مسيلمة ، أو تٌسْرُدُ عليهم أحاديث تسندها للنبي ؟ كاذبةً ، وسميت قرآنًا ؛ لما جمعوه فيها من الباطل.
وعلى هذا الوجه يستفاد من الحديث التحذيرُ من قَبُول ِحديث من لا يُعْرَفُ ، وعلى الأول التحذيرُ من قبول ما لا يُعْرَف.
بَاب الإِْسْنَادِ مِنَ الدِّينِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : إِنَّ هذَا الْعِلْمَ دِينٌ ؛ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ .
وَقَالَ : لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِْسْنَادِ ، فَلمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا : سَمُّوا لَناَ رِجَاَلكُمْ : فَيُنْظَرُ إِلى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ ، وَيُنُظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ .
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : الإِْسْنَادُ مِنَ الدِّينِ ، وَلَوْلاَ الإِْسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ .
وَقَالَ : بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ ، يَعْني : الإِسْنَادَ.
(1/38)
وَعَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ، قَالَ : فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ! مَالِي لاَ أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي ؟! أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ؟ وَلاَ تَسْمَعُ ؟! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا ، وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ ، لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ مَا نَعْرِفُ.
وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّا كُنَّا نُحَدَّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ تَرَكْنَا الْحَدِيثَ عَنْهُ.
ومِنْ بَاب الإِْسْنَادِ مِنَ الدِّينِ
أي : مِنْ أصوله ؛ لأنَّهُ لمَّا كان مرجعُ الدينِ إلى الكتابِ والسُّنَّة ، والسنَّةُ لا تؤخذ عن كُلِّ أحد : تعيَّنَ النظرُ في حال النَّقَلَةِ ، واتِّصَالِ روايتهم ، ولولا ذلك ، لاختلط الصادقُ بالكاذب ، والحقُّ بالباطل ، ولمَّا وجَبَ الفرقُ بينهما ، وجَبَ النظرُ في الأسانيد.
وهذا الذي قاله ابنُ المبارك : قد قاله قبله أنسُ بنُ مالك ، وأبو هريرة ، ونافعٌ مولى ابن عمر ، وغيرهم ، وهو أمرٌ واضحُ الوجوب لا يُخْتَلَفُ فيه :
قال عقبةُ بن نافع لبنيه : يا بَنِيَّ ، لا تقبلوا الحديثَ إلا مِنْ ثقة . وقال ابن معين : كان فيما أوصى به صُهَيْبٌ بنيه أنْ قال : يا بَنِيَّ ، لا تَقْبَلُوا الحديثَ عن رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا مِنْ ثقة .
وقال ابن عَوْن : لا تأخذوا العلمَ إلا ممن يُشْهَدُ له بالطلب.
(1/39)
وقال سليمانُ بن موسى : لا يؤخذُ العلمُ مِنْ صَحَفِيٍّ ، وقال أيضًا : قلتُ لطاوسٍ : إنَّ فلانًا حدَّثني بكذا وكذا ، فقال : إن كان مليًّا ، فَخُذْ عنه.
وقوله : لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِْسْنَادِ ؛ يعني بذلك : مَنْ أدرَكَ من الصحابة وكبراء التابعين.
أما الصحابة : فلا فرق بين إسنادهم وإرسالهم ؛ إذ الكلُّ عدولٌ على مذهب أهل الحَقِّ ، كما أوضحناه في الأصول ؛ وكُلُّ من خالَفَ في قبول مراسيل غير الصحابة وافَقَ على قبولِ مراسيل الصحابة.
وأما كُبَرَاءُ التابعين ومتقدِّموهم : فالظاهر من حالهم أنهم يحدِّثون عن الصحابة إذا أرسلوا ، فتُقْبَلُ مراسيلهم ، ولا ينبغي أن يُخْتَلَفَ فيها ؛ لأنَّ المسكوتَ عنه صحابيٌّ ، وهم عدول ، وهؤلاء التابعون هم كعروةَ بن الزُّبَيْرِ ، وسعيد بن المسيِّب ، ونافعٍ مولى ابن عمر ، ومحمد بن سِيرِينَ ، وغيرهم مِمَّنْ هو في طبقتهم.
وأمَّا من تأخَّر عنهم ممن حدَّثَ عن متأخِّرِي الصحابة وعن التابعين : فذلك محلُّ الخلاف ، والصواب : قَبُولُ المرسَل إذا كان المُرْسِلُ مشهورَ المذهب في الجرح والتعديل ، وكان لا يحدِّثُ إلا عن العدول ؛ كما أوضحناه في الأصول.
وقوله : فَلمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا : سَمُّوا لَناَ رِجَاَلكُمْ ، هذه الفتنة يعني بها - والله أعلم - فتنةَ قتلِ عثمان ـ رضى الله عنه ـ ، وفتنةَ خروجِ الخوارجِ على عليٍّ ومعاوية ـ رضى الله عنهما ـ ؛ فإنَّهم كفَّروهما حتى استحلُّوا الدماءَ والأموال.
وقد اختُلِفَ في تكفير هؤلاء ، ولا شَكَّ في أنَّ من كفَّرهم لم يَقْبَلْ حديثهم ، ومن لم يكفِّرْهُمْ ، اختلفوا في قَبُولِ حديثهم ؛ كما بَيَّنَّاهُ فيما تقدَّم.
فيعني بذلك - والله أعلم - : أنَّ قَتَلَةَ عثمان والخوارجَ لَمَّا كانوا فُسَّاقًا قطعًا ، واختلطَتْ أخبارهم بأخبار مَنْ لم يكنْ منهم ، وجَبَ أن يُبْحَثَ عن أخبارهم فَتُرَدُّ ، وعن أخبار غيرهم ممَّن ليس منهم فتُقبَلُ ، ثم يجري الحُكْمُ في غيرهم من أهل البدعِ كذلك .
(1/40)
ولا يَظُنُّ أحدٌ له فَهْمٌ : أنَّهُ يعني بـ الفتنة فتنةَ عليٍّ وعائشةَ ومعاويةَ ؛ إذ لا يصحُّ أن يقال في احدٍ منهم : مبتدعٌ ، ولا فاسقٌ ، بل كلٌّ منهم مجتهدٌ عَمِلَ على حسب ظنِّه ، وهُمْ في ذلك على ما أجمَعَ المسلمون عليه في المجتهدين من القاعدة المعلومة ، وهي أنَّ كلَّ مجتهدٍ مأجورٌ غيرُ مأثوم ؛ على ما مهَّدناه في الأصول.
وقوله : جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، بُشَيْرٌ : بضم الباء ، وفتح الشين ، وياء التصغير بعدها ، وهو عدويٌّ بصريٌّ يكنى أبا أَيُّوب ، حدَّث عن أبي ذر ، وأبي هريرة ، وأبي الدرداء ، وحدَّث عنه : عبد الله بن بُرَيْدة ، وطَلْقُ بن حَبِيب ، والعلاءُ بن زياد.
وقوله : فجعَلَ لا يَأْذَنُ لحديثِهِ ، أي : لا يُصْغِي إليه بِأُذُنه ، ولا يستمعه ؛ ومنه قوله تعالى : ُ £ × % ء پ! ! ِ .
وقوله : كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا ، وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا ، أي : قَبِلْنَا منه ، وأَخَذْنَا عنه .
هذا الذي قاله ابن عبَّاس يشهَدُ بصحة ما تأوَّلنا عليه قولَ ابنِ سيرين ؛ فإنَّ ابن عبَّاس كان في أوَّل أمره يحدِّثُ عن الصحابة ، ويأخذ عنهم ؛ لأنَّ سماعَهُ من رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قليلاً ؛ لصغر سنه ، فكان حاله مع الصحابة كما قال ، فلمَّا تلاحَقَ التابعون وحدَّثوا ، وظهر له ما يوجبُ الرِّيبَةَ ، لم يأخذْ عنهم ؛ كما فعل مع بُشَير.
وقوله : فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ ، لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ مَا نَعْرِفُ ، هذا مَثَلٌ ، وأصلُهُ في الإبل ، ومعناه : أن الناس تسامَحُوا في الحديثِ عن رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، واجترؤوا عليه ؛ فتحدَّثوا بالمرضيِّ منه الذي مثَّله بالذَّلُولِ من الإبل ، وبالمنكرِ منه الممثِّلِ بالصعبِ من الإبل .(1/41)
وقوله : لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ مَا نَعْرِفُ ، أي : إلا ما نَعْرِفُ ثقةَ نَقَلَتِهِ ، وصحةَ مَخْرَجِهِ.
وقوله : إِنَّا كُنَّا نُحَدَّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، الصحيحُ في نُحَدَّثُ بضم النون ، وفتح الدال مشدَّدة ؛ مبنيًّا للمفعول ؛ ويؤيِّده : قوله في الرواية الأخرى : كُنَّا إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا .
وكذلك وجدتُّه مقيدًا بخط مَن يُعْتَمَدُ على عِلْمِهِ وتقييده ، وقد وجدتُّهُ في بعضِ النسخِ بكسر الدال ، وفيه بُعْدٌ ، ولعلَّه لا يَصِحُّ.
بَابُ الأَْمْرِ بِتَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ وَوُجُوبِ الْكَشْفِ عَمَّنْ لَهُ عَيْبٌ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ
عَنْ عَائِشَة ؛ أَنَّهَا قَالَتْ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ .
اسْتَدَلَّ بِهِ مُسْلِمٌ هَكَذَا وَلَمْ يُسْنِدْهُ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فِي مُصَنَّفِه ، وَأَبُو بَكْرٍ البَزَّارُ فِي "مُسْنَدِه" ، وَقَالَ : لا يُعْلَمُ إِلا مِنْ حَدِيثِ مَيْمُون بْنِ أَبِي شَبِيبٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ؟ .
(1/42)
وَعَنْ أَبِي عَقِيلٍ يَحْيَى بْنِ الْمُتَوَكِّلِ- صَاحِبِ بُهَيَّةَ - قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، فَقَالَ يَحْيَى لِلْقَاسِمِ : يَا أَباَ مُحَمَّدٍ ، إِنَّهُ قَبِيحٌ - عَلَى مِثْلِكَ - عَظِيمٌ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ ، فَلاَ يُوجَدَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ وَلاَ فَرَجٌ! - أَوْ عِلْمٌ وَلاَ مَخْرَجٌ! - فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ : وَعَمَّ ذَاكَ ؟ قَالَ : لأَنَّكَ ابْنُ إِمَامَيْ هُدًى ؛ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، قَالَ : يَقُولُ لَهُ الْقَاسِمُ : أَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ : أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، أَوْ آخُذَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ ، قَالَ : فَسَكَتَ فَمَا أَجَابَهُ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيْدٍ : إِنِّي لأُعْظِمُ أَنْ يَكُوْنَ مِثْلُكَ - وَأَنْتَ ابْنُ إِمَامَي الْهُدَى ؛ يَعْنِي عُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ - تُسْأَلُ عَنْ أَمْرٍ لَيْسَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ ، فَقَالَ : أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ : أَنْ أَقُوْلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَو أُخْبِرَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ .
وَقَاَلَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ : لَمْ تَرَ أَهْلَ الْخَيْرِ فِي شَيْءٍ أَكْذَبَ مِنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ .
قَالَ مُسْلِمٌ : يَقُولُ : يَجْرِي الْكَذِبُ عَلَى لِسَانِهِمْ ، وَلاَ يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ.
وَقَالَ أَبُو الْزِّنَادِ : أَدْرَكْتُ بِالمَدِينَةِ مِائةً ، كُلُّهُمْ مَأْمُونٌ ، مَايُؤْخَذُ عَنْهُمُ الْحَدِيثُ ، يُقَالُ : لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ .
(1/43)
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ ، وَشُعْبَةَ ، وَمَالِكًا ، وَابْنَ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الرَّجُلِ لاَيَكُونُ ثَبْتًا فِي الْحَدِيثِ ، فَيأْتِينِي الرَّجُلُ فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ ؟ فَقَالُوا : أَخْبِرْ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَبْتٍ.
وَذَكَرَ مُسْلِمٌ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ السَّلَفِ - كَابْنِ الْمُبَارَكِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ - : التَّنْصِيصَ عَلَى عُيُوبِ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ ، وَذَكَرَ كَذِبَ بَعْضِهِمْ ، والتَّحْذِيرَ عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ : بَابًا طَوِيلاً قَالَ فِي آخِرِهِ : وَإِنَّمَا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمُ الْكَشْفَ عَنْ مَعَايِبِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ ، وَنَاقِلِي الأَخْبَارِ ، وَأَفْتَوْا بِذَلِكَ- حِينَ سُئِلُوا- لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْخَطَرِ ؛ إِذِ الأَْخْبَارُ فِي أَمْرِ الدِّيِنِ إِنَّمَا تَأْتِي بِتَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ ، أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ ، أَوْ تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ ؛ فَإِذَا كَانَ الرَّاوِي لَهَا لَيْسَ بِمَعْدِنٍ لِلصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ ، ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَنْ قَدْ عَرَفَهُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا فِيهِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ جَهِلَ مَعْرِفَتَهُ : كَانَ آثِمًا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ ، غَاشًّا لِعَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ ؛ إِذْ لا يُؤْمَنُ عَلَى بَعْضِ مَنْ سَمِعَ تِلْكَ الأَخْبَار أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا ، أَوْ يَسْتَعْمِلَ بَعْضَهَا ، وَلَعَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا أَكَاذِيبُ لاَ أَصْلَ لَهَا .
فَهَذَا الْبَابُ مَا ذَكَرَهُ فِي صَدْرِ كِتَابِهِ .
وَمِنْ بَابُ الأَْمْرِ بِتَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ وَوُجُوبِ الْكَشْفِ عَمَّنْ لَهُ عَيْبٌ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ
قولُ عائشة ـ رضى الله عنها ـ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ :
(1/44)
استدلالُ مسلمٍ بهذا الحديث يدُلُّ - ظاهرًا - على أَنَّه لا بأسَ به ، وأنّه ممّا يحتجُّ به عنده ، وإنما لم يُسْنِده في كتابه ؛ لأنَّه ليس على شَرْطِ كتابه .
وقد أسنده أبو بكر البزَّار في مسنده ، عن ميمونِ بنِ أبي شَبِيبٍ ، عن عائشة ، عن النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقال : لا يُعْلَمُ عن النبيّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلاّ مِنْ هذا الوجه ، وقد رُويَ عن عائشة من غير هذا الوجه موقوفًا.
وقد ذكَرَهُ أبو داود في "مصنَّفه" ، فقال : حدَّثنا إسماعيلُ بنُ أبي خَلَف ؛ أنَّ يحيى بن يَمَانٍ أخبرهم ، عن سفيان ، عن حَبيبِ بنأبي ثابت ، عن ميمونِ بْنِ أبي شبيب ؛ أنَّ عائشة ـ رضى الله عنها ـ مَرَّ بها سائلٌ فأعطَتْهُ كِسْرةً ، ومَرَّ بها رجلٌ عليه ثيابٌ وهيئة ، فأقعدتْهُ فأكَلَ ، فقيل لها في ذلك ؟ فقالت : قال رسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَنزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ.
قال ابن الأعرابي : قال أبو داود : ميمونٌ لم يَرَ عائشة.
قال الشيخ ـ رضى الله عنه ـ وعلى هذا : فالحديثُ منقطعٌ ؛ فقد ظهر لأبي داود من هذا الحديث ما لم يظهَرْ لمسلم ، ولو ظهَرَ له ذلك ، لما جاز له أن يستَدِلَّ به ، إلا أن يكونَ يعملُ بالمراسيل ، والله أعلم.
على أنَّ مسلمًا إنَّما قال : وذُكِرَ عن عائشة ، وهو مشعرٌ بضعفه ، وأنَّهُ لم يكنْ عنده ممَّا يعتمده.
ومعنى هذا الحديث : الحَضُّ على مراعاةِ مقادير الناس ، ومراتبهم ، ومناصبهم ، فيعامل كلُّ واحد منهم بما يليقُ بحاله ، وبما يلائمُ منصبه في الدينِ والعلمِ والشَّرَفِ والمرتبة ؛ فإنَّ الله تعالى قد رتَّبَ عبيده وخَلْقَه ، وأعطى كلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه ، وقد قال ؟ : خيارُهُم في الجاهليَّةِ خيارُهُمْ في الإسلام إذا فقُهُوا.
و أبو عَقِيل هو : بفتح العين وكسر القاف ، واسمه : يحيى بن المتوكِّل ؛ كما ذكره في الأصل.
(1/45)
و بُهَيَّة بضم الباء ، وفتح الهاء ، وياء بعدها ، تصغير بَهْيَة ، وهي امرأة كانت تروي عن عائشة أمِ المؤمنين ـ رضى الله عنها ـ ، وهي التي سمَّتها بهذا الاسم ، وهذا أبو عَقِيلٍ قد روى عنها ، وعُرِفَ بها ؛ فنُسِبَ إلى صحبتها ، خَرَّجَ وقد عنها أبو داود.
وقولُ يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ للقاسم : إنَّكَ ابْنُ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ ، إنما صحَّتِ النسبتان على القاسم ؛ لأنَّ أباه هو عُبَيدُ الله بن عبدالله بن عمر ، وأُمُّه هي ابنةُ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدِّيق وباسم جَدِّهِ هذا ، كان يكنَّى ؛ فعمر جَدُّهُ لأبيه الأعلى ، وأبو بكر جَدُّه لأمِّه ؛ فصدَقَتْ عليه النسبتان.
وقولُ يحيى القَطَّان : لم تر أهلَ الخير في شَيْءٍ أكذَبَ مِنْهُمْ في الحديثِ ، يعني به : الغلَطَ والخطَأَ ؛ كما فسَّره مسلم .
وسببُ هذا : أنَّ أهلَ الخير هؤلاء المعنيِّين غَلَبَتْ عليهم العبادة ، فاشتغلوا بها عن الرواية ، فَنَسُوا الحديثَ ، ثم إنَّهم تعرَّضوا للحديث فَغَلِطُوا ، وكَثُرَ عليهم الوَهَمُ فتُرِكَ حديثهم ، كما اتفق للعُمَرِيِّ ، وفَرْقَدٍ السبخيّ ، وغيرِهِما.
وقولُ أبي الزِّنَادِ : أدركْتُ بالمدينة مائةً كلُّهم مأمون ، يعني : أَنَّهم كانوا موثوقًا بهم في دينهم وأمانتهم ، غير أنّهم لم يكونوا حفَّاظًا للحديث ، ولا متقنين لروايته ، ولا متحرِّزين فيه ؛ فلم تكن لهم أهليَّةُ الأخذ عنهم ، وإن كانوا قد تعاطَوُا الحديثَ والرواية ، وفُتْيَا سفيان ومَنْ بعده هي التي يجبُ العملُ بها.
ولا يختلفُ المسلمون في ذلك ؛ لما ذكره مسلمٌ بعدَ هذا وأوضحَهُ ، وحاصلُهُ أَنَّ ذِكْرَ مساوئِ الراوي والشاهِدِ القادحةِ في عدالتهما وفي روايتهما : أمرٌ ضروريٌّ ؛ فيجب ذلك ؛ فإنه إنْ لم يُفْعَلْ ذلك ، قُبِلَ خبرُ الكاذب ، وشهادةُ الفاسق ، وغُشَّ المسلمون ، وفسدَتِ الدنيا والدين.
(1/46)
ولا يُلْتَفَتُ لقولِ غبيٍّ جاهلٍ يقول : ذلك غِيبَةٌ ؛ لأنَّهَا - وإنْ كانت مِنْ جنس الغِيبة - فهي واجبةٌ بالأدلَّةِ القاطعة ، والبراهينِ الصادعة ؛ فهي مستثناةٌ مِنْ أصلِ تلك القاعدة ؛ للضرورةِ الداعية.
[ 1 ] كِتَابُ الإِْيمَانِ
بَابُ مَعَانِي الإِْيمَانِ وَالإِْسْلاَمِ وَالإِْحْسَانِ شَرْعًا
عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ، قَالَ : كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الْحِمْيَرِيُّ - حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ - فَقُلْنَا : لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلاءِ فِي الْقَدَرِ!! فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلاً الْمَسْجِدَ ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي ، أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ ، وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلامَ إِلَيَّ ، فَقُلْتُ : أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ - وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لاَ قَدَرَ ، وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ ؟ فقَالَ : إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي ، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ ! لَوْ أَنَّ لأَِحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ ، مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ.
(1/47)
ثُمَّ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَاتَ يَوْمٍ ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ ، لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ ، وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَخْبِرْنِي عَنِ الإِْسْلامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : الإِْسْلامُ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ ! قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِْيمَانِ ، قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِْحْسَانِ ، قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ .
قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ ، قَالَ : مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا ، قَالَ : أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا ، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ، قَالَ : ثُمَّ انْطَلَقَ ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ، ثُمَّ قَالَ : يَا عُمَرُ ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ ؟ قُلْتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ ؛ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ .
(1/48)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : سَلُونِي ، فَهَابُوهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ ، قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رُكْبَتَيْهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا الإِْسْلاَمُ ؟ قَالَ : أَلاَّ تُشْرِكَ بِاللهِ شَيْئًا - فِي رِوَايَةٍ : تَعْبُدُ اللهَ ، وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا - وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ - فِي رِوَايَةٍ : الْمَكْتُوبَةَ - وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ - فِي رِوَايَةٍ : الْمَفْرُوضَةَ - وَتَصُومُ رَمَضَانَ ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا الإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا الإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَخْشَى اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ، قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ ؟ قَالَ : مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا : إِذَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا ، وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الأَرْضِ ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا ، وَإِذَا رَأَيْتَ رِعَاءَ الْبَهْمِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا ، فِي خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللهُ ، ثُمَّ قَرَأَ [لقمَان : 34]{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَْرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ *} ، ثُمَّ قَامَ الرَّجُلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : رُدُّوهُ عَلَيَّ ، فَالْتُمِسَ(1/49)
فَلَمْ يَجِدُوهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هَذَا جِبْرِيلُ ، أَرَادَ أَنْ تَعَلَّمُوا إِذْ لَمْ تَسْأَلُوا .
وَفِي رِوَايَةٍ : إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ بَعْلَهَا يَعْنِي : السَّرَارِيَّ.
ِكتَابُ الإِْيمَانِ ومِنْ بَابِ مَعَانِي الإِْيمَانِ وَالإِْسْلاَمِ وَالإِْحْسَانِ شَرْعًا
مقصودُ هذا الباب : إيضاحُ معاني هذه الأسماءِ في الشَّرْعِ دون اللغة ؛ فإنَّ الشرعَ قد تصرَّفَ فيها ؛ على ما يأتي بيانه .
قولُ يحيى بنِ يَعْمَر : كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ :
معبدٌ هذا : هو معبدُ بنُ عبد الله بن محمَّدٍ ، وقيل : معبدُ بنُ خالد ، والصحيحُ : أنْ لا يُنْسَب.
وهو بصريٌّ روَى عن عمرَ مرسلاً ، وعن عِمْرَانَ ، وروى عنه : قتادةُ ، ومالكُ بن دينارٍ ، وعَوْفٌ الأعرابيُّ .
قال أبو حاتم : وكان صدوقًا في الحديث ، ورأسًا في القَدَر ، قَدِمَ المدينة فأفسَدَ فيها ما شاء ، وقال يحيى بن معين : هو ثقة.
القَدَر : مصدرُ قَدَرْتُ الشيءَ - خفيفة الدال - أقْدِرُهُ وأقْدُرُه قَدْرًا وقَدَرًا : إذا أحَطْتَ بمقداره ، ويقال فيه : قدَّرْتُ أُقَدِّرُ تقديرًا ، مشدَّدَ الدالِ للتضعيف ؛ فإذا قلنا : إنَّ الله تعالى قدَّرَ الأشياءَ ، فمعناه : أنَّهُ تعالى علِمَ مقاديرها وأحوالَهَا وأزمانَهَا قبل إيجادها ، ثُمَّ أوجَدَ منها ما سبَقَ في علمه أنَّهُ يُوجِدُهُ على نحو ما سبَقَ في علمه ؛ فلا مُحْدَثَ في العالمِ العُلْويِّ والسُّفلْيِّ إلاَّ وهو صادرٌ عن علمِه تعالى وقدرتِه وإرادتِه .
هذا هو المعلومُ من دِينِ السلف الماضين ، والذي دلَّت عليه البراهين.
وقد حكى أربابُ المقالاتِ عن طوائفَ من القدريَّةِ إنكارَ كونِ الباري تعالى عالمًا بشيءٍ من أعمال العباد قبل وقوعها منهم ، وإنَّمَا يَعْلَمُهَا بعد كونها ، قالوا : لأنَّه لا فائدةَ لِعِلْمِهِ بها قبل إيجادها ، فهو عَبَثٌ ، وهو على الله تعالى محال.
(1/50)
قال الشيخ - رضي الله عنه - : وقد رُويَ عن مالكٍ أنه فسَّرَ مذهبَ القَدَريَّة بنحو ذلك ، وهذا المذهَبُ هو الذي وقَعَ لأهل البصرة ، وهو الذي أنكَرَهُ ابنُ عمر.
ولا شكَّ في تكفير من يذهبُ إلى ذلك ، فإنَّه جَحْدُ معلومٍ من الشرع ضرورةً ؛ ولذلك تبرَّأ منهم ابنُ عمر ـ رضى الله عنهما ـ ، وأفتى بأنَّهم لا تُقْبَلُ منهم أعمالُهُمْ ولا نفقاتُهُمْ ، وأنّهم كمَنْ قال الله تعالى فيهم : ُ ى وه ن م ل ك ق ف 7 8 ِ.
وهذا المذهب هو مذهب طائفةٍ منهم تسمَّى السكينيّة ، وقد تُرِكَ اليومَ ، فلا يُعرف مَن يُنسب إليه من المتأخرين مِن أهل البدع المشهورين.
والقدرية اليومَ : مُطْبِقون على أنَّ الله تعالى عالمٌ بأفعالِ العباد قبلَ وقوعها ؛ ومعنى القدر عند القائلين به اليوم : أنَّ أفعالَ العباد مقدورةٌ لهم ، وواقعةٌ منهم بِقُدْرَتِهم ومشيئتِهم ، على جهة الاستقلال ، وأنّها ليست مقدورةً لله تعالى ولا مخلوقةً له ، وهو مذهبٌ مبتدَعٌ باطلٌ بالأدلّةِ العقليَّةِ والسمعيَّةِ المذكورةِ في كتب أئمَّتنا المتكلِّمين.
وقوله : فانطلقتُ أنا وحُمَيْدُ بْنُ عبد الرحمن حاجَّيْنِ أو معتمرَيْنِ ، كذا الروايةُ الصحيحة بـ أو التي للشَّكِّ ؛ فكأنَّه عرَضَ له شكٌّ في حالهما ، هل كانا حاجَّيْنِ أو معتمرَيْنِ.
وأحسبُ أَنَّهُ وقَعَ في بعض النسخ : حاجَّيْنِ ومعتمرَيْنِ بالواو الجامعةِ ؛ على أنَّهما كانا قارنيْنِ ، وفيه بُعْدٌ ، والصحيحُ الأوَّل ، والله أعلم .
وقوله : لو لَقِينَا أحدًا من أصحاب رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
لو - هنا - : تَمَنٍّ بمعنى ليت ؛ وهو نحوُ قولِهِ تعالى : ُ 2 1 4 3 عع = ژ ء پ! ! ِ ، ونحوُ قولِ امرئ القيس :
...................
....... لو يُسِرُّونَ مَقْتَلِي
وتأتي لامتناعِ الامتناعِ وهو أصلُهَا ، وبمعنى إنْ ؛ كقوله : ُ ت ة ِ ، ، وللتقليل ؛ كقوله عليه السلام :
((الْتَمِسْ ولو خاتَمًا مِنْ حديدٍ)).
(1/51)
وقوله : فاكتنفتُهُ أنا وصاحبي ، أي : صرنا بِكَنَفَيْه. والكَنَفُ والكَنِيف : الساتر ؛ ومنه قول العرب : أنا في كنَفِكَ ، أي : في سترك .
وإنَّمَا جاءاه كذلك تأدُّبًا واحترامًا ؛ إذْ لو قاما أمامه ، لمنعاه المشي ، ولو صارا له من جانبٍ واحد ، لكلَّفاه الميل إليهما ، فكانتْ هذه الهيئةُ أحسنَ ما أمكنهما.
وقوله : فَظَنَنْتُ أنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الكَلاَمَ إِلَيَّ ، هذا منه اعتذارٌ عن توهُّمِ اعتراضٍ يُنْسَبُ إليه ، فيه قلَّةُ المبالاةِ بصاحبه ، واستِئْثَارُهُ عليه بالمسابقة إلى الكلام ؛ فبيَّنَ وجهَ اعتذارِهِ عن ذلك ؛ وذلك أنَّهُ عَلِمَ من صاحبه أنَّهُ يكلُ الكلامَ إليه : فإمَّا لكونه أحسنَ منه سؤالاً وأبلغَ بيانًا ، وإمَّا لحياءٍ يَلْحَقُ صاحبَهُ يمنعه من السؤال ، وإمَّا إيثارًا له ، والله أعلم .
وقوله : يا أبا عبدِ الرحمن : فيه دليلٌ على ما كانوا عليه من الاقتصاد في كلامهم ، وترْكِ الإطراء والمدح وإنْ كان حقًّا ، فقد كان ابنُ عمر ـ رضى الله عنهما ـ مِنْ أعلمِ الناس وأفضلهم ، وابنَ أميرِ المؤمنين عمر بن الخَطَّاب ، ومع ذلك فلم يمدحوه بشيء مِنْ ذلك مع جلالتِهِ ولا أَطْرَوْهُ ؛ محاسبةً منهم لأنفسهم على ألفاظهم ، واكتِفاءً بما يُعْلَمُ من فضائل الرجل عن القول والمدح الذي يُخاف منه الفتنة على المادح والممدوح.
وقوله : إنَّهُ قد ظهر قِبَلَنَا ناسٌ ، أي : فشا مذهبُهُمْ وانتشر ، وهو مِنَ الظهورِ الذي يُضَادُّهُ الخفاء .
وقوله : يقرؤون القرآنَ ، ويتقَفَّرُونَ العِلْمَ ؛ روينا هذه اللفظةَ بتقديمِ القافِ وتأخير الفاء ، أي : يَتَّبِعون ويجمعون ، يقال : اقْتَفَر أثرَهُ ، أي : تَتَبَّعه .
ورواها أبو العلاء بن ماهان بتقديم الفاء وتأخير القاف ، أي : أنَّهُم يُخْرِجون غامضَه ، ويبحثون عن أسراره ، ومنه قولُ عمر بن الخَطَّاب - وذكر امرَأَ القَيْس - فقال : افتقَرَ عن معانٍ عُورٍ أصَحَّ بَصَرٍ ، أي : فتح عن معانٍ غامضةٍ مبصرًا .
(1/52)
وروي - في غير كتاب مسلم - : يَتَقَفَّوْنَ بواوٍ مكان الراء ، من قَفَوْتُ أثرَهُ ، أي : تتبَّعْتُهُ ، وهو من القَفَا ، وكلُّها واضحُ المعنى .
وقوله : وذكَرَ من شأنهم ، أي : عظيمِ أمرهم في الذكاء ، والجِدِّ في طلب العلم .
وإنما ذَكَرَ له ذلك من أوصافهم ؛ تنبيهًا له على الاعتناءِ بمقالتهم والبحث عنها ؛ ليوضِّحَ أمرها ؛ فإنّ كلامَهم قد وقع من القلوب بالموقع الذي لا يزيله إلا إيضاح بالغ ، وبرهانٌ واضح ، ولمَّا فَهِمَ ابن عمر ذلك ، أفتى بإبطالِ مذهبهم وفَسَادِه ، وحكَمَ بِكُفْرهم ، وتبرَّأ منهم ، واستدلَّ على ذلك بالدليل القاطع عنده.
وقوله : إنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ ، أي : مستَأْنَفٌ ، ومعناه عندهم : أنَّهُ لم يَسْبِقْ به سابقةُ علمِ الله تعالى ولا مشيئتِهِ ، وإنما أفعالُ الإنسان موجودةٌ بعلم الإنسان واختيارِهِ ؛ كما تقدَّم من مذهبهم.
وأَنْفُ كلِّ شيء : أوَّلُهُ ، ومنه : أنفُ الوجه ؛ لأنَّه أوَّلُ الأعضاء في الشخوص ، وأَنْفُ السيل : أَوَّلُهُ ؛ كما قال امرؤ القيس :
قَدْ غَدَا يَحْمِلُنِي في أَنْفِهِ
لاَحِقُ الإِْطْلَيْنِ مَحْبُوكٌ مُمَرّ
وروضٌ أنفٌ : لم يُرْعَ قَبْلُ ، وكذلك كأسٌ أُنُفٌ : لم يُشْرَبْ قبلُ ؛ ومنه قوله تعالى : ُ َ ٍ ٌ ِ ، أي : هذه الساعةَ المستأنفةَ.
وقوله : والذي يحلف به عبد الله بن عمر ، هذه كنايةٌ عن الحلف باسم الله ؛ فإنَّه هو الذي كان يَحْلِفُ به غالبًا ، ولم يتلفَّظْ به ؛ إجلالاً لأسماء الله تعالى عن أن تُتَّخَذَ عُرْضَةً لكثرة الأيمان بها ، والله أعلم .
وقوله : لو أنّ لأَِحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَه ، ما قَبِلَ الله منه ، حتى يؤمن بالقدر ، هذا صريحٌ في أنَّه كفَّرَهُمْ بذلك القولِ المحكيِّ عنهم ؛ لأنَّهُ حكَمَ عليهم بما حكَمَ الله تعالى به على الكفَّارِ في الآية المتقدِّمة ، وقد قلنا : إنَّ تكفيرَ هذه الطائفة مقطوعٌ به ؛ لأنَّهم أنكروا معلومًا ضروريًّا من الشرع.
(1/53)
وقوله : بينا نحن عند رسول الله ؟ . بينا هذه هي بين الظرفية زِيدَت عليها الألف ؛ لتكفَّها عن عملها الذي هو الخفض ، كما قد زيدَتْ عليها أيضًا ما كذلك ، وما بعدهما مرفوعٌ بالابتداء في اللغة المشهورة . ومنهم مَنْ خَفَضَ ما بعد الألف على الأصل ؛ فقال :
بَيْنَا تَعَانُقِه الْكُمَاةَ وَرَوْغِهِ
يَوْمًا أُتِيحَ لَهُ جَرِيءٌ سَلْفَعُ
روي بخفض تعانقِهِ ورفعه ؛ فعلى هذا فالألفُ ليستْ للكَفِّ ، لكن لتمكن النطق.
وقد ذهَبَ بعضُ النحويِّين إلى أنَّها للتأنيث في الوجهين ، وهي عنده فَعْلَى كـ شَرْوَى.
و عند : من ظروف الأمكنة غير المتمكِّنة ، يقال لما مُلِكَ أو اختُصَّ به ، حاضرًا كان أو غائبًا ، ومثلها لدى ، إلاَّ أَنَّها تختصُّ بالحاضر ، ، وفي لدى لغاتٌ ثمانٍ مذكورةٌ في كتب النحو.
وقوله : إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ : إذ وإذا ظرفان غير متمكِّنَيْنِ ، يضافان إلى الجمل ، إلاَّ أنَّ إذْ : لما مضى ، وتضاف للجملتَيْنِ الفعليَّةِ والاسميَّة ، وإذا : لما يُسْتَقْبَلُ ، ولا تُضافُ إلاَّ إلى الفعليَّة ، وفيها معنى الشرط ، وليس ذلك في إذْ ، إلاّ إذا دخلَتْ عليها ما ؛ كقولهم :
إِذْ ما أَتَيْتََ عَلَى الرَّسُولِِ فَقُلْ لَهُ
....................
وقد يقعان للمفاجأة كما وقعَتْ إذْ ههنا. وأمّا إذا للمفاجأة ، ففي قوله تعالى : ُ / * ) ، × % ( ' " ِ ، فـ إذا الأولى ظرفيَّةٌ ، والثانية مفاجِئَةٌ ، ونحوُهُ في القرآن كثيرٌ.
وفيه : دليلٌ على استحبابِ تحسينِ الثيابِ والهيئة ، والنظافةِ عند الدخولِ على العلماءِ والفُضَلاءِ والملوك ؛ فإنَّ جبريل صلى الله عليه وسلم أتى معلِّمًا للناس بحالِهِ ومقاله.
(1/54)
وقوله : لا يُرَى عليه أَثَرُ السَّفَرِ ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ ؛ هكذا مشهورُ رواية هذا اللفظ : يُرَى مبنيًّا لِمَا لم يُسَمَّ فاعلُهُ ، بالياء باثنتَيْنِ من تحتها ؟ ، ولا يعرفه بالياء أيضًا .
وقد رواه أبو العَبَّاس العُذْرِيُّ : لا نَرَى عليه أَثَرَ السَّفَرِ ولا نَعْرِفُهُ بالنون فيهما مبنيًّا لفعل الجماعة ، وكلاهما واضح المعنى.
وقوله : حتَّى جلَسَ إلى النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأسنَدَ ركبتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ ، ووضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ ، وقال : يا محمَّد ؛ هكذا مشهورُ هذا الحديثِ في "الصحيحين" من حديث ابن عمر .
وقد روى النَّسائيُّ هذا الحديثَ من حديث أبي هريرة ، وأبي ذَرٍّ ، وزادا فيه زيادةً حسنةً ، فقالا : كان رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَجْلِسُ بين ظَهْرَانَيْ أصحابه فيجيءُ الغريبُ ، فلا يَدْرِي أهو هو حتَّى يَسْأَلَ ، فطلبنا لرسولِ الله ؟ أن نجعَلَ له مجلسًا يَعْرِفُهُ الغريبُ إذا أتاه ، فَبَنَيْنَا له دُكَّانًا من طِينٍ يَجْلِسُ عليه ، ، إنَّا لجلوسٌ عنده ورسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مجلسه ؛ إذْ أقبَلَ رجلٌ أحسَنُ الناسِ وجهًا ، وأطيَبُ الناسِ رِيحًا ، كأنَّ ثيابَهُ لم يَمَسَّهَا دَنَسٌ ، حتَّى سَلَّمَ من طَرَفِ السِّمَاطِ ، قال : السَّلاَمُ عليكم يا محمَّدُ ، فرَدَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال : أَدْنُو يا محمَّدُ ؟ قال : ادْنُهُ ، فما زال يقول : أدنو مرارًا ، ويقول : ادْنُ ، حتَّى وضَعَ يدَيْهِ على ركبتَيِ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ... وذكر نحو حديث مسلم :
ففيه من الفقه : ابتداءُ الداخلِ بالسلام على جميع مَنُ دخل عليه ، وإقبالُهُ على رأس القوم ؛ فإنه قال : السلامُ عليكم ، فعَمَّ ، ثم قال : يا محمَّد ، فخَصَّ .
وفيه : الاستئذانُ في القُرْبِ من الإمام مرارًا ، وإنْ كان الإمامُ في موضعٍ مأذونٍ في دخوله .
وفيه : تركُ الاكتفاءِ بالاستئذان مرةً أو مرتَيْنِ على جهة التعظيم والاحترام.
(1/55)
وفيه : جوازُ اختصاصِ العالم بموضعٍ مرتفِعٍ من المسجد ، إذا دعت إلى ذلك ضرورةُ تعليمٍ أو غيرِهِ .
وقد بيَّن فيه : أنَّ جبريل - عليه السلام - وضع يدَيْه على رُكْبَتَيْ رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فارتفع الاحتمال الذي في لفظ "كتاب مسلم" ؛ فإنَّه قال فيه : فوضع كَفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ ، وهو محتمل.
وإنما فعل جبريلُ ذلك - والله أعلم - ليقتدي به السائلُ ؛ تنبيهًا على ما ينبغي للسائل من قوَّةِ النَّفْس عند السؤال ، وعدمِ المبالاة بما يقطع عليه خاطره ، وإنْ كان المسؤول مِمَّنْ يُحْتَرَمُ ويُهَاب ، وعلى ما ينبغي للمسؤولِ مِنَ التواضعِ والصَّفْحِ عن السائل ، وإنْ تعدَّى ما ينبغي من الاحترام والأدب .
ونداءُ جبريل -عليه السلام - للنبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تناديه الأعرابُ : يا محمَّد : تعميةٌ على حاله.
و الإسلام في اللغة هو : الاستسلامُ والانقيادُ ؛ ومنه قوله تعالى : ُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ { " " ف پ ِ ، أي : اِنْقَدْنا ، ، وهو في الشرع : الانقيادُ بالأفعالِ الظاهرة الشرعيَّة ، ولذلك قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أنس ـ رضى الله عنه ـ : الإسلامُ علانيَةٌ ، والإيمانُ في القَلْب ؛ ذكره ابن أبي شَيْبَةَ في مسنده.
و الإيمان لغةً : هو التصديقُ مطلقًا ، ، وفي الشرع : التصديقُ بالقواعد الشرعيَّة ؛ كما نبَّه عليه النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، في حديثِ أنسٍ هذا .
وقد تناقش علماءُ الأصول في هذه الأسماء الشرعيَّة تناقشًا لا طائلَ تحته ، إذا حُقِّقَ الأمرُ فيه ؛ وذلك أنَّهم مُتَّفِقُونَ على أنَّها يستفادُ منها في الشرع زيادةٌ على أصل الوضع ، وهل ذلك المعنى يُصَيِّرُ تلك الأسماءَ موضوعةً كالوضع الابتدائيِّ مِنْ قِبَلِ الشرع ، أو هي مبقاةٌ على الوضعِ اللغويِّ والشرعُ إنما تصرَّفَ في شروطها وأحكامها ؟ هنا تناقُشُهُمْ ، والأمر قريب.
(1/56)
والحاصل : أنَّ الشرعَ تصرَّف في حال هذه الأسماء ، لا في أصلِ وضعها ، فخصّص عامًّا ، كالحال في الإسلام والإيمان ؛ فإنّهما بحكم الوضع يَعُمَّانِ كلَّ انقياد ، وكلَّ تصديق ، لكنْ قَصَرَهُمَا الشرعُ على تصديقٍ مخصوصُ وانقيادٍ مخصوص ؛ وكذلك فعلَتِ العربُ في لغتها في الأسماء العُرْفيَّة ، كالدابَّةِ : فإنَّها في الأصل اسمٌ لكلِّ ما يَدِبُّ ، ثمَّ عُرْفُهُم خصَّصها ببعض ما يَدِبُّ ؛ فالأسماءُ الشرعيَّةُ كالأسماء العرفيَّة في هذا التصرُّف ، والله أعلم .
وقد استفدنا من هذا البحث : أنّ الإيمانَ والإسلامَ حقيقتان متباينتان لغةً وشرعًا ؛ كما دلَّ عليه حديثُ جبريلَ هذا وغيرُهُ ؛ وهذا هو الأصلُ في الأسماء المختلفة - أعني : أنْ يَدُلَّ كُلُّ واحد منها على خلافِ ما يَدُلُّ عليه الآخر - غير أنَّهُ قد توسَّعَ الشرعُ فيهما :
فأطلَقَ اسمَ الإيمانِ على حقيقة الإسلام ؛ كما في حديث وَفْدِ عبد القَيْسِ الآتي بعد هذا ، وكقوله : الإيمانُ بِضْعٌ وسبعون بابًا ، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأرفعها قولُ : لا إله إلا الله.
وقد أطْلَقَ الإسلامَ مريدًا به مسمَّى الإسلامِ والإيمان ، بمعنى التداخُلِ ، كقوله تعالى : ُ د آ ء ؤ أ ِ.
وقد أطلَقَ الإيمانَ كذلك أيضًا ؛ كما رُوِيَ من حديثِ عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ مرفوعًا : الإيمَانُ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وإقرارٌ باللِّسَان وعَمَلٌ بالأَرْكَان.
وهذه الإطلاقاتُ الثلاثُ من باب التجوُّز والتوسُّع على عادة العرب في ذلك ، وهذا إذا حُقِّقَ ، يريحُ مِنْ كثيرٍ من الإشكال الناشئ مِنْ ذلك الاستعمال .
و الصلاة لغةً : الدعاءُ ؛ ومنه قوله تعالى : ُ ُ َ ِ ، أي : ادْعُ لهم ؛ قال الأعشى :
عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي
نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعا
وقيل : إنَّهَا مأخوذةٌ من الصَّلاَ : عِرْقٌ عند أصل الذَّنَب ، ومنه قيل للفرس الثاني في الحَلْبة : مُصَلٍّ ؛ لأنَّ رأسَهُ عند صَلاَ السابق ؛ قال الشاعر :
(1/57)
فَصَلَّى أَبُوهُ لَهُ سَابِقٌ
بِأَنْ قِيل فَاتَ الْعِذَارُ الْعِذَارَا
والأوّل : أولى وأشهر .
وهي في الشرع : أفعالٌ مخصوصةٌ ، بشروطٍ مخصوصة ، الدعاءُ جزءٌ منها .
و الزكاة لغةً : هي النماء والزيادة ، يقال : زكا الزرعُ والمالُ ، وسمِّي أخذُ جزءٍ من مالِ المسلم الحُرِّ : زكاةً ؛ لأَنَّها إنما تؤخذُ من الأموال النامية ، ، أو لأنّها قد نَمَتْ وبلغتِ النصاب ، ، أو لأنّها تنمِّي الأموالَ بالبركة ، وحسناتِ مؤدِّيها بالتكثير.
و الصوم : هو الإمساكُ مطلقًا ؛ ومنه قوله تعالى ُ ي ى وه ِ ، أي : إمساكًا عن الكلام ؛ قال الشاعر :
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ
تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
أي : ممسكةٌ عن الحركة .
وهو في الشرع : إمساكٌ في جميعِ أجزاءِ اليومِ عن أشياءَ مخصوصةٍ ، بشرطٍ مخصوص ، على ما يأتي .
و الحج : هو القصدُ المتكرِّر في اللغة ؛ قال الشاعر :
وأَشْهَدُ مِنْ عوْفٍ حُلُولاً كَثِيرَةً
يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا
وهو في الشرع : القصدُ إلى بيت الله المعظَّم ؛ لفعل عبادة مخصوصة .
والحَجُّ بالفتح : المصدر ، وبالكسر : الاسم ، وقُرئ بهما : ُ ُ َ ٍ ٌ ً ِ.
و الاستطاعة : هي القوةُ على الشيء ، والتمكُّنُ منه ؛ ومنه قوله تعالى : ُ " ' ( % × ، ) ء ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ! ! ِ ، وسيأتي اختلاف العلماء فيها .
و الإحسان : هو مصدر أحسَنَ يُحْسِنُ إحسانًا ، ويقال على معنيَيْنِ :
أحدهما : متعدٍّ بنفسه ؛ كقولك : أحسنْتُ كذا وفي كذا ، إذا حَسَّنْتَهُ وكمَّلْتَهُ ، وهو منقولٌ بالهمزة من : حَسُنَ الشيءُ .
وثانيهما : متعدٍّ بحرف جرٍّ ؛ كقولك : أحسنَْتُ إلى كذا ، أي : أوصَلْتُ إليه ما يَنْتَفٍعُ به.
وهو في هذا الحديث : بالمعنى الأوَّل ، لا بالمعنى الثاني ؛ إذ حاصلُهُ راجعٌ إلى إتقانِ العبادات ، ومراعاة حقوق الله تعالى فيها ، ومراقبته ، واستحضارِ عظمتِهِ وجلاله ، حالةَ الشروع ، وحالةَ الاستمرار فيها .
(1/58)
وأربابُ القلوب في هذه المراقبة على حالين :
أحدهما : غالبٌ عليه مشاهدةُ الحقِّ ، فكأنَّهُ يراه ؛ ولعلَّ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشار إلى هذه الحالة بقوله : وجُعِلتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة ، وفي حديثٍ آخر : وجُعلتْ قرّةُ عيني في عبادة رَبِّي ؟.
وثانيهما : لا ينتهي إلى هذه الحالة ، لكنْ يغلب عليه أنَّ الحقَّ سبحانه مطَّلِعٌ عليه ومشاهدٌ له ؛ وإليه الإشارةُ بقوله تعالى : " " ف پ ء }ـپ! ! ـ لله ء ـپ! ! ِ ، وبقولِهِ تعالى : ُ ك ق ف ز ر ش س ض ص ظ ط غ ع گ [ ء ِ
وهاتان الحالتان ثمرةُ معرفةِ الله تعالى وخشيتِهِ ؛ ولذلك فسَّر الإحسانَ في حديث أبي هريرة بقوله : أَنْ تخشى اللهَ كأَنَّك تراه ؛ فعبَّرَ عن المسبَّب باسم السَّبَب توسُّعًا.
والألفُ واللامُ اللذان في الإحسان المسؤول عنه : للعهد ، وهو الذي قال الله تعالى فيه :
ُ إ گ [ غ ِ ، وُ / 0 - . 3 ء لله{! ! ِ ، ُ : ؛ چ = عع ِ.
ولمَّا تكرَّر الإحسانُ في القرآن وترتَّب عليه هذا الثوابُ العظيم ، سألَ عنه جبريلُ - عليه السلام - النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأجابه ببيانه ؛ ليعمَلَ الناسُ عليه ، فيحصُلُ لهم هذا الحظُّ العظيم.
وسؤالُ جبريل صلى الله عليه وسلم عن الإيمانِ والإسلام بلفظ : ما - كما في حديث أبي هريرة - ، يدُلُّ على أنَّهُ إنما سأل عن حقيقتهما عنده ، لا عن شَرْحِ لفظهما في اللغة ، ولا عن حُكْمِهما ؛ لأنّ ما - في أصلها - إنما يُسْأَلُ بها عن الحقائق والماهيات. ولذلك أجابه النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : أن تُؤْمِنَ بالله ، وبكذا وكذا ؛ فلو كان سائلاً عن شرح لفظهما في اللغة ، لَمَا كان هذا جوابًا له ؛ لأنَّ المذكورَ في الجواب هو المذكورُ في السؤال ، ، ولمّا كان الإيمانُ في اللغة معلومًا عندهما ، أعاد في الجوابِ لفظَهُ ، وبيَّنَ له متعلَّقاتِهِ ، وأنَّهُ؟قصره على تصديقٍ بأمورٍ مخصوصة .
(1/59)
والإيمانُ بالله : هو التصديقُ بوجوده تعالى ، وأنَّه لا يجوزُ عليه العدم ، وأنه تعالى موصوفٌ بصفاتِ الجلال والكمال ؛ مِنَ : العلم ، والقدرة ، والإرادة ، والكلام ، والسمع ، والبصر ، والحياة ، وأنَّهُ تعالى منزَّهٌ عن صفاتِ النقصِ التي هي أضدادُ تلك الصفات ، وعن صفاتِ الأجسامِ والمتحيِّزات ، وأنَّهُ واحدٌ حقٌّ ، صمدٌ فَرْدٌ ، خالقُ جميعِ المخلوقات ، متصرِّفٌ فيها بما يشاء من التصرُّفات ، يفعلُ في ملكه ما يريد ، ويحكُمُ في خلقه ما يشاء.
والإيمان بالملائكة : هو التصديقُ بأنَّهم عبادٌ مُكرمُون ؛ ُ ] ء أ ؤ ء آ ء ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ پ! ! ِ ، ُ 0 / . - ، * ) ِ ، ُ } ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ { " ء للهپ! ! ِ وأَنَّهُمْ سُفَرَاءُ الله بينه وبين رسله ، والمتصرِّفون كما أَذِنَ لهم في خلقه .
والإيمانُ بكتب الله : هو التصديقُ بأنَّها كلامُ الله ، ومِنْ عِنْدِهِ ، وأنَّ ما تضمَّنَتْه حقٌّ ، وأنَّ الله تعالى تعبَّد خلقه بأحكامها وفَهْمِ معانيها.
والإيمانُ برسل الله : هو أَنَّهُمْ صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى ، وأنَّ الله تعالى أيَّدَهُمْ بالمعجزاتِ الدالَّةِ على صدقهم ، وأنَّهم بلَّغوا عن الله رسالاتِهْ ، وبيَّنوا للمكلَّفين ما أمرهم الله ببيِّناتِهْ ، وأنَّهُ يجبُ احترامُهُمْ ، وأنْ لا نفرِّقَ بين أحدٍ منهُمْ.
والإيمانُ باليوم الآخر : هو التصديقُ بيوم القيامة ، وما اشتمَلَ عليه من الإعادةِ بعد الموت ، والنَّشْرِ والحشر ، والحساب والميزان والصِّرَاط ، والجنة والنار ، وأنها دارُ ثوابِهِ وجزائِهِ للمُحْسِنين والمُسِيئين ، ، ، إلى غير ذلك مما صَحَّ نصُّه ، وثبَتَ نقله .
(1/60)
والإيمانُ بالقدر : هو التصديقُ بما تقدَّم ذكره ، وحاصله : هو ما دلّ عليه قوله تعالى : ُ ] گ [ غ ء {! ! ِ ، وقولُهُ : ُ ّ ِ ُ َ ٍ ء "! ! ِ ، وقوله : ُ - . ، ) * ِ ، وإجماعُ السلف والخلف على صِدْقِ قول القائل : ما شاء الله كان ، وما لم يَشَأْ لم يكن ، وقولِهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كُلُّ شَيْءٍ بِقَدرٍ حتَّى العَجْزُ والكَيْسُ.
تنبيه :
مذهبُ السلفِ وأئمَّةِ الفتوى من الخَلَف : أنَّ من صدَّق بهذه الأمور تصديقًا جَزْمًا لا ريبَ فيه ولا تردُّدَ ولا توقُّف ، كان مؤمناً حقيقةً ، وسواءٌ كان ذلك عن براهينَ قاطعة ، أو عن اعتقاداتٍ جازمة.
وعلى هذا : انقرضَتِ الأعصارُ الكريمة ، وبها صرَّحتْ فتاوى أئمة الهدى المستقيمة ، حتى حدثَتْ مذاهبُ المعتزلة المبتدعة ، فقالوا : إنَّهُ لا يصحُّ الإيمانُ الشرعيُّ إلا بعد الإحاطةِ بالبراهينِ العقليَّةِ والسمعيَّة ، وحصولِ العلمِ بنتائجها ومطالبها ، ومَنْ لم يحصُلْ إيمانه كذلك ، فليس بمؤمن ، ولا يجزئ إيمانُهُ بغير ذلك ؛ وتبعهم على ذلك جماعةٌ من متكلِّمي أصحابنا ؛ كالقاضي أبي بكر ، وأبي إسحاقَ الإسْفَرَايِينِيِّ ، وأبي المَعَالِي في أوَّل قولَيْهِ.
والأولُ هو الصحيح ؛ إذ المطلوب من المكلَّفين ما يقال عليه إيمان ؛ لقوله تعالى : ُ َ ٍ ٌ ِ ، ُ ل ك ق ف أ ِ
والإيمانُ هو التصديقُ لغةً وشرعًا ؛ فمَنْ صدَّق بذلك كلِّه ، ولم يُجَوِّزْ نقيضَ شيء من ذلك : فقد عَمِلَ بمقتضى ما أمره الله تعالى به على نحو ما أمره الله تعالى به.
(1/61)
ومَنْ كان كذلك ، فقد تَفَصَّى عن عُهْدَةِ الخطاب ؛ إذ قد عمل بمقتضى السُّنَّةِ والكتابْ ، ، ولأنَّ رسولَ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابَهُ بعده حكموا بصحَّةِ إيمانِ كُلِّ مَنْ آمن وصدَّق بما ذكرناه ، ولم يفرِّقوا بين مَنْ آمن عن برهان أو عن غيره ؛ لأنَّهم لم يأمروا أجلافَ العربِ بترديد النظر ، ولا سألوهم عن أدلَّةِ تصديقهم ، ولا أرْجؤوا إيمانَهُمْ حتى ينظروا ، وتحاشَوْا عن إطلاق الكفر على أحدٍ منهم ، بل سَمَّوْهُمُ : المؤمنين والمسلمين ، وأَجْرَوْا عليهم أحكامَ الإيمان والإسلام ، ، ولأنَّ البراهين التي حرَّرها المتكلِّمونْ ، ورتَّبها الجَدَليُّونْ ، إنما أحدثها المتأخِّرونْ ، ولم يَخُضْ في شيء من تلك الأساليب السلَفُ الماضونْ ؛ فمِنَ المحال والهذيانْ : أنْ يُشْتَرَطَ في صحة الإيمانْ ، ما لم يكنْ معروفًا ولا معمولاً به لأهلِ ذلك الزمانْ ، وهم مَنْ هم فَهْمًا عن الله ، وأخذًا عن رسول الله ، وتبليغًا لشريعتِهِ ، وبيانًا لسنته وطريقتِهِ ، وسيأتي قولٌ شافٍ في ذلك إن شاء الله تعالى.
و الملائكة : جمعُ مَلَك ، وقد اختُلِفَ في اشتقاقه ووزنه ؛ فقال ابن شُميل : لا اشتقاقَ له ، وقال ابن كَيْسَانَ : وزنه فَعَلٌ من المُلْكِ ، وقال أبو عُبَيْدَة : وزنه مَفْعَلٌ من لَأَكَ ، أي : أرسَلَ ، وقيل : إنه مأخوذٌ من الأَلُوكَة ، وهي الرسالة ، فكأنها تؤلك في الفم ، قال لَبِيدٌ :
وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ
بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ
فأصله على هذا : مَأْلَكٌ ؛ فالهمزة فاءُ الفعل ، لكنَّهم قلبوها إلى عينه ، فقالوا : مَلأَْكٌ ، ثم سهَّلوه ، فقالوا : مَلَكٌ ، ، وقد جاء على أصله في الشعر ؛ قال :
فَلَسْتَ لِإِنْسِيٍّ ولَكِنْ لِمَلأَْكٍ
تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
وقيل : هو مَلَكٌ من مَلَكَ ، نحو : شَمَلٍ من شَمَلَ.
والساعة في أصل الوضع : مقدارٌ مَّا من الزمان ، غيرُ معيَّن ولا محدود ؛ لقوله تعالى : ُ × £ ! ِ.
وفي عرف أهل الشرع : عبارةٌ عن يوم القيامة.(1/62)
وفي عرف المعدِّلين : جزءٌ من أربعة وعشرين جزءا من أوقاتِ الليل والنهار.
والأشراط : هي الأَماراتُ والعلامات ؛ ومنه قوله تعالى : {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ، وبها سمي الشُّرَطُ ؛ لأنَّهم يُعْلِمُون أنفسَهُمْ بعلامات يُعْرَفون بها.
والأمَة هنا هي : الجاريةُ المستَوْلَدَة ، وربَّها : سَيِّدها ، وقد سُمِّي بعلاً في الرواية الأخرى ، كما سماه الله تعالى بعلاً في قوله : {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ *}. في قول ابن عباس ، وحُكِيَ عنه أنه قال : لم أدر ما البَعْلُ حتَّى قلتُ لأعرابيٍّ : لِمَنْ هذه الناقةُ ؟ فقال : أنا بَعْلُها. وقد سُمِّي الزوجُ بَعْلاً ، ويجمع : بُعُولة ؛ كما قال الله تعالى : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} ، {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}.
ورَبَّتها : تأنيثُ رَبٍّ .
واختُلِف في معنى قوله : أنْ تلد الأمةُ رَبَّهَا على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد به : أن يستولي المسلمون على بلاد الْكُفْرِ ، فيكثُرُ التسرِّي ؛ فيكونُ ولَدُ الأَمَةِ من سيِّدها بمنزلة سيِّدها ؛ لشرفِهِ بأبيه.
وعلى هذا : فالذي يكون مِنْ أشراطِ الساعة : استيلاءُ المسلمين على المشركين ، وكَثْرَةُ الفتوح والتسرِّي.
وثانيها : أن يبيعَ السادةُ أمّهاتِ أولادهم ، ويكثُرَ ذلك ؛ فتتداوَلُ الأملاكُ المستولَدَةَ ، فربَّما يشتريها ولدها أو ابنتها ولا يشعر بذلك ؛ فيصيرُ ولدُهَا ربَّها .
وعلى هذا : فالذي يكون من الأشراط : غلبةُ الجهلِ بتحريمِ بيعِ أُمَّهَاتِ الأولاد ، والاستهانةُ بالأحكام ، الشرعيَّة ؛ وهذا على قولِ مَنْ يرى تحريمَ بيعِ أُمَّهاتِ الأولاد ، وهم الجمهور ؛ ويصحُّ أن يحمَلَ ذلك على بيعهنَّ في حال حَمْلِهِنَّ ، وهو محرَّمٌ بالإجماع.(1/63)
وثالثها : أن يكْثُرَ العقوقُ في الأولاد ، فيُعَامِلَ الولدُ أُمَّهُ معاملةَ السيِّد أمَتَهُ من الإهانة والسَّبِّ ؛ ويشهدُ لهذا قولُهُ في حديث أبي هريرة ، ـ رضى الله عنه ـ : المَرْأَة مكان الأَمَة . وقولُهُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا تقومُ الساعةُ حتَّى يكونَ الوَلَدُ غَيْظًا .
وقوله : وأَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا ، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ.
و الحُفَاةُ : جمعُ حافٍ ، وهو الذي لا يلبس في رِجْلَيْهِ شيئًا.
و العُرَاة : جمعُ عارٍ ، وهو الذي لا يلبس على جَسَدِهِ ثوبًا.
و العَالَةُ مخفَّفةَ اللام : جمع عائل ، وهو الفقير ، والعَيْلة : الفقر ؛ يقال : عال الرجلُ يَعِيل عَيْلَةً : إذا افتقر ، وأَعال يُعِيلُ : إذا كَثُرَ عياله.
وهذه الأوصاف غالبة على أهل البادية ، وقد وصفهم في حديث أبي هريرة بأنهم صُمٌّ بكم ، ويعني بذلك - والله تعالى أعلم- : أنهم جَهَلَةٌ رَعَاعٌ ، لم يستعملوا أسماعهم ولا كلامهم في عِلْمٍ ولا في شيء من أمر دينهم ، وهذا نحوُ قوله تعالى : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ *} ؛ أطلَقَ ذلك عليهم مع أنَّهم كانت لهم أسماعٌ ، وأبصارٌ ونُطْق ، لكنَّهم لما لم يحصُلْ لهم ثمراتُ تلك الإدراكات ، صاروا كأنَّهم عَدِمُوا أصلَهَا ، وقد أوضح هذا المعنى قولُهُ تعالى : {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
ومقصودُ هذا الحديث : الإخبارُ عن تبدُّلِ الحال وتغيُّره ؛ بأنْ يستولي أهلُ الباديةِ الذين هذه صفاتُهْمْ على أهل الحاضرة ، ويتملَّكوا بالقهر والغلبة ، فتكثُرَ أموالُهُمْ ، وتتسعَ في حُطَامِ الدنيا آمالُهُم ، فتنصرفَ هِمَّتُهُمْ إلى تشييد المَغَانِي ، وهَدْمِ الدين وتحريفِ المعاني ، وأنَّ ذلك إذا وُجِدَ ، كان من أشراط الساعة.
(1/64)
ويؤيِّد هذا : ما ذُكِرَ عنه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : لا تقومُ الساعةُ حتى يكونَ أَسْعَدَ الناسِ بالدنيا لُكَعُ بْنُ لُكَعَ .
وقد شوهد ذلك كلُّه عِيَانَا ، فكان ذلك على صِدْقِ رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى قرب الساعة حُجَّةً وبرهانَا.
وفيه : دليلٌ على كراهية ما لا تدعو الحاجةُ إليه ؛ مِنْ تطويلِ البناء وتشييدِه ؛ وقد قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يُؤْجَرُ ابنُ آدَمَ في كلِّ شيء إلا ما يَضَعُهُ في هذا التراب ، ومات رسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يَضَعْ حَجَرًا على حجرِ ولا لَبِنَةً على لبنة ، أي : لم يشيِّد بناءً ، ولا طوَّله ، ولا تأنَّق فيه.
و الرِّعَاء : جمعُ راع ، وأصلُ الرعي : الحفظ .
و الشاء : جمع شاة ، وهي من الجمعِ الذي بينه وبين واحده الهاء ، وهو كثيرٌ فيما كان خِلْقَةً لله تعالى ؛ كشَجَرَةٍ وشَجَر ، وثَمَرَةٍ وثَمَر.
وإنما خَصَّ رِعَاءَ الشاء بالذِّكْر ؛ لأنهم أضعفُ أهلِ البادية.
و البَهْم بفتح الباء : جمعُ بَهْمَة ، وأصلها : صغار الضَّأْن والمَعْز ، وقد يختصُّ بالمعز ، وأصله من استبهَمَ عن الكلام ، ومنه : البهيمة.
ووقع في البخاري : رِعَاءُ الإبلِ البُهْمُ بضم الباء ، وهو جمع بَهِيم ، وهو : الأسود الذي لا يخالطه لونٌ آخر ، وقُيِّدَتْ ميم البُهْم بالكسر والضم : فمَنْ كسرها جعلها صفةً للإبل ، ومن رفعها جعلها صفةً للرعاء وقال : معنا : لا شيءَ لهم ؛ كما قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يُحْشَرُ الناسُ يومَ القيامة حُفَاةً عُرَاةً بُهْمًا.
قال الشيخ : وهذا التأويلُ فيه بُعْد ؛ لأنه قد نَسَبَ لهم إِبِلاً ، وظاهرها المِلْكُ ، وقال الخَطَّابيُّ : هو جمعُ بَهِيمٍ ، وهو : المجهولُ الذي لا يُعْرَف
قال الشيخ : والأَوْلَى أن يُحْمَلَ على أنَّهم سودُ الألوان ؛ لأن الأَدَمَةَ غالبُ ألوانهم.
(1/65)
وروايةُ مسلم في رعاء البَهْمِ من غير ذكر الإبل : أولى ؛ لأنَّها الأنسب لِمَسَاقِ الحديث ولمقصوده ؛ فإنَّ مقصودَهُ : أنَّ أضعف أهل البادية وهم رعاء الشاء ، سينقلب بِهِمُ الحال ، إلى أن يصيروا ملوكًا مع ضعفهم وبُعْدِهِمْ عن أسباب ذلك ، وأمَّا أصحابُ الإبل : فهم أهلُ الفخرِ والخُيَلاَء ؛ فإنَّ الإبل عِزُّ أهلها ، ، ولأنَّ أهلَ الإبل ليسوا عالةً ولا فقراءَ غالبًا.
وقوله : وَتُؤْمِن بالبعْثِ الآخِرِ ، وصفُ البعثِ بـ الآخر يَحْتَمِلُ أن يكون على جهة التأكيد ، كما قالوا : أَمْسِ الدابرُ ، وأَمْسِ الذاهبُ. ويَحْتمل أن يقال : إن البعث : هو إحياءٌ بعد إماتة ، وقد فعل الله تعالى ذلك مرتين ؛ فأحياناً بعد أَنْ كنَّا نُطَفًا وعَلَقًا ومُضَغًا وهي أمواتٌ ، ثم يحيينا ليومِ القيامة وهو البَعْثُ الآخِر ؛ كما قال الله تعالى : ُ خ ث ج ة ت ط ظ ص ض س ِ ، قال أهلُ التفسير : أمواتًا في حال كونها نُطْفًا وعَلَقًا في الأرحام ، ثُمَّ نفخَ الرُّوحَ وأحيا.
وقوله : فعجبنا له يَسْأَلُهُ ويُصَدِّقُهُ ؛ إنَّما تعجَّبوا من ذلك ؛ لأنَّ ما جاء به رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يُعْرَفُ إلا مِنْ جهته ، وليس هذا السائلُ مِمَّنْ عُرِفَ بلقاءِ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا بالسَّمَاعِ منه ، ثم هو قد سأل سؤالَ عارفٍ محقِّقٍ مصدِّقٍ ؛ فتعجَّبوا من ذلك تعجُّبَ المُسْتَبْعِدِ لأنْ يكونَ أحدٌ يعرف تلك الأمورَ المسؤولَ عنها من غير جهة النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : فَلَبِثَ مليًّا ، أي : أقام بعد انصرافه حينًا ، يعني : النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ، ويُروى : فَلَبِثْتُ بتاء مضمومة للمتكلِّم ، فيكونُ عمر ـ رضى الله عنه ـ هو الذي أخبَرَ بذلك عن نفسه ، وكلاهما صحيحُ المعنى .
وقوله : إنَّه جبريل ؛ دليلٌ على أنَّ الله تعالى مكَّنَ الملائكةَ عليهم السلام من أن يتمثَّلوا فيما شاؤوا من صور بني آدم ؛ كما قد نصّ الله تعالى على ذلك في قوله : ُ ى وه ن ِ.
(1/66)
وقد كان جبريلُ - عليه السلام - يتمثَّلُ للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صورة دِحْيَةَ بنِ خَلِيفَة ، وقد كان لجبريل - عليه السلام - صورةٌ خاصَّة خُلِقَ عليها لم يَرَهُ النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها غير مرتين ؛ كما صحَّ الحديث بذلك ؛ وهذا يدلُّ على أنَّ النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عرَفَ جبريلَ - عليه السلام - لكنْ في آخر الأمر ، فأمَّا قبلَ ذلك ، فقد جاء في "البخاري" التصريحُ بأنَّه لم يَعْرِفْ أنَّهُ جبريلُ إلا في آخر الأمر .
وقوله : أتاكم يُعلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ، أي : قواعدَ دينكم ، أو كُلِّيَّاتِ دينكم ؛ قال القاضي : وهذا الحديث قد اشتمل على جميعِ وظائف العبادات الظاهرة والباطنة ؛ مِنْ عقودِ الإيمان ، وأعمالِ الجوارح ، وإخلاصِ السرائر ، والتحفُّظِ مِنْ آفاتِ الأعمال ، حتى إنَّ علومَ الشريعة كُلَّهَا راجعةٌ إليه ، ومتشعِّبَةٌ منه.
قال الشارح ـ رحمه الله ـ : فيصلُحُ في هذا الحديث أن يقالَ فيه : إنه أُمُّ السُّنَّة ؛ لما تضمَّنه مِنْ جُمَلِ عِلْمِ السُّنَّة ، كما سُمِّيَتِ الفاتحةُ : أُمُّ القرآن ؛ لما تضمَّنته مِنْ جملِ معاني القرآن ، كما سيأتي بيانُهَا ، إن شاء الله تعالى.
وقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : سَلُونِي ؛ فَهَابُوهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ ؛ كان هذا منه لمَّا أكثروا عليه من الأسئلة ، واستشعر أنّه كان هناك مَنْ سأل تعنيتًا وتجهيلاً ، فَغَضِبَ لذلك حتى احمَرَّ وجهُهُ ، وجعَلَ يقول : سلوني سلوني ؛ فوالله لا تسألوني عن شَيْءٍ إلا أخبرتُكُمْ به ما دُمْتُ في مقامي هذا ، فدخل الناسَ مِنْ ذلك خوفٌ ، فلم يَزَلْ كذلك حتَّى بَرَكَ عمَرُ ـ رضى الله عنه ـ بين يدَيْهِ ، وجعل يقول : رَضِينَا باللهِ رَبًّا ، وبالإسلامِ دِينًا ، وبمحمَّدٍ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولاً ، حتى سكَنَ غضبه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وسيأتي الحديث بكماله.
(1/67)
وفي ذلك الوقت أنزَلَ اللهُ تعالى قوله تعالى : ُ ق ف ذ د خ ح ج ث ت ة ب ِ ؛ فانكفَّ الناسُ عن سؤالِ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ ولذلك قال : نُهِينَا أن نسأَلَ رسولَ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شيء ؛ فلمَّا انكفُّوا عن ذلك ؛ امتثالاً لأمر الله تعالى ، وتعظيمًا لحرمة رسوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، عَلِمَ اللهُ تعالى ذلك منهم ، فأرسَلَ السائلَ البصيرْ ، فأجابه العالِمُ الخبيرْ ، فحصَلَ العلم للسامعينَ الممتثلينَ مِنْ غير سؤالْ ، كما قد كَفَى اللهُ المؤمنينَ القتالَ ، وقد نبَّه على ذلك النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : هذا جِبْرِيلُ ؛ أَرَادَ أَنْ تَعَلَّمُوا إِذْ لَمْ تَسْأَلُوا.
وقولُهُ في حديث أبي هريرة في جوابه عن الإسلام : تعبُدُ الله لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، بدَلَ قوله في حديث عمر ـ رضى الله عنه ـ : أن تَشْهَدَ أنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ إلى آخره ، فهو نقلٌ بالمعنى ، وحديثُ عمر ـ رضى الله عنه ـ نَقْلٌ باللفظ ، والله أعلم .
وتقييدُهُ في هذا الحديث الصلاةَ بالمكتوبة ، والزكاةَ بالمفروضة : دليلٌ على أنَّ النوافلَ لا تدخُلُ في مسمَّى الإسلامِ الشرعيِّ ، فتخرُجُ منه الصلواتُ المسنونات وغيرها ، وزكاةُ الفِطْرِ على قولِ مَنْ يَرى أنها سنَّة ، وصدقاتُ التطوُّع ، وهذا كلّه نزولٌ على القولِ بدليلِ الخطاب على ما أوضَحْناه في الأصول.
وقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وَتَصُومُ رَمَضَانَ ، دليلٌ على جواز قول القائل : رمضانُ ، من غير إضافة الشهر إليه ؛ خلافًا لمن يقول : لا يقالُ إلا شَهْرُ رمضان ؛ تمسُّكاً في ذلك بحديثٍ لا يَصِحُّ ، وهو أنَّه يروى عن النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّه قال : لا تقولوا : رمضانُ ، فإنَّ رَمَضَانَ اسمٌ من أسماء الله تعالى ؛ خرَّجه ابنُ عَدِيٍّ مِنْ حديثِ أبي مَعْشَرٍ نَجِيحٍ ، ولا يُحْتَجُّ به ، ، ولو سلَّمنا صِحَّته ، لكانت الأحاديث التي فيها ذِكْرُ رمضان من غير شهر أولى ؛ لأنّها أصحُّ وأشهر ، ، ولأنَّ متنه منكر ؛ إذْ لم يُوجَدْ في شيءٍ من أسماء الله تعالى رمضان ، ، ولأنَّ المعنى الذي اشتُقَّ منه رمضان محالٌ على الله تعالى.(1/68)
وحُكِيَ عن القاضي أبي بكر بْنِ الطَّيِّبِ أنه قال : إنما يُكْرَهُ ذلك فيما يُدْخل في الكلام لَبْسًا ؛ مِثلُ : جاء رَمضانٌ ، ودخل رمضانُ ، وأما : صُمْنَا رمضانَ ، فلا بأس به.
وقوله : متى تقومُ السَّاعَةُ ؟ مقصودُ هذا السؤالِ امتناعُ السامعين مِنَ السؤال عنها ؛ إذْ قد كانوا أكثروا السؤال عن تعيينِ وقتها ؛ كما قال الله تعالى : {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} ، وهو كثيرٌ في الكتابِ والسنَّة ، فلمَّا أجابه النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنّه لا يَعْلَمُها إلا الله ، يَئِسَ السائلون مِنْ معرفتها ، فانكفُّوا عن السؤال عنها ، وهذا بخلاف الأَسْوِلَةِ الأُخَرِ ؛ فإنَّ مقصودها : استخراجُ الأجوبةِ عنها ليتعلَّمها السامعون ، ويعمل بها العاملون.
وقوله : وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا ، وفي حديث عمر ـ رضى الله عنه ـ قال : فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا ، ووجه التلفيق : أنَّه لم يقلْ له النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وسَأُحَدِّثُك عَنْ أَشْرَاطِهَا ، حتَّى قال له جبريلُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فَأَخْبِرْني عَنْ أَمَارَتِهَا ؛ فذكر في إحدى الروايَتَيْنِ السؤالَ والجواب ، وفي الأخرى الجوابَ فقط ، والله أعلم.
وقد اقتصَرَ في هذا الحديث على ذِكْرِ بعضِ الأشراط التي يكونُ وقوعُهَا قريبًا مِنْ زمانه ، وإِلاَّ فالأشراطُ كثيرةٌ ، وهي أكثَرُ مما ذكر هنا ؛ كما دَلَّ عليه الكتاب والسنة.
ثم إنها منقسمةٌ إلى :
ما يكونُ مِنْ نوعِ المعتاد : كهذه الأشراطِ المذكورة في هذا الحديث ، وكرفع العِلْمِ وظهورِ الجهل وكثرةِ الزنى وشربِ الخمر إلى غير ذلك.
وأما التي ليست من نوع المعتاد : فكخروج الدَّجَّال ، ونزولِ عيسى بْنِ مريم ـ عليه السلام ـ ، وخروجِ يأجوجَ ومأجوجَ ، ودابَّةِ الأرض ، وطلوعِ الشمس من مَغْرِبها ، والدُّخَانِ ، والنَّارِ التي تسوقُ الناسَ وتحشُرُهم ؛ على ما يأتي.
(1/69)
وقوله : في خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللهُ ، فيه حذفٌ وتوسُّع ، أي : هي من الخَمْس التي قد انفرَدَ الله تعالى بعلمها ، أو في عددهنَّ ؛ فلا مطمَعَ لأحدٍ في عِلْمِ شيء من هذه الأمور الخمس ، ، ولقوله تعالى : ُ - 0 / 2 1 4 3 ِ ؛ فلا طريقَ لِعِلْمِ شيءٍ من ذلك إلا أن يُعْلِمَ اللهُ تعالى بذلك - أو بشيءٍ منه - أحداً ممن شاءه ؛ كما قال تعالى : ُ ّ ِ ُ َ ٍ ٌ ً ء {پ! ! ي ى وه ن ِ ، فمَنِ ادعَى عِلْمَ شيء من هذه الأمور ، كان في دعواه كاذبًا ، إلا أن يُسْنِدَ ذلك إلى رسولٍ بطريقٍ تُفيدُ العِلْمَ القطعيَّ ؛ ووجودُ ذلك متعذِّر بل ممتنعٌ.
وأما ظنُّ الغيب : فلم يتعرَّض شيءٌ من الشرع لنفيِهِ ولا إثباتٍه ؛ فقد يجوزُ أن يَظُنَّ المنجِّمُ - أو صاحبُ خَطِّ الرَّمْلِ ، أو نحوُ هذا - شيئًا مما يقعُ في المستقبل ، فَيَقَعَ على ما ظنّه ؛ فيكونُ ذلك ظنًّا صادقًا ، إذا كان عن مُوجِبٍ عاديٍّ يقتضي ذلك الظَّنَّ ، وليس بِعِلْمٍ ، فتَفَهَّمْ هذا ؛ فإنَّه موضعٌ غَلِطَ بسببه رجالْ ، وأُكِلَتْ به أموالْ.
ثم اعلم : أنّ أَخْذَ الأجرةِ والجُعْلِ على ادِّعَاءِ عِلْمِ الغيبِ أو ظَنِّهِ لا يجوزُ بالإجماع ؛ على ما حكاه أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ.
وفي الحديث : أبوابٌ من الفقه وأبحاثٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا ، والله أعلم.
بَابُ وُجُوبِ الْتِزَامِ شَرَائِعِ الإِْسْلاَمِ
(1/70)
عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ ، قال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ، ثَائِرُ الرَّأْسِ ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ ، وَلا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ ، حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ؟ ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلامِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ فَقَالَ لا ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ ؟ َقَالَ : لا ، إِلاّ أَنْ تَطَّوَّعَ ، وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزَّكَاةَ ، قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟ قَالَ : لا ، إِلاّ أَنْ تَطَّوَّعَ ، قَالَ : فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ : وَالله ، لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا ، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ!! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ ، أوْ : دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ .
(1/71)
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِك ، قَالَ : نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ شَيْءٍ ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ ، فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ : صَدَقَ ، قَالَ : فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ ؟ قَالَ : اللهُ . قَالَ : فَمَنْ خَلَقَ الأَرْضَ ؟ قَالَ : اللهُ . قَالَ : فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ ، وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ ؟ قَالَ : اللهُ . قَالَ : فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ ، وَخَلَقَ الأَرْضَ ، وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ ، آللهُ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا ؟ قَالَ : صَدَقَ . قَالَ : فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ ، اللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا ؟ قَالَ : صَدَقَ ، قَالَ : فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ ، آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَفِي رِوَايَةٍ : كُنَّا نُهِينَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ نَسْأَل ... وَذَكَرَهُ.
ومِنْ بَابِ
وُجُوبِ الْتِزَامِ شَرَائِعِ الإِْسْلاَمِ
الشرائع : جمع شَرِيعَةٍ ، وهي في أصل اللغة : مَشْرَعَةُ الماء ، وهي مَوْرِدُ الشارعة ، فسمِّيَتْ شرائعُ الإسلام بذلك ؛ لأنَّهَا الأحكامُ التي لا بُدَّ للمكلَّفين من الورود عليها والعمل بها.
وقوله : جاء رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ :
قيل : إن هذا الرجل هو ضِمَامُ بنُ ثَعْلَبَةَ الذي سمَّاه البخاريُّ في حديث أنسٍ المذكورِ بعدَ هذا ، وإنَّ الحديثَيْن حديثٌ واحد.
(1/72)
وهذا فيه بُعْدٌ ؛ لاختلافِ مساقهما ، وتباينِ الأَسْوِلَةِ فيهما ، ولزيادةِ الحجِّ في حديث أنس ، ويبعُدُ الجَمْعُ بينهما ؛ فالأَوْلَى أن يقال : هما حديثانِ مختلفانِ ، وكذلك القَوْلُ في كُلِّ ما يَرِدُ من الأحاديث التي فيها الأسولةُ المختلفة ؛ كحديث أبي أيُّوبَ ، وجابرٍ ، وغيرِهما ممّا يُذْكَرُ بعد هذا.
وقد رام بعضُ العلماءِ الجَمْعَ بينهما ، وزَعَم أنَّها كلَّها حديثٌ واحد ، فادَّعَى فَرَطَا ، وتكلَّف شَطَطَا ، من غير ضرورةٍ نقليّةٍ ، ولا عقليّةٍ.
و النَّجْدُ : المرتفعُ من الأرض ، والغَوْرُ : المنخفض منها ، وهما - بحكم العرف - جهتانِ مخصوصتان.
و ثائرُ الرأس : منتفشُ الشَّعْرِ مرتفعُهُ ، مِنْ قولهم : ثار الشَّيْءُ : إذا ارتفَعَ ، ومنه : ثارَتِ الفتنةُ ، وهذه صفةُ أهلِ البادية غالبًا.
وقوله : يُسْمَعُ ، دَوِيُّ صَوْتِهِ ولا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ ، رويناه : يُسْمَع ، ويُفْقَه بالياء باثنتين من تحتها مبنيًّا لِمَا لم يُسَمَّ فاعلُهُ ، وبالنون فيهما مبنيًّا للفاعل ، وكلاهما واضحُ الصحَّة .
وإنَّمَا لم يفهموا ما يقولُ ؛ لأنَّه نادى مِنْ بُعْدٍ ، فلمَّا دنا ، فهموه ؛ كما قال : حتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ ، إذا هذه هي المفَاجِئَةُ التي تقدَّم ذِكْرها.
(1/73)
وهذا السائلُ إنَّما سَأَلَ عن شرائعِ الإسلام ، لا عن حقيقة الإسلام ؛ إذْ لو كان ذلك ، لأجَابَهُ بما أجاب به جبريلَ ـ عليه السلام ـ ، في حديثه ولِمَا رواه البخاريُّ ـ رحمه الله ـ في هذا الحديث ؛ فإنَّه قال : فأخبرَهُ رسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشرائعِ الإسلام في حديثه ، وكأنّ النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَهِمَ عنه أَنَّهُ إِنَّما سأل عمَّا يتعيَّنُ عليه فعلُهُ مِنْ شرائعِ الإسلام الفعليَّة لا القوليَّة ؛ ولذلك لم يذكُرْ له أَنْ تشهَدَ أنْ لا إِلَهَ إلاَّ الله ، وأنَّ محمَّدًا رسول الله ، ، وكذلك لم يذكُرْ له الحَجَّ ؛ لأَنَّهُ لم يكنْ واجبًا عليه ؛ لأنَّه غيرُ مستطيع ، أو لأنَّ الحجَّ على التراخي ، أو لأنَّهُ كان قبل فَرْضِ الحجِّ ، والله أعلم ، وسيأتي الاختلافُ في وقت فرضِ الحجِّ.
وقوله : خمسُ صَلَواتٍ فِي الْيَوْمِ واللَّيْلَةِ ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ فقال لاَ يدُلُّ هذا على أنَّ الوِتْرَ ليس بلازمٍ ولا واجب ؛ وهو مذهبُ الجمهور.
وخالفهم أبو حنيفة ، فقال : إنَّه واجبٌ ، ولا يسمِّيه فرضًا ؛ لأنَّ الفرضَ عنده : ما كان مقطوعًا بلزومه ؛ كالصلوات الخمس.
وقوله : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ، فَقَالَ : لاَ ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ ؛ ظاهرٌ في أنَّ معنى هذا الكلامِ : هل يجبُ عليَّ مِنْ نوعِ الصلواتِ شيءٌ غيرُ هذه الخَمْس ؟ فأجابه بأَنَّهُ لا يَجِبُ عليه شيءٌ ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ ، فَيَجِبُ عليك .
(1/74)
وهذا ظاهرٌ ؛ لأنَّ أصلَ الاستثناءِ من الجنس ، والاستثناءُ من غير الجنس مُختَلَفٌ فيه ، ثُمَّ هو مَجَازٌ عند القائلِ به . فإذا حَمَلْنَاه على الاستثناءِ المتَّصِل ، لَزِمَ منه أن يكون التطوُّعُ به واجبًا ، ولا قائلَ به ؛ لاستحالتِهِ وتناقُضِهِ ، فلم يَبْقَ إلاَّ ما ذهب إليه مالكٌ ، وهو أنَّ التطوُّعَ يصيرُ واجبًا بنفس الشروع فيه ، كما يصير واجبًا بالنذر ؛ فالشروعُ فيه التزامٌ له ؛ وحينئذٍ : يكونُ معنى قوله أن تَطَّوَّعَ : أن تشرَعَ فيه وتبتدئه ، ، ومن ادَّعى أنَّه استثناءٌ من غير الجنسِ ، طولبَ بتصحيحِ ما ادَّعاه ، وتمسَّك مانعُهُ بالأصل الذي قرَّرناه.
وقوله فأدبر الرجل وهو يقول : واللهِ لا أزيد على هذا ولا أنقص منه ، قيل معناه : لا أُغيِّر الفروض المذكورة بزيادة فيها ولا نقصان منها.
ولا يصحّ أن يقال : إنّ معناه : لا أفعل شيئًا زائدًا على هذه الفروض المذكورة من السنن ، ولا من فروض أُخَر إن فُرضتْ ، فإنّ ذلك لا يجوزُ أن يقوله ولا يعتقده ؛ لأنَّهُ مُنْكَرٌ ، والنبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يُقِرُّ على مثله .
وقوله : أَفْلَحَ وأَبِيهِ إنْ صَدَقَ ، أي : فاز بمطلوبه ؛ قال الهَرَوِيُّ : العرب تقول لكلِّ من أصاب خيرًا : مُفْلِح ، قال ابنُ دُرَيْدٍ : أَفْلَحَ الرجلُ وأَنْجَحَ : إذا أدرَكَ مطلوبَهُ.
وأصلُ الفلاح : الشَّقُّ والقطع ؛ قال الشاعر :
إِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحْ
أي : يُشَقّ ؛ فكأنَّ المُفْلِحَ قد قطَعَ المصاعبَ حتَّى نال مطلوبَهُ.
وقد استُعْمِلَ الفلاحُ في البقاء ؛ كما قال :
لَوْ كَانَ حَيٌّ مُدْرِكَ الفَلاَحِ
أدْرَكَهَا مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ
وقال آخر :
نَحُلُّ بِلاَدًا كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا
وَنَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ
وقوله : وأبيه ، الروايةُ الصحيحةُ التي لا يُعْرَفُ غيرُها هكذا ، بصيغة القسم بالأب .
(1/75)
وقال بعضهم : إنَّما هي : واللهِ ، وصُحِّفَتْ بأَنْ قُصِرَتِ اللامان ؛ فالتبسَتْ بـ أبيه ؛ وهذا لا يُلتَفَتُ إليه ؛ لأَنَّهُ تقديرٌ يَخْرِمُ الثقةَ برواية الثقاتِ الأثبات.
وإنَّما صار هذا القائلُ إلى هذا الاحتمال ؛ لِمَا عارضَهُ عنده مِنْ نهيه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الحلف بالآباء ؛ حيثُ قال : لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ؛ مَنْ كاَنَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ.
وَيُنْفَصَلُ عن هَذَا مِنْ وجهين :
أحدهما : أَنْ يقال : إنَّ هذا كان قبل النَّهْيِ عن ذلك .
والثاني : أن يكونَ ذلك جَرَى على اللسان بِحُكْمِ السَّبْقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ للحَلِفِ به ، كما جَرَى منه : تَرِبَتْ يمِينُكِ ، وعَقْرَى حَلْقَى ، وهذه عادةٌ عربيَّةٌ بشريَّةٌ لا مؤاخذةَ عليها ، ولا ذمَّ يتعلَّق بها.
وقد جاء في هذا الحديث الصدقُ في الخبر المستقبل ، وهو رَدٌّ على ابن قتيبة إذْ قال : إنَّ الصِّدْقَ إنّما يدخُلُ في الماضي ، والخُلْفَ في المستقبل ، ، ويَرُدُّ عليه - أيضًا - قولُهُ تعالى : {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}.
وقوله : أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ ، أو : دَخَلَ الجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ : هذا شكٌّ من بعض الرواة في هذا الطريق ، وقد جاء طريقٌ آخَرُ بالجزم على أحدهما ؛ كما تقدَّم. ثم معنى اللفظَيْن واحدٌ ، فلا يَضُرُّ الشكّ ، وإنَّما ذكره الراوي متحرِّيًا .
وقوله : نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ شَيْءٍ ، يعني بذلك قولَهُ تعالى : {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية ، وقد تقدَّمَ سببُ ذلك ، وسيأتي تكميله.
(1/76)
وقوله : فَجَاءَ رَجُلٌ ، هذا الرجلُ هو ضِمَامُ بن ثَعْلَبَةَ أخو بني سعد بن بكر ، قَدِمَ على النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنَةَ تِسْع ؛ قاله أبو عُبَيْدَة ، وقيل : سنةَ سَبْع ، وقال محمَّد بن حَبِيب : سنةَ خَمْس ، وهو أبعدها ؛ لأنَّ فرض الحَجِّ لم يكنْ نزل إذْ ذاك ، والله أعلم ، وسيأتي ذلك في الحجِّ إن شاء الله تعالى.
وقد خرَّج البخاريُّ هذا الحديثَ وقال فيه : عن أنس ـ رضى الله عنه ـ : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي الْمَسْجِدِ ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ ، فَأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ، ثُمَّ عَقَلَهُ ، ثُمَّ قَالَ : أيُّكم محمَّدٌ ؟ وَالنَّبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالسٌ بين ظَهْرانيهم ، فقُلنا : هذا الرجل الأبيضُ المُتَّكِئُ ، فقَالَ الرَّجُلُ : ابنَ عبدِ المُطَّلب ؟ ، فقال لَهُ النَّبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قَدْ أَجَبْتُكَ ، فقالَ الرَّجُلُ للنَّبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنِّي سَائِلُك فمُشَدِّدٌ عَلَيْك في المَسْأَلةِ ، فلا تجِدْ عليَّ في نفسِكَ ، فقَالَ : سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ ، فَقَال : أَسْأَلُكَ بربِّكَ ورَبِّ مَنْ قَبْلَكَ ، آللهُ أرْسَلَكَ إلَى النّْاس كُلِّهِمْ ؟ ، فقال : اللَّهُمَّ نعم ... ، وذكر نحوَ حديثِ مسلم.
وقد فَهِمَ البخاريُّ مِنْ هذا الحديثِ : أنَّ هذا الرجُلَ قد كان أسلَمَ على يدَيْ رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين جاءهم ، وصَحَّ إيمانه ، وحَفِظَ شرائعه ، ثُمَّ جاء يَعْرِضها على النبيّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أَلاَ تَرَى البخاريّ كيف بوَّب على هذا بابُ القِرَاءَةِ وَالعَرْضِ على المحدِّث ، وكأنَّ البخاريَّ أخذ هذا المعنى من قولِ الرجل في آخر الحديث : آمَنْتُ بما جِئتَ بِهِ ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي ، وفيه نَظَرٌ.
(1/77)
قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا ؟ قَالَ : صَدَقَ ، قَالَ : فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ ، آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ؟ قَالَ : صَدَقَ ، قَالَ : ثُمَّ وَلَّى ، قَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، لا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ ، وَلا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ!! فَقَال رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لَئِنْ صَدَقَ ، لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ .
وأمَّا مساقُ حديثِ مسلم : فظاهره أنَّ الرجُلَ لم يَنْشَرِحْ صدرُهُ للإسلامِ بَعْدُ ، وأنَّه بَقِيَتْ في قلبه منازعاتٌ وشكوكٌ ، فجاء مجيءَ الباحثِ المستَثْبِت ؛ أَلاَ تراه يقولُ : يا محمَّدُ ، أتانا رسُولُكَ فزَعَمَ لنا أَنَّكَ تزعُمُ أنَّ الله أَرْسَلَكَ ؛ فإنَّ الزَّعْم قولٌ لا يُوثَقُ به ، قاله ابن السِّكِّيتِ وغيرُهُ ، غير أنَّ الرجُلَ كان كاملَ العَقْل ، وقد كان نظر بعقله في المخلوقات ، فَدَلَّهُ ذلك على أنَّ لها خالقًا خلقها ؛ ألا ترى أنَّهُ استفهَمَ النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن خالقِ المخلوقاتِ استفهامَ تقريرٍ للقاعدة التي لا يَصِحُّ العلمُ بالرسول إلاَّ بعد حصولها ، وهي التي تفيدُ العِلْمَ بالمُرْسِلِ ، ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا وافقَهُ على ما شَهِدَ به العقلُ ، وأنَّ الله تعالى هو المُنْفَرِدُ بِخَلْقِ هذه المخلوقات - : أقسَمَ عليه وسأله به : هل أرسلَهُ ؟ ثمَّ إنَّ الرجُلَ استمرَّ على أَسْوِلَتِهْ ، إلى أنْ حَصَلَ على طَلِبَتِه ، وانشرَحَ صدرُهُ للإسلامْ ، وزاحَتْ عنه الشكوك والأوهامْ ، وذلك ببركَةِ مشاهدةِ أنوارِ رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فلقدْ كان كثيرٌ من العقلاء يحصُلُ لهم العلمُ بصحَّةِ رسالَتِهْ ، بنفسِ رؤيتِهِ ومشاهدتِهْ قبلَ النظر في معجزتِهْ ؛ كما قال أبو ذرٍّ : فَلَمَّا رَأَيْتُهُ ، عَلِمْتُ أنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ، حتَّى قال بعضهم :
(1/78)
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ
لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
والحاصلُ مِنْ حال هذا السائل : أنَّهُ حصَلَ له العلمُ بصدقِ رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وبصحَّةِ رسالتِهِ بمجموع قرائن ، لا تتعيَّنُ آحادها ، ولا تنحصرُ أعدادها.
ويستفادُ من هذا الحديث : أنَّ الشرع إنَّما طلَبَ مِنَ المكلَّفين التصديقَ الجزم بالحقِّ ، كيفما حَصَل ، وبأيِّ وجهٍ ثَبَت ، ولم يَقْصُرْهُم في ذلك على النظر في دلالةٍ معيَّنة ، لا معجزةٍ ولا غيرها ، بل كُلُّ مَنْ حصَلَ له اليقينُ بِصِدْقِهِ : بمشاهدةِ وجهه ، أو بالنظرِ في معجزتِه ، أو بتحليفهِ ، أو بقرينةٍ لاَحَتْ له- : كان من المؤمنينْ ، ومِنْ جُمْلَةِ عبادِ الله المخلصينْ ؛ لكنْ دلالاتُ المعجزات هي الخاصَّةُ بالأنبياءْ ، والطرقُ العامَّةُ للعقلاءْ.
وقد روى ابنُ عبَّاس ـ رضى الله عنهما ـ حديثَ ضِمَامٍ هذا بأكملَ مِنْ هذا ، وقال فيه ما يَدُلُّ على أنَّ ضِمَامًا إِنَّما أسلَمَ بعد أنْ أجابه النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أسولته المتقدِّمة ، فلمَّا أنْ فرَغَ ، قال ضِمَام : أَشْهدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَشْهَدُ أنَّ محمّدًا رسولُ اللهِ ، وَسَأُؤدِّي هذه الفرائضَ ، وَأَجْتَنِبُُ ما نهَيتَنِي عنه ؟ ، ثمّ لا أزيد ولا أنقُصُ ، فقال رسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِنْ يَصْدُقْ ذُو العَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الجَنَّة ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى أهلِهِ ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الإِسْلاَمَ ، فَمَا أَمْسَى ذَلِكَ اليَوْمُ في حَاضرِهِ مِنْ رجُلٍ ولا امرأةٍ إلاَّ مسلمًا ، قال ابْنُ عَبَّاسٍ : فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدٍ قَطُّ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامٍ.
ونداءُ هذا الرجلِ للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بـ يا محمَّد وبـ ابْنَ عَبْدِ المطَّلب ، ولم ينادِه بالنبوَّةِ ولا بالرسالة :
إمَّا لأنَّهُ لم يؤمنْ بَعْدُ ؛ كما قلناه.
(1/79)
وإمَّا لأنَّهُ باقٍ على جَفَاءِ أهلِ الباديةِ والأعراب ؛ إذْ لم يتأدَّبْ بَعْدُ بشيء من آداب الشرع ، ولاَ عَلِمَ ما يجبُ عليه مِنْ تَعْزِيرِ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتوقيره ؛ فإنّ اللهَ تعالى قد نهى عن أن ينادَى النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا محمَّدُ ، حتَّى قال تعالى : ُ چ ؛ ئ إ ب ا آ ء ِ.
وأَوْلَى ما يقال : إنّ ضِمَامًا قَدِمَ على رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنة تِسْعٍ ؛ كما قاله أبو عُبَيْدَةَ وغيرُهُ من أهل التواريخ ، ولأنَّها كانتْ سنةَ الوفود ؛ وذلك أنَّ الله تعالى لمَّا فتَحَ على رسوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَكَّةَ ، وهزَمَ جَمْعَ هَوَازِنَ ، وأسلَمْتْ قريشٌ كلُّها - : دوَّخَ اللهُ العرَبَ ، ونصَرَ نبيَّه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وذلك سنةَ ثمانٍ من الهجرة ؛ فدخَلَ الناسُ في دين الله أفواجًا ، وقَدِمَ رؤساءُ العربِ على النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفودًا في سنة تسع ، فَسُمِّيَتْ : سنةَ الوفود لذلك.
وفي هذا الحديث أبوابٌ من الفقه لا تخفَى يطولُ تتبُّعُهَا.
بَابُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى فِعْلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَانْتَهَى عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ دَخَلَ الجَنَّةَ
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْنِينِي مِنَ الْجَنَّةِ ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ ، قَالَ : تَعْبُدُ اللهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَتَصِلُ ذَا رَحِمِكَ ، فَلَمَّا أَدْبَرَ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أَمَرْ تُهُ ، دَخَلَ الْجَنَّةَ .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ؛ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلاَلَ ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا ، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : وَاللهِ ، لا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا .
(1/80)
بَابُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى فِعْلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ،
وَانْتَهَى عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ دَخَلَ الجَنَّةَ
هذه الترجمةُ يشهدُ بصحَّتها الحديثان المذكورانِ تحتها :
فأمَّا حديثُ أبي أَيُّوبَ ـ رضى الله عنه ـ ، فمِنْ حيثُ إنَّ النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دلَّ السائلَ على فِعْلِ ما وجَبَ عليه ، وقال : إنْ تَمَسَّكَ بِمَا أَمَرتُهُ ، دَخَلَ الجَنَّةَ .
وأمَّا حديثُ جابرٍ : ـ رضى الله عنه ـ فمِنْ حيثُ إنّ السائل إنّما سأله عن دخولِ مَنْ فَعَلَ ما يجبُ عليه ، وَانْتَهَى عمَّا حُرِّمَ عليه : الجَنَّةَ ، فأجابه بـ نعم .
ولم يَذْكُرْ لهما في هذَيْن الحديثين شيئًا مِنْ فعل التطوُّعات ؛ فدَلّ على صِحَّةِ ما ذكرناه ، وعلى جواز ترك التطوُّعاتِ على الجملة ، لكنْ مَنْ تركها ولم يعملْ شيئًا منها ، فقد فوَّت على نفسه ربحًا عَظِيمًا ، وثوابًا جسيمَا ، ومَنْ داوم على ترك شيءٍ من السنن ، كان ذلك نقصًا في دينه ، وقدحًا في عدالته ، فإنْ كان ترَكَهُ تهاوُنًا بها ورغبةً عنها ، كان ذلك فِسْقًا يستحقُّ به ذمًّا.
وقال علماؤنا : لو أنَّ أهلَ بلدةٍ تواطؤوا على ترك سنة ، لقوتلوا عليها حتى يرجعوا ، ولقد كان صَدْرُ الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ومَنْ بعدهم يثابرون على فعل السنن والفضائل ، مثابرتَهُمْ على الفرائض ، ولم يكونوا يفرِّقون بينهما ، في اغتنامِ ثوابهما ؛ وإنما احتاج أئمَّةُ الفقهاء إلى ذِكْرِ الفرق بينهما ؛ لما يترتَّب عليه مِنْ وجوبِ الإعادةِ وتركها ، وخَوْفِ العقابِ على الترك ، ونَفْيِهِ إِنْ حصل تركٌ ما بوجهٍ ما.
(1/81)
وإنما سكَتَ النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهؤلاء السائلين عن ذِكْرِ التطوُّعات ، ولم يذكُرْهَا لهم - كما ذكرها في حديث طلحة بن عبيدالله ، ـ رضى الله عنه ـ لأنَّ هؤلاءِ - والله أعلم - كانوا حديثي عهدٍ بإسلام ؛ فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم في تلك الحال ؛ لئلاَّ يَثْقُلَ ذلك عليهم فيَمَلُّوا ، أو لِئَلاَّ يعتقدوا أنَّ السنن والتطوُّعاتِ واجبة ، فتركَهُمْ إلى أن تنشرحَ صدورهم بالفهم عنه ، والحرصِ على تحصيلِ ثوابِ تلك المندوبات ؛ فتسهل عليهم.
ومن المعلوم : أنَّ هؤلاءِ ما يسُوغُ لهم تركُ الوتر ولا صلاةِ العيدَيْن ، ولا غير ذلك ، مِمَّا فعله النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جماعة المسلمين ، ولا يجترئون على ترك ذلك ؛ للذي يُعْلَمُ مِنْ حرصهم على الاقتداء به ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعلى تحصيل الثواب ، والله تعالى أعلم.
وقوله : وَتَصِلُ ذَا رَحِمِكَ ، يعني : قرابتَكَ ؛ وعلى هذا ؛ فتكون القرابة جنسًا مضافًا إلى ذي ؛ فإنَّ حكمها أن تضافَ إلى الأجناس.
وهذا أَوْلَى مِنْ قول من قال : إنَّ الرحم هنا اسمُ عَيْن ، وإنّها بمنزلة قولهم : ذو نُوَاسٍ ، وذو يَزَنَ ، وذو رُعَيْنٍ ؛ لأنَّ هذه أسماءُ أعلامٍ لا أسماءُ أجناس ، والله أعلم.
و ذو بمعنى صاحب ، وهي من الأسماء الستَّة التي اعتلَّتْ بحذف لاماتها في الإفراد ، ورفعُهَا بالواو ، ونصبُهَا بالألف ، وخفضها بالياء ، وقد ذَكَرَ النحويون أوزانَهَا وأحكامها.
وقوله : أَرَأَيْتَ إِذَا أَحْلَلْتُ الْحَلاَلَ ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ ، يعني : اكتسبْتُ الحلال ، وامتَنَعْتُ مِنْ كسب الحرام ، هذا عرفُ الحلالِ والحرامِ في الشرع. وأمَّا في أصل الوضع : فيصلُحُ أنْ يطلق الحلالُ على كلِّ ما للإنسان أن يفعلَهُ شرعًا ، ولا يُمْنَعَ منه ، والحرامُ على ما يُمْنَعُ الإنسانُ من فعله مطلقاً.
وقوله : وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا :
يصلُحُ أنْ يُحْمَلَ على ما ذكرناه آنفًا.
(1/82)
وَيَحْتَمِلُ أن يكون قال ذلك ؛ لأنَّه لم يتفرّغْ لفعلِ شيء من النوافل في تلك الحال : إمَّا لِشَغْله بالجهاد ، أو بغيره من أعمال الدين ، والله أعلم.
بَابُ مَبَانِي الإِْسْلاَمِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : وَصِيَامِ رَمَضَانَ ، وَالْحَجِّ ، فَقَالَ رَجُلٌ : الْحَجِّ ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ ؟ قَالَ : لا ، صِيَامِ رَمَضَانَ ، وَالْحَجِّ ، هكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وَفِي أُخْرَى : بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ : عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ ، ويُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ... ، الحَدِيثَ .
وَمِنْ بَابِ مَبَانِي الإِْسْلاَمِ
قوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ ؛ يعني : أن هذه الخمس أساسُ دين الإسلام وقواعدُه ؛ عليها ينبني ، وبها يقوم.
وإنما خَصَّ هذه بالذكر ولم يذكُرْ معها الجهاد ، مع أنه به ظهر الدين ، وانقمع به عُتَاةُ الكافرين ؛ لأنَّ هذه الخمس فرضٌ دائم على الأعيان ، ولا تسقطُ عمَّن اتَّصَفَ بشروط ذلك ، والجهادُ من فروض الكفايات ، وقد يسقُطُ في بعض الأوقات ، بل وقد صار جماعةٌ كثيرةٌ إلى أنّ فرضَ الجهاد قد سقَطَ بعد فتح مكَّة ، وذُكرَ أنَّه مذهبُ ابنِ عمر ، والثوري ، وابن سِيرِينَ ، ونحوُهُ لسُحْنُون من أصحابنا ، إلا أن ينزلَ العَدُوُّ بقوم ، أو يأمر الإمامُ بالجهاد ، فيلزمُ عند ذلك.
وقد ظهَرَ مِنْ عدولِ ابن عمر عن جواب الذي قال له : ألا تغزو ؟ إلى جوابه بقول النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ ، أنَّه كان لا يرى فرضيَّةَ الجهاد في ذلك الوقت خاصَّةً ، أو على أنَّهُ يرى سقوطَهُ مطلقًا ؛ كما نُقِلَ عنه.
(1/83)
وحديث ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ هذا قد روي من طرق : ففي بعضها : شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ ، وفي بعضها : على أن يُعْبَدَ اللهُ ، ويُكْفَرَ بما دونه ، فالأُولَى نَقْلٌ للفظ ، والأخرى نقلُ بالمعنى ، والأصل نقل اللفظ ، وهو المتفق عليه .
وقد اختُلِفَ في جواز نقل الحديثِ بالمعنى مِنَ العالِمِ بمواقعِ الكلم ، وتركيبها على قولين : الجواز ، والمنع . وأما مَنْ لا يَعْرِف ، فلا خلافَ في تحريمِ ذلك عليه ، وقد أوضحنا المسألةَ في "الأصول".
وقد وقع في بعضِ الرواياتِ في الأصل : تقديمُ الحجِّ على الصوم ، وهي وَهَمٌ ، والله أعلم ؛ لأنَّ ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ لمَّا سَمِعَ المستعيدَ يُقدِّمُ الحجَّ على الصوم ، زجَرَهُ ونهاه عن ذلك ، وقدَّم الصومَ على الحجِّ ، وقال : هكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ولا شك في أنَّ نقل اللفظ كما سُمِعَ هو الأَوْلَى والأسلم ، والأعظم للأجر ؛ لقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ، ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا ؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ.
ويَحْتَمِلُ : أن يكون محافظةُ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ترتيب هذه القواعد لأنَّها نزلَتْ كذلك : الصلاةُ أولاً ، ثُمَّ الزكاةُ ، ثُمَّ الصوم ، ثُمَّ الحج.
وَيَحْتَمِلُ ذلك : أنْ يكونَ لإفادة الأوكد فالأوكد ؛ فقد يَسْتَنْبِطُ الناظرُ في ذلك الترتيب : تقديمَ الأوكدِ على ما هو دونَهُ إذا تعذَّر الجمعُ بينهما ؛ كمن ضاق عليه وقتُ الصلاة ، وتعيَّن عليه في ذلك الوقتِ أداءُ الزكاة لضرورة المستَحِقِّ ، فيبدأ بالصلاة ، أو كما إذا ضاق وقتُ الصلاة على الحَاجِّ ، فيتذكَّرُ العشاءَ الآخرة وقد بقي عليه مِنْ وقت صلاة العشاء الآخرة ما لو فعلَهُ لفاته الوقوفُ بِعَرَفَةَ ، فقد قال بعضُ العلماء : إنَّه يبدأُ بالصلاة وإنْ فاته الوقوفُ ؛ نظرًا إلى ما ذكرناه ، وقيل : يبدأ بالوقوف ؛ للمشقَّةِ في استئناف الحَجِّ.
(1/84)
ومن ذلك : لو أوصى رجلٌ بزكاةٍ فرَّط في أدائها ، وبكفَّارةِ فِطْرٍ من رمضان ، وضاقَ الثلثُ عنهما ، بدَأَ بالزكاة ؛ لأوكديَّتها على الصوم ، وكذلك : لو أوصَى بكفَّارةِ الفطر وبَهْديٍ واجبٍ في الحَجِّ ، قدَّمَ كَفَّارَةَ الفِطْر ؛ وهذا كلُّه على أصل مالك ـ رحمه الله ـ في أنَّ ذلك كلَّه يُخْرَجُ من الثلث ، ، وأمّا مَنْ ذهب إلى أنَّ ذلك يُخْرَجُ من رأس المال ، فلا تفريعَ على ذلك بشيء ممَّا ذكرناه ، والله تعالى أعلم.
بَابُ إِطْلاَقِ اسْمِ الإِْيمَانِ عَلَى مَا جَعَلَهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ ـ عليه السلام ـ إِسْلاَمًا
(1/85)
عَنْ أَبِي جَمْرَةَ ، قَالَ : كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَسَأَلَتْهُ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ ؟ فَقَالَ : إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنِ الْوَفْدُ ؟ - أَوْ : مَنِ الْقَوْمُ ؟ - قَالُوا : رَبِيعَةُ ، قَالَ : مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ - أَوْ بِالْوَفْدِ - غَيْرَ خَزَايَا وَلا النَّدَامَى ، قَالَ : فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ ، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ ، وَإِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلاَّ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا نَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ ، قَالَ : فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ ؛ قَالَ : أَمَرَهُمْ بِالإِْيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ ، وَقَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِْيمَانُ بِاللهِ ؟ ، قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنَ الْمَغْنَمِ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ ، وَالْحَنْتَمِ ، وَالْمُزَفَّتِ - وَرُبَّمَا قَالَ : الْمُقَيَّرِ ، وَرُبَّمَا قَالَ : النَّقِيرِ - وَقَالَ : احْفَظُوهُ ، وَأَخْبِرُوا بِهِ مِنْ وَرَائِكُمْ ، وَفِي رِوَايَةٍ : مَنْ وَرَاءَكُمْ .
(1/86)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ... ، وَذَكَر نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ ، وَفِيهِ : فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ : اعْبُدُوا اللهَ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ ، وَآتُوا الزَّكَاةَ ، وَصُومُوا رَمَضَانَ ، وَأَعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ الْغَنَائِمِ ، ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنِ الدُّبَّاءِ ، وَالْحَنْتَمِ ، وَالْمُزَفَّتِ ، وَالنَّقِيرِ ، قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللهِ ، مَا عِلْمُكَ بِالنَّقِيرِ ؟ قَالَ : بَلَى ؛ جِذْعٌ تَنْقُرُونَهُ ، فَتَقْذِفُونَ فِيهِ مِنَ الْقُطَيْعَاءِ - أَوْ قَالَ : مِنَ التَّمْرِ - ثُمَّ تَصُبُّونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ ، حَتَّى إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ شَرِبْتُمُوهُ ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُمْ - أَوْ إِنَّ أَحَدَهُمْ - لَيَضْرِبُ ابْنَ عَمِّهِ بِالسَّيْفِ ، قَال : وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ كَذَلِكَ ، قال : وَكُنْتُ أَخْبَؤُهَا حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقُلْتُ : فَفِيمَ نَشْرَبُ ، يا رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ : فِي أَسْقِيَةِ الأَدَمِ الَّتِي تُلاثُ عَلَى أَفْوَاهِهَا ، فَقَالُوا : يَا نَبِيَّ اللهِ ، إِنَّ أَرْضَنَا كَثِيرَةُ الْجِرْذَانِ ، وَلاَ تَبْقَى فيِهَا أَسْقِيَةُ الأَْدَمِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ! وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ! وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ! ، ، قَالَ : وَقَالَ رسول اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأُِشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ : إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ : الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ .
وَمِنْ بَابُ إِطْلاَقِ اسْمِ الإِْيمَانِ عَلَى مَا جَعَلَهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ ـ عليه السلام ـ إِسْلاَمًا
معنى جَعَلَ في هذه الترجمة : سمّى ، كما قال تعالى : ُ ژ ؟ عع = ؤ أ آ ِ.
(1/87)
ويصلُحُ أن يكون بمعنى : صيَّر ؛ كما قالت العرب : جعلتُ حُسنَ فلانٍ قبيحًا ، أي : صيَّرتُهُ.
وقد تقدَّم القولُ في الإيمان والإسلام في حديث جبريل.
أبو جمرة هذا الذي يروي عن ابن عبَّاسٍ حديثَ وَفْدِ عبد القَيْس : هو بالجيم والراء ، واسمه : نَصْرُ بنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ ، وقد روى عن ابنِ عبَّاسٍ رجلٌ آخر يقالُ له : أبو حَمْزةَ - بالحاء المهملة والزاي - واسمه : عِمْرَانُ بنُ عطاءٍ القَصَّابُ.
وقوله : كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وبَيْنَ النَّاسِ ، أي : أبلِّغُ كلامه ، وأفسِّره لِمَنْ لا يفهمه ، وعُرْفُ الترجمةِ : التعبيرُ بلغةٍ عن لغةٍ لمن لا يفهم ، وقيل كان أبو جمرة يتكلَّم بالفارسيَّة.
وفيه : دليلٌ على أنَّ ابنَ عبَّاس كان يكتفي في الترجمة بواحد ؛ لأنَّهُ مُخْبِرٌ ، وقد اختُلِفَ فيه ، فقيل : لا يكفي الواحدُ بل لا بدَّ من اثنين ؛ لأنَّها شهادة.
وقوله : فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَسَأَلَتْهُ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ ، وهي : جمعُ جَرَّةٍ ، وهي : قِلاَلٌ من فَخَّارٍ ، غير أنها مَطلِيَّةٌ بالزجاج ، وهو الحَنْتَمُ ، ونبيذُ الجرِّ : هو ما يُنْبَذُ فيها من التمر وغيره.
وإنما سأَلَتْهُ عن حكم النبيذ في الجِرَارِ : هل يَحِلُّ أم لا ؟ فذكَرَ لها ما يدُلُّ على منْع ذلك ، ثم أخذ في ذكر الحديث بقصَّته.
ففيه : ما يدلُّ على أن المفتي يجوز له أن يذكر الدليلَ مستغنيًا به عن النصِّ على الفتيا إذا كان السائلُ بصيرًا بموضع الحُجَّة.
وقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنِ القَوْمُ ؟ أَوْ مَنِ الْوَفْدُ ؟ ، هذا شَكٌّ من بعض الرواة.
و الوَفْد : الوافدون ، وهم القادمون والزائرون ، يقال : وَفَدَ يَفِدُ ، فهو وافد ، والجمع : وَافِدونَ وَوُفُود ، والقوم وَفْدٌ ، وقال ابنُ عبَّاسِ ـ رضى الله عنهما ـ - في قوله تعالى : ُ 6 5 8 7 2 1 ِ : رُكْبانًا.
(1/88)
وقوله : مَرْحَبًا : هو من الرُّحْب - بضمِّ الراء - وهو السعة ، والرَّحْبُ - بفتح الراء - : هو الشيءُ الواسع ، وهو منصوبٌ بفعلٍ مضمَرٍ لا يُستعمل إظهارُهُ ، أي : صادفْتَ رُحْبًا ، أو أتيتَ رَحْبًا ؛ فاسْتَأْنِسْ ولا تَسْتَوْحِشْ .
و الخَزَايَا : جمع خَزْيَان ؛ مثلُ : نَدْمَان ونَدَامَى ، وسَكْران وسَكَارَى ؛ قال تأَبَّطَ شَرًّا :
..................
وَالْمَوْتُ خَزْيَانُ يَنْظُرُ
يقال : خَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْيًا : إذا ذَلَّ ، وخَزَايَةً : إذَا خَجِلَ واستحيا.
و النَّدَامَى هنا : جمعُ نادمٍ ؛ لكنَّه على غير قياس ؛ لأنَّ قياس نَدَامَى أن يكون جمع نَدْمَان كما قلنا ، والندمان : هو المُجَالِسُ على الخمر وساقيها ؛ كما قال الشاعر :
فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالأَْكْبَرِ اسْقِنِي
وَلاَ تَسْقِني بِالأَْصْغَرِ المُتَثَلِّمِ
وليس مرادًا هنا ، وإِنَّمَا جَمَعَ نَادِماً هنا على نَدَامَى ؛ إتباعًا لـ خَزَايَا ؛ على عادتهم في إتباع اللفظِ اللفظَ وإنْ لم يكنْ بمعناه ؛ كما قالوا : إنِّي لآتيه بالغَدَايَا والعَشَايَا ؛ فجمعوا الغُدْوَةَ : غَدَايَا ؛ لمَّا ضمَّوه إلى العشايا ؛ كما قال شاعرهم :
هَتَّاكِ أَخْبِيَةٍ وَلاَّجِ أَبْوِبَةٍ
.........
فجمَعَ البابَ : أَبْوِبَةً ، لَمَّا أتبعَهُ : أَخْبِيَة ، ولو أفرده ، لما جاز ذلك ، ومن هذا النوع : قولُهُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ للنساء المتَّبعات للجنازة : ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ ، ولولا مراعاةُ الإتباع ، لقال : مَوْزُورات بالواو ؛ لأنه من الوِزْرِ.
قال القَزَّاز في "جامعه" : يقال في النادم : نَدْمَانُ ؛ فيكون نَدَامَى على القياس.
(1/89)
ومعنى هذا القول : التأنيسُ ، والإكرامُ والثناءُ عليهم بأنَّهم بادروا بإسلامهم طائِعِينَ ، من غيرِ خِزْيٍ لَحِقَهُمْ من قَهْرٍ ولا سِبَاء ، ثُمَّ إنَّهم لمَّا أسلموا كذلك ، احْتُرِمُوا وأُكْرِموا وأُحِبُّوا ، فلم يَنْدَمُوا على ذلك ، بل انشرحَتْ صدورهم للإسلام ، وتنوَّرَتْ قلوبُهُمْ بالإيمان .
و غَيْرَ خزايا : منصوبٌ على الحال ، أي : أتيتُمْ في هذه الحال.
ويروى : ولا الندامى ، ولا ندامى ، معرَّفًا وغير مُعَرَّف ؛ وهما بمعنىً واحدٍ.
و الشُّقَّة البعيدة : المسافةُ البعيدة الصعبة. والحَيُّ : القبيل ، وربيعة : هو خبَرُ مبتدأ محذوف ؛ أي : نحنُ ربيعة ، أي : بنو ربيعةَ.
وقوله : وَإِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلاَّ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ ، كذا الرواية الصحيحة بتعريف الحرام ، وإضافة الشهر إليه ، وهو من باب إضافةِ الشيء إلى صفته ؛ كما قالوا : مسجدُ الجامع ، وصلاةُ الأُولَى ؛ وقال تعالى : ُ ً ي ى ِ ، وهو على تقدير محذوف ؛ فكأنّه قال : شَهْرٌ الوقتِ الحرامِ ، ومسجدُ المكانِ الجامعِ ، ولدارُ الحالةِ الآخِرَةِ ، ونحوه.
ويعنون بشَهْرِ الحرامِ رجبًا ؛ لأنَّه منفردٌ بالتحريم بين شهور الحِلِّ ، بخلاف سائر الأشهر الحُرُم ؛ فإنَّها متوالية ؛ ولذلك يقال فيها : ثلاثةٌ سَرْد ، وواحدٌ فَرْد ، ويعنون به : رجبًا ، وهو الذي قال رسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنَّهُ شَهْرُ مُضَرَ ، وإنما نسبُهُ إليهم : إمَّا لأنَّها انفردَتْ بابتداء احترامه ، أو لتخصيص الاحترامِ به ، أو بزيادةِ التعظيمِ له على غيرهم والله تعالى أعلم.
وقد وقع في بعض النسخ : في شَهْرٍ حَرَامٍ ، وهو يصلُحُ لرجبٍ وحدَهُ ، ولجميعِ الأشهُرِ الحُرُمِ.
وحاصلُ قولهم هذا : أنه اعتذارٌ عن امتناعِ تكرُّرِ قدومهم عليه.
(1/90)
وقولهم : َمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا ، نَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ ، قيّدناه على مَنْ يُوثَقُ بعلمِه : نُخْبِرُ مرفوعًا ، وندخل مرفوعًا ومجزومًا ؛ فرفعهما على الصفة لـ أَمْر وجزمُ ندخُلْ على جوابِ الأمرِ المتضمِّنِ للجزاء ؛ ، فكأنَّه قال : إنْ أمرتَنَا بأمرٍ واضحٍ ، فعلناه ، ورجَوْنَا دخولَ الجنة بذلك الفعل.
و القولُ الفصلُ : هو الواضحُ البليغُ الذي يَفْصِلُ بين الحقِّ والباطل ؛ كما قال تعالى : ُ ل ك ق ِ.
وقوله : فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍٍ ، ثُمَّ إنَّه ذكر خمسًا :
فقيل في ذلك : إنَّ أَوَّلَ الأربعِ المأمورِ بها : هو إقامُ الصلاة ، وذكَرَ كلمةَ التوحيد ؛ تبرُّكًا بها ، وتشريفًا لها ؛ كما قيل ذلك في قوله تعالى : ُ 3 4 = عع ِ في قولِ كثيرٍ من أهل العلم.
وقيل : إنما قصد إلى ذِكْرِ الأركان الأربع التي هي : التوحيدُ ، والصلاة ، والصوم ، والزكاة ، ثم ظهر له أنَّهُمْ أهلُ غزوٍ وجهاد ، فَبَيَّنَ لهم وجوبَ أداءِ الخُمُسِ ، والله أعلم.
وإنما لم يذكُرْ لهم الحجَّ ؛ لأنَّهم لم يكنْ لهم إليه سبيلٌ من أجلِ كُفَّارِ مُضَرَ ، أو لأَنَّ وجوبَ الحجِّ على التراخي ، والله تعالى أعلم.
وقد تقدَّم القولُ في الإيمان والإسلام ، وأنَّهما حقيقتان متباينتانِ في الأصل ، وقد يُتَوَسَّعُ فَيُطْلَقُ أحدهما على الآخر ، كما جاء هنا ؛ فإنَّهُ أطلَقَ الإيمانَ على الإسلام ؛ لأنَّهُ عنه يكون غالبًا ، وهو مُظْهِرُهُ.
قوله : وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ ، أي : عن الانتباذِ في هذه الأواني الأربع ؛ فالمنهيُّ عنه واحدٌ بالنوع ، وهو الانتباذُ ، ثمَّ إنَّه تعدَّد بحَسَبِ هذه الأوعية الأربعِ التي هي :
الدُّبَّاء ، والحَنْتَم ، والمزفَّت ، والنَّقِير ، وخَصَّ هذه بالنهي ؛ لأنَّها أوانيهم التي كانوا ينتبذون فيها :
فالدُّبَّاء : ممدودٌ ، وهي : القَرْعَةُ كانت يُنْبَذُ فيها وتُضَرَّى ؛ قاله الهروي.
(1/91)
و الحَنْتَمُ : أَصَحُّ ما قيلَ فيها : إنَّها كانت جِرَارًا مَطْلِيَّةً بالحَنْتَمِ المعمولِ من الزجاجِ كانت الخمرُ تُحْمَلُ فيها ، ونُهُوا عن الانتباذ فيها ؛ لأنَّها تعجِّلُ إسكارَ النبيذ كالدُّبَّاء ، ، وقال عطاءٌ : كانت تُعْمَلُ مِنْ طين يعجن بالدم والشعْر ؛ فعلى هذا : يكونُ النهيُ عنها ؛ لأجل أصل النجاسة ، والأوَّل أعرفُ وأصحُّ.
و المُزَفَّت : المَطْلِيُّ بالزِّفْت .
و المُقَيَّر : المطليُّ بالقارِ ، وهو نوعٌ من الزِّفْت .
و النَّقِيرُ : مفسَّر في الحديث .
و الجِذْع : أصل النخلة ، ويجمع على جذوع.
و تَقْذِفُون : تجعلون وترمون ، وأصل القذف : الرمي .
و القُطَيْعَاء : نوعٌ من التمر يقال له : الشِّهْرِيز.
وفي رواية أخرى : وتُدِيفُونَ مِنَ القُطَيْعَاءِ ، والرواية : مضموم التاء رباعيًّا ، وبالدال المهملة ، وقد حكى ابن دُرَيْد : دُفْتُ الدَّوَاءَ وغيرَهُ بالماء ، أَدُوفُهُ ، بإهمال الدال ، ، وحكى غيره أنه يقال : ذُفْتُه أَذُوفُهُ ، وسُمٌّ مَذُوفٌ ومَذِيفٌ ، ومُذَوَّفٌ ، ومُذَافٌ ، بالذال المعجمة ، ، وحكي أنه يقال : أَذَافَ الدواءَ بالدواء ؛ فالروايةُ على هذا صحيحةٌ ، ومعناه : خَلَطَ ومزَجَ.
و الأَسْقِية : جمعُ سِقَاءٍ ، وهو الإناءُ من الجِلْدِ .
و الأَدَمُ : جمع أَديم ، وهو الجلدُ أيضًا .
وتُلاَثُ عَلَى أَفْوَاهِهَا ، أي : تُشَدُّ وتُربَط. القُتَيْبِيُّ : أصلُ اللَّوْثِ : الطَّيُّ ، ولُثْتُ العمامةَ : لَفَفْتُها ؛ وهذا نحوٌ ممَّا قال : وعليكم بالمُوكَى بالقصر ، أي : السقاء الذي يُرْبَطُ فوه بالوِكَاء ، وهو الخيط.
و الجِرْذَان : جمعُ جُرَذٍ ، وهو الفأر .
وإنما حضَّهم على الانتباذ في الأسقية ؛ لأنها إذا غلا فيها النبيذُ ، انشقَّتْ ؛ لرقَّةِ الجلود ، بخلافِ الأواني المذكورةِ قبلُ ؛ فإنها تعجِّل الشدَّةَ ، وتُخْفِيهَا.
(1/92)
وقولهم : إِنَّ أَرْضَنَا كَثِيرَةُ الْجِرْذَانِ ، وَلاَ تَبْقَى فيِهَا أَسْقِيَةُ الأَْدَمِ ، أي : لأنَّ الجِرْذَانَ تأكلها ؛ ولذلك قال لهم : وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ ، ولم يعذرهم بذلك ؛ لأنَّهم يمكنهم التحرُّزُ بتعليق الأَسْقية ، أو باتِّخَاذِ ما يُهْلِكُ الفئران مِنْ حيوانٍ أو غيره ، والله تعالى أعلم.
وقد تمسَّكَ بعض أهل العلم بظاهر هذا النهي عن الانتباذ في تلك الظروف ؛ فحمله على التحريم ، ومِمَّنْ قال بهذا : ابن عمر ، وابن عباس ، على ما يأتي في الأشربة ؛ فسنبيِّن هنالك - إنْ شاء الله تعالى - أنَّ ذلك منسوخٌ بقوله ، كنتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الاِنْتِبَاذِ إِلاَّ فِي سِقَاءٍ ، فَانْتَبِذُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَلاَّ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا .
و أشجُّ عبد القيس اسمه : المنذر بن عائذ ، بالذال المعجمة ، وقيل : المنذر بن الحارث ، وقيل : عبد الله بنُ عَوْف ، وقيل : قيس ، والأوَّلُ أصحُّ.
وقد روى أبو داودَ ، من حديثِ أُمِّ أَبَانَ بنتِ الوازعِ بن زارع ، عن جَدِّها زارع ، وكان في وَفْدِ عبد القيس ، قال : فلمَّا قَدِمْنَا المدينةَ ، تبادَرْنَا مِنْ رواحلنا نُقبِّلُ يدَ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَرِجْلَهُ ، وانتظَرَ المنذرُ حتى أتى عَيْبَتَهُ ، فَلَبِسَ ثوبه ، ثم أتى النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال له : إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ : الحِلْمُ ، والأَنَاةُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا ؟ فَقَالَ : بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا ، قَالَ : الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ.
و الحِلْمُ هنا : العَقْلَ ، وهو بكسر الحاء ؛ يقال منه : حَلُمَ الرجلُ يَحْلُمُ ، بضم اللام : إذا صار حليمًا ، وتحلَّم : إذا تكلَّف ذلك.
و الأناة : الرفقُ والتثبُّت في الأمور ؛ يقال : تأنَّى يتأنَّى تَأَنِّيًا ؛ ومنه قولُ الشاعر :
(1/93)
أَنَاةً وحِلْمًا وانْتِظَارًا بِهِمْ غَدًا
............
وقد يقال الحِلْمُ على الأناة.
وقد ظهَرَ من حديث أبي داود : أنّه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما قال ذلك للأشَجِّ ؛ لِمَا ظَهَرَ له منه مِنْ رِفْقِهِ وتَرْكِ عجلته.
وقد رُوي في غير "كتاب أبي داود" : أنَّه لمَّا بادَرَ قومُهُ إلى رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، تأنَّى هو ، حتَّى جمَعَ رحالَهُمْ ، وعقَلَ ناقته ، ولَبِسَ ثيابًا جُدُدًا ؟ ، ثم أقبَلَ إلى النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حالِ هدوءٍ وسكينة ، فأجلَسَهُ النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جانبه ، ثم إنَّ النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لِوَفْدِ عبد القيس : تُبَايِعُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى قَوْمِكُمْ ؟ ، فقال القومُ : نَعَمْ ، فقال الأَشَجُّ : يا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّكَ لم تُزَاوِلِ الرَّجُلَ عَلَى أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ ، نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْفُسِنَا ، وتُرْسِلُ معنا مَنْ يَدْعُوهُمْ ، فمَنِ اتَّبَعَنَا كَانَ مِنَّا ، ومَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ ، قال : صَدَقْتَ ؛ إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ ... الحديثَ ؛ فالأُولى : هي الأناة ، والثانية : هي العقل.
وفيه من الفقه : جَوَازُ مدحِ الرجلِ مشافهةً بما فيه إذا أُمِنَتْ عليه الفتنةُ ، والأصلُ منعُ ذلك ؛ لقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِيَّاكُمْ والمَدْح فَإِنَّهُ الذَّبْح ، ولقوله للمادح : وَيْلَكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ ، وسيأتي ذلك إن شاء الله.
وقوله : وَفِي القَوْمِ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ كَذَلك : قيل : اسمُ هذا الرجل : جَهْمُ بن قُثَمَ ؛ قاله ابن أبي خَيْثَمَةَ ، وقيل : كانت الجراحةُ في ساقه.
قال المؤلِّف : هذا ليس بصحيحٍ ؛ لأنَّ أصل الشِّجاجِ في الرأس والوجه.
(1/94)
وفي الصحاح : رَجُلٌ أَشَجُّ بيِّنُ الشَّجَجِ : إذا كان في جبينه أَثَرُ الشَّجَّةِ ؛ وعلى هذا : يدُلُّ كونُ هذا الرجل غلب عليه الأشَجُّ ؛ لأنَّهُ إنَّما يغلبُ على اسم الإنسان ما كان ظاهرًا من أمره ، ولمَّا كانت ظاهرةً في وجهه ، نسَبَهُ إليها كُلُّ من رآه ؛ فغلب ذلك عليه ، ولو كانت في ساقه ، لَمَا غلَبَ عليه ذلك ، والله أعلم.
وأصلُ الشَّجِّ القطعُ والشَّقُّ ؛ ومنه قولهم : شَجَّتِ السفينةُ البحرَ ، أي : شَقَّتْهُ ، وشَجَجْتُ المفازة قطعتُهَا ؛ قال الشاعر :
تَشُجُّ بِيَ العَوْجَاءُ كُلَّ تَنُوفَةٍ
كَأَنَّ لَهَا بَوًّا بِنِهْيٍ تُغَاوِلُهْ
وتعريف النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحالِ ذلك الرجل يَدُلُّ على أنَّه عَرَفَهُ بعينه ؛ غير أنه ولم يواجهْهُ بذلك ؛ حُسْنَ عِشْرةٍ منه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ىعلى مقتضى كَرَمِ خُلُقه ؛ فإنّهُ كَانَ لاَ يُوَاجِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرُهُ .
وإنَّما خَصَّ النبيُّ هذه الأربعَ الأواني بالذكر ؛ لأنها أغلب أوانيهم ، ويلحق بها في النهي : ما كان في معناها ؛ كأواني الزُّجَاج ، والحديد ، والنُّحَاس ، وغير ذلك مما يُعجِّل الإسكار ؛ بدليل قوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جواب قولهم : فِيمَ نَشْرَبُ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ : في أَسْقِيةِ الأَدَمِ ، وبدليلِ قوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث بُرَيْدَةَ : كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلاَّ فِي سِقَاءٍ ، ، ولأنَّ ما عدا تلك الأربعَ في معناها ، فَيُلْحَقُ بها ؛ على طريقة نَفْيِ الفارق ، ، والله أعلم.
بَابُ أَوَّلِ مَا يَجِبُ عَلَى المُكَلَّفِينَ
(1/95)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ؟ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : إِنَّكَ سَتَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ : عِبَادَةُ اللهِ ، فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ ، فَإِذَا فَعَلُوا ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا ، فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ .
وَفِي رِوَايَةٍ : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ مُعَاذٍ ، قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ... ، وَذَكَرَ الحَدِيثَ نَحْوَهُ ، وَزَادَ : وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ .
وَمِنْ بَابِ أَوَّلِ مَا يَجِبُ عَلَى المُكَلَّفِينَ
قوله : إِنَّكَ سَتَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ ، يعني به : اليهودَ والنصارى ؛ لأنهم كانوا في اليمنِ أكثرَ مِنْ مشركي العَرَبِ أو أغلَبَ ، وإنما نبَّهه على هذا ؛ ليتهيَّأَ لمناظرتهم ، ويُعِدَّ الأدلَّةَ لإفحامهم ؛ لأنَّهم أهلُ عِلْمٍ سابقٍ ، بخلافِ المُشْرِكين وعَبَدَةِ الأوثان .
وقوله : فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ : عِبَادَةُ اللهِ ، قد تقدَّم أنَّ أصلَ العبادةِ التذلُّلُ والخضوع ، وسُمِّيَتْ وظائفُ الشرعِ على المكلَّفين : عباداتٍ ؛ لأنَّهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذلِّلين لله تعالى .
(1/96)
والمراد بالعبادة هنا : هو النطقُ بشهادة أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله ؛ كما جاء في الرواية الأخرى مفسَّرًا : فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ .
وقوله : فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ ، فَأَخْبِرْهُمْ ، أي : إنْ أطاعوا بالنطق بذلك ، أي : بكلمتي التوحيد ؛ كما قال في الرواية الأخرى : فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ ، فَأَعْلِمْهُمْ ، فسمَّى الطواعية بذلك والنطقَ به : معرفةً ؛ لأنَّه لا يكونُ غالبًا إلا عن المعرفة.
وهذا الذي أَمَرَ النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ به معاذًا هو الدَّعْوَةُ قبلَ القتالِ التي كان النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُوصِي بها أُمَرَاءَهُ ، وقد اختُلِفَ في حُكْمها على ما يأتي في "الجهاد".
وعلى هذا : فلا يكونُ في حديث معاذٍ حُجَّةٌ لمن تمسَّكَ به من المتكلِّمين على أنَّ أوَّلَ واجبٍ على كلِّ مكلَّفٍ : معرفةُ الله تعالى بالدليل والبرهان ، بل هو حُجَّةٌ لمن يقول : إنَّ أَوَّلَ الواجباتِ التلفُّظُ بكلمتَيِ الشهادةِ ، مُصَدِّقًا بها .
وقد اختلف المتكلِّمون في أوَّل الواجبات على أقوالٍ كثيرةٍ ، منها ما يَشْنُعُ ذكره ، ومنها ما ظَهَرَ ضعفه.
والذي عليه أئمَّةُ الفتوى ، وبهم يُقْتَدَى - كمالكٍ ، والشافعيِّ ، وأبي حنيفةَ ، وأحمدَ بن حنبل ، وغيرِهِمْ من أئمَّةِ السلف ـ رضى الله عنهم ـ - : أنَّ أوَّلَ الواجباتِ على المكلَّف : الإيمانُ التصديقيُّ الجَزْمِيُّ الذي لا رَيْبَ معه بالله تعالى ورسلِهِ وكُتُبِه ، وما جاءتْ به الرسلُ - على ما تقرَّرَ في حديثِ جبريلَ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ - كيفما حصَلَ ذلك الإيمان ، وبأيِّ طريقٍ إليه تُوُصِّلَ ، ، وأما النطقُ باللسان : فمُظْهِرٌ لما استَقَرَّ في القلب من الإيمان ، وسَبَبٌ ظاهرٌ تترتَّبُ عليه أحكامُ الإسلام.
وتفصيلُ ما أجملناه يستدعي تفصيلاً وتطويلاً يُخْرِجُ عن المقصود ، ولعلَّنَا - بِعَوْنِ الله تعالى - نكتُبُ في هذه المسألة جزءًا ؛ فإنها حَرِيَّةٌ بذلك .
(1/97)
وقد احتَجَّ بهذا الحديث مَنْ قال : إنَّ الكفَّارَ ليسوا مخاطَبِينَ بفروع الشريعة ؛ وهو أحدُ القولَيْنِ لأصحابنا وغيرِهم ؛ من حيثُ إنّهُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما خاطبهم بالتوحيد أوَّلاً ، فلمَّا التزموا ذلك ، خاطبهم بالفروع التي هي الصلاةُ والزكاة ، وهذا لا حجة فيه ؛ لوجهين :
أحدهما : أنّه لم يَنُصَّ النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنَّه إنما قدّم الخطابَ بالتوحيد لِمَا ذكروه ، بل يَحْتَمِلُ ذلك ، ويحتملُ أن يقال : إنَّه إنَّما قدَّمه لكونِ الإيمانِ شَرْطًا مصحِّحًا للأعمالِ الفروعيَّة ، لا للخطابِ بالفروع ؛ إذ لا يَصِحُّ فِعْلُهَا شرعًا إلا بتقدُّم وجوده ، ويصحُّ الخطابُ بالإيمانِ وبالفروعِ معًا في وقتٍ واحد وإنْ كانتْ في الوجودِ متعاقبةً ؛ كما بيَّناه في "الأصول ؛ وهذا الاحتمالُ : أظهَرُ مما تمسَّكوا به ، ولو لم يكنْ أظهَرَ ، فهو مساوٍ له ؛ فيكونُ ذلك الخطابُ مجمَلاً بالنسبةِ إلى هذا الحكم.
وثانيهما : أنَّ النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما رتَّب هذه القواعدَ ؛ ليبيِّن الأوكَدَ فالأوكد ، والأهَمَّ فالأهم ؛ كما بيَّنَّاه في حديثِ ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ الذي قبل هذا ، والله تعالى أعلم.
واقتصارُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذِكْرِ القواعد الثلاث ؛ لأنَّها كانتْ هي المتعيِّنَةَ عليهم في ذلك الوقتِ ، والمتأكِّدَةَ فيه ؛ ولا يُظَنُّ أنّ الصومَ والحجَّ لم يكونا فُرِضَا إذْ ذاك ؛ لأنَّ إرسالَ معاذٍ إلى اليمن كان في سنة تِسْعٍ ، وقد كان فُرِضَ الحَجُّ ، ، وأما الصوم : ففُرِضَ في السنة الثانية من الهجرة ، ومات رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعاذٌ باليمن على الصحيح.
وقولُ مَنْ قال : إنَّ الرواةَ سَكَتُوا عن ذكر الصومِ والحجِّ - قولٌ فاسد ؛ لأنَّ الحديث قد اشتهر واعتنى الناسُ بنقله سلفًا وخلفًا ؛ فلو ذكر رسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا مِن ذلك ، لَنُقِلَ.
(1/98)
وقوله : أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ؛ دليلٌ لمالك ـ رحمه الله ـ على أنَّ الزكاةَ لا تجبُ قِسْمتها على الأصنافِ المذكورين في الآية ، وأنَّه يجوزُ للإمامِ صرفها إلى صِنْفٍ واحد منهم ؛ إذا رآه نَظَرًا ومصلحةً دينيَّة ، وسيأتي هذا في "كتاب الزكاة" ، إن شاء الله تعالى.
وفيه : دليلٌ لمن يقول : يدفعها مَنْ وجبَتْ عليه للإمامِ العدل ، الذي يضعها مواضعها ، ولا يجوزُ لمن وجبَتْ عليه أن يَلِيَ تفرقتَهَا بنفسه إذا أقام الإمامُ من تُدْفَعُ إليه ؛ ، وفي ذلك تفصيلٌ يُعْرَفُ في الفروع .
وقوله : وَإيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ، أي : خيارَهَا ونفائسَهَا ؛ حذَّرَهُ مِنْ ذلك ؛ نظرًا لأربابِ الأموال ، ورِفْقًا بهم ، وكذلك : لا يأخُذُ مِنْ شرارِ المال ولا مَعِيبِهِ ؛ نظرًا للفقراء ؛ فلو طابَتْ نفسُ رَبِّ المال بشيءٍ من كرائم أمواله : جاز للمُصَدِّقِ أخذُهَا منه ، ولو رأى المُصَدِّقُ أنْ يَأْخُذَ مَعِيبَةً على وجه النظر والمصلحةِ للفقراء : جاز.
وقوله : وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ ، الروايةُ الصحيحة في فإنَّه بضمير المذكَّر ؛ على أن يكونَ ضميرَ الأمر والشأن ، ، ويَحْتملُ : أنْ يعودَ على مذكَّرِ الدعوة ؛ فإنَّ الدعوةَ دعاءٌ.
ووقع في بعض النسخ : فإنَّها بهاء التأنيث ، وهو عائدٌ على لفظ الدعوة .
(1/99)
ويستفادُ منه : تحريمُ الظُّلْمِ ، وتخويفُ الظالم ، وإباحةُ الدعاء للمظلوم عليه ، والوَعْدُ الصِّدْقُ بأنَّ الله تعالى يستجيبُ للمظلومِ فيه ، غيْرَ أنَّهُ قد يعجِّلُ الإجابةَ فيه ، وقد يؤخِّرها إملاءً للظالم ؛ كما قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِنَّ اللهَ يُمْلِي للِظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ، ثُمَّ قرأ : ُ ب ا آ ء ؤ أ ء ] ِ ، وكما قد رُوِيَ عن النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أنه قال : إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَرْفَعُ دَعْوَةَ المَظْلُومِ عَلَى الغَمَامِ ، وَيَقُولُ لَهَا : لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.
بَابٌ يُقَاتَلُ النَّاسُ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا الله ، وَيَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ دِينِهِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ ـ رضى الله عنه ـ بَعْدَهُ ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رضى الله عنه ـ لأبِي بَكْرٍ : كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لا إِلهَ إِلا اللهُ ، فَمَنْ قَالَ : لا إِلهَ إِلا اللهُ ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ ، إِلاَّ بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ـ رضى الله عنه ـ : وَاللهِ! لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَاللهِ! لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رضى الله عنه ـ : فَوَاللهِ! مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ .
(1/100)
وعنه ؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ ، وَيُؤْمِنُوا بِي ، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، إِلا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ : حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ .
ومِنْ بَابٍ يُقَاتَلُ النَّاسُ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا الله ، وَيَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ دِينِهِ
قوله : وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ ، قال ابنُ إسحاق : لمَّا قُبِضَ رسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ارتدَّتِ العربُ إلاَّ ثلاثةَ مساجدَ : مسجدَ المدينةِ ، ومسجدَ مَكَّةَ ، ومسجدَ جُوَاثَى.
وقال القاضي أبو الفضلِ عِيَاضٌ ـ رحمه الله ـ : كان أهلُ الردَّةِ ثلاثةَ أصناف :
صنْفٌ : كفَرَ بعد إسلامه ، وعاد لجاهليته ، واتَّبَعَ مُسَيْلِمَة َوالعَنْسِيَّ ، وصدَّقَ بهما.
وصنفٌ : أقرَّ بالإسلام إلا الزكاة فجحدها ، وتأوَّلَ بعضُهُمْ أنَّ ذلك كان خاصًّا للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لقولِهِ تعالى : ُ ـ لله ، ِ الآية.
وصنفٌ : اعترَفَ بوجوبِها ولكنِ امتنع مِنْ دفعها إلى أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ ، وقال : إنما كان قَبْضُهَا للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاصَّةً لا لغيره ، وفرَّقوا صدقاتِهم بأيديهم.
فرأى أبو بَكْرٍ والصحابةُ ـ رضى الله عنهم ـ قتالَ جميعِهم : الصِّنْفانِ الأَوَّلانِ لِكُفْرهم ، والثالثُ لامتناعهم.
(1/101)
قال الشيخ : وهذا الصنفُ الثالثُ هم الذين أشكَلَ أمرُهم على عمر ـ رضى الله عنه ـ ، فباحَثَ أبا بكرٍ ـ رضى الله عنه ـ في ذلك حتَّى ظهَرَ له الحقُّ الذي كان ظاهرًا لأبي بكر ، فوافقه على ذلك ؛ ولذلك قال : فَوَاللهِ! مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللهَ تَعَالَى قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ ؛ فَعَرَفْتُ أنّهُ الحَقُّ ، أي : ظَهَرَ له من الدليل ، وحصَلَ له من ثَلَجِ الصدر وانشراحِهِ لذلك ، مثلُ الذي حصَلَ لأبي بكر ـ رضى الله عنه ـ ، لا أنَّه قلَّده واتَّبَعَهُ من غير دليل ؛ لأنَّ التقليد لا ينشرحُ به الصدرُ ، ولا يُعْرَفُ به الحقُّ ، ولأنه لا يجوزُ لمجتهدٍ أن يقلِّد مجتهدًا عند تمكُّنِهِ من الاجتهادِ ؛ كما بيَّنَّاه في "أصول الفقه".
ثُمَّ إنَّ أبا بكر ـ رضى الله عنه ـ قاتَلَ جميعَ المرتدِّين الثلاثة الأصناف ، وسَبَى ذراريهم ؛ قال القاضي : وحكَمَ فيهم بحكم الناقضين للعهد ، فلمَّا تُوُفِّيَ أبو بكرٍ ووَلِيَ عمر ـ رضى الله عنهما ـ ، رَدَّ عليهم سَبْيَهُمْ ، وحكَمَ فيهم بحكم المرتدِّين ، وكان أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ يرى سَبْيَ أولاد المرتدِّين ؛ وبذلك قال أصبَغُ بن الفَرَجِ من أصحابنا ، وكان عمر ـ رضى الله عنه ـ يرى أنهم لا يُسبَوْنَ ، ولذلك ردَّ سبيهم ؛ وبهذا قال جمهورُ العلماءِ وأئمَّةُ الفتوى.
ويستفاد مِنْ فعل عمر ـ رضى الله عنه ـ ، وحُكْمِهِ : أنَّ الإمام العدلَ المجتِهدَ إذا أمَرَ بأمر ، أوْ حكم بحكم ، وجبَتْ موافقتُهُ على الجميع ، وإنْ كان فيهم مَنْ يرى خلافَ رأيه ، بل يجبُ عليه تركُ العمل والفُتْيَا بما عنده وإن اعتقَدَ صِحَّته ، فإنْ عاد الأمرُ إليه ، عَمِلَ على رأيه الذي كان يعتقده صوابًا.
(1/102)
وتحصَّل من قضيَّة أبي بكر وعمر ـ رضى الله عنهما ـ : أنَّ سَبْيَ أولادِ المرتدِّين لم يكنْ مُجْمَعًا عليه ، وأنَّ عمر إنَّما وافق أبا بكرٍ ظاهرًا وباطنًا على قتال الجميعِ لا غيرُ ، وأمَّا سبْيُ الذراري ، فلم يوافقْهُ عليه عمرُ باطنًا ، لكنَّه تركَ العملَ بما ظهَرَ له والفُتْيَا به ؛ لِمَا يجبُ عليه مِنْ طاعة الإمام وموافقتِهِ ، فلمَّا وَلِيَ ؟ ، عمل بما كان عنده ؛ هذا هو الظاهرُ من حال عمر ـ رضى الله عنه ـ .
ولا يجوزُ أن يقال : إنَّهُ كان قد ظهَرَ له مِنْ جواز السَّبْيِ ما ظهر لأبي بكر ـ رضى الله عنه ـ ، ثمّ تغيَّر اجتهاده : لأنّ ذلك يلزمُ منه خرقُ إجماعِ الصحابة السابق ؛ فإنَّهم كانوا قد أجمعوا مع أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ على السَّبْيِ ، وَعَمِلُوا بذلك ، مِنْ غير مخالفة ظهرَتْ من أحد منهم ولا إنكارٍ ظاهرٍ ؛ غير أنَّهم منقسمون في ذلك إلى : مَنْ ظَهَرَ له جوازُ ذلك ؛ فسكَتَ لذلك ، ومنهم : مَنْ ظهر له خلافُ ذلك ؛ فسكَتَ بحكم ترجيحِ قول الإمام العدل المجتَهِدِ على رأيه ، ولوجوبِ اتَّبَاعِ الإمامِ على ما يراه ، والعمل به ؛ فإذا فُقِدَ ذلك الإمامُ ، تعيَّن على ذلك المجتهدِ أن يعمَلَ على ما كان قد ظهر له ، لكنْ بعد تجديد النظر ، لا أنّه يعتمدُ على ذلك الرأيِ الأوَّلِ مِنْ غير إعادة البحث ثانيةً ؛ لإمكانِ التغيُّر على ما بَيَّنتُه في عِلْم الأصول.
وقد حكى بعضُ الناس : أنّ الإجماع انعقد بعد أبي بكر ؟ على أنّ المرتدَّ لا يُسْبَى ؛ وليس ذلك بصحيح ؛ لوجودِ الخلاف في ذلك ؛ كما قد حكيناه عن أصبَغَ ، ، ولأنَّه يؤدِّي إلى تناقُضِ الإجماعَيْنِ ، وهو محالٌ ؛ كما يُعْرَفُ في الأصول.
ولمَّا اعتقَدَ بعضُ الأصوليِّين في هذه المسألة إجماعَيْن متناقَضَيْن ، رأى أنَّ المُخَلِّصَ من ذلك : اشتراطُ انقراضِ العَصْرِ في صحَّة الإجماع ، فلم ينعقدْ عند هذا القائل فيها إجماعٌ أوَّلاً ولا آخرًا ؛ لأنَّ عصر الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ لم يكنِ انقرَضَ في زمان عمر ـ رضى الله عنه ـ .
(1/103)
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : واشتراطُ انقراضِ العصر في دلالة الإجماعِ باطلٌ ؛ لأنَّهُ زيادةُ شرطٍ في دلالات الإجماعِ الصحيحِ ، من غير أن يَشْهَدَ لتلك الزيادةِ عَقْلٌ ولا نقل.
والصحيحُ من هذه المسألة : أنَّه لا إجماعَ فيها أوَّلاً ولا آخِرًا ؛ لإضمارِ الخلاف فيها في عَصْرِ أبي بكر ، والتصريح به بعده ، والله أعلم.
وقولُ عمر لأبي بكر ، ـ رضى الله عنهما ـ : كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاس وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ ؟ ، ظاهره : أنَّ مَن نطق بكلمة التوحيد فقطْ ، حُكِمَ له بِحُكْمِ الإسلام.
وهذا الظاهرُ متروكٌ قطعًا ؛ إذْ لا بدَّ مع ذلك من النطقِ بالشهادة بالرسالةِ أو بما يدلُّ عليها ، لكنَّهُ سكَتَ عن كلمة الرسالة ؛ لدلالة كلمة التوحيد عليها ؛ لأنَّهما متلازمتان ، فهي مرادةٌ قطعًا.
ثُمَّ النطقُ بالشهادتَيْن يدلُّ على الدخولِ في الدِّينِ والتصديقِ بكلِّ ما تضمَّنه ؛ وعلى هذا : فالنطقُ بالكلمةِ الأولى يفيدُ إرادةَ الثانية ، كما يقال : قرأتُ : [الفَاتِحَة : 2]{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} ، والمرادُ جميعُ السورة.
ويدلُّ على صِحَّةِ ما قلناه : الرواياتُ الأُخَرُ التي فيها : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، وفي لفظٍ آخر : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ ، وَيُؤْمِنُوا بِي ، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ .
(1/104)
غير أنَّ أبا بكر وعمر ـ رضى الله عنهما ـ لم يَخْطُرْ لهما في وقتِ هذه المناظرة غيرُ ذلك اللفظِ الذي ذكراه ؛ إذ لو خطر لهما قولُهُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، لارتفَعَ البحثُ بينهما ؛ لأنَّ هذا اللفظَ أَنَصُّ في المطلوب ، وأوضَحُ في الدلالة ممَّا استدَلَّ به أبو بكر مِنْ قوله : لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ .
ويعني بهذا أبو بكر -واللهُ أعلَمُ- : أنَّ الله تعالى قد سوَّى بين الصلاة والزكاة في الوجوب في قولِهِ تعالى : ُ ك ق ف * ِ ؛ فقد جمَعَ اللهُ تعالى بينهما في الأمر بهما ، والصلاةُ المأمورُ بها واجبةٌ قطعًا ؛ فالزكاةُ مثلُهَا ، فمَنْ فرَّقَ بينهما قُوتِلَ.
ويمكنُ أَنْ يُشِيرَ بذلك إلى قولِهِ تعالى : ُ - . / 0 ) * ، ِ ، ودليلُ خطابها : أنَّ مَنْ لم يفعَلْ جميعَ ذلك لَمْ يُخَلَّ سبيلُهُ ، فيقاتَلُ إلى أن يُقْتَلَ أو يتوبَ.
وبهذه الآية وبذلك الحديث استدلَّ الشافعيُّ ومالك ومَنْ قال بقولهما على قَتْلِ تاركِ الصلاة وإن كان معتقدًا لوجوبها ؛ على ما يأتي إن شاء الله.
وقوله : فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ ونَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، عصَمَ : منع ، وَالعِصْمَةُ : المنعُ والاِمتناع ، والعِصَامُ : الخيطُ الذي يُشَدُّ به فَمُ القِرْبةِ ، سُمِّيَ بذلك ؛ لمنعه الماءَ من السَّيْلان ، والحقُّ المستثنَى : هو ما بيَّنه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الآخر بقوله : زنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ ، أَوْ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ ، أَوْ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ ، وسيأتي ذكره في "الحدود".
(1/105)
وقوله : وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ ، أي : حسابُ سرائرهم على الله ؛ لأنَّه تعالى هو المُطَّلِعُ عليها ؛ فَمَنْ أخلَصَ في إيمانه وأعماله جازاه الله عليها جزاءَ المُخْلِصينْ ، ومن لم يُخْلِصْ في ذلك كان من المنافقينْ ، يُحْكَمُ له في الدنيا بأحكامِ المسلمينْ ، وهو عند الله مِنْ أسوأ الكافرينْ .
ويستفادُ منه : أنَّ أحكامَ الإسلامِ إِنَّما تُدَارُ على الظواهرِ الجليَّةْ ، لا الأسرارِ الخفيَّةْ.
وقوله : وَاللهِ لَوْ مَنَعَوْنِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلى رَسُولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لَقَاتَلْْتُهُم عَلى مَنْعِهِ ؛ اخْتُلِفَ في هذا العِقَال على أقوال :
أولها : أنه الفريضةُ من الإبل ؛ رواه ابن وَهْبٍ عن مالك ، وقاله النَّضْرُ بن شُمَيْل.
وثانيها : أنَّه صَدَقةُ عامٍ ؛ قاله الكسائيُّ ؛ وأنشد :
سَعَى عِقَالاً فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا
فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْن
وثالثها : أنَّه كُلُّ شيءٍ يؤخذُ في الزكاةِ مِنْ أنعامٍ وثمار ؛ لأنَّهُ يُعْقَلُ عن مالكه ؛ قاله أبو سَعِيدٍ الضريرُ.
ورابعها : هو ما يأخُذُهُ المصدِّق من الصدقة بعينها ، فإنْ أخَذَ عِوَضَها ، قيل : أخَذَ نقدًا ؛ ومنه قولُ الشاعر :
...................
وَلَمْ يَأْخُذْ عِقَالاً وَلاَ نَقْدًا
وخامسها : أنه اسمٌ لما يُعْقَلُ به البعير ؛ قاله أبو عُبَيْد ، وقال : قد بعَثَ رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ محمَّد بن مَسْلَمة على الصدقة ، فكان يأخذ مع كُلِّ قَرَنَيْنِ عِقَالاً ورِوَاءً.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : والأشبه بمساق قول أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ أن يراد بالعِقَال : ما يُعْقَلُ به البعير ؛ لأنه خرج مَخْرَجَ التقليل ، والله أعلم.
وقد رُوِيَ في غير كتاب مسلم : لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مكان عِقَالاً ، وهو الجَذَعُ مِنْ أولاد المَعْز.
وقد روي : جَذعًا مكانَ عَنَاقًا ، وهو تفسيرٌ له ، والجذَعُ من أولاد الغنم : هو الذي جاوز ستةَ أشهر إلى آخر السنة ، ثم هو ثَنِيٌّ.
(1/106)
وبهذه الروايةِ تمسَّك مَنْ أجاز أَخْذَ الجذَعَ من المعز في الزكاة إذا كانتْ سِخَالاً كلُّها ؛ وهو قولُ الشافعيِّ ، وأحدُ قولَيْ مالك ، وليس بالمشهور عنه.
ولا حُجَّةَ في ذلك ؛ لأنَّه خرج مَخْرَجَ التقليل ؛ فإنَّ عادةَ العرب إذا أَغْيَتْ في تقليل شيء ، ذَكَرَتْ في كلامها ما لا يكونُ مقصودًا ؛ كما قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ ، وفي أخرى : وَلَوْ ظِلْفًا مُحْرَقًا ، وليسا مما ينتفعُ به ، وكذلك قولُهُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لله وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ ؛ وذلك القَدْرُ لا يكونُ مسجدًا ، ونحوٌ من هذا في الإغْيَاء قولُ امرئ القيس :
مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ
مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإِْتْبِ مِنْهَا لأثَّرا
ونحوُهُ كثيرٌ في كلامهم في التقليل والتكثيرُ والتعظيم والتحقير.
وفي الحديث : حُجَّةٌ على أنَّ الزكاةَ لا تسقُطُ عن المرتدِّ بردَّته ، بل يؤخذُ منه ما وجَبَ عليه منها ، فإنْ تاب ، وإلا قُتِلَ وكان ماله فَيْئًا.
بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ُ ف ش س ز ر ِ
(1/107)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ ، جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَا عَمِّ ، قُلْ : لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، كَلِمَةً ؛ أَشْهَدْ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ : يَا أَبَا طَالِبٍ ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟! فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ : هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ : لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَمَا وَاللهِ ، لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : ُ وه ن م ل ك ق ف أ ؤ ء آ ا ب إ ئ ث ج ة ت ء فـ! ! ِ ، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ُ ف ش س ز ر ظ ط ض ص گ [ غ ع ء {"! ! ِ .
وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : َقَالَ أَبُو طَالِبٍ : لَوْلاَ أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ ؛ يَقُولُونَ : إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ ، لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : ُ ف ش س ز ر ِ الآية .
وَمِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ُ ف ش س ز ر ِ
قوله : لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ ، أبو طالب هذا : هو ابنُ عبدالمطَّلبِ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ مَنَافِ بنِ قُصَيٍّ ، وهو عمُّ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ووالدُ عليّ ابن أبي طالبِ ، واسمُهُ : عبدمناف ، وقيل : اسمه كنيته ، والأوَّل أصحّ .
(1/108)
واسمُ عبد المطَّلب : شَيْبَةُ ، وكان يُقالُ له : شيبةُ الحمد ، واسمُ هاشمٍ : عمرو ، وهاشمٌ لَقَبٌ له ؛ لأنَّه أوّلُ من هَشَمَ الثريدَ لقومه. واسمُ عبد منافٍ : المغيرة ، واسمُ قُصَيٍّ : زيدٌ ، وقيل له : مجمِّعٌ ؛ لأنَّه جَمَّعَ إليه قومَهُ.
وكان والدُ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ - وهو عبدُ الله - قد توفِّيَ ورسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَمْلٌ في بطنِ أمِّه على الأصحِّ ، فوُلِدَ رسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ونشَأَ في كَفَالَةِ جَدِّهِ عبدالمُطَّلِبِ إلى أن تُوُفِّي ، فكفله عمُّه أبو طالب ، ولم يَزَلْ يحبُّه حُبًّا شديدًا ، ويحوطُهُ ويحفظه إلى أنْ بعَثَ اللهُ تعالى محمَّدًا ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنبوَّة ، فنصره أبو طالب وأعانه وأجارَهُ ممَّنْ يريدُ به سوءًا ، وقامَ دونه ، وعادى في حَقَّهِ قريشًا وجميعَ العرب ، إلى أنْ ناصبوه القتالَ وجاهروه بالعداوة والأذى ؛ كي يُسَلِّمَهُ لهم ، فلم يفعَلْ.
ثُمَّ إنَّ قريشًا وجميعَ أهلِ مَكَّةَ تعاقدوا فيما بينهم ، وتحالفوا على هَجْرِهِ وهَجْرِ جميعِ بني هاشمٍ ومقاطعتهم ، وعلى ألاَّ يقاربوهم ، ولا يناكحوهم ، ولا يبايعوهم ، ولا يَصِلُوهُمْ بشيء من وجوه الرفق كلِّها ، حتَّى يُسَلِّموا لهم رسولَ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكتبوا بذلك صحيفةً وعلَّقوها في الكعبة ، فانحاز أبو طالب وبنو هاشم في شِعْبهم ، وأقاموا على ذلك نحوَ ثَلاَثِ سنين في جَهْدٍ جهيد ، وحالٍ شديد ، إلى أن نقَضَ اللهُ تعالى أمرَ الصحيفة ، وأظهر أمْرَ نبيِّه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما هو مذكورٌ في كتب السير.
(1/109)
وكان أبو طالب يَعْرِفُ صدقَ رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كلِّ ما يقوله ، ويقولُ لقريش : تَعلَّمُوا واللهِ أنّ محمّدًا لم يكذبْ قطُّ ، ويقولُ لابنه عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ : اتَّبِعْهُ ، فإنَّه على الحقِّ. غير أنَّه لم يدخُلْ في الإسلام ، ولاَ يَتَلفَّظ به ، ولم يَزَلْ على ذلك إلى أن حَضَرتْهُ الوفاةُ ، فدخل عليه رسولُ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ طامعًا في إسلامه ، وحريصًا عليه ، باذلاً في ذلك جُهْده ، مستفرغًا ما عنده ، لكنْ عاقتْ عن ذلك عوائقُ الأقدارْ ، التي لا ينفَعُ معها حرصٌ ولا اقتدارْ.
وقوله : يَا عَمِّ ، قُلْ : لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، كَلِمَةً ؛ أَشْهَدْ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ ، أحسنُ ما تُقيَّد به كلمة النصبُ ؛ على أن تكون بدلاً من لا إله إلاّ الله ، ويجوزُ رفعُها على إضمار المبتدأ . وأَشْهَدْ : مجزومٌ على جواب الأمر ، أي : إنْ تقلْ أشهدْ.
وكلُّ ذلك ترغيبٌ وتذكيرٌ لأبي طالب ، وحِرْصٌ على نجاته ، ويأبى الله إلاَّ ما يريد.
وقوله : فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ ؛ هكذا هو في الأصول وعند أكثر الشيوخ ، ويعني بذلك أنَّ النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقبَلَ على أبي طالب يعرضُ عليه الشهادة ، ويكرِّرها عليه.
ووقع في بعض النسخ : وَيُعِيدَانِ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ ، ووجهها : أنّ أبا جهل وعبد الله بن أبي أُميَّة أعادا على أبي طالب قولهما له : أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟! ؛ حتَّى أجابهما إلى ذلك ، وأبى أن يقولَ : لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، أي : امتنع من قولها.
وقوله : يَقُولُونَ : إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ بالجيم والزاي : صحيحُ الرواية ؛ لا يُعْرَفُ في كتاب مسلم غيرها ، وهو بمعنى : الخَوْفِ من الموت.
(1/110)
وفي "كتاب أبي عُبَيْد : الخَرَع - بالخاء المعجمة والراء المهملة ، وقال : يعني : الضعفَ والخَوَر ، وكذلك قال ثعلبٌ وفسَّره به ، قال شَمِرٌ : يقال : خَرِعَ الرجلُ : إذا ضَعُف ، وكلُّ رِخْوٍ ضعيفٍ : خَريعٌ وخرِعٌ ، والخَرِعُ : الفصيلُ الضعيف ، قال : والخَرَعُ : الدَّهَشُ. وفي "الصحاح" : الخَرَعُ ، بالتحريك : الرَّخَاوة في الشيء ، وقد خَرِعَ الرجلُ ، بالكسر ، أي : ضَعُف ، فهو خَرِعٌ ، ويقال لِمِشْفَرِ البعير إذا تدلَّى : خَرِيعٌ.
وقوله : لَوْلاَ أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ ؛ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ ، أي : تَسُبَّني وتقبِّحَ عليَّ ؛ يقال : عَيَّرتُهُ كذا بغير باء ، والعامَّةُ تقولُهُ بالباء ، والأوَّل كلامُ العرب ؛ كما قال النابغة :
وَعَيَّرَتْنِي بَنُو ذُبْيَانَ خَشْيَتَهُ
وَمَا عَلَيَّ بِأَنْ أَخْشَاكَ مِنْ عَارِ
ومعنى : أقرَرْتُ عينَك بها ، أي : سرَرْتُك بقولها ، وأبلغتُكَ أُمْنيتك :
قال ثعلب : يقال : أقرَّ اللهُ عينَكَ ، أي : بلَّغه أمنيتَهُ حتَّى ترضَى نفسُهُ ، وتَقرَّ عينُهُ ؛ ومنه قولهم فيمن أدرَكَ ثأرَهُ : وَقَعْتَ بِقُرِّك ، أي : أدرَكَ قلبُكَ ما كان يتمنَّى.
قال الأصمعيُّ : معناه : بَرَّدَ الله دمعته ؛ لأنَّ دمعةَ الفرح باردةٌ.
قال غيره : ودمعةُ الحزن حارَّة ؛ ولذلك يقال : أسخَنَ اللهُ عينَهُ ، أي : أراه ما يسوؤُهُ فيبكي فتَسْخَنُ عينُهُ.
وقوله تعالى : ُ وه ن م ل ك ق ف ِ ، أي : ما يجوزُ ولا ينبغي لهم ذلك ، ُ ا ب إ ئ ث ج ة ت ِ أي : بالموت على الكفر.
والجحيمُ : اسمٌ من أسماء النار المُعَدَّة للكفَّار ، وكل نارٍ في مَهْواة ، فهي جحيمٌ ؛ ومنه قوله تعالى : ُ ع } ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ { " " ِ. والجاحمُ : المكانُ الشديد الحرِّ ، وأصحابُ الجحيم مَسْتَحِقُّوها وملازموها.
ثَمَّ بيَّن الله تعالى عُذْرَ إبراهيم ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الاستغفار لأبيه في قوله : ُ 1 4 3 عع = ژ ء {}! ! ِ :
بأنَّ ذلك : إنما كان منه لأجلِ وَعْدِ إبراهيمَ لأبيه حين قال له : ُ ح ذ د آ ء ؤ أ ِ.
(1/111)
وقيل : إنَّ الموعدة هي مِنْ أبي إبراهيم له بِأنْ يُسلِم ، فلمَّا لم يَفِ بها ، وتبيَّن له أنَّه لا يُسْلِم - إمَّا بالوحي وإمَّا بموته على الكفر - تبرَّأ منه ، كما قال الله تعالى : ُ ص ض [ گ ع غ _ . ِ ، والقولان لأهل التفسير.
قال القاضي أبو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ : يروى عن عمرو بن دينار أنَّ النَّبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : استغفَرَ إبراهيمُ لأبيه وهو مشركٌ ؛ فلا أَزَالُ أستغفرُ لأبي طالبٍ حتّى ينهاني الله ، وقال أصحابُهُ : استغفِرُوا لآبائكم كما استغْفَرَ النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي طالب عمِّه ، فأنزَلَ الله تعالى : ُ وه ن م ل ، ِ الآية .
و الأَوَّاه : الدَّعَّاءُ المتضرِّعُ ؛ قاله ابن مسعود ، وابن عبَّاس ، ـ رضى الله عنهم ـ .
و الحليم : السيِّد ؛ قاله ابن حبيب ، وقيل : هو الصبورُ على البلوى ، الصَّفُوحُ عن الأذى.
وقوله تعالى : ُ ف ش س ز ر ظ ط ض ص گ ِ ، أي : لا تقدرُ على توفيقِ مَنْ أراد الله خِذْلانه.
وكَشْفُ ذلك : بأنَّ الهداية الحقيقيَّة هي خلقُ القُدْرَة على الطاعة ، وقبولُهَا ، وليس ذلك إلاّ لله تعالى.
والهدايةُ التي تَصِحُّ نسبتُها لغير الله تعالى بوجهٍ ما : هي الإرشادُ والدَّلاَلَة ؛ كما قال تعالى : ُ ذ د ز ر ش ِ ، أي : ترشدُ وتبيِّن ؛ كما قال تعالى : ُ - 0 / * ِ ، وُ ؤ أ خ ح ذ ِ.
وما ذكرناه : هو مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة ، وهو الذي تدُلُّ عليه البراهينُ القاطعة.
بَابُ مَنْ لَقِيَ اللهَ تَعَالَى عَالِمًا بِهِ ، دَخَلَ الجَنَّةَ
عَنْ عُثْمَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ .
(1/112)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي مَسِيرٍ ، قَالَ : فَنَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ ، حَتَّى هَمَّ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ ، قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ جَمَعْتَ مَا بَقِيَ مِنْ أَزْوَادِ الْقَوْمِ ، فَدَعَوْتَ اللهَ عَلَيْهَا ، قَالَ : فَفَعَلَ ، قَالَ : فَجَاءَ ذُو الْبُرِّ بِبُرِّهِ ، وَذُو التَّمْرِ بِتَمْرِهِ ، قَالَ : وَذُو النَّوَاةِ بِنَوَاهُ ، قُلْتُ : وَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ بِالنَّوَاةِ ؟ قَالَ : يَمُصُّونَهُ وَيَشْرَبُونَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ، قَالَ : فَدَعَا عَلَيْهَا ، حَتَّى مَلأ الْقَوْمُ أَزْوِدَتَهُمْ ، قَالَ : فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ : أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلَّا اللهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ ، لاَ يَلْقَى اللهَ بِهِمَا ، عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا ، إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنْ فَعَلْتَ ، قَلَّ الظَّهْرُ ، وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ ، ثُمَّ ادْعُ اللهَ لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ ... وفيها : حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ ، قَالَ : فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِالْبَرَكَةِ ، ثُمَّ قَالَ لَهْم : خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ ، قَالَ : فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلا مَلَأُوهُ ، قَالَ : فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ ، لاَ يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ ، فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ .
(1/113)
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ ، وَابْنُ أَمَتِهِ ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ، وَرُوحٌ مِنْهُ ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ ، أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ .
وَمِنْ بَابِ مَنْ لَقِيَ اللهَ تَعَالَى عَالِمًا بِهِ ، دَخَلَ الجَنَّةَ
قوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لاإِلهَ إِلا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، حقيقةُ العلم : هي وضوحُ أمرٍ مَّا ، وانكشافُهُ على غايته ، بحيثُ لا يَبْقَى له بعد ذلك غايةٌ في الوضوح.
ولا شكَّ في أنَّ من كانت معرفتُهُ بالله تعالى ورسولِهِ كذلك ، كان في أعلى درجات الجَنَّة ، وهذه الحالةُ هي حالةُ النبيِّين والصِّدِّيقين. ولا يلزمُ فيمنْ لم يكنْ كذلك ألاَّ يدخُلُ الجَنَّة ؛ فإنَّ من اعتقد الحقَّ وصدَّقَ به تصديقًا جزمًا لا شَكَّ فيه ولا ريبَ ، دخل الجَنَّةَ ؛ كما تقدَّمناه.
وكما دَلَّ عليه قولُهُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ : مَنْ لَقِيَ اللهَ وهو يشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأَنِّي رسولُ الله - غَيْرَ شَاكٍّ فيهما - دخَلَ الجَنَّةَ ، وكما قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ كَانَ آخِرَ قوله : لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ دخَلَ الجَنَّةَ.
فحاصلُ هذَيْنِ الحديثَيْن : أنَّ مَنْ لقي الله عزَّ وجلَّ وهو موصوفٌ بالحالة الأولى أو الثانية دخَلَ الجنَّة ؛ غير أنَّ ما بين الدرجتَيْنِ كما بين الحالتَيْن ، كما صرَّحَتْ به الآياتُ الواضحات ؛ كقوله تعالى : ُ َ ٍ ٌ ً ي ى وه ن ِ.
وقوله : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي مَسِيرٍ ، قَالَ : فَنَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ :
(1/114)
المسير : السيرُ ، يريدُ به السفر ، ونَفدَتْ : فَرَغَتْ وفَنِيَتْ ؛ ومنه قولُهُ تعالى : ُ ً ي ى وه ن م ِ .
و الحمائلُ جمع حَمُولَةٍ بفتح الحاء ؛ ومنه قوله تعالى : ُ } ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ِ ، وهي : الإبلُ التي تُحْمَلُ عليها الأثقالُ ، وتسمَّى رواحلَ ؛ لأنها يُرْحَلُ عليها ، وتسمَّى نواضحَ ؛ إذا استُقِيَ عليها الماءُ ، والبعيرُ ناضحٌ ، والناقةُ ناضحةٌ ؛ قاله أبو عُبَيْد.
وقوله : وَذُو النَّوَاةِ بِنَوَاهُ ؛ كذا الرواية ، ووجهُهُ : وذو النَّوَى بنواه ، كما قال : وذُو الْبُرِّ بِبُرِّهِ ، وَذُو التَّمْرِ بِتَمْرِهِ.
وقوله : حَتَّى مَلأ الْقَوْمُ أَزْوِدَتَهُمْ ؛ هكذا الرواية ، وصوابُهُ : مَزَاوِدَهُمْ ؛ فإنّها هي التي تُمْلَأُ بالأَزْوِدة ، وهي جمعُ زاد ، فسمَّى المزاودَ أزودةً باسمها ؛ لأنَّها تُجْعَلُ فيها ؛ على عادتهم في تَسْمِيَتِهِمُ الشيءَ باسمِ الشيء : إذا جاوره أو كان منه بسبب ، وقد عبَّر عنها في الرواية الأخرى بـ الأَوْعِيَةِ.
وقوله : حَتَّى هَمَّ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ ، يعني : النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كان هذا الهمُّ من النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحكم النظر المَصْلَحيِّ لا بالوحي ؛ أَلاَ تَرَى كيف عرَضَ عمرُ بن الخطَّاب ـ رضى الله عنه ـ عليه مصلحةً أخرى ظهر للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجحانُهَا ؛ فوافقَهُ عليها وعمل بها.
ففيه : دليلٌ على العمل بالمصالح ، وعلى سماعِ رأي أهلِ العَقْل والتجارب ، وعلى أنَّ الأزواد والمياه إذا نَفِدَتْ أو قلَّت ، جمَعَ الإمامُ ما بقي منها ، وقَوَّتَهُمْ به شرعًا سواءً ؛ وهذا كنحو ما مدَحَ به النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأشعريِّين ، فقال : الأَشْعَرِيُّونَ إذا قَلَّ زَادُهُمْ ، جَمَعُوهُ ، فَاقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ ، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى.
وقوله : لاَ يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا ، فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ ، يعني : كلمتَيِ التوحيدِ المتقدِّمَتَيْنِ.
(1/115)
و يُحْجَبُ : يُمْنَعْ ، رويناه بفتح الباء ورفعها ، فالنصبُ بإضمار أنْ بعد الفاء في جواب النفي ، وهو الأظهر والأجود ، وفي الرفع إشكال ؛ لأنه يرتفعُ على أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوفٍ تقديره : فهو يُحْجَبُ ، وهو نقيضُ المقصود ، فلا يستقيمُ المعنى حتى تقدَّر لا النافيةُ ، أي : فهو لا يُحْجَبُ ، ولا تحذف لا النافية في مِثْلِ هذا ، والله أعلم.
وظاهرُ هذا الحديث : أنَّ مَنْ لقي الله تعالى وهو يشهَدُ أنْ لا إله إلا الله ، دخَلَ الجنة ، ولا يدخُلُ النار ، وهذا صحيحٌ فيمن لقي اللهَ تعالى بَرِيًّا من الكبائر . فأمَّا مَنْ لقي الله تعالى مرتكبَ كبيرةٍ ولم يَتُبْ منها ، فهو في مشيئة الله تعالى التي دَلَّ عليها قوله تعالى : ُ * ) } ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ { " " ف پ ـ لله ِ .
وقد جاءتِ الأحاديثُ الكثيرة الصحيحة المفيدةُ بكثرتها حصولَ العلم القطعيِّ أنَّ طائفةً كثيرة مِنْ أهلِ التوحيد يَدْخُلُونَ النار ، ثُمَّ يُخْرَجُونَ منها بالشفاعةِ ، أو بالتفضُّلِ المعبَّرِ عنه بالقَبْضَةِ في الحديث الصحيح ، أو بما شاء الله تعالى.
فدلَّ ذلك على أنَّ الحديثَ المتقدِّمَ ليس على ظاهره ، فيتعيَّن تأويلُهُ ، ولأهل العلم فيه تأويلان :
أحدهما : أنَّ هذا العموم يرادُ به الخصوصُ مِمَّنْ يعفو اللهُ تعالى عنه مِنْ أهلِ الكبائر ممَّن يشاء الله تعالى أن يَغْفِرَ له ابتداءً مِنْ غير توبةٍ كانت منهم ، ولا سَبَبٍ يقتضي ذلك غيرَ محضِ كَرَمِ الله تعالى وفضله ؛ كما دَلَّ عليه قوله تعالى : ُ " ف پ ـ لله ِ.
وهذا على مذهبِ أهلِ السُّنَّة والجماعة ؛ خلافًا للمبتدعة المانعين تَفَضُّلَ الله تعالى بذلك ، وهو مذهبٌ مردودٌ بالأدلَّة القطعية العقليَّة والنقلية ، وبسطُ ذلك في عِلْمِ الكلام.
وثانيهما : أنَّهم لا يُحْجَبون عن الجنّةِ بعد الخروج من النار ، وتكونُ فائدتُهُ الإخبارَ بخلودِ كلِّ مَنْ دخل الجنةَ فيها ، وأنَّه لا يُحْجَبُ عنها ولا عن شيءٍ مِنْ نعيمها ، والله تعالى أعلم.
(1/116)
وقوله : وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ ، وَابْنُ أَمَتِهِ ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ؛ هذا الحديثُ مقصودُهُ إفادةُ التنبيه على ما وقَعَ للنصارَى من الغلط في عيسى ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأُمِّهِ عليها السلام ، والتحذيرُ عن ذلك ، بأنَّ عيسى عبدٌ ، لا إلهٌ ولا وَلَدٌ ، وأُمُّهُ أَمَةٌ لله تعالى ومملوكةٌ له لا زوجةٌ ، تعالى الله عما يقولُ الجاهلون علوًّا كبيرًا!
ويستفادُ من هذا : ما يُلَقَّنُهُ النصرانيُّ إذا أسلم .
وقد اختُلِفَ في معنى وصف عيسى ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكونِهِ كلمةً :
فقيل : لأنَّه تكوَّنَ بكلمة ُ 5 ِ من غير أبٍ.
وقيل : لأنَّ المَلَكَ جاء أُمَّهُ بكلمة البِشَارة به عن أمر الله تعالى.
وهذان القولان أشبَهُ ما قيل في ذلك.
ومعنى ألقاها ، أي : أعلَمَهَا بها ، يقالُ : ألقَيْتُ عليكَ كلمةً ، أي : أعلمتُكَ بها .
وسمِّي عيسى رُوحَ الله ؛ لأنَّه حدَثَ عن نَفْخَةِ المَلَك ، وأضافَهُ اللهُ تعالى إليه ؛ لأنَّ ذلك النفخَ كان عَنْ أمره وبقدرته ، وسُمِّيَ النفخُ رُوحًا ؛ لأنّه ريحٌ تخرُجُ من الرُّوح ؛ قاله المَكِّيُّون.
وقيل : سُمِّي بذلك عيسى ؛ لأنَّه رُوحٌ لمن اتَّبعه.
وقيل : لأنَّه تعالى خلَقَ فيه الرُّوحَ مِنْ غير واسطة أب ؛ كما قال في آدم ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ُ ) } ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ِ قاله الحَرْبِيُّ.
وقوله : أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ ، ظاهر هذا يقتضي أنَّ قولَ هذه الكلماتِ يقتضي دخولَ الجنَّة ، والتخييرَ في الدخولِ في أبوابها ، وذلك بخلافِ ما ظَهَر من حديث أبي هريرة الآتي في كتاب الزكاة ؛ فإنَّ فيه ما يقتضي أنَّ كلَّ مَن كان مِنْ أهل الجنَّة إنما يدخُلُ من الباب المعيَّن للعمل الذي كان يعمله غالبًا الداخُل ؛ فإنَّه قال فيه : فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ ، وَهَكَذَا الجِهَادُ.
(1/117)
والتوفيقُ بين الظاهرَيْن : أنَّ كُلَّ مَنْ يدخلُ الجَنَّةَ مخيَّرٌ في الدخول من أيِّ بابٍ شاء ، غيرَ أنَّهُ إذا عُرِضَ عليه الأفضلُ في حقِّه ، دخَلَ منه مختارًا للدخولِ منه مِنْ غير جَبْرٍ عليه ، ولا مَنْعٍ له مِنَ الدخولِ من غيره ؛ ولذلك قال أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ : مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوابِ مِنْ ضُرُورَةٍ ، والله أعلم.
وقوله : عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ ، أي : يدخُلُ الجنَّةَ ولا بُدَّ ، سواء كان عملُهُ صالحًا أو سيِّئًا ، وذلك بأن يَغْفِرَ له السَّيِّء ؛ بسبب هذه الأقوال ، أو يُرْبِيَ ثوابَهَا على ذلك العمل السيِّئ.
وكُلُّ ذلك يحصُلُ - إن شاء الله تعالى - لمن مات على تلك الأقوال ، إمَّا مع السلامة المُطْلَقَةِ ، وإمَّا بعد المؤاخَذَة بالكبائِرِ ؛ على ما قرَّرْناه آنفًا.
بَابُ حَقِّ الله تعالى عَلَى العِبَادِ
(1/118)
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ : كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ مُؤَخَّرَةُ الرَّحْلِ- وَفِي رِوَايَةٍ : عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ : عُفَيْرٌ ، ولَمْ يَذكُرْ : لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلا مُؤَخَّرَةُ الرَّحْلِ- فَقَالَ : يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ! فَقُلْتُ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ! ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ! قُلْتُ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ! ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ! قُلْتُ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ! قَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ : أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ، قَالَ : يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ! قُلْتُ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ، قَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ .
وَمِنْ بَابِ حَقِّ الله تعالى عَلَى العِبَادِ
قوله : كُنْتُ رِدْفَ رَسُول اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يُرْوَي : رِدْفَ بسكون الدال من غير ياء ، وبكسر الراء ، ويُرْوَي : رَدِيفَ بفتح الراء وكسر الدال وياء بعدها ، وكلاهما صحيحٌ روايةً ولغةً ، وهما اسمان للراكب خَلْفَ الراكب ، يقالُ منه : رَدِفْتُهُ أَرْدَفُهُ ، بكسر الدال في الماضي ، وفتحها في المستقبل ، وأَرْدَفْتُهُ أنا بألفٍ ، وذلك الموضعُ يسمَّى الرِّدَاف.
ورواه الطبريُّ : رَدِف بفتح الراء وكسر الدال مِنْ غير ياء ، كـ عَجِلٍ وحذِرٍ وزمِنٍ ، وليس بمعروفٍ في الأسماء.
(1/119)
وقوله : لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلا مُؤَخَّرَةُ الرَّحْلِ ؛ كذا وقع ههنا : مُؤَخَّرة ، وقَرَأْنَاه على مَن يُوثَقُ بعلمه بضمِّ الميم ، وفتح الواو ، والخاءُ مشدَّدة- على أنَّه اسمُ مفعولٍ ؛ لأنَّها تؤخَّر .
وأنكَرَ هذا اللفظ يعقوب ، وابنُ قُتَيْبة ، وقالا : المعروفُ عند العرب : آخِرَةُ الرَّحْل ، وهي العُودُ الذي خَلْفَ الراكب ، ويقابله : قادِمَتُهُ .
وقيل فيها : مُؤْخِرَةٌ ، بهمزِ الواو خفيفةً وكسرِ الخاء ، حكاها صاحبُ "الصحاح" ، وأبو عُبَيْد.
و الرَّحْلُ : للبعير ، كالسَّرْجِ للفَرَس ، والإكافِ للحمار.
و عُفَيْر : تصغيرُ أَعْفَرَ تصغيرَ الترخيم ؛ كَسُوَيْد تصغيرُ أسود ، والعُفْرة : بياضٌ يخالطه صُفْرة كعُفْرة الأرض والظِّبَاء.
والمشهورُ في اسمِ حمارِ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَعْفُور.
تنبيه : إِنْ كانتْ هاتان الروايتان قِصَّةً واحدةً ، فقد تجَوَّزَ بعضُ الرواة في تسمية الإكافِ : رَحْلاً ، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ ذلك قِصَّةً واحدةً تكرَّرت مرتين ، والله أعلم.
وفيه : ما يدلُّ على جواز ركوبِ اثْنَيْنِ على حمار ، وعلى تواضع النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وإنما كرّر النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نداءَ معاذ ثلاثًا ؛ ليستحضرَ ذهنَهُ وفهمه ، ولِيُشْعِرَه بِعِظَمِ ما يلقيه إليه.
وحقُّ الله تعالى على عباده : ما أوجبَهُ عليهم بحُكْمه ، وألزمهم إيّاه بخطابه.
وحقُّ العبادِ على الله تعالى : هو ما وعدَهُمْ به مِنَ الثواب والجزاء ؛ فحَقَّ ذلك ووجَبَ بحكم وعده الصِّدْقِ ، وقولِهِ الحقِّ الذي لا يجوزُ عليه الكذبُ في الخبر ، ولا الخُلْفُ في الوعد ؛ فالله تعالى لا يجبُ عليه شيءٌ بِحُكْمِ الأمر ؛ إذْ لا آمِرَ فوقه ، ، ولا بحُكْمِ العقل ؛ إِذِ العقلُ كاشفٌ لا مُوجِبٌ ، كما بيَّنَّاهُ في الأصول.
بَابٌ لاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنِ اسْتِيقَانِ الْقَلْبِ
(1/120)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ـ رضى الله عنهما ـ فِي نَفَرٍ ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا ، فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا ، وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا ، فَفَزِعْنَا وَقُمْنَا ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ ، فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا لِلأَْنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ ، فَدُرْتُ بِهِ ، هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا ؟ فَلَمْ أَجِدْ ، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ - وَالرَّبِيعُ الْجَدْوَلُ - فَاحْتَفَرْتُ كَمَا يَحْتَفِرُ الثَّعْلَبُ ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : أَبُو هُرَيْرَةَ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : مَا شَأْنُكَ ؟ قُلْتُ : كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، فَقُمْتَ ، فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا ، فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا ، فَفَزِعْنَا ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ ، فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ ، فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ ، وَهَؤُلاءِ النَّاسُ وَرَائِي ، فَقَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ! - وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ - قَالَ : اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ ، فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ ، فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ ، فَقَالَ : مَا هَاتَانِ النَّعْلاَنِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟! قُلْتُ : هَاتَيْنِ نَعْلاَ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بَعَثَنِي بِهِمَا ، مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ ، بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ .
(1/121)
قَالَ : فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ، فَخَرَرْتُ لاِسْتِي ، فَقَالَ : ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً ، وَرَكِبَنِي عُمَرُ ، فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟! قُلْتُ : لَقِيتُ عُمَرَ ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ ، فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لاِسْتِي ، قَالَ : ارْجِعْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَا عُمَرُ ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ - بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي!- أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ : مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ ، بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَلا تَفْعَلْ ؛ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا ، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ! قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فَخَلِّهِمْ .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ - وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ- قَالَ : يَا مُعَاذُ قَالَ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ! قَالَ : يَا مُعَاذُ قَالَ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ! قَالَ : يَا مُعَاذُ قَالَ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ! قَالَ : مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - فِي البُخَارِيِّ : صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ - إِلاَّ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّار ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا ؟ قَالَ : إِذَنْ يَتَّكِلُوا ؛ فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا .
وَمِنْ َبابِ لاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنِ اسْتِيقَانِ الْقَلْبِ
(1/122)
هذه الترجمةُ تنبيهٌ على فسادِ مذهبِ غُلاَةِ المرجئةِ القائلين : إنَّ التلفُّظَ بالشهادتين كافٍ في الإيمان ، وأحاديثُ هذا الباب تَدُلُّ على فساده ، بل هو مذهبٌ معلومٌ الفساد من الشريعة لمن وَقَفَ عليها ، ولأنَّهُ يَلْزَمُ منه تسويغُ النفاقِ ، والحُكْمُ للمنافق بالإيمانِ الصحيح ، وهو باطلٌ قطعًا.
وقوله : وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا ، أي : يحالَ بيننا وبينه بِأَخْذٍ أو هلاك.
وقوله : فَفَزِعْنَا وَقُمْنَا ، أي : تَرَكْنَا ما كنا فيه وأقبلنا على طلبه ؛ من قولهم : فَزِعْتُ إلى كذا : إذا أقْبَلْتَ عليه ، وتفرَّغْتَ له ؛ ومنه قول الشاعر :
فَزِعْتُ إليكُمْ في بَلاَيَا تَنُوبُنِي
فَأَلْفَيْتُكُمْ فيها كَرِيمًا مُمَجَّدَا
وقد دلَّ على ذلك قوله : فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ ، أي : أوَّلَ مَنْ أخذ في طلبه ، وليس من الفَزَعِ الذي هو الذُّعْرُ والخوف ؛ لأنَّه قد قال قبل هذا : فَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا ، ثم رتَّب فَزِعْنَا عليه بفاء التعقيب المُشْعِرَةِ بالتسبُّب ، والفَزَعُ : لفظٌ مشترك يُطْلَقُ على ذَيْنِكَ المعنيَيْنِ ، وعلى الإغاثة.
قوله : فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ ، رواه عامَّةُ الشيوخ في المواضع الثلاثة بالراء من الحَفْر ، وقد رُوِيَ عن الجُلُوديِّ : بالزاي ؛ وكأنَّه الصواب ، ويعني به : أنَّه تضامَمَ وتصاغَرَ ليسعه الجدول ، ومنه حديث عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ : إذا صَلَّتِ المرأةُ ، فلتحتَفِزْ ، أي : لِتَتَضَامَّ وتَنْزَوِ إذا سجدَتْ.
وقوله : كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، أي : بيننا ، ورواه الفارسي : ظَهْرَيْنَا. وقال الأصمعي : العربُ تقولُ : بين ظَهْرَيْكُمْ وظَهْرَانَيْكُمْ ؛ قال الخليل : أي : بينكم.
(1/123)
وقوله : وَهَؤُلاءِ النَّاسُ وَرَائِي ، يعني به : النفر الذين كانوا مع النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقام عنهم ، فأخذوا في طلبه ، وهم المعنيُّون للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ ، فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ؛ فإنَّه قيَّده بقوله : مَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ ، ولا شكَّ في أنَّ أولئك هم مِنْ أهل الجنة ، وهذا ظاهرُ اللفظ.
ويَحْتمِلُ أن يقال : إنَّ ذلك القيدَ مُلْغًى ، والمراد : هم وكُلُّ مَنْ شاركهم في التَّلفُّظِ بالشهادتَيْنِ واستيقانِ القلبِ بهما ؛ وحينئذٍ : يُرْجَعُ إلى التأصيلِ والتفصيل الذي ذكرناه في البابِ قبلَ هذا.
وفي دفع النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي هريرة نعلَيْه : دليلٌ على جوازِ عَضْدِ المُخْبِرِ الواحد بالقرائن ؛ تقويةً لخبره وإنْ كان لا يُتَّهَمُ.
وفيه : اعتبارُ القرائنِ والعلامات ، والعملُ على ما تقتضيه من الأعمالِ والأحكام.
و اليَقِينُ : هو العلمُ الراسخُ في القلب ، الثابتُ فيه ، يقال منه : يقِنْتُ الأمرَ ، بالكسر ، يَقَنًا ، وأيقنْتُ واستيقَنْتُ وتيقَّنْتُ ، كلُّه بمعنًى واحدٍ ، وربَّما عبَّروا عن الظنِّ باليقين ، وباليقين عن الظن ؛ قال الشاعر :
تَحَسَّبَ هَوَّاسٌ وَأَيْقَنَ أَنَّنِي
بِهَا مُفْتَدٍ مِنْ وَاحِدٍ لاَ أُغَامِرُهْ
يقولُ : تشمَّم الأَسَدُ ناقتي يظُنُّ أنَّني أفتدي بها مِنْهُ وأتركُهَا له ولا أقاتلُهُ ، قاله الجوهريُّ.
وقال غيره : اليقينُ : هو السكونُ مع الوضوح ؛ يقال : يَقِنَ الماءُ ، أي : سَكَنَ وظهَرَ ما تحته.
وقوله : وَرَكِبَنِي عُمَرُ ، أي : اتَّبَعَنِي في الحالِ مِنْ غير تربُّص.
وضَرْبُ عُمَرَ لأبي هريرةَ حتى سقطَ َلم يكنْ ليؤذيَهُ ويوقعه ، لكنْ إنما كان ليوقفَهُ ويمنَعَهُ من النهوضِ في البشرى حتى يراجعَ النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(1/124)
ولم يكن ذلك من عمر ـ رضى الله عنه ـ اعتراضًا على رسول الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا ردًّا لأمره ، وإنما كان ذلك سعيًا في استكشافٍ عَنْ مصلحةٍ ظهرَتْ له ، لم يعارضْ بها حكمًا ولا شرعًا ؛ إذْ ليس فيما أَمَرَهُ به إلا تطييبُ قلوب أصحابه أو أمَّته بتلك البشرى ، فرأى عُمَرُ أنَّ السكوتَ عن تلك البشرى أصلَحَ لهم ؛ لئلا يتَّكلوا على ذلك ، فتقلَّ أعمالهم وأجورهم.
ولعلَّ عمر ـ رضى الله عنه ـ قد كان سَمِعَ ذلك من النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما سمعه معاذٌ على ما يأتي في حديثه1- فيكونَ ذلك تذكيرًا للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما قد سمع منه ، ويكونُ سكوت النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك تعويلاً على ما قد كان قعد لهم تبيانه لذل ، . ويكونُ عمر لِمَا خصَّه الله تعالى به من الفِطْنة وحضور الذهن تذكَّر ذلك . واستبلَدَ أبا هريرة ؛ إذ لم يتفطَّن لذلك ولا تذكره ، فضربه تلك الضربةَ ؛ تأديبًا وتذكيرًا ، والله تعالى أعلم.
وقوله : فَخَرِرْتُ لاِسْتِي ، أي : على استي ؛ كما قال تعالى : ُ م ل ِ ، أي : عليها ، وكأنَّه وَكَزَهُ في صدره فوقَعَ على استه ، وليس قولُ من قال : خرَّ على وَجْهه بشيء.
وقوله : أَجْهَشْتُ بُكَاءً ، أي : تهيَّأْتُ له وأخذْتُ فيه ؛ قال أبو عُبَيْد : الجَهْشُ : أن يفزعَ الإنسانُ إلى الإنسان مريدًا للبكاء ؛ كالصبيِّ يَفْزَعُ لأمه ، يقال : جَهَشْتُ ، وأجهشْتُ : لغتان ، وقال أبو زيد : جَهَشْتُ للبكاء والحُزْنِ والشوقِ جُهُوشًا.
وفي هذا الحديث : دليلٌ على جواز تخصيصِ العموم بالمصلحةِ المشهودِ لها بالاعتبار ، وقد اختلَفَ فيه الأصوليُّون.
وفيه : عَرْضُ المصالح على الإمام وإنْ لم يستَدْعِ ذلك.
وفيه : وأبوابٌ لا تخفى.
(1/125)
قوله في حديث معاذ : مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، إِلاَّ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّار ، هكذا وقع هذا الحديث في "كتاب مسلم" عن جميع رواته فيما عَلِمْتُهُ ، وقد زاد البخاريُّ فيه : صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ ، وهي زيادةٌ حسنةٌ تنُصُّ على صحَّةِ ما تضمَّنَتْهُ الترجمة المتقدِّمة ، وعلى فساد مذهب المرجئة ؛ كما قدَّمناه.
ومعنى صدق القلب : تصديقُهُ الجازمُ بحيث لا يخطُرُ له نقيضُ ما صدَّق به ، وذلك إمَّا عن برهان ، فيكونُ عِلْمًا ، أو عن غيره ، فيكونُ اعتقادًا جَزْمًا.
ويجوز : أن يحرِّم اللهُ تعالى مَنْ مات على الشهادتين على النار مطلقًا ، ومَنْ دخلَ النارَ مِنْ أهل الشهادتين بكبائرِهِ ، حرَّم على النارِ جميعَهُ أو بعضَهُ ؛ كما قال في الحديث الآخر : فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ على النارِ ، وقال : حرَّم اللهُ على النار أنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السجود.
ويجوز أن يكون معناه : أنَّ الله يحرِّمه على نارِ الكفَّار التي تُنْضِجُ جلودَهُمْ ، ثمَّ تُبَدَّل بعد ذلك ؛ كما قال تعالى : ُ م ل ك ق ف غ ِ الآية ، وقد قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أمَّا أهلُ النار الذين هُمْ أهلُهَا ، فإنَّهم لا يموتون فيها ولا يَحْيَوْنَ ، ولكنْ ناسٌ أصابتهم النارُ بذنوبهم ، فأماتَهُمْ اللهُ إماتةً ، حتى إذا كانوا فَحَمًا ، أُذِنَ في الشفاعة الحديثَ ، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى.
وقوله : فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا ، أي : تحرُّجًا من الإثم ، وخوفًا منه ؛ قاله الهرويُّ وغيره. وتَفَعَّل كثيرًا ما يأتي لإلقاء الرَّجُل الشيءَ عن نفسه ، وإزالتِهِ عنه ؛ يقال : تحنَّث ، وتحرَّج ، وتحوَّب : إذا ألقَى عن نفسه ذلك ، ومنه : فلانٌ يَتهجَّدُ ، أي : يُلْقِي الهُجُودَ عن نفسه ، ومنه : امرأةٌ قَذُورٌ : إذا كانتْ تَجَنَّبُ الأقذارَ ؛ حكاه الثعالبيُّ ، رحمه الله.
بَابُ مَنْ يَذُوقُ طَعْمَ الإِْيمَانِ وَحَلاَوَتَهُ
(1/126)
عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ؟ يَقُولُ : ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ : مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً .
وعَنْ أَنَسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قَالَ : ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ ، وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ .
وَمِنْ بَابِ مَنْ يَذُوقُ طَعْمَ الإِْيمَانِ وَحَلاَوَتَهُ
قوله : ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ ، أي : وَجَدَ حَلاَوَتَهُ ، كما قال في حديث أنس ـ رضى الله عنه ـ : ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ ، وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِْيمَانِ ، وهي عبارةٌ عمَّا يجده المؤمنُ المحقِّقُ في إيمانه ، المطمئنُّ القلبِ به ؛ من انشراحِ صدره ، وتنوُّرِهِ بمعرفةِ الله تعالى ، ومعرفةِ رسوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومعرفةِ مِنَّةِ الله تعالى عليه : في أنْ أنعَمَ عليه بالإسلامْ ، ونظَمَهُ في سلك أمَّةِ محمَّدٍ خيرِ الأنامْ وحبَّب إليه الإيمانَ والمؤمنينْ ، وبَغَّض إليه الكُفْرَ والكافرينْ ، وأنْجَاهُ من قبيح أفعالهمْ ، ورَكَاكةِ أحوالهمْ.
(1/127)
وعند مطالعةِ هذه الْمِنَن ، والوقوفِ على تفاصيل تلك النِّعَم ، يطيرُ القلبُ فرحًا وسرورَا ، ويمتلئُ إشراقًا ونورَا ، فيا لها مِنْ حلاوةٍ ما ألذَّها ، وحالةٍ ما أشرفَها!! فنسأله تعالى أنْ يَمُنَّ بدوامها وكمالِهَا ، كما مَنَّ بابتدائها وحُصُولِهَا ؛ فإنَّ المؤمن عند تذكُّرِ تلك النِّعَمِ والمِنَن لا يخلو عن إدراك تلك الحلاوة ؛ غير أنَّ المؤمنين في تمكُّنها ودوامها متفاوتون ، وما منهم إلا وله فيها شِرْبٌ مَعْلُوم ، وذلك بِحَسَبِ ما قُسِمَ له من المجاهدة الرياضيّة ، والمِنَحِ الربَّانيَّة ، وللكلام في تفاصيلِ ما أجملناه مَقَامٌ آخرُ.
وقوله : مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا ... الحديثَ ؛ الرضا بهذه الأمورِ الثلاثة على قسمَيْن : رِضًا عامٌّ : وهو ألا يَتَّخِذَ غيرَ الله ربًّا ، ولا غيرَ دين الإسلام دينًا ، ولا غيرَ محمَّد ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولاً ؛ وهذا الرضا لا يخلو عنه مسلم ؛ إذ لا يَصِحُّ التديُّنُ بدين الإسلام إلا بذلك الرضا.
والرضا الخاصُّ : هو الذي تكلَّم فيه أربابُ القلوب ، وهو ينقسم على قسمَيْن : رضًا بهذه الأمور ، ورضًا عن مُجْرِيها تعالى ؛ كما قال أبو عبد الله بنُ خَفِيف : الرضا قسمان : رضًا به ، ورضًا عنه ؛ فالرضا به مدبِّرًا ، والرضا عنه فيما قضى ، ، وقال أيضًا : هو سكونُ القلب ، إلى أحكامِ الرَّبّ ، وموافقتُهُ على ما رَضِيَ واختار ، ، وقال الجُنَيْد : الرضا رفعُ الاختيار ، ، وقال المُحَاسِبِيُّ : هو سكونُ القلب تحتَ مجاري الأحكام ، وقال أبو عليٍّ الرُّوذْبَارِيُّ : ليس الرضا ألاَّ يُحِسَّ بالبلاء ، إنما الرضا ألاَّ يَعْتَرِضَ على الحكم.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : وما ذكره هؤلاءِ المشايخُ هو مبدأُ الرضا عندهم ، وقد ينتهي الرضا إلى ما قاله النُّورِيُّ : هو سرورُ القلبِ بِمُرِّ القضاء ، وَسُئِلَتْ رابعةُُ عن الرضا ؟ فقالتْ : إذا سرَّتْهُ المصيبةُ كما سرَّتْهُ النعمةُ.
(1/128)
وقد غلا بعضهم : وهو أبو سُلَيْمَانَ الداراني ، فقال : أرجو أنْ أكونَ عَرَفْتُ طَرَفًا من الرضا ، لو أنَّه أدخلني النارَ ، لَكُنْتُ به راضيًا.
وقال رُوَيْم : الرضا : هو أنْ لو جعَلَ جهنَّمَ عن يمينه ، ما سَأَلَ أن تُحَوَّلَ عن شماله.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : وهذا غلوٌّ ، وفيه إشكالٌ ، والكلامُ فيه يُخْرِجُ عن مقصودِ كتابنا.
وعلى الجملة : فالرضا بابُ اللهِ الأعظمُ ، وفيه جماعُ الخيرِ كلِّه ؛ كما قال عمر لأبي موسى ـ رضى الله عنهما ـ فيما كتب إليه : أما بعدُ ، فإنَّ الخَيْرَ كلَّه في الرضا ؛ فإنِ استطَعَتَ أنْ ترضَى ، وإلاَّ ، فاصبر.
وقوله : ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ ، وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ ، إنما خصَّ هذه الثلاثَ بهذا المعنى ؛ لأنَّها لا توجدُ إلا ممَّن تنوَّرَ قلبُه بأنوار الإيمان واليقين ، فانكشَفَتْ له محاسنُ تلك الأمور التي أوجَبَتْ له تلك المَحَبَّةَ التي هي حالُ العارفين.
وقوله : مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، دليلٌ على جواز إضافةِ المحبَّةِ لله تعالى ، وإطلاقِهَا عليه ، ولا خلافَ في إطلاقِ ذلك عليه مُحِبًّا ومحبوبًا ؛ كما قال تعالى : ُ ي ى وه ن م ِ ، وهو في السُّنَّة كثير.
ولا يختلف النُّظَّار من أهل السُّنَّة وغيرِهِمْ : أنَّها مُؤَوَّلةٌ في حق الله تعالى ؛ لأنَّ المحبة المتعارَفَةَ في حقِّنا : إنَّما هي مَيْلٌ لما فيه غَرَضٌ ؛ يَسْتَكْمِلُ به الإنسانُ ما نقصَهُ ، وسكونٌ لما تَلْتَذُّ به النفس ، وتكمُلُ بحصوله ، والله تعالى منزَّهٌ عن ذلك.
وقد اختلف أئمَّتنا ـ رضى الله عنهم ـ في تأويلها في حَقِّ الله سبحانه وتعالى :
فمنهم : مَنْ صرفها إلى إرادتِهِ تعالى إنعامًا مخصوصًا على مَنْ أخبَرَ أنَّه يحبُّه من عباده ؛ وعلى هذا : فَتَرْجِعُ إلى صفة ذاته.
ومنهم : مَنْ صرفها إلى نفس الإنعام والإكرام ؛ وعلى هذا : فتكون من صفات الفعل.
(1/129)
وعلى هذا المنهاج : يتمشَّى القولُ في الرحمة والنَّعْمَة والرضا ، والغضبِ والسَّخَط وما كان في معناها ، ولِبَسْطِ ذلك موضعٌ آخر.
فأما محبَّةِ العبد لله تعالى :
فقد تأوَّلها بعضُ المتكلِّمين ؛ لأنَّهم فسَّروا المحبَّة بالإرادةُ ، والإرادة إنما تتعلَّق بالحادث لا بالقديم ، ومنهم مَنْ قال : لأنَّ محبتَنا إنَّما تتعلَّق بمستَلَذٍّ محسوسٍ ، واللهُ تعالى منزَّهٌ عن ذلك.
وهؤلاءِ تأوَّلوا محبةَ العبدِ لله تعالى بطاعتِهِ له ، وتعظيمِهِ إياه ، وموافقتِهِ له على ما يريده منه.
وأما أربابُ القلوب ، فمنهم : مَنْ لم يتأوَّلْ محبَّةَ العبدِ لله تعالى ، حتى قال : المحبةُ لله تعالى : هي الميلُ الدائم ، بالقلبِ الهائم ، ، وقال أبو القاسم القُشَيْرِيُّ : أما محبةُ العبدِ لله تعالى ، فحالةٌ يجدها العبدُ من قلبه تَلْطُفُ عن العبارة ، وقد تحملُهُ تلك الحالةُ على التعظيمِ لله تعالى ، وإيثارِ رضاه ، وقلَّةِ الصبر عنه ، والاهتياج إليه ، وعَدَمِ القَرَارِ عنه ، ووجودِ الاستئناسِ بدوامِ ذكره.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : فهؤلاءِ قد صرَّحوا بأنَّ محبَّة العبد لله تعالى : هي مَيْلٌ من العبد وتَوَقَان ، وحالٌ يَجِدُها المُحِبُّ مِنْ نفسه مِنْ نوعِ ما يجده في محبوباتِهِ المعتادةِ له ، وهو صحيحٌ.
والذي يوضِّحه : أنَّ الله تعالى قد جَبَلَنا على الميل إلى الحُسْنِ والجمال والكمال ، فبقدر ما ينكشفُ للعاقل من حُسْنِ الشيء وجمالِهِ وكماله ، مالَ إليه وتعلَّقَ قلبُهُ به حتى يُفْضِيَ الأمرُ به إلى أنْ يستولي ذلك المعنَى عليه ؛ فلا يَقْدِرُ على الصبر عنه ، وربَّما لا يشتغلُ بشيءٍ دونه.
ثم الحُسْنُ والكمالُ نوعان : محسوسٌ ، ومعنويٌّ :
فالمحسوسُ : كالصور الجميلة المشتهاة لنيلِ اللذَّةِ الجِسْمَانية ، وهذا في حقِّ الله تعالى محالٌ قطعًا.
(1/130)
وأما المعنويُّ : فكمَنِ اتَّصَفَ بالعلومِ الشريفة ، والأفعالِ الكريمة ، والأخلاقِ الحميدة ، فهذا النوعُ تميلُ له النفوسُ الفاضلة ، والقلوب الكاملة ، ميلاً عظيمًا ؛ فترتاحُ لذكرِهْ ، وتتنعم بخُبْرِهِ وخَبَرِهِ ، وتهتزّ لسماعِ أقوالِهْ ، وتتشوَّف لمشاهدة أحواله ، وتلتذُّ بذلك لذةً رُوحَانيةً لا جِسْمَانِيَّةً ، كما نجده عند ذِكْرِ الأنبياءِ والعُلَمَاء ، والفُضْلاَءِ والكُرَمَاء ، من الميلِ واللذَّة والرِّقَّة والأنس ، وإنْ كنَّا لا نَعْرِفُ صورهم المحسوسة ، وربَّما نَسْمَعُ أنَّ بعضَهم مِنْ غير الأنبياء قبيحُ الصورة الظاهرة أو أعمَى أو أجْذَم ، ومع ذلك : فذلك الميلُ والأُنْسُ والتشوُّقُ موجودٌ لنا ؛ ومَنْ شَكَّ في وِجْدانِ ذلك ، أو أنكَرَهُ ، كان عن جِبِلَّةِ الإنسانيَّةِ خارجَا ، وفي غِمَارِ المعتوهين والجَا.
وإذا تقرَّر ذلك : فإذا كان هذا الموصوفُ بذلك الكمال قد أحسنَ إلينا ، وفاضَتْ نعمُهُ علينا ، ووصَلَنَا بِرُّه ، وعطفُهُ ولُطْفُه ، تضاعَفَ ذلك الميلُ ، وتجدَّد ذلك الأُنْس ، حتَّى لا نصبرَ عنه ، بل يستغرقنا ذلك الحالْ ، إلى أن نُذْهَلَ عن جميعِ الأشغالْ ، بل يطرأُ على الْمُسْتَهْتَرِ بذلك نوعُ اختلالْ.
وإذا كان ذلك في حَقِّ مَنْ [كان] كمالُهُ وجمالُهُ مُقيَّدًا مَشُوبًا بالنقص مُعَرَّضًا للزوالْ ، كان مَن كان كمالُهُ وجمالُهُ واجبًا مطلقًا لا يشوبُهُ نقصٌ ولا يعتريه زوالْ ، وكان إنعامُهُ وإحسانُهُ أكثرَ بحيثُ لا ينحصرُ ولا يُعَدّ ، أولَى بذلك الميل وأحقَّ بذلك الحبّ ، وليس ذلك إلاَّ لله تعالى وحده ، ثُمَّ لَِمْن خصَّه الله تعالى بما شاء مِنْ ذلك الكمال ، وأكملُ نوع الإنسان محمَّدٌ عليه أفضل الصلاةِ والسلام.
(1/131)
فَمَنْ تَحَقَّق ما ذكرْنا ، واتّصَفَ بما وصفْناه ، كان اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه ممَّا سواهما ، ومن كان كذلك تأهَّلَ للقائهما ، بالاتِّصَافِ بما يُرْضِيهما ، واجتنابِ ما يُسخِطُهُمَا ؛ ويستلزمُ ذلك كلُّه الإقبالَ بالكُلِّيَّة عليهما ، والإعراضَ عمَّا سواهما إلاّ بإذنهما وأمرهما ، ولتفصيلِ ذلك موضعٌ آخر.
وقوله : وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ ؛ يعني : بـ المرء هنا : المُسْلِمَ المؤمنَ ؛ لأنَّه هو الذي يمكنُ أن يُخْلَصَ لله تعالى في محبَّتِهْ ، وأن يُتَقَرَّبَ لله تعالى باحترامِهِ وحُرْمَتِهْ ؛ فإنه هو الموصوفُ بالأخوَّة الإيمانيَّة ، والمحبَّة الدينيَّة ؛ كما قال تعالى : ُ ؟ عع = ِ ، وكما قال تعالى : ُ ك ق ف ِ ؟
وقد أفاد هذا الحديثُ : أنَّ محبَّةَ المؤمنِ الموصِّلَةَ لحلاوة الإيمان لا بدَّ أن تكونَ خالصةً لله تعالى ، غيرَ مشوبةٍ بالأَغراض الدنيويَّة ، ولا الحظوظِ البشريَّة ؛ فإنَّ مَنْ أحبَّه لذلك ، انقطعَتْ محبَّته إنْ حصَلَ له ذلك الغرَضُ أو يئِسَ مِنْ حصوله.
ومحبَّةُ المؤمن : وظيفةٌ متعيِّنة على الدوام ، وُجِدَتِ الأغْراضُ أو عُدِمَتْ ، ولمَّا كانتِ المحبَّةُ للأغراضِ هي الغالبة ، قَلَّ وِجْدانُ تلك الحلاوة ، بل قد انعدم ، لا سيَّما في هذه الأزمانْ التي قد امَّحَى فيها أكثَرُ رسومِ الإيمانْ.
وعلى الجملة : فمحبَّةُ المؤمنين من العباداتْ ، التي لا بُدَّ فيها من الإخلاصِ وحُسْنِ النيَّاتْ.
وقوله : وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ، معنى يُقْذَفَ : يُرْمَى ، والقذفُ : الرمي.
وهذه الكراهةُ مُوجَبَةٌ ؛ لما انكشَفَ للمؤمن من محاسن الإسلام ، ولِمَا دخَلَ قلبَهُ من نور الإيمانْ ، ولِمَا خلّصه الله تعالى منه مِنْ رذائلِ الجهالاتِ وقُبْحِ الكفرانْ ، والحمدُ لله.
(1/132)
بَابٌ الإِيمَانُ شُعَبٌ ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْهَا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ رَسُولِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قَالَ : الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً ، فَأَفْضَلُهَا : قَوْلُ لا إِلهَ إِلا اللهُ ، وَأَدْنَاهَا : إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِْيمَانِ .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ ، فَقَالَ : الْحَيَاءُ مِنَ الإِْيمَانِ .
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أَنَّهُ قَالَ : الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْر ، فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ : إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ : أَنَّ مِنْهُ وَقَارًا ، وَمِنْهُ سَكِينَةً ، فَقَالَ عِمْرَانُ : أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ؟!
وَمِنْ بَابِ الإِيمَانُ شُعَبٌ ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْهَا
قوله : الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ، الإيمانُ في هذا الحديث يرادُ به : الأعمالُ ، بدليل أنَّه ذكَرَ فيه أعلى الأعمال ، وهو قولُ : لا إلهَ إلاَّ الله ، وأدناها ، أي : أقرَبَها ، وهو إماطةُ الأذى عن الطريق ، وهما عملان ؛ فما بينهما مِنْ قبيل الأعمال. وقد قدَّمنا القولَ في حقيقة الإيمان شرعًا ولغةً ، وأنَّ الأعمالَ الشرعيَّةَ تسمَّى إيمانًا مجازًا وتوسُّعًا ؛ لأنَّها عن الإيمان تكونُ غالبًا.
و البِضْعُ والبِضْعَةُ : واحدٌ ، وهو من العَدَدِ بكسر الباء ، وقد تُفْتَح وهو قليلٌ ؛ ذكره الجوهريُّ. فأمَّا مِنْ بَضْعِ اللحم فبِفَتْح الباء لا غير ، والبَضْعَةُ من اللحم ، بالفتح القطعةُ منه :
(1/133)
واستعملَتِ العربُ البِضْعَ : في المشهور مِنْ كلامها : فيما بين الثلاثِ إلى العَشْر ، وقيل : إلى التِّسْع ، وقال الخليلُ : البِضْعُ : سبع ، وقيل : هو ما بين اثنَيْنِ إلى عَشْر ، وما بين اثنَيْ عشَرَ إلى عشرين ، ولا يقالُ في أحدَ عشَرَ ، ولا في اثنَيْ عشر ، وقال الخليلُ أيضًا : هو ما بين نِصْفِ العَقْد ، يريد : مِنْ واحدٍ إلى أربع.
و الشُّعْبَةُ في أصلها : واحدةُ الشُّعَب ، وهي أغصانُ الشجر ، وهي بضمِّ الشين ، فأمَّا شُعَبُ القبائل ، فواحدُهَا : شَعْبٌ بفتحها ، وقال الخليل : الشَّعْب : الاجتماعُ والافتراق ، وفي "الصحاح" : هو من الأضداد.
ويُراد بالشُّعْبة في الحديث : الخَصْلة ، ويعني : أنَّ الإيمانَ ذو خصال معدودة ، وقد ذكَرَ الترمذيُّ هذا الحديثَ ، وسمَّى الشُّعْبة بابًا ، فقال : الإيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا ... الحديثَ.
وقد وقَعَ لبعضِ الرواةِ شَكٌّ في هذا الحديثِ ، فقال : الإيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ ، أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ ، ولا يُلْتَفَتُ لهذا الشكِّ ؛ فإنَّ غيره من الثقات قد جَزَمَ بأنَّه بِضْعٌ وسبعون ، وروايةُ مَنْ جزَمَ أولى.
ومقصودُ هذا الحديثِ : أنَّ الأعمالَ الشرعيَّةَ تسمَّى إيمانًا على ما ذكرناه آنفًا ، وأنَّها منحصرةٌ في ذلك العدد ، غيرَ أنَّ الشرع لم يُعيِّنْ ذلك العدد لنا ولا فصَّله.
وقد تكلَّف بعضُ المتأخِّرين تعديدَ ذلك ؛ فتصفَّحَ خِصَالَ الشريعةِ وعدَّدها ، حتَّى انتهَى بها - في زعمه - إلى ذلك العَدَد ، ولا يصحُّ له ذلك ؛ لأنَّه يمكنُ الزيادةُ على ما ذكَرَ ، والنقصانُ ممَّا ذكَرَ ؛ ببيانِ التداخل.
(1/134)
والصحيحُ : ما صار إليه أبو سُلَيْمان الخَطَّابيُّ وغيره : أنَّها منحصرةٌ في علمِ الله تعالى ، وعِلْمِ رسوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وموجودةٌ في الشريعة ، مفصَّلَةٌ فيها ، غير أنَّ الشرعَ لم يُوقِفْنَا على أشخاص تلك الأبواب ، ولا عيَّن لنا عدَدَهَا ، ولا كيفيَّةَ انقسامها ، وذلك لا يَضُرُّنَا في عِلْمنا بتفاصيلِ ما كُلِّفْنا به مِنْ شريعتنا ولا في عملنا ؛ إذْ كلُّ ذلك مفصَّلٌ مُبيَّنٌ في جملةِ الشريعة ، فما أُمِرْنَا بالعَمَلِ به ، عَمِلْنَا به ، وما نُهِينَا عنه انتهَيْنَا ، وإنْ لم نُحِطْ بِحَصْرِ أعداد ذلك ، والله تعالى أعلم.
و الحياءُ : انقباضٌ وحِشْمَةٌ يجدها الإنسانُ مِنْ نفسه عندما يُطَّلَعُ منه على ما يُسْتَقْبَحُ ويُذَمُّ عليه ، وأصلُهُ غريزيٌّ في الفطرة ، ومنه مكتسَبٌ للإنسان ؛ كما قال بعضُ الحكماء في العقل :
رَأَيْتُ العَقْلَ عَقْلَيْنِ
فَمَطْبُوعٌ وَمَصْنُوعُ
وَلاَ يَنْفَعُ مَصْنُوعٌ
إِذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ
كَمَا لاَ تَنْفَعُ الْعَيْنُ
وَضََوْءُ الشَّمْسِ مَمْنُوعُ
وهذا المكتَسَبُ : هو الذي جعلَهُ الشرعُ من الإيمان ، وهو الذي يُكلَّفُ به.
وأمَّا الغريزيُّ : فلا يكلَّفُ به ؛ إذْ ليس ذلك مِنْ كسبنا ، ولا في وُسْعنا ، ولم يكلِّفِ اللهُ نفسًا إلاَّ وسعها ؛ غير أنَّ هذا الغريزيَّ يَحْمِلُ على المكتسب ، ويُعِينُ عليه ؛ لذلك قال : الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ ، والحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ.
وأوَّلُ الحياءِ وأَوْلاَه : الحياءُ من الله تعالى ، وهو ألاَّ يراك حيثُ نهاك ، وذلك لا يكونُ إلاَّ عن معرفةٍ بالله تعالى كاملة ، ومراقبةٍ له حاصلَة ، وهي المعبَّرُ عنها بقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.
(1/135)
وقد رَوَى الترمذيُّ مِنْ حديث ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ أَنَّهُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ قال : اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ ، فَقَالُوا : إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ للهِ ، فَقَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ ، ولكنَّ الاسْتِحْياءَ من الله حقَّ الحَيَاءِ : أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى ، وَالْبطنَ وما وَعَى ، وَتَذْكُرَ المَوْتَ وَالْبِلَى ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ.
قال الشيخ ، ـ رحمه الله ـ وأهلُ المعرفة في هذا الحياءِ منقسمون ؛ كما أنّهم في أحوالهم متفاوتون - كما تقدم - وقد كان النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جُمِعَ له كمالُ نوعَيِ الحياء ، فكان في الحياءِ الغريزيِّ أشدَّ حياءً من العَذْراء في خِدْرها ، ومِنْ حيائِهِ الكسبيِّ في ذِرْوتها.
وقوله : بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ ، أي : يَعْذِلُهُ على كثرته ، ويزجُرُهُ عنه.
وقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : دَعْهُ : زجرٌ للواعظ ؛ لأنَّه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلِمَ أنّ ذلك الشخصَ لا يضرُّهُ الحياءُ في دينه ، بل ينفعُهُ ؛ ولذلك قال له : دَعْهُ ، فَإِنَّ الحَيَاءَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْر.
وقد يُفْرِطُ الحياءُ على بعضِ الناس ، حتَّى يمنعَهُ ذلك من القيامِ بحقِّ الله تعالى من الأمرِ بالمعروفِ وتغييرِ المنكر ، ويحملَهُ على المداهنة في الحَقِّ ، وكلُّ ذلك حياءٌ مذمومٌ شرعًا وطبعًا يحرُمُ استعمالُهُ ، ويجب الانكفافُ عنه ؛ فإنَّ ذلك الحياءَ أحقُّ باسم الجُبْنِ والخَوَرْ ، وأَوْلَى منه باسمِ الحياءِ والخَفَرْ.
وقولُ بُشَيْر بن كعب : إِنَّ مِنْهُ وَقَارًا ، وَمِنْهُ سَكِينَةً ، يعني : أنَّ منه : ما يحملُ صاحبَهُ على أنْ يُوَقِّرَ الناسَ ويتوقَّرُ هو في نفسه ، ومنه : ما يحملُهُ على أنْ يَسْكُنَ عن كثيرٍ ممَّا يتحرَّكُ الناسُ إليه مِنَ الأمورِ التي لا تليقُ بذوي المروءات .
(1/136)
ولم يُنْكِرْ عِمْرَانُ على بُشَيْرٍ هذا القولَ مِنْ حيثُ معناه ، وإنَّما أنكرَهُ عليه مِنْ حيثُ إنَّه أتى به في مَعْرِضِ مَنْ يعارضُ كلامَ رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكلامِ الحكماءِ ، ويقاومُهُ به ؛ ولذلك قال له : أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ! ؟
وقيل : إنَّما أنكَرَ عليه ؛ لأنَّه خافَ أن يَخْلِطَ بالسُّنَّة ما ليس منها ؛ فَسَدَّ ذريعةَ ذلك بالإنكار ، والله تعالى أعلم .
بَابُ الاِسْتِقَامَةِ فِي الإِْسْلاَمِ ، وَأَيُّ خِصَالِهِ خَيْرٌ
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ -وَفِي رِوَايَةٍ : غَيْرَكَ- قَالَ : قُلْ : آمَنْتُ بِاللهِ ، ثُمَّ اسْتَقِمْ .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ؛ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَيُّ الإِسْلامِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : تُطْعِمُ الطَّعَامَ ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ .
وَفِي أُخْرَى : أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ : مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ .
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : الْمُسْلِمُ : مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ .
وَمِنْ بَابِ الاِسْتِقَامَةِ فِي الإِْسْلاَمِ ، وَأَيُّ خِصَالِهِ خَيْرٌ
قوله : قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ ، أي : علِّمْني قولاً جامعًا لمعاني الإسلام ، واضحًا في نفسه ، بحيثُ لا يحتاجُ إلى تفسيرِ غيرك ، أعمَلُ عليه ، وأكتفي به ؛ وهذا نحوٌ ممَّا قال له الآخر : عَلِّمْنِي شَيْئًا أَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ ، وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى ، فَقَالَ : لاَ تَغْضَبْ.
(1/137)
وهذا الجوابُ ، وجوابُهُ بقوله : قُلْ : آمَنْتُ بِاللهِ ، ثُمَّ اسْتَقِمْ : دليلٌ على أنَّ النبيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُوتِيَ جوامعَ الكَلِمِ ، واختُصِرَ له القول اختصارًا ؛ كما قاله النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُخْبِرًا بذلك عن نفسه ؛ فإنّه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جمَعَ لهذا السائلِ في هاتَيْن الكلمتَيْن معانيَ الإسلام والإيمانِ كلَّها ؛ فإنَّه أمره أن يجدِّدَ إيمانَهُ متذكِّرًا بقلبه ، وذاكرًا بلسانه.
ويقتضي هذا استحضارَ تفصيلِ معاني الإيمانِ الشرعيِّ بقلبه - التي تقدَّم ذكرُهَا في حديثِ جبريل ـ عليه السلام ـ - وأَمْرِهِ بالاِستقامةِ على أعمال الطاعاتْ ، والانتهاءِ عن جميع المخالفاتْ ؛ إذْ لا تتأتَّى الاستقامةُ مع شيء من الاعوجاج ، فإنَّها ضِدُّه.
وكأنَّ هذا القولَ منتزَعٌ من قوله تعالى : ُ ب ا آ ء ؤ أ خ ، ِ الآية ، أي : آمَنُوا باللهِ ووحَّدوه ، ثم استقاموا على ذلك وعلى طاعتِهِ إلى أن تُوُفُّوا عليها ؛ كما قال عمرُ بنُ الخَطَّاب ـ رضى الله عنه ـ : استَقَامُوا واللهِ على طاعتِهِ ، ولم يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثعالب ، وملخَّصُهُ : اعتَدَلُوا على طاعة الله تعالى ، عَقْدًا وقولاً وفعلاً ، وداموا على ذلك إلى الوفاة.
وقوله : أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ، أي : أيُّ خصالهم أفضلُ ؛ بدليل جوابه بقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : تُطْعِمُ الطَّعَامَ ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ ، وكأنَّه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَهِمَ عن هذا السائلِ أنَّه يسألُ عن أفضلِ خصالِ المسلمين المتعدِّيَةِ النفعَ إلى الغير ، فأجابَهُ بأعمِّ ذلك وأنفعِهِ في حقِّه ؛ فإنَّه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يجيبُ كُلَّ سائلٍ على حَسَبِ ما يُفْهَمُ عنه ، وبما هو الأهمُّ في حقِّه والأنفعُ له.
وقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ ، قال أبو حاتم : تقول : قَرَأَ عليه السلامَ وأقْرَأَهُ الكتابَ ، ولا تقول : أَقْرَأَهُ السلامَ إلاَّ في لغة سُوء ، إلاَّ أن يكونَ مكتوبًا فتقول : أَقْرِئْهُ السلامَ ، أي : اجعلْهُ يقرؤه.
(1/138)
وجمَعَ له بين الإطعامِ والإفشاء ؛ لاجتماعهما في استلزام المحبَّةِ الدينيَّة ، والأُلْفةِ الإسلاميَّة ؛ كما قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ.
وفيه : دليلٌ على أنَّ السلام لا يُقْصَرُ على من يُعْرَفُ ، بل على المسلمين كافَّة ؛ لأنّه كما قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : السَّلاَمُ شِعَارٌ لِمِلَّتِنَا ، وَأَمَانٌ لِذِمَّتِنَا .
ورَدُّ السلامِ أوكَدُ من ابتدائه ، وسيأتي القولُ فيه ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ فقَالَ : مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، هذا السؤالُ غيرُ السؤالِ الأوَّل وإن اتَّحَدَ لفظهما ؛ بدليلِ افتراق الجواب ، وكأنَّه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَهِمَ عن هذا السائلِ أنّه سأل عن أحقِّ المسلمين باسم الخيريَّة وبالأفضليَّة ، وفَهِمَ عن الأوَّل أنَّه سَأَلَ عن أحقِّ خصالِ الإسلامِ بالأفضليَّة ، فأجاب كُلاًّ منهما بما يليقُ بسؤاله ، والله تعالى أعلم ، وهذا أولى مِنْ أن نقول : الخبران واحد ، وإنَّما بعضُ الرواة تسامَحَ ؛ لأنَّ هذا التقديرَ يرفَعُ الثقةَ بأخبارِ الأئمَّةِ الحفَّاظِ العدول ، مع وجودِ مندوحةٍ عن ذلك.
وقوله : الْمُسْلِمُ : مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، أي : مَنْ كانتْ هذه حالَهُ ، كان أحقَّ بهذا الاسمِ ، وأمكنَهُمْ فيه.
ويبيِّن ذلك : أنَّه لا ينتهي الإنسانُ إلى هذا ، حتَّى يتمكَّنَ خوفُ عقابِ الله سبحانه وتعالى مِنْ قلبه ، ورجاءُ ثوابه ، فيُكْسِبُهُ ذلك وَرَعًا يحمله على ضَبْطِ لسانه ويده ، فلا يتكلَّمُ إلاَّ بما يعنيه ، ولا يفعلُ إلاَّ ما يَسْلَمُ فيه ؛ ومَنْ كان كذلك ، فهو المسلمُ الكامل ، والمتَّقي الفاضل.
(1/139)
ويقرُبُ من هذا المعنى بل يزيدُ عليه : قولُهُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَِخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ؛ إذْ معناه : أَنَّهُ لاَ يتمُّ إيمانُ أحدٍ الإيمانَ التامَّ الكامل ، حتَّى يَضُمَّ إلى إسلامه سلامةَ النَّاسِ منه ، وإرادةَ الخيرِ لهم ، والنُّصْحَ لجميعهم فيما يحاوله معهم.
ويستفادُ من الحديث الأوَّل : أنَّ الأصلَ في الحقوقِ النفسيَّة والماليَّة المنعُ ؛ فلا يحلُّ شيءٌ منها إلاَّ بوجهٍ شرعيٍّ ، واللهُ تعالى أعلَمُ بغيبه وأحكم.
بَابٌ لاَ يَصِحُّ الإِيمَانُ حَتَّى تَكُونَ مَحَبَّةُ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَاجِحَةً عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ مِنَ الْخَلْقِ
عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ - وَفِي رِوَايَةٍ : الرَّجُلُ - حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .
وَفِي لَفظٍ آخَرَ : لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .
وَمِنْ بَابِ لاَ يَصِحُّ الإِيمَانُ حَتَّى تَكُونَ مَحَبَّةُ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَاجِحَةً عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ مِنَ الْخَلْقِ
قوله : لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، هذا الحديثُ - على إيجازِهِ - يتضمَّنُ ذكرَ أصنافِ المَحَبَّةِ ؛ فإنَّها ثلاثة :
محبَّةُ إجلالٍ وإعظام ؛ كمحبَّةِ الوالِدِ والعلماءِ والفضلاء.
ومحبَّة ُرحمةٍ وإشفاق ؛ كمحبَّة الولد.
ومحبَّةُ مشاكلةٍ واستحسان ؛ كمحبَّة غير مَنْ ذكرنا.
وإنَّ محبَّةَ رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا بدَّ أن تكون راجحةً على ذلك كلِّه.
(1/140)
وإنَّما كان ذلك ؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى قد كمَّله على جميعِ جنسه ، وفضَّله على سائر نوعه ، بما جبله عليه مِنَ المحاسنِ الظاهرة والباطنة ، وبما فضَّله به مِنَ الأخلاقِ الحسنة والمناقبِ الجميلة ؛ فهو أكملُ مَنْ وَطِئَ الثَّرى ، وأفضلُ مَنْ رَكِبَ ومَشَى ، وأكرمُ مَنْ وافى القيامة ، وأعلاهُمْ منزلةً في دارِ الكرامة.
قال القاضي أبو الفضل : فلا يصحُّ الإيمانُ إلاَّ بتحقيق إنافةِ قَدْرِ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنزلتِهِ ، على كلِّ والدٍ وولد ، ومُحْسِنٍ ومُفْضِل ، ومن لم يعتقدْ هذا واعتقَدَ سواه ، فليس بمؤمنٍ.
قال الشيخ ، رحمه الله : وظاهرُ هذا القول أنَّه صرَفَ محبَّةَ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اعتقادِ تعظيمِهِ وإجلاله ، ولا شكَّ في كُفْرِ مَنْ لا يعتقدُ ذلك.
غيرَ أنَّ تنزيلَ هذا الحديثِ على ذلك المعنى غيرُ صحيح ؛ لأنَّ اعتقادَ الأعظَمِيَّةِ ليس بالمحبَّةِ ، ولا الأحبِّيَّة ، ولا مستَلْزِمًا لها ؛ إذْ قد يجدُ الإنسانُ من نفسه إعظامَ أمرٍ أو شخصٍ ، ولا يجدُ محبَّته ، ، ولأنَّ عمر بن الخَطَّاب ـ رضى الله عنه ـ لَمَّا سمع قولَ النبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، قَال : يَا رَسُولَ اللهِ! لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ نَفْسِي ، فَقَالَ : وَمِنْ نَفْسِكَ يَا عُمَرُ ، فَقَالَ : وَمِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ : الآْنَ يَا عُمَرُ .
وهذا كلُّه تصريحٌ بأنَّ هذه المحبَّةَ ليستْ باعتقاد تعظيم ، بل ميلٌ إلى المعتقَدِ تعظيمُهُ وتعلُّقُ القلبِ به ، فتأمَّلْ هذا الفرق ؛ فإنَّه صحيحٌ ، ومع ذلك فقد خَفِيَ على كثيرٍ من الناس.
وعلى هذا : فمعنى الحديث ، والله أعلم : أنَّ مَنْ لم يجدْ مِنْ نفسه ذلك الميلَ ، وأرجحيَّتَهُ للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لم يَكْمُلْ إيمانُهُ.
(1/141)
على أنِّي أقولُ : إنَّ كلَّ مَنْ صدَّق بالنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وآمَنَ به إيمانًا صحيحًا ، لم يَخْلُ عن وِجْدَانِ شيء من تلك المحبَّة الراجحةِ للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ غير أنّهم في ذلك متفاوتون :
فمنهم : مَنْ أخذ من تلك الأرجحيّةِ بالحظِّ الأوفى ؛ كما قد اتَّفَقَ لعمر ـ رضى الله عنه ـ حين قال : ومِنْ نَفْسِي ، ولهندٍ امرأةِ أبي سفيان حين قالتْ للنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لَقَدْ كَانَ وَجْهُكَ أَبْغَضَ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ ... الحديث ، وكما قال عمرو بن العاص : لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَلاَ أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ ؛ إِجْلاَلاً لَهُ ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ ، مَا أَطَقْتُ ؛ لأَِنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ ، ولا شَكَّ في أنَّ حظَّ أصحابِهِ من هذا المعنى أعظَمُ ؛ لأنَّ معرفتهم بقدره أعظم ؛ فالمحبَّةُ ثمرةُ المعرفة ، فتقوَى وتضعُفُ بِحَسَبها.
ومن المؤمنين : من يكونُ مستغرِقًا بالشهواتْ ، محجوبًا بالغفلات عن ذلك المعنى في أكثرِ الأوقاتْ ؛ فهذا بأخسِّ الأحوال ، لكنَّه إذا ذُكِّرَ بالنبيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو بشيء من فضائله ، اهتاجَ لذكرِهِ ، واشتاقَ لرؤيته ، بحيثُ يُؤْثِرُ رؤيتَهُ ، بل رؤيةَ قبرِهِ ومواضعِ آثاره ، على أهلِهِ ومالِهِ وولدِهِ ، ووالده ، ونفسِهِ والناسِ أجمعين ، فيخطُرُ له هذا ويجدُهُ وِجْدانًا لا شَكَّ فيه ، غير أنَّه سريعُ الزوال والذَّهَاب ؛ لغلبة الشَّهَوَاتِ ، وتوالي الغَفَلاَت ؛ ويُخَافُ على مَنْ كان هذا حالُهُ ذَهَابُ أصلِ تلك المحبَّةْ ، حتى لا يوجَدَ منها حَبَّةْ ، فنسألُ اللهَ الكريم ، ربَّ العرش العظيم : أن يَمُنَّ علينا بدوامها وكمالَِها ، وألاَّ يَحْجُبَنَا عنها.(1/142)
بَابٌ
عَنْ أَنَسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأِخِيهِ -أَوْ قَالَ : لِجَارِهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ .
وقوله : لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأِخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ، أي : لا يكمُلُ إيمانه ؛ كما تقدَّم ؛ إذْ مَنْ يَغُشُّ المسلمَ ولا ينصحُهُ مرتكبٌ كبيرةً ، ولا يكونُ كافرًا بذلك ؛ كما قد بيَّنَّاه غير مرَّة.
وعلى هذا : فمعنى الحديث : أنَّ الموصوفَ بالإيمانِ الكامل : مَنْ كان في معاملته للناس ناصحًا لهم ، مريدًا لهم ما يريده لنفسه ، وكارهًا لهم ما يكرهه لنفسه ، ، ويتضمَّنُ أن يفضِّلهم على نفسه ؛ لأنَّ كلَّ أحد يُحِبُّ أن يكونَ أفضَلَ من غيره ، فإذا أحَبَّ لغيره ما يحبُّ لنفسه ، فقد أَحَبَّ أن يكونَ غيره أفضَلَ منه ؛ وإلى هذا المعنى أشار الفُضَيْلُ بنُ عِيَاض ـ رحمه الله ـ لمَّا قال لسفيانَ بنِ عُيَيْنة : إنْ كنتَ تريدُ أن يكون الناسُ مثلَكَ ، فما أدَّيْتَ للهِ الكريمِ النصيحة ، فكيف وأنتَ تُوَدُّ أنَّهم دونك؟!.
بَابٌ حُسْنُ الْجِوَارِ وَإِكْرَامُ الضَّيْفِ مِنَ الإِْيمَانِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ .
وَعَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ . وَفِي أُخْرَى : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ .
وَمِنْ بَابِ حُسْنُ الْجِوَارِ وَإِكْرَامُ الضَّيْفِ مِنَ الإِْيمَانِ(1/143)
قوله : لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، الجارُ هنا : يصلُحُ للمجاوِرِ لك في مسكنك ، ويصلُحُ للداخل في جوارك وحُرْمتك ؛ إذْ كلُّ واحد منهما يجبُ الوفاءُ بحقه ، وتحرمُ أَذِيَّتُهُ تحريمًا أشدَّ من تحريم أذى المسلم مطلقًا.
فمَنْ كان - مع هذا التأكيد الشديد - مُضِرًّا بجاره ، كاشفًا لعوراته ، حريصًا على إنزالِ البوائِقِ به : كان ذلك منه دليلاً :
وإمَّا على فسادِ اعتقادٍ ونفاق ، فيكونُ كافرًا ، ولا شك في أنه لا يدخُلُ الجنة.
وإمَّا على استهانةٍ بما عظَّم اللهُ تعالى مِنْ حرمةِ الجار ، ومِنْ تأكيدِ عهدِ الجوار ، فيكونُ فاسقًا فِسْقًا عظيمًا ، ومرتكبَ كبيرةٍ ، يُخَافُ عليه من الإصرار عليها أن يُخْتَمَ عليه بالكفر ؛ فإنَّ المعاصيَ بريدُ الكُفْر ، فيكونُ من الصِّنْفِ الأول ، ، وإنْ سَلِمَ من ذلك ومات غيرَ تائب ، فأمرُهُ إلى الله تعالى ، فإنْ عَاقَبَهُ بدخول النار ، لم يدخُلِ الجَنَّةَ حين يدخلُهَا مَنْ لم يكنْ كذلك ، أو لا يدخُلُ الجنَّةَ المعدَّةَ لمن قام بحقوق جاره.
وعلى هذا القانون : ينبغي أن يحمَلَ كلُّ ما في هذا الباب مما قالَ فيه النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنَّ فاعله لا يدخُلُ الجنّة ، مما ليس بشركٍ ؛ للأدلَّةِ المتقدِّمة ، ولِمَا يأتي في أحاديث الشفاعة.
والبوائق : جمعُ بائقة ، وهي الداهيةُ التي تُوبِقُ صاحبها ، أي : تُهْلِكه ، وقد تقدَّم ذكرها ؛ يقال : باقَتِ البائقةُ بَوْقًا ، وقال صاحبُ "الأفعال" : باقت البائقةُ بَوْقًا ، وهي الداهية.
(1/144)
وقوله : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ... الحديثَ ، يعني : مَنْ كان يؤمنُ بالله الإيمانَ الكامل ، المُنْجِيَ مِنْ عذاب الله ، المُوصِلَ إلى رضوان الله ؛ لأنَّ مَنْ آمَنَ بالله تعالى حَقَّ إيمانه ، خاف وعيدَه رجاءَ ثوابَه ، ومَنْ آمنَ باليومِ الآخر ، استعدَّ له ، واجتهَدَ في فعل ما يدفَعُ به أهوالَهُ ومكارهه ، فيأتمرُ بما أُمِرَ به ، وينتهي عما نُهِيَ عنه ، ويتقرَّبُ إلى الله تعالى بفعلِ ما يقرِّبُ إليه ، ويعلمُ أَنَّ مِنْ أهمِّ ما عليه ضَبْطَ جوارحه - التي هي رعاياه ، وهو مسؤولٌ عنها - جارحةً جارحةً ؛ كما قال تعالى : ُ ژ 1 2 3 4 5 6 7 8 ِ الآية ، وُ ا ئ إ گ [ غ ع . ء }ـ! ! ِ الآية ، وإِنَّ مِنْ أكثرِ المعاصي عددًا ، وأيسرها فعلاً : معاصيَ اللسان ، وقد استقرَأَ المحاسِبُونَ لأنفسهم آفاتِ اللسان ، فوجدوها تُنَيِّفُ على العشرين.
وقد أرشد النبي ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هذا جملةً ؛ فقال : وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ ، فِي النَّارِ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ.
وقال : كُلُّ كَلاَمِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لاَ لَهُ ، إِلاَّ ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى ، أَوْ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ.
وقال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ مَا يُلْقِي لَهَا بَالاً ، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا.
فَمَنْ علم ذلك ، وآمَنَ به حقَّ إيمانه ، اتَّقَى اللهَ في لسانه ، فتكلَّمَ ليَغْنَمَ ، أوْ سَكَتَ لِيَسْلَمَ.
وقوله : وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ :
(1/145)
الضَّيْفُ : هو القادمُ على القومِ ، النازلُ بهم ، ويقال : ضَيْفٌ ، على الواحد والجمع ، ويجمع أيضًا على : أضياف ، وضُيُوف ، وضِيفَان ، والمرأة ضَيفٌ ، وضَيفَةٌ ، وأَضَفْتُ الرَّجُلَ وضَيَّفْتُهُ : إذا أنزلتَهُ بك ضَيْفًا ، وضِفْتُ الرجلَ ضِيَافةً : إذا نَزَلْتَ عليه ، وكذلك تَضَيَّفْتُهُ.
والضيافةُ : مِنْ مكارم الأخلاقِ ، ومَحَاسِنِ الدين ، ومِنْ خُلُق النبيِّين ، وليستْ بواجبةٍ ، عند عامَّةِ أهل العلم.
خلافًا لِلَّيْث ؛ فإنه أوجبها ليلةً واحدة ؛ محتجًّا بقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لَيْلَةَ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، وبقوله : إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِحَقِّ الضَّيْفِ فَاقْبَلُوهُ ، َوإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ .
وحُجَّةُ الجمهور : قوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، والجائزةُ : العطيَّةُ والصلةُ ، التي أصلُهَا على الندب ، وقلَّما يستعملُ مثلُ هذا اللفظ في الواجب.
وتأوَّل الجمهورُ أحاديثَ الليث : بأنَّ ذلك كان في أولِ الإسلام ؛ إذْ كانت المواساةُ واجبة ، ، أو كان هذا للمجاهدين في أوَّلِ الإسلام ؛ لقلَّة الأزواد ، ، أو المرادُ به : مَنْ لزمته الضيافةُ من أهل الذمَّة.
ثُمَّ اختلفوا فيمن يخاطَبُ بالضيافة :
فذهب الشافعيُّ ، ومحمد بنُ عبد الحكم : إلى أن المخاطَبَ بها أهلُ الحضر والبادية.
وقال مالكٌ وسُحْنون : إنما ذلك على أهلِ البوادي ؛ لتعذُّرِ ما يحتاجُ إليه المسافرُ في البادية ، ولتيسُّرِ ذلك على أهل البادية غالبًا ، وتعذُّرِهِ على أهل الحَضَرِ ومشقَّتِهِ عليهم غالبًا. وقد رُوِيَ : الضَّيَافَةُ عَلَى أَهْلِ الْوَبَر ، وَلَيْسَتْ عَلَى أَهْلِ المَدَر.
بَابٌ : تَغْيِيرُ المُنْكَرِ مِنَ الإِيمَانِ
(1/146)
عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ : مَرْوَانُ ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : الصَّلاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، فَقَالَ : قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَمَّا هَذَا ، فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ ؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى فِي أُمَّةٍ قَبْلِي ، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ ؛ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ ، وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ، وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ ؛ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ .
وَمِنْ بَابِ تَغْيِيرُ المُنْكَرِ مِنَ الإِيمَانِ
قوله : أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ : مَرْوَانُ ؛ هذا أصحُّ ما رُوِيَ في أَوَّلِ من قدَّم الخطبةَ على الصلاة ، وقد رُوِيَ أنَّ أوَّلَ مَنْ فعل ذلك عمر بن الخَطَّاب ، وقيل : عثمان ، وقيل : عَمَّار ، وقيل : ابن الزبير ، وقيل : معاوية ـ رضى الله عنهم ـ .
(1/147)
قال الشيخ ، رحمه الله : وبعيدٌ أن يصحَّ شيءٌ مِنْ ذلك عن مثل هؤلاء ؛ لأنَّهم شاهدوا رسولَ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وصلَّوْا معه أعيادًا كثيرة ، والصحيحُ المنقولُ عنه ، والمتواترُ عند أهل المدينة : تقديمُ الصلاة على الخطبة ؛ فكيف يَعْدِلُ أحدهم عما فعله النبيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وداوَمَ عليه إلى أن توفِّي.
فإنْ صحَّ عن واحدٍ مِنْ هؤلاء أنَّه قدَّم ذلك ، فلعلَّه إنما فعل ؛ لمَا رأى من انصرافِ الناسِ عن الخُطْبة ، تاركين لسماعها مستعجلين ، ، أو ليدرك الصلاَة مَنْ تأخَّر وبَعُدَ منزلُهُ.
ومع هذين التأويلين : فلا ينبغي أن تُتْرَكَ سنَّةُ رسولِ الله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمثل ذلك ، وأولئك الملأُ أعلمُ وأجلُّ من أن يصيروا إلى ذلك ، والله أعلم.
وأمَّا مَرْوان وبنو أمية ، فإنما قدَّموها ؛ لأنَّهم كانوا في خُطَبهم ينالون من عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ ، ويُسْمِعون الناسَ ذلك ، فكان الناسُ إذا صلَّوْا معهم ، انصرفوا عن سَمَاعِ خُطَبِهِمْ لذلك ، فلمَّا رأى مَرْوَانُ ذلك أو مَنْ شاء الله من بني أميَّة ، قدَّموا الخطبة ؛ لِيُسْمِعُوا الناسَ مِنْ ذلك ما يكرهون.
والصوابُ : تقديمُ الصلاةِ على الخُطْبة ؛ كما تقدَّم ، وقد حكى فيه بعضُ علمائنا الإجماعَ.
وقوله : فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : الصَّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، [فَقَالَ : قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ] ؛ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَمَّا هَذَا ، فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ ، مقتضَى هذا السياق : أن المُنْكِرَ على مَرْوان رجلٌ غيرُ أبي سعيد ، وأنَّ أبا سعيد مصوِّبٌ للإنكار ، مستدِلٌّ على صحته ، وفي الرواية الأخرى : أن أبا سعيد ـ رضى الله عنه ـ هو المنكرُ على مروان والمستَدِلُّ.
ووجهُ التلفيقِ بينهما : أَنْ يقال : إنَّ كلَّ واحد مِنَ الرجل وأبي سعيد أنكَرَ على مروان ؛ فَرَوَى بعضُ الرواةِ إنكارَ الرجل ، وروى بعضهم إنكارَ أبي سعيد.
وقيل : هما واقعتان في وقتَيْنِ ، وفيه بُعْدٌ.
(1/148)
وفيه من الفقه : أنَّ سنن الإسلامِ لا يجوزُ تغييرُ شيء منها ولا مِنْ ترتيبها ، وأنَّ تغييرَ ذلك منكَرٌ يجبُ تغييره ولو على الملوكِ إذا قُدِرَ على ذلك ، ولم يَدْعُ إلى منكرٍ أكبَرَ منه.
وعلى الجملة : فإذا تحقَّق المنكَرُ ، وجَبَ تغييرُهُ على مَنْ رآه ، وكان قادرًا على تغييره ؛ وذلك كالمُحْدَثَاتِ والبِدَع ، والمجتمَعِ على أنَّه منكَر ، ، فأمَّا إنْ لم يكنْ كذلك - وكان مما قد صار إليه الإمام ، وله وجهٌ مَّا من الشرع - فلا يجوزُ لمن رأى خلافَ ذلك أن يُنْكِرَ على الإمام ؛ وهذا لا يُخْتَلَفُ فيه.
وإنما اختلف العلماء : فيمن قلَّده السلطانُ الحِسْبةَ في ذلك ، هل يَحْمِلُ الناسَ على رأيِِه ومذهبِهِ أم لا ؟ على قولَيْن.
وقوله : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا ، فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، هذا الأمرُ على الوجوب ؛ لأنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهْيَ عن المنكر من واجباتِ الإيمان ، ودعائمِ الإسلام ، بالكتابِ والسنة وإجماع الأمة ، ولا يُعْتَدُّ بخلافِ الرافضة في ذلك ؛ لأنَّهم إمَّا مكفَّرون ؛ فليسوا من الأمة ، وإمَّا مبتدعون ؛ فلا يُعتَدَّ بخلافهم ؛ لظهور فِسْقهم ؛ على ما حقَّقناه في "الأصول".
ووجوبُ ذلك بالشرعِ لا بالعقل ؛ خلافًا للمعتزلة القائلين بأنَّه واجبٌ عقلاً ، ، وقد بيَّنَّا في "الأصول" أنَّه لا يجبُ شيءٌ بالعقل ، وإنما العقلُ كاشفٌ عن ماهيَّاتِ الأمور ، ومميِّزٌ لها ، لا مُوجِبٌ شيئًا منها.
ثم إذا قلنا : إنَّ الأمر بالمعروفِ ، والنهيَ عن المنكر واجبٌ ، فذلك على الكفاية : مَنْ قام به ، أجزَأَ عن غيره ؛ لقوله تعالى : ُ 7 * ) ، . - 0 / " ! ِ .
ولوجوبه شرطان :
أحدهما : العلمُ بكون ذلك الفعلِ مُنْكَرًا أو معروفًا .
والثاني : القدرةُ على التغيير.
(1/149)
فإذا كان ذلك ، تعيَّن التغييرُ باليد إنْ كان ذلك المُنْكَرُ مما يَحْتَاجُ في تغييره إليها ، مثلُ : كَسْرِ أواني الخمر ، وآلاتِ اللهو ؛ كالمزاميرِ والأوتارِ والكُبَرِ ، وكمنعِ الظالمِ من الضَّرْبِ والقتلِ وغيرِ ذلك ، فإنْ لم يَقْدِرْ بنفسه ، استعان بغيره ، فإنْ خاف من ذلك ثَوَرَانَ فتنةٍ ، وإشهارَ سلاح ، تعيَّن رفعُ ذلك إلى الإمام ، فإنْ لم يَقْدِرْ على ذلك ، غيَّر بالقولِ المرتجى نفعُهُ ، مِْن لين أو إغلاظ ؛ حسَبَ ما يكونُ أنفع ، وقد يُبْلَغُ بالرِّفْقِ والسياسة ، إلى ما لا يُبْلَغ بالسيف والرياسة.
فإنْ خاف من القول القتل أو الأذى ، غيَّر بقلبه ، ومعناه : أن يكره ذلك الفعلَ بقلبه ، ويعزمَ على أنْ لو قدَرَ على التغيير لغيَّر.
وهذه آخرُ خَصْلَةٍ منَ الخصالِ المتعيِّنةِ على المؤمن في تغييرِ المُنْكَر ، وهي المعبَّرُ عنها في الحديث بأنَّها أضعفُ الإيمان ، أي : خصالِ الإيمان ، ولم يبق بعدها للمؤمنِ مرتبةٌ أخرى في تغيير المنكر ؛ ولذلك قال في الرواية الأخرى : لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِْيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ، أي : لم يبق وراءَ هذه الرتبةِ رتبةٌ أخرى ، والإيمانُ في هذا الحديث بمعنى الإسلام ؛ على ما تقدَّم.
وفي هذا الحديث : دليلٌ على أن مَنْ خاف على نفسه القتلَ أو الضرر ، سقَطَ عنه التغيير ، وهو مذهبُ المحقِّقين سَلَفًا وخَلَفًا ، ، وذهبتْ طائفةٌ من الغلاة : إلى أنه لا يسقُطُ وإن خاف ذلك ، ، وسيأتي استيفاءُ هذا المعنى في الجهاد إن شاء الله تعالى.
(1/150)
وقوله : مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي ، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ ، أي : ما من رسولٍ من الرسلِ المتقدِّمة ، ويعني بذلك : غالبَ الرسل لا كلَّهم ؛ بدليل قوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الآخَرِ الذي أخبَرَ فيه عن مجيء الأنبياءِ في أممهم يوم القيامة ؛ فإنَّه قال فيه : يَأْتِي النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلاَنِ ، وَيَأْتِي النَّبِيُّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ؛ فهذا العمومُ - وإنْ كان مؤكَّدًا بـ مِنْ بعد النفي - فهو مخصَّصٌ بما ذكرناه.
و الحواريُّون : جمع حَوَارِيٍّ ، وهم خُلْصَان الأنبياء ، أي : الذين أخلصوا في حُبِّ أنبيائهم ، وخَلَصُوا مِنْ كل عيب ، وحُوَّارَى الدقيقِ : الدقيقُ الذي نُخِلَ ؛ قاله الأزهريُّ.
وقال ابن الأنباري : هم المختصُّون المفضَّلون ، وسمِّي خُبْزَ الحُوَّارَى ؛ لأنه أشرفُ الخبز.
وقيل : هم الناصرون لأنبيائهم ؛ كما قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لكلِّ نبيٍّ مِنْ أمَّته حَوَارِيُّون ، وإنَّ حَوَارِيَّ الزبيرُ.
وقيل في حَوَارِيِّي عيسى ـ عليه السلام ـ خمسةُ أقوال : قيل : هم البِيضُ الثيابِ ، وقيل : المبيِّضون لها ، وقيل : المجاهدون ، وقيل : الصَّيَّادون ، وقيل : المُخْلصون.
و الأصحاب : جمعُ صَحْب ، كَفَرْخٍ وأَفْرَاخٍ ؛ قاله الجوهري ، وقال غيره : أصحابٌ - عند سيبوَيْه - : جمعُ صاحب ؛ كشاهِدٍ وأشهاد ، وليس جمعَ صَحْب ؛ لأنَّ فَعْلاً لا تجمع على أفعال إلا في ألفاظ معدودة ، وليس هذا منها.
والصُّحْبَةُ : الخُلْطَةُ والملابَسَةُ على جهة المحبَّة ؛ يقال : صحِبَهُ يَصْحَبُهُ صُحْبَةً بالضم ، وصَحَابةً بالفتح ، وقد يراد به : الأصحابُ ، وجمع الصاحب : صَحْبٌ ؛ كراكبٍ ورَكْب ، وصُحْبَةٌ بضم الصاد ؛ كفَارِهٍ وفُرْهَة ، وصِحَابٌ بالكسر ؛ كجائِع وجِيَاع ، وصُحْبَان ؛ كشابٍّ وشُبَّان.
(2/1)
وقوله : ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ ؛ الروايةُ : إِنَّهَا بهاء التأنيث فقطْ ، وأعادها على الأُمَّة ، أو على الطائفة التي هي معنى حواريِّينَ وأصحاب ، ، ويَحْتَمِلُ أن يكون ضميرَ القِصَّة.
و الخُلوفُ بضمِّ الخاء : جمع خَلْفٍ ، بفتح الخاء وسكون اللام ، وهو القَرْنُ بعد القرن ، واللاحقُ بعد السابق ؛ ومنه قولُهُ تعالى : ُ " ف پ ـ ِ ، ويقالُ فيه : خَلَفٌ ، بفتح اللام ؛ ومنه قولُهُ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَحْمِلُ هذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ، وحكى الفَرَّاءُ الوجهَيْن في الذمِّ ، والفتحَ في المدحِ لا غير ، وحكَى أبو زَيْدٍ الوجهَيْن فيهما جميعًا.
بَابٌ : الإِيمَانُ يَمَانٍ ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، قَالَ : أَشَارَ النَّبِيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَحْوَ الْيَمَنِ ، فَقَالَ : أَلاَ إِنَّ الإِْيمَانَ ههُنَا ، وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الإِْبِلِ ، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ .
وَمِنْ بَابِ الإِيمَانُ يَمَانٍ ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ
قوله : أَشَارَ النَّبِيُّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَحْوَ الْيَمَنِ ، وَقَالَ : أَلاَ إِنَّ الإِْيمَانَ ههُنَا :
قيل : إنَّ هذه الإشارة صدَرَتْ عنه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بتَبُوكَ ، وبينه وبين اليمن : مكةُ والمدينة ؛ ويؤيِّد هذا : قولُهُ في حديث جابر ـ رضى الله عنه ـ : وَالإِْيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ ، فعلى هذا : يكونُ المرادُ بأهلِ اليمن : أهلَ المدينة ومَنْ يليهم إلى أوائلِ اليمن.
(2/2)
وقيل : كان بالمدينة ؛ ويؤيِّده أنَّ كونَهُ بالمدينة كان غالبَ أحوالِهِ ؛ وعلى هذا : فتكونُ الإشارة إلى سُبَّاقِ اليمن ، أو إلى القبائل اليمنيَّة الذين وَفَدُوا على أبي بكر ـ رضى الله عنه ـ لفتحِ الشامِ وأوائلِ العراق ؛ وإليهم الإشارةُ بقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنِّي لأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمنِ مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ ، أي : نَصْرَهُ في حياتِهِ وتنفيسَه عنه فيها ، وبعد مماته ، والله تعالى أعلم.
وسُمِّيَ اليَمَنُ يَمَنًا ؛ لأنَّه عن يمين الكعبة ، وسُمِّيَ الشامُ شامًا ؛ لأنَّه عن يسارِ الكعبة ، مأخوذٌ من اليدِ الشُؤْمَى ، وهي اليُسْرَى .
وقوله : وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الإِْبِلِ ، الْقَسْوَةُ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ : اسمان لمسمًّى واحدٍ ، وهو نحوُ قولِهِ تعالى : ُ 6 5 4 3 2 1 ِ ، والبَثُّ : هو الحُزْن.
قال المؤلِّف ، رحمه الله : وَيَحْتَمِلُ أن يقال : إِنَّ القسوةَ يرادُ بها : أنَّ تلك القلوبَ لا تَلِينُ لموعظة ولا تخشَعُ لِتَذْكار ، وغلظها : أن لا تَفْهَمَ ولا تَعْقِل.
وهذا أولى من الأوَّل.
و الفَدَّادون مشدَّدَ الدال : جمعُ فَدَّاد ؛ قال أبو عُبَيْدٍ : هم المُكْثِرون من الإبل ، وهم جُفَاةٌ أهلُ خُيَلاَءَ ، واحدهم : فدَّاد ، وهو الذي يملكُ من المائتين إلى الألف.
وقال أبو العبَّاس : هم الجَمَّالون والبَقَّارون ، والحَمَّارون والرُّعْيان.
وقال الأصمعيُّ : هم الذين تعلو أصواتُهُمْ في حروثهم وأموالهم ومواشيهم ، قال : والفديدُ : الصوت ، وقد فَدَّ الرجلُ يَفِدُّ فديدًا ؛ وأنشد :
أَعَاذِلُ مَا يُدْرِيكَ أَنْ رُبَّ هَجْمَةٍ
لأَِخْفَافِهَا فَوْقَ المِتَانِ فَدِيدُ
ورجلٌ فدَّاد : شديدُ الصوت.
وأمَّا الفَدَادون ، بتخفيف الدال : فهي البَقَرُ التي تحرُثُ ، واحدها : فَدَّانُ بالتشديد ، عن أبي عمرو الشَّيْبانيِّ.
(2/3)
قال الشيخ ، رحمه الله : وأمَّا الحديثُ فليس فيه إلاَّ روايةُ التشديد ، وهو الصحيحُ على ما قاله الأصمعيُّ وغيره.
وقوله : عِنْدَ أُُصولِ أَذْنَابِ الإِْبِلِ ، المراد به ، والله أعلم : الملازمون للإبِلِ ، السائقون لها.
ويظهر لي أنَّ الفَدَّادين هو العاملُ في عند ؛ فكأنَّه قال : المصوِّتون عند أذناب الإبِلِ ؛ سَوْقًا لها ، وحَدْوًا بها .
وقوله : حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ ، هذا تعيينٌ لمواضعهم ؛ كما قال في الرواية الأخرى : رَأسُ الكُفْرِ قِبَلَ المَشْرِقِ.
واختُلِفَ في قَرْنَيِ الشيطان :
فقيل : هما ناحيتا رأسِهِ العُلْيَاوان ، وهذا أصلُ هذا اللفظ وظاهره ؛ فإنَّ قَرْنَ الشيءِ أعلاه في اللغة ؛ فيكونُ معناه على هذا : أنَّ الشيطاَن ينتصبُ قائمًا مع طلوعِ الشمس لِمَنْ يسجد للشمس ؛ لِيُسْجَدَ له ، ويُعْبَدَ بعبادتها ، ويَفْعَلُ هذا في الوقت الذي يسجُدُ لها الكُفَّار ؛ كما قال ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنَّ الشمسَ تَطْلُعُ ومعها قَرْنُ الشَّيْطَان ، فإذا ارتفعَتْ فارَقَهَا ، ثُمَّ إذا استَوَتْ قارَنَهَا ، فإذا زالَتْ فارَقَهَا ، ثم إذا قارَبَتِ الغروبَ قارنَهَا ، ثم إذا غرَبَتْ فارَقَهَا.
وقيل : القَرْنُ الجماعةُ من الناس والأُمَّة ؛ ومنه قوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ، ثُمَّ الذين يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الذين يَلُونَهُمْ. وعلى هذا : فيكونُ معنى قَرْنَيِ الشيطان في الحديث : أنَّهما أُمَّتان عظيمتان يَعْبُدُونَ غيرَ الله تعالى ، ولعلَّهم في ذلك الوقت ربيعةُ ومُضَرُ المذكوران في الحديث ، أو أُمَّتَانِ من الفُرْسِ يعبدون الشمسَ ، ويَسْجُدُونَ لها مِنْ دون الله ؛ كما جاء في الحديث : وحينئذٍ يَسْجُدُ لها الكُفَّارُ .
وقال الخَطَّابِي : قَرْنُ الشيطانِ ضَرَبَ به المَثَلَُ فيما لا يُحْمَدُ من الأمور.
(2/4)
وقيل : المرادُ بهذا الحديث : ما ظهَرَ بالعراق من الفتنِ العظيمة ، والحروبِ الهائلة ؛ كوقعةِ الجَمَل ، وحروبِ صِفِّين ، وحَرُورَاء ، وفِتَنِ بني أميَّة ، وخُرُوجِ الخوارج ؛ فإنَّ ذلك كان أصلُهُ ، ومنبعُهُ العراقَ ومَشْرِقَ نَجْد ، وتلك مساكنُ ربيعةَ ومُضَرَ إذْ ذاك ، والله أعلم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً ، وَأَضْعَفُ قُلُوبًا ، الإِْيمَانُ يَمَانٍ ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ، السَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ ، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : رَأْسُ الْكُفْرِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ فِي الْمَشْرِقِ ، وَالإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ .
وقوله في أهل اليمن : هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً ، وَأَضْعَفُ قُلُوبًا ، يعني : مِنْ أهلِ المشرق ، لا مِنْ أهل الحجاز ؛ لأنَّه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال في الحديث الآخر : وَالإِْيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ ، واليَمَنُ من الحجاز ؛ كما سيأتي بيانُهُ إِنْ شاء الله تعالى.
وقد وصَفَ أهلَ اليمنِ في هذا الحديث بضدِّ ما وصَفَ به فيه أهلَ العراق ؛ فإنَّه قابَلَ وصفَي القسوةِ والغِلَظِ بوصفَيِ الرِّقَّةِ والضعف ؛ فالرقَّةُ في مقابلة القسوة ، والضعفُ يقابلُ الغِلَظَ ، فمعنى أَرَقُّ : أخشَعُ ، ومعنى أضعَفُ : أسرَعُ فَهْمًا وانفعالاً للخير.
و الأفئدة : جمعُ فؤاد ، وهو القلبُ ، وقيل : الفؤادُ داخلُ القلب ، أي : اللطيفةُ القابلةُ للمعاني مِنَ العلومِ وغيرها.
وقوله ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : الإِْيمَانُ يَمَانٍ ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ، قد تقدَّم القولُ في الإيمان.
(2/5)
والحِكْمَةُ عند العرب : ما منَعَ من الجهل والجفاء ، والحكيم : مَنْ منعهُ عقلُهُ وحِلْمُهُ من الجهل ؛ حكاه ابنُ عَرَفة ، وهو مأخوذٌ من حَكَمَةِ الدابَّة ، وهي الحديدةُ التي في اللجام ، سُمِّيَتْ بذلك ؛ لأنّها تمنعها.
وهذه الأحرف (ح ك م) حيثما تَصَرَّفَتْ فيها معنى المَنْع قال الشاعر :
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِموا سُفَهَاءَكُمْ
إِنِّي خَشِيتُ عَلَيْكُمْ أن أَغْضَبَا
وقيل في قوله تعالى : ُ ْ ّ ِ ِ : إنَّها الإصابةُ في القولِ والفهم ؛ قال مالك ، ـ رحمه الله ـ : الحِكْمةُ : الفِقْهُ في الدين.
وقوله : وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ ، أي : السكونُ والوَقَارُ والتواضع.
و الفَخْرُ : التفاخرُ بالآباءِ الأشراف وكثرةِ الأموال والخَوَل والجاه ، وغير ذلك مِنْ مراتب أهل الدنيا.
و الخُيَلاَء : ممدودٌ وزنُهُ عند سيبويه : فُعَلاَء ، وهي التكبُّرُ والتعاظم ؛ يقال : خالَ الرجلُ يَخُولُ ، فهو خَالٌ وذو خَالٍ ومَخِيلَةٍ ؛ ومنه قولُ طلحةَ لِعُمَرَ ـ رضى الله عنه ـ إنَّا لاَ نَخُولُ عليك ، أي : لا نتكبَّر عليك ، ويقالُ : اختالَ يختالُ فهو مختالٌ ؛ ومنه قولُهُ تعالى : ُ ] ش س ز ر ظ ِ.
و أهلُ الوَبَر ؛ يعني به : أهلَ ذات الوبر ، وهي الإبلُ ، والوَبَرُ للإبل كالصوفِ للغَنَمِ ، والشَّعْرِ للمَعْز ؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى : ُ 7 6 5 ج ث ت ِ.
وهذا منه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إخبارٌ عن أكثرِ حالِ أهلِ الغنم ، وأهلِ الإبلِ وأغلبه.
و رَأْسُ الْكُفْرِ : معظمُهُ ، ويريدُ : أنَّ كثرةَ أهلِهِ ورياستَهُمْ هناك.
و الحجاز سُمِّيَ بذلك ؛ لِحَجْزه بين نَجْدٍ وتِهَامَةَ ؛ قاله القتيبي ، ، وقال ابنُ دُرَيْد : لحجزه بين نجد والسَّرَاة ، ، قال الأصْمعي : إذا انحدَرْتَ من ثنايا ذاتِ عِرْق ، فقد أَتْهَمْتَ إلى البحر ، فإذا استَقْبَلَتْكَ الحِرَارُ ، فذلك الحجاز ، سمِّيت بذلك ؛ لأنَّها حُجِزَتْ بالحِرَارِ الخَمْس ، ، وقيل : حَدُّ الحجاز مِنْ جهة الشام : شَغْبٌ [وَبَدًا] ، ومما يلي تِهَامَةَ : بَدْرٌ وعُكَاظ.
(2/6)
قال بعضُ علمائنا : يجوزُ أن يكون المرادُ بالحجاز في هذا الحديث : المدينةَ فقطْ ؛ لأنه ِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : إِنَّ الإِْيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ .(2/7)
بَابٌ المَحَبَّةُ فِي اللهِ تَعَالَى وَالنُّصْحُ مِنَ الإِْيمَانِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ .
وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : الدِّينُ النَّصِيحَةُ ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَال : للهِ ، وَلِكِتَابِهِ ، وَلِرَسُولِهِ ، ولأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ .
وعَنْ جَرِيرٍ ؛ قَالَ : بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ . وَفِي رِوَايَةٍ : عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ - فَلَقَّنَنِي : فِيمَا اسْتَطَعْتَ - ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
وَمِنْ بَابٍ المَحَبَّةُ فِي اللهِ تَعَالَى وَالنُّصْحُ مِنَ الإِْيمَانِ
قوله : لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ؛ كذا صحَّت الروايةُ هنا : وَلاَ تُؤْمِنُوا ؛ بإسقاطِ النون ، والصوابُ : إثباتها كما قد وقع في بعض النسخ ؛ لأنَّ لا نَفْيٌ لا نهْيٌ ؛ فلزم إثباتها.
والإيمانُ المذكورُ أوَّلاً هو : التصديقُ الشرعيُّ المذكورُ في حديث جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والإيمانُ المذكور ثانياً هو : الإيمانُ العمليُّ المذكورُ في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : الإيمانُ بِضْعٌ وسبعون بابًا ، ولو كان الثاني هو الأوَّلَ ، لَلَزِمَ منه ألاَّ يدخلَ الجَنَّةَ مَنْ أبغَضَ أحدًا من المؤمنين ، وذلك باطلٌ قطعًا ؛ فتعيَّنَ التأويلُ الذي ذكرناه.
و إِفْشَاءُ السَّلاَمِ إظهارُهُ وإشاعته ، وإقراؤُهُ على المعروفِ وغيرِ المعروف.
(2/8)
ومعنى قولِهِ : لاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أي : لا يكمُلُ إيمانكم ولا يكونُ حالُكم حالَ مَنْ كَمُلَ إيمانُهُ ؛ حتى تُفْشُوا السلامَ الجالبَ للمحبَّة الدينيَّة ، والألفةِ الشرعيَّة.
وقوله : الدِّينُ النَّصِيحَةُ ، هي مصدرُ : نَصَحَ يَنْصَحُ ، نَصِيحَةً ، ونُصْحًا بضم النون ، فأمَّا نَصَحْتُ الثوبَ ، فمصدره : نَصْحًا بفتح النون ؛ قاله الجوهريُّ.
وقال الخطَّابِيُّ : النصيحةُ كلمةٌ يعبَّر بها عن جملةِ إرادةِ الخَيْرِ للمنصوح له ، وهي في اللغةِ : الإخلاصُ ؛ من قولهم : نَصَحْتُ العَسَلَ : إذا صَفَّيْتَهُ.
قال نِفْطَوَيْهِ : يقال : نَصَحَ الشيءُ : إذا خَلَصَ ، ونصَحَ له القولَ : أخْلَصَهُ له.
وقيل : هي مأخوذةٌ من النَّصْحِ بالفتح ، وهي الخِيَاطةُ ، والإبرة : المِنْصَحَة ، والنِّصَاح : الخَيْطُ ، والنَّاصِحُ : الخَيَّاط ؛ فكأنَّ الناصحَ لأخيه يَلُمُّ شَعَثَهُ ويَضُمُّهُ كما تَضُمُّ الإبرةُ خَرْقَ الثوب.
فالنصحُ للهِ تعالى : هو صحةُ اعتقادِ الوحدانيَّة لله تعالى ، ووصفُهُ بصفات الإلهية ، وتنزيهُهُ عن النقائص ، والرغبةُ في محابِّه ، والبُعدُ عن مَسَاخطه.
والنُّصُحُ لكتابِ الله تعالى : هو الإيمانُ به ، وتحسينُ تلاوته ، وتفهُّمُ معانيه ، وقد بُّرُ آياته ، وتوقيرُهُ وتعظيمه ، والدعاءُ إليه ، والذَّبُّ عنه.
والنصحُ لرسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هو التصديقُ بنبوَّته ، والتزامُ طاعتِهِ فيما أمَرَ به ونَهَى عنه ، وموالاةُ مَنْ والاه ، ومعاداةُ مَنْ عاداه ، وتوقيرُهُ وتعزيرُه ، ومحبَّتُهُ ومحبةُ آل بيته ، وتعظيمُ سُنَّتِه ، وإحياؤُهَا بعد موتِه ، بروايَتِهَا وتصحيحها ، والبَحْثِ عنها والتفقُّهِ فيها ، والذَّبِّ عنها ونَشْرِها والدعاءِ إليها ، والتخَلُّقِ بأخلاقِهِ الكريمة.
(2/9)
ونصيحةُ أئمَّةِ المسلمين : هي طاعتُهُمْ في الحقِّ ، ومعونَتُهُمْ عليه ، وتذكيرُهُمْ به ، وإعلامُهُمْ بما غَفَلُوا عنه أو جهلوه في أمر دينهم ومصالح دنياهم ، وبالجملة : فأَنْ يكونَ معهم كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن تُؤْتِيَهُمْ مَا تُحِبُّ أن يُؤْتَى إِلَيْكَ ، وتَكْرَهَ لَهُمْ ما تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ.
وقد تقدَّم القولُ على قولِهِ : لاَ يُؤْمِنُ أحدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَِخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وإذا كان هذا في حَقِّ المسلمين ، فالأمراءُ والأئمَّةُ بذلك أولى.
وقولُ جرير : بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ، كانتْ مبايَعَةُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابِهِ مرَّاتٍ متعدِّدَةً ، في أوقاتٍ مختلفة ، بحسَبِ ما كان يحتاجُ إليه مِنْ تجديدِ عهدٍ ، أو توكيدِ أمرٍ ؛ فلذلك اختلفَتْ ألفاظها ؛ كما دلَّتْ عليه الأحاديثُ الآتيةُ.
وقوله : فلَقَّنَني : فِيمَا اسْتَطَعْتَ :
رويناه : بفتح التاء على مخاطبته إيَّاه ؛ وعلى هذا : فيكونُ قوله : فَلَقَّنَنِي : فِيمَا اسْتَطَعْتَ مِنْ قول النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخاطِبًا له به ، فلا يحتاجُ جريرٌ إلى التلفُّظِ بهذا القول.
ورويناه : بضمِّ التاءِ للمتكلِّم ، وعلى هذا : فيكون النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرَهُ أن ينطق بهذا اللفظ ؛ ، فكأنَّه قال له : قلْ : "فيما استطَعْتُ" ، وعليه فيحتاجُ جريرٌ إلى النطق بذلك امتثالاً للأمر.
وعلى الوجهَيْن : فمقصودُ هذا القولِ التنبيهُ على أنَّ اللازمَ من الأمورِ المبايَع عليها هو ما يُطَاقُ ويُستطاع ، كما هو المُشْتَرَطُ في أصل التكليف ؛ كما قال الله تعالى : ُ َ ٍ ٌ ً ي ى ِ.
ويُشْعِرُ الأمرُ بقولِ ذلك اللفظِ في حال المبايعة : بالعَفْوِ عن الهفوة والسقطة ، وما وقع عن خطأٍ أو تفريط.
بَابٌ لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ كَامِلُ الإِْيمَانِ
(2/10)
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَغُلُّ حِينَ يَغُلُّ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ ! وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ ؛ ذَكَرَهُ بِأَسَانِيدَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَمِنْ بَابٍ لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ كَامِلُ الإِْيمَانِ
هذه الترجمةُ مشعرةٌ بأنَّ الأحاديثَ المذكورةَ تحتها ليستْ على ظواهرها ، بل متأوَّلَةٌ ، وهي تحتملُ وجوهًا من التأويلات ، أحدُهَا ما ذُكِرَ في الترجمة ، وسيأتي.
"والزِّنَى" في العُرْفِ الشرعيِّ : "هو إيلاجُ فَرْجٍ محرَّمٍ ، في فرجٍ محرَّمٍ شرعًا ، مُشْتَهًى طَبْعًا ، مِنْ حيثُ هو كذلك" ؛ فتحرَّزوا بـ"مُشْتَهًى طبعًا" من اللِّوَاطِ وإتيانِ البهيمة ، وبقولِهِ : مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ من وَطْءِ المُحْرِمةِ والصائمةِ والحائض ؛ فإنَّ تحريمَ ذلك مِنْ جهةِ الموانعِ الخارجيَّة.
وقوله : وَلا يَنْتَهِبُ أَحَدُكُمْ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ ، النُّهْبَةُ والنُّهْبَى : اسمٌ لما يُنْتَهَبُ من المال ، أي : يؤخذُ من غير قَسْمٍ ولا تقدير ، ومنه سُمِّيتِ الغنيمةُ نَهْبًا ، كما قال : وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ ، أي : غنيمةَ إبل ؛ لأنَّها تؤخذُ من غير تقدير ، وتقولُ العرب : أَنْهَبَ الرجلُ مالَهُ فانتهبُوهُ ونَهَبُوهُ وناهبوه ؛ قاله الجوهريُّ.
(2/11)
و ذَاتَ شَرَفٍ ، أي : ذاتَ قَدْرٍ وبالٍ ورفعة ، والروايةُ الصحيحةُ بالشين المعجمة ، وقد رواه الحربي : سَرَفٍ بالسين المهملة ، وقال : معناه : ذاتَ مقدارٍ كبير ينكره الناس ؛ كنَهْبِ الفُسَّاق في الفِتَنِ الماَل العظيمَ القَدْرِ مما يستعظمُهُ الناس ، بخلافِ التمرةِ والفَلْسِ وما لا خطَرَ له.
ومقصودُ هذا الحديثِ : التنبيهُ على جميع أنواعِ المعاصي ، والتحذيرُ منها :
فنبَّه بـ"الزِّنَى" : على جميع الشهواتِ المحرَّمة ؛ كشهوةِ النَّظَرِ ، والكلامُِ والسمعِ ، ولمسِ اليد ، ونَقْلِ الخُطَا إلى نيلِ تلك الشهوة ؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : زِنَى العَيْنِ النظرُ ، وزِنَى اللسانِ الكلامُ ، وزِنَى اليدِ البَطْشُ ، وزِنَى الرِّجْلِ الخُطَا ، والفَرْجُ يصدِّقُ ذلك ويكذِّبه.
ونَبَّه بـ"السَّرِقَةِ" : على اكتسابِ المال بالحِيَلِ الخفيَّة ، وبـ"النَّهْبِ" على اكتسابه على جهةِ الهَجْمِ والمغالبة ، وبـ"الغلول" : على أَخْذِهِ على جهة الخيانة ؛ هذا ما أشار إليه بعضُ علمائنا.
قال الشيخ رحمه الله : وهذا تنبيهٌ لا يتمشَّى إلاَّ بالمسامحة ، وأولَى منه أن يقال : إن الحديثَ تَضَمَّنَ التحذيرَ عن ثلاثةِ أمور هي مِنْ أعظمِ أصول المفاسد ، وأضدادُهَا مِنْ أُصولِ المصالح ، وهي استباحةُ الفروجِ المحرَّمةِ ، والأموالِ المحرَّمة ، وما يُؤَدِّي إلى الإخلال بالعقول ، [وخَصَّ الخَمْرَ بالذِّكْر ؛ لكونها أغلبَ الوجوه في ذلك ، والسرقة بالذكر ؛ لكونها أغلبَ الوجوه التي يؤخذُ بها مالُ الغير بغير حقٍّ].
(2/12)
وظاهرُ هذا الحديث : حُجَّةٌ للخوارجِ والمعتزلةِ وغيرهم ممَّن يُخْرِجُ عن الإيمانِ بارتكابِ الكبائر ، غيرَ أنَّ أهلَ السنة يعارضونهم بظواهرَ أُخَرَ أولى منها ، كقولِهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أبي ذَرٍّ : مَنْ مات لا يُشْرِكُ بالله شيئًا ، دَخَلَ الجنةَ وإنْ زنَى وإِنْ سرَقَ ، وكقوله في حديثِ عُبَادَةَ بْنِ الصامت : ومَنْ أصاب شيئًا مِنْ ذلك - يعني : مِنَ القتلِ والسَّرِقَةِ والزنى- فعُوقِبَ به ، فهو كَفَّارةٌ له ، ومَنْ لم يُعَاقَبْ ، فأمرُهُ إلى الله ؛ إنْ شَاءَ عفا عنه ، وإنْ شَاءَ عَذَّبَهُ.
ويعضُدُ هذا قولُهُ تعالى : ُ * ) } ـ صلى الله عليه وسلم ـ { " " ف پ ـ لله ِ ، ونَحْوُ ذلك في الأحاديثِ كثيرٌ.
ولمَّا صحَّتْ هذه المعارضةُ ، تعيَّن تأويلُ تلك الأحاديثِ الأُوَلِ وما في معناها ، وقد اختلَفَ العلماءُ في ذلك :
فقال حَبْرُ القرآنِ عبدُاللهِ ابنُ عبَّاس ـ رضى الله عنهما ـ : إنَّ ذلك محمولٌ على المستحِلِّ لتلك الكبائر.
وقيل : إنَّ معنى ذلك : أنَّ مرتكبَ تلك الكبائرِ يُسْلَبُ عنه اسمُ الإيمانِ الكاملِ أو النافعِ ، الذي يفيدُ صاحبَهُ الانْزِجَارَ عن هذه الكبائر.
وقال الحسن : يُسْلَبُ عنه اسمُ المدح الذي يسمَّى به أولياءُ اللهِ المؤمنون ، ويَستَحِقُّ اسمَ الذمِّ الذي يسمَّى به المنافقون والفاسقون.
وفي البخاري : عن ابن عبَّاس ـ رضى الله عنهما ـ : يُنْزَعُ منه نُورُ الإيمان. ورَوَى في ذلك حديثًا مرفوعًا ، فقال : مَنْ زَنَى ، نزَعَ اللهُ نُورَ الإيمانِ مِنْ قلبه ، فإنْ شاء أن يَرُدَّهُ إليه ، رَدَّهُ.
قال الشيخ : وكُلُّ هذه التأويلاتِ حسنةٌ ، والحديثُ قابلٌ لها ، وتأويلُ ابن عبَّاس هذا أحسنُهَا.
وقوله : وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ ، هذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إرشادٌ لمن وقَعَ في كبيرة أو كبائرَ ، إلى الطريقِ التي بها يتخلَّصُ منها ، وهي التوبةُ.
(2/13)
ومعنى كونها معروضةً ، أي : عرَضَهَا الله تعالى على العباد ، حيثُ أمرهم بها وأوجَبَهَا عليهم ، وأخْبَرَ عن نفسه أنَّه يقبلُهَا ؛ كلُّ ذلك فَضْلٌ من الله تعالى ، ولُطْفٌ بالعبد ؛ لِمَا عَلِمَ الله تعالى مِنْ ضَعْفِهِ عن مقاومةِ الحواملِ على المخالفاتِ - التي هي النفسُ والهوَى ، والشيطانُ الإنسيُّ والجِنِّيُّ - فلمَّا عَلِمَ الله تعالى أنَّه يقع في المخالفات ، رحمه بِأَنْ أرشدَهُ إلى التوبة ، فعرَضَهَا عليه وأوجبها ، وأخبَرَ بِقَبُولها.
وأيضًا : فإنَّه يجبُ على النُصَحاءِ أنْ يعرضوها على أهل المعاصي ويُعرِّفوهم بها ، وبوجوبها عليهم ، وبعقوبةِ الله تعالى لِمَنْ تركها ، وذلك كلُّه لطفٌ مُتَّصِلٌ إلى طلوع الشمس مِنْ مغربها ، أو إلى أن يُغَرْغِرَ العبدُ ؛ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
و بَعْدُ : ظرفٌ مبنيٌّ على الضمِّ ؛ لقطعِهِ عن الإضافة لَفْظًا ، وإرادةِ المضافِ ضِمْنًا ، ويقابلها قَبلُ ؛ كما قال الله تعالى : ُ ب إ ئ أ ؤ ء ِ .
بَابُ عَلاَمَاتِ النِّفَاقِ
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ ، كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ ، كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ .
وَفِي رِوَايَةٍ- مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- : آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ - وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ - : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ : وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ .
وَمِنْ بَابِ عَلاَمَاتِ النِّفَاقِ
قوله : أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ ، كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، قال ابنُ الأنباريِّ : "في تسميةِ المنافقِ منافقًا ثلاثةُ أقوال :
(2/14)
أحدها : أنَّه سمِّي بذلك ؛ لأنَّه يستُرُ كفره ؛ فأشبه الداخلَ في النَّفَق ، وهو السَّرَبُ.
وثانيها : أنه شُبِّهَ باليربوعِ الذي له جُحْرٌ يقال له : القَاصِعاء ، وآخَرُ يقال له : النَّافِقاء ، فإذا أُخِذَ عليه مِنْ أحدهما ، خرَجَ من الآخر ؛ وكذلك المنافق : يخرُجُ من الإيمانِ مِنْ غير الوجهِ الذي يدخُلُ فيه.
وثالثها : أنَّه شُبِّه باليربوعِ مِنْ جهة أنَّ اليربوع يَخْرِقُ الأرض ، حتى إذا قاربَ ظاهرَهَا ، أَرَقَّ الترابَ ، فإذا رَابه رَيْب ، دفَعَ الترابَ برأسِهِ فخرَجَ ، فظاهرُ جُحْرِهِ تراب ، وباطنُهُ حَفْر ، وكذلك المنافقُ : ظاهرُهُ الإيمان ، وباطنه الكفر".
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : وظاهرُ هذا الحديثِ : أنَّ مَنْ كانتْ هذه الخصالُ الثلاثُ فيه ، خرَجَ من الإيمان ، وصار في النفاق الذي هو الكُفْرُ الذي قال فيه مالكٌ : "النفاقُ الذي كان على عَهْدِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الزندقةُ عندنا اليَوْمَ".
وليس الأمرُ على مقتضى هذا الظاهرِ ؛ لِمَا قرَّرناه في أوَّلِ "كتابِ الإيمان" ، وأَعَدْناه في البابِ الذي قبلَ هذا ، ولمَّا استحالَ حملُ هذا الحديثِ على ظاهره على مذهبِ أهل السنة ، اختلَفَ العلماءُ فيه على أقوال :
أحدها : أنَّ هذاالنفاقَ هو نفاقُ العملِ الذي سألَ عمرُ عنه حذيفةَ ـ رضى الله عنهما ـ ، لما قال له : "هل تعلَمُ فيَّ شيئًا من النفاق؟" ، أي : مِنْ صفات المنافقين الفعليَّة ، ووجهُ هذا : أنَّ مَنْ كَانَتْ فيه هذه الخصالُ المذكورة ، كان ساترًا لها ، ومظهرًا لنقائضها ؛ فصدَقَ عليه اسمُ منافق.
وثانيها : أنّه محمولٌ على مَنْ غلبتْ عليه هذه الخصال ، واتَّخَذَها عادةً ، ولم يبالِ بها ؛ تهاوُنًا واستخفافًا بأمرها ؛ فإنَّ مَنْ كان هكذا ، كان فاسدَ الاِعتقادِ غالبًا ، فيكونُ منافقًا خالصًا.
(2/15)
وثالثها : أنَّ تلك الخصالَ كانتْ علامةَ المنافقين في زمانه ؛ فإنَّ أصحابَ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا مجتنبين لتلك الخصال ؛ بحيث لا تقع منهم ، ولا تُعْرَفُ فيما بينهم ؛ وبهذا قال ابنُ عبَّاس وابنُ عمر ـ رضى الله عنهم ـ ، ورُوِيَ عنهما في ذلك حديثٌ ، وهو أنهما أَتَيَا النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسألاه عن هذا الحديث ؟ فضحكَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : ما لكم ولهنَّ ، إنما خصَصْتُ بهنَّ المنافقين ، أنتم مِنْ ذلك بُرَآء ، وذكر الحديثَ بطولِهِ القاضي عياض ، قال : وإلى هذا صارَ كثيرٌ من التابعين والأئمَّة.
وقوله : وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ، أي : مال عن الحَقِّ ، واحتال في ردِّه وإبطاله ؛ قال الهَرَوِيُّ : "أصلُ الفجور : الميلُ عن القصد ، وقد يكونُ الكذبَ".
و الخَلَّةُ بفتح الخاء : الخَصْلة ، وجمعها : خِلاَل ، وبالضمِّ : الصداقة.
و الزُّعْمُ بضم الزاي : قولٌ غيرُ محقَّق ؛ كما تقدَّم.
وكونُهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَكَرَ في حديثِ أبي هريرة : أنَّ علامةَ المنافقِ ثلاثٌ ، وفي حديث ابن عمرو ـ رضى الله عنهما ـ : أنَّها أربعٌ : يَحْتَمِلُ أن يكونَ ذلك ؛ لأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ استجَدَّ [لَهُ] من العلم بخصالِ المنافقين ما لم يكُنْ عنده : إمَّا بالوحي ، وإمَّا بالمشاهَدَةِ لتك منهم.
وعلى مجموعِ الروايتَيْنِ : تكونُ خصالهم خمسًا : الكذبُ ، والغَدْرُ ، والإخلافُ ، والخيانةُ ، والفجورُ في الخصومة ، ولا شَكَّ في أنَّ للمنافقين خصالاً أُخَرَ مذمومةً ؛ كما قد وصفهم الله تعالى حيث قال : ُ ذ د خ ح ج ث ت ة ب ا ئ إ ؤ ِ ، فيحتملُ أن يقال : إنَّما خُصَّتْ تلك الخصالُ الخمسُ بالذِّكْر ؛ لأنَّها أظهرُ عليهم مِنْ غيرها عند مخالطتهم للمسلمين ، أو لأنَّها هي التي يَضُرُّون بها المسلمين ، ويقصدون بها مفسدتهم ، دون غيرها مِنْ صفاتهم ، والله تعالى أعلم.
بَابُ إِثْمِ مَنْ كَفَّرَ مُسْلِمًا أَوْ كَفَرَ حَقَّهُ
(2/16)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ قَال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأخِيهِ : كَافِرٌ ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا ، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إِلاَّ كَفَرَ ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ ، فَلَيْسَ مِنَّا ، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ، وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ ، أَوْ قَالَ : عَدُوَّ اللهِ - وَلَيْسَ كَذَلِكَ - إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ .
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي بَكْرَةَ ، كِلاَهُمَا قَالَ : سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي ، مُحَمَّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ - فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ .
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ .
وَعَنْ جَرِيرٍ ، قَالَ : قَالَ لِيَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : اسْتَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ ، ثُمَّ قَالَ : لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا ؛ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ .
وَعَنْهُ ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ ، فَقَدْ كَفَرَ ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ .
وَفِي آخَرَ : أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ .
وَفِي آخَرَ : إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ : الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ .
وَمِنْ بَابِ إِثْمِ مَنْ كَفَّرَ مُسْلِمًا أَوْ كَفَرَ حَقَّهُ
(2/17)
كَفَّرَ الأوَّلُ : مشدَّدٌ ، ومعناه : نسبَهُ إلى الكفر ، وحكَمَ عليه به ، وكفَرَ الثاني : مخفَّفٌ ، بمعنى : جحَدَ حقَّهُ ، ولم يقم به.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأخِيهِ : كَافِرٌ :
صوابُ تقييده : كافرٌ بالتنوين ، على أن يكون خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي : أنتَ كافر ، أو هو كافرٌ.
وربَّما قيَّده بعضهم : كَافِرُ بغير تنوين ؛ فجعله منادًى مفردًا محذوفَ حرف النداء. وهذا خطأٌ ؛ إذ لا يحذفُ حرفُ النداء مع النكرات ولا مع المُبْهَمات ، إلاَّ فيما جرى مجرى المَثَل ؛ في نحوِ قولهم : أَطْرِقْ كَرَا ، وافْتَدِ مخنوقُ ، وفي حديث موسى "ثَوْبِي حَجَرُ ، ثَوْبِي حَجَرُ" ، وهو قليلٌ.
و أصلُ الكفر أصله : التغطيةُ والستر ؛ ومنه سُمِّيَ الزارع : كافرًا ؛ ومنه قوله تعالى : ُ ف پ ـ ِ ، أي : الزُّرَّاع ، ومنه قول الشاعر :
...................
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
أي : ستَرَ وغطَّى ، والغمام : السحاب.
وأمَّا "الكفر" الواقعُ في الشرع ، فهو جحدُ المعلومِ منه ضرورةً شرعيَّةً ، وهذا هو الذي جَرَى به العُرْفُ الشرعيُّ.
وقد جاء فيه الكُفْرُ بمعنَى جَحْدِ المُنْعِم ، وتَرْكِ الشكرِ على النِّعَم ، وتركِ القيامِ بالحقوق ؛ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ للنساء : تَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ ، وتَكْفُرْنَ العَشِيرَ ، أي : يَجْحَدْنَ حقوقَ الأزواج وإحسانهم ؛ ومِنْ هنا صحَّ أن يقال : كفرٌ دون كفرٍ ، وظُلْمٌ دون ظلمٍ ، وسيأتي لهذا مزيدُ بيان.
وقوله : فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا ، أي : رجَعَ بإثمها ، ولازَمَ ذلك ؛ قال الهرويُّ : "أصلُ البَوَاء : اللزوم ؛ ومنه : أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ ، أي : أُقِرُّ بها وأُلْزِمها نفسي" ، وقال غيره من أهل اللغة : "إنَّ باء في اللغة : رجَعَ بِشَرٍّ.
والهاءُ في بها : راجعٌ إلى التكفيرةِ الواحدة التي هي أقلُّ ما يدلُّ عليها لفظ : كافر .
(2/18)
ويحتملُ : أن يَعُودَ إلى الكلمة ، ومعنى هذا : أنَّ المقولَ له كافر إن كان كافرًا كفراً شرعيًّا ، فقد صدَقَ القائلُ له ذلك ، وذهَبَ بها المقولُ له ، وإن لم يكنْ كذلك ، رجعَتْ للقائلِ مَعَرَّةُ ذلك القولِ وإثمُهُ.
و أحدهما هنا يعني به : المقول له على كلِّ وجه ؛ لقوله : إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ ، وأمَّا القائُل ، فهو المَعْنِيُّ بقوله : وَإِلاَّ ، رَجَعَتْ عَلَيْهِ .
وبيانُهُ بما في حديث أبي ذرٍّ الذي قال فيه : مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالكُفْرِ ، أَوْ قَالَ : عَدُوَّ اللهِ - ولَيْسَ كَذَلِكَ - إلاَّ حَارَ عَلَيْهِ ، أي : على القائل.
و حار : رجع ، ويعني بذلك : وِزْرَ ذلك وإثمَهُ.
وقوله : لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إِلاَّ كَفَرَ ، أي : انتسَبَ لغير أبيه رغبةً عنه مع عِلْمِه به.
وهذا إنَّما يفعله أهلُ الجفاءِ والجهلِ والكِبْر ؛ لِخِسَّةِ مَنْصِبِ الأب ودناءته ؛ فيرى الانتسابَ إليه عارًا ونقصًا في حقِّه.
ولا شكَّ في أنَّ هذا محرَّمٌ معلومُ التحريمِ ، فمَنْ فعَلَ ذلك مستحلاًّ ، فهو كافرٌ حقيقةً ، فيبقى الحديثُ على ظاهره.
وأمَّا إنْ كان غيرَ مستحلٍّ له ، فيكونُ الكفرُ الذي في الحديثِ محمولاً على كفرانِ النِّعَمِ والحقوقِ ؛ فإنَّه قابَلَ الإحسانَ بالإساءة ، ومَنْ كان كذلك ، صدَقَ عليه اسمُ "الكافر" ، وعلى فِعْلِهِ أنَّهُ "كُفْرٌ" ؛ لغةً وشرعًا على ما قرَّرْناه ، ، ويحتملُ أن يقال : أُطْلِقَ عليه ذلك ؛ لأنَّه تَشَبَّهَ بالكُفَّار أهلِ الجاهليَّةِ وألِ الكِبْرِ والأنفة ؛ فإنَّهم كانوا يفعلون ذلك ، والله تعالى أعلم.
(2/19)
وقوله : مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ ، فَلَيْسَ مِنَّا ، ظاهره : التبرِّي المُطْلَقُ ، فيبقى على ظاهره في حقِّ المستحِلِّ لذلك ؛ على ما تقدَّم. ويُتأوَّلُ في حقِّ غير المستحلِّ بأنَّه ليس على طريقة النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا على طريقةِ أهلِ دينه ؛ فإنَّ ذلك ظلمٌ ، وطريقةُ أهلِ الدِّينِ : العدلُ ، وتركُ الظلم ، ويكونُ هذا كما قال : لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ ، وَشَقَّ الجُيُوب ، ويقرُبُ منه : مَنْ لم يَأْخُذْ مِنْ شاربِهِ ، فليس مِنَّا.
وقوله : سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي : مُحَمَّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، الضميرُ في سَمِعَتْهُ ضميرُ المصدر الذي دَلَّ عليه سَمِعَتْهُ ، أي : سَمِعَتْ سمعًا أُذْنَايَ ؛ كما تقولُ العربُ : ظننتُهُ زيدًا قائمًا ، أي : ظَنَنْتُ ظنًّا زيدًا قائمًا ، وهذا الوجهُ أحسنُ ما يقالُ فيه إنْ شاء الله تعالى.
ويجوزُ : أن يكونَ الضميرُ عائدًا على معهودٍ متصوَّرٍ في نفوسهم ، ومحمّدًا بدلٌ منه ، والله أعلم.
وقوله : سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، أي : خروجٌ عن الذي يجبُ من احترامِ المسلم ، وحرمةِ عِرْضِهِ وسَبِّه ، وقد تقدَّم القولُ في الفِسْق.
وقوله : وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ، إنِ استباحَ دمه فهو رِدَّة ، وقد يحتمل : على التشبيه بأفعالِ الكفَّارِ دون الكفر.
وقوله : لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا ؛ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ، أي : لا تَشَبَّهُوا بالكفَّار في المقاتلةِ والمقاطعة.
وفيه : ما يدلُّ على أنَّ النَّبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعلم ما يكونُ بعده في أمَّته من الفتن والتقاتل ، ويَدُلُّ أيضًا : على قربِ وقوعِ ذلك مِنْ زمانه ؛ فإنَّه خاطَبَ بذلك أصحابَهُ ، وظاهُرُه : أنَّه أرادهم ؛ لأنَّه بهم أعنَى ، وعليهم أحنَى ، ويَحْتَمِلُ غيرَ ذلك.
وقوله : أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ ، فَقَدْ كَفَرَ ، محمولٌ على ما ذكرناه.
(2/20)
وقوله : فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ ، أي : ذِمَّةُ الإيمان وعهدُهُ وخَفَارَتُهُ : إنْ كان مستحلاًّ للإباق ، فيجبُ قتلُهُ بعد الاستتابة ؛ لأنَّه مرتدٌّ ، ، وإنْ لم يكن كذلك ، فقد خرَجَ عن حُرْمة المؤمنين وذِمَّتهم ؛ فإنَّهُ تجوزُ عقوبتُهُ على إباقه ، وليس لأحدٍ أن يحولَ بين سيَّده وبين عقوبتِهِ الجائزةِ إذا شاءها السَّيِّد.
ويقال : بَرِئْتُ مِنَ الرَّجُلِ والدَّيْنِ بَرَاءةً ، وبَرَأْتُ إليه أَبْرَأُ بُرْءًا وبُرُوءًا ، ويقالُ أيضًا : بَرُؤْتُ - بضمِّ الراء - أَبْرُؤُ.
وقوله : لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ ، إنْ كان مستحلاًّ ، حُمِلَ الحديثُ على ظاهره ؛ لأنَّه يكون كافرًا ، ولا يُقْبَلُ لكافرٍ عملٌ.
وإن لم يكنْ كذلك ، لم تصحَّ صلاتُهُ على مذهب المتكلِّمين في الصلاة في الدار المغصوبة ؛ لأنَّه منهيٌّ عن الكَوْنِ في المكانِ الذي يصلِّي فيه ، ومأمورٌ بالرجوع إلى سيِّده ، ، وأمَّا على مذهب الفقهاءِ المصحِّحين لتلك الصلاة ، فيمكنُ أن يُحْمَلَ الحديثُ على مذهبهم على أنَّ الإِثْمَ الذي يلحقه من الإباقِ أكثَرُ من الثواب الذي يدخُلُ عليه من جهة الصلاة ؛ فكأنَّ صلاتَهُ لم تُقْبَلْ ؛ إذْ لم يتخلَّصْ بسببها من الإثم ، ولا حصَلَ له منها ثوابٌ يتخلَّصُ به من عقابِ الله تعالى على إباقه ؛ فكان هذا كما قلناه في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنَّ شَارِبَ الخَمْرِ لاَ تُقْبَلُ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وقد كنا كتبنا في ذلك الحديثِ جزءًا حسنًا.
وقوله : اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ ، أي : مِنْ خصالِ أهلِ الكفر ؛ كما قال عليه السلام : أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهْنَّ : الطَّعْنُ فِي الأَْنْسَابِ ، وَالْفَخْرُ فِي الأَْحْسَابِ ، وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ ، وَالنِّيَاحَةُ.
بَابٌ نِسْبَةُ الاِخْتِرَاعِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً : كُفْرٌ
(2/21)
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ، فَقَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : قَالَ : أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا ، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ ، وَمِنْهُمْ كَافِرٌ ، قَالُوا : هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ : فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : [الواقِعَة : 75]{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *} حَتَّى بَلَغَ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ *}. [الواقعة : 75-82]
وَمِنْ بَابٍ نِسْبَةُ الاِخْتِرَاعِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً : كُفْرٌ
قوله : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ ، أكثرُ الرواة يشدِّدون ياء الحُدَيْبِيَّةِ ، وهي لغةُ أهلُ اليمن ، وأهل العراق يخفِّفونها ، ،
و الجِعِرَّانة يقولها أهلُ المدينة بكسر العين وتشديد الراء ، وأهلُ العراق يُسْكِنون العين ويُخفِّفون الراء ، ، و"ابنُ المسيِّب" : أهلُ المدينة يكسرون الياءَ مشدَّدة ، وأهلُ العراق يفتحونها مشدَّدة ، وكذلك قرأتُهُ ، وقيَّدته على مَنْ لَقِيته وقَيَّدتُّ عليه.
(2/22)
و الحديبية : موضعٌ فيه ماءٌ بينه وبين مَكَّة أميال ، وَصَلَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه وهو مُحْرِمٌ بعمرة قبل فتح مكَّة ، فصدَّه المشركون عن البيت ، فصالحهم وشرَطَ لهم وعليهم ، ولم يدخُلْ مكَّةَ في تلك السنة ، ورجَعَ إلى المدينة ، فلمَّا كان العامُ المقبلُ ، دخلها ، وسيأتي تفصيلُ ذلك كلِّه ، إنْ شاء الله تعالى.
و إثْرَ الشَّيْءِ بكسرِ الهمزة وإسكانِ الثاء المثلَّثة : بَعْدَهُ وعَقِبَهُ ، ويقال فيه : أَثَر ، بفتح الهمزة والثاء.
و السَّمَاءُ هنا المطرُ ، سُمِّي بذلك ؛ لأنَّه يَنْزِلُ من السماء ، وحقيقةُ السماء : كلُّ ما علاك فأظلَّك.
وقوله : فَلَمَّا انْصَرَفَ ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ، أي : انصرَفَ مِنْ صلاته ، وفرَغَ منها ؛ فظاهره : أنَّه لم يكن يثبت في مكان صلاتِهِ بعد سلامه ؛ بل كان ينتقلُ عنه ويتغيَّرُ عن حالته ، وهذا الذي استحبَّهُ مالك للإمامِ في المسجد ؛ كما سيأتي.
وقوله : أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ ، ظاهره : أنَّه الكُفْرُ الحقيقيُّ ؛ لأنَّه قابَلَ به المؤمنَ الحقيقيَّ ، فيُحْمَلُ على مَنِ اعتقَدَ أنَّ المطر مِنْ فعل الكواكبِ وخَلْقِها ، لا مِنْ فِعْلِ الله تعالى ؛ كما يعتقده بعضُ جهَّال المنجِّمين والطبائعيِّين والعَرَب.
فأمَّا من اعتقَدَ أنَّ الله تعالى هو الذي خلَقَ المَطَرَ واخترعَهُ ثُمَّ تكلَّم بذلك القولِ ، فليس بكافر ؛ ولكنَّه مخطئٌ من وجهَيْن :
أحدهما : أنّه خالَفَ الشرع ؛ فإنَّه قد حذَّر من ذلك الإطلاق.
وثانيهما : أنَّه قد تشبَّه بأهلِ الكفر في قولهم ، وذلك لا يجوزُ :
لأنَّا قد أَمَرَنَا بمخالفتهم ؛ فقال : خَالِفُوا المُشْرِكين ، وخَالِفُوا اليَهُودَ
(2/23)
ونُهِينَا عن التشبُّهِ بهم ؛ وذلك يقتضي الأَمْرَ بمخالفتهم في الأفعالِ والأقوالِ على ما يأتي إنْ شاء الله تعالى ، ، ولأنّ الله تعالى قد مَنَعَنا من التشبُّهِ بهم في النطق ، فقال : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا} ، لمَّا كان اليهودُ يقولون تلك الكلمةَ للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقصدون بها رعونتَهُ ، مَنَعَنَا اللهُ مِن إطلاقها وقولِهَا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنْ قَصَدْنا بها الخيرَ ؛ سَدًّا للذريعة ، ومنعًا من التشبُّهِ بهم.
فلو قال غير هذا اللفظ الممنوع يريدُ به الإخبارَ عمَّا أَجْرَى الله تعالى به سُنَّتَهُ ، جاز ؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إذا أنشَأَتْ بَحْرِيَّةٌ ثُمَّ تشاءَمَتْ ، فَتِلْكَ عَيْنٌ غَدِيقَةٌ.
وقوله : فَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ ، أي : مصدِّقٌ بأنَّ المطر خَلْقِي لا خلقُ الكواكب ، أَرْحَمُ به عبادي ، وأتفضَّل عليهم به ، كما قال : {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ *}.
و النَّوْء لغةً : النهوضُ بثِقَلٍ ، يقال : ناء بكذا : إذا نهَضَ به متثاقلاً ؛ ومنه قوله تعالى : {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} ، أي : لَتُثْقِلُهُمْ عند النهوضِ بها.
وكانت العَرَبُ إذا طلع نجمٌ من المشرِقِ وسقَطَ آخر من المغرب ، فحدَثَ عند ذلك مطرٌ أو ريح : فمنهم مَنْ يَنْسُبُهُ إلى الطالِعِ ، ومنهم مَنْ ينسبه إلى الغارب الساقِطِ نِسْبَةَ إيجادٍ واختراعٍ ، ويُطْلِقون ذلك القولَ المذكور في الحديث ، فنهى الشرعُ عن إطلاقِ ذلك ؛ لئلا يَعْتَقِدَ أحدٌ اعتقادَهُمْ ، ولا يتشبَّهَ بهم في نُطْقهم ، والله أعلم.
وقوله : أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ ، وَمِنْهُمْ كَافِرٌ ، أصلُ الشكر : الظهورُ ؛ ومنه قولهم : دابَّةٌ شَكُورٌ : إذا ظهر عليها من السِّمَن فوق ما تأكلُهُ من العلف.
(2/24)
و الشاكرُ : هو الذي يُثْنِي بالنعمةِ ويُظْهِرها ويعترفُ بها للمُنْعِم ، وجَحْدُهَا كفرانُهَا ؛ فمَنْ نسَبَ المطَرَ إلى الله تعالى ، وعرَفَ مِنَّتَهُ فيه ، فقد شكَرَ الله تعالى ، ، ومَنْ نسبه إلى غيره ، فقد جحَدَ نعمةَ الله تعالى في ذلك ، وظلَمَ بنسبتها لغير المُنْعِم بها ؛ فإن كان ذلك عن اعتقاد ، كان كافرًا ظالمًا حقيقةً ، وإن كان غير معتقد ، فقد تشبَّهَ بأهلِ الكفر والظلمِ الحقيقيِّ ؛ كما قلناه آنفًا .
وقد قابل في هذا الحديث بين الشكر والكفر ؛ فدلَّ ظاهره : على أن المراد بالكفر هنا : كفرانُ النعم ، لا الكفرُ بالله تعالى. ويحتملُ : أن يكون المرادُ به الكفرَ الحقيقيَّ ؛ ويؤيِّد ذلك استدلالُ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله تعالى : ُ = عع ؛ چ ِ ، أي : تجعلون شُكْرَ رزقِكُمُ التكذيبَ ؛ على حذفِ المضاف ؛ قاله المفسِّرون ، وقرأ عليٌّ : وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ ؛ فعبَّر عن الرزق بالشُّكْرِ ، والرزقُ : الشكرُ بلغَةِ أَزْدِ شَنُوءة ، يقال : ما أرزقَهُ ، أي : ما أشكَرهُ ، وما رزَقَ فلانٌ فلانًا ، أي : ما شَكَره.
وقوله : ُ ف ' ( % ِ ، {لا} صِلَةٌ لـ {أُقْسِمُ} ؛ قاله ابنُ عبَّاس.
وقرأ عيسى : لَأُقْسِمُ بحذفِ الألف ؛ كأنه قال : لَأُقْسِمَنَّ ، فحذَفَ نونَ التوكيد ، وكذلك قرأ الحسَنُ ، والقَوَّاس في رواية البَزِّيِّ : (( لَأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وتلزمُ ذلك النونُ الشديدةُ أو الخفيفةُ ، وحَذْفُهَا شاذٌّ.
و{مَوَاقع النُْجُومِ} مساقطها ، وقيل : مطالعها ، وقيل : انكدارُهَا وانتثارها يوم القيامة.
وقيل في تأويلِ الآية : إنها قَسَمٌ بقلبِ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والنجومُ هي آيُ القرآن ؛ لأنَّه أُنْزِلَ نجومًا ؛ روي ذلك عن ابن عبَّاس ، ـ رضى الله عنهما ـ ، والقَسَمُ : الإيلاءُ والحَلِفُ.
(2/25)
وهذا وأشباهه قَسَمٌ من الله تعالى على جهة التشريفِ للمقسَمِ به ، والتأكيدِ للمُقسَمِ له ، وأنَّه تعالى له أن يُقْسِمَ بما شاء مِنْ أسمائه وصفاتِهِ ومخلوقاتِهِ تشريفًا وتنويهًا ؛ كما قال : {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *} ، {وَالْعَادِيَاتِ} {وَالصَّآفَّاتِ} ، {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا *} ، {وَالنَّازِعَاتِ} ، ونحو هذا.
وقد تكلَّف بعضُ العلماء ، وقال : إنَّ المقسَمَ به في مثلِ هذه المواضع محذوفٌ للعلم به ؛ فكأنه قال : وربِّ الشمسِ ، وربِّ الليل.
والذي حمله على ذلك : أنَّه لمَّا سَمِع أنَّ الشرع قد نهانا أن نَحْلِفَ بغير الله تعالى ، ظنَّ أنَّ الله تعالى يمتنعُ مِنْ ذلك ، وهذا ظن قاصر وفهمٌ غيرُ حاضر ؛ إذْ لا يَلْزَمُ شيءٌ من ذلك ؛ لأنَّ للهِ تعالى أن يحكمَ بما شاء ، ويفعَلَ من ذلك ما يشاء ؛ إذْ لا يتوجَّهُ عليه حُكْم ، ولا يترتَّبُ عليه حَقٌّ. وأيضًا : فإنَّ الشرع إنما منعنا من القسمِ بغيرِ الله تعالى ؛ حمايةً عن التشبُّهِ بالجاهليةِ فيما كانوا يُقْسِمون به من معبوداتهم ومُعَظَّمَاتِهم الباطلةِ ؛ على ما يأتي الكلامُ عليه في "الأَيْمَان".
وقوله : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *} :
الكريم : الشريفُ الكثيرُ المنافعِ السَّهْلُهَا.
و المكنونُ : المَصُونُ المحفوظ.
ويعني بـ"الكتاب" : اللوحَ المحفوظَ ؛ كقوله تعالى : {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ *}.
و{الْمُطَهَّرُونَ} ، بحكم عُرْفِ الشرع : هم المتطهِّرون من الحدَثِ ؛ وعليه تكونُ {لاَ} نهيًا ، و{يَمَسُّهُ} مجزومٌ بالنهي ، وضُمَّتْ سينه لأجل الضمير ؛ كما قالوا : شُدُّهُ ومُدُّهُ.
ويجوزُ أن يكون خبرًا عن المشروعيَّة ، أي : لا يجوزُ مسُّهُ إلاَّ لمن تطهَّر من الحدث ، ويكونُ هذا نحوَ قولِهِ تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}.
(2/26)
فهذا تقريرُ وجهِ منِ استدلَّ بالآية على تحريمِ مَسِّ القرآنِ على غير طهارة ، وهُمُ الجمهور.
وأَمَّا مَنْ أجاز ذلك ، وهم أهلُ الظاهر : فحملوا الآية على أنَّها خبرٌ عمَّا في الوجود ، أي : لا يَمَسُّهُ ولا ينالُهُ ولا يباشرُهُ إلا الملائكةُ ، وهم المطهَّرون بالحقيقةِ ، وتكونُ هذه الآيةُ مثلَ قوله تعالى : {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ *} ؛ وإلى هذا صار مالكٌ في تفسير هذه الآية ، مع أنَّ مذهبَهُ أنَّه لا يجوزُ لِمُحْدِثٍ مسُّ المصحف ؛ أخذًا لهذا الحكم مِنَ السُّنَّةِ الثابتة عنده ، لا مِنَ الآية ، والله تعالى أعلم.
وقد قيل في الآية : {لاَ يَمَسُّهُ} : لا يفهمُهُ ولا يجدُ حلاوتَهُ إلا المؤمنون المحقِّقون.
والأول الظاهر .
وقوله تعالى : {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ *} ، يعني بـ الحديث : القرآنَ ؛ لأنه أحاديثُ عن الأممِ الماضيةُ والوقائعِ الآتية ، والأحكامِ الجارية ، ، {مُدْهِنُونَ} : مكذِّبون ، وأصله من الدَّهْن ؛ يقال : أَدْهَنَ ، وداهَنَ ، أي : ترَكَ ما هو عليه وتلبَّس بغيره.
بَابٌ حُبُّ عَلِيٍّ وَالأَْنْصَارِ آيَةُ الإيمَانِ ، وَبُغْضُهُمْ آيَةُ النِّفَاقِ
عَنْ أَنَسٍ ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ قَالَ : حُبُّ الأَنْصَارِ آيَةُ الإِيمَانِ ، وَبُغْضُهُمْ آيَةُ النِّفَاقِ .
وعَنِ الْبَرَاءِ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ فِي الأَنْصَارِ : لاَ يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ ؛ مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللهُ .
وَمِنْ بَابِ حُبُّ عَلِيٍّ وَالأَْنْصَارِ مِنَ الإيمَانِ
قوله : آيَةُ الإِْيمَانِ حُبُّ الأَْنْصَارِ الحديث :
الآيةُ : العَلاَمَةُ والدَّلاَلة ، وقد تكون ظَنِّيَّة ، وقد تكون قطعيَّة.
(2/27)
و حُبُّ الأَْنْصَارِ - من حيث كانوا أنصارَ الدِّينِ ومُظهِريهِ ، وباذلين أموالَهُمْ وأَنْفُسَهُمْ في إعزازِهِ وإعزازِ نبيِّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإعلاءِ كلمته - دلالةٌ قاطعةٌ على صِحَّةِ إيمانِ مَنْ كان كذلك ، وصحَّةِ محبَّته للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وبُغْضُهم لذلك : دلالةٌ قاطعةٌ على النفاق.
وكذلك القولُ في حُبِّ عليٍّ وبغضه ـ رضى الله عنه ـ وعنهم أجمعين : فمَنْ أحبَّه لسابقته في الإسلام ، وقِدَمِهِ في الإيمان ، وغَنَائِهِ فيه ، وذبِّه عنه وعن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولمكانته منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقرابتِهِ ومصاهرته ، وعلمِهِ وفضائله ، كان ذلك منه دليلاً قاطعًا على صِحَّةِ إيمانه ويقينِهِ ومحبتِهِ للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومَنْ أبغضَهُ لشيء من ذلك ، كان على العكس.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : وهذا المعنَى جارٍ في أعيان الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ - كالخلفاء ، والعَشَرة ، والمهاجرين - بل وفي كُلِّ الصحابة ؛ إذْ كُلُّ واحدٍ منهم له سابقةٌ وغَنَاءٌ في الدِّين ، وأَثَرٌ حَسَنٌ فيه ؛ فحبُّهم لذلك المعنى محضُ الإيمان ، وبُغْضُهُمْ له محضُ النفاق.
وقد دَلَّ على صحَّة ما ذكرناه : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما خرَّجه البَزَّار في أصحابه كلِّهم : فَمَنْ أحبَّهم فبحبِّي أحبَّهم ، ومَنْ أبغضَهُمْ فببغضي أبغَضَهُمْ .
لكنَّهم لما كانوا في سوابقهم ومراتبهم متفاوتين ، فمنهم المتمكِّن الأمكن ، والتالي ، والمقدَّم ، خَصَّ الأمكَنَ منهم بالذكر في هذا الحديث ، وإنْ كان كلٌّ منهم له في السوابق أشرَفُ حديث ، وهذا كما قال العليُّ الأعلى سبحانه : ُ ع غ [ گ ] ء _ . ر ، ِ إلى قوله : ُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ { " " ، ِ .
(2/28)
تنبيه : مَنْ أبغض بعضَ مَنْ ذَكَرْنا من الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ من غير تلك الجهات التي ذكرناها ، بل لأمرٍ طارئ ، وحدَثٍ واقعٍ ؛ من مخالفةِ غَرَضٍ ، أو ضررٍ حصل ، أو نحوِ ذلك : - لم يكنْ كافرًا ولا منافِقًا بسبب ذلك ؛ لأنهم ـ رضى الله عنهم ـ قد وقعتْ بينهم مخالفاتٌ كثيرةٌ عظيمة ، وحروبٌ هائلة ، ومع ذلك فلم يكفِّرْ بعضُهُمْ بعضًا ، ولا حُكِمَ عليه بالنفاقِ لِمَا جرى بينهم من ذلك ، وإنما كان حالُهُمْ في ذلك حالَ المجتهدين في الأحكام :
فإمَّا أن يكونَ كلُّهم مصيبًا فيما ظهَرَ له.
أو المصيبُ واحدٌ ، والمخطئُ معذورْ ، بل مخاطبٌ بالعملِ على ما يراه ويظنُّه مأجورْ.
فمَن وقع له بُغْضٌ في أحد منهم لشيءٍ من ذلك ، فهو عاصٍ يجبُ عليه التوبةُ من ذلك ، ومجاهدةُ نفسه في زوال ما وقَعَ له من ذلك ، بأنْ يتذكَّر فضائلَهُمْ وسوابقَهُمْ ، وما لهم على كلِّ مَنْ بعدَهم مِنَ الحقوقِ الدينيَّةِ والدنيوية ؛ إذْ لم يصلْ أحدٌ ممن بعدهم لشيءٍ من الدنيا ولا الدِّينِ إلا بهم وبسببهم ؛ وإذ بهم وصلَتْ لنا كلُّ النِّعَمْ ، واندفَعَتْ عنا الجهالاتُ والنِّقَمْ ، ومَنْ حَصَلَتْ به مصالِحُ الدنيا والآخِرَهْ ، فبغضُهُ كفرانٌ للنِّعَمِ الفاخرهْ وصفقتُهُ خاسِرَهْ.
وقوله : فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللهُ ، هذا على مقابلة اللفظ باللفظ ، ومعناه : أنَّ من أحبَّهم ، جازاه الله على ذلك جزاءَ المحبوبِ المُحِبَّ من الإكرامِ ، والتَّرْفِيع ، والتشفيع ، وعكس ذلك في البغض.
وظاهرُ هذا الكلام : أنَّه خبرٌ عن مآلِ حالِ كُلِّ واحدٍ من الصنفين.
ويصلح أنْ يقال : إنَّ ذلك الخبر خرَجَ مخرجَ الدعاء لكلِّ واحدٍ من الصنفين ؛ فكأنَّه قال : اللهمَّ ، افعَلْ بهم ذلك ، كما يقال : صلَّى اللهُ على محمَّد وآله ، والله أعلم.
(2/29)
وَعَنْ زِرٍّ ، عَنْ عَليٍّ قَالَ : وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ! إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَيَّ : أَنْ لاَ يُحِبَّنِي إِلاَّ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يُبْغِضَنِي إِلاَّ مُنَافِقٌ.
وقولُ عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ : وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ ، أي : شقَّها بما يخرُجُ منها ؛ كالنَّخْلة من النواة ، والسنبلةِ مِنْ حَبَّةِ الحنطة ، والحَبَّة بفتح الحاء : لما يُزْدَرَعُ ويُسْتَنْبَتُ ، وبكسرها : لبزر بُقُولِ الصحراء التي لا تزدرع .
وقوله : وبَرَأَ النَّسَمَةَ ، أي : خلقها ، والنَّسَمَةُ : النَّفْسُ ، وقد يقال على الإنسان : نَسَمة ، وقد يقال أيضًا على الرَّبْوِ ؛ ومنه الحديث : تنكَّبوا الغُبَارَ ؛ فمنه تكونُ النَّسَمَةُ ، أي : الرَّبْوُ والبُهْرُ ، وهو امتلاءُ الجوف من الهواء .
وقوله : إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَيَّ أَنْ لاَ يُحِبَّنِي إِلاَّ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يُبْغِضَنِي إِلاَّ مُنَافِقٌ :
العهد : الميثاق.
و الأُمِّيُّ : هو الذي لا يَكْتُبُ ؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ ، وهو منسوبٌ إلى الأُمِّ ؛ لأنَّه باقٍ على أصلِ وِلاَدتها ؛ إذ لم يتعلَّم كتابةً ولا حسابًا. وقيل : نُسِبَ إلى معظمِ أُمَّةِ العرب ؛ إذِ الكتابةُ كانتْ فيهم نادرةً.
وهذا الوصفُ مِنَ الأوصافِ التي جعلها الله تعالى مِنْ أوصافِ كمال النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومدَحَهُ بها ، وإنْ كان وَصْفَ نقصٍ بالنسبة إلى غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وإنَّما كان وصفَ نقصٍ في غيره ؛ لأنَّ الكتابةَ والدراسةَ والدُّؤُوبَ على ذلك : هي الطرقُ الموصِّلَةُ إلى العلومِ التي بها تشرُفُ نفسُ الإنسان ، ويعظُمُ قَدْرُهَا عادةً.
(2/30)
ولمَّا خَصَّ اللهُ تعالى نبيَّنا محمَّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعلومِ الأوَّلين والآخرين مِنْ غير كتابة ولا مدارسة ، كان ذلك خارقًا للعادة في حقِّه ، ومِنْ أوصافه الخاصَّةِ به ، الدالَّة على صدقه ، التي نُعِتَ بها في الكُتُبِ القديمة ، وعُرِفَ بها في الأممِ السالفة ؛ كما قال الله سبحانه وتعالى : ُ ٍ ٌ ً ي ى وه ن م ل ك ق ِ ؛ فقد صارت الأُمِّيَّةُ في حقِّه من أعظمِ معجزاتِه ، وأجلِّ كراماتِه ، وهي في حَقِّ غيره نقصٌ ظاهر ، وعجزٌ حاضر ؛ فسبحان الذي صيَّر نقصَنَا في حقِّه كمالاَ ، وزادَهُ تشريفًا وإجلالاَ!!
وقوله : أنْ لاَ يُحِبَّنِي ، بفتح همزة أَنْ لا ؛ لأنَّها همزةُ أَنِ الناصبةِ للفعل المضارع ، ، ويَحتمِل : أن تكون المخفَّفةَ من الثقيلة ؛ ولذلك يروى : يُحِبُّنِي ، بضمِّ الباء وفتحها ، وكذلك : يُبْغِضني ؛ لأنَّه معطوفٌ عليه.
والضميرُ في إنَّه ضميرُ الأمر والشأن ، والجملةُ بعده تفسيرٌ له.
بَابُ كُفْرَانِ العَشِيرِ ، وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أَنَّهُ قَالَ : يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ، تَصَدَّقْنَ ، وَأَكْثِرْنَ الاِسْتِغْفَارَ ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ . فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ : وَمَا لَنَا - يَا رَسُولَ اللهِ - أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ : تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ ! قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ ؟ قَالَ : أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ : فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ ؛ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ ، ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ وَمَا تُصَلِّي ، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ ؛ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ .
وَمِنْ بَابِ كُفْرَانِ العَشِيرِ ، وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ
(2/31)
قوله : يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ، تَصَدَّقْنَ ، وَأَكْثِرْنَ الاِسْتِغْفَارَ ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ، هذا نداءٌ لجميع نساء العالم إلى يوم القيامة ، وإرشادٌ لهنَّ إلى ما يُخَلِّصُهُنَّ من النار ، وهو الصدقةُ مطلقًا ، واجبُهَا وتطوُّعُهَا.
والظاهر : أنّ المراد هنا القدرُ المشترَكُ بين الواجبِ والتطوُّع ؛ لقوله في بعض طرقه : ولو مِنْ حُلِيِّكُنَّ.
و الاستغفار : سؤالُ المغفرة ، وقد يعبَّر به عن التوبة ؛ كما قال تعالى : ُ . - 0 / * ِ ، أي : توبوا إليه وإنما عبَّر عن التوبةِ بالاستغفارِ ؛ لأنَّه إنَّما يصدُرُ عن الندمِ وحَلِّ الإصرار ، وذلك هو التوبة.
فأمَّا الاستغفارُ مع الإصرارْ ، فحالُ المنافقين والأشرارْ ، وهو جديرٌ بالردِّ وتكثيرِ الأوزارْ ، وقد قال بعضُ العارفين : "الاستغفارُ باللسانِ توبةُ الكذَّابين".
وقوله : رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ، أي : اطَّلَعَ على نساءٍ آدميَّات ، من نوع المخاطَبَات ، لا أنفس المخاطبات ؛ كما قال في الرواية الأخرى : اطَّلَعْتُ عَلَى النَّارِ ، فَرَأَيْتُ َأكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ.
(2/32)
فلمَّا سمع النساءُ ذلك ، عَلِمْنَ أنَّ ذلك بسبب ذنبٍ سبَقَ لهنَّ ، فبادرَتْ هذه المرأةُ لجزالتها وشِدَّةِ حرصها على ما يُخَلِّصُ من هذا الأمر العظيم ، فسأَلَتْ عن ذلك ، فقالت : " وَمَا لَنَا أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ؟" ، فأجابها ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ ، وتَكْفُرْنَ العشيرَ ، أي : يدور اللعنُ على ألسنتهنَّ كثيرًا لمن لا يجوزُ لعنه ؛ وكأنَّ هذا كان عادةً جاريةً في نساء العرب ، كما قد غَلَبَتْ بعد ذلك على النساءِ والرجال ، حتَّى إنَّهم إذا استحسنوا شيئًا ربَّما لعنوه ، فيقولون : "ما أشعرَهُ! لَعَنَهُ الله!!" ، وقد حكى بعضهم أنَّ قصيدةَ ابنِ دُرَيْدٍ كانتْ تسمَّى عندهم : الملعونة ؛ لأنَّهم كانوا إذا سمعوها ، قالوا : "ما أشعرَهُ! لعَنَهُ اللهُ!!" ، وقد تقدَّم أنَّ أصل اللعن : الطردُ والبُعْد.
و العَشِير : هو المعاشرُ والمخالط مطلقًا ، والمرادُ به هنا : الزَّوْج ، والكفر : كفرانُ الحقوق ؛ ويدلُّ على صحَّة الأمرين : حديثُ الموطَّأ ، الذي قال فيه : يَكْفُرْنَ ، قيل : أَيَكْفُرْنَ بالله ؟ قال : يَكْفُرْنَ العَشِيرَ ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا ، قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ .
و الجَزَالَة : الشهامةُ والحِدَّة ، مع العقل والرفق ؛ قال ابن دُرَيْد : "الجزالةُ : الوقارُ والعقل ، وأصلُ الجزالة : العِظَمُ من كلِّ شيء ، ومنه : عطاءٌ جَزْلٌ.
و اللُّبُّ : العقلُ ، سمِّي بذلك ؛ لأنَّه خلاصةُ الإنسان ولبُّه ولبابُهُ ، ومنه سُمِّيَ قلب الحبَّة : لُبًّا.
والعقلُ الذي نُقِصَهُ النساء : هو التثبُّتُ في الأمور ، والتحقيقُ فيها ، والبلوغُ فيها إلى غاية الكمال ، وهُنَّ في ذلك غالبًا بخلافِ الرجال.
وأصل العقل : العلمُ ، وقد يقال على : الهدوءِ والوقارِ والتثبُّتِ في الأمور.
وللعلماءِ خلافٌ في حَدِّ العقل المشتَرَطِ في حَدِّ التكليف ليس هذا موضعَ ذكره.
(2/33)
و الدِّين هنا يرادُ به : العباداتُ ، وليس نقصانُ ذلك في حقِّهنَّ ذمًّا لهنَّ ؛ وإنَّمَا ذكر النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك مِنْ أحوالهنَّ على معنى التعجيبِ من الرجال ، حيثُ يغلبهم مَنْ نقَصَ عن درجتهم ، ولم يبلُغْ كمالهم ؛ وذلك هو صريحُ قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ ؛ وذلك نحوٌ ممَّا قاله الأعشى فيهنَّ :
وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ
ونحوُ قولهم فيما جرَى مجرى المثل : يَغْلِبْنَ الكِرَامْ ، ويَغْلِبُهُنَّ اللِّئَامْ.
وفيه : مايدلُّ على أنَّ الحائضَ لا تُصَلِّي ولا تصومُ مُدَّةَ حَيْضِها ، وهو مجمعٌ عليه ، وسيأتي القولُ فيه ، إن شاء الله تعالى ، وبالله تعالى التوفيق.
بَابُ تَرْكُ الصَّلاَةِ جَحْدًا أَوْ تَسْفِيهًا لِلأَْمْرِ كُفْرٌ
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي ، يَقُولُ : يَا وَيْلَهُ!-وَفِي رِوَايَةٍ : يَا وَيْلَتَا!- أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ ؛ فَلَهُ الْجَنَّةُ ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ ؛ فَلِيَ النَّارُ .
وَمِنْ بَابِ تَرْكُ الصَّلاَةِ جَحْدًا أَوْ تَسْفِيهًا لِلأَْمْرِ كُفْرٌ
قوله : بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ : تَرْكُ الصَّلاَةِ ، يعني : أَنَّ من تركَ الصلاَةَ ، لم يَبْقَ بينه وبين الكفر حاجزٌ يحجزه عنه ، ولا مانعٌ يمنعه منه ، أي : قد صار كافرًا ؛ وهذا إنَّما يكونُ بالاتِّفاق فيمَنْ كان جاحدًا لوجوبها.
فأمَّا لو كان معترِفًا بوجوبها ، متهاونًا بفعلها ، وتاركًا لها :
(2/34)
فالجمهورُ : على أنَّه يُقْتَلُ إذا أخرَجَهَا عن آخِرِ وقتها ، ثُمَّ هل يُقْتَلُ كُفْرًا ، أو حَدًّا ؟ :
فممَّن ذهَبَ إلى الأوَّل : أحمدُ بنُ حنبل ، وابنُ المبارك ، وإسحاقُ ، وابنُ حَبِيبٍ من أصحابنا ، ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ ـ رضى الله عنه ـ .
وممن ذهَبَ إلى الثاني : مالكٌ ، والشافعيُّ ، وكثيرٌ من أهل العلم ؛ قالوا : يقتل حَدًّا إذا عُرِضَتْ عليه فلم يفعلها ، ثم هل يستتاب أم لا ؟ قولان لأصحابنا.
وقال الكوفيُّون : لا يقتلُ ، ويؤخذُ بفعلها ، ويعزَّرُ حتى يفعلها.
والصحيحُ : أنََّه ليس بكافر ؛ لأنَّ الكفر الجحد ، وليس بجاحد ، ولأنَّ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال : خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ سبحانه على العِبَادِ ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ ؛ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ؛ فهذا نَصٌّ على أَنَّ تركَ الصلاةِ ليس بِكُفْر ، وأنَّه مما دون الشِّرْكِ الذي قال الله تعالى فيه : {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
واختلف العلماء في أخواتِ الصلاة من الفرائض ؛ كالزكاة ، والصيام ، والحج ، والوضوءِ ، والغُسْلِ من الجنابة ، هل يُقْتَلُ الآبي مِنْ فعِْلِهَا وإن اعترَفَ بوجوبها ، أو يعاقبُ حتى يَفْعَل ؟ وهل هو كافرٌ أم عاصٍ ؟ :
فذهب مالك : إلى أنَّ من قال : لا أتوضَّأُ ولا أصوم ، أنَّه يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل ، ، وإن قال : لا أُزَكِّي ، أُخِذَتْ منه كرهًا ، فإن امتنع ، قوتل ، ، فإنْ قال : لا أَحُجُّ ، لم يُجْبَرْ ؛ لكونِ فرضِهِ على التراخي.
(2/35)
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : هكذا أطلق أئمتنا ، وينبغي أن يقال : إنَّه إذا انتهى الممتنع إلى حالةٍ يخافُ معها الفَوْتَ ؛ كالهَرَمِ ، والمرض ، حُمِلَ على الفعل ؛ لئلا يُخْلِيَ زمانَهُ عن الحجِّ مع استطاعته ، ، وأما من يقول : إنَّ الحجَّ على الفور إذا حصلَتْ الاستطاعةُ ، فقياسُ مذهبه : يقتضي أن يُحْمَلَ على الفعل في تلك الحال ، لكنَّ أصحابنا لم يقولوا به ، ولا كفَّروه بترك الحجِّ كما فعلوا في الصلاة ؛ لأنَّ كونَ وجوبِهِ على الفور ليس بمعلومِ التحديد والتوقيف مِنَ الشرع ؛ كما هو في الصلاة ، وإنما قيل ذلك بالاجتهادِ والظَّنِّ ، والله أعلم.
وقال ابن حَبِيب : مَنْ قال عند الإمام : لا أصلِّي وهي عَلَيَّ ، قُتِلَ ولا يستتاب ، وكذلك من قال : لا أتوضَّأ ، ولا أغتسلُ من الجنابة ، ولا أصوم.
وقال أيضًا : مَنْ ترك الصلاةَ متعمِّدًا أو مُفَرِّطًا : كافرٌ ، ومَنْ ترك أخواتِهَا متعمِّدًا ؛ من زكاة ، وحجٍّ ، وصوم : كافر ، وقاله الحَكَم ابن عُتَيْبة وجماعةٌ من السلف.
وقوله : إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي :
أصلُ السجود في اللغة : الخضوعُ والخشوع ؛ قال زَيْدُ الخَيْلِ :
بِجَمْعٍ تَضِلُّ البُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ
تَرَى الأُكْمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
أي : خاضعةً.
ويقالُ أيضًا : على المَيْلِ ؛ يقال : سجَدَتِ النخلةُ ، أي : مالَتْ ، وسجدَتِ الناقةُ : طأطأَتْ رأسَهَا ، قال يعقوبُ : أسجَدَ الرجلُ : إذا طأطَأَ رأسه ، وسجَدَ : إذا وضع جبهتَهُ في الأرض ، وقال ابن دُرَيْد : أصلُ السجود : إدامةُ النظر مع إطراقٍ إلى الأرض.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : والحاصلُ أن أصلَ السجودِ : الخضوعُ ، وسُمِّيَتْ هذه الأحوالُ سجودًا ؛ لأنها تلازمُ الخضوع غالبًا ، ثم قد صار في الشرعِ عبارةً عن وضع الجبهة على الأرض على نحوٍ مخصوصٍ.
والسجودُ المذكور في هذا الحديث : هو سجودُ التلاوة ؛ لقوله : إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ... .
(2/36)
وقد اختُلِفَ في حُكْمه :
فذهَبَ الجمهور : إلى أنَّه مندوبٌ فعله.
وصار أبو حنيفة : إلى أنه واجب ؛ مستدلاًّ بهذا الحديث.
ووجهه : أنَّ إبليس عصَى بترك ما أُمِرَ به من السجود ؛ فذُمَّ ولُعِنَ ، وابنُ آدم أطاعَ بفعله ؛ فمُدِحَ وأُثِيبَ بالجنَّة ؛ فلو تَرَكَهُ ، لعصى ؛ إذ السجودُ نوعٌ واحد ، فلزم من ذلك كونُ السجود واجبًا.
والجوابُ : أنَّ ذمَّ إبليس ولَعْنَهُ لم يكنْ لأجلِ تَرْكِ السجود فقطْ ، بل لترك السجود عُتُوًّا على الله تعالى ، وكِبْرًا ، وتسفيهًا لأمره تعالى ، وبذلك كفَرَ ، لا بترك العملِ بمطلق السجود ؛ أَلاَ ترى قوله تعالى مُخبِرًا عنه بذلك حين قال : {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ، و{قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ *} ، وقال : {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.
سلَّمنا : أنَّه ذُمَّ على ترك السجود ، لكنْ لا نُسلِّمُ أنَّ السجودَ نوعٌ واحد ؛ فقد قال بعضُ المفسِّرين : إنَّ السجود الذي أمَرَ اللهُ تعالى به الملائكةَ إنَّما كان طأطأةَ الرأسِ لآدمَ ـ عليه السلام ـ تحيَّةً له ، وسجودُ التلاوة وَضْعُ الجبهة بالأرض على كيفيَّة مخصوصة ، فافترَقَا.
سلَّمنا : أنَّه نوعٌ واحد ؛ لكنَّه منقسمٌ بالإضافة ، ومتغايرٌ بها ، فيصحُّ أن يُؤْمَرَ بأحدهما ويُنْهَى عن الآخر ؛ كما يؤمَرُ بالسجود لله تعالى ويُنْهَى عن السجود للصنم ؛ فما أُمِرَ به الملائكةُ من السجود لآدم ـ عليه السلام ـ محرَّمٌ على ذُرِّيَّته ، كما قد حُرِّمَ ذلك علينا ؛ فكيف يُسْتَدَلُّ بوجوبِ أحدهما على وجوبِ الآخر ؟! وسيأتي القولُ في سجود القرآن في بابِهِ ، إنْ شاء الله تعالى.
(2/37)
وبكاءُ إبليسَ المذكورُ في الحديث : ليس ندمًا على معصيتِهِ ، ولا رجوعًا عنها ، وإنَّما ذلك لفرطِ حَسَده وغيظِهِ وألمِهِ بما أصابه مِنْ دخولِ أحدٍ من ذُرِّيَّةِ آدم ـ عليه السلام ـ الجنَّةَ ونجاتِهِ ، وذلك نحوٌ مِمَّا يعتريه عند الأذانِ ، والإقامةِ ويومِ عرفة ؛ على ما يأتي إنْ شاء الله تعالى.
وقوله : يَا وَيْلَتَا : الويلُ : الهلاك ، وويلٌ : كلمةٌ تقال لمن وقَعَ في هلكة ، والألف في يا ويلتا : للندبةِ والتفجُّع .
بَابٌ الإِيمَانُ بِاللهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الإِْيمَانُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : حَجٌّ مَبْرُورٌ .
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الإِيمَانُ بِاللهِ ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ ، قَالَ : قُلْتُ : أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا ، وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا ، قَالَ : قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ ؟ قَالَ : تُعِينُ ضَايِعًا ، أَوْ تَصْنَعُ لأَِخْرَقَ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ ؟ قَالَ : تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ .
وَمِنْ بَابٍ الإِْيمَانُ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد سُئِلَ عن أفضلِ الأعمال : الإْيمَانُ بِاللهِ ، يدلُّ على أنَّ الإيمانَ من جملة الأعمالِ ، وداخلٌ فيها ، وهو إطلاقٌ صحيحٌ لغةً وشرعًا ؛ فإنَّه عملُ القلب وكسبه ، وقد بَيَّنَّا أنَّ الإيمانَ هو التصديقُ بالقلب ، وأنَّهُ منقسمٌ إلى ما يكونُ عن برهان ، وعن غير برهان.
ولا يُلْتَفَتُ لخلافِ مَنْ قال : إنَّ الإيمانَ لا يسمَّى عملاً ؛ لجهله بما ذكرناه.
(2/38)
ولا يخفَى أنَّ الإيمانَ بالله تعالى أفضلُ الأعمال كلِّها ؛ لأنَّه متقدِّمٌ عليها ، وشرطٌ في صحَّتها ، ولأنَّه من الصفات المتعلِّقة ، وشرفُهَا بحسب متعلَّقاتها ، ومتعلَّقُ الإيمانِ : هو الله تعالى ، وكتبُهُ ، ورسلُهُ ، ولا أشرَفَ من ذلك ؛ فلا أشرَفَ في الأعمال من الإيمان ، ولا أفضَلَ منه.
وقوله : ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، ظاهرُ هذا الحديثِ : أنَّ الجهاد أفضلُ من سائر الأعمال بعد الإيمان ، وظاهرُ حديثِ أبي ذَرٍّ ـ رضى الله عنه ـ أنَّ الجهادَ مساوٍ للإيمان في الفضل ، وظاهرُ حديثِ ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ : يخالفهما ؛ لأنَّه أخَّر الجهادَ عن الصلاةِ ، وعن بِرِّ الوالدَيْن ، وليس هذا أحوالِ ؛ لأنَّه إنَّما اختلفَتْ أجوبتُهُ لاختلاف أحوالِ السائلين ، وذلك أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يجيبُ كلَّ سائلٍ بالأفضل في حقِّه ، وبالمتأكِّد في وقته :
فمن كان متأهِّلاً للجهاد ، وذا غَنَاءٍ فيه ، كان الجهادُ في حقِّه أفضلَ مِنَ الصلاةِ وغيرها ، وقد يكونُ هذا الصالِحُ للجهاد له أبوانِ يحتاجان إلى قيامِهِ عليهما ، ولو تركهما لضاعا ؛ فيكونُ بِرُّ الوالدَيْنِ في حقِّه أفضَلَ من الجهاد ، كما قد استأذن رجلٌ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجهادِ ، فقال : أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ ، قال : نعم ، قال : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ ، ، ، وهكذا سائرُ الأعمال.
وقد يكونُ الجهادُ في بعضِ الأوقاتِ أفضلَ مِنْ سائر الأعمال ، وذلك في وقتِ استيلاءِ العَدُوِّ ، وغَلَبتِهِ على المسلمين ؛ كحالِ هذا الزمان ، فلا يخفَى على مَنْ له أدنى بصيرة : أنَّ الجهادَ اليومَ أوكَدُ الواجبات ، وأفضلُ الأعمال ؛ لما أصابَ المسلمين مِنْ قَهْرِ الأعداء ، وكثرةِ الاستيلاء ، شرقًا وغربًا ، - جَبَرَ اللهُ صَدْعنا وجدّد نصرنا - .
والحاصل من هذا البحث : أنَّ تلك الأفضليَّةَ تختلفُ بِحَسَبِ الأشخاصِ والأحوال ، ولا بُعْدَ في ذلك.
(2/39)
فأمَّا تفصيلُ هذه القواعد مِنْ حيثُ هي ، فعلى ما تقدَّم في حديثِ ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ الذي قال فيه : بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ ، والله أعلم.
و الحَجُّ المَبْرُورُ : هو الذي لا يخالطُهُ شيءٌ من المآثم ؛
قاله شَمِرٌ ، وقيل هو المقبول ، وذُكِرَ أنَّ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل له : مَا بِرُّ الحَجِّ ؟ فَقَالَ : إِطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَطِيبُ الكَلاَمِ .
ويقال : بُرَّ حَجُّكَ ، بضمِّ الباء مبنيًّا للمفعول ، وبَرَّ اللهُ حَجَّكَ ، بفتحها للفاعل.
وقوله : أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ ؟ ، أي : في العتق .
و أَنْفَسُهَا : أَغْبَطُها وأَرْفَعُها ، والمالُ النفيس : هو المرغوبُ فيه ، قاله الأصمعيُّ ، وأصله : من التنافُسِ في الشيء الرفيع .
وقوله : فَإنْ لَمْ أَفْعَلْ ، أي : إنْ لم أَقْدِرْ عليه ، ولا تيسَّرَ لي ؛ لأنَّ المعلوم من أحوالهم : أنَّهم لا يمتنعون من فِعْلِ مِثْلِ هذا إلاَّ إذا تعذَّر عليهم.
وقوله : تُعِينُ ضَايِعًا ، الروايةُ المشهورة بالضاد المعجمة ، وبالياء باثنتَيْن مِنْ تحتها ، ورواه عبد الغافرِ الفارسيُّ : صَانِعًا بالصاد المهملة والنون ، وهو أحسَنُ ؛ لمقابلتِهِ لـ أخرق ، وهو الذي لا يُحْسِنُ العَمَلَ ؛ يقال : رجلٌ أخرَقُ ، وامرأةٌ خَرْقاء ، وهو ضدِّ الحاذق بالعمل ، فإنْ كان صانعًا حاذقًا ، قيل : رجلٌ صَنَعٌ ، وامرأةٌ صَنَاعٌ ، بألفٍ بعد النون ؛ قال أبو ذُؤَيْب في المذكَّر :
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُوِدَتَانِ قَضَاهُمَا
دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
وقال آخر في المؤنّث :
صَنَاعٌ بِإِشْفَاهَا حَصَانٌ بِشَكْرِهَا
جَوَادٌ بِقُوتِ البَطْنِ وَالعِرْقُ زَاخِرُ
والشَّكْر بفتح الشين : الفَرْج ، وبضمِّها : الثناءُ بالمعروف كما تقدم.
(2/40)
وقوله : تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ ؛ دليلٌ على أنَّ الكَفَّ فعلٌ للإنسان ، داخلٌ تحت كسبه يؤجَرُ عليه ، ويعاقَبُ على تركه ؛ خلافًا لبعض الأصوليِّين القائلِ : "إنَّ الترك نَفْيٌ محضٌ لا يدخُلُ تحتَ التكليف ولا الكَسْب" ؛ وهو قولٌ باطل بما ذكرناه هنا ، وبما بسطناه في "الأصول" ؛ غيرَ أنَّ الثواب لا يحصُلُ على الكَفِّ إلاَّ مع النيَّاتِ والقصود ، وأمَّا مع الغفلة والذهول ، فلا ، والله تعالى أعلم.
بَابٌ َأيُّ الأَعْمَالِ بَعْدَ الإِْيمَانِ أَفْضَلُ ؟
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا ، قَالَ : قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، قَالَ : قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلاَّ إِرْعَاءً عَلَيْهِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : الصَّلاَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا .
[ وَمِنْ بَابٍ أيُّ الأَعْمَالِ بَعْدَ الإِيمَانِ أَفْضَلُ ؟ ]
قوله : الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا ، هذه اللامُ للتأقيت ؛ كما قال تعالى : {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} ، أي : عند ذلك ؛ كما قال في الرواية الأخرى : الصَّلاَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا .
وقد روى الدَّارَقُطْنِيُّ هذا الحديثَ من طرق صحيحة وقال : الصَّلاَةُ لأَِوَّلِ وَقْتِهَا ، وهو ظاهرٌ في أنَّ أوائلَ أوقاتِ الصلوات أفضلُ ؛ كما ذهب إليه الشافعيُّ ، وعند مالك تفصيلٌ يأتي في الأوقات ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ : هو القيامُ بحقوقهما ، والتزامُ طاعتهما ، والرفقُ بهما ، والتذلُّلُ لهما ، ومراعاةُ الأدبِ معهما في حياتهما ، والترحُّمُ عليهما ، والاستغفارُ لهما بعد موتهما ، وإيصالُ ما أمكنَهُ من الخير والأَجْرِ لهما.
(2/41)
وقوله : مَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلاَّ إِرْعَاءً عَلَيْهِ ، أي : إلاَّ إبقاءً عليه ؛ لئلا أُحْرِجَهُ ، وأنتقصَ مِنْ حرمته ؛ قال صاحب "الأفعال" : "الإرعاءُ : الإبقاء على الإنسان".
وفيه من الفقه : احترامُ العالِمِ والفاضِلِ ، ورعايةُ الأدبِ معه وإنْ وَثِقَ بِحِلْمه وصَفْحه.
بَابُ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ، وَذِكْرِ الكَبَائِرِ
عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ ؟ قَالَ : أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ، قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ، قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَهَا : {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *}.
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ ثَلاَثًا : الإِْشْرَاكُ بِاللهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، أَوْ : قَوْلُ الزُّورِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُتَّكِئًا ، فَجَلَسَ ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا : لَيْتَهُ سَكَتَ!.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ، قِيلَ : يَارَسُولَ اللهِ ، وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاللهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ .
(2/42)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْه ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! قَالَ : نَعَمْ! يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ ؛ فَيَسُبُّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ ؛ فَيَسُبُّ أُمَّهُ .
وَمِنْ بَابٍ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ، وَذِكْرِ الكَبَائِرِ
قوله : أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ :
النِّدُّ : المِثْلُ ، وجمعه : أنداد ، وهذا نحوُ قوله تعالى : {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، ومعناه : أنَّ اتِّخَاذَ الإنسانِ إلهًا غيرَ خالقِهِ المُنْعِمِ عليه ، مع علمه بأنَّ ذلك المُتَّخَذَ ليس هو الذي خلقَهُ ، ولا الذي أنعَمَ عليه - : مِنْ أقْبَحِ القبائح ، وأعظمِ الجهالات ؛ وعلى هذا فذلك أكبَرُ الكبائر ، وأعظَمُ العظائم.
وقوله : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ، هذا مِنْ أعظمِ الذنوب ؛ لأنَّه قتلُ نفسٍ محرَّمةٍ شرعًا ، محبوبةٍ طبعًا ، مرحومةٍ عادةً ؛ فإذا قتلها أبوها ، كان ذلك دليلاً على غلبةِ الجَهْلِ والبُخْل ، وغِلَظِ الطبعِ والقسوة ، وأنَّه قد انتهَى من ذلك كلِّه إلى الغاية القُصْوَى.
وهذا نحوُ قوله تعالى : {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ} ، أي : فقرٍ ، وهذا خطابٌ لمن كان فقره حاصلاً في الحال ، فيخفّف عنه بقتلِ ولدِهِ مؤنتُهُ مِنْ طعامه ولوازمه ، وهذه الآية بخلافِ الآية الأخرى التي قال فيها : {خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ} ؛ فإنَّه خطابٌ لمن كان واجدًا لما يُنْفِقُ عليه في الحال ؛ غيرَ أنَّه كان يقتله مخافةَ الفقر في ثاني حال ، وكان بعضُ جفاةِ الأعرابِ وجُهَّالُهُمْ ربَّما يفعلون ذلك.
(2/43)
وقد قيل : إنَّ الأولاد في هاتَيْنِ الآيتَيْنِ هم البنات ، كانوا يدفنونهنَّ أحياءً ؛ أَنَفَةً وكبْرًا ، ومخافةَ العَيْلَةِ والمَعَرَّة ، وهي الموءودةُ التي ذكرها الله تعالى بقوله : {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ *}.
والحاصلُ : أنَّ أهلَ الجاهليَّةِ كانوا يصنعونَ كلَّ ذلك ؛ فنهى الله تعالى عن ذلك ، وعظَّم الإثمَ فيه والمعاقَبَةَ عليه ، وأخبَرَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّ ذلك مِنْ أعظمِ الكبائر.
وقوله : وَأَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ :
الحَلِيلَةُ ، بالحاء المهملة : هي التي يَحِلُّ وطؤها بالنكاح أو التسرِّي.
و الجار : المُجَاوِرُ في المسكن ، والداخلُ في جوار العهد.
و تُزَانِي : تحاولُ الزِّنَى ، يقال : المرأةُ تزاني مُزَانَاةً وزِنَاءً.
والزِّنَى - وإنْ كان من الكبائرِ والفواحش - لكنَّه بحليلة الجارِ أفحشُ وأقبح ؛ لما ينضمُّ إليه من خيانةِ الجار ، وهَتْكِ ما عظَّم الله تعالى ورسولُهُ مِنْ حرمته ، وشِدَّةِ قبح ذلك شرعًا وعادة ؛ فلقد كانتِ الجاهليةُ يتمدَّحون بصون حريمِ الجارْ ، ويَغُضُّون دونهم الأبصارْ ؛ كما قال عنترة :
وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي
حَتَّى يُوَارِيْ جَارَتِي مَأْوَاهَا
وقوله : فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَهَا : {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ...} الآية ؛ ظاهِرُ هذا : أنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ بسببِ هذا الذنبِ الذي ذكرَهُ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وليس كذلك ؛ لأنَّ الترمذيَّ قد روى هذا الحديثَ ، وقال فيه : وتلا النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الآيةَ : {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ...} الآيةَ ، بدَلَ : فَأَنْزَلَ اللهُ... ، وظاهرُهُ : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرأ بعد ذِكْرِ هذا الحديث ما كان قد أُنْزِلَ منها ، على أَنَّ الآيةَ قد تضمَّنَتْ ما ذكره في حديثِهِ بِحُكْمِ عمومها ، وسيأتي الكلامُ على هذه الآية في تفسيرِ "سُورَةِ الفرقان".
(2/44)
و عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ : عصيانُهُمَا ، وقَطْعُ البِرِّ الواجبِ عنهما ، وأصلُ العَقِّ : الشقُّ والقطع ، ومنه قيل للذبيحة عن المولود : عَقِيقَةٌ ؛ لأنَّه يُشَقُّ حُلْقُومها ؛ قاله الهَرَوِيُّ وغيره.
و شَهَادَةُ الزُّورِ : هي الشهادةُ بالكذب والباطل ، وإنما كانتْ مِنْ أكبر الكبائر ؛ لأنها يتوصَّلُ بها إلى إتلاف النفوسِ والأموال ، وتحليلِ ما حرَّم الله تعالى ، وتحريمِ ما أَحَلَّ ، فلا شيءَ من الكبائر أعظَمُ ضررًا ، ولا أكثَرُ فسادًا منها بعد الشرك ، والله تعالى أعلم.
وقوله : اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ ، أي : المُهْلِكات ، جمعُ مُوبِقَةٍ من أَوْبَقَ ، وَوَابِقَةٌ : اسم فاعل من وَبَقَ يَبِقُ وُبُوقًا : إذا هلَكَ ، والمَوْبِقُ : مَفْعِلٌ منه ، كالمَوْعِد : مَفْعِلٌ من الوعد ؛ ومنه قوله تعالى : ، ، وفيه لغة ثانية : وَبِقَ ، بكسر الباء ، يَوْبَقُ بالفتح ، وَبَقًا ، ، وفيه ثالثة : وَبِقَ يَبِقُ بالكسر فيهما ، وأوْبَقَهُ : أهلكه.
وسمَّى هذه الكبائرَ مُوبِقَاتٍ ؛ لأنَّها تُهْلِكُ فَاعِلَهَا في الدنيا بما يترتَّب عليها من العقوبات ، وفي الآخرة مِنَ العذاب.
ولا شكَّ في أنَّ الكبائرَ أكثَرُ مِنْ هذه السبع ؛ بدليلِ الأحاديثِ المذكورة في هذا الباب وفي غيره ؛ ولذلك قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ حين سئل عن الكبائر ، فقال : "هي إلى السبعينَ أقرَبُ منها إلى السبع" ، وفي رواية عنه : "هي إلى سبعمائةٍ أقرَبُ منها إلى سبع".
وعلى هذا : فاقتصارُهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذه السبعِ في هذا الحديث :
يَحْتملُ : أن تكونَ لأنَّها هي التي أُعْلِمَ بها في ذلك الوقت بالوحي ، ثُمَّ بعد ذلك أُعْلِمَ بغيرها.
ويَحْتملُ : أن يكون ذلك ؛ لأنَّ تلك السبع هي التي دعت الحاجةُ إليها في ذلك الوقت ، أو التي سُئِلَ عنها في ذلك الوقت ؛ وكذلك القولُ في كُلِّ حديثٍ خَصَّ عددًا من الكبائر ، والله تعالى أعلم.
وقد اختلفَ العلماءُ قديمًا وحديثًا في الكبائر ما هي ؟ وفي الفرق بينها وبين الصغائر :
(2/45)
فرُوِيَ عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ : أنَّ الكبائر : جميعُ ما نهى الله تعالى عنه من أوَّلِ سورةِ النساء إلى قوله : {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ...} الآية.
وعن الحسن : أنَّها كُلُّ ذنبٍ ختمه اللهُ تعالى بنارٍ أو غضبٍ أو لعنةٍ أو عذاب.
وقيل : هي كلُّ ما أوعَدَ اللهُ عليه بنارٍ ، أو بِحَدٍّ في الدنيا.
وروي عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : أنَّها كُلُّ ما نَهَى الله تعالى عنه.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : وما أظنُّه صحيحًا عنه ؛ لأنَّه مخالفٌ لما في كتابِ الله تعالى من التفرقةِ بين المنهيَّاتِ ، فإنَّه قد فرَّق بينها في قوله تعالى : {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ، وقولِهِ : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} ؛ فجعَلَ من المنهيَّات : كبائِرَ وصغائر ، وفرَّق بينهما في الحُكْمِ لمَاَّ جعَلَ تكفيرَ السيئاتِ في الآيةِ مشروطًا باجتنابِ الكبائر ، واستثنى اللَّمَمَ مِنَ الكبائرِ والفواحشِ ؛ فكيف يَخْفَى هذا الفَرْقُ على مثل ابن عباس وهو حَبْرُ القرآن؟! فتلك الروايةُ عن ابن عباس ضعيفةٌ ، أو لا تصحُّ ، وكذلك أكثَرُ ما روي عنه ؛ فقد كذَبَ الناسُ عليه كثيرًا.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : والصحيحُ إنْ شاء الله تعالى : أنَّ كلَّ ذنب أطلَقَ الشرعُ عليه أنَّهُ كبيرٌ ، أو عظيمٌ ، أو أخبَرَ بشدَّةِ العقابِ عليه ، أو علَّق عليه حَدًّا ، أو شَدَّدَ النكيرَ عليه وغلَّظه ، وشَهِدَ بذلك كتابُ اللهِ أو سنةٌ أو إجماعٌ - : فهو كبيرة.
والنظَرُ في أعيانِ الذنوب نظَرٌ طويلٌ لا يليق بهذا الكتاب ، وسيأتي القولُ في السحر ، إن شاء الله تعالى.
و الزَّحْفُ : القتال ، وأصله : المشي المتثاقل ؛ كالصَّبِيِّ يَزْحَفُ قبل أن يمشي ، والبعيرِ إذا أعيا ؛ فَجَرَّ رَسَنَهُ ، وقد سُمِّيَ الجيشُ بالزَّحْف ؛ لأنَّه يُزْحَفُ فيه.
(2/46)
والتَّوَلِّي عن القتال : إنما يكون كبيرةً إذا فَرَّ إلى غير فئة ، وإذا كان العدوُّ ضِعْفَيِ المسلمين ؛ على ما يأتي في الجهاد إن شاء الله تعالى.
و قَذْفُ المُحْصَنَاتِ : رَمْيُهُنَّ بالزنى ، والإحصانُ هنا : العِفَّةُ عن الفواحش ، وسيأتي ذكرُهُ إنْ شاء الله تعالى.
و الغَافِلاَتُ ، يعني : عمَّا رُمِينَ به مِنَ الفاحشة ، أي : هنَّ بريئات من ذلك ، لا خبَرَ عندهنَّ منه ، وسيأتي القولُ في الزنى.
وقوله : إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ ، يعني : مِنْ أكبرِ الكبائر ؛ لأنَّ شتم المسلمِ الذي ليس بِأَبٍ كبيرةٌ ، فشتمُ الآباءِ أكبَرُ منه.
وقوله : وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! استفهامُ إنكارٍ واستبعادٍ لوقوع ذلك مِنْ أحدٍ من الناس ، وهو دليلٌ على ما كانوا عليه من المبالغة في بِرِّ الوالدين ، ومِن الملازمةِ لمكارمِ الأخلاق والآداب.
وقوله : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ ؛ فَيَسُبُّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ ؛ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ، دليلٌ على أنَّ سبب الشيء قد ينزله الشرعُ منزلةَ الشيء في المَنْع ؛ فيكونُ حُجَّةً لمن منَعَ بيعَ العنبِ ممَّن يعصره خمرًا ، ومنَعَ بيعَ ثيابِ الحرير ممَّن يلبسها ، وهي لا تَحِلُّ له ، وهو أحدُ القولَيْن لنا.
وفيه : حُجَّةٌ لمالكٍ على القولِ بِسَدِّ الذرائع ، وهو مِنْ نحو قوله تعالى : {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، والذريعةُ : هي الامتناعُ مما ليس ممنوعًا في نفسه ؛ مخافةَ الوقوعِ في محظورٍ ؛ على ما بيَّنَّاه في "الأصول".
بَابٌ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ كِبْرٌ
(2/47)
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قَالَ : لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ، فقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً ؟ قَالَ : إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ؛ الْكِبْرُ : بَطَرُ الْحَقِّ ، وَغَمْطُ النَّاسِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ، وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ .
وَعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا الْمُوجِبَتَانِ ؟ قَالَ : مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ .
وَمِنْ بَابٍ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ كِبْرٌ
الكِبْرُ وَ الكِبْرِيَاء في اللغة : هو العظمة ، يقال منه : كَبُرَ الشيءُ ، بضمِّ الباء ، أي : عَظُمَ ، فهو كبيرٌ وكُبَار ، فإذا أفرَطَ قيل : كُبَّار ، بالتشديد ؛ وعلى هذا يكونُ الكِبْرُ والعظمةُ اسمَيْن لمسمًّى واحد.
وقد جاء في الحديث ما يُشْعِر بالفرق بينهما ؛ وذلك أنَّ الله تعالى قال : الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، والْعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا ، قَصَمْتُهُ ؛ فقد فرَّق بينهما بأنْ عبَّر عن أحدهما بالرداء ، وعن الآخر بالإزار ، وهما مختلفان ، ويَدُلُّ أيضًا على ذلك : قوله تعالى : فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا ؛ إذ لو كانا واحدًا ، لقال : فمَنْ نازعنيه .
(2/48)
فالصحيحُ إِذَنِ الفرقُ ، ووجهُهُ : أنَّ الكِبْرِيَاءَ : يستدعي متكبَّرًا عليه ؛ ولذلك لمَّا فسَّر الكِبْرَ ، قال : الْكِبْرُ : بَطَرُ الحَقِّ ، وَغَمْطُ النَّاسِ ، وهو احتقارُهُمْ ، فذكَرَ المتكبَّرَ عليه ، وهو الحقُّ أو الخَلْقُ ، والعَظَمَةُ : لا تقتضي ذلك.
فالمتكبِّرُ مُلاَحِظٌ ترفيعَ نفسِهِ على غيره بسببِ مزيَّةِ كمالها فيما يراه ، والمعظِّمُ مُلاَحِظٌ كمالَ نفسه مِنْ غير ترفيعٍ لها على غيره ، وهذا التعظيمُ هو المعبَّرُ عنه بالعُجْبِ في حقِّنا إذا انْضَاف إليه نِسْيانُ مِنَّةِ الله تعالى علينا فيما خصَّنا به مِنْ ذلك الكمال.
و إذا تقرَّر هذا : فالكِبْرِيَاءُ والعَظَمَةُ مِنْ أوصافِ كمالِ الله تعالى واجبان له ؛ إذْ ليس أوصافُ كمالِ الله تعالى وجلالُهُ مُستفادةً مِنْ غيره ، بل هي واجبة له لذواتها ، بحيثُ لا يجوزُ عليها العدَمُ ولا النقص ، ولا يجوزُ عليه تعالى نقيضُ شيءٍ من ذلك ، وكمالُهُ وجلالُهُ حقيقةٌ له ؛ بخلاف كمالنا ، فإنَّه مستفادٌ مِنَ الله تعالى ، ويجوزُ عليه العدَمُ وطروءُ النقيضِ والنقصِ.
وإذا كان هذا ، فالتكبُّرُ والتعاظُمُ خُرْقٌ مِنَّا ، ومستحيلٌ في حقِّنا ؛ ولذلك حرَّمهما الشرع ، وجعلهما من الكبائر ؛ لأنَّ مَنْ لاحظَ كمالَ نفسه ناسيًا مِنَّةَ الله تعالى فيما خصَّه به ، كان جاهلاً بنفسه وبربِّه ، مغترًّا بما لا أصلَ له ، وهي صفةُ إبليسَ الحاملةُ له على قوله : {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} ، وصفةُ فرعونَ الحاملةُ له على قوله : {أَنَا رَبُّكُمُ الأَْعْلَى} ، ولا أقبَحَ ممَّا صارا إليه ؛ فلا جَرَمَ كان فرعونُ وإبليسُ أَشَدَّ أهلِ النار عذابًا ؛ نعوذ بالله من الكِبْرِ والكفر.
وأمَّا مَنْ لاحظ مِنْ نفسه كمالاً ، وكان ذاكرًا فيه مِنَّةَ الله تعالى عليه به ، وأنَّ ذلك مِن تفضُّله تعالى ولطفه ، فليس مِنَ الكِبْرِ المذمومِ في شيء ، ولا مِنَ التعاظُمِ المذموم ، بل هو اعترافٌ بالنعمة ، وشُكْرٌ على المِنَّة.
(2/49)
والتحقيقُ في هذا : أنَّ الخَلْقَ كلَّهم قوالبُ وأشباح ، تجري عليهم أحكامُ القُدْرة ؛ فمَنْ خصَّه الله تعالى بكمالٍ ، فذلك الكمالُ يرجعُ للمكمِّلِ الجاعل ، لا للقالَبِ القابل.
ومع ذلك : فقد كمَّل الله تعالى الكمالَ بالثناءِ والجزاءِ عليه ؛ كما قد نقَصَ النقصَ بالذمِّ والعقوبةِ عليه ، فهو المُعْطِي والمُثْنِي ، والمُبْلِي والمعافي ؛ كيف لا وقد قال العليُّ الأعلى : أَنَا اللهُ خَالِقُ الخَيْرِ وَالشَّرِّ ؛ فَطُوبَى لِمَنْ خَلَقْتُهُ لِلْخَيْرِ وَقَدَرْتُهُ عَلَيْهِ ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ خَلَقْتُهُ لِلشَّرِّ وَقَدَرْتُهُ عَلَيْهِ ؛ فلا حِيلَةَ بعمل مع قهر ؛ {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ *}.
ولمَّا تقرَّر أنَّ الكِبْرَ يستدعي متكبَّرًا عليه ، فالمتكبَّرُ عليه :
إنْ كان هو اللهَ تعالى ، أو رُسُلَهُ ، أو الحَقَّ الذي جاءتْ به رسلُهُ : فذلك الكِبْرُ كُفْر.
وإن كان غَيْرَ ذلك : فذلك الكِبْرُ معصيةٌ وكبيرة ، يُخَافُ على المتلبِّس بها المُصِرِّ عليها أنْ تُفْضِيَ به إلى الكُفْر ، فلا يدخُلُ الجنَّة أبدًا.
فإن سَلِمَ مِنْ ذلك ، ونفَذَ عليه الوعيد ، عوقبَ بالإذلالِ والصَّغَارْ ، أو بما شاء اللهُ مِنْ عذابِ النارْ ، حتَّى لا يبقى في قلبه مِنْ ذلك الكِبْرِ مثقالُ ذَرَّه ، وخَلُصَ من خَبَثِ كِبْره حتى يصيرَ كالذَّرَّهِ ؛ فحينئذ يتداركُهُ الله تعالى برحمتِهْ ، ويخلِّصُهُ بإيمانِهِ وبركتِهْ.
وقد نصَّ على هذا المعنى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المحبوسين على الصِّرَاط لما قال : حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا ، أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ ، والله تعالى أعلم.
وقوله : إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ : الجمالُ لغةً : هو الحُسْنُ ؛ يقال : جَمُلَ الرجلُ يَجْمُلُ ، بالضمِّ ، جَمَالاً ؛ فهو جميلٌ ، والمرأةُ جميلة ، ويقال : جَمْلاَءُ ؛ عن الكِسائيِّ.
(2/50)
وهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ الجميل مِنْ أسماء الله تعالى ، وقال بذلك جماعةٌ من أهل العلم ، إلاَّ أنَّهم اختلفوا في معناه :
فقيل : معناه معنى الجليل ؛ قاله القشيريُّ.
وقيل : معناه ذو النُّورِ والبهجة ، أي : مالكُهُمَا ؛ قاله الخَطَّابيّ.
وقيل : جميلُ الأفعالِ بكُمْ والنظرِ إليكم ؛ فهو يُحِبُّ التجمُّلَ منكم في قلَّةِ إظهارِ الحاجة إلى غيره ؛ قاله الصَّيْرَفيُّ.
وقيل : الجميلُ : المنزَّهُ عن النقائص ، الموصوفُ بصفاتِ الكمال ، الآمِرُ بالتجمُّلِ له بنظافةِ الثياب والأبدان ، والنزاهةِ عن الرذائلِ والطغيان ، وسيأتي القولُ في أسماء الله تعالى.
و بَطَرُ الحقِّ : إبطالُهُ ؛ من قول العرب : ذهَبَ دمُهُ بِطْرًا أَوْ بِضْرًا ، أي : باطلاً ، وقال الأصمعيُّ : البَطَرُ : الحَيْرة ، أي : يتحيَّرُ عند الحقِّ ؛ فلا يراه حَقًّا.
و غَمْطُ النَّاسِ : احتقارُهُمْ واستصغارهم ؛ لما يرى مِنْ رِفْعته عليهم ، وهو بالغين المعجمة والطاء المهملة.
ويُرْوَى : غَمْص بالصاد المهملة في "كتاب الترمذي" ، ومعناهما واحد ؛ يقال : غَمَطَ الناسَ وغَمَصَهُمْ : إذا احتقرهم.
و المِثْقَالُ : مِفعالٌ من الثِّقَلِ ، ومِثقالُ الشيء : وزنه ، يقال : هذا على مِثْقَالِ هذا ، أي : على وزنه.
والمرادُ بـ الإيمان في هذا الحديث : التصديقُ القلبيُّ المذكورُ في حديث جبريل ـ عليه السلام ـ ، ويُستفادُ منه : أنَّ التصديق القلبيَّ على مراتب ، ويزيدُ وينقصُ ؛ على ما يأتي في "حديث الشفاعة" إن شاء الله تعالى.
وهذه النارُ المذكورةُ هنا : هي النارُ المُعَدَّةُ للكفَّارِ التي لا يُخْرَجُ منها مَنْ دخلها ؛ لأنَّه قد جاء في أحاديثِ الشفاعةِ المذكورةِ بعد هذا أنَّ خَلْقًا كثيرًا ممَّن في قلبه ذَرَّاتٌ كثيرةٌ من الإيمانِ يدخلون النار ، ثُمَّ يُخْرَجون منها بالشفاعة أو بالقَبْضة ؛ على ما يأتي.
(2/51)
ووجهُ التلفيق : أنَّ النارَ دَرَكَاتٌ ؛ كما قال الله تعالى : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَْسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، وأهلُهَا في العذاب على مراتبَ ودَرَكاتٍ ؛ كما قال الله تعالى : {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، وقال : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَْسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، ، وأنَّ نارَ مَنْ يعذَّبُ من الموحِّدين أخفُّها عذابًا ، وأقرَبُهَا خروجًا ؛ فمَنْ أُدْخِلَ النارَ من الموحِّدين ، لم يُدْخَلْ نار الكفَّار ، بل نارًا أخرى يموتون فيها ، ثُمَّ يُخْرَجون منها ؛ كما جاء في الأحاديث الصحيحة الآتية بعد هذا ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : ما المُوجِبَتَانِ ؟ سؤالُ مَنْ سمعهما ولم يدر ما هما ، فأجابَهُ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنَّهما : الإيمانُ ، والشِّرْك ، وسُمِّيَا بذلك ؛ لأنَّ الله تعالى أوجَبَ عليهما ما ذكره مِنَ الخلودِ في الجنة أو في النار.
وقوله : مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا ، دَخَلَ الجَنَّةَ ، أي : من لم يتخذْ معه شريكًا في الإلهية ، ولا في الخَلْقِ ، ولا في العبادة.
ومن المعلومِ مِنَ الشَّرْعِ المجمَعِ عليه مِنْ أهل السنَّهْ : أنَّ مَنْ مات على ذلك فلا بدَّ له من دخول الجنَّهْ ، وإنْ جرَتْ عليه قبل ذلك أنواعٌ من العذاب والمحنَهْ ، وأنَّ مَنْ مات على الشرك لا يدخُلُ الجَنَّهْ ، ولا يناله من الله تعالى رَحْمَهْ ، ويخلُدُ في النارِ أبدَ الآبادْ ، مِنْ غيرِ انقطاعِ عذابٍ ولا انصرامِ آمادْ ، وهذا معلومٌ ضروريٌّ من الدِّينْ ، مجمَعٌ عليه بين المسلمينْ.
(2/52)
وأما قولُ ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ المذكورُ في أصلِ "كتاب مسلم" - وهو قوله : قُلْتُ أَنَا : وَمَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا ، دَخَلَ الجَنَّةَ - فيعني بذلك : أنه لم يسمعْ هذا اللفظَ من النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصًّا ، وإنما استنبطَهُ استنباطًا من الشريعة ؛ فإمَّا مِنْ دليلِ خطابِ قولِهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا ، دَخَلَ النَّارَ ، أو مِنْ ضرورةِ انحصار الجزاءِ في الجنة والنار ، أو مِنْ غير ذلك.
وعلى الجملة : فهذا الذي لم يسمعه ابنُ مسعودٍ من النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو حقٌّ في نفسه ، وقد رواه جابرٌ في هذا الحديث من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ ولذلك اكتفينا به في "المختصَرِ" عن نقل قولِ ابن مسعود.
بَابٌ رُكُوبُ الكَبَائِرِ غَيْرُ مُخْرِجٍ المُؤْمِنَ مِنْ إِيمَانِهِ
عَنْ أَبي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أَنَّهُ قَالَ : أَتَانِي جِبْرِيلُ ـ عليه السلام ـ ، فَبَشَّرَنِي : أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا ، دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ : وَإِنْ زَنَى ، وَإِنْ سَرَقَ ، وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَهَا ثَلاَثًا ، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ : عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ يَقُولُ : وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ.
وَمِنْ بَابٍ رُكُوبُ الْكَبَائِرِ غَيْرُ مُخْرِجٍ المُؤْمنَ مِنْ إِيمَانِهِ
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَتَانِي جِبْرِيلُ ، فَبَشَّرَنِي : أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا ، دَخَلَ الجَنَّةَ ، يدلُّ على شِدَّةِ تَهمُّمِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمرِ أُمَّته ، وتعلُّقِ قَلْبِهِ بما يُنْجِيهم ، وخوفِهِ عليهم ؛ ولذلك سكَّن جبريلُ ـ عليه السلام ـ قلبَهُ بهذه البشرَى.
(2/53)
وهذا نحوٌ مِنْ حديثِ عمرو بن العاصي ـ رضى الله عنه ـ الذي يأتي بعد هذا الذي قال فيه : إنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلا قولَ إبراهيمَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وقولَ عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} ، فرفَعَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدَيْهِ وبكى ، وقال : يَا رَبِّ ، أُمَّتِي أُمَّتِي ، فنزَلَ عليه جبريلُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال له مُخْبِرًا عن الله تعالى : إِنَّ اللهَ َسيُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلاَ يَسُوؤُكَ.
وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُقْتَضَى ما جبله الله تعالى عليه من الخُلُقِ الكريمْ ، وأنَّه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمْ.
وقوله : لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا ، معناه - بحكم أصلِ الوضعِ - : ألاَّ يَتَّخِذَ معه شريكًا في الإلهية ، ولا في الخَلْقِ ؛ كما قدَّمناه.
لكنَّ هذا القولَ قد صار بحكمِ العُرْف : عبارةً عن الإيمان الشرعي ؛ أَلاَ تَرَى أنَّ من وحَّد الله تعالى ولم يؤمنْ بالنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لم ينفعْهُ إيمانُهُ بالله تعالى ولا توحيدُهُ ، وكان من الكافرين بالإجماعِ القطعيِّ.
وقوله : عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ ، رويناه بفتح الراء ، وهي إحدى لغاته ؛ فإنَّه يقال بفتحها وضَمِّها وكسرها ، وهو مصدرُ رَغِمَ ، بفتح الغين وكسرها ، وهو مأخوذٌ من الرَّغَامِ ، وهو التراب ، يقال : أرغَمَ اللهُ أنفه ، أي : أَلْصَقَهُ بالتراب ، ورَغِمَ أنفي لله ، أي : خضَعَ وذَلَّ ؛ فكأنَّه لَصِقَ بالتراب.
و المراغمةُ : المغاضبة ، والمُرَاغَمُ : المذهَبُ والمَهْرَب ، ومنه : {يَجِدْ فِي الأَْرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}.
(2/54)
وإنما واجَهَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا ذَرٍّ ـ رضى الله عنه ـ بهذه الكلماتِ ؛ لِمَا فهم عنه من استبعادِهِ دخولَ مَنْ زنى وسرق الجَنَّةَ ، وكان وقَعَ له هذا الاستبعادُ لسببِ ظاهرِ قَوْلِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ... الحديثَ ، وما هو في معناه ، فردَّ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الوَهْمَ وأنكره ، فكان هذا الحديثُ نَصًّا في الرَّدِّ على المُكَفِّرَةِ بالكبائر ؛ كما تقدَّم.
وخروجُ أبي ذَرٍّ قائلاً : وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ ، رجوعٌ منه عمَّا كان وقَعَ له من ذلك ، وانقيادٌ للحقِّ لمَّا تبيَّن له.
بَابٌ يُكْتَفَى بِظَاهِرِ الإِْسْلاَمِ ، وَلاَ يُنَقَّرُ عَمَّا فِي القُلُوبِ
عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ ؛ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنَ الْكُفَّارِ ، فَقَاتَلَنِي ، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ، ثُمَّ لاَذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ ، فَقَالَ : أَسْلَمْتُ لِلّهِ ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ ، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ : لاَ تَقْتُلْهُ ، قَالَ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا ، أَفَأَقْتُلُهُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ : لاَ تَقْتُلْهُ ؛ فَإِنْ قَتَلْتَهُ ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ ، وَفِي رِوَايَةٍ : فَلَمَّا أَهْوَيْتُ لأَِقْتُلَهُ ، قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.
(2/55)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي سَرِيَّةٍ ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً ، فَقَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، فَطَعَنْتُهُ ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَقَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَقَتَلْتَهُ؟! ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّمَا قَالَهَا ؛ خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ ، قَالَ : أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ؟! فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَالَ : وَلِمَ قَتَلْتَهُ ؟ فقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ ، فَقَتَلَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا - وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا - وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ ، قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَقَتَلْتَهُ؟! قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟! قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، اسْتَغْفِرْ لِي ، فقَالَ : فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟! ، قَالَ : فَجَعَلَ لاَ يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ : كَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟! .
وَمِنْ بَابٍ يُكْتَفَى بِظَاهِرِ الإِْسْلاَمِ ، وَلاَ يُنَقَّرُ عَمَّا فِي القُلُوبِ
قوله : أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الكُفَّارِ ، فَقَاتَلَنِي ؟ ، دليلٌ على جوازِ السؤالِ عن أحكامِ النوازلِ قبل وقوعها.
(2/56)
وقد رُوِيَ عن بعضِ السلف : كراهيَةُ الكلامِ في النوازلِ قبل وقوعها ، وهذا إِنَّما يُحْمَلُ على ما إذا كانتْ تلك المسائلُ مما لا يقَعُ ، أو يقعُ نادرًا ، ، فأمَّا ما يتكرَّر من ذلك ، ويكثُرُ وقوعه : فيجبُ بيانُ أحكامِهَا على مَنْ كانتْ له أهليةُ ذلك ، إذا خِيفَ الشُّغُور عن المجتهدين والعلماءِ في الحالِ أو في الاستقبال ؛ كما قد اتَّفَقَ لأئمَّةِ المسلمين مِنَ السلف : لما توقَّعوا ذلكْ ، فرَّعوا الفروعَ ودوَّنوها وأجابوا عما سُئِلُوا عنه مِنْ ذلكْ ؛ حِرْصًا على إظهارِ الدِّينْ ، وتقريبًا على مَنْ تعذَّرَتْ عليه شروطُ الاجتهادِ مِنَ اللاحقينْ.
وقوله : لاَذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ ، أي : استتَرَ ؛ يقال : لاَذَ يَلُوذُ لِوَاذًا : إذا استتَرَ ، والمَلاَذُ : ما يُسْتَتَرُ به.
وقوله : أَسْلَمْتُ لِلّهِ ، أي : دخلْتُ في دينِ الإسلامِ ، وتَدَيَّنْتُ به.
وفيه : دليلٌ على أَنَّ كلَّ مَنْ صدَرَ عنه أمرٌ مَّا يدُلُّ على الدخولِ في دينِ الإسلامِ مِنْ قولٍ أو فعل ، حُكِمَ له لذلك بالإسلام ، وأنَّ ذلك ليس مقصورًا على النطقِ بكلمتَيِ الشهادة.
وقد حكَمَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإسلامِ بني جَذِيمة الذين قتلهم خالدُ بنُ الوليد ، وهم يقولون : صَبَأْنَا صَبَأْنَا ، ولم يُحْسِنُوا أن يقولوا : أَسْلَمْنَا ، فلمَّا بلغ ذلك النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال : اللَّهُمَّ ، إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ ثلاثَ مرات ، رافعًا يدَيْهِ إلى السماء ، ثم وَدَاهُمْ.
على أنَّ قوله في هذه الرواية : أَسْلَمْتُ لِلّهِ يَحْتملُ أن يكونَ ذلك نقلاً بالمعنى ، فيكونُ بعض الرواة عبَّر عن قول : لا إله إلا الله بـ أَسْلَمْتُ ؛ كما قد جاء مفسَّرًا في رواية أخرى قال فيها : فَلَمَّا أَهْوَيْتُ لأَِقْتُلَهُ ، قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ .
(2/57)
و أَهْوَيْتُ : مِلْتُ لقتله ؛ قال الجوهريُّ : "أهوَى إليه بيده ليأخذه ، وقال الأصمعيُّ : أهوَيْتُ بالشيءِ : إذا أومأْتُ إليه ، ويقال : أهوَيْتُ له بالسيف ، ، فأمَّا هَوَى ، فمعناه : سقَطَ إلى أسفل ، ويقال : انهوى بمعناه ، فهو مُنْهَوٍ".
وقوله : إِنْ قَتَلْتَهُ ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ ، يعني ، والله أعلم : أنَّه بمنزلتِكَ في عِصْمة الدم ؛ إذْ قد نطَقَ - بما يوجبُ عصمتَهُ - من كلمتَيِ الإسلام.
وقوله : وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ ، ظاهره : في الكفر ، وليس ذلك بصحيح ؛ لأنَّه إنَّما قتله متأوِّلاً أنَّه باقٍ على كفره ؛ فلا يكونُ قتلُهُ كبيرةً ؛ وإذا لم يكنْ قتلُهُ كبيرةً ، لم يصحَّ لأحدٍ - وإنْ كان مكفِّرًا بالكبائر - أن يقول : "هذا كُفْرٌ" بوجه ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه متأوِّل.
وقد اختُلِفَ في تأويله :
فقال أبو الحسنِ بنُ القَصَّار : هو مثلُهُ في كونِهِ غيرَ معصومِ الدمِ مُعَرَّضًا للقِصَاص.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : وهذا ليس بشيء ؛ لانتفاء سَبَبِ القصاص ، وهو العَمْدُ العدوان ، وذلك منتفٍ هنا قطعًا ؛ لأنَّ المقدادَ تأوَّلَ ما تأوَّله أسامةُ بن زيد ـ رضى الله عنهما ـ : أنَّه قال ذلك خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ ؛ أَلاَ تَرَى قولَ المقداد : إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي ، ثُمَّ لاَذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ ، فَلَمَّا أَهْوَيْتُ لأَِقْتُلَهُ ، قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهْ .
غير أنَّ هذا التأويلَ لم يُسْقِطْ عنهما التوبيخَ والذم ، ولا يرفع المطالبةَ بذلك في الآخرة ؛ أَلاَ ترى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأسامة : كَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟! ، وكرَّر ذلك عليه ، ولم يَسْتغفِرْ له مع سؤالِ أسامةَ ذلك من النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(2/58)
وإنما لم يُسْقِطْ عنه التوبيخَ والتأثيمَ وإنْ كان متأوِّلاً ؛ لأنَّه أخطَأَ في تأويله ؛ وعلى هذا : فيمكنُ أن يحمل قوله : إِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ ، على أنَّه بمنزلتِهِ في استحقاقِ الذمِّ والتأثيم ، ويكونُ هذا هو التأويل الثاني فيه ، غير أنَّ الاستحقاقَ فيهما مختلفٌ ؛ فإنَّ استحقاقَ المقداد ـ رضى الله عنه ـ لذلك استحقاقُ مقصِّرٍ في اجتهاد مؤمن ، والآخَرُ استحقاقُهُ استحقاقُ كافر ، وإنما وقع التشبيهُ بينهما في مجرَّدِ الاستحقاقِ فقط ، والله أعلم.
التأويلُ الثالث : أنَّه بمنزلتِهِ في إخفاءِ الإيمان ، أي : لعلَّه ممن كان يخفي إيمانَهُ بين الكفَّار ، فأُخْرِجَ مكرهًا كما كنتَ أنت بمكَّة ؛ إذْ كنتَ تُخْفِي إيمانك.
ويَعْتَضِدُ هذا التأويلُ : بما زاده البخاريُّ في هذا الحديث ، من حديث ابن عبَّاسٍ ـ رضى الله عنهما ـ ؛ أنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للمقداد : إِذَا كَانَ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ ، فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ ؟ كذلك كُنْتَ تُخْفِي إيمانَكَ بمكة!!.
وقوله : فَصَبَّحْنَا الحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ ، رويناه بضم الراء وفتحها ، وهو موضعٌ معروفٌ من بلاد جُهَيْنَةَ ، سمِّي بجمع المؤنَّث السالم ؛ كعَرَفَات ، وأَذْرِعَات؟!.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأسامة ـ رضى الله عنه ـ : أَقَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَقَتَلْتَهُ؟! ، وتكرارُ ذلك القولِ عليه : إنكارٌ شديد ، وزجرٌ وكيد ، وإعراضٌ عن قبول عذر أسامة الذي أبداه بقوله : إِنَّمَا قَالَهَا ؛ خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ .
وقوله : أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ؟! ، أي : أقالها بقلبه ، وتكلَّمَ بها مع نفسه؟!.
ففيه : دليلٌ لأهل السنَّة على أنَّ في النَّفْسِ كلامًا وقَوْلاً ؛ فهو رَدٌّ على مَنْ أنكَرَ ذلك من المعتزلةِ وأهلِ البدع.
وفيه : دليلٌ على ترتيبِ الأحكامِ على الأسبابِ الظاهرة الجليَّة ، دون الباطنةِ الخفيَّة.
(2/59)
وقوله : فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ ، أي : كلمةَ الإنكار ، وظاهرُ هذه الرواية : أنَّ الذي كُرِّرَ عليه إنَّما هو قولُهُ : أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ؟! ، وفي الرواية الأخرى أنَّ الذي كُرِّرَ عليه إنَّما هو قولُهُ : كَيْفَ تَصْنَعُ بلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟! .
ووجهُ التلفيقِ بينهما : أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كرَّر الكلمتَيْن معًا ، غيرَ أنَّ بعضَ الرواةِ ذكَرَ إحدى الكلمتَيْن ، والآخَرُ ذكَرَ الأخرى.
وقوله : كَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؟! ، أي : بماذا تحتجُّ إذا قيل لك : كيف قَتَلْتَ مَنْ قال : لا إله إلاَّ الله ، وقد حصلَتْ لدمِهِ حرمةُ الإسلام؟!.
وإنَّما تمنَّى أسامةُ أن يتأخَّر إسلامُهُ إلى يوم المعاتبة ؛ لِيَسْلَمَ من تلك الجناية السابقة ، وكأنَّه استصغَرَ ما كان منه مِنَ الإسلامِ والعملِ الصالح قبل ذلك ، في جَنْب ما ارتكَبَ من تلك الجناية ؛ لِمَا حصَلَ في نفسه من شدَّةِ إنكارِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذلك ، وعِظَمِهِ.
فإنْ قيل : "إذا استحال أن يكونَ قتلُ أسامةَ لذلك الرجلِ عمدًا ؛ لِمَا ذكرتم ، وثبَتَ أنَّه خطأ ، فلِمَ لم يُلْزِمْهُ الكَفَّارةَ ، والعاقلةَ الديةَ؟" :
فالجوابُ : أنَّ ذلك مسكوتٌ عنه ، وغيرُ منقولٍ شيءٌ منه في الحديث ولا في شيءٍ من طرقه ؛ فيَحْتَمِلُ أن يكونَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكَمَ بلزومِ ذلك على أسامةَ وعاقلتِهِ ولم يُنْقَلْ.
وفيه بعد ؛ إذْ لو وقَعَ شيءٌ من ذلك ، لَنُقِلَ في طريقٍ من الطرق ، مع أنَّ العادة تقتضي التحدُّثَ بذلك والإشاعةَ.
وَيَحْتملُ أن يقال : إنَّ ذلك كان قبل نزولِ حُكْمِ الكفَّارة والدية ، والله أعلم.
وقد أجاب أصحابنا عن عدمِ إلزامِ الدية بأجوبةٍ ، نذكُرُهَا على ضَعْفها :
(2/60)
أحدها : أنَّها لم تَلْزَمْهُ ولا عاقلتَهُ ؛ لأنَّه كان مأذونًا له في أصل القتال ؛ فلا يضمَنُ ما يكونُ عنه مِنْ إتلافِ نفسٍ أو مال ؛ كالخاتِنِ والطَّبِيب.
وثانيها : إنَّما لم يَلْزَمْهُ ذلك ؛ لأنَّ المقتولَ كان من العدوِّ وفيهم ، ولم يكنْ له وليٌّ من المسلمين يستحقّ ديته ، فلا تجبُ فيه ديةٌ ؛ كما قال الله تعالى : {فَإِنْ كَانَ} {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، ولم يحكُمْ فيه بسوى الكفَّارة ؛ وهذا يتمشَّى على مذهب ابنِ عبَّاسٍ وجماعةٍ من أهل العلم في الآية.
وقد ذهب بعضهم : إلى أنَّ الآية فيمن كان أولياؤُهُ مُعَانِدين ، وقد ذُكِرَ عن مالك ، والمشهورُ عنه : أنها فيمَنْ لم يهاجِرْ من المسلمين ؛ لقوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.
وثالثها : أنَّ أسامةَ اعترَفَ بالقتل ، ولم تَقُمْ بذلك بيِّنة ، ولا تَعْقِلُ العاقلةُ عمدًا ولا عبدًا ، ولا صُلْحًا ولا اعترافًا ، ولم يكنْ لأسامةَ مالٌ فتكونَ فيه الديةُ.
قال الشيخ : وهذه الأوجُهُ لا تسلَمُ من الاعتراض ، وتتبُّعُ ذلك يُخْرِجُ عن المقصود.
ولم أجدْ لأحدٍ من العلماء اعتذارًا عن سقوطِ إلزامِ الكفارة ؛ فالأَوْلى التمسُّكُ بالاحتمالَيْن المتقدِّمَيْن ، والله أعلم.
بَابٌ فِيمَنْ تَبَرَّأَ مِنْهُ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ ، فَلَيْسَ مِنَّا .
وَفِي حَدِيثِ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِيهِ : مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ ، فَلَيْسَ مِنَّا .
(2/61)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا ، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ ، فقَالَ : أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ : أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟! مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي!! .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ ، أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ ، أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ .
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ، وَأَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى ، قَالاَ : أُغْمِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللهِ تَصِيحُ بِرَنَّةٍ ، قَالاَ : ثُمَّ أَفَاقَ ، فَقَالَ : أَلَمْ تَعْلَمِي - وَكَانَ يُحَدِّثُهَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ .
وَمِنْ بَابِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْهُ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قوله : مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ ، فَلَيْسَ مِنَّا ، أي : مَنْ حَمَلَ علينا بالسلاحِ مقاتلاً ؛ كما قال في الرواية الأخرى : مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ ، فَلَيْسَ مِنَّا ، ويعني بذلك النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسَهُ وغيرَهُ من المسلمين.
ولا شكَّ في كفرِ من حارب النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وعلى هذا فيكونُ قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فَلَيْسَ مِنَّا ، أي : ليس بمسلمٍ ، بل هو كافرٌ.
وأمَّا مَنْ حاربَ غيرَهُ مِنَ المسلمين متعمِّدًا مستَحِلاًّ مِنْ غير تأويل ، فهو أيضًا كافرٌ كالأول.
وأمَّا مَنْ لم يكنْ كذلك ، فهو صاحبُ كبيرةٍ ، إنْ لم يكنْ متأوِّلاً تأويلاً مسوَّغًا بوجه.
(2/62)
وقد تقدَّم أنَّ مذهبَ أهلِ الحقِّ : أنَّه لا يكفُرُ أحدٌ من المسلمين بارتكابِ كبيرةٍ ما عدا الشِّرْك ؛ وعلى هذا فيحمَلُ قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لَيْسَ مِنَّا في حقِّ مِثْلِ هذا على معنى : ليس على طريقتنا ، ولا على شريعتنا ؛ إذْ سُنَّةُ المسلمين وشريعتهم : التواصُلُ والتراحُم ، لا التقاطُعُ والتقاتل ؛ ويجري هذا المَجْرَى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ غَشَّنَا ، فَلَيْسَ مِنَّا ، ونظائرِهِ ، وتكونُ فائدتُهُ : الرَّدْعَ والزَّجْرَ عن الوقوع في مثل ذلك ؛ كما يقولُ الوالدُ لولدِهِ إذا سلَكَ غيرَ سبيله : "لَسْتُ مِنْكَ ، ولَسْتَ مِنِّي!" ؛ كما قال الشاعر :
إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا
فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
و صُبْرَةُ الطَّعَامِ : هي الجملةُ المصبورة ، أي : المحبوسةُ للبيع ، والصَّبْرُ : هو الحَبْس.
و السَّمَاءُ هنا : المطر ، سمِّي بذلك ؛ لنزوله مِنَ السماء ، وأصلُ السماء : كلُّ ما علاك فأظلَّك.
و الغِشُّ : ضدُّ النصيحة ، وهو بكسر الغين ؛ يقال : غَشَّهُ يَغُشُّهُ غِشًّا ، وأصله من اللبن المغشوش ، أي : المخلوطِ بالماءِ تدليسًا.
و دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ هنا : هي النياحةُ ، ونُدْبَةُ الميِّت ، والدعاءُ بالويل ، والنَّعْيُ ، وإطراءُ الميِّت بما لم يكنْ فيه ؛ كما كانتِ الجاهليَّةُ تفعل.
وَيَحْتملُ أن يراد بها : نداؤهم عند الهِيَاجِ والقتال : يا بني فلانٍ ، منتَصَرًا بهم في الظُّلْمِ والفساد ، وقد جاء النهي عنها في حديث آخر وقال : دَعُوهَا ؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ ، وأمَرَ بالانتماءِ إلى الإسلامِ ، فقال : ادْعُوا بِدَعْوَةِ المُسْلِمِينَ الَّتِي سَمَّاكُمُ اللهُ بِهَا.
والأولُ : أليقُ بهذا الحديث ؛ لأنَّه قَرَنَهُ بضربِ الخدود ، وشَقِّ الجيوب.
وقوله : أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ ، أصلُ البراءة : الانفصالُ عن الشيء ، والبينونةُ منه ؛ ومنه : البراءةُ من العُيُوبِ والدَّيْن.
(2/63)
وَيَحْتمل أن يريد به : أنَّه متبرِّئٌ من تصويبِ فِعْلِهِمْ هذا ، أو مِنَ العهدةِ اللازمةِ له في التبليغ.
و حَلَقَ ، أي : شَعْرَهُ عند المصيبة.
و سَلَقَ ، أي : رفَعَ صوتَهُ بها ، ويقال بالسين والصاد ؛ ومنه قوله تعالى : {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ؛ ومنه قولهم : خَطِيبٌ مِسْلاَق ، وقال أبو زيد : السَّلْقُ : الوَلْوَلَةُ بصوتٍ شديد.
وذُكِرَ عن ابن الأعرابي : أنَّه ضَرْبُ الوجه.
والأوَّلُ : أصحُّ وأعرف.
بَابٌ فِيمَنْ لاَ يُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ
عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قَالَ : فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثَلاَثَ مِرَارٍ ، فقَالَ أَبُو ذَرٍّ : خَابُوا وَخَسِرُوا ! مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : الْمُسْبِلُ ، وَالْمَنَّانُ ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ ، فِي رِوَايَةٍ : الْمُسْبِلُ إِزَارَهُ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلا يُزَكِّيهِمْ ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : شَيْخٌ زَانٍ ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ .
(2/64)
وَعَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلاَةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ ، ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً سِلْعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ ، لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا ، فَصَدَّقَهُ ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لا يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَا ؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : سَاوَمَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ .
وَمِنْ بَابِ مَنْ لاَ يُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قوله : لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ ، أي : بكلامِ مَنْ يرضى عنه.
ويجوز : أن يكلِّمهم بما يكلِّمُ به مَنْ سَخِطَ عليه ؛ كما جاء في البخاري : يَقُولُ اللهُ لِمَانِعِ المَاءِ : اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي ؛ كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ ، وقد حكى الله تعالى أنَّه يقولُ للكافرين : {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ *}.
وقيل : معناه : لا يكلِّمهم بغير واسطة ؛ استهانةً بهم.
وقيل : معنى ذلك : الإعراضُ عنهم ، والغضَبُ عليهم.
ونَظَرُ الله تعالى إلى عباده : رحمتُهُ لهم ، وعطفُهُ عليهم ، وإحسانُهُ إليهم ، وهذا النظَرُ هو المنفيُّ في هذا الحديث.
وقوله : {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} ، قال الزجَّاج : لا يُثْنِي عليهم ، ومن لم يُثْنِ عليه ، عذَّبه ، ، وقيل : لا يُطَهِّرهم مِنْ خُبْثِ أعمالهم ؛ لعظيمِ جُرْمهم.
و العذاب الأليم : الشديدُ الألمِ المُوجِعُ.
وقوله : المُسْبِلُ إِزَارَهُ ، أي : الجارُّهُ خُيَلاَءَ ؛ كما جاء في الحديث الآخر مقيَّدًا مفسَّرًا.
و الخُيَلاَء : الكِبْرُ والعُجْب.
(2/65)
ويَدُلُّ هذا الحديثُ بمفهومه : على أنَّ مَنْ جَرَّ ثوبه على غير وجه الخيلاء ، لم يَدْخُلْ في هذا الوعيد ؛ ولمَّا سَمِعَ أبو بكر هذا الحديثَ ، قال : يا رسولَ الله ، إنَّ جَانِبَ إزاري يسترخي ، فقال له النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لَسْتَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ ؛ خرَّجه البخاري.
وحُكْمُ الإزارِ والرداءِ والثوبِ في ذلك سواءٌ ؛ وقد روى أبو داود مِنْ حديثِ ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ : أنّ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : الإسْبَالُ في الإِزَارِ وَالقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ ؛ فَمَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلاَءَ ، لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وفي طريقٍ أخرى قال ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ : "ما قاله رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الإزارِ ، فهو في القَمِيصِ".
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : وقد بيَّن النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحدَّ الأحسَنَ والجائزَ في الإزار الذي لا يجوزُ تعدِّيه ؛ فقال فيما رواه أبو داود ، والنَّسَائي من حديثِ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ : أُزْرَةُ المُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ ، لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الكَعْبَيْنِ ، مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ ، فَفِي النَّارِ .
و المَنَّان : فَعَّالٌ من المَنِّ ، وقد فسَّره في الحديث ، فقال : هُوَ الَّذِي لاَ يُعْطِي شَيْئًا إِلاَّ مَنَّهُ ، أي : إلا امتَنَّ به على المُعْطَى له ، ولا شَكَّ في أنَّ الامتنانَ بالعطاء ، مبطلٌ لأجرِ الصدقةِ والعطاء ، مُؤْذٍ للمُعْطَى ؛ ولذلك قال تعالى : {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذَى}.
(2/66)
وإنَّما كان المَنُّ كذلك ؛ لأنَّه لا يكونُ غالبًا إلا عن البُخْلِ ، والعُجْبِ ، والكِبْر ، ونسيانِ مِنَّةِ الله تعالى فيما أنعَمَ به عليه ؛ فالبخيلُ : يعظِّمُ في نفسه العَطِيَّةَ وإنْ كانتْ حقيرةً في نفسها ، ، والعُجْبُ : يحمله على النظرِ لنفسه بعين العَظَمة ، وأنَّه مُنْعِمٌ بمالِهِ على المعطَى له ، ومتفضِّلٌ عليه ، وأنَّ له عليه حَقًّا تجبُ عليه مراعاتُهُ ، ، والكِبْرُ : يحمله على أن يحتقر المُعْطَى له وإنْ كان في نفسه فاضلاً ، ، ومُوجِبُ ذلك كلِّه : الجهلُ ، ونِسْيانُ مِنَّةِ الله تعالى فيما أنعَمَ به عليه ؛ إذْ قد أنعَمَ عليه بما يُعْطِي ، ولم يَحْرِمْهُ ذلك ، وجعله ممَّنْ يُعْطِي ، ولم يجعلْهُ ممَّن يَسْأَل ، ولو نظَرَ ببصره ، لعَلِمَ أنَّ المِنَّةَ للآخذ ؛ لِمَا يُزِيلُ عن المعطي مِنْ إثمِ المنعِ وذَمِّ المانع ، ومن الذنوب ، ولِمَا يحصُلُ له من الأجرِ الجزيل ، والثناءِ الجميل ، ولبسط هذا موضعٌ آخر.
وقيل : المَنَّانُ في هذا الحديث : هو مِنَ المَنِّ الذي هو القَطْع ؛ كما قال تعالى : {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ، أي : غَيْرُ مقطوع ؛ فيكونُ معناه : البخيلَ بقطعِهِ عطاءَ ما يجبُ عليه للمستَحِقِّ ؛ كما قد جاء في حديثٍ آخر : البَخِيلُ المَنَّانُ ، فنَعَتَهُ به.
والتأويلُ الأوَّل أظهر .
قوله : شَيْخٌ زَانٍ ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ :
العائلُ : الفقير ، والمُعِيلُ : الكثيرُ العِيَال ؛ يقال : عال الرجلُ فهو عائلٌ : إذا افتقَرَ ، والعَيْلَةُ : الفقر ، وأعالَ فهو مُعِيلٌ : إذا كَثُرَ عياله.
وإنما غلَّظ العقابَ على هؤلاءِ الثلاثة ؛ لأنَّ الحاملَ لهم على تلك المعاصي مَحْضُ المعاندة ، واستخفافُ أمرِ تلك المعاصي التي اقتحموها ؛ إذْ لم يَحْمِلْهم على ذلك حاملٌ حَاجِيٌّ ، ولا دعتهم إليها ضرورةٌ كما تدعو مَنْ لم يكنْ مثلهم.
(2/67)
وبيانُ ذلك : أنَّ الشَّيْخَ لا حاجةَ له ولا داعية تدعوه إلى الزنى ؛ لضعفِ داعيةِ النكاحِ في حقِّه ، ولكمالِ عَقْلِه ، ولقربِ أجله ؛ إذ قد انتهى إلى طَرَفِ عمره.
ونحوٌ من ذلك : "المَلِكُ الكَذَّابُ" ؛ إذْ لا حاجةَ له إلى الكذب ؛ فإنه يمكنه أنْ يُمَشِّيَ أغراضَهُ بالصِّدْق ، فإنْ خاف من الصدق مفسدةً ، وَرَّى.
وأما "العَائِلُ المُسْتَكْبِرُ" : فاستحقَّ ذلك ؛ لغلبة الكِبْرِ على نفسه ؛ إذْ لا سببَ له مِنْ خارجٍ يحملُهُ على الكبر ؛ فإنَّ الكِبْرَ غالبًا إنما يكونُ بالمالِ والخَوَلِ والجاه ، وهو قد عَدِمَ ذلك كلَّه ؛ فلا مُوجِبَ له إلا غلبةُ الكِبْرِ على نفسه ، وقِلَّةُ مبالاتِهِ بتحريمِهِ وتوعيدِ الشرعِ عليه ، مع أنَّ اللائقَ به والمناسبَ لحالِهِ : الذُّلُّ والتواضُعُ ؛ لفقره وعجزه.
وقوله : رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلاَةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ ، يعني بـ فَضْلِ المَاءِ : ما فضَلَ عن كفاية السابق للماءِ وأَخْذِ حاجتِهِ منه ؛ فمَنْ كان كذلك فمنَعَ ما زاد على ذلك ، تعلَّق به هذا الوعيد.
و ابنُ السَّبِيل : هو المسافر ، والسبيلُ : الطريق ، وسمِّي المسافرُ بذلك ؛ لأنَّ الطريقَ تُبْرِزه وتُظْهِره ، فكأنَّها وَلَدَتْهُ ، ، وقيل : سمِّي بذلك ؛ لملازمتِهِ إياه ، كما يقالُ في الغراب : ابنُ دَأْيَة ؛ لملازمتِهِ دَأْيَةَ البعيرِ الدَّبِرِ لِيَنْقُرَهَا.
و الفَلاَةُ : القَفْر ، وهذا هو الماءُ الذي قد نَهَى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن منعه بقوله : لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الكَلَأُ ، وسيأتي الكلامُ عليه إنْ شاء الله.
وقد أجمَعَ المسلمون على تحريمِ ذلك ؛ لأنَّه منَعَ ما لا حَقَّ له فيه مِنْ مستَحِقِّهِ ، وربَّما أتلفَهُ أو أتلَفَ مالَهُ وبهائمه ، فلو منعَهُ هذا الماءَ حتَّى مات عطشًا ، أُقِيدَ منه عند مالك ؛ لأنَّه قتلَهُ ، كما لو قتلَهُ بالجُوعِ أو بالسلاح.
(2/68)
وقوله : وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً سِلْعَةً ، رويناه : سِلْعَةً بغير باء ، ورويناه : بسلعة بالباء :
فعلى الباء : يكونُ بايَعَ ، بمعنى ساوَمَ ؛ كما جاء في الرواية الأخرى : ساوَمَ مكان بايَعَ ، وتكونُ الباء بمعنى عن ؛ كما قال الشاعر :
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي
بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
أي : عن النِّسَاء.
وعلى إسقاطها : يكون معنى بايع : باع ؛ فيتعدَّى بنفسه ، وسِلْعةً : مفعولٌ.
وقوله : فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ ، لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا ، يعني : أنَّه كذَبَ فزاد في الثَّمَنِ الذي به اشتَرَى ؛ فكَذَبَ واستخَفَّ باسمِ الله تعالى حين حَلَفَ به على الكذب ، وأخَذَ مالَ غيرِهِ ظُلْمًا ؛ فقد جمع بين كبائر ، فاستَحَقَّ هذا الوعيدَ الشديد.
وتخصيصُهُ بـ "ما بَعْدَ العَصْر" : يَدُلُّ على أنَّ لهذا الوقتِ من الفضلِ والحُرْمةِ ما ليس لغيره مِنْ ساعات اليوم.
(2/69)
قال الشيخ ، ـ رحمه الله ـ : ويظهرُ لي أنْ يقال : إنما كان ذلك ؛ لأنَّه عَقِيبَ الصلاةِ الوُسْطَى - كما يأتي النصُّ عليه - ولمَّا كانتْ هذه الصلاةُ لها مِنَ الفضلِ وعظيمِ القَدْرِ أكثَرُ مما لغيرها ، فينبغي لمصلِّيها أن يَظْهَرَ عليه عَقِيبَهَا -من التحفُّظِ على دينه ، والتحرُّزِ على إيمانِهِ- أكثَرُ مما ينبغي له عَقِيبَ غيرها ؛ لأنَّ الصلاةَ حَقُّهَا : أن تَنْهَى عن الفحشاء والمنكر ؛ كما قال الله تعالى : {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، أي : تَحْمِلُ على الامتناعِ مِنْ ذلك ، بما يحدُثُ في قلب المصلِّي بسببها من النُّورِ والانشراح ، والخوفِ من الله تعالى والحياءِ منه ؛ ولهذا أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله : مَنْ لم تَنْهَهُ صلاتُهُ عن الفحشاءِ والمُنْكَرِ ، لم يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إلا بُعْدًا ، وإذا كان هذا في الصلواتِ كلِّها ، كانتِ الصلاةُ الوسطى بذلك أولَى ، وحقُّها مِنْ ذلك أكبَرَ وأوفَى ؛ فمَنِ اجترَأَ بعدها على اليمينِ الغَمُوسِ التي يأكُلُ بها مالَ الغير ، كان إثمُهُ أشدَّ وقلبُهُ أَفْسَدَ ، والله تعالى أعلم.
وهذا الذي ظهَرَ لي : أَوْلَى مما قاله القاضي أبو الفَضْل ؛ فإنَّه قال : "وإنَّما كان ذلك لاجتماعِ ملائكةِ الليلِ وملائكةِ النهار في ذلك الوَقْتِ" ؛ لوجهَيْن :
أحدهما : أنَّ هذا المعنى موجودٌ في صلاة الفجر ؛ لأنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، ثُمَّ يَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ العَصْرِ وَصَلاَةِ الفَجْرِ ؛ وعلى هذا : فتبطُلُ خصوصيَّةُ العصر ؛ لمساواةِ الفجرِ لها في ذلك.
(2/70)
وثانيهما : أنَّ حضورَ الملائكةِ واجتماعَهُمْ إنما هو في حالِ فعل هاتَيْنِ الصلاتين لا بعدهما ؛ كما قد نَصَّ عليه في الحديثِ حين قال : فَيَجْتَمِعُونَ في صلاةِ الفَجْرِ وصَلاَةِ العَصْرِ ، ولقولِ الملائكةِ : أتيناهُمْ وهم يُصَلُّونَ ، وتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، وهذا يدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّ هؤلاءِ الملائكةَ لا يشاهدون من أعمالِ العبادِ إلا الصلواتِ فَقَطْ ، وبها يَشْهَدون.
فتدبَّرْ ما ذكرتُهُ ؛ فإنَّه الأنسَب الأسلَمُ ، والله أعلم .
وقوله : وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَا ؛ إنَّما استَحَقَّ هذا الوعيدَ الشديدَ ؛ لأنَّه لم يَقُمْ لله تعالى بما وجَبَ عليه مِنَ البَيْعةِ الدينيَّة ، فإنَّها من العباداتِ التي تجبُ فيها النيَّةُ والإخلاص ، فإذا فَعَلَهَا لغيرِ اللهِ تعالى مِنْ دنيا يَقْصِدها ، أو غَرَضٍ عاجلٍ يقصده ، بَقِيَتْ عهدتُهَا عليه ؛ لأنَّه منافقٌ مُرَاءٍ غَاشٌّ للإمامِ وللمسلمين ، غيرُ ناصحٍ لهم في شيء من ذلك.
ومَنْ كان هكذا ، كان مُثِيرًا للفتن بين المسلمين ؛ بحيثُ يَسْفِكُ دماءَهُمْ ، ويستبيحُ أموالهم ، ويَهْتِكُ بلادهم ، ويَسْعَى في إهلاكهم ؛ لأنَّه إنما يكونُ مع مَنْ يبلِّغُهُ إلى أغراضه ، فيبايعُهُ لذلك ويَنْصُرُهُ ، ويغضَبُ له ويقاتلُ مخالفَهُ ، فينشأ من ذلك تلك المفاسد.
وقد يكونُ هذا يخالفُهُ في بعضِ أغراضه ، فينكُثُ بيعتَهْ ، ويطلُبُ هَلَكَتَهْ ، كما هو حالُ أكثر أهلِ هذه الأزمانْ ، فإنَّهم قد عمَّهم الغَدْرُ والخِذْلاَنْ.
(2/71)
وقوله : فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ ؛ هكذا الرواية وَفَى مخفَّفَ الفاء ، ويَفِ محذوفَ الواوِ والياءِ مخفَّفًا ، وهو الصحيحُ هنا روايةً ومعنًى ؛ لأنَّه يقال : وَفَى بعهده يَفِي وَفَاءً ، والوفاءُ ممدودٌ ضِدُّ الغدر ، ويقال : أوفَى ، بمعنى : وَفَى ، ، فأما وَفَّى المشدَّدُ الفاءِ ، فهو بمعنى توفيةِ الحَقِّ وإعطائِهِ ؛ يقال : وفَّاه حَقَّهُ يُوَفِّيهِ تَوْفِيَةً ؛ ومنه قوله تعالى : {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى *} ، أي : قام بما كُلِّفَهُ مِنَ الأعمالِ ؛ كخِصَالِ الفطرة ، وغيرها ؛ كما قال الله تعالى : {فَأَتَمَّهُنَّ} ، وحكى الجوهريُّ : أوفاه حقَّه.
قال الشيخ ، ـ رحمه الله ـ : وعلى هذا وعلى ما تقدَّم ، فيكونُ أَوْفَى بمعنى الوفاء بالعهد ، وتوفيةِ الحق. والأصلُ في أَوْفَى : أَطَلَّ على الشيء ، وأشرَفَ عليه.
وقوله : والمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِب ، الروايةُ الصحيحةُ في المُنَفِّق : بفتح النون وكسر الفاء مشدَّدة ، وهو مضاعَفُ : نَفَقَ المَبِيعُ يَنْفُقُ نَفَاقًا : إذا خرَجَ ونفَدَ ، وهو ضدُّ كَسَدَ ، غيرَ أنَّ نَفَقَ المخفَّفَ لازمٌ ، فإذا شُدِّد ، عُدِّي للمفعول ، ومفعولُهُ هنا "سِلْعته".
وقد وصَفَ "الحَلِف" - وهي مؤنَّثة - بـ "الكاذب" - وهو وصفُ مذكَّرٍ - وكأنَّه ذهب بالحلفِ مذهبَ القَوْل ، فذكَّره ، ، أو مذهَبَ المصدر ، وهو مِثْلُ قولهم : "أتاني كِتَابُهُ فَمَزَّقْتُهَا" ؛ ذهب بالكتابِ مذهَبَ الصَّحِيفة ، والله تعالى أعلم.
بَابٌ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ، عُذِّبَ بِهِ
(2/72)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِجَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا .
وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ ؛ أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِْسْلاَمِ كَاذِبًا - وَفِي رِوَايَةٍ : مُتَعَمِّدًا- فَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ، عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْءٍ لاَ يَمْلِكُهُ .
وَفِي رِوَايَةٍ : وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ ، وَفِيهَا : وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا ، لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ قِلَّةً ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ .
وَفِي أُخْرَى : وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ، ذُبِحَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَعَنْ جُنْدَبٍ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : إِنَّ رَجُلاً مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِوَجْهِهِ قُرْحَةٌ ، فَلَمَّا آذَتْهُ ، انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، فَنَكَأَهَا ، فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ ، قَالَ رَبُّكُمْ : قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ .
وَمِنْ بَابِ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ، عُذِّبَ بِهِ
قوله : مَنْ قتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا :
(2/73)
يتوجَّأ : يطعن ، وهو مهموز ، من قولهم : وَجَأْتُهُ بالسِّكِّينِ أَجَؤُهُ ، أي : ضربتُهُ ، ووُجِئَ هو ، فهو موجوءٌ ، ومصدرُهُ : وَجَأٌ مقصورًا مهموزًا ، ، فأما الوِجَاءُ ، بكسر الواو والمَدِّ : فهو رَضُّ الأنثيين ، وهو ضَرْبٌ من الخِصَاء.
وقوله : خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا :
ظاهرُهُ : التخليدُ الذي لا انقطاعَ له بوجه ، وهو محمولٌ على مَنْ كان مستَحِلاًّ لذلك ، ومَنْ كان مُعْتقِدًا لذلك ، كان كافرًا.
وأمَّا مَنْ قتَلَ نفسَهُ ، وهو غيرُ مستحلٍّ ، فليس بكافر ، بل يجوزُ أن يَعْفُوَ اللهُ تعالى عنه ، كما يأتي في الباب الآتي بعد هذا ، في الذي قطَعَ بَرَاجِمَهُ فمات ، وكما تقدَّم في حديثِ عبادة ـ رضى الله عنه ـ ، وغيره.
ويجوزُ أن يراد بقوله : خَالِدًا مخلَّدًا فِيهَا أَبَدًا تطويلُ الآمادِ ، ثم يكونُ خروجُهُ مِنَ النار مِنْ آخر مَنْ يخرُجُ من أهل التوحيد ؛ ويجري هذا مَجْرَى قول العرب : خَلَّدَ اللهُ مُلْكَكَ ، وأبَّد أيَّامك ، ولا أُكَلِّمُك أَبَدَ الآبِدِين ، ولا دَهْرَ الداهرين ، وقد ينوي أن يكلِّمَهُ بعد أزمان. ويجري هذا مجرى الإِغْيَاءِ في الكلامِ - على ما تقدَّم - والله تعالى أعلم.
و السُّمُّ : القاتلُ للحيوان ، يقال بضَمِّ. السين وفتحها. فأمَّا السَّمُّ الذي هو ثُقْبُ الإبرة : فبالفتح لا غير.
و يَتَحَسَّاهُ : يَشْربه ، و{يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} ؛ كما قال الله تعالى.
وقوله : إِنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، وَكَانَتْ سَمُرَةً ، وهي بيعةُ الرضوانِ التي قال الله تعالى فيها : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، وكانتْ قبل فَتْحِ مَكَّة في ذي القَعْدَةِ سنة سِتٍّ من الهجرة.
(2/74)
وكان سببها : أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصَدَ إلى مَكَّةَ معتمرًا ، فلمَّا بلغ الحُدَيْبِيَةَ - وهي موضعٌ فيه ماءٌ ، بينه وبين مَكَّةَ نحوٌ من أميال - صَدَّتْهُ قريشٌ عن الدخولِ إلى البيت ، فوجَّه لهم عثمانَ رَسُولاً ، فَتُحُدِّثَ أنَّ قريشًا قتلوه ، فتهيَّأَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحربهم ، فبايَعَ أصحابَهُ تلك البيعةَ على الموت ، أو على ألاَّ يَفِرُّوا ؛ كما سيأتي ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : مَنْ حلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإْسْلاَمِ :
اليمينُ هنا : يعني به المحلوفَ عليه ؛ بدليلِ ذكْرِهِ المحلوفَ به ، وهو : بملَّةٍ غيرِ الإسلام .
ويجوز أن يقال : إنَّ عَلَى : صِلَةٌ ، وينتصبُ يَمِين على أنَّه مصدرٌ مُلاَقٍ في المعنَى لا في اللفظ.
وقوله : كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا يحتملُ أن يريدَ به النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ كان معتقدًا لتعظيمِ تلك المِلّةِ المغايرةِ لملَّةِ الإسلام ؛ وحينئذٍ : يكونُ كافرًا حقيقةً ، فيبقى اللفظُ على ظاهره.
و كاذبًا : منصوبٌ على الحال ، أي : في تعظيمِ تلك المِلَّة التي حلَفَ بها ، فتكونُ هذه الحالُ من الأحوالِ اللازمة ؛ كما قال الله تعالى : {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} ؛ لأنَّ مَنْ عظَّم مِلَّةً غيرَ الإسلام ، كان كاذبًا في تعظيمِهِ ذلك ، وآثمًا في كلِّ حالٍ وكلِّ وقتٍ ، لا ينتقلُ عن ذلك.
ولا يصلُحُ أن يقال : "إنَّه يعني بكونه كاذبًا في المحلوفِ عليه" ؛ لأنَّه يستوي في ذَمِّهِ كونُهُ صادقًا أو كاذبًا إذا حلَفَ بِمِلَّةٍ غيرِ الإسلام ؛ لأنَّه إنَّما ذمَّهُ الشرعُ مِنْ حيثُ إنَّه حَلَفَ بتلك الملَّةِ الباطلة ، معظِّمًا لها على نحوِ ما تعظَّمُ به ملَّةُ الإسلامِ الحَقِّ ؛ فلا فَرْقَ بين أن يكونَ صادقًا أو كاذبًا في المحلوفِ عليه ، والله تعالى أعلم.
(2/75)
وأمَّا إنْ كان الحالفُ بذلك غيرَ معتقِدٍ لذلك : فهو آثمٌ مرتَكِبٌ كبيرةً ؛ إذْ قد تشبَّه في قوله بِمَنْ يعظِّمُ تلك المِلَّةَ ويعتقدها ، فغُلِّظَ عليه الوعيدُ - بأن صُيِّرَ كواحدٍ منهم - مبالغةً في الرَّدْعِ والزَّجْر ؛ كما قال تعالى : {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
وهل تجبُ عليه كفَّارةٌ لذلك أم لا ؟ اختلَفَ العلماءُ في ذلك :
فَرُوِيَ عن ابن المبارك - فيما ورَدَ مِثْلَ هذا - : أنَّ ذلك على طريقةِ التغليظ ، ولا كفَّارةَ على مَنْ حلف بذلك وإنْ كان آثِمًا ؛ وعليه الجمهورُ ، وهو الصحيحُ ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ حَلَفَ بِاللاَّتِ ، فَلْيَقُلْ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، ولم يوجبْ عليه أكثَرَ من ذلك ، ولو كانتِ الكفَّارةُ واجبةً ، لبيَّنها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينئذٍ ؛ لأنَّه لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجة.
وقد ذهب بعضُ العراقيِّين : إلى وجوبِ الكفَّارة عليه ، وسيأتي ذلك إنْ شاء الله تعالى.
وقوله : لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْءٍ لاَ يَمْلِكُهُ ؛ هذا صحيحٌ فيما إذا باشَرَ النذرُ مِلْكَ الغير ؛ كما لو قال : "للهِ عَلَيَّ عِتْقُ عبدِ فلانٍ ، أو هَدْيُ بَدَنَةِ فُلاَن" ، ولم يعلِّق شيئًا مِنْ ذلك على مِلْكِهِ له ، ولا خلافَ بين العلماء : أنَّ ذلك لا يلزمُ منه شيءٌ ؛ غير أنَّه حُكِيَ عن ابن أبي ليلى في العتق : "أنَّه إذا كان مُوسِرًا ، أُعْتِقَ عليه" ، ثُمَّ رجَعَ عنه.
وإنَّما اختلَفُوا فيما إذا علَّقَ العِتْقَ أو الهَدْيَ أو الصدقةَ على المِلْك ؛ مِثْلُ أن يقول : "إنْ مَلَكْتُ عَبْدَ فلانٍ ، فهو حُرٌّ" :
فلم يُلْزمْهُ الشافعيُّ : شيئًا من ذلك عَمَّ أو خصَّ ؛ تمسُّكًا بهذا الحديث.
وألزمَهُ أبو حنيفة : كُلَّ شيء مِنْ ذلك عمَّ أو خصَّ ؛ لأنَّه مِنْ بابِ العقودِ المأمورِ بالوفاءِ بها ، وكأنَّه رأى أنَّ ذلك الحديثَ لا يتناوَلُ العِتْقَ المعلَّقَ على المِلْك ؛ لأنَّه إنَّما يلزمُهُ عند حصولِ المِلْكِ لا قبله.
(2/76)
ووافَقَ أبا حنيفةَ مالكٌ فيما إذا خَصَّ ؛ تمسُّكًا بمثل ما تمسَّكَ به أبو حنيفة ، وخالَفَهُ إذا عمَّ ؛ رفعًا للحَرَجِ الذي أدخَلَهُ على نفسه ، ، ولمالكٍ قولٌ آخر مِثْلُ قولِ الشافعيِّ.
وقوله : إِنَّ رَجُلاً مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِوَجْهِهِ قُرْحَةٌ :
القُرْحَةُ : واحدةُ القُرَحِ والقروح ، وهي الجِرَاحُ ؛ يقال منه : قَرِحَ جِلْدُهُ - بالكسر- يَقْرَحُ قَرَحًا ، ويقال : القَرْحُ والقُرْحُ - بفتح القاف وضمِّها - لغتان عن الأخفش ، وقال غيره : القَرْحُ ، بالفتح : الجَرْح ، وبالضمِّ : ألمُ الجراح.
وقوله : فَنَكَأَهَا هو بهمزةٍ مفتوحةٍ على الألف ، أي : قَشَرها وفَجَرها.
وقوله : فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ أي : لم ينقطع ، وهو بالهمز ؛ يقال : رَقَأ الدَّمُ يَرْقَأُ : إذا انقطع ؛ ويروى أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : لاَ تَسُبُّوا الإِْبِلَ ؛ فَإِنَّ فِيهَا رَقُوءَ الدَّمِ ، أي : إذا دُفِعَتِ الإبلُ في الدية ، ارتفَعَ القصاصُ والقَتْلُ وانقطَعَ الدم.
وهذا الفعلُ مِنْ هذا الرجل :
يَحْتملُ أن يكونَ : إنَّما حمله عليه الجزَعُ والتبرُّمُ واستعجالُ الموت ؛ فيكونُ ممَّن قتَلَ نفسه بحديدةٍ ؛ فيكونُ فِعْله نحوًا ممَّا فعله الذي أصابتْهُ جِرَاحَةٌ في الحرب ، فاستعجَلَ الموتَ ، فوضَعَ نَصْلَ سيفه بالأرض ، وذُبَابَهُ بين ثديَيْهِ ، فتحامَلَ عليه ، فقتَلَ نفسه.
ويَحْتملُ أن يكونَ : قصَدَ بَطَّ تلك الجراحةِ ؛ ليخفَّ عنه الألَمُ ، ففرَّطَ في التحرُّز ، فعوقبَ على تفريطه.
ويُستفادُ مِنَ التأويلِ الأوَّل : وجوبُ الصبرِ على الألم ، وتحريمُ استعجالِ الموتِ عند شِدَّةِ الألمِ وإنْ أيقَنَ به.
ومِنَ التأويل الثاني : وجوبُ التحرُّزِ مِنَ الأدويةِ المَخُوفَةِ والعلاجِ الخطر ، وتحريمُ التقصيرِ في التحرُّزِ مِنْ ذلك ، والله تعالى أعلم.
وقوله : وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ ، أي : في الإثم.
(2/77)
ووجهه : أنَّ مَنْ قال لمؤمنٍ : لَعَنَهُ اللهُ ، فقد تضمَّنَ قولُهُ ذلك إبعادَهُ عن رحمةِ الله تعالى التي رَحِمَ بها المسلمين ، وإخراجَهُ مِنْ جملتهم في أحكامِ الدنيا والآخرة ، ومَنْ كان كذلك ، فقد صار بمنزلةِ المَفْقُودِ عن المسلمين بعد أَنْ كان موجودًا فيهم ؛ إذْ لم يَنْتفِعْ بما انتفَعَ به المسلمون ، ولا انتفَعُوا به ؛ فأشبَهَ ذلك قتلَهُ.
وعلى هذا : فيكونُ إثمُ اللاعنِ كَإِثْمِ القاتل ، غير أنَّ القاتِلَ أَدْخَلُ في الإثم ؛ لأنَّه أفقَدَ المقتولَ حِسًّا ومعنًى ، واللاعنُ أفقدَهُ معنًى ، فإثمه أخفُّ منه ، لكنَّهما قد اشتَرَكَا في مطلَقِ الإثمِ ، فصدَقَ عليه أنَّه مِثْلُهُ ، والله أعلم.
وقوله : وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا ، لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ قِلَّةً ، يعنى - والله أعلم - : أَنَّ مَنْ تظاهَرَ بشيء مِنَ الكمال ، وتعاطاه ، وادَّعَاهُ لنفسه ، وليس موصوفًا به ، لم يَحْصُلْ له مِنْ ذلك إلاَّ نقيضُ مقصودِهِ ، وهو النقص : فإنْ كان المُدَّعَى مالاً ، لم يبارَكْ له فيه ، أو علمًا ، أظهَرَ اللهُ تعالى جَهْلَهُ ، فاحتقَرَهُ الناس ، وقَلَّ مقدارُهُ عندهم.
وكذلك لو ادَّعَى دِينًا أو نَسَبًا أو غَيْرَ ذلك ، فضَحَهُ اللهُ ، وأظهَرَ باطلَهُ ؛ فقَلَّ مقدارُهُ ، وذَلَّ في نفسه ؛ فحصَلَ على نقيضِ قصده ؛ وهذا نحوُ قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةً ، أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا ، ونحوٌ منه قولُهُ تعالى : {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} ، وقولُهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ.
وفائدةُ الحديث : الزجرُ عن الرياءِ وتعاطيه ، ولو كان بأمورِ الدنيا.
وقوله : وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ ، كذا صحَّتِ الروايةُ في أصلِ كتابِ مسلم بهذا الكلام ، مقتصرًا على ذكر جملة الشرط مِنْ غير ذكرِ جملةِ الجزاء :
(2/78)
فَيَحتمِلُ : أنَّه سكَتَ عنه ؛ لأنَّه عطفَهُ على مَنْ التي قبلها ، فكأنَّه قال : ومن حلف يمينًا فاجرة ، كان كذلك ، أي : لم يَزِدْهُ اللهُ بها إلاَّ قِلَّةً ؛ قاله القاضي عِيَاض ، ـ رحمه الله ـ .
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : ويَحتمِلُ : أن يكونَ الجزاءُ محذوفًا ، ويكونَ تقديره : مَنْ فعَلَ ذلك ، غَضِبَ اللهُ عليه ، أو عاقَبَهُ ، أو نحوَ ذلك ؛ كما جاء في الحديثِ الآخر : مَنْ حلَفَ عَلَى يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ مُسْلِمٍ ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عليه غَضْبَانُ.
والروايةُ في يَمِينٍ صَبْرٍ بالتنوينِ على أنَّ صَبْرًا صفةٌ ل يَمِينٍ ، أي : ذاتِ صَبْرٍ.
وأصلُ الصبر : الحَبْسُ ؛ كما قال عنترةُ :
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً
............
أي : حَبَسْتُ في الحربِ نَفْسًا معتادةً لذلك ، كريمةً لا ترضَى بالفرار.
وقال أبو العبَّاس : "الصبرُ ثلاثةُ أشياء : الحبسُ ، والإكراهُ ، والجرأة ؛ كما قال الله تعالى : {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} ، أي : ما أجرأَهُمْ عليها".
ووُصِفَتِ اليمينُ بأنَّها ذاتُ صَبْرٍ ؛ لأنَّها تَحْبِسُ الحالفَ لها ، أو لأنَّ الحالفَ يجترئُ عليها ، ، وذكَّر الصبر ، وقد أجراه صفةً على اليمين ، وهي مؤنَّثةٌ ؛ لأنَّه قَصَدَ قَصْدَ المصدرِ.
بَابُ لاَ يُغْتَرُّ بِعَمَلِ عَامِلٍ حَتَّى يُنْظَرَ بِمَا يُخْتَمُ لَهُ
(2/79)
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا ، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى عَسْكَرِهِ ، وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ ، فَقَالُوا : مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدًا ، قَالَ : فَخَرَجَ مَعَهُ ، كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ ، قَالَ : فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ ، قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ ، قَالَ : الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ ، فَقُلْتُ : أَنَا لَكُمْ بِهِ ، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عِنْدَ ذَلِكَ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ - فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ - وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ - فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ - وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ .
(2/80)
وَفِي رِوَايَةٍ : فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : اللهُ أَكْبَرُ! أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، ثُمَّ أَمَرَ بِلاَلاً فَنَادَى فِي النَّاسِ : إنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ ، وَإِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ .
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ ، أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالُوا : فُلاَنٌ شَهِيدٌ ، فُلاَنٌ شَهِيدٌ ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ ، فَقَالُوا : فُلاَنٌ شَهِيدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كَلاَّ! إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ ، فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا ، ، أَوْ عَبَاءَةٍ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ : إنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ ، قَالَ : فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ : أَلاَ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ .
وَمِنْ بَابِ لاَ يُغْتَرُّ بِعَمَلِ عَامِلٍ حَتَّى يُنْظَرَ بِمَا يُخْتَمُ لَهُ
قوله : لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً :
الشَّاذُّ : الخارجُ عن الجماعة ، والفاذُّ : المنفرد ، وأنَّث الكلمتَيْنِ على جهة المبالغة ؛ كما قالوا : عَلاَّمَةٌ ، ونَسَّابة ؛ قال ابن الأعرابي : يقال : فلانٌ لا يَدَعُ لهم شَاذَّةً ولا فَاذَّةً : إذا كان شُجَاعًا لا يلقاه أحدٌ.
وفيه من الفقه : ما يدلُّ على جواز الإغْيَاءِ في الكلامِ والمبالغةِ فيه ، إذا احتِيج إليه ، ولم يكنْ ذلك تعمُّقًا ولا تشدُّقًا.
وقوله : مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ ؛ كذا صحَّتْ روايتنا فيه رباعيًّا مهموزًا ، ومعناه : ما أغنَى ولا كَفَى.
(2/81)
وفي "الصحاح" : "أجزَأَني الشيءُ : كفاني ، وجزَى عنِّي هذا الأمرُ ، أي : قَضَى ؛ ومنه قوله تعالى : {لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} ، أي : لا تَقْضِي ، ومنه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بردةِ : تَجْزِي عَنْكَ ، وَلاَ تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ ، قال : "وبنو تميمٍ يقولون : أَجْزَأَتْ عنك شاةٌ ، بالهمز".
وقال أبو عُبَيْد : ويقالُ : جَزَأْتُ بالشيءِ واجتَزَأْتُ به ، أي : اكتفَيْتُ به ، وأنشَدَ :
فَإِنَّ اللُّؤْمَ فِي الأَْقْوَامِ عَارٌ
وَإِنَّ المَرْءَ يَجْزَأُ بِالكُرَاعِ
و فلانٌ ، قيل : هو قُزْمَان.
و نَصْلُ السيف : حديدتُهُ كلُّها ، وأنشدوا :
كالسَّيْفِ سُلَّ نَصْلُهُ مِنْ غِمْدِهِ
ويقال عليها : مُنْصُلٌ ، والمرادُ بالنَّصْل في هذا الحديث : طَرَفُ النَّصْلِ الأسفلُ الذي يسمَّى : القَبِيعة ، والرئاس.
و ذُبَابُهُ : طَرَفُهُ الأعلى المحدَّدُ المهلَّل ، وضُبَتَاهُ وغَرْبَاه : حَدَّاهُ ، وصدرُ السيفِ : مِنْ مَقْبِضه إلى مَضْرِبه ، ومَضْرِبُهُ : موضِعُ الضَّرْب منه ، وهو دون الذُّبَاب بِشِبْرٍ.
وقوله : فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ ، أي : عظَّموه وكَبُرَ عليهم ؛ وإنما كان ذلك ؛ لأنَّهم نظروا إلى صورةِ الحالْ ، ولم يعرفوا الباطنَ ولا المآلْ ، فأعلَمَ العليمُ الخبيرُ البشيرَ النذيرَ بمُغَيَّبِ الأمرِ وعاقبتِهْ ، وكان ذلك مِنْ أدلَّةِ صِدْقِ الرسولِ وصِحَّةِ رسالتِهْ ، ففيه التنبيهُ على تركِ الاِعتمادِ على الأعمالْ ، والتعويلُ على فضلِ ذي العزَّةِ والجلالْ.
وقوله : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ : دليلٌ على أنَّ ذلك الرجُلَ لم يكنْ مخلصًا في جهاده ، وقد صرَّحَ الرجلُ بذلك فيما رُوِي عنه أنَّه قال : إِنَّمَا قَاتَلْتُ عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي ، فتناول هذا الخَبَرُ أهلَ الرياء.
(2/82)
فأمَّا حديثُ أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ الذي قال فيه : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا - : فإنَّما تناوَلَ مَنْ كان مخلصًا في أعمالِهِ ، قائمًا بها على شروطها ، لكنْ سبَقَتْ عليه سابقةُ القدر ، فبدَّل به عند خاتمته ؛ كما يأتي تحقيقُهُ في كتاب القدر ، إن شاء الله تعالى.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اللهُ أَكْبَرُ! أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ؛ عند وقوعِ ما أخبَرَ به من الغيب : دليلٌ على أنَّ ذلك مِنْ جملة معجزاته ، وإنْ لم يقترنْ بها في تلك الحالِ تَحَدٍّ قوليٌّ ؛ وهذا على خلافِ ما يقولُهُ المتكلِّمون : "إنَّ مِنْ شروطِ المعجزةِ اقترانَ التحدِّي القَوْلِيِّ بها ، فإنْ لم يكنْ كذلك ، فالخارقُ كرامةٌ لا مُعْجِزةٌ".
والذي ينبغي أن يقال : أنَّ ذلك لا يشتَرَطُ ؛ بدليلِ أنَّ الصحابةَ ـ رضى الله عنهم ـ كانوا كُلَّما ظهَرَ لهم خارقٌ للعادة على يَدَيِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، استدلُّوا بذلك على صِدْقِهِ وثبوتِ رسالته ، كما قد اتَّفَقَ لعمر ـ رضى الله عنه ـ حين دعا رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قليلِ الأزوادِ فكَثُرَتْ ، فقال عند ذلك : "أَشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إلا الله ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ" ، وكقول أسامةَ بنِ زيد ـ رضى الله عنهما ـ ، وبدليل الاِتِّفاقِ على أنَّ نَبْعَ الماء مِنْ بين أصابعه ، وتسبيحَ الحصَى في كَفِّه ، وحَنِينَ الجِذْع : مِنْ أظهر معجزاته ، ولم يصدُرْ منه مع شيءٍ مِنْ ذلك تحدٍّ بالقولِ عند وقوعِ تلك الخوارق ، ومع ذلك فَهِيَ معجزاتٌ .
والذي ينبغي أن يقال : أَنَّ اقترانَ القولِ لا يلزم ، بل يكفي مِنْ ذلك قولٌ كليٌّ يتقدَّم الخوارقَ ؛ كقولِ الرسول : الدليلُ على صِدْقِي : ظهورُ الخوارق على يَدَيَّ ؛ فإنَّ كُلَّ ما يظهَرُ على يَدَيْه منها بعد ذلك يكونُ دليلاً على صِدْقه وإنْ لم يقترنْ بها - واحدًا واحدًا - قولٌ.
(2/83)
ويمكنُ أن يقال : إنَّ قرينةَ حاله تدلُّ على دوامِ التحدِّي ، فيتنزَّلُ ذلك منزلةَ اقترانِ القول ، والله أعلم.
وقوله : فَنَادَى فِي النَّاسِ : إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ ، أي : مؤمنة ؛ لأنَّ الإسلام العَرِيَّ عن الإيمانِ لا يَنْفَعُ صاحبَهُ في الآخرة ، ولا يُدْخِلُهُ الجَنَّة ؛ وذلك بخلافِ الإيمان : فإنَّ مجرَّده يَدْخُلُ به صاحبُهُ الجنَّةَ وإنْ عُوقِبَ بتركِ الأعمال على ما سنذكرُهُ - إن شاءَ اللهُ تعالى ؛ فدلَّ هذا على أنَّ هذا الرجُلَ كان مُرَائِيًا منافقًا ؛ كما تقدَّم.
ومما يدلُّك على ذلك أيضًا : قولُهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ ، وهو الكافر ؛ كما قال تعالى : {وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا}.
و يؤيِّد : يُقَوِّي ويَعْضُدُ.
وأَمْرُ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلالاً أنْ يُنادِيَ بذلك القولِ ، إنَّما كان تنبيهًا على وجوبِ الإخلاصِ في الجهادِ وأعمالِ البِرِّ ، وتحذيرًا من الرِّيَاءِ والنفاق.
وقوله : حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ ، فَقَالُوا : فُلاَنٌ شَهِيدٌ ، هذا الرجلُ هو المسمَّى مِدْعَمً ، وكان عبدًا للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَبَيْنَا هو يَحُطُّ رحلَ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إذْ أصابه سهمٌ ، فقال الناس : هنيئًا له الجَنَّةُ ، فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الكلامَ.
و كَلاَّ : رَدْعٌ وزجر.
و الغُلُول : الخيانةُ في المَغْنَم ؛ يقالُ منه : غَلَّ - بفتح الغين - يَغُلُّ - بضمها - في المضارع ؛ قال ابن قتيبة وغيره : الغُلُولُ : من الغَلَل ، وهو الماءُ الجاري بين الأشجار ؛ فكأنَّ الغالَّ سمِّي بذلك ؛ لأنَّه يُدْخِلُ الغلولَ على أثناءِ رحله ، ، فأمَّا الغِلُّ ، بكسر الغين : فهو الحِقْدُ والشَّحْناء.
و البُرْدَة : كساءٌ أسودُ صغيرٌ مربَّع تلبسُهُ الأعراب ؛ قاله الجوهري ، وقال غيره : هي الشَّمْلَةُ المخطَّطة ، وهي كساءٌ يُؤْتَزَرُ به.
و العباءة ممدودة : الْكِسَاء.
(2/84)
وقوله : إِنِّي أُرِيتُهُ فِي النَّارِ ، ظاهره : أنَّها رؤيةُ عِيَانٍ ومشاهدة ، لا رؤيا منام ؛ فهو حُجَّةٌ لأهل السُّنَّة على قولهم : "إنَّ الجَنَّةَ والنار قد خُلِقَتَا ووُجِدَتَا".
وفيه : دليلٌ على أنَّ بعضَ مَنْ يُعَذَّبُ في النار يدخلُهَا ويعذَّبُ فيها قبلَ يوم القيامة.
ولا حُجَّةَ فيه للمُكَفِّرة بالذنوب ؛ لأنَّا نقولُ : إنَّ طائفةً مِنْ أهلِ التوحيدِ يَدْخُلُون النارَ بذنوبهم ، ثُمَّ يَخْرُجون منها بتوحيدهم ، أو بالشفاعةِ لهم ؛ كما يأتي في الأحاديثِ الصحيحة ، ويجوزُ أن يكونَ هذا الغالّ منهم ، والله تعالى أعلم.
بَابٌ قَتْلُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ
عَنْ جَابِرٍ ؛ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ ؟ - قَالَ : حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلأَْنْصَارِ ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى الْمَدِينَةِ ، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، وَهَاجَرَ مَعَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ ، فَمَرِضَ رَجُلٌ ، فَجَزِعَ ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ : غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ ؟ قَالَ : قِيلَ لِي : لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اللَّهُمَّ ، وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ .
وَمِنْ بَابِ قَتْلُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ
(2/85)
قوله : هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ ؟ :
الحِصْنُ : واحدُ الحصون ، وهي القصورُ والقلاعُ التي يتحصَّن فيها.
و حصين : فعيلٌ للمبالغة ، أي : شديدُ المَنْعِ لمن فيه.
و مَنَعَة : تروى بفتح النون وسكونها ، وفي "الصحاح" : "يقالُ : فلانٌ في عِزٍّ ومَنَعَةٍ بالتحريك ، وقد يسكَّن عن ابن السِّكِّيت ، ويقال : المَنَعَةُ بالتحريك : جمع مانعٍ ، ككافرٍ وكَفَرَة ، أي : هو في عِزٍّ وعشيرةٍ يمنعونه".
وقوله : وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ ، فَاجْتَوَى المَدِينَةَ ، فَمَرِضَ فَجَزِعَ ، فَأَخَذَ ، هكذا صوابُ الرواية بتوحيد رَجُل ، وعَطْفِ ما بعده على ما قبله على الإفراد ، وهي روايةُ عبد الغافر.
وعند غيره تخليطٌ ؛ فمنهم من جَمَعَ ، فقال : رِجَالٌ ، فَاجْتَوَوُا المَدِينَةَ ، ثم قال بعده : فَمَرِضَ فَجَزِعَ على الإفراد.
والأوَّلُ : أصوب.
وَ اجْتَوَى المَدِينَةَ ، أي : كرهها ؛ يقال : اجتَوَيْتُ المدينةَ : إذا كرهتَهَا ، وإنْ كانتْ موافقةً لك في بَدَنِكَ ، قال الخَطَّابي : "أصلُ الاِجتواءِ : استِيبَالُ المكانِ ، وكراهةُ المقامِ فيه ؛ لِضُرٍّ لَحِقَهُ ، وأصلُهُ : من الجَوَى ، وهو فسادُ الجَوْف".
وقوله : فَأَخَذَ مَشَاقِصَ ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ :
المَشَاقِص : جمعُ مِشْقَص ، وهو السهمُ العريض ، وقال الداووديُّ : هو السِّكِّين.
و البَرَاجِمُ والرَّوَاجِب : مفاصلُ الأصابعِ كلِّها ، وقال أبو مالك في كتابِ "خَلْقِ الإنسان" : "الرَّوَاجِبُ : رؤوسُ العظام في ظَهْرِ الكفِّ ، والبراجمُ : هي المفاصلُ التي تحتها".
(2/86)
وقوله : شَخَبَتْ يَدَاهُ هو بالخاء المعجمة ، وفَتْحِهَا في الماضي ، وضمِّها في المضارع ، وقد تُفْتَحُ ، ومعناه : سال ، قال ابن دُرَيْد : "كلُّ شيءٍ سال ، فهو شُخْبٌ - بضم الشين وفتحها - وهو : ما خرَجَ من الضَّرْع من اللبن ، وكأنه الدُّفْعَةُ منه" ، ومنه المَثَلُ : "شُخْبٌ في الأرضِ ، وشُخْبٌ في الإناء!" ، يقال للذي يُصِيبُ مَرَّةً ، ويخطئُ أخرى ؛ تشبيهًا له بالحالب الذي يفعلُ ذلك.
وقوله : غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ : دليلٌ على أن الكبائر قد تُغْفَرُ بفعلِ القواعد ، وفيه نَظَرٌ سيأتي في الطهارة ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ : دليلٌ على أنَّ المغفرةَ قد لا تتناول محلَّ الجناية ، فيحصُلُ منه توزيعُ العقاب على المعاقَبِ ؛ ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اللَّهُمَّ ، وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ .
والظاهرُ : أنَّ هذا الرجلَ أدركتْهُ بركةُ دعوةِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فغُفِرَ ليدَيْهِ ، وكُمِّلَ له ما بقي من المغفرة عليه ؛ وعلى هذا : فيكونُ قوله : لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ ممتدًّا إلى غايةِ دعاءِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ له ؛ فكأنَّه قيل له : لن نصلحَ منك ما أفسدْتَ ما لم يَدْعُ لك النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وهذا الحديثُ : يقتضي أنَّ قَاتِلَ نفسه ليس بكافر ، وأنَّه لا يُخَلَّدُ في النار ، وهو موافق لمقتضى قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وهذا الرجلُ ممَّن شاء الله أن يَغْفِرَ له ؛ لأنَّه إنَّما أتَى بما دون الشِّرْك ، وهذا بخلافِ القاتلِ نفسَهُ المذكورِ في حديث جُنْدُب ؛ فإنَّه ممَّن شاء الله أن يعذِّبه.
بَابُ مَا يُخَافُ مِنْ سُرْعَةِ سَلْبِ الإِْيمَانِ
(2/87)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ الْيَمَنِ ، أَلْيَنَ مِنَ الْحَرِيرِ ، فَلاَ تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ - وَفِي رِوَايَةٍ : ذَرَّةٍ - مِنْ إِيمَانٍ إِلاَّ قَبَضَتْهُ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا ، وَيُمْسِي كَافِرًا - أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا ، وَيُصْبِحُ كَافِرًا - يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا .
وَمِنْ بَابِ مَا يُخَافُ مِنْ سُرْعَةِ سَلْبِ الإِيمَانِ
قوله : إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ ، أَلْيَنَ مِنَ الْحَرِيرِ ، هذه الريحُ إنما تُبْعَثُ بعد نزولِ عيسى بْنِ مريم صلى الله عليهما وسلم ، وقتلِه الدَّجَّالَ ، كما يأتي في حديثِ عبدالله بْنِ عَمْرٍو في آخر كتاب الفتن ، غير أنَّه قال هنا : رِيحًا مِنْ قِبَل الْيَمَنِ ، وفي حديث عبد الله : مِنْ قِبَلِ الشَّامِ ؛ فيجوزُ أن يكونَ مبدؤها من اليمن ، ثُمَّ تَمُرُّ بالشام ، فَتَهُبُّ منه على مَنْ يليه.
وقَبْضُ الإيمانِ في هذا الحديث هو بقبض أهله ؛ كما جاء في حديث ابن عمرو ، قال فيه : ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ ، فَلاَ يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلاَّ قَبَضَتْهُ ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ ، لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ ، قال : فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلاَمِ السِّبَاعِ .
(2/88)
وقوله : بَادِرُوا بِالأَْعْمَالِ فِتَنًا ، أي : سَابِقُوا بالأعمالِ الصالحةِ هجومَ المِحَنِ المانعةِ منها ، السالبةِ لشرطها المصحِّح لها الإيمان ؛ كما قال : يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا ، وَيُمْسِي كَافِرًا ، ولا إحالةَ ولا بُعْدَ في حمل هذا الحديثِ على ظاهره ؛ لأنَّ المِحَنَ والشدائد إذا توالَتْ على القلوب ، أفسدَتْهَا بِغَلَبتها عليها ، وبما تُؤَثِّرُ فيها مِنَ القَسْوة والغَفْلة التي هي سببُ الشِّقْوة.
ومقصودُ هذا الحديثِ : الحَضُّ على اغتنامِ الفُرْصة ، والاِجتهادُ في أعمالِ الخيرِ والبِرِّ عند التمكُّنِ منها ، قَبْلَ هجومِ الموانع.
وقوله : يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا :
عَرَضُ الدنيا بفتح العين والراء : هو طمعها وما يَعْرِضُ منها ، ويدخُلُ فيه جميعُ المال ؛ قاله الهَرَوِيُّ ، فأمَّا العَرْضُ ، بإسكان الراء : فهو خلافُ الطُّول ، ويقالُ على أمور كثيرة ، والعِرْضُ ، بكسر العين وسكون الراء : هو نسَبُ الرجلِ وحَسَبُهُ وذاتُهُ.
ومقصودُ هذا الحديثِ : الأمرُ بالتمسُّك بالدِّين ، والتشدُّدُ فيه عند الفتن ، والتحذيرُ مِنَ الفتنِ ومِنَ الإقبالِ على الدنيا وعلى مَطَامِعِهَا.
بَابٌ الإْسْلاَمُ إِذَا حَسُنَ ، هَدَمَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الآثَامِ ، وَأَحْرَزَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْبِرِّ
عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ أُنَاسٌ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ قَالَ : أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الإِسْلاَمِ ، فَلاَ يُؤَاخَذُ بِهَا ، وَمَنْ أَسَاءَ ، أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِْسْلاَمِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِْسْلاَمِ ، أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآْخِرِ .
(2/89)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا ، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا ، وأَتَوْا مُحَمَّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالُوا : إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ ، وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً ، فَنَزَلَتْ : {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *} ، وَنَزَلَ : {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ...} الآْيَةَ.
(2/90)
وَعَنِ ابْنِ شُمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ ، قَالَ : حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ ، فَبَكَى طَوِيلاً ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ : يَا أَبَتَاهُ ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِكَذَا؟! أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِكَذَا؟! قَالَ : فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ : إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ : شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثَةٍ : لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنِّي ، وَلاَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الإِْسْلاَمَ فِي قَلْبِي ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقُلْتُ : ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُِبَايِعْكَ ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ ، قَالَ : فَقَبَضْتُ يَدِي ، قَالَ : مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟! ، قَالَ : قُلْتُ : أَرَدتُّ أَنْ أَشْتَرِطَ ، قَالَ : تَشْتَرِطُ مَاذَا؟! ، قُلْتُ : أَنْ يُغْفَرَ لِي ، قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِْسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟! ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟! وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟! ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَلاَ أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ ؛ إِجْلاَلاً لَهُ ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ ، مَا أَطَقْتُ ؛ لأَِنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ ، لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا ، فَإِذَا أَنَا مُتُّ ، فَلاَ تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ(2/91)
وَلاَ نَارٌ ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي ، فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا ، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا ، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي.
وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَيْ رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛ مِنْ صَدَقَةٍ ، أَوْ عَتَاقَةٍ ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ ، أَفِيهَا أَجْرٌ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّهُ أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ ، ثُمَّ أَعْتَقَ فِي الإِْسْلاَمِ مِائَةَ رَقَبَةٍ ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ... فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَمِنْ بَابٍ الإِْسْلاَمُ إِذَا حَسُنَ ، هَدَمَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الآثَامِ ، وَأَحْرَزَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْبِرِّ
قوله : أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الإِْسْلاَمِ ، فَلاَ يُؤَاخَذُ بِهَا ، وَمَنْ أَسَاءَ ، أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِْسْلاَمِ :
يعني بالإحسانِ هنا : تصحيحَ الدخولِ في دِينِ الإسلامِ ، والإخلاصَ فيه ، والدوامَ على ذلك مِنْ غير تبديلٍ ولا ارتداد.
والإساءةُ المذكورةُ في هذا الحديثِ في مقابلةِ هذا الإحسانِ : هي الكفرُ والنفاق ، ولا يَصِحُّ أن يراد بالإساءةِ هنا ارتكابُ سَيِّئةٍ ومعصية ؛ لأنه يلزمُ عليه ألاَّ يَهْدِمَ الإسلامُ ما قبله مِنَ الآثامِ إلا لمن عُصِمَ من جميعِ السيئاتِ إلى الموت ، وهو باطلٌ قطعًا ؛ فتعيَّن ما قلناه.
والمؤاخذةُ هنا : هي العقابُ على ما فعله مِنَ السيِّئات في الجاهليَّة وفي حالِ الإسلام ، وهو المعبَّرُ عنه في الروايةِ الأخرى بقوله : أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ .
(2/92)
وإنما كان ذلك كذلك ؛ لأنَّ إسلامَهُ لمَّا لم يكنْ صحيحًا ولا خالصًا لله تعالى ، لم يَهْدِمْ شيئًا مما سبَقَ ، ثم انضافَ إلى ذلك إثمُ نفاقِهِ وسيئاتِهِ التي عَمِلَهَا في حالِ الإسلام ، فاستحَقَّ العقوبةَ عليها.
ومِنْ هنا : استَحَقَّ المنافقون أن يكونوا في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار ؛ كما قال الله تعالى.
ويستفادُ منه : أنَّ الكُفَّارَ مخاطَبُونَ بالفروع.
ابْنُ شُمَاسَةَ رُوِّيناه بفتح الشين وضمِّها ، واسمُهُ : عبدالرحمن بن شُمَاسة ، أبوه مِنْ بني مَهْرة ، قَبِيلٌ.
وقولُ عمرو بن العاصي ـ رضى الله عنه ـ : إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ : شَهَادَةُ : أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، أي : أفضلُ ما نتخذه عُدَّةً لِلِقَاءِ الله : الإيمانُ بالله تعالى ، وتوحيدُهُ ، وتصديقُ رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والنطقُ بذلك.
وقد تقدَّم أنَّ الإيمانَ أفضلُ الأعمالِ كلِّها ، ويتأكَّدُ أمرُ النطق بالشهادتَيْنِ عند الموت ؛ ليكونَ ذلك خَاتِمَةَ أمره ، وآخِرَ كلامه.
وقوله : إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثَةٍ ، أي : أحوالٍ ومنازلَ ، ومنه قوله تعالى : {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ *} ، أي : حالاً بعد حال.
وقوله : ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُِبَايِعْكَ ، بكسر اللام وإسكان العين على الأمر ، أي : أَمْرِ المتكلِّمِ لنفسه ، والفاءُ جوابٌ لما تضمَّنه الأمرُ الذي هو ابسُطْ من الشرط.
ويصحُّ : أن تكون اللامُ لامَ كي ، وتنصبَ أُبَايِعَكَ ، وتكونَ اللامُ سببية ، والله أعلم.
(2/93)
وقوله : إِنَّ الإِْسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَإِنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، الهَدْمُ هنا : استعارةٌ وتوسُّع ، يعني به : الإذهابَ والإزالةً ؛ لأنَّ الجدار إذا انهدم ، فقد زالَ وضعُهُ ، وذهَبَ وجودُهُ ، وقد عبَّر عنه في الرواية الأخرى بالْجَبِّ ، فقال : يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ، أي : يَقْطَعُ ، ومنه المجبوبُ ، وهو المقطوعُ ذَكَرُهُ.
ومعنى العبارتَيْنِ واحد ، ومقصودُهُمَا : أنَّ هذه الأعمالَ الثلاثةَ تُسْقِطُ الذنوبَ التي تقدَّمَتْهَا كلَّها ، كبيرَهَا وصغيرها ؛ فإنَّ ألفاظَهَا عامَّةٌ خرجَتْ على سؤالٍ خاصٍّ ؛ فإنَّ عَمْرًا ـ رضى الله عنه ـ إنما سأل أن تُغْفَرَ له ذنوبُهُ السابقةُ بالإسلام ، فأُجِيبَ على ذلك ؛ فالذنوبُ داخلةٌ في تلك الألفاظِ العامَّةِ قطعًا ، وهي بحكم عمومها صالحةٌ لتناوُلِ الحقوقِ الشرعيَّة ، والحقوقِ الآدميَّة ؛ وقد ثبَتَ ذلك في حَقِّ الكافر الحربيِّ إذا أسلَمَ ؛ فإنَّه لا يُطَالَبُ بشيء مِنْ تلك الحقوق ، ولو قَتَلَ وأَخَذَ الأموالَ ، لم يُقْتَصَّ منه بالإجماع ، ولو خرجَتِ الأموالُ مِنْ تحت يده ، لم يطالَبْ بشيء منها.
ولو أسلَمَ الحربيُّ وبيده مالُ مسلمٍ ؛ عَبِيدٌ ، أو عُرُوضٌ ، أو عَيْنٌ :
فمذهبُ مالك : أنَّه لا يجبُ عليه رَدُّ شيء من ذلك ؛ تمسُّكًا بعمومِ هذا الحديث ، وبأنَّ للكفَّارِ شبهةَ مِلْكٍ فيما حازُوهُ من أموال المسلمين وغيرهم ؛ لأنَّ الله تعالى قد نسَبَ لهم أموالاً وأولادًا ؛ فقال تعالى : {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ}.
وذهَبَ الشافعيُّ : إلى أنَّ ذلك لا يَحِلُّ لهم ، وأنَّه يجبُ عليهم ردُّها إلى مَنْ كان يملكها مِنَ المسلمين ، وأنَّهم كالغُصَّاب ؛ وهذا يُبْعِده : أنَّهم لو استَهْلَكُوا ذلك في حالةِ كُفْرهم ثُمَّ أسلموا ، لم يَضْمَنوه بالإجماعِ ؛ على ما حكاه أبو محمَّدٍ عبدُ الوهَّاب.
(2/94)
فأمَّا أسرى المسلمين الأحرارِ : فيجبُ عليهم رفعُ أيديهم عنهم ؛ لأنَّ الحُرَّ لا يُمْلَكُ.
وأما مَنْ أسلم مِنْ أهل الذمَّة : فلا يُسْقِطُ الإسلامُ عنه حقًّا وجب عليه لأحدٍ مِنْ مالٍ أو دمٍ أو غيرهما ؛ لأنَّ أحكام الإسلامِ جاريةٌ عليهم.
واستيفاءُ الفروعِ في كتب الفقه.
وأما الهجرةُ ، والحَجُّ : فلا خلافَ في أنهما لا يُسْقِطان إلا الذنوبَ والآثامَ السابقة ، وهل يُسْقِطان الكبائرَ والصغائر ، أو الصغائرَ فقطْ ؟ موضعُ نظرٍ سيأتي في كتاب الطهارة ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : فَإِذَا مُتُّ ، فَلاَ تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلاَ نَارٌ ، إنَّما وصَّى باجتنابِ هذَيْن الأمرَيْن ؛ لأنَّهما مِنْ عَمَلِ الجاهليَّة ، ولِنَهْيِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك.
وقوله : فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي ، فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا :
شَنًّا رُوِيَ هذا الحرفُ بالسِّين المهملة ، وبالشِّينِ المعجمة ، فقيل : هما بمعنًى واحدٍ ، وهو الصَّبُّ ، وقيل : هو بالمهملة : الصَّبُّ في سهولة ، وبالمعجمةِ : صَبٌّ في تفريق.
وهذه سُنَّةٌ في صَبِّ التراب على الميِّت في القبر ؛ قاله عِيَاضٌ ، وقال : "كره مالكٌ في "العُتْبِيَّةِ" الترصيصَ على القَبْرِ بالحجارة والطُّوب".
وقوله : ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا ، الجَزُورُ بفتح الجيم : من الإبل ، والجَزَرَةُ : من غيرها ، وفي "كتاب العين" : "الجَزَرَةُ : من الضَّأْنِ والمَعْز خاصَّةً ، وهي مأخوذةٌ من الجَزْرِ ، وهو القَطْع".
وقوله : وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً :
يَحْتملُ : أن تكونَ لو هنا للامتناع ، ويكونُ جوابها محذوفًا ، تقديره : لَأَسْلَمنا ، أو نحوه.
ويَحْتملُ : أن تكون تمنِّيًا بمعنى ليت .
والأوَّل أظهر.
(2/95)
وقوله تعالى : {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا *} الآية ، ذا : إشارةٌ إلى واحدٍ في أصلِ وضعها ، غَيْرَ أنَّ الواحدَ تارةً يكونُ واحدًا بالنصِّ عليه ، وتارةً يكونُ بتأويل وإن كانتْ أمورًا متعدِّدة في اللفظِ كما في هذه الآية ؛ فإنَّه ذكَرَ قَبْلَ ذا أمورًا ، وأعاد الإشارةَ إليها مِنْ حيثُ إنَّها مَذْكُورةٌ أو مَقُولة ؛ فكأنَّه قال : ومَنْ يفعلِ المذكورَ أو المقولَ.
وفي هذه الآية : حُجَّةٌ لمن قال : إنَّ الكفَّار مُخَاطَبُونَ بفروعِ الشريعة ، وهو الصحيحُ مِنْ مذهبِ مالكٍ ؛ على ما ذكرناه في الأصول.
وقوله : أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ ، اختُلِفَ في تأويله :
فقيل معناه : إنَّك اكتسبتَ طِباعًا جميلةً ، وخُلُقًا حسنةً في الجاهلية ، أَكْسَبَتْكَ خُلُقًا جميلةً في الإسلام.
وقيل : اكتسَبْتَ بذلك ثناءً جميلاً ، فهو باقٍ عليك في الإسلام.
وقيل : معناه : ببركةِ ما سبَقَ لك مِنْ خيرٍ ، هداك الله تعالى للإسلام.
وقال الحَرْبِيُّ : معناه : ما تقدَّم لك مِنَ الخير الذي عَمِلْتَهُ : هو لك ؛ كما تقول : أَسْلَمْتُ على ألفِ درهم ، أي : على أَنْ أُحْرِزها لنفسه.
قال الشارح ـ رحمه الله ـ : وهذا الذي قاله الحَرْبِيُّ هو أشبهها وأَوْلاَها ، وهو الذي أَشَرْنا إليه في الترجمة ، والله تعالى أعلم.
[وفي هذا الحديثِ - أعني : حديثَ عمرو بن العاصي ـ رضى الله عنه ـ - فوائد :
منها : تبشيرُ المحتضَرِ ، وتذكيرُهُ بأعمالِهِ الصالحة ؛ ليقوَى رجاؤه ، ويَحْسُنَ باللهِ تعالى ظَنُّهُ.
ومنها : أنَّ الميِّت تُرَدُّ عليه رُوحُهُ ، ويَسْمَعُ حِسَّ مَنْ هو على قبره ، وكلامَهُمْ ، وأنَّ الملائكةَ تسألُهُ في ذلك الوقت.
(2/96)
وهذا كلُّه إنما قاله عمرو ـ رضى الله عنه ـ عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنَّ مِثْله لا يُدْرَكُ إلا مِنْ جهة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وعلى هذا : فينبغي أن يُرْشَدَ الميِّتُ في قبره حين وَضْعِهِ فيه إلى جوابِ السؤال ، ويُذكَّرَ بذلك ، فيقال له : "قُلِ : اللهُ ربِّي ، والإسلامُ ديني ، ومحمَّدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولي" ؛ فإنَّه عن ذلك يُسْأَلُ كما جاءَتْ به الأحاديث على ما يأتي ، إن شاء الله تعالى ، وقد جرى العمَلُ عندنا بِقُرْطُبَةَ كذلك ، فيقال : قل : "هو محمَّدٌ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ؛ وذلك عند هَيْلِ التراب عليه.
ولا يُعارَضُ هذا بقوله تعالى : {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، ولا بقوله : {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ؛ لأنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نادى أهلَ القَلِيبِ وأسمعهم ، وقال : مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ ، ولَكِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ جَوَابًا ، وقد قال في الميِّت : إِنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ ، وأنَّ هذا يكونُ في حال دون حال ، ووَقْتٍ دون وقت ، وسيأتي استيفاءُ هذا المعنَى في الجنائز ، إن شاء الله تعالى.
وفي هذا الحديثِ : ما كانتِ الصحابةُ ـ رضى الله عنهم ـ عليه مِنْ شدَّة محبَّتهم لرسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتعظيمِهِ وتوقيره.
وفيه : الخوفُ مِنْ تغيُّرِ الحال ، والتقصيرِ في الأعمالِ في حالِ الموت ، لكنْ ينبغي أن يكونَ الرجاءُ هو الأغلَبَ في تلك الحال ، حتَّى يَحْسُنَ ظنُّهُ بالله عزَّ وجلَّ ؛ فيلقاه على ما أَمَرَ به رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ حيثُ قال : لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ].
بَابُ ظُلْمٍ دُونَ ظُلْمٍ
(2/97)
عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : [الأنعَام : 82]{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَقَالُوا : أَيُّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ [لقمَان : 13]{يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
وَمِنْ بَابِ ظُلْمٍ دُونَ ظُلْمٍ
قوله : {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، أي : لم يَخْلِطوا ، يقال : لَبَسْتُ الأَمْرَ بغيره - بفتح الباء في الماضي ، وكسرها في المستقبل - لَبْسًا : إذا خَلَطْتَهُ ، ولَبِسْتُ الثوبَ - بكسر الباء في الماضي ، وفتحها في المستقبل - لُبْسًا ولِبَاسًا.
والظُّلْمُ : وَضْعُ الشيءِ في غير موضعه ؛ ومنه قولُ النابغة :
وَالنُّؤْيُ كالحَوْضِ بِالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
فسمَّى الأرضَ مظلومةً ؛ لأنَّ النُّؤْيَ حُفِرَ في الصُّلْبِ منها ، وليس موضعَ حَفْر.
والمرادُ به في الآية : الشِّرْكُ ، وهو أعظمُ الظلم ؛ إذ المُشْرِكُ اعتقدَ الإلهيَّةَ لغيرِ مستَحِقِّها ؛ كما قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، أي : لا ظُلْمَ أعظَمُ منه.
ويقال على المعاصي : ظُلْم ؛ لأنَّها وُضِعَتْ موضعَ ما يجبُ من الطاعةِ لله تعالى.
وقد يأتي الظُّلْمُ ويرادُ به النقص ؛ كما قال تعالى : {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، أي : ما نَقَصُونا بِكُفْرهم شيئًا ، ولكنْ نَقَصُوا أنفسهم حظَّها من الخير.
وفي هذا الحديثِ : ما يدلُّ على أنَّ النكرةَ في سياق النفي تَعُمُّ ؛ لأنَّ الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ فَهِمَتْ من ذلك العمومِ كُلَّ ظلم ، وأقرَّهم النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك الفَهْمِ ، وبيَّن لهم أنَّ المراد بذلك : ظُلْمٌ مخصوص.
وفي الآية : دليلٌ على جواز إطلاقِ اللَّفْظِ العامِّ ، والمرادُ به الخصوصُ.
(2/98)
بَابٌ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : [البَقَرَة : 284]{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ...} إلَى آخِرِ السُّورَةِ
(2/99)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : [البَقَرَة : 284]{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ...} الآية ، قَالَ : فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ ، فَقَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللهِ ، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ : الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ ، وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ ، وَلاَ نُطِيقُهَا!! قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟! بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ، وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ ، أَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا : [البَقَرَة : 285]{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ *} ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ، نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ : [البَقَرَة : 286]{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، قَالَ : نَعَمْ ، [البَقَرَة : 286]{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، قَالَ : نَعَمْ ، [البَقَرَة : 286]{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، قَالَ : نَعَمْ ، [البَقَرَة : 286]{وَاعْفُ(2/100)
عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ، قَالَ : نَعَمْ .
وعَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ .
ومِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ} الآيَةَ
ما هذه التي في أوَّلِ الآية : بمعني الذي ، وهي متناولةٌ لمن يَعْقِلُ وما لا يعقل ، وهي هنا عامَّةٌ لا تخصيصَ فيها بوجه ؛ لأنَّ كلَّ من في السمواتِ والأرضِ وما فيهما وما بينهما : خَلْقٌ لله تعالى ، ومِلْكٌ له.
وهذا إنما يتمشَّى على مذهبِ أهلِ الحَقِّ والتحقيقِ الذين يُحِيلُونَ على الله تعالى أن يكونَ في السماءِ أو في الأرضِ ؛ إذْ لو كان في شيء ، لكان محصورًا أو محدودًا ، ولو كان كذلك ، لكان مُحْدَثًا.
وعلى هذه القاعدة : فقوله تعالى : {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، وقولُ الأَمَةِ للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال لها : أَيْنَ اللهُ ؟ فقالَتْ : فِي السَّمَاءِ ، ولم يُنْكِرْ عليها ذلك ، وما قد رُوِيَ عن بعض السلف أنَّهم كانوا يُطْلِقون ذلك : ليس على ظاهره ، بل هو مُؤَوَّلٌ تأويلاتٍ صحيحةً قد أبداها كثيرٌ من أهل العلمِ في كتبهم ، لكنَّ السلَفَ ـ رضى الله عنهم ـ كانوا يجتنبون تأويلَ المتشابهات ، ولا يتعرَّضون لها ، مع عِلْمهم بأنَّ الله تعالى يستحيلُ عليه سِمَاتُ المُحْدَثَات ، ولوازمُ المخلوقات ، واستيفاءُ المباحث في علم الكلام.
(2/101)
وقوله : {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} ، ما هذه أيضًا : على عمومها ، فتتناولُ كلَّ ما يقع في نَفْسِ الإنسانِ من الخواطر ؛ ما أُطِيقَ دفعُهُ منها وما لا يطاق ؛ ولذلك أَشْفَقَتِ الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ مِنْ محاسبتِهِمْ على جميعِ ذلك ومؤاخذتِهِمْ به ، فقالوا للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كُلِّفْنَا مَا نُطِيقُ : الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ ، وَهَذِهِ الآيةُ لاَ نُطِيقُهَا.
ففيه : دليلٌ على أنَّ موضوعَ ما للعموم ، وأنَّه معمولٌ به فيما طريقُهُ الاعتقادُ ؛ كما هو معمولٌ به فيما طريقُهُ العمل ، وأنَّه لا يجبُ التوقُّفُ فيه إلى البحثِ على المخصِّص ، بل يُبَادِرُ إلى اعتقاد الاستغراقِ فيه وإنْ جاز التخصيصُ ، وهذه المسائلُ اختُلِفَ فيها ؛ كما بيَّنَّاه في الأصول.
ولمَّا سمع النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك القولَ منهم ، أجابهم بأنْ قال : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟! بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، فأقرَّهم النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما فهموه ، وبيَّن لهم أنَّ لله تعالى أن يُكلِّفَ عبادَهُ بما يطيقونَهُ وبما لا يطيقونه ، ونهاهم عن أن يقَعَ لهم شيءٌ مما وقَعَ لضُلاَّلِ أهل الكتاب مِنَ المخالفة ، وأمَرَهُمْ بالسَّمْعِ والطاعةِ ، والتسليمِ لأمر الله تعالى على ما فهموه ، فسلَّم القومُ لذلك وأذعنوا ، ووطَّنوا أنفسهم على أنَّهم كُلِّفُوا في الآية بما لا يطيقونَهُ ، واعتقدوا ذلك ، فقد عملوا بمقتضى ذلك العمومِ ، وثبَتَ ووَرَدَ ، فإنْ قدِّر رافعٌ لشيء منه ، فذلك الرَّفْعُ نسخٌ لا تخصيص.
(2/102)
وعلى هذا : فقولُ الصحابي ـ رضى الله عنه ـ : فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ، نَسَخَهَا اللهُ على حقيقة النسخ ، لا على جهة التخصيص ؛ خلافًا لمن لم يَظْهَرْ له ما ذكرناه ، وهم كثيرٌ من المتكلِّمين على هذا الحديث ، مِمَّنْ رأى أنَّ ذلك من باب التخصيص ، لا مِنْ باب النسخ ، وتأوَّلوا قولَ الصحابيِّ أنَّه نَسْخٌ ؛ على أنَّه أراد بالنَّسْخِ التخصيصَ ، وقال : "فإنَّهم كانوا لا يفرِّقون بين النسخ والتخصيص" ، وقد كُنْتُ على ذلك زمانًا إلى أنْ ظَهَرَ لي ما ذكرتُهُ ، فتأمَّلْهُ ؛ فإنَّه الصحيح ، إن شاء الله.
وقوله : إِنَّهُمْ - يعني : الصحابةَ ـ رضى الله عنهم ـ - كانوا لا يُفرِّقون بين النسخ والتخصيص :
إنْ أراد به : أنَّهم لم ينصُّوا على الفَرْقِ : فمسلَّم ، وكذلك أكثرُ مسائلِ عِلْمِ الأصول ، بل كلُّها ؛ فإنَّهم لم ينصُّوا على شيء منها ، بل فرَّعوا عليها ، وعَمِلُوا على مقتضاها ، من غير عبارةٍ عنها ولا نُطْقٍ بها ، إلى أن جاء مَنْ بعدهم ، فتَفَطَّنُوا لذلك وعبَّروا عنه ، حتى صنَّفوا فيه التصانيفَ المعروفة ، وَأَوَّلُهُمْ في ذلك الشافعيُّ ـ رحمه الله ـ فيما علمناه.
وإن أراد بذلك : أنَّهم لم يكونوا يَعْرِفُونَ الفرقَ بين النسخ والتخصيص ، ولا عَمِلُوا عليه : فقد نسبهم إلى ما يستحيلُ عليهم ؛ لثقابةِ أذهانهم ، وصحَّةِ فهومهم ، وغزارةِ علومهم ، وأنَّهم أَوْلَى بعلم ذلك مِنْ كل مَنْ بعدهم ؛ كيف لا وَهُمْ أئمَّةُ الهدى ، وبهم إلى كُلِّ العلومِ يُقتدَى ، وإليهم المرتَجَعْ ، وقولهم المُتَّبَعْ ، وكيف يَخْفَى عليهم ذلك ، وهو مِنَ المبادئ الظاهرة على ما قَرَّرْنَاهُ في الأصول؟!
وقوله : {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ، أي : يقولون : لا نفرِّقُ بين أحد منهم ؛ في العلم بِصِحَّةِ رسالاتهم ، وصِدْقِهِمْ في قولهم.
و غُفْرَانَكَ : منصوبٌ على المصدر ، أي : اغفرْ غفرانَكَ ، وقيل : مفعولٌ بفعل مضمر ، أي : هَبْ غفرانَكَ.
و المَصِير : المرجع.
(2/103)
و التَّكْلِيف : إلزامٌ لِمَا في فعله كُلْفَةٌ ، وهي النَّصَبُ والمشقَّة.
و الوُسْع : الطاقة.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ لله تعالى أن يكلِّفَ عبادَهُ بما يُطِيقونه وما لا يُطِيقونه ، ممكنًا كان أو غيرَ ممكن ، لكنَّه تعالى تفضَّلَ بأنَّه لم يُكَلِّفْنَا إلا بما نطيقه وبما يمكننا إيقاعُهُ ، وكمَّلَ علينا بِفَضْلِهِ رَفْعَ الإصْرِ والمشاقِّ التي كلَّفها غيرنا.
واستيفاءُ مباحثِ هذه المسألةِ في علمِ الكلامِ والأصول.
وقوله : {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ، أي : ما كسَبَتْ من خيرٍ ، فلها ثوابه ، وما اكتسَبَتْ من شَرٍّ ، فعليها عقابُهُ.
و كَسَبَ واكْتَسَبَ : لغتان بمعنًى واحدٍ ؛ كـ"قَدَرَ" و"اقتَدَرَ".
ويمكنُ أن يقال : إن هذه التاءَ تاءُ الاستفعالِ والتعاطي ، ودخلَتْ في اكتسابِ الشَّرِّ دون كسب الخير ؛ إشعارًا بأنَّ الشَّرَّ لا يؤاخَذُ به إلا بعد تعاطيه وفعلِهِ دون الهَمِّ به ؛ بخلاف الخير : فإنَّه يُكْتَبُ لمن هَمَّ به وتحدَّثَ به في قلبه ، كما جاء في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُخْبِرًا عن الله تعالى : إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْهَا ، فَإذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، ، وإِذا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْ ، فَإِذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ، وفي لفظٍ آخَرَ : إِذَا هَمَّ بدل تَحَدَّثَ ، وسيأتي إن شاء الله تعالى النظرُ في هذا الحديث.
و الإِصْرُ : العهدُ الذي يُعْجَزُ عنه ؛ قاله ابن عباس ، وقال الربيع : هو الثقلُ العظيم ، وقال ابن زيد : هو الذنبُ الذي لاتوبةَ له ، ولا كَفَّارَةَ.
(2/104)
وقوله : {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} ، قيل : اعْفُ عن الكبائر ، واغْفِرِ الصغائر ، وارحَمْ بتثقيل الموازين ، وقيل : اعْفُ عن الأقوالْ ، واغفِرِ الأفعالْ ، وارحَمْ بتوالي الألطافِ وسَنِيِّ الأحوالْ.
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : وأصلُ العفو : التسهيلُ ، والمغفرةُ : السترُ ، والرحمةُ : إيصالُ النعمةِ إلى المحتاج.
و مولانا : وليُّنا ، ومتولِّي أمورِنَا ، وناصرُنَا.
و نَعَمْ : حرفُ جواب ، وهو هنا إجابةٌ لما دَعَوْا فيه ، كما قال في الرواية الأخرى عن ابن عبَّاس : قَدْ فَعَلْتُ بدل قوله هنا نَعَمْ .
وهو إخبارٌ من الله تعالى : أنَّه أجابهم في تلك الدعوات ، فكلُّ داعٍ يشاركُهُمْ في إيمانِهِمْ وإخلاصِهِمْ واستسلامِهِمْ ، أجابه الله تعالى كإجابتهم ؛ لأنَّ وَعْدَ الله تعالى صدقٌ ، وقولَهُ حقٌّ.
وكان معاذ ـ رضى الله عنه ـ يختمُ هذه السورةَ بـ آمِينَ كما تُخْتَمُ الفاتحة ، وهو حَسَن.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، روايتنا : نصبُ أَنْفُسَهَا ، على أنَّه مفعولُ حَدَّثَتْ ، وفي حَدَّثَتْ ضميرُ فاعلٍ عائدٌ على الأُمَّة.
وأهل اللغة يقولون : أَنْفُسُهَا بالرفع على أنَّه فاعلُ حَدَّثَتْ ، يريدون بغير اختيار ؛ قاله الطحاويُّ ـ رحمه الله ـ .
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : يعني بذلك : أنَّ الذي لا يؤاخَذُ به هو الأحاديثُ الطارئةُ التي لا ثباتَ لها ، ولا استقرارَ في النَّفْسِ ، ولا رُكُونَ إليها.
وهذا نحوٌ ممَّا قاله القاضي أبو بكر في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الله تعالى : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ ، فَإِذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ عَشْرًا ، ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ ، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا ، فَإذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
(2/105)
قال القاضي : "إنَّ الهمَّ هنا : ما يَمُرُّ بالفِكْرِ من غير استقرارٍ ولا توطين ، فلو استمرَّ ووطَّن قلبه عليه ، لكان ذلك هو العَزْمَ المؤاخَذَ به أو المثابَ عليه ؛ بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِذَا الْتَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا ، فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَذَا القَاتِلُ ، فَمَا بَالُ المَقْتُولِ ؟ قَالَ : إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ.
لا يُقَالُ : "فهذه المؤاخذةُ هنا إنَّما كانتْ لأنَّه قد عَمِلَ بما استَقَرَّ في قلبه مِنْ حمله السلاحَ عليه ، لا بمجرَّدِ حِرْصِ القلب ؛ لأنَّا نقول : هذا فاسدٌ ؛ لأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نصَّ على ما وقعَتِ المؤاخذةُ به ، وأعرَضَ عن غيره ، فقال : إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ ، فلو كان حَمْلُ السلاحِ هو العِلَّةَ الموجِبةَ للمؤاخذةِ أو جُزْءَهَا ، لَمَا سكَتَ عنه ، وعلَّقَ المؤاخذَةَ على غيره ؛ لأنَّ ذلك خلافُ البيانِ الواجبِ عند الحاجةِ إليه".
وهذا الذي صار القاضي إليه ، هو الذي عليه عامَّةُ السلفِ وأهلِ العلمِ ؛ من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين.
ولا يُلْتَفَتُ إلى مَنْ خالفهم في ذلك ؛ فزعم : "أنَّ ما يَهُمُّ به الإنسانُ - وإن وطَّن نفسَهُ عليه - لا يؤاخَذُ به ؛ مُتَمَسِّكًا في ذلك بقوله تعالى : {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ ، ومن لم يعملْ بما عزَمَ عليه ولا نطَقَ به ، فلا يؤاخَذُ به ، وهو متجاوَزٌ عنه" :
والجوابُ عن الآية : أنَّ مِنَ الهمِّ ما يؤاخَذُ به ، وهو ما استَقَرَّ واستوطَنَ ، ومنه ما يكونُ أحاديثَ لا تستقرُّ ؛ فلا يؤاخَذُ بها ؛ كما شَهِدَ الحديثُ به ، وما في الآية من القِسْمِ الثاني لا الأوَّل ، ، وفي الآيةِ تأويلاتٌ هذا أحَدُهَا ، وبه يحصُلُ الانفصال.
وعن قوله : مَا لَمْ تَعْمَلْ : أنَّ توطينَ النفسِ عليه عَمَلٌ ؛ فيؤاخَذُ به.
(2/106)
والذي يرفعُ الإشكالَ ويبيِّنُ المرادَ بهذا الحديث : حديثُ أبي كَبْشةَ الأنماريِّ ، واسمه عُمَرُ بن سَعْد - على ما قاله خَليفة بنُ خَيَّاط - : أنَّه سَمِعَ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأِرْبَعَةِ نَفَرٍ... الحديثَ إلى آخره ، وقد ذكرناه.
بَابُ مَا يَهُمُّ بِهِ العَبْدُ مِنَ الحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قَالَ اللهُ تَعَالَى : إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ ، فَإِذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، ، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا ، فَإِذَا عَمِلَهَا ، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قَالَتِ الْمَلائِكَةُ : رَبِّ ، ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ؟ - وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ - فَقَالَ : ارْقُبُوهُ ؛ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا ، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً ، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ .
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللهَ عَزَّوَجَلَّ .
قوله : قَالَتِ المَلاَئِكَةُ : رَبِّ ، ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ؟ -وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ- ، قال الطبريُّ : "فيه دليلٌ على أنَّ الحَفَظَةَ تكتُبُ أعمالَ القلوبِ ؛ خلافًا لمن قال : إنَّها لا تكتُبُ إلاَّ الأعمالَ الظاهرة".
(2/107)
وقوله : إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ ، أي : مِنْ أجلي ، وفيه لغتان : المَدُّ والقصر ؛ ومنه الحديث : إنَّ امْرَأَةً دَخَلَتِ النَّارَ مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ ، أي : مِنْ أجلِ هِرَّة ، وهي مشدَّدةُ الراء في اللغتين ، وقد خُفِّفت معهما.
ومقصودُ هذا اللفظ : أنَّ الترك للسَّيِّئةِ لا يُكْتَبُ حسنةً ، إلاَّ إذا كان خوفًا من الله تعالى ، أو حياءً منه ، وأيُّهما كان ، فذلك التركُ هو التوبةُ من ذلك الذنبِ. وإذا كان كذلك ، فالتوبةُ عبادةٌ من العبادات ؛ إذا حصَلَتْ بشروطها ، أذهبَتِ السَّيِّئات ، وأعقَبَتِ الحسنات.
وقوله تعالى : إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ : إخبارٌ منه تعالى للملائكةِ بما لم يعلموا مِنْ إخلاصِ العبد في التَّرْك ، ومِنْ ههنا قيل : إنَّ الملائكةَ لا تَطَّلِعُ على إخلاصِ العبد.
وَفِي رِوَايَةٍ : إِذَا هَمَّ مَكَانَ : إِذَا تَحَدَّثَ .
وقد دَلَّ عليه : قولُهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثِ حذيفةَ ـ رضى الله عنه ـ عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد سأله عن الإخلاص ما هو ، فقال : قَالَ اللهُ تَعَالَى : "هُوَ سِرٌّ مِنْ سِرِّي ، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُ مِنْ عِبَادِي ، والحديثُ الآخرُ الذي يقولُ الله تعالى فيه للملائكةِ التي تكتُبُ الأعمالَ حينَ تَعْرِضها عليه : ضَعُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا ، فَتَقُولُ المَلاَئِكَةُ : وَعِزَّتِكَ مَا رَأَيْنَا إِلاَّ خَيْرًا ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : إِنَّ هَذَا كَانَ لِغَيْرِي ، وَلاَ أَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي.
بَابُ : اسْتِعْظَامُ الوَسْوَسَةِ ، وَالنُّفْرَةُ مِنْهَا : خَالِصُ الإِْيمَانِ ، وَالأَْمْرِ بِالاِسْتِعَاذَةِ عِنْدَ وُقُوعِهَا
(2/108)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَسَأَلُوهُ : إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ؟ قَالَ : وَقَدْ وَجَدتُّمُوهُ؟! ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : ذَلِكَ صَرِيحُ الإِْيمَانِ .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنِ الْوَسْوَسَةِ ؟ فَقَالَ : تِلْكَ مَحْضُ الإِيمَانِ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا ؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ : مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : فَلْيَقُلْ : آمَنْتُ بِاللهِ .
وَمِنْ بَابِ : اسْتِعْظَامُ الْوَسْوَسَةِ ، وَالنُّفْرَةُ مِنْهَا : خَالِصُ الإِْيمَانِ
قوله : وَقَدْ وَجَدتُّمُوهُ؟! ؛ كذا صحَّت الروايةُ وقد بالواو ، ، ومعنى الكلام : الاستفهامُ على جهة الإنكارِ والتعجُّبِ :
فَيَحْتملُ : أن تكونَ همزةُ الاستفهامِ محذوفةً ، والواوُ للعطفِ ، فيكونُ التقدير : أَوَقَدْ وَجَدتموه؟!.
ويَحْتمل : أن تكونَ الواوُ عِوَضَ الهمزة ؛ كما قرأ قُنْبُلٌ ، عن ابن كَثِيرٍ : {قَالَ فِرْعَوْنُ وَأَامَنْتُمْ بِهِ} ، قال أبو عَمْرٍو الداني : "هي عِوَضٌ من همزة الاستفهام ، وهذه الواوُ مثلها.
والضميرُ في وَجَدتُّمُوهُ عائدٌ على التعاظم الذي دَلَّ عليه يتعاظم.
و الصَّرِيحُ وَ المَحْضُ : الخالصُ الصافي ، وأصلُهُ في اللبن.
ومعنى هذا الحديثِ : أنَّ هذه الإلقاءاتِ والوساوسَ التي يُلْقيها الشيطانُ في صدور المؤمنين ، تَنْفِرُ منها قلوبُهُمْ ، ويَعْظُمُ عليهم وقوعُهَا عندهم ، وذلك دليلٌ على صِحَّةِ إيمانهم ويقينِهِمْ ومعرفتِهِمْ بأنَّها باطلة ، ومن إلقاءاتِ الشيطان ، ولولا ذلك ، لركنوا إليها ، وَلَقَبِلوها ، ولم تَعْظُمْ عندهم ، ولا سَمَّوْهَا وسوسةً.
(2/109)
ولمَّا كان ذلك التعاظُمُ ، وتلك النُّفْرَةُ عن ذلك : الإيمانَ ، عبَّر عن ذلك بأنَّه خالصُ الإيمان ، ومحضُ الإيمان ؛ وذلك مِنْ باب تسميةِ الشيءِ باسمِ الشيء ؛ إذا كان مُجَاوِرًا له ، أو كان منه بِسَبَبٍ.
وقوله : فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ ، وَلْيَنْتَهِ ، لمَّا كانتْ هذه الوساوسُ مِنْ إلقاءِ الشيطان ، ولا قُوَّةَ لأحدٍ بدفعِهِ إلا بمعونةِ الله تعالى وكفايتِهِ - : أمَرَ بالالتجاءِ إليه ، والتعويلِ في دفع ضرَرِهِ عليه ، وذلك معنى الاستعاذةِ على ما يأتي ، ، ثم عقَّب ذلك بالأمرِ بالانتهاءِ عن تلك الوساوسِ والخواطرِ ، أي : عن الالتفاتِ إليها والإصغاءِ نحوها ، بل يُعْرِضُ عنها ولا يبالي بها.
وليس ذلك نهيًا عن إيقاعِ ما وَقَعَ منها ، ولا عن أَلاَّ تقَعَ منه ؛ لأنَّ ذلك ليس داخلاً تحت الاختيار ولا الكَسْب ، فلا يكلَّفُ بها ، والله تعالى أعلم.
وقوله في الحديث الآخر : قُلْ : آمَنْتُ بِاللهِ ، أمرٌ بتذكُّرِ الإيمانِ الشرعيِّ ، وإشغالِ القلب به ؛ لِتُمْحَى تلك الشبهاتْ ، وتَضْمَحِلَّ تلك التُّرَّهَاتْ.
وهذه كلُّها أدويةٌ للقلوبِ السليمة ، الصحيحةِ المستقيمة ، التي تَعْرِضُ الشبهاتُ لها ولا تَمْكُثُ فيها ؛ فإذا استُعْمِلَتْ هذه الأدويةُ على نحو ما أمر به ، بَقِيَتِ القلوبُ على صِحَّتها ، وانحفَظَتْ سلامتها.
فأمَّا القلوبُ التي تمكَّنَتْ منها أمراضُ الشُّبَه ، ولم تَقْدِرْ على دفع ما حَلَّ بها بتلك الأدويةِ المذكورة : فلا بُدَّ من مشافهتها بالدليلِ العقليّ ، والبرهانِ القطعيّ ؛ كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الذي خالَطَتْهُ شبهةُ الإبلِ الجُرْب ، حين قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لاَ عَدْوَى ، فقال أعرابيٌّ : فما بَالُ الإِبِلِ تكونُ في الرَّمْلِ كأنَّهَا الظِّبَاءُ ، فإذا دخَلَ فيها البَعِيرُ الأَجْرَبُ أَجْرَبَهَا ؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟! ؛ فاستأصَلَ الشبهةَ من أصلها.
(2/110)
وتحريرُ ذلك على طريقِ البرهانِ العقليِّ : أن يقال : إنْ كان الداخلُ أجرَبَهَا ، فما أجرَبَهُ ؟ : فإنْ كان أجرَبَهُ بعيرٌ آخر ، كان الكلامُ فيه كالكلامِ في الأوَّل ، فإمَّا أن يتسلسَلَ أو يَدُور ، وكلاهما محال ، فلا بُدَّ أن تقف عند بَعِيرٍ أجربَهُ الله تعالى مِنْ غير عَدْوَى ؛ وإذا كان كذلك ، فاللهُ تعالى هو الذي أجرَبَهَا كلَّها ، أي : خلَقَ الجَرَبَ فيها.
وهذا على منهاجِ دليلِ المتكلِّمين على إبطالِ عِلَلٍ وحوادثَ لا أَوَّلَ لها على ما يُعْرَفُ في كتبهم.
و الوَسْوَسَةُ وزنها : فَعْلَلَة ، وهي صيغةٌ مُشْعِرَةٌ بالتحرُّكِ والاضطرابِ ؛ كالزَّلْزَلَةِ ، والقَلْقَلَةِ ، والحَقْحَقَة ، وأصلُ الوسوسة : الصوتُ الخفيُّ ، ومنه سمِّي صوتُ الحَلْيِ : الوَسْوَاس.
بَابُ إِثْمِ مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ بِيَمِينِهِ
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ : وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ .
(2/111)
وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَِبِي ، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ : هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا ، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِلْحَضْرَمِيِّ : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ ، قَال : لا ، قَالَ : فَلَكَ يَمِينُهُ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ ، لاَ يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ ، فَقَالَ : لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ ، فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمَّا أَدْبَرَ : أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا ، لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ .
ومِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ، فَنَزَلَتْ : [آل عِمرَان : 77]{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً...} إِلَى آخِرِ الآيَةِ. وَفِي أُخْرَى : فَقَالَ : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ .
وَفِي أُخْرَى : أَنَّ الْكِنْدِيَّ هُوَ : امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ ، وَخَصْمُهُ : رَبِيعَةُ بْنُ عِبْدَانَ ، ويُقَالُ : ابْنُ عَيْدَانَ.
وَمِنْ بَابِ إِثْمِ مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ بِيَمِينِهِ
اقْتَطَعَ : افتعَلَ من القطع ، وهو الأَخْذُ هنا ؛ لأنَّ مَنْ أخَذَ شيئًا لنفسه ، فقد قطَعَهُ عن مالكه.
(2/112)
وقوله : فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ ، أي : إنْ كان مستَحِلاًّ لذلك ، فإنْ كان غيرَ مستحلٍّ ، وكان ممَّن لم يغفرِ اللهُ له ، فيعذِّبُهُ اللهُ في النار ما شاء من الآماد ، وفيها يحرِّمُ عليه الجنةَ ، ثم يكونُ حاله كحالِ أهلِ الكبائر من الموحِّدين ؛ على ما تقدَّم.
ويستفادُ من هذا الحديث : أنَّ اليمينَ الغَمُوسَ لا يَرْفَعُ إثمَهَا الكَفَّارةُ ، بل هي أعظَمُ مِنْ أن يُكفِّرَهَا شيءٌ ، كما هو مذهبُ مالك ، على ما يأتي في "الأيمان" ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَِبِي ، وفي الرواية الأخرى : انْتَزَى ، بمعنى غلب ، وهو من النَّزْوِ ، وهو الارتفاعُ.
وفيه : دليلٌ على أنَّ المُدَّعِيَ لا يلزمُهُ تحديدُ المُدَّعَى به إنْ كان مما يُحَدُّ ، ولا أن يصفه بجميعِ أوصافه كما يوصفُ المُسْلَمُ فيه ، بل يكفي من ذلك أن يتميَّز المدعَى به تمييزًا تنضبطُ به الدعوى ، وهو مذهبُ مالك.
خلافًا لما ذهَبَ إليه الشافعيَّة ؛ حيثُ ألزموا المدعيَ أن يَصِفَ المُدَّعَى به بحدودِهِ وأوصافِهِ المعيَّنةِ التامَّة ، كما يوصفُ المُسْلَمُ فيه.
وهذا الحديثُ حُجَّةٌ عليهم ؛ أَلاَ ترى أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُكَلِّفْهُ تحديدَ الأرضِ ولا تعيينَهَا ، بل لمَّا كانتِ الدعوَى متميِّزةً في نفسها ، اكتفَى بذلك.
وظاهرُ هذا الحديثِ : أنَّ والد المدَّعِي قد كان توفِّي ، وأنَّ الأرضَ صارتْ للمدَّعِي بالميراث ، ومع ذلك فلم يطالبه النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإثباتِ الموتِ ولا بِحَصْرِ الورثة ؛ فَيَحْتملُ أن يقال : إنَّ ذلك كان معلومًا عندهم ، ، وَيَحْتملُ أن يقالَ : لا يلزمُهُ إثباتُ شيء من ذلك ، مالم يناكرْهُ خَصْمه ، والله أعلم.
وفيه : دليلٌ على أنَّ مَنْ نسَبَ خَصْمَهُ إلى الغَصْبِ حالةَ المحاكمة ، لم يُنْكِرِ الحاكمُ عليه ، إلا أنْ يكونَ المقولُ له ذلك لا يَلِيقُ به.
(2/113)
وقوله : هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا ، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ ، دليلٌ على أنَّ المدعَى فيه لا يُنْتَزَعُ من يدِ صاحبِ اليدِ بمجرَّدِ الدعوَى ، وأنَّه لا يُسْأَلُ عن سببِ يدِهِ ، ولا عن سببِ ملكه.
وقوله للحضرمي : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ ، وفي الطريق الأخرى : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ ، دليلٌ على أنَّ المدعي يلزمُهُ إقامةُ البيِّنة ، فإنْ لم يُقِمْهَا ، حَلَفَ المدعَى عليه ؛ وهو أمرٌ متَّفَقٌ عليه ، وهو مستفادٌ من هذا الحديث.
فأمَّا ما يُرْوَى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله : البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي ، وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ، فليس بصحيحِ الرواية ؛ لأنَّه يدورُ على مسلمِ بنِ خالدٍ الزَّنْجِيِّ ، ولا يُحْتَجُّ به ، لكنَّ معنى متنه صحيحٌ ؛ لشهادةِ الحديثِ المتقدِّم له ، ولحديثِ ابنِ عبَّاس ـ رضى الله عنهما ـ الذي قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه : وَلَكِنِ اليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ.
وفيه : حجةٌ لمن لا يشترطُ الخِلْطَةَ في توجُّه اليمينِ على المدعَى عليه ، وقد اشترَطَ ذلك مالكٌ ، واعتُذِرَ له عن هذا الحديث : بأنَّها قضيةٌ في عَيْنٍ ، ، ولعلَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلِمَ بينهما خِلْطةً ، فلم يطالبْهُ بإثباتها ، والله تعالى أعلم.
وقوله : إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لاَ يُبَالِي مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ ، الفاجر : هو الكاذبُ الجريءُ على الكذب ، والوَرَعُ : الكَفُّ ، ومنه قولُهُ : "رَوِّعُوا اللِّصَّ وَلاَ تُورِعُوه" ، أي : لا تنكفُّوا عنه.
وظاهر هذا الحديث : أنَّ ما يجري بين المتخاصمَيْنِ في مجلس الحكم مِنْ مثلِ هذا السَّبِّ والتقبيحِ : جائزٌ ، ولا شيءَ فيه ؛ إِذْ لم يُنْكِرْ ذلك النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وإلى هذا ذهَبَ بعضُ أهل العلم.
والجمهورُ : لا يُجِيزون شيئًا من ذلك ، ويَرَوْنَ إنكارَ ذلك ويؤدِّبون عليه ؛ تمسُّكًا بقاعدةِ تحريمِ السبابِ والأعراضِ.
(2/114)
واعتذَرُوا عن هذا الحديث : بأنَّه مُحْتمِلٌ لأنْ يكونَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم أنَّ المقولَ له ذلك القولُ كان كما قِيلَ له ؛ فكان القائلُ صادقًا ولم يَقْصِدْ أذاه بذلك ، وإنَّما قصَدَ منفعةً يستخرجها ، فلعلَّه إذا شُنِّعَ عليه ، فقد ينزجرُ بذلك ، فيرجعُ إلى الحق.
ويَحْتملُ : أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تركَهُ ولم يَزْجُرْهُ ؛ لأنَّ المقولَ له لم يَطْلُبْ حقَّه في ذلك ، والله أعلم.
وقوله : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ ، دليلٌ على اشتراطِ العددِ في الشهادة ، وعلى انحصارِ طُرُقِ الحِجَاجِ في الشاهد واليمين ، ما لم يَنْكُلِ المُدَّعَى عليه عن اليمين ، فإنْ نَكَلَ ، حلَفَ المدَّعي واستحَقَّ المدعَى فيه ، فإنْ نكل ، فلا حُكْمَ ، ويُتْرَكُ المدعَى فيه بيد مَنْ كان بيده ، وسيأتي القولُ في الشاهد واليمين.
وقوله : لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ ، أي : إعراضَ الغضبان ، كما في الحديث الآخر : وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ.
وقد تقدَّم القولُ في غضبِ الله تعالى وفي رضاه ، وأنَّ ذلك محمولٌ :
إمَّا على إرادةِ عقابِ المغضوبِ عليه وإبعادِهِ ، وإرادةِ إكرامِ المرضِيِّ عنه.
أو على ثَمَرَاتِ تلك الإرادة ، وهو الإكرامُ أوِ الانتقامُ.
وفيه : دليلٌ على نَدْبِيَّةِ وَعْظِ المُقْدِمِ على اليمين.
وقوله : فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ ، دليلٌ على أنَّ اليمينَ لا تُبْذَلُ أمام الحاكم ، بل لها موضعٌ مخصوص ، وهو أعظَمُ مواضعِ ذلك البلد ؛ كالبيتِ بمكَّة ، ومِنْبَرِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة ، ومَسْجِدِ بيت المَقْدِس ، وفي المساجِدِ الجامعةِ في سائرِ الأمصار ؛ لكنَّ ذلك فيما ليس بتافِهٍ ، وهو ما لا تُقْطَعُ فيه يَدُ السارق ، وهو أَقَلُّ من رُبُعِ دينار عند مالكٍ ؛ فيحلَّفُ فيه - حيثُ كان - مستقبِلَ القبلة ، وفي ربعِ دينارٍ فصاعدًا ؛ لا يُحَلَّفُ إلا في تلك المواضع ، ، وخالفه أبو حنيفة في ذلك ، فقال : لا يكونُ اليمينُ إلا حيثُ كان الحاكم.
(2/115)
وظاهرُ هذا الحديث : أنَّ المدعَى عليه إذا حلَفَ ، انقطعَتْ حجةُ خَصْمه وبقي المدعَى فيه بيدِهِ ، وعلى ملكِهِ في ظاهر الأمر ، غيرَ أنَّه لا يَحْكُمُ له الحاكمُ بملك ذلك ؛ فإنَّ غايتَهُ أنه حائز ، ولم يَجْرِ ما يزيله عن حَوْزه ، فلو سأل المطلوبُ تعجيزَ الطالبِ بحيثُ لا تَبْقَى له حُجَّةٌ ، فهل للحاكمِ تعجيزُهُ وقطعُ حُجَّته أم لا ؟ قولان بالنفي والإثبات.
وفي هذا الحديثِ : أبوابٌ من علمِ القَضَاءِ لا تخفَى.
وقوله : فنزلت : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً...} ، عَهْدُ اللهِ : هو ميثاقُهُ ، وهو إيجابُهُ على المكلَّفين أن يقوموا بالحقِّ ، ويعملوا بالعدل.
و الأيمانُ : جمعُ يمين ، وهو الحَلِفُ بالله.
و يشترون : يعتاضون ؛ فكأنَّهم يُعْطُونَ ما أوجَبَ الله تعالى عليهم مِنْ رعاية العهود والأيمان في شيءٍ قليلٍ حقيرٍ من عَرَضِ الدنيا.
و الخَلاَقُ : الحَظُّ والنصيب.
و لاَ يُكَلِّمُهُمْ ، أي : بما يَسُرُّهم ، أو لا يكلِّمهم إعراضًا عنهم واحتقارًا لهم.
و لا ينظُرُ إليهم نظَرَ رحمةٍ.
و لاَ يُزَكِّيهِمْ ، أي : لا يُثْنِي عليهم كما يُثْنِي على مَنْ تَزَكَّى ، وقيل : لا يُطَهِّرهم من الذنوب.
و الأليم : المُوجِعُ الشديدُ الألم.
وقد تقدَّم القولُ على "يمين صبرٍ".
وقوله : إِنَّ الْكِنْدِيَّ هُوَ : امْرُؤُ القَيْسِ بْنُ عَابِسٍ ، وَخَصْمُهُ : رَبِيعَةُ بْنُ عِبْدَانَ ، عَابِس : بالباءِ بواحدةٍ من تحتها والسينِ المهملة.
و عِبْدَان : بكسرِ العينِ المهملة وباءٍ بواحدةٍ ، هي رواية زُهَيْر.
وقال أحمد بن حنبل : عَيْدَان بفتح العين المهملة وياءٍ باثنتين من تحتها ، وهو الصوابُ عند النُّقَّاد ؛ كالدارقطنيِّ ، وابنِ مَاكُولاَ ، وأبي عليٍّ الغَسَّانِيِّ ، وغيرِهِمْ.
بَابُ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ ، فَهُوَ شَهِيدٌ
(2/116)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : يَارَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي ؟ قَالَ : فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ ، قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي ؟ قَالَ : قَاتِلْهُ ، قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي ؟ قَالَ : فَأَنْتَ شَهِيدٌ ، قَالَ : أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ ؟ قَالَ : هُوَ فِي النَّارِ .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ ، فَهُوَ شَهِيدٌ .
وَمِنْ بَابِ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ ، فَهُوَ شَهِيدٌ
دُونَ في أصلها : ظرفُ مكانٍ ، بمعنى : أَسْفَلَ وتَحْتَ ، وهي نقيضُ فَوْق ، وقد استُعْمِلَتْ في هذا الحديث بمعنى "لأَِجْلِ" السببيةِ ، وهو مجازٌ وتوسُّعٌ ، ووجهه : أنَّ الذي يُقَاتِلُ على ماله ، إنما يجعله خَلْفَهُ أو تحته ، ثم يقاتِلُ عليه.
و الشَّهِيدُ سمِّي بذلك ؛ لأنَّه حيٌّ ؛ فكأنَّه يشاهدُ الأشياء ؛ قاله النَّضْرُ بن شُمَيْل .
وقال ابن الأنباريِّ : سمِّي بذلك ؛ لأنَّ اللهَ تعالى وملائكتَهُ شَهِدُوا له بالجنَّة.
وقيل : لأنَّه يُشْهَدُ يومَ القيامةِ مع النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقيل : لأنَّه يُشَاهِدُ ما أَعَدَّ اللهُ له من الكرامة ؛ كما قال تعالى : {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
وقوله : لاَ تُعْطِهِ مَالَكَ ، وقَاتِلْهُ ، دليلٌ على أنَّ المُحَارِبَ لا يجوزُ أن يُعْطَى شيئًا له بالٌ من المال إذا طلبَهُ على وجه الحِرَابَةِ ما أمكن ، لا قليلاً ولا كثيرًا ، وأنَّ المُحَارِبَ يجبُ قتالُهُ ؛ ولذلك قال مالك : "قِتَالُ المحارِبِينَ جهادٌ" ، وقال ابن المنذر : "عَوَامُّ العلماءِ على قتالِ المحارِبِ على كُلِّ وجهٍ ، ومدافعتِهِ عن المالِ والأهلِ والنَّفْس".
(2/117)
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : واختلَفَ مذهبنا إذا طلَبَ الشيءَ الخفيفَ كالثَّوْبِ ، والطعامِ - فهل يُعْطُونه أم لا ؟ على قولَيْن ، ، وذكَرَ أصحابنا : أنَّ سبَبَ الخلافِ في ذلك : هو هل الأَمْرُ بقتالهم من بابِ تغييرِ المُنْكَرِ فلا يُعْطَوْنَ ويُقَاتَلُونَ ، أو هو مِنْ بابِ دفعِ الضَّرَر ؟ وخرَّجوا من هذا الخلافِ الخلافَ في دعائهم قبل القتال ، هل يُدْعَوْنَ قبله أم لا؟.
بَابُ مَنِ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً ، فَلَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ ، وَلَمْ يَنْصَحْ لَهُمْ ، لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ ، وَمَنْ نَمَّ الحَدِيثَ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ ، إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ لاَ يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ ، إِلاَّ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ .
وَعَنْ هَمَّامِ بْنِ الحَارِثِ ، قَالَ : كَانَ رَجُلٌ يَنْقُلُ الحدِيثَ إِلَى الأَمِيرِ ، قَالَ : فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ : نَمَّامٌ .
وَمِنْ بَابِ مَنِ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً ، فَلَمْ يَنْصَحْ لَهُمْ
قوله : مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً... الحديثَ ، هو لفظٌ عامٌّ في كلِّ مَنْ كُلِّفَ حِفْظَ غيرِهِ ؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ؛ فالإمامُ الذي على الناس راعٍ ، وهو مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ ، وهكذا الرجلُ في أهل بيتِهِ ، والوَلَدُ ، والعبدُ.
و الرعايةُ : الحِفْظُ والصيانة ، والغِشُّ : ضِدُّ النصيحة.
(2/118)
وحاصلُهُ : راجعٌ إلى الزجر عن أن يضيِّع ما أُمِرَ بحفظه ، وأن يقصِّر في ذلك مع التمكُّنِ من فِعْلِ ما يتعيَّنُ عليه.
وقد تقدَّم القولُ على قوله : حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ، وأنَّ ذلك محمولٌ على ظاهره إنْ كان مستحلاًّ ، ، وإن لم يكنْ مُسْتَحِلاًّ ، فأحدُ تأويلاتِهِ : أنه إنْ أنفَذَ اللهُ تعالى عليه الوعيدَ ، أدخلَهُ النارَ آمادًا ، ومنعَهُ الجنةَ وحَرَّمَهَا عليه في تلك الآمادِ ، ثم تكونُ حالُهُ حالَ أهلِ الكبائر مِنْ أهل التوحيد ؛ على ما تقدَّم.
وقوله : لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الجَنَّةَ ، يُشِيرُ إلى صِحَّةِ ما ذكرناه مِنْ أنَّه لا يدخُلُ الجنةَ في وقتٍ دون وقت ، وهو تقييدٌ للرِّوَايةِ الأخرى المُطْلَقَةِ التي لم يَذْكُرْ فيها : مَعَهُمْ .
وقوله : لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ ، أي : نَمَّامٌ ، كما فسَّره في الرواية الأخرى ، وفي "الصِّحَاح" : "القَتُّ : نَمُّ الحديثِ ، والقِتِّيتَى مِثْلَ الهِجِّيرَى : النميمةُ".
و النمََّّام : هو الذي يرفعُ الأحاديثَ ويُفْشِيها على وجه المفسدة ، وإلقاءِ الشرور ؛ قال ابنُ الأعرابي : "القتّات : هو الذي ينقُلُ عنك ما تحدِّثُهُ وتستكتمُهُ ، والقَسَّاسُ : هو الذي يتسمَّعُ عليك ما تحدِّثُ به غيرَهُ ، ثُمَّ ينقُلُهُ عنك".
وفيه : دليلٌ على أنَّ النميمةَ من الكبائر ، وإنما كانت كذلك ؛ لما يترتَّبُ عليها من المفاسدِ والشرورِ.
بَابٌ فِي رَفْعِ الأَْمَانَةِ وَالإِْيمَانِ مِنَ القُلُوبِ ، وَعَرْضِ الْفِتَنِ عَلَيْهَا
(2/119)
عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَدِيثَيْنِ ، قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا ، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ ؛ حَدَّثَنَا : أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الأَمَانَةِ ، قَالَ : يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَْمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ ، فَنَفِطَ ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ، ثُمَّ أَخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَها عَلَى رِجْلِهِ ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ ، لاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ ، حَتَّى يُقَالَ : إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا ، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ : مَا أَجْلَدَهُ! مَا أَظْرَفَهُ! مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ دِينُهُ ، وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ مِنْكُمْ إِلاَّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا.
(2/120)
وعَنْه ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَذْكُرُ الْفِتَنَ ؟ فَقَالَ قَوْمٌ : نَحْنُ سَمِعْنَاهُ ، فَقَالَ : لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ ؟ قَالُوا : أَجَلْ ، قَالَ : تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ ، وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ : فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ ، فَقُلْتُ : أَنَا ، قَالَ : أَنْتَ ، ِللهِ أَبُوكَ! قَالَ حُذَيْفَةُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا ، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا ، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ : عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا ، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا ؛ لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ، وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا ، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ، قَالَ حُذَيْفَةُ : وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ ، قَالَ عُمَرُ : أَكَسْرًا لاَ أَبَا لَكَ! فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ! قَالَ : لاَ بَلْ يُكْسَرُ ، وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ ، حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ ، قَالَ أَبُو خَالِدٍ : فَقُلْتُ لِسَعْدٍ : يَا أَبَا مَالِكٍ ، مَا أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ ؟ قَالَ : شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ ، قَالَ : قُلْتُ : فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا ؟ قَالَ : مَنْكُوسًا.
وَمِنْ بَابِ رَفْعِ الأَْمَانَةِ وَالإِْيمَانِ مِنَ القُلُوبِ
(2/121)
قوله : إِنَّ الأَْمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ، "جَذْرُ الشيء" بالجيم المفتوحة : أصلُهُ ؛ على قولِ الأصمعيِّ ، وحكى أبو عمرو كسرها ، قال أبو عُبَيْدٍ : الجَذْرُ : الأصلُ مِنْ كل شيء.
ومعنى إنزالِهَا في القلوبِ : أنَّ الله تعالى جبَلَ القلوبَ الكاملةَ على القيامِ بحقِّ الأمانة ؛ مِنْ حِفْظِهَا واحترامِهَا ، وأدائِهَا لمستَحِقِّها ، وعلى النُّفْرةِ مِنَ الخيانةِ فيها ؛ لِتَنْتَظِمَ المصالحُ بذلك ، لا لأنَّها حَسَنَةٌ في ذاتها ؛ كما تقولُهُ المعتزلةُ ؛ على ما يُعْرَفُ في موضعه.
و الأَمَانَةُ : كلُّ ما يُوَكَّلُ إلى الإنسانِ حفظُهُ ويُخَلَّى بينه وبينه ؛ ومِنْ ههنا سُمِّيَ التكليفُ أمانةً في قوله تعالى : {إِنَّا عَرَضْنَا الأَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَالْجِبَالِ} في قولِ كثيرٍ من المفسِّرين.
و الوَكْتُ : الأَثَرُ اليسير ؛ يقال للبُسْرِ إذا وقَعَتْ فيه نُكْتةٌ من الإرطاب : قد وَكَّتَ ؛ قاله الهرويُّ ، وقال صاحبُ "العين" : "الوَكْتُ ، بفتح الواو : نكتةٌ في العَيْن ، وعَيْنٌ موكوتة ، والوَكْتُ : سواد العين".
و المَجْلُ : هو أن يكونَ بين الجِلْدِ واللحم ماءٌ ، يقالُ : مَجِلَتْ يَدُهُ تَمْجَلُ مَجَلاً ، بكسر الجيم في الماضي وفتحها في المضارع ، ومَجَلَتْ ، بالفتح في الماضي ، والكسر في المضارع ، أي : تَنَفَّطَتْ مِنَ العمل.
و مُنْتَبِرًا : منتفِخًا ، وأصلُهُ : الارتفاعُ ، ومنه : انْتَبَرَ الأميرُ : إذا صَعِدَ المِنْبَرَ ؛ وبه سمِّي المِنْبَرُ ، ونَبِرَ الجرحُ ، أي : وَرِمَ ، والنَّبْرُ : نَوْعٌ من الذُّبَابِ يَلْسَع ؛ ومنه سمِّي الهمزُ : نَبْرًا ، وكلُّ شيء ارتفَعَ : فقد نَبِرَ ، وقال أبو عبيد : مُنْتَبِرًا : مُنْتَفِطًا.
و لاَ يَكَادُ ، أي : لا يقارب.
و ما أجلده! ، أي : ما أقواه!
(2/122)
و ما أظرفه! ، أي : ما أحسَنَهُ! والظَّرْفُ عند العرب : في اللسان والجسم ، وهو حُسْنُهما ، وقال ابنُ الأعرابيِّ : "الظَّرْفُ في اللسان ، والحَلاَوَةُ في العين ، والمَلاَحَةُ في الفم" ، وقال المبرِّد : "الظَّرِيفُ : مأخوذٌ من الظَّرْف ، وهو الوعاء ، كأنَّه جُعِلَ وعاءً للآداب" ، وقال غيره : يقال منه : ظَرُفَ يَظْرُفُ ظَرْفًا ، فهو ظَرِيفٌ ، وَهُمْ ظُرَفَاء ، وإنما يقال في الفِتْيَانِ والفَتَيَاتِ أهلِ الخِفَّة.
وقوله : لاَ أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ ، يعني : من البيع ، لا مِنَ المبايعة ؛ لأنَّ اليهوديَّ والنصرانيَّ لا يبايعُ بَيْعَةَ الإسلام ، ولا بيعةَ الإمامة ، وإنما يعني : أنَّ الأمانةَ قد رُفِعَتْ من الناس ، فقَلَّ مَنْ يُؤْتَمَنُ على البيعِ والشراء.
وقد قدَّمنا أنَّ أصلَ "الفِتْنَة" : الامتحانُ والاختبار ، ثم صارَتْ في العُرْفِ عبارةً عن : كلِّ أمرٍ كَشَفَهُ الاختبارُ عن سوء ؛ قال أبو زيد : "فَتِنَ الرجلُ فُتُونًا : إذا وقَعَ في الفتنة ، وتحوَّل عن حالٍ حسنةٍ إلى حالٍ(؟) سيئة" ، والأهلُ والمالُ والولدُ أمورٌ يُمْتَحَنُ الإنسانُ بها ، ويُخْتَبَرُ عندها ؛ كما قال تعالى : {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} ، أي : مِحْنَةٌ تُمْتَحَنُونَ بها حتى يَظْهَرَ منكم ما هو خَفِيٌّ عمَّن يُشْكِلُ عليه أمركم.
و أَجَلْ ، بمعنى : نَعَم.
و تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ ، أي : تَضْطرِبُ ويدفعُ بعضُها بعضًا ، وكُلُّ شيءٍ اضطرَبَ : فقد ماج ؛ ومنه قوله تعالى : {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}.
وَ أَسْكَتَ الْقَوْمُ ، أي : أَطْرَقوا ؛ قال الأصمعيُّ : سكَتَ القومُ : صَمَتُوا ، وأَسْكَتوا : أَطْرَقوا ، وقال أبو عليٍّ البغداديُّ وغيره : سكَتَ وأسكَتَ ، بمعنى : صَمَتَ.
(2/123)
قال الهرويُّ : " ويكونُ " سكَتَ " بمعنى " سكَنَ " ؛ ومنه قوله تعالى : {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} ، ويكونُ بمعنى "انقطَعَ" ؛ تقول العرب : جرى الوادي ثلاثًا ، ثم سكَتَ ، أي : انقطَعَ ، ويقال : هو السُّكُوتُ والسُّكَاتُ ، وسكَتَ يَسْكُتُ سَكْتًا وسُكُوتًا وسُكَاتًا".
وقوله : كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فيه ثلاثُ تقييدات :
قيَّده القاضي الشَّهِيد : بفتح العينِ المهملة والذالِ المعجمة.
وقيَّده أبو بحر سفيانُ بن العاص : بضمِّ العين والدالِ المهملة.
واختار أبو الحُسَيْنِ بنُ سِرَاجٍ : فَتْحَ العينِ والدالِ المهمله.
فمعنى التقييدِ الأوَّل : سؤالُ الإعاذة ؛ كما يقال : غَفْرًا غَفْرًا ، أي : اللهمَّ اغفِرْ ، اللهم اغفرْ.
وأما التقييد الثاني ، فمعناه : أنَّ الفتن تتوالَى واحدةً بعد أخرى ؛ كَنَسْج الحصير عُودًا بإزاء عُود ، وشَطْبةً بإزاء شَطْبة ، أو كما يناولُ مهيِّىءُ القُضْبان للناسجِ عُودًا بعد عُود.
وأما التقييدُ الثالث : فمعناه قريب مِنْ هذا ، يعني أنَّ الفتنةَ كلَّما مضت ، عادَتْ ؛ كما يفعلُ ناسجُ الحصير : كلَّما فرَغَ من موضعِ شَطْبةٍ أو عُودٍ ، عاد إلى مثله.
والمعنى الثاني أمكَنُ وأليقُ بالتشبيه ، والله أعلم.
و أُشْرِبَهَا ، أي : حَلَّتْ فيه مَحَلَّ الشَّرَاب ؛ كقوله تعالى : {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} ، أي : حُبَّهُ.
وقوله : عَلَى قَلْبَيْنِ : أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا ، أي : قَلْبٍ أبيضَ ، فحذَفَ الموصوفَ للعِلْمِ به ، وأقامَ الصفةَ مُقَامَهُ.
وليس تشبيهُهُ بالصَّفَا مِنْ جهة بياضه ، ولكنْ مِنْ جهةِ صلابته على عَقْدِ الإيمان ، وسلامتِهِ من الخَلَلِ والفتن ؛ إذْ لم تَلْصَقْ به ولم تؤثِّر فيه ؛ كالصَّفَا وهو الحَجَرُ الأملسُ الذي لا يَعْلَقُ به شيءٌ ، بخلاف القلبِ الآخَرِ الذي شبَّهه بالكُوزِ الخاوي ؛ لأنه فارغٌ من الإيمانِ والأمانة.
وقوله : وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ ، فيه ثلاثُ تقييدات :
(2/124)
مُرْبَادٌّ : مُفْعَالٌّ ، من ارْبَادَّ ؛ مِثْلَ مُصْفَارٍّ من اصْفَارَّ ؛ وهو روايةُ الخُشَنِيِّ عن الطبريِّ.
و مُرْبَدٌّ : مثلُ مُسْوَدٍّ ومُحْمَرٍّ ، من اربَدَّ واسْوَدَّ واحْمَرَّ ؛ وهو تقييدُ أبي مروانَ بنِ سِرَاجٍ.
و مُرْبَئِدٌّ بالهمز ، قيَّده العُذْرِيُّ ، وكأنَّه من ارْبَأَدَّ لغةٌ.
وقال بعض اللغويين : "احمَرَّ الشيء ، فإذا قوي ، قيل : احمَارَّ ، فإذا زاد ، قيل : احمَأَرَّ بالهمز" ؛ فعلى هذا تكونُ تلك الرواياتُ صوابًا كلُّها.
قال أبو عبيد ، عن أبي عمرو وغيره : الرُّبْدَة : لَوْنٌ بين السواد والغُبْرة ، وقال ابن دُرَيْد : الرُّبْدة : الكُدْرة ، وقال الحَرْبِيُّ : هو لونُ النَّعَامِ ؛ بعضُهُ أسودُ ، وبعضُهُ أبيض ، ومنه : اربَدَّ لونه : إذا تغيَّر ودخله سواد ؛ وإنما سمِّي النعام رُبْدًا ؛ لأنَّ أعاليَ رِيشِهَا إلى السواد ، وقال نِفْطَوَيْهِ : المُرْبَدُّ : الملمَّع بسواد وبياض ، ومنه : تربَّدَ لونُه ، أي : تلوَّن فصار كلونِ الرماد.
وقولُ سعدِ بنِ طارق لخالدٍ الأحمرِ في تفسير مُرْبَادّ : شِدَّةُ البَيَاضِ فِي سَوَادٍ ، قال فيه القاضي أبو الوليدِ الكِنَانِيُّ : "هذا تصحيفٌ ، وأرى صوابه : شِبْهُ البياضِ في سواد ؛ وذلك أنَّ شِدَّةَ البياضِ في سوادٍ لا تسمَّى : رُبْدة ، وإنما يقال لها : بَلَقٌ ؛ إذا كان في الجِسْم ، وحَوَرٌ ؛ إذا كان في العين ، والرُّبْدة إنما هي شيءٌ من بياضٍ يسيرٍ يخالطُ السوادَ ؛ كلونِ أَكْثَرِ النعام ".
وقوله : كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا ، قال الهروي : "المُجَخِّي : المائلُ ، وجَخَّى : إذا فتح عَضُدَيْهِ في السجود ، وكذلك : جَخَّ ، وقال شَمِرٌ : جَخَّى في صلاته : إذا رفَعَ بطنَهُ عن الأرض في السجود ، وكذلك : خَوَّى".
وقال أبو عُبَيْد : "المجخِّي : المائلُ ، ولا أَحْسِبُهُ أراد بميله إلا أنه منخَرِقُ الأسفلِ ، شبَّه به القلبَ الذي لا يَعِي خيرًا ولا يَثْبُتُ فيه ، كما لا يثبُتُ الماءُ في الكُوزِ المنخرق".
(2/125)
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : ولا نحتاجُ إلى هذا التقديرِ والتكلُّف ؛ فإنَّه إذا كان مقلوبًا منكوسًا - كما قال سعد - لم يَثْبُتْ فيه شيءٌ وإنْ لم يكنْ مُنْخَرِقًا ، وقد فسَّره سياقُ الحديث ؛ حيثُ قال : لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ، وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا ، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ.
وقوله : أَكَسْرًا لاَ أَبَا لَكَ! : استعظامٌ من عمر ـ رضى الله عنه ـ لكسر ذلك البابِ ، وخوفٌ منه ألاَّ يَنْجَبِرَ ؛ لأن الكَسْرَ لا يكونُ إلا عن إكراهٍ وغَلَبة ؛ فكأنَّ البابَ المُغْلَقَ عن دخولِ الفتن على الإسلامِ : عمر ـ رضى الله عنه ـ ، وكَسْرُهُ قتله.
واللام في لاَ أَبَا لَكَ! مُقْحَمَةٌ ، وكذلك في قولهم : "لا يَدَيْ لفلانٍ بهذا الأمر" ، ولا تريد العربُ بهذا الكلامِ نَفْيَ الأبوَّةِ حقيقةً ، وإنما هو كلامٌ جَرَى على ألسنتهم كالمَثَلِ.
ولقد أبدَعَ البديع حيثُ قال في هذا المعنى : "وقَدْ يُوحِشُ اللفظُ وكلُّه وُدّ ْ ، ويُكْره الشيء وما من فعله بُدّ ْ ؛ هذه العربُ تقولُ : لا أَبَا لك للشيءِ إذا هَمّ ْ ، وقاتَلَهُ اللهُ ، ولا يريدون به الذمّ ْ ، وَوَيْلَ أُمِّهِ للأمر إذا تَمّ ْ ، وللألبابِ في هذا الباب أن تَنْظُرَ إلى القولِ وقائله ، فإنْ كان وليًّا فهو الولاءُ وإن خَشُنْ ، وإنْ كان عدوًّا فهو البَلاَءُ وإنْ حَسُنْ".
وقوله : حَدِيثًا لَيْسَ بالأَْغَالِيط ، أي : حَدَّثْتُهُ حديثًا ، فهو مصدر.
و الأَغَالِيطُ : جمع أُغْلُوطة ؛ قال ابن دُرَيْد : "هي التي يُغَالَطُ بها ، واحدها : مَغْلَطَةٌ وأُغْلُوطة ، وجمعها : أغاليطُ".
باب كيف بدأ الإسلام وكيف يعود
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء .
ومن باب كيف بدأ الإسلام وكيف يعود
(2/126)
قوله : بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ ؛ كذا رويتُه بهمزة بدأ ، وفيه نظر ، وذلك أنّ بدأ مهموزًا متعدٍّ إلى مفعول ؛ كقوله تعالى : {كما بدأنا أول خلق نعيده} ، قال صاحب الأفعال : يقال بدأ الله الخلق بدءًا ، وأبدأهم : خَلَقهم ، وبدأ في الحديث لا تقتضي مفعولاً ، فظهر الإشكال.
ويرتفع الإشكال بأنْ نحمل بدأ(6 ) الذي في الحديث على طرأ فيكون لازمًا ، كما قد اتّفق للعرب في كثير من الأفعال ، يتعدّى حملاً على صيغةٍ ، ولا يتعدّى حملاً على أخرى ، كما قالوا : رجع زيد ورجعته ، وفَغَرَ فَاه وفَغَرَ فُوه ، وهو كثير.
وقد سمعت من بعض أشياخي إنكار الهمز ، فزعم أنّه بدا بمعنى ظهر غير مهموز ، وهذا فيه بعد من جهة الرواية والمعنى.
فأما الرواية بالهمز ، فصحيحة النقل عَمَّن يُعتمد على علمه وضبطه. وأمّا المعنى ، فبعيد عن مقصود الحديث ، فإنّ مقصودَه أنّ الإسلام نشأ في أول أمره في آحادٍ من الناس وقلّة ، ثمّ انتشر وظهر ، فأخبرَنا به ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنّه سيلحقه من الضعف والاختلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة كابتدائه.
وأصل الغربة البعد ، كما قال :
فلا تحرمَنِّي نائلا عن جنابة فإني امرؤٌ وَسْطَ القباب غريبُ
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : إِنَّ الإِسْلامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا .
ويحتمل أن يراد بالحديث المهاجرون ؛ إذ هم الذين تغرَّبوا عن أوطانهم فرارًا بأديانهم ، فيكون معناه أنّ آخر الزمان تشتدّ فيه المحن على المسلمين ، فيفرّون بأديانهم ويغتربون عن أوطانهم كما فعل المهاجرون. وقد ورد في الحديث : قيل : يا رسول الله ! من الغرباء ؟ قال : هم النزاع من القبائل ، أشار إلى هذا المعنى ، والله أعلم. وكذلك قال الهرويّ : أراد بذلك المهاجرين .
و النُزَّاع جمع نزيع أو نازع ، وهو الذي نزع عن أهله وعشيرته وبَعُدَ عن ذلك.
(2/127)
وقوله : الإسلام يأرِز بين المسجدين ، وإنّ الإيمان ليأرِز إلى
ومن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّ الإِيْمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ... بنحوه.
المدينة ، قال أبو عبيد : أي : ينضمّ ويجتمع بعضه إلى بعض كما تنضمّ الحيّة في جحرها. وقال ابن دريد : أَرَزَ الشيء يأْرِز ، إذا ثبت في الأرض ، وشجرة أرْزَة ، أي : ثابتة مجتمعة.
وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إخبار بما كان في عصره وعصر من يليه من أصحابه وتابعيهم ، من حيث إنّ المدينة دار هجرتهم ومقامهم ، ومقصدهم وموضع رحلتهم في طلب العلم والدين ، ومرجعهم فيما يحتاجون إليه من مهمّات دينهم ووقائعهم ، حتّى لقد حصل للمدينة من الخصوصيّة بذلك ما لا يوجد لغيرها .
وفيه حجّة على صحّة مذهب مالك في تمسُّكه بعمل أهل المدينة وكونِه حجّةً شرعيّة.
وقال أبو مصعب الزبيريّ في معنى هذا الحديث : إنّما أراد بالمدينة أهل المدينة ، وأنّه تنبيه على صحّة مذهبهم ، وسلامتهم من البدع المحدثات ، واقتدائهم بالسنن ، وأنّ الإيمان مجتمع عندهم وعند من سلك سبيلهم .
وعَنْ أَنَسٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُقَالَ فِي الأَرْضِ : اللهَ ، اللهَ .
وفي أخرى : لا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ : اللهَ ، اللهَ .
وقوله : بين المسجدين ؛ يعني : مسجد مكّة - شرّفها الله تعالى - ومسجد المدينة. وهو إشارة إلى أنّ مبدأ الإيمان كان بمكّة وظهوره بالمدينة.
وقوله : لا تقوم الساعةُ حتّى لا يقالَ في الأرض : اللهَ اللهَ ، كذا صوابه بالنصب ، وكذلك قيّدناه عن محقِّقي من لقيناه.
ووجهه أنّ هذا مثل قول العرب : الأسدَ الأسدَ ، والجدارَ الجدارَ ، إذا حذّروا عن الأسد المفترس والجدار المائل ، فهو منصوب بفعل مضمر ، كأنّهم قالوا : احذر الأسد ، لكنّهم التزموا إضماره هنا ؛ لتكرار الاسم ونصبه ، كما قال الشاعر :
أخاكَ أخاكَ إنّ من لا أخَا له كساعٍ إلى الهيجا بغيرِ سلاحِ
(2/128)
فإن أفردوا ، ذكروا الفعل فقالوا : اتّقِ الأسد واحذر الجدار ، واحفظ أخاك.
وقد قيَّده بعضهم اللهُ اللهُ بالرفْع على الابتداء وحذْف الخبر ، وفيه بُعد.
ولا يعارض هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين إلى يوم القيامة ؛ ؛ لأنّ هذه الطائفة يقاتلون الدجّال ويجتمعون بعيسى ـ عليه السلام ـ ، ثمّ لا تزال على ذلك إلى أن يقبضهم الله تعالى بالريح اليمانية التي لا تُبقِي مؤمنا إلا قبضَتْه ، فيبقى بعدَهم شرارُ الخلق ليس منهم من يقول : لا إله إلا الله يتهارجون تهارُج الحُمُر ، فعليهم تقوم الساعة على ما يأتي في كتاب الفتن.
وعَنْ حُذَيْفَةَ ؛ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : أَحْصُوا لِي كَمْ يَلْفِظُ الإِسْلامَ . قَالَ : فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَتَخَافُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ مَا بَيْنَ السِّتمِائَةِ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ ؟ قَالَ : إِنَّكُمْ لا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ أَنْ تُبْتَلَوْا . قَالَ : فَابْتُلِينَا ، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا لا يُصَلِّي إِلاّ سِرًّا.
وقوله : أَحْصُوا لي كَمْ يلفظ الإسلام ، أي : عدّوا لي ، ومنه : {وأحصى كلَّ شيء عددًا}.
وأصل اللفظ الرمي ، ومنه : لفظه البحر ، أي : رماه ، وعداه بنفسه لما حذف الباء في رواية ، وفي أخرى بثبوت الباء ؛ لأنه محمول على تكلّم المتعدي بحرف الجرّ ، فكأنه قال : عُدُّوا لي كم يتكلم بالإسلام أو ينطق به.
وقول حذيفة : فابتُلِيْنَا حتّى جعل الرجل منّا لا يصلّي إلا سرًا ؛ يعني بذلك - والله أعلم - ما جرى لهم في أوّل الإسلام بمكة حين كان المشركون يُؤْذُونهم ، ويمنعونهم من إظهار صلاتهم ، حتى كانوا يُصلّون سرًّا .
باب إعطاء من يخاف على إيمانه
(2/129)
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ؛ قَالَ : قَسَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَسْمًا ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَعْطِ فُلانًا فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَوْ مُسْلِمٌ ، أَقُولُهَا ثَلاثًا ، وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ ثَلاثًا : أَوْ مُسْلِمٌ ، ثُمَّ قَالَ : إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ ، مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ .
ومن باب إعطاء مَن يُخاف على إيمانه
قوله : أعطِ فلانًا فإنّه مؤمنٌ ، فقال : أو مسلم ؛ دليل على صحّة ما قدّمناه من الفرق بين حقيقتي الإيمان والإسلام ، وأن الإيمان من أعمال الباطن ، والإسلام من أعمال الجوارح.
وَفِي رِوَايَةٍ قال : مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا .
وفيه ردٌّ على غُلاة المُرجِئة والكرامية ، حيث حكموا بصحّة الإيمان لمن نطق بالشهادتين وإن لم يعتقد بقلبه ، وهو قولٌ باطلٌ قطعًا ؛ لأنّه تسويغٌ للنفاق.
وفيه حجّة لمن يقول : أنا مؤمن بغير استثناء. وهي مسألة اختلف فيها السلف ، فمنهم المجيز والمانع.
وسبب الخلاف النظر إلى الحال أو المآل ، فمن منع خاف من حصول شك في الحال أو تزكية ، ومن أجاز صرف الاستثناء إلى الاستقبال وهو غيب في الحال ؛ إذ لا يدري بما يختم له. والصواب الجوازُ إذا أُمِنَ الشكُّ والتزكيةُ ، فإنّه تفويض إلى الله تعالى.
قوله : أوْ مسلمًا ، الرواية بسكون الواو ، وقد غلط من فتحها وأحال المعنى ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُرِدْ استفهامَه ، وإنما أشار له إلى القِسْمِ الآخر المختص بالظاهر الذي يمكن أن يدرك ، فجاء ب أو التي للتقسيم والتنويع.
(2/130)
وقوله : مخافة أن يكبّه الله في النار ، الرواية يَكُبه بفتح الياء وضمّ الكاف ، من كبّ ثلاثيًا. ولا يجوز هنا غيره ؛ لأنّ رباعيَّه لازم ، ولم يأت في لسان العرب فعلٌ ثلاثيّه متعدٍ ورباعيّه غير متعدٍ إلا كلمات قليلة ، يقال : أكبَّ الرجلُ وكببْتُه ، وأقشعَ الغيمُ وقشعتْه الريح ، وأنسَلَ ريشُ الطائر ووَبَرُ البعيرِ ونسلْتُه أنا ، وأنزفتِ البئرُ : قلَّ ماؤها ونزفْتُها أنا ، وأَمْرَت الناقةُ : قلَّ دَرُّها ومَرَيْتُها أنا ، وأشنقَ البعيرُ : رفَع رأسَه وشْنَقْتُه أنا.
وقوله : والله إني لأُراه مؤمنًا ، الرواية بضم الهمزة ، يعني : أظنّه ، وهو من سعد حلفٌ على ما ظنَّه ، فكانت هذه اليمين لاغية ، ولذلك لم ينكرها عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا أمره بكفارة عنها ، فكان فيه دليل على جواز الحلف على الظنّ ، وأنّها هي اللاغية ، وهو قول مالك والجمهور.
وفِي أُخْرَى : قال : فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِيَدِهِ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي ، ثُمَّ قَالَ : أَقِتَالاً ؟ أَيْ سَعْدُ ! إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ... ، وذكر نحوه.
وقوله : أقِتَالاً ؟ أيْ سعد ! ، هو مصدر ، أي : أتُقَاتِلُني قتالاً ، فحذف الفعل ؛ لدلالة المصدر عليه.
ومعنى القتال هنا : الدفع والمكابدة ، وهذا كقوله في المارّ بين يدَيْ المصلِّي : فإنْ أبى ، فَلْيُقَاتِلْه ، أي : فَلْيُدَافعْه ويمنعْه من المرور.
باب مضاعفة أجر الكتابي إذا آمن بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشدة عذابه إذا لم يؤمن
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، إِلاّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ .
ومن باب مضاعفة أجر الكتابي إذا آمن
(2/131)
قوله : لا يسمع بي أحد من هذه الأمة الحديث ، الأمّة(2 ) في أصل اللغة : الجماعة من الحيوان ، قال الله تعالى : {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} ، وقال : {وجد عليه أمة من الناس} ، ثم قد استعمل في محامل شتّى.
وعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعَرِي ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ : رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ، وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ ، فَلَهُ أَجْرَانِ. وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَقَّ سَيِّدِهِ ، فَلَهُ أَجْرَانِ. وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَّاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا ، ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا ، فَلَهُ أَجْرَانِ .
ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ لِلْخُرَاسَانِيِّ : خُذْ هَذَا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَ هَذَا إِلَى الْمَدِينَةِ.
والمراد به في هذا الحديث : كل من أُرْسِلَ إليه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولزمته حجته ، سواء صدّقه أو لم يصدّقه ، ولذلك دخل فيه اليهودي والنصراني. لكن هذا على مساق حديث مسلم هذا ، فإنه قال فيه : لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، بغير واو العطف ، فإنّه يكون بدلاً من الأمة .
وقد روى هذا الحديث عبد بن حميد ، وقال : لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهوديّ ولا نصرانيّ ، فحينئذ لا يدخل اليهوديّ ولا النصرانيّ في الأمة المذكورة ، والله أعلم.
وفيه دليل على أنّ مَن لم تبلغْه دعوةُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أمره ، لا عقاب عليه ولا مؤاخذة ، وهذا كقوله تعالى : {وما كنّا معذِّبين حتى نبعث رسولاً} الآية. ومن لم تبلغْه دعوة الرسول ولا معجزته ، فكأنّه لم يُبعثْ إليه رسول.
وهذا الكتابيّ الذي يضاعَف أجرُه ، هو الذي كان على الحقّ في شرعه
(2/132)
عقدًا وفعلاً ، ثمّ لم يزل متمسّكًا بذلك إلى أنْ جاء نبيّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فآمن به ، واتّبع شريعته ، فهذا هو الذي يؤجَر على اتّباع الحقّ الأوّل والحقّ الثاني.
وأمّا من اعتقد الإلهيّة لغير الله تعالى ، كما يعتقده النصارى اليوم ، أو من لم يكن على حقّ في ذلك الشرع الذي كان ينتمي إليه ، فإذا أسلم جبّ الإسلام ما كان عليه من الفساد والغلط ، ولم يكن له حقّ يؤجر عليه إلاّ الإسلام خاصّة - والله أعلم - ، وسيأتي في هذا الحديث
زيادة وبحث إن شاء الله تعالى.(2/133)
52 ) باب ما جاء في نزول عيسى بن مريم وما ما ينزل به
123- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وَاللهِ ! لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلاً ، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ ، وَلَيَتْرُكَنَّ الْقِلاصَ ، فَلا يُسْعَى عَلَيْهَا ، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في نزول عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قوله : (( لَينزلنّ ابنُ مريم فيكم حَكَمًا مُقسِطًا )) ، وفي رواية : ((عادلاً))
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مفسِّرًا. يقال : أَقسَطَ الرجلُ يُقسِطُ إقساطًا ؛ أي : عدل ، ومنه قوله تعالى : { وأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }. وقَسَطَ يَقْسُطُ قُسوطًا وقِسْطًا ؛ أي : جار ، ومنه قوله { وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}.
وقتْلُ عيسى للخنزير وكسْره الصليب يدلّ على أنّ شيئًا من ذلك لم يسوِّغْه لهم ، وأنّ ذلك لا يقر إذا تمكّن من تغييره وإزالته . وقيل معنى قوله : (( يكسّر الصليب )) ؛ أي : يبطل أمرُه ويُكسر حكمُه ، كما يقال : كسر حجّته .
وقوله : (( وليضعن الجزية )) ، قيل : يُسقطها فلا يقبلها من أحدٍ ، وذلك لكثرة الأموال ؛ إذ تقيء الأرض أفلاذ كبدها ، فلا يكون في أخذها منفعة للمسلمين ، فلا يقبل من أحد إلا الإيمان .
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2/134)
وقيل : يضربها على كلّ صنف من الكفّار ؛ إذ قد أذعن الكلّ له فإمّا بالإسلام ، وإمّا بأنْ ألقوا بأيديهم . والتأويل الأوّل أولى ؛ لقوله بعد هذا : (( ولْتتركنّ القلاص ، فلا يُسعى عليها )) ؛ أي : لا تطلب زكاتها ، كما جاء في الحديث الآخر .
و" القلاص" : جمع قَلوص ، وهي من الإبل كالفتاة من النساء والحدث
124-وعَنْهُ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ ؟ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ )). قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ : تَدْرِي مَا أَمَّكُمْ مِنْكُمْ ؟ قَالَ : فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبِّكُمْ - عَزَّ وَجَلَّ - وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الرجال . وهذا كقوله { وإذا العشارُ عُطِّلت } ؛ أي : زُهِد فيها وتُرِكت وإن كانت أحبَّ الأموال إليهم الآن .
و" الشحناء " والتباغُض والعداوة بمعنى واحد . و" التحاسد " الحسد ، وهو أن يتمنّى زوالَ نعمة الله عن المسلم . و" الغبطة " أن يتمنّى أن يكون لك مثلها من غير أن تزول عنه ، وهو التنافس أيضًا .
وقوله : (( حتّى تكونَ السجدةُ الواحدةُ خيرًا من الدنيا وما فيها )) ؛
125- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )). قَالَ : (( فَيَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ : تَعَالَ صَلِّ لَنَا ، فَيَقُولُ : لا ، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ ، تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الأُمَّةَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معناه : أنّ الصلاة تكون أفضلَ من الصدقة ؛ لفيض المال إذ ذاك ، ولعدم الانتفاع به . وأهل الحجاز يُسمُّون الركعة سجدة .
(2/135)
وقوله : (( وإمامكم منكم )) و(( أمكم )) أيضًا ؛ قد فسّره ابن أبي ذئب في الأصل ، وتكميله أن عيسى لا يأتي لأهل الأرض بشريعة أخرى ، وإنّما يأتي مقرِّرًا لهذه الشريعة ، ومجدِّدًا لها ؛ لأنّ هذه الشريعة آخر الشرائع ، ومحمّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخر الرسل . ويدلّ على هذا دلالةً واضحةً قولُ الأمير لعيسى : (( تعال صلِّ لنا ، فيقول : لا ، إنّ بعضَكم على بعض أمراء ؛ تكرمةَ الله لهذه الأمّة )).
و (( تكرمة )) مفعول من أجله. و" ظاهرين " : غالبين عالين ،
126- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أو مُعْتَمِرًَا أو لَيَثْنِيَنَّهُمَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنه : { ليُظهِره على الدين كلِّه }. و" فجّ الروحاء " موضع معروف.
وقوله : " أو ليثنينّهما " ؛ يعني : ليقرننّ بينهما . و" أو " تحتمل أن تكون إبهامًا على السامع ؛ إذ ليس هذا من باب الأحكام ، ولا تدعو الحاجة إلى التعيين. ويجوز بقاؤها على أصلها من الشكّ .
( 53 ) باب في قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ... } الآية .
127- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا : طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَالدَّجَّالُ ، وَدَابَّةُ الأَرْضِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قوله : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ }
(2/136)
قوله : (( ثلاث إذا خرجن )) ؛ اختلف في أوّل الآيات خروجًا ، فقيل : أوّلها طلوع الشمس من مغربها ، وقيل : خروج الدابّة. ومن ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية ابن أبي شيبة عن ابن عمرو مرفوعًا قال : (( وأيُهما ما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على أثرها )) ، وفي حديث أنس : (( أوّل أشراط الساعة نار تحشر الناس تخرج من اليمن )) ، وفي حديث حُذَيفة بن أسيد (( آخر ذلك النار )). وسيأتي كلّ هذا (3) ، إن شاء الله .
..................................................................
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومذهب أهل السنّة حمل طلوع الشمس من مغربها وغيرها من الآيات على ظاهرها ؛ إذ لا إحالة فيها ، وهي أمور مُمكنة في نفسها ، وقد تظاهرت الأخبار الصحيحة بها مع كثرتها وشُهرتها ، فيجب التصديق بها ، ولا يُلتفت لشيء من تأويلات المبتدعة لها .
(54) باب كيف كان ابتداء الوحي لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانتهاؤه.(2/137)
128- عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أَنَّهَا قَالَتْ : أَوَّلُمَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنَ الْوَحْيِ : الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلاّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ . ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذوْاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ ، قَالَ : (( مَا أَنَا بِقَارِئٍ )). قَالَ : (( فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيف كان ابتداء الوحي وانتهاؤه
" الوحي " : إلقاء الشيء في سرعة ، ومنه : الوحى الوحى . وقد يقال على الإلهام ، ومنه قوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى }(5) ؛ أي : فقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ )). قَالَ : (( فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ )). قَالَ : ((فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } )). فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ : (( زَمِّلُونِي ، زَمِّلُونِي )) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2/138)
ألهمناها ، وعلى التسخير ، ومنه : { وأوحى ربُّك إلي النحل } ؛ أي : سخّرها . وهو في عرف الشريعة : إعلام الله تعالى لأنبيائه بما شاء من أحكامه أو أخباره .
و" فلق الصبح " وفرقه ضياؤه ؛ ومعناه : أنّها جاءت واضحة بيّنة ، وهذا له ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبدأ من مبادئ الوحي ومقدّمة من مقدّماته . وقد أوحى الله إلى إبراهيم في النوم حيث قال : { يا بُنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك } ، والأنبياء كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم )). وقد كان نبيُّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أوّل أمره يرى ضوءًا ويسمع صوتًا ، ويسلِّم عليه
فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ : (( أَيْ خَدِيجَةُ ! مَا لِي ؟ ... )) ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، فقَالَ : (( لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي )) ، فقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : كَلاَّ! أَبْشِرْ ، فَوَاللهِ ! لا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا . وَاللهِ ! إِنَّكَ لَتَصِلُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحجر والشجر وتناديه بالنبوّة ، وهذه أمور ابتُدِئ بها تدريجًا لَمّا
..................................................................
(2/139)
الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى - وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ ، وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ- ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : أَيْ عَمِّ ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ . قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَبَرَ مَا رَأى ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أراد الله به من الكرامة والنبوة ، واستلطافًا به ؛ لئلا يفجأه صريح الوحي ، ويبغته الملك ، فلا تحتمل ذلك قوّة البشريّة .
و" حِرَاء "- بالمدّ - : جبل بينه وبين مكّة قدر ثلاثة أميال عن يسارك إذا سرت إلى منى . ويجوز فيه التذكير فيُصرف على إرادة الموضع ، والتأنيث فلا يصرف على إرادة البقعة . وضبطه الأَصيليّ : (( حَرَى )) بفتح الحاء والقصر . وقال الخطّابيّ : أصحاب الحديث يخطئون فيه في ثلاثة مواضع ، يفتحون الحاء وهي مكسورة ، ويكسرون الراء وهي مفتوحة ، ويقصرون الألف وهي ممدودة .
هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ )) قَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ ! لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا )).
(2/140)
وَفِي رِوَايَةٍ : (( فَوَاللهِ ! لا يُحْزِنُكَ اللهُ أَبَدًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختُلِف في عبادة النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل مبعثه ، هل كانت لأنّه كان متعبِّدًا بشريعة مَن قبله ، أم كانت لِمّا جعل الله في نفسه وشرح به صدره من نور المعرفة ، ومن بغضه لِما كان عليه قومه من عبادة الأوثان وسوء السيرة وقبح الأفعال ، فكان يفرّ منهم بُغْضًا ويخلو بمعروفه أُنسًا .
ثمّ الذين قالوا إنّه كان متعبِّدًا بشريعة ، منهم من نسبه إلى إبراهيم ، ومنهم من نسبه إلى موسى ، ومنهم من نسبه إلى عيسى . وكلّ هذه أقوال متعارضة لا دليلَ قاطع على صحّة شيء منها .
والأصحّ القول الثاني ؛ لأنّه لو كان متعبِّدًا بشيء من تلك الشرائع
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لعُلم انتماؤه لتلك الشريعة ، ومحافظته على أحكامها وأصولها وفروعها ، ولو عُلم شيءٌ من ذلك ، لنُقِل ؛ إذ العادات تقتضي ذلك ؛ لأنّه ممّن تتوفّر الدواعي على نقل أحواله وتتبُّعِ أموره ، ولمّا لم يكن شيء من ذلك ، علم صحّة القول الثاني.
وقوله : " حتّى فجئه الحقّ " ؛ أي : أتاه الوحْي بغتةً ، يقال : فجِئ بكسر الجيم يفجَأ ، وفجَأ يفجَأ بفتحها أيضًا .
وقوله : (( ما أنا بقارئ )) ، "ما " نافية ، واسمها " أنا " ، وخبرها "بقارئٍ " ، والباء زائدة لمجرَّد النفي والتأكيد . وقال بعضهم إنّها هنا استفهام(7) ، وهو خطأ ؛ لأنّ هذه الباء لا تزاد على الاستفهام ، وإنّما تصلح للاستفهام رواية من رواها : " ما أقرأ " ، وتصلح أيضًا للنفي .
وقوله : (( فغطّني )) ؛ أي : غمّني وعصَرني ، ورواه بعضهم : فغتني ، وهما معنى واحد . وفي العين : غَطَّه في الماء غَرَّقَه وغمسه ، ويقال : غَتَّه
(2/141)
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وغطه وخنقه بمعنى واحد .
وقوله : (( حتّى بلغ منّي الجَهد )) ؛ أي : غاية المشقَّة ، بفتح الجيم . و" الجُهد "- بالضمّ - : الطاقة ، قاله القُتبيّ . الشعبيّ : الجَهد في القوت والْجَهد في العمل . وقيل هما بمعنى واحد ، قاله البصريّون.
وهذا الغط من جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تفريغٌ له وإيقاظٌ ، حتّى يقبل بكليته ما يُلقى إليه ، وتكراره ثلاثًا مبالغة في هذا المعنى. وقال الخطّابيّ : كان ذلك ليبلو صبره ويحسن أدبه فيرتاض لتحمُّل ما كلّفه من أعباء الرسالة.
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا الحديث نصّ في أوّل ما نزل من القرآن ، وهو أولى من حديث جابر إذ قال : إن أوّل ما أُنزِل من القرآن {يا أيّها المدّثّر} ، ومساق حديث جابر لا ينصّ على ذلك ، بل سكت عمّا ذكرتْه عائشة من نزول { اقرأ } في حراء ، وذكر أنّه رجع إلى خديجة فدثّروه ، فأنزل الله تعالى : { يا أيّها المدّثّر } ، وعائشة أخبرت بأوّل ما نزل عليه في حراء ، فكان قول عائشة أولى ، والله أعلم .
وقوله : (( ترجف بوادره )) : ترعد وتضطرب . و(( البوادر )) من الإنسان اللحمة التي بين المنكب والعنق ، قاله أبو عبيد في الغريب . وقد رُوي في " الأمّ " : (( يرجف فؤاده )) ؛ أي : قلبه ، وهذا هو سبب طلبه أن يُدَّثّر ويُزّمَّل ؛ أي : (( يغطَّى ويُلفّ )) ؛ لشدّة ما لحقه من هول الأمر وشدّة الضغط .
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2/142)
و (( التزمُّل )) و(( التدثُّر )) واحد ، ويقال لكلّ ما يلقى على الثوب الذي يلي الجسد دثار . وأصل المزَّمِّل والمدَّثِّر : المتزمِّل والمتدثِّر ، أدغمت التاء فيما بعدها ، وقد جاء في أثر أنّهما من أسمائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( لقد خشيتُ على نفسي )) ، اُختُلِف في سبب هذه الخشية ، وفي زمانها ، فقيل : كانت عند رؤية التباشير وسمع الصوت قبل لقاء الملك ، وعند هذا يجوز أن يكون شكّ في حاله ولم يتحقَّق مآله ، وأمّا بعد مشافهة الملك وسماعه منه ما أخبره به وما قرأ عليه ، فلا يُتصوّر في حقِّه شكٌّ في رسالته بوجه من الوجوه . وإن كانت الخشية حصلت منه في هذه الحال ، فيحتمل أن كانت من ضعفه عن القيام بأعباء النبوّة والرسالة ، وأنّه لا يقدر عليها . ويحتمل أن يكون خوفه من مباعدة قومه له ونفارهم (( عنه )) ، فيُكذِّبونه(3) ويؤذونه ويقتلونه ، وهذا في أوّل أمره قبل أن يعلم بمآل حاله ، وأنّ الله يعصمه من الناس ، وقول خديجة يُشعِر بهذا ، والله أعلم .
وقولها : (( لا يخزيك الله أبدًا )) ، قاله معمر بالحاء المهملة والنون(4) ،
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقاله يونس وعقيل بالجاء المعجمة وبالياء المنقوطة بالاثنتين من أسفل ، ومعناه : لا يفضحك ولا يهينك .
وقولها : (( وتحمل الكَلَّ )) ، قال ابن النحّاس : الكَلُّ الثِقَل ، من كلَّ الشيءُ في المؤنة والجسم . والكَلّ أيضًا اليتيم والمسافر ، وهو الذي أصابه الكلال وهو الإعياء .
وقولها : (( وتكسب المعدوم )) ، رُوِيتُه بفتح التاء وضمّها ، قال ابن النحاس : يقال : كسبتُ الرجلَ مالاً ، وأكسبْتُه مالاً ، وأنشد :
فأكسبَنِي مالاً وأكسبْتُه حمدًا
(2/143)
وحكى أبو عبد الله بن القزّاز أنّ (( كسب )) حرف نادر ، يقال : كسبْتُ المال وكسبْتُه غيري ، ولا يقال : أكسبْتُ . وحكى الهرويّ : كسبْتُ مالاً وكسبْتُه زيدًا . وحُكي عن ثعلب وابن الأعرابيّ : أكسبْتُ زيدًا مالاً . ومعناه أنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يَكسب الناس ما لا يجدونه من معدومات الفوائد والفضائل ، وهذا أولى في وصفه من قول من قال إنّ
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خديجة مدحتْه باكتساب المال الكثير الذي لا يجده غيره ولا يقدر عليه.
وقول ورقة : (( هذا الناموس )) ، قال أبو عبيد في مصنَّفه : هو جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قال الهرويّ : وسُمِّي جبريل ناموسًا ؛ لأنّ الله خصّه بالوحي وعلم الغيب . وقال المطّرز : قال ابن الأعرابيّ : لم يأت في الكلام فاعول لام الفعل سين إلاّ الناموس وهو صاحب سرّ الخير ، والجاسوس وهو صاحب سرّ الشرّ ، والجاروس الكثير الأكل ، والفاعوس الحيّة ، والبابوس الصبيّ الرضيع ، والراموس القبر ، والقاموس وسط البحر ، والقابوس الجميل الوجه ، والعاطوس دابّة يُتشاءم بها ، والفانوس النمّام ، والجاموس ضرب من البقر . قال ابن دريد في الجمهرة : جاموس أعجميّ وقد تكلّمت به العرب ، وقال غيره : الحاسوس بالحاء غيرَ معجمة من تحسّسه بمعنى الجاسوس . وقال ابن دريد : الكابوس هو الذي يقع على الإنسان في نومه ، والناموس موضع الصائد ، وناموس الرجل صاحب
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سرّه ، وفي الحديث : (( فاعوس البحر )) ، ، وسيأتي إن شاء الله .
(2/144)
وقوله : (( يا ليتني فيها جذعًا )) ، فـ(( فيها )) عائد على النبوّة ، يريد مدّتها ، تمنّى نصرته في مدّة نبوّته . و(( جذعًا )) كذا صحّت الرواية فيه ، وعند ابن ماهان (( جذع )) مرفوعًا على خبر (( ليت )) ، وكذا هو في البخاريّ . ونصبه من أحد ثلاثة أوجه :
أوّلها : أنّه خبر (( كان )) مقدَّرة ؛ أي : يا ليتني أكون فيها جدعًا ، وهذا على رأي الكوفيّين كما قالوا في قوله تعالى : { انتَهُوا خيرًا لكم} ؛ أي يكن خيرًا لكم ، ومذهب البصريّين أنّ (( خيرًا )) إنّما انتصببإضمار فعل دلّ عليه (( انتهوا )) ، والتقدير : انتهوا وافعلوا خيرًا. وقال الفرّاء : هو نعت لمصدر محذوف ، تقديره : انتهُوا انتهاءً خيرًا لكم.
وثانيها : أنّه حال ، وخبر (( ليت )) في المجرور ، فيكون التقدير : ليتني كائن فيها ؛ أي : مدّةَ النبوّة في هذه الحال .
129- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ قَالَ : إِنَّ الله تَابَعَ الوَحْيَ عَلَى رَسُولِهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تُوفِّيَ ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ الْوَحْيُ يَوْمَ تُوفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وثالثها : أن تكون (( ليت )) أُعمِلتْ عمل (( تمنّيتُ )) ، فنصبت اسمين ، كما قاله الكوفيّون ، وأنشدو عليه :
يا ليتَ أيّام الصبا رواجعًا
وهذا فيه نظر .
وقوله : (( أنصرك نصرًا مؤزَّرًا )) ، كذا رويناه بالزاي المفتوحة والراء المهملة ، وهو الصحيح ، ومعناه : قوِيًّا ، مأخوذ من الأزر وهو القوّة ، قال الله تعالى : { اشْدُدْ به أزري }.
وقوله في "الأمّ" : (( فحثثتُ منه فرقًا )) ، ، يروى بالحاء غير المعجمة وبالثاءين المثلّثتين ، بمعنى : أسرعْتُ خوفًا منه .
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2/145)
ويروى بالجيم المعجمة والثاءين ، وجَئِثْتُ بالجيم وبالهمزة المكسورة مكان الثاء الأولى ، قال الهرويّ : جوث الرجل وجيَّث وجثّ ؛ أي : أفزع .
وقوله في حديث أنس : (( أنّ الله تابع الوحي على رسوله )) ؛ يعني : والى ، أي : الشيء بعد الشيء .
وقوله : (( وأكثرُ ما كان )) مرفوع بالابتداء ، و(( ما )) مع الفعل بتأويل المصدر ، و(( كان )) تامّة ، و(( يوم )) خبر (( أكثر )).
( 55 ) باب في شق صدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صغره ، واستخراج حظ
الشيطان من قلبه
130- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً ، فَقَالَ : هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ لأَمَهُ ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي : ظِئْرَهُ - فَقَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ . قَالَ أَنَسٌ : قَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب شُقَّ صدرُ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صِغَره
قوله : (( فاستخرج منه علقة )) ؛ أي : قطعة دم ، و(( العلق )) : الدم . وهذه العلقة المنتزَعَة عنه هي القابلة للوساوس والمحرِّكة للشهوات ، فأُزِيل ذلك عنه ، وبذلك أُعين على شيطانه حتّى سلم منه .
و (( لأمَه )) ؛ أي : ضمَّه وجمَعه ، و(( ظِئره )) : مُرضِعَتُه ، و(( منتقَعٌ اللون )) : متغيِّره ، يقال : انتَقَعَ لونُه ، وابتُقِعَ وامتقع ؛ أي : تغيَّر عن حاله. و((المخيَط )) ما يخاط به ، وهو الخيط والإبرة . وفي (( الطست )) لغات ،
(2/146)
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طَسْتٌ بفتح الطاء وكسرها ، وطَسٌّ وطَسَّة ، والجمع طِسَاس وطُسُوْسٌ وطسَّاتٌ.
وهذا الحديث محمول على ظاهره وحقيقته ؛ إذ لا إحالةَ في شيء منه عقلاً ، ولا يُستبعَدُ من حيثُ إنّ شقّ الصدرِ وإخراج القلب موجبٌ للموت ، فإنّ ذلك أمر عاديٌّ ، وكانت جُلُّ أحوالِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خارقةٌ للعادة ، إمّا معجزةً ، وإمّا كرامةً .
وهذا الشقّ هو خلاف الشقّ المذكور في حديث أبي ذرّ ومالك بن صعصعة ؛ بدليل اختلاف الزمانين والمكانين والحالين . أمّا الزمانان ، فالأوّل في صِغَره ، والثاني في كِبَره . وأمّا المكانان ، فالأوّل كان ببعضِ جهات مكّة عند مُرضِعته ، والثاني عند البيت . وأمّا الحالان ، فالأوّل نُزِعَ من قلبه ما كان يَضُرُّه وغُسِل ، وهو إشارة إلى عصمته ، والثاني غُسِل ومُلِئ حكمةً وإيمانًا ، وهو إشارة إلى التهيُّؤ إلى مشاهدة ما شاء الله أن يشهده . ولا تَلْتَفِتْ إلى قول مَن قال إنّ ذلك كان مرّةً واحدة في صِغَرِه ، وأخذ يُغَلِّط بعض الرواة الذين رووا أحد الخبرين ، فإنّ ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغلط به أليق ، والوَهم منه أقرب ، فإن كان رواةُ الحديثين أئمّةٌ مشاهيرَ حُفَّاظ .
ولا إحالةَ في شيء ممّا ذكروه ولا معارضةَ بينهما ولا تناقُضَ ، فصحّ ما قلناه . وبهذا قال جماعة ٌ من العلماء ، منهم القاضي المُهلَّب بن أبي صُفرة في (( شرح مختصر صحيح البخاريّ )).
( 56 ) باب في شق صدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثانية ، وتطهير قلبه ، وحشوه حكمة وإيمانًا عند الإسراء
(2/147)
130- عَنْ أَبِي ذَرٍّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ ، فَفَرَجَ صَدْرِي ، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، قال : فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي ، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ ... )) ، وذكر الحديث .
131- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ ؛ قَالَ : قَالَ نَبِيُّ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ ، إِذْ سَمِعْتُ قَائِلا يَقُولُ : أَحَدُ الثَّلاثَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ ، فَأُتِيتُ ، فَانْطُلِقَ بِي ، فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ، فَشُرِحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا . (( قَالَ قَتَادَةُ : فَقُلْتُ لِلَّذِي مَعِي : مَا يَعْنِي ؟ قَالَ : إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ (( فَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي ، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ ، ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ ، يُقَالُ لَها : الْبُرَاقُ ... )) وذكر الحديث .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (( الحكمة )) أصلها ما يمنع من الجهل والقبائح ، مأخوذة من حكمة
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البعير .
وكونها تملأ الطست استعارة تُفهِم أنّ المجعولَ في قلبه منها كثيرٌ شريف ، وإلاّ فليست العلوم أجسامًا حتّى تملأ الطست . وقيل إنّ القلب لمّا امتلأ حكمةً بعد غسْله بملء الطست من ماء زمزم ، قُدِّرت الحكمةُ بما كانت عنه ، والله أعلم .
( 57) باب ما خَصَّ الله به محمدًا نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كرامة الإسراء
(2/148)
132- عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : ((أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ - وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ ، فَوْقَ الْحِمَارِ ، وَدُونَ الْبَغْلِ ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ -. قَالَ : فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالَ : فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِها الأَنْبِيَاءُ . قَالَ : ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجْتُ ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ . قَالَ : ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، فَقِيلَ : مَنْ أَنْتَ ؟ فقَالَ : جِبْرِيلُ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الإسراء
(( الإسراء )) سير الليل ، يقال : سريْتُ مَسْرًى وسُرًى وأَسْرَيْتُ إِسْراءً ، بمعنى واحد ، وبالألف لغة أهل الحجاز وقد جاء في القرآن ، وقال حسّان :
حَيِّ النظيرَ ورَبَّةَ الخِدْرِ أسْرَتْ إليَّ ولم تكنْ تَسْرِي
وقيل : أسرى سار من أوّل الليل ، وسَرَى سار من آخره ، والقول الأوّل أعرف . ويقال سِرْ بِنَا سَرْيَةً واحدةً ، والاسم السُرْيَة بالضمّ والسُرَى . ويقال . أسْراه وأسْرى به ، مثل . أخَذ الخطامَ وأخَذ بالخطامِ .
(2/149)
قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ . قَالَ : فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ . ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، فَقِيلَ : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختُلِف في كيفيّة هذا الإسراء وفي زمانه ، فقيل : كان كلُّه منامًا ، وقيل : كان كلُّه يقظةً ، وقيل : كان إلى المسجد الأقصى يقظةً ، وإلى ما بعد ذلك منامًا . وكلّ تلك الأقسام جائزة ، لكن الذي عليه معظم السلف والخلف أنّه إسراء بجسده ، وحقيقتُهُ ، في اليقظة إلى آخر ما انطوى عليه الإسراء ، وعليه يدلّ ظاهرُ الكتاب وصحيحُ الأخبار ، ومبادرةُ قريش لإنكار ذلك وتكذيبه . ولو كان منامًا ، لما أنكروه ولما افتُتِنَ به من افتُتِنَ ؛ إذ كثيرًا ما يُرى في المنام أمورٌ عجيبةٌ وأحوالٌ هائلة ، فلا يُستبعَد ذلك في النوم ، وإنّما يُستبعَد في اليقظة .
ولا يُعارِض ما ذكرْنا إلاّ ظاهرُ قوله تعالى . { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ، وألفاظٌ وقعتْ في بعض طُرُق أحاديث الإسراء ، كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بينا أنا نائمٌ )) ، وقوله : (( فاستيقظتُ )) ونحو
(2/150)
قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ . قال : فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالةِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ ، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ . ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ . فَقِيلَ : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ . فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ ، إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، فقِيلَ : مَنْ هذَا ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك ممّا وقع في كتاب مسلم وغيرِه.
وقد انفصل عن الآية بوجهين :
أحدهما : أنّ هذه قضيّة أخرى غيرُ الإسراء على ما ذكره عكرمة ، قال : هي رؤيا دخول المسجد الحرام ، والفتنة : الصدّ بالحُدَيبِية .
الثاني : أنّ الرؤيا بمعنى الرؤية والمعاينة ، قاله ابن عبّاس في جماعة ، والفتنة ارتداد من أنكر ذلك .
(3/1)
قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ، فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ، قَالَ اللهُ تَعالَى : {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}. ثُمَّ عَرَجَ بِنا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، فَقِيلَ : مَنْ هذَا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ . فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ . قَالَ : فَرَحَّبَ بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ . ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ : ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأمّا قوله : (( بينا أنا نائم )) ؛ يعني في أوّل القصّة ، وذلك أنّه كان قد ابتدأ نومه ، فأتاه المَلَك فأيقظه . وفي بعض ألفاظِه " بينا أنا بين النائمِ واليقْظانِ أتاني المَلَك " وذكر الحديث .
(3/2)
وقوله : (( فاستيقظْتُ وأنا بالمسجد الحرام )) ؛ يحتمل أن يكون استيقاظه من نومٍ نامه بعد الإسراء ؛ لأنّ إسراءه لم يكن طول ليلته ، وإنّما كان في بعضها . ويحتمل أن يكون بمعنى . أفقْتُ ، وذلك ممّا كان غمر باطنَه من عجائب ما رأى ، وطالع من ملكوت السماوات ، وخامر باطنَه من مشاهدة الملأ الأعلى . وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ . فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى ، فَرَحَّبَ بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ . ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابعَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، فَقِيلَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا ، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ . ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلالِ. قَالَ : فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا . فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى ، فَفَرَض عَلَيَّ خَمْسِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ لقد رأى من آياتِ ربّه الكُبرى } ، فلم يستَفِقْ ويرجعْ إلى حال بشريّته إلاّ وهو بالمسجد الحرام ، والله أعلم .
وأمّا متى كان الإسراء ، فأقلّ ما قيل فيه أنّه كان بعد مبعثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخمسةَ عشرَ شهرًا ، قاله الذهبيّ. وقال الحربيّ : كان ليلةَ سبعٍ وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنةٍ . وقال ابن إسحاق : أُسْرِيَ به
(3/3)
صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى ، فَقَالَ : مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ ؟ قُلْتُ : خَمْسِينَ صَلاةً. قَالَ : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ ، فَإِنِّي قدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. قَالَ : ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد فشا الإسلام بمكّة والقبائل . وقال الزُهْريّ : كان ذلك بعد مبعث النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخمس سنين ، وهذا أشبه ؛ لأنّه لا خلافَ أنّ خديجة صلّت معه بعد فرض الصلاة ، ولا خلافَ أنّها توفيت قبل الهجرة بمدّة قيل : بثلاث سنين ، وقيل : بخمس . وقد أجمع العلماء على أنّ فرض الصلاة كان ليلة الإسراء .
وقوله في صفة البُراق : (( دابّة أبيض طويل )) جاء بوصف المذكَّر ؛ لأنّه وصفٌ للبراق ، ولو أُتِيَ به على لفظ الدابّة ، لقال . طويلة .
و (( البُراق )) مشتقّ من البرْق ، قاله ابنُ دُرَيد . وقيل : هو من الشاة البَرْقاء إذا كان في خلال صُوفِها الأبيض طاقاتٌ سودٌ ، ومن هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَبْرِقوا ، فإنّ دم عفراء عند الله أزكى من دم سَوْدَاوَينِ )) ؛ فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي ، فَقُلْتُ : يَا رَبِّ ! خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي ، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا . فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى ، فَقُلْتُ : حَطَّ عَنِّي خَمْسًا . قَالَ : إِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ . قَالَ : فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى ، حَتَّى قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي : ضَحُّوا بالبرقاء ، وهي العفراء هنا ؛ فإنّ العفرة بياضٌ يخالطه يسيرُ صُفْرَةٍ .
(3/4)
صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، لِكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاةً ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا . وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً. قَالَ : فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى ، فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فَقُلْتُ : قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( عند منتهى طَرْفِه )) بسكون الراء ، وهو العين ، يعني أنّه سريعٌ بعيدُ الخطْوِ .
وقوله : (( أصبتَ الفِطْرَة )) أصل الفطرة ابتداء الخِلْقَةِ ، ومنه . فطر ناب البعير ، إذا ابتدأ خروجه ، ومنه قول الأعرابيّ المتحاكِم إلى ابن عبّاس في البئر : (( أنا فَطَرْتُها )) ؛ أي : ابتدأتُ حفْرَها . وقيل في قوله ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى : { فطرة الله التي فطر الناسَ عليها } ؛ أي : جِبِلَّة الله التي جَبَلَهم عليها من التهيُّؤ لمعرفته والإقرار . وقيل : هي ما أخَذ عليهم في ظهر آدم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الاعتراف بربوبيّته . وقيل : الفطرة الإسلام ؛ لأنّه الذي تقتضيه فطرة العقل ابتداءً . وقد حُمِل على هذا قولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((كلّ مولود يُولَدُ على الفطرة ... )) الحديث ، وقد نصّ على هذا في حديث آخر فقال : ((جَبَلَ اللهُ الخلْقَ على معرفته فاجتابتْهم الشياطين )).
(3/5)
وكأن معنى الحديث أنّه لمّا مال إلى ما يُتناوَل بالجبلَّة والطبع وما لا تنشأ عنه مفسدةٌ وهو اللبن ، وعدل عمّا ليس كذلك مما تُتَوَقَّعُ منه مفسدة أو من جنسه ، وهي إذهاب العقل الموصل للمصالح ، صوَّب الملك فعله ودعا له ، كما قال في الرواية الأخرى : (( أصبتَ أصاب الله بك )) ، ويحتمل أن يكون ذلك من باب التفاؤل والتشبيه ؛ لما كان اللبن أوّلَ شيء يدخل جوف الصبيّ ويشقّ أمعاءه ، فسمّي ذلك فطرةً .
134- وَمِنْ حَدِيثِ أبي ذَرٍّ ؛ قَالَ : (( فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ . قَالَ : فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبلَ شِمَالِهِ بَكَى ، فقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ- وهكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ ، وَسَائِرُ الأَنْبِيَاءِ يَقُولُونَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ-. قَالَ : قُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ ! مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا آدَمُ ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ . فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ... )) الحديث .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( وقد بعث إليه )) ، هو استفهام من الملائكة عن بعث النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإرساله إلى الخلق . وهذا يدلّ على أنّهم لم يكن عندهم علم من وقت إرساله ؛ لكونهم مستغرقين بالعبادة لا يفترون عنها . وقيل : معناه استفهام(3) عن إرسال الله تعالى إليه بالعروج إلى السماء .
و (( البيت المعمور )) سُمّي بذلك ؛ لكثرة عمارته بدخول الملائكة فيه وتعبُّدهم عنده .
(3/6)
و (( الأسْوِدَة )) جمع سواد ، وهي الأشخاص ، وسواد الإنسان شخصه ، يقال . لا يفارق سوادي سوادَك ، وهي ههنا(4) أرواح(5) بني آدم ، وقد
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فسّرها بنسم بنيه .
و (( النَّسَم )) جمع نَسَمَة ، كالشجر جمع شجرة . ولا يناقض هذا أن يُخبِر الشارع أنّ أرواح المؤمنين في الجنّة أو في الصُور الذي يُنْفَخ فيه أو في القبور ، وأرواح الكافرين في سجّين ؛ لأنّ هذا في أحوالٍ مختلفةٍ وأوقاتٍ متغايرةٍ ، والله أعلم .
و (( السِدْرَةُ )) واحدة السِدْر ، وهو شجر النبق ، وهو من أعظم الشجر جرْمًا ، وهو أكثر شجر البادية عندهم له شوك . ولأجل هذا وصفه الله تعالى بكونه مخضودًا ؛ أي : منزوعَ الشوك . وقد فسّر المعنى الذي به سمّيت سدرة المنتهى في حديث عبد الله الآتي.
وقوله : (( فلمّا غَشِيَها مِن أمر الله ما غَشِيَ )) ؛ يعني . من جلال الله وعظيم شأنه وسلطانه ، تغيّرت ؛ أي : انتقلت عن حالها الأولى إلى حال أحسن منها .
وقوله في حديث مالك بن صعصعة : (( أن سدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار ، نهران باطنان في الجنة ، ونهران ظاهران وهما النيل والفرات )) ؛ يدلّ على أنّ السدرة ليست في الجنّة ، بل خارجًا عنها . وعلى
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك يدلّ أيضًا قوله تعالى : { عندها جنّة المأوى } ، لكن قد جاء
(3/7)
في حديث أبي هريرة ما يدلّ على أنّ النيل والفرات ظاهران خارجان من الجنّة . ويمكن أن يجمع بينهما بأنّ النيل والفرات لمّا كانا مشاركين لنهري الجنّة في أصل السدرة ، أُطْلِقَ عليهما أنّهما من الجنّة . وسيحان وجيحان يمكن أن يكونا تفرَّعا من النيل والفرات ؛ لقرب انفجارهما من الأصل.وقيل : إنّ ذلك إنّما أُطْلِق تشبيهًا لهذه الأنهار بأنهار الجنّة ؛ لما فيها من شدّة عذوبتها وحسنها وبركتها ، والله أعلم .
وقوله : ((حتّى ظهرْتُ لمُستوًى أسمعُ فيه صريفَ الأقلام )) ، (( ظهرْتُ )) : علوتُ ، و(( المستوَى )) : موضعٌ مشرفٌ يُستوَى عليه ، وقد يكون المستوى يراد به هنا حيث يظهر عدلُ الله وحُكمه لعباده هناك ، و((السواء )) ،
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و ((الاستواء )) : العدل .
و (( صريف الأقلام )) : تصويتها فيما يُكتب بها فيه ، ومن ذلك صريف الفحل بأنيابه ، وهو صوت حَكِّ بعضها ببعض ، وهذا المكتوب فيه هو اللوح المحفوظ ، والله أعلم .
ولعلّ الأقلام المصوِّتة هنا هي المعبَّر عنها بالقلم المُقسَم به في قوله تعالى : { ن والقلمِ } ، ويكون القلم هنا للجنس .
وكيفية الأقلام واللوح لا يعلمها إلاّ الله أو من أعلمه بذلك.
وأمّا تخصيص موسى بأمره النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمراجعة الله تعالى في الحطّ من الصلوات ، فلعلّه إنّما كان لأنّ أمّة موسى كانت قد كُلِّفت من الصلوات ما لم يُكَلَّف غيرها من الأمم ، فثقُلَتْ عليهم ، فخاف موسى 135- وَمِنْ حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي حَبَّةَ الأَنْصَارِيِّ ؛ قَالا : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ بِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على أمّة محمّد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل ذلك. وعلى هذا يدلّ قوله : (( فإنّي قد بلوتُ بني إسرائيل قبلك )) ، والله أعلم .
(3/8)
وقيل : لأنّ موسى كان في السماء السابعة ، فكان أوّل من لقي من الأنبياء ، وليس بصحيح ، فإنّ هذا الحديث نصّ في أنّ موسى كان في السادسة وإبراهيم في السابعة ، فكان يكون إبراهيم أولى بذلك . والأشبه الأوّل ، والله أعلم .
وهذا الحديث نصّ في وقوع النسخ قبل التمكّن من الامتثال ، فهو ردّ على من خالف في ذلك وهم المعتزلة .
وقوله : { لا يُبدَّلُ القول لديّ } ؛ دليل على استقرار هذا العدد ، فلا يُزاد فيه ولا ينقص منه ، وهو ردّ على أبي حنيفة في حكمه بوجوب صلاة سادسة وهي الوِتر ، سيّما وقد جُعِلت هذه الخمس بمنزلة الخمسين ، فلو استقرّت في علم الله ستًّا ، لبُدِئ فرضها ستّين ، ثمّ يُقصَرُ على ستٍّ ؛ إذ كلّ صلاة بعشر .
136- وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ : فَقَالَ : (( هِيَ خَمْسٌ ، وَهِيَ خَمْسُونَ ، لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ )). وَفِيهِ : (( ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ثمّ أُدْخِلْتُ الجنّة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ )) ، قال ابن الأعرابيّ : الجَنْبَذَةُ : القبّة ، وجمعها جَنَابِذ . وقال ثابت عن يعقوب : هو ما ارتفع من البناء . ووقع في كتاب البخاريّ في كتاب الصلاة حبائل اللؤلؤ ، وهو تصحيف ، والصحيح الأوّل على ما قاله جماعة من العلماء.
و (( أبو حبّةَ الأنصاريّ )) صحيح اسمه بالباء بواحدة من أسفلَ ، وقد رواه الفارسيّ عن المروزيِّ باثنتين ، وليس بشيء . واسمه مالك بن عمرٍو البدريّ ، وقال الغسّانيّ اسمه عامر ، وقيل : زيد ، وهو يشتبه بحيّةَ بالياء ، وهو حيّةُ بن حيّةَ الثقفيّ .
(3/9)
137- وَمِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ : قَالَ : (( فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ - يعني : موسى - بَكَى ، فَنُودِيَ : مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ : رَبِّ ! هَذَا غُلامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي ، يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي )) . وَفِيهِ : وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ ، فَقُلْتُ : (( يَا جِبْرِيلُ ! مَا هَذِهِ الأَنْهَارُ ؟ )) ، فقَالَ : أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ : فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ : فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبكاء موسى إشفاق وحزن على أمّته ؛ لما تقدّم من ضلالهم ولأجل ما فاته من كثرة ثواب من عساه أن يؤمنَ من أمّته به لو آمن .
وفي حديث أنس ما يقتضي أنّ السدرة في السماء السابعة أو فوقها ؛ لقوله : (( ثمّ ذهب بي إلى السدرة بعد أن استفتح السماء السابعة ، ففتح له فدخل )) ، وفي حديث عبد الله أنّها في السماء السادسة . وهذا تعارض 138- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ ؛ قَالَ : لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، انْتهى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الأَرْضِ ، فَيُقْبَضُ مِنْهَا ، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا ، فَيُقْبَضُ مِنْهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا شكّ فيه ، وما في حديث أنس أصحّ ، وهو قول الأكثر ، والذي يقتضيه وصفُها بأنّها التي ينتهي إليها علمُ كلّ مَلَكٍ مقرَّب وكلّ نبيّ مرسل على ما قاله كعب ، قال : وما خلفها غيبٌ لا يعلمه إلاّ الله ، وكذلك قال الخليل بن أحمد .
وقيل : إليها تنتهي أرواح الشهداء . وقال ابن عبّاس : هي عن يمين العرش.
(3/10)
وأيضًا فإنّ حديث أنس مرفوع وحديث عبد الله موقوف عليه من قوله ، والمُسنَدُ المرفوعُ أولى .
قَالَ : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى }. قَالَ : فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ . قَالَ فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثَلاثًا : أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إذ يغشى السدرةَ ما يغشى )) ؛ أي : يُغَطِّي ويعلو .
و (( الفراش )) : كلّ ما يطير من الحشرات والديدان . وفي حديث ابن جُرَيج : (( وأُرخِيَتْ عليها ستورٌ من لؤلؤٍ وياقوتٍ وزَبَرْجَد )).
وقوله : (( وغفر لمن لم يشركْ بالله شيئًا المُقحَماتِ )) ؛ أي : الذنوب العظام التي تقحِمُهم في النار ؛ أي : تُدخِلهم فيها بمشقّةٍ وكُرْهٍ وشِدَّةٍ ، يقال : اقتحم يقتحم ؛ أي : دخل في أمر شاقّ ، وأقْحَمْتُه أنا أدْخلْتُهُ فيه.
وقوله : (( وأعطي خواتيم سورة البقرة )) ، إنّما خصّتْ بذلك ؛ لما تضمّنتْه من التخفيف عنهم والثناءِ على الرسول والمؤمنين ، وإجابةِ دعواتهم ونُصرتِهم ، وقد تقدَّم القول فيها.
( 58 ) باب رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنبياء ، وصلاته بهم ، ووصفه لهم
وذكر الدجال
(3/11)
139- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ : سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ ، فَقَالَ : (( أَيُّ وَادٍ هَذَا ؟ )) فَقَالُوا : وَادِي الأَزْرَقِ ، قالَ : ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى- فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ وَشَعَرِهِ شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ دَاوُدُ- وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ، لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي )). قَالَ : ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ ، فَقَالَ : (( أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ ؟ )) قَالُوا : هَرْشَى أَوْ لِفْتٌ ، فَقَالَ : (( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ ، عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ ، خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب رؤيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنبياء
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كأنّي أنظرُ إلى موسى )) ؛ يحتمل أن يكون هذا النظر في اليقظة على ظاهره ، وحقيقته ليلة الإسراء ، وهو ظاهر حديث جابر وأبي هريرة الآتي ، ويحتمل أن يكون ذلك كله مناما . ورؤيا الأنبياء وحيٌ ، وهو نص حديث ابن عمر .
140- وَعَنْ جَابِرٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( عُرِضَ عَلَيَّ الأَنْبِيَاءُ . فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنوءَةَ ، وَرَأَيْتُ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (( الجؤار )) : رفع الصوت ، وهو مهموز ، ومنه قوله تعالى : { فإليه تجأرون }.
(3/12)
و (( هَرْشِيٌّ )) بفتح الهاء وسكون الراء . جبل من بلاد تهامة على طريق الشام والمدينة قريب من الجحفة .
و (( لَفْت )) روي عن أبي بحرٍ أنه قاله بفتح اللام وسكون الفاء ، وقاله ابن سراج بكسر اللام وسكون الفاء . وأنشد لبعضهم.
مررت بلفتٍ والثريا كأنها قلائد درٍ حلّ عنها نظامها
بالكسر . وقاله القاضي الشهيد بفتح اللام وسكونها .
و (( الخلبة )) بضم الخاء الليفة ، وفيها لغتان : ضم اللام ، وسكونها .
141- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ ، وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا ، فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ )). قَالَ : (( فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ . وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي ، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ ، وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي ، أَقْرَبُ النَّاسِ شَبَهًا بهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي ، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - ، فَحَانَتِ الصَّلاةُ فَأَمَمْتُهُمْ ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ ، قَالَ قَائِلٌ : يَا مُحَمَّدُ ! هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ : فَالْتَفَتُّ إِلَيه ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلامِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (( الضَّرْب )) من الرجال الذي له جسْم بين جسمين ، ليس بالضخم ولا بالضئيل . قال طرفة . أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه .
(3/13)
و (( أزد شنوءة )) : حي من اليمن ، شُبّه بهم موسى في كيفية خِلْقهم ، وسموا شنوءة ؛ لِشنوءتهم ، وهي تباعدهم من الأنجاس ، يقال :
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رجل فيه شنوءة ؛ أي : تقرر في المباعدة عن الأقذار ، حكاه الجوهري . وقال القتبي . سُموا بذلك ؛ لأنهم تشانؤوا ؛ أي : تباغضوا .
تنبيه : أن تنزلنا على أن رؤيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنبياء حقيقة في اليقظة فصلاته وصلاتهم وطوافهم بالبيت كذلك .
ولا يبعد من حيث إنهم قد ماتوا ومن حيث إن ما بعد الموت ليس بمحل تكليف ؛ لأنا نجيب عن الأول بأنهم أحياء كالشهداء ، بل هم أولى .
وعن الثاني : أنهم يُحبب إليهم ذلك ويلهمونه ، فيتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم ، لا بما يلزمون كما يحمده ويسبّحه أهل الجنة ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس )).
(3/14)
142- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمًا - بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ - الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ، فَقَالَ : (( إِنَّ اللهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ، أَلا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى ، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ )). قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَرَانِي اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا تَرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ ، تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ ، رَجِلُ الشَّعْرِ ، يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً ، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ بَيْنَهُمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ . وَرَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلاً جَعْدًا قَطَطًا ، أَعْوَرَ العَيْنِ الْيُمْنَى ، كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ بِابْنِ قَطَنٍ ، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ ، يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمسيح بن مريم لا خلاف أنه بفتح الميم ، وكسر السين مخففة . وأما المسيح الدجّال ، فتقييده عند أكثر العلماء مثل الأول ، وقيّده أبو إسحاق ابن جعفر : بكسر الميم ، وتشديد السين ، وقاله كذلك غير واحد .
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبعضهم يقوله كذلك بالخاء المنقوطة ، وبعضهم يقول : مَسيخٌ بفتح الميم وبالخاء والتخفيف .
(3/15)
واختُلِف في المسيح بن مريم ممّاذا أُخِذ ؟ ، فقيل : لأنه مسح الأرض ؛ أي : ذهب فيها ، فلم يستكنّ بكن. وقيل : لأنه ممسوح بدهن البركة. وقيل : لأنه كان ممسوح الأخمصين . وقيل : لأنه كان لا يمسح ذا عاهةٍ إلا برأ . وقيل : لأن الجمال مسحه ؛ أي : أصابه وظهر عليه . وقال ابن الأعرابي . المسيح الصدّيق ، وبه سُمي عيسى ، وقيل : هو اسم سمّاه الله به ؛ أي : أنه غير مشتق .
وأما الدجّال ، فسمّي مسيحًا ؛ لأنه ممسوح العين اليُمنى ، وقيل : لأنه مسح الأرض ؛ أي : قطعها بالذهاب . ومن قاله بالخاء فمن المسخ .
وقوله : (( بين ظهراني الناس )) ؛ أي : في الناس ومعهم ، يقال . ظهراني بنون وبغير نون ، وظهور كلها بمعنى واحد .
وقوله في هذا الحديث : (( أعور العين اليُمنى )) ، هذا هو الصحيح والمشهور ، وقد وقع في رواية اليسرى وكأنه وهمٌ ، ويمكن أن يحمل هذا ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على ما يتخيله بعض العامة من أن العوراء هي الصحيحة ؛ إذ قد بقيت منفردة عديمة قرينتها ، وليس بشيء ، بل العوراء التي أصابها العور ؛ أي : العيب .
وقوله : (( طافية )) بغير همز ، وعليه أكثر الروايات ، وهكذا قال الأخفش ، ومعناه أنها ممتلئة قد طفتْ وبرزتْ ، وقد روي بالهمز ؛ أي : قد ذهب ضوؤها وتقبّضت ، ويؤيد هذه الرواية قوله في أخرى أنه ممسوح العين ، وأنها ليست جحراء ولا ناتية وأنها مضمومة ، وهذه صفة حبة العنب إذا طفيت وزال ماؤها ، وبهذا فسره عيسى ابن دينار .
(3/16)
وقوله في وصف عيسى : (( آدم )) من الأدمة ، وهو لون فوق السُّمرة ودون السحمة بالسين المهملة وكأن الأدمة يسير سوادٍ يضرب إلى الحمرة ، وهو غالب ألوان العرب . ولهذا جاء في أخرى في وصف عيسى أنه أحمر مكان آدم ، وعلى هذا يجتمع ما في الروايتين . وقد روي البخاري من رواية أبي هريرة في صفة عيسى أنه أحمر ، كأنما خرج من ديماس .
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد أنكر ابن عمر هذا وحلف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقله.
و (( اللمة )) بكسر اللام . الشعر الواصل إلى المنكب ، كأنه ألمّ به ؛ أي : نزل . والْجُمة الواصل إلى شحمة الأذن ، وهو أيضا الوفرة .
والرَّجِلُ فوق السبط ودون الجعد ، وهو الذي فيه يسير تكسُّر. و((الجعد )) : الكثير التكسر والتقبّض .
و (( القطط ))- بفتح الطاء وكسرها - : هو الشديد الجعودة الذي لا يطول إلا إذا جبذ ، كشعور غالب السودان ، وهو من وصف الدجّال .
وقوله : (( يقطر رأسه ماءً )) ؛ ما يعني أنه قريب عهد بغسل ، وكأنه اغتسل للطواف . وفي الرواية الأخرى : (( ينطف )) ، ومعناه . يقطر . وفي ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية : (( قد رجّلها )) ؛ أي : مشّطها ، وشعر مرجّل ؛ أي : ممشوط مسرّح . والشعر الرَّجِل منه .
( 59 ) باب هل رأى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه ؟
(3/17)
143- عَنْ مَسْرُوقٍ ؛ قَالَ : كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ ، فَقَالَتْ : يَا أَبَا عَائِشَةَ! ثَلاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ : مَاهُنَّ ؟ قَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ . قَالَ : وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ ، فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ! أَنْظِرِينِي وَلا تَعْجَلِي. أَلَمْ يَقُلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ } ، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }. فَقَالَتْ : أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب هل رأى محمد ربّه
قالت عائشة للذي سألها عن رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربّه : (( لقد قفّ شعري لِما قلت )) ؛ أي : قام من الفزع . قال أبو زيد : قفّ الرجل من البرد قفّةً ، والقفوف . القشعريرة . قال الخليل بن أحمد : القفقفة . الرعدة . قال ابن الأعرابي : تقول العرب عند إنكار الشيء . قفّ شعري واقشعرّ جلدي واشمأزّت نفسي .
(3/18)
واختلف قديمًا وحديثًا في جواز رؤية الله تعالى ، فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة ، وأهل السنة والسلف على جوازها فَقَالَ : (( إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ ، سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ )). فَقَالَتْ : أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ : { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }. أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ يَقُولُ : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً... } إلى قَولِهِ : { عَلِيٌّ حَكِيمٌ } ؟ قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ ، وَاللهُ يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيهما ووقوعها في الآخرة.
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }. قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ . وَاللهُ يَقُولُ : { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللهُ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم هل رأى نبينا ربّه أم لا ؟ اختلف في ذلك السلف والخلف ، فأنكرته عائشة وأبو هريرة وجماعة من السلف ، وهو المشهور عن ابن مسعود ، وإليه ذهب جماعة من المتكلمين والمحدثين . وذهب طائفة أخرى ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/19)
من السلف إلى وقوعه وأنه رأى ربّه بعينيه ، وإليه ذهب ابن عبّاس ، وقال : اختُصّ موسى بالكلام وإبراهيم بالخلّة ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرؤية ،
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأبو ذرّ وكعب والحسن وأحمد بن حنبل . وحُكي عن ابن مسعود وأبي هريرة في قول لهما آخر ، ومثل ذلك حُكي عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه .
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ : وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ }.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهبت طائفة من المشايخ إلى الوقف ، وقالوا . ليس عليه قاطع نفيًا ولا إثباتًا ، ولكنه جائز عقلاً ، وهذا هو الصحيح ؛ إذ رؤية الله تعالى جائزة كما دلّت عليه الأدلة العقلية والنقلية .
فأما العقلية ، فتعرف في علم الكلام . وأما النقلية ، فمنها سؤال موسى رؤية الله تعالى ، ووجه التمسّك بذلك علم موسى بجواز ذلك ، ولو علم استحالة ذلك ، لما سأله ، ومحال أن يجهل موسى جواز ذلك ؛ إذ يلزم منه أن يكون مع علوّ منصبه في النبوة ، وانتهائه إلى أن يصطفيه الله على الناس ، وأن يُسمعه كلامه بلا واسطة ، جاهلاً بما يجب لله تعالى ويستحيل عليه ويجوز ، وملتزم هذا كافر .
ومنها قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } ،
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/20)
ووجه التمسك بها امتنانه تعالى على عباده بالنظر إلى وجهه تعالى في الدار الآخرة ، وإذا جاز أن يروه فيها ، جاز أن يروه في الدنيا ؛ لتساوي الوقتين بالنظر إلى الأحكام العقلية .
ومنها ما تواترت جملته في صحيح الأحاديث من إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوقوع ذلك ؛ كرامةً للمؤمنين في الدار الآخرة ، فهذه الأدلة تدلّ على جواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة والدنيا . ثم هل وقعت رؤية الله تعالى لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الإسراء أو لم تقع ؟ ليس في ذلك دليل قاطع ، وغاية المستدل على نفي ذلك أو إثباته التمسّك بظواهر متعارضة معرضة للتأويل ، والمسألة ليست من باب العمليات ، فيكتفى فيها بالظنون ، وإنما هي من باب المعتقدات ولا مدخل للظنون فيها ؛ إذ الظنّ من باب الشك ؛ لأن حقيقته تغليب أحد الْمُجَوَّزَيْن ، وذلك يناقض العلم والاعتقاد .
واختلفوا أيضا هل كلّم محمد ربّه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا ؟ ، فذهب ابن مسعود وابن عبّاس وجعفر ابن محمد وأبو الحسن الأشعري في طائفة من المتكلمين إلى أنه كلّم الله بغير واسطة ، وذهبت جماعة إلى نفي ذلك . والكلام على هذه المسألة كالكلام على مسألة الرؤية سواء .
144- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ؛ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ؛ فِي تَفْسير : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } : أنَّهُ جِبْرِيلُ .
145- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } ، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } ، قَالَ : رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة : (( فقد أعظم علي الله الفِرية )) ، وهي الافتراء ، وهو اختلاق الكذب وما يقبُح التحدّث به .
(3/21)
وقوله تعالى : { بالأفق المبين } ، (( الأفق )) : الجنابُ والناحية ، وجمعه آفاقٌ ، ويقال : أفق بضم الفاء وسكونها . و(( المبين )) : البيّن الواضح . والضمير في { ولقد رآه } عائد إلى رسولٍ ، وهو جبريل . وكذلك في قوله : { ولقد رآه نزلة أخرى } ، وقد روت ذلك عائشة مرفوعًا مفسّرا على ما يأتي ، فلا يلتفت إلى ما يقال في الآية غير هذا .
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما استدلال عائشة بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } ، ففيه بُعْد ؛ إذ يقال بموجبه ، إذ يفرق بين الإدراك والإبصار ، فيكون معنى ((لا تدركه )) : لا تحيط به ، مع أنها تبْصره ، قاله سعيد بن المسيب . وقد نُفِيَ الإدراك مع وجود الرؤية في قول الله تعالى : { فلمّا ترآءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا } ؛ أي : لا يدركونكم. وأيضًا فإن الإبصار عموم وهو قابل للتخصيص ، فيخصّ بالكافرين ، كما قال : { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } ، ويُكْرِم المؤمنين أو من شاء الله منهم بالرؤية ، كما قال { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } ، وبالجملة فالآية ليست نصا ولا من الظواهر الجلية ، فلا حجة فيها .
و (( اللطيف )) : الكثير اللطف ، وهو في حق الله تعالى رفقُه بعباده وإيصاله لهم ما يصلحهم بحيث لا يشعرون ، كما قال تعالى : { إن ربي لطيف لما يشاء }(7) ، وأصله من اللطف في العمل وهو الرفق فيه ، وضده
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنف ، والاسم منه اللطَف بتحريك الطاء ، يقال : جاءتنا لطَفَةٌ من فلان ؛ أي : هدية .
و (( الخبير )) : العليم بخبرة الأمور ؛ أي : ببواطنها وما يختبر منها ، يقال. صدَّق الْخَبر ، الخُبر بضم الخاء ، ومنه قول أبي الدرداء . وجدت الناس أُخْبرُ تَقْلِه.
(3/22)
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما استدلالها بقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا } ، فلا حجة فيها على نفي الرؤية ؛ إذ يقال بموجبها ، فإن مقتضاها نفي كلامِ الله على غير هذه الأحوال الثلاثة ، وإنما تصلح أن يستدل بها على نفي تكليم الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشافهةً على ضعفٍ في ذلك لا يخفى على متأمّل ، بل قد استدل بعض المشايخ بهذه الآية على أن محمدا رأى ربه وكلّمه دون واسطة ، فقال . هي ثلاثة أقسام . من وراء حجاب ، كتكليم موسى ، وبإرسال الملائكة ، كحال جميع الأنبياء . ولم يبق من تقسيم المكالمة إلا كونها مع المشاهدة ، وهذا أيضا فيه نظر .
وقوله له تعالى : { فيوحي بإذنه ما يشاء } ؛ أي : بأمره ، كما
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال : { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه }.
وفي (( يوحي )) ضمير يعود على الرسول ، وفي { يشاء } ضمير يعود على الله تعالى ، ومعناه . فيُلقي الرسول إلى الموحَى إليه ما يشاؤه الله .
و (( العَلِيّ )) : ذو العلوّ ، وهو الرفعة المعنويَّة في حقّه تعالى ، لا المكانيّة. والحكيم المُحكِم للأمور ، أو الكثير الحكمة . ومعنى مساق الآية . أنّه تعالى مُنزَّه عن أن تَبْتَذِل كلامَهُ أسماعُ كلّ السامعين ، بل يُحكِمُ الله كيفية إيصاله(4) إلى النبيّين والمرسلين ، والله أعلم .
وقولها : (( ولو كان محمّد كاتمًا شيئًا لكتم هذه الآية : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } الآية ، قد اجترأ بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/23)
ونسب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لا يليق به ويستحيل عليه ؛ إذ قد عصمه الله منه ، ونزّهه عن مثله ، فقال . إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هَوِيَ زينب امرأة زيد ، وربما أطلق بعض الْمُجّان لفظ : (( عشق )). ثم جاء زيد يريد تطليقها ، فقال له . أمسك عليك زوجك واتَّقِ الله ، وهو مع ذلك يحبُّ أن يطلقها ليتزوجها. وهذا القول إنما يصدر عن جاهل بعصمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مثل هذا ، أو مستخفّ بحرمته . والذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين أن ذلك القول الشنيع ليس بصحيح ، ولا يليق بذوي المروءات ، فأحرى بخير البريات ، وأن تلك الآية إنما تفسيرها ما حكي عن علي بن حسين أن الله تعالى أعلم نبيه بكونها زوجةً له ، فلما شكا حدّتَها زيدٌ له وأراد أن يطلقها ، قال له : أمسك عليك زوجَك واتَّقِ الله ، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به مما هو مبديه بطلاق زيدٍ لها وتزويج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها. ونحوه عن الزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري وغيرهم .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والذي خشيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو أرجاف المنافقين بأنه نَهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج زوجة ابنه ، ومساق الآية يدل على صحة هذا الوجه بقوله : { مَا كَانَ عَلى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ } ، ولو كان
146- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ؛ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ قَالَ : ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ )) . وَفِي رِوَايَةٍ : (( رَأَيْتُ نُورًا )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما ذكر أولئك ، لكان فيه أعظم الحرج وبقوله { لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا } ، وبالله التوفيق .
(3/24)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نورًا أَنَّى أراه )) ، هكذا رويناه وقيدناه برفع (( نور )) وتنوينه ، وفتح (( أَنَّى )) التي بمعنى (( كيف )) الاستفهامية ، ورواية من زعم أنه رواه : (( نورٌ إني )) ليست بصحيحة النقل ولا موافقة للعقل ، ولعلها تصحيف . وقد أزال هذا الوهم الرواية الأخرى ، حيث قال : (( رأيت نورًا )) ، ورفع (( نور )) على فعل مضمر تقديره : غلبني نورٌ أو حجبني نورٌ .
و (( أَنَّى أراه )) استفهام على جهة الاستبعاد ؛ لغلبة النور على بصره كما هي عادة الأنوار الساطعة كنور الشمس ، فإنه يُغشي البصر ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويحيره إذا حدّق نحوه ، ولا يعارض هذا : (( رأيتُ نورًا )) ، فإنه عند وقوع بصره على النور رآه ، ثم غلب عليه بعد ، فضعُف عنه بصره .
ولا يصح أن يُعتقد أن الله تعالى نور كما اعتقده هشام الجوالقي وطائفته المجسّمة ممن قال . هو نور لا كالأنوار ؛ لأن النور لون قائم بالهواء ، وذلك على الله تعالى محال عقلاً ونقلا . فأما العقل فلو كان عرضًا أو جسمًا ، لجاز عليه ما يجوز عليهما ، ويلزم تغيّره وحدثُه . وأما النقل ، فقوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، ولو كان جسمًا أو عرضًا ،
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكان كل شيء منهما مماثلاً له . وقول هذا القائل : (( جسم لا كالأجسام )) ، أو (( نور لا كالأنوار )) متناقض ، فإن قوله : (( جسم )) أو ((نور )) ، حُكم عليه بحقيقة ذلك .
(3/25)
وقوله : (( لا كالأجسام )) نفي لما أثبته من الجسمية والنورية ، وذلك متناقض ، فإن أراد أنه مُساوٍ للأجسام من حيث الجسمية ومفارق لها من حيث وصفٌ آخر ينفرد به ، لزمت تلك المحالات من حيث الجسمية ، ولم يتخلص منها بذكر ذلك الوصف الخاص ؛ إذ الأعمّ من الأوصاف تلزمه أحكام من حيث هو لا تلزم الآخصّ كالحيوانية والنطقية ، وتتميم هذا في علم الكلام .
وقول ابن عباس : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رآه بفواده مرتين ، الفؤاد . القلب . ولا يريد بالرؤية هنا العلم ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان عالِمًا بالله تعالى على الدوام ، وإنما أراد أن الرؤية التي تخلق في العين خلقت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القلب .
وهذا على ما يقوله أئمتنا أن الرؤية لا يُشترط فيها محل مخصوص عقلا ، بل يجوز أن تخلق في أي محل كان ، وإنما العادة جارية بخلقها في العين . وقول ابن عباس هذا خلاف ما حكيناه عنه من أنه رأه بعينه ،
147- وَعَنْ أَبِي مُوسَى ؛ قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ ، فَقَالَ : (( إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ ، حِجَابُهُ النُّورُ )). وَفِي رِوَايَةٍ : (( النَّارُ ، لَوْ كَشَفَها لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يبعد الجمع بينهما في مذهبه ، فنقول : إنه رآه بقلبه وعينه . فأما اسم الله تعالى النور ، فمعناه أنه هادٍ من ظلمات الجهالات ، كما أن النور المحسوس هادٍ في محسوس الظلمات . وقيل : معناه أنه منوّر السموات والأرض وخالق الأنوار فيهما .
(3/26)
وقوله : (( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام النوم عليه بحال )) ؛ لأن النوم موت ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين سئل عن نوم أهل الجنة ، فقال : (( النوم أخو الموت ، والجنة لا موت فيها )) ، وأيضًا فإن النوم راحة من نعت التصرف وذلك من تعب الأجسام .
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( يخفض القسط ويرفعه )) ، قال ابن قتيبة . القِسط . الميزان ، وسمي بذلك ؛ لأن القسط هو العدل ، وذلك إنما يحصل ويُعرف بالميزان ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في حقوقنا ، وأراد به ههنا ما توزن به أعمال العباد المرتفعة إليه ، وأرزاقهم الواصلة إليهم ، كما قال تعالى : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ }.
و (( القسطاس )) -بضم القاف وكسرها - : هو أقوم الموازين ، وقيل : أراد بالقسط هنا الرزق الذي هو قسط كل مخلوق ، يخفضه فيقتره ، ويرفعه فيوسّعه . وقيل : إن القسط هو العدل نفسُهُ ، ويراد به الشرائع والأحكام ، كما قال تعالى . { لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } ؛ أي : النصفة في الأحكام والعدل المأمور به في قوله تعالى . { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } ، فتارة يرفعه بمعنى : يغلّبه ويظهره بوجود الأنبياء وأصحابهم وأتباعهم العاملين به ، وتارة يخفضه بمعنى أنّه يذهبه ويخفيه بدروس الشرائع ورجوع أكثر الناس عن المشي على منهاجها . ويحتمل أن يكون رفعها قبضها ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/27)
في الأمانة أنها ترفع من القلوب ، وكما قال : (( أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، وآخر ما تفقدون منه الصلاة )) ، بل كما قال : (( عليكم ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالعلم قبل أن يرفع )) ، وحفضها إيجادها في الأرض ووضعها فيه .
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( يرفع إليه عمل النهار قبل الليل )) ؛ يعني أن الملائكة الموكلين بنا تحصي علينا أعمال اليوم ، فترفعه في آخره بقرب الليل ، وكذلك في الليل ترفعه بقرب النهار ، ولذلك جاء في الرواية الأخرى : (( يرفع إليه عمل الليل بالنهار وعمل النهار بالليل )) ، فجعل الباء مكان (( قبل )) . وهذا الحديث كقوله : (( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار )). والهاء في (( إليه )) عائد إلى الله تعالى لكن على طريقة حذف المضاف ، والمراد به المحل الذي ينتهي إليه الملائكة بأعمال العباد ، ولعلّه سدرة المنتهى كما تقدم في حديث الإسراء . وهذا كما تقول . رفع المال إلى الملك ؛ أي إلى خزانته. وعلى هذا يحمل قوله تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب } ، وقوله { تعرج الملائكة والروح إليه } ؛ أي : إلى مقاماتهم في ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حضرته ، وإنما احتجنا إلى إبداء هذا التأويل ؛ لئلا يتخيل الجاهل أنه مختصّ بجهة فوق فيلزمه التجسيم ، ويكفيك مما يدل على نفي الجهة في حقه قوله تعالى : {وهو معكم أينما كنتم } ، وما في معناه.
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/28)
وقوله : (( حجابه النور أو النار )) ، (( الحجاب )) هو المانع والساتر ، ومنه سمي المانع من الأمير حاجبًا ، وهو مضاف إلى الله إضافة ملكٍ واختراع ، أو إضافة تشريف ، والمحجوب به العباد.والنور الذي بهر بصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حيث قال : (( نورٌ أَنَّي أراه )) ، وهو المعنى بقوله : ((سدرة المنتهى
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فغشيها ألوان لا أدري ما هي )). وأما الباري تعالى ، فيستحيل عليه أن يحيط به حجاب ؛ إذ يلزم منه أن يكون مقدرًا محصورًا ، فيحتاج إلى مُقدّر ومخصّص ، ويلزم منه حدوثه. وفي التحقيق أن الحجاب في حقوقنا الموانع التي تقوم بنا عند وجود هذه الحوائل ؛ كالجسم الكثيف والشديد النور .
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( لو كشفها )) ، الضمير عائد على النار أو الأنوار ، و((الحجاب )) ؛ بمعنى : الحجب ، والسبحات جمع سُبحة ، وأصلها جمال الوجه وبهاؤه ، ثم يُعبّر بها عن العظمة والجلالة ، وفي"العين" و"الصِحاح" : سبُحات وجه ربّنا جلاله . والهاء في (( بصره )) عائد على الله تعالى على أحسن الأقوال ، وهو الذي عاد عليه ضمير (( وجهه )) ، وكذلك ضمير (( خلقه )) .
ومعنى الكلام : أن الله تعالى لو كشف عن الخلق ما منعهم به من رؤيته في الدنيا لما أطاقوا رؤيته ، ولهلكوا من عند آخرهم ، كما قال : ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ فلمّا تجلى ربّه للجبل جعله دكًّا }. ويفيد أن تركيب هذا الخلق وضعفهم في هذه الدار لا تحتمل رؤية الله تعالى فيها ، فإذا أنشأهم الله للبقاء وقوّاهم ، حملوا ذلك .
(3/29)
وقد أكثر الناس في تأويل هذا الحديث وأبعدوا ، لا سيما من قال أن الهاء في (( وجهه )) تعود على المخلوق ، فإنه يحيل مساق الكلام ويُخلّ بالمعنى . والأشبه ما ذكرناه ، أو التوقف كما قال السلف : (( أمرّوها كما جاءت ))) ، يعنون المشكلات ، وسيأتي لهذا مزيد بيان .
( 60 ) باب ما جاء في رؤية الله تعالى في الدار الآخرة
148- عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : ((جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا ، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا ، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ ، فِي جَنَّةِ عَدْنٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في رؤية الله تعالى في الدار الآخرة
قوله : (( وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكِبرياء على وجهه )) ، (( الرداء )) هُنا استعارة كَني بها عن كبريائه وعظمته ، كما قال في الحديث الآخر : (( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري )). وليست العظمة والكبرياء من جنس الثياب المحسوسة ، وإنّما هي توسُّعات .
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ووجه المناسبة أنّ الرداء والإزار لَمّا كانا ملازمين للإنسان مخصوصين به لا يشاركه فيهما غيره ، عبّر عن عظمة الله وكبريائه بهما ؛ لأنّهما ممّا لا تجوز مشاركة الله فيهما . ألا ترى آخرَ الحديث : (( فمن نازَعَني واحدًا منهما قَصَمتُه ثمّ قذفتُه في النار )).
(3/30)
ومعنى حديث أبي موسى أنّ مقتضى جَبَرُوت الله وكبريائه وعزّته واستغنائه ألا يراه أحدٌ ولا يعبأ بأحد ولا يلتفت إليه ، لكن لطفه وكرمه لعباده المؤمنين ورحمته لهم وعوده عليهم يقتضي أن يمنّ عليهم بأن يُريهم وجهه ؛ إبلاغًا في الإنعام وإكمالاً للامتنان ، فإذا كشف عنهم الموانع وأراهم وجهه الكريم ، فقد فعل معهم خلاف مقتضى الكبرياء ، فكأنه قد رفع عنهم حجابًا يمنعهم . ووجه الله تعالى هل هو عبارة عن وجوده المقدّس أو عن صفة شريفة عظيمة معقولة ، في ذلك ، لأئمتنا قولان ، وكذلك القول في اليد والعين والجنب المضافة إلى الله تعالى .
149- وَعَنْ صُهَيْبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ، قَالَ : يَقُولُ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - : تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ )) .
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ : ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : ((في جنة عدن )) متعلق بمحذوف في موضع الحال من ((القوم )) ، كأنه قال : كائنين في جنة عدن ، ولا يكون من الله تعالى ؛ لاستحالة المكان والزمان عليه.
(3/31)
وقوله من سأله الله تعالى من أهل الجنة بقوله : (( هل تريدون شيئًا أزيدكم ؟ ألم تبيضَّ وجوهُنا وقد خلْنا الجنّة وتنجِنا من النار )) ، لا يليق بمن مات على كمال المعرفة والمحبة والشوق ، وإنما يليق ذلك بمن مات على الخوف والرجاء ، فلما حصل على الأمن من المخوف والظفر بالمرجو الذي كان تَشَوُّفه إليه ، قنِع به ولهى عن غيره. وأما من مات محبًّا لله 150- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ؟ )) قَالُوا : لا يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟ )) قَالُوا : لا . قَالَ : (( فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ ؛ يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ ، فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ ، وَيَتَّبِعُ مَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشتاقًا لرؤيته ، فلا يكون همّه ، إلا طلب النظر لوجهه الكريم لا غير. ويدلّ على صحة ما قلته أن المرء يحشر على ما يموت عليه كما علم من الشريعة ، بل أقول . إن من مات مشتاقًا لرؤية الله تعالى لا ينبّه بالسؤال ، بل يعطيه أمنيته ذو الفضل والإفضال .
(3/32)
ومذهب أهل السنة بأجمعهم أن الله تعالى ينظر إليه المؤمنون في الآخرة بأبصارهم ، كما نطق بذلك الكتاب العزيز ، وأجمع عليه سلف الأمة ، كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ ، فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ ، فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا ، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ ، فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ ، فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا ، فَيَتَّبِعُونَهُ ، وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ ، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلا الرُّسُلُ ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ : اللهُمَّ ! سَلِّمْ ، سَلِّمْ . وَفِي جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، هَلْ رَأَيْتُمُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورواه بضعة عشر من الصحابة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ومنع ذلك فِرَقٌ من المبتدعة منهم المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة ؛ بناءً منهم على أن الرؤية يلزمها شروط اعتقدوها عقلية ، كاشتراط البنية المخصوصة والمقابلة ، واتصال الأشعة ، وزوال الموانع من القرب المفرط والبعد المفرط والحجب الحائلة في خبط لهم وتحكم. وأهل الحق لا يشترطون شيئًا من ذلك عقلاً سوى وجود المرئيّ ، وأنّ الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي ، فيرى المرئي لكن تقترن بالرؤية بحكم جريان العادة أحوال يجوز في العقل
(3/33)
السَّعْدَانَ ؟ )) قَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : (( فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلا اللهُ . تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمُ المُوبَقُ بِعَمَلِهِ ، وَمِنْهُمُ الْمُجَازَى حَتَّى يُنَجَّى ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، أَمَرَ الْمَلائِكَةَ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تبدلها ، وتفصيل ذلك وتحقيقه في علم الكلام.
وقوله : (( هل تضارّون )) يُروى بضم التاء وفتحها وبتشديد الراء وتخفيفها ، وضم الخاء والتشديد أكثر ، وكلها له معنى صحيح ، ووجه
أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ ، مِمَّنْ يَقُولُ : لا إِلهَ إِلا اللهُ ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ ، يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ ؛ تَأْكُلُ النَّارُ مِنِ ابْنِ آدَمَ إِلا أَثَرَ السُّجُودِ ، حَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ . فَيُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا ، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللهُ مِنَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/34)
الأكثر أنه مضارع مبني لما لم يسمَّ فاعله.أصله (( تضاررون )) ، أسكنت الراء الأولى وأدغِمتْ في الثانية.وأصل ماضيه (( ضورر )). ويجوز أن يكون مبنيًّا للفاعل بمعنى : تُضارِرون ، بكسر الراء ، إلاّ أنّها سكنت الراء وأدغمت. وكلّه من الضرّ المشدّد. وأمّا التخفيف ، فهو من (( ضاره ، يضيره ، ويضوره ضيرًا )) مخفّفةً ، فإذا بُني لما لم يُسمَّ فاعله ، قلت فيه . يُضَار مخفَّفًا.
وأمّا رواية فتح التاء ، فهي مبنيّة للفاعل بمعنى. تتضاررون ، وحُذِفت إحدى التاءين ؛ استثقالا لاجتماعهما .
ومعنى هذا اللفظ أن أهل الجنة إذا امتنّ الله عليهم برؤيته سبحانه تجلّى لهم ظاهرًا ، بحيث لا يحجب بعضهم بعضًا ولا يضره ولا يزاحمه ولا يجادله ، كما يفعل عند رؤية الأهلّة ، بل كالحال عند رؤية الشمس والقمر ليلة تمامه .
الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ - وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ - فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ! اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا ، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا ، فَيَدْعُو اللهَ مَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - : هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ ؟ فَيَقُولُ : لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ - وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ الله- ، فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ ، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/35)
وقد حُكي : (( ضاررته مضارة )) ؛ إذا خالفته . وقد رُوي : (( تضامّون )) بالميم. والقول فيه روايةً ومعنًى كالقول في (( تضارون )) ، غير أن ((تضامّون )) بالتشديد من المضامّة ، وهي الإزدحام ؛ أي : لا تزدحمون عند رؤيته تعالى كما تزدحمون عند رؤية الأهلّة . وأما بالتخفيف ، فمن الضيم ، وهو الذل ؛ أي : لا يذلّ بعضكم بعضا بالمزاحمة والمنافسة والمنازعة .
وقوله : (( فإنكم ترونه كذلك )) ، هذا تشبيه للرؤية ولحالة الرائي ، لا المرئي . ومعناه : أنكم تستوون في رؤية الله تعالى من غير مضارّة ولا مزاحمة ، كما تستوون في رؤية الشمس والبدر عِيانًا .
سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أَيْ رَبِّ ! قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ : أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ لا تَسْأَلُنِي غَيْرَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ ! مَا أَغْدَرَكَ ! فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ! يَدْعُو اللهَ حَتَّى يَقُولَ لَهُ : فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/36)
وقد تأوّلت المعتزلة الرؤية في هذه الأحاديث بالعلم ، فقالوا . إن معنى رؤيته تعالى أنه يُعلم في الآخرة ضرورة. وهذا خطأ لفظًا فَيَقُولُ : لا وَعِزَّتِكَ ! فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَإِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أَيْ رَبِّ ! أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ : أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ ! مَا أَغْدَرَكَ ! فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ! لا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو اللهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللهُ مِنْهُ ، فَإِذَا ضَحِكَ اللهُ مِنْهُ ، قَالَ لَهُ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ ، فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللهُ لَهُ : تَمَنَّهْ ، فَيَسْأَلُ رَبَّهُ وَيَتَمَنَّى ، حَتَّى إِنَّ اللهَ لَيُذَكِّرُهُ يَقُولُ : مِنْ كَذَا وَكَذَا ، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ ، قَالَ اللهُ : ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/37)
ومعنى . أما اللفظ ، فهو أنّ الرؤية بمعنى العلم يتعدّى إلى مفعولين ولا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر ، وهي قد تعدّت هنا إلى مفعول واحد ، فهي للإبصار . ولا يصحّ أن يقال إن الرؤية هنا بمعنى المعرفة ؛ قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ : وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا ، حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَّ اللهَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ : ((ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ )) ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا حَفِظْتُ إِلا قَوْلَهُ : (( ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ )). قَالَ أَبُوسَعِيدٍ : أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَوْلَهُ : (( ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ )).
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن العرب لم تستعمل (( رأيت )) بمعنى (( عرفت )) ، لكن بمعنى (( علمت )) أو (( أبصرت )) ، واستعملت (( علمت )) بمعنى (( عرفت )) ، لا رأيت بمعنى عرفت ، وأما المعنى ، فمن وجهين :
أحدهما : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شبّه رؤية الله تعالى بالشمس ، وذلك التشبيه لا يصح إلا بالمعاينة .
وثانيهما : أن الكفّار يعلمونه تعالى بالضرورة في الآخرة ، فترتفع خُصوصية المؤمنين بالكرامة وبلذة النظر ، وذلك التأويل منهم تحريف حملهم عليه ارتكاب الأصول الفاسدة.
و (( الطواغيت )) : جمع طاغوت ، وهو الكاهن والشيطان وكل رأسٍ
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/38)
في الضلال ، والمراد به في الحديث الأصنام . ويكون واحدًا ، كقوله تعالى . { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به } ، وقد يكون جمعًا ، كقوله تعالى : { أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم }. و(( طاغوت )) وإن جاء على وزن لاهوت ، فهو مقلوب ؛ لأنه من طغى ، ولاهوت غير مقلوب ؛ لأنه من (( لاهٍ )) ، بمنزلة الرغبوت والرحموت والرهبوت ، قاله في الصحاح .
وقوله : (( وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها )) ، ظنّ المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين في الآخرة ينفعهم وينجيهم كما نفعهم في الدنيا ، جهلا منهم بأن الله عالم بهم ومطلع على ضمائرهم . وهذا كما قد أقسمت طائفة ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المشركين أنهم ما كانوا مشركين ، توهمًا منهم أنّ ذلك يُنجيهم . ويحتمل أن يكون حشرهم مع المسلمين لِما كانوا يُظهرونه من الإسلام ، فحفظ عليهم ذلك ، حتّى يميِّز الله الخبيث من الطيّب . ويحتمل أنّه لمّا قيل : (( لتتّبعَ كلُّ أمّةٍ ما كانت تعبدُ )) ، فاتّبع الناس معبوداتِهم ، ولم يكونوا عبدوا شيئًا ، فبقوا هنالك حتّى مُيِّزوا ممّن كان يعبد الله .
(3/39)
وقوله : (( فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون )) ، هذا المقام مقام هائل يمتحن الله فيه عبادَه ؛ ليُميِّز المُحِقّ من المُبطِل ، وذلك أنّه لمّا بقي المنافقون والمُراؤون متلبّسين بالمؤمنين والمخلصين ، زاعمين أنّهم منهم ، وأنّهم عملوا مثل أعمالهم وعرفوا اللهَ مثل معرفتهم ، امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة هائلة قالت للجميع . أنا ربُّكم ، فأجاب المؤمنون بإنكار ذلك والتعوُّذ منه ؛ لما قد سبق لهم من معرفتهم بالله تعالى ، وأنّه منزَّه عن صفات هذه الصورة ؛ إذ سماتها سمات المُحدَثات ، ولذلك قال في حديث أبي سعيد : (( فيقولون . نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئًا مرّتين أو ثلاثًا ، حتّى إنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب )). وهذا البعض الذي همّ بالانقلاب لم يكن لهم رسوخ العلماء ولا ثبوت العارفين ، ولعلّ هذه الطائفة هي التي اعتقدت الحق وجزمت عليه من غير بصيرة ، ولذلك كان ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعتقادهم قابلاً للانقلاب . ثم يقال بعد هذا للمؤمنين . هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها ، فيقولون . نعم ، فيكشف عن ساقٍ ؛ أي : يوضح الحقّ ويتجلّى لهم الأمر فيرونه حقيقة معاينة .
وكشف الساقِ مَثَلٌ تستعمله العرب في الأمر إذا حقّ ووضح واشتدّ ، تقول العرب . كشفت الحرب عن ساقها ، إذا زالت مخارقها وحقّت حقائقها ، وأنشد.
وكنتُ إذا جاري دَعا لِمَضُوفةٍ أُشَمِّرُ حتى يَنْصُفَ الساقَ مِئزَري
وعند هذا يسجد الجميع ، فمن كان مخلصًا في الدنيا ، صحّ له سجوده على تمامه وكماله ، ومن كان منافقًا أو مرائيًا ، عاد ظهره طبقةً واحدةً ، كلما رام السجود ، خرّ على قفاه . وعند هذا الامتحان يقع امتياز المحقّ من المبطل ، فعلى هذا تكون الصورة التي لا يعرفونها مخلوقة .
(3/40)
والفاء التي دخلت عليها بمعنى الباء ، ويكون معنى الكلام أن الله تعالى يجيبهم بصورة ، كما قيل في قوله تعالى . { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } ؛ أي : بظلل . ويكون معنى الإتيان هنا أنه يحضر لهم تلك الصورة . وأما الصورة الثانية التي يعرفون ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما يتجلّى لهم الحقّ ، فهي صفته تعالى التي لا يشاركه فيها شيء من الموجودات ، ولا يشبهه فيها شيء من المصوّرات . وهذا الوصف هو الذي كانوا قد عرفوه في الدنيا ، وهو المعبّر عنه بـ{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ، ولذلك قالوا : إذا جاء ربّنا عرفناه . وفي حديث آخر يقال : (( وكيف تعرفونه ، قالوا : إنه لا شبيه له ولا نظير )).ولا يستبعد إطلاق الصورة بمعنى الصفة ، فمن المتداول أن يقال :
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صورة هذا الأمر كذا ؛ أي : صفته.
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والإتيان والمجيء المضاف إلى الله تعالى ثانيًا هو عبارة عن تجليه لهم ، فكأنه كان بعيدًا فقرُبَ ، أو غائبًا فحضر . وكل ذلك خطابات مستعارة جارية على المتعارف من توسعات العرب ، فإنهم يسمّون الشيء باسم الشيء إذا جاوره ، أو قاربه ، أو كان منه بسبب.
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث أبي سعيد : ((ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوّل في الصورة
التي رأوه فيها أول مرة )) ؛ يعني : أن المؤمنين إذا رفعوا رؤوسهم ، رأوا
(3/41)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحقّ مرة ثانية ؛ إذ كانوا قد رأوه حالة قولهم . أنت ربنا قبل السجود .
والتحوّل المنسوب إلى الله تعالى هنا عبارة عن إزالة تلك الصورة الأولى المتعوّذ منها وعن إظهاره تعالى وجوده المقدّس للمؤمنين ، فيكون قوله : (( وقد تحوّل حالاً )) متقدمة قبل سجودهم ، بمعنى . وقد كان تحوّل ؛ أي : حوّل تلك الصورة وأزالها ، وتجلّى هو بنفسه ، فيكون المراد بهذا الكلام . أن الحقّ سبحانه لمّا تجلّى لعباده المؤمنين أوّل مرة رأوه فيها لم يزل كذلك ، لكنهم انصرفوا عن رؤيته عند سجودهم ، ثم لَمّا فرغوا منه عادوا إلى رؤيته مرة ثانية .
وقوله في حديث أبي هريرة الأول : (( فيتبعونه )) ؛ أي : يتبعون أمره ، كما يقال . اتبعت فلانًا على رأيه ، واتبعت أمره ؛ أي : انْقَدْتُ ................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إليه وامْتَثَلْتُه ، فيكون من باب الاستعارة . ويجوز أن تكون من باب حذف المضاف ؛ أي : يتبعون ملائكته ورسله الذين يسوقونهم إلى الجنة ، فكأنهم يتقدّمون بين أيديهم دلالة وخدمة وتأنيسًا ، والله أعلم .
تنبيه : اعلم أن الناس قد أكثروا في تأويلات هذه الأحاديث ، فمِن مبعدٍ ومن ومحوّم ، وما ذكرناه أحسنها وأقربها لمنهاج كلام العرب ، ولأنْ يكون هو المراد . ومع ذلك فلا نقطع بأنه هو المراد . والتحقيق أن يقال . الله ورسوله أعلم . والتسليم الذي كان عليه السلف أسلم ، لكن مع القطع بأن هذه الظواهر الواردة في الكتاب والسنة الموهمة للتجسيم والتشبيه يستحيل حملها على ظواهرها ؛ لما يعارضها من ظواهر أخر كما قد قرره أئمتنا في كتبهم ، ولما دلّ العقل الصريح عليه .
(3/42)
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد أشرنا إلى نبذٍ من ذلك.
وقوله : (( ثم يضرب الصراط بين ظهري جهنم )) ، (( الصراط )) في
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللغة هو الطريق ، وفيه لغات الصاد والسين والزاي ، وهو ههنا الطريق من أرض المحشر إلى الجنة ، وهو منصوب على متن جهنم أرقّ من الشعر وأحدّ من السيف ، وهو المسمى بالجسر في الحديث الآخر(2).
و (( جهنّم )) اسم من أسماء النار التي يُعذَّب بها في الآخرة . قال الجوهري : هو ملحقٌ بالخماسي بتشديد الحرف الثالث منه ، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث ، وهو فارسي معرَّب . وركية جِهِنَّامٌ ؛ أي : بعيدة القعر.
وقوله : (( فأكون أنا وأمتي أوّل من يُجيز )) بضمّ أوّله رباعيًا من ((أجاز)) ؛ أي : يمضي عليه ويقطعه ، يقال : أجزت الوادي وجُزْتُه لغتان فصيحتان. وحُكي عن الأصمعي أنه قال : أجزته قطعته ، وجُزته مشيت فيه.
ويحتمل أن يقال إن الهمزة في (( أجاز )) هنا للتعدية من قولهم : أجيزي صوفة ؛ أي : أجزنا ، وذلك أن صوفة كان رجلاً معظمًا في قريش يُقتدى به في مناسك الحج ، فلا يجوز أحدٌ في شيء من مواقفه حتى يجوز ، ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكان الناس يستعجلونه فيقولون . أجِزْ صوفةُ ؛ أي : ابتدِئ بالجواز حتّى نجوز بعدك ، فكان يمنعهم بوقوفه ويجيزهم بجوازه ، ثمّ بقي ذلك في ولده فقيل للقبيلة أجيزي صوفة . فكذلك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمّته على الصراط ، فلا يجوز أحد حتّى يجوز هو وأمّته ، فكأنّه يجيز الناسَ .
و (( دعوى الرسل )) : دعاؤها ، جاء بالمصدر مؤنّثًا .
(3/43)
وقوله : (( يومئذٍ )) إشارة إلى حين الجواز على الصراط ، وإلا ففي وقت آخر تجادل كلّ نفس عن نفسها .
و (( السَّعْدان )) : نبت كثير الشوك ، شوكه كالخطاطيف والمحاجن .
وقوله : (( لا يعلم ما قدر عظمها إلاّ الله )) ، قيّدناه عن بعض مشايخنا برفع الراء على أن تكون (( ما )) استفهامًا خبرًا مقدَّمًا ، و(( قدر )) مبتدأ ، وبنصبها على أن تكون ما زائدة ، و(( قدر )) مفعول (( يعلم )).
وقوله : (( فمنهم الموبق بعمله المسيئ )) بالباء بواحدة من أسفل كذا للعذري ، ومعناه : الْمُهْلَك بعمله السيء ، وللطبري : (( الموثق )) بالثاء المثلثة من الوثاق ، وللسمرقندي : (( المؤمن )) يعني بعمله ، وكلها صحيح ، والأول أصحّها.
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروى العذري وغيره : (( ومنهم المخردل )) مكان (( المجازي )) ، ومعناه الذي تقطع الكلاليب لحمه ، يقال . خردلت اللحم خراديل ؛ أي : قطعت قطعًا ، وهو بالدال المهملة . وحكى يعقوب أنه قال بالدال المعجمة ، وهو أيضًا بالخاء بواحدة من فوق ، وقد قاله بعضهم بالجيم . و(( الجردلة )) الإشراف على لهلاك والسقوط فيه .
وقوله : (( حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد )) ؛ أي : تمم عليهم حسابهم وكمّله وفصل بينهم ، لا أن الله سبحانه يشغله شأن عن شأن ، يعني : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، وشفع كل من له شفاعة . ألا ترى قوله : (( وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار )). واقتصاره على (( لا إله إلا الله )) ، ولم يذكر معها الشهادة بالرسالة ؛ إما لأنهما كما تلازمتا في النطق ، اكتفى بذكر إحداهما عن الأخرى ، وإما لأنه لَمّا كانت الرسل كثيرين ويجب على كل أحد أن يعترف برسالة رسوله ، كان ذكر جميعهم يستدعي تطويلاً ، فسكت عن ذكرهم ؛ علمًا بهم واختصارًا لذكرهم ، والله أعلم .
(3/44)
وقوله : (( قد امتَحَشوا )) ، صوابه بفتح التاء والحاء ، ومعناه . احترقوا ، يقال . امتحش الخبز ؛ أي : احترق ، ويقال . محشتْه النارُ وأمحشتْه ، ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمعروف أمحشتْه . قال صاحب العين . وقد رواه بعضهم : (( امتُحِشوا )) مبنيًا لما لم يسم فاعله ؛ أي : أُحرِقوا ، والصواب الأول .
و (( الحُمم )) : الفحم ، واحده حممة .
و (( الحِبة ))- بكسر الحاء - : بزْر العشب ، و(( الحَبة ))- بفتحها : من الحنطة وغيرها مما يزرع .
و (( ماء الحياة )) : هو الماء الذي من شربه أو تطهر به لم يمت أبدًا .
و (( حميل )) : السيل هو ما يحمله من طين وغثاء ، فإذا اتفق أن تكون فيه حبة ، فإنها تنبت في يوم وليلة ، وهي أسرع نابتة نباتا ، فشبّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُرعة نبات أجسامهم بسرعة نبات تلك الحبة ، هذا معنى ما قاله
الإمام أبو عبد الله. وبقي عليه من التشبيه المقصود بالحديث نوع آخر دلّ عليه ما في حديث أبي سعيد ، حيث قال : (( ألا ترونها تكون إلى الحجر ما يكون منها إلى الشمس أصيفر وأخيضر ، وما يكون منها إلى الظلّ يكون أبيض )) ، وهو تنبيه على أن ما يكون إلى الجهة التي تلي الجنة منهم يسبق إليه البياض المستحسن . وما يكون منهم إلى جهة النار ، ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتأخر ذلك النصوع عنه ، فيبقى أصيفر وأخيضر إلى أن يتلاحق البياض ويستوي الحُسْن والنور ونضارة النعمة عليهم .
ويحتمل أن يشير بذلك إلى أن ما يباشر الماء ، تشتدّ سرعةُ نصوعه ، وأنّ ما فوق ذلك يتأخر عنه البياض ، ولكنه يسري إليه سريعًا ، والله أعلم .
وقوله : (( ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ثانيًا )) ، يعني . يكمل خروجَ الموحدين من النار .
(3/45)
وقوله : (( قَشَبني ريحها )) ؛ أي : غيّر جلدي وصورتي وسوّدني وأحرقني ، قاله الحربي . وقال الخطابي . قشبه الدخانُ ، إذا ملأ خياشيمه وأخذ بكَظمه. الجوهري . قشبني يقشبني ؛ أي : آذاني ، كأنه قال : سمّني ريحه . قال . والقشب السمُّ ، والجمع أقشاب عن أبي عمرو .
و (( ذكاء النار )) : شدة حرِّها بفتح الذال مقصور ، وهو المشهور . وقد حكى أبو حنيفة اللغوي فيه المد ، وخطأه علي بن حمزة ، وقد روى هنا بالوجهين ممدودا ومقصورًا .
وقوله : (( انفهقت له الجنة )) ؛ أي : اتسعت وانفتحت ، والمتفيْهِق .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المتوسع في كلامه المتكلِّف فيه .
وقوله : (( فيرى ما فيها من الخير )) ، كذا مشهور الرواية فيه ، وقد روي (( الحَبرة )) بالحاء المهملة مفتوحة والباء بواحدة ، وهي إفراط التنعم ، ومنه : { وهم في روضة يحبرون } ؛ أي : يُنعمون ويسرّون . والحِبر بكسر الحاء الذي يكتب به والعالم والجمال ، ومنه . ذهب حِبْره وسِبره ؛ أي : جماله وبهاؤه .
وقوله : (( فلا يزال يدعو الله حتى يضحكَ الله منه ، فإذا ضحك الله منه قال له : ادخل الجنة )) ، الضحك من خواص البشر ، وهو تغيُّرٌ أوْجَبَه سرورُ القلب بحصول كمال لم يكن حاصلاً قبل ، فتثور من القلب حرارةٌ ينبسط لها الوجهُ ، ويضيق عنها الفمُ ، فينفتح ، وهو التبسّم ، فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه قهقه . وذلك كله على الله محال لكن لما كان دلالة عندنا على الرضا ومظهرًا له غالبًا ، عُبّر عن سببه به ، وقد قالوا : تضحك الأرض من بكاء السماء ؛ أي : يظهر خيرها. وفي بعض الحديث : (( فيبعث الله سحابًا فيضحك أحسن
................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/46)
الضحك )) ؛ يعني . السحاب ، ومنه قولهم : ضحك الشيب في رأسه فبكى ، وقال في طعنة : تضحك عن نجيع. فالضحك في هذه المواضع بمعنى الظهور ، فيكون معناه في هذا الحديث : أن الله تعالى رضي ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن هذا العبد وأظهر عليه رحمتَه وفضلَه ونعمه ، وكذا حمله قوم هنا على أنّه تعالى تجلّى لهذا العبد وظهر له.
وقوله في الحديث الآخر : (( أتسخر مني )) ، وفي رواية : (( أتستهزئ مني )) ، قد أكثر الناس في تأويله ، ومن أشبه ما قيل فيه أن هذا الرجل استخفّه الفرح وأدهشه ، فقال ذلك غير ضابط لما يقول ، كما جاء في ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث الآخر في الذي وجد راحلته وقد أشرف على الهلاك من العطش والجوع : (( اللهم أنت عبدي وأنا ربك )) ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أخطأ من شدّة الفرح )).
وقيل : إنما قال هذا الرجل ذلك على جهة أنّه خاف أن يقابله على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات والتشبه بأحوال الساخرين والمستهزئين ، فكأنه قال : أتجازيني على ما كان مني . وهذا كما قال تعالى : { الله يستهزئ بهم } ، و{ سخر الله منهم } ؛ أي : يجازيهم جزاء استهزائهم وسخريتهم على أحد التأويلات .
وقوله في حديث ابن مسعود : (( فيقول الله يا ابن آدم ما يصريني منك )) ، قال الحربي : إنّما هو (( ما يصريك منّي )) ، قال . يقال . صريتُ الشيء ، إذا قطعتُه . الجوهريّ . صرى الله عنه شره ، دفعه ، وصريته . منعته ، وصرى قوله صريا ، قطعه .
( 61 ) باب ما خُصَّ به نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشفاعة العامة لأهل المحشر
(3/47)
151- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : أُتِيَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمًا بِلَحْمٍ ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً ، فَقَالَ : (( أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذاَكَ ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما خصّ به نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشفاعة العامة
قوله : (( فنهس منها نهسة )) ، النهس بالسين المهملة أخذ اللحم بمقدم الأسنان ، وقد يقال عليه أيضًا نهش بالمثلثة ، حكاه الجوهري ، وقيل : النهش بالأضراس ، قاله أبو العباس ، وقال غيره . هو هرش اللحم .
وقوله : (( أنا سيّد الناس )) ؛ أي : المقدم عليهم . و(( السيّد )) هو الذي يسود قومه ؛ أي : يفوقهم بما جمع من الخصال الحميدة ، بحيث يلجؤون إليه ويعوّلون عليه في مهماتهم ، قال :
فإن كنتَ سيِّدَنا سدتَنا وإن كنت للخال فاذهب فخِل
وقد تحقق كمال تلك المعاني كلها لنبيِّنا محمّد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك المقام الذي
وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا يَحْتَمِلُونَ ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ : أَلا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ ؟ أَلا تَرَوْن مَا قَدْ بَلَغَكُمْ ؟ أَلا تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ : ائْتُوا آدَمَ ، فَيَأْتُونَ آدَمَ ، فَيَقُولُونَ : يَا آدَمُ ! أَنْتَ أَبُونَا ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون ، ويشهد بذلك النبيُّون والمرسلون .
(3/48)
وهذه حكمة عرض الشفاعة على خيار الأنبياء ، فكلّهم تبرّأ منها . ودلّ على غيره ، إلى أن بلغت محلّها ، واستقرَّت في نصابها .
ومحبّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذراع ؛ لنضج لحمها وسُرعة استمرائها وزيادة لذتها ، ولبعدها عن موضع الأتفال .
و (( الصعيد )) : المستوى من الأرض. (( الثرى )) : هو التراب . ثعلب : هو وجه الأرض .
وقوله : (( فيسمعهم الداعي وينفُذهم البصر )) ، معناه أنهم مجتمعون مهتمُّون بما هم فيه لا يخفى منهم أحد ، بحيث إن دعاهم داعٍ سمعوه ، وإن نظر إليهم ناظر أدركهم . ويحتمل أن يكون الداعي هو الذي يدعوهم إلى العرض والحساب أو أمر آخر ، كقوله تعالى : { يوم يدع
خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ ، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَيَقُولُ آدَمُ : إِنَّ رَبِّي- عَزَّ وَجَّلَّ- قَد غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ ، نَفْسِي ، نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ . فَيَأْتُونَ نُوحًا ، فَيَقُولُونَ : يَا نُوحُ ! أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الأَرْضِ ، وَسَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنا ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الداع إلى شيء نكر }.
(3/49)
وقوله : (( خلقك الله بيده )) ، اعلم أنّ الله منزّه عن يد الجارحة كما قدمناه . واليد في كلام العرب تطلق على القدرة والنعمة والملك . والأليق هنا حمْلُها على القدرة ، وتكون فائدة الاختصاص لآدم أنّه تعالى خلقه بقدرته ابتداءً من غير سبب ولا واسطة خلق ولا أطوار قلبه فيها ، وذلك بخلاف غيره من ولده ، ويحتمل أن يكون شرّفه بالإضافة إليه ،
وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي ، نَفْسِي ، نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ . فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ : أَنْتَ نَبِيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا ، لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ - وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ - ، نَفْسِي.. نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما قال : { بَيْتِيَ }. وقد قدّمنا أن التسليم في المشكلات أسلم.
وقوله : (( ونفخ فيك من روحه )) ، (( الروح )) هنا هو المذكور في قوله {تنزّل الملائكة والروح } ، و{ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } ، وشرّفه بالإضافة كما قال : { فنفخنا فيها من روحنا } ؛ أي : كان كل واحد منهما من نفخة الملك وهو جبريل على قول أكثر المفسرين ، فصار المنفوخ فيه ذا روح من ريح نفخته ، ولا يلتفت إلى ما يقال غير هذا .
(3/50)
غَيْرِي ، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى . فَيَأْتُونَ مُوسَى ، فَيَقُولُونَ : يَا مُوسَى ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ، فَضَّلَكَ اللهُ - بِرِسَالاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ- عَلَى النَّاسِ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ . أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا ، لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا ، نَفْسِي .. نَفْسِي ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد تقدم أنّ غضب الله عبارة عن انتقامه وحلول عذابه.
و (( الشفاعة )) أصلها الضم والجمع ، ومنه ناقة شَفُوع ، إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة ، وناقة شافع ، إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعهما . و(( الشفع )) : ضمُّ واحدٍ إلى واحدٍ . و(( الشفعة )) : ضمُّ ملك الشريك إلى ملكك . و(( الشفاعة )) إذًا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك ، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفِّع وإيصال منفعةٍ إلى المشفوع له ، وسيأتي ذكر أقسامها .
و (( الشكور )) : الكثير الشكر ، وهو من أبنية المبالغة ، وأصل الشكر الظهور ، ومنه دابة شَكور ، إذا كانت يظهر عليها من السمن فوق ما تأكله من العلف ، واشتكر الضرع ، إذا ظهر امتلاؤه باللبن ، والسماء بالمطر ، فكأنّ الشاكر يظهر القيام بحق المنعم ، ولذلك قيل : الشكور هو
(3/51)
اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى . فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ : يَا عِيسَى! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ، وَرُوحٌ مِنْهُ ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى : إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا ، لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ . وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا ، نَفْسِي.. نَفْسِي . اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي . اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَيَأْتُونِّي ، فَيَقُولُونَ : يَا مُحَمَّدُ ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ، وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ ، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي ظهر منه الاعتراف بالنعمة ، والقيام بالخدمة ، وملازمة الحرمة .
وقوله : (( كانت لي دعوة دعوت بها على قومي )) ، يريد به قوله : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا }.
و (( إبراهيم )) بالسريانية هو الأب الرحيم ، حكاه المفسرون .
و (( الخليل )) : الصديق المخلص ، والخُلَّة بضم الخاء الصداقة والمودة ، ويقال أيضًا فيها . خلالة بالضم والفتح والكسر ، والخَلة بفتح الخاء . الفقر والحاجة ، والخِلة بكسرها واحدة خِلل السيوف وهي بطائن أغشيتها ، والخلل الفرجة بين الشيئين ، والجمع الخلال .
واختُلِف في الخليل اسم إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أي هذه المعاني والألفاظ
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/52)
أُخذ ، فقيل : إنّه مأخوذ من الخُلّة بمعنى الصداقة ، وذلك أنه صدق في محبة الله وأخلص فيها حتى آثر محبته على كل محبوباته ، فبذل ماله للضيفان وولده للقربان ، وجسده للنيران . وقيل : من الخَلَّة التي بمعنى الفقر والحاجة ، وذلك أنه افتقر إلى الله في حوائجه ولجأ إليه في فاقاته ، حتى لم يلتفت إلى غيره ، بحيث آلت حاله إلى أن قال له جبريل وهو في الهواء حين رمي في المنجنيق : ألك حاجة ؟ فقال : أمّا إليك ، فلا. وقيل : من الْخَلَل بمعنى الفرجة بين الشيئين ، وذلك لما تخلل قلبه من معرفة الله ومحبته ومراقبته ، حتى كأنه مُزجت أجزاء قلبه بذلك . وقد أشار إلى هذا المعنى بعض الشعراء ، فقال :
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً
ولقد جمع هذه المعاني وأحسن من قال في الخلة : إنها صفاء المودّة
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار ، والغنى عن الأغيار .
وقوله : (( إنما كنت خليلاً من وراء وراء )) ؛ أي : إنما كنت خليلاً متأخرًا عن غيري ؛ إشارة إلى أن كمالَ الخلّة ، إنما تصح لمن يصحّ له في ذلك اليوم المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون ، وذلك لم يصح ولا يصح إلاَّ لنبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(( وراءَ وراءَ )) صحيح الرواية فيه بالمد والفتح في الهمزتين وكأنه مبني على الفتح ؛ لتضمنه الحرف ، كما قالت العرب : هو جاري بيتَ بيتَ ؛ أي : بيته إلى بيتي ، فكأنه قال في الحديث : من وراء إلى وراء . ونحوه : خمسة عشر ، وسائر الأعداد المركبة ، ومنه قولهم : هي همزة بين بين ، وآتيك صباح مساء ، ويوم يوم ، وتركوا البلاد حيثَ بيث وجاث باث ونحو ذلك .
وقد زعم بعض النحويين المتأخرين أن الصواب الضم فيهما ، واستدلّ على ذلك بما أنشده الجوهري في "الصحاح" :
إذا أنا لم أُومن عليك ولم يكُن لِقاؤُكَ إلاَّ من وَراءُ وراءُ
(3/53)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : ولا شك أن السماع في هذا البيت بالضم فيهما ، ووجهه ما نبّه عليه الأخفش ؛ حيث قال : يقال : لقيته من وراءٌ فترفعه على الغاية ، كقولك : من قبلُ ومن بعدُ ، فنبّه على أن : وراء الأول ، إنما بنيت لقطعها عن الإضافة ، وأما الثانية : فيحتمل أن يكون كالأولى على تقدير حذف (( من )) لدلالة الأولى عليها ، ويحتمل أن تكون الثانية تأكيدًا لفظيًّا للأولى. ويجوز أن تكون بدلاً منها ، أو عطف بيان عليها . كما قالوا : يا نصرُ نصرٌ على تكلف .
وقد وجدت في أصل شيخنا أبي الصبر أيوب بن محمد الفهري السبتي : مِن وراءَ ، مِن وراءَ بتكرار (( مِن )) وفتح الهمزتين . وكان رحمه الله قد اعتنى بهذا الكتاب غاية الاعتناء ، وقيده تقييدًا حسنًا .
ولا يصح أن يقال : إن ذلك بناء على الوجه الأول ، لوجود من المضمنة في الوجه الأول ، وإنما تحمله على أن (( وراء )) قطعت عن الإضافة ، ولم يقصد قصد مضاف بعينه ، فصارت كأنها اسم علم ، وهي ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/54)
مؤنثة ، فيجتمع فيها التعريف والتأنيث ، فتمتنع من الصرف . وإنما قلنا : إن ((وراء )) مؤنثة ؛ لما قال الجوهري : إنها مؤنثة لأنهم قالوا في تصغيرها : وُريِّئة. وعلى هذا فهمزتها ليست للتأنيث ، ولأن همزة التأنيث لا تقع ثالثة . وقد وجدت في بعض المعلقات بخط معتبر. قال الفراء : تقول العرب : فلان يكلمني من وراءَ وراءَ ، بالنصب على الظرف ، ومن وراءُ وراءُ ، يجعل الأولى ظرفًا والثانية غاية . ومن وراءُ وراءُ تجعلهما غايتين. ومِن وراءِ وراءُ تضيف الأولى إلى الثانية وتمنع الثانية من الجر . ومن وراءِ وراءِ على البناء . وحكى ثعلب عن بعض الناس : أنهم قالوا : من وراءٌ وراءٌ بالتنوين فيهما .
وقوله : (( وذكر كذباته )) قد فسّرها في الرواية الأخرى بما ليست كذبًا على التحقيق ، ونحن نذكرها ونبيّنها إن شاء الله . فمنها قوله في الكوكب : { هذا ربي } ، ذكر المفسرون أنّ ذلك كان منه في حال
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطفولية في أول حال استدلاله ، ثم إنه لَمّا كمُل له النظر وتمّ على السداد وضح له الحق ، فقال : { وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا}.
قلت : وهذا لا يليق بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ؛ لأن الله تعالى خصهم بكمال العقل والمعرفة بالله عز وجل ، وسلامة الفطرة والحماية عن الجهل بالله تعالى والكفر من أول نشوئهم وإلى تناهي أمرهم ، إذ لم يُسمع عن واحد منهم أنه اعتقد مع الله إلَهًا آخر ، ولا اعتقد محالاً على الله تعالى ، ولا ارتكب شيئًا من قبائح أممهم الذين أرسلوا إليهم ، لا قبل النبوة ولا بعدها . ولو كان شيء من ذلك لقَرَّعهم بذلك أممهم لَمَّا دعوهم إلى التوحيد ، ولاحتجوا عليهم بذلك ، ولم ينقل شيء من ذلك . وأما بعد إرسالهم فكل ذلك محال عليهم عقلاً على ما نبينه.
(3/55)
وقيل : إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذلك لقومه مستفهمًا لهم على جهة التوبيخ لهم
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والإنكار عليهم ، وحذفت همزة الاستفهام على ما تفعله العرب اتساعًا ، كقولهم :
لعمرك ما أدري وإني لحاسب بسبعٍ رميتُ الجمرَ أم بثمانٍ
وقال آخر :
رموني وقالوا : يا خويلد لم ترع فقلت : وأنكرت الوجوه هُم هُم
أي : أهم هم ؟ وقيل : إنما قال ذلك على طريق الاحتجاج على قومه ؛ تنبيهًا على أن ما يتغير لا يصلح للربوبية .
ومنها قوله لآلهتهم : { بل فعله كبيرهم } ، وهذا إنما قاله ؛ ممهدًا للاستدلال على أنها ليست بآلهة ، وقطعا لقومه في قولهم إنها تضرُّ وتنفع . وهذا الاستدلال والذي قبله يتحرّر في الشرطي المتصل ، ولذلك أردف على قوله : { بل فعله كبيرهم }(1) ، قوله : { فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } ، فعند ذلك قالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ ... } الآية ، فحقت كلمته وظهرت حجته .
ومنها قوله { إِنّي سَقِيمٌ } ، هذا تعريض ، وحقيقته أنه سيسقم ، واسم الفاعل بمعنى المستقبل كثير ، ويحتمل أن يريد به أنه سقيم الحجة على الخروج معكم ؛ إذ كان لا يصح على جواز ذلك حجة.
ومنها ما جاء في حديث إبراهيم أنّه قال لزوجه سارة حين دخل في أرض الجبار فسئل عنها ، فقال. إنها أختي. وصدق ، هي أخته في دينه ، وكذلك جاء منصوصًا عنه أنّه قال لها . أنتِ أختي في الإسلام.
وعلى الجملة فأوجه هذه ألأمور واضحة وصدقها معلوم على الأوجه المذكورة ، فليس في شيء منها ما يقتضي عتابًا ولا نقصًا ، لكن هول ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك المقام وشدة الأمر حمله على الخوف منها ، وأيضًا فلنتبيّن درجة من يقول . نفسي نفسي من درجة من يقول . أمتي أمتي .
(3/56)
و (( موسى )) سمي بذلك ؛ لأنه وجد بين موشِي بالعبرية ؛ أي : الماء والشجر فعرب ، والجمع موسَون وموسَيْن عند البصريين ، وموسُون وموسِين عند الكوفيين.
وقوله : (( فضلك الله برسالاته وبتكليمه )) هذا إشارة إلى قوله تعالى : { إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي } ، ولا خلاف بين أهل السنة في أن موسى سمع كلام الله الذي لا يشبه كلام البشر الذي ليس بصوت ولا حرف ، ولو سمعه بالحرف والصوت لما صحّت ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خصوصية الفضيلة لموسى بذلك ؛ إذ قد سمع كلامه تعالى بواسطة الحرف والصوت المشرِك ، كما قال تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ، واستيفاء الكلام على هذه المسألة سؤالاً وجوابًا في علم الكلام.
وقوله : (( وكلَّمتَ الناسَ في المهد )) ؛ أي : صغيرًا في الحال الذي يمهد له فيه موضعه ليضجع عليه لصغره .
وقوله : (( وكلمة منه )) ، قال ابن عباس : سماه كلمة ؛ لأنه كان بكلّمة (( كن )) من غير أن يتقلب في أطوار الخلق كما تقلّب غيره . وألقاها إلى مريم ؛ أي : أبلغها إليها . وقد تقدم الكلام في وصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه روح الله .
وقوله : (( وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر )) ، اختلف الناس في عصمة الأنبياء من الذنوب اختلافا كثيرا . والذي ينبغي أن يقال إنّ الأنبياء معصومون مما يناقض مدلولَ المعجزة عقلاً ، كالكفر بالله تعالى ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والكذب عليه ، والتحريف في التبليغ والخطأ فيه ، ومعصومون عن الكبائر وعن الصغائر التي تزْري بفاعلها ، وتحطّ منزلته وتسقط مروءته إجماعًا عند القاضي أبي بكر وعند الأستاذ أبي بكر أن ذلك مقتضى دليل المعجزة . وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم .
(3/57)
واختلف أئمتنا في وقوع الصغائر منهم ، فمِن قائل بالوقوع ومِن قائل بمنع ذلك . والقول الوسط في ذلك أن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها ، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها واستغفروا وتابوا . وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا تقبل التأويلات بجملتها ، وإن قبل ذلك آحادها .
لكن الذي ينبغي أن يقال : إنّ الذي أضيف إليهم من الذنوب ليس من قبيل الكبائر ولا مما يُزري بمناصبهم على ما تقدم ، ولا كثر منهم وقوع ذلك ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم وعوتبوا عليها يخف أمرها بالنسبة إلى غيرهم ، وإنما عُدّت عليهم وعوتبوا عليها بالنسبة إلى مناصبهم وإلى علو أقدارهم ؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يُثاب عليه السائس. ولقد أحسن الجنيد حيث قال. حسنات الأبرار سيئات المقربين ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا ؟ فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي ، ثُمَّ قَالُ : يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ ، سَلْ تُعْطَهِ ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ : يَا رَبِّ ! أُمَّتِي .. أُمَّتِي . فَيُقَالُ : يَا مُحَمَّدُ! أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ ، مَنْ لا حِسَابَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهم وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم ، فلم يُخِلّ ذلك بمناصبهم ، ولا قدح ذلك في رتبهم ، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ، ومدحهم وزكّاهم واختارهم واصطفاهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - إلى يوم الدين . والكلام على هذه المسألة تفصيلا يستدعي تطويلا ، وفيما ذكرناه كفاية ، والله الموفق للهداية .
(3/58)
وقوله : (( فأنطلق فآتى تحت العرش فأقع ساجدًا )) ، قد زاد عليه في حديث أنس : (( فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي ، فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد ، ثم أخِرّ ساجدًا )). وبمجموع الحديثين يكمل المعنى ، وتُعلم مراعاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لآداب الحضرة العليّة .
ثم اعلم أن هذا الانطلاق من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو إلى جنة الفردوس التي
عَلَيْهِ ، مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ . وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ . أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى )).
زَادَ فِي رِوَايَة - فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ - قَالَ : (( وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ : {هَذَا رَبِّي } وَقَوْله لآلِهَتِهِمْ : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وَقَوْله : { إِنِّي سَقِيمٌ} )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هي أعلى الجنة ، وفوقها عرش الرحمن كما جاء في الصحيح ؛ بناء على أن لا محل هنالك إلا الجنة والنار ، وعلى أنّ العرش محيط بأعلى الجنة ، والله أعلم .
ولا شكّ أن دخول هذا المحلّ الكريم لا بد فيه من استئذان الخزنة ، وعن هذا عبّر بقوله : (( فأستأذن على ربي )) ، ولا يُفهم من هذا ما جرت به عادتنا من أن المستأذَن عليه قد احتجب بداره وأحاطت به جهاته ، فإذا استؤذن عليه فأذِن ، دخل المستأذن معه فيما أحاط به ؛ إذ كل ذلك على الله محال ، فإنه منزّه عن الجسمية ولوازمها على ما تقدم.
(3/59)
وَفِي أُخْرى : (( فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ : لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ . إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ )) . وَفِيْها : (( فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا . فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ. وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ ، فَيَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ )) قَالَ : قُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (( العرش )) في أصل اللغة الرفع ، ومنه قوله تعالى : { معروشات وغير معروشات } ؛ أي : مرفوعات القضبان ، قاله ابن عباس ، أو مرفوعات الحيطان على قول غيره ، ومنه سمي السرير وسقف البيت عريشًا ، ويقال : لما يُستظَلُّ به عرْش وعريش ، وإضافته إلى الله على جهة الملك أو التشريف ، لا لأنّ الله استقرّ عليه أو استظلّ به كما قد توهمه بعض الجُهّال في الاستقرار ، وذلك على الله محال ؛ إذ تستحيل عليه الجسمية ولواحقها.
قَالَ : (( أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ ، وَشَدِّ الرِّجَالِ . تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ : يَا رَبِّ ! سَلِّمْ .. سَلِّمْ . حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلا زَحْفًا . قَالَ : وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ ، مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ . فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْردسٌ فِي النَّارِ )). وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ ! إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
...................................................................
(3/60)
152- ورُويَ أيْضًا عَنْ حُذْيفَة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيه : في حديث أبي هريرة أن المحامد كانت بعد السجود ، وفي حديث أنس قبل السجود في حال القيام ، وذلك يدل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر من التحميد والثناء في هذا المقام كله في قيامه وسجوده إلى أن أسعف في طلبته .
وقوله : (( فأقول يا ربِّ أمتي أمتي ، فيقال . يا محمدُ ، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه )) ، هذا يدل على أنه شفع فيما طلبه من تعجيل حساب أهل الموقفِ ، فإنه لما أُمِر بإدخال من لا حساب عليه من أمته ، فقد شُرِع في حساب من عليه حِساب من أمته وغيرهم ، ولذلك قال في الرواية الأخرى : (( فيؤذن له وتُرسَل الأمانة والرحم ، فيقومان جنبتي الصراط )). وهذا المساق أحسن من مساق حديث معبد عن أنس(3) ، فإنه ذكر فيه عقيب استشفاعه لأهل الموقف أنه أجيب بشفاعته لأمته ، وليست الشفاعة العامة التي طلب منه أهل الموقف . وكأن هذا الحديث سُكِت فيه عن هذه الشفاعة وذُكِرت شفاعته لأمته ؛ لأن هذه الشفاعة هي التي طلبت من أنس أن يحدّث بها في ذلك الوقت ، وهي التي أنكرها أهل البدع ، والله أعلم .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي عياض : شفاعات نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم القيامة أربعٌ .
الأولى : شفاعته العامة لأهل الموقف ؛ ليعجِّل حسابهم ويُراحوا من هول موقفهم ، وهي الخاصة به ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
الثانية : في إدخال قوم الجنة دون حساب .
(3/61)
الثالثة : في قوم من موحدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم ، فيخرجون من النار ويدخلون الجنة بشفاعته ، وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعةُ الخوارج والمعتزلة ، فمنعتها على أصولهم الفاسدة ، وهي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين والتقبيح العقليَّيين ، وتلك الأصول قد استأصلها أئمتنا في كتبهم ، ثم أنها مضادة لأدلة الكتاب والسنة الدالة على وقوع الشفاعة في الآخرة . ومن تصفح الشريعة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وابتها لهم إلى الله تعالى في الشفاعة علم على الضرورة صحة ذلك وفساد قول من خالف في ذلك .
الرابعة : في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها.
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه )) ، يعني به- والله أعلم- : السبعين ألفًا الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
والباب الأيمن هو الذي عن يمين القاصد إلى الجنة بعد جواز الصراط - والله أعلم - ، وكأنه أفضل الأبواب .
وقوله : (( وهم شركاء الناس في سائر الأبواب )) ، يحتمل أن يعود الضمير إلى الذين لا حساب عليهم ، وهو الظاهر ويكون معناه أنهم لا يلجأون إلى الدخول من الباب الأيمن ، بل من أي باب شاؤوا ، كما جاء(3) في حديث أبي بكر ، حيث قال : فهل على من يدعى من تلك الأبواب
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من ضرورة ؟ ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا ، وأرجو أن تكون منهم )). وكما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمن أسبغ الوضوء وهلّل بعده : (( أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنّة الثمانية شاء )). ويحتمل أن يعود على الأمة ، وفيه بعد.
و (( المصْرَعان )) : ما بين عضادتي البابين ، والباب الغلقُ .
(3/62)
وقوله : (( لكما بين مكة وهجر )) ، أو كما بين مكة وبصرى ، يحتمل أن يكون شكًّا من بعض الرواة ، ويحتمل أن يكون تنويعًا ، كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : إذا رُؤِيَ(5) ما بينهما ، قدره رأءٍ بكذا ، وقدّره آخر بكذا ، ويصح أن يقال . سلك بها مسلك التخيير ، فكأنه قال . قدِّروها إن شئتم بكذا وإن شئتم بكذا .
وقوله : (( تجري بهم أعمالهم )) ، يعني أن سرعة مرّهم على الصراط بقدر أعمالهم ، ألا تراه كيف قال : (( حتى تعْجِز أعمال العباد )) ، و(( شدّ الرجال )) : جريهم الشديد " ، جمع رجل . وعند ابن ماهان (( الرحال )) بالحاء المهملة ، وكأنه سُميت الراحلة بالرحْل ثم جمع ، يريد : كجري الرواحل ، وفيه بعد .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (( الزحْف )) مشي الضعيف ، يقال . زحف الصبي يزحف على الأرض قبل أن يمشي ، وزحف البعيرُ إذا أَعْيَي فَجَرَّ فِرْسِنَه .
و (( الكلاليب )) جمع كَلُّوب على فَعُّول ، نحو سَفُّود ، وهي التي سمّاها فيما تقدم : (( خطاطيف )).
و (( مكردس )) بمعنى : مكدوس ، يقال . كرْدس الرجل خَيْلَهُ إذا جمعها كراديس ؛ أي : قطعًا كبارًا . ويحتمل أن يكون معناه المكسور فقار الظهر . ويحتمل أن يكون من الكردسة ، وهو الوثاق ، يقال . كُرْدِسَ الرجلُ ، جُمعت يداه ورجلاه ، حكاه الجوهري .
وقوله : (( لسبْعون خريفًا )) ، تفسيره في الحديث الآخر ؛ إذ قال : ((إن الصخرة العظيمة لتلقي في شفير جهنّم ، فيهوي فيها سبعين عامًا )). و(( الخريف )) : أحد فصول السنة ، وهو الذي تخترف فيه الثمار ، والعرب تذكره كما تذكر المساناة والمشاهرة ، يقال : عاملته مُخَارَفَةً ؛ أي : إلى الخريف. والأجود رفع (( لسبعون )) على الخبر ، وبعضهم يرويه : ((لسبعين )) يتأوّل فيه الظرف ، وفيه بعد .
( 61 ) باب شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن أدخل النار من الموحدين
(3/63)
153- عَنْ مَعْبَدِ بْنِ هِلالٍ الْعَنَزِيُّ ؛ قَالَ : انْطَلَقْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَتَشَفَّعْنَا بِثَابِتٍ . فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي الضُّحَى . فَاسْتَأْذَنَ لَنَا ثَابِتٌ . فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ ، وَأَجْلَسَ ثَابِتًا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ . فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا حَمْزَةَ ! إِنَّ إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُحَدِّثَهُمْ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ . فَقَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ : اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِكَ . فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن أدخل النار من الموحدين
قوله : (( فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبةٍ من برّة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها ، إلى أن قال : (( أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان )) ، اختلف الناس في هذا الإيمان المقدّر بهذه المقادير ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ ، فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللهِ . فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى ، فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللهِ . فَيُؤْتَى مُوسَى ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى ، فَإِنَّهُ رُوحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ ، فَيُؤتَى عِيسَى ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ . فَأُوتَى فَأَقُولُ : أَنَا لَهَا . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/64)
فمنهم من قال : هو اليقين ، ورأى أنّ العلم يصحّ أن يقال فيه أنه يزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن ، وباعتبار دوام حضوره ، وأنّه ينقص بتوالي الغفلات على قلب المؤمن . وهذا معقول ، غير أنّ حمْلَ هذا الحديث عليه فيه بعدٌ ؛ لما جاء من حديث أبي سعيد ، حيث قال الشافعون : (( لم نذر فيها خيرًا )) ؛ مع أنه تعالى يخرج بعد ذلك جموعًا أَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي ، فَيُؤْذَنُ لِي ، فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لا أَقْدِرُ عَلَيْهِ إلا أنَ يُلْهِمُنِيهِ اللهُ ، ثُمَّ أَخِرُّ له سَاجِدًا. فَيُقَالُ لي : يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ ، قُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَأَقُولُ : يَا رَبِّ! أُمَّتِي .. أُمَّتِي ، فَيُقَالُ : انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا . فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ . ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا . فَيُقَالُ لِي : يَا مُحَمَّدُ ! ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَأَقُولُ : يَا رَبَّ ! أُمَّتِي .. أُمَّتِي . فَيُقَالُ لِي انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/65)
كثيرة ممن يقول : لا إله إلا الله وهم مؤمنون قطعًا ، ولو لم يكونوا مؤمنين ، لما خرجوا بوجهٍ من الوجوه ، ولذلك قال تعالى : (( لأُخرّجن من قال لا إله إلا الله )). وعن إخراج هؤلاء عبّر بقوله : (( فيقبض قبضةً فيخرج قومًا لم يعملوا خيرًا قط )) ، فإذًا الأصحّ في هذا الحديث أن يكون الإيمان هنا أطلق على أعمال القلوب ، كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة وشبه ذلك من أعمال القلوب ، وسمّاها إيمانًا ؛ لكونها في محل الإيمان أو عن الإيمان ، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره ، أو كان منه بسبب .
وإنما قلنا . أراد به أعمال القلوب هنا دون أعمال الأبدان ، لقوله من كان في قلبه ، ووجدتم في قلبه ، فخصّه بالقلب ، ولا جائز أن يكون التصديق على ما تقدّم ، فتعيّن ما قلناه ، والله أعلم .
مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا . فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ . ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا. فَيُقَالُ لِي : يَا مُحَمَّدُ ! ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ ! أُمَّتِي .. أُمَّتِي. فَيُقَالُ لِي : انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ . فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر الحبّة ونصفها والمثقال ونصفه وأدنى من ذلك ، هي كلها عبارات عن كثرة تلك الأعمال وقلتها .
(3/66)
وقوله : (( وعزتي وكبريائي وعظمتي )) ، (( العزّة )) : القوة والغلبة ، ومنه : { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } ؛ أي : غلبني ، ويقال أيضًا : عزَّ الشيء إذا قلّ ، فلا يكاد يوجد مثله ، يعِزّ عِزًّا وعزازة ، وعزّ يعِزُّ عزَّةً ، إذا صار قويًّا بعد ضعف وذلَّةً ، فعزّة الله تعالى قهره للجبابرة وقوَّته الباهرة ، وهو مع ذلك عديم المثل والنظير ، { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }.
وأما (( الكبرياء )) و(( الكِبر )) ، فكلاهما مصدر كَبر في نفسه يكبر ، وأصله من كِبَر السن وكِبَر الجرم ، لكن صار ذلك بحكم عُرف الاستعمال عبارة عن حصول كمال لذات يستلزم ترفيعا لها على الغير . ومن هنا كان الكبر قبيحًا ممنوعًا في حقنا ، واجبًا في حق الله . وبيانه أنَّ
هَذَا حَدِيثُ مَعْبَد عَنْ أَنَسٍ ، وَزَادَ الْحَسَنِ عَنْهُ : (( ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فِي الرَّابِعَةِ ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا ، فَيُقَالُ لِي : يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ! ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ : لا إِلهَ إِلا اللهُ . قَالَ : لَيْسَ ذَلكَ لَكَ - أَوْ قَالَ : لَيْسَ ذلكَ إِلَيْكَ - وَلَكِنْ وَعِزَّتِي ! وَكِبْرِيَائِي ! وَعَظَمَتِي! وَجِبْرِيَائِي ! لأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ : لا إِلهَ إِلا اللهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكمال الحقيقيَّ المطلق لا يصحّ إلا لله تعالى ، وكمال غيره إنما هو عرضيّ نسبيّ ، فإذا وصَف الحقَُ نفسَه بالكِبَر ونسبه إليه ، كانت النسبة حقيقيَّةً في حقه ؛ إذ لا أكملَ منه ولا أرفعَ ، فكلّ كاملٍ ناقص ، وكل رفيع محتقر بالنسبة إلى كماله وجلاله .
(3/67)
و (( العظمة )) بمعنى الكبرياء ، غير أنها لا تستدعي غيرًا يُتَعاظم عليه كما يستدعيه الكِبْر على ما بيّنا ، وأيضًا فقد يُستعمل الكبير فيما لا يُستعمل فيه العظيم ، فيقال . فلان كبير السنِّ ، ولا يقال . عظيم السن .
وقوله : (( وجِبريائي )) بكسر الجيم ، فمعناه : يجبرونني ، و(( الجبّار )) :
العظيم الشأن الممتنع على من يرومه ، ومنه نخلة جبّارة إذا فامت الأيدي طولا ، يقال منه . جبّار بيِّن الجبرية والجبروَّة والْجُبُورة والْجَبُورة ، ولم يأت فعّال من أفعلت إلا جبَّار ودرّاك وستّار . و(( الجبروت )) أيضًا ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للمبالغة بزيادة التاء ، مثل مَلَكُوت ورَحَمُوت ورَهَبوت من الملك والرحمة والرهبة .
وجاء (( جبريائي )) هنا لمطابقة كبريائي ، كما قالوا . هو يأتينا بالغدايا والعشايا. وقيل في معنى الجبّار ؛ أي : المصلح ، من قولهم : جبرت العظم ، وذلك أنه تعالى يجبر القلوب المنكسرة من أجله ، ويرحم عباده ، ويسدّ خلاتهم .
( 62 ) باب شفاعة الملائكة والنبيين والمؤمنين
154- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نَعَمْ )) قَالَ : (( هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ ؟ )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب شفاعة الملائكة
(3/68)
قوله : (( أذَّن مؤذِّنٌ )) ؛ أي : نادَى منادٍ برفيع صوته ؛ كي يعلم أهل الموقف . و(( الأنصاب )) جمع نَصْب بفتح النون ، وهو ما نُصِبَ من حجارة أو غيرها ليُعْبد من دون الله ، و"الأصنام" : جمع صَنَم ، وهو ما كان مصورًا اتُّخِذَ ليعبد . ويقال عليه . وَثَنٌ وأوثان .
وقوله : ((وغُبَّرِ أهل الكتاب )) ؛ يعني : بقاياهم ، وهو من غَبَر الشيء : إذا بقي ، ويقال أيضًا بمعنى نَفِد وذهب ، وهو من الأضداد ، وقد جاء معناه قَالُوا : لا . يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : (( مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا . إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ : لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ . فَلا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللهِ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ ، إِلا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ . حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ ، وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ . َفُتدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا : كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللهِ . فَيُقَالُ : كَذَبْتُمْ ، مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلا وَلَدٍ . فَمَاذَا تَبْغُونَ ؟ قَالُوا : عَطِشْنَا ، يَا رَبَّنَا! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في كتاب الله تعالى.وقد روي : (( غَيْرُ )) من المغايرة ، ومعناه واضح.
و (( عزير )) : رجل من بني إسرائيل قيل إنه لما حرّق بختنصّر التوراة وقتل القائمين بها والحافظين لها ، قذفها الله في قلبه فقرأها عليهم ، فقالت جهلة اليهود عنه إنه ابن الله .
و (( تبغون )) : تطلبون . قال : وأنشدوا :
والباغي يحب الوجدان
و (( السراب )) : ما تراه نصف النهار كأنه ماءٌ .
و (( يحطم بعضها بعضًا )) ؛ أي : يركب بعضها على بعض ويكسر
(3/69)
فَاسْقِنَا . فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ : أَلا تَرِدُونَ ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ ، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ. ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى . فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا : كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللهِ . فَيُقَالُ لَهُمْ : كَذَبْتُمْ ، مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلا وَلَدٍ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : مَاذَا تَبْغُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : عَطِشْنَا ، يَا رَبَّنَا ! فَاسْقِنَا . قَالَ : فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ : أَلا ترِدُونَ ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ ، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ . حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ ، أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا . قَالَ : فَمَا تَنْتَظِرُونَ ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعضها في بعض ، كما يفعل البحر إذا هاج .
وقوله : (( فيشار إليهم ألا ترِدون )) ، لما ظنّوا أنه ماء أُسمعوا بحسب ما ظنّوا )) ، فإن الورود إنما يقال لمن قصد إلى الماء ليشرب .
و (( يحشرون )) : يساقون مجموعين .
وقوله : (( حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من برّ وفاجر )) ، يعبد الله يوحده ويتذلل له ، و(( البر )) : ذو البر ، وهو فِعل الطاعات والخير ، و((الفجور )) عكسه .
وقوله : (( أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها )) ، إتيان الله هنا هو عبارة عن إقباله تعالى عليهم وتكليمه إياهم ، و(( أدنى ))
(3/70)
تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ . قَالُوا : يَا رَبَّنَا ! فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ ، فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ . لا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا - حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ . فَيَقُولُ : هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمعنى : أقرب ، و(( الصورة )) بمعنى : الصفة ، و(( رأوه )) بمعنى : أبصروا غضبه .
ومعنى ذلك أنّه لما طال عليهم قيامُهم في ذلك المقام العظيم الكرْب الشديد الخوف الذي يقول فيه كل واحد من الرسل الكرام : إن ربي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، هالهم ذلك ، وكأنهم يئسوا من انجلاء ذلك . فلمّا كشف الله عنهم ذلك وأقبل عليهم بفضله ورحمته وكلّمهم ، رأوا من صفات لطفه ومن كرمه ما هو أقرب مما رأوه أولاً من غضبه وأخذه ، وإلا ، فهذا أول مقام كلّمهم الله فيه مشافهةً ، وأرى من أراد منهم وجهَه الكريمَ ، إن قلنا إنَّ المؤمنين رأوه في هذا المقام ، وقد اختلف فيه ، ولم يكن تقدّم لهم قبل ذلك سماع ولا رؤية ، فتعيّن ما قلنا ، والله أعلم .
وقوله : (( قالوا يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم )) ،
(3/71)
فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ، فَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ ، وَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً ، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ . ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي الصُورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ . فَيقَول : أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا . ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ . وَيَقُولُونَ : اللهُمَّ! سَلِّمْ .. سَلِّمْ )) . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! وَمَا الْجِسْرُ ؟ قَالَ : دَحْضٌ مَزِلَّةٌ . فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ ، وَحَسَكةٌ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح من الرواية : (( فَارَقْنا )) ساكنة القاف ، و(( الناسَ )) منصوب على مفعول (( فارقنا )) ، وهو جواب الموحدّين لمّا قيل : لِتَتَّبِعْ كلُّ أمَّة ما كانت تعبد ، ومعناه . إنا فارقنا الناس في معبوداتهم ولم نصاحبْهم على شيء منها ؛ اكتفاءً بعبادتك ومُعاداةً فيك ، ونحن على حال حاجة شديدة إليهم وإلى صحبتهم ؛ إذ قد كانوا أهلا وعشيرة ومخالطين ومُعاملين ، ومع ذلك ففارقناهم فيك وخالفناهم ؛ إذ خالفوا أمرك ، فليس لنا معبود ولا متبوع سواك .
(3/72)
وكان هذا القول يصدر من المحق والمتشبه به ، فحينئذ تظهر لهم صورةٌ تقول . أنا ربكم امتحانًا واختبارًا ، فيثبت المؤمنون العارفون فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ، فَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ ، وَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً ، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ . ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي الصُورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ . فَيقَول : أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا . ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ . وَيَقُولُونَ : اللهُمَّ! سَلِّمْ .. سَلِّمْ )) . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! وَمَا الْجِسْرُ ؟ قَالَ : دَحْضٌ مَزِلَّةٌ . فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ ، وَحَسَكةٌ ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ ، يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ . فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ. فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ . حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويتعوّذون ، ويرتاب المنافقون والشاكون . ثم يؤمر الكل بالسجود على ما تقدم ، وقد تقدم القول على مشكلات هذا الحديث في حديث أبي هريرة المتقدم.
وقوله : (( كأجاويد الخيل والركاب هي سراعها )) ، وهو جمع جياد ، فهو جمع الجمع . و(( الركاب )) : الإبل ، و(( مخدوش )) : مرسل ، يعني تأخذ منه الخطاطيف حتى تقطع لحمه ثم يُخلّى ، وبعد ذلك ينجو .
(3/73)
مُنَاشَدَةً لِلَّهِ ، فِي اسْتِيْفَاءِ الْحَقِّ ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لإِخْوَانِهِمِ الَّذِينَ فِي النَّارِ . يَقُولُونَ : رَبَّنَا ! كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ : أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا . قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ، يَقُولُونَ : رَبَّنَا ! مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ . فَيَقُولُ جَلَّ وَعَزَّ : ارْجِعُوا . فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ . فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا . ثُمَّ يَقُولُونَ : رَبَّنَا ! لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ . ثُمَّ يَقُولُ : ارْجِعُوا . فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ . فَيُخْرِجُونَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ومكدوسٌ في نار جهنم )) روايتنا فيه بالسين المهملة ، وروي عن العذري بالشين المثلثة. ووقع في بعض نسخ كتاب مسلم هنا : ((مكردس )) بدل ((مكدوس )) ، وهي الثابتة في حديث أنس المتقدم ، وقد ذكر تفسيرها فيه . والكدس بالمهملة : إسراع المُثْقل في السير ، يقال : تكدّس الفرس ؛ إذا مشى كأنه مثقل . والكُدسُ بضم الكاف واحد أكداس الطعام . ويحتمل أن يؤخذ المكدوس من كلّ واحد منهما . وأما بالشين المعجمة ، فالكَدْش الخدش ، عن الأصمعي ، وهو أيضًا السوْق الشديد ، وكلاهما يصحّ حملُ هذه الرواية عليه .
(3/74)
خَلْقًا كَثِيرًا . ثُمَّ يَقُولُونَ : رَبَّنَا ! لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا . ثُمَّ يَقُولُ : ارْجِعُوا . فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ . فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا . ثُمَّ يَقُولُونَ : رَبَّنَا ! لَمْ نَذَرْ فِيهَاخَيْرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( فتحرم صورهم على النار )) ، يعني صور المخرجين . وهذا كما قال فيما تقدم : (( حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود )) ، وآثار السجود تكون في الأعضاء السبعة ولا يقال ، فقد قال عقيب هذا : (( فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذت النار إلى أنصاف ساقيه وإلى ركبتيه )). وهذا ينصّ على أنّ أهل النار قد أخذت بعض أعضاء السجود ، لأنَّا تقول : تأخذ فتغيّر ولا تأكل فتُذهب . ولا يبعد أن يقال : إنّ تحريم الصور على النار إنما يكون في حق هذه الطائفة المشفوع لهم أولاً ؛ لعلو رتبتهم على من يخرج بعدهم ، فتكون النار لم تقرب صُوِر وجوههم لا بالتغيّر ولا بالأكل ، والله أعلم .
وقوله : (( مثقال ذَرّة )) ، كذا صحّت روايتنا فيه بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء ، وهي الصغير من النمل ، ولم يختلف في أنه كذلك في هذا الحديث . وقد صحّفه شعبة في حديث أنس ، فقال : ذُرَة ، بضم الذال
(3/75)
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ : إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : { إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } . فيَقُولُ اللهُ تَعَالىَ : شَفَعَتِ الْمَلائِكَةُ ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ ، وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ ، قَدْ عَادُوا حُمَمًا . فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَاةِ ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ، أَلا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ ، مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ ؟ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ . قَالَ : فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ ، فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ اللهِ ، الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ . ثُمَّ يَقُولُ : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ . فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. فَيُقَالُ : لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا . فَيَقُولُونَ : يَا رَبَّنَا ! أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا ؟ فَيَقُولُ : رِضَأي : فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/76)
وتخفيف الراء . على ما قيّده أبو علي الصدفي والسمرقندي ، وفيما قيّده العُذري والخشني . دُرّة ، بضم الدال المهملة وتشديد الراء واحدة الدُّر ، وَفِي رِوَايَةٍ ؛ قَالَ أَبُوسَعِيدٍ : بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْر وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو تصحيف التصحيف . وقول أبي سعيد . إن لم تصدّقوني فاقرؤوا ، ليس على معنى أنهم اتهموه ، وإنما كان منه على معنى التأكيد والعضد .
وقوله : (( فيقبض قبضة )) ، يعني . يجمع جماعة فيخرجهم دفعة واحدة بغير شفاعة أحد ولا ترتيب خروج ، بل كما يُلقى القابض الشيء المقبوض عليه من يده في مرة واحدة .
وقوله : (( قد عادوا حُمَمًا )) ؛ أي : صاروا ، وليس على أصل العود الذي هو الرجوع إلى الحال الأولى ، بل هذا مثل قوله تعالى : { أو لتعودُنَّ في ملّتنا } ؛ أي : لتصيرن إليها ، فإن الأنبياء لم يكونوا قط على الكفر ، وكما قال الشاعر :
تلك المكارم لا قَعْبان من لبنٍ شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
و (( الحمم )) : الفحم ، واحدها حممة .
وقوله : (( في رقابهم الخواتيم )) ؛ أي : الطوابع والعلامات التي بها يُعرفون .
( 63 ) باب كيفية عذاب من يعذب من الموحدين
وكيفية خروجهم من النار
(3/77)
155- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا ، فَإِنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلا يَحْيَوْنَ . وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ فَأَمَاتَتهُمْ إِمَاتَةً . حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا ، أذِنَ اللهُ لَهْم فِي الشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ، ثُمَّ قِيلَ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ! أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ . فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : كَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَدْ كَانَ يَرْعَى بِالْبَادِيَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيفية عذاب من يعذَّب من الموحّدين
قوله : (( ضبائر ضبائر )) ، قال الهروي : جمع ضِبارة بكسر الضاد ، مثل عِمارة وعمائر ، وهي الجماعة من الناس ، يقال . رأيتهم ضبائر ؛ أي : جماعات في تَفْرِقَة . قال الكسائي : الصواب أضابر جمع إضبارة . وفي ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحاح . الإضبارة بالكسر الإضمامة ، يقال . جاء فلان بإضبارةٍ من كتبٍ ، وهي الأضابير ، قال . والضَّبْرُ . الجماعة من الناس يغْزُون ، وضَبَرَ الفرسُ ، إذا جمع قوائمه ووثب .
و (( بُثّوا )) : فرّقوا ، وهذا الحديث ردّ على الخوارج والمعتزلة ، حيث حكموا بخلود أهل الكبائر في النار ، وأنّهم لا يخرجون منها أبدًا ، وقد تمّ الكلام على الجنّة ، وردٌّ على المرجئةِ ، حيث يقولون . لا يدخلون النار. وقد تقدَّم الكلام على الحِبَّة.
( 64 ) باب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر الأنبياء تابعًا وأولهم تفتح له الجنة ، وأولهم شفاعة ، واختباء دعوته شفاعة لأمته
(3/78)
156- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَنَا أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ . لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ . وَإِنَّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ )).
157- وَعَنْهُ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَأَسْتَفْتِحُ ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَأَقُولُ : مُحَمَّدٌ . فَيَقُولُ : بِكَ أُمِرْتُ لا أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قوله : (( أنا أوّل الناس يشفع في الجنّة ))
أي : في دخول الجنّة قبل الناس ، ويدلّ عليه قوله : (( وأنا أوّل من يقرع باب الجنّة )) ، وقول الخازن : (( بك أُمِرْتُ لا أفتح لأحدٍ قبلك )) ، وقوله في حديث آخر : (( فأنطلقُ معي برجالٍ فأدخلهم الجنّة )). وهذه إحدى شفاعاته المتقدِّمة الذكر .
158- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في الرواية الأخرى : (( أنا أوّل شفيع في الجنّة )) يمكن حمله على ما تقدّم ، ويحتمل أن يراد به أنّه يشفع في ترفيع منازل بعض أهل الجنّة ، والأوّل أظهر .
(3/79)
وقوله : (( لكلّ نبيٍّ دعوة مستجابة )) ؛ أي : مجابة ، والسين زائدة ، يقال . أجاب واستجاب ، قال :
فلم يستجبْه عند ذاك مجيبُ
أي : لم يجبه . ومعناه : أنهم عليهم السلام لهم دعوة في أممهم هم على يقين في إجابتها بما أعلمهم الله تعالى ، ثم خيّرهم في تعيينها وما عداها من دعواتهم يرجون إجابتها ، وإلا ، فكم قد وقع لهم من 159- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَلا قَوْلَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ... } الآيَةَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدعوات المجابة وخصوصًا نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد دعا لأمته بأن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم ، وألا يهلكهم بسنة عامة فأعطيها. وقد منع أيضًا بعض ما دعا لهم به ؛ إذ قد دعا ألا يجعل بأسهم بينهم شديد فمنعها(2) ، وهذا يحقق ما قلناه من أنّهم في دعواتهم راجون للإجابة ، بخلاف هذه الدعوة الواحدة ، والله أعلم .
وقوله : (( فهي نائلة إن شاء الله )) ، (( نائلة )) وأصله من نال الشيء إذا ظفر به ، ودخول الاستثناء هنا كدخوله في قوله تعالى : { لتدخلّن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } ، وسيأتي القول فيه إن شاء الله في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون )) في الطهارة.
(3/80)
وَقَالَ عِيسَى : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ } إلى قوله { فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : (( اللهُمَّ ! أُمَّتِي .. أُمَّتِي )) وَبَكَى فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَا جِبْرِيلُ ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ ، فَاسألْهُ : مَا يُبْكِيكَ . فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِمَا قَالَ ، وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللهُ : يَا جِبْرِيلُ ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ : إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( وقال عيسى : إن تعذّبهم )) هو مصدر معطوف على قوله : (( وتلا قول الله تعالى )). والعرب تقول قال يقول قولا وقالا وقيلا ، فكأنه قال . وتلا قول عيسى . ومعنى هاتين الآيتين أنّ كلَّ واحد من إبراهيم وعيسى لم يَجْزِمَا في الدعاء لعصاة أممهما ، ولم يُجْهدا أنفسهما في ذلك ، ولم يكن عندهما من فرْط الشفقة ما كان ينبغي لهم. ألا ترى أنهما في الآيتين كأنّهما تبرأ من عصاة أممهما ، ولما فهم نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك انبعث بحكم ما يجده من شدة شفقته ورأفته وكثرة حرصه على نجاة أمته ، وبحكم ما وهبه الله تعالى من رفعة مقامه على غيره ، جازمًا في الدعاء مجتهدًا لهم فيه متضرعًا باكيا مُلحًّا يقول . أمتي أمتي ، فعل المحب المستهتر لمحبوبه الحريص على ما يرضيه ، الشفيق عليه ، اللطيف به ، ثم لم يزل كذلك ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/81)
حتى أجابه الله فيهم وبشّره بما يسرّه من مآل حالهم ، حيث قال له تعالى : (( إنا سنرضيك في أمتك )) ، وهو معنى قوله تعالى : { ولسوف يعطيك ربّك فترضى }. وقد قال بعض العلماء . واللهِ ما يرضى محمد وأحدٌ من أمته في النار . وهذا كلّه يدلّ على أنّ الله تعالى خصّ نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كرم الخُلق ومن طيب النفس ومن مقام الفتوة بما لم يختص به أحدٌ غيره ، وإليه الإشارة بقوله تعالى . { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ، وبقوله { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } الآية ، فصلى الله عليه أفضل ما صلى على أحدٍ من خليقته ، وجازاه عنّا أفضل ما جازى نبيًّا عن أمته .
وأمر الله تعالى لجبريل بأن يسأل نبينا عليهما السلام عن سبب بكائه ؛ ليعلم جبريل تمكن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مقام الفتوة وغاية اعتنائه بأمته .
( 65 ) باب شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمه في التخفيف عنه
160- عَنِ الْعَبَّاسَ ؛ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : (( نَعَمْ ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( لَوْلا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمّه أبي طالب
في التخفيف عنه
قوله : (( كان يحوطك )) ؛ أي : يحفظك . و(( ينصرك )) : يعينك ، والنصرة . العون ، تقول العرب . أرض منصورة ؛ أي : معانة على إنباتها بالمطر . وقد كان أبو طالب يمنعه ممن يريد به مكروهًا ، ويعينه على ما كان بصدده .
(3/82)
و (( غَمَرات ))- بالميم- : جمع غمرة ، وهي ما يغطي الإنسان ويغمره ، مأخوذ من الماء الغَمْر ، وهو الكثير . وقد وقع في بعض النسخ. غُبّرات ، 161- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ . فَقَالَ : (( لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَارٍ ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو تصحيف ولا معنى للغبرات هنا ، و(( الضحضاح )) : ما رقّ من الماء على وجه الأرض ، ومنه قول عَمرو في عُمر : (( أنه جانب غمرتها ، ومشى ضحضاحها وما ابتلّت قدماه ؛ يعني . لم يتعلّق من الدنيا بشيء .
و (( الدرك )) : في مراتب السفل والنزول ، كالدرج في مراتب العلو والارتفاع ، ويراد به آخر طبق في أسفل النار ، وهو أشدّ أطباق جهنّم عذابًا ، ولذلك قال تعالى : { إنَّ الْمُنَافِقِين فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، وكان أبو طالب يستحق ذلك ؛ إذ كان قد عُلِم صدقُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع حالاته ، ولم يخفَ عليه شيءٌ من أموره من مولده وإلى حين اكتهاله ، ولذلك كان يقول لعلي ابنه . اتَّبِعْه ، فإنه لا يُرشِدُك إلا إلى خير أو حق أو كما قيل عنه .
162- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/83)
وقوله : (( لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة )) ، هذا المترجى في هذا الحديث قد تحقق وقوعه ؛ إذ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وجدته في غمراتٍ فأخرجته إلى ضحضاح )) ، فكأنه لما ترجى ذلك أعطيه وحقق له فأخبر به ، وهل هذه الشفاعة لسان قول محقق أو لسان حال ، اختلف فيه ، فإن تنزلنا على أنه حقيقة ، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شفع لأبي طالب بالدعاء والرغبة حتى شُفِّع ، عارضه قوله تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } ، وقوله : {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ، وما في معناه .
والجواب من أوجه ؛ أقربها : أن الشفاعة المنفية إنما هي شفاعةٌ خاصةٌ ، وهي التي تخلّص من العذاب . وغاية ما ذكر من المعارضة إنما هي بين خصوصٍ وعموم . ولا تعارُض بينهم ؛ إذ البناء والجمع ممكن ، وأن تنزّلنا على أنه لسان حال ، فيكون معناه . أن أبا طالب لمّا بالغ في إكرام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذبّ عنه ، خُفّف عنه بسبب ذلك ما كان يستحقه بسبب كفره مع ما يحمله عنده من معرفة صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قدمناه . 163- وَعَنِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : ((إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولما كان ذلك بسبب وجود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وببركة الحنو عليه ، نسبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى نفسه . ولا يستبعد إطلاق الشفاعة على مثل هذا المعنى ، فقد سلك الشعراء هذا المعنى ، فقال بعضهم :
في وجهه شافعٌ يمحو إساءته إلى القلوب وجيه حيث ما شفعا
وقد يُورَد أيضًا على هذا المعنى ، فيقال . هذا إثبات نَفْعٍ للكافر في الآخرة بما عمله في الدنيا . وقد نفاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله في حديث ابن جدعان الآتي : (( لا ينفعه )) ، وبقوله : (( وأمّا الكافر ، فيُعطى بحسنات ما عمل في الدنيا ، حتى إذا أفضي إلى الآخرة ، لم تكن له حسنة يجزى بها )).
(3/84)
والجواب من وجهين .
أحدهما : ما تقدم في بناء العام على الخاص .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والثاني : أنّ المخفّف عنه لَمَّا لم يجد أثرًا لما خُفف عنه ، فكأنّه لما ينتفع بذلك . ألا ترى أنه يعتقد أنّه ليس في النار أشدّ عذابًا منه ، مع أنّ عذابه جمرة من جهنّم في أخمصة . وسببه أن القليل من عذاب جهنّم - أعاذنا الله منه - لا تطيقه الجبال ، وخصوصًا عذاب الكافر . وإنما تظهر فائدة التخفيف لغير المعذّب ، وأما المعذّب ، فمشتغل بما حلّ به ؛ إذ لا يخلَّى ، ولا بغيره يتسلى ، فصدق عليه أنه لم ينتفع ، ولم يحصل له نفع البتة ، والله الموفق .
( 66 ) باب من لم يؤمن لم ينفعه عمل صالح ولا قريب في الآخرة
164- عَنْ عَائِشَةَ ؛ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، فَهَلْ ذَلكَ نَافِعُهُ ؟ قَالَ : (( لا يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا : رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ )) .
165- وَعَنْ أَنْسٍ ؛ أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَ : ((فِي النَّارِ )) فَلْمَا قَفَى دَعَاهُ فَقَالَ : (( إِنَّ أبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من لم يؤمن لم ينفعه عمل صالح
(3/85)
قول عائشة : (( هل ذلك نافعه ؟ )) معناه . هل ذلك مخلصه من عذاب الله المستحق بالكفر ، فأجابها بنفي ذلك ، وعلله بأنه لم يؤمن . وعبّر عن الإيمان ببعض ما يدلّ عليه وهو قوله : (( لم يقل يومًا ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين )). ويقتبس منه أن كل لفظ يدلّ على الدخول في الإسلام اكتفى به ، ولا يلزم من أراد الدخول في الإسلام صيغة مخصوصة مثل كلمتي الشهادة ، بل أي شيء دلّ على صحة إيمانه ومجانبة ما كان عليه اكتفي به في الدخول في الإسلام ، ولا بد له مع ذلك من النطق
166- وَعَنْهُ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّ اللهَ لايَظْلِمُ مُؤمِنًا حَسَنَة ، يُعْطَى بِها فِي الدُنْيا ويُجْزَى بِها فِي الآخِرةِ. وأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمْ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ للهِ بِها فِي الدُنْيَا حَتْى إِذْا أَفْضَى إِلى الآخِرةِ لَمْ تَكُنْ لَه حَسَنَةٌ يُجْزَى بها )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بكلمتي الشهادة ، فإن النطق بها واجب مرة في العمر .
وقوله : (( إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً )) ؛ يعني : لا ينقصه ولا يمنعه ثوابها في الدار الآخرة والأولى .
وقوله : (( وأما الكافر ، فيطعم بحسناته )) ، هكذا رواه الجماعة ، ورواه ابن ماهان : (( فيعطى بحساب )) ، وكلاهما صحيح المعنى . وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنة إنما كان بحساب ظنّ الكافر ، وإلا ، فلا تصح منه قربة ؛ لعدم شرطها الذي هو الإيمان ، أو سميت حسنة ؛ لأنها تشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرًا. ثمّ هل يعطى الكافر بحسناته في الدنيا ولا بدّ ، بحكم هذا الوعد الصادق ، أو ذلك مقيَّد بمشيئة الله المذكورة في قوله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجّلْنا له فيها ما نشاء لمن نريد } ، وهذا هو الصحيح. وأمّا المؤمن ، فلا بدّ له من الجزاء الأخرويّ كما قد عُلم من
(3/86)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشريعة .
وقوله في الكافر : (( لم تكن له حسنةٌ يجزى بها )) ؛ أي : لا يتخلّص من العذاب بسببها ، وأمّا التخفيف عنه بسببها ، فقد يكون على ما قرّرناه ، والله أعلم .
وقوله : (( فلمّا قفَّى )) ؛ أي : ولّى قفاه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنّ أبي وأباك في النار )) جبرٌ للرجل ممّا أصابه ، وإحالة له على التأسّي حتّى تهون عليه مصيبته بأبيه ؛ وذلك لَمَّا حفظ الحرمة ، ولم يقل : أين أبوك ؟ بخلاف من قال ذلك للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال له : ((حيثما مررْتَ بقبر كافر فبشِّرْه بالنار )) ، فكان الرجل يفعل ذلك ، فشقَّ عليه حتّى قال : لقد كلَّفني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شططًا ، ذكره النسائيّ.
167- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ ، يَقُولُ : (( أَلا إِنَّ آلَ أَبِي - يَعْنِي فُلانًا- لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ . إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِح الْمُؤْمِنِينَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ألا إنّ آل أبي فلان )) ، كذا للسمرقنديّ ، ولغيره : (( ألا إنّ آل أبي )) ؛ يعني : فلانًا ، وفي رواية : (( فلانٍ )) على الحكاية ، وهذا كناية ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن قومٍ معينين كره الراوي تسميتهم ؛ لما يُخاف ممّا يقع في نفوس ذراريهم المؤمنين . وقيل : إن الْمَكْنِيِّ هو الحكم ابن أبي العاص . وفائدة الحديث انقطاع الولاية بين المسلم والكافر وإن كان قريبًا حميمًا .
( 67 ) باب يدخل الجنة من أمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبعون ألفًا بغير حساب
(3/87)
168- عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ : أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ ؟ قُلْتُ : أَنَا . ثُمَّ قُلْتُ : أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاةٍ ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ . قَالَ : فَمَاذَا صَنَعْتَ ؟ قُلْتُ : اسْتَرْقَيْتُ . قَالَ : فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قُلْتُ : حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ. قَالَ : وَمَا حَدَّثَكُمُ الشَّعْبِيُّ ؟ قُلْتُ : حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لا رُقْيَةَ إِلا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ . فَقَالَ : قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ. وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنهُ قَالَ : ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كم يدخل الجنّة من أمّة النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغير حساب
قوله : (( لا رقيةَ إلاّ من عين أو حُمَة العين )) : إصابة العائن ، والحمة -بضمّ الحاء وفتح الميم مخفَّفة- : حرقة السُمّ ولذعه ، وقيل : السُمّ نفسه.
قال الخطّابيّ : معنى(4) ذلك : لا رقيةَ أشفى وأولى من رقية العين
(3/88)
((عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ . إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي ، فَقِيلَ لِي : هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ . وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ ، فَنَظَرْتُ ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ . فَقِيلَ لِي : انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ الآخَرِ ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ . فَقِيلَ لِي : هَذِهِ أُمَّتُكَ ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ )) . ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والْحُمّة . وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد رقى ورُقي ، وأمر بها وأجازها ، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله تعالى ، فهي مباحة أو مأمور بها . وإنّما جاءت الكراهية والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب ، فإنّه ربّما كان كفرًا أو قولاً يدخله الشرك . قال : ويحتمل أن يكون الذي يُكره من الرقية ما كان منها على مذاهب الجاهليّة التي كانوا يتعاطونها ، وأنّها تَدفع عنهم الآفات ، ويعتقدون أنّ ذلك من قِبَل الجنّ ومعونتهم . وقد اختلفت الرواية عن مالك في إجازة رقية أهل الكتاب للمسلم ، فأجازها مرّةً إذا رقي بكتاب الله ، ومنعها أخرى ؛ إذ لا يُدرى ما الذي يرقى به .
وقوله : (( فإذا سواد عظيم )) يعني به . أشخاصًا كثيرةً ، ويجمع أَسْوِدَة ، وقد تقدّم .
(3/89)
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ ، فَقَالَ بَعْضُهْمْ : فَلَعَلَّهُمِ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : فَلَعَلَّهُم الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ شيئًا ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ . فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ ؟ )) فَأَخْبَرُوهُ . فَقَالَ : (( هُمِ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ ، وَلا يَسْتَرْقُونَ ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )) . فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ ، فَقَالَ : ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ . فَقَالَ : (( أَنْتَ مِنْهُمْ )) . ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ ، فَقَالَ : ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ . فَقَالَ : (( سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( هم الذين لا يرقون ولا يستَرْقَون ولا يكتوون ولا يتطيّرون )) ، اختلف الناس في معنى هذا الحديث وعلى ماذا يُحمل ، فحمله الإمام المازَرِيّ على أنّهم الذين جانبوا اعتقاد الطبائعيّين في أنّ الأدوية تنفع بطباعها واعتقاد الجاهليّة في ذلك ورقاهم . وهذا غير لائق بمساق الحديث ولا بمعناه ؛ إذ مقصوده إثبات مزيَّةٍ وخصوصيّةٍ لهؤلاء السبعين ألفًا ، وما ذكره يرفع المزيّة والخصوصيّة ، فإنّ مجانبة اعتقاد ذلك هو حال المسلمين كافَّةً ، ومن لم يجانب اعتقاد ذلك ، لم يكن مسلمًا . ثمّ إنّ ظاهر لفظ الحديث إنّما هو : (( لا يرقون ولا يكتوون )) ؛ أي : لا يفعلون هذه الأمور ، وما ذكره خروج عنه من غير دليل .
(3/90)
169- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ )) قَالُوا : مَنْ هُمْ ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ : (( هُمِ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ ، وَلا يَكْتَوُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الداوديّ . المراد بذلك الذين يجتنبون فعله في الصحّة ، فإنّه يُكره لمن ليست به علّة أن يتّخذ التمائم ويستعمل الرقى ، فأمّا من يستعمل ذلك من مرضٍ به ، فهو جائز . وهذا إن صحّ أن يقال في التمائم وفي بعض الرقي ، فلا يصحّ أن يقال في التعويذات ، وهي من باب الرقي ؛ إذ قد يجوز أن يتعوّذ من الشرور كلّها قبل وقوعها . ولا يصح ذلك في التطبب ، فإنه يجوز أن يتحرز من الأدواء قبل وقوعها ، وأمّا الكيّ ، فسيأتي القول فيه إن شاء الله .
وذهب الخطّابيّ وغيره إلى أنّ وجه ذلك أن يكون تركُها على جهة التوكّل على الله والرضا بما يقضيه من قضاء وينزل من بلاء ، قال . وهذه أرفع درجات المتحقِّقين بالإيمان ، قال . وإلى هذا ذهب جماعة من السلف ، وسمّاهم . قال القاضي أبو الفضل عياض . وهذا هو ظاهر الحديث ؛ ألا ترى قوله : (( وعلى ربّهم يتوكّلون )).
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومضمون كلامه أنّه لا فرق بين ما ذكر من الكيّ والرقى وبين سائر أبواب الطبّ ، وقد ذهب غيره إلى أنّ استعمال الرقى والكيّ قادح في التوكّل بخلاف سائر أنواع الطبّ ، فإنّها غير قادحة في التوكّل ، وفرّق بين القسمين بأن قال . باب الرقى والكيّ والطِيَرة موهوم فيقدح ، وما عداها غير موهوم بل محقّق ، فيصير كالأكل للغذاء والشرب للريّ ، فلا يقدح .
قلت : وهذا فاسد من وجهين .
(3/91)
أحدهما : أنّ أكثرَ أبواب الطبّ موهومة كالكيّ ، فلا معنى لتخصيصه بالكيّ والرقى .
وثانيهما : أنّ الرقى بأسماء الله تعالى هو غاية التوكّل على الله تعالى ، فإنّه التجأ إليه ، ويتضمّن ذلك رغبة له وتبرّكًا بأسمائه ، والتعويل عليه في كشف الضُرّ والبلاء .
فإن كان هذا قادحًا في التوكّل ، فليكن الدعاء والأذكار قادحة في التوكّل ، ولا قائل به ، وكيف يكون ذلك وقد رقى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ واسترقى ،
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورقاه جبريل وغيره ورقته عائشة ، وفعل ذلك الخلفاء والسلف ، فإن كان الرقى قادحًا في التوكّل ومانعًا من اللحوق بالسبعين ألفًا ، فالتوكّل لم يتمّ للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا لأحد من الخلفاء ، ولا يكون أحد منهم في السبعين ألفًا مع أنّهم أفضل مَن وافى القيامة بعد الأنبياء ، ولا ينتحل هذا عاقل .
قلت : والذي يظهر لي أنّ القول ما قاله الخطّابيّ وحكاه عن جماعة من السلف ، وذلك ظاهر في الطيرة والكيّ ، فإذا دفع الطيرة عن نفسه ولم يلتفت إليها بالتوكّل على الله ، كان في المقام الأرفع من التوكّل ؛ لأنّ الطيرة قد تلازم قلب الإنسان ولا يجد الانفكاك عنها ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث سئل عن الطيرة فقال : (( ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدّنّكم )) .
فإذا استعمل المؤمن الإعراض عنها والتفويض إلى الله في أموره ، ذهب ما كان يجده منها ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود : (( الطيرة شرك ، الطيرة شرك )) ثلاثًا ، (( وما منّا إلا ، ولكنّ
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الله يذهبه بالتوكّل )).
وقوله : (( إلاّ )) يعني به استثناء ما يجده الإنسان منها في نفسه الذي قال فيه : (( ذاك شيء يجدونه في صدورهم )).
(3/92)
وأمّا الكيّ ، فالمأمون منه جائز ، وقد كوي النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُبيًّا يوم الأحزاب على أكحله لما رمي. وفي البخاريّ عن ابن عبّاس أنّ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( الشفاء في ثلاث : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كيّة بنار ، وأنا أنهى أمّتي عن الكيّ )) ، وفي حديث جابر : (( وما أُحِبُّ أن ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أكتوي )). وعلى هذا فالمأمون من الكيّ وإن كان نافعًا جائزًا ، إلاّ أنّ تركه خير من فعله ، وهذا معنى نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه ، وسببه أنّه تعذيب بعذاب الله ، وقد قال : (( لا تُعذِّبوا بعذاب الله )) ؛ يعني : النار . وبهذا ينفرد الكيّ ولا يُلحق به التطبُّب بغير ذلك في الكراهة ، فإنّ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تطبَّب وطبّ ، وأحال على الطبيب وأرشد إلى الطبّ بقوله : (( يا عبادَ الله ! تداووا ، فإنّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء )).
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأمّا الرقي والاسترقاء ، فما كان منه من رقي الجاهليّة أو بما لا يعرف ، فواجب اجتنابه على سائر المسلمين ، وتركه حاصل من أكثرهم ، فلا يكون اجتناب ذاك هو المراد هنا ، ولا اجتناب الرقي بأسماء الله وبالمرويّ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لما قدّمناه من أنّه التجإ إلى الله تبارك وتعالى وتبرّك بأسمائه .
(3/93)
ويظهر لي - والله أعلم - أنّ المقصود اجتناب رقي خارج عن القسمين ، كالرقي بأسماء الملائكة والنبيّين والصالحين ، أو بالعرش والكرسيّ والسماوات والجنّة والنار وما شاكل ذلك ممّا يعظَّم ، كما قد يفعله كثير ممن يتعاطى الرقي ، فهذا القسم ليس من قبيل الرقي المحظور الذي يعمّ اجتنابه ، وليس من قبيل الرقي الذي هو التجاء إلى الله تعالى وتبرُّك بأسمائه ، وكأنّ هذا القسم المتوسط يُلحق بما يجوز فعله ، غير أنّ تركه أولى ؛ من حيث إنّ الرقي بذلك تعظيم ، وفيه تشبيه للمَرقيِّ به بأسماء الله تعالى وكلماته ، فينبغي أن يُجتنب لذلك . وهذا كما نقوله في الحلف بغير الله تعالى ، فإنّه ممنوع ، فإنّ فيه تعظيمًا لغير الله تعالى بمثل ما يعظّم به الله تعالى ، والله أعلم .
فهذا ما ظهر لي ، فمن ظهر له ذلك فليقلْه شاكرًا ، وإلا ، فليتركْه
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عاذرًا . وسيأتي الكلام في اشتقاق لفظ الطِيَرَة في كتاب الصلاة ، إن شاء الله تعالى .
وقوله : (( وعلى ربّهم يتوكّلون )) ، (( التوكّل )) لغةً : هو التعاجز عن أمر ما ، والاعتماد فيه على من يثق به ، والاسم التكلان ، يقال منه . اتّكلْتُ عليه في أمري ، وأصله أوْتَكلْت ، قُلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها ، ثمّ أُبدل منها التاءُ وأُدغمت في تاء الافتعال . ويقال . وكّلْتُه بأمر كذا توكيلاً ، والاسم الوِكالة بكسر الواو وفتحها .
واختلف العلماء في التوكّل وفيمن يستحِقّ اسم المتوكِّل على الله تعالى ، فقالت طائفة من المتصوِّفة . لا يستحقّه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سَبُع أو غيره ، وحتّى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى .
(3/94)
وقال عامّة الفقهاء . إنّ التوكّل على الله تعالى هو الثقة بالله والإيقان بأنّ قضاءه ماضٍ ، واتّباع سنّة نبيّه في السعي فيما لا بدّ منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرّز من عدوّ وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنّة الله تعالى المعتادة . وإلى هذا ذهب متحقِّقو المتصوِّفة ، لكنّه لا ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستحقّ اسم المتوكّل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب ، والالتفات إليها بالقلوب ، فإنّها لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًّا ، بل السبب والمسبّب فعل الله تعالى ، والكلّ منه وبمشيئته . ومتى وقع من المتوكِّل ركون إلى تلك الأسباب ، فقد انسلخ عن ذلك الاسم .
ثمّ المتوكِّلون على حالين :
الحال الأوّل : حال المتمكِّن في التوكُّل ، فلا يَلتفِت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه ، ولا يتعاطاها إلاّ بحكم الأمر .
الحال الثاني : حال غير المتمكِّن ، وهو الذي يقع له الالتفات إلى الأسباب أحيانًا ، غير أنّه يدفعها عن نفسه بالطرق العلميّة والبراهين القطعيّة والأذواق الحاليّة ، فلا يزال كذلك إلى أن يُرقِيَه الله بجوده إلى مقام المتمكِّنين ، ويلحقه بدرجات العارفين .
وقوله : (( فقام إليه عُكّاشة بن مِحصَن فقال : ادع اللهَ يجعلُني منهم )) ، (( عكاشة )) هذا هو بضمّ العين وتشديد الكاف ، قال ثعلب . وقد يُخفَّف.
قلت : ولعلّه منقول من عُكاشة اسمٍ لبيت النمل بالتخفيف ، أو مأخوذ من عَكِش الشَعر وتعكَّش إذا التوى .
وعُكاشة هذا من أفاضل الصحابة وخيارهم وشجعانهم ، له ببدر المقام المشهود والعَلَم المنشور ، وذلك أنّه ضرب بسيفه في الكفّار حتّى انقطع ، فأعطاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جِذْل حطب فأخذه فهزّه فعاد في يده ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/95)
سيفًا صارمًا ، فقاتل به حتّى فتح الله على المسلمين . وكان ذلك السيف يسمَّى العون ، ولم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتّى قُتل عُكاشة في الردّة وهو عنده ، قتله طُليحة الأسديّ ، وهو الذي قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( منّا خيرُ فارسٍ في العرب )) ، قالوا . ومن هو يا رسول الله ، قال : (( عُكاشة بن محصن )).
ولقوّة يقينه وشدّة حرصه على الخير ورغبته فيما عند الله سبق الصحابةَ كلَّهم بقوله : (( ادع الله أن يجعلني منهم )). ولمّا لم يكن عند القائم بعده من تلك الأحوال الشريفة ما كان عند عُكاشة ، قال له : ((سبقك بها عُكاشة )) ، وأيضًا فلئلاّ يطلبَ كلّ من هناك ما طلبه عُكاشة ، والآخر ، ويتسلسل الأمر ، فسدّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الباب بقوله : ((سبقك بها )). وهذا أولى من قول من قال إنّ الرجل كان منافقًا ؛ لوجهين :
أحدهما : أنّ الأصل في الصحابة صحة الإيمان والعدالة ، فلا يُظنُّ بأحد منهم شيءٌ يقتضي خلاف ذلك الأصل ، ولا يُسمع إلاّ بالنقل
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح . وأمّا بالتقديرات والتخمينات ، فلا .
والثاني : أنّه قلّ أن يصدر مثل ذلك السؤال من منافق ، فإنّه لا يصدر غالبًا إلاّ عن تصديق صحيح ويقين بما عند الله تعالى.
( 68 ) باب أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ شطر أهل الجنة
(3/96)
170- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يَقُولُ اللهُ : يَا آدَمُ ! فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ ! وَسَعْدَيْكَ ! وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ! قَالَ : يَقُولُ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ . قَالَ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ . قَالَ : فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ ، { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَترَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} قَالَ : فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ ؟ فَقَالَ : ((أَبْشِرُوا ، فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا ، وَمِنْكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أمّة محمّد ـ صلى الله عليه وسلم ـ شطر أهل الجنّة
قول الله تعالى لآدم : (( اخرجْ بعث النار )) ، إنّما خصّ بذلك آدم ؛ لكونه أبًا للجميع ، ولأنّ الله تعالى أطلعه على نسم بنيه أهل الجنّة وأهل النار ، كما تقدّم في حديث الإسراء.
رَجُلٌ )) قَالَ : ثُمَّ قَالَ : (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ )) فَحَمِدْنَااللهَ وَكَبَّرْنَا . ثُمَّ قَالَ : (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ )) فَحَمِدْنَا اللهَ وَكَبَّرْنَا . ثُمَّ قَالَ : (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ . إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/97)
و (( بعث النار )) : من يبعث إليها ، وكذلك بعث أهل الجنة . ومعنى ((أخرج )) هنا : مُرّ من يخرج ، وتمييز بعضهم عن بعض ، وذلك يكون في الحشر حيث يجتمع الناس ويختلطون ، والله أعلم .
ويحتمل أن يكون معنى أخرج ؛ أي : احضر إخراجهم ، فكأنهم يعرضون عليه بأشخاصهم وأسمائهم ، كما قد عرضت عليه نسمهم .
وقوله : (( وما بعث النار ؟ )) وضعت هنا (( ما )) موضع ((كم )) العددية ؛ لأنه أجيب عنها بعدد ، وأصل (( ما )) أن يسال بها عن ذوات الأشياء وحدودها . ولَمَّا سمع أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ألفًا إلا واحدًا للنار ، وواحدًا للجنة ، اشتد خوفهم لذلك ، واستقلوا عدد أهل الجنة ، واستبعد ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل واحد منهم أن يكون هو ذلك الواحد ، فسكّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خوفهم ، وطيَّب قلوبهم ، فقال : (( أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفًا ومنكم رجل )) ؛ ويعني بالألف هنا : التسعمائة والتسعة والتسعين المتقدمة الذكر.
و (( يأجوج ومأجوج )) : قوم كفار وراء سد ذي القرنين . والمراد بهم في هذا الحديث : هم ومن كان على كفرهم ، كما أن المراد بقوله : (( منكم )) : أصحابه ومن كان على إيمانهم ؛ لأن مقصود هذا الحديث : الإخبار بقلة أهل الجنة من هذه الأمة بالنسبة إلى كثرة أهل النار من غيرها من الأمم ، ألا ترى أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، أو كالرّقمة في ذراع الحمار )) ؛ يدل على ذلك المقصود . وأما نسبة هذه الأمّة إلى من يدخل الجنة من الأمم ، فهذه الأمة شطر أهل الجنة كما نص عليه.
و (( الشطر )) هنا : النصف ، يقال . شاطرْتُه مُشاطَرَةً ، إذا قاسمْتُه(5) فأخذتُ نصفَ ما في يديه .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/98)
والرقمتان للفرس والحمار الأثرانِ بباطن أعضادهما ، والرقمتانِ للشاة هَنَتَان في قوائمها متقابلتانِ كالظفرين .
و (( لبّيْك )) معناه : إجابةً لك بعد إجابة ، و(( سَعْدَيْك )) معناه : مساعدة بعد ، وكلاهما منصوبٌ على المصدر ، ولم تستعمل العرب له فعلاً من لفظه يكون صدره .
وقوله : (( والخير في يديْك )) أي : تملكه أنت لا يملكه غيرك ، وهذا كقوله تعالى : { بيدك الخير إنّك على كلّ شيءٍ قديرٌ } ، ومعناه : بيدك الخير والشرّ ، لكن سكت آدم عن نسبة الشرّ إليه تعالى ؛ مراعاة لأدب الحضرة ، ولم ينسب الله ذلك ؛ تعليمًا لنا مراعاة الأدب واكتفاء بقوله { إنّك على كلِّ شيءٍ قديرٌ }(3) ؛ إذ قد استغرق كلّ الموجودات الممكنات .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إنّي لأَطمعُ أن تكونوا شطرَ أهل الجنّة )) ، هذه الطماعية قد حُقِّقتْ له بقوله : { ولسوف يعطيك ربُّك فترضى } ، وبقوله : (( إنّا سنُرضيك في أمّتك )) ، كما تقدّم ، لكن علّق هذه البُشرى على الطمع ؛ أدبًا مع الحضرة الإلهيّة ووقوفًا مع أحكام العبوديّة .
كمُل كتابُ الإيمان والحمد لله ، يتلوه كتاب الطهارة
(3/99)
كتاب الطهارة
(1) باب فضل الطهارة وشرطها في الصلاة
163 - عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص) : ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ -أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَالصَّلاةُ نُورٌ ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو ، فَبَائعٌ نَفْسَهُ ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كَشفِ مشكل كتاب الطهارةِ
من باب فضل الطهارة
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الطهور شطر الايمان )) ، الطَّهُور بفتح الطاء : الاسم ، وبضمها : المصدر ، ومنه قوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا }.
وكذلك الوضوء والوقود والوَجور والفطور الفتح للاسم ، والضم للمصدر .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحكي عن الخليل ني الوضوء الفتح فيهما ، ولم يعرف الضم ، قال ابن الأنباري : والأول هو المعروف والذي عليه أهل اللغة .
فأما الغسل فالنتح للمصدر ، والضم للماء ، عكس الوضوء ، على ما حكاه الجوهري ، وقد قيل في الغسل ما قيل في الوضوء .
والطهور والطهارة مصدران بمعنى : النظافة . تقول العرب : طَهَرَ الشيء : بفتح الهاء وضمها ، يطهُر بضَمِّها لا غير طهارةً وطهورًا ، كما تقول : نظف ينظف نظافةً ، ونزه ينزه نزاهَةً ، بضمها لا غير ، وهي التنزه عن المستخبثات المحسوسة والمعنوية ، كما قال تعالى : { إنما يريد ليذهب عنكم الرجس أهل البَيتِ ويطهركم تطهيرًا }.
والشطر : النصفُ ، وقد تقدم ، والشطر أيضًا : النّحو والقَصد ، ومنه : { شطر المسجد الحرام } ، وقول الشاعِر :
أقول لأم زنباع أقيمي صدُور العيس شطرَ بني تميم
(3/100)
أي : نحوهم ، ويقال : شطر عنه ؛ أي : بعُدَ ، وشطر إليهِ ؛ أي : أقبل.
والشاطر من الشبان : البعيد من الخير .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد اختُلِف في معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الطَهُور شطر الإيمان )) ؛ على أقوالٍ كثيرةٍ :
أولاها : أن يقال : إنه أراد بالطهور الطهارةَ من المستخبثات الظَاهرِة والباطنةِ. والشطرُ : النصف ، والإيمان هاهنا : هو بالمعنى العام ، كما قد دللنا عليه بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الإيمان تصديق بالقلب ، واقرارٌ باللسان ، وعملٌ بالأركان )).
ولا شك أن هذا الإيمان ذو خصال كثيرة ، وأحكام متعددةٍ ، غير أنها منحصرةٌ فيما ينبغي التنزه والتطَهر منه ، وهي كل ما نهى الشرع عنه ، وفيما ينبغي التلبس والاتصاف به ، وهي : كل ما أمر الشَّرعُ به ، فهذان الصنفان عبر عن أحدهما بالطهارة على مستعمل اللغة ، وهذا كما قد ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روي مرفُوعًا : (( الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر )) ، وقد قيل : إن الطهارة الشرعية لما كانت تكفر الخطايا السابقة كانت كالإيمان الذى يجبُّ ما قبله ؛ وكانت شطر الإيمان بالنسبة إلى محو الخطايا ، وهذا فيه بعدٌ ؛ إذ الصلاة وغيرها من الأعمال الصالحة تكفر الخطايا ؛ فلا يكون لخصوصية الطهارة بذلك معنًى . ثم لا يصح أيضًا معنى كون الطهارة نصف الإيمان بذلك الاعتبار ؛ لأنها إنما تكون مثلاً له في التكفير ، ولا يقال على مثل الشيء : شطره ، وقيل : إن الإيمان هنا يراد به الصلاة ، كما قال تعالى : { وماكان الله ليضيع إيمانكم } ؛ أي : صلاتكم على قول المفسرين ، ومعناه على هذا : أن الصلاة لما كانت مفتقرة إلى الطَّهارة كانت كالشطر لها ، وهذا أيضًا فاسد ؛ إذ لا يكون شرط الشيء شطره ،
(3/101)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا لغة ولا معنًى ، فالأولى التأويل الأول ، والله أعلم .
فإن قيل : كل ما ذكرتم مبني على أن المراد بالطهور : الطهارة ، وذلك لا يصخ ؛ لأنه لم يروه أحدٌ فيما علمناه : الطُّهور ، بالضم ، وإنما روي بالفتح ، فاذأ هو الاسم على ما تقدم . قلنا : يصح أن يقال : يحمل هذا على مذهب الخليل كما تقدَّم ، ويُمكن حمله على المعروف ، ويراد به استعمال الطَّهور شطر الايمان .
وقوله : (( والحمد لله تملأ الميزان )) ، قد تقدم معنى الحمد ، وأنه راجعٌ إلى مُثنى مَّا بأوصاف كماله ، فإذا حمد الله حامدٌ مستحضرًا معنى الحمد في قلبه امتلأ ميزانه من الحسنات ، فإن أضاف إلى ذلك : سبحان الله ، الذي معناه تبرئة الله ، وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من النقائص ، ملأت حسناته وثوابها زيادة على ذلك (( ما بين السموات والأرض )) ؛ إذ الميزان مملوء بثواب التحميد ، وذكر السموات والأرض على جهة الإغياء على العادة العربية ، والمرادُ : أن الثواب على ذلك كثيرٌ جدًّا ،
بحيت لو كان أجسامًا لَمَلأ ما بين السموات والأرض .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( والصلاة نور )) ، معناه : أن الصلاةَ إذا فعلت بشروطها : المصححة والمكملة نوّرت القلب ؛ بحيث تشرق فيه أنوار المعارف والمكاشفات ، حتى ينتهي أمر من يراعيها حق رعايتها أن يقول : ((وجعلت قرة عيني في الصلاة )). وأيضًا : فإنها تنوِّر بين يدي مراعيها يوم القيامة في تلك الظلم ، وأيضًا : فيتنوَّر وجه المصلي يوم القيامة ، فيكون ذا غرةٍ وتحجيل ، كما قد ورد في حديث عبدالله بن بسر مرفوعًا : (( أمتي يوم القيامة غر من السجود محجلون من الوضوء )).
وقوله : (( والصدقة برهان )) ؛ أي : على صحة إيمان المتصدق ، أو على
(3/102)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات ، أو على صحة محبةِ المتصدق لله تعالى ، ولما لديه من الثواب ؛ إذ قد آثر محبة الله تعالى وابتغاء ثوابه ، على ما جُبل عليه من حُبّ الذهب والفضّة ؛ حتى أخرَجُه لله تعالى .
وقوله : (( والصبر ضياء )) ، كذا صحت روايتنا فيه ، وقد رَوَاهُ بعض المشايخ : (( والصوم ضياء )) بالميم ، ولم تقع لنا تلك الرواية ، على أنه يصح أن يُعبر بالصبر عن الصوم ، وقد قيل ذلك في قوله تعالى : {واستعينوا بالصبر والصلاة } ، فإن تنزلنا على ذلك ؛ فيقال في كون الصبر ضياء ؛ كما قيل في كون الصلاة نورًا ، وحينئذ لا يكون بين النور والضياء فرق(2) معنوي بل لفظي .
والأولى أن يقال : إن الصبر في هذا الحديث غير الصوم ؛ بل هو الصَّبر على العبادات والمشاق والمصائب ، والصبر عن المخالفات ، والمنهيات ، كاتباع هوى النفس والشهوات وغير ذلك ، فمن كان صابرًا في تلك الأحوال ، متثبتًا فيها ، مقابلاً لكُلِّ حالٍ بما يليق به ضاءت له عواقب أحواله ، ووضحت له مصالح أعماله ، فظفر بمطلوبه ، وحصل له من الثواب على مرغوبه ، كما قيل :
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَل من جدَّ في أمر تطلبه واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
وقوله : (( والقرآن حجة لك أو عليك )) ؛ يعني : أنك إن امتثلت أوامره واجتنبت نواهيه كان حجَّة لك في المواقف التي تسال فيها عنه ، كمساءلة الملكين في القبر ، والمساءلة عند الميزان ، وفي عقبات ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/103)
الصراط ، وإن لم تمتمل ذلك احتجّ به عليك ، ويحتمل أن يراد به : أن القرآن هو الذي يُنتهى إليه عند التَنازُع في المباحث الشرعيَّة والوقائع الحكمية ، فبه تَستَدلُّ على صخة دعواك ، وبه يستدل عليك خصمك .
وقوله : (( كل الناس يغدو ... )) الحديث . يغدو ؛ بمعنى : ينكر ، يقال : غدا إذا خرج صباحًا في مصالحه ، يغدو . وراح : إذا رجع بعشي ، ومعنى ذلك أن كل إنسان يصبح ساعيًا في أموره مُتصرفًا في أغراضه ، ثم إما أن تكون تصرفاته بحسب دواعي الشرع والحق ، فهو الذي يبيع نفسه من الله ، وهو بيع آيل إلى عتق وحرية ، كما قال : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة }. وإما أن تكون تصرفاته بحسب دواعي الهوى والشيطان ، فهو الذى باع نفسه من الشيطان فأوبقها ؛ أي : أهلكها ، ومنه : { أو يوبقهن بما كسبوا}.
164 - وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ ؛ قَالَ : دَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ عَامِرٍ يَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ ، فَقَالَ : أَلا تَدْعُو اللهَ لِي يَا ابْنَ عُمَرَ ؟ قَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : ((لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ ، وَلا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ )) ، وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومثله قول ابن مسعود : (( الناس غاديان ، فبائغ نفسه فموبقها ، أو مفاديها فمعتقها ))(.
وقوله : (( لا تُقبل صلاةٌ بغير طهور )) ؛ دليلٌ لمالكٍ وابن نافع على قولهما : إن من عدم الماء والصَعيدَ لم يصلِّ ، ولم يقضِ إن خرج وقت ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصلاة ؛ لأن عدم تبولها لعدم شرطها يدلّ على أنه ليس مخاطبًا بها حالة عدم شرطِها فلا يترتب شيء في الذمة ، فلا يقضي ؛ وعلى هذا فتكون الطهارة من شروط الوجوب .
(3/104)
واختلف أصحاب مالك في هذه المسألة لاختلافهم في هذا الأصل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
و (( الغلول )) هنا : الخيانة مطلقًا ، أو المال الحرام .
وذِكْر ابن عمر هذا الحديث حين سأله في الدعاء له ، إنما كان على جهةِ الوعظ والتذكير ، حتى يخرج عن المظالم ، وكأنه يشير له إلى أن الاعاء مع الاستمرار على المظالم لا ينفع ، كما الدعاء مع الاستمرار على الظالم لا ينفع ، كما لا تنفع صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول .
وقوله : (( وكنتَ على البَصرَة )) ؛ تنبيه على الزمان الذي تعلقت به فيه الحقوق ، حتى يحاسب نفسه على تلك المدة ، فيتخلص مما ترتب عليه فيها.
165 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تُقْبَلُ صَلاةُ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ ، حَتَّى يَتَوَضَّأَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) ، أحدث هنا كناية عما يخرج من السبيلين معتادًا في جنسه وأوقاته ، عند مالكٍ وجُلِّ أصحابه .
وقال ابن عبدالحكم والشافعي : المعتبر الخارج النجس من المخرجين. وقال أبو حنيفة : المعتبر الخارج النجس وحده ، فمن أي مَحلٍّ خرج نقض وأوجب.
*************
(2) باب في صفة الوضوء
(3/105)
166 - عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ ؛ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ ، فَتَوَضَّأَ ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَق ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسَهُ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ، لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ : هَذَا الْوُضُوءُ أَسْبَغُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدٌ لِلصَّلاةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب في صفة الوضوء
قوله : (( ثلاث مرات )) هو تعديد الغسلات لا تعديد الغرفات كما ذهب إليه بعضهم ، وليس بشيءٍ ؛ إذ لم يجر للغرفات في هذا الحديث ذِكْرٌ ، وإنما قال : (( غسل يديه ثلاث مرات )). وثلاث : منصوبٌ نصب المصدر لإضافته إليه فكأنه قال : غسلات ثلاثًا ، ومن ضرورة ذلك تعديد 167- وَعَنْ أَبِي أَنَسٍ ؛ أَنَّ عُثْمَانَ تَوَضَّأَ بِالْمَقَاعِدِ فَقَالَ : أَلا أُرِيكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَلاثًا ثَلاثًا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغرفات. والمضمضة : وضعُ الماء في الفم ، وخَضخضتُهُ فيه ، والاستنثار : إيصال الماء إلى الأنف ونثره منه بنَفَسٍ أو بإصبعيه ، وسمي : استنثارًا بآخرِ الفعل ، وقد يسمى : استنشاقًا بأولهِ ، وهو استدعاء الماء بنفس الأنف .
(3/106)
وقوله : (( هذا الوضوء أسبغ )) ؛ أي : أكمل ، والدرع السابغ : الكامل ، وقد يقال على هذا ، فكيف يكون هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحدٌ ، ولم يذكر فيه مسح الأذنين ؟
والجوابُ : أن اسم الرأس تضمنهما ، والله أعلم .
و (( المقاعد )) : دكاكين ومواضع كانوا يقعدون عليها ، وكانت بقرب المسجد .
وقوله : (( ثلاثًا ثلاثًا )) ؛ تمسّك به الشافعي في استحبابه تكرار مسح الرأس بمياهٍ متعددةٍ كالأعضاء المغسولة .
وخالفه في ذلك مالك وأبو حنيفة ، ورأيا : أن هذا اللفظ مخصصٌ ، أو مبتين بما ورد من حديث عثمان نفسه ، حيث ذكر أعضاء الوضوء مفضلةً ، وقال فيها : (( ثلاثًا ثلاثًا )) ، ولم يذكر لمسح الرأس عددًا ، وليس في شيء من أحاديث عثمان الصحاح ؛ ذكر أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسح رأسه ثلاثًا ،
168 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ النَبْي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلِيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على ما قاله أبوداود ، بل قد جاء في حديث عبد الله بن زيد : أنه (( مسح رأسه مرة واحدة )) ، وعضد هذا بإبداء مناسبةٍ ، وهي : أن المسح شرع تخفيفًا ، وفرض مشروعية التكرار فيه تثقيلٌ ، فلا يكون مشروعًا .
وقوله : (( عن أبي أنس )) هو مالك بن أبي عامر الأصبحي ، قال أحمد ابن حنبل : وهم وكيعٌ في قوله : عن أبي أنس ، وإنما هو أبو النضر عن بُسر بن سعيد عن عثمان ، وقال الدارقطني : هذا مما وهم فيه وكيع عن الثوري ، وخالفه بقية أصحاب الثوري الحفاظ فرووه عن : الثوري ، عن أبي النضر ، عن بسر بن سعيد ، عن عثمان .
وقوله : (( لا يحدث فيهما نفسه )) ؛ حديثًا مكتسبًا له ؛ بحيث يتمكن من إيقاعه ودفعه ، فأما ما لا يكون مكتسبًا للإنسان ، فلا يتعلق عليه ثواب ولا عقاب .
وقوله : (( ثم ليستنثر )) : متمسك لأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور على
(3/107)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجوب الوضوء الاستنشاق في الوضوء والغسل . والجمهور على أن ذلك من السُّنن فيهما ، متمسكين بأن فروض الوضوء محصورة في آية الوضوء ، بدليل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأعرابي : (( توضأ كما أمرك الله )). وليس في الآية ذكر الاستنثار ؛ وبدليل أنه قد صح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه اقتصر في وضوئه على الأعضاء الأربعة ، ولم يزد عليها ، وذلك يدل على أن غيرها من الأعضاء ليس فعله بواجبٍ ، وهذه عمدة أصحابنا في حكمهم بحصر فُروض الوضوء في ستة ، فإن النية مفهومة من قوله : { إذا قمتم } ؛ أي : إذا أردتم القيام ، والماء المطلق من قوله : { فلم تجدوا ماءً }(1) ، ومن تضمن الغسل له ، والأربعة الأعضاء المنصوص عليها في الآية ، وما عدا ذلك من أحكام الوضوء مأخوذ من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فمنه : متأكدٌ ، 169- وَعَنْهُ ؛ عَنِ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاثًَا ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويسمى : سنة ، وغير متأكد ، ويسمى : فضيلة ، كما هو معروف في كتب أصحابنا .
وقوله : (( من استجمر فليوتر )) ، الاستجمار : هوالتمسح من الغائط بالجمار ، وهي : الأحجار الصغار ، ومنه : الجمار التي ترمى في الحج ، وقد نص عليها في حديث سلمان ، وقال أبو الحسن بن القصار : ويجوز أن يقال : إنه أُخذ من الاستجمار بالبخور ؛ لأنه يزيل الرائحة القبيحة .
وقد اختلف قول مالكٍ وغيره في معن الاستجمار في هذا الحديث . فقيل ما تقدم ، وقيل : هو البخور ، فيجعل منه ثلاث قطعٍ ، أو يأخذ منه ثلاث مرات ، واحدةً بعد أخرى ، والأول أظهر .
(3/108)
وقوله : (( فإن الشيطان يبيت على خياشيمه )) ، هو جمع خيشوم ، وهو أعلى الأنف ، وقيل : الأنف كله ، ويحتمل البقاء على ظاهره كما ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جاء : أن الشيطان يدخل إذا لم يكظم المتثاوب فاه ، ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عما ينعقد من رطوبة الأنفِ وقَذره الموافقة للشيطان ، وهذا على عادة العرب في نسبتهم المستخبث والمستشنع إلى الشيطان ، كما قال تعالى : { كأنه رءوس الشياطين } ، وكما قال الشاعر :
ومسنونة زرقٌ كأنياب أغوالِ
وهي الشياطينُ ، ويحتمل أن يكون ذلك عبارةً عن القيام إلى الصلاة كما قال عليه الصلاة والسلام : (( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد )). وبكون أمره بالاستنثار أمرًا بالوضوء كما قد جاء مفسرًا في غير كتاب مسلم : (( فليتوضأ ، وليستنثر ثلاثًا ، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه )).
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في الحديث قبله : (( ومن استجمر فليوتر )) ؛ تمسك به من يراعي عدد الاستجمار الثلاث مع الإنقاء ، وهو قول أبي الفرج ، وابن شعبان من أصحابنا . والشافعي وأصحابه صائرين إلى أن أقل الوتر هنا ثلاث ، بدليل حديث سلمان ؛ حيث نهى أن يستنجى بأقل من ثلاثة أحجار.
والجمهور يستحتون الوتر ؛ بدليل قوله : (( الاستجمار تَوٌّ )) ؛ أي : وترٌ ، ولا يشترطون عددًا ، بل الإنقاء إذا حصل هو المقصود الأصلي ، وقد استدعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة أحجار ، فأتي بحجرين وروثةٍ ، فأخذ الحجرين وألقى الروثة .
وقد جاء عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كتاب أبي داود : (( إذا استجمر أحدكم فليستجمر بثلاثة أحجار ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا ، فلا حرج )). وإنما جرى ذكر الثلاث في الأحجار ، إما لأن الإنقاء يحصل بها غالبًا ،
(3/109)
...................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإما لأن الاثنين للصفحتين ، والثالث للوسط ، والله أعلم .
...................................................................
170 - وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الأَنْصَارِيِّ- وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ : قِيلَ لَهُ : تَوَضَّأْ لَنَا وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَدَعَا بِإِنَاءٍ فَأَكْفَأَ مِنْه عَلَى يَدَيْهِ ، فَغَسَلَهُمَا ثَلاثًا ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثًا ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث عبدالله بن زيد : (( وقيل له : توضأ لنا وضوء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فتوضأ )). المعلم للوضوء إذا نوى به رفع الحدث أجزأه ، فإن لم ينو لم يُجزه عند من يشترط النية على ما يأتي ، وكذلك المتعلمُ .
(3/110)
وقوله : (( فغسلهما ثلاثًا )) ؛ حجة لأشهب في اختياره في غسلهما الإفراغ عليهما معًا ، وقد روى ابن القاسم عن مالك : أنه استحب أن يفرغ على يده اليمنى فيغسلها ، ثم يدخلها ويصب بها على اليسرى ، محتجًّا بقوله في "الموطأ" في هذا الحديث : (( فأفرغ على يديه وغسلهما زَادَ فِي أُخْرى : فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ .
وَفِي أُخْرى : فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ مِنْ ثَلاثِ غَرَفَاتٍ . وَفِيهْا : فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِهِ وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً .
وَفِي أُخْرى : وَمَسَحَ بِرَأسِهِ بِماءٍ غَيْر فَضْل يَديْهِ ، وَغَسَلَ رِجلَيْهِ حَتْى أَنْقَاهُمْا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرتين مرتين )). وقد يكون منشأ الخلاف في هذا الفرع الخلاف في غسلهما ، هل هو عادة فيغسل كل عضو منهما بانفراده كسائر الأعضاء ، أو هو للنظافة فيغسلان مجموعين .
وقوله : (( فمضض واستنشق من كف واحدة ، فعل ذلك ثلاثًا )) ؛ أي : جمع بين المضضة والاستنشاق في كف واحدة. وفعل ذلك ثلاثًا من ثلاث غرفات ، كما بينه في رواية ابن وهبٍ ، فإنه قال : (( فمضمض واستنشق من ثلاث غرفات )).
وقد اختلف في الأَوْلى من ذلك عن مالك والشافعي ، فقيل : الأولى عندهما : جمعهما في غرفة واحدة ، والإتيان بها كذلك في ثلاث غرفات ، وقيل : بل الأولى عندهما إفرادُ كلِّ واحدةٍ منهما متفرقين ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بثلاث غرفات ، ويشهد للأولى رواية ابن وهب ، والثاني ما في كتاب أبي داود من قوله : (( فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق )).
(3/111)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل : بل يفعلان معًا ثلاث مرات من غرفة واحدة ، كما روى البخاري قال : (( فمضض واستنشق ثلاثًا من غرفة )).
وقوله : (( ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه )) ؛ ظاهِرُه : أنه أدخل يدَهُ الواحدة في الماء فأفرغ بها على اليسرى . وهو أحد القولين عندنا ، وأنه كذلك يفعل في جميع الأعضاء .
وفي البخاري في بعض طرق هذا الحديث : (( ثم أدخل يديه فاغترف بهما )). وهذا حجة لاختيار مالك في هذه المسألة ، وكذلك القول في غرفة مسح الرأس .
وفي البخاري : (( ثم أخذ بيديه ماء فمسح برأسه )). واختلف عن مالك في حدِّ الوجه طولاً وعرضًا . فأما الطول فمن منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن مُطلقًا ، للأمردِ والملتحي . وقيل : إلى آخر اللحية للملتحي . وأما حدُّه عرضًا ؛ فمن الأذن إلى الأذن . وقيل : من العذار ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى العذار ، وقيل : بالفرق بين الأمرد والملتحي ، وسبب هذا الخلاف : الاختلاف في اسم الوجه والمواجهة على ماذا يقعان ؟
وقوله : (( فغسل يديه إلى المرفقين )) ، المرفق : هو العظم الناتئ في آخر الذراع ، سمي بذلك ؛ لأنه يرتفق عليه ، أي : يُتَّكأُ ويُعتمدُ . واختلف فيهما : هل يدخُلانِ في الغسل أم لا ؟
(3/112)
وسببه : توهم الاشتراك في "إلى" وذلك أنها لانتهاء الغاية في الأصل ، وقد تأتي بمعنى : "مع" في مثل قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ، وفي قوله : { من أنصاري إلى الله }. وفي قول العرب : (( الذود إلى الذود إبلٌ )) ، والأصل فيها : انتهاء الغاية ، فيجب أن تحمل عليه . وبمكن أن يقال : إن "إلى" وإن كانت لانتهاء الغاية فهي محتملة لدخول الغاية فيما قبلها ، والذي يرفع الخلاف فيها ما حكي عن سيبويه : أن الغاية إن كانت من جنس ذي الغاية دخلت فيه ، وإن لم تكن لم تدخل ، مثال ذلك : أن تقول : بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة ، والمبيع شجرٌ ، فلا شيء في دخول الشجرتين في جملة الشجر المبيعة ، وإن كان المبيع أرضًا لم يدخلا فيه ، والله تعالى أعلم .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين )) ؛ دليل على عدم كراهة الشفع في الغسلات ، ولا خلاف أنه يجوز الاقتصار على الواحدة إذا أسبغ ، وأن الاثنتين أفضل من الاقتصار على الواحدة ، وأن الثلاث أفضل من الاثنتين ، وأن الزيادة على الثلاث ممنوعةٌ ، إلا أن يفعل بنية تجديد الوضوء ، فإن أبا حنيفة أجاز ذلك ، وعندنا أنه لا يصح له التجديد حتى يفعل بذلك الوضوء صلاةً ، وسيأتي .
وقد كره مالك الاقتصار على الواحدة للجاهل ؛ لما يخاف من تفريطه ، وللعالم لئلا يقتدي به الجاهل .
(3/113)
وقوله : (( فمسح برأسه )) الباء في "برأسه" باء التعدية ؛ التي يجوز حذفها وإثباتها ، كقولك : مسحت برأس اليتيم ، ومسحتُ رأسَهُ ، وكقولهم : نصحت له ، ونصحته ، وشكرت له ، وشكرته ، وسميت ابني بمحمد ومحمدًا ، ولا يصح أن تكون للتبعيض ، خلافًا للشافعي ؛ لأن المحققين من أئمة النحويين البصريين وأكثر الكوفيين أنكروا ذلك ، ولأنها ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لو كانت للتبعيض لكان قولك : (( مسحت برأسه )) كقولك : ((مسحت ببعض رأسه )) ، ولو كان كذلك لما حَسُنَ أن تقول : (( مسحت ببعض رأسه )) ، ولا (( برأسه بعضه )) ؛ لأنه كان يكون تكريرًا ، ولا ((مسحت برأسه كله )) ؛ لأنه : كان يكون مناقضًا له ، ولو كانت للتبعيض لما جاز إسقاطها هنا ؛ فإنه يقال : مسحتُ برأسهِ ، ومسَحت رأسَه بمعنى واحدٍ ، وأيضًا فلو كانت مبعضةً في مسح الرأس في الوضوء لكانت مُبعضَةً في مسح الوجه في التيمم ؛ لتساوى اللفظين في المحلين ، ولم فلا .
ومذهب مالك رحمه الله وجرب عموم مسح الرأس تمسكًا باسم الرأس ، فإنه للعضو بجملته كالوجه ، وتمشكًا بهذه الأحاديث ، ثم نقول : نحن وإن تنزلنا على أن (( الباء )) تكون مبعضةً وغير مُبعضة ، فذلك يُوجب فيها إجمالاً أزالَهُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفعله ، فكان فعله بيانًا لمجمل واجب ، فكان مسحه جميع الرأس واجبًا ، وسيأتي القول في حديث المغيرة الذي
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر فيه أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسح مقدم رأسه وعلى عمامته.
وقوله : (( فأقبل بيديه وأدبر )) ؛ معناه : أقبل إلى جهة قفاه ، والإدبار : رجوعُهُ إلى حيث بدأ ، كما فسره حيث قال : (( فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه )).
(3/114)
وقيل : المراد : أدبر وأقبل ؛ لأن الواو لا تُعطي رتبةً . وفي البخاري : (( فأدبر بهما وأقبل )) ، وهذا أولى لهذا النص .
وقيل : معنى أقبل : دخل في قبل الرأس ، كما يقال : أنجدَ وأتهم : إذا دخل نجدًا وتهامةَ .
وقيل : معناه : أنه ابتدأ من الناصية مقبلاً إلى الوجه ، ثم ردَّهُما إلى القفا ، ثم رجع إلى الناصيةِ . وهذا ظاهرُ اللفظ . والاقبال والإدبار مسحة واحدة ؛ لأنها بماء واحد ، والمقصود بالرَّدة على الرأس : المبالغة في استيعابه .
وقوله : (( ثم غسل رجليه إلى الكعبين )) ، الكعب في اللغة : هو العظم
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الناشِز عند ملتقى الساق والقدم ، وأنكر الأصمعي قول الناس : إن الكعب في ظهر القدم ، قاله في الصحاح ، والأول هو المشهور عند أهل المذهب والفقهاءِ . وقد روي عن ابن القاسم : أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك ، والأول هو الصحيح ا لمعروف .
وقوله : (( ومسح رأسه بماء غير فضل يديه )) ؛ دليل على مشروعية تجديد الماء لمسح الرأس ، وأنه سنة ، خلافًا للأوزاعي والحسن وعروة في تجويزهم مسحه ابتداءً بما فضل في يديه .
ولم يجىء في هذا الحديث ولا في حديث عثمان للأذنين ذكرٌ ، ويمكن أن يكون ذلك ؛ لأن اسم الرأس تضمنهما .
وقد جاءت الأحاديث صحيحة في كتاب النسائي وأبي داود وغيرهما : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما ، وأدخل أصابعه في صماخيه ، وسيأتي ذكرهما.
..................................................................
..................................................................
..................................................................
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/115)
وهذه الأحاديث أعني حديث عثمان وعبدالله تدل علة مراعاة الترتيب في الوضوء والموالاة. وقد اختلف أهل المذهب وغيرهم في ذلك على ثلاثة أقوال : الوجوب ، والسنو ، والاستحباب ، والأولى القول بالسيئة فيهما ؛ إذ لم يصح قط عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه توضأ مُنكسًا ولا مفرقًا تفريقًا مُتفاحشًا ، وليس في آية الوضوء ما يدل على وجوبهما ، وما ذكر من أن الواو ترتيب لا يصح ، ومما يدل على بطلان ذلك وقوعها في موضع يستحيل فيه الترتيب ، وذلك بابُ المفاعلة ، فإنها لا تكون إلا بين اثنين ، فإن العرب تقولُ : تخاصم زيدٌ وعمرو ، ولا يجوز أن يكون هنا ترتيبٌ ، ولا أن يقع موقعها حرفٌ من حروف الترتيب بوجهٍ من الوجوه ، فصح ما قلناهُ .
**************
( 3 ) باب فضل تحسين الوضوء المحافظة على الصلوات
171 - عَنْ عُثْمَانَ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا ، إِلا كَانَتْ له كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ ، مَا لَمْ تُؤْتِ كَبِيرَةً ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فضل تحسين الوضوء
قوله : (( وكانت صلاتُه ومشيه إلى المسجد نافلة )) ؛ يعني : أن الوضوء لم يُبق عليه ذنبًا ، فلما فعل بعده الصلاة كان ثوابها زيادة له على المغفرة المتقدمة .
و (( النَّفْل )) : الزيادة ، ومنه : نفل الغنيمة ؛ وهو ما يعطيه الإمام من الخمس بعد القسمة .
(3/116)
وهذا الحديث يقتضي أن الوضوء بانفراده يستقل بالتكفير. وكذلك حديث أي هريرة ، فإنه قال فيه : (( إذا توضأ العبد المسلِمُ فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئةٍ نظر إليها بعينيه )) ، وهكذا إلى أن قال : (( حتى 172 - وَعَنْ حُمْرَانَ ، قَالَ : أَتَيْتُ عُثْمَانَ بِوَضُوءٍ ، فَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ نَاسًا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ وضوء رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَحَادِيثَ ، لا أَدْرِي مَا هِيَ ؟ ألا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا ، ثُمَّ قَالَ : (( مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَكَانَتْ صَلاتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يخرج نقيًا من الذنوب )) ، وهذا بخلاف أحاديث عثمان المتقدمة ؛ إذ مضمونها : أن التكفير إنما يحصل بالوضوء إذا صلى به صلاة مكتوبةً يتم ركوعها وخشوعها .
والتلفيق من وجهين :
أحدهما : أن يرُدَّ مطلق الأحاديت إلى مُقيدِها .
والثاني : أن نقول : إن ذلك يختلف بحسب اختلاف أحوال الأشخاص ؛ فلا بُعد في أن يكون بعض المتوضئين يحصل له من الحضور ، ومراعاة الآداب المكملة ما يستقل بسببها وضوؤه بالتكفير ، ورب متوضيءٍ لا يحصل له مثل ذلك ، فيكفر عنه بمجموع الوضوء والصلاة ، 173 - وَعَنْ عُثْمَانَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَنْ أَتَمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ ، فَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يعترض على هذا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أتم الوضوء كما أمره الله فالصلوات المكتوبة كفارات لما بينهن )) ، لأنا نقول : إن من اقتصر على واجبات الوضوء فقد توضأ كما أمره الله تعالى ، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأعرابي : (( توضأ كما أمرك الله )) ، فأحاله على آية الوضوء ، على ما قدمناه.
(3/117)
وكذلك ذكر النسائي من حديث رفاعة بن رافع ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((إنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء ، كما أمره الله تعالى ، 174- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَقُولُ : (( الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ ، مُكَفِّرَاتٌ لمِا بَيْنَهُنَّ ، إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ )) .
175- وَعَنهْ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : " إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ -أَوِ الْمُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيغسل وجهه ، ويديه إلى المرفقين ، ويمسح رأسه ، ورجليه إلى الكعبين )) ، ونحن إنما أردنا المحافظة على الآداب المكملة التي لا يراعيها إلا من نوَّر الله
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باطنه بالعلم والمراقبة ، والله أعلم .
(3/118)
وقوله : (( إذا اجتنبت الكبائر )) ؛ يدل على أن الكبائر إنما تغفر بالتوبة المعبر عنها بالاجتناب في قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }. وقد تقدم القول في الكبائر ما هي ؟ فقوله : ((حتى يخرج نقيًّا من الذنوب )) ؛ يعني به : الصغائر ، ثم لا بُعدَ في أن يكون بعض الأشخاص تغفر له الكبائر والصغائر بحسب مايحضره من الإخلاص ، ويراعيه من الإحسان والآداب ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وقوله : (( إذا توضأ العبد المسلم ، أو المؤمن )) ؛ شكٌّ من بعض الرواة ، وكذلك قوله : (( مع الماء ، أو مع آخر قطر الماء )) ؛ ويدل على أنه على الشك زيادة مالك فيه : (( مع الماء ، أو مع آخر قطر الماء )) ، أو نحو هذا ، ويفهم منه : أن الغسل لا بد فيه من نقل الماء ، ولا يفهم منه : أن غاية الغسل أن يقطر الماء ؛ لأنه على الشك ، ولما جاء : ((حتى يسبغ )).
وقوله : (( خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه )) ؛ هذه عبارةٌ مستعارة ، المقصود بها الإعلام بتكفير الخطايا ومحوها ، وإلا فليست الخطايا أجساما حتى يصح منها الخروج .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد استدل أبو حنيفة رحمه الله بهذا الحديث على نجاسة الماء المستعمل ، ولا حجة له فيه لما ذكرناه ، وعند مالك : أن الماء المستعمل طاهرٌ مطهرٌ ؛ غير أنه يكره استعماله مع وجود غيره ؛ للخلاف فيه ، وعند أصبغ بن الفرج : أنه طاهرٌ غير مُطهرٍ . وقيل : إنه مشكوك فيه ، فيجمع بينه وبين التيمم ، وقد سماه بعضهم : ماء الذنوب .
وقد روى هذا الحديث مالكٌ من رواية أبي عبدالله الصُنابحي ، وهو عبد الرحمن بن عُسَيْلة ، ولم يدرك النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقال فيه : (( فإذا مسح
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/119)
برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أُذُنيه )) ؛ استدل به بعض
...................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أصحابنا على صحة قول مالك : ((الأذنان من الرأس )) ، ولم يُرد مالك بذلك أن الأذنين جزءٌ من الرأس ؛ بدليل أنه لم يختلف عنه أنهما تمسحان ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بماء جديد ، وأن من تركهما حتى صلى لم تلزمهُ الإعادة ، وإنما أراد مالك بقوله : (( الأذنان من الرأس )) ؛ أنهما تُمسحان كما يمسح الرأس ، لا أنهما يغسلان كما يغسل الوجه ، تحرُّزًا مما يحكى عن ابن شهاب أنه قال : إن ما أقبل منهما على الوجه هو من الوجه ، فيغسل معه ، وما يلي الرأس هو من الرأس ، فيمسح معهُ .
***************
( 4 ) باب ما يقال بعد الوضوء
(3/120)
176 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ؛ قَالَ : كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الإِبِلِ ، فَجَاءَتْ نَوْبَتِي ، فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ ، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَائِمًا يُحَدِّثُ النَّاسَ . فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، مُقْبِلاً عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ ، إِلا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ " قَالَ : فَقُلْتُ : مَا أَجْوَدَ هَذِهِ ! فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ : الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ مِنْها ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ . قَالَ : إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا . قَالَ : (( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، إِلا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما يقال بعد الوضوء
قول عقبة : (( كانت علينا رعاية الإبل )) ؛ يعني : إبل الصدقة المنتظر بها تفريقها ، أو الإبل المعدة لمصالح المسلمين .
وقوله : (( فروحتُها بعشي )) ؛ يعني : رددتُها إلى حيث تبيتُ . والْمُراح - بضم الميم - : مبيتُ الماشية .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي هذا الحديث مايدل على أن الذكر بعد الوضوء فضيلة من فضائله ، وعلى أن أبواب الجنة ثمانية لا غير ، وعلى أن داخل الجنة يخير في أي الأبواب شاء ، وقد تقدم استيعاب هذا المعنى .
*****************
(5) باب توعد من لم يُسْبِغْ ، وغسله ما ترك ، وإعادته الصلاة
(3/121)
177 - عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى شَدَّادٍ ؛ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمَ تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ . فَدَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ فَتَوَضَّأَ عِنْدَهَا . فَقَالَتْ : يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! أَسْبِغِ الْوُضُوءَ. فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب توعد من لم يُسبغ
قوله : (( ويل للأعقاب من النار )) ، ويل : كلمة عذابٍ وقبُوحٍ وهلاكٍ ، مثل : ويح ، وعن أبي سعيد الخدري وعطاء بن ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يسار : هو وادٍ في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حرّه . ابن مسعودٍ : صديدُ أهلِ النارِ ، ويقال : وَيلٌ لزيد ، وويلاً له بالرفع على 178 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ؛ قَالَ : رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ . حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ . تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ ، فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عِجَالٌ ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ ، وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وَيْلٌ لِلآَعْقَابِ مِنَ النَّارِ . أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الابتداء ، والنصب على إضمارِ الفعلِ ، فإن أضفته لم يَكُن إلا النصب ؛ لأنك لو رفعته لم يكن له خبرٌ .
(3/122)
والأعقاب : جمع عقبٍ ، وعقب كل شيء : آخره ، والعراقيب : جمع عرقوب ، وهو العصب الغليظ المؤثر فوق عقب الإنسان ، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يَدِها ، قال الأصمعي : وكل ذي أربع عرقوباه في رجليه ، وركبتاه في يديه . ومعنى ذلك : أن الأعقاب والعراقيب تعذب إن لم تعم بالغسل .
وَفِي رِوَايَةٍ ؛ قَالَ : تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ حَضَرَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا ، فَنَادَانا : (( وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه الأحاديث كلها تدل على أن فرض الرجلين الغسل ، لا المسح ، وهو مذهب جمهور السلف وأئمة الفتوى ، وقد حكي عن ابن عباس ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنس وعكرمة : أن فرضهما المسح إن صح ذلك عنهما ، وهو مذهب الشيعة .
179 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَأَى رَجُلاً لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَه ، فَقَالَ : (( وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) . وَفِي أخْرى : (( وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/123)
وذهب ابن جرير الطبري : إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح ، وسبب الخلاف اختلاف القراء ، في قوله : { وأرجلكم} بالخفض والنصب ، وقد أكثر الناس في تأويل هاتين القراءتين . والذي ينبغي أن يقال : إن قراءة الخفض عطف على الرأس فهما يُمسحان . لكن إذا كان عليهما خُفان ، وتلقينا هذا القيد من فعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خُفان. والمتواتر عنه غسلهما ، فبيّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفعله الحال الذي تغسل فيه الرجل ، والحال الذي تمسح فيه ، فليكتف بهذا فإنه بالغ ، وقد طولنا النفس في هذه المسألة في كتابنا في "شرح التلقين" أعان الله على تمامه .
وقوله : (( فجعلنا نمسح على أرجلنا )) ، قد يتمسك به من قال بجواز
180- وَعَنْ عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ ؛ أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ )) فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسح الرجلين ، ولا حجة له فيه لأربعة أوجه :
أحدها : أن المسح هنا يراد به الغسل ، فمن الفاشي المستعمل في أرض الحجاز ، أن يقولوا : تمسحنا للصلاة ؛ أي : توضأنا .
وثانيها : أن قوله : (( وأعقابهم تلُوحُ لم يمسها الماء )) ؛ يدل على أنهم كانوا يغسلون أرجلهم ؛ إذ لو كانوا يمسحونها ؛ لكانت القدم كلها لائحة ، فإن المسح لا يحصل منه بَللُ الممسوح .
وثالثها : أن هذا الحديث قد رواه أبو هريرة فقال فيه : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى رجلاً لم يغسل عقبه ، فقال : (( ويل للأعقاب من النار )).
ورابعها : أنا لو سلمنا أنهم مسحوا ، لم يضرنا ذلك ، ولم تكن فيه حجة لهم ؛ لأن ذلك المسح هو الذي توعد عليه بالعقاب ، فلا يكون مشروعًا ، والله أعلم .
(3/124)
وقوله للرجل الذى ترك موضع ظفر على قدمه : (( ارجع فأحسن وضوءك )) ؛ دليل على استيعاب الأعضاء ، ووجوب غسل الرجلين ، وأن ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تارك بعض وضوئه جهلاً أو عمدًا يستأنفه ؛ إذ لم يقل له : اغسل ذلك الموضع فقط .
وقد جاء في كتاب أبي داود في هذا الحديث : (( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره أن يعيد الوضوء والصلاة )) ، وهذا نصٌّ .
**************
باب الغرة والتحجيل من الإسباغ وأين تبلغ الحلية وفضل الإسباغ على المكاره
181 - عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرِ ؛ قَالَ : رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ ؛ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسَهُ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَتَوَضَّأُ . وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، مِنْ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الغرّة والتحجيل
(3/125)
قوله : (( ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضُد )) ، أشرع : رباعي ؛ أي : مَدَّ يده بالغسل إلى العضُدِ ، وكذلك : (( حتى أشرع في الساق )) ؛ أي : مَدَّ يدهُ إليه ، من قولهم : أشرعت الرمح قِبَله ؛ أي : مددته إليه ، وسددته نحوهُ ، وأشرع بابًا إلى الطريق ؛ أي : فتحه ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسددًا إليه ، وليس هذا من : شرعت في هذا الأمر ، ولا من : شرعت الدواب في الماء بشيء ؛ لأن هذا ثلاثي وذلك رباعي .
(( وكان أبو هريرة يبلغ بالوضوء إبطيه وساقيه )) ، وهذا الفعل منه هو مذهبٌ له ، ومما انفرد به ، ولم يحكهِ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعلاً ، وانما استنبطه من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أنتم الغر المحجلون )). ومن قوله : (( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ منه الوضوء )). قال أبو الفضل عياض : والناس مجمعون على خلاف هذا ، وأن لا يتعدى بالوضوء حدوده لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((فمن زاد فقد تعدى وظلم )).
والإشراعُ المروي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حديث أبي هريرة هو محمول على استيعاب المرفقين والكعبين بالغسل ، وعبر عن ذلك بالإشراع في العضد ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والساق ؛ لأنهما مبادئهما . وتطويل الغرّة والتحجيل بالمواظبة على الوضوء لكل صلاةٍ وإدامته ، فتطول غزته بتقوية نور وجهه ، وتحجيله بتضاعف نور أعضائه .
قلت : وأصل الغرة لمعةٌ بيضاء في جبهةِ الفرس ، تزيد الغرة على قدر الدرهم ، يقال منه : فرسٌ أغر ، ثم قد استعمل في الجمال والشهرة وطيب الذكر ، كما قال :
ثياب بني عوف طهارى نقيةٌ وأوجههم عتد المشاهد غُرَّانُ
والتحجيل : بياضٌ في اليدين والرجلين من الفرس ، وأصله من الحجل ؛ وهو الخلخال والقيد .
(3/126)
ولابد أن يجاوز التحجيل الأرساغ ولا يجاوز الركبتين والعرقوبين ، وهو في هذا الحديث مستعارٌ عبارةً عن النور الذي يعلو أعضاء الوضوء يوم القيامة .
182 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَتَى الْمَقْبُرَةَ ، فَقَالَ : ((السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُونَ ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا )) ، قَالُوا : أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : (( أَنْتُمْ أَصْحَابِي. وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ )) . فَقَالُوا : كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فَقَالَ : (( أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ ، بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلا يَعْرِفُ خَيْلَهُ ؟ )) قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : (( فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ . أَلا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ . أُنَادِيهِمْ : أَلا هَلُمَّ ! أَلا هَلُمَّ ! فَيُقَالُ : إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ . فَأَقُولُ : سُحْقًا سُحْقًا )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : أتى المقبرة فقال : (( السلام عليكم دار قوم مؤمنين )) ، المقبرة : تقال بفتح الباء وضمها ، وتسليمه لبيان مشروعية ذلك . وفيه معنى الدعاء لهم . ويدل أيضًا على حسن التعاهُد وكرم العَهدِ ، وعلى دوام الْحُرمة ، ويحتمل أن يَرد الله أرواحهم فيستمعون ويردون .
وقد ذكر أبو عمر بن عبدالبر حديثًا صحيحًا عن أبي هريرة مرفوعًا ، قال : (( ما من مسلم يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه
(3/127)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلا رد عليه السلام من قبره )).
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإتيان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المقبرة يدل على جواز ذيارة القبور . ولا خلاف في جوازه للرجال ، وأن النهي عنه قد نسخ ، واختلف فيه للنساء على ما يأتي .
وقوله : (( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )) ؛ يحتمل أوجهًا :
أحدها : أنه امتثال لقول الله تعالى : { ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا ان يشاء الله } ، فكان يكثر من ذلك حتى أدخله فيما لا بد منه وهو الموت .
وثانيها : أنه يكون أراد : إنا بكم لاحقون في الإيمان ، وبكون هذا قبل أن يعلم بمآل أمره ، كما قال : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}.
وثالثها : أن يكون أراد : استثناء في الواجب ، كما قال تعالى : { لتدخلُن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } ، وتكون فائدته التفويض المطلق .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورابعها : أن يكون أراد : لاحقون بكم في هذه البقعةِ الخاصةِ ، فإنه وإن كان قد علم أنه يموت بالمدينة ويدفن بها ، فإنه قد قال للأنصار : ((المحيا محياكم والممات مماتكم )) ، لكن لم تعين له البقعة التي يكون فيها إذ ذاك ، وهذا الوجه أولى من كل ما ذكر ، وكلها أقوال لعلمائنا .
وقوله : (( وددت أنا قد رأينا إخواننا )) ؛ هذا يدل على جواز تمني لقاء الفضلاء والعلماء ، وهذه الأخوة هي أخوة الايمان اليقيني ، والحب الصحيح للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(3/128)
وقد روي في بعض طرق هذا الحديث : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( إخواني الذين يؤمنون بي ولم يروني ، ويصدقون برسالتي ولم يلقوني ، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله )) ، وقد أخذ أبو عمر ابن عبدالبر رحمه الله ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من هذا الحديث ومن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين منكم )) ؛ أنه يكون ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل ممن كان في جملة الصحابة ، وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا ، وأن من صحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ورآه ولو مرة من عمره ، أفضل من كل من يأتي بعده ، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عملٌ. وهو الحق الذي لا ينبغي أن يصار لغيره ؛ لأمور :
أولها : مزية الصحبة ومثاهدة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وثانيها : فضيلة السبق للإسلام .
وثالثها : خصوصية الذب عن حضرةِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورابعها : فضيلة الهجرة والنصرة .
وخامسها : ضبطهم للشريعة وحفظها عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وسادسها : تبليغها لمن بعدهم .
وسابعها : السبق في النفقة في أول الاسلام .
(3/129)
وثامنها : أن كل خير وفضل وعلم وجهاد ومعروف فعل في الشريعة إلى يوم القيامة ، فحظهم منه أكمل حظٍ ، وثوابهم فيه أجزل ثواب ؛ لأنهم سنوا سنن الخير ، وافتتحوا أبوابه ، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة )) ، ولاشك في أنهم الذين سنوا جميع السنن ، وسابقوا إلى المكارم . ولو عددت مكارِمُهُم ، وفسرت خوا ضمهم ، وحصرت لملأت أسفارًا ، ولظلت الأعينُ بمطالعتها حيارى ، وعن هذه الجملة قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما خرّجه البزار عن جابر بن عبدالله مرفوعًا : (( إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين ، واختار من أصحابي أربعة - يعي : أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا - فجعلهم أصحابي )) ، وقال : (( في أصحابي ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلهم خير )). وكذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اتقوا الله في أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذَهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصِيفَهُ )).
وكفى من ذلك كله ثناء الله تعالى عليهم جملة وتفصيلاً ، وتعيينًا وإبهامًا ، ولم يحصل شيء من ذلك لمن بعدهم .
فأما استدلال المخالف بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إخواننا )) فلا حجة فيه ؛ لأن الصحابة قد حصل لهم من هذه الأخوة الحظ الأوفر ؛ لأنها الأخوة الدينية العامة ، وانفردت الصحابة بخصوصية الصحبة .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما قوله : (( للعامل فيهن أجر خمسين منكم )) ، فلا حجَّة فيه ؛ لأن ذلك -إن صح - إنما هو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنه قد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آخرِه : (( لأنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون )) ، ولا بُعد في أن يكون في بعض الأعمال لغيرهم من الأجور أكثر مما لهم فيه ، ولا تلزم منه الفضيلة المطلقة التي هي المطلوبة بهذا البحث ، والله أعلم.
(3/130)
وقوله : (( وأنا فرطُهمُ على الحوض )) ؛ أي : متقدمهم إليه ، يقال : فرطت القوم : إذا تقدمت لترتاد لهم الماءَ . و((على )) وقعت هُنا موقع ((إلى )) ويحتمل أن يقدر هناك فعل يدل عليه مساق الكلام ، تقديرهُ : فيجدوني على الحوض .
وقوله : (( ألا ليذادَنَّ )) ، كذا روايته ها هنا من غير خلاف ، واختلف فيه في "الموطأ" فرُوي : (( فليذادن )) بلام القسم. وروي : (( فلا يُذادنَّ )) ، بلا النافية ، وكلاهما صحيح ، فالبلام على تسم محذوف تقديره : فوالله ليذادن ، وبـ (( لا )) يكون من باب قولهم : لا أرينك ها هنا ؛ أي : لا تتعاط أسباب الذود عن حوضي ، ومعنى ليذادن : ليدفعن . والذود : ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدفع . و(( الدهم )) : جمع أدهم ، وهو الأسود من الخيل الذي يضرب إلى الخضرة . و((البهم )) : جمع البهيم الذي لا لون فيه سوى الدهمة .
وقوله : (( أناديهم ألا هلم )) ؛ أي : تعالوا . وفي ((هلم )) لغتان : إلحاق علامة التثنية والجمع والتأنيث ، وعدم ذلك ، فيقال : هلم في المذكور والمؤنث والإفراد والتثنية والجمع ، وبهذه اللغة جاء لفظ هذا الحديث ، وبها جاء القرآن .
(3/131)
وقوله : فيقال : (( إنهم قد بدلوا بعدك )) ؛ اختلف العلماء في تأويله ، فالذي صار إليه الباجي وغيره - وهو الأشبه بمساق الأحاديث- : أن هؤلاء الذين يقال لهم هذا القول ناس نافقوا ، وارتدرا من الصحابة وغيرهم ، فيحشرون في أمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كما قد تقدم من قوله : (( وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها )) ، وعليهم سيما هذه الأمة من الغرة والتحجيل ، فإذا رآهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عرفهم بالسيما ، ومن كان من أصحابه بأعيانهم فيناديهم : (( ألا هلم )) ، فإذا انطلقوا نحوه حيل بينهم وبينه ، وأُخِذ بهم ذات الشمال . فيقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يا رب مني ومن أمتي )) ، وفي لفظٍ ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آخر : (( أصحابي أصحابي )) ، فيقال له إذ ذاك : (( إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، وإنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم )) ، فإذ ذاك تذهَبُ عنهم الغُزَةُ والتحجيلُ ، ويُطفأ نورُهُم ، فيبقون في الظلمات ، فينقطع بهم عن الورود وعن جوازِ الصراطِ ، فحينئذ يقولون للمؤمنين : { انظرونا نقتبس من نوركم } ، فيقال لهم : {ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورًا}(4) ، مكرًا وتنكيلاً ليتحققوا مقدار ما فاتهم ، فيعظم أسفهُم وحسرتُهم ، أعاذنا الله من أحوال المنافقين ، وألحقنا بعباده المخلصين .
وقال الداودي وغيره : يحتمل أن يكون هذا في أهل الكبائر والبدع الذين لم يخرجوا عن الإيمان ببدعتهم ، وبعد ذلك يتلافاهم الله برحمته ، ويشفع لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قال القاضي عياض : والأول أظهر .
وقوله : (( سحقًا سحقًا )) ؛ أي : بُعدًا ، والمكان السحيق : البعيد ، والتكرار للتاكيد .
(3/132)
183 - وَفِي رِوَايَةٍ قال : " إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ ، لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ ، وَلانِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ ، وَإِنِّي لأَصُدُّ النَّاسَ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ )) ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : (( نَعَمْ ، لَكُمْ سِيمَاء لَيْسَتْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إن حوضي أبعد من أيلة إلى عدن )) ؛ يريد طوله وعرضه ، وقد جاء في الحديث الآخر : (( زواياه سواء )). وسياقي الكلام على الحوض إن شاء الئه تعالى .
وقوله : (( إني لأصد الناس )) ؛ أي : لأمنع وأطرد الناس ؛ بمعنى : أنه يأمر بذلك ، والمطرودون هنا الذين لا سيماء لهم من غير هذه الأمة . ويحتمل أن يكون هذا الصد هو الذود الذي قال فيه في الحديث الآخر : ((إني لأذود الناس عن حوضي بعصاي لأهل اليمن )) مبالغة في إكرامهم ، يعني به السُّبَّاق للإسلام من أهل اليمن ، والله أعلم .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه )) ، وفي أخرى : ((الإبل الغريبة )) ، وهذا كقوله : (( كما يذاد البعير الضال )) ، أووجه التشبيه : أن أصحاب الإبل إذا وردوا المياه بإبلهم ازدحمت الإبل عند الورود ، فيكون فيها الضال والغريب ، فكل أحدٍ من أصحاب الإبل يدفعه عن إبله ، حتى تشرب إبله ، فيكثر ضاربوه ودافعوه حنى لقد صار هذا مثلاً شافعًا . قال الحجاج لأهل العراق : (( لأحزمنكم حزم السلمة ، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل )).
(3/133)
وقوله : (( لكم سيماء ليست لأحد غيركم )) ، السيماء : العلامة ، يُمَد ويهمز ويقصر ويترك همزه ، وهذا نص في أن الغرة والتحجيل من خواص هذه الأمة ، ولا يعارضه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبلي )) ؛ لأن الخصوصية بالغرة والتحجيل لا بالوضوء ، وهما
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الله تعالى تفضل يختص بها من يشاء .
184 - وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ ؛ قَالَ : كُنْتُ خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ ، فَكَانَ يَمُدُّ يَدَهُ حَتَّى يَبْلُغَ إِبْطَهُ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ! مَا هَذَا الْوُضُوءُ ؟ فَقَالَ : يَا بَنِي فَرُّوخَ ! أَنْتُمْ هَاهُنَا ؟ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ هَاهُنَا مَا تَوَضَّأْتُ هَذَا الْوُضُوءَ . سَمِعْتُ خَلِيلِي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أبي هريرة : (( يا بني فروخ )) ؛ تقييده بفتح الفاء والخاء المعجمة من فوق ، وهو رجل من ولد إبراهيم بعد إسماعيل وإسحاق ، كثر نسله ، والعجم الذين في وسط البلاد من ولده ؛ عنى به أبو هريرة : الموالي . وكان خطابه لأبي حازم سلمان الأعرج الأشجعي الكوفي مولى عزة الأشجعية ، وليس بأبي حازم سلمة بن دينار ، الفقيه الزاهد المدني مولى بني مخزوم ، وكلاهما خرج عنه في الصحيح . وإنكارهم على أبي هريرة ، واعتذاره عن إظهاره ذلك الفعل ، يدل على انفراده بذلك الفعل .
(3/134)
185 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟ )) قَالُوا : بَلَى ، يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ : (( إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ . فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إسباغ الوضوء عند المكاره )) ؛ أي : تكميله وإيعابه مع شدة البرد وألم الجسم ونحوه . و((كثرة الخطا إلى المساجد )) ببعد الدار ، وبكثرة التكرار .
وقوله : (( وانتظار الصلاة بعد الصلاة )) ، قال الباجي : هذا في المستكثرين من الصلوات ، رأما غيرها فلم يكن من عمل الناس .
وقوله : (( فذلكم الرباط )) ؛ أصله : الحبس على الشيء ؛ كأنه حبس نفسه على هذه الطاعة ، ويحتمل أنه أفضل الرباط ، كما قال : ((الجهاد جهاد النفس )) ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و ((الحج عرفة )) ، ويحتمل أنه الرباط المتيسر الممكن ، وتكراره تعظيم لشأنه .
(7) باب السواك عند كل صلاة والتيمن في الطهور
183 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب السواك
قوله : (( لولا أن أشق على أمي لأمرتهم بالسواك )) ؛ أي : لأوجبت ذلك عليهم ؛ عبر بالأمر عن الوجوب ؛ لأنه الظاهر منه . وهل المندوب مأمورٌ به أو لا ؟ اختلف في ذلك أهل الأصول ، والصحيح أنه مأمورٌ به ؛ لأنه قد اتفق على أنه مطلوبٌ مقتضى ، كما قد حكاه أبو المعالي .
(3/135)
وهذا الحديث نصٌ في أن السواك ليس بواجب ، خلافًا لداود ، وهو حجةٌ عليه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما لكم تدخلون عليّ قُلحًا ؟ استاكوا )) ؛ على جهة
..................................................................
187 - وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ ؛ عَنْ أَبِيهِ ؛ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ . قُلْتُ : بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ ؟ قَالَتْ : بِالسِّوَاكِ .
188 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا قَامَ لِيَتَهَجَّدَ ، يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الندب ، ولم يختلف الناس في أن فروعية السواك مشروع عند الوضوء ، وعند الصلاة . وفيه حجة لمن قال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يجتهد في الأحكام على ما يذكر في الاصول .
وقول عائشة إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يبدأ إذا دخل بيته بالسواك ؛ يدل على استحباب تعاهُد السواك ؛ لما يكره من تغيّر رائحة الفم بالأبخرة والأطعمة وغيرها ، وعلى أنه يتجنب استعمال السواك في المساجد والمحافل وحضرة الناس ، ولم يرو عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه تسوّك في المسجد ، ولا في محفل من الناس ؛ لأنه من باب إزالة القذر والوسخ ، ولا يليق بالمساجد ولا محاضر الناس . ولا يليق بذوي المروءات فنل ذلك في الملأ من الناس .
ويحتمل أن يكون ابتداء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند دخول بيته بالسواك ؛ لأنه كان
(3/136)
189 - وَعَنْ ابْنَ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ نَبِيِّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَاتَ لَيْلَةٍ . فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، فَخَرَجَ فَنَظَرَ فِي السَّمَاءِ ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلبَابِ } حَتَّى بَلَغَ : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَيْتِ فَتَسَوَّكَ وَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى ، ثُمَّ اضْطَجَعَ ، ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ ، ثُمَّ رَجَعَ فَتَسَوَّكَ فَتَوَضَّأَ . ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يبدأ بصلاة النافلة ، فقل ما كان يتنفل في المسجد .
وقوله : (( كان إذا قام ليتهجد )) ؛ أي : ليصلي بالليل امتثالاً لقوله تعالى : { ومن الليل فتهجذ به نافلة لك } ، وتهجد من الأضداد ، يقال : تهجد بمعنى قام ، وتهجد بمعنى نام .
وقولها : (( يشوص فاه بالسواك )) ، قيل : هو أن يستاك عرضًا ، وكذلك : الموص ، وقال الهروي : يغسله ، وكل شيء غسلته فقد شصته 190 - وَعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ ، فِي تَنَعُلِهِ ، وَفِي تَرَجُّلِهِ ، وَطُهُورِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومُصتَهُ . وقال ابن الأعرابي : الشوص : الدلك ، والموص : الغسل . وقال وكيع : الشوص بالطول ، والموص بالعرض ، وقال ابن دريد : الشوص : الاستياك من سفل(3) إلى علو. ومنه الشوصة : ريح ترفع القلب عن موضعه . وفي الصحاح : الشوص : الغسل والتنظيف .
(3/137)
وقولها : (( كان يحب التيمن في شأنه كله )) ؛ كان ذلك منه تبركًا باسم اليمين لإضافة الخير إليها ؛ كما قال : { وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين }(4) ، { وناديناه من جانب الطور الأيمن}(5) ، ولما فيه من اليمن والبركة ، وهو من باب التفاؤل ، ونقيضه الشمال .
ويؤخذ من هذا الحديث : احترام اليمين وإكرامها ، فلا تستعمل في إزالة شيء من الأقذار ، ولا في شيء من خسيس الأعمال ، وقد نهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الاستنجاء ومسّ الذكر باليمين(6).
***************
(8) باب خصال الفطرة والتوقيت فيها
191 - عَنْ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ : قَصُّ الشَّارِبِ ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ، وَالسِّوَاكُ ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ ، وَنَتْفُ الإِبِطِ ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ )) . قَالَ مُصْعَبٌ بْنِ شَيبَة : وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ .
قَالَ وَكِيعٌ : انْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِي : الاسْتِنْجَاءَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب خصال الفطرة
قوله : (( عشرٌ من الفطرة )) ؛ المراد بالفطرة هنا : السنة ، قاله الخطابي ، وقد تقدم القول فيها عن الاسراء .
وهذه الخصال هي التي ابتلى الله بها إبراهيم فأتمهن فجعله الله إمامًا ، قاله ابن عباس. وهذه الخصال مجتمعة في أنها محافظةٌ على حسن ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهيئة والنظافة ، وكلاهما يحصل به البقاء على أصل كمال الخلقة التي خلق الإنسان عليها ، وبقاء هذه الأمور وترك إزالتها تشوه الإنسان وتقبحه ، بحيث يُستقذر ويجتنب ، فيخرج عما تقتضيه الفطرة الأولى ، فسئيث هذه الخصال : فطرة لهذا المعنى ، والله أعلم .
(3/138)
ولا تباعُد في أن يقول : هي عشرٌ وهي خمسٌ ؛ لاحتمال أن يكون أعلم بالخمسِ أولاً ، ثم زيد عليها ، قاله عياض .
ويحتمل : أن تكون الخمس المذكورة في حديث أبي هريرة هي أوكد من غيرها ، فقصدها بالذكر هنا تنبيهًا على غيرها من خصال الفطرة . و(( من )) في قوله : (( عشر من الفطرة )) للتبعيض ؛ ولذلك لم يذكر فيها الختان ، ولعله هو الذي نسيه مصعب .
و (( قص الشارب )) : أن يأخذ منه ما يطول عن إطار الشفة بحيث لا تشوش(2) على الآكل ، ولا يجتمع فيه الوسخ . والإحفاء والجز في ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشارب : هو ذلك القص المذكور ، وليس بالاستئصال عند مالك وجماعة من العلماء . وهو عنده مُثلَةٌ يؤدب من فعله ؛ إذ قد وجد من يفتدى به من الناس لا يُحفون جميعه ولا يستأصلون ذلك . وروي عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا حزبه أمر فتل شاربه ، ولو كان يستأصله لم يكن له ما يفتل . وذهب الكوفيون وغيرهم : إلى الاستئصال ، تمسكًا بظاهر اللفظ . وذهب بعض العلماء إلى التخيير في ذلك .
وأما إعفاء اللحية : فهو توفيرها وتكثيرها . قال أبوعبيد : يقال : عفا الشيء ؛ إذا كثر وزاد . وأعفيته أنا وعفا : درس ، وهو من الأضداد . قال غيره : يقال : عفوت الشعر وأعفيته لغتان ، فلا يجوز حلقُها ، ولا نتفُها ، ولا قص الكثير منها . فأما أخذ ما تطاير منها وما يُشوِّهُ ويدعو إلى الشهرة طولاً وعرضًا فحسنٌ عند مالك وغيره من السلف ، وكان ابن عمر
192 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ قَالَ : (( الْفِطْرَةُ خَمْسٌ : الاخْتِتَانُ ، وَالاسْتِحْدَادُ ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ ، وَنَتْفُ الإِبِطِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يأخذ من طولها ما زاد على القبضة .
(3/139)
و (( البراجم )) : مفاصل الأصابع ، وقد تقدم الكلام عليها ، وهي إن لم تتعاهد بالغسل أسرع إليها الوسخ .
و (( انتقاص الماء )) ؛ قال أبو عبيد : انتتاص البول بالماء : إذا غسل مذاكيره به ، وقيل : هو الانتضاح . وقال وكيع : هو الاستنجاء بالماء .
وخرج نتف الإبط وحلق العانة على المتيسر في ذلك ، ولو عكس فحلق الابط ونتف العانة جاز لحصول النظافة بكل ذلك ، وقد قيل : لا يجوز في العانة إلا الحلق ؛ لأن نتفها يؤدي إلى استرخائها ، وذكره أبو بكر بن العربي.
و (( الاستحداد )) : استعمال الحديدة في الحلق .
و (( تقليم الأظفار )) : قصها ، والقُلامَةُ : ما يزال منها .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأمَّا الختان : فسنةٌ منتشرة في العرب ، معمول بها من لدن إبراهيم ، فإنه أول من اختت ، وهو عند مالك وعامة العلماء سنة مؤكدة ، وشعارٌ من شعائر الإسلام ، إلا أنه لم يرد من الشرع ذم تاركه ، ولا توعده بعقاب ، فلا يكون واجبًا خلافًا للشافعي ، وهو مقتضى قول سحنون من أصحابنا . واستدل ابن شريح على وجوبه بالاجماع على تحريم النظر إلى العورة ، وقال : لولا أن الختان فرضٌ لما أبيح النظر إليها من المختُون. وأجيب عن هذا مثل هذا قد يباح لمصلحة الجسم ؛ كنظر الطبيب ؛ على ما قد ثبت عن جماعة من السلف من إباحة ذلك ، على ما حكاه أبو عمر ، ولم يذكر في إباحة ذلك خلافًا ، والطبُّ ليس بواجبٍ إجماعًا ، فما فيه مصلحة دينية أولى بذلك .
193 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ ، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ ، وَأَوْفُوا اللِّحَى )) .
194 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( جُزُّوا الشَّوَارِبَ ، وَأَرْخُوا اللِّحَى ، خَالِفُوا الْمَجُوسَ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/140)
وقوله : (( أحفوا الشوارب )) بألف القطع رباعيًا ، وهو المشهور فيه ، وهو في أصل اللغة للمبالغة في استقصاء ذلك الشيء ؛ ومنه : أحفى في المسألة ، وفي الكلام : إذا أكثر من ذلك وبلغ غايته ، وقد قال ابن دريد : يقال : حفا شاربه ، يحفوه ، حفوًا : إذا استأصل جزَّه . قال : ومنه : ((احفوا الشوارب )) ، فعلى هذا يكون ثلاثيًّا ، وتكون ألفه ألف وصل تبتدأ مضمومة بضم ثالث الفعل ، وقد قدمنا أن هذا الظاهر غير مُراد بما تقدَّم .
وقوله : (( جزوا الشوارب )) ؛ كذا الرواية الصحيحة عند الكافة ، ووقع : ((خذوا الشوارب )). وكأنه تصحيفٌ. ووقع لابن ماهان : ((ارجوا اللحى )) ، بالجيم ، وكأن هذا تصحيف ، وتخريجه على أنه أراد أرجوا من الإرجاء ، فسهل الهمزة فيه .
195 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ قَالَ : وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ ، وَتَقْلِيمِ الأَظْفَارِ ، وَنَتْفِ الإِبِطِ ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ ، أَنْ لا نُتْرَك أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( خالفوا المشركين والمجوس )) ؛ دليل على اجتناب التشبه بهم.
وقوله في حديث أنس : (( وُقِّت لنا في قص الشارب ... إلى آخره هذا تحديد أكثر المدة ، والمستحب تفَقّدُ ذلك من الجمعة إلى الجمعة ، وإلا فلا تحديد فيه للعلماء ، إلا أنه إذا كثر ذلك أزيل . وهذا الحديث يرويه جعفر بن سليمان . قال العقيلي : في حديثه نظر . وقال أبو عمر فيه : ليس بحجة لسوء حفظه ، وكثرة غلطه . قلت : وفي قولهما نظر.
*************
( 9 ) باب ما يُسْتَنْجَى به والنهي عن الاستنجاء باليمين
(3/141)
196 - عَنْ سَلْمَانَ ؛ قَالَ : قِيلَ لَهُ : قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ ، قَالَ : فَقَالَ : أَجَلْ ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بِبَوْلٍ ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاثَةِ أَحْجَارٍ ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الاستنجاء
قوله : (( قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة )) ، فقال : أجل . ((الخراءة )) هو بكسر الخاء ممدود مهموز ، وهو اسم فعل الحدث ، وأما الحدث نفسه فبغير تاء ممدود ، وتفتح خاؤه وتكسر ، ويقال : بفتحها وسكون الراء والقصر من غير مدٍّ .
وقوله : (( أجل )) ؛ أي : نعم . قال الأخفش : إلا أنه أحسن من نعم في الخبر ، ونعم أحسن منه في الاستفهام ، وهما لتصديق ما قبلهما مطلقًا ، نفيًا كان أو إيجابًا ، فأما (( بلى )) فهو جواب بعد النفي عاريًا من حرف الاستفهام ، أو مقرونًا به . قال الجوهري : بلى : إيجاب لما يقال لك ؛
وَفِي رِوَايَةٍ : وَنَهَانا عَنِ الرَّوْثِ وَالرمة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنها ترد النفي ، وربما ناقضتها نعم . فإذا قال : ليس لك وديعة . فقولك : نعم تصديق له ، وبلى تكذيب له .
وقوله : (( نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بولٍ )) ؛ دليل لمن ذهب إلى منع الاستقبال والاستدبار مطلقًا ، وهو أحمد وأبو ثور وأبو حنيفة في المشهور عنه ، وزاد النخعي وابن سيرين : منع استقبال القبلة المتقدمة واستدبارها. وكأن هؤلاء لم يبلغهم حديث ابن عمر الآتي ، أو لم يصلح عندهم للتخصيص ؛ لأنه فعل في خلوة . وذهب ربيعة وداود : إلى جواز ذلك مطلقًا ؛ متمسكين بحديث ابن عمر ، وبما رواه الترمذي عن جابر قال : (( نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تستقبل القبلة ببولٍ ، فرأيته قبل أن يموت
(3/142)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعامٍ يستقبلها )). قال : وقال فيه البخاري : هو صحيحٌ.
وذهب الشافعي إلى التفريق بين القُرى والصحارى تعويلاً على أن حديث ابن عمر مخصص لأحاديث النهي .
وأما مذهب مالك فهو أنه إذا كان ساتر وكنفٌ ملجنة ٌإلى ذلك جاز ، وإن كان الساتر وحده فروايتان .
وسبب هذا الاختلاف : اختلاف هذه الأحاديث ، وبناء بعضها على بعض . وقد أشرنا إلى ذلك . وقد تقدم القول على قوله : (( وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار )). والضابط فيما يستنجى به ما عندنا : كل جامدٍ
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طاهر منق ، ليس بمطعوم ولا ذي حرمة ، ولا تخفى قيوده .
وقوله : (( برجيع أو بعظم )) : الرَّجيع : العذرة ، والأرواث ، ولا يستنجى بها لنجاستها ، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الله بن مسعود حيث أتاه بالحجرين والروثة : (( إنها رجس )) ، ذكره البخاري.
وقد جاء أيضًا من حديثه في كتاب أبي داود ما يدل على أنه إنما نهى عن الاستنجاء بها وبالعظم ؛ لكونهما زادا للجن . قال : قدم وفد الجن على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا : يا محمد ! انه أُمَّتَك أن يستنجوا بعظيم أو روثة أو حُمَمَة ؛ فان الله جاعل لنا فيها رزقًا . وكذلك جاء في ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البخاري من حديث أبي هريرة قال : فقلت : ما بال العظم والروثة ؟ قال : (( هما من طعام الجن ، وإنه أتاني وفد جن نصيبين ، ونعم الجن ، فسألوني الزاد ، فدعوت الله ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعامًا ))( ) ، وفي بعض الحديث : (( وأما الروث فعلف دوابهم )) .
(3/143)
ويؤخذ من هذا الحديث : احترام أطعمة بني آدم وتنزيهها عن استعمالها في أمثال هذه القاذورات. ووجه هذا الأخذ أنه إذا منع من الاستنجاء بالعظم والروث ؛ لأنها زاد الجن وطعامهم ؛ فأحرى وأولى زاد الإنس وطعامهم .
و (( الرِّمَّة )) ، العظم البالي ، وقد أطلق عليه أيضًا : الحائل ؛ أي : قد أتت عليه أحوالٌ فحال ، ويمكن جريان العلة المتقدمة في الرّمة من حيث هو عظم فيجدون عليها طعامًا ، كما قد صح . وقيل : لأنها تتفتت فلا 197 - وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ ، وَلا يَتَمَسَّحْ مِنَ الْخَلاءِ بِيَمِينِهِ ، وَلا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تثبت عند الاستنجاء بها ، ولا يتأتى بها قلع ما هنالك . وقيل : لأنها تصير مثل الزجاج من حيث ملوستها فلا تقلع شيئًا .
(( والْحُمم )) : الفحم ، وقد علل بأنه زاد الجن ، وهو أيضًا لا صلابة لأكثره ، فيتفتت عند الاستنجاء ، ويلوت الجسد ويسخمه ، والدين مبني على النظافة .
تنبيه : إن وقع الاستنجاء والإنقاء بالطاهر المنقي المنهي عن الاستنجاء به فإنه يجزئه عندنا .
وهل يعيد الصلاة في الوقت أو لا ؟ قولان ، وكذلك مسألة من استنجى بيمينه فإنه أساء وأجزأه . وقال أهل الظاهر : لا يجزئه لاقتضاء المنهى فساد المنهي عنه . وعند الجمهور لايقتضيه ، وأيضًا فإن الجمهور صرفوا هذا النهي إلى غير ذات المنهي عنه ، وهو احترام المطعوم واليمين ، والمطلوب الذي هو الإنقاء قد حصل ، فيجزىء عنه .
ونهيه في حديث أبي قتادة عن إمساك الذكر باليمين ، وعن التمسح في
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/144)
الخلاء باليمين ، يلزم منهما تقذُّرٌ . اختلف علماؤنا في كيفية التخلص منه ؛ فقال المازري : يأخذ ذكره بشماله ثم يمسح به حجرًا ليسلم على مقتضى الحديثين .
قلت : وهذا إن أمكنه حجر ثابت ، أو أمكنه أن يسترخي فيتمسح بالأرض ؛ فأما إذا لم يمكنه شيء من ذلك ؛ فقال الخطابي : يجلس على الأرض ويمسك برجليه الشيء الذي يتمسح به ويتناول ذكره بشماله.
قلت : وقد يكون بموضع لا يتأتى له فيه الجلوس ، فقال عياض : أولى ذلك أن يأخذ ذكره بشماله ، ثم يأخذ الحجر بيمينه ، فيمسكه أمامه ، ويتناول بالشمال تحريك رأس ذكره ، ويمسحه بذلك ، دون أن يستعمل اليمنى في غير إمساك ما يتمسح به .
قلت : وهذه الكيفية أحسنها لقلة تكلفها ولتأتيها ، ولسلامتها عن ارتكاب منهي عنه ؛ إذ لم يمسك ذكره باليمين ولم تمسح به ، وإنما
198 - وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَتَبَرَّزُ لِحَاجَتِهِ ، فَآتِيهِ بِالْمَاءِ ، فَيَتَغَسَّلُ بِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمسك ما يتمسح به.
وقوله : (( ولا يتنفس في الاناء )) ؛ هذا التأديب مبالغة في النظافة ؛ إذ قد يخرج من النفس بصاق ، أو مخاط ، أو بخار رديءٌ فيكسبه رائحة كريهة ، فيتقزز الغير عن شربه ، أو الشارب نفسه ، وهذا من باب النهي عن النفخ في الشراب ، ومن باب النهي عن اختناث الأسقية ، وتزيد هذه مصالح أخر ، يأتي ذكرها إن شاء الله في مواضعها .
وقول أنس : (( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتبرز لحاجته )) ، (( يتبرز )) : يخرج إلى البَرازِ من الأرض بحيث يبعد عمن كان معه ، وقد كان يأتي الْمُغَّس لحاجته ، وهو من المدينة على نحو الميلين .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/145)
وقوله : (( فآتيه بالماءِ )) ؛ دليل على استعمال الخادم فيما يختفي به عن غيره ، وعلى استعمال الماء في إزالة النجو عن هذين المحلين ، وأن الماء ليس من قبل المطعوم فيحترم في هذا ، خلافًا لمن شذ من الفقهاء ، ولم ير الاستنجاء بالماء العذب ؛ لأنه زعم أنه طعامٌ ، وخلافًا لما قال سعيد بن المستب في الاستنجاء بالماء : إنما ذلك وضوء النساء. ولا يشك في أن الماء أولى من الحجارة ؛ ولأجل هذا أنزل الله في أهل قباء : { فيه رجالٌ يحبون أن يتطهروا } ، قال أبو داود : وعن أبي هريرة : كانوا ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستنجون بالماء ، فنزلت هذه الآية فيهم. وقد شذ ابن حبيب من أصحابنا ، فقال : لا يجوز استعمال الأحجار مع وجود الماء . وهذا ليس
..................................................................
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بشيءٍ ؛ إذ قد صح في البخارى من حديث أبي هريرة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعمل الحجارة مع وجود الماء في الإداوة مع أبي هريرة يتبعه بها . ولبُعدِ قياس إزالة النجاسة - والمقصود به النظافة-على التيتم وهو محض العبادة ، والله أعلم .
وقوله : (( فيتغسل به )) ؛ كذا صح بالتاء والتشديد ، وهو يدل على المبالغة في غسل تلك المواضع .
وقد روى أبو داود هذا الحديث وزاد فيه : (( ثم مسح يده على
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأرض )). وهي زيادة حسنة تدل على أنه لا بد من إزالة رائحة النجاسة في غسلها إذا أمكن ذلك ، والله أعلم .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3/146)
واختلف العلماء في الاستنجاء ؛ فقال أبو حنيفة : الاستنجاء ليس بفرض ، وإزالة النجاسة فرض ، وقال الجمهور : هو من باب إزالة النجاسة ، إلا أنهم اختلفوا في حكم إزالتها على ثلاثة أقوال : هل هي فريضة مطلقًا ، أو سنة مطلقًا ، أو هي واجبة بشرط الذكر والقدرة ؟ وهذا اختلاف أصحاب مالك عنه .
**************
( 10 ) باب ما جاء في استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط والنهي عن التخلي في الطرق والظلال
199 - عَنْ أَبِي أَيُّوبَ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا ، بِبَوْلٍ ولا غَائِطٍ ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا )) .
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ : فَقَدِمْنَا الشَّامَ ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ. وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في استقبال القبلة ببول أو غائط
قوله : (( ولكن شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا )) ، هذا الحديث قيل لأهل المدينة ومن وراءها من أهل الشام والمغرب ؛ لأنهم إذا شرقوا أو غربوا لم يستقبلوا القبلة ، ولم يستدبروها ، فاما من كانت الكعبة في شرق بلاده أو غربها فلا يشرق ولا يغرب إكرامًا للقبلة .
واختلف أصحابنا في تعليل هذا الحكم ؛ فقيل : إنه معلَّل بحرمة القبلة ، وقيل : بحرمة المصلين من الملائكة . والصحيح الأول ، بدليل ما ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواه الدارقطني مرسلاً عن طاووس مرفوعًا : (( إذا أتى أحدكم البراز فليكرم قبلة الله ، فلا يستقبلها ولا يستدبرها )).
200 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ قَالَ : رَقِيتُ عَلَى بَيْتِ أُخْتِي حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَاعِدًا لِحَاجَتِهِ ، مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ ، مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ .
(3/147)
في رواية : عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْت الْمَقْدِس .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول أبي أيوب : فننحرف عنها ، ونستغفر الله ؛ دليل على أنه لم يبلغه حديث ابن عمر ، أو لم يره مخصصًا ، وحمل ما رواه على العموم.
وقول ابن عمر : (( رقيت على بيت أختي حفصة )) ؛ هذا الرُّقي من ابن عمر الظاهرُ منه أنه لم يكن عن قصد الاستكشاف ، وإنما كان لحاجة غير ذلك . ويحتمل أن يكون ليطلع على كيفية جلوس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للحدث ، على تقدير أن يكون قد استشعر ذلك ، وأنه تحفظ من أن يطلع على ما لا يجوز له ، وفي هذا الثاني بُعدٌ .
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على لبنتين ؛ يدل لمالك على قوله : إذا اجتمع المرحاض الملجِىءُ والسَّاتر جاز ذلك . واستقباله بيت المقدس يدل على خلاف ما ذهب إليه النخعي وابن سيرين ، فإنهما منعا ذلك .
وما روي من النهي عن استقبال شيء من القبلتين بالغائط لا يصح ؛
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه من رواية عبدالله بن نافع مولى ابن عمر ، وهو ضعيفٌ. وقد ذهب بعض من منع استقبال القبلة واستدبارها مطلقًا : إلى أن حديث ابن عمر لا يصلح لتخصيص حديث أبي أيوب ؛ لأنه فعل في خلوة ، وهو ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محتمل للخصوص ، وحديث أبي أيوب قولٌ قعدت به القاعدة ، فبقاؤه على عمومه أولى .
والجواب عن ذلك أن نقول : أما فعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأقل مراتبه أن يحمل على الجواز ؛ بدليل مطلق اقتداء الصحابة بفعله ، وبدليل قوله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة } ، وبدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة حين سألتها المرأة عن قبلة الصائم : (( ألا أخبرتها أني أفعل ذلك )) ، وقالت عائشة : فعلتُهُ أنا ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاغتسلنا ؛ يعني : التقاء الختانين .
(3/148)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقبل ذلك الصحابة وعملوا عليه.
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما كون هذا الفعل في خلوة فلا يصلح مانعا من الاقتداء ؛ لأن الحدث كله كذلك يفعل ، ويمنع أن يفعل في الملأ ، ومع ذلك فقد نقل وتحدث به ، سيما وأهل بيته كانوا ينقلون ما يفعله في بيته من الأمور المشروعة .
وأما دعوى الخصوص فلو سمعها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لغضب على مُدّعِيها ، كما قد غضب على من ادعى تخصيصه بجواز القُبلَة ، فإنه غضب عليه ؟ وأنكر ذلك ، وقال : (( والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده )) ، وكيف يجوز تَوهُّم هذا ؟ وقد تبين أن ذلك إنما شرع إكرامًا للقبلة ، وهو
201 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( اتَّقُوا اللاَّعَّنَيْنِ )) ، قَالُوا : وَمَا اللاَّعَّنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : (( الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعلم بحرمتها وأحق بتعظيمها ، وكيف يستهين بحرمة ما حرم الله ؟ هذا ما لا يصدر توهمه إلا من جاهل بما يقول ، أو غافل عما كان يحترمه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( اتقوا اللاعنين )) ، قالوا : وما اللاعنان ؟ يروى هكذا . وصحيح روايتنا : (( اللعانين )) ، قالوا : وما اللعانان ؟ بالتشديد على المبالغة وكلاهما صحيح ، وقد تقدم القول : أن اللعن : الطرد والبعد ، وقد فسّرها : بالتخلي في الطرق والظلال .
(3/149)
وجاء في الترمذي من حديث معاذ مرفوعًا : (( اتقوا الملاعن الثلاث : البراز في الموارد ، وقارعة الطريق ، والظل بخرأة )). وسميت هذه ملاعن ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنها تجلب اللعن على فاعلها العادي والشرعي ؛ لأنه ضرر عظيم بالمسلمين ؛ إذ يعرضهم للتنجيس ، ويمنعهم من حقوقهم في الماء والاستظلال وغير ذلك .
ويفهم من هذا : تحريم التخلي في كل موضع كان للمسلمين إليه حاجة ، كمجتمعاتهم ، وشجرهم المثمر ، وإن لم يكن له ظلال وغير ذلك .
**************
( 11 ) باب ما جاء في البول قائمًا
202 - عَنْ أَبِي وَائِلٍ ؛ قَالَ : كَانَ أَبُو مُوسَى يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ ، وَيَبُولُ فِي قَارُورَةٍ ، وَيَقُولُ : إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانواَ إِذَا أَصَابَ جِلْدَ أَحَدِهِمْ بَوْلٌ قَرَضَهُ بِالْمَقَارِيضِ . فَقَالَ حُذَيْفَةُ : لَوَدِدْتُ أَنَّ صَاحِبَكُمْ لا يُشَدِّدُ هَذَا التَّشْدِيدَ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنَا وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَتَمَاشَى ، فَأَتَى سُبَاطَةُ قَومٍ خَلْفَ حَائِطٍ ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ ، فَبَالَ ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ ، فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُ ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ . زَادَ فِي رِوَايَةٍ : فَتَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في البول قائمًا
قول أبي موسى : (( إن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب جلد أحدهم بول قرضه )) ؛ يعني الجلود التي كانوا يلبسونها ، وقد سمعت بعض أشياخي من يحمل هذا على ظاهره ، ويقول : إن ذلك كان من الإصر الذي حُمّلوُه ، والله أعلم .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقرضه : قطعه . والسباطة : المزبلة .
(3/150)
وقول حذيفة : (( فانتبذت منه )) ؛ أي : صرت منه بعيدًا .
واختلف العلماء في البول قائمًا ؛ فمنعه قوم مطلقًا ، منهم عائشة وابن مسعود . وقد ردّ سعد بن إبراهيم شهادة من بال قائمًا ؛ متمسكين في ذلك بما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه قال لعمر وقد رآه يبول قائمًا : (( يا عمر! لا تَبُل قائمًا )) ، قال : فما بلت قائمًا بعد ، وبقول عائشة : (( من حدثكم
..................................................................
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن النبي كان يبول قائمًا فلا تصدقوه ، وما كان يبول إلا قاعدًا )).
وذهب الجمهور إلى جواز ذلك ؛ إذا أمن مما يؤدي إليه : من تطاير البول ، وانكشاف العورة ؛ مستدلين بحديث حذيفة هذا ، منفصلين عن حديث عمر ، فإن في إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق ، وهو ضعيف ، وعلى تقدير تسليم صحته فكأن ذلك لما يؤدي إليه من التطاير ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والانكشاف ، وعن حديث عائشة : فإنها أخبرت عما أدركته من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا شك في أن بوله قاعدًا كان أكثر أحواله ، ولا يلزم من قولها تكذيب حذيفة ؛ إذ هو العَالِم العَلمُ المرجوعُ إليه في قبول الأحاديث بإجماع الصحابة . وقد انفصل المانعون عن حديث حذيفة : باحتمال أن يكون فعله لجرحٍ بمأبضيه ، أو لنجاسة السُّباطة ، فلم يمكنه القعود فيها ، أو لأنه كان بين الناس ولم يمكنه التباعد ؛ لأن البول حَفَزهُ ؟ فبال ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قائمًا ؛ لئلا يخرج منه حدثٌ ، كما قد جاء عنه أنه قال للذي كان معه : (( تنح عني ، فإن كل بائلة تُفيخ )).
(4/1)
والجواب : أن هذه الأوجه وإن كانت محتملة ، إلا أن حذيفة كان شاهدًا لحالته كلها ، واستدل بهذا الفعل على جواز البول قائمًا ، وعلى ترك التعمق في التحرز من النجاسة ، فلو كان هناك شيء من تلك الاحتمالات لما استدل به ، ولنقل ذلك المعنى ، والله أعلم .
وكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتوار على خلاف عادته ؛ لأن البول حفزه ، والله أعلم . ومع ذلك فارتاد لبوله السُّباطة خلف الحائط ، ويقال : إنه استقبل الجدار ، واستتر من المارين خلفه بحذيفة ، ولذلك دعاه فقام عند عقبه حتى فرغ ، والله أعلم .
( 12 ) باب المسح على الخفين والتوقيت فيه
203 - عَنْ هَمَّامٍ ؛ قَالَ : بَالَ جَرِيرٌ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، فَقِيلَ : أتَفْعَلُ هَذَا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . وإن رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَالَ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ : كَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ ، لأَنَّ إِسْلامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب المسح على الخفين والتوقيت فيه
أنكر طائفة من أهل البدع المسح على الخفين في السفر والحضر ، كالخوارج ؛ لأنهم لم يجدوه في القرآن ، على أصلهم في رد أخبار الآحاد ، وأنكرته الشيعة ؛ لما رُوي عن علي أنه كان لا يمسح .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنكره غير هؤلاء زاعمين أن التمسك بآية الوضوء أولى ؛ إما لأنها ناسخة لما تقدمها من جواز المسح الثابت بالسنة ، وإما لأنها أرجح من أخبار الآحاد .
(4/2)
وأما جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى فالمسح عندهم جائز. قال الحسن : حدثني سبعون من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه مسح على الخفين ، ثم إنه قد ورد من الأحاديث الصحيحة والمشهورة ما يفيد مجموعها القطع بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسح على الخفين . وقد روي عن مالك إنكار المسح على الخفين ، وليس ذلك بصحيح مطلقًا ، وإنما الذي صح عنه من رواية ابن وهب في هذا ؛ أنه قال : لا أمسح في حضر ولا سفر ، نقلها أبو محمد بن أبي زيد في "نوادره" وغيره . فظاهر هذا أنه اتقاه في نفسه .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد روى ابن نافع في "المبسوط" عن مالك ما يزيل كل إشكال ، أنه قال له عند موته : المسح على الخفين في الحضر والسفر صحيح ، يقين ، ثابت ، لا شك فيه ، إلا أني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور ، ولا أرى من مسح مقصرًا فيما يجب عليه ؛ وعلى هذا حمل أحمد بن حنبل قول مالك . قال : كما روي عن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا أخفافهم ، وخلع هو وتوضأ ، وقال : (( حُبب إلي الوضوء )). ونحوه عن أبي أيوب.
قلت : وعلى هذا يحمل ماروي عن علي . قال أحمد بن حنبل : فمن ترك ذلك على نحو ما تركه عمر ، وأبو أيوب ، ومالك ، لم أنكره عليه ، وصلينا خلفه ولم نعبه إلا أن يترك ذلك ولا يراه ، كما صنع أهل البدع ، ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلا نصلي خلفه . فأما من أنكر المسح في الحضر - وهي أيضًا رواية عن مالك - فلأن كثر أحاديث المسح إنما هي في السفر ، والصحيح جواز المسح فيه ، إذ هو ثابت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله وفعله ، وحديث السُّباطة مما يدل عليه ؛ حيث كانت السُّباطة خلف الحائط ، بل قد روي في ذلك الحديث عن حذيفة ، قال : كنت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة... وذكر الحديث.
(4/3)
وقد روى أبو دارد عن بلال : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل الأسواف لحاجته ، ثم خرج فتوضأ ، ومسح على خفيه. والأسواف(2) : موضع بالمدينة ،
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسيأتي حديث عليّ في توقيت المسافر والمقيم.
وقول النخعي : (( كان يُعجبُهُم )) ؛ يعني : أصحاب عبد الله ، وقد جاء في روايةٍ مفسرًا هكذا .
وإنما أعجبهم ذلك ؛ لأنه إنما رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن أسلم ، وأسلم بعد نزول المائدة ، فمسح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد نزول المائدة ، فلا تكون آية الوضوء التي في المائدة ناسخة للسُّنة الثابتة في ذلك ، ولا مرجحة عليها ؛ خلافًا لمن ذهب إلى ذلك .
204 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ ؛ قَالَ : كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَسِيرٍ فَقَالَ لِي : (( أَمَعَكَ مَاءٌ ؟ )) قُلْتُ : نَعَمْ . فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ ، فَمَشَى حَتَّى تَوَارَى فِي سَوَادِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ جَاءَ ، فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةِ ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ - وَفِي رِوَايَةٍ : شَامِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ - فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا ، حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ . فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ، ثُمَّ أَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ ، فَقَالَ : " دَعْهُمَا ، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ " وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث المغيرة : (( ذات ليلة )) ؛ أى : ليلة من الليالي ، وهي منصوبة على الظرفية ، كما تقول : ذات مرة ؛ أى : مرة من المرات ، ويقال للمذكر : ذا صباح وذا مساءٍ ، كما قال الشاعر :
عزمت على إقامة ذي صباح لأمر ما يسود من يسود
(4/4)
وكان هذا المسير في غزوة تبوك ، كما في "الموطأ". والمسير : السير ، وقد يكون : الطريق الذي يسار فيه. و(( توارى )) : غاب. و(( الإداوة )) : ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإناء من الجلد ، وفي طريق آخر : (( مطهرة )) ، وفيه حجة للجماعة في جواز صب الماء على المتوضئ . وقد رُوي عن عمر وابنه كراهة ذلك ، وقد روي عنهما خلاف ذلك . فروي عن عمر : (( أن ابن عباس صب على يديه الوضوء )). وقال ابن عمر : (( لا أبالي ، أعانني رجل على وضوئي وركوعي وسجودي )) . وهو الصحيح .
وفيه دليلٌ على جواز الاقتصار على فروض الوضوء دون السنن ، إذا
أرهقت إلى ذلك ضرورة . ويحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعلها ولم يذكرها المغيرة ، والظاهر خلافه ، وقد روى البخاري من حديث عبد الله بن زيد : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اقتصر على الفروض ، وقد قدمنا قوله للأعرابي : (( توضأ كما أمرك الله )).
وفيه دليلٌ على أن يسير التفريق في الطهارة لا يفسدها . قال أبو محمد عبد الوهاب : لا يختلف في أن التفريق غير المتفاحش لا يُقسد ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوضوء . واختلف في الكثير المتفاحش ، فروي عن ابن وهب : أنه يفسده في العمد والسهو ، وهو أحد قولي الشافعي ، وحكي عن ابن عبد الحكم أنه لا يفسده في الوجهين ، وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي في قول آخر. وعند ابن القاسم : أنه يفسده مع العمد أو التفريط ، ولا يفسده مع السهو .
وقال أبو الفضل عياض : إن مشهور المذهب أن الموالاة سنة ، وهذا هو الصحيح ؛ بناءً على ما تقدم من أن الفرائض محصورٌ في الآية ، وليس في الآية ما يدل على الموالاة ، وإنما أخذت من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإذ لم يرو عنه قط أنه فرق تفريقًا متفاحشًا .
(4/5)
واختلف في الفرق بين اليسير والكثير ؛ فقيل : ذلك يرجع إلى الاجتهاد ، وليس فيه حدٌّ ، وقيل : جفاف الوضوء هو الكثير .
وفيه دليلٌ على أن الصوف لا ينجس بالموت ؛ لأن الجبة كانت من عمل الشام ، والشام إذ ذاك بلاد كفر وشرك من مجوسبى وغيرهم ، وأكثر مآكلهم ميتة ، ولم يسأل عن ذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا توقف فيه .
وفيه دليلٌ على لباس الضيق والثشمير للأسفار .
205 - وَعَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ ؛ قَالَ : أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ . فَقَالَتْ : عَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَسَلْهُ . فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَسَأَلْنَاهُ ، فَقَالَ : جَعَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( دعهما ، فإني أدخلتهما وهما طاهرتان )) ؛ حمل الجمهور هذه الطهارة على العرفية ، وهي طهارة الحدث ، وخصّوها بالماء ؛ لأنه الأصل ، والطهارة به هي الغالبة .
ورأى أصبغ : أن طهارة التيمم تدخل تحت مطلق قوله : (( وهما طاهرتان )) ، وقيل عنه : إنه بناه على أن التيمم يرفع الحدث .
وذهب داود إلى أن المراد بالطهارة ها هنا : هي الطهارة من النجس فقط ، فإذا كانت رجلاه طاهرتين من النجاسة جاز المسح على الخفين ، وسبب الخلاف : الاشتراك في اسم ا لطهارة .
*************
( 13 ) باب المسح على الناصية والعمامة والخمار
(4/6)
206 - عَنِ الْمُغِيرَةِ ؛ قَالَ : تَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ . فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ ، قَالَ : (( أَمَعَكَ مَاءٌ )) فَأَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ ، ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ ، وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ، وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى خُفَّيْهِ . ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْتُ ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَوْمِ وَقَدْ قَامُوا فِي الصَّلاةِ ، يُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَقَدْ رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً . فَلَمَّا أَحَسَّ بِالنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ ، فَصَلَّى بِهِمْ . فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَقُمْتُ . فَرَكَعْنَا الرَّكْعَةَ الَّتِي سَبَقَتْنَا .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَأَفْزَعَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ فَأَكْثَرُوا التَّسْبِيحَ . فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلاتَهُ ، أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ قَالَ : " أَحْسَنْتُمْ - أَوْ قَدْ أَصَبْتُمْ -" يَغْبِطُهُمْ أَنْ صَلَّوُا الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب المسح على الناصية والعمامة والخمار
قوله في الرواية الأخرى : (( ومسح بناصيته وعلى العمامة )) ؛ تمسّك أبوحنيفة وأشهب من أصحابنا بهذا الحديث على إجزاء مسح الناصية فقط ، ولاحجة لهما فيه ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقتصر عليه ، وأنه مسح على
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الناصية وعلى كل العمامة .
(4/7)
واحتج به الشافعي وأحمد بن حنبل : على جواز المسح على العمامة ، وأنه يجزيء ، ولا حجة لهما فيه ؛ لأنه عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقتصر عليها ، بل مسح معها الناصية . واشترط بعض من أجاز المسح على العمامة أن يكون لبسها على طهارة كالخفين ، وزاد بعضهم : أن تكون بحنك ؛ ليكون في نزعها مشقة .
وذهب مالك وجل أصحابه إلى أن مسح الرأس على حائل لا يجوز ، تمسكًا بظاهر قوله تعالى : { وامسحوا برؤسكم } ، وهذا يقتضي المباشرة ، كقوله في التيمم : { فامسحوا بوجوهكم } ، إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة مرض أو خوف على النفس ، فحيننذ يجوز المسح على الحائل ، كالحال في الجبائر والعصائب .
وحمل بعض أصحابنا هذا الحديث على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان به مرض منعه من كشف رأسه كله ، أو توقُعه توقُعًا صحيحًا ، وهذه طريقة حسنةٌ ، فإنه ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمسك بظاهر الكتاب ، وتأول هذه الواقعة المعينة ، ويتأيد تأويله بأمرين :
أحدهما : أن هذه الواقعة كانت في السفر ، وهو مظنّة الأعذار والأمراض .
والثاني : أنه مسح من رأسه الموضع الذي لم يؤلمه أو لم يتوقع فيه شيئًا . ومسحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ جميع العمامة دليلٌ لمالك : على وجوب عموم مسح عموم الرأس ؛ إذ قد نزّل العمامة عند الضرورة منزلة الرأس ، فمسح جميعها ، كما فعل في الخفين ، والله تعالى أعلم .
ومبادرة أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى تقديم عبدالرحمن عند تأخر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الوقت الذي كان يوقع فيه الصلاة ؛ فيه دليل على محافظتهم على أول الوقت ، وبه احتج الشافعي وغيره على هذا ، ويحتمل : أن يكونوا يئسوا من وصوله إليهم في الوقت بتقديرهم أنه أخذ في طريق أخرى ، أو أنه نزل ، ألا ترى فزعهم حين أدركهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلون ! فدل ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/8)
على أنهم لم يبادروا إلى أول الوقت ، ولا أخروها آخره ، والأشبه : أنهم انتظروه إلى الوقت المعهود ؛ بدليل قوله : (( يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها )) ، فلما خرج ذلك الوقت تأولوا أنه صلى ، أو أنه أخذ طريقًا أخرى ، أو أنه نزل ، فقدموا عبد الرحمن ، وفيه أبوابٌ من الفقه لا تخفى على متأملٍ .
وقوله في حديث علي : (( جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويومًا وليلة للمقيم )) ؛ نصٌّ في اشتراط التوقيت في المسح ، وبه أخذ أبو حنيفة ، والثوري ، وأصحاب الحديث ، والشافعي ، ومالك في أحد قوليهما ، ومشهور مذهب مالك : أنه لا توقيت فيه ، وهو قول الأوزاعي والليث ، والقول الاخر للشافعي ، وأقوى ما يتمسك به لمشهور مذهب مالك حديث عقبة بن عامر ، الذي خرجه الدارقطني ، وصححه ، قال : خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة ، فدخلت المدينة يوم الجمعة ، ودخلتُ على عمر ، فقال لي : متى أولجت خُفًّيكَ ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في رجليك ؟ قلت : يوم الجمعة ، فقال : فهل نزعتهما ؟ قلت : لا ، قال : أصبت السُّنة. ومثل هذا يشيع ، ولم ينكره أحد ، مع أنه قال فيه :
..................................................................
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أصبت السنة . وهذا ملحقٌ بالْمُسند المرفوع .
وأما حديث أبي عِمارة الذي قال فيه : (( امسح ما شئت ، وما بدا لك )). فقال فيه أبو داود : ليس بالقوي ، ومآل هذا : أن حديث
..................................................................
207 - وَعَنْ بِلالٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/9)
عقبة يعارض حديث علي ، غير أن حديث عقبة وافقه عمل الصحابة ، فهو أولى عنده ، والله أعلم .
و (( المطهرة )) : الإناء الذي يتطهر به . و(( يحسُر عن ذراعيه )) : يكشف عنهما . و(( الناصية )) : مقدمُ شعر الرأس .
وقوله في حديث بلال : (( مسح على الخفين والخمار )) ، الخمار هنا هي العمامة ، سميت بذلك لتخميرها الرأس ، شبهها بخمار المرأة .
ولم يختلف من أجاز المسح على العمامة في منع مسح المرأة على خمارها ، إلا شيء روي عن أم سلمة ، وعن أنس في مسحه على القلنسوة .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفرق ما بين العمامة والخمار عندهم أن العمامة يشق نزعها ، لا سيما إن كانت بحنك ، ولورود الرخصة فيها عندهم ، ولم يرد في الخمار للمرأة ، والله أعلم .
**************
( 14 ) باب فعل الصلوات بوضوء واحد وغسل اليدين عند القيام من النوم ، وأن النوم ليس بحدث
208 - عَنْ بُرَيْدَةَ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ . فَقَالَ : (( عَمْدًا صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب فعل الصلوات بوضوء واحد
قوله : (( عمدًا فعلته يا عمر )) ؛ أي : قصدًا ليبين للناس أنه يجوز أن يصلى بوضوء واحد صلوات ، وهذا أمر لا خلاف فيه ، وعليه ما ذهب إليه بعض الناس : أن الوضوء لكل صلاة كان فرضًا خاصًّا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنه نسخ ذلك بفعله هذا .
(4/10)
قلت : ولا يصح أنه كان فرضًا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإنما كان يفعله ابتغاء فضيلة التجديد ، كما في حديث أنس أنه قال : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتوضأ لكل صلاة طاهرًا وغير طاهر )) ، قيل لأنس : كيف كنتم تصنعون أنتم ؟ قال : كنا نتوضأ وضوءًا واحدًا . خرّجه الترمذي ، وقال : إنه صحيح.
..................................................................
209- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ. فَلا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاثًا . فَإِنَّهُ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء )) ؛ تمسك داود والطبري بظاهر هذا الخبر ؛ فأوجبا غسل اليدين على من قام من النوم ليلاً أو نهارًا للوضوء ، وحكما بأن الماء ينجس إن لم يغسل يديه قبل أن يدخلهما فيه .
وخَصَّه ابن حنبل وبعض أهل الظاهر بنوم الليل خاصّة ؛ لأنهما فَهِما من لفظ البيات نوم الليل ؛ ولما رواه أبو داود في هذا الحديث حيث
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال : (( إذا استيقظ أحدكم من الليل )) ، وذكر الحديث .
وذهب الجمهور إلى أن ذلك على جهة الاستحباب ؛ بدليل تعليله في آخره بقوله : (( فإنه لا يدري أين باتت يده )). ومعنى ذلك : أن يد النائم تجول في مغابنه ومواضع استجماره ، وأعراقه ، فقد يتعلق باليد منها شيء ، فيؤذي إلى إفساد الماء ، على قول من يرى أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء ، أو إلى عيافته على قول من يرى أنها لا تنجسه إلا أن تغيره .
(4/11)
210 - وَعَنْ أنْسٍ ؛ قَالَ : أُقِيمْت الصَلاةُ ، والنْبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُناجِي رَجُلاً ، فلَمْ يَزْل يُناجِيهِ حَتْى نَامَ أَصحَابُهُ . ثُمَ جَاءَ فَصَلَى بِهِمْ . وَلَمْ يَذْكُر وَضُوءًَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحتج أصحاب الشافعي بهذا الحديث على الفرق بين ورود النجاسة على الماء ، وبين ورود الماء على النجاسة ، ولا يصح لهم ذلك حتى يصح لهم أن هذا الحديث يفيد أن قليل النجاسة ينجس الماء وإن لم تغيره ، وذلك ممنوع ؛ فإنه يحتمل أن يكون نهيه عن ذلك ؛ لأنه يصير الماء مما يعاف ، لا أنه ينجس ، والله أعلم .
ومن هذا الحديث فهم أشهبُ أن حنهم غشل اليد في الوضوء الاستحباب للشاك في نظافة يده ، وقد قدمنا مأخذ ابن القاسم .
وقوله : (( أقيمت الصلاة والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يناجي رجلاً )) ؛ أي : يحادثه سرًّا .
وقوله : (( حتى نام أصحابه )) ؛ يعني : أنهم ناموا جلوسًا ، وقد روى أبو داود عنه قال : (( كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينتظرون العشاء الآخرة 211 - وَعَنْهُ ؛ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ ، وَلا يَتَوَضَّئُونَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حتى تخفق رؤوسهم ، ثم يصلون ولا يتوضؤون )) ، وهذا يدل على أن النوم ليس بحدث ؛ إذ لو النوم الخفيف كان حدثًا كما ذهب إليه المزني وابن القاسم - فيما حكاه عنه أبو الفرج - : لاستوى قليله وكثيره ، كالبول والغائط . وهذا النوم في هذه الأحاديث هو الخفيف المعبر عنه بالسُّنَّة التي ذكر الله تعالى في قوله : { لا تأخذه سنه ولا نوم} ، والذي قال فيه بعض شعراء العرب :
وسنَان أقصده النعاسُ فَرنَّقَت في عينه سِنةٌ وليس بنائم
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/12)
وقال المفضل : السنة في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب ، وهذا أصل الوضع ، وقد يتجوز فيقال على الجميع نوم ، كما جاء في الحديث : (( إن عيني تنامان ولا ينام قلبي )) ، وكما قد أطلق النوم في حديث أنس هذا على السِّنة .
وذهب الجمهور إلى أن الْمُستسقل من النوم ناقضٌ للوضوء ، من حيث كان مظنّة للحدث ، كما جاء في حديث ابن عباس : (( إنما الوضوء على من نام مضطجعًا ، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله )) ،
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي حديث علي : (( وكاء السَّه العينان ، فمن نام فليتوضأ .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد حكي إجماع العلماء على أن ما أزال العقل من الجنون والإغماء ناقض للوضوء ، والنوم المستثقل يزيل العقل ، فيكون مثلهما ، وقد شذ أبو موسى الأشعري ، وسعيد بن
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسيب ، فكانا ينامان مضطجعين
ثم لا يتوضآن . وقد تؤوَّل ذلك عليهما : بانه كان خفيفًا .
وما دون الاستثقال اختلف فيه على تفصيل يعرف في الفقه ، والله أعلم .
************
( 15 ) باب إذا ولغ الكلب في الإناء أريق الماء ، وغسل الإناء
سبع مرات
212 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ ، فَلْيُرِقْهُ ، ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ )) .
وَفِي لَفظٍ آخَر : (( طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ . أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إذا ولغ الكلب في الإناء طهارة الإناء
(4/13)
قوله : (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله )). في الصحاح : ولغ الكلب في الإناء ، يَلَغُ ولوغًا : إذا شرب ما فيه بطرف لسانه ، ويُولَغُ : إذا أولغه صاحبه . قال الشاعر :
ما مر يومٌ إلا وَعِندَهُما لحم رجالٍ أو يُولغان دَمَا
وحكى أبو زيد : ولغ الكلب بشرابنا ، وفي شَرابِنا ، ومن شَرابِنا ، ويقال : ليس شيء من الطيور يلغ غير الذباب .
وقد تمسك الشافعي بظاهر الأمر بالغسل والاراقة ، وبقوله : (( طهور
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعًا )) على أن الكلب نجس ، وعلى أن ذلك الماء والإناء نجسان بسبب لعابه ، ومع ذلك فلا بد عنده من غسل الإناء سبعًا ، وذهب أبو حنيفة إلى القول بأن ذلك للنجاسة ، ويكفي غسل الإناء مرة واحدة .
والمشهور من مذهب مالك : أن ذلك للتَعبُّد لا للنجاسة ، وهو قول الأوزاعي وأهل الظاهر ؛ بدليل دخول العدد السبع ، ولو كان للنجاسة لاكتفي فيه بالمرة الواحدة ؛ وبدليل جواز أكل ما صاده الكلب من غير غسل .
وذهب بعض أصحابنا إلى أن ذلك لكون الكلب مستقذرًا متهيًّا عن مخالطته ، وقَصَرَ هذا الحكم على الكلب المنهي عن اتخاذه ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنه استنبط من اللفظ ما خصصه من غير دليل منفصل عنه .
وذهب أبو الوليد بن رُشد إلى أن ذلك مُعَلَّلٌ بما يتقى من أن يكون الكلب كلبًا ، واستدل على هذا بأن هذا العدد السبع قد جاء في مواضع من الشرع على جهة الطب والتداوي ، كما قال : (( من تصبح كل يوم ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/14)
بسبع تمرات من عجوة المدينة لم يضره ذلك اليوم سم )) ، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرضه : (( أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن )) ، ومثل هذا كثير ، وقد أورد عليه : أن الكلب لا يقرب الماء ، وانفصل عن ذلك حفيده صاحب "كفاية المقتصد" : بأن ذلك لا يكون إلا في حال تمكن ذلك الداء به ، وأما في مبادئه فيقرب الماء وبشربه ، وأولى هذه الأقوال كلها ما صار إليه مالك من أنه تعبد لا للتجاسة ، وأنه عام في جنس الكلاب ، وفي جنس الأواني. وينبني على هذا الاختلاف في التعليل الاختلاف في فروع كثيرة تُعرف في الفقه .
وقوله : (( أولاهن بالتراب )) ؛ هذه الزيادة ليست من رواية مالك ، ولذلك لم يقل بها ، وقد قال بها جماعة من العلماء ، وقد رواه
213 - وَعَنِ ابْنِ الْمُغَفَّلِ ، قَالَ : أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِقَتْلِ الْكِلابِ . ثُمَّ قَالَ : (( مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلابِ ؟ )) ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ. وَقَالَ : (( إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبو داود وقال : (( السابعة بالتراب )).
وفي حديث عبد الله بن مغفل وغيره عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( عفروه الثامنة بالتراب )) ، وبهذه الثامنة قال أحمد ، فهذه الزيادة مضطربة.ولذلك
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يأخذ بها مالك ، ولا أحد من أصحابه .
وأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتل الكلاب ، إنما كان لما كثرث وكثر ضررها ، ثم لما قتل أكثرها ، وذهب ضررها أنكر قتلها ، فقال : (( ما بالهم وبال الكلاب ؟ ))
ويحتمل : أن يكون ذلك ليقطع عنهم عادة إِلْفِهِمْ لها ؛ إذ كانوا قد ألفوها ولابَسُوها كثيرًا .
(4/15)
وقوله : (( وأرخص في كلب الصيد والغنم )) ؛ يعني : في اتخاذه ، وغيرها كلب الصيد لا يتخذ وإن لم يُقتل ، وهو الذي من اتخذه نقص من عمله كل يوم قيراط ، وذلك لما يُروع ويُؤذي ، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
***************
( 16 ) باب النهي أن يبال في الماء الراكد ، وماجاء في صب الماء على البول في المسجد
214 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب النهي أن يبال في الماء الراكد
قوله : (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم )) ؛ يعني به الذي لا يجري . وقد جاء في لفظ آخر : (( الراكد )) ؛ أي : الساكن .
وقوله : (( ثم يغتسل منه )) ، الرواية الصحيحة : (( يغتسلُ )) برفع اللام ، ولا يجوز نصبها ؛ إذ لا ينتصب باضمار أن بعد ثُم . وبعغر الناس قيده : (( ثم يغتَسِلْ )) مجزومة اللام على العطف على : (( لا يبولن )) ، وهذا ليس بشيء ؛ إذ لو أراد ذلك لقال : ثم لا يغتَسلنَّ ؛ لأنه إذ ذاك يكون عطف فعل على فعل ، لا عطف جملة على جملة ، وحينئذ يكون الأصل مساواة الفعلين في النهي عنهما ، وتكيدهما بالنون الشديدة ، فإن المحل ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/16)
الذي توارَدَا عليه هو شيء واحد ، وهو ا لماء ، فعُدُوله عن (( ثم لا يغتسلن )) إلى (( ثم يغتسل )) ؛ دليل على أنه لم يرد العطف ، وإنما جاء : ((ثم يغتسل )) على التنبيه على مآل الحال ، ومعناه : أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه ، فيمتنع عليه استعماله ، لما وقع فيه من البول ، وهذا مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يضرب أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعها )) ، برفع يضاجعها ، ولم يروه أحد بالجزم ، ولا يتخيله فيه ؛ لأن المفهوم منه : أنه إنما نهاه عن ضربها ؛ لأنه يحتاج إلى مضاجعتها في ثاني حال ، فتمتنع عليه لما أساء من معاشرتها ، فيتعذر عليه المقصود لأجل الضرب ، وتقدير اللفظ : ثم هو يضاجعها ، وثم هو يغتسل .
وهذا الحديث حجة لمن رأى أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء ، وإن
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم تُغيره ، وهو أحد أقوال مالك ، ومشهور مذهبه في رراية المدنيين أنه طهور ، لكنه مكروه مع وجود غيره . ويصح أن يحمل هذا الحديث على أنه إذا أبيح البول فيه أدى إلى تغيره ، فحميت الذريعة بالنهي عن البول.
ومذهب السلف والخلف أنه لا فرق بين النهي عن البول فيه وبين صب بول فيه ، ولا بين البول والغائط ، وسائر النجاسات كلها .
ومذهب السلف والخلف أنه لا فرق بين النهي عن البول فيه وبين صب بول فيه ، ولا بين البول والغائط ، وسائر النجاسات كلها .
(4/17)
وذهب من أذهبه الله عن فهم الشريعة ، وأبقاه في درجة العوام ، وهو داود من المتقدمين ، وابن حزم من المتأخرين المجترئين على أن ذلك مقصورٌ على البول فيه خاصة ، فلو صب فيه بولاً أو عذِرَةً جاز ولم يضر ذلك الماء ، وكذلك لو بال خارج الماء فجرى إلى الماء لم يضره عندهما ، ولم يتناوله النهي ، ومن التزم هذه الفضائح وجمد هذا الجمود ، فحقيق ألاّ يعد من العلماء ، بل ولا في الوجود ، ولقد أحسن القاضي أبوبكر 215 - وَعَنْهُ ؛ قَالَ قاَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ )) ، فَقَالَ : كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ : يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- رحمه الله - حيث قال : إن أهل الظاهر ليسوا من العلماء ، ولا من الفقهاء ، فلا يعتد بخلافهم ، بل هم من جملة العوام ، وعلى هذا جل الفقهاء والأصوليين . ومن اعتد بخلانهم ، إنما ذلك لأن من مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام فلا ينعقد الإجماع مع وجود خلافهم . والحق : أنه لا يعتبر إلا خلاف من له أهلية النظر والاجتهاد ، على ما يذكر في الأصول .
وقول أبي هريرة لما قيل له : كيف يفعل ؟ قال : (( يتناوله تناولاً )) ؛ يعني : أن يتناول منه ، فيغتسل خارجه ، ولا ينغمس فيه ، وهذا كما قال مالك ، حيث سئل عن نحو هذا ، فقال : يحتال . وهذا كله محمول على غير المستبحر . وأما إذا كان كثيرا مستبحرًا بحيث لا يتغير فلا باس به ؛ إذ لم يتناوله الخبر .
(4/18)
216 - وَعَنْ أَنَسٍ بْنَ مَالِكٍ ؛ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ . فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مَهْ مَهْ . قَالَ : قَالَ رسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تُزْرِمُوهُ ، دَعُوهُ )) فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ : (( إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ ، وَالصَّلاةِ ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ )) ، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قَالَ : فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ ، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وللإجماع على أن الماء إذا كان بحيث لا تسري حركة المغتسل فيه أو المتوضىء إلى جميع أطرافه فإنه لا تضره النجاسة إذا لم تغيره ، وهو أقصى ما فرق بين القليل والكثير في المياه ، والله أعلم .
وقوله : (( مة مة )) ، هي اسم من أسماء الأفعال ، بمعنى كُفّ ، وهي ساكنة الهاء ، ويقال : به به بالباء بدل الميم ، فإن وَصَلْتَ(3) نَوّنْتَ مَهٍ مَهٍ ، ويقال : مَهمَهتُ به ؛ أي زجرته .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (( لا تزرموه )) : بتقديم الزاي ، أي : لا تقطعوا عليه بوله ، يقال : زَرِمَ بوله بكسر الراء ؛ أي : انقطع ، وأزرمه غيره إزرامًا . وفي الحديث : (( لا تزرموا ابني )) ؛ أي : لا تقطعوا عليه بوله .
ويحتمل أمره بتركه أن يكون لئلا تنتشر النجاسة وتكثر ، ولئلا يضره قطعُه ، وليرفق به .
وقد فرقت الشافعية بين ورود الماء على النجاسة وورود النجاسة على الماء تمسكًا بهذا الحديث ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((إذاكان الماء قلتين لم يحمل الخبث )) ،
(4/19)
.....................................................................
..................................................................
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقالوا : إذا كان الماء دون القلتين فحلته نجاسة تنجس ، وإن لم تغيره ، وإن ورد ذلك القدر فأقل على النجاسة فأذهب عينها بقي الماء على طهارته ، وأزال النجاسة ، وهذه مناقضة ؛ إذ المخالطة قد حصلت في الصورتين ، وتفريقهم بورود الماء على النجاسة وورودها عليه فرق صوري ليس فيه من الفقه شيء ، وليس الباب من باب التعبُدات ، بل هو من باب عقلية المعاني ، فإنه من باب إزالة النجاسة وأحكامها ، ثم هذا كله منهم يرده قول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( الماء طهور لا ينجسه شيء ، إلا ما غير لونه أو طعمه أو رايحه )).
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر )) ؛ حجة لمالك في منع إدخال الميت المسجد وتنزيهها عن الأقذار جملة ، فلا
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقص فيها شعر ، ولا ظفر ، ولا يتسوك فيها ؛ لأنه من باب إزالة القذر ، ولا يتوضأ فيها ، ولا يوكل فيها طعامٌ منتن الرائحة ، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى.
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن )) ؛ حجة لمالك : في أن المساجد لا يفعل فيها شيء من أمور الدنيا ، إلا أن تدعو ضرورة أو حاجة إلى ذلك ، فيتقدر بقدر الحاجة فقط ، كنوم الغريب فيه وأكله .
(4/20)
وقوله : (( فجاء بدلو من ماء فشنه عليه )) ، يروى بالشين والسين ؛ أي : صبه ، وفرّق بعضهم بينهما فقال : السين مهملة : صبٌّ في سهولة ، ومعجمة : صبٌّ في تفريق ، ومنه حديث عمر : (( كان يسن الماء على وجهه ولا يشنه )) ، وفيه حجة للجمهور : على أن النجاسة لا يطهرها الجفوف بل الماء ، خلافًا لأبي حنيفة .
****************(4/21)
( 17 ) باب نضح بول الرضيع
217- عَنْ عَائِشَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ ، فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ ، فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَيْهِ . فَدَعَا بِمَاءٍ ، فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ . وَفِي رِوَايَةٍ : بِصَبِيٍّ يَرْضَعُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب نضح بول الرضيع
وقوله : (( كان يؤتى بالصبيان فيبرِّك عليهم ويحنكهم )) : (( يبرِّك عليهم )) : يدعو لهم بالبركة ، (( ويحنكهم )) : يمضغ التمر ، ثم يدلكه بحنك الصبي . وكل ذلك تبرُّك بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ويؤخذ منه التبرك بأهل الفضل ، واغتنام أدعيتهم للصبيان عند ولادتهم .
وقوله : (( فأتي بصبي فبال عليه )) ، تعسَّف بعضهم وقال : إن الضمير عائدٌ على الصبي نفسه ، وهذا وإن كان هذا اللفظ صالحًا له ، غير أن في
218- وَعَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ ؛ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِابْنٍ لَهَالم يَبْلُغْ ، أنْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ ، فَبَال فِي حَجْرِرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبِهِ ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلاً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حديث أم قيس : (( فبال في حجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) ؛ فبطل ذلك التأويل .
وقوله : (( فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله )) ؛ يعني : رَشَّه عليه ، وقد روي : (( فصبه عليه ونضحه )) ، وكلها بمعنى واحد .
واستدل بهذا الحديث على طهارة بول الصبي الذي لم يأكل الطعام - الذكر دون الأنثى - : الشافعي وأحمد والحسن وابن وهب . ورواها الوليد بن مسلم عن مالك ، وحكي ذلك عن أبي حنيفة وقتادة ، وتمسكوا أيضًا بما رواه النسائي عن أبي السمح مرفوعًا : (( يُغسَلُ من بول الجارية ويرش من بول الغلام )) وهو صحيح .
(4/22)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومشهور مذهب مالك وأبي حنيفة : القول بنجاسة بول الذكر والأنثى ، وهو قول الكوفيين ، تمسكًا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه )) ، وبقوله في حديث القبرين : (( كان لا يستتر
.................................................................
..................................................................
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من البول )) ، وهو عموم .
وقد روي عن مالك القول بطهارة بول الذكر والأنثى جميعًا ، وهو
شاذٌّ في النقل والنظر ، وذلك أن مُستنَده قياس الأنثى على الذكر ، وقد فرق النص الصحيح بينهما ، فالقياس فاسد الوضع .
قلت : والعجب ممن يستدل برش بول الصبي ، أو بالأمر بنضحه على طهارته ، وليس فيه ما يدل على ذلك ! وغاية دلالته على التخفيف في نوع طهارته ؛ إذ قد رُخِّص في نضحه ورشه ، وعفا عن غسله تخفيفًا ، وخصَّ بهذا التخفيف الذكر دون الأنثى ؛ لملازمتهم حمل الذُكرَان ؛ لفرط فرحهم بهم ، ومحبتهم لهم ، والله أعلم .
*************
( 18 ) بَابُ غَسلِ الْمَنِيّ مِنَ الثَّوبِ وغسلِ دَمِ الْحَيضِ
219- عَنْ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ ؛ أَنَّ رَجُلاً نَزَلَ بِعَائِشَةَ ، فَأَصْبَحَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ . فَقَالَتْ عَائِشَةُ : إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئُكَ ، إِنْ رَأَيْتَهُ أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ ، فَإِنْ لَمْ تَرَ نَضَحْتَ حَوْلَهُ ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَرْكًا ، فَيُصَلِّي فِيهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب غسل المني
(4/23)
قولها : (( إنما كان يُجزيك أن رأيته أن تغسل مكانه )) ، يجزئك : يكفيك ، وأن رأيته بفتح الهمزة روايتنا ، ووجهها : أنها مفعولة بإسقاط حرف الجر ، تقديره : لأن رأيته ، أو : مِن أجل ، وهي مع الفعل بتأويل المصدر ، وكذلك : أن تغسل مكانه ، مفتوحة أيضًا على تأويل المصدر ، وهو الفاعل بيَجزيك .
وهذا من عائشة يدل : على أن المني نجسٌ ، وأنه لا يجزيء فيه إلا غسله ، فإنها قالت : (( إنما )) وهي من حروف الحصر ، ويؤيد هذا ويوضحه قولها : (( فإن لم تر نضحت حوله )). فإن النَّضحَ إنما مشروعيتُه حيث وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَتْ : هَلْ رَأَيْتَ فِيهِمَا ؟ - يَعنِي : فِي ثَوْبَيْك شَيْئًا - ، قُلْتُ : لا . قَالَتْ : فَلَوْ رَأَيْتَ شَيْئًا غَسَلْتَهُ .لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لأَحُكُّهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَابِسًا بِظُفُرِي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحققت النجاسة ، وشك في الإصابة ؛ كما قال عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ، حيث أصبح يغسل جنابةً من ثوبه ، فقال : (( أَغْسِلُ ما رأيتُ ، وأنضحُ ما لم أر )) ، وهذا مذهب السلف وجمهور العلماء .
وذهب الشافعي وكثير من المحدثين إلى أنه طاهر ؛ متمسكين بقول عائشة : (( لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فركًا فيصلي فيه )) ، وبقولها : (( ولقد رأيتُني وإني لأحكه من ثوب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يابسًا بظفري )) ، وهذا لا حجة فيه لوجهين :
أحدهما : أنها إنما ذكرت ذلك مُحتجة به على فُتياها ، بأنه لا يجزيء
220- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ ؛ قَالَ : أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ . وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/24)
فيه إلا الغسل فيما رؤي منه ، والنضح فيما لم يُرَ ، ولا تتقدر حجتها إلا بأن تكون فركته وحكته بالماء ، وإلا ناقضَ دليلها فُتياها .
وثانيهما : أنها قد نصّت في الطريق الأخرى : (( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يغسل المني ، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب ، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه )). لا يقال : كان غسله إياه مبالغة في النظافة ؛ لأنا نقول : الظاهر من غسله للصلاة وانتظار جفافه وخروجه إليها وفي ثوبه بُقَع الماء أن ذلك إنما كان لأجل نجاسته ، وأيضًا : فان مناسبة الغسل للنجاسة أصلية ؛ إذ هي المأمور بغسلها ، فحمل الغسل على قصد النجاسة أولى ، ألا ترى أن الشافعية استدلوا على نجاسة الكلب بالأمر بغسل الإناء منه ، ولم يعرجوا على احتمال كونه للنظافة ، وكذلك نقول نحن في غسل المني ، ثم نقول : هب أن هذا الغسل يحتمل أن يكون للنجاسة ، ويحتمل أن يكون للنظافة ، وحينئذ يكون مجملاً لايستدل به لا على طهارته ، ولا على نجاسته ، لكنا عندنا ما يدل على نجاسته ، وهو أنه يمر في ممر البول ، 221- وَعَنْ أَسْمَاءَ ؛ قَالَتْ : جَاءَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَتْ : إِحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ . كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : " تَحُتُّهُ ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم يخرج فينجس بالمرور في المحل النجس ، وهذا لا جواب عنه على أصل الشافعية عند الإنصاف .
(4/25)
فإن قالوا : بول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسائر فضلاته طاهرٌ طيبٌ ، قلنا : لم يصح عند حد علمائنا في هذا شيء ، والأصل : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحد من البشر ، وهو مُسَاوٍ لسائر المكلفين في الأحكام ، إلا ما ثبت فيه دليل خصوصيته ، سلمنا ذلك ، لكن فغيره يكون منيهُ نجسًا بالمرور على ما ذكرنا ، فإن قالوا : المني أصلٌ لخلق الإنسان فيكون طاهرًا كالتراب ، قلبناه عليهم ، فقلنا : المني أصلٌ لخلق الانسان فيكون نجسًا كالعلقة .
فإن قالوا كيف يكون نجسًا وقد خلق منه الأنبياء والأولياء ؟ قلنا : وكيف يكون طاهرًا وقد خلق منه الكفرة والضلاّل والأشقياء ، فبالذي ينفصلون به ننفصل .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( تحته ثم تقرصه )) ، رويناه مشددًا ومخففًا ، والحت : الحك . والقرص ، والتقريص : هو تقطيعه بأطراف الأصابع ليتحلل بذلك ، ويخرج من الثوب .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ثم تنضحه )) ، ذهب بعض الناس إلى أن النضح هنا معناه الغسل ، وتأوله على ذلك ، ولا حاجة إلى هذا التأويل ، بل إنما معناه الرشُّ ، وأما غسل الدم فقد علمها إياه ؛ حيث قال لها : (( تحته ثم تقرصه بالماء )) ، وأما النضح فهو فيما شكت فيه من الثوب ، كما قالت عائشة في المني ، ولذلك جمعنا بين حديث عائشة في غسل المني وبين حديث أسماء في غسل دم الحيضة ، حتى يتبين أن الكيفية المأمور بها في غسلهما واحدة ، وأنهما متساويتان في النجاسة . ويدل هذا الحديث على أن قليل دم الحيض وكثيره سواء في وجوب غسل جميعه ، من حيث لم يفرق بينهما في محل البيان ، ولو كان حكمهما مختلفًا لفصله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز إجماعًا ، وهو مشهور مذهب مالك ، وقد قال مالك رحمه الله : قد سماه الله أذى ، وهو يخرج من مخرج البول .
*************
( 19 ) باب في الاستبراء من البول والتستر وما يقول إذا دخل الخلاء
(4/26)
222- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ : مَرَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى قَبْرَيْنِ . فَقَالَ : "أَمَا إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ . أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ " قَالَ : فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ . ثُمَّ غَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا ، وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا . ثُمَّ قَالَ : " لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا ، مَا لَمْ يَيْبَسَا " .
وَفِي رِوَايَةٍ : " وَكَانَ الآخَرُ لا يَسْتَنْزِهُ عَنِ الْبَوْلِ أَوْ مِنَ الْبَوْلِ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الاستبراء من البول
قوله : (( وما يعذبان في كبير )) ؛ أي : عندكم ، وهو عند الله كبيرٌ ، كما جاء في البخاري : (( وإنه لكبير )) ؛ أي : عند الله ، وهذا مثل قوله تعالى : { وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم } ، وقد تقدم الكلام على النَّمام في الإيمان. والنميمة : هي القالة التي ترفع عن قائلها ليتضرر بها قائلها.
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله )) ؛ أي : لا يجعل بينه وبين بوله سُترة حتى يتحفظ منه ، كما قال في الرواية الأخرى : (( لا يستنزه عن البول )) ؛ أي : لا يتباعد منه . وهذا يدل على أن القليل من البول ومن سائر النجاسات والكثير منه سواء ، وهو مذهب مالك وعامة الفقهاء ، ولم يخفَّفوا في شيء من ذلك إلا في اليسير من دم غير الحيض خاصةً .
(4/27)
واختلف أصحابنا في مقدار اليسير ، فقيل : هو قدر الذرهم البغلي. وقيل : قدر الخنصر ، وجعل أبو حنيفة قدر الدرهم من كل نجاسة معفو عنها ، قياسًا على المخرجين ، وقال الثوري : كانوا يرخصون في القليل من البول ، ورخص الكوفيون في مثل رؤوس الإبرِ من البول .
وفيه دليلٌ على أن إزالة النجاسة واجبة متعينة ، وكذلك في قوله : ((استنزهوا من البول ، فإن عامة عذاب القبر منه )) .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد تخيل الشافعي في لفظ البول العموم ، فتمسك به في نجاسة جميع الأبوال ، وإن كان بول ما يؤكل لحمه . وقد لا يسلم له أن الاسم المفرد للعموم ، ولو سلم ذلك ، فذلك إذا لم تقترن به قَرِينةُ عهدٍ ، وقد اقترنت ها هنا ، ولئن سُلم له ذلك فدليل تخصيصه حديث إباحة شرب أبوال الإبل للعرنيين ، وإباحة الصلاة في مرابض الغنم ، وطوافه عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بعير ، وسيأتي .
وقوله : (( فدعا بعسيب رطب )) ، العسيب من النخل : كالقضيب مما سِواهَا ، والرطب : الأخضر .
وقوله : (( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا )) ، اختلف العلماء في تأويل هذا الفعل ، فمنهم من قال : أوحي إليه أنه يخفف عنهما ما داما رطبين ، وهذا فيه بُعدٌ ؛ لقوله : (( لعله )) ، ولو أوحي إليه لما احتاج إلى الترجي .
وقيل : لأنهما ما داما فصن رطب رطبين يسبحان ، فإن رطوبتهما حياتهما ، وأخذ من هذا التأويل جواز القراءة والذكر على القبور.
223- وَعَنْ أَنَسٍ ؛ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ - وَفِي رِوَايَةٍ : االْكَنِيفَ - قَالَ : " اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/28)
وقيل : لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شفع لهما ، ودعا بأن يخفف عنهما ، ما داما رطبين ، وقد دل على هذا حديث جابر الذي يأتي في آخر الكتاب في حديث القبرين ، قال فيه : (( فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ، ما دام القضيبان رطبين ، فإن كانت القضية واحدة - وهو الظاهر - فلا مزيد على هذا في البيان .
وقوله : (( فإذا دخل الخلاء )) ، أصل الخلاء : الخلوة ، وهي الخلوُّ ، كنى به عن الحدث ؛ لأنه يُفعَل في خلوةٍ . والكنيف : الساتر .
وقوله : (( إذا دخل )) ؛ أي : أراد أن يدخل ، وقد جاء هذا أيضًا في البخاري هكذا : (( إذا أراد أن يدخل )) ، ويخرج من هذا : كراهة ذكر ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الله تعالى ، وقراءة القران في هذه المواضع المعتادة للحدث ، فلو لم يتعوذ عند الدخول ناسيًا ، فهل يتعوذ بعد الدخول أم لا ؟ فعن مالك في ذلك قولان ، وكرهه جماعة من السلف كابن عباس ، وعطاء ، والشعبي . وأجاز ذكر الله تعالى في الكنيف ، وعلى كل حال ، جماعة كعبدالله بن عمرو ، وابن سيرين ، والنخعي ، متمسكين بقول عائشة : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكر الله على كل أحيانه.
وكذلك اختلفوا في دخول الخلاء بالخاتم فيه اسم الله تعالى .
وقوله : (( أعوذ )) ؛ أي : ألوذ وألتجيء ، وقد تقدم .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/29)
وقوله : (( من الخبث والخبائث )) ، رويناه : ساكن الباء ومضمومها . قال ابنُ الأعرابي : الخبيث في كلام العرب : المكروه . وهو ضد الطيب . قال أبو الهيثم : الْخُبث - بالضم - : جمع خبيث ، وهو الذَّكرُ من الشياطين ، والخبائث : جمع الخبيثة ، وهي الأنثى منهم ، يعني : أنه تعوذ من ذكورهم وإناثهم ، ونحوه قال الخطابي . وقال الداودي : الخبيث : الشيطان ، والخبائث : المعاصي . وأما بسكون الباء فقيل فيه : إنه المكروه مطلقًا ، وقيل : إنه الكفر . والخبائث : الشياطين ، قاله ابن الأنباري . وقيل : الخبائث : البول والغائط ، كما قال : (( لا تدافعوا الأخبثين : الغائط والبول في الصلاة )) .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد روى أبو داود في المراسيل عن الحسن : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا أراد الخلاء قال : (( اللهم إني أعوذ بك من الخبث المخبث ، الرجس النجس ، الشيطان الرجيم )) ، فأتى بالخبيث للجنس ، وأكده بالمخبث ، والعرب تقول : خبيثٌ مخبثٌ ، ومخبثان إذا بالغت في ذلك .
***************
( 20 ) باب ما يحل من الحائض
224- عَنْ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : كَانَتْ ؛ إِحْدَانَا ، إِذَا كَانَتْ حَائِضًا ، أَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ تَأْتَزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا . قَالَتْ : أَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَمْلِكُ إِرْبَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما يحل من الحائض
قوله : (( أمرها أن تأتزِرَ في فورِ حيضتها )) ، الائتزارُ : شد الإزار على الوسط إلى الركبة ، وقال ابن القصَّار : من السرة إلى الركبة ، وهذا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبالغة في التحرز من النجاسة ، وإلا فالحماية تحصُل بخرقة تحتشي بها .
(4/30)
و (( فور الحيضة )) : معظم صبها ، من فوران القِدر والبحر ، وهو غليانهما . قال ابن عرفة : والمحيض والحيض : اجتماع الدم إلى ذلك المكان ، وبه سمي الحوض لاجتماع الماء فيه ، يقال : حاضت المرأة ، وتحيضت حيضًا ومحاضًا ومحيضًا ، إذا سال الدم منها في أوقات معلومة ، فإذا سال في غيرها قيل : استحيضت ، فهي مستحاضة ، قال : ويقال : حاضت المرأة ، وتحيضت ، ودرست ، وعركت ، وطمثت .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال غيره : ونفست ، بفتح النون وكسر الفاء ، وحكي في النون الضم ، وقيل : في قوله تعالى : { وامرأته قائمة فضحكت } ؛ أي : حاضت ؛ وقيل : سُمي المحيض حيضًا من قولهم : حاضت السمرة : إذا خرج منها ماء أحمر .
قلت : ويحتمل أن يكون قولهم : حاضت السمرة تشبيهًا بحيض المرأة ، والله تعالى أعلم .
225- وَعَنْ مَيْمُونَةَ ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُبَاشِرُ نِسَاءَهُ فَوْقَ الإِزَارِ ، وَهُنَّ حُيَّضٌ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ثم يباشرها )) ؛ أي : تلتقي بشرتاهما ، والبشرة : ظاهر الجلد ، والأَدَمَةُ : باطنه ، ويعني بذلك : الاستمتاع بما فوق الإزار والمضاجعة ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذي سأله عما يحل له من امرأته الحائض ،
226- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ؛ قَالَتْ : بَيْنَمَا أَنَا مُضْطَجِعَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي الْخَمِيلَةِ ، إِذْ حِضْتُ ، فَانْسَلَلْتُ ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أَنَفِسْتِ " قُلْتُ : نَعَمْ . فَدَعَانِي ، فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ . قَالَتْ : وَكَانَتْ هِيَ وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَغْتَسِلونَ فِي الإِنَاءِ الْوَاحِدِ مِنَ الْجَنَابَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/31)
فقال : (( لتشُدَّ عليها إزارها ، ثم شأنك بأعلاها )) ، وهذا مبالغة في الحماية ، والمحرمُ لنفسِهِ فهو الفَرجُ ، وعلى هذا ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها : (( وأيكم يملك إربه )) ، قيدناه بكسر الهمزة وإسكان الراء ، وبفتح الهمزة وفتح الراء ، كلاهما له معنى صحيحٌ ، وإن كان الخطابي قد أنكر الأول على المحدثين ، ووجه الأوّل أن الإرب هو العضو ، والآراب : الأعضاء ، فكنّت به عن شهوة الفرج ؛ إذ عضو من الأعضاء ، وهذا تكلف ، بل في "الصحاح" : أن الإرب : العضو والدهاء والحاجة أيضًا ، وفيه لغات : إربٌ وإربةٌ وإربٌ ومأربةٌ ، ويقال : ذو أربٍ ؛ أي : ذو عقل ، فقولها : (( يملك إربه )) بالروايتين ؛ يعني : حاجة للنساء .
وقول عائشة في الخميلة ؛ أي القطيفة ، قاله ابن دُريد . وقال الخليل : الخميلة : ثوب له خملٌ أو هُدب .
وقولها : (( فأخذت ثياب حيضتي )) ، بفتح الحاء كذا قيدناه(3) ، تعني به(4) الدم ، وقد قيده بعض الناس بكسر الحاء ، تعني به الهيئة والحالة ، كما تقول العرب : هو حَسنُ القعدَة والجلسَة ، وكذا قاله الخطابي في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن حيضتك ليست في يدك )) (5) : أن(6) صوابه بكسر الحاء ،
وعاب على المحدثين الفتح ، وعيبه معابٌ ؛ لأن الهينة هنا غير مرادة ، وإنما
227- وَعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُخْرِجُ إِلَيَّ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ ، وَهُوَ مُجَاوِرٌ ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو الدم في الموضعين .
(4/32)
وقوله : (( أنفست ؟)) قيدناه بضم النون وفتحها . قال الهروي وغيره : يقال نُفِست المرأة إذا ولدت ، وإذا حاضت قيل : نَفَسَت بفتح النون لا غير ، فعلى هذا يكون ضم النون هنا خطأ ، فإن المراد به هنا الحيض قطعًا ، لكن حكى أبو حاتم عن الأصمعي الوجهين في الحيض والولادة ، وذكر ذلك غير واحد ، فعلى هذا تصحُّ الروايتان . وأصل ذلك كله من خروج الدم ، وهو المسمى : نفسًا ، كما قال :
تَسِيلُ على حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنا وليست على غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
وقولها : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخرج إليَّ رأسه من المسجد وهو مجاورٌ )) ؛ أي : معتكفٌ ، وكذا جاء في رواية أخرى .
228- وَعَنْهَا ؛ قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ " قَالَتْ : فَقُلْتُ : إِنِّي حَائِضٌ . فَقَالَ : " إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ناوليني الْخُمْرةَ من المسجد )) ، الْخُمْرة : حصير ينسج من خُوصٍ يُسجَدُ عليه ، سُمي بذلك ؛ لأنه يخمر الوجه ، أي : يستره ، وهو أصل هذا الحرف .
وقد اختلف في هذا المجرور الذي هو (( من المسجد )) بماذا يتعلق ؟ فعلقته طائفة بـ(( ناوليني )) ، واستدلوا به على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة تعرض لها ، إذا لم يكن على جسدها نجاسة ، وأنها لاتمنع من المسجد إلا مخافة ما يكون منها ، وإلى هذا نحا محمد بن مسلمة من أصحابنا ، وبعض المتأخرين : إذا استثفرت ، ومتى خرج منها شيء في الثفر لم تدخله تنزيها للمسجد عن النجاسة .
وعلقته طائفة أخرى بقولها : قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المسجد ((ناوليني الخمرة )) على التقديم والتأخير ، وعليه المشهور من مذاهب ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/33)
العلماء ، أنها لا تدخل المسجد لا مقيمة ولا عابرة ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا أُحل المسجد لحائض ولا جنب )) ، خرجه أبو داود ، وبأن حَدَثها ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أفحش من حدث الجنابة ، وقد اتفق على أن الجنب لا يلبث فيه ، وإنما اختلفوا في جواز عبوره فيه ، والمشهور من مذاهب العلماء منعه ، والحائض أولى بالمنع .
قلت : ويحتمل : أن يريد بالمسجد هنا مسجد بيته الذي كان يتنقل فيه.
229- وَعَنْهَا ؛ قَالَتْ : كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ ، فَيَشْرَبُ . وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ .
230- وَعَنْهَا ؛ أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، وَأَنَا حَائِضٌ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها : (( وأتعرق العرق )) ؛ أي : العظم الذي عليه اللحم ، وجمعه عراق ، الحاضى وأتعرقه : اكل ما عليه من اللحم .
وهذه الأحاديث متفقة على الدلالة على أن الحائض لا ينجس منها شيء ، ولا يُجتنب منها إلا موضع الأذى فحسب ، والله أعلم .
وقولها : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتكئ في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض )) ، كذا صوابه عند الرواة كلهم هنا ، وفي البخاري .
ووقع للعذري : (( في حجرتي )) بضم الحاء وبالتاء باثنتين من فوق ، وهو وهم ، وقد استدل بعض العلماء على جواز قراءة الحائض القرآن ، وحملها المصحف . وفيه بُعد ، لكن جواز قراءة الحائض للقران ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/34)
عن ظهر قلب ، أو نظر في المصحف من غير أن لا تمسه ، هي إحدى الروايتين عن مالك ، وهي أحسنها تمسكًا بعموم الأوامر بالقراءة ، وبأصل ندبية مشروعيتها . ولا يصح ما يذكر في منعهما القراءة من نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحائض عن قراءة القرآن ، وقياسها على الجنب ليس بصحيح ، فان أمرها يطول ، وليست متمكنة من رفع حدثها ، فافترقا .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويؤخذ من قراءته ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن في حجر الحائض جواز استناد المريض للحائض في صلاته ؛ إذا كانت أثوابها طاهرة ، وهو أحد القولين عندنا .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصحيح الرواية : (( وأنا حائض )) بغير هاء ووقع عند الصدفي ((حائضةٌ )) والأول أفصح ، وهذه جائزة ؛ لأنها جارية على الفعل ، كما قال الأعشى :
أجارتنا بِينِي فإنك طالقة
وكما قال تعالى : {وَلِسُلَيْمَانَ الْرِيحَ عَاصِفَةً} ، وللنحاة في الأول وجهان :
أحدهما : أن (( حائض)) و(( طالق )) و(( مرضع )) مما لا شركة فيه للمذكر ، فاستغني عن العلامة .
والثاني - وهو الصحيح - : أن ذلك على طريق النسب ؛ أي : ذات حيض ورضاع وطلاق ، كما قال تعالى : { السماء منفطر به } ؛ أي : ذات انفطار .
(4/35)
231- وَعَنْ أَنَسٍ ؛ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهنَّ فِي الْبُيُوتِ . فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ النَّبِيَّ فَأَنْزَلَ اللهُ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ... } إِلَى آخِرِ الآيَةِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلا النِّكَاحَ " فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَقَالُوا : مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلا خَالَفَنَا فِيهِ . فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالا : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ : كَذَا وَكَذَا . أَفَلا نُجَامِعُهُنَّ ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا ، فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلتَهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا ، فَسَقَاهُمَا ، فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتغير وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قول أُسيد بن الْحُضير وعباد بن بشر إنما كان ليبين أن الحامل على مشروعية الأحكام إنما هو أمر الله ونهيه ، لا مخالفة أحد ولا موافقته ، كما ظنا ، ثم لما خرجا من عنده وتركاه على تلك الحالة ، خاف عليهما أن يحزنا ، وأن يتكدر حالهما ، فاستدرك ذلك واستمالهما ، وأزال عنهما ما أصابهما ، بأن أرسل إليهما فسقاهما اللبن ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رأفة ورحمة منه لهما ، على مقتضى خُلقِه الكريم ، كما قال تعالى : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }.
*************
( 21 ) باب في الوضوء من المذي وغسل الذكر منه
(4/36)
232- عَنْ عَلِيٍّ ـ رضى الله عنه ـ ؛ قَالَ : كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً ، فَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ . فَسَأَلَهُ فَقَالَ : " يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ، وَيَتَوَضَّأُ " .
وَفِي رِوَايَةٍ : فقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " تَوَضَّأْ ، وَانْضَحْ فَرْجَكَ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الوضوء من المذي
قول علي ـ رضى الله عنه ـ : (( كنت رجلاً مذاءً )) ؛ أي : كثير المذي ، كما جاء عنه في كتاب أبي داود قال : (( كنت ألقى من المذي شدّة ، فكنت أغتسل منه حتى تشقق ظهري )).
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمذي : ماء أبيض رقيق يخرج عند الملاعبة والتذكار ، أكثر خروجه من العَزب ، وهو نجسٌ باتفاق العلماء ، إلا ما يحكى عن أحمد بن حنبل من أنه طاهر كالمني عنده ، وهو خلافٌ شاذٌ ، وقد تقدم القول في نجاسة المني ، ويقال فيه : مَدْي ، بسكون الذال وتخفيف الياء. ومَذِيٌّ بكسر الذال ، وتشديد الياء ، ويقال : مذَى وأَمذَى ، لغتان .
وقوله : (( فأمرت المقداد بن الأسود )) ، هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي ، وإنما نسب للأسود لأنه كان في حجره ، وكان قد تبناه ، وقيل : حالفه ، وجاء في رواية أخرى : (( أرسلنا المقداد إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به ؟ وهذا يدل على أنه ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/37)
لم يحضر مجلس السؤال ، ويتوجه على هذا إشكال ، وهو أن يقال : كيف اكتفى بخبر الواحد المفيد لغلبة الظن مع تمكنه من الوصول إلى اليقين بالمشافهة ؟ ويلزم منه جواز الاجتهاد مع القدرة على النص ، والجواب أن نقول : يحتمل أن يكون مع أمره وإرساله حضر مجلس السؤال والجواب ، ولو سلمنا عدم ذلك قلنا : إن العمل بخبر الواحد جائزٌ مع إمكان الوصول إلى اليقين ، إذا كان في الوصول إلى اليقين كلفة ومشقة ، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتناوبون حضور مجلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسماع ما يطرأ فيه ، ويحدِّثُ من حضر لمن غاب ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يوجه ولاته وأمراءه ليعلموا الناس العلم آحادًا ؛ مع تمتهنه مني إرسال عدد التواتر ، أو أمره أن يرتحل إليه عدد التواتر لِيَسمعوا منه ، ولم يفعل ذلك إسقاطًا للمشقة ، ومجانبة للتعنيت والكلفة ، ولذلك قال تعالى : { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الْدِينِ } ، والطائفة لا يحصل العلم بخبرهم إذ الفرقة أقلها ثلاثة . والطائفة منهم واحد أو اثنان ، ولا يلزم على ذلك تجويز الاجتهاد مع وجود النص ؛ لأنهم yلم يجتهدوا إلا حيث فقدوا النصوص القاطعة والمظنونة ، وذلك لأن الظن الحاصل من نصوص أخبار الآحاد أقوى من الظن الحاصل عن الاجتهاد ، وبيان ذلك : ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن الوهم إنما يتطرق إلى أخبار الآحاد من جهة الطريق ، وهي جهة واحدة ، ويتطرق إلى الاجتهاد من جهات متعددة فانفصلا ، والله أعلم .
وقوله : (( يغسل ذكره ويتوضأ )) ، ظاهر هذا أنه يغسل جميع ذكره ؛ لأن الاسم للجملة ، وهو رأي المغاربة من أصحابنا ، وهل ذلك للعبادة فيفتقر إلى نية ، أو لقطع أصل المذي فلا يحتاج ؟ قولان لأبي العباس الإبياني وأبي محمد بن أبي زيد .
(4/38)
وذهب بعض العراقيين من أصحابنا : إلى أنه يغسل منه موضع النجاسة فقط ، ولم يختلف العلماء أن المذي إذا خرج على الوجه المعتاد أنه ينقض الوضوء .
وقوله في الرواية الأخرى : (( توضأ وانضح فرجك )) ، النضح هنا : هو الغسل المذكور في الرواية المتقدمة ، والواو غير مرتبة ، ويحتمل أن يريد به : أن يرش ذكره بعد غسله ووضوئه ؛ لينقطع أصل المذي أو يقل ، والله أعلم .
************
( 22 ) باب وضوء الجنب إذا أراد النوم أو معاودة أهله
233- عَنْ عَائِشَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : إذا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ ، تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ ... .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب وضوء الجنب إذا أراد النوم
قول عائشة : (( أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة )) ؛ يدل على بطلان قول من قال : إنه الوضوء اللغوي .
وقوله : (( ليتوضأ ثم لينم )) ؛ حجة لمن قال بوجوب وضوء الجنب عند نومه ، وهو قول كثير من أهل الظاهر ، وهو مروي عن مالك ، وروي عنه : أنه مندوب إليه ، وعليه الجمهور ، وهو الصحيح ؛ إذ قد روى الترمذي عن عائشة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينام وهو جنب لا يمس ماء . ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد روت عنه أنه كان يتوضأ قبل أن ينام ، فكان وضوؤه كغسله ، فإنه
(4/39)
235- وَعَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ ؛ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . قَالَ : قُلْتُ : كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِي الْجَنَابَةِ ؟ أَكَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ أَمْ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ ؟ قَالَتْ : كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ . رُبَّمَا اغْتَسَلَ فَنَامَ وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ فَنَامَ . قُلْتُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان ربما يغتسل قبل النوم ، وربما يغتسل بعد النوم كما قد روت عنه . وغسل الجنب قبل النوم ليس بواجب إجماعًا بل مندوبٌ إليه ، فيكون الوضوء كذلك .
ثم هل معنى ذلك حُكمٌ غير معللٍ فيقتصر به على محله ، أو هو معلل ؟ فمن أصحابنا من قال : هو معللٌ بما عساه ينشط فيغسل ، ومنهم من علَّله بأنه ليبيت على إحدى الطهارتين ، وعلى هذا التعليل الثاني تتوضأ الحائض ، ولا تتوضأ على التعليل الأول .
وأما وضوء الجنب عند الأكل ؛ فظاهر مساق حديث عائشة يقتضي أن يكون ذلك الوضوء هو وضوء الصلاة ، فإنها جمعت بين الأكل والنوم في الوضوء .
234- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ عُمَرَ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَقَالَ : هَلْ يَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ ؟ قَالَ : " نَعَمْ . لِيَتَوَضَّأْ ، ثُمَّ لِيَنَمْ ، حَتَّى يَغْتَسِلَ إِذَا شَاءَ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد حُكي أن ابن عمر كان يأخذ بذلك عند الأكل ، والجمهور على خلافه ، وأن معنى وضوئه عند الأكل : غسل يديه ، ثم يأكل أو يشرب ، وذلك لما يخاف أن يكون أصابهم أذى .
236- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ ، فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ نَامَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/40)
وقد روى النسائي عن عائشة هذا مفسرًا ، فقالت : (( كان
237- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعَاوِد ، فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن ينام وهو جنبٌ توضأ ، وإذا أراد أن ياكل أو يشرب - قالت - : غسل يديه ، ثم يأكل أو يشرب )).
وقول ابن عباس : (( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام من الليل فقضى حاجته )) ، المراد بالحاجة هاهنا : الحدث ؛ لأنه هو الذي يمكن أن يطَّلِعَ عليه ابن عباس ، وأيضًا فهو الذي يقام له ، ويحتمل أن تكون حاجته إلى أهله ، وبخبر بذلك ابن عباس عمن أخبره بذلك من زوجات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويقصد بذلك : بيان أن الجنب لا يجب عليه أن يتوضأ للنوم الوضوء الشرعي ، والله أعلم .
وقوله : (( إذا أتى أحدكم أهله ، ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءًا )) ، ذهب بعض أهل الظاهر إلى أن هذا الوضوء هنا هو الوضوء العرفي ، وأنه واجبٌ ، واستحبه أحمد وغيره .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب الفقهاء وأكثر أهل العلم إلى أنه غسل الفرج فقط ، مبالغة في النظافة واجتنابًا لاستدخال النجاسة . ويستدل على ذلك بأمرين :
أحدهما : أنه قد روى هذا الحديث ليث بن أبي سليم من حديث عمر ، وقال فيه : (( فليغسل فرجه )) مكان : (( فليتوضأ بينهما وضوءًا )).
238- وَعَنْ أَنَسٍ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/41)
وثانيهما : أن الوطء ليس من قبيل ما شرع له الوضوء ، فإن أصل مشروعيته للقرب والعبادات ، والوطء ينافيه ، فإنه للملاذ والشهوات ، وهو من جنس المباحات ، ولو كان ذلك مشروعًا لأجل الوطء لشُرع في الوطء المبتدأ ، فإنه من نوع المعاد ، وإنما ذلك لما يتلطخ به الذكر من نجاسة ماء الفرج والمني ، فإنه مما يكره ويستثقل عادة وشرعًا ، والله أعلم.
وقول أنس : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطوف على نسائه بغسل واحد )) ؛ هذا طواف يحتمل أن يكون من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند قدومه من سفر ، أو عند تمام الدوران عليهن وابتداء آخر ، فدار عليهن ليلةً ، أو يكون ذلك عن إذن صاحبة اليوم ، أو يكون ذلك خصوصًا به ، وإلا فوطء المرأة في يوم ضرتها ممنوع منه ، وقد ظهرت خصائصه في هذا الباب كثيرًا ، هذا مع ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن القسم عليه بينهن واجبًا ؛ لقوله تعالى : { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } ، لكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قد التزمه لهن تطييبًا لأنفسهن ، ولتقتدي أمته بفعله ، والله أعلم .
وبجوز الجمع بين الزوجات والسراري في غسل واحد ، وعليه جماعة السلف والخلف ، وإن كان الغسل بعد كل وطء أكمل وأفضل ؛ لما رواه النسائي عن أبي رافع قال : (( طاف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على نسائه ، فجعل ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يغتسل عند هذه وعند هذه ، فقلت : يا رسول الله ! لو جعلته غسلاً واحدًا ؟ قال : (( هذا أزكى وأطيب وأطهر )) .
*************
( 23 ) باب وجوب الغسل على المرأة إذا رأت في المنام مثل
ما يرى الرجل
(4/42)
239- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ؛ قَالَتْ : جَاءَتْ أَمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ . فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ " فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا رَسُولَ اللهِ! وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ ؟ فَقَالَ : " تَرِبَتْ يَدَاكِ ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب وجوب الغسل على المرأة إذا رأت في المنام مثل ما يرى الرجل
قول أم سليم : (( إن الله لا يستحيي من الحق )) ؛ أي : لا يأمر بالحياء فيه ، ولا يمتنع من ذكره ، وأصل الحياء : انقباض واحتشام يجده الإنسان عندما يطلع منه على عورة ، وهو في حق الله عبارة عن الامتناع عن مثل ذلك الفعل المستحيا منه.
وقوله : (( تربت يداك )) ؛ أي : افتقرت ، قال الهروي : ترب الرجل :
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/43)
إذا افتقر ، وأترب : إذا استغنى ، وفي "الصحاح" : ترب الشيء بالكسر : أصابه التراب ، يداك ومنه ترب الرجل : إذا افتقر ؛ كانه لصق بالتراب ، قال : وأترب الرجل : إذا(1) استننى ، كأنه صار ماله من الكثرة بقدر التراب . وتأول مالك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة : (( تربت يداك )) بمعنى الاستغناء ، وكذلك قال عيسى بن دينار ، وقال ابن نافع : معناه : ضعف عقلك . وقال الأصمعي : معناه : الحض على تعلم مثل هذا ، كما يقال : انْجُ ثكلتك أمك . وقيل : (( تربت يداك )) : أصابها التراب ، ولم يرد الفقر . والصحيح : أن هذا اللفظ وشبهه تجري على ألسنة العرب من غير قصد الدعاء به. وهذا مذهب أبي عبيد في هذه الكلمات وما شابهها . وقد أحسن البديع في بعض رسائله ، وأوضح هذا المعنى فقال : (( وقد يوحش اللفظ وكله ودٌّ ، ويكره الشيء وليس من فعله بدٌّ ، هذه العرب تقول : (( لا أبا لك )) للشيء إذا أهم(7) ، و(( قاتله الله )) ، ولا 240- وَفِي رِوَايَةٍ : " فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ ؟ إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ . فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلا ، أَوْ سَبَقَ ، يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يريدون به الذم ، و(( ويل أمه )) ، للأمر إذا تم . وللألباب في هذا الباب أن تنظر إلى القول وقائله ، فإن كان وليًّا فهو الولاء وإن خَشُنَ ، وإن كان عدوًّا فهو البلاء وإن حسن )).
قلت : وعلى تقدير كونه دعاءً على أصله ، مقصودًا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بُعده ، فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم من دعوت عليه أو سببته أو لعنته -يعني : من المسلمين - فاجعل ذلك له زكاة ورحمة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة )) .
وإنكار أم سلمة وعائشة على أم سليم قضية احتلام النساء ، تدل على قلة وقوعه من النساء .
(4/44)
وقوله : (( فمن أين يكون الشبه )) ، يروى بكسر الشين وسكون الباء ، وفتح الشين والباء لغتان ، كما يقال : مِثْل ، ومَثَل ، ومعنى ذلك مفسر في حديث عائشة وثوبان ، وما ذكره من صفة الماءين إنما هو في غالب
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأمر واعتدال الحال ، وإلا فقد تختلف أحوالهما للعوارض .
وقوله : (( فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه )) ؛ أي : فمن أجل علو أو سبق أحدهما يكون الشبه . ويحتمل : أن يقال : إن (( من )) زائدة على قول بعض الكوفيين : إنها تزاد في الواجب بتقدير فأيهما علا. ويحتمل أن يكون (( أو )) شكًّا من أحد الرواة . ويحتمل أن يكون تنويعًا ؛ أيْ : أيَّ نوعٍ كان منهما ، كان منه الشبه ، كما قال الشاعر :
فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما صدور رماح أشرعت أو سلاسل
أي : أحد النوعين لا بد منه . و(( سبق )) ؛ أي : بادر بالخروج ، وقد جاء في غير كتاب مسلم : (( سَبقَ إلى الرحم )).. ويحتمل أن يكون بمعنى : غلب ، من قولهم : سابقني فلان فسبقته ؛ أي : غلبته ، ومنه قوله تعالى : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } ؛ أي : مغلوبين ، فيكون معناه : كثر.
241- وَعَنْ عَائِشَةَ ؛ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هَلْ تَغْتَسِلُ الْمَرْأَةُ إِذَا احْتَلَمَتْ وَأَبْصَرَتِ الْمَاءَ ؟ فَقَالَ : " نَعَمْ " فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ : تَرِبَتْ يَدَاكِ . وَأُلَّتْ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " دَعِيهَا . وَهَلْ يَكُونُ الشَّبَهُ إِلا مِنْ قِبَلِ ذَلِكِ ؟ إِذَا عَلا مَاؤُهَا مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ . وَإِذَا عَلا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَهَا أَشْبَهَ أَعْمَامَهُ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/45)
وقوله في الرواية الأخرى : (( إذا علا ماؤُها ماءَ الرجل أشبه الولد أخوالهُ ، وإذا علا ماء الرجل ماءَها أشبه الولد أعمامهُ )) ؛ مقتضى هذا : أن العُلو يقتضي الشبه ، وقد جعل العلو في حديث ثوبان الآتي يقتضي الذكورة والأنوثة ، فعلى مقتضى الحديثين يلزم اقتران الشبه للأعمام والذكورة إن علا مني الرجل ، وكذلك يلزم إذا علا مني المرأة اقتران الشبه للأخوال والأنوثة ؛ لأنهما معلولا علة واحدة ، وليس الأمر كذلك ، بل الوجود بخلاف ذلك ؛ لأنا نجد الشبه للأخوال والذكورة ، والشبه للأعمام والأنوثة ، فتعين تأويل أحد الحديثين ، والذي يتعين تأويله : العلو الذي في حديث ثوبان ، فيقال : إن ذلك العلو معناه : سبق الماء إلى الرحم والذكورة . ووجهه : أن العلو لما كان معناه الغلبة ، كما فسرناه ، وكان السابق عاليًا في ابتدائه بالخروج قيل عليه : علا ، ويؤيد ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا التأويل أنه قد روي في غير كتاب مسلم : (( إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا )) .
وقد بنى القاضي أبو بكر بن العربي على اختلاف هذه الأحاديث بناء ، فقال : إن للماءين أربعة أحوال :
الأول : أن يخرخ ماء الرجل أولاً .
والثاني : أن يخرج ماء المرأة أولاً .
والثالث : أن يخرج ماء الرجل أولاً ويكون أكثر .
الرابع : أن يخرج ماء المرأة أولاً ويكون أكثر .
(4/46)
ويتم التقسيم : بأن يخرج ماء الرجل أولاً ، ثم يخرج ماء المرأة بعده ، فيكون أكثر ، أو بالعكس ، فإذا خرج ماء الرجل أولاً وكان أكثر جاء الولد ذكرًا بحكم السبق ، وأشبه الولد أعمامه بحكم الكثرة ، وإن خرج ماء المرأة أولاً وكان أكثر جاء الولد أنثى بحكم السبق ، وأشبه أخواله ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحكم الغلبة ، وإن خرج ماء الرجل أولاً لكن لما خرج ماء المرأة بعده كان أكثر كان الولد ذكرًا بحكم السبق ، وأشبه أخواله بحكم غلبة ماء المرأة . وإن سبق ماء المرأة لكن لما خرج ماء الرجل وكان أعلى من ماء المرأة كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة ، وأشبه أعمامه بحكم غلبة ماء الرجل . قال : وبانتظام هذه الأقسام يستتب الكلام ، ويرتفع التعارض عن هذه الأحاديث .
وقوله في حديث عائشة : (( تربت يداك وأُلّت )) ؛ بضم الهمزة وتشديد اللام ؛ أي : أصيبت بالألة ، وهي الحربة ، يقال : ألّة يؤلّه ألاًّ ؛ أي : طعنه بها .
وهذه الأحاديث كلها تدل على أن الغسل إنما هو في الاحتلام من رؤية الماء من لا من رؤية الفعل ، وعلى أن الولد يكون من مجموع ماء الرجل والمرأة معًا ، خلافًا لمن ذهب إلى أن الولد إنما هو من ماء المرأة ، وأن ماء الرجل له عاقد كالأنفحة للبن ، والله أعلم .
( 24 ) باب الولد من ماء الرجل وماء المرأة
(4/47)
242- عَنْ ثَوْبَانَ ؛ - مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ - قَالَ : كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَجَاءَ حِبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ . فَقَالَ : السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا . فَقَالَ : لِمَ تَدْفَعُنِي ؟ فَقُلْتُ : أَلا تَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ ! فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ . فَقَالَ : رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي" فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : جِئْتُ أَسْأَلُكَ . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ " قَالَ : أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ . فَنَكَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِعُودٍ مَعَهُ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الولد من ماء الرجل والمرأة
الحبر : العالم ، يقال بفتح الحاء وكسرها ، فأما الحِبر للمداد فبالكسر لاغير .
ونكت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأرض بعود معه : هو ضربه فيها ، وهذا العُود هو المسمّى : بالمخصرة ، وهو الذي جرت عوائد رؤساء العرب وكبرائهم
فَقَالَ : "سَلْ " ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ" ، قَالَ : فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً ؟ قَالَ : " فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ " ، قَالَ الْيَهُودِيُّ : فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : " زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باستعمالها ، بحيث تصل إلى خصره ، ويشغل بها يديه من العبث ، وإنما يفعل ذلك النكت المتفكرُ .
(4/48)
وقوله : (( أين يكرن الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض )) ؛ هذا يدلّ على أن معنى هذا التبديل : إزالة هذه الأرض ، والإتيان بأرض أخرى ، لا كما قاله كثيرٌ من الناس : أنها تبدل صفاتها وأحوالها فتسوّى آكامها ، وتغير صفاتها ، وتُمد مدَّ الأديم ، ولو كان هذا لما أشكل كون الناس فيها عند تبديلها ، ولما جمعُوا على الصراط حينئذ .
وقد دل على صحة الظاهر المتقدم حديث عائشة ؛ إذ سالت عن هذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال مجيبًا لها : (( على الصراط )) . والأرض المبدلة هي الأرض التي ذكرها في حديث سهل بن سعد حيث قال : (( تحشرون ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على أرض بيضاء عفراء كقرص النقي ، ليس فيها عَلَمٌ لأحدٍ )) ، وهذا الحشر هو جنمعهم فيها بعد أن كانوا على الصراط ، والله أعلم .
وقال العكاظي : تُمد الأرض مدَّ الأديم ، ثم يزجر الله الخلق زجرةَ ، فإذا هم في الأرض الثانية ، في مثل مواضعهم من الأرض الأولى ، والله أعلم بكيفية ذلك .
والجسر - بفتح الجيم وكسرها - : ما يعبر عليه ، وهو الصراط هنا . و(( دون )) : فوق ، كما قال في حديث عائشة : (( على الصراط)) . و(( التحفة )) : ما يتحف به الإانسان من الفواكه والظُّرَفِ ، محاسنةً وملاطفةً . و(( زيادة الكبد )) : قطعة منه كالإصبع . و(( النون )) : الحوت ، وقد جاء مفسرًا في حديث أبي سعيد : قال اليهودي : ألا أخبرك بإدامهم ، قال : (( بلى )) . قال : إدامهم باللام ونون ، قالوا : ما هذا ؟ قال : (( ثور ونونٌ يأكل من زيادة كبدهما سبعون ألفًا )) . وفي "الصحاح" : النون : الحوت ، وجمعه : أنوان ، ونينانٌ ، وذو النون : لقب يونس ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(4/49)
قَالَ : فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا ؟ قَالَ : " يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا " ، قَالَ : فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : " مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً" ، قَالَ : صَدَقْتَ . قَالَ : وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ إِلا نَبِيٌّ ، أَوْ رَجُلٌ ، أَوْ رَجُلانِ . قَالَ : ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( فما غداؤهم )) ، بفتح الغين وبالدال المهملة ، وللسمرقندي : غذاؤُهُم بكسر الغين وبالذال المعجمة ، والأظهر أنه تصحيف .
وقوله : (( تسمى سلسبيلاً )) ؛ أي : سَلِسَةُ السَبيل ، سهلة الْمَشْرَع ، يقال : شراب سَلسَلٌ ، وسَلسَالٌ ، وسَلسَبيلٌ . عن مجاهد وقيل عنه : شديد الجِرْيةِ ، قال الشاعر :
" يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟" قَالَ : أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ . قَالَ : جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ ؟ قَالَ : " مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا ، فَعَلا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ ، أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللهِ ، وَإِذَا عَلا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ ، آنَثَا بِإِذْنِ اللهِ " قَالَ الْيَهُودِيُّ : لَقَدْ صَدَقْتَ ، وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ . ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ ، وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، حَتَّى أَتَانِيَ اللهُ بِهِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كأسًا يُصَفَّقُ بالرّحيق السَّلْسَلِ
وقال قتادة : عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن إلى الجنان .
وقوله : (( لقد صدقت وإنك لنبيٌّ )) ؛ يدل على أن مُجرَّدَ التصديق من غير التزام الشريعة ولا دخول فيها لا ينفع ؛ إذ لم يحكم له بالإسلام .
**************
(4/50)
( 25 ) باب في صفة غسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الجنابة
243- عَنْ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ. يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ - وَفِي رِوَايَةٍ : كَفَّيْهِ ثَلاثًا - ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ ، فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ ، حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثَ حَفَنَاتٍ ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صفة غُسلِهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الجنابة
قوله : ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر )) ، قيل : إنما فعل ذلك ليسهل دخول الماء إلى أصول الشعر ، وقيل : ليتأنس بذلك حتى لا يجد بعده من صب الماء الكثير نقرة .
وقوله : (( حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات )) ، (( استبرأ )) ؛ أي : استقصى وبالغ ، من قولهم : استبرأ الخبرُ . "و (( حفن )) : أخذ وصب . الحفنات : جمع حفنة ، وهي ملء الكفين من الطعام أو نحوه ، وأصلها من الشيء اليابس كالدقيق والرمل ونحوه . ويقال : حفنتُ
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لهُ حفنةً ؛ أي : أعطيته قليلاً ، قاله في "الصحاح".
ولا يفهم من هذه الثلاث حفنات أنه غسل رأسه ثلاث مرات ؛ لأن التكرار في الغسل غير مشروع ؛ لما في ذلك من المشقة ، وإنما كان ذلك العدد ؛ لأنه بدأ بجانب رأسه الأيمن ، ثم الأيسر ، ثم على وسط رأسه ، كما جاء في حديث عائشة الآتي بعد هذا ، وكما وقع في البخاري أيضًا من حديثها .
(4/51)
وقوله : (( ثم أفاض الماء على سائر جسده )) ؛ استدل به من لم يشترط التدليك ، وهو الشافعي ، ولا حجة له فيه ؛ لأن (( أفاض )) إنما معناه : غسل ، كما جاء في حديث ميمونة الآتي بعد هذا .
والغسل : هو صب الماء على المغسول ودلكه ، على ما نقله أصحابنا ، والذي وقفت عليه من نقل بعض اللغويين : أن الغسل إجادة التطهير ، وهو يُفيدُ : أن مجرد الإفاضة أو الغمس لا يكتفى به في مسمى الغسل ، بل لا بد مع ذلك من مبالغة ، إما بالدلك ، أو ما يتنزَّل منزلتَهُ ، وقد تواردت الأحاديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه كان يغسل أعضاء وضوئه ، ويدلكها بيديه ، ولا فرق بين الغسل والوضوء في هذا .
244- وَعَنْ مَيْمُونَةَ ؛ قَالَتْ : أَدْنَيْتُ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ غُسْلَهُ مِنَ الْجَنَابَةِ ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ ، ثُمَّ أَفْرَغَ بِهِا عَلَى فَرْجِهِ ، وَغَسَلَهُ بِشِمَالِهِ ، ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ الأَرْضَ فَدَلَكَهَا دَلْكًا شَدِيدًا ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ ، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثَ حَفنَاتٍ مِلْءَ كَفَيَّهِ ، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ ، فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيلِ فَرَدَّهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد روي من حديث عائشة : (( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علَّمها كيفيه الغسل ، وأمرها أن تدلك)) ، وهذا ذكره ابن حزم ، وضعفه ، وسيأتي في حديث أسماء بنت شَكَلٍ ما يدل على التدليك .
وقولهُ هنا : (( ثم غسل رجليه )) ، وفي حديث ميمونة : (( ثم تنحى عن
وَفِي رِوَايَةٍ : ثُمَ أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ ، فَلَمْ يَمَسَّهُ ، وَجَعَلَ يَقُولُ : بِالْمَاءِ هَكَذَا يَعْنِي يَنْفُضُهُ .
وَفِي أُخرى : وَصْفُ الْوُضُوءِ كُلِّهِ ، يَذْكُرُ الْمَضْمَضَةَ وَالاسْتِنْشَاقَ .
(4/52)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقامِه فغسل رجليه )) ، استحب بعض العلماء أن يؤخر غسل رجليه على ظاهر هذه الأحاديث ، وذلك ليكون الافتتاحُ والاختتام بأعضاء الوضوء.
وقد رُوي عن مالك : ليس العمل على تأخير غسل الرجلين ، وليتم وضوءه في أول غسله ، فإن أخرهما أعاد وضوءه عند الفراغ ، وكأنه رأى أن ما وقع هنا كان لما ناله من تلك البقعة ، وروي عنه : أنه واسعٌ ، والأظهر الاستحباب ؛ لدوام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فعل ذلك .
وفي حديث ميمونة أنه أتي بالمنديل فرده ؛ يتمسك به من كره التَمندُلَ بعد الوضوءِ والغسل ، وبه قال ابن عمر ، وابن أبي ليلى ، وإليه مال أصحاب الشافعي رحمه الله ، وقال : هو أثر عبادةٍ فتكره إزالته ، كدم الشهيد ، وخلوف فم الصائم ، ولا حجة في الحديث ؛ لاحتمال أن يكون رده إياه لشيء رَآهُ بالمنديل ، أو لاستعجاله للصلاة ، أو تواضعًا ، أو مجانبة لعادة المترفهين .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما القياس فلا نسلمهُ ؛ لأنا نمنع الحكم في الأصل ؛ إذ الشهيد يحرم غَسل دمه ، ولا يكره ، ولا يكره إزالة الخلوف بالسواك ، وروي عن ابن عباس أنه يُكره التمندُلُ في الوضوء دون الغسل. والصحيح أن ذلك واسع ، كما ذهب إليه مالك ، تمسكًا بعدم الناقل عن الأصل . وأيضًا فقد روي عن عائشة : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت له خرقة يتنشف بها بعد الوضوء ، ومن حديث معاذ : (( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يمسح وجهه من ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وضوئه بطرف ثوبه )) ، ذكرهما الترمذي ، وقال : لا يصح في الباب شيء .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/53)
وقولها عنه : (( وجعل يقول بالماء هكذا )) ؛ تعني : ينفضه ، ردٌّ على من كره التمندل ، وقال : لأن الوضوء يوزن ، إذ لو كان كما قال لما نفضه عنه ؛ لأن النفضَ كالمسح في إتلاف ذلك الماء .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولها : (( إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تمضمض واستنشق في الغسل )) ؛ يتمسك به لأبي حنيفة في إيجابه المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل ، وقد تكلمنا على ذلك في الوضوء ، ولا متمسك له فيه ها هُنا ؛ للاتفاق على أن هذا الوضوء في أول الغسل ليس بواجب بل مندوب ؛ ولأن المامور به في الغسل ظاهر جلدِ الإنسان لا باطنه ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فاغسلوا الشعر وانفقوا البَشرة )) ، والبَشرة : ظاهر جلد الإنسان المباشِر .
..................................................................
245- وَعَنْ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلابِ ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ ، بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَيْمَنِ ، ثُمَّ الأَيْسَرِ ، ثُمَّ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ .
الْحِلابِ : إنَاء ضَخم يُحلَبُ فِيهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عائشة : (( دعا بشيءٍ نحو الحلاب ))- روايتنا فيه : الحلاب ، بكسر الحاء المهملة لا يصح غيرهًا ، قال الخطابي : هو إناءٌ يسع قدر حلبةٍ ، وقال غيره : إناء ضخم يحلب فيه ، ويقال له : الْمِحلب أيضًا ، بكسر الميم ، قال الشاعر :
صاحِ! هل ريت أو سَمِعتَ براع رد في الضراع ماقرا في الحلاب(3)
وقد وهم من ظنه من الطيب ، والذي هو من الطيب هو من الْمَحلبَ ، بفتح الميم واللام . وكذلك وهم من قال فيه : (( الجلاب )) بالجيم المضمومة ، قاله الهروي . وفسرهُ الأزهريُّ بأنه هُنا ماء الورد ، قال : وهو فارسيٌّ معربٌ .
(4/54)
( 26 ) باب قدر الماء الذي يُغْتَسَل به ويُتَوَضَّأُ به ، واغتسال الرجل وامرأته من إناء واحد واغتساله بفضلها
246- عَنْ عَائِشَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ إِنَاءٍ - هُوَ الْفَرَقُ - مِنَ الْجَنَابَةِ . قَالَ سُفْيَانُ : الْفَرَقُ ثَلاثَةُ آصُعٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قدر الماء
قوله : (( من إناء هو الفرق )) ، يقال : بفتح الراء وسكونها ، حكاهما ابن دريد ، وتقديره بثلاثة آصع ، هو قول الجمهور ، وقال أبو الهيثم : هو إناء يأخذ ستة عشر رطلاً ، وقال غيره : هو إناءٌ ضخمٌ من مكاييل العراق ، وقيل : هو مكيال أهل المدينة . وقول سفيان : (( ثلاثة آصع )) يروى هكذا . ويُروى : (( أصوُعٌ )) ، وكلاهما صحيح الرواية ، وهو جمع صاع ، ويقال : صُواعٌ وصُوعٌ ، وهو جمع قلة ، وأصله أصوُعٌ ، بواو ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مضمومة ، كدارٍ وأدوُرٍ ، غير أن من العرب من يستثقل الضمة هنا على الواو فيبدلها همزةً ، فيقول : أصؤُعٌ ، كما يقول أدؤرٌ ، وهو مكيال أهل المدينة المعروف فيهم ، وهو يسعُ أربعة أمداد ، بمد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
والمكوك ، بفتح الميم وتشديد الكاف ، وهو مكيال ، وهو ثلاث كيلجات ، والكيلجة : مَنًا وسبعة أثمان مَنَا ، والمنَا : رطلان ، والرطل : اثنتا عشرة أوقية ، والأوقية : إستار وثلثا إستار ، والإستار : أربعة مثاقيل ونصف ، والمثقال : درهم وثلاثة أسباع درهم ، والدرهم : ستة دوانق ، والدانق : قيراطان ، والقيراط : طسوجان ، والطسوجُ : حبتان ، وا لحبة : سدس ثمن درهم ، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءًا من درهم . والمجمع مكاكيك ، كته من "الصحاح" ، وفي غيرها ، وتجمع أيضًا : مكاكيّ ، وهو مكيال لأهل العراق ، يسع صاعًا ونصف صاع بالمدني .
(4/55)
قلت : والصحيح : أن المكوك في حديث أنس المراد به المد ؛ بدليل الرواية الأخرى فيه أيضًا : (( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتوضأ بالمد ، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد )).
247- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ ، أَنَا وَأَخُوهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنَ الْجَنَابَةِ ؟ فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ قَدْرِ الصَّاعِ ، فَاغْتَسَلَتْ ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا سِتْرٌ . فَأَفْرَغَتْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلاثًا . قَالَ : وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيه : اعلم أن اختلاف هذه المقادير ، وهذه الأواني ، يدل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يراعي مقدارًا مؤقتًا ، ولا إناءً مخصوصًا ، لا في الوضوء ولا في الغسل ، وأن كل ذلك بحسب الإمكان والحاجة ، ألا ترى أنه تارةً اغتسل بالفرق أو منهُ ، وأخرى بالصاع ، وأخرى بثلاثة أمداد .
والحاصل : أن المطلوب إسباغُ الوضوء والغسل من غير إسراف في الماء ، وأن ذلك بحسب أحوال المغتسلين .
وقد ذهب ابن شعبان : إلى أنه لا يجزيء في والغسل ذلك أقل من مدّ في الوضوء ، وصاع في الغسل . وحديث الثلاثة الأمداد يرد عليه ، والصحيح الأول .
وقوله : (( فاغتسلت وبيننا وبينها ستر(4) )) ؛ ظاهر هذا الحديث أنهما
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أدركا عملها في رأسها وأعلى جسدها مما يحل لذي المحرم أن يطلع عليه ، من ذوات محارمه ، وأبو سلمة ابن أخيها نسبًا ، والآخر أخوها رضاعة ، وتحققا بالسَّماع كيفية غسل ما لم يشاهداه من سائر الجسد ، ولولا ذلك لاكتفت بتعليمها بالقول ، ولم تحتج إلى ذلك الفعل ، وقد شوهد غسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وراء الثوب ، وطؤطئ عن رأسه حتى ظهر لمن أراد رؤيتهُ .
(4/56)
وإخباره عن كيفية شعور أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدل على رؤيته شعرها ، وهذا لم يختلف في جوازه لذي المحرم ، إلا ما يحكى عن ابن عباس من كراهة ذلك .
248- وَعَنْهَا ؛ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ . يَسَعُ ثَلاثَةَ أَمْدَادٍ ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( حتى تكون كالوفرة )) ، الوفرة : أسبغ من الْجُمَّة ، أواللَّمَّة : ما ألم بالمنكبين ، قاله الأصمعي . وقال غيره : الوفرة : أقلها ، وهي التي لا تجاوز الأذنين ، والجمة أكبر منها ، واللّمة : ما طال من الشعر ، وقال أبو حاتم : الوفرة : ما غطى الأذنين . والمعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون والذوائب ، ولعل أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعلن هذا بعد موته تركًا للزينة ، وتخفيفا للمؤنة .
وقول عائشة : (( إنها كانت تغتسل هي والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد )) ؛ تعني : متفرقين ، أو سمَّت الصاع : مُدًّا ، كما قالت في الفَرَق الذي كان يسع ثلاثة آصع ، وكأنها قصدت بذلك التقريب ، 249- وَعَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ إِنَاءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاحِدٍ. فَيُبَادِرُنِي حَتَّى أَقُولَ : دَعْ لِي ، دَعْ لِي. قَالَتْ : وَهُمَا جُنُبَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولذلك قال فيه : (( أو قريبًا من ذلك )) ، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل لأنه لا يتأتى أن يغتسل اثنان من ثلاثة أمداد لقلتها ، والله أعلم .
وهذا يدل على استحباب التقليل مع الإسباغ ، وهو مذهب كافة أهل العلم والسُّنة ، خلافًا للإباضيَّةِ والخوارج .
(4/57)
واتفق العلماء على جواز اغتسال الرجل وحليلته ووضوئهما معًا من إناء واحدٍ ، إلا شيئًا رُوي في كراهية ذلك عن من أبي هريرة ، وحديث ابن عمر وعائشة وغيرهما يردُّه ، لم انما الاختلاف في وضوئه أو غسله من فضلها ، فجمهور السلف وأئمة الفتوى على جوازه ، وروي عن ابن المسيب والحسن : كراهة فضل وضوئها ، وكره أحمد فضل 250 - وَعَنْ مَيْمُونَةَ ؛ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ. وَمِثْلهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وضوئهما وغسلهما. وشرط ابن عمر : إذا كانت حائضًا أو جنبًا.
وذهب الأوزاعي إلى جواز تطهر كل واحد منهما بفضل صاحبه ما لم يكن أحدهم جنبًا ، أو المرأة حائضًا .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسبب هذا الخلاف : اختلافهم في تصحيح أحاديث النهي الواردة في ذلك ، ومن صححها اختلفوا أيضًا في الأرجح منها ، أو مما يعارضها ، كحديث ميمونة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كان يغتسل بفضلها )) ، وكحديث ابن عباس الذي خرجه الترمذي وصححه ، قال فيه : اغتسل بعض أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جفنة ، فأراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتوضأ منه فقالت : إني كنت جنبًا ، فقال : (( إن الماء لا يجنب )) .
251- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ؛ قَالَ : أَكْبَرُ عِلْمِي ، وَالَّذِي يَخْطِرُ عَلَى بَالِي ، أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أَخْبَرَنِي ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا شك في أن هذه الأحاديث أصح وأشهر عند المحدثين ، فيكون العمل بها أولى ، وأيضًا فقد اتفقوا على جواز غسلهما معًا ، مع أن كل واحد منهما يغتسل بما يُفضله صاحِبُه عن غَرْفه .
(4/58)
252- وَعَنْ أَنَسٍ ؛ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ، إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ : " يَغْتَسِلُ بِخَمْسِ مَكَاكِيكَ وَيَتَوَضَّأُ بِمَكُّوكٍ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول عمروبن دينار : (( أكبر علمي ، والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني )) ؛ ذهب بعضهم إلى أن هذا مما يُسقطُ التمسك بالحديث ؛ لأنه شك في الإسناد ، والصحيج فيما يظهر لي : أنه ليس بمسقطٍ له من وجهين :
أحدهما : أن هذا غالب ظن لاشك ، وأخبار الآحاد إنما تفيد غلبة الظن ، غير أن الظن على مراتب في القوة والضعف ، وذلك موجب للترجيح ، فهذا الظن الحديث وإن لم يسقطه ، فإن عارضه ما جزم الراوي فيه بالرواية كان المجزوم به أولى .
والوجه الثاني : أن حديث ابن عباس قد رواه الترمذي من طريق
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخرى وصححه ، كما قدمناه ، ومعناه : معنى حديث عمرو ، وليس فيه شيء من ذلك التردد ، فصح ما ذكرناه ، والله أعلم .
**************
( 27 ) باب كم يُصَبُّ على الرأس والتخفيف في ترك نقض الضفر
253- عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ؛ قَالَ : تَمَارَوْا فِي الْغُسْلِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : أَمَّا أَنَا ، فَإِنِّي أَغْسِلُ رَأْسِي كَذَا وَكَذَا . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أَمَّا أَنَا ، فَإِنِّي أُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلاثَ أَكُفٍّ ".
254- وَمِثْلَهُ عَنْ جَابِرٍ ؛ وَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ : إِنَّ شَعْرِي كَثِيرٌ : قَالَ جَابِرٌ : فَقُلْتُ لَهُ : يَا ابْنَ أَخِي ! كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَكْثَرَ مِنْ شَعْرِكَ وَأَطْيَبَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كم يصب على الرأس
(4/59)
قول أم سلمة : (( أفأنقضه للحيضة والجنابة ؟ )) صحيح الرواية : (( أفأنقُضه )) بالقاف ، وقد وقع لبعض مشايخنا : (( أفأنفضه )) بالفاء ، ولا بُعد فيه من جهة المعنى .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يدلُ على صحة ما ذهب إليه مالك وغيره ، من الرخصة في ترك نفض الضفر مطلقًا للرجال والنساء ، وقد منعه بعضهم ، منهم عبد الله بن عمر .
وقد أجازه بعضهم للنساء خاصة ، متمسكًا في ذلك بحديث ثوبان مرفوعًا : (( أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله ، وأما المرأة فلا عليها ألا تنقضه لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها )) ، أخرجه أبو داود. وهذا نصٌّ في التفرقة ، غير أن هذا الحديث من حديث إسماعيل بن عياش ،
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف في حديثه ، غير أن الذي صار إليه يحيى بن معين وغيره أن حديثه عن أهل الحجاز متروك على كل حال ، وحديثه عن الشاميين صحيح ، وهذا الحديث من حديثه عن الشاميين ، فهو صحيح على قول يحيى بن معين ، وهذا فيه نظر ، فإن كان ما قاله يحيى فالفرق واضح ، وإن لم يكن فعدم الفرق هو القياس ؛ لأن النساء شقائق الرجال ، كما صار إليه ا لجمهور .
تنبيه : لا يُفهمُ من التخفيف في ترك حل الضفر التخفيف في إيصال الماء إلى داخل الضفر ؛ لما يأتي في حديث أسماء بنت شكل ، ولما صح من حديث علي مرفوعًا : (( من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فُعِلَ بها كذا وكذا من النار )) ، قال عليٌّ : فمن ثم عاديت رأسي . وكان يَحلقُه .
..................................................................
(4/60)
255- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ؛ قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي . أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَةِ ؟ قَالَ : " لا ، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِيَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلاثَ حَثَيَاتٍ ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ ".
256- وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ؛ قَالَ : بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو يَأْمُرُ النِّسَاءَ ، إِذَا اغْتَسَلْنَ ، أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ . فَقَالَتْ : يَا عَجَبًا لابْنِ عَمْرٍو هَذَا ! يَأْمُرُ النِّسَاءَ ، إِذَا اغْتَسَلْنَ ، أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ أَفَلا يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُءُوسَهُنَّ ! لَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ ، فما أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلاثَ إِفْرَاغَاتٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إنما يكفيك )) ؛ حخة لمن يرى أن الواجب في الغسل العموم
فقط ، وقد قدمنا القول في عدد الغرفات ، وفي اشتراط التدليك .
والحثيات : جمع حثية ، وهي الغرفة ، وهي هنا باليدين ، ويقال : حَثا يحثُو ، ويحثي حَثيةً ، وحَثوةً ، وحثوًا وحثيًا ، ومنه : (( احثوا التراب في وجوه المدّاحين )) ، وهي الإفراغات أيضًا في ا لحديث الآخر .
***************
( 28 ) باب صفة غسل المرأة من الحيض
(4/61)
257- عَنْ عَائِشَةَ ؛ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتُ شَكَلٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ ؟ فَقَالَ : " تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَتَطَهَّرُ ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ. ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا ، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا . ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ . ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بِهَا " ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ : وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا ؟ فَقَالَ : " سُبْحَانَ اللهِ تَطَهَّرِينَ بِهَا " فَقَالَتْ عَائِشَةُ - كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ - : تَتَبَّعِي أَثَرَ الدَّمِ . وَسَأَلَتْهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ ؟ فَقَالَ : " تَأْخُذُ مَاءً فَتَطَهَّرُ ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ ، أَوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ . ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ ، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا ، ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ ". فَقَالَتْ عَائِشَةُ : نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ ! لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ .
وَفِي أُخرَى : " فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صفة غسل المرأة من الحيض
قوله : (( تأخذ إحداكُنَّ ماءَها وسدرتها )) ، السدر هنا : هو الغَاسُولُ المعروف ، وهو المتخذ من ورق شجر النبق ، وهو السدر ، وهذا التطهر ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي أمرها باستعمال السدر فيه ، هو لإزالة ما عليها من نجاسة الحيض ، والغسل الثاني هو للحيض .
(4/62)
وقوله : (( فتدلكه دلكًا شديدًا )) ؛ حجة لمن رأى التدليك. فإن قيل : إنما أمر بهذا في الرأس ليعم جميع الشعر ، قلنا : وكذلك يقال في جميع البدن. فإن قيل : لو كان حكم جميع البدن حكم جميع الرأس في هذا لبينه فيه كما بينه في الرأس ، قلنا : لا يحتاج إلى ذلك ، وقد بينه في عضو واحد. وقد فَهِمَ أنه قد فُهِمَ عنه : أن الأعضاء كلها في حكم العضو الواحد في عموم الغسل ، وإجادته وإسباغه ، فاكتفى بذلك ، والله أعلم.
و (( الشؤون )) : هو أصل فرق الرأس وملتقاها ، ومنها تجيءُ الدموع . وذكرها مبالغة في شدة الدلك ، وإيصال الماء إلى ما يخفى من الرأس .
وقوله : (( ثم تأخذ فرصةً مُمَسَّكةً أو من مسك )) ، الفرصةُ : صحيح الرواية فيها بكسر الفاء وفتح الصَّاد المهملة ، وهي القطعة من الشيء ، ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهي مأخوذة من الفَرْص ، وهو : القطع ، والْمِقرص والْمِفراص : الذي تقطع به الفضة ، وقد يكون الفرص الشق . يقال : فرصت النَّعل ؛ أي : شققت أذنيها .
وأما (( مُمَسَّكة )) : فروايتنا فيها بضم الميم الأولى وفتح الثانية وتشديد السين ، ومعناه : مُطَيبةٌ بالمسك ، مبالغة في نفي ما يكره من ريح الدم ، وعلى هذا تصح رواية الخشني عن الطبري : (( فرصة من مِسكٍ )) بكسر الميم ، وعلى هذا الذي ذكرناه أكثر الشارحين ، وقد أنكر ابن قتيبة هذا كله ، وقال : إنما هو (( قُرضةٌ )) بضم القاف وبالضاد المعجمة ، وقال : لم يكن للقوم وسع في المال بحيث يستعملون الطيب في مثل هذا ، وإنما هو مَسْكٌ ، بفتح الميم ، ومعناه : الإمساك ، فإن قالوا : إنما سمع رباعيًا ، والمصدر إمساك ، قيل : قد سمع أيضًا ثلاثيًا ، فيكون مصدره مَسْكًا .
(4/63)
قلت : لقد أحسن من قال في ابن قتيبة : هجومٌ ولاَّجٌ على ما لا يُحسن ، ها هو قد أنكر ما صح من الرواية في فرصة ، وجَهِلَ ما صح نقله أئمة اللغة ، واختار ما لا يَلتئِمُ الكلام معه ، فإنه لا يصح أن يقال : خذ قطعة من إمساك ، وسَوَّى بين الصحابة كلهم في الفقر وسوء الحال ، ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحيث لا يقدرون على استعمال مسكٍ عند التطهر والتنظف ، مع أن المعلوم من أحوال أهل الحجاز واليمن مبالغتهم في استعمال الطيب من المسك وغيره ، وإكثارهم من ذلك ، واعتيادهم له ، فلا يلتفت لإنكاره ، ولا يعرج على قوله .
وأما (( فرصة من مسك )) ؛ فالمشهور فيه أنه بفتح الميم ، ويراد به الجلد ؛ أي : قطعة منه . قال الخطابي : تقديره : قطعة من جلد عليها صوف ، وقال أبو الحسن بن سراج : في (( مُمَسَّكة )) : مجلدة ؛ أي : قطعة صوف لها جلد ، وهو المسك ليكون أضبط لها ، وأمكن لمسح أثر الدم به ، قال : وهذا مثل قوله : (( فرصة مسك )).
وقال القتبي : معنى (( ممسكة )) : محتملة يُحتشى بها ؛ أي : خذي قطعة من صوف أو قطن فاحتمليها وأمسكيها لترفع الذم ، وأظنه أنه قال : ((ممسكةً )) بضم الأولى وتسكين الثانية وتخفيف السين مفتوحة ، وقيل فيها : (( مُمسِكة )) بكسر السين ، اسم فاعل من أمسك ، كما قال في الحديث الآخر : (( أنعتُ لك الكرسُفَ فإنه يذهب الدم )) ؛ أي : القطن ،
..................................................................
..................................................................
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأقرب والأليق القول الأول ، والله أعلم.
**************
( 29 ) باب في الفرق بين دم الحيض والاستحاضة وغسل المستحاضة
(4/64)
258- عَنْ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ . أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ ؟ فَقَالَ : " لا إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ ، وَلَيْسَت بِالْحَيْضَةِ . فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاةَ . فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة
قوله : (( إنما ذلك عرقٌ )) ؛ دليل لنا على العراقيين في أن الدم السائل من الجسد لا ينقض الوضوء ، فإنه قال بعد هذا : (( فاغسلي عنك الدم وصلي )) ، وهذا أصح من رواية من روى : (( فتوضئي وصلي )) باتفاق أهل الصحيح ، وهو قول عامة الفقهاء .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويعني بقوله : (( ذلك عرق )) ؛ أي : عرق انقطع فسال ، أي : هو دمُ علَّة ، ويدل أيضًا على أن المستحاضة حكمها حكم الطاهر مطلقًا فيما تفعل من المستحاضة العبادات وغيرها ، فيطؤها زوجها ، خلافًا لمن منع ذلك ، وهو عائشة وبعض السلف .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ؛ يدل على أن هذه المرأة مُمَيزةٌ ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحالها على ما تعرف من تغير الدم ، وقد نص على هذا في هذا الحديث أبو داود ، فقال : (( إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة ، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي )) . وبهذا تمسك مالك في أن المستحاضة إنما تعمل على التمييز ،
..................................................................
(4/65)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن عدمته صلت أبدًا ، ولم تعتبر بعادة ؛ خلافًا للشافعي ، ولا تتحيض في علم الله من كل شهر ، خلافًا لأحمد وغيره ، وهو رد على أبي حنيفة حيث لم يعتبر التمييز .
و قوله في حديث فاطمة : (( فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي )) ، لم يختلف الرواة عن مالك في هذا اللفظ ، وقد فسره سفيان فقال : معناه إذا رأت الدم بعدما تغتسل تغسل الدم فقط ، وقد رواه جماعة وقالوا فيه : (( فاغسلي عنك الدم ثم اغتسلي )) ، وهذا ردٌّ على 259- وَعَنْهَا ؛ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ خَتَنَةَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَتَحْتَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ . فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ ، وَلَكِنَّ هَذَا عِرْقٌ ، فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي ". قَالَتْ عَائِشَةُ : فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ فِي مِرْكَنٍ فِي حُجْرَةِ أُخْتِهَا زَيْنَبَ ابْنة جَحْشٍ . حَتَّى تَعْلُوَ حُمْرَةُ الدَّمِ الْمَاءَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من يقول : إن المستحاضة تغتسل لكل صلاة ، وهو قول ابن علية ، وجماعة من السلف ، وعلى من رأى عليها الجمع بين صلاتي النهار بغُسل واحد ، وصلاتي الليل بغسل ، وتغتسل للصبح ، وروي هذا عن عليّ ـ رضى الله عنه ـ ، وعلى من رأى عليها الغسل من ظُهر إلى ظُهر ، وهو مذهب سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وغيرهم . وقد روي عن سعيد خلافه .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ، ثُمَّ اغْتَسِلِي " ، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/66)
وقوله : (( إن أم حبيبة بنت جحش )) ، قال الدارقطني عن أبي إسحاق الحربي : الصحيح قول من قال : أم حبيب ، بلا هاء ، واسمها : حبيبة. قال الدارقطني : قول أبي إسحاق صحيح . وقال غيره : وقد رُوي عن عمرة عن عائشة : أن أم حبيبة ... الحديث ، وهي ختنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد قال فيه كثير من رواة "الموطأ" : زينب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف. قال أبو عمر بن عبد البر : هكذا رواية يحيى وغيره ، لم يختلفوا في ذلك عن مالك ، وهو وهم من مالك ، فإن زينب بنت جحش هي أم المؤمنين ، لم يتزوجها قط عبد الرحمن بن عوف ، إنما تززجها أولاً زيد بن حارثة ، ثم تزوجها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والتي كانت تحت عبدالرحمن بن عوف هي أم حبيبة ، كما جاء في كتاب مسلم على ما ذكرناه .
وقال أبو عمر ابن عبدالبر : إن بنات جحش الثلاث : زينب ، وأم حبيبة ، وحمنة زوج طلحة بن عبيدالله ، كنَّ يستحضن كلهن ، وقيل : إنه لم يستحضن منهن إلا أم حبيبة ، وذكر القاضي يونس بن مغيث في ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتابه "الموعب في شرح الموطأ" مثل هذا ، وأن اسم كل واحدة منهن زينب ، ولقبت إحداهن بحمنة ، وكنيت الأخرى بأم حبيبة ، وإذا صح هذا فقد برأ الله مالكًا عن الوهم .
(4/67)
وقوله : (( ولكن هذا عرق فاغتسلي )) ، قد يتمسك به من يوجب الغسل على المستحاضة من حيث أمرها بالغسل ، وعلله بكونه دم عرق ، وهذا لا حجة فيه ؛ لما يُبيِّنَ في الرواية الأخرى : أن هذا الغسل إنما هو للحيضة ، فإنه قال فيها : (( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ، ثم اغتسلي )) ، وهذا اللفظ قد يتمسك به من يقول : إنها تعتبر عادتها ، وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه يحتمل أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحالها على تقدير الحيضة التي عرفت أولها بتغير الدم ، ثم تمادى بها بحيث لم تعرف إدباره فردّها إلى اعتبار حالتها في عدد أيامها المتقدمة ، قبل أن تصيبها الاستحاضة ، وفارق حال أم حبيبة حال فاطمة بنت أبي حبيش ، فإن فاطمة كانت تعرف حيضتها بتغير الدم ، في إقباله وإدباره ، وأم حبيبة كانت تعرف إقباله لا غير ، والله تعالى أعلم .
وقوله : (( فكانت تغتسل في مركن )) ، المركن : الإجَّانة ، وهي القصرية
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التي تغسل فيها الثياب ، كانت تقعد فيها فتصب عليها الماء من غيرها ، فتستنقع فيها فتعلو حمرة الدم السائل منها الماء ، ثم تخرج منها ، فتغسل ما أصاب رجليها من ذلك الماء المتغير بالدم .
وقوله : (( فكانت تغتسل لكل صلاة )) ، قال الليث : لم يقل ابن شهاب : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر أم حبيبة أن تغتسل عند كل صلاة ، ولكنه شيء فعلته . وقد رواه ابن إسحاق عن الزهري ، وفيه : (( فامرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تغتسل لكل صلاة )) ، ولم يتابع أصحاب الزهري ابن إسحاق على هذا.
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما قول مسلم في الأصل في حديث حماد بن زيد : (( حرفٌ تركنا ذكره )) ،
(4/68)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحرف هو قوله : (( اغسلي عنك الدم وتوضئي )) ، ذكره النسائي ، وقال : لا نعلمُ أحدًا أقال : (( وتوضئي )) ، في الحديث غير حماد ، يعني والله أعلم في حديث هشام .
وقد روى أبو داود وغيره ذكر الوضوء من رواية عدي بن ثابت ، وحبيب بن أبي ثابت ، وأيوب بن أبي مسكين ، قال أبو داود : وكلها ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ضعيف. ولم ير مالك عليها الوضوء ، وليس في حديثه ، ولكن استحبه لها في قوله الآخر إما لرواية غيره للحديث ، أو لتدخل الصلاة بطهارة جديدة ، كما قال في سلس البول .
...................................................................
...................................................................
...................................................................
...................................................................
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأوجب عليها الوضوء أبو حنيفة والشافعي وأصحابُهما والليث والأوزاعي ، ولمالك أيضًا نحوه ، وكلهم مجمعون على أنه لا غسل عليها غير مرة واحدة عند إدبار حيضتها ، لكن اختلف في الغسل إذا انقطع عنها دم استحاضتها . واختلف فيه قول مالك .
**************
باب
(4/69)
260- عَنْ مُعَاذَةَ ؛ قَالَتْ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ : مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلا تَقْضِي الصَّلاةَ ؟ فَقَالَتْ : أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ ؟ قُلْتُ : لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ. وَلَكِنِّي أَسْأَلُ . قَالَتْ : كُنَّاَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب لا تقضي الحائض الصلاة
قول عائشة : (( أحرورية أنت ؟ )) إنكار عليها أن تكون سمعت شيئًا من رأي الخوارج في ذلك ، وذلك أن طائفة منهم يرون على الحائض قضاء الصلاة ؛ إذ لم تسقط عنها في كتاب الله تعالى ، على أصلهم في ردّ السُّنّة ، على اختلاف بينهم في المسألة ، وقد أجمع المسلمون على خلافهم ، وأنه لا صلاة تلزمها ، ولا قضاء عليها .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي كتاب أبي داود : أن سمرة كان يأمر النساء بقضاء صلاة الحيض ، فأنكرت ذلك أم سلمة ، وكان قوم من قدماء السلف يأمرون ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحائض أن تتوضأ عند أوقات الصلوات ، وتذكر الله ، وتستقبل القبلة جالسة . قال مكحول : كان ذلك من هدي نساء المسلمين ، واستحبه غيره ، قال غيره : هو أمر متروك عند جماعة من العلماء ، مكروهٌ ممن فعله.
****************
( 30 ) باب سترة المغتسل والنهي عن النظر إلى العورة
261- عَن أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ ؛ قَالَتْ : ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَامَ الْفَتْحِ ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ : ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَالْتَحَفَ بِهِ . ثُمَّ صَلَّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى .
(4/70)
262- وَعَنْ مَيْمُونَةَ ؛ قَالَتْ : وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَاءً وَسَتَرْتُهُ فَاغْتَسَلَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب سترة المغتسل
قوله : (( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة )) ، لا خلاف في تحريم النظر إلى العورة من الناس بعضهم إلى بعض ، ووجوب سترها عنهم إلا الرجل مع زوجته أو أمته .
واختلف في كشفها في الانفراد ، وحيث لا يراه أحد ، ولا خلاف أن السوأتين من الرجل والمرأة عورة ، واختلف فيما عدا ذلك من السرة 263- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : " لا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ ، وَلا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ ، وَلا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، وَلا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى الركبة من الرجل هل هو عورة أم لا ؟ ولا خلاف أن إبداءه لغير ضرورة قصدًا ليس من مكارم الأخلاق .
ولا خلاف أن ذلك من المرأة عورة على النساء والرجال ، وأن الحرَّة عورة ما عدا وجهها وكفيها على غير ذوي المحارم من الرجال ، وسائر جسدها على المحارم ، ما عدا رأسها وشعرها وذراعيها وما فوق نحرها.
واختلف في حكمها مع النساء ، فقيل : جسدها كله عورة ، فلا يرى النساء منها إلا ما يراه ذو المحرم. وقيل : حكم النساء مع النساء حكم الرجال مع الرجال إلا مع نساء أهل الذمة ، فقيل : حكمهن في النظر إلى أجساد المسلمات(6) حكم(7) الرجال ؛ لقوله تعالى : { أَوْ نِسَائِهِنَّ }(8) ، على خلاف بين المفسرين في معناه .
(4/71)
264- وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ؛ قَالَ : أَقْبَلْتُ بِحَجَرٍ ، أَحْمِلُهُ ، ثَقِيلٍ. وَعَلَيَّ إِزَارٌ خَفِيفٌ . قَالَ : فَانْحَلَّ إِزَارِي وَمَعِيَ الْحَجَرُ . لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَضَعَهُ حَتَّى بَلَغْتُ بِهِ إِلَى مَوْضِعِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ارْجِعْ إِلَى ثَوْبِكَ فَخُذْهُ ، وَلا تَمْشُوا عُرَاةً ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحكم المرأة فيما تراه من الرجل حكم الرجل فيما يراه من ذوي محارمه من النساء . وقد قيل : حكم المرأة فيما تراه من الرجل كحكم الرجل فيما يراه من المرأة ، والأول أصح .
وأما الأمة : فالعورة منها ما تحت ثدييها ، ولها أن تُبدي رأسها ومعصميها . وقيل : حنكمها حكم الرجال . وقيل : يكره لها كشف معصميها ورأسها وصدرها ، وكان عمر يضربُ الإماءَ على تغطيةِ رؤُوسِهنَّ ، ويقول : لا تتشبهن بالحرائر.
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحُكم الحرائر في الصلاة : ستر جميع أجسادهن إلا الوجه والكفين . وهذا قول مالك والشافعي والأوزاعي وأبي ثور وكافة السلف وأهل العلم . وقال أحمد بن حنبل : لايرى منها شيء ولا ظفرها . ونحوه قول أبي بكر بن عبدالرحمن . وأجمعوا : أنها إن صلت مكشوفة الرأس كله أن عليها إعادة الصلاة . واختلفوا في بعضه ، فقال الشافعي وأبو ثور : تعيد ، وقال أبو حنيفة : إن انكشف أقل من ثلثه لم تعد ، وكذلك أقل من ربع بطنها ، أو فخذها . وقال أبو يوسف : لا تعيد في أقل من النصف . وقال مالك : تعيد في القليل والكثير من ذلك في الرقت .
واختلف عندنا في الأمة تصلي مكشوفة البطن هل يجزئها أو لا بد من سترها جسدها ؟ وقال أبو بكر بن عبدالرحمن : كل شيء من الأمة عورة حتى ظفرها .
قلت : العورة في أصل الوضع : هي ما يستحى من الاطلاع عليه ، ويلزم منه عار .
(4/72)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( لا يفض الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا المرأة إلى المرأة )) ؛ أي : لا يخلوان كذلك ؛ ليباشر أحدهما عورة الآخر ويلمسها ، ولمسُها مُحَرمٌ ، كالنظر إليها ، وأما إذا كانا مستوري العورة بحائل بينهما فذلك من النساء محرمٌ على القول : بان جسد المرأة على المرأة كله عورة ، وحكمها على القول الآخر ، وحكم الرجال الكراهية ، وهذا لعموم النهي عنه ، وصلاحية إطلاق لفظ العورة على ما ذكر مما اختلف فيه .
***************
باب
265- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ ؛ قَالَ : أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ . فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا ، لا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ . وَكَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِحَاجَتِهِ ، هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ . يَعْنِي حَائِطَ نَخْلٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما يستر به لقضاء الحاجة
قوله : (( هدف أو حائش نخل )) ، الهدف : ما ارتفع من الأرض ، وكل مرتفع هدف . وحائش النخل : مجتمعه . وهو الحَشُّ والحُشُّ أيضًا .
*************
( 31 ) باب ما جاء في الرجل يطأ ثم لا يُنْزِلُ
266- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ، فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ . فَقَالَ : " لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ ؟" قَالَ : نَعَمْ . يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : " إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ أَقْحَطْتَ ، فَلا غُسْلَ عَلَيْكَ ، وَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ ".
وَفِي رِوَايَةٍ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الرجل يطأ ثم لا ينزل
(4/73)
قوله : (( إذا أُعجلت أو أُقحطت )) ، الرواية بضم همزة (( أُقحطت )) وكسر الحاء مبنيًّا لما لم يسم فاعله ، ولعله إتباع لأعجلت ، فإنه لا يقال في هذا إلا : أقحط الرجل إذا لم ينزل ، بالفتح ، كما يقال : أقحط القوم إذا أصابهم القحط ، وهذا منه . وأصله : من قحط المطر ، بالفتح ، يقحط قحوطًا : إذا احتبس . وقد حكى الفراء : قحط المطر بالكسر ، يقحط ، ويقال : أقحط الناس وأقحطوا بالضم والفتح ، وقحطوا ، وقحطوا كذلك ، وهو هنا عبارة عن الإكسال ، وهو عدم الإنزال .
267- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ؛ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ مِنَ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يُكْسِلُ ؟ فَقَالَ : " يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَرْأَةِ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي".
268- قَالَ أَبُو الْعَلاءِ بْنُ الشِّخِّيرِ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَنْسَخُ حَدِيثُهُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، كَمَا يَنْسَخُ الْقُرْآنُ بَعْضُهُ بَعْضًا . قَالَ أَبُو إسْحاقٌ : هَذا مَنسُوخ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الأفعال : كِسل بكسر السين : فتر ، وأكسل في الجماع : ضعف عن الإنزال ، وقد روى غيره يكسل ثلاثيًّا ورباعيًّا .
وقوله : (( فلا غسل عليك وعليك الوضوء )) ، كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ بعد ، قاله الترمذي وغيره .
وقد أشار إلى ذلك أبو العلاء بن الشخير وأبو إسحاق ، قال ابن القصَّار : أجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من تقدم على الأخذ ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحديث : (( إذا التقى الختانان )) ؛ وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطًا للخلاف .
(4/74)
قال القاضي عياض : لا يُعلم من تال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ، ثم بعده داود الأصبهاني ، وقد روي أن عمر حمل الناس على ترك الأخذ بحديث : (( الماء من الماء )) ؛ لما اختلفوا فيه .
...................................................................
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : وقد رجع المخالفون فيه من الصحابة عن ذلك حين سمعوا حديثي عائشة ، فلا يلتفت إلى شيء من الخلاف المتقدم ولا المتأخر في هذه المسألة ، الذي تقرر فيها من الأحاديث الآتية والعمل الصحيح .
وقوله : (( إنما الماء من الماء )) ، حمله ابن عباس على أن ذلك في الاحتلام فتأوله ، وذهب غيره من الصحابة وغيرهم إلى أن ذلك منسوخ كما تقدم وكما يأتي بعد .
269- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : " إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( إذا جلس بين شعبها الأربع )) ، قال الهروي : بين رجليها وشُفريها . وقال الخطابي : بين إسكتيها وفخذيها . قال أبو الفضل عياض : والأولى أن الشعب : نواحي الفرج الأربع ، والشعب : النواحي ، وهذا مثل قوله : (( إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة )) ؛ لأنها لا تتوارى حتى تغيب بين الشعب .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و قوله : (( ثم جهدها )) ، قال الخطابي : حَفَزها ، وقال : الجهد من أسماء النكاح .
(4/75)
قلت : وعلى هذا ينبغي أن يكون جهدهَا : نَكَحها. قال بعضهم : بلغ مشقتها . يقال : جهدته وأجهدته : بلغت مشقته . وقال أبو الفضل عياضى : الأولى أن يكون جهد ؛ أي : بلغ جهدهُ فيها ، وهي إشارة إلى الفعل .
270- وَعَنْ أَبِي مُوسَى ؛ قَالَ : اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ رَهْطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ . فَقَالَ الأَنْصَار : لا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلا مِنَ الدَّفْقِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ . وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ : بَلْ إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ . قَالَ : قَالَ أَبُو مُوسَى : فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ . فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ ، فَأُذِنَ لِي . فَقُلْتُ : يَا أُمَّاهْ ! - أَوْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ ، وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ. فَقَالَتْ : لا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلاً عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ ، فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ . قُلْتُ : مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ ؟ قَالَتْ : عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ . قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ".
271- وَعَنْ عَائِشَةَ ؛ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ . هَلْ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ ؟ وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِنِّي لأَفْعَلُ ذَلِكَ ، أَنَا وَهَذِهِ ، ثُمَّ نَغْتَسِلُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( من الدفق أو من الماء )) ، هو على الشك من أحد الرواة ، والدفق : الصب ، وهو الاندفاق والتدفق . وماء دافق ؛ أي : مدفوق ، كسرٍّ كاتم ؛ أي : مكتوم .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/76)
ويقال : دُفقَ الماءُ ، مبنيًّا على ما لم يسم فاعله ، ولا يقال : مبنيًّا للفاعل .
قلت : وهذه الأحاديث ، أعني حديث أبي هريرة وحديثي عائشة لا يبقى معها متمسك للأعمش وداود ، والله أعلم .
**************
( 32 ) باب الأمر بالوضوء مما مست النار ونسخه
272- عَنْ زَيْدٍ بْنَ ثَابِتٍ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : "الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ ".
273- وعَنْ عَائِشَةَ - زَوْجَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "تَوَضَّأُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بالوضوء
قوله : (( توضؤوا مما مست النار )) ، هذا الوضوء هنا هو الوضوء الشرعيُّ العرفيُّ عند جمهور العلماء ، وكان الحكم كذلك ثم نسخ ، كما قال جابر بن عبد الله : كان آخر الأمرين من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترك الوضوء مما مسّت النار . وعلى هذا تدل الأحاديث الآتية بعد ، وعليه استقر عمل الخلفاء ، ومعظم الصحابة ، وجمهور العلماء من بعدهم .
...................................................................
274- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب أهل الظاهر ، والحسن البصري ، والزهري إلى العمل بقوله :
275- وَعَنْهُ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جَمَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ . فَأُتِيَ بِهَدِيَّةٍ ، خُبْزٍ وَلَحْمٍ . فَأَكَلَ ثَلاثَ لُقَمٍ . ثُمَّ صَلَّى بِالنَّاسِ ، وَمَا مَسَّ مَاءً .
276- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ ؛ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاةِ . فَقَامَ وَطَرَحَ السِّكِّينَ ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ .
(4/77)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(( توضؤوا مما مست النار )) ، وأن ذلك ليس بمنسوخ .
وذهب أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور إلى إيجاب الوضوء من أكل لحم الجزور لا غير .
وذهبت طائفة إلى أن ذلك الوضوء إنما هو الوضوء اللغويّ ، وهو غسل اليد والفم من الدسم والزفر ، كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث شرب اللبن ، ثم مضمض وقال : (( إن له دسمًا )) ، وأن الأمر بذلك على جهة 277- وَعَنِ العَبَّاس ، ومَيْمُونَةَ ؛ نَحوَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا .
278- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ ؛ قَالَ : أَشْهَدُ لَكُنْتُ أَشْوِي لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَطْنَ الشَّاةِ. ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستحباب ، وممن ذهب إلى هذا ابن قُتَيبة ، ذكره في "غريبه" ، والصحيح الأول ، فليعتمد عليه.
وقوله : (( يحتز من كتف شاةٍ )) ؛ أي : يقطع بالسكين .
وقوله في الأصل : (( أثوار أقط )). قال الهروي : أثوار : جمع ثور ، وهي القطعة من الأقط . قلت : والأقط : طعام يصنع من اللبن .
وفيه دليل على جواز أكل اللحم بالسكين عند الحاجة إلى ذلك من شدة اللحم ، أو كبر العضو والبضعة ، قال عياض : وتكره المداومة على استعمال ذلك ؛ لأنه من سنة الأعاجم .
*************
( 33 ) باب الوضوء من لحوم الإبل والمضمضة من اللبن
279- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ؛ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : " إِنْ شِئْتَ ، فَتَوَضَّأْ . وَإِنْ شِئْتَ ، فَلا تَتَوَضَّأْ " قَالَ : أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ ؟ قَالَ : " نَعَمْ ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ " ، قَالَ : أَأُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " قَالَ : أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الإِبِلِ ؟ قَالَ : " لا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الوضوء من لحوم الإبل
(4/78)
هذا الوضوء المأمور به من لحوم الإبل ، المباح من لحوم الغنم ، هو اللغوي ، ولذلك فرق بينهما ؛ لما في لحوم الإبل من الزفورة والزهم . وعلى تقدير كونه وضوءًا شرعيًّا فهو منسوخ بما تقدم . وقد ذكرنا من تمسك بهذا الحديث .
وإباحة الصلاة في مرابض الغنم دليل لمالك على طهارة فضلة ما يؤكل لحمه ؛ لأن مرابضها مواضع ربوضها وإقامتها ، ولا يخلو عن أبوالها وأرواثها .
وأما نهيه عن الصلاة في معاطن الإبل فليس لنجاسة فضلاتها ، بل لأمر آخر ، أو لأنها لا تخلو غالبًا عن نجاسة من يستتر بها عند قضاء ...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحاجة ، أو لئلا يتعرض لنفارها في صلاته ، أو لما جاء أنها من الشياطين ، وهذه كلها مما ينبغي للمصلي أن يتجنبها . ومع هذه الاحتمالات لا يصلح هذا الحديث للاستدلال به على نجاسة فضلاتها ، وقد أباح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعرنيين شرب ألبان الإبل وأبوالها ، ولا يلتفت إلى قول من قال : إن ذلك لموضع الضرورة ؛ لأنها لا نسلمها ؛ إذ الأدوية 280- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ شَرِبَ لَبَنًا ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ ، وَقَالَ : " إِنَّ لَهُ دَسَمًا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ذلك للمرض الذى أصابهم كثيرة ، ولو كان ذلك للضرورة لاستكشف عن حال الضرورة ، ولسأل عن أدوية أخر حتى يتحقق عدمها ، ولو كانت نجسة لكان التداوي بها ممنوعًا أيضًا بالأصالة ، كالخمر ، ألا تراه لما سُئل ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن التداوي بالخمر فقال : (( إنها ليست بدواء ، ولكنها داء )) ، ، ولم يلتفت للحاجة النادرة التي تُباح فيه ؛ كازالة الغصص بجرعة منها عند عدم مائع آخر. وحاصله : أن إخراج الأمور عن أصولها ، وإلحاقها بالنوادر لا يلتفت إليه لأنه خلاف الأصل.
(4/79)
وقوله : (( إن له دسمًا )) ، بفتح السين وسكونها ، والفتح أولى به ؛ لأنه الاسم مثل الحسَب والنَّفَضِ ، وهو عبارة عن زفر الدهن . يقال منه : دسم الشيء بالكسر يَدَسم بالفتح ، وقد سيم الشيء : جعل الدسم عليه .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويقال أيضًا : دَسَمَ المطرُ الأرض : بلها ولم يبالغ .
قال عياض : وأما المضضة من اللبن فسنةٌ للقائم إلى الصلاة ، ومستحبٌ لغيره ، وكذلك من سائر الطعام ، وهو من ناحية السواك ، ولا سيما فيما له دسم أو سُهُوكةٌ ، أو تعلق بفيه طعمٌ يشغل المصلي .
وقد اختلف العلماء في غسل اليد قبل الطعام وبعده ، ومذهب مالك : ترك ذلك إلا أن يكون في اليد قذر ، فإن كان للطعام رائحة كالسمك غسلت اليد بعدُ ولا تغسل قبل ؛ لما ذُكر .
قلت : وقد روى أبو داود : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرب لبنًا ولم يتمضض ، ولم يتوضأ ، وصلى . وهذا يدل على أنه ليس من السنن المؤكدة الراتبة ، والله أعلم.
( 34 ) باب في الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة
281- عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ ، عَنْ عَمِّهِ ؛ شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : الرَّجُلُ ، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ ، قَالَ : " لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا ، أَوْ يَجِدَ رِيحًا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الذي يخيل إلبه أنه خرج منه حدث
قوله : (( إنه يجد الشيء في الصلاة ، قال : فلا ينصرف )) ، بظاهر هذا قال الحسن البصري ، قال : إن كان في الصلاة لم يفسد ، وإن كان في غيرها أفسدها.
(4/80)
وقد رُوي مثله عن مالك ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الشك غير مؤثر في الطهارة ، وأنه باق على طهارته ما لم يتيقن حدثًا . وذهب إليه الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وهي رواية ابن وهب والأسلمي عن مالك ، إلا أن في رراية ابن وهب أنه استحب منه الوضوء ، وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه يفسده .
282- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ ، أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لا ، فَلا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسبب الخلاف تقابل يقيني الطهارة والصلاة ، وخص بعض أصحابنا هذا الحديث بالمستنكح ؛ لأنه قال فيه : (( شكي إليه )) ، وهذا ما لا يكون إلا ممن تكرر عليه ذلك كثيرًا .
قال ابن حبيب : هذا الشك المذكور في الحديثين في الريح دون غيره من الأحداث ، والله أعلم.
*************
( 35 ) باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت
283- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ : تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ ، فَمَاتَتْ . فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : " هَلا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا ، فَدَبَغْتُمُوهُ ، فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ ؟" فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّهَا مَيْتَةٌ . فَقَالَ : " إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا ". وَفِي رِوَايَةٍ : " أَلا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ ".
284- وَعَنْهُ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : " إِذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب جلود الميتة إذا دبغت
(4/81)
(( الإهاب )) : الجلد ، والجمع الأُهُب والأَهَبْ. قاله الهروي وغيره . واختلف الناس في جلد الميتة ، فقال أحمد بن حنبل : لا ينتفع به ، وأجاز ابن شهاب الانتفاع به . والجمهور على منع الانتفاع به قبل الدباغ .
ويختلفون في الجلد الذي يؤَثِر فيه الدباغ ، فعند أبي يوسف وداود : يؤثر في سائر الجلود حتى الخنزير . ومذهَبُنا ومذهب أبي حنيفة والشافعي
285- وَعَنِ ابْنِ وَعْلَةَ السَّبَإِيِّ ؛ قَالَ : سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ ، قُلْتُ : إِنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ ، وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ ، نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ ، وَنَحْنُ لا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ . وَيَأْتُونَا بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : " دِبَاغُهُ طَهُورُهُ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هكذا ، إلا أننا وأبا حنيفة نستثني الخنزير ، ويزيد الشافعي فيستثي الكلب ، واستثنى الأوزاعي وأبو ثور جلد ما لا يؤكل لحمه .
واتفق كل من رأى الدباغ مؤثرًا أنه يؤثر في إثبات الطهارة الكاملة سوى مالك ، في إحدى الروايتين عنه ؛ فإنه منع أن يؤثر الطهارة الكاملة ، وإنما يؤثر في اليابسات ، وفي الماء وحده من بين سائر المائعات ، وأبقى الماء في خاصة نفسه.
وسبب الخلاف في هذا الباب هل هو يخصص عموم القرآن بالسنة أم لا ؟ اختلف فيه الأصوليون .
و قوله : (( إنما حرم أكلها )) ، خرج على الغالب مما تراد اللحوم له ، وإلا فقد حرم حملها في الصلاة ، وبيعُها واستعمالها ، وغير ذلك مما يَحرمُ من سائر(4) النجاسات .
( 36 ) باب ما جاء في التيمم
(4/82)
286- عَنْ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ ، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي ، فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى الْتِمَاسِهِ ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ . فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالُوا : أَلا تَرَى إِلَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَبِالنَّاسِ ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ . فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما جاء في التيمم
التيمم في اللغة : القصد إلى الشيء ، ومنه قول الشاعر :
تَيَمَّمَتِ العَيْنَ التي عند ضارجٍ
أى : قصدت ، وهو في الشرع : القصد إلى الأرض لفعل عبادة مخصوصة على ما يأتي .
فَقَالَ : حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَالنَّاسَ ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ . قَالَتْ : فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ ، وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي . فَلا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى فَخِذِي . فَنَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ ، فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ - وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ - : مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (( البَيدَاءُ وذات الجيش )) : موضان قريبان من المدينة .
(4/83)
وقولها : (( انقطع عقدٌ لي )) ؛ أضافت العقد لنفسها ؛ لأنه في حوزتها ، وإلا فقد جاء في الرواية الآتية : أنها استعارته من أسماء . وكون النبي أقام بالناس على التماسه على حالة عدم الماء ؛ يدل على حرمة الأموال الحلال ، وأنها لا تضاع .
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه من تأملها أدركها على قرب .
وقوله : (( فأنزل الله آية التييم )) ، نسبت الآية للذي نزلت فيه وهو التيمم ، وأما الوضوء فقد كان معروفًا معمولاً به عندهم .
وقولها : فبعثنا البعير الذي كنت عليه ، فوجدنا العقد تحته ، جاء في
287- وَعَنْهَا ؛ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلادَةً فَهَلَكَتْ . فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ . فَلَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ . فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ . فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ : جَزَاكِ اللهُ خَيْرًا . فَوَاللهِ ! مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إِلا جَعَلَ اللهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا وَجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البخارى في هذا الحديث : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجده . وفي رراية : أنه بعث رجلين . وفي أخرى : أنه بعث أناسًا . وهذا كله له لا تناقض فيه ، وهو صحيح المعنى ، وذلك أنه بعث أسيد بن الحضير في أناس فطلبوا فلم يجدوا شيئًا في وجهتهم ، فلما رجعوا أثارُوا البعير فوجدوه تحته .
وكون الأناس المبعوثين صلوا بغير وضوء ولا تيمم ؛ دليلٌ على من صَار إلى أنه إذا عدمهما لم يصل ، وهي مسألة اختلف العلماء فيها على أربعة أقوال :
الأول : لا صلاة عليه ولا قضاء . قاله مالك ، وابن نافع ، والثوري ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وأهل ا لرأي.
الثاني : يصلي ويقضي . قاله ابن القاسم والشافعي .
(4/84)
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثالث : يصلي ولا يعيد . قاله أشهب .
الرابع : يقضي ولا يصلي .
وسبب الخلاف في هذه المسألة ، هل الطهارة شرط في الوجوب أو في الأداء ؟ ولا حُجَّة للمتمسك بهذا الحديث على شيء من هذه المسألة ؛ لأن كون المبعوثين صلوا كذلك رأيٌ رأوهُ ، ولم يبلغنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرهم على شيء من ذلك ، وأيضًا فإنه قال : (( فصلوا بغير وضوء )) ، فنفى الوضوء خاصة ، ولم يتعرض للتيمم ؛ فلعلهم فعلوا كما فعل عمار تمرغوا في التراب ، والله أعلم .
*************
( 37 ) باب تيمم الجنب والتيمم لرد السلام
288- عَنْ شَقِيقٍ ؛ قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللهِ وَأَبِي مُوسَى ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ! أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا. كَيْفَ يَصْنَعُ بِالصَّلاةِ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ : لا يَتَيَمَّمُ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا . فَقَالَ أَبُو مُوسَى : فَكَيْفَ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } فَقَالَ عَبْدُ اللهِ : لَوْ رُخِّصَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تيمم الجنب
قوله : (( لو أن رجلاً أجنب )) ، قال الفراء : يقال : أجنب الرجل وجنب من الجنابة ، قال غيره : يقال : جُنُب للواحد والاثنين والجمع ، والمذكر والمؤنث. قال ابن فارس : وقد قيل في الجمع : أجناب . والجنابة : البعد ، ومنه قوله :
فلا تَحْرِمَنَّي نائِلاً عن جنابةٍ
(4/85)
لَهُمْ فِي هَذِهِ الآيَةِ ، لاَوْشَكَ ، إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمُ الْمَاءُ ، أَنْ يَتَيَمَّمُوا بِالصَّعِيدِ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِ اللهِ : أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ ، فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ . ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ . فَقَالَ : " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا " ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ ، وَوَجْهَهُ . فَقَالَ عَبْدُ اللهِ : أَوَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ ؟ وَفِي رِوَايَةٍ : وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضِ ، فَنَفَضَ يَدَيْهِ ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي : بعدٍ. قال الأزهري : وسمي : جنبًا ؛ لأنه نُهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر فيجتنبها . وقال الشافعي : إنما سمي : جنبًا من المخالطة . ومن كلام العرب : أجنب الرجُل : إذا خالط امرأته . وهذا ضد المعنى الأول ، كأنه من القُرب منها .
وكان مذهب عبد الله بن مسعود : أن الجنب لا يتيمم ؛ لأنه ليس داخلاً في عموم { فلم تجدوا ماءً } ؛ ألا تراه قد سلم ذلك لأبي موسى ونحا إلى منع الذريعة ، وكأنه كان يعتقد تخصيص العموم بالذَّريعة ؛ ولا
بُعد في القول به على ضعفه .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/86)
وأما عمر بن الخطاب فكان يرى أن الآية لا تتناول الجنب رأسًا ؛ فمنعه التيمم لذلك ، وتوقف في حديث عمار لكونه لم يذكره حين ذكّره به . وقد صح عن عمر وابن مسعود : أنهما رجعا إلى أن الجنب يتيمم ، وهو الصحيح ؛ لأن الآية بعمومها متناولة له ، ولحديث عمار ، وحديث عمران بن حصين حيث قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل الذى قال له : أصابتني جنابة ولا ماء ، فقال له : (( عليك بالصعيد فإنه يكفيك )) ، وهذا نصٌّ رافع للخلاف .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف في الصعيد ما هو ؟ فروي عن الخليل : أنه وجه الأرض ؛ ويدل عليه قول ذي الرُّمة :
كأنَّه بالضُّحى تَرْمِي الصَّعِيدَ به دَبَّابةٌ في عِظامِ الرَّأسِ خُرْطُومُ
فعلى هذا فيجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض باقيًا على أصل أرضيته ، وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وقد صار عليٌّ ـ رضى الله عنه ـ إلى أنه التراب خاصة ، وهو قول الشافعي وأبي يوسف . وقَولةٌ شاذَّةٌ عن مالك . وقد استدل أصحاب هذا القول بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وجعلت تربتها لنا طهورًا )) ، ولا حجة فيه ؛ لأن التراب فيه جزء مما يتناوله وجه الأرض ، فهو مساوٍ لجميع أجزائها ، وإنما ذكر التراب لأنه الأكثر ، وصار هذا مثل قوله : { فيها فاكهة ونخلٌ ورمانٌ } ، والله أعلم .
وقوله : (( لأوشك )) ؛ أى : لأسرع ، وقد تقدم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا )) ، خاطبه بإنما ليحصر له القدر الواجب ، وهو أن يضرب الأرض بيديه ، ثم يمسح وجهه ، ثم يضرب ضربة أخرى فيمسح كفيه . ولم يُختلف أن الوجه كئه لا بد من إيعابه .
(4/87)
289- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ؛ أَنَّ رَجُلاً أَتَى عُمَرَ فَقَالَ : إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً . فَقَالَ : لا تُصَلِّ . فَقَالَ عَمَّارٌ : أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا ، وَ لَمْ نَجِدْ مَاءً ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ . فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِنَّمَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلفوا : هل الواجب أن يبلغ به إلى المرفقين أم يقتصر على الكوعين ؟ أم يستحب الإيصال إلى المرفقين ، فإن اقتصر على الكوعين أجزأه ، وهذا مذهب ابن القاسم .
ومسحه الشمال على اليمين مراعاة لحال اليمين حتى تكون هي المبدوء بها . وكونه في هذه الرواية أخر الوجه في الذكر ، وكونه في الثانية قدّمَه ؛ يدل على عدم ترتيب الواو .
ولم ينكر عمر على عمار إنكار قاطع برد الخبر ، ولا لأن عمارًا غير ثقة ، بل منزلة عمار وعظم شأنه ومكانته كل ذلك معلومٌ ، وإنما كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الأَرْضَ ، ثُمَّ تَنْفُخَ ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ " فَقَالَ عُمَرُ : اتَّقِ اللهَ ، يَا عَمَّارُ ! قَالَ : إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ . فَقَالَ عُمَرُ : نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ . وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ : فَقَالَ عَمَّارٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! إِنْ شِئْتَ ! لِمَا جَعَلَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ حَقِّكَ ، لا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان ذلك من عمر ؛ لأنه لما نسبه إليه لم يذكرهُ توقف عمر ، ولذلك قال له : (( نوليك من ذلك ما توليت )) ؛ أي : ماتحملت عهدته مما ذكرتَهُ ، حدَّث به إن شئت .
(4/88)
وقول عمار : (( إن شئت لم أحدث )) ، ليس لضعف الحديث ، ولا لأن عمارًا شك فيما رأى وروى ، وإنما ذلك للزوم الطاعة ، وقد صرَّحَ بهِ .
وقوله : (( فنفض يديه فنفخ فيهما )) ؛ حجّةٌ لمن أجاز نفض اليدين من التراب ، وهو قول مالك والشافعي دون استقصاء لما فيهما ، لكن لخشية ما يضر به من ذلك من تلويث وجهه أو شيء يؤذيه .
290- وَعَنْ أَبِي الْجَهْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَارِيِّ ؛ قَالَ : أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ . فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ . فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَيْهِ ، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ .
291- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ رَجُلاً مَرَّ ، وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَبُولُ ، فَسَلَّمَ . فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث أبي الجهم : (( أقبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نحو بئر جمل )) ، وهو موضع معروف بقرب المدينة .
وقد استدل البخاري بهذا الحديث على جواز التيتم في الحضر لمن خاف فوات الوقت . وهذا الحديث يؤخذ منه : أن حضور سبب الشيء كحضور وقته ؛ وذلك أنه لما سلم هذا الرجل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، تعين عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرد ، أوخاف الفوت ، فتيتم ، يكون هذا حجة لأحد القولين عندنا ، أن من خرج إلى جنازة متوضئًا فانتقض وضوؤه أنه يتيمم ، وقد
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روى أبو داود من حديث المهاجر بن قنفذ : أنه سلم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/89)
وهو يبول ، فلم يَرُدّ عليه حتى توضأ ، ثم اعتذر إليه فقال : (( إني كنت كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة )) . وهذا يتمم معنى حديث ابن عمر الآتي وحديث أبي الجهيم هذا . ذكر القاضي أبو الفضل عياض : أن مسلمًا ذكره مقطوعًا ، قال : وفي كتابه أحاديث يسيرةٌ مقطوعةٌ متفرقة في أربعة عشر موضعًا هذا منها .
وفيه حجة لمن قال : ان التيمم يرفع الحدث ، وهو ظاهر قول مالك في "الموطأ" ، ومشهور مذهبه : أنه مبيح لا رافع .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الزهري ، وابن المسيب ، والحسن : يرفع الحدث الأصغر . وقال أبو سلمة : يرفع الحدثين جميعًا.
*************
( 38 ) باب المؤمن لا ينجس ، وذكر الله تعالى على كل ،
وما يتوضأ له
292- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّهُ لَقِيَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ . فَانْسَلَّ فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ، فَتَفَقَّدَهُ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ : " أَيْنَ كُنْتَ ؟ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ! " قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! لَقِيتَنِي وَأَنَا جُنُبٌ فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ حَتَّى أَغْتَسِلَ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "سُبْحَانَ اللهِ ! إِنَّ الْمُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ ".
293- وَعَنْ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَذْكُرُ اللهَ - عَزَّ وَجَّلَ- عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب المؤمن لا ينجس
يقال : نجِس الشيء بالكسر ، ينجَس بالفتح ، ونَجُس بالضم ينجُس ، ويتبين منه : أن من صدق عليه اسم المؤمن لا ينجس حيًّا كان أو ميتًا ، وأما طهارة الآدمي مطلقًا فلا تنتزعُ منه بوجهٍ ، وقد اختلف في
(4/90)
294- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَجَاءَ مِنَ الْغَائِطِ .. وَأُتِيَ بِطَعَامٍ . فَقِيلَ : أَلا تَوَضَّأُ ؟ قَالَ : " لِمَ ! أَأُصَلِّي فَأَتَوَضَّأَ ".
فِي رِوَايَةٍ : " مَا أَرَدْتُ صَلاةً فَأَتَوَضَّأَ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألتين ، وسيأتي البحث فيهما في الجنائز .
و قوله : (( أأصلي فأتوضأ )) ، إنكارٌ على من عَرَضَ عليه غسل اليدين قبل الطعام ، وبه استدل مالكٌ على كراهة ذلك وقال : إنه من فعل الأعاجم ، وقال مثله الثوري وقال : لم يكن من فعل السلف . وحمله غيرهما على إنكار كونه واجبًا ، محتجًّا بحديث رواه أبو داود وغيره عنه عليه الصلاة والسلام : "الوضوء قبل الطعام وبعده بركة )) .
...................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وينتزع من هذا الحديث : أن الوضوء بأصل مشروعيته إنما هو واجبٌ للصلاة وما في معناها ، مثل الطواف ، لكن إذا حملنا الوضوء على العرفي ، والله أعلم .
كمل كتاب الطهارة يتلوه كشف مشكل الصلاة
****************(4/91)
3
كتاب الصلاة
( 1 ) باب ما جاء في الأذان والإقامة
1- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ؛ قَالَ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ ، فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَوَاتِ ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ : فَقَالَ بَعْضُهُمِ : اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ ، فَقَالَ عُمَرُ : أَوَلا تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلاةِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يَا بِلالُ ! قُمْ ، فَنَادِ بِالصَّلاةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد
كتاب الصلاة
ومن باب ما جاء في الأذان والإقامة
الأذان : هو الإعلام ، ومنه قوله تعالى : { وأذان من الله ورسوله }.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : " يتحيَّنون " يعني : يقدِّرون أحيانها ؛ ليأتوا إليها فيها . والحين : الوقت والزمان .
وتشاورهم في هذا دليل على مراعاتهم المصالح والعمل بها ، وذلك أنهم لما شقّ عليهم التحين بالتبكير فيفوتهم عملهم ، أو بالتأخير فتفوتهم الصلاة ، نظروا في ذلك ، فقال كل واحد منهم ما تيسّر له من القول ، فقال عُمر : أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة ؟ يعني : يعرِّف بها ، فإن كيفية الأذان لم تكن معروفة عنده قبل. وعند ذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قم يا بلال ، فناد بالصلاة )) ؛ أي : أذِّن.
وهنا أحاديث يتوهم في الجمع بينها إشكال ، منها : أن أول من أري الأذان في النوم : عبد الله بن زيد ، فلما ذكر ذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أمر بلالاً بالأذان ، فذكر عمر أنه رأى مثل ذلك .
(4/92)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد ذكر أصحاب المسندات : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمع الأذان ليلة الإسراء . وهذا كله لا إشكال فيه إذا تُؤمِّل ؛ فإن الجمع ممكن . وبيانه : أنهم تفاوضوا في الأذان ، ويحتمل أن يكون عبدالله وعمر غائبين ، ثم إنهما قدما ، فوجدا المفاوضة ، فقال عبد الله ما قال ، وتلاه عمر . ولما رأى عمر قبول الرؤيا وصحتها قال : ألا تنادون للصلاة ؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبلال : (( قم )). ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما ما وقع في المسندات فلا يلزم من سماعه له أن يكون مشروعا في حقه ، والأقرب : أن الرواة لا يستوفون القص كما وقعت ، فروى بعضٌ ما لم يرو غيره ، وبمجموع الأحاديث يتمّ الغرض .
و قوله : (( قم يا بلال فناد بالصلاة )) : حجة لمشروعية الأذان والقيام فيه ، وأنه لا يجوز أذان القاعد عند عامة العلماء ، إلا أبا ثور ، [وبه] قال أبو الفرج من أصحابنا ، وأجازه مالك وغيره ، لِعِلَّة [به](4) إذا أذن لنفسه .
(4/93)
ويحصل من الأذان إعلام بثلاثة أشياء : بدخول الوقت ، وبالدعاء إلى الجماعة ومكان صلاتها ، وبإظهار شعار الإسلام . وقد اختُلف في حكمه ، فقال داود والأوزاعي - وهو ظاهر قول مالك في "الموطأ"- : بوجوبه في المساجد والجماعات ، وقيل : إنه فرض على الكفاية ، وبه قال بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي ، وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة في مساجد الجماعات والعشائر ، وهو المشهور من مذهب مالك وغيره ، وسبب الاختلاف : اختلافهم في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبلال : (( قم يا بلال ، فناد بالصلاة )) ؛ هل هو محمول على ظاهره من الوجوب ، أو(5) هو مصروف عن ذلك 2- وَعَنْ أَنَسٍ ؛ قَالَ : ذَكَرُوا أَنْ يُعْلِمُوا وَقْتَ الصَّلاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ . فَذَكَرُوا أَنْ يُنَوِّرُوا نَارًا ، أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا . فَأُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَيُوتِرَ الإِقَامَةَ. قَالَ ابْنِ عُلَيَّةَ : فَحَدَّثْتُ بِهِ أَيُّوبَ ، فَقَالَ : إِلا الإِقَامَةَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالقرائن ؟ أعني : قرائن التعليم . وأما من صار إلى أنه على الكفاية فيراعي ما يحصل منه من الفوائد الثلاث المتقدمة الذكر.
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و قوله : " أُمر بلال أن يشفع الأذان " ؛ أي : يثنِّيه ، وعلى هذا جمهور أئمة الفتوى . وقد روي فيه عن بعض السلف خلاف شاذ - في إفراده وتثنيته - يأتي [إن شاء الله ].
(4/94)
وقوله : "[ ويوتر] الإقامة " ؛ أي : يفردها ، وهو مذهب مالك والشافعي ، لم يختلفوا إلا في قوله : " قد قامت الصلاة " ، فمالك يفردها في المشهور [عنه ]. وهو عمل [أهل] المدينة . والشافعي يثنيها ، وهو عمل أهل مكة . وقد روي مثل ذلك عن مالك ، وهو الذي أراد أيوب بقوله : " إلا الإقامة " ؛ أي : إن قوله : " قد قامت الصلاة " مثنى ، فاستثناه من كلمات الإقامة . وذهب الكوفيون والثوري إلى أن يشفعوا الإقامة كلها . وهو قول بعض السلف ، وقد ورد تشفيع الإقامة من حديث أبي محذورة ، والصحيح من حديثه هو الإفراد .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف الفقهاء في حكم الإقامة ، فعند مالك ، والشافعي وجمهور الفقهاء : أنها سنة مؤكدة ، وأنه لا إعادة على تاركها ، وعند الأوزاعي 3- وَعَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ ؛ أَنَّ النَبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَّمَهُ هَذَا الأَذَانَ : (( اللهُ أَكْبَرُ ، اللهُ أَكْبَرُ . أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ . أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ )). ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُ : (( أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ - مَرَّتَيْن - ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ - مَرَّتَيْن - . حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ - مَرَّتَيْنِ - ، حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ - مَرَّتَيْنِ - ، اللهُ أَكْبَرُ ، اللهُ أَكْبَرُ . لا إِلهَ إِلا اللهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعطاء ومجاهد وابن أبي ليلى : أنها واجبة ، وعلى من تركها الإعادة ، وبه قال أهل الظاهر . ورُوي عندنا أيضًا : أن من تركها عمدًا أعاد الصلاة . وليس ذلك لوجوبها ؛ إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها ، وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن .
(4/95)
وذكر مسلم في تعليم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأذان لأبي محذورة : التكبير أولاً مرتين . كذا في أكثر الأصول وروايات جماعات الشيوخ . ووقع [ في](4) بعض طرق الفارسي(5) : التكبير أربع مرات(6). ومذهب مالك رحمه الله : تثنية ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأذان كله ، غير أنه يرجِّع ، وهو نقل أهل المدينة المتواتر عن أذان بلال ، وهو آخر أذانه ، والذي توفي عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ومذهب الشافعي : الترجيع ، وهو عمل أهل مكة .
وقوله : " ثم يعود فيقول : أشهد أن لا إك إلا الله " ، هذا هو الترجيع
الذي قال به مالك والشافعي وجمهور العلماء ، على مقتضى حديث أبي محذورة ، واستمرار عمل [أهل] المدينة ، وتواتر نقلهم ، عن أذان بلال . وذهب الكوفيون إلى ترك الترجيع على ما في حديث عبدالله بن زيد أول الأذان ، وما استقر عليه العمل ، وهو آخر الفعلين أولى . وذهب أهل الحديث وأحمد وإسحاق والطبري وداود : إلى التخيير في الأحاديث - على أصلهم إذا صحت ، ولم يُعْرف قوله المتقدم من المتأخر - : أنها للتوسعة والتخيير ، وقد ذكر نحو هذا عن مالك .
*************
( 2 ) باب الأذان أمان من الغارة وما جاء في اتخاذ مُؤذِّنَيْنِ
4- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ . وَكَانَ يَسْتَمِعُ الأَذَانَ ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ ، وَإِلا أَغَارَ . فَسَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ : اللهُ أَكْبَرُ ، اللهُ أَكْبَرُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( عَلَى الْفِطْرَةِ )) ثُمَّ قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ )) ، فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ رَاعِي مِعْزًى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/96)
وقوله : " كان لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤذنان " ؛ يعني في وقت واحد ، وإلا فقد كان له غيرهما ؛ أَذّن له أبو محذورة بمكة ، ورتّبه لأذانها. وسعد القَرَظ أذّن للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاث مرات ، وقال له : (( إذا لم تر بلالاً فأذن )). وأذَّن له
5- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ قَالَ : كَانَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُؤَذِّنَانِ . بِلالٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصُّدَائي وقال : (( إن أخا صُدًاء أذّن ، ومن أذّن فهو يقيم )).
ومن باب الأذان أمان من الغارة
الغارة والإغارة : كلاهما مصدر ، غير أن الغارة مصدر غَارَ ، والإغارة مصدر أَغَار ، وكلاهما [مصدر معروف] ، وهي عبارة عن الهجم على العدو صبحًا ، من غير إعلام لهم .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( على الفطرة )) ؛ يريد فطرة الإسلام .
وقوله حين سمعه يتشهد : (( خرجتَ من النار )) ؛ يريد بتوحيده وصحة إيمانه.
وقوله : " فإذا هو راعي مِعْزًى" حجة في [جواز] أذان المنفرد البادي ، بل على كونه مستحبًا في حقه ، وهذا مثل حديث أبي سعيد : (( إذا كنت في
( 3 ) باب إذا سَمِعَ المؤذن قال مثل ما قال ، وفضل ذلك ،
وما يقول بعد الأذان
6- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ . فَمَنْ سَأَلَ الله لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيهُ الشَّفَاعَةُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غنمك أو باديتك فارفع صوتك بالنداء )).
ومن باب إذا سمعتم الأذان
(4/97)
قوله : (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول )) : حكى الطحاوي أنه اختُلف في حكمه ، فقيل : واجب ، وقيل : مندوب إليه . والصحيح أنه
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مندوب ، وهو الذي عليه الجمهور . ثم هل يقوله عند سماع كل مؤذن ؟ أم لأولي مؤذن فقط ؟
واختُلف في الحدّ الذي يحكي فيه المؤذن : هل إلى [التشهدين] الأخيرين ؟ أم لآخر الأذان ؟ فنُقل القولان عن مالك ، ولكنه في القول الآخر : إذا حيعل المؤذن فيقول السامع : لا حول ولا قوة إلا بالله ، كما جاء في "الأم" ، وكما رواه أبو داود عن معاوية .
7- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ : اللهُ أَكْبَرُ ، اللهُ أَكْبَرُ . فَقَالَ أَحَدُكُمُ : اللهُ أَكْبَرُ ، اللهُ أَكْبَرُ . ثُمَّ قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ . قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ . قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ . ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ. قَالَ : لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ . ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ ، قَالَ : لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ . ثُمَّ قَالَ : اللهُ أَكْبَرُ ، اللهُ أَكْبَرُ. قَالَ : اللهُ أَكْبَرُ ، اللهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ : لا إِلهَ إِلا اللهُ . قَالَ : لا إِلهَ إِلا اللهُ . مِنْ قَلْبِهِ ، دَخَلَ الْجَنَّةَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/98)
واختلف في المصلي : هل يحكي المؤذن وهو في الصلاة ؟ فقيل : يحكيه في الفريضة والنافلة ، وقيل : لايحكيه فيهما ، وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة ، وقيل : يحكى في النافلة خاصة ، وبه قال الشافعي ، والثلاثة الأقوال في 8- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أَنَّهُ قَالَ : (( مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِالإِسْلامِ دِينًا . غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبُهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مذهبنا . قال المطرِّز في كتاب "اليواقيت" وفي غيره : إن الأفعال [التي] أخذت من أسمائها سبعة ، وهي : " بسمل " إذا قال :
بسم الله الرحمن الرحيم
، و: " سبحل " : إذا قال : سبحان الله ، و: "حوقل" : إذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، و: "حيعل " : إذا قال : حي على الفلاح ، ويجيء على القياس : " الحيصلة " : إذا قال : حي على الصلاة ، ولم يذكره [عن غيره](3). و: "حمدل " : إذا قال : الحمد لله ، و: "هلل " : إذا قال : لا إله إلا الله ، و: "جعفل " : إذا قال : جعلت فداك . زاد الثعالبي : " الطيقلة " : إذا قال : أطال الله بقاءك ، و: "الدمعزة " : إذا قال : أدام الله عزك . قال ابن الأنباري : ومعنى : "حَيّ " في كلام العرب : هلمّ وأقبل .
قلت : يقال بلفظ واحد للواحد والجميع(5) ، وهي من أسماء الأفعال ، وفتحت الياء من " حَيَّ : لسكونها وسكون الياء التي قبلها ، كما قالوا : ليت. ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(4/99)
وفيها لغات : يقال : " حيّ ، و: حَيَّهَلاً ، و: حَيَّهَلاَ - غير مُنَوَّن - ، و: حَيَّهَلْ - ساكنة اللام - ، ومنه : قول عبد الله بن مسعود : إذا ذُكر الصالحون فحيَّهَلاَ بعمرَ ؛ أي : فأقبلوا على ذكر عمر . وقد تقدم ذكر الفلاح . وقيل : قياس المطرز " الحيصلة" على "الحيعلة" غير صحيح ، بل الحيعلة تطلق على حي على الفلاح ، وعلى حي على الصلاة ؟ وإنما [هي] من قوله : حي على كذا فقط ؛ ولو كان على قياسه في الحيعلة ، لكان الذي يقال في حي على الفلاح : [ الحيفلة] ، وهذا لم يقل ، والباب مسموع .
وقوله : (( واسالوا الله لي الوسيلة )) قد فسرها في هذا الحديث بأنها منزلة في الجنة . قال أهل اللغة : الوسيلة : المنزلة ، وهي مشتقة من توسّل الرجل : إذا تقرّب .
وقوله : (( وأرجو أن أكون أنا هو )) ، قال هذا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يُبان قوله له [بأنه] صاحبها ، إذ قد أخبر أنه يقوم مقامًا لا يقومه أحد غيره ، ويحمد الله(8) ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمحامد لم يُلْهمها أحد غيره ، ولكن مع ذلك فلا بد من الدعاء فيها ؛ فإن الله يزيده بكثرة دعاء أمته رفعة كما زاده بصلاتهم ، ثم إنه يرجع ذلك عليهم بنيل الأجور ، ووجوب شفاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( حلَّت )) : وجبت ، يقال : حَلَّ يَحِلُّ : وجب ، وحَلَّ يَحُلّ : نزل ، وكأنها لازمة ، ولم تنفصل عنه ؟ ولذلك عدّاه بـ : عَلَى .
تنبيه : واعلم أن الأذان على قلّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة ، وذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدأ بالأكبريَّة ، وهي تتضمن وجود الله تعالى ووجوبه وكماله ، ثم ثنّى بالتوحيد ، ثم ثلّث برسالة رسوله ، ثم ناداهم لِمَا أراد من [طاعته] ، ثم ضمّن ذلك بالفلاح ، وهو البقاء الدائم ، فأشعر بأن ثمَّ جزاء ، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا .
***************
( 4 ) باب في فضل الأذان ، وما يُصيب الشيطان عنده
(4/100)
9- عَنْ مُعَاوِيَةَ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من باب فضل الأذان
قوله : (( المؤذنون أطول الناس أعناقًا )) ، اختلف في تأويله ، فقيل : معناه أطول الناس تَشَوُّفًا إلى رحمة الله تعالى وثوابه ؛ لأن المتشوِّف يطيل عنقه لما يتشوَّف إليه .
وقال النضر بن شُمَيْل : إذا ألجم الناس العرق طالت أعناقهم لئلا يغشاهم ذلك الكرب . وقيل : معناه أنهم رؤساء ، والعرب تصف السادة بطول الأعناق ، قال الشاعر :
وطول أَنْصِيَةِ الأعناق واللُّمَمِ
وقيل : أكثر أتباعًا. وقال ابن الأعرابي : أكثر أعمالاً .
وفي الحديث : (([يخرج] من النار عنق )) ، ، ويقال : لفلان عُنُق من
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخير ؛ أي : قطعة منه. والعَنَقُ - بفتح [العين والنون]- : ضَرْبٌ من السِّيْر ، ومنه : (( لا يزال الرجل مُعْنقًا ما لم يصب دمًا حرامًا )).
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد احتجّ بهذا الحديث من رأى أن فضيلة الأذان أكثر من فضيلة الإمامة ، واعتذر عن كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يؤذِّن ؛ لما يشتمل عليه الأذان من الشهادة بالرسالة .
وقيل : إنما ترك الأذان لما فيه من [ الحيعلة ] ، وهي أمر ، فكان لا يسع [ أحدًا] ممن سمعه التأخر ، وإن كان له حاجة [ وضرورة ].
وقيل : لأنه كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شغل عنه بأمور المسلمين ، وهذا هو الصحيح ، وقد صرَّح بذلك عمر ، فقال : " لولا الخِلِّيفَى - أي : الخلافة - لأذَّنت ".
(4/101)
10- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ . فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ ، حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ . يَقُولُ لَهُ : اذْكُرْ كَذَا وَاذْكُرْ كَذَا ، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ مِنْ قَبْلُ . حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ مَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و قوله في "الأم" : (( أدبر الشيطان له حُصاص )) ، هو الضُّراط كما فسره [في هذه] الرواية .
وقيل : إنه شدةُ العدو ، [ قالهما] أبو عبيد . وقال عاصم بن أبي النَّجود : إذا ضرب بأذنيه ، ومصع بذنبه وعدا ، فذلك الْحُصاص ، وهذا يصح حمله على ظاهره ؛ إذ هو جسم مُغْتَذٍ يصح منه خروج الريح ، وقيل : إنه عبارة عن شدة الغيظ والنّفار ، وذلك لما يسمع من ظهور الإسلام ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ودخولهم فيه ، وامتثالهم أوامره ، كما يعتريه يوم عرفة لما رأى من اجتماع الناس على البر والتقوى ، ولما يتنزل عليهم من الرحمة .
وقوله : (( حتى إذا ثُوِّب بالصلاة أدبر )) ؛ أي : أقيمت . وأصله : أنه رجع إلى ما يشبه الأذان ، أو لأن الإقامة يُرجع إليها وتُكرر على ما تقدم ، وأصله : من ثاب إلى الشيء إذا رجع ، ومنه قيل لقول المؤذن : " الصلاة خير من النوم" تثويب . وقال الخطابي : التثويب : الإعلام بالشيء ووقوعه . وأصله : أن الرجل إذا جاء قَزِعًا لوّح بثوبه .
(4/102)
وقوله : (( حتى يخطر بين المرء ونفسه )) ، قال الباجي : يمرّ فيحول بين المرء وما يريد من نفسه ؛ من إقباله على صلاته وإخلاصه ، وهو على رواية أكثرهم بضم الطاء ، وعن أبي بحر : يخطِر - بكسرها - ؛ من قولهم : خطر البعير بذنبه : إذا حرّكه ، فكأنه يريد حركته بوسوسة النفس وشغل السِّرّ.
وقوله : (( حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى )) ، هذه الرواية التي [أثبتناها] هي الواضحة ، وهي : [ يَظَلّ] بالظاء الْمُشَالَة ؛ بمعنى : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يصير ، كما قال تعالى : { ظلّ وجهه مسودًّا } ، وقيل : معناه : يبقى ويدوم ، وأنشدوا [عليه]
ظَلِلْتُ ردائي فوق رأسي قاعدًا
وحكى الدَّاوُدي : أنه رُوي : يضل - بالضاد - ؛ بمعنى : ينسى ويذهب وهمه ؛ قال الله عز وجل : { أن تضل إحداهما }.
وقوله : (( إن يدري كم صلى )) بالكسر ، بمعنى : ما يدري ، ويُروى : " أن يدري" بفتحها ، وهي رواية أبي عمر [بن عبد البر](2). وقال : هي رواية أكثرهم . قال : ومعناها : لا يدرى(7). وكذا ضبطها الأصيلي . وفي كتاب البخاري : "أن" بالفتح ، وليست هذه الرواية بشيء إلا مع رواية الضاد ، فتكون " أن " مع الفعل بتأويل المصدر ، ومفعول [ضل](8) : " أن " بإسقاط حرف الجر ؛ أي : يضل عن درايته ، وينسى عدد(9) ركعاته ، وهذا أيضًا فيه بُعد .
( 5 ) باب رفع اليدين في الصلاة ، ومتى يرفعهما ؟ وإلى أين ؟
11- عَنْ ابْنَ عُمَرَ ؛ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إِذَا قَامَ لِلصَّلاةِ ، رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا بِحَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ، ثُمَّ كَبَّرَ . فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَلا يَفْعَلُهُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/103)
ومن باب رفع اليدين في الصلاة
قوله : " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا افتتح الصلاة رفع يديه" ، زعم بعض من لقيناه من الفقهاء أن "كان" مهمًا ، أطلقت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزمها(3) الدوام والكثرة ، قال : بحكم عرفهم ، والشأن في نقل هذا العرف ، وإلا فأصلها أن تصْدُقَ على من فعل الشيء مرة واحدة ، ونحن على الأصل حتى نُنقل عنه .
واختلف العلماء في رفع اليدين في الصلاة ، هل يرفعهما ، أو لا يرفعهما في شيء من الصلاة ؟ أو يرفعهما مرة واحدة عند الافتتاح ؟ ثلاثة أقوال عند مالك . مشهور مذهبه : الثالث ، وهو مذهب الكوفيين ؛ على حديث عبدالله ابن مسعود والبراء : أنه عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرفع يديه عند الإحرام مرة ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم لا يزيد عليها . وفي أخرى : " ثم لا يعود ". خرّجهما أبو داود ، ولا يصح شيء منهما ، ذكر عللهما أبو محمد عبد الحق.
.....................................................................
[والأول] : هو آخر(2) أقواله وأصحها ، والمعروف من عمل الصحابة ، ومذهب كافة العلماء ، إلا مَن ذُكر ، وهو أنه يرفعهما عند الافتتاح ، وعند الركوع ، والرفع منه ، وإذا قام من اثنتين(3) ، وهو الذي يشهد له الصحيح من الأحاديث . والثاني : أضف الأقوال وأشذّها ، وهو : ألا يرفع ، ذكره ابن شعبان ، وابن خُوازمَنْداد ، وابن القصار .
12- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ . وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ، فَقَالَ : (( سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ )) فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ : حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ .
(4/104)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيه : هذا الرفع من هيئات الصلاة وفضائلها في تلك المواضع ، وذهب داود إلى وجوبه عند تكبيرة الإحرام ، وقال بعضهم : إنه واجب كله .
وقوله : " حتى يحاذي بهما أذنيه " ، وفي أخرى : " منكبيه " ، وفي أخرى : " فروع أذنيه " ، وفي غير كتاب مسلم : " فوق أذنيه مدًّا مع رأسه " ، وفي أخرى : " إلى صدره ". وبحسب اختلاف هذه الروايات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.....................................................................
اختلف العلماء في المختار من ذلك . فذهب(2) عامة أئمة الفتوى : إلى اختيار رفعهما حذو منكبيه ، وهو أصح ّ قوليْ مالك وأشهرهما ، والرواية عنه : إلى صدره .
وذهب ابن حبيب إلى رفعهما حذو أذنيه ، وقد جمع بعض المشايخ بين هذه الأحاديث وبين الروايتين عن مالك ، فقال : تكون رسغاه مقابلةً أعلى صدره ، وكفّاه حذو منكبيه ، وأطراف أصابعه حذو أذنيه. وتبقى رواية : "فوق رأسه "(3) ، لا تدخل(4) في هذا الجمع . وقال بعضهم : هو على التوسعة ، وهو الضحيح. وقد ذهب الطحاوي إلى أن اختلات الأحاديث لاختلاف الأحوال.
واختلف أصحابنا في صفة رفعهما ، فقيل : قائمتين كما جاء : " بمدهما مدًّا " ، وهو مذهب العراقيين من أصحابنا . وقيل : منتصبتين ؛ بطونهما إلى الأرض وظهورهما مما يلي السماء . وذهب بعضهم إلى نصبهما قائمتين ، لكن تكون أطراف الأصابع منحنية قليلاً .
(4/105)
13- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ ؛ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلاةِ ، كَبَّرَ وَضَعَهُمَا حِيَالَ أُذُنَيْهِ ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى . فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا ، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ ، فَلَمَّا قَالَ : (( سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ )) رَفَعَ يَدَيْهِ . فَلَمَّا سَجَدَ ، سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وماحكمة ذلك ؟ اختلف فيه ، فقيل فيه أقوال ، أنسبها مطابقة قوله : "الله أكبر" لفعله .
ثم اختلف في وقت رفعهما ، فحاء في بعض الروايات : " كان إذا كبر رفع يديه " ، وفي بعضها : " إذا افتتح الصلاة " ، و" إذا قام إلى الصلاة " ، وهذا يشعر باستصحابها ومقارنتها .
و قوله في حديث وائل بن حجر : " وصفّهما حيال أذنيه ". حيال وحذاء وإزاء بمعنى واحد .
وقوله : " ثم التحف بثوبه " ؛ يدّل على أن العمل اليسير في الصلاة
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يفسدها ، خلافًا لما حكي العبدي من متأخري أئمة العراقيين : أن العمل فيها عمدًا مفسد للصلاة . قال : ويستوي في ذلك قليله وكثيره . والالْتحاف : الاشتمال والتلفف ، كله بمعنى واحد .
وقوله : " ثم وضع يده اليمنى على اليسرى " : اختُلف فيه على ثلاثة أقوال : فروى مُطَرِّف وابن الماجشون عن مالك أنه قال : يَقْبِضُ باليمنى على المعصم والكوع من يده اليسرى تحت صدره [ تمسكًا] بهذا الحديث . وروى ابن القاسم : أنه يسدلهما ، وكره له ما تقدم ، ورأى أنه من الاعتماد على اليد في الصلاة المنهي عنه في كتاب أبي داود . وروى أشهب التخيير فيهما والإباحة .
(4/106)
وقوله : " أخرج يديه من الثوب " يدل على أنه يخرجهما ويرفعهما ، [ كما صار إليه مالك ].
وقوله : وسجد بين كفيه " ؛ إنما فعل ذلك ليتمكن من التجنيح الذي كان يفعله في سجوده ، كما روي عنه أنه كان يجنِّح حتى يُرى بياض إبطيه.
***********
( 6 ) باب التكبير في الصلاة
14- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ، ثُمَّ يَقُولُ : (( سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ )) حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ : (( رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ )) ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، ثُمَّ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّلاةِ كُلِّهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التكبير في الصلاة
[قوله] : " ثم كبر" ؛ حجة في وجوب التكبير للإحرام وتعيينه ، وقد قال عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذي علمه الصلاة : (( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ))". واختلف في حكم التحريم ، فعامة أهل العلم على وجوبه ، إلا ما روي عن الزهري وابن المسيب والحسن والحكم والأوزاعي وقتادة في أنه سنة ، وأنه ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/107)
يجزيء الدخول في الصلاة بالنية ، وعامة أهل العلم على أنه لا يجزىء إلا بلفظ التكبير ، إلا أبا حنيفة وأصحابه فانهم يجيزون الدخول بكل لفظ فيه تعظيم [ لله] عز وجل ، وأجاز الشافعي : " الله الأكبر " ، وأجاز أبو يوسف : " الله الكبير " ، ومالك لا يجيز إلا اللفظ المعيّن : " الله أكبر " المعهود في عرف اللغة والشرع لا سواه . والأولى ما صار إليه مالك ؛ لما صحّ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حديث علي بن أبي طالب : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ((تحريم الصلاة التكبي ، وتحليلها التسليم )) ، والألف واللام في التكبير والتسليم
.....................................................................
15- وَعَنْهُ ؛ أَنَّهُ كَانَ يُصَلي لَهْم فَيُكَبِّرُ فِي الصَّلاةِ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : وَاللهِ إِنِّي لأَشْبَهُكُمْ صَلاةً بِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حوالة على معهود تكبيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسليمه ، ولم يرو عنه قط أنه قال في التكبير ولا في التسليم غير لفظين معينين وهما : الله أكبر ، [والسلام] عليكم".
وقوله : " يكبر كلما خفض ورفع ، وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يفعل ذلك" ؛ هذا هو الأمر الثابت من فعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذي استقرّ عليه عمل المسلمين . وقد كان بعض السلف يرى : أنه لا تكبير في الصلاة غير تكبيرة الإحرام . ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال بعضهم : ليس بسنة إلا للجماعة ؛ ليشعر الإمام بحركاته مَنْ وراءه . ومذهب أحمد بن حنبل : وجوب جميع التكبير في الصلاة ، وعامة العلماء على أنه سنة ، بدليل قوله للذي علمه الصلاة : (( فتوضا كما أمرك الله ، ثم استقبل القبلة ، ثم كبر )) ، ولم يذكر له إلا فرائض الصلاة .
(4/108)
وفي قوله : " كلما خفض ورفع " ما يدل على مقارنة التكبير للفعل ، وعليه يدل قوله : " سمع الله لمن حمده " حين يرفع صلبه من الركوع ، وقوله : " ثم يكبر حين يهوي ساجدًا "(2) ، وهو قول أهل العلم ، واستثنى مالك من ذلك التكبير بعد القيام من اثنتين ، فلا يكتر حتى يستوي قائمًا ، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز. قال مالك : وإن كبر هنا في نهوضه فهو في سعة.
[ وقوله : " يَهْوِي " هو بفتح الياء ، وكسر الواو ، وماضيه : " هَوَى " ، بفتح الواو ، ومعناه : يسقط إلى الأرض ساجدًا . وأما : " أَهْوَى" الرباعي ، فمضارعه : " يُهْوِي " بضم الياء وكسر الواو ، فمعناه : أقبل على الشيء ليأخذه بيده ، يقال : أهويت للشيء : إذا أردت أخذه بيدك . وأما : " هَوِي" بفتح الهاء ، وكسر الواو ، فمعناه : أحَبّ ، ومضارعه : " يَهْوَى" بفتح الياء والواو ، ذكره الجوهري في الصحاح ].
( 7 ) باب ما جاء في القراءة في الصلاة وبيان أركانها
16- عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ )).
زَادَ فِي رِوَايَةٍ : (( فَصَاعِدًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب القراءة في الصلاة
قوله : " لا صلاة " ظاهره نفي الإجزاء في كل صلاة لا يُقرأ فيها بأم القرآن ، وهو مذهب مالك والشافعي والجمهور . ورأى أبو حنيفة أنها لا تتعين ، وأن غيرها من آي القرآن وسُوَرِهِ يجزيء ، فيتعين [عليه](3) حمل : " لا صلاة " على نفي الكمال ، أو على الإجمال بينهما(4) ، كما صار القاضي إليه. ومذهب الجمهور هو الصحيح ؛ لأن نفي الإجزاء هو السابق للفهم ، كما تقول العرب : لا رجل في الدار ، فإنه يقتضي هذا نفي أصل الجنس الكامل والناقص ، ولا يصار لنفي الوصف إلا بدليل من خارج .
(4/109)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف العلماء في القراءة في الصلاة ، فذهب جمهورهم إلى وجوب قراءة أم القرآن للإمام والفذِّ في كل ركعة ، وهو مشهور قول مالك . وعنه أيضًا : أنها واجبة في جُلّ الصلاة ، وهو قول إسحاق . وعنه : أنها تجب في ركعة واحدة . وقاله المغيرة والحسن . وعنه : أن القراءة لا تجب في شيء من الصلاة ، وهو أشذ الروايات ، وحُكي عنه : أنها تجب في نصف الصلاة ، وإليه ذهب الأوزاعي . وذهب الأوزاعي أيضا [وأبو ثور] وغيرهما إلى أنها تجب على الإمام والفذّ ، والمأموم على كل حال ، وهو أحد قولْي الشافعي .
وقوله : " فصاعدًا " ، معناه : فزائدًا ، ويلزم من ظاهر هذا اللفظ أن [تكون الزيادة] على أم القرآن التي هي السورة واجبة ، ولا قائل أعلمه يقول بوجوب قراءة السورة زيادة على أم القران ؟ وإنما الخلاف في [وجوب] أم
(4/110)
17- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَنْ صَلَّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ )) ثَلاثًا ، غَيْرُ تَمَامٍ . فَقِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ . فَقَالَ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : ((قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَّلَ : قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي . وَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي . وَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي . وَقَالَ مَرَّةً : فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ . فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قَالَ : هَذَا لِعَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القرآن خاصة . وقد أجمعوا على أن لا صلاة إلا بقراءةٍ في الركعتين الأوليَيْن ؛ إلا ما قاله الشافعي فيمن نسي [القراءة في الصلاة] كلها : إنها تجزئه لعذر النسيان ، وهذا شاذ ، وقد رجع عنه ، وإلا ما شذ من قول مالك .
وقوله : (( من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج )) ، قال الهروي : الخداج : النقصان ؛ يقال : خدجت الناقة : إذا ألقت ولدها قبل ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/111)
أوان النتاج ، وإن كان تام الخلق . وأخدجته : إذا ولدته ناقصًا ران كان لتمام الولادة . فقوله : " خداج " ؛ أي : ذات خداج ، فحذف ذات ، وأقام الخداج مقامه ، وهذا مذهب الخليل في الخداج ، وأبي حاتم ، والأصمعي . وأما الأخفش فعكس ، وجعل الإخداج قبل الوقت وإن كان تام الخلق .
وسميت الفاتحة : أم الكتاب ؛ لأنها أصله ، أي : هي متضمنة لجميع علومه ، فهي منها وراجعة إليها ، ومنه سميت الأم : أُمًّا ؛ لأنها أصل النَّسْل ، والأرض أُمًّا في قوله :
فالأزض معقلنا وكانت أُمَّنا فيها مقابرنا وفيها نولد
ومنه : { فأمّه هاوية } ، و: { هن أم الكتاب } ، ولامعنى لكراهة من كره تسميتها بأم القران ، مع وجود ذلك في ا لحديث .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( قسمت الصلاة )) ؛ يعني : أم القرآن ، سماها صلاة ؛ لأن الصلاة لا تتم - أو لا تصح - إلا بها . ومعنى القسمة هنا : من جهة المعاني ؛ لأن نصفها الأول في حمد الله وتمجيده ، والثناء عليه وتوحيده . والنصف الثاني في اعتراف العبد بعجزه وحاجته إليه ، وسؤاله في تثبيته لهدايته ومعونته على ذلك ، وهذا التقسيم حجة على أن
{ بسم الله الرحمن الرحيم }
ليست من الفاتحة ، خلافًا للشافعي ، وسيأتي .
وقوله تعالى : (( حمدني عبدي )) ؛ أي : أثنى عليّ بصفات كمالي وجلالي. و(( مجّدني )) : شرّفني ؛ أي : اعتقد شرفي ونطق به . والمجد : نهاية الشرف ، وهو الكثيرُ صفاتِ الكمالِ . والمجد : الكثرة ، ومنه قالوا
في كل شجر نار واستَمْجَدَ الْمَرْخُ والعَفَار
أي : كثر نارهما .
وقوله : "وربما [قال] : فوّض إليّ عبدي" ؛ أي : يقول هذا ، وهو مطابق لقوله : {مالك يوم الدين} ؛ لأنه تعالى المتفرد في ذلك اليوم بالملك ؛ ولا تبقى(7)(4/112)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دعوى لمدّع.و{ الدين } : الجزاء والحساب والطاعة والعادة والملك.
وقوله : { نعبد } ؛ أي : نخضع ونتذلل .
و { نستعين } : [ نسألك ] العون .
{ إهدنا } : أرشدنا وثبتنا على الهداية .
و { الصراط المستقيم } : الذي لا اعوجاج فيه .
و " المنعم عليهم " : هم اليهود . و" الضلاّل " : النصارى ، كذا روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
18- وَعَنْهُ ؛ قَالَ : فِي كُلِّ صَّلاةٍ قِرَاءَةٌ ، فَمَا أَسْمَعَنَا النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَسْمَعْنَاكُمْ ، وَمَا أَخْفَى مِنَّا أَخْفَيْنَا مِنْكُمْ . مَنْ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ ، وَمَنْ زَادَ فَهُوَ أَفْضَلُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإنما قال الله هنا : (( هذا بيني وبين عبدي )) ؛ لأنها تضمّنت تذلل العبد لله ، وطلبه الاستعانة منه ، وذلك يتضمّن تعظيم الله تعالىوقدرته على ما طُلب منه .
وقوله فيما بقي من السورة : (( هذا لعبدي ولعبدي ما سأل )) ؛ لأن العبد دعا لنفسه . وقال مالك - في قوله : (( فهؤلاء لعبدي ))- : هي إشارة إلى أنها آيات لا آيتان ؛ وذلك أن المسلمين قد اتفقوا على أن الفاتحة سبع آيات ، فإذا كانت ثلاث آيات عند قوله : { مالك يوم الدين } ، بقيت أربع آيات : آية : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، تبقى ثلاث آيات ، فتصحّ الإشارة إليها بهؤلاء . وقد عدّ البصريون والشاميون والمدنيون { صراط الذين أنعمت عليهم } آية ، وعليه تصح القسمة والإشارة ، والله أعلم .
(4/113)
وقوله : "اقرأ بها في نفسك" اختلف العلماء في قراءة المأموم خلف الإمام. فذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن المأموم لا يترك قراءة أم القرآن(5) 19- وَعَنْهُ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ السَّلامَ ، فَقَالَ : (( ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ )) ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ يُصَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وَعَلَيْكَ السَّلامُ )) ثُمَّ قَالَ : ((ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ )) ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ . فَقَالَ الرَّجُلُ : ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على حال ، وإليه ذهب الشافعي تمسكًا بقول أبي هريرة ، وبعموم قوله : (( لا صلاة )). وذهب مالك وابن المسيب في جماعة من التابعين وغيرهم وفقهاء أهل الحجاز والشام إلى أنه لا يقرأ معه فيما جهر به وإن لم يسمعه ، ويقرأ فيما أسر فيه الإمام تمسكًا بقوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا إليه وأنصتوا } ، وبقول أبي هريرة : " فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ، وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إذا قرأ الإمام فأنصتوا )). وذهب أكثر
(4/114)
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ! مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا ، عَلِّمْنِي. قَالَ : (( إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا )). زَادَ فِي رِوَايَةٍ : (( إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هؤلاء إلى أن القراءة فيما يُسِرّ فيه الإمام غير واجبة ، إلا داود وأحمد بن حنبل وأصحاب الحديث ، فإنهم أوجبوا قراءة الفاتحة إن أسرّ الإمام . وذهب الكوفيون إلى ترك قراءة المأموم خلف الإمام على كل حال .
وقوله في حديث أبي هريرة للذي علمه الصلاة : (( إذا قمت إلى الصلاة فكبر )) : هذا الحديث ومساقه يدل علة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصد إلى ذكر فرائض الصلاة لا غير ؛ لأن جميع ما ذكره [ فيه ] فرض ، وما لم يذكره ليس من فرائضها ، هذا قول كافة أصحابنا وغيرهم . وهذا ينتقض عليهم بالنية والسلام ؛ إذ لم يذكرهما .
وقوله : (( ما تيسر معك من القرآن )) ؛ متمَسَّك أبي حنيفة ، فإنه أخذ بعمومه . ويقال له : إن ما تيسر هو الفاتحة ؛ لأن الله قد يسَّرها على ألسنة الناس ، صغارهم وكبارهم ، ذكورهم وإناثهم ، أحرارهم وعبيدهم . ويتأيد هذا التأويل بقوله : (( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ))(4).
(4/115)
20- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلَّى الظُّهْرَ ، فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : (( أَيُّكُمْ قَرَأَ ؟ )) أَوْ ((أَيُّكُمُ الْقَارِئُ ؟ )) فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا ، فَقَالَ : (( قَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( ثم اركع حتى تطمئن راكعًا )) ، وقال في السجود كذلك . واختلف أصحابنا في وجوب الطمأنينة ، والأصل المتقدم يرفع هذا الخلاف ، بل ينبغي عليه أن تكون واجبة على كل حال ، وهذا يدل على اختلافهم في ذلك الأصل .
وقوله : (( ثم افعل ذلك في صلاتك كلها )) ؛ يدل على وجوب القراءة في كل ركعة ، وهو المشهور على ما تقدم .
وقوله : (( ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا )) : يريد بين السجدتين .
وفي رواية : (( ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا )) ؛ وهذا يدل على وجوب الفصل بين السجدتين ، وهل يجب لذاته فلابد منه ؟ أو للفصل ، فيحصل الفصل بأقل ما يحصل منه ، ويكون تمامه سنة ؟ اختُلف فيه .
وقوله : (( قد علمت أن بعضكم خالجنيها )) ؛ أي : خالطنيها ، ويروى :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(( نازعنيها )) ؛ أي : كأنه ينزع ذلك من لسانه ، وهو مثل حديثه الآخر : ((مالي أنازع القرآن ؟ )) ، ولا حجة فيه لمنكر القراءة ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما أنكر المخالجة ، لا القراءة .
*************
( 8 ) باب ترك قراءة
{ بسم الله الرحمن الرحيم }
في الصلاة(4/116)
21- عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ ؛ قَالَ : صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا يَذْكُرُونَ : { بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ ، وَلا فِي آخِرِهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي باب ترك قراءة : { بسم الله الرحمن الرحيم } في الصلاة
اختلف الفقهاء في ذلك . فمن قال : هي من الفاتحة - كالشافعي وأصحاب الرأى - قرأها فيها ، ومن لم ير ذلك كالجمهور ، فهل يُقرأ في الصلاة أو لا ؟ وإذا قُرئت فهل يُجهر بها مع الحمد أو يُسرّ ؟ فمشهور مذهب مالك : أنه لا يقرؤها في الفرائض ، أخرى : أنها تُقرأ أول السورة في النوافل ، ولا تُقرأ أول أم القرآن . وروي عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ، ولا تترك بحال .
وأما هل يجهر بها ؟ فالشافعي يجهر بها مع الجهر ، وأما الكوفيون فيسرُّونها على كل حال . والصحيح : أن البسملة ليس بآية من القرآن إلا في ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النمل خاصة ؛ فإنها آية هناك مع ما قبلها بلا خلاف . وأما في أوائل السور وفي أول الفاتحة فليست كذلك ؛ لعدم القطع بذلك . ومن ادّعى القطع [ في ذلك ] عُورض بنقيض دعواه . وقد اتفقت الأمة على أنه لا يُكَفَّر نافي ذلك ولا مثبته ، والمسألة مستوفاة في الأصول والخلاف .
وقوله : " لا يذكرون " ؛ يعني : رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبا بكر وعمر . وهذا يدل على اعتنائه وشدة تهممه[ بها ]. و: " لا يذكرون " : لا يقرؤونها بحال ، وإلى هذا استند مالك في مشهور قوله ، وإلى العمل المتصل عندهم بالصلاة وأحوالها .
************
باب
(4/117)
22- عَنْ أَنَسٍ ؛ قَالَ : بَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ - ذَاتَ يَوْمٍ- بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا . فَقُلْنَا : مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : (( أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ :
بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ } ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ ؟ )) فَقُلْنَا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : (( فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ . هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ ، فَأَقُولُ : رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي. فَيَقُولُ : مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ )).
زَادَ فِي رِوَايَةٍ : بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ . وَفِيهْا : (( مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن حديث أنس أيضًا : " أغفى إغفاءة " ؛ أي : أخذته سِنَةٌ ، وهي : النوم الذي في العين ، وهذه الحالة التي كان يُوحَى إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها غالبًا .
وقوله : (( آنفًا )) ؛ أي : الساعة .
وقوله : (( الكوثر )) ؛ جاء تفسيره هنا : نهر في الجنة ، وفي غير هذا الحديث : معنى الكوثر : هو الخير الكثير ، قال : وذلك النهر منه .
وقوله : (( يختلج العبد منهم )) ؛ أي : يستخرج ، وينتزع .
( 9 ) باب التَّشَهُّد في الصلاة(4/118)
23- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ؛ قَالَ : كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : السَّلامُ عَلَى اللهِ السَّلامُ عَلَى فُلانٍ . فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ - ذَاتَ يَوْمٍ- : (( إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ . فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَقُلِ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ ، فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ التَّشَهُّدَ كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ . وَذَكَرَ مِثْلَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التشهد في الصلاة
اختار جمهور الفقهاء وأصحاب الحديث هذا التشهد ، واختار الشافعي
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تشهد ابن عباس الآتي ، واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب لكونه علَّمه الناس على منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحضرة الصحابة والناس ، ولم يُنْكَرْ ذلك فصار ذلك إجماعًا منهم ، على أصل مالك في هذا الباب .
(4/119)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن الله هو السلام )) ، السلام من أسمائه الحسنى ، وهو السالم من النقائص وشِمَاتِ الحَدَث . وقيل : المسلِّم عباده . وقيل : المسلِّم عليهم في الجنة ، كما قال : { سلام عليكم طبتم }. ومعناه في قوله : "السلام عليك أيها النبي" ، وفي"سلام الصلاة" : السلامة والنجاة ، فيكون مصدرًا كاللذاذا واللذاذة ، كما قال تعالى : { فسلام لك من أصحاب اليمين }.
24- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ . فَكَانَ يَقُولُ : (( التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل : " السلام عليك " ؛ أي : الانقياد لك ، والتسليم لك ؛ قال :
{ فلا وربك لا يؤمنون } إلى قوله : { تسليمًا }.
وقد سبق القول في "التحيات".
و "الطيبات " : الأقوال الصالحة ؛ كالأذكار والدعوات وما شكاكل ذلك ؛ كما قال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيّب }.
وقوله : " لله " في هذا الموضع تنبيه على الإخلاص في العبادات ؛ أي : ذلك كله من الصلوات والأعمال [ لا تفعل ] إلا لله . ويجوز أن يراد به الاعتراف بأن مَلْكَ ذلك كله لله تعالى .
وقوله : " على عباد الله الصالحين" : فيه دليل على أن جميع التكثير للعموم ، وعلى صحة القول بالعموم من غير توقف ولا تأخُّر ، وقد نبّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك حيث قال : (( أصابت كل عبد صالح )) ، فأدخل فيه الكُلَّ حتى الملائكة .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/120)
وقوله : (( ثم ليتخيّر بعدُ من المسألة ما شاء )) : حجة للجمهور على أبي حنيفة حيث يقول : لا يدعو في الصلاة إلا بما جاء في القرآن ، وحجة على الشافعي حيث أوجب الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل صلاة [ بعد التشهد الأخير ]. والصحيح عند الجمهور : أن الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ [ واجبة ] في الجملة ، مندوب إليها في الصلاة وغيرها ، متأكِّدة النَّدْبِيَّة في الصلاة ، حتى إن بعض أصحابنا يطلقون عليها أنها سنة ؛ لأن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ - للرجل الذي علمه الصلاة - : (( فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك )) ، ولم يذكر
25- وَعَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الرَّقَاشِيِّ ؛ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ صَلاةً ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : أُقِرَّتِ الصَّلاةُ بِالْبِرِّ وَالزَّكَاةِ ؟ قَالَ : فَلَمَّا قَضَى أَبُو مُوسَى الصَّلاةَ وَسَلَّمَ ، انْصَرَفَ ، فَقَالَ : أَيُّكُمُ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا ؟ قَالَ : فَأَرَمَّ الْقَوْمُ .ثُمَّ قَالَ : أَيُّكُمُ الْقَائِلُ كَلِمَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما تقدم .
ثم اختلف العلماء في حكم التشهدين ، فهما غير واجبين عند مالك والجمهور ، بل مندوبان ، وذهب فقهاء أصحاب الحديث إلى وجوبهما ، وذهب الشافعي إلى وجوبه في الآخرة ، وروي عن مالك مثله ، والصحيح الأول على الطريقة المتقدمة[ منه ].
وسُمي التشهد تشهدًا ؛ مأخوذًا من لفظ الشهادتين بالوحدانية لله ، وبالرسالة لرسوله .
(4/121)
كَذَا وَكَذَا ؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ . فَقَالَ : لَعَلَّكَ يَا حِطَّانُ قُلْتَهَا ؟ قَالَ : مَا قُلْتُهَا ، وَلَقَدْ رَهِبْتُ أَنْ تَبْكَعَنِي بِهَا ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : أَنَا قُلْتُهَا ، وَلَمْ أُرِدْ بِهَا إِلا الْخَيْرَ . فَقَالَ أَبُو مُوسَى : مَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ تَقُولُونَ فِي صَلاتِكُمْ ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَطَبَنَا ، فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا ، وَعَلَّمَنَا صَلاتَنَا ، فَقَالَ : (( إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ، ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذْ قَالَ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فَقُولُوا : آمِينَ ، يُجِبْكُمُ اللهُ ، فَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا ، فَإِنَّ الإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ )) فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فَتِلْكَ بِتِلْكَ ، وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَقُولُوا : اللهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، يَسْمَعُ اللهُ لَكُمْ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا ، فَإِنَّ الإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ )). فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فَتِلْكَ بِتِلْكَ . وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمُ : التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا )).
(4/122)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث حطَّان : " أُقِرَّت الصلاة بالبر والزكاة " ؛ أي : قُرِنَتْ ، والباء بمعنى " مع " ؛ أي : قُرِنَتْ مع البر والزكاة ، فصارت [معهما] مستوية في [أحكامهما] وتأكيدهما . ويحتمل أن يراد بالبر هنا : " الْمبَّرة " ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبالزكاة : " الطهارة " ، ويكون المعنى : أن من داوم على الصلاة بَرّ وتطهر من الآثام ، والله أعلم .
وقوله : " فأرَمَّ القوم " بفتح الراء ، وتشديد الميم ، وهو المعروف ، ويروى : " فَأزَمَ القوم - بالزاي المنقوطة - ، ومعناهما واحد ، وهو : السكوت ؛ أي : لم ينطقوا بشيء ولا حرَّكوا مَرَمّاتهم ، وهي شفاههم ، والشفةُ : هي الْمِرَمَّة والْمِقمَّة ، وبالزاي من الزَّمّ ؛ أي : لم يفتحوها بكلمة .
وقوله : " لقد رهبت أن تَبْكَعَني بها " ؛ قال : معناه : خفتُ أن تستقبلني بها ، يقال : بَكَعْت الرجل [ بَكْعًا ](7) : إذا استقبلته بما يكره ، وهو نحو :
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التبكيت . و" رهبت " : خفت . والرهب : الخوف .
وقوله : "ما تعلمون كيف تقولون " ظاهره النفي ، ويحتمل الاستفتاح ، وحُذِفَت الهمزة تخفيفًا . كما تحذف مع الاستفهام .
وقوله : (([فأقيموا] صفوفكم )) : أَمْرٌ بإقامة الصفوف ، وهو من سنن الصلاة بلا خلاف ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الآخر : (( فإن تسوية الصف من تمام الصلاة )).
(4/123)
وقوله : (( فإذا كبر فكبروا )) ؛ يقتضي أن تكبير المأموم لا يكون إلا بعد تكبير الإمام ؛ لأنه جاء بـ" فاء " التعقيب ، وهذا مذهب كافة العلماء . ولا خلاف أن المأموم لا يسبقه بالتكبير والسلام ، إلا عند الشافعي ومن لا يرى ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام ، والحديث حجة عليهم . واختلفوا إذا ساواه في التكبير [أو السلام] ، فلأصحابنا قولان : الإجزاء وعدمه . ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واتفقوا على أنه [ لا يجوز] أن يسابقه بكل أفعاله ، وسائر أقواله ، ولا يقارنه فيها ، وأن السنة اتباعه فيها .
وقوله : (( فتلك بتلك )) ؛ هذا إشارة إلى أن حق الإمام السبق ، فإذا فرغ تلاه المأموم معقبًا . والباء في " تلك" للإلصاق والتعقيب .
وقد قيل : ليس عليه أن ينتظره حتى يفرغ ، بل يكفي شروع الإمام في أول الفعل ، والصحيح الأول ؛ للحديث . وقد روي عن مالك قول ثالث : أنه فرّق ، فقال : تجوز مُسَاوَقَةُ المأموم الإمام - المساوقة : المقارنة - إلا في القيام من الركعتين ، فلا يقوم حتى يستوي الإمام قائمًا ويكبر . وعلى القول الآخر : له أن يقوم بقيامه .
وقيل في " تلك بتلك " : أن معناه : أن الحالة من اقتدائكم به .
وقوله : (( سمع الله لكم )) ؛ أي : يستجيب .
وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( سمع الله لمن حمده )) : خبر عن الله تعالى باستجابة من حَمِدَه ودعاه ، ويجوز أن يراد به الدعاء ، فيكون معناه : اللهم استجب ؛
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما نقول : صلى الله على محمد .
(4/124)
وقوله : (( ربنا ولك الحمد )) : اختلفت روايات الحديث في إثبات الواو الحمد وحذفها . واختلف اختيار العلماء فيها . فمزة اختار ماللث إثبات الواو ؛ لأن قوله : " ربنا " ، إجابةُ قوله : " سمع الله لمن حمده " ؛ أي : ربَّنا استجب دعاءَنا ، واسمع حمدَنا ، ولك الحمد على هذا .
وأيضًا فإن الواو زيادة حرف ، ولكل حرف حَظٌّ من الثواب . واختار مرّة حذف الواو ، إذ الحمد هو المقصود .
قلت : والظاهر أن الموجب للاختلاف في الاختيار : الاختلاف في ترجيح ا لآثار .
وقوله : " وإذا قرأ فأنصتوا " حجة لمالك ومن قال بقوله : إن المأموم لا يقرأ مع الإمام إذا جهر . قال الدارقطني : " هذه اللفظة لم يتابع سليمان التَّيْمي فيها عن قتادة ، وخالفه الْحُفَّاظ فلم يذكروها- قال - : وإجماعهم على مخالفته يدل على وهمه ".
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : وقد أشار مسلم في كتابه إلى تصحيح هذه الزيادة ، وهي ثابتة في الأصل في رواية الْجُلودي عن إبراهيم بن سفيان .
وقد تقدم في أوَّل كتابنا قول إبراهيم بن سفيان لمسلم : لِمَ لَمْ تخرج في كتابك : (( وإذا قرأ فأنصتوا )) ، أليست بصحيحة ؟ فقال : " ليس كل الصحيح خرَّجت هنا ، وإنما خرَّجت ما أجمعوا عليه " ، فهذا تصريح بصحتها ، إلا أنها ليست عنده مما أجمعوا على صحته .
وقوله : " وإذا قال : ولا الضالين فقولوا : آمين يجبكم الله " ، " آمين " : اسم من أسماء الأفعال ، ومعناها : اللهم استجب ، وهي مبنيَّة على السكون ، وفيها لغتان : المدّ والقصر .
***********
( 10 ) باب الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(4/125)
26- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ ؛ قَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ : أَمَرَنَا اللهُ أَنَّ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ ! فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قُولُوا : اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، فِي الْعَالَمِينَ ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، وَالسَّلامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قوله : " أمرنا الله أن نصلي عليك ، فكيف نصلي عليك ؟" هذا سؤال من أشكل عليه كيفية ما فُهم جملته ، وذلك أنه عرف الصلاة وتحققها من لسانه ، إلا أنه لم يعرف كيفيتها ، فاجيب بذلك .
وفي قوله : " أمرنا " دليل على أن المندوب يدخل تحت الأمر ، وقد تقدم اشتقاق الصلاة ، وهي مِنَّا دعاء ، ومن الله رحمة ، ومن الملائكة ثناء . وقد قيل : إن صلاة الله تعالى على نبيه هي ثناؤه عليه عند ملائكته .
27- وَعَنْ ابْنَ أَبِي لَيْلَى ؛ قَالَ : لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ ، قَالَ : أَلا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً ؟ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقُلْنَا : قَدْ عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ قَالَ : (( قُولُوا : اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ )).
(4/126)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد )) : اختلف في آله من هم ؟ فقيل : أتباعه ، وقيل : أمَّته ، وقيل : آل بيته ، وقيل : أتباعه من رهطه وعشيرته ، وقيل : آل الرجل نفسه ؛ ولهذا كان الحسن يقول : " اللهم صل على آل محمد ". واختلف النحويون : هل يضاف الآل إلى الْمُضْمَر ، أم لا يضاف إلا إلى الظاهر ؟ فذهب النَّحَّاس والزبيدي والكسائي إلى أنه لا يقال إلا : " اللهم صلّ على محمد وآل محمد " ، ولا يقال : وآله. قالوا : والصواب : وأهله . وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال - منهم ابن السَّيِّد - ، وهو الصواب ؛ لأن السماع الصحيح يعضده ؛ فإنه قد جاء في قول عبدالمطلب :
28- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ ؛ أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ قَالَ : (( قُولُوا : اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لاهم إن العبد يمنـ ــع رحله فامنع حِلالك
وانصر على آل الصليـ ــب وعابديه اليوم آلك
وقال ندبة :
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
وغير ذلك من كلام العرب ، وهو كثير .
وقوله : " وبارك " من البركة ، وهي هنا الزيادة من الخير والكرامة . وأصلها : من البروك ، وهو الثبوت عل الشيء ، ومنه : بركت الإبل . ويجوز أن تكون البركة هنا بمعنى : التطهير والتزكية ؛ كما قال تعالى : { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت }.
(4/127)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم [اختلف] أرباب المعاني في فائدة قوله : (( كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم )) ، على تأويلات كثيرة ، أظهرها : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سأل ذلك لنفسه وأهل بيته ليُتِمَّ النعمة عليهم والبركة ، كما أتَمَّها على إبراهيم وآله .
وقيل : بل سأل ذلك لأُمَّته ليثابوا على ذلك ، وقيل : ليبقى له ذلك دائمًا إلى يوم الدين ، ويجعل له به لسان صدق في الآخِرين ؛ كما جعله لإبراهيم . وقيل : كان ذلك قبل أن يعرف ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه أفضل ولد آدم . وقيل : بل سأل أن يصلي عليه صلاةً يتخذه بها خليلاً ؛ كما اتخذ إبراهيم ، وقد أجابه الله فاتّخذه خليلاً ؛ كما جاء في "الصحيح" : (( لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، لكن صاحبكم خليل الرحمن )). وقد جاء أنه حبيب الرحمن ؛ ذكره الترمذي. فهو الخليل والحبيب .
29- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد اختلف العلماء أيّهما أشرف ؟ أَوْ هما سواء ؟ واختلف هل يُدعى للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغير الصلاة والسلام ، فيقال مثلاً : اللهم ارحم محمدًا . واغفر لمحمد " ، أَوْ لا يقال ذلك ؟ فذهب أبو عمر ابن عبد البر : إلى منع ذلك. وأجاز ذلك أبو محمد بن أبي زيد ، والصحيح جوازه . فقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة.
(4/128)
واختُلف : هل يُصلَّى على غير الأنبياء ، فيقال : " اللهم صلّ على فلان " ، كره ذلك مالك ؛ لأنه لم يكن مِنْ عمل مَنْ مضى ، بل ذُكر عن مالك رواية شاذّة : أنه لا يُصَلَّى على أحدٍ من الأنبياء سوى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهي مُتَأَوَّلة عليه : بأنا لم نُتَعبد بالصلاة على غيره من الأنبياء . وذهبت طائفة إلى جواز ذلك على المؤمنين ؛ لقوله تعالى : { هو الذى يُصلي عليكم } ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اللهم صلّ على آل أبي أَوْفَى )).. وانفصل الفريق الاخر : بأن هذا صدر
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الله ورسوله .
ولهما أن يقولا : ما أرادا بخلاف غيرهما الذي هو محكوم عليه .
والذي أراه : ما صار إليه مالك ؛ لقوله : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا }.
وينضاف إلى ذلك أن أهل البدع قد اتخذوا ذلك شعارًا في الدعاء لأئمتهم وأمرائهم ، ولا يجوز التشبّه بأهل البدع ، والله أعلم .
وقوله : (( والسلام كما قد علمتم )) ، رويناه مبنيًا للفاعل وللمفعول ، فالفاعل : هم العالمون ، وللمفعول هم الْمُعَلَّمون من جهته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتشهد وغيره .[ ويعني بذلك : قوله في التشهد : (( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ))].
************
( 11 ) باب التَّحْمِيد والتَّأْمِين
30- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا قَالَ الإِمَامُ : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَقُولُوا : رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ . فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب التحميد والتأمين
(4/129)
قوله : (( إذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد )) : ظاهر هذا يقتضي أن الإمام لا يقول : ربنا ولك الحمد ، وهو مشهور مذهب مالك . وذهب الجمهور [ومالك] في رواية ثانية : إلى أن الإمام يقولها .
وكذلك الخلاف في التأمين . وقد تمسك الجمهور في التأمين بقوله : (( إذا أذَّن الإمام فأمِّنوا )) ، وما في معنى هذا . وقد اتفقوا على أن الفَذَّ يُؤَمِّن مطلقًا ، 31- وَعَنْهُ ؛ عَنْ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )). قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( آمِينَ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( قَالَ إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ وَالْمَلائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ ، فَوَافَقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )). وَفِي أُخرَى : (( إِذَا قَالَ الْقَارِئُ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فَقَالَ مَنْ خَلْفَهُ : آمِينَ ، فَوَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والإمام والمأموم فيما يُسِرَّان فيه يؤمِّنان ، وحيث قلنا : إن الإمام يؤمن ، فهل يؤمن سرًّا أو جهرًا ؟ فذهب الشافعي وفقهاء الحديث إلى الجهر بها ، وذهب مالك والكوفيون إلى الإسرار بها .
وقوله : (( من وافق قوله قول الملائكة )) ، قيل : يعني في وقت تأمينهم ومشاركتهم في التأمين ، ويَعْضُدُه قوله : (( وقالت الملائكة في السماء آمين )). ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/130)
وقيل : من وافق الملائكة في الصفة ؛ من الإخلاص ، والخشوع . وهذا بعيد . وقيل : من وافق الملائكة في استجابة الدعاء غفر له . وقيل : في الدعاء ؛ أي : في لفظ الدعاء ، والوجه الأول أظهر . ثم هؤلاء الملائكة هل هم الْحَفَظَةُ أو غيرُهم ؟ اختُلف فيه ، [ والثاني أولى ؛ لقوله : (( قالت الملائكة في السماء : آمين ))].
وقوله : (( إذا قال الإمام : { ولا الضالين } ، فقولوا : آمين )) ؛ دليل على تعيُّن قراءة الفاتحة للإمام ، وعلى أن المأموم ليس عليه أن يقرأها فيما جهر به إمامه .
**************
( 12 ) باب إنما جُعِلَ الإمام لِيُؤْتَمَّ به
32- عَنْ أَنَسِ بْنَ مَالِكٍ ؛ قَالَ : سَقَطَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ فَرَسٍ ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ قَالَ : (( إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا ، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا ، وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلَّوْا قُعُودًا أَجْمَعُونَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب إنما جُعل الامامُ ليؤتمّ به
قوله : " فجُحِشَ شقُّه الأيمن " ، الجَحْش : الخدش ، وقيل : فوقه ، والشِّقّ : الجانب .
وقوله : " فصلى جالسًا ، وصلينا وراءه جلوسًا " ، وفي الحديث الآخر :
33- وَعَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ ؛ إلا أنَّ فِيهِ : إنَهَمْ صَلَّوْا بِصَلاتِهِ قِيَامًا ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا فَجَلَسُوا ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : (( إِنَّمَا ... ) وَذَكَرَهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/131)
" إنهم صلوا قيامًا ، فأشار إليهم : أن اجلسوا ". وجه الجمع : أنه كان منهم من صلى جالسًا ، فأَخْبَرَ عنه أنس ، وكان منهم من صلى قائمًا فأخبرتْ عنه عائشة . واختُلف : هل كان هذا في صلاة الفرض أو النفل ؟ والظاهر أنه كان في صلاة الفرض ؛ لقوله : " فحضرت الصلاة " ، وهي للعهد ظاهرًا ، ولِمَا تقرر من عادتهم : أنهم ما كانوا ، يجتمعون للنوافل . وقد أشار ابن القاسم إلى أن ذلك كان في النافلة . ثم اختلف العلماء في الاقتداء بالإمام الجالس على ثلاثة أقوال :
أولها : قول أحمد بن حنبل ومن تابعه ، وهو : أنه تجوز صلاة الصحيح جالسًا خلف المريض جالسًا ، متمسكًا بهذا الحديث .
وثانيها : قول الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف وزُفر والأوزاعي وأبي ثور وداود ، وهو(6) : أنه يجوز أن يقتدي القائم بالقاعد في الفريضة وغيرها ، 34- وَعَنْ جَابِرٍ ؛ قَالَ : اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ ، وَهُوَ قَاعِدٌ ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ . قَالَ : فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا ، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا ، فَصَلَّيْنَا بِصَلاتِهِ قُعُودًا ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ : (( إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا تَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ ، فَلا تَفْعَلُوا . ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ ، إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلَّوْا قِيَامًا ، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلَّوْا قُعُودًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد رواها الوليد بن مسلم عن مالك ، متمسكين بحديث عائشة الآتي ، وبأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان الإمام ، وأن حديث أنس متقدِّم ، وهو منسوخ بصلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرضه الذي توفي فيه ، وبأن كل واحدٍ عليه أن يصلي كما يقدر عليه.
(4/132)
وثالثها : قول مالك في المشهور عنه وعن أصحابه : إنه لا يجوز أن يؤمّ أحد جالسًا - وإن كان مريضًا- بقومٍ أصحّاء قيام ولا قعود ، وإليه ذهب محمد ابن الحسن ، متمسِّكين بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يؤمَّن أحد بعدي قاعدًا )) ، وهذا [الحديث] ذكره الدارقطني من حديث جابر بن يزيد الْجُعْفي - وهو 35- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُعَلِّمُنَا ، يَقُولُ : (( لا تُبَادِرُوا الإِمَامَ ، إِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا قَالَ : { وَلا الضَّالِّينَ } فَقُولُوا : آمِينَ ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ـ فَقُولُوا : اللهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ )). وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ : (( وَلا تَرْفَعُوا قَبْلَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
متروك - ، عن الشَّعْبي : أن رسول الثه بتي قال ذلك ، وهو مرسل . وقد رواه مُجَاِلد عن الشَّعْبي ، ومجالد ضعيف. وفي حديث أنس دليل لمالك وعامة الفقهاء على ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام ، وترك مخالفته له في نيّة أوغيرها ، وسيأتي .
وقوله : (( إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم ، يقومون على
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملوكهم وهم قعود )) ؛ تنبيهٌ على تعليل مَنْعِ القيامِ بما يؤدي إليه من التشبُّه بأفعال المتكبِّرين ، فيحرم على هذا التعليل أن يقوم الرجال أو المماليك على رؤوس الملوك أو الأمراء أو الرؤساء أو العلماء ؛ لما يؤدي إليه .
************
( 13 ) باب استخلاف الإمام إذا مرض ، وجواز ائتمام القائم بالقاعد
(4/133)
36- عَنْ عَائِشَةِ ؛ قَالَتْ : ثَقُلَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : (( أَصَلَّى النَّاسُ ؟ )) قُلْنَا : لا ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : (( ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ )) فَفَعَلْنَا ، فَاغْتَسَلَ ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَفَاقَ ، قَالَ : (( أَصَلَّى النَّاسُ ؟ )) قُلْنَا : لا وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ! قَالَ : (( ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ )) فَفَعَلْنَا ، فَاغْتَسَلَ ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَفَاقَ قَالَ : (( أَصَلَّى النَّاسُ ؟ )) قُلْنَا : لا وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ! فَقَالَ : (( ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ )) فَفَعَلْنَا ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَفَاقَ ، فَقَالَ : (( أَصَلَّى النَّاسُ ؟ )) فَقُلْنَا : لا وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَتْ : وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِصَلاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ . قَالَتْ : فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ . فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلاً رَقِيقًا : يَا عُمَرُ ! صَلِّ بِالنَّاسِ . قَالَ : فَقَالَ : أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ. قَالَتْ : فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً ، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ ، لِصَلاةِ الظُّهْرِ ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنْ لا يَتَأَخَّرَ ، وَقَالَ لَهُمَا : ((أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ(4/134)
)) فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلاةِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَالنَّاسُ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَاعِدٌ .
قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : الرَّجُلَ الَّذِي لَم تُسْمِهِ هُوَ عَلِيٌّ ـ رضى الله عنه ـ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ : أَوَّلُ مَا اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ فَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِهَا - يَعْني بَيت عَائشَة - فَأَذِنَّ لَهُ . قَالَتْ : فَخَرَجَ وَيَدٌ لَهُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ العَبَّاسٍ وَيَدٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ ، وَهُوَ يَخُطُّ . بِرِجْلَيْهِ فِي الأَرْضِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب استخلاف الإمام
" الْمِخْضَب " : مثل الإجَّانة والْمِرْكَن ، وهي القصريَّة . و" لِيَنُوء" : ليقوم وينهض . و" عُكُوفٌ " : ملتزمون المسجد مجتمعون .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واستدعاء الماء بعد الإغماء ، يدل على أن الإغماء ينقض الطهارة ؛ كما هو متفق عليه ، وهذا على أن يكون الغسل هنا يراد به الوضوء ، والله أعلم.
وقوله : " وكان أبو بكر رجلاً رقيقًا " ؛ أيْ : رقيق القلب ، كثير الخشية ، سريع الدَّمْعة ، وهو الأَسِيف أيضًا في الحديث الآخر ، فإن الأسف : الحزن ، وحالة الحزين غالبًا الرِّقَّة . والأَسيف في غير هذا : العبد ، والأَسِيف أيضًا : الغضبان .
وقول أبي بكر لعمر : صلّ بالناس ، بعد أن أمره الني ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصلاة ، دليل على أن للمًسْتَخْلَف أن يَسْتَخْلِف .
وقوله : " يُهادى بين رجلين " ، التَّهَادِي : هو المشي الثقيل مع التمايل يمينًا وشمالاً .
واختلف العلماء فيمن كان الإمام ؟ هل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو أبوبكر ؟ وسببه : اختلاف الأحاديث المرويَّة في ذلك .
(4/135)
ففي حديث عائشة ما ينص على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان الإمام ، وأن أبا بكر كان يقتدي بصلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر . وروى الترمذي عن جابر : أن آخر صلاة صلاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثوب ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحد مُتَوشِّحًا به خلف أبي بكر ، وصححه. وكذلك اختلفت الروايات ، هل قعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن يسار أبي بكر ، أو عن يمينه ؟ وليس في الصحيح ذكر ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأحدهما. وقد ذهب بعض المتأخرين إلى الجمع بين الحديثين : بأن ذلك كان في صلاتين كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إمامًا في إحداهما ، مأمومًا في الأخرى ، وهو محتمل لو كان هنالك نقل يعضُده . وحديث سهل بن سعد حُجَّة في الاستخلاف وجوازه ، وهو أصل في الباب ، وهو دليل على داود والشافعي في منعه الاستخلاف ، وعلى أن الصلاة تصح بإمامين لغير عذر ، وأجازها الطبري والبخاري وبعض الشافعية استدلالاً بهذا الحديث .
واستئذانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نساءَه أن يُمَرَّضَ في بيت عائشة تطييب لنفوسهن . واختلف في الزوج المريض إذا لم يقدر على الدوران على نسائه ، هل اختصاصه بكونه عند واحدة منهن راجغ إلى اختياره ، أو هو حق لهن فيقرع بينهن في ذلك ؟
*************
( 14 ) باب العمل القليل في الصلاة لا يضرها
(4/136)
38- عَنْ أَنَسٍ بْنُ مَالِكٍ ؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الَّذِي تُوُفِّيَ ، فِيهِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ ، وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاةِ ، كَشَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سِتْرَ الْحُجْرَةِ ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ ، ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضَاحِكًا ، قَالَ : فَبُهِتْنَا وَنَحْنُ فِي الصَّلاةِ ، مِنْ فَرَحٍ بِخُرُوجِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب العمل القلبل في الصلاة لا يضرها
قوله : " كأن وجهه ورقة مصحف " هذه عبارة عما راعهم من جماله ، جمال وحسن بشرته ومائِيَّة(5) وجهه ؛ كما قال في الحديث الآخر : " كأن
وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَارِجٌ لِلصَّلاةِ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا صَلاتَكُمْ . قَالَ : ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَرْخَى السِّتْرَ . قَالَ : فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَلَمَّا وَضَحَ لَنَا وَجْهُ نَبِيِّ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا قَطُّ كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حِينَ وَضَحَ لَنَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجهه مُذْهَبة ".
وقوله : " فلما وضح لنا وجهه " ؛ أي : ظهر .
وقوله : " فهممنا أن نَفْتَتِنَ في صلاتنا " ؛ أي : نذهل فيها من الفرح بما ظهر من استقلاله وبروزه لهم ؛ كما قال أبو [طلحة] : لقد أصابتني في مالي فتنة ؛ حين شغله النظر عن الصلاة حتى سها فيها .
(4/137)
37- وَعَنْهَا ؛ قَالَتْ : لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جَاءَ بِلالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاةِ فَقَالَ : (( مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ )) قَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لا يُسْمِعِ النَّاسَ ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ ؟ قَالَ : (( مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ )) فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ : قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لا يُسْمِعِ النَّاسَ ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ ؟ فَقَالَتْ لَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ )) قَالَتْ : فَأَمَرُوا أَبَا بَكْرٍ ، فَصَلِّي بِالنَّاسِ . قَالَتْ : فَلَمَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " فتبسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ؛ فرحًا بما رأى من اجتماعهم في مغيبه
على إمامهم وإقامة شريعتهم ، ويحتمل أن يكون ضحكه تأنيسًا لهم ، وحسن عشرة ، والله أعلم .
وقوله : " ونكص أبو بكر على عقبيه " ؛ أي : تأخر ؛ كما في الحديث الآخر : " رجع القهقري ".
وقوله : (( إنكنّ لأنتنّ صواحبات يوسف )) ؛ يعني في تردادهنّ وتظاهرهنّ بالإغواء والإلحاح ، حتى يصلن إلى أغراضهن ؛ كتظاهر امرأة
(4/138)
دَخَلَ فِي الصَّلاةِ وَجَدَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً ، فَقَامَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، وَرِجْلاهُ تَخُطَّانِ فِي الأَرْضِ . قَالَتْ : فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقِمْ مَكَانَكَ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَتْ : فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا ، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا ، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلاةِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَتْ : فَقُلْتُ يارَسُولُ اللهِ ! إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لا يَمْلِكُ دَمْعَهُ ، فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ ؟ قَالَتْ : وَاللهِ مَا بِي إِلا كَرَاهِيَةُ أَنْ يَتَشَاءَمَ النَّاسُ بِأَوَّلِ مَنْ يَقُومُ مَقَامِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العزيز ونسائها على يوسف ليصرِفْنه عن رأيه في الاستعصام ، وصواحبات : جمع صواحب ، وهو جمع شاذ .
**************
( 15 ) باب إذا نَابَ الإمامَ شيءٌ فَلْيُسَبِّح الرجالُ وَلْيُصَفِّق النساءُ
(4/139)
39- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ ، فَحَانَتِ الصَّلاةُ ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأُقِيمُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ . قَالَ : فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَالنَّاسُ فِي الصَّلاةِ فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ ، فَصَفَّقَ النَّاسُ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلاةِ ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنْ ذَلِكَ ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب من نابه شيء في الصلاة
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما التصفيق للنساء )) ، ويروى : " التصفيح " ، وهما بمعنى واحد ، قاله أبو علي البغدادي . وهو أن يضرب بإصبعين من اليد اليمنى في
ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ ، وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ َصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَقَالَ : (( يَا أَبَا بَكْرٍ ! مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ ؟ )) قَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا كَانَ لابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ ؟ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ ، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَخَرَقَ الصُّفُوفَ حَتَّى قَامَ عِنْدَ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجَعَ الْقَهْقَرَى .
(4/140)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باطن الكف اليسرى ، وهو صفحها ، وصفح كل شيء : جانبه .
وصفحتا السيف : جانباه . وقيل : التصفيح : الضرب بظاهر إحداهما على الأخرى . والتصفيق : الضرب بباطن إحداهما على باطن الأخرى . وقيل : التصفيح : بإصبعين للتنبيه ، وبالقاف بالجميع للّهو واللعب .
واختلف في حكمه في الصلاة ، فقيل : لا يجوز أن يفعله في الصلاة ، لا الرجال ولا النساء ، وإنما هو التسبيح للجميع ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من نابه شيء في صلاته فليسبح ، فإنه إذا سبح التفت إليه )) ، وهذا مشهور مذهب مالك وأصحابه . وتأوّلوا : أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما التصفيق للنساء )) ؛ أن ذلك ذمّ للتصفيق ، ومعناه : أنه من شأن النساء لا الرجال . وقيل : هو جائز للنساء دون الرجال تمسُّكًا بظاهر الحديث ، وبحديث أبي هريرة ، وهو 40- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ ، فِي الصَلاةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مذهب الشافعي والأوزاعي ، وحُكي عن مالك أيضًا . وعللوا اختصاص النساء بالتصفيق ؛ لأن أصواتهن عورة ، ولذلك منعن من الأذان ، ومن الجهر بالإقامة والقراءة ، وهو معنى مناسب شهد الشرع له بالاعتبار . وهذا القول الثاني هو الصحيح نظرًا وخبرًا ، وفي هذه الأحاديث أبواب كثيرة من الفقه لا تخفى على متأمل فطن .
************
( 16 ) باب الأمر بتحسين الصلاة ، والنهي عن مسابقة الإمام
41- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَوْمًا ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَقَالَ : (( يَا فُلانُ ! أَلا تُحْسِنُ صَلاتَكَ ؟ أَلا يَنْظُرُ الْمُصَلِّي إِذَا صَلَّى كَيْفَ يُصَلِّي ؟ فَإِنَّمَا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ ، إِنِّي وَاللهِ لاُبْصِرُ مِنْ وَرَائِي كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ )).
(4/141)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بتحسين الصلاة
قوله : " إني لأبصر من ورائي كما أبصر [من] بين يدي ". مذهب أهل السنة من الأشعرية وغيرهم : أن هذا الإبصار يجوز أن يكون إدراكًا خاصًا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ محققًا ، انخرقت له فيه العادة ، وخلق له وراءه . أو يكون الإدراك العيني انخرقت له العادة ، فكان يرى به من غير مقابلة ؛ فإن أهل السنة لا يشترطون في الرؤية عقلاً بِنْيَةً مخصوصة ، ولا مقابلة ، ولا قربًا ، ولا 42- وَعَنْهُ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا ؟ فَوَاللهِ ؟ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلا سُجُودُكُمْ ، إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءَ ظَهْرِي )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شيئًا مما تشترطه المعتزلة وأهل البدع . وأن تلك الأمور إنما هي شروط عادية ، يجوز حصول الإدراك مع عدمها . ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة ، مع إحالة تلك الأمور كلها ، ولما ذهب أهل البدع إلى أن تلك الشروط عقلية ، استحال عندهم رؤية الله تعالى ، فانكروها ، وخالفوا قواطع الشريعة التي وردتْ بإثبات الرؤية ، وخالفوا ما أجمع عليه الصحابة والتابعون .
ويؤيد هذا قول عائشة رضي الله عنها : في هذا زيادة زاده الله إياها في حُجَّته ، وقال بقي بن مخلد : كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى في الظلام كما يرى في
الضوء. وقال مجاهد : كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى من خلفه كما يرى من بين يديه.
43- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ أَنَّ نَبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ، فَوَاللهِ ! إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي ، إِذَا مَا رَكَعْتُمْ وَإِذَا مَا سَجَدْتُمْ )).
(4/142)
44- وَعَنْهُ ؛ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَاتَ يَوْمٍ ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ ، فَقَالَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي إِمَامُكُمْ فَلا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلا بِالسُّجُودِ وَلا بِالْقِيَامِ وَلا بِالانْصِرَافِ ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي )) ، ثُمَّ قَالَ : (( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا )) قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! وَمَا رَأَيْتَ ؟ قَالَ : (( رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله : (( إني لأبصر وَلأَرَى )) ؛ راجع إلى العلم ، وأن معناه : إني لأعلم ، وهذا تأويل لا حاجة إليه ، بل حمل ذلك على ظاهره أولى ، ويكون ذلك زيادة في كرامات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وفي فضائله ؛ لأن ذلك جارٍ على أصول أهل الحق كما قدمناه ، والله أعلم .
وقوله : (( مِنْ بعد ظهري )) ، أو : (( من بعدي )) ؛ أي : من خلفي كما تقدم .
......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( فلا تسبقوني بالركوع ، ولا بالسجود ولا بالقيام ، ولا بالانصراف )). اختُلف إذا سابق المأموم إمامه ، هل تفسد صلاته أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنها لاتفسد ، وذهب ابن عمر وأهل الظاهر إلى أنها تفسد ، ومذهب مالك فيه تفصيل يطول ذكره في هذا الكتاب ، وهو مذكوز في كتب الفقه ، [ وقد تقدم بعضه].
(4/143)
وأما نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سبقهم إياه بالانصراف فقد ذهب الحسن والزهري إلى أن حق المأموم ألا ينصرف حتى ينصرف الإمام ؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث ، والجمهور على خلافهما ؛ لأن الاقتداء بالإمام قد تم بالسلام من الصلاة ، ورأوْا أن ذلك كان خاصًّا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأن ذلك من باب قوله : {وإذا كانوا معه على أمرٍ جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } ، فإنه قد كان
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يحتاج إلى مكالمتهم في أمور الدين ، رمراعاة المصالح والآراء ، والله أعلم .
ويحتمل أن يريد بالانصراف المذكور : التسليم ؛ فانه يقال : انصرف من الصلاة ؛ أي : سلّم منها ، والله أعلم .
*************
( 17 ) باب النهي عن رفع الرأس قبل الإمام ، وعن رفع البصر إلى السماء في الصلاة ، والأمر بالسكون فيها
45- عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( صُورَتَهُ صُورَةِ حِمَارٍ )).
وَفِي أُخرَى : ((وَجْهَهُ وَجْهَ حِمَارٍ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن رفع الرأس قبل الإمام
قوله : (( أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله صورته صورة حمار - أوْ وَجهه أو رأسه - )) ؛ هذه الروايات متقاربة إذا أريد بالصورة الوجه ، فإن أريد [بها] الضفة انصرفت إلى الصفة الباطنة ؛ من البلادة . ومقصود هذا الحديث : الوعيد بمسخ الضورة الظاهرة أو الباطنة على مسابقة الإمام بالرفع ، وهذا يدل على أن الرفع من الزكوع والسجود مقصود لنفسه ، وأنه ركن مستقل كالركوع والسجود .
(4/144)
وقوله في الحديث الآخر : (( فإنما ناصيته بيد شيطان )) ؛ يعني أنه قد تمكّن منه بجهله ، فهو يُصرِّفه كيف يشاء كما يُفعل بمن مُلكت ناصيته .
46- وَعَنْهُ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاةِ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( لينتَهِيَنَّ أقوام عن رفعهم أبصارهم... )) الحديث.وهذا أيضًا وعيد بإعماء من رفع رأسه إلى السماء في الصلاة ، ولا فرق بين أن يكون عند الدعاء أو عند غيره ؛ لأن الوعيد إنما تعلق به من حيث إنه إذا رفع بصره إلى السماء أعرض عن القبلة ، وخرج عن سَمْتِها وعن هيئة الصلاة ، وقد نقل بعض العلماء الإجماع على النهي عن ذلك في الصلاة. وحكى الطبري كراهية رفع البصر في الدعاء إلى السماء في غير الصلاة ، وحَكَي عن شريح أنه قال لمن رآه يفعله : اكفف يدك ، واخففن بصرك ؛ فانك لن تراه ، ولن تناله . وأجازها الأكثر ؛ لأن السماء قبلة الدعاء ؛ كما أن الكعبة قبلة الصلاة . وقد رفع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجهه ويديه إلى السماء عند الدعاء ، فلا ينكرذلك .
47- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ؛ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : ((مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ ؟ اسْكُنُوا فِي الصَّلاةِ )) ، قَالَ : ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حِلَقًا فَقَالَ : (( مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ )) قَالَ : ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ : (( أَلا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا )) فَقُلْنَا : يَارَسُولَ اللهِ!وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالَ : (( يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/145)
وقوله حين رآهم يشيرون بأيديهم إذا سلموا من الصلاة : (( ما لي أراكم ... )) الحديث ؛ كانوا يشيرون عند السلام من الصلاة [بأيديهم] يمينًا وشمالاً وتشبيه أيديهم بأذناب الخيل الشُّمس تشبية واقع ؛ فإنها تحرِّك أذنابها يمينًا وشمالاً ، فلما رآهم على تلك الحال(3) ، أمرهم بالسكون في الصلاة. وهذا دليل
48- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قُلْنَا : السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( عَلامَ تُومِئُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ ؟ وإِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ )). وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَالَ : (( مَا شَأْنُكُمْ ؟ تُشِيرُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ ، إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ فَلْيَلْتَفِتْ إِلَى صَاحِبِهِ وَلا يُومِئْ بِيَدِهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على أبي حنيفة في أن حكم الصلاة باقٍ على المصلي ، إلى أن يسلِّم ، ويلزم منه أنه إن أحدث في تلك الحالة - أعني في حالة الجلوس الأخير للسلام - أعاد الصلاة .
وقوله : (( ما لي أراكم عزين )) ؛ أي : جماعات في تفرقة ، [ والواحدة] : عِزَةٌ- مخفف الزاي - أمرهم بالائتلاف والاجتماع والاصطفاف كصفوف الملائكة ، وهذا يدل على استحباب تسوية الصفوف ، وقد أمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ،
وقال : (( إنه من تمام الصلاة )) ؛ كما يأتي.
**************
( 18 ) باب الأمر بتسوية الصفوف ، ومن يلي الإمام
(4/146)
49- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ؛ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلاةِ ، وَيَقُولُ : (( اسْتَوُوا وَلا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ ، وَلِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلامِ وَالنُّهَى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ )). قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلافًا .
زَادَ مِن حَدْيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ : (( وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الأمر بتسوية الصفوف
وقوله : (( ليَلِيَنِي منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم " ؛ الأحلام والنُّهى يمعنى واحد ؛ وهي : العقول ، واحدها : نُهْيَةٌ ؛ لأنه ينهى صاحبه عن الرذائل ، وإنما خص ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا النوع بالتقدُّم ؛ لأنه الذي يتأتى منهم التبليغ ، وأن يستخلف منهم إن احتاج إليهم ، وفي التنبيه على سهو إن طرأ ، ولأنهم أحق بالتقديم ممن سواهم ؛ لفضيلة العلم والعقل .
50- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( سَوُّوا صُفُوفَكُمْ ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ )).
51- ومِن حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : (( مِنْ حُسْنِ الصَّلاةِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : "وإياكم وهَيْشات الأسواق " ؛ قال أبو عبيد : هَوْشَات]. والهوشة : الفتنة والهيج والاختلاط ؛ يقال : هوش القوم : إذا اختلطوا . ومنه : "من أصاب مالاً من نَهَاوِش [أذهبه الله في نَهَابِر ))](6) قال أبو عبيد : هو
(4/147)
52- وَعَنِ النُّعْمَانَ ابْنَ بَشِيرٍ ؛ قَال : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُسَوِّي صُفُوفَنَا ، حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ ، حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ فَرَأَى رَجُلاً بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ فَقَالَ : (( عِبَادَ اللهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل مال أخذ من غير حِلِّه ، وهو شبيه بما ذكرنا من الهوشات . وقال بعض أهل العلم : الصواب : من تهاوش - بالتاء - ، أي : من تخاليط .
والقداح : السهام حين تُنْحَت وتُبرى ، واحدها : قِدْح .
وقوله : " حتى كاد يكبر ، فرأى رجلاً باديًا صدره من الصف ، فقال : (( عباد الله! لتسَوُّن صفوفكم... )) الحديث ؛ دليل على مذهب الجماعة في جواز الكلام بين الإقامة والصلاة للإمام ، أو لحاجة تنزل به - من أمر الصلاة وغيرها - بعد تمام الإقامة ، خلافًا لأبي حنيفة في أنه قال : يجب عليه التكبير إذا قال : قد قامت الصلاة . وقد اختلف العلماء في جواز الكلام حينئذٍ وكراهته .
وقوله : (( أو ليخالفن الله بين وجوهكم )) ؛ أي : يفترقون ليأخذ كل واحد وجهًا غير الذي أخذ صاحبه ، ويُبَيِّنه : أن تقدُّم البعض على غير مظنَّة الكبر المفسد للقلوب ، والداعي للتقاطع . ويحتمل : ليخالفن بين وجوههم في
53- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ . وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/148)
الجزاء ، فيجازِي مُسَوِّي الصف بخير ، والخارج عنه بشرّ ، والله أعلم.
وقوله : (( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول )) ؛ النداء : الأذان بالصلاة ، والصف الأول اختلف فيه ، هل هو الذي يلي الإمام ، أو هو المبكر ، والصحيح أنه الذي يلي الإمام ، فإن كان بين الإمام وبين الناس حجب حائلة ، كما أحدث من مقاصير الجوامع ، فالصف الأول : الذي يلي المقصورة .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و قوله : (( لاستهموا عليه )) : فيه إثبات القرعة مع تساوي الحقوق . وأماتشاحُّهم في النداء مع جواز أذان الجماعة في زمن واحد ، فيمكن أن يكون أراد أن يؤذِّن واحد بعد آخر ؛ لئلا يخفى صوتُ أحدهم .
قلت : ويمكن التشاحُّ في أذان المغرب إذا قلنا بضيق وقتها ، فإنه لا يؤذِّن لها إذ ذاك إلا مؤذن واحد . وقد نحا الداودي إلى أن هذا الاسْتِهام في أذان الجمعة ؛ أي : لو علموا ما فيه لتسابقوا إليه ، ولاقترعوا عليه أيهم يؤذِّنه.
وهذا الضمير الذي [ في ] : " عليه " اختلف فيه على ماذا يعود ؟ فقال أبو عمر ابن عبد البر : إنه يعود على الصف الأول ، وهو أقرب مذكور . قال : وهذا وجه الكلام . وقيل : إنه يعود على معنى الكلام المتقدم ؛ فإنه مذكور ومَقُول ، ومثل هذا قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك يلق أثاما } ؛ أي : ومن يفعل المذكور قبلُ ، وهذا أولى من الأول ؛ لأنه إن رجع إلى الصف بقي النداء ضائعًا لا فائدة له .
وقوله : (( لاستهموا عليه )) ؛ أي : لتقارعوا. والتهجير : التبكير للصلوات ،
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4/149)
قاله الهروي . وقيل : المراد هنا به المحافظة على الجمعة والظهر ؟ فإنها التي تفعل في وقت الهاجرة ؛ وير شدة الحرّ نصف النهار . ويقال : هجرّ القوم وأهجروا : صاروا في الهاجرة .
وعتمة الليل : ظلمته ، وكانت الأعراب تحلب عند شدة الظلمة حَلْبَةً وتسميها العَتَمَة ، فكأنّ لفظ العتمة صار مشتركًا بين خسيس وهي الْحَلْبَة وبين نفيس وهي الصلاة ، فنُهى عن إطلاق لفظ العتمة على الصلاة ؛ ليُرفع الاشتراك ، وحيث أمن الاشتراك جاز الإطلاق .
وقيل : إنما نهى عن ذلك ليُتَأَدَّب في الإطلاق ، وليُقْتَدَي بما في كتاب الله تعالى من ذلك ؛ [ وليُجتنب إطلاق الأعراب ؛ فإنهم عدلوا عَمَّا في كتاب الله تعالى من ذلك ] ، ومثل ذلك يمكن أن يقال في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب ، وتقول الأعراب هي العشاء )).
قلت : ويمكن أن يقال : إن النهي المذكور ليس عن إطلاق ذلك اللفظ لأجل ذلك ، بل لأجل غلبة ما تطلقه الأعراب من ذلك ؛ لأنه إذا غلب إطلاقهم واقتُدي بهم في ذلك الإطلاق ، ترك ما في كتاب الله وما في سنة 54- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا ، فَقَالَ لَهُمْ : (( تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي ، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ . لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسوله من تسمية العشاء والمغرب ، وعلى هذا فلا يمتنع إطلاق لفظ العتمة والمغرب [عليهما] إذا لم تكن غلبة ، والله أعلم .
(4/150)
وقوله : (( تقدموا وائتموا بي ، وليأتم بكم من بعدكم )) ، يتمسك بظاهره الشعبي على قوله : إن كل صف منهم إمام لمن وراءه ، وعامة الفقهاء لا يقولون بهذا ؛ لأن ذلك الكلام مجمل ؛ لأنه محتمل ؛ لأن يراد به الاقتداء في فعل الصلاة ، ولأن يراد به في نقل أفعاله وأقواله وسُنَنِه كي يبلغوها غيرهم. وللشعبي مَنْعُ دعوى الإجمال ، والتمسك بالظاهر منه .
وقوله : (( لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله )) ؛ قيل : هذا في المنافقين ، ويحتمل : أن [ يراد] به : أن الله يؤخرهم عن رتبة العلماء المأخوذ عنهم ، أَوْ عن رتبة السابقين .
*************
( 19 ) باب في صفوف النساء ، وخروجهن إلى المساجد
55- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا ، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا ، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب صفوف النساء
قوله : (( خير صفوف الرجال أولها )) ؛ يعي : أكثرها أجرًا ، وعلى ذلك فقوله : (( وشرها آخرها )) ؛ يعي : أقلها أجرًا ؛ لأن ذلك ذمٌّ لآخرها ، فإنه يلزم أن تحرم الصلاة فيه ، وليس كذلك بالاتفاق ، وكذلك القول في صفوت النساء . وإنما كان ذلك لأن الصف الأول من صفوت الرجال يستحق بكمال الأوصاف ، ويختص بكمال الضبط على الإمام والاقتداء والتبليغ ، وكل ذلك معدوم في النساء ، فاقتضى ذلك تأخيرهن ، وقد استدل بهذا الحديث بعض العلماء على أن المرأة لا تكون إمامًا ، لا للنساء ، ولا للرجال ، وقد تقدم ذلك . فأما الصف الأول من صفوف النساء ، فإنما كان شرًّا من آخرها ؛ لما فيه من مقاربة أنفاس الرجال للنساء ، فقد يُخاف أن تشوِّش المرأة على الرجل ، والرجل على المرأة .
(5/1)
56- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ؛ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ عَاقِدِي أُزُرِهِمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ مِثْلَ الصِّبْيَانِ مِنْ ضِيقِ الأُزُرِ خَلْفَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ! لا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ .
57- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ عُمَرَ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( لا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا )) قَالَ : فَقَالَ بِلالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ : وَاللهِ ! لَنَمْنَعُهُنَّ . قَالَ : فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ . وَقَالَ : أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَتَقُولُ : وَاللهِ ! لَنَمْنَعُهُنَّ .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( لا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في " الأم " : إن [ ابن] عبد الله بن عمر قال له : لا ندعهن
58- وَعَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ - امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ - ؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ قَالَ : ((إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ فَلا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ )).
وَفِي لَفْظٍ آخَر : (( إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلا تَمَسَّ طِيبًا )).
59- وَمِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - مَرفُوعًا - : (( أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيتخذنه دَغَلاً ؛ أي : خداعًا . وأصل الدَّغَل : الشجر الْمُلَفّ الذي يكون فيه أهل الفساد . قال الليث : يقال : أَدْغلْتُ في الأمر : إذا أدخلت فيه ما يُخالفه . قال : وإذا دخل الرجل مدخلاً مريبًا قيل : دغل فيه .
(5/2)
وقوله : " فزبره ابن عمر " ؛ معناه : انتهره .
وقال صاحب الأفعال : زبرت الكتاب : كتبتُه ، والشيء : قطعتُه ، والرجلَ انتهرتُه ، والبئرَ(7) : طويتُها بالحجارة .
وانتهار ابن عمر وضربه تأديب(8) [للمعترض](9) على السنن وعلى العالم.
60- وَعَنْ عَائِشَةِ ؛ قَالَتْ : لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجاء في "الأم" مَرَّة : أن الذي قابل ابن عمر بالمنع : بلال ، ومَرَّة : واقد ، وكلاهما صحيح ؛ كان لابن عمر ابنان : بلال وواقد ، وكلاهما قابله بالمنع ، وكلاهما أدّبه ابن عمر .
وقول عائشة [رضي الله عنها] : " لو رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أحدث النساء ..." الحديث ؛ تريد : ما اتخذن من حسن الملابس والطيب والزينة ، وإنما كان النساء يخرجن في المروط والشِّمَال.
************
( 20 ) باب في قوله تعالى : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
61- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ فِي قَوْلِهِ تَعَالَّى : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ : نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ ، فَقَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ قِرَاءَتَكَ { وَلا تُخَافِتْ بِهَا } عَنْ أَصْحَابِكَ ، أَسْمِعْهُمُ الْقُرْآنَ وَلا تَجْهَرْ ذَلِكَ الْجَهْرَ { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } قَالَ : يَقُول : بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب قوله تعالى : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }
(5/3)
اختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقال ابن عباس ما نصَّهُ مسلم ، وأن الصلاة هي الصلاة الشرعيه . وقالت عائشة : ما ذكره أيضًا مسلم : إنها نزلت في الدعاء ؛ أي : لا تجهر بالدعاء ولا تخفض به ، وإليه مال الطبري . وقيل : نزلت في أبي بكر وعمر ؛ إذ كان أبو بكر يُسِرُّ بالقراءة ، ويقول : أناجي ربي ، وعمر يجهر ، ويقول : أطرد الشيطان ، وأقظ الوَسْنَان ، وأرضي الرحمن ، فنزلت الآية ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر : (( ارفع شيئًا )) ، ولعمر : ((اخفض شيئًا )).
**************
( 21 ) باب القراءة في الظهر والعصر
62- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ؛ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي بِنَا فَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا ، وَكَانَ يُطَوِّلُ الرَّكْعَةَ الأُولَى مِنَ الظُّهْرِ ، وَيُقَصِّرُ الثَّانِيَةَ ، وَكَذَلِكَ فِي الصُّبْحِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب القراءة في الظهر والعصر
حديث أبي قتادة حجة لمالك على صحة مذهبه في اشتراط قراءة الفاتحة في كل ركعة ، وعلى قراءة سورتين مع الفاتحة في الركعتين الأوليين ، وأن ما بقي من الصلاة لا يقرأ فيه إلا بالفاتحة خاصة . وقد تمسك الشافعي- في أنه يقرأ فيما بقي(4) بسورة مع الفاتحة - بحديث أبي سعيد الآتي بعد هذا ، ووجه تمسكه قوله : إنه قرأ في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين(5) آية ، وفي ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/4)
الأخريين قدر نصف ذلك ، والفاتحة إنما هي سبع آيات لا خمس عشرة ، فكان يزيد سورة ، وهذا لا حجة فيه ؛ فإنه تقدير وتخمين من أبي سعيد. ولعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كان يمدّ في قراءة الفاتحة حتى يُقَدَّر بذلك ، وهذا الاحتمال غير مدفوع . وقد جاء عنه : أنه كان يرتل السورة ، حتى تكون أطول مِن أطوَل منها ، وهذا يشهد بصحة هذا التأويل ، وحديث أبي قتادة نصّ ، فهو أوْلى . وما ورد في كتاب مسلم وغيره من الإطالة فيما استقر فيه التقصير ، أو من التقصير فيما استقرت فيه الإطالة ؛ كقراءته في الفجر بالمعوذتين ؛ كما رواه النسائي ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكقراءة الأعراف ، أو المرسلات في المغرب ؛ فمتروك . أما التطويل فبإنكاره على معاذ ، وبأمره الأئمة بالتخفيف. ولعل ذلك منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث 63- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلاثِينَ آيَةً ، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً ، أَوْ قَالَ : نِصْفَ ذَلِكَ . وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً ، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/5)
لم يكن خلفه من يشق عليه القيام ، وعلم ذلك ، أو كان منه ذلك متقدمًا حتى خفف وأمر الأئمة بالتخفيف ، كما قال جابر بن سمرة : "وكان صلاته بعدُ تخفيفًا ، ويحتمل : أن يكون فعل ذلك في أوقات ليبيّن جواز ذلك ، أو يكون ذلك بحسب اختلاف الأوقات من السعة والضيق . وقد استقر عمل [أهل] المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرًا لا يضر بمن خلفه ؛ يقرأ فيها بطوال المفصّل . ويليها في ذلك الظهر والجمعة ، وتخفيف القراءة في المغرب ، وتوسيطها في العصر والعشاء. وقد قيل في العصر : إنها تُخفّف كالمغرب . وتطويله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الركعة الأولى ؛ إنما كان ليدرك الناس الركعة الأولى ؛ رواه أبو داود عن أبي قتادة .
64- وَعَنْهُ ؛ لَقَدْ كَانَتْ صَلاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ، ثُمَّ يَأْتِي رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِمَّا يُطَوِّلُهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن أبي أوفى : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقوم في الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع قدم ؛ يعني : حتى يتكامل الناس ويجتمعوا ، وعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد : أنه كان يطول الركعة الأولى من الظهر ، حتى ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ، ثم يأتي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو فيها ، وذلك - والله أعلم - لتوالي دخول الناس . ولا حجة للشافعي في هذا الحديث على تطويل الإمام لأجل الداخل ؛ لأن ما ذكر ليس تعليلاً لتطويل الأولى ، وإنما هي حكمة ، ولا يعلل بالحكمة ؛ لخفائها ، أو لعدم انضباطها . وأيضًا فلم يكن يدخل في الصلاة مريدًا تقصير تلك الركعة ، ثم يطولها لأجل الداخل ، وإنما كان يدخل فيها ليفعل الصلاة على سُنَّتها من تطويل الأولى ، فافترق الأصل والفرع فامتنع الإلحاق .
(5/6)
************
( 22 ) باب القراءة في الصبح
65- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ ؛ قَالَ : صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ ، حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ ، أَخَذَتِ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ . وَفِي رِوَايَةٍ : فَحَذَفَ فَرَكَعَ .
66- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ؛ قَالَ : إِنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } ، وَكَانَ صَلاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا .
67- وَعَنْهُ ؛ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ ، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ . وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، وَفِي الصُّبْحِ بِأَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ .
68- وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِي ؛ قَالَ : كَانَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الفَجْر مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
......................................................................
( 23 ) باب القراءة في المغرب والعشاء
69- وَعَنْ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ ؛ أَنَهْا سَمِعَتْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَقْرَأُ {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ ، إِنَّهَا لآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : ثُمَّ مَا صَلَّى بَعْدُ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ .
70- وَعَنْ جُبَيْرِ ابْنِ مُطْعِمٍ ؛ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْرَأُ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ .
(5/7)
71- وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ؛ قَالَ : سَمْعتُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَرَأَ فِي الْعِشَاءَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ فِي سَفَرٍ .
72- وَعَنْ جَابِرٍ ؛ قَالَ : كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الْعِشَاءَ ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ - فِي رِوَايَةٍ : فَصَلَّى بِهِمْ تِلْكَ الصَلاة - فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ ، فَقَالُوا لَهُ : أَنَافَقْتَ يَا فُلانُ ؟! فَقَالَ : لا وَاللهِ ، وَلآتِيَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَلأُخْبِرَنَّهُ ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ ، نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ . فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ : (( يَا مُعَاذُ ! أَفَتَّانٌ أَنْتَ ؟ اقْرَأْ { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } ، { وَالضُّحَى } ، { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } ، و: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } ، وَنَحْوَ هَذَا )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب القراءة في المغرب والعشاء
قوله في حديث جابر : " كان معاذ يصلي مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم يأتي فيؤمّ قومه" ،
وفي رواية : " فيصلي بهم تلك الصلاة " ؛ تمسَّك الشافعي وأحمد في صلاة المفترض خلف المتنفِّل بهذا الحديث ، وخالفهما مالك وربيعة والكوفيون ،
......................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورأوْا أنه لا حجة لهما فيه ؛ لوجهين :
(5/8)
أحدهما : أنه يحتمل أن يكون معاذ اعتقد في صلاته خلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفضيلة ، وفي صلاته بقومه الفريضة ، وليس هذا الاحتمال بأولى مِمَّا صاروا إليه ، فلحق بالمجملات ، فلا يكون فيه حجة .
والثاني : أن في "مسند البزار" عن عمرو بن يحيى المازني ، عن معاذ بن رفاعة ، عن رجل من بني سليم ، يقال له سلم ، أنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال : يا رسول الله ! إنا نَظَلُّ في أعمالنا ، فنأتي حين نمسي ، فيأتي معاذ فيطوِّل علينا ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يا معاذ ! لا تكن فتانًا ، إما أن تُخفِّف بقومك ، أو تجعل صلاتك معي )).
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وظاهر هذا يدلّ أنه كان يصلي الفريضة مع قومه . ومتمسّك المانعين : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه )) ، ولا اختلاف أعظم من اختلاف النيات ، والله أعلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
...................................................................... وأما قطع الرجل الصلاة ؛ فلعذرٍ صَحَّ له ، وهو أنه ضَعُف عن صلاة معاذ ؛ لما لحقه من شدة ألم العمل ، ولأجل ذلك أنكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على معاذ حتى نسبه إلى الفتنة .
ولا حجة للشافعي في هذا [الحديث] ، على جواز الخروج عن إمامة الإمام ابتداء من غير عذر ؛ لأن هذا كان عن عذر ، وأما صلاة [هذا](2) الرجل وحده ، ومعاذ في صلاته . فيستدل به على جواز ذلك لعذر ، وأما لغير عذر فمنوع ؛ بدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أصلاتان معًا ؟ )) منكرًا على من فعل [ ذلك ](2).
وقوله : (( أفتان أنت يا معاذ ؟ )) أي : أتفتن الناس وتصرفهم عن دينهم ؟ وقد تقدم أصل الفتنة ، ويحتمل أن يكون معناه : تعذب الناس يا معاذ بالتطويل ؟ كما قال تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } ؛ أي : عذبوهم ، ؛ في قول المفسرين .
(5/9)
[ والنواضح : الابل التي يستقى عليها ].
*************
( 24 ) باب أمر الأئمة بالتخفيف في تمام
73- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ ؛ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ : إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا. قَالَ : فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ . فَقَالَ : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ! إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ )).
74- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ ، فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَالْمَرِيضَ ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب أمر الأئمة بالتخفيف
وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أبي مسعود غضب وحكم في حال غضبه ،
75- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ لَهُ : (( أُمَّ قَوْمَكَ )) ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا . قَالَ : (( ادْنُهْ )) فَأجَلَّسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِي صَدْرِي بَيْنَ ثَدْيَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : ((تَحَوَّلْ )) فَوَضَعَهَا فِي ظَهْرِي بَيْنَ كَتِفَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : (( أُمَّ قَوْمَكَ ، فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ ، وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/10)
لا يعارضه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يقضي القاضي وهو غضبان )) ؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم في حال الغضب والرضا ، بخلاف غيره .
وقول عثمان بن أبي العاص : " إني أجد في نفسي " ، حين قال له : (( أُمَّ قومك )) ؛ يحتمل : أن يكون خشي على نفسه كبرًا وعُجْبًا ؛ حيث قُدِّم على قومه ، ويحتمل أن يكون ذلك خجلاً وضعفًا عن القيام بذلك ، ففعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به ذلك ليزول عنه ما وجد في نفسه من ذلك ببركة يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
***************
باب
76- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ قَالَ : مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ وَلا أَتَمَّ صَلاةً مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
77- وَعَنْهُ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاةِ ، أُرِيدُ إِطَالَتَهَا ، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ ، فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : " وأخفف من شدّة وَجْدِ أمِّه به " ؛ يعني : حزنها وشفقتها عليه. وفيه دليل على جواز الإسراع في الصلاة ، وإن كان قد شرع في تطويلها لأجل ج حاجة المأموم .
ولا حجة فيه للشافعي على جواز انتظار الإمام من سح حِسَّه داخلاً ؛ لأن هذه الزيادة عمل في الصلاة ، بخلاف الحديث .
*************
( 25 ) باب في اعتدال الصلاة وتقارب أركانها
78- عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ؛ قَالَ : رَمَقْتُ الصَّلاةَ مَعَ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ فَرَكْعَتَهُ ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ ، فَسَجْدَتَهُ ، فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، فَجَلْسَتَهُ ، وَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالانْصِرَافِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب اعتدال أركان الصلاة
(5/11)
قوله في حديث البراء : " قريبًا من [السواد]" ؛ يدل على أن بعض تلك الأركان أطول من بعض ، إلا أنها غير متباعدة ، وهذا واضح في كل الأركان ، إلا في القيام ؛ فانه قد ثبت أنه كان يطوِّله ، ويقرأ فيه بالستين إلى المائة ، ويذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ، ثم يتوضأ ، ثم يرجع فيجده قائمًا في الركعة الأولى ، فيحتمل أن يكون ذلك الطول كان في أوّل أمره ، ثم كان التخفيف بعدُ ؛ كما قال جابر بن سمرة : ثم كانت صلاته بعد تخفيفًا . وقد قيل : إن هذه الرواية التي وقع فيها ذكر القيام وهمٌ ، وأن الصحيح 79- وَعَنْ أَنَسٍ ؛ قَالَ : مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ أَوْجَزَ صَلاةً مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي تَمَامٍ . كَانَتْ صَلاةُ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُتَقَارِبَةً ، وَكَانَتْ صَلاةُ أَبِي بَكْرٍ مُتَقَارِبَةً ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَدَّ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ . وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا قَالَ : (( سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ )) قَامَ حَتَّى نَقُولَ : قَدْ أَوْهَمَ. ثُمَّ يَسْجُدُ ، وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ : حَتَّى نَقُولَ : قَدْ أَوْهَمَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إسقاطه كما رواه البخاري ومسلم أيضًا في روأية أخرى من حديث البراء ، ولم يذكر فيها القيام ، وزاد البخاري فيه : " ما خلا القيام والقعود " ، والطريقة الأولى أحسن وأسلم .
وقوله في حديث أنس : " حتى نقول قد أَوْهَم " ، كذا صوابه بفتح الهمزة
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والهاء ، فعل ماض مبني للفاعل ، ومعناه : ترك . قال ثعلب : تقول : أوهمت الشيء : إذا تركته كله ، أُوهِمُ ، وَوَهِمْتُ في الحساب وغيره : إذا غلطت . أَوهِمُ ، ووهمت إلى الشيء ؛ إذا ذهب وهَمُكَ إليه وأنت تريدُ غيره ، أَهِم وَهْمًا .
*************
(5/12)
( 26 ) باب اتباع الإمام والعمل بعده
80- عَنِ الْبَرَاءِ ؛ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ لَمْ أَرَ أَحَدًا يَحْنِي ظَهْرَهُ حَتَّى يَضَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جَبْهَتَهُ عَلَى الأَرْضِ ، ثُمَّ يَخِرُّ مَنْ وَرَاءَهُ سُجَّدًا .
وَفِي لَفْظٍ آخَر : كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَإِذَا رَكَعَ رَكَعُوا ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَالَ : (( سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ )) لَمْ نَزَلْ قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ وَضَعَ وَجْهَهُ فِي الأَرْضِ ، ثُمَّ نَتَّبِعُهُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
......................................................................
*************
( 27 ) باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع
81- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ : (( رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ ، اللهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع
قوله في حديث أبي سعيد : (( ملء السموات والأرض ، وملء ما شئت من شيء )). قال الخطابي : هو تمثيل وتقريب ، والمراد تكثير العدد ، حتى لو قُدِّر ذلك أجسامًا ملأ ذلك كله . قال غيره : المراد بذلك : التعظيم ؛ كما يقال : هذه الكلمة تملأ طباق الأرض . وقيل : المراد بذلك : أجرها وثوابها ، والله أعلم .
(5/13)
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و "بعد" : ظرف قُطِع عن الإضافة مع [إرادة] المضاف ، وهو السموات والأرض ، فبني على الضَّمِّ ؛ لأنه أشبه حرف الغاية ؛ الذي هو منذ . والمراد بقوله : (( من شيء )) : العرش ، والكرسي ونحوهما ، مما في [مقدور] الله تعالى ، والله أعلم .
وقوله : (( أهل الثناء والمجد )) ؛ [ أي : يا أهلَ الثناء ، فهو منادى مضاف ؛ حُذِف حرفُ ندائه . ورواية الجمهور : (( الْمجد ))]- بالميم والجيم - ، إلا ابن ماهان فإنه رواها : " الحمد ". فأما الْمجد ؛ فهو نهاية الشرف وكثرته ، والماجد : هو الذي يعِدُّ لنفسه آباء أشرافًا ، ومآثر حسنةً كثيرة ، ومنه قالت العرب : في كل شجر نارْ ، واسْتَمْجَدَ الْمَرْحُ والعَفَارْ ؛ أي : كثر في هذين النوعين من الشجر . وقد تقدّم معنى الحمد في أول الكتاب .
وقوله : (( أحقّ ما قال العبد )) ؛ أي : أوجب وأثبت وأولى . وهو مرفوع بالابتداء ، وخبره : (( اللهم لا مانع لما أعطيت .... )) إلى آخره ، (( وكلنا لك عبد )) ؛ معترض بين المبتدأ وخبر. والعبد : جنس العباد العارفون بالله تعالى ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الكلمات ؛ لما تضمنته من تحقيق التوحيد وتمام التفويض ، وصحة التبرّي من الحول والقوة .
(5/14)
وقوله : (( ولا ينفع ذا الْجَدّ منك الْجَدّ )) ، رواه الجمهور بفتح الجيم في اللفظين ، وهو [هنا] بمعنى : البخت والحظ . ولفظ " الجد" ينطلق على البخت ، والغنى ، والعظمة ، والسلطان ، وأب الأب . ومعناه : لا ينفع من رُزِق مالاً وولدًا أَو جاهًا دنيويًا [شيء] من ذلك عندك ، وهذا كما قال تعالى : { يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم }. وحُكي عن الشيباني في الحرفين : كسر الجيم ، وقال : معناه : لا ينفع ذا الاجتهاد والعمل منك اجتهاده وعمله . قال الطبري : وهذا خلاف ما عرفه أهل النقل ، ولا يُعلم من قاله غيره ، وضغفه . قال غيره : والمعنى الذي أشار إليه الشيباني صحيح ، ومراده : أن العمل لا ينجي صاحبه . وإنما النجاة بفضل الله ورحمته ؛ كما جاء في الحديث : (( لن ينجي أحدًا منكم عمله...)) ، الحديث .
82- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى ؛ عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : ((اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ ، مِلْءُ السَّمَواتِ وَمِلْءُ الأَرْضِ ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ ، اللهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ، وَمَاءِ الْبَارِدِ ، اللهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث ابن أبي أوفى : (( اللهم طهرني بالثلج والبرد وماء البارد )) : استعارة للمبالغة في التنظُّف من الذنوب ، و"ماء البارد" : من باب إضافة الشيء إلى صفته ، وقد تقذم ذكرها .
***************
( 28 ) باب النهي عن القراءة في الركوع والسجود
(5/15)
83- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ : كَشَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ السِّتَارَةَ ، وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَ : (( أَيُّهَا النَّاسُ ! إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ ، أَلا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا ، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : كَشَفَ السِّتْرَ وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ ، فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، فَقَالَ : (( اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ )) ثَلاثَ مَرَّاتٍ : (( إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلا الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ ، أَوْ تُرَى لَهُ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب النهي عن القراءة في الركوع والسجود
قوله : (( أما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء )). مذهب الجمهور : كراهة القراءة والدعاء في الركوع ، وقال الشافعي والكوفيون : يقول في الركوع : سبحان رتي العظيم ، وفي السجود : سبحان ربي والأعلى ؛ اتّباعًا لحديث عقبة ، وكلهم على استحباب ذلك. ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الركوع [والسجود] ، وذهب إسحاق وأهل الظاهر إلى وجوب الذكر فيهما دون تعيين ، وأنه يعيد الصلاة من تركه. وفي "المبسوط" عن يحيى بن يحيى ، وعيسى بن دينار من أئمتنا ، فيمن لم يذكر الله في ركوعه ولا سجوده : أنه يعيد الصلاة أبدًا . وقد تأوّل المتأخرون
(5/16)
84- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ؛ قَالَ : نَهَانِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَلا أَقُولُ : نَهَاكُمْ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أصحابنا ذلك عليهما تأويلات بعيدة .
وقوله : " فَقَمَنٌ "- بفتح القاف والميم - ؛ ومعناه : حقيق وجدير ، ويقال : " قَمِنٌ " بكسر الميم ، و" قَمين ". فالفتح مصدر ، وغيره نَعْتٌ يُثنّى ويجمع .
و " مبشرات النبوة " : أول ما يبدو(4) منها ، مأخوذ من تباشير الصبح وبشائره ، وهو أول ما يبدو منه . وهذا كما تقدم من قول عائشة : " أول ما بدىء به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الوحي الرؤيا الصادقة(5) في النوم ".
وقول علي ـ رضى الله عنه ـ : " نهاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .... ، ولا أقول نهاكم " : لا يدل على خصوصيته بهذا الحكم ، وإنما أخبر بكيفية توجُّه صيغة النهي الذي سمعه ، فكأن صيغة النهي التي سمع : " لا تقرأ القرآن في الركوع " ، فحافظ حالة التبليغ على كيفية ما سمع حالة التحمل ، وهذا من باب نقل الحديث بلفظه كما سمع . ولا شك أن مثل هذا اللفظ مقصور على المخاطب من حيث اللغة ، ولا يُعَدَّى إلى غيره إلا بدليل من خارج ، إما عام ؛ كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(( حكمي على الواحد كحكمي على الجميع )) ، أو خاص في ذلك الحكم ؛ كقوله : (( نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا ))(4).
( 29) باب ما يقال في الركوع والسجود
85- عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : (( سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي )) يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ما يقال في الركوع والسجود
(5/17)
قوله : (( سبحانك اللهم وبحمدك )) ؛ سبحانك : اسم علم لمصدر "سَبَّح" ، وقع موقعه ، فنصب نصبه ، وهو لا ينصرف ؛ للتعريف والألف والنون الزائدتين كعثمان ، ومعناه : البراءة لله من كل نقص وسوء . وهو في الغالب مما لا ينفصل عن الإضافة ، وقد جاء منفصلاً عنها في قول الأعشى -[شاذًّا]- :
أقول لَمَّا جاءني فخرُه سبحان مِن عَلْقَمَة الفاخِرِ!
قد [أشربه] في هذا البيت [معنى] التعجب ؛ فكانه قال تعجبًا : مِنْ علقمة . هذا قول حذاق النحويين(6) وأئمتهم .
86-وَعَنْهَا ؛ قَالَتِ : افْتَقَدْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ ، فَتَحَسَّسْتُ ، ثُمَّ رَجَعْتُ ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ يَقُولُ : ((سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ . لا إِلهَ إِلا أَنْتَ )) ، فَقُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! إِنِّي لَفِي شَأْنٍ ، وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد ذهب بعضهم إلى أن "سبحان " جمع سِبَاحٍ ، من : سَبَح يَسْبَحُ في الأرض : إذا ذهب فيها سَبْحًا وسُبْحانًا . وهذا كَحِسابٍ وحُسْبَان . وقيل : جمع سَبِيحٍ للمبالغة من التسبيح ؛ مثل : خبير ، وعليم ، ويجمع : سبحان ؛ كقضيب ، وقضبان . وهذان القولان باطلان ؛ بدليل عدم صرفه كما ذكرناه من بيت الأعشى .
وقوله : (( وبحمدك )) ؛ متعلق بفعل محذوف دلّ عليه التسبيح ؛ أي : بحمدك سبَّحْتُكَ ؛ أي : بتفضلك وهدايتك . هذا قولهم ، وكأنهم لاحظوا أن الحمد هنا بمعنى الشكر .
قلت : ويظهر لي وجه آخر ، وهو إبقاء معنى الحمد على أصله كما قررناه أوّل الكتاب ، وتكون الباءُ باءَ السبب ، ويكون معناه : بسبب أنك موصوف بصفات الكمال والجلال ؛ سبَّحَكَ الْمسبِّحون ، وعَظَّمَكَ الْمعظِّمون ، والله أعلم .
وقوله : " يتأوَّل القران " ؛ معناه : يَمْتثل ما آل إليه معنى القرآن في قوله
(5/18)
87- وَعَنْهَا ؛ قَالَتْ : فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ ، فَالْتَمَسْتُهُ ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ ، وَهُوَ يَقُولُ : (( اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ ، لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح } ، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله .
وقولها : " بأبي أنت وأمي يا رسول الله " ؛ أي : بأبي أنت وأمي مَفْدِيٌّ من المكاره ، وهو كلام يستعملونه في محل الْمَحبة والمبالغة في الإكرام والاحترام ، وقد صرَّحوا بذلك المعنى المقدر ، فقالوا : فداك أبي وأمي ، وجعلني الله فداك ، ويقولونه بكسر الفاء والمدّ والهمز ، وبفتح الفاء ، والقصر.
وقوله : (( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك...)) الحديث . " اللهم " هي : " الله " زيدت عليها الميم عوضًا من حرف النداء ، ولذلك لا يجمع بينهما إلا في الشاذّ ؛ في قوله :
وماعليك أن تقولي كُلَّما سبَّحْتِ أوهَلَّلْتِ : يا أللهما
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال آخر :
إني إذا ما حدث أَلَمّا أقول : يا اللهم يا اللهما
هذا قول جمهور النحويين . وقد قيل : معنى اللهم : يا الله ! أُمَّنَا بخير ، فأُبدل من همزة أُمَّنَا ميمٌ ، وأدغمت في ميم أُمَّنَا ، وهذا تحكُّم لا يشهد له دليل ولا صحيح تعليل .
قال القاضي ـ رضى الله عنه ـ : "[ رِضَى الله] وسخطه ، وسخطه ، ومُعافاتُه ، وعقوبته من صفات أفعاله ، فاستعاذ من المكروه منهما إلى الْمَحبوب ، ومن الشر إلى الخير .
(5/19)
قلت : ثم ترقّى عن الأفعال إلى مُنْشِئ الأفعال ، فقال : (( وبك منك )) ، مشاهدة للحق ، وغيبة عن الخلق . وهذا محض المعرفة الذي لا يُعَبَّر عنه قول ، ولا تضبطه صفة .
وقوله : (( لا أحصي ثناء عليك )) ؛ أي : لا أطيقه ؛ أي : لا أنتهي إلى
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غايته ، ولا أحيط بمعرفته ؛ كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخبرًا عن حاله في المقام المحمود حين يخرُّ تحت العرش بالسجود ، قال : (( فأحمده بمحامد لا أقدر عليها ، إلا أن يُلْهِمنِيهَا )). وروي عن مالك : لا أحصي نعمتك وإحسانك والثناء عليك ، وإن اجتهدت في ذلك . والأول أولى لما ذكرناه ؛ ولقوله في الحديث نفسه : (( أنت كما أثنيت على نفسك )). ومعنى ذلك : اعتراف بالعجز عندما ظهر له من صفات جلاله تعالى وكماله وصَمَدِيَّتِه ، وقُدُّوسِيَّته ، وعظمته ، وكبريائه ، وجبروته ما لا يُنْتَهَى إلى عَدِّه ، ولا يوصل إلى حدِّه ، ولا يحصِّله عقل ، ولا يحيط به فكر . وعند الانتهاء إلى هذا المقام انتهت معرفة الأنام ؛ ولذلك قال الصديق الأكبر : العجز عن درك الإدراك إدراك. وقال بعض العارفين في تسبيحه : سبحان من رضي في معرفته بالعجز عن معرفته .
88- وَعَنْهَا ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : ((سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ ، رَبُّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/20)
وقوله : (( سبوح قدوس رب الملائكة والروح )) ، يقال : سُبُّوخ قُدُّوس - بضم السين والقاف وبفتحهما- ، مرفوعان على خبر المبتدأ المضمر ، تقديره : أنت سُبُّوح قدُّوس ، وقد قيلا بالنصب فيهما على إضمار فعل ؛ أي : أَعْظِمْ ، أو : اذْكُرْ ، أو : اعْبُد ، وعُدِلا عن التسبيح ، [ والتقديس] للمبالغة . وقد تقدّم معنى : " سبحان " ، وأما القُدُّوس فهو من القُدُس ؛ وهي الطهارة . والقَدَسُ : السَّطْلُ الذي يُستقى به ، ومنه : البيت الْمُقَدَّس ؛ أي : الْمُطَهَّر .
و : (( رَبُّ الملائكة )) ؛ أي : مالكهم وخالقهم ورابّهم ؛ أي : مصلح أحوالهم ، وقد تقدم الكلام في الملائكة . والرُّوح هنا : جبريل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ كما قال : { نزل به الروح الأمين على قلبك }(8) ، وخَصَّه بالذكر وإن كان من
89- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ )).
90- وَعَنْهُ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ : (( اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ ، وَعَلانِيَتَهُ وَسِرَّهُ )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الملائكة تشريفًا وتخصيصًا ؛ كما قال تعالى : { من كان عدوًّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } ، فخصَّهما بالذكر تشريفًا لهما .
وقوله : (( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )) : هذا قرب بالرتبة والكرامة ، لا بالمسافة والمساحة ؛ إذ هو مُنَزَّهٌ عن الزمان والمكان.
(5/21)
وقوله : (( اللهم اغفر لي ذنبي كله ... )) الحديث فيه دليل على نسبة الذنوب إليه. وقد اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من يقول : الأنبياء كلهم معصومون من الكبائر والصغائر . وذهبت شرذمة من الروافض إلى تجويز ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل ذلك عليهم ، إلا ما يناقض مدلول المعجزة ؛ كالكذب والكفر . وذهب المقتصدون : إلى أنهم معصومون عن الكبائر إجماعًا سابقًا خلاف الروافض ، [ ولا يُعتَدّ ] بخلافهم ؛ إذ قد حكم بكفرهم كثير من العلماء . وللكلام في هذه المسألة تصانيف قد دُوِّنتْ فيها .
**************
( 30 ) باب الترغيب في كثرة السجود ، وعلى كم يسجد ،
وفيمن صلى معقوص الشعر
91- عَنْ مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ ؛ قَالَ : لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقُلْتُ : أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ ، أَوْ قَالَ : قُلْتُ : بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ. فَسَكَتَ ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ : سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَال : (( َعَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً )) قَالَ مَعْدَانُ : ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ ، فَقَالَ : لِي مِثْلَ مَا قَالَ ثَوْبَانُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/22)
وقوله في حديث ثوبان - وقد سئل عن أحب الأعمال إلى الله - ، فقال : (( عليك بكثرة السجود ...)) الحديث ؛ دليل على أن كثرة السجود أفضل من طول القيام ، وهي مسألة اختلف العلماء فيها . فذهبت طائفة إلى ظاهر هذا الحديث ، وذهبت طائفة أخرى إلى أن طول القيام أفضل ؛ متمسكين بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أفضل الصلاة طول القنوت )) ، وفسّروا القنوت بالقيام كما قال تعالى : { وقوموا لله قانتين }. ذكر هذه المسألة والخلاف فيها الترمذي. ، والصحيح من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يطوِّل في قيام صلاة 92- وَعَنْ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ ؛ قَال : َ كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ، فَقَالَ لِي : (( سَلْ )) فَقُلْتُ : أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ : (( أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؟ )) قُلْتُ : هُوَ ذَاكَ ، قَالَ : (( فَأَعِنِّي عَلَىنَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الليل ، ودام على ذلك إلى حين موته ، فدلّ على أن طول القيام أفضل . ويحتمل أن يُقال : إن ذلك يرجع إلى حال المصلي ؛ فرب مصلٍّ يحصل له في حال القيام من الحضور والتدبر والخشوع ما لا يحصل له في السجود ، [ ورب مصلٍّ يحصل له في السجود من ذلك ما لا يحصل له في القيام ] ، فيكون الأفضل في حقه : الحال التي حصل له فيها ذلك المعنى الذي هو روح الصلاة ، والله أعلم .
وقوله في حديث ربيعة : (( أَوْ غَيْرَ ذلك )) ؛ رويناه بإسكان الواو من " أَوْ" ، ونصب " غيرَ " ؛ أي : أو : سلْ غير ذلك ؛ كأنه حَضَّه على سؤال شيء آخر ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/23)
غير مرافقته ؛ لأنه فهم منه أنه يطلب المساواة معه في درجته ، وذلك ما لا ينبغي لغيره . فلمّا قال الرجل : " هو ذاك" ؛ قال له : (( أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود )) ؛ أي : الصلاة ؛ ليزداد من القرب ورفعة الدرجات ، حتى يقرب من منزلته ، وإنلم يُساوِهِ فيها . ولا يعترض هذا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه حذيفة ليلة الأحزاب : (( ألا رجل يأتيني بخبر القوم ؛ جعله الله معي يوم القيامة )) ؛ لأن هذا مثل قوله تعالى : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} الآية ؛ لأن هذه الْمَعِيَّة هي النجاة من النار ، والفوز بالجنة ، إلا أن أهل الجنة على مراتبهم ومنازلهم بحسب أعمالهم وأحوالهم . وقد دلّ على هذا نصًّا : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( المرأ مع من أحب وله ما اكتسب )).
93- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَلا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَلا الشَّعْرَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/24)
وقوله : (( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : الجبهة - وأشار بيده على أنفه - )) ؛ هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود ، وأن الأنف تبع . وقد اختلف العلماء فيمن اقتصر على أحدهما دون الآخر على ثلاثة أقوال : الإجزاء / ونَفْيُهُ والتفرقة ؛ فإن اقتصر على الجبهة أجزأه ، وإن اقتصر على الأنف لم يُجْزِه ، وهو مشهور مذهبنا . وقد سَوَّى في هذا الحديث في الأمر بكيفية السجود بين الوجه ، واليدين ، والركبتين ، والقدمين ، فدلّ هذا 94- وَعَنْهُ ؛ أَنَّهُ رَأَى عَبْدَاللهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِه ، ِ فَقَامَ فَجَعَلَ يَحُلُّهُ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : مَا لَكَ وَرَأْسِي فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : (( إِنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الظاهر على أن من أخَلَّ بعضو من تلك الأعضاء مع تمكُّنِه من ذلك لم يفعل السجود المأمور به .
وقوله : (( ولا نكفتَ الشعر ولا الثياب )) : الكَفْت ُ : الضَّمُّ ، وكذلك الكَفُّ أيضًا ، ومنه : { ألم نجعل الأرض كفاتًا } . وظاهر هذا الحديث يقتضي : أن الكَفْتَ المنهيَّ عنه إنما هو في حال الصلاة ، وذلك لأنه شغل في الصلاة لم تُرْهِقْ إليه حاجة ، أو لأنه يرفع شعره وثوبه من مباشرة الأرض في السجود فيكون كبيرًا . وذهب الداودي : إلى أن ذلك لمن فعله في الصلاة . قال عياض : ودليل الآثار وفعل الصحابة يخالفه .
"والشعر الْمَعْقُوص " : هو المضفور المربوط ، وحلُّ عبدِالله بن عباس عَقِيصَةَ عبدالله بن الحارث في الصلاة دليل على تغليظ المنع من ذلك . ولم ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/25)
يأمره بالإعادة ، وهو مجمع عليه ؛ على ما حكاه الطبري . وقد حكى ابن المنذر فيه الإعادة عن الحسن البصري وحده ، وذلك - والله أعلم - لما جاء : أن الشعر يسجد معه ، ولهذا مَثَّلَهُ بالذي يصلي وهو مكتوف .
**************
( 31 ) باب كيفية السجود
95- عَنْ أَنَسٍ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ ، وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب كيفية السجود
قوله في حديث أنس : (( ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب )) ؛ انبساط : مصدر- على غير صَدْرِ- يَبْسُطُ ، لكن لما كان " انْبَسَطَ " من " بَسَطَ " ؛ جاء المصدر عليه ؛ كقوله : { والله أنبتكم من الأرض نباتًا} ، كأنه قال : أنبتكم ، فَنَبَتُّمْ نباتًا .
96- وَعَنِ الْبَرَاءِ ؛ قَالَ : قَالَ : رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ َءاذا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ ، وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ )).
97- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ ؛ قال : (( كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا سَجَدَ يُجَنِّحُ فِي سُجُودِهِ حَتَّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ )). وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ إذْا سَجَدَ فَرَجَ يَدَيهِ عَنْ إبِطَيهِ ، حَتْى إنِي لأرَى بَيَاضَ إبِطَيهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/26)
ومثل هذا الحديث نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السَّبُعِ ، ولا شك في كراهية هذه الهيئة ، ولا في استحباب نقيضها ، وهي التَّجنيح المذكور في الأحاديث بعد هذا من فعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو التَّفْرِيج والتَّخْوِيَة. والحكمة في كراهة تلك المسألة واستحباب هذه : أنه إذا جَنَّح كان 98- وَعَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا سَجَدَ خَوَّى بِيَدَيْهِ - تَعْنِي جَنَّحَ - حَتَّى يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ . وَإِذَا قَعَدَ اطْمَأَنَّ عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى. قَالَ وَكِيعٌ في - وَضَحُ الإِبْطَيْنِ- : يَعْنِي بَيَاضَهُمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعتماده على يديه فيخفّ اعتماده عن وجهه ، ولا يتأثر أنفه ، ولا جبينه ، ولا يتأذَّى بملاقاة الأرض ، فلا يَتَشَوَّش في الصلاة ، بخلاف ما إذا بسط يديه فإنه يكون اعتماده على وجهه ، وحينئذٍ يتأذى ، ويُخاف عليه التشويش . ووقع في رواية السمرقندي : " يَجْنَحُ" ، مُخَفَّفًا ، ولا معنى له ، بل الصواب التشديد .
و "وضح الإبطين " : بياضهما . وهذا إنما كان يُبْصَرُ منه ذلك إذا كان في ثوب يلتحف به ، ويعقد طرفيه من خلفه ، فإذا سجد جافى عضديه عن إبطيه فيرى وضحهما . ويحتمل أن يريد الراوي : موضع وضحهما لو لم يكن عليه ثوب ، والله أعلم .
99-وعَنْ مَيْمُونَةَ ، قَالَتِْ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا سَجَدَ لَوْ شَاءَتْ بَهْمَةٌ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول ميمونة : " كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا سجد لو شاءت بَهْمَة أن تمرّ بين يديه " ، وكذا صحَّت الرواية محذوف جواب " لو " للعلم به . فكأنه قال : " لَمَرَّت ". والبهمة : من أولاد الغنم ، يقال ذلك للذكر والأنثى ، وجمعه : بَهْم ، قاله أبو عبيد في "غريبه". وقال ابن خالويه : وجمع البهم بِهَام .
(5/27)
وهذا الحديث يدل على شدة رفع بطنه عن الأرض وتجنيحه . وهذا كل حكم الرجال . فأما النساء ، فحكمهن عند مالك حكم الرجال ، إلا أنه يستحب لهن الانضمام والاجتماع ، وخيَّرهن الكوفي في الانفراج والانضمام . وذهب بعض السلف إلى أن سُنَّتهن التربُّع . وحكم الفرائض والنوافل في هذا سواء .
**************
( 32 ) باب تحريمُ الصلاةِ التكبيرُ ، وتحليلُها التسليمُ
100- عَنْ عَائِشَةِ ؛ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَسْتَفْتِحُ الصَّلاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بالْحَمْد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ . وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا . وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قاعدًا. وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ . وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى . وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ . وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاةَ بِالتَّسْلِيمِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : وكَانَ يَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب تحريم الصلاة التكبير ، وتحليلها التسليم
هذه الترجمة هي نصُّ حديث عليِّ الصحيح الذي خرّجه أبو داود ، وحديث عائشة موافق له بالفعل .
وفي حديث عائشة ردٌّ على أبي حنيفة حيث لا يششرط في الدخول في الصلاة التكبير .
..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/28)
وفيه أيضًا ردٌّ على الشافعي حيث يرى أن البسملة من الفاتحة ، وأنها لابدّ من قراءتها في الصلاة في أول الفاتحة ؛ لأن عائشة قالت : كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ{ الحمد لله رب العالمين } ، وهذا إنما يتضح إذا خفضنا القراءة عطفًا على بالتكبير ، كما اختاره بعض من لقيناه . وقد قيدته بالنصب عطفًا على الصلاة عن غيره ، ويكون فيه أيضًا حجّة على الشافعي ، إلا أن الوجه الأول أوضح ، فتأمّله .
و قولها : " لم يُشْخِص رأسه ولم يصوِّبه " ؛ تعني : لم يرفع رأسه بحيث يُرى له شخص ولم ينزله . وهو من : صَابَ يصوب ؛ إذا نزل .
وفيه حجّة لمالك ؛ على مختاره من كيفية الجلوس في الصلاة ، وفيه حجة على من لم يوجب الاعتدال في الرفع من السجود.
وفيه دليل على مشروعية التشهدين في الصلاة . وجمهور الفقهاء على أنهما سنّتان ، وليسا بواجبين ، إلا أحمد بن حنبل وطائفة من أصحاب الحديث . وقد روي عن الشافعي : أن التشهد الأخير واجب . وروى أبو ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصعب نحوَ ذلك عن مالك . ومستند الجمهور : كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سها عن الجلوس والتشهد ، فاجتزأ عنه بسجود السهو.
وقولها : " وكان ينهى عن عقبة الشيطان " ، وفي رواية : " عن عقب الشيطان ". قال الهروي ، عن أبي عبيد : عقب الشيطان : هو أن يضع ألْيَتَيْه على عقبيه بين السجدتين ، وهو الذي يجعله بعض الناس " الإقعاء " ، وسيأتي في حديث ابن عباس. وروي عن الطبري : " عُقَب " بضم العين وفتح القاف ، وهو جمع عُقْبَة ، كغرفة وغرف ، والْمُحذثون يقولون : عَقِب بفتح العين ، وكسر القاف .
وقولها : " وكان يختم الصلاة بالتسليم " : حجّة على أبي حنيفة والأوزاعي والثوري ؛ حيث لم يشترطوا في الخروج من الصلاة السلام(8) ، وحديث علي(9) جَلِيٌّ في المسألة كما قدمناه .
( 33 ) باب في سترة المصلي وأحكامها
(5/29)
101- عنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي وَالدَّوَابُّ تَمُرُّ بَيْنَ أَيْدِينَا ، فَذَكَرْوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَقَالَ : (( مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ تَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ ، ثُمَّ لا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ )).
وَفِي رِوَايَةٍ : (( مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب سترة المصلي
قوله : (( مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ )) ؛ هو العود الذي يكون في آخر الرحل ؛ بضم الميم ، وكسر الخاء ، قاله أبو عبيد. وحكى ثابت فيه فتح الخاء ، وأنكره ابن قتيبة ، وأنكر ابن مَكِّي أن يقال : مُقْدِم أو مُؤْخِر بالكسر إلا في العين خاصة ، وغيره بالفتح . ورواه بعض الرواة : [ مؤَخّرة] بفتح الواو وشدّ الخاء .
وقدر السترة عند مالك : الذراع في غلظ الرمح التفاتًا لهذا الحديث ، وإلى صلاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى العنزة. وهي من فضائل الصلاة ومستحباتها عند مالك. وحكمتها : كَفٌّ البصر والخاطر عما وراءها. ثم فيها كَفّ ٌ [ عن دُنُوِّ ]
102- وَعَنْ عَائِشَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُئِلَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي فَقَال : (( كَمُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ )).
103- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا ، وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ . وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ. فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأُمَرَاءُ .
104- وَعَنْهُ ؛ قال : كَانَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَعْرِضُ رَاحِلَتَهُ وَيُصَلِّي إِلَيْهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ : أنهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلَّى إِلَى بَعِيرٍ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما يشغله من خاطر ، ومتصرف مشوِّش.
(5/30)
وانفرد أحمد بن حنبل بإجزاء الخط سترة ؛ لحديث رواه لم يصحّ عند غيره. وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرض راحلته ويصلي إليها دليل على جواز التستِّر بما يثبت من الحيوان ، وأنها ليست بنجسة البول ولا الرَّوْث. ولا يعارضه النهي عن الصلاة
105 - وَعَنْ عَوْنٍ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ ؛ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِمَكَّةَ وَهُوَ بِالأَبْطَحِ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ . قَالَ : فَخَرَجَ بِلالٌ بِوَضُوئِهِ ، فَمِنْ نَائِلٍ وَنَاضِحٍ . قَالَ : فَخَرَجَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ . قَالَ : فَتَوَضَّأَ . وَأَذَّنَ بِلالٌ . قَالَ : فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا ، يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالاً . يَقُولُ : حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ. قَالَ : ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ، يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ ، لا يُمْنَعُ . ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ . ثُمَّ رَأَيْتُ بِلالاً أَخْرَجَ عَنَزَةً فَرَكَزَهَا ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا فَصَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيِ الْعَنَزَةِ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/31)
في معاطن الإبل ؛ لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء واستيطانها ، وإذ ذاك تكره الصلاة فيها ، إما لشدّة زفورتها ونَتَنِها ، وإما لأنهم كانوا يتخلّون بينها متسترين بها .
وقوله في حديث أبي جُحَيْفَةَ : " بالأبطح " ؛ هو موضغ خارج مكة ، قريبًا منها . والأَدَمُ : الْجِلْدُ . والوَضَوء - بالفتح - : الماء الذي يُتَوضَّأَ به ، وبالضَّمِّ : الفعل . وقد قيل . هما لغتان فيهما . والنَّائِل : الآخذ ، والنَّاضِح : الْمُتمسِّح بالماء ؛ كما قال في الرواية الأخرى مفسَّرًا به .
وقوله : " فجعلت أتتبع فاه يمينًا وشمالاً ؛ يقول : حي على الصلاة ، حي على الفلاح " ؛ حجّة على جواز استدارة المؤذِّن للإسمماع ، كما هو مذهب مالك . غير أن الشافعي منع من الاستدارة جميع جسده ، واختار ملازمة 106- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ قَالَ : أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ ، وَرَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى . فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ ، فَنَزَلْتُ فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ . وَفِي رِوَايَةٍ : بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، يُصَلِّي لِلنَّاسِ ، قَالَ : فَسَارَ الْحِمَارُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ ، فَصَفَّ مَعَ النَّاسِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المؤذِّن القبلة ، فإن استدار ، فبوجهه كما جاء في ظاهر هذا الحديث . والعَنَزَةُ : الْحَرْبَةُ. والْحَلَّةُ : كل ثوبين لم يكونا لفقين ؛ كقميص ورداء ، أو إزار ورداء.
(5/32)
وقوله : " بين يديه" ؛ يفسِّره ما جاء في الرواية الأخرى : "بين يدي العَنَزة" ؛ يريد : أمامها . وفي رواية : " يَمُرّ من ورائها المرأة والحمار" ، لا يمنع ؛ يعني : أمامها . ووراء من الأضداد ؛ كما قال تعالى : { وكان وراءهم ملِك } ؛ أي : أَمَامَهم .
واختُلف هل سترة الإمام نفسها سترة لمن خلفه ؟ أو هي سترة له خاصة ، والإمام سترتهم ؟ وسيأتي الكلام على ما يقطع الصلاة .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأَتَان في حديث ابن عباس : انثى الحمر ، ويقال : حمار على الذكر والأنثى ؛ كما يقال : فرس على للذكر والأنثى .
وقوله : " ناهزت" ؛ يعني : قاربت . وهذا يصحح قول الواقدي : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توفي وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة. وقال الزبير بن بكار : إنه ولد بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين (4).
وقد روى سعيد بن جبير أن ابن عباس قال : توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا ابن خمس عشرة سنة. قال ابن حنبل : وهذا الصواب . وهذا يردّ رواية من
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روى : توفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا ابن عشر سنين .
وقوله : " تَرْتَع " ؛ أي : ترعى ، يقال : رتعت الإبل : إذا رَعَتْ
****************
( 34 ) باب مَنْع المصلي مَنْ مَرَّ بين يديه ، والتَّغْليِظ في المرور بين يديي المصلي(5/33)
107 - عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانُ ؛ قَالَ : بَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ ، أَرَادَ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ ، فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ مَسَاغًا إِلا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ ، فَعَادَ فَدَفَعَ فِي نَحْرِهِ أَشَدَّ مِنَ الدَّفْعَةِ الأُولَى ، فَمَثَلَ قَائِمًا ، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ ، ثُمَّ زَاحَمَ النَّاسَ ، فَخَرَجَ ، فَدَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ ، قَالَ : وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ عَلَى مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ : مَا لَكَ وَلابْنِ أَخِيكَ ؟ جَاءَ يَشْكُوكَ . فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ : ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب منع المصلي من مرّ بين يديه
قوله في حديث أبي سعيد : (( فإن أَبَى فليدفع في نحره )) ؛ أي : بالإشارة ولطيف المنع .
(( فإن أَبَى فليقاتله )) ؛ معناه : يزيد في دفعه الثاني ، ويشتدّ في مدافعته ، وبغلظ له ، كما فعل أبو سعيد .
108 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ ، فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ )).
(5/34)
109 - وَعَنِ أَبِي جُهَيْمٍ الأَنْصَارِيِّ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ )).
قَالَ أَبُو النَّضْرِ : لا أَدْرِي ، قَالَ : أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأجمعوا على أنه لا تلزمه مقاتلته بالسلاح ؛ لأن ذلك مخالف لما عُلم من قاعدة الإقبال على الصلاة ، والاشتغال بها ، والسكون فيها ، ولما عُلم من تحريم دم المسلم وعظم حرمته ، ولا يُلْتَفَتُ لقول أخرق متأخِّر ، لم يفهم سرًّا من أسرار الشريعة ، ولا قاعدة من قواعدها(5).
وقوله : (( فإنما هو شيطان )) ؛ أي : فعله فعل شيطان ؛ إذ أَبَى إلا التشويش على المصلي . ويحتمل أن يكون معناه : أن الحامل على ذلك الفعل هو الشيطان . ويدلّ عليه : قوله في حديث ابن عمر : (( فإن معه القرين )).
وقوله في حديث أبي جُهَيْم : (( لو يعلم المارّ بين يدي المصلي ماذا عليه )) ؛ يعني : من الإثم والتَّبِعَة .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(( لكان أن يقف أربعين )) ؛ وفي "مسند البزار" : (( أربعين خريفًا )). ورواه ابن أبي شيبة : (( لكان أن يقف مئة عام خير له )). وكل هذا تغليظ يدل على تحريم المرور بين يدي المصلي. فإن كان بين يدي المصلي سترة ، اختصّ
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المار بالإثم . وإن لم يكن ، وكان المصلي في موضع لا يأمن من المرور عليه ، اشتركا في الإثم ، هذا قول أصحابنا .
***************
( 35 ) باب دنو المصلي من سترته وما جاء
فيما يقطع الصلاة
(5/35)
110- عَنْ سَهْلِ ابْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ؛ قَالَ : كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب دنو المصلي من سترته
قوله : " كان بين مصلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين الجدار مَمَرُّ الشاة " : هذا يدل على استحباب القرب من السترة ، كما قد جاء عنه نصًّا : (( إذا صلى أحدكم إلى سترة ، فَلْيَدْنُ منها ، لا يقطع الشيطان عليه صلاته ". ذكره أبو داود. ولا يُعارَضُ حديثُ مَمَرِّ الشاة بحديث صلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ إذ جعل النبي 111- وَعَنْ سَلَمَةَ وَهُوَ ابْنُ الأَكْوَعِ ؛ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى مَوْضِعَ مَكَانِ الْمُصْحَفِ يُسَبِّحُ فِيهِ ، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ يَتَحَرَّى ذَلِكَ الْمَكَانَ ، وَكَانَ بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقِبْلَةِ قَدْرُ مَمَرِّ الشَّاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بينه وبين الجدار قدر ثلاثة أذرع ؛ إذ قد حمل بعض شيوخنا حديث ممرّ الشاة على ما إذا كان قائمًا ، وحديث ثلاث الأذرع على ما إذا ركع أو سجد ، ولم يحدّ مالك في ذلك حدًّا ، إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد ، ..................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويتمكن من دفع من مرّ بين يديه . وقد قدّره بعض الناس بقدر الشبر ، وآخرون بثلاث أذرع ، وآخرون بقدر ستة أذرع ، وكل ذلك تحكمات .
(5/36)
وقوله في حديث ابن الأكوع : " كان يتحرَّى الصلاة عند الأُسْطُوانة" ؛ "يتحرَّى " : يقصد ويتعمد ، ومنه قوله تعالى : { فمن أسلم فأولئك تحرّوْا رشدًا } ؛ أي : قصدوا . و" الأُسْطُوانة : السارية . ولا خلاف في جواز الصلاة إليها ، إلا أنه يجعلها على حاجبه الأيمن أو الأيْسر ، ولا يصمد إليها صمدًا ، وكذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكذلك كان يفعل ، على ما رواه أبو داود ، ولعل هذا كان أول الإسلام ؛ لقرب العهد بإِلْفِ عبادة الحجارة 112- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلاتَهُ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الأَسْوَدُ )) ، قُلْتُ : يَا أَبَا ذَرٍّ ! مَا بَالُ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ مِنَ الْكَلْبِ الأَحْمَرِ مِنَ الْكَلْبِ الأَصْفَرِ ؟ قَالَ : يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَمَا سَأَلْتَنِي ، فَقَالَ : ((الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأصنام ، حتى تظهر المخالفة في استقبال السترة ؛ لما كانوا عليه من استقبالهم تلك المعبودات .
فأما الصلاة بين الأساطين ، فاختلف العلماء ومالك في إجازته وكراهته ، إلا عند الضرورة . وعلة المنع : أن الصفوف منقطعة بالأساطين ؛ ولأنه رُوي أنه مصلى الجن المؤمنين.
وقوله : "يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود )) ، تمسّك بظاهر هذا طائفة من أهل العلم ، وقال ابن حنبل : يقطع الصلاة الكلط الأسود ، وفى قلبي من الحمار والمرأة شيء بين يدي المصلي ، لا هذه المذكورات ولا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/37)
غيرها ، متمسِّكين بقوله عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا يقطع الصلاة شيء )) ، ودافعين
113- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يَقْطَعُ الصَّلاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ ، وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لتخصيصه : بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد صلى وبينه وبين القبلة عائشة ، وبمرور حمار ابن عباس بين يدي بعض الصف ، فلم ينكر ذلك عليه أحد ، وبأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمّا صلى بمنى ورُكزت له العنزة ، كان الحمار والكلب يمرّان بين يديه لا يُمنعان. وظاهر هذا بينه وبين العنزة . وفي هذه المعارضة نظر طويل ، إذا حُقِّق ظهر به : أنه لا يصلح شيء من هذه الأحاديث لمعارضة الحديث الأول.
وقوله : (( الكلب الأسود شيطان )) ؛ حمله بعض العلماء على ظاهره ،
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال : إن الشياطين تتصور بصور الكلاب السود ، ولأجل ذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( اقتلوا منها كل أسود بهيم )). وقيل : لما كان الكلب الأسود أشدَّ ضررًا من غيره وأشدّ ترويعًا ، كان الْمُصَلِّي إذا رآه اشتغل عن صلاته ، ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فانقطعت عليه لذلك ، وكذلك تأوَّل الجمهور قوله : (( يقطع الصلاة المرأة والحمار )) ؛ فإن ذلك مبالغة في الخوف على قطعها وإفسادها بالشغل بهذه المذكورات )) ؛ وذلك أن المرأة تفتن ، والحمار ينهق ، والكلب يروِّع ، فيتشوَّش الْمُتفَكّر في ذلك حتى تنقطع عليه الصلاة وتفسد . فلما كانت هذه الأمور آيلة إلى القطع ، جعلها قاطعة ؛ كما قال للمادح : (( قطعت عنق أخيك ))" ؛ أي : فعلت به فعلاً يخاف هلاكه فيه ؛ كمن قطع عنقه .
(5/38)
وقدذهب ابن عباس وعطاء إلى أن المرأة التي تقطع الصلاة إنما هي الحائض ؛
لما تستصحبه من النجاسة .
*************
( 36 ) باب اعتراض المرأة بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة
114- عَنْ عُرْوهَ ؛ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : مَا يَقْطَعُ الصَّلاةَ ؟ قَالَ : فَقُلْنَا : الْحِمَارُ وَ الْمَرْأَةُ . فَقَالَتْ : إِنَّ الْمَرْأَةَ لَدَابَّةُ سَوْءٍ ! لَقَدْ رَأَيْتُنِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُعْتَرِضَةً ، كَاعْتِرَاضِ الْجَنَازَةِ ، وَهُوَ يُصَلِّي .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَالَتْ عَائِشَةُ شَبَّهْتُمُونَا بِالْحَمِيرِ وَالْكِلابِ وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي وأنا عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ. مُضْطَجِعَةً ، فَتَبْدُو لِيَ الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ ، فَأُوذِيَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب اعتراض المرأة بين يدي المصلي
وقول عائشة : " فأكره أن أَسْنَحَهُ " ؛ أي : أظهر له ؛ كما جاء في الرواية
الأخرى : " فأكره أن أجلس فأوذيه " ، يقال : سَنَحَ لي الشيء : إذا اعترض لي ، ومنه : السَّانح من الطير في عيافة العرب .
وَفِي رِوَايَةٍ أخرى : لَقَدْ رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ ، فَيَجِيءُ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ ، فَيُصَلِّي ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْنَحَهُ ، فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ السَّرِيرِ ، حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي .
وَفِي أُخْرَى : قَالَتْ كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ ، وَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا. قَالَتْ : وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5/39)
وقولها : " فإذا سجد غمزني " ؛ تعني : عَضَّنِي بيده ؛ وذلك لعدم المصابيح ، كما قالتْ ، ولو كان هناك مصباح لرأتْ سجوده وقيامه ، ولَمَا كان يحتاج إلى غمزها .
*************
( 37 ) باب الصلاة فى الثوب الواحد ، وعلى الحصير
115- عن أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ سَائِلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنِ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ ؟ فَقَال : (( أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ ؟ ))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب الصلاة في الثوب الواحد
قوله : (( أَوَ لِكُلِّكم ثؤبان ؟ )) لفظ الاستفهام ، ومعناه : التقرير والإخبار عن معهود حالهم ، ويتضمن جواز الصلاة في الثوب الواحد ، ولا خلاف فيه ، إلا شيء روي عن ابن مسعود ، كما أنه لا خلاف أن الصلاة في الثوبين أو الثياب أفضل .
116- وعنه ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( لا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَه مِنْهُ شَيْءٌ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( [لا يُصَلِّي] أحدكم في الثوب الواحد ليس على [عاتقه] منه شيء )) ، هذا لنلا يسقط فتنكشف عورته ، إذا لم يتوشَّح به ؛ فبضع طرفيه على عاتقيه ، كما كان يفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإن تكلَّف ضبطه بيديه شغلهما ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بذلك ، واشتغل به عن صلاته ، وأيضًا فإذا لم يجعل على عاتقيه شيئًا من الثوب ، بقي بعض جسده عريًّا ، وذلك يباعد الزينة المأمور بها في الصلاة . وكذلك كرهت الصلاة في السراويل وحدها ، أو في الْمِئْزَرِ مع وجود غيرهما .
وقد روي عن بعض السلف أنه قال : لا تجزي صلاة من صلى في ثوب واحد متزرًا به ليس على عاتقه منه شيء ؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث .
وكذلك اختلفوا في السَّدْلِ في الصلاة ، وهو إرسال ثوبه عليه من(5/40)
117- وَعَنْ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَة ؛ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، مُشْتَمِلاً بِهِ ، فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ ، وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ . وفى روايه : مُلْتَحِفًا ، مُخَالِفًا بَيْنَ طَرَفَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتفيه إذا كان عليه مِئْزر ، ولم يكن عليه قميص ، وانكشف بطنه . فأجازه عبدالله بن الحسن ، ومالك وأصحابه ، وكرهه النخعي وآخرون ، إلا أن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكون عليه قميص يستر جسده . وقد نحا إلى هذا أبو الفرج من أصحابنا ، فقال : إنّ سَتْر جميع الجسد في الصلاة لازم .
وكذلك اختلف في صلاة الرجل محلول الأزار وليس عليه إزار ؛ فمنعه أحمد والشافعي لعلة النظر لعورته ، وأجاز ذلك مالك وأبو حنيفة والثوري ، وكافة أصحاب الرأي ، ولو تكلّف ذلك ورؤيتَه لعورته من أسفل الإزار .
118- عَنْ أَبى سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ؛ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ . قَالَ : وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ .
وَفِى رِوَايَةٍ : وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و " التوشح " قال ابن السِّكيت : هو أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى ، ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى ، ثم يعقدهما على صدره .
*************
(38) باب أول مسجد وضع في الأرض ، وما جاء أن الأرض كلها مسجد(5/41)
119 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ ؟ فَقَالَ : (( الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ )) ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : (( الْمَسْجِدُ الأَقْصَى )) ، قُلْتُ : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : (( أَرْبَعُونَ عَامًا ، ثُمَّ الأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ ، فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي "الأم" قول إبراهيم التَّيْمي : كنت أقرأ على أبي القرآن في السُّدَّة ، فإذا قرأت السجدة سجد ، فقلت : يا أبي! أتسجد في الطريق ؟ ... ، الحديث.
كذا صحَّ : " السُّدَّة ". ورواه النسائي : " السِّكَّة " ، و: " في بعض السِّكَك " ، وهذا هو المطابق لقوله : " أتسجد على الطريق ؟" لكن السُّدَّة هنا ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنما عنى بها سُدَّة الجامع ، وهي الظلال التي حوله ، ومنه سُمِّي إسماعيل السُّدِّي ؛ لأن كان يبيع الْخُمُر في سُدَّة الجامع ، وكان التيمي يجلس فيها ويقرأ القرآن ، فإذا جاءت السجدة سجد .
ومن باب أول مسجد وضع في الأرض
وقوله : وقد سأله أبو ذر عن أول مسجد وضع في الأرض : " المسجد الحرام " ؛ وهو مسجد مكة ، أو المسجد الأقصى ، وهو مسجد البيت الْمُقَدَّس ، وسمي بالأقصى ؛ لبعده عن الحجاز ، أو لبعده عن الأقذار والخبائث ، فإنه مُقَدَّس ، والْمُقَدَّس : الْمُطَّهر ، ومنه : القَدْس : السَّطْل الذي يستقى به الماء .
(5/42)
وقوله : (( أربعون عامًا ))- وقد سُئل عن مدة ما بينهما - فيه إشكال ؛ وذلك أن مسجد مكة بناه إبراهيم بنصّ القرآن ؛ إذ قال : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } الآية . والمسجد الأقصى بناه سليمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قد خرَّجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمرو ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سال الله خلالاً ثلاثًا : سأل الله حكمًا يصادف حكمه فأوتيه ، وسأل الله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه ، وسأل الله حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا يَنْهَزُه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه .
وبين إبراهيم وسليمان آماد طويلة ؛ قال أهل التاريخ : أكثر من ألف سنة . ويرتفع الإشكال بأن يقال : إن الآية والحديث لا يدلان على أن بناء إبراهيم وسليمان لما بنيا ابتدئا وضعهما [لهما](4) ، بل ذلك تجديد لما كان
120 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِي ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي : كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسسه غيرهما وبدأه ، وقد رُوي أن أول من بنى البيت آدم . وعلى هذا ، فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس بعده بأربعين عامًا ، والله أعلم .
وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ بَيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ )) .
(5/43)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله في حديث جابر : (( أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي )) ، وفي حديث أبي هريرة : " ستًّا " ، وفي حديث حذيفة : " ثلاثًا " ، لا يظن القاصر أن هذا تعارض ، وإنما يظن مَنْ توهَّم أن ذكر الأعداد [يدل] على الحصر ، وأنها لها دليل خطاب ، وكل ذلك باطل ؛ فان القائل : عندي خمسة دنانير - مثلاً - لا يدل هذا اللفظ على أنه ليس عنده غيرها ، ويجوز له أن يقول تارة أخرى : عندي عشرون ، وتارة أخرى : عندي ثلاثون ؛ فإن من عنده [ثلاثون] صدق عليه أن عنده عشرين ، وعشرة ، فلا تناقض ، ولا تعارض. ويجوز أن يكون ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُعْلِمَ في وقت بالثلاث ، وفي وقت بالخمس ، وفي وقت بالست ، والله أعلم .
وقوله : (( وبعثت إلى الأحمر والأسود )) ؛ يعني : كافة الخلق ؛ كما قال
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى : { وما أرسلناك إلا كافة للناس } ، والْحُمْرَانُ : عَنَى بهم البيض ،
وهم العجم ، والسودان : العرب ؛ لغلبة الأَدَمَةِ عليهم ، وغيرُهم لسوادهم .
(5/44)
وقوله : (( وجعلت لي الأرض مسجد طيبة طهورًا )) ؛ يعني : في التيمم ، كما قد بيّنه في الحديث الآخر ، وهو حجة لمالك في التيمم بجميع أنواع الأرض ؛ فان اسم الأرض يشملها . وكما أباح الصلاة على جميع أجزاء الأرض ، كذلك يجوز التيمم على جميع أجزائها ؛ لأن الأرض في [هذا الحديث بالنسبة إلى] الصلاة والتيمم واحدة . فكما تجوز الصلاة على جميع أجزائها ، كذلك يجوز التيمم على جميع أجزائها . ولا يظن أن قوله - في حديث حذيفة - : (( وجعلت تربتها لنا طهورًا )) ؛ أن ذلك أجزاء مخصَّصٌ له ، فإن ذلك ذهول من قائله ؛ فإن التخصيص إخراج ما تناوله العموم على الحكم ، ولم يخرج هذا الخبر شيئًا ، وإنما عيّن هذا الحديث واحدًا مما تناوله الاسم الأول ، مع موافقته في الحكم ، وصار بمثابة قوله تعالى : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } ، وقوله : { من كان عدوًّا لله وملائكته ورسُلِه وجبريل ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وميكال } ، فعيّن بعض ما تناوله اللفظ الأول ، مع الموافقة في المعنى على جهة التشريف . وكذلك ذكر التراب في حديث حذيفة ، وإنما عيّنه لكونه أمكن وأغلب . فإن قيل : بل عيّنه ليبيّن أنه لا يجوز التيمم بغيره ، قلنا : لا نسلِّم ذلك ، بل هو أول المسألة ، ولئن سلمنا أنه يحتمل ذلك ، فيحتمل أيضًا ما ذكرناه ، وليس أحد الاحتمالين بأولى من الآخر ، فيلتحق اللفظ بالمجملات ، فلا يكون لكم فيه حجة ، ويبقى مالك متمسكًا باسم الصعيد ، واسم الأرض . وأيضًا فإنا نقول بموجبة ؛ فإن تراب كل شيء بحسبه ، فيقال : تراب الزرنيخ ، وتراب السِّبَاخ .
وقوله : (( طهورًا )) ؛ هذه البنية من أبنية المبالغة ؛ كقتول وضروب ، وكذلك قال في الماء . فقد سوَّى بين الأرض والماء في ذلك ، ويلزم منه أن التيمم يرفع الحدث ، وهو أحد القولين عن مالك ، وليس بالمشهور .
(5/45)
و (( طيبة )) : طاهرة. وكذلك قوله : { فتيمموا صعيدًا طيبًا } ؛ أي : طاهرًا. وعلى هذا فلا يفهم من قوله : " طهورًا " غير التطهير لغيرها ؛ إذ قد وصفها بالطهارة في نفسها ، ثم جعلها مُطَهِّرة لغيرها ، وهذا كما قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . 121 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاثٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا ، وَجُعِلَتْ لَنَا تُرْبَتُهَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ )). وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- وقد قيل له : أنتوضأ بماء البحر ؟ فقال - : (( هو الطهور ماؤه )) ؛ أي : الذي يطهركم من الحدث.
وقوله : (( مسجدًا )) ؛ أي : للصلاة.وهذا مما خص الله به نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكانت الأنبياء قبله إنما أبيح لهم الصلوات في مواضع مخصوصة كالبِيَع والكنائس .
وقوله : (( وأحلت لي الغنائم )) : هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام ، وإنما كانت الغنائم قبله تجمع ، ثم تأتي نار من السماء فتأكلها .
و (( الرعب )) : الفزع .
و (( الشفاعة )) : الخاصة بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هي الشفاعة لأهل الموقف ؛ كما تقدم.
وقوله : (( وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا )) ؛ هذا العموم وإن كان
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مؤكدًا ، فهو مخصص بنهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الصلاة في معاطن الإبل ؛ كما جاء في الصحيح ، وبما جاء في كتاب الترمذي-من حديث ابن عمر- : أن رسول الله ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن يُصلى في سبعة مواطن : في المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، والمقبرة ، وفي الحمّام ، وفي معاطن الإبل ، وفوق ظهر بيت الله .
(5/46)
وقد كره مالك الصلاة في هذه المواضع ، وأباحها فيها غيره ، ولم يصح هذا الحديث عنده . واعتضد قائل الإباحة : بأن فضائل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينقص منها ؛ وذلك - أن من فضائله وخصائصه : أن جعل له الأرض كلها مسجدًا ، فلو خُصِّص منها شيء ؛ لكان نقصًا في فضيلته وما خصص به ، قاله أبوعمر بن عبدالبر. والصحيح ما صار إليه مالك ، من كراهة الصلاة في تلك المواضع ، لا تمسُّكًا بالحديث ، فإنه ضعيف ؛ لكن تمسَّكًا بالمعنى . وقد ذُكرت علل الكراهية في كتب أصحابنا ، فلتنظر هناك .
122 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : (( فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ : أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا ، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً ، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويحتج على أبي عمر بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل وفي القبور ؛ فإن الحديث في ذلك صحيح. وتمنع الصلاة في المواضع النجسة ، فإن قال : ذلك للنجاسة العارضة ، قلنا : وكذلك كراهة الصلاة في تلك المواضع لعلل عارضة ، والله أعلم .
وقوله : " وذكر خصلة أخرى " ؛ ظاهره أنه ذكر ثلاث خصال ، وإنما هما ثنتان ، كما ذكر ؛ لأن قضية الأرض كلَّها خصلة واحدة ، والثالثة التي لم يذكرها بيّنها النسائي من رواية [ أبي ] مالك بسنده ، فقال : (( وأوتيت هذه الآيات : خواتم سورة البقرة من كنز تحت العرش ، لم يعطهن أحد قبلي ، ولا يعطاهن أحد بعدي )).
123 - وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِيَ يَدَيَّ )).
(5/47)
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : (( أعطيت جوامع الكلم )) ، قال الهروي : يعني القرآن ؛ جمع الله في الألفاظ اليسيرة منه معانيَ كثيرة ، وكذلك كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتكتم بالفاظ يسيرة تحتوي على معانٍ كثيرة .
وقوله : (( وبينا أنا نائم أتيت [بمفاتيح] خزائن الأرض فوضعت في يدي )) ؛ هذه الرؤيا أوحى الله فيها لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أمته ستملك الأرض ، ويتسع سلطانها ، ويظهر دينها ، ثم إنه وقع ذلك كذلك ؛ فملكت أمته من الأرض ما لم تملكه أمة من الأمم فيما علمناه ، فكان هذا الحديث من أدلة نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ووجه مناسبة هذه الرؤبا : أن من ملك مفتاح [المغلق] فقد تمكّهن من فتحه ، ومن الاستيلاء على مافيه.
وقوله : " وأنتم تنتسلونها " ؛ أي : تستخرجون ما فيها من الكنوز والمنافع ؛ من قولهم : نثل كنانته : إذا استخرج ما فيها من السهام ، والله أعلم .
*************
(39) باب إبتناء مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(5/48)
124 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ : بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مَلإِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِينَ بِسُيُوفِهِمْ قَالَ : فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ ، وَمَلأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ ، قَالَ : فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْجِدِ ، قَالَ : فَأَرْسَلَ إِلَى مَلإِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا ، فَقَالَ : (( يَا بَنِي النَّجَّارِ! ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا )) ، قَالُوا : لا وَاللَّهِ ! لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ عَز وجَل . قَالَ أَنَسٌ : فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ ، كَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَقُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَخِرَبٌ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ ، وَبِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ . قَالَ : فَصَفُّوا النَّخْلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
...................................................................
قِبْلَةً لَهُ ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً ، قَالَ : فَكَانُوا يَرْتَجِزُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَعَهُمْ ، وَهُمْ يَقُولُونَ :
اللَّهُمَّ إِنَّهُ لا خَيْرَ إِلا خَيْرُ الآخِرَهْ فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن باب ابتناء مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(5/49)
" الملأ " : أشراف القوم وساداتهم ، وسُمّوا بذلك ؛ لأنهم أَمْلِيَاء بالرأي والغِنَى . وبنو النجار قبيلة من الأنصار ، وهم أخوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وذلك : أن هاشِمًا تزوج امرأة من بني النجار تُسَمَّى : سلمى بنت عمرو بن زيد بن عدي ابن النّجار ، فولدت له عبد المطلب بن هاشم ، فمن هنا كانوا أخوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقوله : (( ثامنوني بحائطكم )) ؛ أي : اطلبوا ثمنه ، وبايعوني به . والحائط : بستان النخل .
" فقالوا : لا والله ما نطلب ثمنه إلا إلى الله عزّ وجلّ " ، وهذا ينص على أنهم لم يأخذوا منه ثمنًا ، وإنما وهبوه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد ذكر محمد بن سعد في "تاريخه الكبير" عن الواقدي : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اشتراه من بني عَفْراء ...................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعشرة دنانير دفعها عنه أبوبكر الصديق ، فإن صحّ هذا فلم يقبله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بالثمن ؛ لأنه كان ليتيمين .
وفي هذا دليل على لزوم بناء المساجد في القرى التي يُسْتًوطن فيها ؛ لأجل الجمعة ، ولإظهارشعائر الإسلام .
وقوله : "وكانت فيه نخل وقبور المشركين وخِرَب " ، رُوي بفتح الخاء وكسر الراء : جمع خَرِبة ؛ مثل : كَلِمَة وكَلِم ، وبكسر الخاء وفتح الراء : جمع خِرْبة بسكون الراء ، لغتان فيما يخرب من البناء ، والثانية لتميم ، هذا هوالصحيح في الرواية والمعنى . وقد فسَّره حيث قال : " وبالخِرَب فسُوِّيتْ ". وقد استبعد الخطابي ذلك المعنى ، وأخذ يقدِّر اللفظ تقديرات ، فقال : لعل الصواب : "خُرَب " : جمع " خُرْبة " ؛ وهي الخروق في الأرض ، أو لعلَّها : "جرْف" جمع : " جِرَفَةٍ" ، وهي جمع " جُرُف". قال : وأبينُ منه إنْ ساعدت الرواية - : " حَدَبٌ " جمع " حَدَبَةٌ " ؛ وهي ما ارتفع من الأرض .
(5/50)